فبعدا للقوم الظالمين وأدان الله من مروان وقد غره بالله الغرور أرسل عدو الله في عنانه حتى عثر جواده في فضل حطامه أظن عدوالله أن لن يقدر عليه أحد فنادى حزبه وجمع جنده ورمى بكتائبه فوجد أمامه ووراءه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته من مكر الله وبأسه ونقمته ما أمات باطله ومحق ضلاله وأحل دائرة السوء به وأحاط به خطيئته ورد إلينا حقنا وآوانا أيها الناس إن أمير المؤمنين نصره الله نصرا عزيزا إنما عاد إلى المنبر بعد صلاة الجمعة لأنه كره أن يخلط بكلام الجمعة غيره وإنما قطعة عن استتمام الكلام شدة الوعك فادعو الله لأمير المؤمنين بالعافية فقد أبدلكم الله بمروان عدو الرحمن وخليفة الشيطان المتبع للسفلة الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون المتوكل على الله المقتدي بالأبرار الأخيار الذين أصلحوا الارض بعد فسادها بمعالم الهدى ومناهج التقى قال فعج الناس له بالدعاء ثم قال وإعلموا ياأهل الكوفة أنه لم يصعد منبركم هذا خليفه بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا أمير المؤمنين على بن أبي طالب وأمير المؤمنين هذا وأشار بيده إلى السفاح واعلموا أن هذا ألامر فينا ليس بخارج عنا حتى نسلمه إلى عيسى بن مريم عليه السلام والحمد لله رب العالمين على ما أبلانا وأولانا ثم نزل أبو العباس وداود حتى دخلا القصر ثم دخل الناس يبايعون إلى العصر ثم من بعد العصر إلى الليل
ثم إن أبا العباس خرج فعسكر بظاهر الكوفة واستخلف عليها عمه داود وبعث عمه عبد الله إبن علي إلى إبن عون بن أبي يزيد وبعث إبن اخيه عيسى بن موسى إلى الحسن بن قحطبة وهو يومئذ بواسط يحاصر إبن هبيرة وبعث يحيى بن [ جعفر بن ] تمام بن العباس إلى حميد بن قحطبة بالمدائن وبعث أبا اليقظان عثمان بن عروةبن محمد بن عمار بن ياسر إلى بسام بن إبراهيم بن بسام بالاهواز وبعث سلمة بن عمرو بن عثمان إلى مالك بن الطواف وأقام هو بالعسكر أشهرا ثم ارتحل فنزل المدينة الهاشمية في قصر الإمارة وقد تنكر لابي سلمة الخلال وذلك لما كان بلغه عنه من العدول بالخلافة عن إبن العباس إلى آل على بن ابي طالب والله سبحانه وتعالى أعلم
مقتل مروان بن محمدبن مروان
آخر خلفاء بني أمية وتحول الخلافةإلى بني العباس مأخوذة من قوله تعالى والله يؤتي ملكه من يشاء وقوله قل اللهم مالك الملك الاية وقد ذكرنا أن مروان لما بلغه خبر أبي مسلم وأتباعه وما جرى بأرض خراسان تحول من حران فنزل على نهر قريب من الموصل يقال له الزاب من أرض الجزيرة ثم أبلغه أن السفاح قد بويع له بالكوفة والتف عليه الجنود واجتمع له أمره شق عليه جدا وجمع جنوده فتقدم إليه أبو عون بن أبي يزيد في جيش كثيف وهو أحد أمراء السفاح فنازله على الزاب وجاءته الامداد من جهة السفاح ثم ندب السفاح الناس ممن يلي القتال من أهل (10/42)
بيته فانتدب له عبدالله بن علي فقال سر على بركة الله فسار في جنود كثيره فقدم على ابي عون فتحول له ابو عون عن سرادقه وخلاه له وما فيه وجعل عبدالله بن علي على شرطته حياش إبن حبيب الطائي ونصير بن المحتفز ووجه أبو العباس موسى بن كعب في ثلاثين رجلا على البريد إلى عبدالله بن علي يحثه على مناجزة مروان والمبادرة إلى قتاله ونزاله قبل أن تحدث أمور وتبرد نيران الحرب فتقدم عبدالله بن علي بجنوده حتى واجه جيش مروان ونهض مروان في جنوده وتصاف الفريقان في أول النهار ويقال إنه كان مع مروان يومئذ مائة الف وخمسون الفا ويقال مائة وعشرون الفا وكان عبدالله بن علي في عشرين ألفا فقال مروان لعبد العزيز بن عمر إبن عبد العزيز إن زالت الشمس يومئذ ولم يقاتلونا كنا نحن الذين ندفعها إلى عيسى بن مريم وإن قاتلونا قبل الزوال فانا لله وإنا إليه راجعون ثم أرسل مروان إلى عبد الله بن علي يسأله الموادعه فقال عبدالله كذب إبن زريق لا تزول الشمس حتى أوطئه الخيل إن شاء الله وكان ذلك يوم السبت لإحدى عشر ليلة خلت من جمادي الآخرة من هذه السنة فقال مروان قفوا لا تبتدئون بقتال وجعل ينظر إلى الشمس مخالفة الوليد بن معاوية بن مروان وهو ختن مروان على ابنته فحمل فغضب مروان فشتمه فقاتل أهل الميمنه فأنحاز أبو عون إلى عبدالله بن علي فقاتل موسى بن كعب لعبد الله بن علي فأمر الناس فنزلوا ونودي الأرض الأرض فنزلوا وأشرعوا الرماح وجثوا على الركب وقاتلوهم وجعل أهل الشام يتأخرون كأنما يدفعون وجعل عبدالله يمشي قدما وجعل يقول يارب حتى متى نقتل فيك ونادى يا أهل خراسان ياشارات إبراهيم الإمام يا محمد يامنصور واشتد القتال جدا بين الناس فلا تسمع إلا وقعا كالمرازب على النحاس فأرسل مروان إلى قضاعة يأمرهم بالنزول فقالوا قل لبني سليم فلينزلوا وأرسل إلى السكاسك أن احملوا فقالوا قل لبني عامر أن يحملوا فأرسل إلىالسكون أن أحملوا فقالوا قل إلى غطفان فليحملوا فقال لصاحب شرطته انزل فقال لا والله لا أجعل نفسي غرضا قال أما والله لأسوءنك قال وددت لو قدرت على ذلك
ويقال أنه قال ذلك لابن هبيرة قالوا ثم انهزم أهل الشام واتبعتهم أهل خراسان في أدبارهم يقتلون وياسرون وكان من غرق من أهل الشام أكثر ممن قتل وكان في جملة من غرق إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك المخلوع وقد أمر عبد الله بن علي بعقد الجسر واستخرج من غرق في الماء وجعل يتلو قوله تعالى وإذا فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون وأقام عبدالله إبن علي في موضع المعركة سبعة أيام وقد قال رجل من ولد سعيد بن العاص في مروان وفراره يومئذ ... لج الفرار بمروان فقلت له ... عاد الظلوم ظليما همه الهرب (10/43)
أين الفرار وترك الملك إذ ذهبت ... عنك الهو ينا فلادين ولا حسب ... فراشة الحلم فرعون العقاب وإن ... تطلب نداه فكلب دونه كلب ...
واحتاز عبدالله ما في معسكر مروان من الأموال والأمتعه والحواصل ولم يجد فيه امرأة سوى جارية كانت لعبد الله بن مروان وكتب إلى ابي العباس السفاح بما فتح الله عليه من النصر وما حصل لهم من الأموال فصلى السفاح ركعتين شكرا لله عز و جل وأطلق لكل من حضر الوقعة خمسمائة خمسمائة ورفع في أرزاقهم إلى ثمانين وجعل يتلو قوله فلما فصل طالوت بالجنود الاية
( صفة مقتل مروان )
لما انهزم مروان سار لايلوي على أحد فأقام عبدالله بن علي في مقام المعركة سبعة أيام ثم سار خلفه بمن معه من الجنود وذلك عن أمر السفاح له بذلك فلما مر مروان بحران اجتازها وأخرج أبا محمد السفياني من سجنه واستخلف عليها أبان بن يزيد وهو إبن اخته وزوج ابنته أم عثمان فلما قدم عبدالله على حران خرج إليه أبان بن يزيد مسودا فأمنه عبدالله بن على وأقره على عمله وهدم الدار التي سجن فيها إبراهيم الامام واجتاز مروان قنسرين قاصدا حمص فلما جاءها خرج إليه أهلها بالاسواق والمعايش فأقام بها يومين أو ثلاثةثم شخص منها فلما رأى أهل حمص قلة من معه اتبعوه ليقتلوه ونهبوا ما معه وقالوا مرعوب مهزوم فأدركوه بواد عند حمص فأكمن لهم أميرين فلما تلاحقوا بمروان عطف عليهم فأنشدهم أن يرجعوا فأبو إلا مقاتلته فثار القتال بينهم وثار الكمينان من ورائهم فانهزم الحمصيون وجاء مروان إلى دمشق وعلى نيابتها من جهته زوج ابنته الوليد إبن معاوية بن مروان فتركه بها واجتاز عنها قاصدا إلى الديار المصرية وجعل عبدالله بن علي لا يمر ببلد وقد سودوا فيبايعونه ويعطهم الامان ولما وصل إلى قنسرين وصل إليه أخوه عبد الصمد إبن علي في أربعة آلاف وقد بعثهم السفاح مددا له ثم سار عبدالله حتى أتى حمص ثم سار منها إلىبعلبك ثم منها حتى أتى دمشق من ناحية المزة فنزل بها يومين أو ثلاثة ثم وصل إليه أخوه صالح إبن علي في ثمانية آلاف مددا من السفاح فنزل صالح بمرج عذراء ولما جاء عبدالله بن على دمشق نزل على الباب الشرقي ونزل صالح أخوه على باب الجابية ونزل أبو عون على باب كيسان ونزل بسام على الباب الصغير وحميد بن قحطبه على باب توما وعبد الصمد ويحيى بن صفوان والعباس بن يزيد على باب الفراديس فحاصرها أياما ثم افتتحها يوم الأربعاء لعشر خلون من رمضان هذه السنة فقتل من أهلها خلقا كثيرا وأباحها ثلاث ساعات وهدم سورها ويقال إن أهل دمشق لما حاصرهم عبدالله اختلفوا فيما بينهم ما بين عباسي وأموي فاقتتلوا فقتل بعضهم بعضا وقتلو نائبهم ثم سلموا البلد وكان أول من صعد السور من ناحية الباب الشرقي رجل يقال له عبدالله الطائي ومن (10/44)
ناحية الباب الصغير بسام بن ابراهيم ثم أبيحت دمشق ثلاث ساعات حتى قيل إنه قتل بها في هذه المدة نحو من خمسين ألفا [ وذكر إبن عساكر في ترجمة عبيد بن الحسن الأعرج من ولد حعفر بن أبي طالب وكان أميرا على خمسة الاف مع عبدالله بن علي في حصار دمشق انهم أقاموا محاصريها خمسة أشهر وقيل مائة يوم وقيل شهرا ونصفا وأن البلد كان قد حصنه نائب مروان تحصينا عظيما ولكن اختلف أهلها فيما بينهم بسبب اليمانية والمضرية وكان ذلك بسبب الفتح حتى إنهم جعلوا في كل مسجد محرابين للقبلتين حتى في المسجد الجامع منبرين وإمامين يخطبان يوم الجمعه على المنبرين وهذا من عجيب ما وقع وغريب ما اتفق وفظيع ما أحدث بسبب الفتنة والهوى والعصبية نسأل الله السلامة والعافية وقد بسط ذلك إبن عساكر في هذه الترجمة المذكورة وذكر رحمه الله في ترجمة محمد بن سليمان بن عبدالله النوفلي قال كنت مع عبدالله بن علي أول ما دخل دمشق دخلها بالسيف وأباح القتل فيها ثلاث ساعات وجعل جامعها سبعين يوما اسطبلا لدوابه وجماله ثم نبش قبور بني أمية فلم يجد في قبر معاوية إلا خيطا أسود مثل الهباء ونبش قبر عبدالملك بن مروان فوجد جمجمته وكان يجد في القبر العضو بعد العضو إلا هشام بن عبد الملك فإنه وجده صحيحا لم يبل منه غير أرنبة أنفه فضربه بالسياط وهو ميت وصلبه أياما ثم أحرقه ودق رماده ثم ذره في الريح وذلك أن هشاما كان قد ضرب أخاه محمد بن علي حين كان قد اتهم بقتل ولد له صغير سبعمائة سوط ثم نفاه إلى الحميمة بالبلقاء قال ثم تتبع عبدالله بن علي بني أمية من أولاد الخلفاء وغيرهم فقتل منهم في يوم واحد اثنين وتسعين ألفا عند نهر بالرملة وبسط عليهم الأنطاع ومد عليهم سماطا فأكل وهم يختلجون تحته وهذا من الجبروت والظلم الذي يجازيه الله عليه وقد مضى ولم يدم له ما أراده ورجاه كما سيأتي في ترجمته وأرسل امرأة هشام بن عبد الملك وهي عبدة بنت عبدالله بن يزيد بن معاوية صاحبة الخال مع نفر من الخراسانية إلى البرية ماشية حافية حاسرة على وجهها وجسدها وثيابها ثم قتلوها ثم أحرق ما وجد من عظم ميت منهم وأقام بها عبدالله خمسة عشر يوما ]
وقد استدعى بالاوزاعي فأوقف بين يديه فقال له يا أبا عمرو ما تقول في هذا الذي صنعناه قال فقلت له لا أدري غير أنه قد حدثني يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم عن علقمة عن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله صلى اله عليه وسلم
( انما الأعمال بالنيات ) فذكرالحديث قال الأوزاعي وانتظرت رأسي أن يسقط بين رجلي ثم أخرجت وبعث لي بمائة دينار ثم سار (10/45)
وراء مروان فنزل على نهر الكسوة ووجه يحيى بن جعفر الهاشمي نائبا على دمشق ثم سار فنزل مرج الروم ثم أتى نهر أبي فطرس فوجد مروان قد هرب فدخل مصر وجاءه كتاب السفاح ابعث صالح بن علي في طلب مروان وأقم انت في الشام نائبا عليها فسار صالح يطلب مروان في ذي القعده من هذه السنة ومعه أبو عمر وعامر بن إسماعيل فنزل على ساحل البحر وجمع ما هناك من السفن وبلغه أن مروان قد نزل الفرما وقيل الفيوم فجعل يسير على الساحل والسفن تقاد معه في البحر حتى أتى العريش ثم سار حتى نزل على النيل ثم سار إلى الصعيد فعبر مروان النيل وقطع الجسر وحرق ما حوله من العلف والطعام ومضى صالح في طلبه فالتقى بخيل لمروان فهزمهم ثم جعل كلما التقوا مع خيل لمروان يهزمزنهم حتى سألوا بعض من أسروا عن مروان فدلهم عليه وإذا به في كنيسه أبو صير فوافوه من آخر الليل فانهزم من معه من الجند وخرج اليهم مروان في نفر يسير معه فأحاطوا به حتى قتلوه طعنه رجل من أهل البصرة يقال له معود ولا يعرفه حتى قال رجل صرع أمير المؤمنين فابتدره رجل من أهل الكوفة كان يبيع الرمان فاختز رأسه فبعث به عامر بن اسماعيل أمير هذه السرية إلى أبي عون فبعث به أبو عون إلى صالح بن علي فبعث به صالح مع رجل يقال له خزيمه بن يزيد بن هانيء كان على شرطته لأمير المؤمنين السفاح
وكان مقتل مروان يوم الأحد لثلاث بقين من ذي لحجة وقيل يوم الخميس لست مضين منها سنة ثنتين وثلاثين ومائة وكانت خلافته خمس سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام على المشهور واختلفوا في سنة فقيل اربعون سنه وقيل ست وقيل ثمان وخمسون سنة وقيل ستون وقيل اثنتان وقيل ثلاث وقيل تسع وستون سنه وقيل ثمانون والله أعلم
ثم إن صالح بن علي سار إلى الشام واستخلف على مصر أبا عون بن أبي يزيد والله سبحانه أعلم
( وهذا شيء من ترجمة مروان الحمار )
وهو مروان بن محمد بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية القرشي الأموي أبو عبد الملك أمير المؤمنين آخر خلفاء بني أمية وأمه أمة كردية يقال لها لبابه وكانت لإبراهيم بن الأشتر النخعي أخذها محمد بن مروان يوم قتله فاستولدها مروان هذا ويقال أنها كانت أولا لمصعب بن الزبير وقد كانت دار مروان هذا في سوق الأكافين قاله إبن عساكر بويع له بالخلافة بعد قتل الوليد بن يزيد وبعد موت يزيد بن الوليد ثم قدم دمشق وخلع ابراهيم بن الوليد واستمر له الامر في نصف صفر سنة سبع وعشرين ومائة وقال أبو معشر بويع بالخلافة في ربيع الأول سنة تسع وعشرين ومائة وكان يقال له مروان الجعدي نسبه إلى رأي الجعد بن درهم وتلقب بالحمار وهو آخر من ملك بني أمية وكانت خلافته خمس سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام وقيل (10/46)
خمس سنين وشهرا وبقي بعد أن بويع للسفاح تسعة اشهر وكان أبيض مشربا بالحمرة أزرق العينين كبير اللحية ضخم الهامة ربعة ولم يكن يخضب ولاه هشام نيابة أذربيجان وأرمينية والجزيرة في سنة أربع عشرة ومائة ففتح بلاد كثيرة وحصونا متعددة في سنين كثيرة وكان لا يفارق الغزو في سبيل الله وقاتل طوائف من الناس الكفار ومن الترك والخزر واللان وغيرهم فكسرهم وقهرهم وقد كان شجاعا بطلا مقداما حازم الرأي لولا أن جنده خذلوه بتقدير الله عز و جل لما له من ذلك من حكمة سلب الخلافة لشجاعته وصرامته ولكن الله يخذل ومن يهن الله فماله من مكرم
قال الزبير بن بكار عن عمه مصعب بن عبدالله كان بنو أمية يرون أنه تذهب منهم الخلافة إذا وليها من أمة أمة فلما وليها مروان هذا أخذت منهم في سنة ثنتين وثلاثيبن ومائة وقد قال الحافظ بن عساكر
أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي الحسن أخبرنا سهل بن بشر أنبأ الخليل إبن هبة الله بن الخليل أنبأ عبد الوهاب الكلابي حدثنا أبو الجهم أحمد بن الحسين أنبأ العباس إبن الوليد بن صبح ثنا عباس بن يحيى أبو الحارث حدثني الهيثم بن حمد حدثني راشد بن داود عن أسماء عن ثوبان قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( لاتزال الخلافة في بني أمية يتلقفونها تلقف الغلمان الكرة فاذا خرجت من أيديهم فلا خير في عيش ) هكذا أورده إبن عساكر وهو منكر جدا وقد سأل الرشيد أبا بكر بن عياش خير الخلفاء نحن أو بنوا امية فقال هم كانوا أنفع للناس وأنتم أقوم للصلاة فأعطاه ستة آلاف قالوا وقد كان مروان هذا كثير المروءة كثير العجب يعجبه اللهو والطرب ولكنه كان يشتغل عن ذلك بالحرب
قال إبن عساكر قرأت بخط أبي الحسين على بن مقلد بن نصر بن منقذ بن الأمير في مجموع له كتب مروان بن محمد إلى جاريته له تركها بالرملة عند ذهابه إلى مصر منهزما ... وما زال يدعوني إلى الصبر ما أرى ... فآبى ويدنيني الذي لك في صدري ... وكان عزيزا أن تبيتي وبيننا ... حجاب فقد أمسيت مني على عشر ... وأنكاهما والله للقلب فاعلمي ... إذا زدت مثليها فصرت على شهر ... وأعظم من هذين والله انني ... أخاف بان لا نلتقي آخر الدهر ... سأبكيك لا مستبقا فيض عبرة ... ولا طالبا بالصبر عاقبة الصبر ...
وقال بعضهم اجتاز مروان وهو هارب براهب فاطلع عليه الراهب فسلم عليه فقال له يا راهب هل عندك علم بالزمان قال نعم عندي من تلونه ألوان قال هل تبلغ الدنيا من الانسان أن تجعله مملوكا بعد أن كان مالكا قال نعم قال فكيف قال بحبه لها وحرصه على نيل شهواتها (10/47)
وتضييع الحزم وترك انتهاز الفرص فإن كنت تحبها فإن عبدها من أحبها قال فما السبيل إلى العتق قال ببغضها والتجافي عنها قال هذا ما لايكون قال الراهب أما إنه سيكون فبادر بالهرب منها قبل أن تسلبها قال هل تعرفني قال نعم أنت ملك العرب مروان تقتل في بلاد السودان وتدفن بلا أكفان فوللا أن الموت في طلبك لدللتك على موضع هربك قال بعض الناس كان يقال في ذلك الزمان يقتل ح بن ع بن ع م بن م بن م يعنون يقتل عبدالله بن علي بن عباس بن مروان بن محمد بن مروان
وقال بعضهم جلس مروان يوما وقد أحيط به وعلى رأسه خادم له قائم فقال مروان لبعض من يخاطبه ألا ترى ما نحن فيه لهفي على أيد ما ذكرت ونعم ما شكرت ودولة ما نصرت فقال له الخادم يا أمير المؤمنين من ترك القليل حتى يكثر والصغير حتى يكبر والخفي حتى يظهر وأخر فعل اليوم لغد حل به أكثر من هذا فقال مروان هذا القول أشد على من فقد الخلافة قيل إن مروان قتل يوم الأثنين لثلاث عشرة خلت من ذي الحجة سنة ثنتين وثلاثين ومائة وقد جاوز الستين وابلغ الثمانين وقيل إنما عاش أربعين سنة والصحيح الأول وهو اخر خلفاء بني أمية به انقضت دولتهم
( ما ورد في انقضاء دولة بني أمية وابتداء بني العباس من الاخبار النبوية )
قال العلاء بن عبد الرحمن عن أبية عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( إذا بلغ بنوالعاص أربعين رجلا أتخذوا دين الله دغلا وعباد الله خولا ومال الله دولا ) ورواه الأعمش عن عطية عن أبي سعيد مرفوعا بنحوه وروى إبن لهيعة عن أبي قبيل عن إبن وهب أنه كان عند معاوية فدخل عليه مروان بن الحكم فتكلم في حاجه فقال اقضي حاجتي فإني لأبو عشرة وأخو عشرة وعم عشرة فلما أدبر مروان قال معاوية لإبن عباس وهو معه على السرير أما تعلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال
( إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين رجلا اتخذوا مال الله بينهم دولا وعباد الله خولا وكتاب الله دغلا فاذا بلغوا سبعة وتسعين واربعمائة كان هلاكهم أسرع من لوك تمرة ) فقال إبن عباس اللهم نعم فلما أدبر مروان قال معاوية أنشدك بالله يا إبن عباس أما تعلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكر فقال
( ابو الجبابرة الأربعة ) فقال إبن عباس اللهم نعم وقال أبو داود الطيالسى حدثنا القاسم بن الفضل ثنا يوسف بن مازن الراسبي قال قام رجل إلى الحسين بن علي فقال يا مسود وجوه المؤمنين فقال الحسين لاتؤنبني رحمك الله فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم رأى بني أمية يخطبون على منبره رجلا رجلا فساءة ذلك فنزلت انا أعطيناك الكوثر وهو نهر في الجنة ونزلت إنا أنزلناه (10/48)
في ليلة القدر السورة إلى قوله خير من الف شهر مملكة بني أمية قال فحسبنا ذلك فإذا هو كما قال لا يزيد ولا ينقص وقد رواه الترمذي عن محمود بن غيلان عن ابي داود الطيالسى ثم قال غريب لا نعرفه إلا من حديث القاسم بن الفضل وهو ثقة يحيى القطان وابن مهدي قال وشيخه يوسف بن سعد ويقال يوسف بن مازن رجل مجهول ولا يعرف بهذا اللفظ إلا من هذا الوجه وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث القاسم بن الفضل الحداني وقد تكلمت على نكارة هذا الحديث في التفسير بكلام مبسوط وإنما يكون متجها إذا قيل إن دولتهم ألف شهر بأن نسقط منها أيام إبن الزبير وذلك أن معاوية بويع له مستقلا بالملك في سنة أربعين وهي عام الجماعة حين سلم إليه الحسن بن علي على الأمر بعد ستة أشهر من قتل على ثم زالت الخلافة عن بني أمية في هذه السنة وهي سنة ثنتين وثلاثين ومائة وذلك ثنتان وتسعون سنة وإذا أسقط منها تسع سنين خلافه إبن الزبير بقي ثلاث وثمانون سنة وهي مباينة لما ورد في هذا الحديث ولكن ليس هذا الحديث مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم أنه فسر الآية بهذا العدد وإنما هذا من قول بعض الرواه وقد تكلمنا على ذلك مطولا في التفسير وتقدم في الدلائل أيضا تقريره والله أعلم
وقال علي بن المديني عن يحيى بن سعيد عن سفيان الثورى عن علي ين زيد عن سعد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ( رأيت بني أمية يصعدون منبري فشق ذلك علي فإنزلت إنا أنزلناه في ليلة القدر فيه ضعف وإرسال وقال أبو بكر بن ابي خيثمة ثنا يحيى بن معين ثنا عبد الله بن نمير عن سفيان عن علي بن يزيد عن سعد بن المسيب في قوله وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس قال رأى ناسا من بني أمية على المنابر فساءه ذلك فقيل له انما هي دنيا يعطونها وتضمحل عن قليل فسرى عنه وقال ابو جعفر الرازي عن الربيع قال لما اسري برسول الله صلى الله عليه و سلم رأى فلانا وهو من بعض بني أمية على المنبر يخطب الناس فشق ذلك عليه فأنزل الله وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين وقال مالك إبن دينار سمعت أبا الجوزاء يقول والله ليعزن الله ملك بني أمية كما أعز ملك من كان قبلهم ثم ليذلن ملكهم كما أذل ملك من كان قبلهم ثم تلا قوله تعالى وتلك الأيام نداولها بين الناس وقال بن أبي الدنيا حدثني ابراهيم بن سعد ثنا أبو أسامة ثنا عمر بن حمزة أخبرني عمر بن سيف مولى لعثمان بن عفان قال سمعت سعيد بن المسيب وهو يقول لأبي بكر بن سليمان بن ابي خيثمة وذكروا بني أمية فقال لا يكون هلاكهم إلا بينهم قالوا كيف قال يهلك خلفاؤهم ويبقى شرارهم فيتنافسونها ثم يكثر الناس عليهم فيهلكونهم وقال يعقوب بن سفيان
أنبأ أحمد بن محمد الأزرقي ثنا الزنجي عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ( رأيت في النوم بني أبى (10/49)
الحكم أو بني أبي العاص ينزون على منبري كما تنزو القردة قال فما رؤى رسول الله صلى الله عليه و سلم مستجمعا ضاحكا بعدها حتى توفي ) قال أبو محمد عبدالله بن عبد الرحمن الداري [ لعله الدرامي ]
حدثنا مسلم بن ابراهيم ثنا سعيد بن زيد أخو حماد بن زيد عن علي بن الحكم النبائي عن أبي الحسن هو الحمصي عن عمرو بن مرة وكانت له صحبة قال جاء الحكم بن أبي العاص يستأذن على رسول الله صلىالله عليه وسلم فعرف كلامه فقال ( ائذنوا له صبت عليه لعنة الله وعلى من يخرج من صلبه إلا المؤمنين وقليل ما هم يشرفون في الدنيا ويوضعون في الآخرة ذوو دهاء وخديعه يعطون في الدنيا وما لهم في الاخرة من خلاق )
وقال أبو بكر الخطيب البغدادي
أنبأ أبو عبدالله محمد بن عبد الواحد بن محمد أنبأ محمد بن المظفر الحافظ أنبأ أبو القاسم تمام بن خريم بن محمد بن مروان الدمشقي أنبأ أحمد بن إبراهيم بن هشام بن ملابس ثنا أبو النظر إسحاق بن ابراهيم بن يزيد [ مولى أم الحكم بنت عبد العزيز حدثنا يزيد ] بن ربيعه حدثنا أبو الأشعث الصنعاني عن ثوبان قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم نائما واضعا رأسه على فخد أم حبيبة بنت أبي سفيان فنحب ثم تبسم فقالوا يارسول الله رأيناك نحبت ثم تبسمت فقال رأيت في منامي بني أمية يتعاورون على منبري فساءني ذلك ثم رأيت بني العباس يتعاورون على منبري فسرني ذلك ) وقال يعقوب بن سفيان حدثني محمد بن خالد بن العباس ثنا الوليد بن مسلم حدثني أبو عبدالله عن الوليد بن هشام المعيطي عن أبان بن الوليد عن عقبة بن أبي معيط قال قدم إبن عباس على معاوية وأنا حاضر فأجازه فأحسن جائزته ثم قال يا أبا العباس هل يكون لكم دولة فقال اعفني يا أمير المؤمنين فقال لتخبرني قال نعم قال فمن أنصاركم قال أهل خراسان ولبني أمية من بني هاشم نطحات
وقال المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير سمعت إبن عباس يقول يكون منا ثلاثة أهل البيت السفاح والمنصور والمهدي رواه البهيقي من غير وجه ورواه الأعمش عن الضحاك عن إبن عباس مرفوعا وروي إبن أبي خيثمة عن إبن معين عن سفيان بن عيينه عن عمرو بن دينار عن أبي معبد عن إبن عباس قال كما افتتح الله بأولنا فأرجوا أن يختمه بنا وهذا اسناد صحيح إليه وكذا وقع ويقع للمهدي إن شاء الله
وروى البيهقي عن الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار عن أبي معاوية عن الأعمش عن عطية عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( يخرج رجل من أهل بيتي عند انقطاع من الزمان وظهور من الفتن يقال له السفاح يعطي المال حثيا ) وقال عبد الزراق حدثنا الثوري عن خالد الحذاء عن ابي قلابه عن أبي أسماء عن ثوبان قال قال رسول الله (10/50)
صلى الله عليه و سلم ( يقتتل عند حرتكم هذه ثلاثة كلهم ولد خليفه لا تصير إلى واحد منهم ثم تقبل الرايات من خراسان فيقتلونكم مقتله لم ير مثلها ثم ذكر شيئا فإذا كان كذلك فأتوه ولو حبوا على الثلج فانه خليفة الله المهدي ) رواه بعضهم عن ثوبان فوقفه وهو أشبه والله أعلم
وقال الامام أحمد حدثني يحيى بن غيلان وقتيبة بن سعيد قالا ثنا راشد بن سعد حدثني يونس إبن يزيد عن إبن شهاب عن قصيبة هو إبن ذؤيب عن ابي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال ( يخرج من خراسان رايات سود لا يردها شيء حتى تنصب بايليا ) وقد رواه البيهقي في الدلائل من حديث راشد بن سعد المصري وهو ضعيف ثم قال قد روي قريبا من هذا عن كعب الاحبار وهو أشبه ثم رواه عن كعب أيضا قال ( تظهر رايات سود لبني العباس حتى ينزلوا الشام ويقتل الله على أيديهم كل جبار وعدو لهم ) وروآ ابراهيم بن الحسين عن إبن أبي أويس عن إبن أبي ذؤيب عن محمد بن عبدالرحمن العامري عن سهل عن أبيه عن أبي هريره أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال للعباس ( فيكم النبوة وفيكم المملكة )
وروى عبدالله بن أحمد عن إبن معن عن عبيد بن أبي قرة عن الليث عن أبي قبيل عن أبي ميسرة مولى العباس قال سمعت العباس يقول كنت عند رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات ليلة فقال ( انظر هل ترى في السماء من شيء قلت نعم قال ماترى قلت الثريا قال أما إنه سيملك هذه الأمة بعددها من صلبك ) قال البخاري عبيد بن أبي قرة لا يتابع على حديثه
وروى إبن عدي من طريق سويد بن سعيد عن حجاج بن تميم عن ميمون بن مهران عن إبن العباس قال ( مررت برسول الله صلى الله عليه و سلم ومعه جبريل وأنا أظنه دحية الكلبي فقال جبريل لرسول الله صلى الله عليه و سلم انه لوسخ الثياب وسيلبس ولده من بعده السواد ) وهذا منكر من هذا الوجه ولا شك أن بني العباس كان السواد من شعارهم أخذو ذلك من دخول رسول الله صلى الله عليه و سلم مكه يوم الفتح وعلى رأسه عمامة سوداء فأخذوا بذلك وجعلوه شعارهم في الأعياد والجمع والمحافل وكذلك كان جندهم لا بد من أن يكون على أحدهم شيء من السواد ومن ذلك الشربوش الذي يلبسه الأمراء إذا خلع عليهم وكذلك دخل عبدالله بن علي دمشق يوم دخلها وعليه السواد فجعل النساء والغلمان يعجبون من لباسه وكان دخوله من باب كيسان وقد خطب الناس يوم الجمعة وصلى بهم وعليه السواد وقد روى إبن عساكر عن بعض الخراسانية قال لما صلى عبدالله بن علي بالناس يوم الجمعة صلى إلى جانبي رجل فقال الله أكبر سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا اله غيرك أنظروا إلى عبدالله بن علي ما أقبح وجهه وأشنع سواده وشعارهم إلى يومك هذا كما تراه على الخطباء يوم الجمعة والأعياد (10/51)
( استقرار ابي العباس السفاح )
واستقلاله بالخلافة وما اعتمده في أيامه من السيرة الحسنة
قد تقدم أنه أول ما بويع له بالخلافة بالكوفة يوم الجمعة الثاني عشر من ربيع الاخر وقيل الأول من هذه السنة سنة ثنتين وثلاثين ومائة ثم جرد الجيوش إلى مروان فطردوه عن المملكة وأجلوه عنها وما زالوا خلفه حتى قتلوه ببوصير من بلاد الصعيد بأرض مصر في العشر الاخير من ذي الحجة من هذه السنة على ما تقدم بيانه وحينئذ استقل السفاح بالخلافة واستقرت يده على بلاد العراق وخراسان والحجاز والشام والديار المصرية خلا بلاد الأندلس فانه لم يحكم عليها ولا وصل سلطانه اليها وذلك أن بعض من دخلها من بني أمية استحوذ عليها وملكها كما سيأتي بيانه وقد خرج على السفاح في هذه السنة طوائف فمنهم أهل قنسرين بعد ما بايعوه على يدي عمه عبدالله بن علي وأقر عليهم أميرهم مجزاة بن الكوثر بن زفر بن الحارث الكلابي وكان من أصحاب مروان وامرائه فخلع السفاح ولبس البياض وحمل أهل البلد على ذلك فوافقوه وكان السفاح يومئذ بالحيرة وعبدالله بن علي مشغول بالبلقاء يقاتل بها حبيب بن مرة المزي ومن وافقه من اهل البلقاء والبثنية وحوران على خلع السفاح فلما بلغه عن أهل قنسرين ما فعلوا صالح حبيب بن مرة وسار نحو قنسرين فلما اجتاز بدمشق وكان بها أهله وتقله استخلف عليها أبا غانم عبد الحميد بن ربعي الكناني في أربعة الاف فلما جاوز البلد وانتهى إلى حمص نهض أهل دمشق مع رجل يقال له عثمان بن عبد الأعلا بن سراقه فخلعوا السفاح وبيضوا وقتلوا الأمير أبا غانم وقتلوا جماعة من أصحابه وانتهبوا تقل عبدالله بن علي بن وحواصلة ولم يتعرضوا لأهله وتفاقم الامر على عبدالله وذلك أن أهل قسرين تراسلوا مع أهل حمص وتزمروا واجتمعوا على ابي محمد السفياني وهو أبو محمد بن عبدالله بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان فبايعوه بالخلافة وقام معه نحو من أربعين ألفا فقصدهم عبدالله بن علي فالتقوا بمرج الأخرم فاقتتلوا مع مقدمة السفياني وعليها أبو الورد فاقتتلوا قتالا شديد وهزموا عبد الله عبد الصمد وقتل من الفريقين ألوف فتقدم اليهم عبد الله بن علي ومعه حميد بن قحطبة فاقتتلوا قتالا شديدا جدا وجعل أصحاب عبد الله يفرون وهو ثابت هو وحميد وما زال حتى هزم أصحاب أبي الورد وثبت أبو الورد في خمسمائة فارس من أهل بيته وقومه فقتلوا جميعا وهرب أبو محمد السفياني ومن معه حتى لحقوا بتدمر وأمن عبدالله أهل قنسرين وسودوا وبايعوه ورجعوا إلى الطاعة ثم كر عبدالله راجعا إلى دمشق وقد بلغه ما صنعوا فلما دنا منها تفرقوا عنها ولم يكن منهم قتال فأمنهم ودخلوا في الطاعة وأما أبو محمد السفياني فإنه مازال مضيعا ومشتتا حتى لحق بأرض الحجاز فقاتله (10/52)
نائب جعفر المنصور في أيام المنصور فقتله وبعث برأسه وبإبنين له أخذهما أسيرين فأطلقما المنصور في أيامه وقد قيل إن وقعة السفياني يوم الثلاثاء آخر يوم من ذي الخحة سنة ثنتين وثلاثين ومائة والله أعلم
وممن خلع السفاح أيضا أهل الجزيرة حين بلغهم أن أهل قنسرين خلعوا فوافقهم وبيضوا وركبوا إلى نائب حران من جهة السفاح وهو موسى بن كعب وكان في ثلاثة الآف قد اعتصم بالبلد فحاصروه قريبا من شهرين ثم بعث السفاح أخاه أبا جعفر المنصور فيمن كان بواسطة محاصري إبن هبيرة فمر في مسرة إلى حران بقرقيسيا وقد بيضوا فغلقوا أبوابها دونه ثم مر بالرقة وعليها بكار بن مسلم وهم كذلك ثم بحاجر وعليها اسحاق بن مسلم فيمن معه من أهل الجزيرة يحاصرونها فرحل اسحاق عنها إلى الرها وخرج موسى بن كعب فيمن معه من جند حران فتلقاه المنصور ودخلوا في جيشه وقدم بكار بن مسلم على اخيه إسحاق بن مسلم بالرها فوجهه إلى جماعة ربيعه بدارا وماردين ورئيسهم حرورى يقال له بريكة فصار حزبا واحدا فقصد إليهم أبو جعفر فقاتلهم قتالا شديدا فقتل بريكه في المعركة وهرب بكار إلى أخيه بالرها فاستخلفه بها ومضى بمعظم العسكر [ حتى نزل ] سميساط وخندق على عسكره وأقبل أبو جعفر فحاصر بكارا بالرها وجرت له معه وقعات وكتب السفاح إلى عمه عبدالله بن علي أن يسير إلى سميساط وقد اجتمع علي اسحاق بن مسلم ستون الفا من أهل الجزيرة فسار اليهم عبدالله واجتمع إليه أبو جعفر المنصور فكاتبهم إسحاق وطلب منهم الامان فأجابوه إلى ذلك على إذن أمير المؤمنين وولى السفاح أخاه أبا جعفر المنصور الجزيرة وأذربيجان وأرمينية فلم يزل عليها حتى أفضت إليه الخلافة بعد أخيه ويقال أن اسحاق بن مسلم العقيلي إنما طلب الأمان لما تحقق أن مروان قد قتل وذلك بعد مضي سبعة أشهر وهو محاصر وقد كان صاحبا لأبي جعفر المنصور فآمنه
وفي هذه السنة ذهب أبو جعفر المنصور عن أمر أخيه السفاح إلى ابي مسلم الخراساني وهو أميرها ليستطلع رأيه في قتل أبي سلمه لأنه كان يريد أن يصرف الخلافة عنهم فيسأله هل ذلك كان عن ممالأه أبي مسلم لابي سلمه في ذلك أم لا فسكت القوم فقال السفاح لئن كان هذا عن رأيه إنا لبعر بلاء عظيم إلا أن يدفعه الله عنا قال أبو جعفر فقال لي أخي ما ترى فقلت الرأي رأيك فقال إنه ليس أحد أخص بأبي مسلم منك فاذهب إليه فاعلم لي علمه فإن كان عن رأيه احتلنا له وإن لم يكن عن رأيه طابت انفسنا قال أبو جعفر فخرجت إليه قاصدا على وجل قال المنصور فلما وصلت إلى الري إذا كتاب أبي مسلم إلى نائبها يستحثني إليه في المسير فازددت وجلا فلما انتهيت إلى نيسابور إذا كتابه يستحثني أيضا وقال لنائبها لا تدعه يقر ساعه (10/53)
واحدة فان ارضك بها خوارج فانشرحت لذلك فلما صرت من مرو على فرسخين خرج يتلقاني ومعه الناس فلما واجهني ترجل فقبل يدي فأمرته فركب فلما دخلت مرو ونزلت في داره فمكثت ثلاثا لا يسألني في أي شيء جئت فلما كان اليوم الرابع سألني ما أقدمك فأخبرته بالأمر فقال أفعلها أبو سلمة أنا أكفيكموه فدعا مرار بن أنس الضبي فقال اذهب إلى الكوفة فحيث لقيت أبا سلمه فاقتله وانته في ذلك إلى رأي الامام فقدم مرار الكوفة الهاشمية وكان أبو سلمة يسمر عند السفاح فلما خرج قتله مرار وشاع أن الخوارج قتلوه وعلقت البلد ثم صلى عليه يحيى بن حمد بن علي أخو أمير المؤمنين ودفن بالهاشمية وكان يقال له وزير آل محمد ويقال لأبي مسلم أمير أل محمد قال الشاعر ... إن الوزير وزير آل محمد ... أودى فمن يشناك كان وزيرا ...
ويقال إن أبا جعفر إنما سار إلى ابي مسلم بعد قتل ابي سلمة وكان معه ثلاثون رجلا على البريد منهم الحجاج بن أرطاه واسحاق بن الفضل الهاشمي وجماعة من السادات ولما رجع ابو جعفر من خراسان قال لاخيه لست بخليفة ما دام ابو مسلم حيا حتى تقتله لما رأى من طاعة العساكر له فقال له السفاح اكتمها فسكت ثم إن السفاح بعث أخاه أبا جعفر إلى قتال بن هبيرة بواسط فلما اجتاز بالحسن بن قحطبة اخذه معه فلما احيط بإبن هبيرة كتب إلى محمد بن عبدالله بن الحسن ليبايع له بالخلافة فأبطأ عليه جوابه فمال إلى مصالحة أبي جعفر فاستأذن أبو جعفر أخاه السفاح في ذلك فأذن له في المصالحة فكتب له أبو جعفر كتابا بالصلح فمكث إبن هبيرة يشاور فيه العلماء أربعين يوما ثم خرج يزيد بن عمر بن هبيره إلى ابي جعفر في ألف وثلاثمائة من البخارية فلما دنا من سرادق أبي جعفر همأن يدخل بفرسه فقال الحاجب سلام انزل أبا خالد وكان حول السرادق عشرة الاف من أهل خراسان ثم أذن له في الدخول فقال أنا ومن معي قال لا بل انت وحدك فدخل ووضعت له وسادة فجلس عليها فحادثه أبو جعفر ساعة ثم خرج من عنده فاتبعه أبو جعفر بصره ثم جعل يأتيه يوما بعد يوم في خمسمائة فارس وثلاثمائة راجل فشكوا ذلك إلى أبي جعفر فقال أبو جعفر للحاجب مرة فليأت في حاشيته فكان يأتي في ثلاثين نفسا فقال الحاجب كأنك تأتي متأهبا فقال لو أمرتموني بالمشي لمشيت إليكم ثم كان يأتي في ثلاثة أنفس وقد خاطب إبن هبيرة يوما لابي جعفر فقال في غون كلامه يا هناه أو قال ياأيها المرء ثم اعتذر إليه بأنه قد سبق لسانه إلى ذلك فأعذره وقد كان السفاح كتب إلى ابي مسلم يستشيره في مصالحة إبن هبيره فنهاه عن ذلك وكان السفاح لايقطع أمرا دونه فلما وقع الصلح على يدى أبي جعفر لم يحب السفاح ذلك ولم يعجبه وكتب إلى أبي جعفر يأمر بقتله فراجعه أبو جعفر مرارا (10/54)
لايفيده ذلك شيئا حتى جاء كتاب السفاح أن أقتله لا محاله [ لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم كيف يعطي الامان وينكث هذا فعل الجبابرة ] وأقسم عليه في ذلك فأرسل إليه أبو جعفر طائفة من الخراسانية فدخلوا عليه وعنده ابنه داود وفي حجره صبي صغير وحوله مواليه وحاجبه فدافع عنه ابنه حتى قتل وقتل خلق من مواليه وخلصوا إليه فألقى الصبي من حجره وخر ساجدا فقتل وهو ساجد واضطرب الناس فنادى أبو جعفر في الناس بالأمان إلا عبد الملك بن بشر وخالد إبن سلمه المخزومي وعمر بن ذر فسكن الناس ثم استؤمن لبعض هؤلاء وقتل بعضا
وفي هذه السنة بعث أبو مسلم الخراساني محمد بن الأشعث إلى فارس وأمره أن يأخذ عمال أبي سلمة الخلال فيضرب أعناقهم ففعل ذلك وفيها ولى السفاح أخاه يحيى بن محمد الموصل وأعمالها وولى عمه داود مكه والمدينه واليمن واليمامه وعزله عن الكوفة وولى مكانه عليها عيسى بن موسى وولى قضاءها إبن ابي ليلى وكان على نيابة البصرة سفيان بن معاوية المهلبي وعلى قضائها الحجاج إبن أرطاة وعلى السند منصور بن جمهور وعلى فارس محمد بن الأشعث وعلى أرمينية وأذربيجان والجزيرة أبو جعفر المنصور وعلى الشام وأعمالها عبدالله بن علي عم السفاح وعلى مصر أبو عون عبد الملك بن يزيد وعلى خراسان وأعمالها أبو مسلم الخراساني وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك وحج بالناس فيها داود بن علي
( ذكر من توفي فيها من الأعيان )
مروان بن محمد بن مروان بن الحكم أبو عبد الملك الأموي آخر خلفاء بني أميه فقتل في العشر الأخير من ذي الحجة من هذه السنة كما تقدم ذلك مبسوطا وزيره عبد الحميد بن يحيى بن سعد مولى بنى عامر بن لؤي الكاتب البليغ الذي يضرب به المثل فيقال فتحت الرسائل بعبد الحميد وختمت بابن العميد وكان إماما في الكتابة وجميع فنونها وهو القدوة فيها وله رسائل في الف ورقة وأصله من قيسارية ثم سكن الشام وتعلم هذا الشأن من سالم مولى هشام بن عبد الملك وكان يعقوب بن داود وزير المهدي يكتب بين يديه وعليه تحرج وكان ابنه اسماعيل بن عبد الحميد ماهرا في الكتابة ايضا وقد كان أولا يعلم الصبيان ثم تقلبت به الاحوال أن صار وزيرا لمروان وقتله السفاح ومثل به وكان اللائق بمثله العفو عنه ومن مستجاد كلامه العلم شجرة ثمرتها الألفاظ والفكر بحر لؤلؤه الحكمة ومن كلامه وقد رأى رجلا يكتب بخطأ رديئا فقال أطل جلفة قلمك وأسمنها وحرف قطتك وأيمنها قال الرجل ففعلت ذلك فجاد خطي وسأله رجل أن يكتب له كتابا إلى بعض الأكابر يوصيه به فكتب إليه حق موصل كتابي إليك كحقه على (10/55)
إذ رآك موضعا لأمله ورآني أهلا لحاجته وقد قضيت أنا حاجته فصدق أنت أمل وكان كثيرا ما ينشد هذا البيت ... إذا خرج الكتاب كان دويهم ... قسيا وأقلام القسى لها نبلا ...
وأبو سلمة حفص بن سليمان هو أول من وزر لآل العباس قتله أبو مسلم بالأنبار عن أمر السفاح بعد ولايته بأربعة أشهر في شهر رجب وكان ذا هيئة فاضلا حسن المفاكهة وكان السفاح يأنس به ويحب مسامرته لطيب محاضرته ولكن توهم ميله لآل على فدس أبو مسلم عليه من قتله غيلة كما تقدم فأنشد السفاح عند قتله ... إلى النار فليذهب ومن كان مثله ... على أي شيء فاتنا منه نأسف ...
كان يقال له وزير آل محمد ويعرف بالخلال لسنكاه بدرب الخلالين بالكوفة وهو أول من سمي بالوزير وقد حكى إبن خلكان عن إبن قتيبة أن اشتقاق الوزير من الوزر وهو الحمل فكأن السلطان حمله أثقالا لإستناده إلى رأيه كما يلجأ الخائف إلى جبل يعتصم به
( ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائة )
فيها ولى السفاح عمه سليمان البصرة وأعمالها وكور دجلة والبحرين وعمان ووجه عمه إسماعيل إبن علي إلى كور الأهواز وفيها قتل داود بن علي من بمكة والمدينة من بني أمية وفيها توفي داود إبن علي بالمدينة في شهر ربيع الأول واستخلف ابنه موسى على عمله وكانت ولايته على الحجاز ثلاثة أشهر فلما بلغ السفاح موته استناب على الحجاز خاله زياد بن عبيد الله بن عبد الدار الحارثي وولى اليمن لابن خاله محمد بن يزيد بن عبيد الله بن عبد الدار وجعل إمرة الشام لعميه عبد الله وصالح بن علي وأقر أبا عون على الديار المصرية نائبا وفيها توجه محمد بن الأشعث إلى افريقية فقاتلهم قتالا شديدا حتى فتحها وفيها خرج شريك بن شيخ المهري ببخارى على أبي مسلم وقال ما على هذا بايعنا آل محمد على سفك الدماء وقتل الأنفس واتبعه على ذلك نحو من ثلاثين ألفا فبعث إليه أبو مسلم زياد بن صالح الخزاعي فقاتله فقتله
وفيها عزل السفاح أخاه يحيى بن محمد عن الموصل وولى عليه عمه إسماعيل وفيها ولى الصائفة من جهته صالح بن علي بن سعيد بن عبيد الله وغزا ما وراء الدروب وحج بالناس خال السفاح زياد إبن عبيد الله بن عبد الدار الحارثي ونواب البلاد هم الذين كانوا في التي قبلها سوى من ذكرنا أنه عزل
( ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ومائة )
فيها خلع بسام بن إبراهيم بن بسام الطاعة وخرج على السفاح فبعث إليه خازم بن خزيمة فقاتله فقتل عامة أصحابه واستباح عسكره ورجع فمر بملأ من بني عبد الدار أخوال السفاح فسألهم (10/56)
عن بعض ما فيه نصرة للخليفة فلم يردوا عليه واستهانوا به وأمر بضرب أعناقهم وكانوا قريبا من عشرين رجلا ومثلهم من مواليهم فاستعدى بنو عبد الدار على خازم بن خزيمه إلى السفاح وقالوا قتل هؤلاء بلا ذنب فهم السفاح بقتله فأشار عليه بعض الأمراء بأن لا يقتله ولكن ليبعثه مبعثا صعبا فإن سلم فذلك وإن قتل كان الذي أراد فبعثه إلى عمان وكان بها طائفة من الخوارج قد تمردوا وجهز معه سبعمائة رجل وكتب إلى عمه سليمان بالبصرة أن يحملهم في السفن إلى عمان ففعل فقاتل الخوارج فكسرهم وقهرهم واستحوذ على ما هنالك من البلاد وقتل أمير الخوارج الصفريه وهو الجلندي وقتل من أصحابه وأنصاره نحوا من عشرة آلاف وبعث برؤسهم إلى البصرة فبعث بها نائب البصرة إلى الخليفة ثم بعد أشهر كتب إليه السفاح أن يرجع فرجع سالما غانما منصورا
وفيها غزا أبو مسلم بلاد الصغد وغزا أبو داود أحد نواب أبي مسلم بلاد كش فقتل خلقا كثيرا وغنم من الأواني الصينية المنقوشة بالذهب شيئا كثيرا جدا وفيها بعث السفاح موسى إبن كعب إلى منصور بن جمهور وهو بالهند في اثني عشر ألفا فألتقاه موسى بن كعب وهو في ثلاثة آلاف فهزمه واستباح عسكره وفيها ومات عامل اليمن محمد بن يزيد بن عبدالله بن عبد الدار فاستخلف السفاح عليها عمه وهو خال الخليفه وفيها تحول السفاح من الحيرة إلى الأنبار وحج بالناس نائب الكوفة عيسى بن موسى ونواب الأقاليم هم هم وفيها توفي من الأعيان أبو هارون العبدي وعمارة بن جوين ويزيد بن جابر الدمشقي والله أعلم
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ومائة
فيها خرج زياد بن صالح من وراء نهر بلخ على أبي مسلم فأظفره الله بهم فبدد شملهم واستقر أمره بتلك النواحي وحج بالناس فيها سليمان بن علي نائب البصرة والنواب هم المذكورون قبلها وممن توفي فيها من الأعيان يزيد بن سنان وأبو عقيل زهرة بن معبد وعطاء الخراساني ]
( ثم دخلت سنة ست وثلاثين ومائة )
فيها قدم أبو مسلم من خراسان على السفاح وذلك بعد استئذانه الخليفة في القدوم عليه فكتب إليه أن يقدم في خمسمائة من الجند فكتب إليه إني قد وترت الناس وإني أخشى من قلة الخمسمائة فكتب إليه أن يقدم في ألف فقدم في ثمانية آلاف فرقهم وأخذ معه من الأموال والتحف والهدايا شيئا كثيرا ولما قدم لم يكن معه سوى ألف من الجند فلقاه القواد والأمراء إلى مسافة بعيده ولما دخل على السفاح أكرمه وعظمه واحترمه وأنزله قريبا منه وكان يأيى إلى (10/57)
الخلافة كل يوم واستأذن الخليفة في الحج فأذن له وقال لولا إني عينت الحج لأخي ابي جعفر لأمرتك على الحج وكان الذي بين أبي جعفر وأبي مسلم خرابا وكان يبغضه وذلك لما رأى ما هو فيه من الحرمة حين قدم عليه نيسابور في البيعة للسفاح وللمنصور بعده فحار في أمره لذلك فحقد عليه المنصور وأشار على السفاح بقتله فأمر بكتم ذلك وحين قدم أمره بقتله ايضا وحرضه على ذلك فقال له السفاح قد علمت بلاءه معنا وخدمته لنا فقال أبو جعفر يا أمير المؤمنين إنما ذلك بدولتنا والله لو أرسلت سنورا لسمعوا لها وأطاعوا وإنك إن لم تتعش به تغدى بك هو فقال له كيف السبيل إلى ذلك فقال إذا دخل عليك فحادثه ثم أجيء أنا من ورائه فأضربه بالسيف قال كيف بمن معه قال هم أذل وأقل فأذن له في قتله فلما دخل أبو مسلم على السفاح ندم على ما كان أذن لأخيه فيه فبعث إليه الخادم يقول له ان ذاك الذي بينك وبينه ندم عليه فلا تفعله فلما جاءه الخادم وجده محتبيا بالسيف قد تهيأ لما يريد من قتل أبي مسلم فلما نهاه عن ذلك غضب أبو جعفر غضبا شديدا وفيها حج بالناس أبو جعفر المنصور عن ولاية أخيه السفاح وسار معه إلى الحجاز أبو مسلم الخراساني عن أمر الخليفة وأذن له في الحج فلما رجعا من الحج وكانا بذات عرق جاء الخبر إلى ابي جعفر وكان يسير أبي مسلم بمرحلة بموت أخيه السفاح فكتب إلى ابي مسلم أن قد حدث أمر فالعجل العجل فلما استعلم أبو مسلم الخبر عجل السير وراءه فلحقه إلى الكوفة وكانت بيعة المنصور على ما سيأتى بيانه وتفصيله قريبا والله سبحانة وتعالى أعلم
( ترجمة أبى العباس السفاح أول خلفاء بنى العباس )
هي عبدالله السفاح ويقال له المرتضى والقاسم أيضا إبن محمد إبن الإمام إبن على السجاد إبن عبدالله الحبر إبن العباس بن عبدالمطلب القرشى الهاشمي أمير المؤمنين وأمه ريطة ويقال رايطة بنت عبيدالله بن عبدالله بن عبد الله الحارثى كان مولد السفاح بالحميمة من أرض الشراه من البلقاء بالشام ونشأ بها حتى أخذ مروان أخيه في حياة مروان يوم الجمعه الثاني عشر من ربيع الأول بالكوفة كما تقدم وتوفي بالجدري بالأنبار يوم الأحد الحادي عشر وقيل عشر من ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة وكان عمره ثلاثا وقيل ثنتين وقيل الثالث عشر من ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة وكان عمره ثلاثا وقيل إحدى وثلاثين سنة وقيل ثمان وعشرين سنة قال غير واحد وكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر وكان أبيض جميلا طويلا أقنى الأنف جعد الشعر حسن اللحية حسن الوجه فصيح الكلام حسن الرأي جيد البديهه دخل عليه في أول ولايته عبدالله بن حسن بن حسن بن علي ومعه مصحف وعند السفاح وجوه بني هاشم من أهل بيته وغيرهم فقال له يا أمير المؤمنين أعطنا حقنا الذي جعله الله لنا في هذا (10/58)
المصحف قال فأشفق عليه الحاضرون أن يعجل السفاح عليه بشيء أو يترك جوابه فيبقى ذلك مسبة عليه وعليهم فأقبل السفاح عليه غير مغضب ولا منزعج فقال ان جدك عليا كان خير مني وأعدل وقد ولى هذا الأمر فأعطى جديك الحسن والحسين وكانا خيرا منك شيئا قد أعطيته وزدتك عليه فما كان هذا جزائي منك قال فما رد عليه عبدالله بن حسن جوابا وتعجب الناس من سرعة جوابه وجدته وجودته على البديهة
وقد وقال الإمام أحمد في مسنده حدثنا عثمان بن أبي شيبة ثنا عن الاعمش عن عطية العوفى عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( يخرج عند انقطاع من الزمان وظهور من الفتن رجل يقال له السفاح يكون إعطاؤه المال حثيا ) وكذا رواه زائدة وأبو معاوية عن الأعمش به وهذا الحديث في اسناده عطيه العوفي وقد تكلموا فيه وفي أن المراد بهذا الحديث هذا السفاح نظر والله أعلم وقد ذكرنا فيما تقدم عند زوال دولة بني أمية أخبارا وآثارا في مثل هذا المعنى وقال الزبير بن بكار حدثني محمد بن سلمه بن محمد بن هشام أخبرني محمد بن عبد الرحمن المخزومي حدثني داود بن عيسى عن أبيه عن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس وهو السفاح قال دخلت على عمر بن عبدالعزيز وعنده رجل من النصارى فقال له عمر تجدون الخليفة بعد سليمان قال له أنت فأقبل عمر بن عبد العزيز فقال له زدني من بيانك فقال ثم آخر إلى أن ذكر خلافة بني أمية إلى آخرها قال محمد بن علي فلما كان بعد ذلك جعلت ذلك النصراني في بالي فرأيته يوما فأمرت غلامي أن يحبسه على وذهبت إلى منزلي فسألته عما يكون في خلفاء بني أمية فذكرهم واحدا واحدا وتجاوز عن مروان بن محمد قلت ثم من قال ثم إبن الحارثية وهو ابنك قال وكان ابني إبن الحارثية إذ ذاك حملا قال ووفد أهل المدينة على السفاح فبادروا إلى تقبيل يده غير عمران بن إبراهيم بن عبدالله بن مطيع العدوي فإنه لم يقبل يده إنما حياه بالخلافة فقط وقال والله يا أمير المؤمنين لو كان تقبيلها يزيدك رفعة ويزيدني وسيلة اليك ما سبقني اليها أحد من هؤلاء واني لغني عما لا أجر فيه وربما قادنا عمله إلى الوزر ثم جلس قال فو الله ما نقصه ذلك عنده حظا من حظ أصحابه بل أحبه وزاده وذكر القاضي المعافى بن زكريا أن السفاح بعث رجلا ينادي في عسكر مروان بهذين البيتين ليلا ثم رجع ... يا آل مروان إن الله مهلككم ... ومبدل أمنكم خوفا وتشريدا ... لا عمر الله من أنسالكم أحدا ... وبثكم في بلاد الخوف تطريدا ...
وروى الخطيب البغدادي أن السفاح نظر يوما في المرآة وكان من أجمل الناس وجها فقال اللهم لا أقول كما قال سليمان بن عبد الملك أنا الخليفة الشاب ولكن أقول اللهم عمرني طويلا في (10/59)
طاعتك ممتعا بالعافية فما استتم كلامه حتى سمع غلاما يقول لآخر الأجل بيني وبينك شهران وخمسة أيام فتطير من كلامه وقال حسبي الله لا قوة إلا بالله عليه توكلت وبه أستعين فمات بعد شهرين وخمسة أيام وذكر محمد بن عبدالله بن مالك الخزاعي أن الرشيد أمر ابنه أن يسمع من اسحق بن عيسى بن علي ما يرويه عن أبيه في قصة السفاح فأخبره عن أبيه عيسى أنه دخل علىالسفاح يوم عرفه بكرة فوجده صائما فأمره أن يحادثه في يومه هذا ثم يختم ذلك بفطره عنده قال فحادثته حتى أخذه النوم فقمت عنه وقلت أقيل في منزلي ثم أجيء بعد ذلك فذهبت فنمت قليلا ثم قمت فأقبلت إلى داره فإذا على بابه بشير يبشر بفتح السند وبيعتهم للخليفة وتسليم الأمور إلى نوابه قال فحمدت الله الذي وفقني في الدخول عليه بهذه البشاره فدخلت الدار فإذا بشير أخر معه بشارة بفتح افريقيه فحمدت الله فدخلت عليه فبشرته بذلك وهو يسرح لحيته بعد الوضوء فسقط المشط من يده ثم قال سبحان الله كل شيء بائد سواه نعيت والله إلى نفسي
حدثني إبراهيم الإمام عن أبي هشام عن عبد الله بن محمد بن علي بن ابي طالب عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال ( يقدم علي في مدينتي هذه وافدان وافد السند والآخر وافد افريقيه بسمعهم وطاعتهم وبيعتهم فلا يمضي بعد ذلك ثلاثة أيام حتى أموت قال وقد أتاني الوافدان فأعظم الله أجرك ياعم في إبن أخيك فقلت كلا يا أمير المؤمنين ان شاء الله قال بلا إن شاء الله لئن كانت الدنيا حبيبة فالآخرة أحب الي ولقاء ربي خير لي وصحة الرواية عن رسول الله بذلك أحب الي منها والله ما كذبت ولا كذبت ثم نهض ودخل منزله وأمرني بالجلوس فلما جاء المؤذن يعلمه بوقت الظهر خرج الخادم يعلمني أن أصلي عنه وكذلك العصر والمغرب والعشاء وبت هناك فلما كان وقت السحر أتاني الخادم بكتاب معه يأمرني أن أصلي عنه الصبح والعيد ثم أرجع إلى داره وفيه يقول يا عم اذا مت فلا تعلم الناس في موتي حتى تقرأ عليهم هذا الكتاب فيبايعوا لمن فيه قال فصليت بالناس ثم رجعت إليه فإذا ليس به بأس ثم دخلت عليه من أخر النهار فإذا هو على حاله غير أنه قد خرجت في وجهه حبتان صغيرتان ثم كبرتا ثم صار في وجهه حب صغار بيض يقال أنه جدري ثم بكرت إليه في اليوم الثاني فإذا هو قد هجر وذهبت عنه معرفتي ومعرفة غيري ثم رجعت إليه بالعشى فإذا هو انتفخ حتى صار مثل الزق وتوفي اليوم الثالث من أيام التشريق فسجيته كما أمرني وخرجت إلى الناس فقرأت عليهم كتابه فإذا فيه من عبدالله أمير المؤمنين إلى الأولياء وجماعة الناس سلام عليكم أما بعد فقد قلد أمير المؤمنين الخلافة عليكم بعد وفاته أخاه فاسمعوا وأطيعوا وقد قلدها من بعده عيسى بن موسى ان كان قال فاختلف الناس في قوله ( ان كان ) قيل إن كان أهلا لها وقال أخرون إن كان حيا وهذا القول الثاني هو الصواب ذكره الخطيب (10/60)
وابن عساكر مطولا وهذا ملخص منه وفيه ذكر الحديث المرفوع وهو منكر جدا وذكر إبن عساكر أن الطبيب دخل عليه فأخذه بيده ينشأ يقول عن ذلك ... انظر إلى ضعف الحرا ... ك وذله بعد السكون ... ينبيك أن بيانه ... هذا مقدمه المنون ... فقال الطبيب أنت صالح فأنشأ يقول ... يبشرني بأني ذو صلاح ... بين له وبي داء دفين ... ولقد أيقنت إني غير باق ... ولا شك إذا وضح اليقين ... قال أهل العلم كان آخر ما تكلم به السفاح الملك لله الحي القيوم ملك الملوك وجبار الجبابره وكان نقش خاتمه الله ثقة عبدالله وكان موته بالجدري في يوم الأحد الثالث عشر من ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة بالأنبار العتيقه عن ثلاث وثلاثين سنة وكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر الأقوال وصلى عليه عمه عيسى بن علي ودفن في قصر الإمارة من الأنبار وترك تسع جبات واربعة أقمصة وخمس سراويلات وأربعة طيالسه وثلاث مطارف خز وقد ترجمه إبن عساكر فذكر بعض ما أوردناه والله أعلم
وممن توفي فيها من الأعيان السفاح كما تقدم وأشعث بن سوار وجعفر بن أبي ربيعة وحصين إبن عبد الرحمن وربيعة الراعي وزيد بن أسلم وعبد الملك بن عمير وعبدالله بن أبي جعفر وعطاء بن السائب وقد ذكرنا تراجمهم في التكميل ولله الحمد
( خلافة أبي جعفر المنصور )
واسمه عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس
قد تقدم أنه لما مات السفاح كان في الحجاز فبلغه موته وهو بذات عرق راجعا من الحج وكان معه أبو مسلم الخراساني فعجل السير وعزاه أبو مسلم في أخيه فبكى المنصور عند ذلك فقال له أتبكي وقد جاءتك الخلافه أنا أكفيكها إن شاء الله فسرى عنه وأمر زياد بن عبيد الله أن يرجع إلى مكة واليا عليها وكان السفاح قد عزله عنها بالعباس بن عبدالله بن معبد بن عباس فأقره عليها والنواب على أعمالهم حتى أنسلخت هذه السنة وقد كان عبدالله بن علي قدم على إبن أخيه السفاح الأنبار فأمره على الصائفه فركب في جيوش عظيمة إلى بلاد الروم فلما كان ببعض الطريق بلغه موت السفاح فكر راجعا إلى حران ودعا إلى نفسه وزعم أن السفاح كان عهد إليه حتى بعثه إلى الشام أن يكون ولي العهد من بعده فالتفت عليه جيوش عظيمة وكان من أمره ما سنذكره في السنة الآتيه إن شاء الله تعالى
( ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائة )
( ذكر خروج عبدالله بن علي بن إبن أخيه المنصور )
لما رجع أبو جعفر المنصور من الحج بعد موت أخيه السفاح دخل الكوفة فخطب بأهلها يوم (10/61)
الجمعه وصلى بهم ثم ارتحل منها إلى الانبار وقد أخذت له البيعه من أهل العراق وخراسان وسائر البلاد سوى الشام وقد ضبط عيسى بن علي بيوت الأموال والحواصل للمنصور حتى قدم فسلم إليه الأمر وكتب إلى عمه عبدالله بن علي يعلمه بوفاة السفاح فلما بلغه الخبر نادى في الناس الصلاة جامعه فاجتمع إليه الأمراء والناس فقرأ عليهم وفاة السفاح ثم قام فيهم خطيبا فذكر أن السفاح كان عهد إليه حين بعثه إلى مروان أنه إن كسره كان الأمر إليه من بعده وشهد له بذلك بعض أمراء العراق ونهضزا إليه فبايعوه ورجع إلى حران فتسلمها من نائب المنصور بعد محاصرة أربعين ليله وقتل مقاتل العتكى نائبها فلما بلغ المنصور ما كان من أمر عمه بعث إليه أبا مسلم الخراساني ومعه جماعة من الأمراء وقد تحصن عبدالله بن علي بن بحران وأرصد عنده مما يحتاج إليه من الأطعمة والسلاح شيئا كثيرا جدا فسار إليه أبومسلم الخراساني وعلى مقدمته مالك بن هيثم الخزاعي فلما تحقق عبدالله قدوم أبي مسلم إليه خشي من جيش العراق أن لا يناصحوه فقتل منهم سبعة عشر ألفا وأراد قتل حميد بن قحطبة فهرب منه إلى ابي مسلم فركب عبدالله بن علي فنزل على نصيبين وخندق حول عسكره وأقبل أبو مسلم فنزل ناحيته وكتب إلى عبد الله إني لم أومر بقتالك وانما بعثني أمير المؤمنين واليا على الشام فأنا أريدها فخاف جنود الشام من هذا الكلام فقالوا إنا نخاف على ذرارينا وديارنا وأموالنا فنحن نذهب اليها نمنعهم منه فقال عبدالله ويحكم والله لم يأت إلا لقتالنا فأبوا ألا يرتحلوا عن الشام فتحول عبدالله من منزله ذلك وقصد ناحية الشام فنهض أبو مسلم فنزل موضعه وغور ما حوله عن المياه وكان موضع عبدالله الذي تحول منه موضعا جيدا جدا فاحتاج عبدالله وأصحابه فنزلوا في موضع ابي مسلم فوجدوه منزلا رديئا ثم أنشأ أبومسلم القتال فحاربهم خمسة أشهر وكان على خيل عبدالله أخوه عبد الصمد بن علي وعلى ميمنته بكار بن مسلم العقيلي وعلى ميسرته حبيب بن سويد الأسدي وعلى ميمنته أبي مسلم الحسن بن قحطبه وعلى ميسرته أبو نصر خازم بن خزيم وقد جرتن بينهم وقعات وقتل منهم جماعات في أيام نحسات وكان أبو مسلم إذا حمل يرتجز وبقول ... من كان ينوي أهله فلا رجع ... فرمن الموت وفي الموت وقع ...
وكان يعمل له عرش فيكون فيه إذا التقى الجيشان فما رأى في جيشه من خلل أرسل فأصلحه فلما كان يوم الثلاثاء أو الأربعاء لسبع خلون من جمادي الآخره التقوا فاقتتلوا قتالا شديدا فمكر بهم أبو مسلم بعث إلى الحسن بن قحطبة أمير الميمنه فأمره أن يتحول بمن معه إلا القليل إلى الميسرة فلما رأى ذلك أهل الشام انحازوا إلى الميمنه بازاء الميسره التي تعمرت فأرسل حينئذ أبو مسلم إلى القلب أن يحمل بمن بقي في الميمنه على ميسرة أهل الشام فحطموهم فجال أهل القلب (10/62)
والميمنه من الشاميين فحمل الخراسانيون على أهل الشام وكانت الهزيمه وانهزم عبد الله بن علي بعد تلوم واحتاز أبو مسلم ماكان في معسكرهم وأمن أبو مسلم بقية الناس فلم يقتل منهم واحدا وكتب إلى المنصور بذلك فأرسل المنصور مولاه أبا الخطيب ليحصي ما وجدوا في معسكر عبدالله فغضب من ذلك أبو مسلم الخراساني واستوسقت الممالك لأبي جعفر المنصور ومضى عبدالله بن علي وأخوه عبد الصمد على وجهيهما فلما مرا بالرصافة أقام بها عبد الصمد فلما رجع أبو الخطيب وجده بها فأخذه معه مقيدا في الحديد فأدخله المنصور فدفعه إلى عيسى بن موسى فاستأمن له المنصور وقيل بل استأمن له إسماعيل بن علي واما عبدالله بن علي فانه ذهب إلى أخيه سليمان إبن علي بالبصرة فأقام عنده زمانا مختفيا ثم علم به المنصور فبعث إليه فسجنه [ في بيت بني أسامة على الملح ثم أطلق عليه الماء فذاب الملح وسقط البيت على عبدالله فمات وهذه من بعض دواهي المنصور والله سبحانه أعلم ] فلبث في السجن سبع سنين ثم سقط عليه في البيت الذي هو فيه فمات كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى
( مهلك أبي مسلم الخراساني )
في هذه السنة أيضا لما فرغ أبو مسلم من الحج سبق الناس بمرحلة فجاءه خبر السفاح في الطريق فكتب إلى أبي جعفر يعزيه في أخيه ولم يهنئه بالخلافة ولا رجع إليه فغضب المنصور من ذلك مع ما كان قد أضمر له من السوء إذا أفضيت إليه الخلافه وقيل أن المنصور هو الذي كان قد تقدم بين يدي الحج بمرحلة وانه لما جاء خبر موت أخيه كتب إلى أبي مسلم يستعجله في السير كما قدمناه فقال لأبي أيوب أكتب له كتابا غليظا فلما بلغه الكتاب أرسل يهنئه بالخلافه وانقمع من ذلك وقال بعض الأمراء للمنصور إنا نرى أن لا تجامعه في الطريق فان معه من الجنود من لا يخالفه وهم له أهيب وعلى طاعته أحرص وليس معك أحد فأخذ المنصور برأيه ثم كان من أمره مبايعته لأبي جعفر ما ذكرنا ثم بعث إلى عمه عبدالله فكسره كما تقدم وقد بعث في غبون ذلك الحسن بن قحطبه لأبي أيوب كاتب رسائل المنصور يشافهه ويخبره بأن أبا مسلم متهم عند أبي جعفر فانه اذا جاءه كتاب منه يقرأه ثم يلوي شدقيه ويرمي بالكتاب إلى أبي نصر ويضحكان استهزاء فقال أيوب إن تهمة أبي مسلم عندنا أظهر من هذا ولما بعث أبو جعفر مولاه أبا الخطيب يقطين ليحتاط على ما أصيب من معسكر عبدالله من الأموال والجواهر الثمينه وغيرها غضب أبو مسلم فشتم أبا جعفر وهم بأبي الخصيب حتى قيل له إنه رسول فتركه ورجع فلما قدم أخبر المنصور بما كان وبما هم به أبو مسلم من قتله فغضب المنصور وخشي أن يذهب أبو مسلم إلى (10/63)
خراسان فيشق عليه تحصيله بعد ذلك وأن تحدث حوادث فكتب إليه مع يقطين إني قد وليتك الشام ومصر وهما خير من خراسان فابعث إلى مصر من شئت وأقم أنت بالشام لتكون أقرب إلى أمير المؤمنين إذا اراد لقاءك كنت منه قريبا فغضب أبو مسلم وقال قد ولاني الشام ومصر ولى ولاية خراسان فإذا ذهب اليها واستخلف على الشام ومصر فكتب إلى المنصور بذلك فقلق المنصور من ذلك كثيرا ورجع أبا مسلم من الشام قاصدا خراسان وهو عازم على مخالفة المنصور فخرج المنصور من الانبار إلى المدائن وكتب إلى أبي مسلم بالمسيرة إليه فكتب إليه أبو مسلم وهو على الزاب عازم على الدخول إلى خراسان أنه لم يبق لأمير المؤمنين عدو إلا مكنه الله منه وقد كنا نروي عن ملوك آل ساسان أن أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء فنحن نافرون من قربك حريصون على الوفاء بعهدك ما وفيت حريون بالسمع والطاعة غير انها من بعيد حيث يقارنها السلامه فإن ارضاك ذلك فأنا كأحسن عبيدك وان أبيت إلا أن تعطي نفسك إرادتها نقصت ما أبرمت من عهدك ضنا بنفسي عن مقامات الذل والإهانه فلما وصل الكتاب إلى المنصور وكتب إلى أبي مسلم قد فهمت كتابك وليست صفتك صفة أولئك الوزراء الغششة إلى ملوكهم الذين يتمنون اضطراب حبل الدولة لكثرة جرائمهم وإنما راحتهم في تبدد نظام الجماعة فلم سويت نفسك بهم وأنت في طاعتك ومناصحتك واضطلاعك بما حملت من أعباء هذا الأمر على ما أنت به وليس مع الشريطة التي أوجبت منك سمع ولا طاعة وقد حمل أمير المؤمنين عيسى بن موسى اليك رسالة ليسكن اليها قلبك إن أصغيت اليها واسأله أن يحول بين الشيطان ونزعاته وبينك فإنه لم يجد بابا يفسد به نيتك أوكد عنده من هذا ولا أقرب من طبه من الباب الذي فتحته عليك ويقال إن أبا مسلم كتب إلى المنصور أما بعد فإني أتخذت رجلا إماما ودليلا على ما أفترض الله على خلقه وكان في محلة العلم نازلا وفي قرابته من رسول الله صلى الله عليه و سلم قريبا فاستجهلني بالقرآن فحرفه عن مواضعه طمعا في قليل قد تعافاه الله إلى خلقه وكان كالذي دلى بغرور وأمرني أن أجرد السيف وأرفع المرحمه ولا أقبل المعذره ولا أقيل العثرة ففعلت توطيدا لسلطانكم حتى عرفكم الله من كان يجهلكم وأطاعكم من كان عدوكم وأظهركم الله بي بعد الأخفاء والحقارة والذل ثم استنقذني الله بالتوبه فان يعف عني فقديما عرف به ونسب إليه وان يعاقبني فيما قدمت يداي وما الله بظلام للعبيد وذكره المدني عن شيوخه
وبعث المنصور إليه جرير بن يزيد بن عبدالله البجلي وقد كان أوحد أهل زمانه في جماعة من الأمراء وأمره أن يكلم أبا مسلم باللين كلاما يقدر عليه وأن يكون في جملة ما يكلمه به (10/64)
أنه يريد رفع قدرك وعلو منزلتك والإطلاقات لك فان جاء بهذا فذاك وان أبى فقل هو بريء من العباس إن شققت العصا على وجهك ليدركنك بنفسه وليقاتلنك دون غيره ولو خضت البحر الخضم لخاضه خلفك حتى يدركك فيقتلك أو يموت قبل ذلك ولا تقل له هذا حتى تيأس من رجوعه بالتي هي أحسن فلما قدم عليه أمراء المنصور بحلوان دخلوا عليه ولا موه فيما هم به من منابذة أمير المؤمنين وما هو فيه من مخالفته ورغبوه الرجوع إلى الطاعة فشاور ذوي الرأي من أمرائه فكلهم نهاه عن الرجوع إليه واشاروا بأن يقيم في الري فتكون خراسان تحت حكمه وجنوده طوعا له فان استقام له الخليفة والإ كان في عزو منعه من الجند فعند ذلك أرسل أبو مسلم إلى أمراء المنصور فقال لهم ارجعوا إلى صاحبكم فلست أتقاه فلما استيأسوا منه قالوا ذلك الكلام الذي كان المنصور أمرهم به فلما سمع ذلك كسره جدا وقال قوموا عني الساعة
وكان أبو مسلم قد استخلف على خراسان أبا داود ابراهيم بن خالد فكتب إليه المنصور في غيبة أبي مسلم حين أتهم إن ولاية خراسان لك ما بقيت فقد وليتكها وعزلت عنها أبا مسلم فعند ذلك كتب أبو داود إلى أبي مسلم حين بلغه ما عليه من منابذة الخليفة أنه ليس يليق بنا منابذة خلفاء أهل بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فارجع إلى إمامك سامعا مطيعا والسلام فزاده ذلك كسرا أيضا فبعث اليهم أبو مسلم إني سأبعث إليه أبا اسحاق وهو ممن أثق به فبعث أبا اسحاق إلى المنصور فأكرمه ووعده بنيابة العراق إن هو رده فلما رجع إليه أبو إسحاق قال له ما وراءك قال رأيتهم معظمين لك يعرفون قدرك فعزه ذلك وعزم على الذهاب إلى الخليفة فاستشار أميرا يقال له نيزك فنهاه فصمم على الذهاب فلما رآه نيزك عازما علىالذهاب تمثل بقول الشاعر ... ما للرجال مع القضاء محالة ... ذهب القضاء بحيلة الأقوام ...
ثم قال له احفظ عني واحده قال وما هي قال اذا دخلت عليه فاقتله ثم بايع من شئت بالخلافة فإن الناس لا يخالفونك وكتب أبو مسلم يعلمه بقدومه عليه قال ابو أيوب كاتب الرسائل فدخلت على المنصور وهو جالس في خباء شعر جالس في مصلاه بعد العصر وبين يديه كتاب فألقاه إلي فإذا هو كتاب أبي مسلم بالقدوم يعلمه عليه ثم قال الخليفة والله لئن ملأت عيني منه لأقتلنه قال أبو أيوب فقلت إنا لله وإنا إليه راجعون وبت تلك الليلة لا يأتني نوم وأفكر في هذه الواقعة وقلت إن دخل أبو مسلم خائفا ربما يبدو منه شر إلى الخليفة والمصلحة تقتضي أن يدخل آمنا ليتمكن منه الخليفة فلما إصبحت طلبت رجلا من الأمراء وقلت له هل لك أن تتولى مدينة كسكر فإنها مغله في هذه السنة فقال ومن لي بذلك فقلت له فاذهب إلى ابي مسلم فتلقاه في الطريق فاطلب منه أن يوليك تلك البلد فإن أمير المؤمنين يريد أن يوليه ما وراء بابه (10/65)
ويستريح لنفسه واستأذنت المنصور له أن يذهب إلى أبي مسلم فأذن له وقال له سلم عليه وقل له إنا بالأشواق إليه فسار ذلك الرجل وهو سلمة بن فلان إلى أبي مسلم فأخبره بإشتياق الخليفة إليه فسره ذلك وانشرح وانما هو وغرور ومكر به فلما سمع أبو مسلم بذلك عجل السير إلى منيته فلما قرب من المدائن أمر الخليفة القواد والأمراء أن يتلقوه وكان دخوله على المنصور من آخر ذلك اليوم وقد أشار أبو أيوب على المنصور أن يؤخر قتله في ساعته هذه إلى الغد فقبل ذلك منه فلما دخل أبو مسلم على المنصور من العشى أظهر له الكرامة والتعظيم ثم قال اذهب فأرح نفسك وادخل الحمام فإذا كان الغد فأتني فخرج من عنده وجاءه الناس يسلمون عليه فلما كان الغد طلب الخليفة بعض الأمراء فقال له كيف بلائي عندك فقال والله يا أمير المؤمنين لو أمرتني أن أقتل نفسي لقتلتها قال فكيف بك لو أمرتك بقتل أبي مسلم قال فوجم الساعة ثم قال له أبو أيوب مالك لا تتكلم فقال قوله ضعيفه أقتله ثم اختار له من عيون الحرس أربعه فحرضهم على قتله وقال لهم كونوا من وراء الرواق فإذا صفقت بيدي فاخرجوا عليه فاقتلوه ثم أرسل المنصور إلى ابي مسلم رسلا تترى يتبع بعضهم بعضا فأقبل أبو مسلم فدخل دار الخلافة ثم دخل على الخليفة وهو يبتسم فلما وقف بين يديه جعل المنصور يعاتبه في الذي صنع واحدة واحدة فيعتذر عن ذلك كله ثم قال يا امير المؤمنين أرجو أن تكون نفسك قد طابت علي فقال المنصور أما والله ما زادني هذا الا غيظا عليك ثم ضرب باحدى يديه على الأخرى فخرج عثمان واصحابه فضربوه بالسيوف حتى قتلوه ولفوه في عباءة ثم أمر بإلقائه في دجله وكان آخر العهد به وكان مقتله في يوم الأبعاء لأربع بقين من شعبان سنة سبع وثلاثين ومائة
وكان من جملة ما عاتبه به المنصور ان قال كتبت إلى مرات تبدأ بنفسك وأرسلت تخطب عمتي أمينة وتزعم أنك إبن سليط بن عبدالله بن عباس إلى غير ذلك فقال أبو مسلم يا أمير المؤمنين لايقال لي هذا وقد سعيت في أمركم بما علمه كل احد فقال ويلك لو قامت في ذلك أمة سوداء لأتمه الله لجدنا وحيطتنا ثم قال والله لاقتلنك فقال أستبقي يا أميرالمؤمنين لأعدائك فقال وأي عدو لي أعدى منك ثم أمر بقتله كما تقدم فقال له بعض الأمراء يا أميرالمؤمنين الآن صرت خليفة ويقال إن المنصور أنشد عند ذلك ... فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عينا بالإياب المسافر ...
وذكر إبن خلكان أن المنصور لما أراد قتل أبي مسلم تحير في أمره هل يستشير احد في ذلك أو يستبد هو به لئلا يشيع وينتشر ثم استشار واحدا من نصحاء أصحابه فقال يا أمير المؤمنين (10/66)
قال الله تعالى لوكان فيهما آله إلا الله لفسدتا فقال له لقد اودعتها اذنا واعيه ثم عزم على ذلك
( ترجمة أبي مسلم الخراساني )
هو عبد الرحمن بن مسلم أبو مسلم صاحب دولة بني العباس ويقال له أمير آل بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال الخطيب يقال له عبد الرحمن بن شيرون بن اسفنديار أبو مسلم المروزي صاحب الدولة العباسية يروى عن أبي الزبير وثابت البناتي وابراهيم وعبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس زاد إبن عساكر في شيوخه محمد بن علي وعبدالرحمن بن حرملة وعكرمة مولى إبن عباس قال إبن عساكر روي عنه ابراهيم بن ميمون الصائغ وبشر والد مصعب بن بشر وعبدالله بن شبرمة وعبدالله بن المبارك وعبدالله بن منيب المروزي وقديد بن منيع صهر أبي مسلم
قال الخطيب وكان أبو مسلم فاتكا ذا رأي وعقل وتدبير وحزم قتله أبو جعفر المنصور بالمدائن وقال أبو نعيم الأصبهاني في تاريخ اصبهان كان اسمه عبدالرحمن بن عثمان بن يسار قيل إنه ولد بأصبهان وروي عن السدى وغيره وقيل كان اسمه ابراهيم بن عثمان بن يسار بن سندوس إبن حوذون ولد بزر جمهور وكان يكنى أبا اسحاق ونشأ بالكوفة وكان أبوه أوصى به إلى عيسى إبن موسى السراج فحمله إلى الكوفة وهو إبن سبع سنين فلما بعثه ابراهيم بن محمد الامام إلى خراسان قال له غير اسمك وكينتك فتسمى عبد الرحمن بن مسلم واكتنى بأبي مسلم فسار إلى خراسان وهو إبن سبع عشرة راكبا على حمار باكاف وأعطاه إبراهيم بن محمد نفقة فدخل خراسان وهو كذلك ثم آل به الحال حتى صارت له خراسان بأزمتها وحذافيرها وذكر انه في ذهابه اليها عدا رجل من بعض الحانات فقطع ذنب حماره فلما تمكن ابو مسلم جعل ذلك المكان دكا فكان بعد ذلك خرابا وذكر بعضهم أنه أصابه سبى في صغره وانه اشتراه بعض دعاة بني العباس بأربعمائة درهم ثم أن إبراهيم بن محمد الإمام استوهبه واشتراه فانتمى إليه وزوجه ابراهيم بنت ابي النجم إسماعيل الطائي أحد دعاتهم لما بعثه إلى خراسان وأصدقها عنه أربعمائة درهم فولد لأبي مسلم بنتن إحداهما أسماء أعقبت وفاطمة لم تعقب
وقد تقدم ذكر كيفية استقلال أبي مسلم بأمور خراسان في سنة تسع وعشرين ومائه وكيف نشر دعوة بني العباس وقد كان ذا هيبة وصرامة وإقدام وتسرع في الأمور وقد روى إبن عساكر بإسناده أن رجلا قام إلى ابي مسلم وهو يخطب فقال ما هذا السواد الذي أرى عليك فقال
حدثني أبو الزبير عن جابر بن عبدالله ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء ) وهذه ثياب الهيئة وثياب الدولة يا غلام اضرب عنقه وروى من حديث عبد الله بن منيب عنه عن محمد بن علي عن ابيه عن جده عبدالله بن عباس قال قال رسول الله (10/67)
صلى الله عليه و سلم ( من أراد هوان قريش أهانه الله ) وقد كان ابراهيم بن ميمون الصائغ من أصحابه وجلسائه في زمن الدعوة وكان يعده إذا ظهر أن يقيم الحدود فلما تمكن أبو مسلم الح عليه ابراهيم إبن ميمون في القيام بما وعده به حتى أحرجه فأمر بضرب عنقه وقال له لم لا كنت تنكر علي نصر بن سيار وهو يعمل أواني الخمر من الذهب فيبعثها إلى بني أمية فقال له إن اولئك لم يقربوني من أنفسهم ويعدوني منها ما وعدتني أنت وقد رأى بعضهم لإبراهيم بن ميمون هذا منازل عاليه في الجنة بصبره على المعروف والنهي عن المنكر فإنه كان آمرا ناهيا قائما في ذلك فقتله أبو مسلم رحمه الله
وقد ذكرنا طاعة أبي مسلم للسفاح واعتناءه بأمره وامتثال مراسيمه فلما صار الأمر إلى المنصور استخف به واحتقره ومع هذا بعثه إلى عمه عبدالله إلى الشام فكسره واستنفذ منه الشام وردها إلى حكم المنصور ثم شمخت نفسه على المنصور وهم بقتله ففطن لذلك المنصور مع ما كان مبطنا له من البغضه وقد سأل أخاه لسفاح غير مرة أن يقتله كما تقدم ذلك فأبى عليه فلما تولى المنصور ما زال يماكره ويخادعه حتى قدم إليه قال بعضهم كتب المنصور إلى ابي مسلم أما بعد فإنه يرين على القلوب ويطبع عليها المعاصي فع أيها الطائش وافق أيها السكران وانتبه أيها النائم فإنك مغرور بأضغاث أحلام كاذبة في برزخ دنيا قد غرت من كان قبلك وسم بها سوالف القرون هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا وإن الله لا يعجزه من هرب ولا يفوته من طلب فلا تغتر بمن معك من شيعتي وأهل دعوتي فكأنهم قد صالوا عليك بعد أن صالوا معك إن أنت خلعت الطاعة وفارقت الجماعة وبدالك من الله ما لم تكن تحتسب مهلا مهلا احذر البغي أبا مسلم فانه من بغى واعتدى تخلى الله عنه ونصر عليه من يصرعه لليدين والفم واحذر أن تكون سنة في الدين قد خلوا من قبلك ومثله لمن يأتي بعدك فقد قامت الحجة وأعذرت اليك وإلى أهل طاعتي فيك قال تعالى واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آ ياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين
فأجابه أبو مسلم أما بعد فقد قرأت كتابك فرأيتك فيه للصواب مجانبا وعن الحق حائدا اذ تضرب فيه الأمثال على غير أشكالها وكتبت إلى فيه آيات منزلة من الله للكافرين وما يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون وانني والله ما انسلخت من آيات الله ولكنني يا عبدالله بن محمد كنت رجلا متأولا فيكم من القرآن آيات أوجبت لكم الولاية والطاعة فأتممت بأخوين لك من قبلك ثم بك من بعدهما فكنت لهما شيعة متدينا أحسبني هاديا مهتديا وأخطأت في التأويل وقدما أخطأ المتأولون وقد قال الله تعالى واذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على (10/68)
نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهاله ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم وان أخاك السفاح ظهر في صورة مهدي وكان ضالا فأمرني أن أجرد السيف وأقتل بالظنة وأقدم بالشبهة وأرفع الرحمة ولا أقيل العثرة فوترت أهل الدنيا في طاعتكم وتوطئة سلطانكم حتى عرفكم الله من كان جهلكم ثم ان الله سبخانه وتعالى تداركني منه بالندم واستنقذني بالتوبة فإن يعف عني ويصفح فإنه كان للأوابين غفورا وان يعقاقبني فبذنوبي وما ربك بظلام للعبيد
فكتب اليه المنصور أما بعد أيها المجرم العاصي فان أخي كان امام هدي يدعو إلى الله على بينة من ربه فأوضح لك السبيل وحملك على المنهج السديد فلو بأخي اقتديت به لما كنت عن الحق حائدا وعن الشيطان وأوامره صادرا ولكنه لم يسنح لك أمران إلا كنت لأرشدهما تاركا ولأغواهما راكبا تقتل قتل الفراعنة وتبطش بطش الجبابرة وتحكم بالجور حكم المفسدين وتبذر المال وتضعه في غير مواضعه فعل المسرفين ثم من خبري أيها الفاسق أني قد وليت موسى إبن كعب خراسان وأمرته أن يقيم بنيسابور فإن أردت خراسان لقيك بمن معه من قوادي وشيعتي وأنا موجه للقائك أقرانك فاجمع كيدك وأمرك غير مسدود ولا موفق وحسب أمير المؤمنين ومن أتبعه الله ونعم الوكيل
ولم يزل المنصور يراسله تارة بالرغبة وتارة بالرهبة ويستخف أحلام من حوله من الأمراء والرسل الذين يبعثم أبو مسلم إلى المنصور ويعدهم حتى حسنوا لأبي مسلم في رأيه القدوم عليه سوى أمير معه يقال له نيزك فإنه لم يوافق على ذلك فلما رأى أبا مسلم وقد انطاع لهم أنشد عن ذلك البيت المتقدم وهو ... ماللرجال مع القضاء محالة ... ذهب القضاء بحيلة الأقوام ...
وأشار عليه بأن يقتل المنصور ويستخلف بدله فلم يمكنه ذلك فانه لما قدم المدائن تلقاه الأمراء عن امر الخليفة فما وصل إلا آخر النهار وقد أشار أبو أيوب كاتب الرسائل أن لا يقتله يومه هذا كما تقدم [ فلما وقف بين يدي الخليفة أكرمه وعظمه وأظهر احترامه وقال اذهب الليلة فإذهب عنك وعثاء السفر ثم أئتني من الغد ] فلما كان الغد أرصد له من الأمراء من يقتله منهم عثمان بن نهيك وشيب بن واج فقتلوه كما تقدم ويقال بل أقام أياما يظهر له المنصور الإكرام والإحترام ثم نشق منه الوحشة فخاف مسلم واستشفع بعيسى بن موسى واستجار به وقال إني أخافه على نفسي فقال لا بأس عليك فانطلق فإني آت وراءك أنت في ذمتي حتى آتيك ولم يكن مع عيسى خبر بما يريد به الخليفة فجاء أبو مسلم يستأذن المنصور فقالوا له اجلس هاهنا فإن أمير المؤمنين يتوضأ فجلس وهو يود أن يطول مجلسه ليجيء عيسى بن موسى فأبطأ وأذن له الخليفة (10/69)
فدخل عليه فجعل يعاتبه في أشياء صدرت منه فيعتذر عنها جيدا حتى قال له فلم قتلت سليمان بن كثير وابراهيم بن ميمون وفلانا وفلانا قال لأنهم عصوني وخالفوا أمري فغضب عند ذلك المنصور وقال ويحك أنت تقتل إذا عصيت وأنا لاقتلنك وقد عصيتني وصفق بيديه وكانت الإشاره بينه وبين المرصدين لقتله فتبادروا اليه ليقتلوه فضربه أحدهم فقطع حمائل سيفه فقال يا أمير المؤمنين استبقني لأعدائك فقال وأي عدو أعدى منك ثم زجرهم المنصور فقطعوه قطعا ولفوه في عباءه ودخل عيسى بن موسى على أثر ذلك فقال ما هذا يا أميرالمؤمنين فقال هذا ابو مسلم فقال إنا لله وانا اليه راجعون فقال له المنصور أحمد الله الذي هجمت علي نعمه ولم تهجم عل نقمه ففي ذلك يقول أبو دلامه ... أبا مسلم ما غير الله من نعمة ... على عبده حتى يغيرها العبد ... أبا مسلم خوفتني القتل فانتخي ... عليك بما خوفتني الاسد الورد ...
وذكر بن جرير أن المنصور تقدم إلى عثمان بن نهيك وشبيب بن واج وأبي حنيفة حرب بن قيس وآخر من الحرس أن يكونوا قريبا منه فاذا دخل عليه أبو مسلم وخاطبه وضرب باحدى يديه على الأخرى فليقتلوه فلما دخل عليه أبو مسلم قال له المنصور ما فعل السيفان اللذان أصبتهما من عبدالله بن علي فقال هذا أحدهما فناوله السيف فوضعه تحت ركبته ثم قال له ما حملك على أن تكتب لأبي عبدالله السفاح تنهاه عن الموات أردت أن تعلمنا الدين قال انني ظننت أن اخذه لا يحل فلما جاءني كتاب أمير المؤمنين علمت أنه واهل بيته معدن العلم قال فلم تقدمت على في طريق الحج قال كرهت اجتماعنا على الماء فيضر ذلك بالناس فتقدمت التماس الرفق قال فلم لا رجعت إلى حين أتاك خبر موت أبي العباس قال كرهت التضيق على الناس في طريق الحج وعرفت أنا سنجتمع بالكوفة وليس عليك مني خلاف قال فجارية عبدالله بن علي اردت ان تتخذها لنفسك قال لا ولكن خفت ان تضيع فحملتها في قبة ووكلت بها من يحفظها ثم قال له ألست الكاتب إلي تبدأ بنفسك والكاتب إلى تخطب آمنه بنت علي وتزعم أنك إبن سليط بن عبدالله بن عباس هذا كله ويد المنصور في يده يعركها ويقبلها ويعتذر ثم قال له فما حملك على مراغمتي ودخولك إلى خراسان قال خفت ان يكون دخلك مني شيء فأردت أن أدخل خراسان وأكتب اليك بعذري قال فلم قلت سليمان بن كثير وكان من نقبائنا ودعاتنا قبلك قال أراد خلافي فقال ويحك وأنت أردت خلافي وعصيتني قتلني الله ان لم أقتلك ثم ضربه بعمود الخيمة وخرج اليه اولئك فضربه عثمان فقطع حمائل سيفه وضربه شبيب فقطع رجله وحمل عليه بقيتهم بالسيوف والمنصور يصيح ويحكم اضربوه قطع الله أيديكم ثم ذبحوه (10/70)
وقطعوه قطعا قطعا ثم القي في دجله ويرى أن المنصور لما قتله وقف عليه فقال رحمك الله أبا مسلم بايعتنا فبايعناك وعاهدتنا وعاهدناك ووفيت لنا فوفينا لك وإنا بايعناك على أن لا يخرج علينا أحد في هذه الأيام الا قتلناه فخرجت علينا فقتلناك وحكمنا عليك حكمك على نفسك لنا ويقال إن المنصور قال الحمد لله الذي أرانا يومك يا عدو الله قال إبن جرير وقال المنصور عند ذلك ... زعمت أن الدين لا يقتضى ... فاستوف بالكيل أبا مجرم ... سقيت كأسا كنت تسقى بها ... أمر في الحلق من العلقم ...
ثم ان المنصور خطب في الناس بعد قتل أبي مسلم فقال أيها الناس لاتنفروا أطيار النعم بترك الشكر فتحل بكم النقم ولا تسروا غش الأئمة فإن أحدا لا يسر منكم شيئا إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه وطوالع نظره وإنا لن نجهل حقوقكم ما عرفتم حقنا ولا ننسى الإحسان إليكم ما ذكرتم فضلنا ومن نازعنا هذا القميص أوطانا أم رأسه حتى يستقيم رجالكم وترتدع عمالكم وإن هذا الغمر أبا مسلم بايع على انه من نكث بيعتنا وأظهر غشنا فقد أباحنا دمه فنكث وغدر وفجر وكفر فحكمنا عليه لأنفسنا حكمه على غيره لنا وإن أبا مسلم أحسن مبتديا وأساء منتهيا وأخذ من الناس بنا لنفسه أكثر مما أعطانا ورجح قبيح باطنه على حسن ظاهره وعلمنا من خبث سريرته وفساد نيته ما لو علم اللائم لنا فيه لما لام ولو اطلع على ما اطلعنا عليه منه لعذرنا في قتله وعنفنا في امهاله ومازال ينقص بيعته ويخفر ذمته حتى أحل لنا عقوبته وأباحنا دمه فحكمناه فيه حكمه في غيره ممن شق العصا ولم يمنعنا الحق له من إمضاء الحق فيه وما أحسن ما قال النابغة الذبياني للنعمان يعني إبن المنذر ... فمن اطاعك فانفعه بطاعته ... كما اطاعك والله على الرشد ... ومن عصاك فعاقبه معاقبة ... تنهي الظلوم ولاتقعد على ضمد ...
وقد روى البيهقي عن الحاكم بسنده أن عبد الله بن المبارك سئل عن ابي مسلم أهو خير أم الحجاج فقال لاأقول أن أبا مسلم كان خيرا من احد ولكن كان الحجاج شرا منه قد اتهمه بعضهم على الاسلام ورموه بالزندقه ولم أر فيما ذكروه عن أبي مسلم ما يدل على ذلك بل على أنه كان ممن يخاف الله من ذنوبه وقد ادعى التوبة فيما كان منه من سفك الدماء في اقامة الدولة العباسية والله أعلم بأمره
وقد روى الحطيب عنه انه قال ارتديت الصبر واثرت الكفاف وحالفت الأحزان والأشجان وشامخت المقادير والأحكام حتى بلغت غاية همتي وأدركت نهاية بغيتي ثم أنشأ يقول (10/71)
قد نلت بالعزم والكتمان ما عجزت ... عنه ملوك بني مروان إذا حشدو ... ما زلت أضربهم بالسيف فانتبهوا ... من رقدة لم ينمها قبلهم احد ... وطفت أسعى عليهم في ديارهم ... والقوم في ملكهم في الشام قد رقدوا ... ومن رعى غنما في ارض مسبعة ... ونام عنها تولى رعيها الأسد ...
وقد كان قتل أبي مسلم بالمدائن يوم الأربعاء لسبع خلون وقيل لخمس بقين وقيل لأربع وقيل لليلتين بقيتا من شعبان من هذه السنة اعني سنة سبع وثلاثين ومائة قال بعضهم كان ابتداء ظهوره في رمضان من سنة تسع وعشرين ومائة وقيل في شعبان سنة سبع وعشرين ومائة وزعم بعضهم أنه قتل ببغداد في سنة أربعين وهذا غلط من قائله فإن بغداد لم تكن بنيت بعد كما ذكره الخطيب في تاريخ بغداد ورد هذا القول
ثم إن المنصور شرع في تأليف أصحاب أبي مسلم بالأعطية والرغبة والرهبة والولايات واستدعى أبا إسحاق وكان من أعز أصحاب أبي مسلم وكان على شرطة أبي مسلم وهم بضرب عنقه فقال يا أمير المؤمنين والله ما أمنت قط إلا في هذا اليوم وما من كنت أدخل عليك إلا تحنطت ولبست كفني ثم كشف عن ثيابه التي تلي جسده فإذا هو محنط وعليه أدراع أكفان فرق له المنصور وأطلقه
وذكر إبن جرير أن أبا مسلم قتل في حروبه وما كان يتعاطاه لأجل دولة بني العباس ستمائة الف صبرا عن من قتل بغير ذلك وقد قال للمنصور وهو يعاتبه على ما كان يصنعه يا أمير المؤمنين لايقال لي هذا بعد بلائي وما كان مني فقال له ياابن الخبيثه لو كانت أمه مكانك لأجزأت ناحيتها إنما عملت ما عملت بدولتنا وبريحنا ولوكان ذلك اليك لما وصلت إلى فتيل ولما قتله المنصور لف في كساء وهو مقطع إربا إربا فدخل عيسى بن موسى فقال يا أمير المؤمنين أين أبو مسلم قال قد كان هاهنها آنفا فقال يا أمير المؤمنين قد عرفت طاعته ونصيحة ورأي ابراهيم الامام فيه فقال له يا أنوك والله ما أعلم في الأرض عدوا أعدى لك منه هاهو ذاك في البساط فقال إنا لله وإنا اليه راجعون فقال له المنصور خلع الله قلبك وهل كان لكم مكان أو سلطان أو أمر أو نهي مع أبي مسلم ثم استدعى المنصور برؤس الأمراء فجعل يستشيرهم في قتل أبي مسلم قبل أن يعلموا بقتله فكلهم يشير بقتله ومنهم من كان إذا تكلم أسر كلامه خوفا من أبي مسلم لئلا ينقل اليه فلما أطلعهم على قتله أفزعهم ذلك وأظهروا سرورا كثيرا ثم خطب المنصور الناس بذلك كما تقدم
ثم كتب المنصور إلى نائب أبي مسلم على أمواله وحواصله بكتاب على لسان أبي مسلم أن يقدم بجميع ما عنده من الحواصل والذخائر والأموال والجواهر وختم الكتاب بخاتم أبي مسلم بكماله مطبوعا بكل فص الخاتم فلما رآه الخازن استراب في الأمر وقد كان أبي مسلم تقدم إلى (10/72)
خازنه أنه إذا جاءك كتابي فان رأيته مختوما بنصف الفص فامض لما فيه فانى إنما اختم بنصف فصه على كتبي واذا جاءك الكتاب مختوما عليه بكماله فلا تقبل ولا تمض ما فيه فامتنع عند ذلك خازنه أن يقبل ما بعث به المنصور فأرسل المنصور بعد ذلك اليه من أخذ جميع ذلك وقتل ذلك الرجل الخازن وكتب المنصور إلى أبي داود إبراهيم بن خالد بأمرة خراسان كما وعده قبل ذلك عوضا عن أبي مسلم
وفي هذه السنه خرج سنباد يطلب بدم أبي مسلم وقد كان سنباذ هذا مجوسيا تغلب على قومس وأصبهان ويسمى بفيروز اصبهند فبعث اليه أبو جعفر المنصور جيشا هم عشرة الاف فارس عليهم جهور بن مرارالعجلي فالتقوا بين همدان والري بالمفازه فهزم جهور لسنباذ وقتل من أصحابه ستين الفا وسبى ذراريهم ونساءهم وقتل سنباذ بعد ذلك فكانت أيامه سبعين يوما وأخذ ما كان استحوذ عليه من أموال أبي مسلم التي كانت بالري وخرج في هذه السنه أيضا رجل يقال له ملبد [ بن حرمله الشيباني ] في ألف من الخوارج بالجزيرة فجهز اليه المنصور جيوشا متعددة كثيفة كلها تنفر منه وتنكسر ثم قاتله حميد بن قحطبة نائب الجزيرة فهزمه ملبد وتحصن منه حميد في بعض الحصون ثم صالحه حميد بن قحطبه على مائة الف فدفعها اليه وقبلها ملبد وتقلع عنه
وحج بالناس في هذه السنة عم الخليفة اسماعيل بن علي بن عبدالله بن عباس قال الواقدي وكان نائب الموصل 0 يعني عم المنصور وعلى نيابة الكوفة عيسى بن موسى وعلى البصرة سليمان إبن علي وعلى الجزيره حميد بن قحطبة وعلى مصر صالح بن علي وعلى خراسان أبو داود ابراهيم إبن خالد وعلى الحجاز زياد بن عبدالله ولم يكن للناس في هذه السنة صائفة لشغل الخليفة بسنباذ وغيره ومن مشاهير من توفي فيها أبو مسلم الخراساني كما تقدم ويزيد بن أبي زياد أحد من تكلم فيه كما ذكرناه في التكميل والله سبحانه أعلم
( ثم دخلت سنة ثمان وثلاثون ومائة )
فيها دخل قسطنتين ملك الروم ملطيه عنوه فهدم سورها وعفا عمن قدر عليه من مقاتليها وفيها غزا الصائفة صالح بن علي نائب مصر فينى ما كان هدم ملك الروم من سور ملطيه وأطلق لأخيه عيسى بن علي أربعين ألف دينار وكذلك أعطى لإبن أخيه العباس بن محمد بن علي أربعين ألف دينار وفيها بايع عبدالله بن علي الذي كسره أبو مسلم وانهزم إلى البصرة واستجار بأخيه سليمان بن علي حتى بايع للخليفه في هذه السنة ورجع إلى طاعته ولكن حبس في سجن بغداد كما سيأتي وفيها خلع جهور بن مرار العجلي الخليفة المنصور بعدما كسر سنباد واستحوذ على حواصله وعلى اموال ابي مسلم فقويت بنفسه بذلك وظن أنه لايقدر عليه بعد فأرسل اليه (10/73)
الخليفة محمد بن الأشعث الخزاعي في جيش كثيف فاقتتلوا قتالا شديدا فهزم جهور وقتل عامة من معه وأخذ ما كان معه من الأموال والحواصل والذخائر ثم لحقوه فقتلوه وفيها قتل الملبد الخارجي على يدي خازم بن خزيمه في ثمانية الاف وقتل أصحاب الملبد ما يزيد على آلف وانهزم بقيتهم
قال الواقدي وحج بالناس فيها الفضل بن علي والنواب فيها هم المذكورون بالتي قبلها
وممن توفي فيها من الاعيان زيد بن واقد والعلاء بن عبد الرحمن وليث بن أبي سليم في قول وفيها كانت خلافة الداخل من بني أميه إلى بلاد الأندلس وهو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام إبن عبد الملك بن مروان الهاشمي قلت ليس وهو بهاشمي إنما هو من بني أمية ويسمى أمويا كان قد دخل إلى بلاد المغرب فرارا من عبدالله بن علي بن عبدالله بن عباس فاجتاز بمن معه من أصحابه الذين فروا معه بقوم يقتتلون على عصبية اليمانيه والمضرية فبعث مولاه بدرا اليهم فاستمالهم اليه فبايعوه ودخل بهم ففتح بلاد الأندلس واستحوذ عليها وانتزعها من نائبها يوسف بن عبد الرحمن إبن حبيب بن أبي عبيده بن عقبة بن نافع الفهري وقتله وسكن عبد الرحمن قرطبه واستمر في حلافته في تلك البلاد من هذه السنة إلى سنة ثنتين وسبعين ومائة فتوفي فيها وله في الملك أربع وثلاثون ينة وأشهر ثم قام من بعده ولده هشام ست سنين وأشهرا ثم مات فولى بعده الحكم بن هشام ستا وعشرين سنة وأشهرا ثم مات ثم ولي بعده ولده عبدالرحمن بن الحكم ثلاثا وثلاثين سنة ثم مات ثم ولي بعده محمد بن عبد الرحمن بن الحكم ستا وعشرين سنة ثم ابنه المنذر بن محمد ثم أخوه محمد بن المنذر وكانت أيامه بعد الثلاثمائة بدهر ثم زالت تلك الدوله كما سنذكره من زوال تلك السنون وأهلها من النعيم والعيش الرغيد والنساء الحسان ثم أنقضت تلك السنوات وأهلها كأنهم على ميعاد ثم أضحوا كأنهم ورق جف ألوت عليه الصبا والذبول ]
( ثم دخلت سنة تسع وثلاثون ومائة )
فيها أكمل صالح بن علي بناء ملطيه ثم غزا الصائفة على طريق الحدث فوغل في بلاد الروم وغزا معه أختاه أم عيسى ولبابه ابنتا علي وكانتا نذرتا إن زال ملك بني أميه أن يجاهدا في سبيل الله عز و جل وفيها كان الفداء الذي حصل بين المنصور وبين ملك الروم فاستنقذ بعض أسرى المسلمين ثم لم يكن للناس صائفة في هذه السنة إلى سنة ست واربعين وذلك لإشتغال المنصور بأمر ابني عبدالله بن حسن كما سنذكره ولكن ذكر بعضهم أن الحسن بن قحطبة غزا الصائفة مع عبد الوهاب بن ابراهيم الإمام سنة أربعين فالله أعلم
وفيها وسع المنصور المسجد الحرام وكانت هذه السنة خصبة جدا أي كثيرة الخصب فكان (10/74)
يقال لها السنة الخصبة وقيل إنما كان ذلك في سنة أربعين وفيها عزل المنصور عمه سليمان عن إمرة البصرة فاختفى عبدالله بن علي واصحابه خوفا على على أنفسهم فبعث المنصور إلى نائبه على البصرة وهو سفيان بن معاوية يستحثه في إحضار عبدالله بن علي اليه فبعثه في أصحابة فقتل بعضهم وسجن عبدالله بن علي عمه وبعث بقية اصحابه إلى أبي داود نائب خراسان فقتلهم هناك
وحج بالناس فيها العباس بن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس وفيها توفي عمرو بن مجاهد ويزيد ين عبدالله بن الهاد ويونس بن عبيد أحد العباد وصاحب الحسن البصري
( ثم دخلت سنة اربعين ومائة )
فيها ثار جماعة من الجند على ابي داود نائب خراسان وحاصروا داره فأشرف عليهم وجعل يستغيث بجنده ليحضروا اليه واتكأ على آجرة في الحائط فانكسرت به فسقط فانكسر ظهره فمات فخلفه على خراسان عاصم صاحب الشرطة حتى قدم الامير من جهة الخليفة عليها وهو عبد الجبار بن عبدالرحمن الأزدي فتسلم بلاد خراسان وقتل جماعة من الأمراء لانه بلغه عنهم انهم يدعون إلى خلافة أل علي بن ابي طالب وحبس آخرين وأخذ نواب أبي داود بجباية الأموال المنكسرة عندهم
وفيها حج بالناس الخليفة المنصور احرم في الحيرة ورجع بعد انقضاء الحج إلى المدينة ثم رحل إلى بيت المقدس فزاره ثم سلك الشام إلى الرقة ثم سار إلى الهاشمية هاشمية الكوفة ونواب الأقاليم هم المذكورون في التي قبلها سوى خراسان فإنه مات نائبها أبو داود فخلفه مكانه عبد الجبار الأزدي وفيها توفي داود بن ابي هند وابو حازم سلمة بن دينار وسهيل بن ابي صالح بن غزية بن قيس السكونى
( ثم دخلت سنة إحدى واربعون ومائة )
فيها خرجت طائفة يقال لها الرواندية على المنصور ذكر بن جرير عن المدائني ان أصلهم من خراسان وهم على رأي ابي مسلم كانوا يقولون بالتناسخ ويزعمون أن روح أدم انتقلت إلى عثمان بن نهيك وان ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم أبو جعفر المنصور وأن الهيثم إبن معاوية جبريل قبحهم الله
قال إبن جرير فأتوا يوما قصر المنصور فجعلوا يطوفون به ويقولون هذا قصر ربنا فأرسل المنصور إلى رؤسائهم فحبس منهم مائتين فغضبوا من ذلك وقالوا علام تحبسهم ثم عمدوا إلى نعش فحملوه على كواهلهم وليس عليه احد واجتمعوا حوله كأنهم يشيعون جنازة واجتازوا بباب السجن فالقوا النعش ودخلوا السجن قهرا واستخرجوا من فيه من أصحابهم وقصدوا نحو المنصور (10/75)
وهم في ستمائة فتنادى الناس وغلقت أبواب البلد وخرج المنصور من القصر ماشيا لأنه لم يجد دابة يركبها ثم جيء بدابة فركبها وقصد نحو الروانديه وجاء الناس من كل ناحية وجاء معن بن زائده فلما رأى المنصور ترجل وأخذ بلجام دابة المنصور وقال يا أمير المؤمنين ارجع نحن نكفيهم فأبى وقام أهل الأسواق اليهم فقاتلوهم وجاءت الجيوش فالتفوا عليهم من كل ناحية فحصدوهم عن آخرهم ولم يبق منهم بقية وجرحوا عثمان بن نهيك بسهم بين كتفيه فمرض أياما ثم مات فصلى عليه الخليفة وقام على قبره حتى دفن ودعا له وولى أخاه عيسى بن نهيك على الحرس وكان ذلك كله بالمدينه الهاشمية بالكوفة
ولما فرغ المنصور من قتال الروانديه ذلك اليوم صلى بالناس الظهر في آخر وقتها ثم أتى بالطعام فقال أبن معن بن زائدة وأمسك عن الطعام حتى جاء معن فأجلسه إلى جبنه ثم أخذ في شكره لمن بحضرته لما رأى من شهامته يومئذ فقال معن والله يا أمير المؤمنين لقد جئت وإني لو جل فما رأيت استهانتك بهم واقدامك عليهم قوي قلبي واطمأن وما ظننت أن أحدا يكون في الحرب هكذا فذاك الذي شجعني يا أمير المؤمنين فأمر له المنصور بعشرة الاف ورضي عنه وولاه اليمن وكان معن بن زائده قبل ذلك متخفيا لأنه قاتل المسوده مع إبن هبيره فلم يظهروا إلا في هذ 1 اليوم فلما رأى الخليفة صدقه في قتاله رضي عنه ويقال أن المنصور قال عن نفسه أخطأت في ثلاث قتلت أبا مسلم وأنا في جماعة قليله وحين خرجت من الشام ولو اختلف سفيان بالعراق لذهبت الخلافة ويوم الروانده لو أصابني سهم غرب لذهبت ضياعا وهذا من حزمه وصرامته
وفي هذه السنة ولى المنصور ابنه محمدا العهد من بعده ودعاه بالمهدي وولاه بلاد خراسان وعزل عنها عبد الجبار بن عبد الرحمن وذلك أنه قتل خلقا من شيعة الخليفة فشكاه المنصور إلى أبي أيوب كاتب الرسائل فقال يا أمير المؤمنين أكتب اليه ليبعث جيشا كثيفا إلى من خراسان إلى غزو الروم فإذا خرجوا بعثت اليه من شئت فأخرجوه من بلاد خراسان ذليلا فكتب إليه المنصور بذلك فرد الجواب بأن بلاد خراسان قد عاثت بها الأتراك ومتى خرج منها جيش خيف عليها وفسد أمرها فقال المنصور لأبي أيوب ماذا ترى قال فاكتب اليه إن بلاد خراسان أحق بالمدد لثغور المسلمين من غيرها وقد جهزت اليك بالجنود فكتب اليه ايضا ان بلاد خراسان ضيقة في هذا العام أقواتها ومتى دخلها جيش أفسدها فقال الخليفة لأبي أيوب ماذا تقول فقال يا أمير لمؤمنين هذا رجل قد أبدى صفحته وخلع فلا تناظره فحينئذ بعث المنصورابنه محمدا المهدي ليقيم بالري فبعث المهدي بين يديه خازم بن خزيمه مقدمة إلى عبدالجبار فما زال به يخدعه ومن معه حتى هرب من معه وأخذوه هو فأركبوه بعيرا محولا وجهه إلى ناحية ذنب البعير وسيروه كذلك (10/76)
في البلاد حتى أقدموه على المنصور ومعه ابنه وجماعة من أهله فضرب المنصور عنقه وسير ابنه ومن معه إلى جزيرة في طرف اليمن فأسرتهم الهنود بعد ذلك ثم فودي بعضهم بعد ذلك واستقر المهدي نائبا على خراسان وأمره أبوه أن يغزو طبرستان وأن يحارب الأصبهنذ بمن معه من الجنود وأمده بجيش عليهم عمر بن العلاء وكان من أعلم الناس بحرب طبرستان وهو الذي يقول فيه الشاعر ... فقل للحليفة ان جئته ... نصيحا ولا خير في المتهم ... إذا أيقظتك الحروب العدى ... فنبه لها عمرا ثم نم ؟ ... فتى لا ينام على ندمه ... ولا يشرب الماء إلا بدم ...
فلما تواقفت الجيوش على طبرستان فتحوها وحصروا الأصبهنذ حتى ألجؤه إلى قلعته فصالحهم على مافيها من ذخائر وكتب المهدي إلى ابيه بذلك ودخل الأصبهنذ بلاد الديلم فمات هناك وكسروا أيضا ملك الترك الذي يقال له المصمغان واسروا من الذراري فهذا فتح طبرستان الأول
وفيها فرغ بناء المصيصة على يدي جبريل بن يحيى الخراساني وفيها رابط محمد بن ابراهيم الإمام ببلاد ملطيه وفيها عزل المنصور زياد بن عبيدالله عن إمرة الحجاز وولى المدينة محمد بن خالد القسري وقدمها في رجب وولى مكة والطائف الهيثم بن معاوية العكى وفيها توفي موسى بن كعب وهو على شرطة المنصور وعلى مصر من كان عليها في السنة الماضية ثم ولي مصر محمد بن الأشعث ثم عزله عنها وولى نوفل بن الفرات وحج بالناس فيها صالح بن علي وهو نائب قنسرين وحمص ودمشق وبقية البلاد عليها من ذكرنا في التي قبلها والله أعلم
وفيها توفي أبان بن تغلب وموسى بن عقبة صاحب المغازي وأبوأسحاق الشيباني في قول والله سبحانه أعلم
( ثم دخلت سنة ثنتين وأربعين ومائة )
فيها خلع عيينه بن موسى بن كعب نائب السند الخليفة فجهز اليه العساكر صحبة عمر بن حفص إبن ابي صفرة وولاه السند والهند فحاربه عمر بن حفص وقهره على الأرض وتسلمها منه وفيها نكث أصبهند طبرستان العهد الذي كان بينه وبين المسلمين وقتل طائفة ممن كان بطبرستان فجهز اليه الخليفة الجيوش صحبة بن خزيمة وروح بن حاتم ومعهم مرزوق أبو الخطيب مولى المنصور فحاصروه مدة طويله فلما أعياهم فتح الحصن الذي هو فيه احتالوا عليه وذلك ان أباالخصيب قال اضربوني واحلقوا رأسي ولحيتي فذهب اليه كأنه مغاضب للمسمين قد ضربوه واحلقوا لحيته فدخل الحصن ففرح به الاصبهند وأكرمه وقربه وجعل أبو الخصيب يظهر له النصح والخدمة حتى خدعه وحظي عنده جدا وجعله من جملة من يتولى فتح الحصن وغلقه فلما تمكن من ذلك كاتب المسلمين وأعلمهم أنه الليلة الفلانية يفتح لهم فاقتربوا من الباب حتى (10/77)
افتحه لكم فلما كانت تلك الليله فتح لهم باب الحصن فدخلوا فقتلوا من فيه من المقاتلة وسبو الذرية وامتص الاصبهند خاتما مسموما فمات وكان فيمن اسروا يومئذ ام منصور بن المهدي وأم إبراهيم إبن المهدي وكانتا من بنات الملوك الحسان
وفيها بنى المنصور لأهل البصرة قبلتهم التي يصلون عندها بالجبان وتولى بناءها سلمة بن سعيد إبن جابر نائب الفرات والأبلة وصام المنصور شهر زمضان بالبصرة وصلى بالناس العيد في ذلك المصلى وفيها عزل المنصور نوفل بن الفرات عن إمرة مصر وولى عليها حميد بن قحطبة وحج بالناس فيها إسماعيل بن علي وفيها توفي سليمان بن علي بن عبدالله بن عباس عم الخليفة ونائب البصرة كان ذلك يوم السبت لسبع بقين من جمادي الآخرة وهو إبن تسع وخمسين سنة وصلى عليه اخوه عبد الصمد وروى عن ابية وعكرمة وأبي بردة بن ابي موسى وعنه جماعة منهم بنوه جعفر ومحمد وزينب الأصمعي وكان قد شاب وهو إبن عشرين سنة وخضب لحيته من الشيب في ذلك السن وكان كريما جوادا ممدحا وكان يعتق عشية عرفة في كل سنة مائة نسمه وبلغت صلاته لبني هاشم وسائر قريش والأنصار خمسة الاف الف واطلع يوما من قصره فرأى نسوة يغزلن في دار من دور البصرة فاتفق في نظره اليهن أن قالت واحدة منهن لو أن الأمير نظر الينا واطلع على حالنا فأغنانا عن الغزل فنهض من فوره فجعل يدور في قصره ويجمع من حلي نسائه من الذهب والجواهر وغيرها ما ملأ به منديلا كبيرا ثم دلاه اليهن ونثر عليهن من الدنانير والدراهم شيئا كثيرا فماتت احداهن من شدة الفرح فأعطى ديتها وما تركته من ذلك لورثتها وقد ولى الحج في أيام السفاح وولى البصرة أيام المنصور وكان من خيار بني العباس وهو أخو اسماعيل وداود وصالح وعبد الصمد وعبد الله وعيسى ومحمد وهو عم السفاح والمنصور
وممن توفي فيها من الأعيان خالد الحذاء وعاصم الأحول وعمرو بن عبيد القدري في قول وهو عمر بن عبيد بن ثوبان ويقال إبن كيسان التميمي مولاهم أبو عثمان البصري من ابناء فارس شيخ القدرية والمعتزله روى الحديث الحسن البصري وعبيد الله بن أنس وأبي العالية وأبي قلابه وعنه الحمادان وسفيان بن عيينه والاعمش وكان من أقرانه وعبد الوارث إبن سعيد وهارون بن موسى ويحيى القطان ويزيد بن زريع قال الامام أحمد بن حنبل ليس بأهل أن يحدث عنه وقال علي بن المدنيى يحيى بن معين ليس بشيء وزاد إبن معين وكان رجل سوء وكان من الدهرية الذين يقولون إنما الناس مثل الزرع وقال الفلاس متروك صاحب بدعه كان يحيى القطان يحدثنا عنه ثم تركه وكان إبن المهدي لا يحدث عنه وقال أبو حاتم متروك وقال النسائي ليس بثقة وقال شعبة عن يونس بن عبيد كان عمر بن عبيد يكذب في الحديث (10/78)
وقال حماد بن سلمه قال لي حميد لا تأخذ عنه فإنه كان يكذب على الحسن البصري وكذا قال ايوب وعوف وابن عون وقال أيوب ما كنت أعدله عقلا وقال مطر الوراق والله لا أصدقه في شيء وقال إبن المبارك انما تركوا حديثه لأنه كان يدعو إلى القدر وقد ضعفه غير واحد من ائمة الجرح والتعديل واثنى عليه آخرون في عبادته وزهده وتقشفه قال الحسن البصري هذا سيد شباب القراء ما لم يحدث قالوا فأحدث والله أشد الحدث وقال إبن حيان كان من أهل الورع والعبادة إلى أن احدث ما احدث واعتزل مجلس الحسن هو وجماعة معه فسموا المعتزلة وكان يشتم الصحابة ويكذب في الحديث وهما لا تعمدا وقد روى عنه أنه قال إن كانت تبت يدا أبي لهب في اللوح المحفوظ فما تعد منه على إبن آدم حجة وروى له حديث إبن مسعود حدثنا الصادق المصدوق
( ان خلق احدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما ) حتى قال ( فيؤمر بأربع كلمات رزقه واجله وعمله وشقي أم سعيد ) إلى آخره فقال لو سمعت الأعمش يرويه لكذبته ولو سمعته من زيدين وهب لما أحببته ولو سمعته من إبن مسعود لما قبلته ولو سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم لرددته ولو سمعت الله يقول هذا لقلت ما على هذا أخذت علينا الميثاق وهذا من أقبح الكفر لعنه الله إن كان قال هذا واذا كان مكذوبا عليه فعلى من كذبه عليه ما يستحقه وقد قال عبدالله إبن المبارك رحمه الله ... أيها الطالب علما ... إيت حماد بن زيد ... فخذ العلم بحلم ... ثم قيده بقيد ... وذر البدعه من ... آثار عمر بن عبيد ...
وقال إبن عدي كان عمرو يغر الناس بتقشفه وهو مذموم ضعيف الحديث جدا معلن بالبدع وقال الدارقطني ضعيف الحديث وقال الخطيب البغدادي جالس الحسن واشتهر بصحبته ثم أزاله [ واصل إبن عطاء عن مذهب أهل السنة وقال بالقدر ودعا اليه واعتزل أصحاب الحديث وكان له سمت وإظهار زهد وقد قيل أنه ] وواصل بن عطاء ولدا سنة ثمانين وحكى البخاري أن عمرا مات سنة ثنتين وثلاث وأربعين ومائة بطريق مكة وقد كان عمرو محظيا عند أبي جعفر المنصور كان المنصور يحبه ويعظمه لأنه كان يفد المنصور مع القراء فيعطيهم المنصور فيأخذون ولا يأخذ عمرو منه شيئا وكان يسأله أن يقبل كما يقبل أصحابه فلا يقيبل منه فكان ذلك مما يغر المنصور ويروج به عليه حاله لأن المنصور كان بخيل وكان يعجبه ذلك منه وينشد ... كلكم يمشي رويد ... كلكم يطلب صيد ... غير عمربن عبيد ...
ولو تبصر المنصور لعلم أن كل واحد من اولئك القراء خير من ملء الارض مثل عمر بن عبيد (10/79)
والزهد لايدل على صلاح فان بعض الرهبان قد يكون عنده من الزهد ما لايطيقه عمرو ولا كثير من المسلمين في زمانه وقد روينا عن اسماعيل بن خالد القعبني قال رأيت الحسن بن جعفر في المنام بعدما مات بعبادان فقال لي أيوب ويونس وابن عون في الجنة قلت فعمرو بن عبيد قال في النار ثم رآه مرة ثانية ويروى ثالثه فيسأله فيقول له مثل ذلك وقد رؤيت له منامات قبيحه وقد أطال شيخنا في تهذيبه في ترجمته ولخصنا حاصلها في كتاب التكميل وأشرنا ههنا إلى نبذه من حاله ليعرف فلا يغتر به والله أعلم
( ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين ومائة )
فيها ندب المنصور الناس إلى غزو الديلم لانهم قتلوا من المسلمين خلقا وأمر أهل الكوفة والبصرة من كان منهم يقدر على عشرة الآف فصاعدا فليذهب مع الجيش إلى الديلم فانتدب خلق كثير وجم غفير لذلك وحج بالناس فيها عيسى بن موسى نائب الكوفة وأعمالها وفيها توفي حجاج الصزاف وحميد بن رؤية الطويل وسليمان بن طرخان التميمي وقد ذكرنا في التي قبلها وعمر بن عبيد في قول وليث بن أبي سليم على الصحيح ويحيى بن سعيد الانصاري
( ثم دخلت سنة أربع وأربعين ومائة )
فيها سار محمد بن ابي العباس السفاح عن أمر عمه المنصور إلى بلاد الديلم ومعه الجيوش من الكوفة والبصرة وواسط والموصل والجزيرة وفيها قدم محمد بن جعفر المنصور المهدي على ابيه من بلاد خراسان ودخل بابنة عمه رايطه بنت السفاح بالحيرة وفيها حج بالناس أبو جعفر المنصور واستخلف على الحيرة والعسكر خازم بن خزيمه وولى رباح بن عثمان المزني المدينة وعزل عنها محمد بن خالد القسري وتلقى الناس أبا جعفر المنصور أثناء طريق مكة في حجة في سنة أربع وأربعين ومائة وكان من جملة من تلقاه عبدالله بن حسن بن حسن بن علي بن ابي طالب فأجلسه المنصور معه على السماط ثم جعل يحادثه باقبال زائد بحيث إن المنصور اشتغل بذلك عن عامة غدائه وسأله عن إبنيه ابراهيم ومحمد لم لا جاآني مع الناس فحلف عبدالله بن حسن أنه لا يدري اين صارا من أرض الله وصدق في ذلك وما ذاك إلا أن محمد بن عبدالله بن حسن كان قد بايعه جماعة من أهل الحجاز في أواخر دولة مروان الحمار بالخلافة وخلع مروان وكان في جملة من بايعه علي ذلك أبو جعفر المنصور وذلك قبل تحويل الدولة إلى بني العباس فلما صارت الخلافة إلى ابي جعفر المنصور خاف محمد بن عبدالله بن الحسن وأخوه إبراهيم منه خوفا شديدا
وذلك لأن المنصور توهم منهما أنهما لا بد أن يحخرجا عليه كما أراد أن يخرجا على مروان والذي توهم منه المنصور وقع فيه فذهبا هربا في البلاد الشاسعه فصارا إلى اليمن ثم سارا إلى الهند قاختفيا (10/80)
بها فدل على مكانهما الحسن بن زيد فهربا إلى موضع آخر فاستدل عليه الحسن بن زيد ودل عليهما وانتصب البا عليهما عند المنصور والعجب منه أنه من أتباعهما واجتهد المنصور بكل طريق على تحصيلهما فلم يتفق له ذلك وإلى الآن فلما سأل أباهما عنهما حلف أنه لايدري أين صارا من أرض الله ثم ألح المنصور على عبدالله في طلب ولديه فغضب عبدالله من ذلك وقال والله لوكانا تحت قدمي ما دللتك عليهما فغضب المنصور وأمر بسجنه وامر ببيع رقيقه وأمواله فلبث في السجن ثلاث سنين وأشاروا على المنصور بحبس بني حسن عن آخرهم فحبسهم وجد في طلب ابراهيم ومحمد جدا هذا وهما يحضران الحج في غالب السنين ويكمنان في المدينة في غالب الاوقات ولا يشعربهما من ينم عليهما ولله الحمد والمنصور يعزل نائبا عن المدينة ويولي عليها غيره ويحرضه على امساكهما والفحص عنهما وبذل الأموال في طلبهما وتعجزه المقادير عنهما لما يريده الله عز و جل
وقد واطأهما على أمرهما امير من أمراء المنصور يقال له ابو العساكر خالد بن حسان فعزموا في بعض الحجات على الفتك بالمنصور بين الصفا والمروة فنهاهم عبدالله بن حسن لشرف البقعه وقد أطلع المنصور على ذلك وعلم بما مالأهما ذلك الأمير فعذبه حتى أقر بما كانوا تمالؤا عليه من الفتك به فقال وما الذي صرفكم عن ذلك فقال عبد الله بن حسن نهانا عن ذلك فأمر به الخليفة فغيب في الارض فلم يظهر حتى الآن وقد استشار المنصور من يعلم من أمرائه ووزرائه من ذوي الرأي في أمر ابني عبدالله بن حسن وبعث الجواسيس والقصاد في البلاد فلم يقع لهما على خبر ولا ظهر لهما على عين ولا أثر والله غالب على امره وقد جاء محمد بن عبدالله بن حسن إلى امه فقال يا أمه إني قد شفقت على ابي وعمومتي ولقد هممت أن أضع يدي في يد هؤلاء لأريح أهلي فذهبت أمه إلى السجن فعرضت عليهم ما قال إبنها فقالوا لا ولا كرامة بل نصبر على أمره فلعل الله يفتح على يديه خيرا ونحن نصبر وفرجنا بيد الله إن شاء فرج عنا وإن شاء ضيق وتمالؤ كلهم على ذلك رحمهم الله
وفيها نقل آل حسن من حبس المدينة إلى حبس بالعراق وفي أرجلهم القيود وفي أعناقهم الاغلال وكان ابتداء تقييدهم من الربذة بأمر أبي جعفر المنصور وقد أشخص معهم محمد بن عبدالله العثماني وكان أخا عبدالله بن حسن لأمه وكانت ابنته تحت ابراهيم بن عبدالله بن حسن وقد حملت قريبا فاستحضر الخليفة وقال قد حلفت بالعتاق والطلاق إنك لم تغشني وهذه ابنتك حامل فإن كان من زوجها فقد حبلت منه وانت تعلم به وان كان من غيره فأنت ديوث فأجابه العثماني بجواب أحفظه به فأمر به فجردت عنه ثيابه فإذا جسمه مثل الفضة النقية ثم (10/81)
ضربه بين يديه مائة وخمسين سوطا منها ثلاثون فوق رأسه أصاب أحدها عينه فسالت ثم رده إلى السجن وقد بقي كأنه عبد أسود من زرقة الضرب وتراكم الدماء فوق جلده فأجلس إلى جانب اخيه لامه عبدالله بن حسن فاستسقى ماء فما جسر أحد أن يسقيه حتى سقاه خراساني من جملة الجلاوزة الموكلين بهم ثم ركب المنصور هودجه وأركبوا اولئك في محامل ضيقة وعليه القيود والاغلال فاجتاز بهم المنصور وهو في هودجه فناداه عبدالله بن حسن والله يا أبا جعفر ما هكذا صنعنا بأسراكم يوم بدر فأخسأ ذلك المنصور وثقل عليه ونفر عنهم ولما انتهوا إلى العراق حبسوا بالهاشمية وكان فيهم محمد بن ابراهيم بن عبدالله بن حسن وكان جميلا فتيا فكان الناس يذهبون لينظروا إلى حسنه وجماله وكان يقال له الديباج الأصفر فأحضره المنصور بين يديه وقال له أما لأقتلنلك قتلة ما قتلتها أحدا ثم القاه بين اسطوانتين وسد عليه حتى مات فعلى المنصور ما تسحقه من عذاب الله ولعنته وقد هلك كثير منهم في السجن حتى فرج عنهم بعد هلاك المنصور على ماسنذكره فكان فيمن هلك في السجن عبدالله بن حسن بن حسن بن علي بن ابي طالب وقد قيل والاظهر أنه قتل صبرا وأخوه إبراهيم بن الحسن وغيرهما وقل من خرج منهم من الحبس وقد جعلهم المنصور في سجن لا يسمعون فيه أذانا ولا يعرفون فيه وقت صلاة الا بالتلاوة ثم بعث اهل خراسان يشفعون في محمد بن عبدالله العثماني فأمر به فضربت عنقه وأرسل برأسه إلى أهل خراسان لا جزاه الله خيرا ورحم الله محمد بن عبدالله العثماني
وهو محمد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان بن عفان الاموي رحمه الله أبو عبدالله المدني المعروف بالديباج لحسن وجهه وأمه فاطمه بنت الحسين بن علي روى الحديث عن أبيه وأمه وحارجة بن زيد وطاوس وأبي الزناد والزهري ونافع وغيرهم وحدث عنه جماعة ووثقه النسائي وابن حبان وكان أخا عبدالله بن حسن لأمه وكانت ابنته رقية زوجة إبن أخيه ابراهيم بن عبدالله وكانت من أحسن النساء وبسببها قتله أبو جعفر المنصور في هذه السنة وكان كريما جوادا ممدحا قال الزبير بن بكار أنشدني سليمان بن عباس السعدي لأبي وجرة السعدي يمدحه ... وجدنا المحض الابيض من قريش ... فتى بين الخليفة والرسول ... أتاك المجد من هنا وهناك ... وكنت له بمعتلج السيول ... فما للمجد دونك من مبيت ... وما للمجد دونك من مقيل ... لا يمض وراءك يبتغيه ... ولا هو قابل بك من بديل ...
( ثم دخلت سنة خمس واربعين ومائة )
فما كان فيها من الاحداث مخرج محمد بن عبدالله بن حسن بالمدينة وأخيه ابراهيم بالبصرة (10/82)
على ما سنبينه إن شاء الله أما محمد فانه خرج على أثر ذهاب أبي جعفر المنصور بأهله بني حسن من المدينة إلى العراق على الصفة والنعت الذي تقدم ذكره وسجنهم في مكان ساء مستقرا ومقاما لايسمعون فيه آذانا ولا يعرفون فيه دخول أوقات صلوات إلا بالاذكار والتلاوة وقد مات أكثر أكابرهم هنالك رحمهم الله هذا كله ومحمد الذي يطلبه مختف بالمدينة حتى انه في بعض الاحيان اختفى في بئر نزل في مائه كله الا رأسه وباقيه مغمورا بالماء وقد تواعد هو وأخوه وقتا معينا يظهران فيه هو بالمدينة وابراهيم بالبصرة ولم يزل الناس أهل المدينة وغيرهم يؤنبون محمد بن عبدالله في اختفائه وعدم ظهورة حتى عزم على الخروج وذلك لما أضر به شدة الإختفاء وكثرة الحاح رياح نائب المدينة في طلبه ليلا ونهارا فلما اشتد به الأمر وضاق الحال واعد أصحابه على الظهور في الليلة الفلانيه فلما كانت تلك الليلة جاء بعض الوشاة إلى متولى المدينة فأعلمه بذلك فضاق ذرعا وانزعج لذلك انزعاجا شديدا وركب في جحافله فطاف المدينة وحول دار مروان وهم مجتمعون بها فلم يشعربهم فلما رجع إلى منزله بعث إلى بني حسين بن علي فجمعهم ومعهم رؤس من سادات قريش وغيرهم فوعظهم وأنبهم وقال يا معشر أهل المدينة أمير المؤمنين يتطلب هذا الرجل في المشارق والمغارب وهو بين أظهركم ثم ما كفاكم حتى بايعتموه على السمع والطاعة والله لا يبلغني عن أحد منكم خرج معه الا ضربت عنقه فأنكر الذين هم هنالك حاضرون أن يكون عندهم علم أو شعور بشيء من هذا وقالوا نحن نأتيك برجال مسلحين يقاتلون دونك إن وقع شيء من ذلك فنهضوا فجاؤه بجماعة مسلحين فاستأذنوه في دخولهم عليه فقال لا إذن لهم إني أخشى أن يكون ذلك خديعة فجلس اولئك على الباب ومكث الناس جلوسا حول الأمير وهو واجم لا يتكلم إلا قليلا حتى ذهبت طائفة من الليل ثم ما فجيء الناس إلا وأصحاب محمد بن عبدالله قد ظهروا وأعلنوا بالتكبير فانزعج الناس في جوف الليل وأشار بعض الناس على الأمير أن يضرب أعناق بني حسين فقال أحدهم علام ونحن مقرون بالطاعة واشتغل الامير عنهم بما فجأه من الأمر فاغتنموا الغفلة ونهضوا سراعا فتسوروا جدار الدار والقوا انفسهم على كناسة هنالك
وأقبل محمد بن عبدالله بن حسن في مائتين وخمسين فمر بالسجن فأخرج من فيه وجاء دار الإمارة فحاصرها فافتتحها ومسك الأمير رياح بن عثمان نائب المدينة فسجنه في دار مروان وسجن معه إبن مسلم بن عقبة وهو الذي أشار بقتل بني حسين في أول هذه الليلة فنجوا وأحيط به وأصبح محمد بن عبدالله بن حسن وقد استظهر على المدينة ودان له أهلها فصلى بالناس الصبح وقرأ فيها سورة انا فتحنا لك فتحا مبينا وأسفرت هذه الليلة عن مستهل رجب من هذه السنة وقد خطب محمد بن عبدالله أهل المدينة في هذا اليوم فتكلم في بني العباس وذكر عنهم أشياء ذمهم (10/83)
بها وأخبرهم أنه لم ينزل بلدا من البلدان إلا وقد بايعوه على السمع والطاعة فبايعه أهل المدينة كلهم إلا القليل
وقد روى ابن جرير عن الإمام مالك أنه أفتى الناس بمبايعته فقيل له فإن في أعناقنا بيعة للمنصور فقال إنما كنتم مكرهين وليس لمكره بيعه فبايعه الناس عند ذلك عن قول مالك ولزم مالك بينه وقد قال له اسماعيل بن عبدالله بن جعفر حين دعاه إلى بيعته يا ابن أخي إنك مقتول فارتدع بعض الناس عنه واستمر جمهورهم معه فاستناب عليه عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير وعلى قضائها عبد العزيز بن المطلب بن عبدالله المخزومي وعلى شرطتها عثمان بن عبدالله ابن عمر بن الخطاب وعلى ديوان العطاء عبدالله بن جعفر بن عبدالله بن مسور بن مخرمه وتلقب بالمهدي طمعا في أن يكون المذكور بالاحاديث فلم يكن به ولا تم له ما رجاه ولا ما تمناه فانا لله وقد ارتحل بعض أهل المدينة عنها ليلة دخلها فطوى المراحل البعيدةإلى المنصور في سبع ليال فورد عليه فوجده نائما في الليل فقال للربيع الحاجب استأذن على الخليفة فقال إنه لا يوقظ في هذه الساعه فقال إنه لا بد من ذلك فأخبر الخليفة فخرج فقال ويحك ما وراءك فقال إنه خرج ابن حسن بالمدينة فلم يظهر المنصور لذلك اكتراثا وانزعاجا بل قال أنت رأيته قال نعم فقال هلك والله وأهلك من اتبعه ثم أمر بالرجل فسجن ثم جاءت الاخبار بذلك فتواترت فأطلقة المنصور وأطلق له عن كل ليلة الف درهم فاعطاه سبعة الآف درهم
ولما تحقق المنصور الامر من خروجه ضاق ذرعا فقال له بعض المنجمين يا أمير المؤمنين لاعليك منه فوالله لو ملك الارض بحذافيرها فإنه لا يقيم أكثر من سبعين يوما ثم أمر المنصور جميع رؤس الأمراء أن يذهبواإلى السجن فيجتمعوا بعبد الله بن حسن والد محمد فيخبروه بما وقع من خروج ولده ويسمعوا ما يقول لهم فلما دخلوا عليه أخبروه بذلك فقال ما ترون ابن سلامه فاعلا يعني المنصور فقالوا لاندري فقال والله لقد قتل صاحبكم البخل ينبغي له أن ينفق الاموال ويستخدم الرجال فإن ظهر فاسترجاع ما انفق سهل والا لم يكن لصاحبكم شيئ في الخزائن وكان ما خزن لغيره فرجعواإلى الخليفة فأخبروه بذلك وأشار الناس الناس على الخليفة بمناجزته فاستدعى عيسى بن موسى فندبه إلى ذلك ثم قال إني سأكتب إليه كتابا أنذره به قبل قتاله فكتب إليه
بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا الآيةإلى قوله فاعلموا أن الله غفور رحيم ثم قال فلك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله إن أنت رجعت إلى الطاعة لأؤمننك (10/84)
ومن أتبعك ولأعطينك ألف ألف درهم ولأدعنك في أحب البلاد اليك ولأقضين لك جميع حوائجك في كلام طويل فكتب إليه محمد جواب كتابه
من عبدالله المهدي محمد بن حسن بسم الله الرحمن الرحيم طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون إن فرعون علا في الارض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح ابناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ثم قال وإني أعرض عليك من الأمان ما عرضت علي فأنا أحق بهذا الأمر منكم وأنتم إنما وصلتم إليه بنا فان عليا كان الوصي وكان الامام فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء ونحن أشرف أهل الارض نسبا فرسول الله خير الناس وهو جدنا وجدتنا خديجة وهي أفضل زوجاته وفاطمه ابنته أمنا وهي أكرم بناته وإن هاشما ولد عليا مرتين وإن حسنا ولده عبد المطلب مرتين وهو وأخوه سيدا شباب أهل الجنة وإن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولد أبي مرتين وإني أوسط بني هاشم نسبا [ وأصرحهم أبا لم تعرق في العجم ولم تنازع في أمهات الاولاد ] فأنا ابن أرفع الناس درجة في الجنه وأخفهم عذابا في النار فأنا أولى بالامر منك وأولى بالعهد وأوفى به منك فانك تعطي فإنك تعطي العهد ثم تنكث ولاتفي كما فعلت بإبن هبيره فإنك أعطيته العهد ثم غدرت به ولا أشد عذابا من إمام غادر وكذلك فعلت بعمك عبدالله بن علي وأبي مسلم الخراساني [ ولوأعلم أنك تصدق لأجبتك لما دعوتني إليه ولكن الوفاء بالعهد من مثلك لمثلي بعيد والسلام ]
فكتب إليه أبو جعفر جواب ذلك في كتاب طويل حاصله أما بعد فقد قرأت كتابك فاذا جل فحرك وإدلالك قرابة النساء لتضل به الجفاه والغوغاء ولم يجعل الله النساء كالعمومة والآباء ولا كالعصبية والاولياء وقد أنزل الله وأنذر عشيرتك الاقربين وكان حينئذ له أربعة أعمام فاستجاب له اثنان أحدهما جدنا وكفر اثنان أحدهما أبوك يعني حده أبا طالب فقطع الله ولايتهما منه ولم يجعل بينهما إلا ولاذمة وقد أنزل الله في عدم إسلام أبي طالب إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وقد فخرت به وأنه أخف أهل النار عذابا وليس في الشر خيار ولا ينبغي لمؤمن أن بفخر بأهل النار وفخرت بأن عليا ولده هاشم مرتين وأن حسنا ولده عبد المطلب مرتين فهذا رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما ولده عبد الله مرة واحدة وقولك إنك لم تلد أمهات أولاد فهذا إبراهيم ابن الرسول صلى الله عليه و سلم من ماريه وهو خير منك وعلى بن الحسن من أم ولد وهو خير منك وكذلك ابنه محمد بن علي وابنه جعفر بن محمد جداتهما أمهات أولادوهما خير منك (10/85)
وأما قولك بنو الرسول صلى الله عليه و سلم فقد قال تعإلى ما كان محمدا أبا أحد من رجالكم وقد جاءت السنة التي لاخلاف فيها بين المسلمين أن الجد أبا الام والخال والخاله لا يورثون ولم يكن لفاطمه ميراث من رسول الله صلى الله عليه و سلم بنص الحديث وقد مرض رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبوك حاضر فلم يأمره بالصلاة بالناس بل أمر غيره ولما توفي لم يعدل الناس بأبي بكر وعمر أحدا ثم قدموا عليه عثمان في الشورى والخلافة ثم لما قتل عثمان اتهمه بعضهم به وقاتله طلحة والزبير على ذلك وامتنع سعد من مبايعته ثم بعد ذلك معاوية ثم طلبها أبوك وقاتل عليها الرجال ثم اتفق على التحكيم فلم يف به ثم صارت إلى الحسن فباعها بخرق ودراهم وأقام بالحجاز مالا من غير حله وسلم الأمر إلى غير أهله وترك شيعته في أيدي بني أميه ومعاويه فإن كانت لكم فقد تركتموها وبعتموها بثمنها ثم خرج عمك حسين على ابن مرجانه وكان الناس معه عليه حتى قتلوه وأتوا برأسه إليه ثم خرجتم على بني أميه فقتلوكم وصلبوكم على جذوع النخل وحرقوكم بالنار وحملوا نساءكم على الابل كالسبايا إلى الشام حتى حرجنا عليهم نخن فأخذنا بثأركم وأدركنا بدمائكم وأورثناكم أرضهم وديارهم وذكرنا فضل سلفكم فجعلت ذلك حجة علينا وظننت أنا إنما ذكرنا فضله على أمثاله على حمزه والعباس وجعفر وليس الأمر كما زعمت فإن هؤلاء مضوا ولم يدخلوا الفتن وسلموا من الدنيا فلم تنقصهم شيئا فاستوفوا ثوابهم كاملا وابتلى بذلك أبوك وكانت بنوا أميه تلعنه كما تلعن الكفرة في الصلوات المكتوبات فأحيينا ذكره وذكرنا فضله وعنفناهم بما نالوا منه وقد علمت أن مكرمتنا الجاهليه بسقاية الحجيج الاعظم وخدمة زمزم وحكم رسول الله صلى الله عليه و سلم لنا بها ولما قحط الناس زمن عمر استسقى بأبينا العباس وتوسل به إلى ربه وأبوك حاضر وقد علمت أنه لم يبق أحد من بني عبد المطلب بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا العباس فالسقاية سقايته والواراثة وراثته والخلافة في ولده فلم يبق شرق في الجاهلية والاسلام إلا والعباس وارثة ومورثه في كلام طويل فيه بحث ومناظره وفصاحه وقد استقصاه ابن جرير بطولة والله سبحانه أعلم فصل
( في ذكر مقتل بن محمد بن عبدالله بن حسن )
بعث محمد بن عبدالله بن حسن في غبون ذلك رسولاإلى أهل الشام يدعوهم إلى بيعته وخلافته فأبوا قبول ذلك منه وقالوا قد ضجرنا من الحروب ومللنا القتال وجعل يستميل رؤس أهل المدينة فمنهم من أجابه ومنهم من امنتنع عليه وقال له بعضهم كيف أبايعك وقد ظهرت في بلد ليس فيه مال تستعين به على استخدام الرجال ولزم بعضهم منزله فلم يخرج حتى قتل محمد و بعث محمد هذا الحسين بن معاوية في سبعين رجلا ونحوا من عشرة فوارس إلى مكة نائبا إن هو دخلها (10/86)
فساروا إليها فلما بلغ أهلها قدومهم خرجوا إليهم في ألوف من المقاتله فقال لهم الحسين بن معاوية علام تقاتلون وقد مات أبو جعفر فقال السرى بن عبدالله زعيم أهل مكة إن يرده جاءتنا من أربع ليال وقد أرسلت إليه كتابا فأنا أنتظر جوابه إلى أربع فإن كان ما تقولون حقا سلمتكم البلد وعلى مؤنه رجالكم وخيلكم فامتنع الحسن بن معاويه من الانتظار وأبى إلا المناجزة وحلف لا يبيت الليلة إلا بمكة إلا أن يموت وأرسل إلى السرى أن ابرز من الحرم إلى الحل حتى لا تراق الدماء في الحرم فلم يخرج فتقدموا إليهم فصافوهم عليه الحسن واصحابه حملة واحده فهزموهم وقتلوا منهم نحو سبعة ودخلوا مكة فلما أصبحوا خطب الحسن بن معاوية الناس وأغراهم بأبي جعفر ودعاهمإلى محمد بن عبد الله بن حسن المهدي
( خروج اخيه إبراهيم بن عبدالله بن حسن )
وظهر بالبصرة أيضا إبراهيم بن عبدالله بن حسن وجاء البريدإلى أخيه محمد فانتهى إليه فاستؤذن له عليه وهو بدار مروان فطرق بابها فقال اللهم إني أعوذ بك من شر طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن ثم خرج فأخبر أصحابه عن أخيه فاستبشروا جدا وفرحوا كثيرا وكان يقول للناس بعد صلاة الصبح والمغرب ادعوا الله لاخوانكم أهل البصرة وللحسين ابن معاوية بمكة واستنصروه على أعدائكم
وأما ما كان من المنصور فإنه جهز الجيوش إلى محمد بن عبدالله بن حسن صحبه عيسى بن موسى عشرة آلاف فارس من الشجعان المنتخبين منهم محمد بن أبي العباس وجعفر بن حنظله البهراني وحميد بن قحطبه وكان المنصور قد استشاره فيه فقال يا أمير المؤمنين أدع بمن شئت ممن تثق به من مواليك فابعث بهم إلى وادي القرى يمنعونهم من ميرة الشام فيموت هو ومن معه جوعا فانه ببلد ليس فيه ولا رجال ولا كراع ولا سلاح وقدم بين يديه كثير بن الحصين العبدي وقد قال المنصور لعيسى بن موسى حين ودعه يا عيسى إني أبعثك إلى جبني هذين فإن ظفرت بالرجل فشم سيفك وناد في الناس بالامان وان تغيب فضمنهم اياه حتى يأتوك به فانهم أعلم بمذاهبه وكتب معه كتابا إلى رؤساء قريش والانصار من اهل المدينه يدفعها إليهم خفية يدعوهم إلى الرجوع إلى الطاعة فلما اقترب عيسى بن موسى من المدينه بعث الكتب مع رجل فأخذه حرس محمد بن عبدالله بن حسن فوجدوا معه تلك الكتب فدفعوهاإلى محمد فاستحضر جماعة من اولئك فعاقبهم وضربهم ضربا شديدا وقيدهم قيودا ثقالا وأودعهم السجن ثم إن محمدا استشار أصحابه بالقيام بالمدينة حتى يأتي عيسى بن موسى فيحاصرهم بها وإنه يخرج بمن معه فيقاتل أهل العراق فمنهم من أشار بهذا ومنهم من أشار بذاك ثم اتفق الرأى على المقام بالمدينة لان رسول (10/87)
الله صلى الله عليه و سلم ندم يوم أحد على الخروج منها ثم أتفقوا على حفر خندق حول المدينه كما فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الاحزاب فأحاب إلى ذلك كله وحفر مع الناس في الخندق بيده اقتداء برسول الله صلى الله عليه و سلم وقد ظهر لهم لبنة من الخندق الذي حفره رسول الله صلى الله عليه و سلم ففرحوا بذلك وكبروا وبشروه بالنصر وكان محمد حاضرا عليه قباء أبيض وفي وسطه منطقة وكان شكلا ضخما اسمر عظيم الهامة
ولما نزل عيسى بن موسى الاعوص واقترب من المدينة صعد محمد بن عبدالله المنبر فخطب الناس وحثهم على الجهاد وكانوا قريبا من مائة الف فقال لهم جملة ما قال إني جعلتكم في حل من بيعتي فمن احب منكم أن يقيم عليها فعل ومن أحب أن يتركها فعل فتسلل كثير منهم أو أكثرهم عنه ولم يبق إلا شرذمة قليله معه وخرج أكثر أهل المدينة بأهلهم منها لئلا يشهدوا القتال بها فنزلوا الأعراض ورؤس الجبال وقد بعث محمد أبا الليث ليردهم عن الخروج فلم يمكنه ذلك في أكثرهم واستمروا ذاهبين وقال محمد لرجل أتأخذ سيفا ورمحا وترد هؤلاء الذين خرجوا من المدينة فقال نعم إن أعطيتني رمحا أطعنهم وهم بالأعراض وسيفا أضربهم وهم في رؤس الجبال فعلت فسكت محمد ثم قال لي ويحك أهل الشام والعراق وخراسان قد بيضوا يعني لبسوا البياض موافقة لي وخلعوا السواد فقال وماذا ينفعني أن لو بقيت الدنيا زبدة بيصاء وأنا في مثل صوفة الدواة وهذا عيسى ين موسى نازل بالاعوص ثم جاء عيسى بن موسى فنزل قريبا من المدينة على ميل منها فقال له دليله ابن الاصم أني أخشى إذا كشفتموهم أن يرجعواإلى معسكرهم سريعا قبل أن تدركهم الخيل ثم ارتحل به فأنزله الجرف على سقاية سليمان بن عبد الملك على أربعة أميال من المدينة وذلك يوم السبت لصبح اثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان من هذه السنة وقال إن الراجل إذا هرب لا يقدر على الهرولة أكثر من ميلين أو ثلاثة فتدركه الخيل
وأرسل عيسى بن موسى خمسمائة فارس فنزلوا عند الشجرة في طريق مكه وقال لهم هذا الرجل إن هرب فليس له ملجأ إلا مكه فحولوا بينه وبينها ثم أرسل عيسىإلى محمد يدعوه إلى السمع والطاعة لامير المؤمنين المنصور وانه قد أعطاه الامان له ولاهل بيته إن هو أجابه فقال محمد للرسول لولا أن الرسل لاتقتل لقتلتك ثم بعث إلى عيسى بن موسى يقول له إني أدعوك إلى كتاب الله وسنة رسوله فاحذر أن تمتنع فأقتلك فتكون شر قتيل أو تقتلني فتكون قتلت من دعاك إلى الله ورسوله ثم جعلت الرسل تتردد بينهما ثلاثة أيام هذا يدعو هذا وهذا يدعو هذا وجعل عيسى بن موسى يقف كل يوم من هذه الايام الثلاثه على الثنية عند سلع فينادي يا أهل المدينه إن دماءكم علينا حرام فمن جاءنا فوقف تحت رايتنا فهو آمن ومن خرج من المدينه فهو آمن ومن دخل داره فهو آمن ومن ألقى سلاحه فهو آمن فليس لنا في قتالكم أرب وانما نريد محمدا (10/88)
وحده لنذهب به إلى الخليفه فجعلوا يسبونه وينالون من أمه ويكلمونه بكلام شنيع ويخاطبونه مخاطبة فظيعه وقالوا له هذا ابن رسول الله صلى الله عليه و سلم معنا ونحن معه نقاتل دونه
فلما كان اليوم الثالث أتاهم في خيل ورجال وسلاح ورماح لم ير مثلها فناداه يا محمد إن أمير المؤمنين أمرني أن لا أقاتلك حتى أدعوك إلى الطاعة فان فعلت أمنك وقضى دينك وأعطاك أموالا وأراضي وإن أبيت قاتلتك فقد دعوتك غير مرة فناداه محمد إنه ليس لكم عندي إلا القتال فنشبت الحرب حينئذ بينهم وكان جيش عيسى بن موسى فوق أربعة آلاف وعلى مقدمته حميد بن قحطبه وعلى ميمنته محمد بن السفاح وعلى ميسرته داود بن كرار و على الساقة الهيثم بن شعبة ومعهم عدد لم ير مثلها وفرق عيسى اصحابه في كل قطر طائفه وكان محمد وأصحابه على عدة أصحاب أهل بدر واققتل الفريقان قتالا شديدا جدا وترجل محمد إلى الارض فيقال إنه قتل بيده من جيش عيسى بن موسى سبعين رجلا من أبطالهم وأحاط بهم أهل العراق فقتلوا طائفة من أصحاب محمد بن عبدالله بن حسن فاقتحموا عليهم الخندق الذي كانوا قد حفروه وعملوا أبوابا على قدره وقيل أنهم ردموه بحدائج الجمال حتى أمكنهم أن يجوزوه وقد يكونون فعلوا هذا موضع منه وهذا في موضع آخر والله أعلم
ولم تزل الحرب ناشبة بينهم حتى صليت العصر فلما صلى العصر نزلواإلى مسيل الوادي بسلع فكسر جفن سيفه وعقر فرسه وفعل أصحابه مثله وصبروا أنفسهم للقتال وحميت الحرب حينئذ جدا فاستظهر أهل العراق ورفعوا راية سوداء فوق سلع ثم دنواإلى المدينة فدخلوها ونصبوا راية سوداء فوق مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم
فلما رأى ذلك أصحاب محمد تنادوا أخذت المدينة وهربوا وبقي محمد في شرذمة قليلة جدا ثم بقي وحده وليس معه أحد وفي يده سيف صلت يضرب به من تقدم إليه فكان لا يقوم له شيء إلا أنامه حتى قتل خلقا أهل العراق من الشجعان ويقال إنه كان في يده يومئذ ذو الفقار ثم تكاثر عليه الناس فتقدم إليه رجل فضربه بسيفه تحت شحمة أذنه اليمنى فسقط لركبته وجعل يحمي نفسه ويقول ويحكم ابن نبيكم مجرم مظلوم وجعل حميد بن قحطبه يقول ويحكم دعوه لا تقتلوه فأحجم عنه الناس وتقدم إليه حميد بن قحطبة فحز رأسه وذهب به إلى عيسى بن موسى فوضعه بين يديه وكان حميد قد حلف أن يقتله متى رآه فما ادركه إلا كذلك ولو كان على حاله وقوته لمات استطاعه حميد ولا غيره من الجيش
وكان مقتل محمد بن عبدالله بن حسن عند أحجار الزيت يوم الاثنين بعد العصر لأربع عشرة ليلة خلت من رمضان سنة خمس واربعين ومائة وقال عيسى بن موسى لاصحابه حين وضع (10/89)
رأسه بين يديه ما تقولون فيه فنال منه أقوام وتكلموا فيه فقال رجل كذبتم والله لقد كان صواما قواما ولكنه خالف أمير المؤمنين وشق عصى المسلمين فقتلناه علىذلك فسكنوا حينئذ
وأما سيفه ذو الفقار فانه صارإلى بني العباس يتوارثونه حتى جربه بعضهم فضرب به كلبا فانقطع ذكره ابن جرير وغيره وقد بلغ المنصور في غبون هذا الامر ان محمدا فر من الحرب فقال هذا لا يكون فانا أهل بيت لا نفر
وقال ابن جرير حدثني عبدالله بن راشد أبو الحجاج قال إني لقائم على رأس المنصور وهو يسالني عن مخرج محمد وإذ بلغه أن عيسى بن موسى قد انهزم وكان متكئا فجلس فضرب بقضيب معه مصلاة وقال كلا وأين لعب صبياننا بها على المنابر ومشورة النساء ما إني لذلك بعد وبعث عيسى بن موسى بالشارة إلى المنصور مع القاسم بن حسن وبالرأس مع ابن أبي الكرام وأمر بدفن الجثة فدفن بالبقيع وأمر بأصحابه الذين قتلوا معه فصلبوا صفين ظاهر المدينة ثلاثه أيام ثم طرحوه على مقبرة اليهود عند سلع ثم نقلواإلى خندق هناك وأخذ أموال بني حسن كلها فسوغها له المنصور ويقال أنه ردها بعد ذلك إليهم حكاه ابن جرير ونودي في أهل المدينه بالامان فأصبح الناس في أسواقهم وترفع عيسى بن موسى في الجيش إلى الجرف من مطر أصاب الناس يوم قتل محمد وجعل ينتاب المسجد من الجرف وأقام بالمدينة إلى اليوم التاسع عشر من رمضان ثم خرج منها قاصدا مكة وكان بها الحسن بن معاوية من جهة محمد قد كتب إليه يقدم عليه فلما خرج من مكة وكان ببعض الطريق تلقته الاخبار بقتل محمد فاستمر فارا إلى البصرةإلى اخى محمد إبراهيم بن عبدالله الذي كان قد خرج بها ثم قتل بعد أخيه في هذه السنة على ما سنذكره
ولما جيء المنصور برأس محمد بن عبدالله بن حسن فوضع بين يديه أمر فطيف به في طبق أبيض ثم طيف به في الاقاليم بعد ذلك ثم شرع المنصور في استدعاء من خرج مع محمد من أشراف أهل المدينة فمنهم من قتله ومنهم من ضربه ضربا مبرحا ومنهم من عفا عنه ولما توجه عيسى إلى مكه استناب على المدينه كثير بن حصين فاستمر بها شهرا حتى بعث المنصور على نيابتها عبدالله بن الربيع فعاث جنده في المدينه فصاروا إذا اشتروا من الناس شيئا لا يعطونهم ثمنه وان طولبوا بذاك ضربو المطالب وخوفوه بالقتل فثار عليهم طائفه من السودان واجتمعوا ونفخوا في بوق لهم فاجتمع على صوته كل اسود المدينة وحملوا عليهم حملة واحدة وهم ذاهبون إلى الجمعة لسبع بقين من ذي الحجة من هذه السنة وقيل لخمس بقين من شوال منها فقتلوا من الجند طائفة كثيرة بالمزاريق وغيرها وهرب الامير عبد الله بن ربيع وترك صلاة الجمعه وكان رؤس السودان وثيق ويعقل ورمقه وحديا وعنقود ومسعر وأبو النار فلما رجع عبدالله بن الربيع ركب في جنوده (10/90)
والتقى مع السودان فهزموه أيضا فلحقوه بالقيع فألقى لهم رداءه يشغلهم فيه حتى نجا بنفسه ومن اتبعه فلحق ببطن نخل على ليلتين من المدينة ووقع السودان على طعام المنصور كان مخزونا في دار مروان قد قدم به في البحر فنهبوه ونهبوا ماللجند الذين في المدينة من دقيق وسويق وغيره وباعوا ذلك بأرخص ثمن وذهب الخبر إلى المنصور بما كان من أمر السودان وخاف من معرة ذلك فاجتمعوا وحطبهم ابن أبي سبره وكان مسجونا فصعد المنبر وفي رجليه القيود فحثهم على السمع والطاعة للمنصور وخوفهم شر ما صنعه مواليهم فاتفق رأيهم على ان يكفوا مواليهم ويفرقوهم ويذهبواإلى أميرهم فيردوه إلى عمله ففعلوا ذلك فسكن الامر وهدا الناس وأنطفأت الشرور ورجع عبدالله بن الربيع إلى المدينه فقطع يد وثيق وأبي النار ويعقل ومسعر
( ذكر خروج إبراهيم بن عبدالله بن حسن بالبصرة )
كان إبراهيم قد هرب إلى البصرة فنزل في بني ضبيعه من أهل البصرة في دار الحارث بن عيسى وكان لا يرى بالنهار وكان قدومه إليها بعد أن طاف بلادا كثيرة جدا وجرت عليه وعلى أخيه خطوب شديدة هائلة وانعقد أسباب هلاكهما في أوقات متعددة ثم كان آخر ما استقر امره بالبصرة في سنة ثلاث واربعين ومائة بعد منصرف الحجيج وقيل إن قدومه إليها كان في مستهل رمضان سنة خمس واربعين ومائة بعثه أخوه إليها بعد ظهوره بالمدينة قاله الوافدي قال وكان يدعو في السر إلى اخيه فلما قتل اخوه أظهر الدعوة إلى نفسه في شوال من هذه السنة والمشهور أنه قدمها في حياة أخيه ودعا لنفسه كما تقدم والله أعلم
ولما قدم البصرة نزل عند يحيى بن زياد بن حسان النبطي فاختفى عنده هذه المد كلها حتى ظهر في هذه السنة في دار أبي فروة وكان أول من بايعه نميله بن مرة وعبدالله بن سفيان وعبد الواحد بن زياد وعمر بن سلمه الهجيمي وعبيد الله بن يحيى بن حصين الرقاشي وندبوا الناس إليه فاستجاب له خلق كثير فتحول إلى دار أبي مروان في وسط البصرة واستفحل أمره وبايعه فئام من الناس وتفاقم الخطب به وبلغ خبره إلى المنصور فازداد غماإلى غمه بأخيه محمد وذلك لانه ظهر قبل مقتل أخيه وانما كان سبب تعجيله الظهور كتاب أخيه إليه فامتثل أمره ودعا نفسه إلى فانتظم أمره بالبصرة وكان نائبها من جهة المنصور سفيان بن معاوية وكان ممالئا لإبراهيم هذا في الباطن ويبلغه أخباره فلا يكترث بها ويكذب من أخبره ويود ان يتضح أمر إبراهيم وقد أمده المنصور بأميرين من اهل خراسان معهما الفا فارس وراجل فأنزلهما عنده ليتقوى بهما على محاربة إبراهيم وتحول المنصور من بغدا وكان قد شرع في عمارتها إلى الكوفة وجعل كلما اتهم رجلا من أهل الكوفة في أمر إبراهيم بعث إليه يقتله في الليل في منزله وكان الفرافصه (10/91)
العجلى قدهم بالوثوب بالكوفة فلم يمكنه ذلك لمكان المنصور بها وجعل الناس يقصدون البصرة من كل فج لمبايعة إبراهيم ويفدون إليها جماعات وفرادى وجعل المنصور يرصد لهم المسالح فيقتلونهم في الطريق ويأتونه برؤسهم فصلبها بالكوفة ليتعظ بها الناس وأرسل المنصورإلى حرب الراوندي وكان مرابطا بالجزيرة في الفي فارس لقتال الخوارج يستدعيه إليه إلى الكوفة فأقبل بمن معه فاجتاز ببلدة بها أنصار لإبراهيم فقالوا له لا ندعك تجتاز لأن المنصور إنما دعاك لقتال إبراهيم فقال ويحكم دعوني فأبوا فقاتلهم فقتل منهم خمسمائة وأرسل برؤسهم إلى المنصور فقال هذا أول الفتح ولما كانت ليلة الاثنين مستهل رمضان من هذه السنة خرج إبراهيم في الليل إلى مقبرة بني يشكر في بضعة عشر فارسا وقدم في هذه الليله أبو حماد الابرص في ألفي فارس مدادا لسفيان ابن معاويه فأنزلهم الامير في القصر ومال إبراهيم وأصحابه على دواب أولئك الجيش واسلحتهم فأخذوها جميعا فتقووا بها فكان أول ما أصاب ما أصبح الصباح إلا وقد استظهر جدا فصلى بالناس صلاة الصبح في المسجد الجامع والتف الخلائق عليه ما بين ناظر وناصر وتحصن سفيان بن معاويه نائب الخليفه بقصر الامارة وحبس عنده الجنود فحاصرهم إبراهيم فطلب سفيان إبن معاوية من إبراهيم الامان فأعطاه الامان ودخل إبراهيم قصر الاماره فبسطت له حصير ليجلس عليها في مقدم إيوان القصر فهبت الريح فقلبت الحصير ظهرا لبطن فتطير الناس بذلك فقال إبراهيم إنا نتطير وجلس على ظهر الحصير وأمر بحبس سفيان بن معاوية مقيدا وأراد بذلك براءة ساحته عند المنصور واستحوذ على ما كان في بيت المال فإذا فيه ستمائة الف وقيل الفا الف فقوى بذلك جدا
وكان في البصرة جعفر ومحمد ابنا سليمان بن علي وهما ابناء عم الخليفة المنصور فركبا في ستمائة فارس إليه فهزمهما وأركب إبراهيم المضاء بن القاسم في ثمانية عشر فارسا وثلاثين راجلا فهزم ستمائة فارس كانت لهما وآمن من بقي منهم وبعث إبراهيم إلى أهل الاهواز فبايعوه وأطاعوه وأرسل إلى نائبها مائتي فارس عليهم المغيره فخرج إليه محمد بن الحصين نائب البلاد في أربعة آلاف فارس فهزمه المغيره واستحوذ على البلاد وبعث إبراهيم إلى بلاد فارس فأخذها وكذلك واسط والمدائن والسواد واستفحل أمره جدا ولكن لما جاءه نعي أخيه محمد انكسر جدا وصلى بالناس يوم العيد وهو مكسور قال بعضهم والله لقد رأيت الموت في وجهه وهو يخطب الناس فنعىإلى الناس أخاه محمدا فازداد الناس حنقا على المنصور وأصبح فعسكر بالناس واستناب على البصرة نميله وخلف ابنه حسنا معه
ولما بلغ المنصور خبره تحير في أمره وجعل يتأسف على ما فرق من جنده في الممالك وكان قد (10/92)
بعث مع ابنه المهدي ثلاثين الفا إلى الري وبعث مع محمد بن الاشعث إلى افريقيه اربعين ألفا والباقون مع عيسى بن موسى بالحجاز ولم يبق مع المنصور سوى ألفي فارس وكان يأمر بالنيران الكثيره فتوقد ليلا فيحسب الناظر إليها أن ثم جندا كثيرا ثم كتب المنصور إلى عيسى بن موسى إذا قرأت كتابي هذا فأقبل من فورك ودع كل ما انت فيه فلم ينشب أن أقبل إليه فقال له اذهب إلى إبراهيم بالبصرة ولا يهولنك كثرة من معه فإنهم جملا بني هاشم المقتولان جميعا فابسط يدك وثق بما عندك وستذكر ما أقول لك فكان الامر كما قال المنصور وكتب المنصور إلى ابنه المهدي أن يوجه خازم بن خزيمه في أربعة الآف إلى الاهواز فذهب إليها فأخرج منها نائب إبراهيم وهو المغيرة وأباحها ثلاثة ايام ورجع المغيرة إلى البصرة وكذلك بعث إلى كل كورة من هذه الكور التي نقضت بيعته جندا يردون أهلها إلى الطاعة قالوا ولزم المنصور موضع مصلاه فلا يبرح منه ليلا ونهارا في ثياب بذلة قد اتسخت فلم يزل مقيما هناك بضعا وخمسين يوما حتى فتح الله عليه وقد قيل له في غبون ذلك إن نساءك قد خبثت نفسهن لغيبتك عنهن فانتهر القائل وقال ويحك ليست هذه أيام نساء حتى أرى رأس إبراهيم بين يدي أو يحمل رأسي إليه
وقال بعضهم دخلت على المنصور وهو مهموم من كثرة ما وقع من الشرور وهو لا يستطيع أن يتابع الكلام من كثرة همه وما تتفق عليه من الفتوق والخروق وهو مع ذلك أعد لكل أمر ما يسد خلله به وقد خرجت عن يده البصرة والاهواز وأرض فارس والمدائن وأرض السواد وفي الكوفة عنده مائة الف مغمدة سيوفها تنتظر به صيحة واحده فيثبتون مع إبراهيم وهو مع ذلك يعرك النوائب ويمرسها ولم تقعد به نفسه وهو كما قال الشاعر ... نفس عصام سودت عصاما ... وعلمته الكر والاقداما ... فصيرته ملكا هماما ...
وأقبل إبراهيم بعساكر من البصرةإلى الكوفة في مائة الف مقاتل فأرسل إليه المنصور عيسى ابن موسى في خمسة عشر الفا وعلى مقدمته حميد بن قحطبة في ثلاثة الاف وجاء إبراهيم فنزل في باخمرى في جحافل عظيمة فقال له بعض الأمراء إنك قد اقتربت من المنصور فلو انك سرت إليه بطائفة من جيشك لأخذت بقفاه فإنه ليس عنده من الجيوش ما يردون عنه وقال آخرون إن الاولى ان نناجز هؤلاء الذين بازائنا ثم هو في قبضتنا فثناهم ذلك عن الرأي الأول ولو فعله لتم لهم الامر ثم قال بعضهم خندق حول الجيش وقال آخرون إن هذا الجيش لا يحتاج إلى خندق حوله فترك ذلك ثم أشار بعضهم أن يبيت جيش عيسى بن موسى فقال إبراهيم انا لا أرى ذلك فتركه ثم أشار آخرون بأن يجعل جيشه كراديس فإن غلب كردوس ثبت الآخر وقال آخرون الاولى أن نقاتل صفوفا لقوله تعإلى إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا (10/93)
كأنهم بنيان مرصوص والامر لله ولو سارواإلى الكوفة وبيتوا الجيش أو جعل جيشه كراديس لتم له الامر مع تقدير الله تعالى
واقبل الجيشان فتصافوا في باخمرى وهي على ستة عشر فرسخا من الكوفة فاقتتلوا بها قتالا شديدا فانهزم حميد بن قحطبه بمن معه من المقدمه فجعل عيسى يناشدهم الله في الرجوع والكرة فلا يلوي عليه أحد وثبت عيسى بن موسى في مائة رجل من أهله فقيل له لو تنحيت من مكانك هذا لئلا يحطمك جيش إبراهيم فقال والله لا أزول منه حتى يفتح الله لى أو أقتل هاهنا وكان المنصور قد تقدم إليه بما أخبره بعض المنجمين أن الناس يكون لهم جولة عن عيسى بن موسى ثم يقومون إليه وتكون العاقبة له فاستمر المنهزمون ذاهبين إلى نهر بين جبلين فلم يمنكنهم خوضه فكروا راجعين بأجمعهم وكان أول راجع حميد بن قحطبة الذي كان أول من إنهزم ثم اجتلدوا هم وأصحاب إبراهيم فاقتتلوا قتالا شديدا وقتل من كلا الفريقين خلق كثير ثم انهزم أصحاب إبراهيم وثبت هو في خمسمائة وقيل في أربعمائة وقيل في تسعين رجلا واستظهر عيسى بن موسى وأصحابه وقتل إبراهيم في جملة من قتل واختلط رأسه مع رؤس اصحابه فجعل حميد يأتي بالرؤوس إلى عيسى بن موسى حتى عرفوا رأس إبراهيم فببعثوه مع البشير إلى المنصور وكان نيخت المنجم قد دخل على المنصور قبل مجيء الرأس فأخبره أن إبراهيم مقتول فلم يصدقه فقال يا أمير المؤمنين إن لم تصدقني فاحبسني فان لم يكن الأمر كما ذكرت فاقتلني فبينما هو عنده إذ جاء البشير بهزيمة جيش إبراهيم ولما جيء بالرأس تمثل المنصور ببيت معقر بن أوس بن حمار البارقي ... فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قرعينا بالاياب المسافر ...
وقيل ان المنصور لما رأى الرأس بكى حتى جعلت دموعه تسقط على الرأس وقال والله لقد كنت لهذا كارها ولكنك ابتليت بي وابتليت بك ثم أمر بالرأس فنصب بالسوق وأقطع نيخبت المنجم الكذاب الفي جريب
فهذا المنجم إن كان قد أصاب في قضية واحده فقد أخطأ في أشياء كثيرة فهم كذبه كفره وقد كان المنصور في ضلال مع منجمه هذا وقد ورث الملوك اعتقاد أقوال المنجمين وذلك ضلال لايجوز
وذكر صالح مولى المنصور قال لما جيء برأس إبراهيم جلس المنصور مجلسا عاما وجعل الناس يدخلون عليه فيهنئونه وينالون من إبراهيم ويقبحون الكلام فيه ابتغاء مرضاة المنصور والمنصور ساكت متغير اللون لا يتكلم حتى دخل جعفر بن حنظله البهراني فوقف فسلم ثم قال أعظم الله (10/94)
أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمك وغفر له مافرط من حقك قال فاصفر لون المنصور وأقبل عليه وقال له يا أبا خالد مرحبا وأهلا ههنا فاجلس فعلم الناس أن ذلك وقع منه موقعا جيدا فجعل كل من جاء يقول كما قال جعفر بن حنظله قال أبو نعيم الفضل بن دكين كان مقتل إبراهيم في يوم الخميس لخمس بقين من ذي الحجة من هذه السنة
( ذكر من توفي من الاعيان )
فمن اعيان أهل البيت عبدالله بن حسن وابناه محمد وإبراهيم وأخوه حسن بن حسن وأخوه لأمه محمد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان بن عفان الملقب بالديباج وقد تقدمت ترجمته
وأما أخوه عبدالله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي فتابعى روى عن أبيه وأمه فاطمة بنت الحسين وعبدالله بن جعفر بن أبي طالب وهو صاحبي جليل وغيرهم وروى عنه جماعة منهم سفيان الثورى والدراوردي ومالك وكان معظما عند العلماء وكان عابدا كبير القدر قال يحيى بن معين كان ثقة صدوقا وفد على عمر بن عبد العزيز فأكرمه ووفد عى السفاح فعظمه وأعطاه ألف الف درهم فلما ولى المنصور عامله بعكس ذلك وكذلك أولاده وأهله وقد مضوا جميعا والتقوا عند الله عز و جل وأخذه المنصور وأهل بيته مقيدين مغلولين مهانين من المدينة إلى الهاشمية فأودعهم السحن الضيق كما قدمنا فمات أكثرهم فيه فكان عبدالله بن حسن هذا أول من مات فيه بعد خروج محمد بالمدينه وقد قيل إنه قتل في السجن عمدا وكان عمره يوم مات خمسا وسبعين سنه وصلى عليه أخوه لأمه الحسن بن الحسن بن علي ثم مات بعده أخوه حسن فصلى عليه أخوه لأمه محمد بن عبدالله بن عمر بن عثمان بن عفان ثم قتل بعدهما وحمل رأسه إلى خراسان كما تقدم
وأما ابنه محمد الذي خرج بالمدينه فروى عن أبيه ونافع وعن أبي الزناد عن الاعرج عن أبي هريره في كيفية الهوى إلى السجود وحدث عنه جاعة ووثقه النسائي وابن حبان وقال البخاري لا يتابع على حديثه وقد ذكر أن أمه حملت به أربع سنين وكان طويلا أسمر سمينا أسمر ضخما ذا همه ساميه وسطوة عإليه وشجاعة باهرة قتل بالمدينة في منتصف رمضان سنة خمس وأربعين ومائه وله خمس وأربعون سنة وقد حملوا برأسه إلى المنصور وطيف به في الاقاليم
وأما أخوه إبراهيم فكان ظهوره بالبصرة بعد ظهور أخيه بالمدينة وكان مقتله بعد مقتل أخيه في ذي الحجة من هذه السنة وليس له شيء في الكتب السته وحكى أبو داود السجستاني عن أبي عوانه أنه قال كان إبراهيم وأخوه محمد خارجين قال داود ليس كما قال هذا رأي الزيديه قلت وقد حكى عن جماعة من العلماء والائمة أنهم مالواإلى ظهورهما (10/95)
( وفيها توفي من المشاهير والأعيان )
الاجلح بن عبدالله واسماعيل بن أبي خالد في قول وحبيب بن الشهيد وعبد الملك بن أبي سليمان وعمرو مولى عفره ويحيى بن الحارث الذماري ويحيى بن سعيد أبو حيان التيمى ورؤبة بن العجاج والعجاج لقب واسمه أبو الشعثاء عبدالله بن رؤبه وأبو محمد التميمي البصري الراجز بن الراجز ولكل منهما ديوان رجز وكل منهما بارع في فنه لا يجاري ولا يماري عالم باللغه وعبدالله بن المقفع الكاتب المفوه أسلم على يد عيسى ين علي عم السفاح والمنصور وكتب له وله رسائل وألفاظ صحيحه وكان متهما بالزندقه وهو الذي صنف كتاب كليله ودمنه ويقال بل هو الذي عربها من المجوسيةإلى العربية قال المهدي ما وجد كتاب زندقة إلا وأصله من ابن المقفع ومطيع بن إياس ويحيى بن زياد قالوا ونسي الجاحظ وهو رابعهم وكان مع هذا فاضلا بارعا فصيحا قال الاصمعي قيل لإبن المقفع من أدبك قال نفسي إذا رأيت من غيري قبيحا أبيته واذا رأيت حسنا أتيته ومن كلامه شربت من الخطب ريا ولم أضبط لها رويا فغاضت ثم فاضت فلا هي نظاما ولا نسيت غير كلاما
وكان قتل ابن المقفع على يد سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب بن أبي صفرة نائب البصرة وذلك أنه كان يعبث به ويسب أمه وإنما كان يسميه ابن المعلم وكان كبير الانف وكان إذا دخل عليه يقول السلام عليكما على سبيل التهكم وقال لسفيان بن معاويه مرة ما ندمت على سكوت قط فقال صدقت الخرس لك خير من كلامك ثم اتفق أن المنصور غضب على بن المقفع فكتب إلى نائبه سفيان بن معاويه هذا أن يقتله فأخذه فأحمى له تنورا وجعل يقطعه اربا اربا ويلقيه في ذلك التنور حتى حرقه كله وهو ينظرإلى اطرافه كيف تقطع ثم تحرق وقيل غيرذلك في صفة قتله قال ابن خلكان ومنهم من يقول ان ابن المقفع نسب إلى بيع القفاع وهي من الجريد كالزنبيل بلا آذان والصحيح أنه ابن المقفع وهو أبو دارويه كان الحجاج قد استعمله على الخراج فخان فعاقبه حتى تقفعت يداه والله أعلم
وفيها خرج الترك والخزربباب الابواب فقتلوا من المسلمين بأرمينيه جماعة كثيرة وحج بالناس في هذه السنة نائب المدينة عبدالله بن الربيع الحارثي وعلى الكوفة عيسى بن موسى وعلى البصرة مسلم بن قتيبة وعلى مصر يزيد بن حاتم
( ثم دخلت سنة ست وأربعين ومائة )
فيها تكامل بناء مدينة السلام ببغداد وسكنها المنصور في صفر من هذه السنة وكان مقيما قبل (10/96)
ذلك بالهاشمية المتاخمة للكوفة وكان قد شرع في بنائها في السنة الخارجة وقيل في سنة أربع وأربعين ومائة فالله وأعلم
وقد كان السبب الباعث له على بنائها أن الرواندية لما وثبوا عليه بالكوفة ووقاه الله شرهم بقيت منهم بقية فخشى على جنده فخرج من الكوفة يرتاد لهم موضعا لبناء مدينة فسار في الارض حتى بلغ الجزيرة فلم ير موضعا أحسن لوضع المدينة من موضع بغداد الذي هي فيه الآن وذلك بأنه موضع يغدا إليه ويراح بخيرات ما حوله في البر والبحر وهو محصن بدجلة والفرات من هنها وهنها لا يقدر أحد أن يتواصل إلى موضع الخليفة إلا على جسر وقد بات به المنصور قبل بنائه ليالى فرأى الرياح تهب به ليلا ونهارا من غير انجعار ولا غبار ورأى طيب تلك البقعه وطيب هوائها وقد كان في موضعها قرى وديور لعباد النصارى وغيرهم ذكر ذلك مفصلا بأسمائه وتعداده أبو جعفر ابن جرير فحينئذ أمر المنصور باختطاطها فرسموها له بالرماد فمشى في طرقها ومسالكها فأعجبه ذلك ثم سلم كل ربع منها لأمير يقوم على بنائه وأحضر من كل البلاد فعالا وصناعا ومهندسين فاجتمع عنده الوف منهم ثم كان هو أول من وضع لبنة فيها بيده وقال بسم الله والحمد لله والارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ثم قال أبنو على بركة الله وأمر ببنائها مدورة سمك سورها من أسفله خمسون ذراعا ومن أعلاه عشرون ذراعا وجعل لها ثمانية أبواب في السور البراني ومثلها في الجواني وليس كل واحد تجاه الآخر ولكن جعله أزور عن الذي يليه ولهذا سميت بغداد الزوراء لازورار أبوابها بعضها عن بعض وقيل سميت بذلك لانحراف دجلة عندها
وبنى قصر الامارة في وسط البلد ليكون الناس منه على حد سواء واختط المسجد الجامع إلى جانب القصر وكان الذي وضع قبلته الحجاج بن أرطاة وقال ابن جرير ويقال إن في قبلته انحرافا يحتاج المصلى فيه أن ينحرف إلى ناحية باب البصرة وذكر ان مسجد الرصافة أقرب إلى الصواب منه لأنه بنى قبل القصر وجامع المدينة بني على القصر فاختلت بسبب ذلك وذكر ابن جرير عن سليمان بن مجالد أن المنصور أراد أبا حنيفة النعمان بن ثابت على القضاء بها فأبى وأمتنع فحلف المنصور أن يتولى له وحلف أبو حنيفة أن لا يتولى له فولاه القيام بامر المدينة وضرب اللبن وأخذ الرجال بالعمل فتولى ذلك حتى فرغوا من استتمام حائط المدينة مما يلي الخندق وكان استتمامه في سنة أربع وأربعين ومائة قال بن جرير وذكر عن الهيثم بن عدي ان المنصور عرض على أبي حنيفة القضاء والمظالم فامتنع فحلف أن لا يقلع عنه حتى يعمل له فأخبر بذلك أبو حنيفة فدعاه بقصبة فعد اللبن ليبر بذلك يمين أبي جعفر ومات أبوحنيفة ببغداد بعد ذلك وذكر أن خالد ابن برمك هو الذي اشار على المنصور ببنائها وأنه كان مستحثا فيها للصناع وقد شاور المنصور (10/97)
الأمراء في نقل القصر الابيض من المدائن إلى بغداد لأجل قصر الامارة بها فقالوا لا تفعل فإنه آية في العالم وفيه مصلى أمير المؤمنين على بن أبي طالب فخالفهم ونقل منه شيئا كثيرا فلم يف ما تحصل منه بأجرة ما يصرف في حمله فتركه ونقل أبواب قصر واسط إلى أبواب قصر الامارة ببغداد وقد كان الحجاج نقل حجارته من مدينة هناك كانت من بناء سليمان بن داود وكانت الجن قد عملت تلك الابواب وهي حجارة هائلة وقد كانت الاسواق وضجيجها تسمع من قصر الامارة فكانت أصوات الباعة وهوسات الاسواق تسمع منه فعاب ذلك بعض بطارقة النصارى ممن قدم في بعض الرسائل من الروم فأمر المنصور بنقل الاسواق من هناك إلى موضع آخر وأمر بتوسعه الطرقات أربعين ذراعا في اربعين ذراعا ومن بنى في شيء من ذلك هدم
قال ابن جرير وذكر عن عيسى بن المنصور أنه قال وجدت في خزائن المنصور في الكتب أنه انفق على بناء مدينة السلام ومسجدها الجامع وقصر الذهب بها والاسواق وغير ذلك أربعة آلاف وثمانمائة وثلاثة وثمانين ألف درهم وكان أجرة الاستاذ من البنائين كل يوم قيراط فضة واجرة الصانع من الحبتين إلى الثلاثة قال الخطيب البغدادي وقد رأيت ذلك في بعض الكتب وحكى عن بعضهم أنه قال انفق عليه ثمانية عشر الف الف فالله اعلم
وذكر ابن جرير أن المنصور ناقص أحد المهندسين الذي بنى بيتا حسنا في قصر الامارة فنقصه درهما عما ساومه وانه حاسب بعض المستحثين على الذي كان عنده ففضل عنده خمسة عشر درهما فحبسه حتى جاء بها واحضرها وكان شحيحا قال الخطيب وبناها مدورة ولا يعرف في أقطار الارض مدينة مدورة سواها ووضع أساسها في وقت اختاره له نوبخت المنجم ثم ذكر عن بعض المنجمين قال قال لي المنصور لما فرغ من بناء بغداد خذ الطالع لها فنظرت في طالعها وكان المشتري في القوس فأخبرته بما تدل عليه النجوم من طول زمانها وكثرة عمارتها وانصباب الدنيا إليها وفقر الناس إلى ما فيها قال ثم قلت له وأبشرك يا أمير المؤمنين أنه لايموت فيها أحد من الخلفاء أبدا قال فرأيته يبتسم ثم قال الحمد لله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وذكر عن بعض الشعراء أنه قال في ذلك شعرا منه
... قضى ربها ان لايموت خليفة ... بها إنه ما شاء في خلقه يقضي ...
وقد قرره على هذا الخطأ الخطيب وسلم ذلك ولم ينقصه بشي ء بل قرره مع اطلاعه ومعرفته قال وزعم بعض الناس أن الامين قتل بدرب الانبار منها فذكرت ذلك للقاضي أبي القاسم على بن حسن التنوخى فقال محمد الامين لم يقتل بالمدينة إنما قد نزل في سفينةإلى دجلة ليتنزه فقبض عليه في وسط دجلة وقتل هناك وذكر ذلك الصولى وغيره (10/98)
وذكر عن بعض مشايخ بغداد أنه قال اتساع بغداد مائة وثلاثون جريبا وذلك بقدر ميلين في ميلين قال الامام أحمد بغداد من الصرا إلى باب التبن وذكر الخطيب أن بين كل بابين من أبوابها الثمانية ميلا وقيل أقل من ذلك وذكر الخطيب صفة قصر الأمارة وأن فيه القبة الخضراء طولها ثمانون ذراعا على رأسها تمثال فرس عليه فارس في يده رمح يدور به فأي جهة استقبلها واستمر مستقبلها علم السلطان أن في تلك الجهة قد وقع حدث فلم يلبث أن يأتي الخليفة خبره [ وهذه القبة وهي على مجلس في صدر إيوان المحكمة وطوله ثلاثون ذراعا وعرضه عشرون ذراعا وقد سقطت هذه القبة في ليلة برد ومطر ورعد وبرق ليلة الثلاثاء لسبع خلون من شهر جمادي الآخرة سنة تسع وعشرون وثلاثمائة ]
وذكر الخطيب البغدادي أنه كان يباع في بغداد في أيام المنصور الكبش الغنم بدرهم والحمل بأربعة دوانق وينادى على لحم الغنم كل ستين رطلا بدرهم ولحم البقر كل تسعين رطلا بدرهم والتمر كل ستين رطلا بدرهم والزيت ستة عشر رطلا بدرهم والسمن ثمانية أرطال بدرهم والعسل عشرة أرطال بدرهم ولهذا الامن والرخص كثر ساكنوها وعظم أهلوها وكثر الدارج في أسواقها وأزقتها حتى كان المار لا يستطيع أن يجتاز في أسواقها لكثرة زحام أهلها قال بعض الأمراء وقد رجع من السوق طال والله ما طردت خلف الأرانب في هذا المكان
وذكر الخطيب أن المنصور جلس يوما في قصره فسمع ضجة عظيمة ثم أخرى ثم أخرى فقال للربيع الحاجب ماهذا فكشف فإذا بقرة نفرت من جازرها هاربة في الاسواق فقال الرومي يا أمير المؤمنين إنك بنيت بناء لم يبنه أحد قبلك وفيه ثلاثة عيوب بعده من الماء وقرب الاسواق منه وليس عنده خضرة والعين خضرة تحب الخضرة فلم يرفع بها المنصور رأسا ثم أمر بتغيير ذلك ثم بعد ذلك ساق إليها الماء وبنى عندها البساتين وحول الاسواق من ثم إلى الكرخ
قال يعقوب بن سفيان كمل بناء بغداد في سنة ست واربعين ومائه وفي سنة سبع وخمسين حول الاسواق إلى باب الكرخ وباب الشعير وباب المحول وأمر بتوسيعه الاسواق أربعين ألفا وبعد شهرين من ذلك شرع في بناء قصره المسمى بالخلد فكمل سنة ثمان وخمسين ومائة وجعل أمر ذلك إلى رجل يقال له الوضاح وبنى للعامة جامعا للصلاة والجمعة لئلا يدخلواإلى جامع المنصور فأما دار الخلافة التي كانت ببغداد بعد ذلك فإنها كانت للحسن بن سهيل فانتقلت من بعده إلى بوران زوجة المأمون فطلبها منها المعتضد وقيل المعتمد فأنعمت له بها ثم استنظرته أياما حتى تنتقل منها فأنظرها فشرعت في تلك الايام في ترميمها وتبيضها وتحسينها ثم فرشتها (10/99)
بأنواع الفرش والبسط وعلقت فيها أنواع من الستور وأرصدت فيها ما ينبغي للخلافة من الجواري والخدم وألبستهم أنواع الملابس وجعلت في الخزائن ما ينبغي من أنواع الأطعمة والمأكل وجعلت في بعض بيوتها من أنواع الاموال والذخائر ثم أرسلت بمفاتيحها إليه ثم دخلها فوجد فيها ما أرصدته بها فهاله ذلك واستعظمه وكان أول خليفة سكنها وبنى عليها سورا ذكره الخطيب
وأما التاج فبناه المكتفي على دجلة وحوله القباب والمجالس والميدان والثريا وحير الوحوش وذكر الخطيب صفة دار الشجرة التي كانت في زمن المقتدر بالله وما فيها من الفرش والستور والخدم والمماليك والحشمة الباهرة والدنيا الظاهرة وأنها كان بها إحد عشر ألف طواشى وسبعمائة حاجب وأما المماليك فألوف لا يحصون كثرة وسيأتي ذكر ذلك مفصلا في أيامهم ودولتهم التي ذهبت كأنها أحلام نوم بعد سنة ثلثمائة وذكر الخطيب دار الملك التي بالمحرم وذكر الجوامع التي تقام فيها الجمعات وذكر الانهار والجسور التي بها وما كان في ذلك في زمن المنصور وما أحدث بعده إلى زمانه وأنشد لبعض الشعراء في جسور بغداد التي على دجله ... يوم سرقنا في خلسة ... في مجلس بفناء دجلة مفرد ... رق الهواء برقة وقدامه ... فغدوت رقا للزمان المسعد ... فكأن دجلة طيلسان أبيض ... والجسر فيها كالطراز الأسود ...
وقال آخر
... يا حبذا جسر على متن دجلة ... بإتقان تأسيس وحسن ورونق ... جمال وحسن للعراق ونزهة ... وسلوة من أضناه فرط التشوق ... تراه إذا ما جئته متأملا ... كسطر عبير خط في وسط مهرق ... أوالعاج فيه الابنوس مرقش ... مثال فيول تحتها أرض زئبق ...
وذكر الصولى قال ذكر أحمد بن أبي طاهر في كتاب بغداد أن ذراع بغداد من الجانبين ثلاثة وخمسون ألف جريب وأن الجانب الشرقي ستة وعشرون ألف جريب وسبعمائة وخمسون جريبا وأن عدة حماماتها ستون ألف حمام وأقل ما في كل حمام منها خمسة نفر حمامي وقيم وزبال ووقاد وسقاء وأن بازاء كل حمام خمسة مساجد فذلك ثلاثمائة ألف مسجد وأقل ما يكون في كل مسجد خمسة نفر يعني إماما وقيما ومأذونا ومأمومين ثم تناقضت بعد ذلك ثم دثرت بعد ذلك حتى صارت كأنها خربة صورة ومعنى على ماسيأتي بيانه في موضعه
وقال الحافظ أبو بكر البغدادي لم يكن لبغداد نظير في الدنيا في جلالة قدرها وفخامة أمرها وكثرة علامائها وأعلامها وتميز خواصها وعوامها وعظم أقطارها وسعة أطرارها (10/100)
وكثرة دورها ودروبها ومنازلها وشوارعها ومساجدها وحماماتها وخاناتها وطيب هوائها وعذوبة مائها وبرد ظلالها واعتدال صيفها وشتائها وصحة بيعها وخريفها وأكثر ما كانت عمارة وأهلا في أيام الرشيد ثم ذكرتنا قص أحوالها وهلم جراإلى زمانه قلت وكذا من بعده إلى زماننا هذا ولا سيما في أيام هولاكو بن تولى بن جنكر بن خان التركي الذي ووضع معالمها وقتل خليفتها وعالمها وخرب دورها وهدم قصورها وأباد الخواص والعوام من أهلها في ذلك العام وأخذ الأموال والحواصل ونهب الذراري والاصائل وأورث بها حزنا يعدد به في المبكرات والأصائل وصيرها في الاقاليم وعبرة لكل معتبر عليم وتذكره لكل ذي عقل مستقيم وبدلت بعد تلاوة القرآن بالنغمات والالحان وإنشاد الأشعار وكان وكان وبعد سماع الاحاديث النبوية بدرس الفلسفة اليونانية والمناهج الكلامية والتأويلات القرمطية وبعد العلماء بالأطباء وبعد الخليفة العباسي بشر الولاه من الاناسي وبعد الرياسة والنباهة بالخساسة والسفاهة وبعد الطلبة المشتغلين بالظلمة والعيارين وبعد العلم بالثقة والحديث وتعبير الرؤيا بالموشح ودوبيت ومواليا وما أصابهم ذلك إلا ببعض ذنوبهم وما ربك بظلام للعبيد والتحول منها في هذا الزمان لكثرة ما فيها من المنكرات الحسية والمعنوية وأكل الحشيشه والانتقال عنها إلى بلاد الشام الذي تكفل الله باهلها أفضل وأكمل وأجمل
وقد روى الامام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال ( لا تقوم الساعة حتى يتحول خيار أهل العراق إلى الشام وشرار أهل الشام إلى العراق )
( ما ورد في مدينة بغداد من الآثار وما فيها من الأخبار )
فيها أربع لغات بغداد وبغداد بأهمال الدال الثانية وإعجامها وبغدان بالنون آخره وبالميم مع ذلك أولا مغدان وهي كلمة أعجمية قيل أنها مركبة من بغ وداد فقيل بغ بستان وداد اسم رجل وقيل بغ اسم صنم وقيل شيطان وداد عطية الضم ولهذا كره عبدالله بن المبارك والأصمعي وغيرهما تسميتها بغداد وإنما يقال لها مدينة السلام وكذا أسماها بانيها أبو جعفر المنصور لأن دجلة كان يقال لها وادي السلام ومنهم من يسميها الزوراء
فروى الخطيب البغدادي من طريق عمار بن سيف وهومتهم قال سمعت عاصم الأحول يحدث عن سفيان الثوري عن أبي جرير بن عبدالله فال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( تبنى مدينة بين دجلة ودجيل وقطربل والصراة تجبي إليها خزائن الارض وملوكها جبابرة فلهى أسرع ذهابا في الارض من الوتد الحديد في الارض الرخوة ) قال الخطيب وقد رواه عن عاصم الأحول سيف ابن أخت سفيان الثوري وهو أخو عمار بن يوسف قلت وكلاهما ضعبيف متهم يرمى بالكذب ومحمد بن جابر اليماني ضعيف وأبو شهاب الحناطي ضعيف وروى عن سفيان الثورى (10/101)
عن عاصم من طرق ثم أسند ذلك كله وأورد من طريق يحيى بن معين عن يحيى بن أبي كثير عن عمار بن سيف عن الثوري عن عاصم عن أبي عثمان عن جرير عن النبي صلى الله عليه و سلم قال أحمد ويحيى ليس لهذا الحديث أصل وقال أحمد ما حدث به إنسان ثقة وقد علله الخطيب من جميع طرقه وساقه أيضا من طريق عمار بن سيف عن الثوري عن أبي عبيده حميد الطويل عن أنس بن مالك ولا يصح أيضا ومن طريق عمر بن يحيى عن سفيان عن قيس بن مسلم عن ربعي عن حذيفه مرفوعا بنحوه ولا يصح ومن غير وجه عن على بن أبي طالب وابن مسعود وثوبان وابن عباس وفي بعضهما ذكر السفياني ( وأنه يخربها ) ولا يصح اسناد شيء من هذه الاحاديث وقد أوردها الخطيب باسانيدها وألفاظها وفي كل منها نكاره وأقرب ما فيها عن كعب الاحبار وقد جاء في آثار عن كتب متقدمة أن بانيها يقال له مقلاص وذو الدوانيق لبخله
فصل ( محاسن بغداد ومساويها وما روي في ذلك عن الائمة )
قال يونس بن عبدالله الأعلى الصدفي قال لي الشافعي هل رأيت بغداد قلت لا فقال ما رأيت الدنيا وقال الشافعي ما دخلت بلدا قط إلا عددته سفرا إلا بغداد فإني حين دخلتها عددتها وطنا وقال بعضهم الدنيا بادية وبغداد حاضرتها وقال إبن عليه ما رأيت أعقل في طلب الحديث من أهل بغداد ولا أحسن من دعه منهم وقال ابن مجاهد رأيت أبا عمر وبن العلاء في النوم فقلت ما فعل الله بك فقال دعني من هذا من أقام ببغداد على السنة والجماعة ومات نقل من الجنة إلى الجنة وقال أبو بكر بن عياش الاسلام ببغداد وإنها لصياد تصيد الرجال ومن لم يرها لم يرا الدنيا وقال أبو معاوية بغداد دار الدنيا والآخرة وقال بعضهم من محاسن الاسلام يوم الجمعة ببغداد وصلاة يوم الجمعة ببغداد وصلاة التراويح بمكة ويوم العيد بطرسوس قال الخطيب من شهد يوم الجمعة بمدينة السلام عظم الله في قلبه محل الاسلام لأن مشايخنا كانوا يقولون يوم الجمعة ببغداد كيوم العيد في غيرها من البلاد وقال بعضهم كنت أواظب على الجمعة بجامع المنصور فعرض لي شغل فصليت في غيره فرأيت في المنام كأن قائلا يقول تركت الصلاة في جامع المدينة وإنه ليصلي فيه كل جمعة سبعون وليا وقال آخر أردت الانتقال من بغداد فرأيت كأن قائلا يقول في المنام أتنتقل من بلد فيه عشرة آلاف ولي لله عز و جل وقال بعضهم رأيت كأن ملكين أتيا بغداد فقال أحدهما لصاحبه اقبلها فقد حق القول عليها فقال الآخر كيف أقلب ببلد يختم فيها القرآن كل ليلة خمسة الآف ختمه وقال أبو مسهر عن سعيد بن عبد العزيز بن سليمان بن موسى قال إذا كان علم الرجل حجازيا وخلقه عراقيا وصلاته شامية فقد كمل وقالت زبيدة لمنصور (10/102)
النمرى قل شعرا تحبب فيه بغداد الي فقد إختار عليها الرافقه فقال ... ماذا ببغداد من طيب الافانين ... ومن مناره للدنيا وللدين ... تحي الرياح بها المرضى إذا نسمت ... وجوشت بين أغصان الرياحين ...
قال فأعطته ألفي دينار وقال الخطيب وقرأت في كتاب طاهر بن مظفر بن طاهر الخازن بخطه من شعره ... سقى الله صوب الغاديات محلة ... ببغداد بين الكرخ فالخلد فالجسر ... هي البلدة الحسناء خصت لأهلها ... بأشياء لم يجمعن مذكن في مصر ... هواء رقيق في اعتدال وصحة ... وماء له طعم ألذ من الخمر ... ودجلتها شطان قد نظما لنا ... بتاج إلى تاج وقصرإلى قصر ... تراها كمسك والمياه كفضة ... وحصبانها مثل اليواقيت والدر ...
وقد أورد الخطيب في هذا أشعار كثيرة وفيما ذكرنا كفاية وقد كان الفراغ من بناء بغداد في هذه السنة أعني سنة ست وأربعين ومائة وقيل في سنة ثمان وأربعين وقيل إن خندقها وسورها كملا في سنة سبع وأربعين ولم يزل المنصور يزيد فيها ويتأنق في بنائها حتى آخر ما بنى فيها قصر الخلد فظن أنه يخلد فيها أوأنها تخلد فلا تخرب فعند كماله مات وقد خربت بغداد مرات كما سيأتي بيانه
قال ابن جرير وفي هذه السنة عزل المنصور سلم بن قتيبة عن البصرة وولى عليها محمد بن سليمان بن علي وذلك لأنه كتب إلى سلم يأمره بهدم بيوت الذين بايعوا إبراهيم بن عبدالله بن حسن فتوانى في ذلك فعزله وبعث ابن عمه محمد بن سليمان فعاث بها فسادا وهدم دورا كثيرة وعزل عبدالله بن الربيع عن إمرة المدينة وولى عليها جعفر بن سليمان وعزل عن مكه السرى بن عبدالله وولى عليها عبد الصمد بن علي قال وحج بالناس في هذه السنة عبد الوهاب بن إبراهيم ابن محمد بن علي قاله الواقدي وغيره قال وفيها غزا الصائفة من بلاد الروم جعفر بن حنظله البهرني وفيها توفي من الاعيان أشعث بن عبد الملك وهشام السائب الكلبي وهشام بن عروة ويزيد ين أبي عبيد في قول
( ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائة )
فيها أغار اشترخان الخوارزمي في جيش من الاتراك على ناحية أرمينية فدخلوا تفليس وقتلوا خلقا كثير وأسروا كثيرا من المسلمين وأهل الذمة وممن قتل يومئذ حرب بن عبدالله الراوندي الذي تنسب إليه الجربية ببغداد وكان مقيما بالموصل في الفين لمقابلة الخوارج فأرسله المنصور (10/103)
لمساعدة المسلمين ببلاد أرمينيه وكان في جيش جبريل بن يحيى فهزم جبريل وقتل حرب رحمه الله وفي هذه السنة كان مهلك عبد الله بن علي عم المنصور
وهو الذي أخذ الشام من أيدي بني امية وكان عليها واليا حتى مات السفاح فلما مات دعا إلى نفسه فبعث إليه المنصور أبا مسلم الخراساني فهزمه أبومسلم وهرب عبدالله إلى عند أخيه سليمان ابن علي والي البصرة فاختفى عنده مدة ثم ظهر المنصور على أمره فاستدعى به وسجنه فلما كان في هذه السنه عزم المنصور على الحج فطلب عمه عيسى بن موسى وكان ولي العهد من بعد المنصور عن وصية السفاح وسلم إليه عمه عبدالله بن علي وقال له إن هذا عدوي وعدوك فاقتله في غيبتي عنك ولاتتوانى وسار المنصور إلى الحج وجعل يكتب إليه من الطريق يستحثه في ذلك ويقول له ماذا صنعت فيما أودعت اليك منه مرة بعد مرة وأما عيسى بن موسى فانه لما تسلم عمه حار في أمره وشاور بعض أهله فأشار بعضهم ممن له رأي أن المصلحة تقتضي أن لا تقتله وأبقه عندك وأظهر قتله فأنا نخشى أن يطالبك به جهرة فتقول قتله فيأمر بالقود فتدعى أنه أمرك بقتله بالسر بينك وبينه فتعجز عن إثبات ذلك فيقتلك به وانما يريد المنصور قتله وقتلك ليستريح منكما معا فتغير عيسى بن موسى عند ذلك وأخفى عن عمه وأظهر أنه قتله فلما رجع المنصور من الحج أمر أهله أن يدخلوا عليه ويشفعوا في عمه عبدالله بن علي والحوا في ذلك فأجابهم إلى ذلك واستدعى عيسى بن موسى وقال له إن هؤلاء شفعوا في عبدالله بن علي وقد أجبتهم إلى ذلك فسلمه إليهم فقال عيسى وأين عبدالله ذاك قتلته منذ أمرتني فقال المنصور لم آمرك بذلك وجحد ذلك وأن يكون تقدم إليه منه أمره في ذلك فأخضر عيسى الكتب التي كتب إليه المنصور مرة بعد مرة في ذلك فأنكر أن يكون أراد ذلك وصمم على الانكار وصمم عيسى ابن موسى أنه قد قتله فأمر المنصور عند ذلك بقتل عيسى بن موسى قصاصا بعبد الله فخرج به بنو هاشم ليقتلوه فلما جاؤا بالسيف قال رودني إلى الخليفة فردوه إليه فقال له إن عمك حاضر ولم أقتله فقال هلم به فأحضر فسقط في يد الخليفة وأمر بسجنه بدار جدرانها مبنية على ملح فلما كان الليل أرسل على جدرانها الماء فسقط عليه البناء فهلك ثم أن المنصور خلع عيسى بن موسى عن ولاية العهد وقدم عليه ابنه المهدي وكان يجلسه فوق عيسى بن موسى عن يمينه ثم كان لا يلتفت إلى عيسى بن موسى ويهينه في الإذن والمشوره والدخول عليه والخروج من عنده ثم مازال يقصيه ويبعده ويتهدده ويتوعده حتى خلع نفسه بنفسه وبايع لمحمد بن منصور وأعطاه المنصور على ذلك نحوا من أثني عشر ألف ألف درهم وانصلح أمر عيسى ين موسى وبنيه عند (10/104)
المنصور وأقبل عليه بعدما كان قد أعرض عنه وكان قد جرت بينهما قبل ذلك مكاتبات في ذلك كثيرة جدا ومراودات في تمهيد البيعة لابنه المهدي وخلع عيسى نفسه وان العامة لا يعدلون بالمهدي أحدا وكذلك الأمراء والخواص ولم يزل به حتى أجاب إلى ذلك مكرها فعوضه عن ذلك ما ذكرنا وسارت بيعة المهدي في الآفاق شرقا وغربا وبعدا وقربا وفرح المنصور بذلك فرحا شديدا واستقرت الخلافة في ذريته إلى زماننا هذا فلم يكن الخليفة من بني العباس إلا من سلالته ذلك تقدير العزيز العليم
وفيها توفي عبيد الله بن عمر العمري وهاشم بن وهشام بن حسان صاحب الحسن البصري
( ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائة )
فيها بعث المنصور حميد بن قحطبة لغزو الترك الذين عاثوا في السنة الماضية ببلاد تفليس فلم يجد منهم أحدا فإنهم انشمرواإلى بلادهم وحج بالناس فيها جعفر بن أبي جعفر ونواب البلاد فيها هم المذكرون في التي قبلها وفيها توفي جعفر بن محمد الصادق المنسوب إليه كتاب اختلاج الاعضاء وهو مكذوب عليه وفيها توفي سليمان بن مهران الأعمش أحد مشايخ الحديث في ربيع الاول منها وعمر بن الحارث والعوام بن حوشب والزبيدي ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ومحمد بن عجلان
( ثم دخلت سنة تسع وأربعين ومائة )
فيها فرغ من بناء سور بغداد وخندقها وفيها غزا الصائفه العباس بن محمد فدخل بلاد الروم ومعه الحسين بن قحطبة ومحمد بن الاشعث ومات محمد بن الاشعث في الطريق وفيها حج بالناس محمد بن إبراهيم بن علي وولاه المنصورعلى مكة والحجاز عوضا عن عمه عبد الصمد بن علي وعمال الامصار فيها هم الذين كانوا في السنة قبلها وفيها توفي زكريا بن أبي زائدة وكهمس ين الحسن والمثنى بن الصباح وعيسى بن عمر أبو عمروالثقفي البصري النحوي شيخ سيبويه يقال إنه من موالي خالد بن الوليد وإنما نزل في ثقيف فنسب إليهم وكان اماما كبيرا جليلا في اللغة والنحو والقراآت أخذ ذلك عن عبيد الله بن كثير وابن المحيص وعبدالله بن أبي اسحاق وسمع الحسن البصري وغيرهم وعنه الخليل بن أحمد الاصمعي وسيبويه ولزمه وعرف به وانتفع به وأخذ كتابه الذي سماه بالجامع فزاد عليه وبسطه فهو كتاب سيبويه اليوم وإنما هو كتاب شيخه وكان سيبويه يسأل شيخه الخليل بن أحمد عما أشكل عليه فيه فسأله الخليل أيضا عما صنف عيسى بن عمر فقال جمع بضعا وسبعين كتابا ذهبت كلها إلا كمال (10/105)
وهو بأرض فارس وهو الذي اشتغل فيه وأسألك عن غوامضه فأطرق الخليل ساعة ثم أنشد ... ذهب النحو جميعا كله ... غيرما أحدث عيسى بن عمر ... ذاك إكمال وهذا جامع ... وهما للناس شمس وقمر ...
وقد كان عيسى يغرب ويتقعر في عبارته جدا وقد حكى الجوهري عنه في الصحصاح أنه سقط يوما عن حماره فاجتمع عليه الناس فقال مالكم تكأ كأتم على تكأ كأتم على تكأ كؤكم ذي مرة افرنقعوا عني معناه مالكم تجمعتم علي تجمعكم على مجنون انكشفوا عني وقال غيره كان به ضيق نفس مسقط بسببه فاعتقد الناس أنه مصروع فجعلوا يعودونه ويقرؤن عليه فلما أفاق من غشيته قال ماقال فقال بعضهم إني حسبته يتكلم بالفارسية وذكر ابن خلكان أنه كان صاحبا لأبي عمر بن العلاء وأن عيسى بن عمر قال يوما لأبي عمرو بن العلاء أنا أفصح من معد بن عدنان فقال له أبو عمرو كيف تقرأ هذا البيت ... قد كن يخبأن الوجوه تسترا ... فاليوم حين بدأن للنظار ...
أو بدين فقال بدين فقال أبو عمرو أخطأت ولو قال بدأن لأخطأ أيضا وإنما أراد أبو عمرو تغليطه وإنما الصواب بدون من بدا يبد وإذا ظهر وبدأ يبدأ إذا شرع في الشيء
( ثم دخلت سنة خمس ومائة من الهجرة )
فيها خرج رجل من الكفرة يقال له استاذسيس في بلاد خراسان فاستحوذ على أكثرها والتف معه نحو ثلاثمائة الف وقتلوا المسلمين هنالك خلقا كثير وهزموا الجيوش في تلك البلاد وسبو خلقا كثير وتحكم الفساد بسببهم وتفاقم أمرهم فوجه المنصور خازم بن خزيمةإلى ابنه المهدي ليوليه حرب تلك البلاد ويضم إليه من الاجناد ما يقاوم أولئك فنهض المهدي في ذلك نهضة هاشمية وجمع الخازم بن خزيمة الامرة على تلك البلاد والجيوش وبعثه نحو من أربعين ألفا فسار إليهم وما زال يراوغهم ويماكرهم ويعمل الخديعة فيهم حتى فاجأهم بالحرب وواجههم بالطعن والضرب فقتل منهم نحو سبعين الفا وأسر منهم أربعة عشر ألفا وهرب ملكهم استاذسيس فتحرز في جبل فجاء خازم إلى تحت الجبل وقتل اولئك الاسرى كلهم ولم يزل يحاصره حتى نزل على حكم بعض الأمراء فحكم أن يقيد بالحديد هو وأهل بيته وأن يعتق من معه من الأجناد وكانوا ثلاثين الفا ففعل خازم ذلك كله وأطلق لكل واحد ممن كان مع استاذسيس ثوبين وكتب بما وقع من الفتح إلى المهدي فكتب المهدي بذلك إلى ابيه المنصور وفيها عزل الخليفة عن إمرة المدينة جعفر بن سليمان وولاها الحسن بن زيد بن الحسن ابن الحسن بن علي بن أبي طالب وفيها حج بالناس عبد الصمد بن عم الخليفة وتوفي فيها (10/106)
جعفر ابن أمير المؤمنين المنصور ودفن أولا بمقابر بني هاشم من بغداد ثم نقل منهاإلى موضع آخر وفيها توفي عبدالملك بن عبد العزيز بن جريج أحد أئمة أهل الحجاز ويقال إنه أول من جمع السنن وعثمان بن الاسود وعمر بن محمد بن زيد وفيها توفي الامام أبو حنيفة
( ذكر ترجمتة )
هو الامام أبو حنيفة وأسمه النعمان بن ثابت التيمي مولاهم الكوفي فقيه العراق وأحد أئمة الاسلام والسادة الاعلام وأحد أركان العلماء وأحد الائمة أصحاب المذاهب المتنوعة وهو أقدمهم وفاة لأنه أدرك عصر الصحابة ورأى أنس بن مالك قيل وغيره وذكر بعضهم أنه روى عن سبعة من الصحابة فالله أعلم
وروى عن جماعة من التابعين منهم الحكم وحماد بن أبي سليمان وسلمه بن كهل وعامر الشعبي وعكرمة وعطاء وقتادة والزهرى ونافع مولى ابن عمر ويحيى ين سعيد الانصاري وأبو اسحاق السبيعي وروى عنه جماعة منهم ابنه حماد وإبراهيم بن طهمان واسحاق بن يوسف الازرق وأسد بن 2 عمر والقاضي والحسن بن زياد اللؤلؤي وحمزة الزيات وداود الطائي وزفر وعبدالرزاق وأبو نعيم ومحمد بن الحسن الشيباني وهشيم ووكيع وأبو يوسف القاضي وقال يحيى ين معين كان ثقة وكان من أهل الصدق ولم يتهم بالكذب ولقد ضربه ابن هبيرة على القضاء فأبى أن يكون قاضيا وقد كان يحيى بن سعيد يختار قوله في الفتوى وكان يحيى يقول لانكذب الله ماسمعناه أحسن من رأي أبي حنيفة وقد أخذ بأكثر أقواله وقال عبدالله بن المبارك لولا أن الله أعانني بأبي حنيفة وسفيان الثورى لكنت كسائر الناس وقال في الشافعي رأيت رجلا لو كلمك في هذا السارية أن يجعلها ذهبا لقام بحجته وقال الشافعي من أراد الفقه فهو عيال على أبي حنيفة ومن أراد السير فهو عيال على محمد بن اسحاق ومن أراد الحديث فهو عيال على مالك ومن أراد التفسير فهو عيال على مقاتل بن سليمان وقال عبدالله بن داود الحربي ينبغي للناس أن يدعوا في صلاتهم لأبي حنيفة لحفظه الفقه والسنة عليهم وقال سفيان الثوري وابن المبارك كان أبو حنيفة أفقه أهل الارض في زمانه وقال أبو نعيم كان صاحب غوص في المسائل وقال مكي بن إبراهيم كان أعلم أهل الارض وروى الخطيب بسنده عن أحمد بن عمرو أن أبا حنيفة كان يصلي بالليل ويقرأ القرآن كل ليلة ويبكي حتى يرجمه جيرانه ومكث أربعين سنة يصلي الصبح بوضوء العشاء وختم القرآن في الموضع الذي توفى فيه سبعين الف مرة وكانت وفاته في رجب من هذه السنة أعني سنة خمسين ومائة وعن ابن معين سنة إحدى وخمسين وقال غيره سنة ثلاث وخمسين والصحيح الاول (10/107)
وكان مولده في سنة ثمانين فتم له من العمر سبعون سنه وصلى عليه ببغداد ست مرات لكثرة الزحام وقبره هناك رحمه الله
( ثم دخلت سنة احدى وخمسين ومائة )
فيها عزل المنصور عمر بن حفص عن السند وولى عليها هشام بن عمرو التغلبي وكان سبب عزله عنها أن محمد بن عبدالله بن حسن لما ظهر بعث ابنه عبدالله الملقب بالاشتر ومعه جماعة بهدية وخيول عتاق إلى عمر بن حفص هذاإلى السند فقبلها فدعوه إلى دعوة أبيه محمد بن عبدالله بن حسن في السر فأجابهم إلىذلك ولبسوا البياض ولما جاء خبر مقتل محمد بن عبدالله بالمدينة سقط في آيديهم وأخذوا في الاعتذار إلى عبدالله بن محمد فقال له عبدالله إني أخشى على نفسي فقال إني سأبعثك إلى ملك من المشركين في جوار أرضنا وانه من أشد الناس تعظيما لرسول الله صلى الله عليه و سلم وانه متى عرفك أنك من سلالته أحبك فأجابه إلى ذلك وسار عبدالله بن محمد إلى ذلك الملك وكان عنده آمنا وصار عبدالله يركب في موكب الزيدية ويتصيد في جحفل من الجنود وانضم إليه خلق وقدم عليه طوائف من الزيدية
وأما المنصور فإنه بعث يعتب على عمر بن حفص نائب السند فقال رجل من الأمراء إبعثني إليه واجعل القضية مسندةإلى فإني سأعتذر إليه من ذلك فإن سلمت وإلا كنت فداءك وفداء من عندك من الأمراء فأرسله سفيرا في القضية إلى المنصور فلما وقف بين يدي المنصور أمر بضرب عنقه وكتب إلى بن حفص بعزله عن السند وولاه بلاد إفريقية عوضا عن أميرها ولما وجه المنصور هشام ين عمرو إلى السند أمره أن يجتهد في تحصيل عبدالله بن محمد فجعل يتوانى في ذلك فبعث إليه المنصور يستحثه في ذلك ثم اتفق الحال أن سيفا أخا هشام بن عمرو لقي عبدالله بن محمد في بعض الاماكن فاقتتلوا فقتل عبدالله وأصحابه جميعا واشتبه عليهم مكانه في القتلى فلم يقدروا عليه فكتب هشام بن عمرو إلى المنصور يعلمه بقتله فبعث يشكره على ذلك ويأمر بقتال الملك الذي آواه ويعلمه أن عبدالله كان قد تسرى بجارية هنالك وأولدها ولدا أسماه محمدا فاذا ظفرت بالملك فاحتفظ بالغلام فنهض هشام بن عمرو إلى ذلك الملك فقاتله فغلبه وقهره على بلاده وأمواله وحواصله وبعث بالفتح والاخماس وبذلك الغلام والملك إلى المنصور ففرح النصور بذلك وبعث الغلام إلى المدينة وكتب المنصورإلى نائبها يعلمة بصحة نسبه
وفي هذه السنة قدم المهدي بن المنصور على أبيه من خراسان فتلقاه أبوه والامراء والأكابر (10/108)
إلى اثناء الطريق وقدم بعد ذلك نواب الشام وغيرها للسلام عليه وتهنئته بالسلامة والنصر وحمل إليه من الهدايا والتحف ما لا يحد ولا يوصف
( بناء الرصافة )
قال ابن جرير وفي هذه السنة شرع المنصور في بناء الرصافة لابنه المهدي بعد مقدمه من خراسان وهي في الجانب الشرقي من بغداد وجعل لها سورا وخندقا وعمل عندها ميدانا وبستانا وأجرى إليها الماء من نهر المهدي قال ابن جرير
وفيها جدد المنصور البيعة لنفسه ثم لولده المهدي من بعده ولعيسى بن موسى من بعدهما وجاء الأمراء والخواص فبايعوا وجعلوا يقبلون يد المنصور ويد ابنه ويلمسون يد عيسى بن موسى ولا يقبلونها قال الواقدي وولى المنصور معن بن زائدة سجستان
وحج بالناس فيها محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي وهو نائب مكة والطائف وعلى المدينة الحسن بن زيد وعلى الكوفة محمد بن سليمان وعلى البصرة جابر بن زيد الكلابي وعلى مصر يزيد بن حاتم ونائب خراسان حميد بن قحطبة ونائب سجستان معن بن زائده وغزا الصائفة فيها عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمد
وفيها توفي حنظلة بن أبي سفيان وعبدالله بن عون ومحمد بن اسحاق بن يسار صاحب السيرة النبوية التي جمعها وجعلها علما يهتدى به وفخرا يستجلى به والناس كلهم عيال عليه في ذلك كما قال الشافعي وغيره من الائمة
( ثم دخلت سنة ثنتين وخمسين ومائة )
فيها عزل المنصور عن إمرة مصر يزيد ين حاتم وولاها محمد بن سعيد وبعث إلى نائب إفريقية وكان قد بلغه أنه عصى وخالف فلما جيء به أمر بضرب عنقه وعزل عن البصرة جابر ابن زيد الكلابي وولاها يزيد بن منصور وفيها قتلت الخوارج معن بن زائدة بسجستان وفيها توفي عباد بن منصور ويونس بن يزيد الايلي
( ثم دخلت سنة ثلاث وخمسون ومائة )
وفيها غضب المنصور على كاتبه أبي أيوب المورباني وسجنه وسجن أخاه خالدا وبنى أخيه الاربعة سعيد ومسعودا ومخلدا ومحمدا وطالهم بالأموال الكثيرة وكان سبب ذلك ما ذكره ابن عساكر في ترجمة أبي جعفر المنصور وهو انه كان في زمن شيبته قد ورد الموصل وهو فقير لا شيء له ولا معه شيء فأجر نفسه من بعض الملاحين حتى اكتسب شيئا تزوج به امرأة ثم جعل يعدها ويمنيها أنه من بيت سيصير الملك إليهم سريعا فاتفق حبلها منه ثم تطلبه بنو أمية فهرب عنها (10/109)
وتركها حاملا ووضع عندها رقعة فيها نسبته وأنه عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس وأمرها إذا بلغها أمره أن تأتيه وإذا ولدت غلاما أن تسميه جعفرا فولدت غلاما فسمته جعفرا ونشأ الغلام فتعلم الكتابة وغوى العربية والأدب وأتقن ذلك إتقانا جيدا ثم آل الأمر إلى بني العباس فسألت عن السفاح فاذا هو ليس صاحبها ثم قام المنصور وصارالولد إلى بغداد فاختلط بكتاب الرسائل فأعجب به أيوب المروياني صاحب ديوان الانشاء للمنصور وحظي عنده وقدمه على غيره فاتفق حضوره معه بين يدي الخليفة فجعل الخليفة يلاحظه ثم بعث يوما الخادم ليأتيه بكاتب فدخل ومعه الغلام فكتب بين يدي المنصور كتابا وجعل الخليفة ينظر إليه ويتأمله ثم سأله عن سنه فأخبره أنه جعفر فقال ابن من فسكت الغلام فقال مالك لا تتكلم فقال ياأمير المؤمنين إن من خبري كيت وكيت فتغير وجه الخليفة ثم سأله عن أمه فأخبره وسأله عن أحوال بلد الموصل فجعل يخبره والغلام يجيب ثم قام إليه الخليفة فاحتضنه وقال انت إبني ثم بعثه بعقد ثمين ومال جزيل وكتاب إلى أمه يعلمها بحقيقة الامر وحال الولد وخرج الغلام ومعه ذلك من باب سر الخليفة فأحرز ذلك ثم جاءإلى أبي أيوب فقال ما بطأ بك عند الخليفة فقال إنه استكتبني في رسائل كثيره ثم تقاولا ثم فارقه الغلام مغضبا ونهض من فوره فاستأجر إلى الموصل ليعلم أمه ويحملها وأهلهاإلى بغداد إلى ابيه الخليفة فسار مراحل ثم سأل عنه أبو أيوب فقيل سافر فظن أبو أيوب أنه أفشى شيئا من أسراره إلى الخليفة وفر منه فبعث في طلبه رسولا وقال حيث وجدته فرده علي فسار الرسول في طلبه فوجده في بعض المنازل فخنقه وألقاه في بئر وأخذ ما كان معه فرجع إلى أبي أيوب فلما وقف أبو أيوب على الكتاب أسقط في يده وندم على بعثه خلفه وانتظر الخليفة عود ولده إليه واستبطأه وكشف عن خبره فاذا رسول أبي أيوب قد لحقه وقتله فحينئذ استحضر أبا أيوب وألزمه بأموال عظيمة ومازال في العقوبة حتى أخذ جميع أمواله وحواصله ثم قتله وجعل يقول هذا قتل حبيبي وكان المنصور كلما ذكر ولده حزن عليه حزنا شديدا
وفيها خرجت الخوارج من الصفرية وغيرهم ببلاد افريقية فاجتمع منهم ثلاثمائة الف وخمسون ألفا ما بين فارس وراجل وعليهم أبو حاتم الانماطي وابو عباد وانظم إليهم أبو قرة الصفرى في أربعين ألفا فقاتلوا نائب افريقية فهزمزوا جيشه وقتلوه وهو عمر بن عثمان بن أبي صفرة الذي كان نائب السند كما تقدم قتله هؤلاء الخوارج رحمه الله وأكثرت الخوارج الفساد في البلاد وقتلوا الحريم والاولاد وفيها ألزم المنصور الناس بلبس قلانس سود طوال جدا حتى كانوا يستعينون عن رفعها من داخلها بالقصب فقال أبو دلامه الشاعر في ذلك (10/110)
وكنا نرجى من إمام زيادة ... فزاد الامام المرتجى في القلانس ... تراها على هام الرجال كأنها ... دنان يهود جللت بالبرانس ...
وفيها غزا الصائفة معيوف بن يحيى الحجوري فأسر خلقا كثيرا من الروم بنيف على سنة آلاف أسير وغنم أموالا جزيلة وحج بالناس المهدي بن المنصور [ وهو ولي العهد الملقب بالمهدي وكان على نيابة مكة والطائف محمد بن إبراهيم وعلى المدينة الحسن بن زيد وعلىالكوفة محمد بن سليمان وعلى البصرة يزيد بن منصور وعلى مصر محمد بن سعيد وذكر الواقدي أن يزيد بن منصور كان ولاه المنصور في هذه السنة اليمن فالله أعلم ]
وفيها توفي أبان بن صمه وأسامة بن زيد الليثي وثور بن يزيد الحمصي والحسن بن عمارة وقطر بن خليفة ومعمر وهشام بن الغازى والله أعلم
( ثم ثم دخلت سنة أربع وخمسين ومائة )
فيها دخل المنصور بلاد الشام وزار بيت المقدس وجهز يزيد بن حاتم في خمسين ألفا وولاه بلاد إفريقيه وأمر بقتال الخوارج وانفق على هذا الجيش نحو ثلاث وستين ألف درهم وغزا الصائفة زفر بن عاصم الهلالي وحج بالناس فيها محمد بن إبراهيم ونواب البلاد والاقاليم هم المذكورون في التي قبلها سوى البصرة فعليها عبدالملك بن أيوب بن ظبيان وفيها توفي أبو أيوب الكاتب وأخوه خالد وأمر المنصور ببني أخيه أن تقطع أيديهم وأرجلهم ثم تضرب بعد ذلك أعناقهم ففعل ذلك بهم وفيها توفي
( أشعب الطامع )
وهو أشعب بن جبير أبو العلاء ويقال أبو اسحاق المدني ويقال له أبو حميدة وكان أبوه مولى لآل الزبير قتله المختار وهو خال الواقدي
وروى عن عبدالله بن جعفر ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يتختم في اليمين ) وأبان بن عثمان وسالم وعكرمه وكان ظريفا ماجنا يحبه أهل زمانه لخلاعته وطمعه وكان حميد الغناء وقد وفد على الوليد بن زيد فترجمه ابن عساكر ترجمة ذكر عنه فيها أشياء مضحكة واسند عنه حديثين
وروى عنه أنه سئل يوما أن يحدث فقال حدثني عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ( خصلتان من عمل بهما دخل الجنة ) ثم سكت فقيل له ما هما فقال نسي عكرمة الواحده ونسيت أنا الأخرى وكان سالم بن عبدالله ابن عمر يستخفه ويستحليه ويضحك منه ويأخذه معه إلى الغابة وكذلك كان غيره من أكابر الناس وقال الشافعي عبث الولدان يوما بأشعب فقال لهم إن ههنا أناسا يفرقون الجوز ليطردهم (10/111)
عنه فتسارع الصبيان إلى ذلك فلما رآهم مسرعين قال لعله حق فتبعهم وقال له رجل ما بلغ من طمعك فقال مازفت عروس بالمدينة إلا رجوت أن تزف إلي فأكسح داري وأنظف بابي واكنس بيتي واجتاز يوما برجل يصنع طبقا من قش فقال له زد فيه طورا أو طورين لعله أن يهدي يوما لنا فيه هدية وروى ابن عساكر أن أشعب غنى يوما لسالم بن عبدالله بن عمر قول بعض الشعراء
... مضين بها والبدر يشبه وجهها ... مطهرة الأثواب والدين وافر ... لها حسب زاك وعرض مهذب ... وعن كل مكروه من الامر زاجر ... من الخفرات البيض لم تلق ريبة ... ولم يستملها عن تقى الله شاعر ...
فقال له سالم أحسنت فزدنا فغناه
... ألمت بنا والليل داج كأنه ... جناح غراب عنه قد نفض القطرا ... فقلت أعطار ثوى في رحالنا ... وما علمت ليلى سوى ريحها عطرا ...
فقال له أحسنت ولولا أن يتحدث الناس لأجزلت لك الجائزة وإنك من الأمر لبمكان وفيها توفي جعفر بن برقان والحكم بن أبان وعبد الرحمن بن زيد بن جار وقرة بن خالد وأبو عمرو بن العلاء أحد أئمة القراء واسمه كنيته وقيل اسمه ريان والصحيح الأول
وقال أبو عمرو بن العلاء بن عمار بن العريان بن عبدالله بن الحصين التميمي المازني البصري وقيل غير ذلك في نسبه كان علامة زمانه في الفقه والنحو وعلم القراآت وكان من كبار العلماء العاملين يقال إنه كتب ملء بيت من كلام العرب ثم تزهد فأحرق ذلك كله ثم راجع الأمر الأول فلم يكن عنده إلا ما كان يحفظه من كلام العرب وكان قد لقي خلقا كثيرا من أعراب الجاهلية كان مقدما أيام البصري ومن بعده من اختباراته في العربية قوله في تفسيره الغرة في الجنين إنها لابقبل إلا أبيض غلاما ما كان أو جارية
فهم ذلك من قوله عليه السلام ( غرة عبد أو أمة ) ولو أريد عبد كان أو جارية لما قيده بالغرة وإنما الغرة البياض قال ابن خلكان وهذا غريب ولا أعلم هل يوافقه قول أحد الأئمة المجتهدين أم لا وذكر عنه أنه كان إذا دخل شهر رمضان لا ينشد بيتا حتى ينسلخ وإنما كان يقرأ القرآن وأنه كان يشتري له كل يوم كوزا جديدا وريحانا طريا وقد صحبه الاصمعي نحو من عشر سنين
كانت وفاته في هذه السنة وقيل في سنة ست وخمسين وقيل تسع وخمسين فالله أعلم وقد قارب التسعين وقيل إنه جاوزها فالله أعلم وقبره بالشام وقيل بالكوفة فالله أعلم
[ وقد روى ابن عساكر في ترجمة صالح بن علي بن عبدالله بن العباس عن أبيه عن جده عبدالله (10/112)
ابن عباس مرفوعا ( لأن يربي أحدكم بعد أربع وخمسين ومائة جرو وكلب خير له من أن يربي ولدا لصلبه ) وهذا منكر جدا وفي اسناده نظر ذكره من طريق تمام عن خثيمة بن سلمان عن محمد ابن عوف الحمصي عن أبي المغيرة عبدالله بن السمط عن صالح به وعبدالله بن السمط هذا لا أعرفه وقد ذكره شيخنا الحافظ الذهبي في كتابه الميزان وقال روى عن صالح بن علي حديثا موضوعا
( ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومائة )
فيها دخل يزيد بن حاتم بلاد إفريقية فافتتحها عودا على بدء وقتل من كان فيها ممن تغلب عليها من الخوارج وقتل أمراءهم وأسر كبراءهم وأذل أشرافهم واستبدل أهل تلك البلاد بالخوف أمنا وسلامة وبالاهانة كرامة وكان من جملة من قتل من أمرائهم أبو حاتم وأبو عباد الخارجيان ثم لما استقامت له وبه الامور في البلدان دخل ذلك بلاد القيروان فمهدها وأقر أهلها وقرر أمورها وأزال محذورها والله سبحانه أعلم
( بناء الرافقة وهي المدينة المشهورة )
وفيها أمر المنصور ببناء الرافقه على منوال بناء بغداد في هذه السنة وأمر فيها ببناء سور وعمل خندق حول الكوفة وأخذ ما غرم على ذلك من أموال أهلها من كل إنسان من أهل اليسار أربعين درهما وقد فرضها أولا خمسة دراهم ثم جباها أربعين أربعين فقال في ذلك بعضهم
... يالقومي مارأينا ... في أمير المؤمنينا ... قسم الخمسة فينا ... وجبانا أربعينا ...
وفيها غزا الصائفة يزيد بن أسد السلمي وفيها طلب ملك الروم الصلح من المنصور على أن يحمل إليه الجزية وفيها عزل المنصور أخاه العباس بن محمد عن الجزيرة وغرمه أموالا كثيرة وفيها عزل محمد بن سليمان بن علي عن إمرة الكوفة فقيل لأمور بلغته عنه في تعاطي منكرات وأمور لا تليق بالعمال وقيل لقتله محمد بن ابي العوجاء وقد كان ابن وقيل محمد بن أبي العوجاء هذا زنديقا يقال إنه لما أمر بضرب عنقه اعترف على نفسه بوضع أربعة الآف حديث يحل فيها الحرام ويحرم فيها الحلال ويصوم الناس يوم الفطر ويفطرهم في أيام الصيام فأراد المنصور أن يجعل قتله له ذنبا فعزله به وإنما أراد أن يقيده منه فقال له عيسى بن موسى يا أمير المؤمنين لاتعزله بهذا ولا تقتله به فإنه إنما قتله على الزندقه ومتى عزلته به شكره العامه وذموك فتركه حينا ثم عزله وولى مكانه على الكوفة عمر بن زهير وفيها عزل عن المدينة الحسن بن زيد وولى عليها عمه عبد الصمد بن على وجعل معه فليح بن سليمان مشرفا عليه وعلى إمرة مكة محمد بن إبراهيم بن محمد وعلى البصرة الهيثم بن معاوية وعلى مصر محمد بن سعيد وعلى إفريقية يزيد بن حاتم وفيها توفي صفوان (10/113)
ابن عمر وعثمان بن أبي العاتكه الدمشقيان وعثمان بن عطاء ومسعر بن كدام
( حماد الراوية )
وهو ابن أبي ليلى ميسرة ويقال سابور بن المبارك بن عبيد الديلمي الكوفي مولى بكير ابن زيد الخيل الطائي كان من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارها واشعارها ولغاتها وهو الذي جمع السبع العلقات الطوال وانما سمى الرواية لكثرة روايته الشعر عن العرب اختبره الوليد بن يزيد بن عبد الملك أمير المؤمنين في ذلك فأنشده تسعا وعشرين قصيدة على حروف المعجم كل قصيدة نحو من مائة بيت وزعم أنه لايسمى شاعر من شعراء العرب إلا أنشد له ما لا يحفظه غيره فأطلق له مائة الف درهم وذكر أبو محمد الحريري في كتابه درة الغواص أن هشام بن عبدالملك استدعاه من العراق من نائبه يوسف بن عمر فلما دخل عليه إذا هو في دار قوراء مرخمة بالرخام والذهب وإذا عنده جاريتان حسنتان جدا فاستنشده شيئا فأنشده فقال له سل حاجتك فقال كائنة ما كانت يا أمير المؤمنين فقال وما هي فقال تطلق لي إحدى هاتين الجاريتين فقال هما وما عليهما لك وأخلاه في بعض داره وأطلق له مائة ألف درهم هذا ملخص الحكاية والظاهر أن هذا الخليفة إنما هو الوليد بن يزيد فإنه ذكر أنه شرب معه الخمر وهشام لم يكن يشرب ولم يكن نائبه على العراق يوسف بن عمر إنما كان نائبه خالد بن عبدالله القسري وبعده يوسف بن عمر بن عبد العزيز وكانت وفاة حماد في هذه السنة عن ستين سنة قال ابن خلكان وقيل إنه أدرك أول خلافة المهدي في سنة ثمان وخمسين فالله أعلم
وفيها قتل حماد عجرد على الزندقه وهو حماد بن عمر بن يوسف بن كليب الكوفي ويقال إنه واسطى مولى بني سواد وكان شاعرا ماجنا ظريفا زنديقا متهما على الاسلام وقد أدرك الدولتين الأموية والعباسية ولم يشتهر إلا في أيام بنى العباس وكان بينه وبين بشار بن برد مهاجاة كثيرة وقد قتل بشار هذا على الزندقة أيضا كما سيأتي ودفن مع حماد هذا في قبره وقيل إن حمادا عجرد مات سنة ثمان وخمسين وقيل إخدى وستين ومائة فالله أعلم
( ثم دخلت سنة ست وخمسين ومائة )
فيها ظفر الهيثم بن معاوية نائب المنصور على البصرة بعمرو بن شداد الذي كان عاملا لإبراهيم ابن محمد على فارس فقيل أمر فقطعت يداه ورجلاه وضربت عنقه ثم صلب وفيها عزل المنصور الهيثم بن معاوية هذا الذي فعل هذه الفعلة عن البصرة وولى عليها قاضيا سوار بن عبدالله فجمع له بين القضاء والصلاة وجعل على شرطتها وأحداثها سعيد بن دعلج ورجع الهيثم بن معاوية قاتل عمرو بن شداد إلى بغداد فمات فيها فجأة في هذه السنة وهو على بطن جارية له وصلى عليه (10/114)
المنصور ودفن في مقابر بني هاشم ويقال أصابته دعوة عمر بن شداد الذي قتله تلك القتله فليتق العبد الظالم
وحج بالناس العباس بن محمد أخو المنصور ونواب البلاد هم المذكورون في التي قبلها وعلى فارس والأهواز وكور دجلة عمارة بن حمزة وعلى كرمان والسند هشام بن عمرو وفيها توفي حمزة الزيات في قول وهو أحد القراء المشهورين والعباد المذكورين وإليه تنسب المدود الطويلة في القراءة اصطلاحا من عنده وقد تكلم فيه بسببها بعض الأئمة وأنكروها عليه وسعيد بن أبي عروبة وهو أول من جمع السنن في قول وعبد الله بن شوذب وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم الافريقي وعمر بن ذر
( ثم دخلت سنة سبع وخمسين ومائة )
فيها بني المنصور قصره المسمى بالخلد في بغداد تفاؤلا بالتخليد في الدنيا فعند كماله مات وخرب القصر من بعده وكان المستحث في عمارته أبان بن صدقة والربيع مولى المنصور وهو حاجبه وفيها حول المنصور الأسواق من قرب دار الامارةإلى باب الكرخ وقد ذكرنا فيما تقدم سبب ذلك وفيها أمر بتوسعة الطرقات وفيها أمر بعمل جسر عند باب الشعير وفيها استعرض المنصور جنده وهم ملبسون السلاح وهو أيضا لابس سلاحا عظيما وكان ذلك عند دجلة وفيها عزل عن السند هشام بن عمرو وولي عليها سعيد بن الخليل وفيها غزا الصائفة يزيد بن أسيد السلمي فأوغل في بلاد الروم وبعث سنانا مولى البطال مقدمة بين يديه ففتح حصونا وسبى وغنم وفيها حج بالناس إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي ونواب البلاد هم المذكورون في التي قبلها وفيها توفي الحسين بن واقد والامام الجليل علامة الوقت أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي فقيه أهل الشام وإمامهم وقد بقي أهل دمشق وما حولها من البلاد على مذهبه نحوا من مائتين وعشرين سنة
( شيء من ترجمة الأوزاعي رحمه الله )
هو عبد الرحمن بن عمرو بن محمد أبو عمرو الأوزاعي والأوزاع بطن من حمير وهو من أنفسهم قال محمد بن سعد وقال غيره لم يكن من أنفسهم وإنما نزل في محله الأوزاع وهي قرية خارج باب الفراديس من قرى دمشق وهو ابن عم يحيى بن عمرو الشيباني قال أبو زرعة وأصله من سبى السند فنزل الأوزاع فغلب عليه النسبة إليها وقال غيره ولد ببعلبك ونشأ بالبقاع يتيما في حجر أمه وكانت تنتقل به من بلدإلى بلد وتأدب بنفسه فلم يكن في أبناء الملوك والخلفاء والوزراء والتجار وغيرهم أعقل منه ولا أورع ولا أعلم ولا أفصح ولا أوقر ولا أحلم ولا أكثر صمتا منه ما تكلم بكلمة إلا كان المتعين على من سمعها من جلسائه أن يكتبها عنه من حسنها (10/115)
وكان يعاني الرسائل والكتابة وقد اكتتب مرة في بعث إلى اليمامة فسمع الحديث من يحيى بن أبي كثير وانقطع إليه فأرشده إلى الرحلةإلى البصرة ليسمع من الحسن وابن سيرين فسار إليها فوجد الحسن قد توفي من شهرين ووجد ابن سيرين مريضا فجعل يتردد لعيادته فقوي المرض به ومات ولم يسمع منه الأوزاعي شيئا ثم جاء فنزل دمشق بمحلة الأوزاع خارج باب الفراديس وساد أهلها في زمانه وسائر البلاد في الفقه والحديث المغازي وغير ذلك من علوم الاسلام وقد أدرك خلقا من التابعين وغيرهم وحدث عنه جماعات من سادات المسلمين كمالك بن أنس والثوري والزهري وهو من شيوخه وأثنى عليه غير واحد من الأئمة وأجمع المسلمون على عدالته وإمامته قال مالك كان الأوزاعي إماما يقتدى به وقال سفيان بن عيينة وغيره كان الأوزاعي إمام أهل زمانه وقد حج مرة فدخل مكة وسفيان الثوري آخذ بزمام جمله ومالك بن أنس يسوق به والثوري يقول افسحوا للشيخ حتى أجلساه عند الكعبة وجلسا بين يديه يأخذان عنه وقد تذاكر مالك والأوزاعي مرة بالمدينة من الظهر حتى صليا العصر ومن العصر حتى صليا المغرب فغمره الأوزاعي في المغازي وغمره مالك في الفقه أو في شيء من الفقه وتناظر الأوزعي والثوري في مسجد الخليفة في مسألة رفع اليدين في الركوع والرفع منه فاحتج الأوزاعي على الرفع في ذلك بما رواه عن الزهري عن سالم عن أبيه ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يرفع يديه في الركوع والرفع منه ) واحتج الثوري بحديث يزيد بن أبي زياد فغضب الأوزاعي وقال تعارض حديث الزهري بحديث يزيد بن أبي زياد وهو رجل ضعيف فاحمار وجه الثوري فقال الأوزاعي لعلك كرهت ما قلت قال نعم قال فقم بنا حتى نلتعن عند الركن أينا على الحق فسكت الثوري وقال هقل بن زياد أفتى الأوزاعي في سبعين الف مسألة بحديثنا وأخبرنا وقال أبو زرعه روى عنه ستون ألف مسألة وقال غيرهما أفتى في سنة ثلاث عشرة ومائة وعمره إذ ذاك خمس وعشرون سنة ثم لم يزل يفتي حتى مات وعقله زاك وقال يحيى القطان عن مالك اجتمع عندي الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة فقلت أيهم أرجح قال الأوزاعي وقال محمد بن عجلان لم أر أحا أنصح للمسلمين من الأوزاعي وقال غيره ما رؤى الأوزاعي ضاحكا مقهقها قط ولقد كان يعظ الناس فلا يبقي أحد في مجلسه إلا بكى بعينه وبقلبه وما رأيناه يبكى في مجلسه قط وكان إذا خلى بكى حتى يرحم وقال يحيى بن معين العلماء أربعه الثوري وابو حنيفة ومالك والأوزاعي قال أبو حاتم كان ثقة متبعا لما سمع قالوا وكان الأوزاعي لا يلحن في كلامه وكانت كتبه ترد على المنصور فينظر فيها ويتأملها ويتعجب من فصاحتها وحلاوة عباراتها (10/116)
وقد قال المنصور يوما لأحظى كتابه عنده وهو سليمان بن مجالد ينبغي أن نجيب الأوزاعي على ذلك دائما لنستعين بكلامه فيما نكاتب به إلى الافاق إلى من لايعرف كلام الأوزاعي فقال والله يا أمير المؤمنين لايقدر أحد من أهل الارض على مثل كلامه ولا على شيء منه وقال الوليد ابن مسلم كان الأوزاعي إذا صلى الصبح جلس يذكر الله سبحانه وتعإلى حتى تطلع الشمس وكان يأثر عن السلف ذلك قال ثم يقومون فيتذاكرون في اللغة والفقه والحديث وقال الأوزاعي رأيت رب العزة في المنام فقال أنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فقال بفضلك أي رب ثم قلت يارب أمتني على الاسلام فقال وعلى السنة وقال محمد بن سابور قال لي شيخ بجامع دمشق أنا ميت في يوم كذا وكذا فلما كان في ذلك اليوم رأيته في صحن الجامع يتفلى فقال لي اذهب إلى سرير الموتى فأحرزه لي عندك قبل أن تسبق إليه فقلت ماذا تقول فقال هو ما أقول لك وإني رأيت كأن قائلا يقول فلان قدري وفلان كذا وعثمان بن العاتكة نعم الرجل وأبو عمرو الأوزاعي خير من يمشي على وجه الأرض وأنت ميت في يوم كذا وكذا قال محمد بن شعيب فما جاء الظهر حتى مات وصلينا عليه بعدها وأخرجت جنازته ذكر ذلك ابن عساكر وكان الأوزاعي رحمه الله كثير العبادة حسن الصلاة ورعا ناسكا طويل الصمت وكان يقول من أطال القيام في صلاة الليل هون الله عليه طول القيام يوم القيامه أخذ ذلك من قوله تعإلى ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوم ثقيلا وقال الوليد بن مسلم ما رأيت أحدا اشد اجتهادا من الأوزاعي في العبادة وقال غيره حج فما نام على الراحلة انما هو في صلاة فاذا نعس استند إلى القتب وكان من شدة الخشوع كأنه أعمى ودخلت امرأة على الأوزاعي فرأت الحصير الذي يصلي عليه مبلولا فقالت لها لعل الصبي بال ههنا فقالت هذا أثر دموع الشيخ من بكائه في سجوده هكذا يصبح كل يوم وقال الأوزاعي عليك بآثار من سلف وأن رفضك الناس وإياك وأقوال الرجال وإن زخرفوه وحسنوه فإن الأمر ينجلي وأنت منه على طريق مستقيم وقال أيضا اصبر على السنة وقف حيث يقف القوم وقل ما قالوا وكف عما كفوا وليسعك ما وسعهم وقال العلم ما جاء عن أصحاب محمد ومالم يجيء عنهم فليس بعلم وكان يقول لا يجتمع حب علي و عثمان إلا في قلب مؤمن وإذا أراد الله بقوم شر فتح عليهم باب الجدل وسد عنهم باب العلم والعمل قالواوكان الأوزاعي من أكرم الناس وأسخاهم وكان له في بيت المال على الخلفاء أقطاع صار إليه من بني أمية وقد وصل إليه من خلفاء بني أمية وأقاربهم وبني العباس نحو سبعين ألف دينار فلم يمسك منها شيئا ولا اقتنى شيئا من عقار ولا غيره ولا ترك يوم مات سوى سبعة دنانير كانت جهازه بل (10/117)
كان ينفق ذلك في سبيل الله وفي الفقراء والمساكين
ولما دخل عبدالله بن علي عم السفاح الذي أجلى بني أمية عن الشام وأزال الله سبحانه وتعإلى دولتهم على يده دمشق فطلب الأوزاعي فتغيب عنه ثلاثة أيام ثم حضر بين يديه قال الأوزاعي دخلت عليه وهو على سرير وفي يده خيزرانه والمسودة عن يمينه وشماله معهم السيوف مصلته والعمد الحديد فسلمت عليه فلم يرد ونكت بتلك الخيزرانه التي في يده ثم قال يا أوزاعي ما ترى فيما صنعنا من إزالة أيدي اولئك الظلمة عن العباد والبلاد أجهادا ورباطا هو قال فقلت أيها الأمير سمعت يحيى بن سعيد الانصاري يقول سمعت محمد بن إبراهيم التيمى يقول سمعت علقمة بن وقاص يقول سمعت عمر بن الخطاب يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول
( انما الأعمال بالنيات وإنما لكل إمريء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أوامرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) قال فنكت بالخيزرانه أشد مما كان ينكت وجعل من حوله يقبضون أيديهم على قبضات سيوفهم ثم قال يا أوزاعي ما تقول في دماء بني أمية فقلت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
( لا يحل لمسلم دم امريء مسلم إلا باحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني والتارك لدينه المفارق للجماعة ) فنكت بها أشد من ذلك ثم قال ما تقول في أموالهم فقلت إن كانت في أيديهم حراما فهي عليك أيضا وأن كانت لهم حلالا فلا تحل لك إلا بطريق شرعي فنكت أشد مما كان ينكت قبل ذلك ثم قال إلا نوليك القضاء فقلت إن أسلافك لم يكونوا يشقون علي في ذلك وإني أحب أن يتم ما ابتدؤني به من الاحسان فقال كأنك تحب الانصراف فقلت إن ورائي حرما وهم محتاجون إلى القيام عليهن وسترهن وقلوبهن مشغوله بسببي قال وانتظرت رأسي أن يسقط بين يدي فأمرني بالانصراف فلما خرجت إذا برسوله من ورائي وإذا معه مائتا دينار فقال يقول لك الامير استنفق هذه قال فتصدقت بها وانما أخذتها خوفا قال وكان في تلك الايام الثلاثة صائما فيقال إن الامير لما بلغه ذلك عرض عليه الفطر عنده فأبى أن يفطر عنده
قالوا ثم رحل الأوزاعي من دمشق فنزل بيروت مرابطا بأهله وأولاده قال الأوزاعي وأعجبني في بيروت إني مررت بقبورها فإذا إمرأة سوداء في القبور فقلت لها أين العماره يا هنتاه فقالت إن أردت العماره فهي هذه وأشارت إلى القبور وان كنت تريد الخراب فأمامك وأشارت إلى البلد فعزمت على الاقامة بها وقال محمد بن كثير سمعت الأوزاعي يقول خرجت يوما إلى الصحراء فإذا رجل جراد وإذا شخص راكب على جرادة منها وعليه سلاح الحديد وكلما قال بيده هكذاإلى جهة مال الجراد مع يده وهو يقول الدنيا باطل باطل باطل وما فيها باطل (10/118)
باطل باطل وقال الأوزاعي كان عندنا رجل يخرج يوم الجمعةإلى الصيد ولا ينتظر الجمعة فحسف ؟ ببغلته فلم يبق منها إلا أذناها وخرج الأوزاعي يوما من باب مسجد بيروت وهناك كان فيه رجل يبيع الناطف وإلى جانبه رجل يبيع البصل وهو يقول له يا بصل أحلى من العسل او قال أحلى من الناطف فقال الأوزاعي سبحان الله أيظن هذا أن شيئا من الكذب يباح فكأن هذا ما يرى في الكذب بأسا
وقال الواقدي قال الأوزاعي كنا قبل اليوم نضحك ونلعب أما إذا صرنا أئمة يقتدى بنا فلا ترى أن يسعنا ذلك وينبغي أن نتحفط وكتب إلى أخ له أما بعد فقد أحيط بك من كل جانب وإنه يسار بك في كل يوم وليله فاحذر الله والقيام بين يديه وأن يكون آخر العهد بك والسلام
وقال إبن أبي الدنيا حدثني محمد بن إدريس سمعت أبا صالح كاتب الليث
يذكر عن الهقل ابن زياد عن الأوزاعي أنه وعظ فقال في موعظته أيها الناس تقووا بهذه النعم التي أصبحتم فيها على الهرب من نار الله الموقدة التي تطلع على الافئدة فإنكم في دار الثواء فيها قليل وأنتم عما قليل عنها راحلون خلائف بعد القرون الماضية الذين استقبلوا من الدنيا آنفها وزهرتها فهم كانوا أطول منكم أعمارا وأمد أجساما وأعظم أحلاما وأكثر أموالا وأولادا فخددوا الجبال وجابوا الصخر بالواد وتنقلوا في البلاد مؤيدين بطش شديد وأجساد كالعماد فما لبثت ألايام والليالي أن طوت آثارهم وأخربت منازلهم وديارهم وأنست ذكرهم فهل تحسن منهم من أحد أو وتسمع له ركزا كانوا بلهو الأمل آمنين وعن ميقات يوم موتهم غافلين فآبوا إياب قوم نادمين ثم إنكم قد علمتم الذي نزل بساحتهم بيانا من عقوبة الله فأصبح كثير منهم في ديارهم جاثمين وأصبح الباقون المتخلفون يبصرون في نعمة الله وينظرون في آثار نقمته وزوال نعمته عمن تقدمهم من الهالكين ينظرون والله في مساكن خإليه خاوية وقد كانت بالعز محفوفة وبالنعم معروفة والقلوب إليها مصروفة والأعين نحوها ناظرة فأصبحت أية للذين يخافون العذاب الأليم وعبرة لمن يخشى وأصبحتم بعدهم في أجل منقوص ودنيا منقوصة في زمان قد ولى عفوه وذهب رخاؤه وخيره وصفوه فلم يبق منه إلا جمة شر وصبابة كدر وأهاويل عبر وعقوبات غير وارسال فتن وتتابع زلال ورذالة خلف بهم ظهر الفساد في البر والبحر يضيقون الديار ويغلون الاسعار بما يرتكبونه من العار والشنار فلا تكونوا أشباها لمن خدعه الامل وغيره طول الاجل ولعبت به الاماني نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن إذا دعى بدر وإذا أنهى انتهى وعقل مثواه فمهد لنفسه
وقد اجتمع الأوزاعي بالمنصور حين دخل الشام ووعظه وأحبه المنصور وعظمه ولما أراد الانصراف من بين يديه استأذنه أن لا يلبس السواد فأذن له فلما خرج قال المنصور للربيع (10/119)
الحاجب الحقه فاسأله لم كره لبس السواد ولا تعلمه إني قلت لك فسأله الربيع فقال لأني لم أر محرما أحرم فيه ولا ميتا كفن فيه ولا عروسا جليت فيه فلهذا أكرهه وقد كان الأوزاعي في الشام معظما مكرما أمره أعز عندهم من أمر السلطان وقد هم به بعض مرة فقال له أصحابه دعه عنك والله لو أمر أهل الشام أن يقتلونك لقتلوك ولما مات جلس على قبره بعض الولاة فقال رحمك الله فوالله لقد كنت أخاف منك أكثر مما أخاف من الذي ولاني يعني المنصور وقال ابن أبي العشرين ما مات الأوزاعي حتى جلس وحده وسمع شتمه بأذنه
وقال أبو بكر بن أبي خثيمه حدثنا محمد بن عبيد الطنافسى قال كنت جالسا عند الثوري فجاءه رجل فقال رأيت كأن ريحانة من المغرب يعني قلعت قال إن صدقت رؤياك فقد مات الأوزاعي فكتبوا ذلك فجاء موت الأوزاعي في ذلك اليوم وقال أبو مسهر بلغنا أن سبب موته أن امرأته أغلقت عليه باب حمام فمات فيه ولم تكن عامده ذلك فأمرها سعيد بن عبد العزيز بعتق رقبه قال وما خلف ذهبا ولا فضة ولا عقارا ولا متاعا إلا ستة وثمانين فضلت من عطائه وكان قد اكتتب في ديوان الساحل وقال غيره كان الذي أغلق عليه باب الحمام صاحب الحمام أغلقه وذهب لحاجة له ثم جاء ففتح الحمام فوجده ميتا قد وضع يده اليمنى تحت خده وهو مستقبل القبلة رحمه الله
قلت لا خلاف أنه مات ببيروت مرابطا واختلفوا في سنة وفاته فروى يعقوب بن سفيان عن سلمه قال قال أحمد رأيت الأوزاعي وتوفي سنة خمسين ومائة قال العباس بن الوليد البيروتي توفي يوم الأحد أول النهار لليلتين بقيتا من صفر سنة سبع وخمسين ومائة وهو الذي عليه الجمهور وهو الصحيح وهو قول أبي مسهر وهشام بن عمار بن الوليد بن مسلم في أصح الروايات عنه ويحيى بن معين ودحم وخليفة بن خياط وأبي عبيد وسعيد بن عبد العزيز وغير واحد قال العباس بن الوليد ولم يبلغ سبعين سنة وقال غيره جاوز السبعين والصحيح سبع وستون سنه لأن ميلاده في سنة ثمان وثمانون على الصحيح وقيل أنه ولد سنة ثلاث وسبعين وهذا ضعيف وقد روآه بعضهم في المنام فقال له دلني على عمل يقربني إلى الله فقال ما رأيت في الجنة درجة أعلى من درجة العلماءالعاملين ثم المحزونين
( ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومائة )
فيها تكامل بناء قصر المنصور المسمى بالخلد وسكنه أياما يسيرة ثم مات وتركه وفيها مات طاغية الروم وفيها وجه المنصور ابنه المهدي إلى الرقة وأمره بعزل موسى بن كعب عن الموصل وأن يولى عليها خالد بن برمك وكان ذلك بعد نكته غريبة اتفقت ليحيى بن خالد وذلك أن (10/120)
المنصور كان قد غضب على خالد بن برمك وألزمه يحمل ثلاثة آلآف ألف فضاق ذرعا بذلك ولم يبق له مالا ولا حال وعجز عن أكثرها وقد أجله ثلاثة أيام وأن يحمل ذلك في هذه الثلاثة أيام وإلا فدمه هدر فجعل يرسل ابنه يحيى إلى أصحابه من الأمراء يستقرض منهم فكان منهم من أعطاه مائة ألف ومنهم أقل وأكثر قال يحيى بن خالد فبينا أنا ذات يوم من تلك الايام الثلاثه على جسر بغداد وأنا مهموم في تحصيل ما طلب منا مما لا طاقة لنا به إذوثب إلى زاجر من اولئك الذين يكونون عند الجسر من الطرقية فقال لي أبشر فلم ألتفت إليه فتقدم حتى أخذ بلجام فرسي ثم قال لي أنت مهموم ليفرجن الله همك ولتمرن غدا في هذا الموضع واللواء بين يديك فان كان ما قلت لك حقا عليك خمسة ألاف فقلت نعم ولو قال خمسون الفا لقلت نعم لبعد ذلك عندي وذهبت لشأني وقد بقي علينا من الحمل ثلاثمائة ألف فورد الخبر إلى المنصور بانتقاض الموصل وانتشار الاكراد فيها فأشار المنصور الأمراء من يصلح للموصل فأشار بعضهم بخالد بن برمك فقال له المنصور أويصلح لذلك بعد ما فعلنا به فقال نعم وأنا الضامن أنه يصلح لها فأمر بإحضاره فولاه إياها عنه بقية ما كان عليه وعقد له اللواء وولى ابنه يحيى أذربيجان وخرج الناس في خدمتهما قال يحيى فمررنا بالجسر فثار إلى ذلك الزاجر فطالبني بما وعدته به فأمرت له به فقبض خمسة الآف
وفي هذه السنة خرج المنصور إلى الحج فساق الهدى معه فلما جاوز الكوفة بمراحل أخذه وجعه الذي مات به وكان عنده سوء مزاج فاشتد عليه من شدة الحد وركوبه في المواجر وأخذه إسهال وأفرط به فقوي مرضه ودخل مكه فتوفي بها ليلة السبت لست مضين من ذي الحجة وصلى عليه ودفن بكدا عند ثينة باب المعلاة التي بأعلا مكة وكان عمره يومئذ ثلاثا وقيل أربعا وقيل خمسا وستين وقيل إنه بلغ ثمانيا وستين والله أعلم وقد كتم الربيع الحاجب موته حتى أخذ البيعة للمهدي من القواد ورؤس بني هاشم ثم دفن وكان الذي صلى عليه إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي وهو الذي أقام للناس الحج في هذه السنة
( ترجمة المنصور )
هو عبدالله بن محمد بن علي بن عباس بن عبدالمطلب بن هاشم أبوجعفر المنصور وكان أكبر من أخيه أبي العباس السفاح وأمه أم ولد أسمها سلامة وروى عن جده عن ابن عباس ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يتختم في يمينه ) أورده ابن عساكر من طريق محمد بن إبراهيم السلمى عن المأمون عن الرشيد عن المهدي عن أبيه المنصور به بويع له بالخلافة بعد أخيه في ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة وعمره يومئذ إحدى وأربعون سنة أنه ولد سنة خمس وتسعين (10/121)
على المشهور في صفر منها بالحميمة من بلاد البلقاء وكانت خلافته ثنتين وعشرين سنة إلا أياما وكان أسمر اللون موفور اللمة خفيف اللحية رحب الجبهة أقنى الأنف أعين كأن عينيه لسانان ناطقان يخالطه أبهمه الملك وتقبله القلوب وتتبعه العيون يعرف الشرف موطنه والعنف في صورته والليث في مشيته هكذا وصفه بعض من رآه وقد صح عن ابن عباس أنه قال ( منا السفاح والمنصور ) وفي روايه ( حتى نسلمها إلى عيسى بن مريم ) وقد روى مرفوعا ولا يصح ولا وقفه أيضا وذكر الخطيب أن أمه سلامة قالت رأيت حين حملت به كأنه خرج مني أسد فرأر واقفا على يديه فما بقي أسد حتى جاء فسجد له وقد رأى المنصور في صغره مناما غريبا كان يقول ينبغي أن يكتب في ألواح الذهب ويعلق في أعناق الصبيان فقال رأيت كأني في المسجد الحرام وإذا رسول الله صلى الله عليه و سلم في الكعبة والناس مجتمعون حولها فخرج من عنده مناد أين عبدالله فقام أخي السفاح يتخطى الرجال حتى جاء باب الكعبة فأخذ بيده فأدخله إياها فما لبث أن خرج ومعه لواء أسود ثم نودي أين عبدالله فقمت أنا وعمي عبدالله بن علي نستبق فسبقته إلى باب الكعبة فدخلتها فاذا رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو بكر وعمر وبلال فعقد لي لواء وأوصاني بأمته وعممني عمامة كورها ثلاثة وعشرون كورا وقال ( خذها إليك أبا الخلفاءإلى يوم القيامه ) 0
وقد اتفق سجن المنصور في أيام بني أمية فاجتمع به نوبخت المنجم وتوسم فيه الرياسة فقال له ممن تكون فقال من بني العباس فلما عرف منه نسبه وكنيته قال أنت الخليفة الذي تلى الأرض فقال له ويحك ماذا تقول فقال هو ما أقول لك فضع لي خطك في هذه الرقعة أن تعطيني شيئا إذا وليت فكتب له فلما ولي المنصور أعطاه وأسلم نوبخت على يديه وكان قبل ذلك مجوسيا ثم كان من أخص أصحاب المنصور وقد حج المنصور بالناس سنة أربعين ومائة وأحرم من الحيره وفي سنة أربع واربعين وفي سنة سبع وأربعين وفي سنة ثنتين وخمسين ثم في هذه السنة التي مات فيها وبنى بغداد والرصافة والرفقة وقصره الخلد
قال الربيع بن يونس الحاجب سمعت المنصور يقول الخلفاء أربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والملوك أربعة معاوية وعبدالملك بن مروان وهشام بن عبدالملك وانا وقال مالك قال لي المنصور من أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت أبو بكر وعمر فقال أصبت وذلك رأي أمير المؤمنين وعن اسماعيل البهري قال سمعت المنصور على منبر عرفة يوم عرفه يقول أيها الناس إنما انا سلطان الله في أرضه أسوسكم بتوفيقه ورشده وخازنه على ماله أقسمه بإرادته وأعطيته بإذنه وقد جعلني الله عليه قفلا فان شاء أن يفتحنى لأعطياتكم وقسم أرزاقكم فتحني وإذا شاء أن يقفلني قفلني فارغبوا إلى الله ايها الناس وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي (10/122)
وهبكم فيه من فضله ما أعلمكم به في كتابه إذ يقول ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الاسلام دينا ) أن يوفقني للصواب ويسددني للرشاد ويلهمني الرأفة بكم والأحسان اليكم ويفتحني لاعطياتكم وقسم أرزاقكم بالعدل عليكم فإنه سميع مجيب
وقد خطب يوما فاعترضه رجل وهو يثني على الله عز و جل فقال يا أمير المؤمنين أذكر من أنت ذاكره واتق الله فيما تأتيه وتذره فسكت المنصور حتى أنتهى كلام الرجل فقال أعوذ بالله أن أكون ممن قال الله عز و جل فيه وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالاثم أو أن اكون جبارا عصيا أيها الناس إن الموعظة علينا نزلت ومن عندنا نبتت ثم قال للرجل ما أظنك في مقالتك هذه تريد وجه الله وإنما أردت أن يقال عنك وعظ أمير المؤمنين أيها الناس لا يغرنكم هذا فتفعلوا كفعله ثم أمر به فاحتفظ به وعاد إلى خطبته فأكملها ثم قال لمن هو عنده أعرض عليه الدنيا فان قبلها فأعلمني وأن ردها فأعلمني فما زال الرجل الذي عنده حتى أخذ المال ومال إلى الدنيا فولاه الحسبة والمظالم وأدخله على الخليفة في بزه حسنة وثياب وشارة وهيئة دنيوية فقال له الخليفة ويحك لوكنت محقا مريدا وجه الله بما قلت على رؤس الناس لما قبلت شيئا مما أرى ولكن أردت أن يقال عنك إنك وعظت أمير المؤمنين وخرجت عليه ثم أمر به فضربت عنقه وقد قال المنصور لابنه المهدي إن الخليفة لا يصلحه إلا التقوى والسلطان لا يصلحه إلا الطاعة والرعية لا يصلحها إلا العدل وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة وأنقص الناس عقلا من ظلم من دونه وقال أيضا يا بني استدم النعمة بالشكر والقدرة بالعفو والطاعة بالتأليف والنصر بالتواضع والرحمة للناس ولاتنس نصيبك من الدنيا ونصيبك من رحمة الله
وحضر عنده مبارك بن فضيلة يوما وقد أمر برجل أن يضرب عنقه وأحضر النطع والسيف فقال له مبارك سمعت الحسين يقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقم من كان أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا ) فأمر بالعفو عن ذلك الرجل ثم أخذ يعدد على جلسائه عظيم جرائم ذلك الرجل وما صنعه وقال الاصمعي أتى المنصور برجل ليعاقبه فقال يا أمير المؤمنين الانتقام عدل والعفو فضل وتعوذ أمير المؤمنين بالله أن يرضى لنفسه بأوكس النصيبين وأدنى القسمين دون أرفع الدرجتين قال فعفا عنه
وقال الاصمعي قال المنصور لرجل من أهل الشام أحمد الله يا أعرابي الذي دفع عنكم الطاعون بولايتنا فقال ان الله لا يجمع علينا حشفا وسوء كيل ولا يتكم والطاعون والحكايات في ذكر حلمه وعفوه كثيرة جدا [ ودخل بعض الزهاد إلى المنصور فقال إن الله أعطاك الدنيا بأسرها فاشتر نفسك ببعضها واذكر ليلةتبيت في القبر لم تبت قبلها ليلة تمخض عن (10/123)
يوم لا ليلة بعده قال فأفحم المنصور قوله وأمر له بمال فقال لو احتجت إلى مالك لما وعظتك ودخل عمر بن عبيد القدري على المنصور فأكرمه وعظمه وقربه وسأله عن أهله وعياله ثم قال له عظني فقرأ عليه سورة الفجر ان ربك لبالمرصاد فبكى المنصور بكاء شديدا حتى كأنه لم يسمع يهذه الآيات من قبل ثم قال له زدني فقال إن الله قد أعطاك الدنيا بأسرها فاشتر نفسك ببعضها وإن هذا الامر كان لمن قبلك ثم صار اليك هو صائر لمن بعدك واذكر ليلة تسفر عن يوم القيامة فبكى المنصور أشد من بكائه الأول حتى اختلفت اجفانه فقال له سليمان بن مجالد رفقا بأمير المؤمنين فقال عمرو وماذا على أمير المؤمنين أن يبكي من خشية الله عز و جل ثم أمر له المنصور بعشرة الآف درهم فقال لا حاجة لي فيها فقال المنصور والله لتأخذنها فقال والله لا آخذنها فقال له المهدي وهو جالس في سواده وسيفه إلى جانب أبيه أيحلف أمير المؤمنين وتحلف أنت فالتفت إلى المنصور فقال ومن هذا فقال هذا ابني محمد ولي العهد من بعدي فقال عمرو إنك سميته اسما لم يستحقه لعمله وألبسته لبوسا ماهو لبوس الأبرار ولقد مهدت له أمرا أمتع ما يكون به أشغل ما يكون عنه ثم التفت إلى المهدي فقال يا ابن أخي إذا حلف أبوك وحلف عمك فلأن أبوك أيسر من أن يحنث عمك لأن أباك أقدر على الكفاره من عمك ثم قال المنصور يا أبا عثمان هل من حاجة قال نعم قال وماهي قال لا تبعث إلى حتى آتيك ولا تعطني حتى أسألك فقال المنصور إذا والله لا نلتقي فقال عمرو عن حاجتى سألتني فودعه وأنصرف فلما ولى أمده بصره وهو يقول ... كلكم يمشي رويد ... كلكم يطلب صيد ... غير عمر بن عبيد ...
ويقال إن عمرو بن عبيد أنشد المنصور قصيدة في موعظة إياه وهي قوله ... يا أيهذا الذي قد غره الأمل ... ودون ما يأمل التنغيص والاجل ... إلا ترى أنما الدنيا وزينتها ... كمنزل الركب حلوا ثمت ارتحلوا ... حتوفها رصد وعيشها نكد ... وصفوها كدر وملكها دول ... تظل تقرع بالروعات ساكنها ... فما يسوغ له لبن ولا جذل ... كأنه للمنايا والردى غرض ... تظل فيه بنات الدهر تنتقل ... والنفس هاربة والموت يطلبها ... وكل عسرة رجل عندها جلل ... والمرء يسعى لوارثه ... والقبر وارث مايسعى له الرجل (10/124)
وقال ابن دريد عن الرياشي عن محمد بن سلام قال رأت جارية للمنصور ثوبه مرقوعا فقالت خليفة وقميص مرقوع فقال ويحك أما سمعت ما قال ابن هرمة ... قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه ... خلق وبعض قميصه مرقوع ...
وقال
وقال بعض الزهاد للمنصور أذكر ليلة تبيت في القبر لم تبت قبلها ليلة مثلها واذكر ليلة تمخض عن يوم القيامة لا ليلة بعدها فأفخم المنصور قوله فأمر له بمال فقال لو احتجت إلى مالك ما وعظتك ومن شعره لما عزم على قتل أبي مسلم ... إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة ... فإن فساد الرأي أن يترددا ... ولا تمهل الأعداء يوم لغدره ... وبادرهم أن يملكوا مثلها غدا ...
ولما قتله ورآه طريحا بين يديه
... قد أكتنفتك خلات ثلاث ... جبلن عليك محتوم الحمام ... خلافك وامتناعك من يمينى ... وقودك للجماهير العظام ...
ومن شعره أيضا
... المرء يأمل أن يعي ... ش وطول عمر قد يضره ... تبلى بشاشته ويب ... قى بعد حلو العيش مره ... وتخونه الايام حتى ... لا يرى شيئا يسره ... كم شامت بي إن هلك ... ت وقائل لله دره ...
قالوا وكان لمنصور في أول النهار يتصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والولايات ولعزل والنظر في مصالح العامة فاذا صلى الظهر دخل منزله واستراح إلى العصر فاذا صلاها جلس لأهل بيته ونظر في مصالحهم الخاصة فإذا صلى نظر في الكتب والرسائل الواردة من الآفاق وجلس عنده من يسامره إلى ثلث الليل ثم يقوم إلى أهله فينام في فراشه إلى الثلث الآخر فيقوم إلى وضوئه وصلاته حتى يتفجر الصباح ثم يخرج فيصلى بالناس ثم يدخل فيجلس في إيوانه وقد ولى بعض العمال على بلد فبلغه أنه قد تصدى للصيد وأعد لذلك كلابا وبزاه فكتب إليه ثكلتك أمك وعشيرتك ويحك إنا إنما استكفيناك واستعملناك على أمور المسلمين ولم نستكفيك أمور الوحوش في البراري فسلم ماتلى من عملناإلى فلان والحق بأهلك ملوما مدحورا
وأتى يوما بخارجي قد هزم جيوش المنصور غير مرة فلما وقف بين يديه قال له المنصور ويحك يا ابن الفاعلة مثلك يهزم الجيوش فقال الخارجي ويلك سوأة لك بيني وبينك أمس السيف والقتل واليوم القذف والسب وما يؤمنك أن أراد عليك وقد يئست من الحياة فما استقبلها ابدا (10/125)
قال فاستحى منه المنصور وأطلقه فما رأى له وجها إلى الحول [ وقال لابنه لما ولاه العهد يا بني ائتدم النعمة بالشكر والقدرة بالعفو والنصر بالتواضع والتألف بالطاعة ولا تنس نصيبك من الدنيا ونصيبك من رحمة الله
وقال أيضا يابني ليس العاقل من يحتال للأمر الذي وقع فيه حتى يخرج منه ولكن العاقل الذي يحتال للأمر الذي عشيه حتى لا يقع فيه وقال المنصور يا بني لا تجلس مجلسا إلا وعندك من أهل الحديث من يحدثك فإن الزهري قال علم الحديث ذكر لا يحبه إلا ذكران الرجال ولا يكرهه إلا مؤنثوهم وصدق أخو زهرة وقد كان المنصور في شيبته يطلب العلم من مظانه والحديث والفقه فنال جانبا جيدا وطرفا صالحا وقد قيل له يوما يا أمير المؤمنين هل بقى شيء من اللذات لم تنله قال شيء واحد قالوا وماهو قال قول المح للشيخ من ذكرت رحمك الله فاجتمع وزراؤه وكتابه وجلسوا حوله وقالوا ليمل علينا أمير المؤمنين شيئا من الحديث فقال لستم بهم إنما هم الدنسه ثيابهم المشققة أرجلهم الطويلة شعورهم رواد الآفاق وقطاع المسافات تارة بالعراق وتارة بالحجاز وتارة بالشام وتارة باليمن فهؤلاء نقلة الحديث
وقال يوم لابنه المهدي كم عندك من دابة فقال لا أدري فقال هذا هو التقصير فأنت لأمر الخلافة أشد تضييعا فاتق الله يا بني وقالت خالصة إحدى حظيات المهدي دخلت يوما على المنصور وهو يشتكي ضرسه ويداه على صدغيه فقال لي كم عندك من المال يا خالصة فقلت ألف درهم فقال ضعي يدك على رأسي واحلفي فقلت عندي عشرة الآف دينار قال اذهبي فاحمليها الي قالت فذهبت حتى دخلت على سيدي المهدي وهو مع وزوجته الخيزران فشكوت ذلك إليه فوكزني برجله وقال ويحك إنه ليس يع وجع ولكني سألته بالأمس مالا فتمارض وانه لا يسعك إلا ما أمرك به فذهبت إليه خالصة ومعها عشرة الآف دينار فاستدعى بالمهدي فقال له تشكو الحاجة وهذا كله عند خالصه وقال المنصور لخازنه إذا علمت بمجيء المهدي فأتني بخلقان الثياب فقال يا بني من ليس له خلق ليس له جديد وقد حضر الشتاء فنحتاج نعين العيال والولد فقال المهدي على كسوة أمير المؤمنين وعياله فقال دونك فافعل
وذكر ابن جرير عن الهيثم أن المنصور أطلق في يوم واحد لبعض أعمامه ألف ألف درهم وفي هذا اليوم فرق بي بيته عشرة الاف درهم ولا يعلم خليفة فرق مثل هذا في يوم واحد وقرأ بعض القراء عند المنصور الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل فقال والله لولا أن المال حصن (10/126)
للسلطان ودعامة للدين والدنيا وعزهما مابت ليلة واحدة وأنا احرز منه دينارا ولا درهما لما أجد لبذل المال من اللذة ولما أعلم في إعطائه من جزيل المثوبة وقرأ عنده قاريئ آخر ولا تجعل يدك مغلولةإلى عنقك ولا تبسطها كل البسط الآية فقال ما أحسن ما أدبنا ربنا عز و جل وقال المنصور سمعت على بن عبدالله يقول سادة أهل الدنيا الأسخياء وسادة أهل الآخرة الأتقياء
ولما عزم المنصور على الحج هذه السنة دعا ولده المهدي فأوصاه في خاصة نفسه وبأهل بيته عليه وبسائر المسلمين خيرا وعلمه كيف يفعل الاشياء وتسد الثغور وأوصاه بوصايا يطول بسطها وحرج عليه أن لا يفتح شيئا من خزائن المسلمين حتى يتحقق وفاته فان بها من الاموال ما يكفي المسلمين لو لم يجب إليهم من الخوارج درهم عشر سنين وعهد إليه أن يقضي ما عليه من الدين وهو ثلاثمائة ألف دينار فإنه لم ير قضاءها من بيت المال فامتثل المهدي ذلك كله وأحرم المنصور بحج وعمرة من الرصافة وساق بدنه وقال يا بني إني ولدت في ذي الحجة وقد وقع لي أن أموت في ذي الحجة وهذا الذي جرأني على الحج عامي هذا وودعه وسار واعتراه مرض الموت في أثناء الطريق فما دخل مكة إلا وهو ثقيل جدا فلما كان بآخر منزل نزله دون مكه إذا في صدر منزله مكتوب ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ... ابا جعفر حانت وفاتك وانقضت ... سنوك وأمر الله لا بد واقع ... أبا جعفر هل كاهن أو منجم ... بك اليوم من كرب المنية مانع ...
فدعا بالحجبة فأقرأهم ذلك فلم يروا شيئا فعرف أن أجله قد نعى إليه قالوا ورأى المنصور في منامه ويقال بل هتف وهو يقول ... أما ورب السكون والحرك ... إن المنايا كثيرة الشرك ... عليك يا نفس إن أسأت وإن ... أحسنت يانفس كان ذاك لك ... ما اختلف الليل والنهار ولا ... دارت نجوم السماء في الفلك ... إلا بنقل السلطان عن ملك ... إذا انفضى ملكه إلى ملك ... حتى يصير أنه إلى ملك ... ما عز سلطانه بمشترك ... ذاك بديع السماء والارض والمر ... سى من الجبال المسخر الفلك ...
فقال المنصور هذا أوان حضور أجلي وانقضاء عمري وكان قد رأى قبل ذلك في قصره الخلد الذي بناه وتأنق فيه مناما أفزعه فقال للربيع ويحك يا ربيع لقد رأيت مناما هالني رأيت قائلا وقف في باب هذا القصر وهو يقول (10/127)
كأني بهذا القصر قد باد أهله ... وأوحش منه أهله ومنازله ... وصار رئيس القصر من بعد بهجة ... إلى جدث يبني عليه جنادله ...
فما أقام في الخلد إلا أقل من سنة حتى مرض في طريق الحج ودخل مكة مدنفا ثقيلا وكانت وفاته ليلة السبت لست وقيل لسبع مضين من ذي الحجة وكان آخر ما تكلم به أن قال اللهم بارك لي في لقائك وقيل انه قال يارب إن كنت عصيتك في أمور كثيرة فقد أطعتك في احب الاشياء اليك شهادة ان لا إله إلا الله مخلصا ثم مات وكان نقش ؟ خاتمه الله ثقة عبدالله وبه يؤمن وكان عمره يوم وفاته ثلاثا وستين سنة على المشهور منها ثنتان وعشرون سنة خليفة ودفن بباب المعلاة رحمه الله قال ابن جرير ومما رئى به قول سلم الخاسر الشاعر ... عجبا للذي نعى الناعان ... كيف فاهت بموته الشفتان ... ملك أن عدا على الدهر يوما ... أصبح الدهر ساقطا للجران ... ليت كفا حثت عليه ترابا ... لم تعد في يمنها ببنان ... حين دانت له البلاد على العس ... ف وأغضى من خوفه الثقلان ... اين رب الزوراء قد قلدته ال ... ملك عشرين خجة واثنتان ... إنما المرء كالزناد إذا ما ... أخذته قوادح النيران ... ليس يثني هواه زجر ولا يق ... دح في حبله ذوو الاذهان ... قلدته أعنه الملك حتى ... قاد أعداءه بغير عنان ... يكسر الطرف دونه وترى اللاي ... دي من خوفه على الاذقان ... ضم أطراف ملكه ثم أضحى ... خلف أقصاهم ودون الدانى ... هاشمي التشمير لا يحمل الثق ... ل على غارب الشرود الهدان ... ذو أناة ينسى لها الخائف الخوف ... وعزم يلوى بكل حنان ... ذهبت دونه النفوس حذارا ... غير أن الارواح في الابدان ...
وقد دفن عند باب المعلاة بمكة ولا يعرف قبره لأنه أعمى قبره فان الربيع الحاجب حفر مائة قبر ودفنه في غيرها لئلا يعرف
( ذكر اولاد المنصور )
محمد المهدي وهو ولي عهده وجعفر الاكبرمات في حياته وأمهما أروى بنت منصور وعيسى ويعقوب وسليمان وأمهم فاطمة بنت محمد من ولد طلحة بن عبيد الله وجعفر الاصغر من أم ولد كردية وصالح المسكين من أم ولد رومية ويقال لها قالى الفراشة والقاسم من أم (10/128)
ولد أيضا من إمرأة من بني أمية
( ذكر خلافة المهدي بن المنصور )
لما مات أبوه لست أو لسبع مضين من ذى الحجة من سنة ثمان وخمسين ومائة أخذت البيعة للمهدي من رؤس بني هاشم والقواد الذين هم مع المنصور في الحج قبل دفنه وبعث الربيع الحاجب بالبيعة مع البرد إلى المهدي وهو ببغداد فدخل عليه البريد بذلك يوم الثلاثاء النصف من ذي الحجة فسلم عليه بالخلافة وأعطاه الكتب بالبيعة وبايعه أهل بغداد ونفذت بيعته إلى سائر الآفاق وذكر ابن جرير أن المنصور قبل موته بيوم تحامل وتساند واستدعى بالأمراء فجدد البيعة لابنه المهدي فتسارعواإلى ذلك وتبادروا إليه وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بن يحيى بن محمد ابن علي بن عبدالله بن عباس عن وصية عمه المنصور وهو الذي صلى عليه وقيل إن الذي صلى على المنصور عيسى بن موسى ولي العهد من بعد المهدي والصحيح الأول لأنه كان نائب مكة والطائف وعلى إمرة عبدالصمد بن علي وعلى الكوفة عمر بن زهير الضبى أخوالمسيب ابن زهير أمير الشرطة للخليفة وعلى خراسان حميد بن قحطبة وعلى خراج البصرة وأرضها عمارة ابن حمزة وعلى صلاتها وقضائها عبدالله بن الحسن العنبرى وعلى أحداثها سعيد بن دعلج
قال الواقدي وأصاب الناس في هذه السنة وباء شديد فتوفي فيه خلق كثير وجم غفير منهم أفلح بن حميد وحيوة بن شريح ومعاوية بن صالح بمكة وزفر الهذيل ين قيس بن سليم ثم ساق نسبه إلى معد بن عدنان يقال له التميمي العنبري الكوفي الفقيه الحنفي أقدم أصحاب أبي حنيفة وفاة وأكثرهم استعمالا للقياس وكان عابدا اشتغل أولا بعلم الحديث ثم غلب عليه الفقه والقياس ولد سنة ست عشر ومائة وتوفي سنة ثمان وخمسين ومائة عن ثنتين وأربعين سنة رحمه الله وإيانا
( ثم دخلت سنة تسع وخمسون ومائة )
استهلت هذه السنة وخليفة الناس أبو عبدالله محمد بن المنصور المهدي فبعث في اولها العباس ابن محمد إلى بلاد الروم في جيش كثيف وركب معهم مشيعا لهم فساروا إليها فافتتحوا مدينة عظيمة للروم وغنموا غنائم كثيرة ورجعوا سالمين لم يفقد منهم أحد وفيها توفي حميد بن قحطبة نائب خراسان فولى المهدي مكانه أبا عون عبدالملك بن يزيد وولى حمزة بن مالك سجستان وولى جبريل بن يحيى سمرقند وفيها بنى المهدي مسجد الرصافة وخندقها وفيها جهز جيشا كثيفاإلى بلاد الهند فوصلوا اليها في السنة الآتية وكان من أمرهم ما سنذكره وفيها توفي نائب السند معبد بن الخليل فولى المهدي مكانه روح ين حاتم بمشورة وزيره أبي عبدالله وفيها أطلق المهدي من كان في السجون إلا من كان محبوسا على دم أو من سعى في الارض فسادا أو من كان عنده (10/129)
حق لأحد وكان من جملة من أخرج من المطبق يعقوب بن داود مولى بني سليم والحسن بن إبراهيم ابن عبدالله بن حسن وأمر بصيرورة حسن هذاإلى نصير الخادم ليحترز عليه وكان الحسن قد عزم على الهرب من السجن قبل خروجه منه فلما خرج يعقوب بن داود ناصح الخليفة بما كان عزم عليه فنقله من السجن وأودعه عند نصير الخادم ليحتاط عليه وحظي يعقوب بن داود عند المهدي جدا حتى صار يدخل عليه في الليل بلا استئذان وجعله على أمور كثيرة وأطلق له مائة الف درهم وما زال عنده كذلك حتى تمكن المهدي من الحسن بن إبراهيم فسقطت منزلة يعقوب عنده وقد عزل المهدي نوابا كثيرة عن البلاد وولى بدلهم وفي هذه السنة تزوج المهدي بأبنه عمه أم عبدالله بنت صالح بن علي وأعتق جاريته الخيزران وتزوجها أيضا وهي أم الرشيد وفيها وقع حريق عظيم في السفن التي في دجلة بغداد ولما ولى المهدي سأل عيسى بن موسى وكان ولي العهد بعده أن يخلع نفسه من الأمر فامتنع المهدي أن يقيم بأرض الكوفة في ضيعة له فأذن له وكان قد استقر على إمرة الكوفة روح بن حاتم فكتب إلى المهدي إن عيسى بن موسى لا يأتي الجمعة ولا الجماعة مع الناس إلا شهرين من السنة وإنه إذا جاء يدخل بدوابه داخل باب المسجد فتروث دوابه حيث يصلي الناس فكتب إليه المهدي أن يعمل خشبا على أفواه السكك حتى لا يصل الناس إلى المسجد إلا مشاة فعلم بذلك عيسى بن موسى فاشترى قبل الجمعة دار المختار بن أبي عبيده من ورثته وكانت ملاصقة للمسجد وكان يأتي اليها من يوم الخميس فاذا كان يوم الجمعة ركب حمارا إلى باب المسجد فنزل إلى هناك وشهد الصلاة مع الناس وأقام بالكلية بالكوفة بأهله ثم الح عليه المهدي في أن يخلع نفسه وتوعده إن لم يفعل ووعده إن فعل فأجابه إلى ذلك فأعطاه أقطاعا عظيمة وأعطاه من المال عشرة الآف ألف وقيل عشرين ألف ألف وبايع المهدي لولديه من بعده موسى الهادي ثم هارون الرشيد كما سيأتي
وحج بالناس يزيد بن منصور خال المهدي وكان نائبا على اليمن فولاه الموسم واستقدمه عليه شوقا إليه وغالب نواب البلاد عزلهم المهدي غير أن إفريقية مع يزيد بن حاتم وعلى مصر محمد إبن سليمان أبو ضمرة وعلى خراسان أبو عون وعلى السند بسطام بن عمرو وعلى الاهواز وفارس عمارة بن حمزة وعلى اليمن رجاء بن روح وعلى اليمامة بشر بن المنذر وعلى الجزيرة الفضل بن صالح وعلى المدينة عبيد الله بن صفوان الجمحي وعلى مكة والطائف إبراهيم بن يحيى وعلى أحداث الكوفة إسحاق بن الصباح الكندي وعلى خراجها ثابت بن موسى وعلى قضائها شريك بن عبدالله النخعي وعلى أحداث البصرة عمارة بن حمزه وعلى صلاتها عبد الملك بن أيوب بن ظبيان النمري وعلى قضائها عبيد الله بن الحسن العنبري (10/130)
وفيها توفي عبد العزيز بن أبي رواد وعكرمة بن عمار ومالك بن مغول ومحمد بن عبدالرحمن ابن أبي ذيب المدني نظير مالك بن أنس في الفقه وربما أنكر على مالك أشياء ترك الأخذ فيها ببعض الاحاديث كان يراها مالك من إجماع أهل المدينة وغير ذلك من المسائل
( ثم دخلت سنة ستين ومائة )
فيها خرج رجل بخراسان على المهدي منكرا عليه أحواله وسيرته وما يتعاطاه يقال له يوسف البرم والتف عليه خلق كثير وتفاقم الامر وعظم الخطب به فتوجه اليه يزيد بن مزيد فلقيه فاقتتلا قتالا شديدا حتى تنازلا وتعانقا فأسر زيد بن مزيد يوسف هذا وأسر جماعة من أصحابه فبعثهم إلى المهدي فأدخلوا عليه وقد حملوا على جمال محموله وجوههم إلى ناحية أذناب الابل فأمر الخليفة هرثمة أن يقطع يدي يوسف ورجليه ثم يضرب عنقه وأعناق من معه وصلبهم على جسر دجلة الأكبر مما يلي عسكر المهدي وأطفا الله ثائرتهم وكفى شرهم
( البيعة لموسى الهادي )
ذكرنا أن المهدي الح على عيسى بن موسى أن يخلع نفسه وهو مع كل ذلك يمتنع وهو مقيم بالكوفة فبعث إليه المهدي أحد القواد الكبار وهو أبو هريرة محمد بن فروخ في ألف من أصحابه لاحضاره إليه وأمر كل واحد منهم أن يحمل طبلا فاذا واجهوا الكوفة عند إضاءة الفجر ضرب كل واحد منهم على طبله ففعلوا ذلك فارتجت الكوفة وخاف عيسى بن موسى فلما انتهوا إليه دعوه إلى حضرة الخليفة فأظهر أنه يشتكى فلم يقبلوا ذلك منه بل أخذوه معهم فدخلوا به على الخليفة في يوم الخميس لثلاث خلون من المحرم من هذه السنة فاجتمع عليه وجوه بني هاشم والقضاة والاعيان وسألوه في ذلك وهو يمتنع ثم لم يزل الناس به بالرغبة والرهبة حتى أجاب يوم الجمعة لأربع مضين من المحرم بعد العصر وبويع لولدي المهدي موسى بن هارون الرشيد صباحه يوم الخميس لثلاث بقين من المحرم وجلس المهدي في قبة عظيمة في إيوان الخلافة ودخل الأمراء فبايعوه ثم نهض فصعد المنبر وجلس ابنه موسى الهادي تحته وقام عيسى بن موسى في أول درجة وخطب المهدي فأعلم الناس بما وقع من خلع عيسى بن موسى نفسه وأنه قد حلل الناس من الايمان التي له في أعناقهم وجعل ذلك إلى موسى الهادي فصدق عيسى ين موسى ذلك وبايع المهدي علي ذلك ثم نهض الناس فبايعوا الخليفة على حسب مراتبهم وأسنانهم وكتب على عيسى بن موسى مكتوبا مؤكدا بالايمان البالغة من الطلاق والعتاق وأشهد عليه جماعة الأمراء والوزراء وأعيان بني هاشم وغيرهم وأعطاه ما ذكرنا من الاموال وغيرها
وفيها دخل عبدالملك بن شهاب المسمعي مدينة بإربد من الهند في جحفل كبير فحاصرها (10/131)
ونصبوا عليها المجانيق ورموها بالنفط فأحرقوا منها طائفة وهلك بشر كثير من أهلها وفتحوها عنوة وأرادوا الأنصراف فلم يمكنهم ذلك لاعتلاء البحر فأقاموا هنالك فأصابهم داء في أفواههم يقال له حمام قر فمات منهم ألف نفس منهم الربيع بن صبيح فلما أمكنهم المسير ركبوا في البحر فهاجت عليهم ريح فغرق طائفة أيضا ووصل بقيتهم إلى البصرة ومعهم سبي كثير فيهم بنت ملكهم وفيها حكم المهدي بإلحاق ولد أبي بكر الثقفي إلى ولاء رسول الله صلى الله عليه و سلم وقطع نسبهم من ثقيف وكتب بذلك كتاباإلى والي البصرة وقطع نسبه من زياد ومن نسب نافع ففي ذلك يقول بعض الشعراء وهو خالد النجار
... إن زياد ونافعا وأبا ... بكره عندي من أعجب العجب ... ذا قرشي كما يقول وذا ... مولى وهذا بزعمه عربي ...
وقد ذكر إبن جرير أن نائب البصرة لم ينفذ ذلك
وفي هذه السنة حج بالناس المهدي واستخلف على بغداد ابنه موسى الهادي واستصحب معه ابنه هارون الرشيد وخلقا من الأمراء منهم يعقوب بن داود على منزلته ومكانته وكان الحسن ابن إبراهيم قد هرب من الخادم فلحق بأرض الحجاز فاستأمن له يعقوب بن داود فأحسن المهدي صلته وأجزل جائزته وفرق المهدي في أهل مكة مالا كثيرا جدا كان قد قدم معه بثلاثين ألف ألف درهم ومائة الف ثوب وجاء من مصر ثلثمائة ألف دينار ومن اليمن مائتا الف دينار فأعطاها كلها في أهل مكة والمدينة وشكت الحجبة الى المهدي أنهم يخافون على الكعبة أن تنهدم من كثرة ما عليها من الكساوى فأمر بتجريدها فلما انتهوا إلى كساوي هشام بن عبدالملك وجدها من ديباج ثخين فأمر بإزالتها وبقيت كساوى الخلفاء قبله وبعده فلما جردها طلاها بالخلوف وكساها كسوة حسنة جدا ويقال إنه استفتى مالكا في إعادة الكعبة إلى ما كانت عليه من بناية ابن الزبير فقال مالك دعها فإني أخشى أن يتخذها الملوك ملعبة فتركها على ماهي
وحمل له محمد بم سليمان نائب البصرة الثلج إلى مكة وكان أول خليفة حمل إليه الثلج اليها زاده معاوية بن أبي سفيان فقال له مالك إنه يخشى أن ينكسر خشبه العتيق إذا زعزع فتركه وتزوج من المدينة رقية بنت عمرو العثمانية وأنتخب من أهلها خمسمائة من أعيانها ليكونوا حوله حرسا بالعراق وأنصارا وأجرى عليهم أرزاقا غير أعطياتهم وأقطعهم أقطاعا معروفة بهم
وفيها توفي الربيع بن صبيح وسفيان بن حسين أحد أصحاب الزهري وشعبة بن الحجاج بن الورد العتكي الازدي أبو بسطام ثم انتقلا إلى البصرة رأى شعبة الحسن وابن سيرين (10/132)
وروى عن أمم التابعين وحدث عنه خلق من مشايخه وأقرانه وأئمة الاسلام وهو شيخ المحدثين الملقب فيهم بأمير المؤمنين قاله الثوري وقال يحيى بن معين هو إمام المتقين وكان في غاية الزهد والورع والتقشف والحفظ وحسن الطريقة وقال الشافعي لولاه ما عرف الحديث بالعراق وقال الامام أحمد كان أمة وحده في هذا الشأن ولم يكن في زمانه مثله وقال محمد بن سعد كان ثقة مأمونا حجة صاحب حديث وقال وكيع إني لأرجو أن يرفع الله لشعبة في الجنة درجات ندبة عن حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال صالح بن محمد بن حرزة كان شعبة أول من تكلم في الرجال وتبعه يحيى القطان ثم أحمد وابن معين وقال ابن المهدي ما رأيت أعقل من مالك ولا أشد تقشفا من شعبة ولا أنصح للأمة من ابن المبارك ولا أحفظ للحديث من الثوري وقال مسلم بن إبراهيم ما دخلت على شعبة في وقت صلاة إلا ورأيته يصلي وكان أبا الفقراء وأما لهم وقال النضر ابن شميل ما رأيت أرحم بمسكين منه كان إذا رأى مسكينا لا يزال ينظر إليه حتى يغيب عنه وقال غيره ما رأيت أعبد منه لقد عبدالله حتى لص جلده بعظمة وقال يحيى القطان ما رأيت أرق للمسكين منه كان يدخل المسكين في منزله فيعطيه ماأمكنه قال محمد بن سعد وغيره مات في أول سنة ستين ومائة في البصرة عن ثمان وسبعين سنة
( ثم دخلت سنة إحدى وستين ومائة )
فيها غزا الصائفة ثمامة بن الوليد فنزل دابق وجاشت الروم عليه فلم يتمكن المسلمون من الدخول اليها بسبب ذلك وفيها أمر المهدي بحفر الركايا وعمل المصانع وبناء القصور في طريق مكة وولى يقطين بن موسى على ذلك فلم يزل يعمل في ذلك إلى سنة إحدى وسبعين ومائة مقدار عشر سنين حتى صارت طريق الحجاز من العراق من أرفق الطرقات وآمنها وأطيبها وفيها وسع المهدي جامع البصرة من قبلته وغربه وفيها كتب إلى الآفاق أن لا تبقى مقصورة في مسجد جماعة وأن تقصر المنابر إلى مقدار منبر رسول الله صلى الله عليه و سلم ففعل ذلك في المدائن كلها وفيها أتضعت منزله أبي عبيد الله وزير المهدي وظهرت عنده خيانته فضم إليه المهدي من يشرف عليه وكان ممن ضم إليه اسماعيل بن عليه ثم أبعده واقصاه وأخرجه من معسكره وفيها ولى القضاء عافية بن يزيد الازدي وكان يحكم هو وابن علاثة في عسكر المهدي بالرصافة وفيها رجل يقال له المقنع بخراسان في قرية من قرى مرو كان يقول بالتناسخ واتبعه على ذلك خلق كثير فجهز إليه المهدي عدة من أمرائه وأنفذ إليه جيوشا كثيرة منهم معاذ بن مسلم أمير خراسان وكان من أمره وأمرهم ماسنذكره
وحج بالناس فيها موسى الهادي بن المهدي وفيها توفي اسرائيل بن يونس بن إسحاق السبيعي (10/133)
وزائدة بن قدامة ( سفيان بن سعد ) بن مسروق الثوري أحد أئمة الاسلام وعبادهم والمقتدي به أبو عبدالله الكوفي وروى عن غير واحد من التابعين وروى عنه خلق من الائمة وغيرهم قال شعبة وأبو عاصم وسفيان بن عتيبة ويحيى بن معين وغير واحد وهو أمير المؤمنين في الحديث
وقال ابن المبارك كتبت عن ألف شيخ ومائة شيخ هو أفضلهم وقال أيوب ما رأيت كوفيا أفضله عليه وقال يونس بن عبيد مارأيت أفضل منه وقال عبدالله مارأيت أفقه من الثوري وقال شعبة ساد في الناس بالورع والعلم وقال اصحاب المذاهب الثلاثة ابن عباس زمانه والسعبي في زمانه والثوري في زمان وقال الامام أحمد لا يتقدمه في قلبي أحد ثم قال تدري من الامام الامام سفيان الثوري وقال عبد الرازق سمعت الثوري يقول ما استودعت قلبي شيئا قط فخانني ختى إني لأمر بالحائك يتغنى فأسد اذني مخافة أن أحفظ ما يقول وقال لأن أترك عشرة آلاف دينار يحاسبنى الله عليها أحب الي من أن أحتاج الناس
قال محمد بن سعد أجمعو أنه توفي في البصرة سنة إحدى وستين ومائة وكان عمره يوم مات أربعا وستين سنة ورآه بعضهم في المنام يطير في الجنة من نخله إلى نخله ومن شجرةإلى شجره وهو يقرأ الحمد لله الذي صدقنا وعده الآية وقال إذا ترأس الرجل سريعا آخر بكثير من العلم وممن توفي فيها
( أبو دلامه )
زيد بن الجون الشاعر الماجن أحد الظرفاء أصله من الكوفة وأقام ببغداد وحظي عند المنصور لأنه كان يضحكه وينشده الأشعار ويمدحه حضر يوما جنازة إمرأة المنصور وكانت ابنة عمه يقال لها حمادة بنت عيسى وكان المنصور قد حزن عليها فلما سووا عليها التراب وكان أبو دلامة حاضرا فقال له المنصور ويحك يا أبا دلامة ما أعددت لهذا اليوم فقال ابنة عم أمير المؤمنين فضحك المنصور حتى استلقى ثم قال ويحك فضحتنا ودخل يوما على المهدي يهنئه بقدومه من سفره وأنشده ... إني حلفت لئن رأيتك سالما ... بقرى العراق وانت ذو وفر ... لتصلين على النبي محمد ... ولتملأن دراهما حجري ...
فقال المهدي أما الأولى فنعم نصلي على النبي محمد صلى الله عليه و سلم وأما الثانية فلا فقال يا أمير المؤمنين هما كلمتان فلا تفرق بينهما فأمر أن يملأ حجره دراهم ثم قال له قم فقال ينخرق منها قميصي فأفرغت منه في أكياسها ثم قام فحملها وذهب وذكر عنه ابن خلكان أنه مرض ابن له فداواه طبيب فلما عوفي قال له ليس عندنا ما نعطيك ولكن أدع فلان اليهودي بمبلغ ما تستحقه عندنا من أجرتك حتى أشهد أنا وولدي بالمبلغ المذكور قال فذهب الطبيب إلى قاضى الكوفة محمد (10/134)
ابن عبدالرحمن بن أبي ليلى وقيل ابن شبرمه فادعى عليه عنده فأنكر اليهودي فشهد له أبو دلامه وابنه فلم يستطع القاضي أن يرد شهادتهما وخاف من طلب التزكية فأعطى الطبيب المدعي المال من عنده وأطلق اليهودي وجمع القاضي بين المصالح توفي أبو دلامة في هذه السنة وقيل إنه أدرك خلافة الرشيد سنة سبعين فالله أعلم
( ثم دخلت سنة ثنتين وستين ومائة )
فيها خرج عبد السلام بن هاشم اليشكري بأرض قنسرين وأتبعه خلق كثير وقويت شوكته فقاتله جماعة من الأمراء فلم يقدروا عليه فجهز إليه المهدي جيوشا وأنفق عليهم أمولا فهزمهم مرات ثم آل الأمر به فقتل بعد ذلك وفيها غزا الصائفة الحسن بن قحطبة في ثمانين ألفا من المرتزقة سوى المتطوعة فدمر الروم وحرق بلدانا كثيرة وخرب أماكن وأسر خلقا من الذراري وكذلك غزا يزيد بن أبي أسيد السلمي بلادالروم من باب قالبقلا فغنم وسلم وسبا خلقا كثيرا
وفيها خرجت طائفة بجرجان فلبسوا الحمرة مع رجل يقال له عبد القهار فغزاه عمرو بن العلاء من طبر ستان فقهر غبد الفهار وقتله وأصحابه وفيها أجرى المهدي الأرزاق في سائر الاقاليم والآفاق على المجذومين والمحبوسين وهذه مثوبة عظيمة ومكرمة جسيمة وفيها حج بالناس إبراهيم بن جعفر بن المنصور وفيه توفي من الاعيان
( إبراهيم بن أدهم )
أحد مشاهير العباد وأكابر الزهاد كانت له همة عالية في ذلك رحمه الله فهو إبراهيم بن أدهم بن منصور بن يزيد بن عامر بن إسحاق التميمي ويقال له العجلي أصله من بلخ ثم سكن الشام ودخل دمشق وروى الحديث عن أبيه الأعمش ومحمد بن زياد صاحب أبي هريرة وأبي إسحاق السبيعي وخلق وحدث عنه خلق منهم بقية والثورى وأبو اسحاق الفزارى ومحمد بن حميد وحكى عنه الأوزاعي وروى الحديث عن إبن عساكر من طريق عبدالله بن عبد الرحمن الجزري عن إبراهيم بن أدهم عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال
( دخلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يصلي جالسا فقلت يا رسول الله إنك تصلي جالسا فماأصابك قال الجوع يا أبا هريره قال فبكيت فقال لا تبك فإن شدة يوم القيامة لا تصيب الجائع إذا احتسب في دار الدنيا ) ومن طريق بقية عن إبراهيم بن أدهم
حدثني أبو اسحاق الهمداني عن عمارة بن عزية عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( إن الفتنة تجيء فتنسف العباد نسفا وينجوا العالم منها بعلمه )
قال النسائي إبراهيم بن أدهم ثقة مأمون أحد الزهاد وذكر أبو نعيم أنه كان ابن ملك من ملوك خراسان وكان قد حبب إليه الصيد قال فخرجت مرة فأثرت ثعلبا فهتف بي هاتف (10/135)
من قربوس سرجى ما لهذا خلقت ولا بهذا أمرت قال فوقف وقلت انتهيت انتهيت جاءني نذير من رب العالمين فرجعت إلى أهلي فخلت عن فرسي وجئت الى بعض رعاة أبي فأخذت منه حبة وكساء ثم ألقيت ثيابي اليه ثم أقبلت إلى العراق فعملت بها أياما فلم يصف لي بها الحلال فسألت بعض المشايخ عن الحلال فأرشدني إلى بلاد الشام فأتيت طرطوس فعملت بها أياما أنطر البساتين وأحصد الحصاد وكان يقول ما تهنيت بالعيش إلا في بلاد الشام أفر بديني من شاهق إلى شاهق ومن جبل إلى جبل فمن يراني يقول هو موسوس ثم خل البادية ودخل مكة وصحب الثوري والفضل بن عياض ودخل الشام ومات بها وكان لا يأكل إلا من عمل يديه مثل الحصاد وعمل الفاعل وحفظ البستان وغيرذلك وما روى عنه أنه وجد رجلا في البادية فعلمه أسم الله الأعظم فكان يدعو به حتى رأى الخضر فقال له إنما علمك أخي داود اسم الله ألاعظم وذكره القشيري وابن عساكر عنه بإسناد لا يصح وفيه أنه قال له الياس علمك اسم الله الاعظم وقال إبراهيم أطيب مطعمك ولا عليك أن لا تقوم الليل ولاتصوم النهار
وذكر أبو نعيم عنه أنه كان أكثر دعائه اللهم أنقلني من ذل معصيتك إلى عز طاعتك وقيل له إن اللحم غلا فقال ارخصوه أي لا تشتروه فانه يرخص وقال بعضهم هتف به الهاتف من فوقه يا إبراهيم ماهذا العبث أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون اتق الله وعليك بالزاد ليوم القيامة فنزل عن دابته ورفض الدنيا وأخذ في عمل الآخرة وروى ابن عساكر بإسناد فيه نظر من ابتداء أمره قال بينما أنا يوما في منظرة ببلخ واذا شيخ حسن الهيئة حسن اللحية قد استظل بظلها فاخذ بمجامع قلبي فأمرت غلاما فدعاه فدخل فعرضت عليه الطعام فأبى فقلت من أين أقبلت قال من وراء النهر قلت أين تريد قال الحج قلت في هذا الوقت وقد كان أول يوم من ذي الحجة أو ثانيه فقال يفعل الله ما يشاء فقلت الصحبة قال إن أحببت ذلك فموعدك الليل فلما كان الليل جاءني فقال قم بسم الله فأخذت ثياب سفري وسرنا نمشي كأنما الارض تجذب من تحتنا ونحن نمر على البلدان ونقول هذه فلانه هذه فلانه فإذا كان الصباح فارقني ويقول موعدك الليل فاذا كان الليل جاءني ففعلنا مثل ذلك فانتهينا إلى مدينة النبي صلى الله عليه و سلم ثم سرناإلى مكة فجئناها ليلا فقضينا الحج مع الناس ثم رجعناإلى الشام فزرنا بيت المقدس وقال إني عازم على المقام بالشام ثم رجعت أنا إلى بلدي بلخ كسائر الضعفاء حتى رجعنا اليها ولم أسأله عن اسمه فكان ذلك أول أمرى
[ وروى من وجه آخر فيه نظر وقال أبو حاتم الرازي عن أبي نعيم عن سفيان الثوري قال كان إبراهيم بن أدهم يشبه إبراهيم الخليل ولو كان في الصحابة كان رجلا فاضلا له سرائر وما رأيته (10/136)
يظهر تسبيحا ولا شيئا ولا أكل مع أحد طعاما إلا كان آخر من يرفع يديه ]
وقال عبد الله بن المبارك كان ابراهم رجلا فاضلا له سرائر ومعاملات بينه وبين الله عز و جل وما رأيته يظهر تسبيحا ولا شيئا من عمله ولا أكل مع أحد طعاما إلا كان آخر من يرفع يده وقال بشر بن الحارث الحافي أربعة رفعهم الله بطيب المطعم إبراهيم ابن أدهم وسليمان بن الخواص ووهيب بن الورد ويوسف بن اسباط وروى ابن عساكر من طريق معاوية بن حفص قال إنما سمع إبراهيم بن أدهم حديثا واحدا فأخذ به فساد أهل زمانه قال
حدثنا منصور عن ربعي بن خراش قال جاء رجلإلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله دلني على عمل يحبني الله عليه ويحبني الناس قال ( إذا أردت أن يحبك الله فأبغض الدنيا وأذا أردت أن يحبك الناس فما عندك من فضولها فانبذه اليهم ) وقال ابن أبي الدنيا حدثنا أبو ربيع عن إدريس قال جلس إبراهيم إلى بعض العلماء فجعلوا يتذكرون الحديث وإبراهيم ساكت ثم قال حدثنا منصور ثم سكت فلم ينطق بحرف حتى قام من ذلك المجلس فعاتبه بعض أصحابه في ذلك فقال إني لأخشى مضرة ذلك المجلس في قلبي إلى هذا اليوم وقال رشدين بن سعد مر إبراهيم بن أدهم بالأوزاعي وحوله حلقة فقال لو ان هذه الحلقة على أبي هريرة لعجز عنهم فقام الأوزاعي وتركهم وقال إبراهيم بن بشار قيل لابن أدهم لم تركت الحديث فقال إني مشغول عنه بثلاث بالشكر على النعم والاستغفار من الذنوب وبالاستعداد للموت ثم صاح وغشى عليه فسمعوا هاتفا يقول لا تدخلوا بيني وبين أوليائي
وقال أبو حنيفة يوما لابراهيم بن أدهم قد رزقت من العباد شيئا صالحا فليكن العلم من بالك فانه رأس العباد وقوام الدين فقال له إبراهيم وأنت فليكن العبادة والعمل بالعلم من بالك وإلا هلكت وقال إبراهيم ماذا أنعم الله على الفقراء لا يسألهم يوم القيامة عن زكاة ولا عن حج ولا عن جهاد ولا عن صلة رحم إنما يسأل ويحاسب هؤلاء المساكين الأغنياء وقال شفيق بن إبراهيم لقيت ابن أدهم بالشام وقد كنت رأيته بالعراق وبين يديه ثلاثون شاكريا فقلت له تركت ملك خراسان وخرجت من نعمتك فقال اسكت ما تهنيت بالعيش إلا ههنا أفر بديني من شاهق إلى شاهق فمن يراني يقول هو موسوسن أو حمال أو ملاح ثم قال بلغني أنه يؤتى بالفقير يوم القيامة فيوقف بين يدي الله فيقول له يا عبدي مالك لم تحج فيقول يا رب لم تعطني شيئا احج به فيقول الله صدق عبدي اذهبوا به إلى الجنة وقال أقمت بالشام أربعا وعشرين سنة ولم أقم بها لجهاد ولا رباط إنما نزلتها لآشبع من خبز حلال وقال الحزن حزنان حزن لك وحزن عليك فحزنك على الآخرة لك وحزنك على الدنيا وزينتها عليك وقال الزهد ثلاثة واجب (10/137)
ومستحب وزهد سلامة فأما الواجب فالزهد في الحرام والزهد عن الشهوات الحلال مستحب والزهد عن الشبهات سلامة وكان هو واصحابه يمنعون أنفسهم الحمام والماء البارد والحذاء ولا يجعلون في ملحهم ابزارا وكان إذا جلس على سفرة فيها طعام طبي رمى بطيبها إلى أصحابه وأكل هو الخبز والزيتون وقال قله الحرص والطمع تورث الصدق والورع وكثرة الحرص والطمع تورث الغم والجزع وقال له رجل هذه جبة أحب أن تقبلها مني فقال إن كنت غنيا قبلتها وإن كنت فقيرا لم أقبلها قال أنا غني كم عندك قال الفان قال تود أن تكون أربعة الآف قال نعم قال فأنت فقير لا أقبلها منك وقيل له لو تزوجت فقال لو أمكنني أن أطلق نفسي لطلقتها ومكث بمكة خمسة عشر يوما لاشيء له ولم يكن له زاد سوى الرمل بالماء وصلى بوضوء واحد خمس عشرة صلاة وأكل يوما على حافة الشريعة كسيرات مبلولة بالماء وضعل بين يديه أبو يوسف الغسولي فأكل منها ثم قام فشرب من الشريعة ثم [ جاء واستلقى على قفاه وقال يا أبا يوسف لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا بالسيوف أيام الحياة على ما نحن فيه من لذيذ العيش فقال أبو يوسف طلب القوم الراحة والنعيم فأخطأوا الطريق المستقيم فتبسم إبراهيم وقال من أين لك هذا الكلام وبينما هو بالمصيصة في جماعة من أصحابه إذا جاءه راكب فقال أيكم إبراهيم بن أدهم فأرشد اليه فقال يا سيدي أنا غلامك وإن أباك قد مات وترك مالا هو عند القاضي وقد جئتك بعشرة الاف درهم لتنفقها عليك إلى بلخ وفرس وبغله فسكت إبراهيم طويلا ثم رفع رأسه فقال إن كنت صادقا فالدراهم والفرس والبغلة لك ولا تخبر به أحدا ويقال إنه ذهب بعد ذلك إلى بلخ وأخذ المال من الحاكم وجعله كله في سبيل الله
وكان معه بعض أصحابه فمكثوا شهرين لم يحصل لهم شيء يأكلونه فقال له إبراهيم أدخل إلى هذه الغيضة وكان ذلك في يوم شات قال فدخلت فوجدت شجرة عليها خوخ كثير فملأت منه جرابي ثم خرجت فقال ما معك قلت خوخ فقال يا ضعيف اليقين لو صبرت لوجدت رطبا جنيا كما رزقت مرين بنت عمران وشكا إليه بعض أصحابه الجوع فصلى ركعتين فإذا حوله دنانير كثيرة فقال لصاحبه خذ منها دينارا فأخذه واشترى لهم به طعاما وذكروا أنه كان يعمل بالفاعل ثم يذهب فيشتري البيض والزبدة وتارة الشواء والجوذبان والخبيص فيطعمة أصحابه وهو صائم فإذا أفطر يأكل من رديء الطعام ويحرم نفسه المطعم الطيب ليبر به الناس تأليفا لهم وتحببا وتوددا اليهم
وأضاف الأوزاعي إبراهيم بن أدهم فقصر إبراهيم في الاكل فقال مالك قصرت فقال لأنك قصرت في الطعام ثم عمل إبراهيم طعاما كثيرا ودعا الأوزاعي فقال الأوزاعي أما تخاف (10/138)
أن يكون سرفا فقال لا إنما السرف ما كان في معصية الله فأما ما أنفقه الرجل على إخوانه فهو من الدين وذكر أنه حصد مرة بعشرين دينارا فجلس مرة عند حجام وهو صاحب له ليحلق رؤسهم ويحجمهم فكأنه تبرم بهم واشتغل عنهم بغيرهم فتاذى صاحبه من ذلك ثم أقبل عليهم الحجام فقال ماذا تريدون قال إبراهيم أريد أن تحلق رأسي وتحجمني ففعل ذلك فأعطاه إبراهيم العشرين دينارا وقال أردت أن لا تحقر بعدها فقيراأبدا وقال مضاء بن عيسى ما فاق إبراهيم أصحابه بصوم ولا صلاة ولكن بالصدقة والسخاء
[ وكان إبراهيم يقول فروا من الناس كفراركم من الاسد الضاري ولا تخلفوا عن الجمعة والجماعة وكان إذا سافر مع أحد من أصحابه يحدثه إبراهيم وكان إذا حضر في مجلس فكأنما على رؤسهم الطير هيبة وإجلالا وربما تسامر هو وسفيان الثوري في الليلة الشاتية إلى الصباح وكان الثوري يتحرز معه في الكلام ورأى رجلا قيل له هذا قاتل خالك فذهب إليه فسلم عليه وأهدى له وقال بلغني أن الرجل لا يبلغ درجة اليقين حتى يأمنه عدوه وقال له رجل طوبى لك أفنيت عمرك في العبادة وتركت الدنيا والزوجات فقال الك عيال قال نعم فقال لروعة الرجل بعياله يعني في بعض الاحيان من الفاقة أفضل من عبادة كذا وكذا سنة ورآه الأوزاعي ببيروت وعلى عنقه حزمة حطب فقال يا أبا اسحاق إن إخوانك يكفونك هذا فقال له اسكت يا أبا عمرو فقد بلغني أنه إذا وقف الرجل موقف مذلة في طلب الحلال وجبت له الجنة وخرج ابن أدهم من بيت المقدس فمر بطريق فأخذته المسلحة في الطريق فقالوا أنت عبد قال نعم قالوا آبق قال نعم فسجنوه فبلغ أهل بيت المقدس خبره فجاؤا برمتهم إلى نائب طبرية فقالوا علام سجنت ابراهم ابن أدهم قال ماسجنته قالوا بلى هو في سجنك فاستحضره فقال علام سجنت فقال سل المسلحه قالوا أنت عبد قلت نعم وانا عبدالله قالوا آبق قلت نعم وأنا عبد آبق من ذنوبي فخلى سبيله
وذكروا أنه مر مع رفقة فاذا الاسد على الطريق فتقدم إليه ابراهيم بن أدهم فقال له يا قسورة إن كنت أمرت فينا بشيء فافض ما أمرت به وإلا فعودك على بدئك قالوا فولى السبع ذاهبا يضرب بذنبه ثم أقبل علينا إبراهيم فقال قولوا اللهم راعنا بعينك التي لا تنام واكنفنا بكنفك الذي لا يرام وأرحمنا بقدرتك علينا ولا نهلك وأنت رجاؤنا ياالله ياالله يا الله قال خلف بن تميم فما زلت أقولها منذ سمعتها فما عرض لي لص ولاغيره
وقد روى لهذا شواهد من وجوه أخر وروى أنه كان يصلي ذات ليلة فجاءة ] أسد (10/139)
ثلاثة فتقدم إليه أحدهم فشم ثيابه ثم ذهب فربض قريبا منه وجاء الثاني ففعل مثل ذلك وجاء الثالث ففعل مثل ذلك واستمر إبراهيم في صلاته فلما كان وقت السحر قال لهم إن كنتم أمرتم بشيء فهلموا وإلا فانصرفوا فانصرفوا وصعد مرة جبلا بمكة ومعه جماعة فقال لهم فقال لهم لوأن وليا من أولياء الله قال لجبل زل لزال فتحرك الجبل تحته فوكزه برجله وقال اسكن اسكن فإنما ضربتك مثلا لأصحابي وكان الجبل أبا قبيس وركب مرة سفينة فأخذهم الموج من كل مكان فلف إبراهيم رأسه بكسائه واضطجع وعج أصحاب السفينة بالضجيج والدعاء وأيقظوه وقالوا الا ترى ما نحن فيه من الشدة فقال ليس هذه شدة وإنما الشدة الحاجة إلى الناس ثم قال اللهم أريتنا قدرتك فأرنا عفوك فصار البحر كأنه قدح زيت وكان قد طالبه صاحب السفينة بأجرة حمله دينارين وألح عليه فقال له اذهب معي حتى أعطيك ديناريك فأتى إلى جزيرة في البحر فتوضأ إبراهيم وصلى ركعتين ودعا وإذا ما حوله قد مليء دنانير فقال له خذ حقك ولا تزد ولا تذكر هذا لأحد وقال حذيفة المرعشي أويت أنا وإبراهيم إلى مسجد خراب بالكوفة وكان قد مضى علينا أياما لم نأكل فيها شيئا فقال لي كأنك جائع قلت نعم فأخذ رقعة فكتب فيها بسم الله الرحمن الرحيم أنت المقصود إليه بكل حال المشارإليه بكل معنى ... أنا حامد أنا ذاكر أنا شاكر ... أنا جائع أنا حاسر أنا عاري ... هي ستة وأنا الضمين لنصفها ... فكن الضمين لنصفها ياباري ... مدحي لغيرك وهج نار خضتها ... فأجر عبيدك من دخول النار ...
ثم قال أخرج بهذه الرقعة ولا تعلق قلبك بغير الله سبحانه وتعالى وادفع هذه الرقعة لأول رجل تلقاه فخرجت فإذا رجل على بغلة فدفعتها إليهفلما قرأها بكى ودفع إلى ستمائة دينار وانصرف فسألت رجلا من هذا الذي على البغلة فقالوا هو رجل نصراني فجئت إبراهيم فأخبرته فقال الآن يجيء فيسلم فما كان غير قريب حتى جاء فأكب على رأس إبرهيم وأسلم وكان إبراهيم يقول دارنا امامنا وحياتنا بعد وفاتنا فأما الى الجنة وإما الى النار مثل لبصرك حضور ملك الموت وأعوانه لقبض روحك وانظر كيف تكون حينئذ ومثل له هول المضجع ومساءلة منكر ونكير وانظر كيف تكون ومثل له القيامة وأهوالها وأفزاعها والعرض والحساب وانظر كيف تكون ثم صرخ صرخة خر مغشيا عليه ونظر إلى رجل من أصحابه يضحك فقال له لا تطمع فيما لا يكون ولا تنسى ما يكون فقيل له كيف هذا يا أبا إسحاق فقال لا تطمع في البقاء والموت يطلبك فكيف يضحك من يموت ولا يدري أين يذهب به إلى جنة أم إلى نار لا تنس ما يكون الموت يأتيك صباحا أو مساء ثم قال أوه أوه ثم خر مغشيا عليه وكان يقول مالنا نشكو فقرنا إلى (10/140)
مثلنا ولا نسأل كشفه من ربنا ثم يقول ثكلت عبدا أمه أحب الدنيا ونسي ما في خزائن مولاه وقال إذا كنت بالليل نائما وبالنهار هائما وفي المعاصي دائما فكيف ترضى من هو بأمورك قائما ورآه بعض أصحابه وهو بمسجد بيروت وهو يبكي ويضرب بيديه على رأسه فقال ما يبكيك فقال ذكرت يوما تنقلب فيه القلوب والابصار وقال إنك كلما أمعنت النظر في مرآة التوبة بان لك قبح شين المعصية
وكتب إلى الثوري من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل ومن أطلق بصره طال أسفه ومن أطلق أمله ساء عمله ومن أطلق لسانه قتل نفسه وسأله بعض الولاة من أين معيشتك فأنشأ يقول ... نرقع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع ...
وكان كثيرا ما يتمثل بهذه الابيات ... لما توعد الدنيا به من شرورها ... يكون بكاء الطفل ساعة يوضع ... وإلا فما يبكيه منها وإنها ... لأروح مما كان فيه وأوسع ... إذا أبصر الدنيا استهل كأنما ... يرى ماسيلقى من أذاها ويسمع ...
وكان يتمثل أيضا ... رأيت الذنوب تميت القلوب ... ويورثها الذل إدمانها ... وترك الذنوب حياة للقلوب ... وخير لنفسك عصيانها ... وماأفسد الدين إلا ملوك ... وأحبار سوء ورهبانها ... وباعوا النفوس فلم يربحوا ... ولم يغل بالبيع اثمانها ... لقد رتع القوم في جيفة ... تبين لذي اللب أنتانها ...
وقال انما الورع بتسوية كل الخلق في قلبك والاشتغال عن عيوبهم بذنبك وعليك باللفظ الجميل من قلب ذليل لرب جليل فكر في ذنبك وتب إلى ربك ينبت الورع في قلبك واقطع الطمع إلا من ربك وقال ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغضه حبيبك ذم مولانا الدنيا فمدحنا وأبغضها فأحببناها وزهدنا فيها فآثرناها ورغبنا في طلبها ووعدكم خراب الدنيا فحصنتموها ونهاكم عن طلبها فطلبتموها وأنذركم الكنوز فكنزتموها ودعتكم إلى هذه الغرارة دواعيها فأجبتم مسرعين مناديها خدعتكم بغرورها ومنتكم فانقدتم خاضعين لأمانيها تتمرغون في زهراتها وزخارفها وتتنعمون في لذاتها وتتقلبون في شهواتها وتتلوثون بتبعاتها تنبشون بمخالب الحرص عن خزائنها وتحفرون بمعاول الطمع في معادنها وشكى إليه رجل كثرة عياله فقال ابعث الي منهم من لا رزقه على الله فسكت الرجل وقال ومررت في بعض جبال فإذا حجر مكتوب عليه بالعربية (10/141)
كل حي وإن بقي ... فمن العيش يستقي ... فاعمل اليوم واجتهد ... وأحذر الموت يا شقي ...
قال فبينما أنا واقف أقرأ وأبكي واذا برجل أشعر أغبر عليه مدرعة من شعر فسلم وقال مم تبكي فقلت من هذا فأخذ بيدي ومضى غير بعيد فإذا بصخرة عظيمة مثل المحراب فقال إقرأ وابك ولا تقصر وقام هو يصلي فإذا في أعلاه نقش بين عربي ... لا تبغين جاها وجاهك ساقط ... عند المليك وكن لجاهك مصلحا ...
وفي الجانب الآخر نقش بين عربي ... من لم يثق بالقضاء والقدر ... لا قى هموما كثيرة الضرر ...
وفي الجانب الايسر نقش بين عربي ... ما أزين التقى وما أقبح الخنا ... وكا مأخوذ بما جنا ... وعند الله الجزا ...
وفي أسفل المحراب فوق الارض بذراع أو أكثر ... انما الفوز والغنى ... في تقى الله والعمل ...
قال فلما فرغت من القراءة التفت فإذا ليس الرجل هناك فما أدري أنصرف أم حجب عني وقال أثقل الاعمال في الميزان أثقلها على الابدان ومن وفى العمل وفي الاجر ومن لم يعمل رحل من الدنيا إلى الآخرة بلا قليل ولا كثير وقال كل سلطان لا يكون عادلا فهو واللص بمنزلة واحدة وكل عالم لا يكون ورعا فهوا والذئب بمنزلة واحدة وكل من خدم سوى الله فهو والكلب بمنزلة واحدة وقال ما ينبغي لمن ذل لله طاعته أن يذل لغير الله في مجاعته فكيف بمن هو يتقلب في نعم الله وكفايته وقال أعربنا في كلامنا فلم نلحن ولحنا في أعمالنا فلم نعرب وقال كنا إذا رأينا الشباب يتكلم في المجلس أيسنا من خيره وقال جانبوا الناس ولا تنقطعوا ¼عن جمعة ولا جماعة
وقال الحافظ أبو بكر الخطيب أخبرنا القاضي أبو محمد الحسن بن الحسن بن محمد بن زامين الاسترابادى قال أنبأ عبدالله بن محمد الشيرازي أنبأ القاضي أحمد بن خرزاد الأهوازي حدثني علي بن محمد القصري حدثني أحمد بن محمد سمعت سريا السقطي يقول سمعت بشر بن الحارث الحافي يقول قال إبراهيم بن أدهم وقفت على راهب فأشرف على فقلت له عطني فأنشأ يقول ... خذ عن الناس جانبا ... كن بعدوك راهبا (10/142)
إن دهرا أظلني ... قد أراني العجائبا ... قلب الناس كيف شئ ... ت تجدهم عقاربا ...
قال بشر فقلت لإبراهيم هذه موعظة الراهب لك فعظني أنت فأنشأ يقول
... توحش من الاخوان لا تبغ مونسا ... ولا تتخذ خلاولا تبغ صاحبا ... وكن سامري الفعل من نسل آدم ... وكن أوحديا ما قدرت مجانبا ... فقد فسد الاخوان والحب والاخا ... فلست ترى الامذوقا وكاذبا ... فقلت ولولا أن يقال مدهده ... وتنكر حالاتي لقد صرت راهبا ...
قال سرى فقلت لبشر هذه موعظة إبراهيم لك فعظني انت فقال عليك بالخمول ولزوم بيتك فقلت بلغني عن الحسن أنه قال لولا الليل وملاقاة الاخوان ما باليت متى مت فأنشأ بشر يقول
... يا من يسر برؤية الاخوان ... مهلا أمنت مكايد الشيطان ... خلت القلوب من المعاد وذكره ... وتشاغلوا بالحرص والخسران ... صارت مجالس من ترى وحديثهم ... في هتك مستور وموت جنان ...
قال الحلبي فقلت لسرى هذه موعظة بشر فعطني أنت فقال ما عليك بالاخمال فقلت أحب ذاك فأنشأ يقول
... يامن من يروم بزعمه إخمالا ... إن كان حقا فاستعد خصالا ... ترك المجالس والتذاكر يا أخي ... واجعل خروجك للصلاة خيالا ... بل كن بها حيا كأنك ميت ... ولا يرتجى منه القريب وصالا ...
قال محمد بن محمد القصري قلت للحلبي هذه موعظة سرى لك فعظني أنت قال يا أخي أحب الاعمال إلى الله ما صعد إليه من قلب زاهد في الدنيا فازهد في الدنيا يحبك الله ثم أنشأ يقول ... أنت في دار شتات ... فتأهب لشتاتك ... وأجعل الدنيا كيوم ... صمته عن شهواتك ... وأجعل الفطر إذا ... ما صمته يوم وفاتك ...
قال ابن خرزاد فقلت لعلي هذه موعظة الحلبي لك فعظني أنت فقال لي احفط وقتك واسخ بنفسك لله عز و جل وانزع قيمة الاشياء من قلبك يصفولك بذلك سرك ويذكو به ذكرك ثم أنشد يقول ... حياتك أنفسا تعد فكما ... مضى نفس منها انتقضت به جزاء ... فتصبح في نقص وتمسي بمثله ... ومالك معقول تحس به زرءا ... يميتك ما يحييك في كل ساعة ... ويحدوك حاد ما يزيد بك الهزاء (10/143)
قال أبو محمد لأحمد هذه موعظة على لك فعظني فقال يا أخي عليك يلزوم الطاعة وإياك أن تفارق باب القناعة وأصلح مثواك ولا تؤثر هواك ولا تبع آخرتك بدنياك واشتغل بما يعنيك بترك ما لا يعنيك ثم أنشد ... ندمت على ما كان مني ندامة ... ومن يتبع ما تشتهي النفس يندم ... فخافوا لكيما تأمنوا بعد موتكم ... ستلقون ربا عادلا ليس بظلم ... فليس المغرور بدنياه زاجر ... سيندم إن زلت به النعل فاعلموا ...
قال ابن زامين فقلت لأبي محمد هذه موعظة أحمد لك فعظني أنت فقال أعلم رحمك الله أن الله عز و جل ينزل العبيد حيث نزلت قلوبهم بهمومها فانظر أين ينزل قلبك وأعلم أن الله سبحانه يقرب من القلوب على حسب ما تقربت منه وتقرب منه على حسب ما قرب اليها فانظر من القريب من قلبك وأنشدني
... قلوب رجال في الحجاب نزول ... وأرواحهم فيما هناك حلول ... تروح نعيم الأنس في عز قربه ... بأفراد توحد الجليل تحول ... لهم بفناء القرب من محض بره ... عوائد بذل خطبهن جليل ...
قال الخطيب فقلت لابن زامين هذه موعظة الحميدي لك فعظني أنت فقال اتق الله وثق به ولا تتهمه فان اختباره لك خير من اختبارك لنفسك وأنشدني ... اتخذ اللله صاحبا ... ودع الناس جانبا ... جرب الناس كيف شئت ... تجدهم عقاربا ...
قال أبو الفرج غيث الصوري فقلت للخطيب هذه موعظة ابن زامين لك فعظني أنت فقال احذر نفسك التي هي أعدى أعدائك أن تتابعها على هواها فذاك أعضل دائك واستشرف الخوف من الله تعإلى بخلافها وكرر على قلبك ذكر نعوتها وأوصافها فإنها الأمارة بالسوء والفحشاء والموردة من أطاعها موارد العطب والبلاء واعمد في جميع أمورك إلى تحري الصدق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله وقد ضمن الله لمن خالف هواه أن يجعل له جنة الخلد قراره ومأواه ثم أنشد لنفسه ... إن كنت تبغي الرشاد محضا ... في أمر دنياك والمعاد ... فخالف النفس في هواها ... إن الهوى جامع الفساد ...
قال ابن عساكر المحظوظ أن إبراهيم بن أدهم توفي سنة ثنتين وستين ومائة وقال غيره إحدى وستين وقيل سنة ثلاث والصحيح ما قاله ابن عساكر والله أعلم وذكروا أنه توفي في جزيرة من (10/144)
جزائر الروم وهو مرابط وأنه ذهب إلى الخلاء ليله مات نحوا من عشرين مرة وفي كل مرة يجدد الوضوء بعد هذا وكان به البطن فلما كانت غشية الموت قال أو تروا لي قوسي فأوترره فقبض عليه فمات وهو قابض عليه يريد الرمي به إلى العدو رحمه الله وأكرم مثواه
وقد قال أبو سعيد بن الاعرابي حدثنا محمد بن علي بن يزيد الصائغ قال سمعت الشافعي يقول كان سفيان معجبا به ...
[ أجاعتهم الدنيا فخافوا ولم يزل ... كذلك ذو التقوى عن العيش ملجما ... أخو طيء داود منهم ومسعر ... ومنهم وهيب والعريب أين أدهما ... وفي ابن سعيد قدوة البر والنهي ... وفي الوارث الفاروق صدقا مقدما ... وحسبك منهم بالفضل مع ابنه ... ويوسف ان لم يأل أن يتسلما ... أولئك أصحابي وأهل مودتي ... فصلي عليهم ذو الجلال وسلما ... فما ضر ذا التقوى نصال أسنة ... وما زال ذو التقوى أعز وأكرما ... ومازالت التقوى تريك على الفتى ... إذا محض من العز ميسما ...
وروى البخاري في كتاب الأدب عن إبراهيم بن أدهم وأخرج الترمذي في جامعه حديثا معلقا في المسح على الخفين والله سبحانه أعلم ]
وفيها توفي سليمان داود بن نصير الطائي الكوفي الفقيه الزاهد أخذ الفقه عن أبي حنيفة قال سفيان بن عيينه ثم ترك داود الفقه وأقبل على العبادة ودفن كتبه قال عبدالله بن المبارك وهل الأمر إلا ما كان عليه داود الطائي قال ابن معين كان ثقة وفد على المهدي ببغداد ثم عاد إلى الكوفة ذكره الخطيب البغدادي وقال مات في سنة ستين ومائة وقيل سنة ست وخمسين ومائة وقد ذكر شيخنا الذهبي في تاريخه أنه توفي في هذه السنة أعني سنة ثنتين وستين ومائة فالله أعلم
( ثم دخلت سنة ثلاث وستين ومائة )
فيها حصر المقفع الزنديق الذي كان قد نبغ بخراسان وقال بالتناسخ واتبعه على جهالته وضلالته خلق من الطعام وسفهاء الانام والسفلة من العوام فلما كان في هذا العام لجأ إلى قلعة كش فخاصره سعيد الحريثي فألح عليه في الحصار فلما أحس بالغلبة تحسى سما وسم نساءه فماتوا جميعا عليهم لعائن الله ودخل الجيش الإسلامي قلعته فاختزوا رأسه وبعثوه إلى المهدي وكان المهدي يحلب قال ابن خلكان كان اسم المقنع عطاء وقيل حكيم والأول أشهر وكان أولا قصارا ثم ادعى الربوبية مع أنه كان أعور قبيح المنظر وكان يتخذ له وجها من ذهب وتابعه على جهالته خلق (10/145)
كثير وكان يرى الناس قمرا يرى من مسيرة شهرين ثم يغيب فعظم اعتقادهم له ومنعوه بالسلاح وكان يزعم لعنة الله تعإلى عما يقولون علوا كبيرا ان الله ظهر في صورة آدم ولهذا سجدت له الملائكة ثم نوح ثم في الانبياء واحدا واحدا ثم تحول إلى أبي مسلم الخراساني ثم تحول إليه ولما حاصره المسلمون في قلعته كان جددها بناحية كش مما وراء النهر ويقال لها سنام تحسى هو ونساؤه سما فماتوا واستحوذ المسلمون على حواصله وأمواله
وفيها جهز المهدي البعوث من خراسان وغيرها من البلاد لغزوالروم وامر على الجميع ولده هارون الرشيد وخرج من بغداد مشيعا له فسار معه مراحل واستخلف على بغداد ولده موسى الهادي وكان في هذا الجيش الحسين بن قحطبة والربيع الحاجب وخالد بن برمك وهو مثل الوزير للرشيد ولي العهد ويحيى بن خالد وهو كاتبه وإليه النفقات وما زال المهدي مع ولده مشيعا له حتى بلغ الرشيد إلى بلاد الروم وارتاد هناك المدينة المسماه بالمهدية في بلاد الروم ثم رجع إلى الشام وزار بيت المقدس فسار الرشيد إلى بلاد الروم ثم رجع إلى الشام وزار بيت المقدس فسار الرشيد إلى بلاد الروم في جحافل عظيمة وفتح الله عليهم فتوحات كثيرة وغنموا أموالا جزيلة جدا وكان لخالد بن برمك في ذلك أثر جميل لم يكن لغيره وبعثوا بالبشارة مع سليمان بن برمك إلى المهدي فأكرمه المهدي وأجزل عطاءه
وفيها عزل المهدي عمه عبد الصمد بن علي عن الجزيرة وولى عليها زفر بن عاصم الهلالي ثم عزله وولى عبد الله بن صالح بن علي وفيها ولى المهدي ولده هارون الرشيد بلاد المغرب وأذربيجان وأرمينية وجعل على رسائله يحيى بن خالد بن برمك وولى وعزل جماعة من النواب وحج بالناس فيها المهدي علي بن المهدي
وفيها توفي إبراهيم بن طهمان وحريز بن عثمان الحمصي الرحبي وموسى بن علي اللخمى المصري وشعيب بن أبي حمزه وعيسى ين علي بن عبدالله بن عباس عم السفاح وإليه ينسب قصر عيسى ونهر عيسى ببغداد قال يحيى بن معين كان له مذهب جميل وكان معتزلا للسلطان توفي في هذه السنة عن ثمان وسبعين سنة وهمام بن يحيى ويحيى بن أيوب المصري وعبيدة بنت أبي كلاب العابد بكت من خشية الله أربعين سنة حتى عميت وكانت تقول أشتهي الموت فاني أخشى أن أجني على نفسي جناية تكون سبب هلاكي يوم القيامة
( ثم دخلت سنة أربع وستين ومائة )
فيها غزا عبد الكبير بن عبد الحميد بن زيد بن الخطاب بلاد الروم فأقبل إليه ميخائيل البطريق في نحو تسعين الفا فيهم طازاذ الأرمني البطريق ففشل عنه عبد الكبير ومنع المسلمين من القتال وانصرف راجعا
فأراد المهدي ضرب عنقه فكلم فيه فحبسه في المطبق (10/146)
وفي يوم الأربعاء في أواخر ذي القعدة اسس المهدي قصرا من لبن بعيسا باذ ثم عزم على الذهاب إلى الحج فأصابه حمى فرجع من أثناء الطريق فعطش الناس في الرجعة حتى كاد بعضهم يهلك فغضب المهدي على يقطين صاحب المصانع وبعث من حيث رجع المهلب بن صالح بن أبي جعفر ليحج بالناس فحج بهم عامئذ وفيها توفي شيبان بن عبد الرحمن النحوي وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون ومبارك بن فضالة صاحب الحسن البصري
( ثم دخلت سنة خمس وستين ومائة )
فيها جهز المهدي ولده الرشيد لغزو الصائفة وأنفذ معه من الجيوش خمسة وتسعين ألفا وسبعمائة وثلاثة وتسعين رجلا وكان معه من النفقة مائة الف دينار وأربعة وتسعون ألف دينار وأربعمائة وخمسون دينارا ومن الفضة إحدى وعشرون الف ألف وأربعمائة الف وأربعة عشر ألفا وثمانمائة درهم قله ابن جرير فبلغ بجنوده خليج البحر الذي على القسطنطينية وصاحب الروم يومئذ أغسطه امرأة أليون ومعها ابنها في حجرها من الملك الذي توفي عنها فطلبت الصلح من الرشيد على أن تدفع له سبعين الف دينار في كل سنة فقبل ذلك منها وذلك بعد ما قتل من الروم في الوقائع أربعة وخمسين ألفا وأسر من الذاراري خمسة آلاف رأس وستمائه وأربعين رأسا وقتل من الاسرى ألفي قتيل صبرا وغنم من الدواب بأدواتها عشرين ألف فرس وذبح من البقر والغنم مائة الآف رأس وبيع البرذون بدرهم والبغل بأقل من عشرة دراهم والدرع بأقل من درهم وعشرون سيفا بدرهم فقال في ذلك مروان بن أبي حفصة ... أطفت بقسطنطينية الروم مسندا ... اليها القنا حتى اكتسا الذل سورها ... وما رمتها حتى أتتك ملوكها ... بجزيتها والحرب تغلي قدورها ...
وحج بالناس صالح بن أبي جعفر المنصور وفيها توفي سليمان بن المغيره وعبدالله بن العلاء ابن دبر وعبد الرحمن بن نائب بن ثوبان ووهب بن خالد
( ثم دخلت سنة ست وستين ومائة )
في المحرم منها قدم الرشيد من بلاد الروم فدخل بغداد في أبهة عظيمة ومعه الروم يحملون الجزية من الذهب وغيره وفيها أخذ المهدي البيعه لولده هارون من بعد موسى الهادي ولقب بالرشيد
وفيها سخط المهدي على يعقوب بن داود وكان قد حظي عنده حتى استوزره وارتفعت منزلته في الوزارة حتى فوض إليه جميع أمر الخلافة وفي ذلك يقول بشار بن برد ... بني امية هبوا طال نومكم ... إن الخليفة يعقوب بن داود ... ضاعت خلافتكم يا قوم فاطلبوا ... خليفة الله بين الخمر والعود (10/147)
فلما نزل السعادة والوشاة بينه وبين الخليفة حتى أخرجوه عليه وكلما سعوا به إليه دخل إليه فأصلح أمره معه حتى وقع من أمره ما سأذكره وهو أنه دخل ذات يوم على المهدي في مجلس عظيم قد فرش بأنواع الفرش وألوان الحرير وحول ذلك المكان أصحان مزهرة بأنواع الازاهير فقال يا يعقوب كيف رأيت مجلسنا هذا فقال يا أمير المؤمنين ما رأيت أحسن منه فقال هو لك بما فيه وهذه الجارية ليتم بها سرورك ولى اليك حاجة أحب أن تقضيها قلت وما هي يا أمير المؤمنين فقال حتى تقول نعم فقلت نعم وعلى السمع والطاعة فقال الله فقلت الله قال وحياة رأسي قلت وحياه رأسك فقال ضع يدك على رأسي وقل ذلك ففعلت فقال إن ههنا رجل من العلويين أحب أن تكفينيه والظاهر أنه الحسن بن إبراهيم بن عبدالله بن حسن ابن حسن بن علي بن أبي طالب فقلت نعم فقال وعجل علي ثم أمر بتحويل ما في ذلك المجلس إلى منزلي وأمر لي بمائة الف درهم وتلك الجارية فما فرحت بشي فرحي بها فلما صارب بمنزلي حجبتها من جانب الدار في خدر فأمرت بذلك العلوي فجيء به فجلس إلى فتكلم فما رأيت أعقل منه ولا أفهم ثم قال لي يا يعقوب تلقي الله بدمي وأنا رجل من ولد فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت لا والله ولكن إذهب حيث شئت وأين شئت فقال إني أختار بلاد كذا وكذا فقلت اذهب كيف شئت ولا يظهرن عليك المهدي فتهلك وأهلك فخرج من عندي وجهزت معه رجلين يسفرانه ويوصلانه بعض البلاد ولم أشعر بأن الجارية قد أحاطت علما بما جرى وانها كالجاسوس علي فبعبث بخادمها إلى المهدي فأعلمته بما جرى فبعث إلى تلك الطريق فردوا ذلك العلوي فحبسه عنده في بيت من دار الخلافة وأرسل الي من اليوم الثاني فذهبت إليه ولم أشعر من أمر العلوين بشيء فلما دخلت عليه قال ما فعل العلوي قلت مات قال الله قلت الله قال فضع يدك على رأسي واحلف بحياته ففعلت فقال يا غلام أخرج ما في هذا البيت فخرج العلوي فاسقط في يدي فقال المهدي دمك حلال ثم أمر به فألقي في بئر في المطبق قال يعقوب فكنت في مكان لا أسمع فيه ولا أبصر فذهب بصري وطال شعري حتى صرت مثل البهائم ثم مضيت على مدد متطاولة فبينما أنا ذات يوم إذ دعيت فخرجت من البئر فقيل لي سلم على أمير المؤمنين فسلمت وأنا أظنه المهدي فلما ذكرت المهدي قال رحم الله المهدي فقلت الهادي فقال رحم الله الهادي فقلت الرشيد قال نعم فقلت يا أمير المؤمنين قد رأيت ما حل بي من الضعف والعلة فان رأيت أن تطلقني فقال أين تريد قلت مكة فقال اذهب راشدا فسار إلى مكة فما لبث بها إلا قليلا حتى مات رحمه الله تعالى
وقد كان يعقوب هذا يعظ المهدي في تعاطيه شرب النبيذ بين يديه وكثرة سماع الغناء فكان (10/148)
يلومه على ذلك ويقول ما على هذا استوزرتني ولا على هذا صحبتك أبعد الصلوات الخمس في المسجد الحرام يشرب الخمر ويغنى بين يديك فيقول له المهدي فقد سمع عبد الله بن جعفر فقال له يعقوب إن ذلك لم يكن له من حسناته ولو كان هذا قربه لكان كلما داوم عليه العبد أفضل وفي ذلك يقول بعض الشعراء حثا للمهدي على ذلك
... فدع عنك يعقوب بن داود جانبا ... وأقبل على صهباء طيبة النشر ...
وفيها ذهب المهدي إلى قصره المسمى بعيسا باذ بنى له بالآجر بعد القصر الاول الذي بناه بالبن فسكنه وضرب هناك الدراهم والدنانير وفيها أمر المهدي بإقامة البريد بين مكة والمدينة واليمن ولم يفعل أحد هذا قبل هذه السنة وفيها خرج موسى الهادي إلى جرجان وفيها ولى القضاء أبا يوسف صاحب ابي حنيفة وفيها حج بالناس إبراهيم بن يحيى بن محمد عامل الكوفة ولم يكن في هذه السنة صائفة للهدنة التي كانت بين الرشيد وبين الروم وفيها توفي صدقة بن عبدالله السمين وأبو الأشهب العطاري وأبو بكر النهشلي وعفير بن معدان
( ثم دخلت سنة سبع وستين ومائة )
فيها وجه المهدي ابنه موسى الهادي إلى جرجان في جيش كثيف لم ير مثله وجعل على رسائله أبان بن صدقة وفيها توفي عيسى بن موسى الذي كان ولي العهد من بعد المهدي مات بالكوفة فأشهد نائبها روح بن حاتم على وفاته القاضي وجماعة من الاعيان ثم دفن وكان قد امتنع من الصلاة عليه فكتب إليه المهدي يعنفه أشد التعنبف وأمر بمحاسبته على عمله وفيها عزل المهدي أبا عبيدالله معاوية بن عبيد الله عن ديوان الرسائل وولاه الربيع بن يونس الحاجب فاستخلف فيه سعيد بن واقد وكان أبو عبيد الله يدخل على مرتبته وفيها وقع وباء شديد وسعال كثير ببغداد والبصرة وأظلمت الدنيا حتى كانت كالليل حتى تعالى النهار وكان ذلك لليال بقين من ذي الحجة من هذه السنة وفيا تتبع المهدي جماعة من الزنادقة في سائر الآفاق فاستحضرهم وقتلهم صبرا بين يديه وكان المتولي أمر الزنادقة عمر الكلواذي وفيها أمر المهدي بزيادة كثيرة في المسجد الحرام فدخل في ذلك دور كثيرة وولى ذلك ليقطين بن موسى الموكل بأمر الحرمين فلم يزل في عمارة ذلك حتى مات المهدي كما سياتي ولم يكن للناس صائفة للهدنة وحج بالناس نائب المدينة إبراهيم بن محمد وتوفى بعد فراغه من الحج بأيام وولى مكانه اسحاق بن عيسى بن علي بن عبدالله بن عباس
وممن توفي فيها من الاعيان
بشار بن برد أبو معاذ الشاعر مولى عقيل ولد أعمى وقال الشعر وهو دون عشر سنين وله التشبيهات التي لم يهتد اليها البصراء وقد أثنى عليه الأصمعي والجاحظ وأبو تمام وأبوعبيدة وقال (10/149)
له ثلاثة عشر الف بيت من الشعر فلما بلغ المهدي أنه هجاه وشهد عليه قوم أنه زنديق أمر به فضرب حتى مات عن بضع وسبعين سنة وقد ذكره ابن خلكان في الوفيات فقال بشار بن برد بن يرجوخ العقيلي مولاهم وقد نسبه صاحب الاغاني فأطال نسبه وهو بصري قدم بغداد أصله من طخارستان وكان ضخما عظيم الخلق وشعره في اول طبقات المولدين ومن شعره البيت المشهور ... هل تعلمين وراء الحب منزلة ... تدنى اليك فإن الحب أقصاني ...
وقوله ... انا والله اشتهي سحر عينيك ... وأخشى مصارع العشاق ... وله ... يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة ... والاذن تعشق قبل العين احيانا ... قالوا لم لا نرى عينيك قلت لهم ... الاذن كالعين تروى القلب مكانا ... وله ... إذا بلغ الرأي التشاور فاستعن ... بحزم نصيح أو نصيحة حازم ... ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... فريش الخوافي قوة للقوادم ... وما خير كف أمسك الغل أختها ... وما خير سيف لم تؤد بقائم ...
كان بشار يمدح المهدي حتى وشى إليه الوزير أنه هجاه وقذفه ونسبه إلى شيء من الزندقة وانه يقول بتفضيل النار على التراب وعذر إبليس في السجود لأم وأنه أنشد ... الارض مظلمة والنار مشرقة ... والنار معبودة مذ كانت النار ...
فأمر المهدي بضربه فضرب حتى مات ويقال إنه غرق ثم نقل إلى البصرة في هذه السنة وفيها توفي الحسن بن صالح بن حيى وحماد بن سلمه والربيع بن مسلم وسعيد بن عبد العزيز ابن مسلم وعتبة الغلام وهو عتبة بن أبان بن صمعة أحد العباد المشهورين البكائين المذكورين كان يأكل من عمل يده في الخوص ويصوم الدهر ويفطر على الخبز والملح والقاسم الحذاء وأبو هلال محمد بن سليم ومحمد بن طلحة وأبو حمزة اليشكري محمد بن ميمون
( ثم دخلت سنة ثمان وستين ومائة )
فيها في رمضان منها نقضت الروم ما بينهم وبين المسلمين من الصلح الذي عقده هارون الرشيد عن أمر أبيه المهدي ولم يستمروا على الصلح إلا ثنتين وثلاثين شهرا فبعث نائب الجزيرة خيلا إلى الروم فقتلوا وأسرواوغنموا وسلموا وفيها اتخذ المهدي دواوين الازمة ولم يكن بنو أمية يعرفون ذلك وفيها حج بالناس على بن محمد المهدي الذي يقال له ابن ريطة وفيها توفي الحسن (10/150)
ابن يزيد بن حسن ين علي بن أبي طالب ولاه المنصور المدينة خمس سنين ثم غضب عليه فضربه وحبسه وأخذ جميع ماله [ وحماد عجرد كان ظريفا ماجنا شاعرا وكان ممن يعاشر الوليد ابن يزيد ويهاجي بشار بن برد وقدم على المهدي ونزل الكوفة واتهم بالزندقة قال بن قتيبة في طبقات الشعراء ثلاثة حمادون بالكوفة يرمون بالزندقة حماد الرواية وحماد عجرد وحماد بن الزبرقان النحوي وكانوا يتشاعرون ويتماجنون ] وخارجه بن مصعب وعبد الله بن الحسن ابن الحصن بن ابي الحسن البصري قاضي البصرة بعد سوار سمع خالدا الحذاء وداود بن ابي هند وسعيدا الجريرى وروى عنه ابن المهدي وكان ثقة فقهاء به اختيارات تعزى إليه غريبة في الاصول والفروع وقد سئل عن مسألة فأخطا في الجواب فقال له قائل الحكم فيها كذا وكذا فأطرق ساعة ثم قال إذا أرجع وأنا صاغر لأن أكون ذنبا في الحق أحب الي من أن أكون رأسا في الباطل توفي في ذي القعدة من هذه السنة وقيل بعد ذلك بعشر سنين فالله أعلم غوث ابن سليمان بن زياد بن ربيعة أبو يحيى الجرمي قاضي مصر كان من خيار الحكام ولي الديار المصرية ثلاث مرات في أيام المنصور والمهدي ] وفليح بن سليمان وقيس بن الربيع في قول ومحمد بن عبدالله بن علاثه بن علقمة بن مالك أبو اليسر العقلي قاضي الجانب الشرقي من بغداد للمهدي وهو وعافية بن يزيد وكان يقال لابن علاثة قاضي الجن لأنه كانت بئر يصاب من أخذ منها شيئا فقال أيها الجن إنا حكمنا ان لكم الليل ولنا النهار فكان من أخذ منها شيئا في النهار لم يصبه شيء قال ابن معين كان ثقة وقال البخاري في حفظه شيء ]
( ثم دخلت سنة تسع وستين ومائة )
فيها في المحرم منها توفي المهدي بن المنصور بمكان يقال له ما سبذان بالحمى وقيل مسموما وقيل عضه فرس فمات
( هذه ترجمته )
هو محمد بن علي بن عبدالله بن عباس أبو عبدالله المهدي أمير المؤمنين وإنما لقب بالمهدي رجاء أن يكون الموعود به في الاحاديث فلم يكن به وان اشتركا في الاسم فقد افترقا في الفعل ذاك يأتي آخر الزمان عند فساد الدنيا فيملأ الارض عدلا كما ملئت فجورا وظلما وقد قيل إن في أيامه ينزل عيسى بن مريم بدمشق كما سيأتي ذلك في أحاديث الفتن والملاحم وقد جاء في حديث من طريق عثمان بن عفان أن المهدي من بني العباس وجاء موقوفا على ابن عباس وكعب الاحبار ولا يصح وبتقدير صحة ذلك لا يلزم أن يكون على التعيين وقد ورد في حديث أخر أن المهدي من ولد فاطمة فهو يعارض هذا والله أعلم وأم المهدي بن المنصور أم موسى (10/151)
بنت منصور بن عبدالله الحميري وروى عن أبيه عن جده عبدالله بن عباس ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جهر ببسم الله الرحمن الرحيم ) رواه عنه يحيى بن حمزة النهشلى قاضي دمشق وذكر أنه صلى خلف المهدي حين قدم دمشق فجهر في السورتين بالبسملة وأسند ذلك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ورواه غير واحد من يحيى بن حمزه ورواه المهدي عن المبارك بن فضاله ورواه عنه أيضا جعفر ابن سليمان الضبعي ومحمد بن عبدالله الرقاشي وأبو سفيان سعيد بن يحيى بن المهدي
وكان مولد المهدي في سنة ست او سبع وعشرين ومائة أو في سنة إحدى وعشرون ومائة ولى الخلافة بعد موت أبيه في ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة وعمره إذ ذاك ثلاث وثلاثون سنة ولد بالحميمة من أرض البلقاء وتوفي في المحرم من هذه السنة أعني سنة تسع وستين ومائة عن ثلاث أو ثمان وأربعين سنة وكانت خلافته عشر سنين وشهرا وبعض الشهر وكان أسمرا طويلا جعد الشعر على إحدى عينيه نكته بيضاء قيل على عينه اليمنى وقيل اليسرى قال الربيع الحاجب رأيت المهدي يصلي في ليلة مقمرة في بهولة عليه ثياب حسنة فما أدري هو أحسن أم القمر أم بهوة أم ثيابه فقرأ فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدو في الارض وتقطعوا أرحامكم الآية ثم أمرني فأحضرت رجلا من أقاربه كان مسجونا فأطلقه ولما جاء خبر موت أبيه بمكة كما تقدم كتم الأمر يومين ثم نودي في الناس يوم الخميس الصلاة جامعة فقام فيهم خطيبا فأعلمهم بموت أبيه وقال إن أمير المؤمنين دعى فأجاب فعند الله أحتسب أمير المؤمنين وأستعينه على خلافة المسلمين ثم بايعه الناس بالخلافة يومئذ وقد عزاه أبو دلامة وهنأه في قصيدة له يقول فيها ... عيناي واحدة ترى مسرورة ... بأميرها جذلا وأخرى تذرف ... تبكي وتضحك تارة ويسؤها ... ما أنكرت ويسرها ما تعرف ... فيسؤها موت الخليفة محرما ... ويسرها أن قام هذا الأرأف ... ما أن رأيت كما رأيت ولا أرى ... شعرا أرجله وآخر ينتف ... هلك الخليفة يال أمة أحمد ... واتاكم من بعده من يخلف ... أهدى لهذا الله فضل خلافة ... ولذاك جنات النعيم تزخرف ...
وقد قال المهدي يوما في خطبة أيها الناس أسروا مثلما تعلنون من طاعتنا تهنكم العافيه وتحمدوا العاقبة واخفظوا جناح الطاعة لمن ينشر معدلته فيكم ويطوي ثوب الاصر عنكم وأهال عليكم السلامة ولين المعيشة من حيث أراه الله مقدما ذلك على فعل من تقدمه والله لأعفين عمري من عقوبتكم ولأحملن نفسي على الاحسان اليكم قال فأشرقت وجوه الناس من حسن كلامه ثم استخرج حواصل أبيه من الذهب والفضة التي كانت لا تحد ولا توصف كثرة ففرقها (10/152)
في الناس ولم يعط أهله وموإليه منها شيئا بل اجرى لهم أرزاقا بحسب كفايتهم من بيت المال لكل واحد خمسمائة في الشهر غير الاعطيات وقد كان أبوه حريصا على توفير بيت المال وإنما كان ينفق في السنة الفي درهم من مال السراة وأمر المهدي ببناء مسجد الرصافة وعمل خندق وسور حولهما وبنى مدنا ذكرناها فيما تقدم
وذكرله عن شريك بن عبدالله القاضي أنه لا يرى الصلاة خلفة فأحضره فتكلم معه ثم قال له المهدي في جملة كلامه يا ابن الزانية فقال له شريك مه مه يا أمير المؤمنين فلقد كانت صوامه قوامه فقال له يا زنديق لأقتلنك فضحك شريك فقال يا أمير المؤمنين إن للزنادقة علامات يعرفون بها شربهم القهوات واتخاذهم القينات فأطرق المهدي وخرج شريك من بين يديه وذكروا أنه هاجت ريح شديدة فدخل المهدي بيتا في داره فألزق خده بالتراب وقال اللهم إن كنت انا المطلوب بهذه العقوبة دون الناس فها أنا ذا بين يديك اللهم لا تشمت بي الاعداء من أهل الاديان فلم يزل كذلك حتى نجلت ودخل عليه رجل يوما ومعه نعل فقال هذه نعل رسول الله صلى الله عليه و سلم قد اهديتها لك فقال هاتها فناوله إياها فقبلها ووضعها على عينيه وأمر له بعشرة الآف درهم فلما انصرف الرجل قال المهدي والله اني لأعلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم ير هذه النعل فضلا عن أن يلبسها ولكن لو رددته لذهب يقول للناس أهديت إليه نعل رسول الله صلى الله عليه و سلم فردها على فتصدقه الناس لأن العامة تميل إلى أمثالها ومن شأنهم نصر الضعيف على القوي إن كان ظالما فاشترينا لسانه بعشرة الآف درهم ورأينا هذا أرجح وأصلح
واشتهر عنه أنه كان يحب اللعب بالحمام والسباق بينها فدخل عليه جماعة من المحدثين فيهم عتاب بن إبراهيم فحدثه بحديث ابي هريرة ( لا سبق إلا في خف او نعل او حافر ) وزاد الحديث ( أو جناح ) فأمر له بعشرة الآف ولما خرج قال والله إني أعلم أن عتابا كذب على رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم أمر بالحمام فذبحه ولم يذكر عتابا بعدها وقال الواقدي دخلت على المهدي يوما فحدثته بأحاديث فكتبها عني ثم قام فدخل بيوت نسائه ثم خرج وهو ممتليء غيظا فقلت مالك يا أمير المؤمنين فقال دخلت على الخيزران فقامت ومزقت ثوبي وقالت مارأيت منك خيرا واني والله يا واقدي إنما اشتريتها من نخاس وقد نالت عندي ما نالت وقد بايعت لولديها بأمرة المؤمنين من بعدي فقلت يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال
( انهن يغلبن الكرام ويغلبهن اللئام ) وقال
( خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهله وقد خلقت المرأة من ضلع أعوج إن قومته كسرته ) وحدثته في هذا الباب بكلام حضرني فأمر لي بألفي دينار فلما وافيت المنزل إذا رسول الخيزران قد لحقني بألفي دينار إلا عشرة دنانير واذا معه أثواب أخر وبعثت تشكرني وتثني على معروفا (10/153)
وذكر أن المهدي كان قد أهدر دم رجل من أهل الكوفة وجعل لمن جاء به مائة الف فدخل الرجل بغداد متنكرا فلقيه رجل فأخذ بمجامع ثوبه ونادى هذا طلبه أمير المؤمنين وجعل الرجل يريد أن يفلت منه فلا يقدر فبينما هما يتجاذبان وقد اجتمع الناس عليهما إذ مر أمير في موكبه وهو معن بن زائده فقال الرجل يا أبا الوليد خائف مستجير فقال معن ويلك مالك وله فقال هذا طلبه أمير المؤمنين جعل لمن جاء به مائة الف قال معن أما علمت أني قد أجرته أرسله من يدك ثم أمر بعض غلمانه فترجل وأركبه وذهب به إلى منزله وانطلق ذلك الرجل إلى باب الخليفة وأنهى اليهم الخبر فبلغ المهدي فأرسل إلى معن فدخل عليه فسلم ولم يرد عليه السلام وقال يا معن أبلغ من أمرك أن تجير على قال نعم قال ونعم أيضا نعم قد قتلت في دولتكم أربعة الاف مصل فلا يجار لى رجل واحد فأطرق المهدي ثم رفع رأسه إليه وقال وقد أجرنا من أجرت يا معن فقال يا أمير المؤمنين إن الرجل ضعيف فأمر له بثلاثين الفا فقال إن جريمته عظيمة وإن جوائز الخلفاء على قدر جرائم الرعية فأمر له بمائة الف فحملت بين يدي معن إلى ذلك الرجل فقال له معن خذ المال وأدع لأمير المؤمنين وأصلح نيتك في المستقبل
وقدم المهدي مرة البصرة فخرج ليصلي بالناس فجاء أعرابي فقال يا أمير المؤمنين مر هؤلاء فلينتظروني حتى أتوضأ يعني المؤذنين فأمرهم بإنتظاره ووقف المهدي في المحراب لم يكبر حتى قيل له هذا الاعرابي قد جاء فكبر فتعجب الناس من سماحة أخلاقه وقدم أعرابي ومعه كتاب مختوم فجعل يقول هذا كتاب أمير المؤمنين إلى أين الرجل الذي يقال له الربيع الحاجب فأخذ الكتاب وجاء به إلى الخليفة وأوقف الاعرابي وفتح الكتاب فإذا هو قطعة أديم فيها كتابة ضعيفة والاعرابي يزعم أن هذا خط الخليفة فتبسم المهدي وقال صدق الاعرابي هذا خطي إني خرجت يوما إلى الصيد فضعت عن الجيش وأقبل الليل فتعودت بتعويذ رسول الله صلى الله عليه و سلم فرفع لي نار من بعيد فقصدتها فإذا هذا الشيخ وامرأته في خباء يوقدان نارا فسلمت عليهما فردا السلام وفرش لي كساء وسقاني من لبن مشوب بماء فما شربت شيئا إلا وهي أطيب منه ونمت نومة على تلك العباءة ما أذكر أني نمت أحلى منها فقام إلى شويهة فذبحها فسمعت امرأته تقول له عمدت إلى مكسبك ومعيشة أولادك فذبحتها هلكت نفسك وعيالك فما التفت اليها واستيقظت فاشتويت من لحم تلك الشويهة وقلت له أعندك شيء أكتب لك فيه كتابا فأتاني بهذه القطعة فكتبت بهذه القطعة فكتبت له بعود من ذلك الرماد خمسمائة الف وإنما أردت خمسين الفا والله لأنفذنها له كلها ولو لم يكن في بيت المال سواها فأمر له بخمسمائة الف فقبضها الاعرابي واستمر مقيما في ذلك الموضع في طريق الحاج من ناحية الانبار فجعل يقري الضيف ومن مر به من الناس فعرف منزله بمنزل مضيف أمير المؤمنين المهدي (10/154)
وعن سوار صاحب رحبة سوار قال انصرفت يوما من عند المهدي فجئت منزلى فوضع لي الغداء فلم تقبل نفسي عليه فدخلت خلوتي لأنام في القائلة فلم يأخذني نوم فاستدعيت بعض حظاياي لاتلهى بها فلم تنبسط نفسي اليها فنهضت فخرجت من المنزل وركبت بغلتي فما جاوزت الدار إلا قليلا حتى لقيني رجل ومعه الفا درهم فقلت من أين هذه فقال من ملكك الجديد فاستصحبته معي وسرت في أزقة بغداد لأتشاغل عما أنا فيه من الضجر فحانت صلاة العصر عند مسجد في بعض الحارات فنزلت لأصلي فيه فلما قضيت الصلاة إذا برجل أعمى قد أخذ بثيابي فقال إن لى اليك حاجة اليك ف قلت ما حاجتك فقال اني رجل ضرير ولكني لما شممت رائحة طيبك ظننت أنك من أهل النعمة والثروة فأحببت أن أفضي اليك حاجتي فقلت وما هي فقال إن هذا القصر الذي تجاه المسجد كان لأبي فسافر منه إلى خراسان فباعه وأخذني معه وأنا صغير فافترقنا هناك وأصابني أنا الضرر فرجعنا إلى بغداد بعد أن مات أبي فجئت إلى صاحب هذا القصر أطلب منه شيئا اتبلع به لعلي أجتمع بسوار فإنه كان صاحبا لأبي فلعله أن يكون عنده سعة يجود منها علي فقلت ومن أبوك فذكر رجلا كان أصحب الناس الي فقلت إني أنا سوار صاحب ابيك وقد منعني الله يومك هذا النوم والقرار والاكل والراحة حتى أخرجني من منزلي لأجتمع بك وأجلسني بين يديك وأمرت وكيلي فدفع له الألفي الدرهم التي معه وقلت له إذا كان الغد فأت منزلي في مكان كذا وكذا وركبت فجئت دار الخلافة وقلت ما أتحف المهدي الليلة في السمر بأغرب من هذا فلما قصصت عليه القصة تعجب من ذلك جدا وأمر لذلك الأعمى بألفي دينار وقال لي هل عليك دين قلت نعم قال كم قلت خمسون الف دينار فسكت وحادثني ساعة ثم قمت من بين يديه فوصلت إلى المنزل إذا الحمالون قد سبقوني بخمسين الف دينار وألفي دينار للأعمى فانتظرت الأعمى أن يجي في ذلك اليوم فتأخر فلما أمسي عدت إلى المهدي فقال قد فكرت في أمرك فوجدتك إذا قضيت دينك لم يبقى معك شيء وقد أمرت لك بخمسين ألف دينار أخرى فلما كان اليوم الثالث جاءني الأعمى فقلت قد رزقني الله بسببك خيرا كثيرا ودفعت له الالفي دينار التي من عند الخليفة وزدته من عندي أيضا
وقفت امرأة المهدي فقالت يا عصبة رسول الله اقض حاجتي فقال المهدي ما سمعتها من أحد غيرها اقضوا حاجتها واعطوها عشرة الآف درهم ودخل ابن الخياط على المهدي فامتدحه فأمر له بخمسين الف درهم ففرقها ابن الخياط وأنشأ يقول ... أخذت بكفي كفه ابتغي الغنى ... ولم أدر أن الجود من كفه يعدى ... فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى ... أفدت وأعدني فبددت ما عندي (10/155)
قال فبلغ ذلك المهدي فأعطاه بدل كل درهم دينار وبالجملة فان للمهدي مآثر ومحاسن كثيرة وقد كانت وفاته بما سبذان كان قد خرج اليها ليبعث إلى إبنه الهادي ليحضر إليه من جرجان حتى يخلعه من ولايه العهد ويجعله بعد هارون الرشيد فامتنع الهادي من ذلك فركب المهدي إليه قاصدا إحضاره فلما كان بماسبذان مات بها وكان قد رأى في النوم وهو بقصره ببغداد المسمى بقصر السلامه كأن شيخا وقف بباب القصر ويقال إنه سمع هاتفا يقول ... كأني بهذا القصر قد باد أهله ... وأوحش منه ربعه ومنازله ... وصار عميد التوم بعد بهجة ... ملك إلى قبر عليه جنادله ... ولم يبق إلا ذكره وحديثه ... تنادي عليه معولات حلائله ...
فما عاش بعدها إلا عشرا حتى مات وروى أنه لما قال له الهاتف ... كأني بهذا القصر قد باد أهله ... وقد درست أعلامه ومنازله ... فأجابه المهدي كذاك أمور الناس يبلى جديدها ... وكل فتى يوما ستبلى فعائله ... فقال الهاتف تزود من الدنيا فإنك ميت ... وإنك مسئول فما أنت قائله ... فأجابه المهدي ... أقول بأن الله حق شهدته ... وذلك قول ليس تحصى فضائله ... فقال الهاتف ... تزود من الدنيا فإنك راحل ... وقد أزف الأمر الذي بك نازل ... فأجابه المهدي ... متى ذاك خبرني هديت فإنني ... سأفعل ما قد قلت لي وأعاجله ... فقال الهاتف ... تلبث ثلاثا بعد عشرين ليلة ... إلى منتهى شهر وما أنت كامله ... قالوا فلم يعش بعدها إلا تسعا وعشرين يوما حتى مات رحمه الله تعإلى
وقد ذكر ابن جرير اختلافا في سبب موته فقيل إنه ساق خلف ظبي والكلاب بين يديه فدخل الظبي إلى خربة فدخلت الكلاب وراءه وجاء الفرس فحمل بمشوار فدخل الخربة فكسر ظهره وكانت وفاته بسبب ذلك وقيل أن بعض حظايا بعثت إلى أخرى لبنا مسموما فمر الرسول بالمهدي فأكل منه فمات وقيل بل بعثت اليها بصينيه فيها الكمثرى وفي أعلاها واحدة كبيرة مسمومة وكان المهدي يعجبه الكمثرى فمرت به الجارية ومعها تلك الصينية فأخذ التي في أعلاها فأكلها فمات من ساعته فجعلت الحظية تندبه وتقول واأمير المؤمنينا أردت أن يكون لي وحدي قتلته بيدي وكانت وفاته في المحرم من هذه السنة أعني سنة تسع وستين ومائة وله من العمر ثلاث وأربعون سنة على المشهور وكانت خلافته عشر سنين وشهرا وكسورا ورثاه الشعراء بمراثي كثيرة قد ذكرها ابن جرير وابن عساكر
وفيها توفي عبيدالله بن زياد ونافع بن عمر الجمحي ونافع بن أبي نعيم القاري (10/156)
( خلافة موسى الهادي بن المهدي )
توفي أبوه في المحرم من أول سنة تسع وستين ومائة كان ولي العهد من بعد أبيه وكان أبوه قد عزم قبل موته على تقديم أخيه الرشيد عليه في ولاية العهد فلم يتفق ذلك حتى مات المهدي بماسبذان وكان الهادي اذ ذاك بجرجان فهم بعض الدولة منهم الربيه الحاجب وطائفة من القواد على تقديم الرشيد عليه والمبايعة له وكان الرشيد حاضرا ببغداد وعزموا على النفقه على الجند لذلك تنفيذا لمارآه المهدي من ذلك فأسرع الهادي السير من جرجان إلى بغداد حين بلغه الخبر فساق منها اليها في عشرين يوما فدخل بغداد وقام في الناس خطيبا وأخذ البيعة منهم فبايعوه وتغيب الربيع الحاجب فتطلبه الهادي حتى حضر بين يديه فعفا عنه وأحسن إليه وأقره على حجو بيته وزاده الوزراء ولايات أخر وشرع الهادي في تطلب الزنادقه من الآفاق فقتل منهم طائفة كثيرة واقتدى في ذلك بأبيه وقد كان موسى الهادي من أفكه الناس مع اصحابه في الخلوة فاذا جلس في مقام الخلافة كانوا لا يستطيعون النظر اليه لما يعلوه من المهابة والرياسة وكان شابا حسنا وقورا مهيبا
وفيها أعني سنة تسع وستين ومائة خرج بالمدينة الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وذلك أنه أصبح يوما وقد لبس البياض وجلس في المسجد النبوي وجاء الناس إلى الصلاة فلما رأوه ولوا راجعين والتف عليه جماعة فبايعوه على الكتاب والسنة والرضى من أهل البيت وكان سبب خروجه أن متوليها خرج منها إلى بغداد ليهنئ الخليفة بالولاية ويعزيه في أبيه ثم جرت أمور أقتضت خروجه والتف عليه جماعة وجعلوا مأواهم المسجد النبوي ومنعوا الناس من الصلاة فيه ولم يجبه أهل المدينة إلى ما أراده بل جعلوا يدعون عليه لأنتهاكه المسجد حتى ذكر أنهم كانو يقذرون في جنبات المسجد وقد اقتتلوا مع المسودة مرات فقتل من هؤلاء وهؤلاء ثم ارتحل إلى مكة فأقام بها إلى زمن الحج فبعث إليه الهادي جيشا فقاتلوه بعد فراغ الناس من الموسم فقتلوه وقتلوا طائفة من أصحابه وهرب بقيتهم وتفرقوا شذرا مذرا فكان مدة خروجه إلى أن قتل تسعة أشهر وثمانية عشر يوما وقد كان كريما من أجود الناس دخل يوما على المهدي فأطلق له أربعين الف دينار ففرقها في أهله وأصدقائه من أهل بغداد والكوفة ثم خرج من الكوفة وما عليه قميص إنما كان عليه فروة وليس تحتها قيمص
وفيها حج بالناس سليمان بن أبي جعفر عم الخليفة وغزا الصائفة من طريق درب الراهب معتوق بن يحيى في جحفل كثيف وقد أقبلت الروم مع بطريقها فبلغوا الحدث وفيها توفي الحسن بن علي بن حسن بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب قتل في أيام التشريق كما تقدم (10/157)
والربيع بن يونس الحاجب مولى المنصور وكان حاجبه ووزيره وقد وزر للمهدي والهادي وكان بعضهم يطعن في نسبه وقد أورد الخطيب في ترجمة حديثا من طريقة ولكنه منكر وفي صحته عنه نظر وقد ولى الحجوبية بعده ولده الفضل بن الربيع ولاه إياها الهادي
( ثم دخلت سنة سبعين ومائة من الهجرة النبوية )
وفيها عزم الهادي على خلع أخيه هارون الرشيد من الخلافة وولاية العهد لإبنه جعفر بن الهادي فانقادا هارون لذلك ولم يظهر عليه منازعة بل أجاب واستدعى الهادي جماعة من الأمراء فأجابوه إلى ذلك وأبت أمهما الخيزران وكانت تميل إلى ابنها هارون أكثر من موسى وكان الهادي قد منعها من التصرف في شيء من المملكة لذلك بعدما كانت قد استحوذت عليه في أول ولايته وانقلبت الدول إلى بابها والامراء إلى جانبها فحلف الهادي لئن عاد أمير إلى بابها ليضربن عنقه ولا يقبل منه شفاعة فامتنعت من الكلام في ذلك وحلفت لاتكلمه أبدا وانتقلت عنه إلى منزل آخر وألح هو على أخيه هارون في الخلع وبعث الى يحيى بن خالد بن برمك وكان من أكابر الأمراء الذين هم من في صف الرشيد فقال له ماذا ترى فيما أريد من خلع هارون وتولية ابنى جعفر فقال له خالد اني اخشى ان تهون الايمان على الناس ولكن المصلحة تقتضي ان تجعل جعفرا ولى العهد من بعد هارون وايضا فأني اخشى ان لا يجيب اكثر الناس الى البيعة لجعفر لأنه دون البلوغ فيتفاقم الامر ويختلف الناس فأطرق مليا وكان ذلك ليلا ثم أمر بسجنه ثم اطلقه وجاء يوما اليه اخوة هارون الرشيد فجلس عن يمنيه بعيدا فجعل الهادي ينظر إليه مليا ثم قال يا هارون تطمع أن تكون وليا للعهد حقا فقال إي والله ولئن كان ذلك لأصلن من قطعت ولأنصفن من ظلمت ولأزوجن بنيك من بناتي فقال ذاك الظن بك فقام إليه هارون يقبل يده فحلف الهادي ليجلس معه على السرير فجلس معه ثم أمر له بألف الف دينار وأن يدخل الخزائن فيأخذ منها ما أراد وإذا جاء الخراج دفع إليه نصفه ففعل ذلك كله ورضي الهادي عن الرشيد ثم سافر الهادي إلى حديثة الموصل بعد الصلح ثم عاد منها فمات بعيساباذ ليلة الجمعة للنصف من ربيع الأول وقيل لآخر سنة سبعين ومائة وله من العمر ثلاث وعشرون سنة وكانت خلافته ستة اشهر وثلاثة وعشرون يوما وكان طويلا جميلا أبيض بشفته العليا تقلص
وقد توفي في هذه الليلة خليفة وهو الهادي وولى خليفة وهو الرشيد وولد خليفه وهو المأمون بن الرشيد وقد قالت الخيزران أمهما في أول الليل إنه بلغني أن يولد خليفة ويموت خليفة ويولى خليفة يقال انها سمعت ذلك من الأوزاعي قبل ذلك بمدة وقد سرها ذلك جدا ويقال إنها (10/158)
سمعت ولدها الهادي خوفا منها على ابنها الرشيد ولأنه كان قد أبعدها وأقصاها وقرب حظيته خالصة وأدناها فالله أعلم
( وهذا ذكر شيء من ترجمة الهادي )
هو موسى بن محمد المهدي بن عبدالله المنصور بن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس أبو محمد الهادي ولى الخلافة في محرم سنة تسع وستين ومائة ومات في النصف من ربيع الأول أو الآخر سنة سبعين ومائة وله من العمر ثلاث وقيل أربع وقيل ست وعشرون سنة والصحيح الأول ويقال إنه لم يل الخلافة أحد قبله في سنة وكان حسنا جميلا أبيض وكان طويلا وكان قوي البأس يثب على الدابة وعليه ذرعان وكان أبوه يسميه ريحانتي ذكر عيسى بن دأب قال كنت يوما عند الهادي إذ جيء بطست فيه رأس جاريتين قد ذبحا وقطعا لم أر أحسن صورا منهما ولا مثل شعورهما وفي شعورهما اللآليء والجواهر منضدة ولا رأيت مثل طيب ريحهما فقال لنا الخليفة أتدرون ما شأن هاتين قلت لا فقال إنه ذكر أنه تركب إحداهما الأخرى يفعلان الفاحشة فأمرت الخادم فرصدهما ثم جاءني فقال إنهما مجتمعتان فجئت فوجدتهما في لحاف واحد وهما على الفاحشة فأمرت بجز رقابهما ثم أمر برفع رؤسهما من بين يديه ورجع إلى حديثه الأول كأنه لم يضيع شيئا وكان شهما خبيرا بالملك كريما ومن كلامه ما أصلح الملك بمثل تعجيل العقوبة للجاني والعفو عن الزلات ليقل الطمع عن الملك وغضب يوما من رجل فاسترضى عنه فرضي فشرع الرجل يعتذر فقال الهادي إن الرضا كفاك مؤنة الأعتذار وعزى رجلا في ولده فقال له سرك هو عدو وفتنة وساءك وهو صلاة ورحمة وروى الزبير بن بكار أن مروان ابن أبي حفصة أنشد الهادي قصيدة له منها قوله ... تشابه يوما بأسه ونواله ... فما أحد يدري لأيهما الفضل ...
فقال له الهادي أيما أحب اليك ثلاثون الفا معجلة أو مائة ألف تدور في الدواوين فقال يا أمير المؤمنين أو أحسن من ذلك قال ما هو قال تكون ألفا معجلة ومائة ألف تدور بالدواوين فقال أوأحسن من ذلك نعجل الجميع لك فامر له بمائة ألف وثلاثين ألفا معجلة
قال الخطيب البغدادي حدثني الأزهري ثنا سهل بن أحمد الديباجي ثنا الصولى ثنا الغلابى حدثني محمد بن عبدالرحمن التيمى المكي حدثني المطلب بن عكاشة المزني قال قدمنا على أبي محمد الهادي شهودا على رجل منا أنه شتم قريشا وتخطى إلى رسول الله صلى اله عليه وسلم فجلس لنا مجلس أحضر فيه فقهاء أهل زمانه ومن كان بالحضرة على بابه وأحضر الرجل وأحضرنا فشهدنا عليه بما سمعنا منه فتغير وجه الهادي ثم نكس رأسه ثم رفعه ثم قال إني سمعت أبي المهدي يحدث عن ابيه المنصور (10/159)
عن أبيه علي بن عبدالله بن عباس قال من أهان قريشا أهانه الله وأنت يا عدو الله لم ترضى بأن آذيت قريشا حتى تخطيت إلى ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم أضربوا عنقه فما برحنا حتى قتل
توفي الهادي في ربيع الاول من هذه السنة وصلى عليه أخوه هارون ودفن في قصر بناه وسماه الابيض بعيساباذ من الجانب الشرقي من بغداد وكان له من الولد تسعة سبعة ذكور وابنتان فالذكور جعفر وعباس وعبدالله واسحاق وإسماعيل وسليمان وموسى الأعمى الذي ولد بعد وفاته فسمى باسم أبيه والبنتان هما أم عيسى التي تزوجها المأمون وأم العباس تلقب توبه
( خلافة هارون الرشيد بن المهدي )
بويع له بالخلافة ليلة مات أخوه وذلك ليلة الجمعة للنصف من ربيع الأول سنة سبعين ومائة وكان عمر الرشيد يومئذ ثنتان وعشرين سنة فبعث إلى يحيى بن خالد بن برمك فأخرجه من السجن وقد كان الهادي عزم تلك الليلة على قتله وقتل هارون الرشيد وكان الرشيد ابنه من الرضاعة فولاه حينئذ الوزارة وولى يوسف بن القاسم بن صبيح كتابة الانشاء وكان هو الذي قام خطيبا بين يديه حتى أخذت البيعة له على المنبر بعيساباذ ويقال إنه لما مات الهادي في الليل جاء يحيى ابن خالد بن برمك إلى الرشيد فوجده نائما فقال قم يا أمير المؤمنين كم تروعني لو سمعك هذا الرجل لكان ذلك أكبر ذنوبي عنده فقال قد مات الرجل فجلس هارون فقال أشر علي في الولايات فجعل يذكر الأقاليم لرجال يسميهم فيوليهم الرشيد فبينما هما كذلك إذ جاء آخر فقال أبشر يا أمير المؤمنين فقد ولدك الساعة غلام فقال هو عبدالله وهو المأمون ثم أصبح فصلى على أخيه الهادي ودفنه بعيساباذ وحلف لا يصلي الظهر إلا ببغداد فلما فرغ من الجنازة أمر بضرب عنق أبي عصمة القائد لأنه كان مع جعفر بن عبد الهادي فزاحموا الرشيد على جسر فقال أبو عصمة أصبر وقف حتى يجوز ولى العهد فقال الرشيد السمع والطاعة للآمير فجاز جعفر وأبو عصمة ووقف الرشيد مكسورا ذليلا فلما ولي بضرب عنق ابي عصمة ثم سار إلى بغداد فلما انهى إلى جسر بغداد استدعى بالغواصين فقال إني سقطت مني هنها خاتم كان والدي المهدي قد اشتراه لي بمائة ألف فلما كان من أيام بعث إلى الهادي يطلبه فألقيته إلى الرسول فسقط ههنا فغاص الغواصون وراءه فوجدوه فسر به الرشيد سرورا كثيرا ولما ولى الرشيد يحيى بن خالد الوزارة قال له قد وضعت اليك أمر الرعية وخلعت ذلك من عنقى وجعلته في عنقك فول من رأيت وأعزل من رأيت ففي ذلك يقول إبراهيم بن الموصلي ... ألم تر الشمس كانت سقيمة ... فلما ولى هارون أشرق نورها ... بيمن أمين الله هارون ذي الندى ... فهارون واليها ويحيى وزيرها (10/160)
ثم إن هارون أمر يحيى بن خالد أن لا يقطع أمرا إلا بمشاورة والدته الخيزران فكانت هي المشاورة في الأمور كلها فتبرم وتحل وتمضي وتحكم
وفيها أمر الرشيد بسهم ذوي القربى أن يقسم بين بني هاشم على السواء وفيها تتبع الرشيد خلقا من الزنادقة فقتل منهم طائفة كثيرة وفيها خرج عليه بعض أهل البيت وفيها ولد الأمين محمد بن الرشيد ابن زبيدة وذلك يوم الجمعة لست خلت من شوال من هذه السنة وفيها كمل بناء مدينة طرسوس على يدي فرج الخادم التركي ونزلها الناس وفيها حج بالناس أمير المؤمنين الرشيد وأعطى أهل الحرمين أموالا كثيرة ويقال إنه غزا في هذه السنة أيضا وفي ذلك يقول داود بن رزين الشاعر ... بهارون لاح النور في كل بلدة ... وقام به في عدل سيرته النهج ... إمام بذات الله أصبح شغله ... وأكثر ما يعني به الغزو والحج ... تضيق عيون الناس عن نور وجهه ... إذا ما بدا للناس منظره البلج ... وإن أمين الله هارون ذا الندا ... ينيل الذي يرجوه أضعاف ما يرجو ...
وغزا الصائفة فيها سليمان بن عبد الله البكائي
( ذكر من توفي فيها من الأعيان )
الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم أبو عبد الرحمن الفراهيدي ويقال الفرهودي الأزدي شيخ النحاة وعنه أخذ سيبويه والنضر بن شميل وغير واحد من أكابرهم وهو الذي اخترع علم العروض قسمه إلى خمس دوائر وفرعه إلى خمسة عشر بحرا وزاد الأخفش فيه بحرا آخر وهو الخبب وقد قال بعض الشعراء ... قد كان شعر الورى صحيحا ... من قبل أن يخلق الخليل ...
وقد كان له معرفة بعلم النغم وله فيه تصنيف أيضا وله كتاب العين في اللغة ابتدأه وأكمله النضر بن شميل وأضرابه من أصحاب الخليل كمؤرج السدوسي ونصر بن علي الجهضمي فلم يناسبوا ما وضعه الخليل وقد وضع ابن درستويه كتابا وصف فيه ما وقع لهم من الخلل فأفاد وقد كان الخليل رجلا صالحا عاقلا وقورا كاملا وكان متقللا من الدنيا جدا صبورا على خشونة العيش وضيقه وكان يقول لا يجاوز همي ما وراء بابي وكان ظريفا حسن الخلق وذكر أنه اشتغل رجل عليه في العروض وكان بعيد الذهن فيه قال فقلت له يوما كيف تقطع هذا البيت ... إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع ...
فشرع معي في تقطيعه على قدر معرفته ثم إنه نهض من عندي فلم يعد إلي وكأنه فهم ما أشرت (10/161)
إليه ويقال إنه لم يسم أحد بعد النبي صلى الله عليه و سلم بأحمد سوى أبيه وروى عن أحمد بن أبي خثيمة والله أعلم ولد الخليل سنة مائة من الهجرة ومات بالبصرة سنة سبعين ومائة على المشهور وقيل سنة ستين وزعم ابن الجوزي في كتابه شذود والعقود أنه توفي سنة ثلاثين ومائة وهذا غريب جدا والمشهور الاول
وفيها توفي الربيع بن سليمان بن عبد الجبار بن كامل المرادي مولاهم المصري المؤدب راوية الشافعي وآخر من روى عنه وكان رجلا صالحا تفرس فيه الشافعي وفي البويطي والمزني وابن عبد الحكم العلم فوافق ذلك ما وقع في نفس الامر ومن شعر الربيع هذا ... صبرا جميلا ما أسرع الفرجا ... من صدق الله في الامور ونجا ... من خشي الله لم ينله أذى ... ومن رجا الله كان حيث رجا ...
فاما الربيع بن سليمان بن داود الجيزى فانه روى عن الشافعي أيضا وقد مات في سنة ست وخمسين ومائين والله أعلم
( ثم دخلت سنة إحدى وسبعين ومائة )
فيها أضاف الرشيد الخاتم الى يحيى بن خالد مع الوزارة وفيها قتل الرشيد ابا هريرة محمد بن فروخ نائب الجزيرة صبرا في قصر الخلد بين يديه وفيها خرج الفضل بن سعيد الحروري فقتل وفيها قدم روح بن حاتم نائب إفريقية وفيها خرجت الخيزران إلى مكة فأقامت بها إلى أن شهدت الحج وكان الذي حج بالناس فيها عبد الصمد بن علي عم الخلفاء
( ثم دخلت سنة ثنتين وسبعين ومائة )
فيها وضع الرشيد عن أهل العراق العشر الذي كان يؤخذ منهم بعد النصف وفيها خرج الرشيد من بغداد يرتاد له موضعا يسكنه غير بغداد فتشوش فرجع وفيها حج بالناس يعقوب بن أبي جعفر المنصور عم الرشيد وفيها عزا الصائفة اسحاق بن سليمان بن علي
( ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ومائة )
فيها توفي بالبصرة محمد بن سليمان فأمر الرشيد بالاحتياط على حواصله التي تصلح للخلفاء فوجدوا من ذلك شيئا كثيرا من الذهب والفضة والأمتعة وغير ذلك فنضدوه ليستعان به على الحرب وعلى مصالح المسلمين وهو محمد بن سليمان بن علي بن عبدالله بن عباس وامه ام حسن بنت جعفر بن حسن بن حسن بن علي وكان من رجالات قريش وشجعانهم جمع له المنصور بين البصرة والكوفة وزوجه المهدي ابنته العباسه وكان له من الاموال شيء كثير كان دخله في كل يوم مائة ألف وكان له خاتم من ياقوت أحمر لم ير مثله ورزى الحديث عن أبيه عن جده الاكبر (10/162)
وهو حديث مرفوع في مسح رأس اليتيم إلى مقدم رأسه ومسح رأس من له أب إلى مؤخر رأسه وقد وفد على الرشيد فهنأه بالخلافة فأكرمه وعظمه وزاده في عمل شيئا كثيرا ولما أراد الخروج خرج معه الرشيد يشيعه إلى كلواذا توفي في جماد الآخرة من خذه السنة عن إحدى وخمسين سنة وقد أرسل الرشيد من اصطفى من ماله الصامت فوجد له من الذهب ثلاثة آلاف الف دينار ومن الدراهم ستة آلاف ألف خارجا عن الأملاك
وقد ذكر ابن جرير أن وفاته ووفاة الخيزران في يوم واحد وقد وقفت جارية من جواريه على قبره فأنشأت تقول ... أمسى التراب لمن هويت مبيتا ... الق التراب فقل له حييتا ... إنا بحبك يا تراب وما بنا ... إلا كرامة من عليه حثيتا ...
وفيها توفيت الخيزران جارية المهدي وأم أمير المؤمنين الهادي والرشيد اشتراها المهدي وحظيت عنده جدا ثم أعتقها وتزوجها ولدت له خليفتين موسى الهادي والرشيد ولم يتفق هذا لغيرها من النساء إلا الولادة بنت العباس العبسية زوجة عبدالملك بن مروان وهي أم الوليد وسليمان وكذلك لشاه فرند بنت فيروز بن يزدجرد ولدت لمولاها الوليد بن عبد الملك مروان وإبراهيم وكلاهما ولى الخلافة وقد روى من طريق الخيزران عن مولاها المهدي عن أبيه عن جده عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال
( من اتقى الله وقاه كل شيء ) ولما عرضت الخيزران على المهدي ليشتريها أعجبته إلا دقة في ساقيها فقال لها يا جارية إنك لعلى غاية المنى والجمال لولا دقة ساقيك وخموشهما فقالت يا أمير المؤمنين إنك أحوج ما تكون اليهما لا تراهما فاستحسن جوابها واشتراها وحظيت عنده جدا وقد حجت الخيزران مرة في حياة المهدي فكتب اليها وهي بمكة يستوحش لها ويتشوق اليها بهذا الشعر ... نحن في غاية السرور ولكن ... ليس بكم يتم السرور ... عيب ما نحن فيه يا أهل ودي ... أنكم غيب ونحن حضور ... فأجدوا في السير بل إن قدرتم ... أن تطيروا مع الرياح فطيروا ...
فأجابته أو أمرت من أجابة ... قد أتانا الذي وصفت من الشو ... ق فكدنا وما قدرنا نطير ... ليت أن الرياح كن يؤدين ... اليكم ما قد يكن الضمير ... لم أزل صبة فإن كنت بعدي ... في سرور فدام ذاك السرور ...
وذكر أنه أهدي اليها محمد بن سليمان نائب البصرة الذي مات في اليوم الذي ماتت فيه مائة (10/163)
وصيفة مع كل وصيفة جام من فضة مملوء مسكا فكتبت اليه ان كان ما بعثته ثمنا عن ظننا فيك فظننا فيك أكثر مما بعثت وقد بخستنا في الثمن وان كنت تريد به زيادة المودة فقد اتهمتني في المودة وردت ذلك عليه وقد اشترت الدار المشهورة بها بمكة المعروفة بدار الخيزران فزادتها في المسجد الحرام
وكان مغل ضياعها في كل سنة ألف ألف وستين ألفا واتفق موتها ببغداد ليلة الجمعة لثلاث بقين من جمادي الآخرة من هذه السنة وخرج ابنها الرشيد في جنازتها وهو حامل سريرها يخب في الطين فلما انتهى إلى المقبرة أتى بماء فغسل رجليه ولبس خفا وصلى عليها ونزل لحدها فلما خرج من القبر أتى بسرير فجلس عليه واستدعى بالفضل بن الربيع فولاه الخانم والنفقات وأنشد الرشيد قول أبن نويره حين دفن أمه الخيزران ... وكنا كندمائي جذيمة برهة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا ... فلما تفرقنا كأني ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا ...
وفيها توفيت ( غادر )
جارية كانت لموسى الهادي كان يحبها حبا شديدا جدا وكانت تحسن الغناء جدا فبينما هي يوما تغنيه إذ أخذته فكرة غيبته عنها وتغير لونه فسأله بعض الحاضرين ما هذا يا أمير المؤمنين فقال أخذتني فكرة أني أموت وأخي هارون يتولى الخلافة بعدي ويتزوج جاريتي هذه ففداه الحاضرون ودعوا له بطول العمر ثم استدعى أخاه هارون فأخبره بما وقع فعوذه الرشيد من ذلك فاستحلفه الهادي بالأيمان المغلظة من الطلاق والعتاق والحج ماشيا حافيا أن لا يتزوجها فحلف له واستحلف الجارية كذلك فحلفت له فلم يكن إلا أقل من شهرين حتى مات ثم خطبها الرشيد فقالت كيف بالايمان التي حلفناها أنا وأنت فقال اني أكفر عني وعنك فتزوجها وحظيت عنده جدا حتى كانت في حجرة فلا يتحرك خشية أن يزعجها فبينما هي ذات ليلة نائمة إذا انتبهت مذعورة تبكي فقال لها ما شأنك فقالت يا أمير المؤمنين رأيت الهادي في منامي هذا وهو يقول ... اخلفت عهدي بعد ما ... جاورت سكان المقابر ... ونسيتي وحنثت في ... أيمانك الكذب الفواجر ... ونكحت غادرة أخي ... صدق الذي سماك غادر ... أمسيت في أهل البلى ... وعددت في الموتى الغوابر ... لا يهنك الألف الجد ... يد ولا تدور عنك الدوائر ... ولحقت بي قبل الصبا ... ح وصرت حيث غدوت صائر (10/164)
فقال الرشيد أضغاث أحلام فقالت كلا والله يا أمير المؤمنين فكأنما كتبت هذه الابيات في قلبي ثم ما زالت ترتعد وتضطرب حتى ماتت قبل الصباح وفيها ماتت ( هيلانه ) جارية الرشيد وهو الذي سماها هيلانه لكثرة قولها هي لانه قال الأصمعي وكان لها محبا وكانت قبله لخالد بن يحيى بن برمك فدخل الرشيد يوما منزله قبل الخلافة فاعترضته في طريقه وقالت أمالنا منك نصيب فقال وكيف السبيل إلى ذلك فقالت استوهبني من هذا الشيخ فاستوهبها من يحيى بن خالد فوهبها له وحظيت عنده ومكثت عنده ثلاثة سنين ثم توفيت فحزن عليها حزنا شديدا ورثاها وكان من قوله فيها ... قد قلت لما ضمنوك الثرى ... وجالت الحسرة في صدري ... أذهب فلاق الله لا سرني ... بعدك شيء آخر الدهر ...
وقال العباس بن الأحنف في موتها ... يامن تباشرت القبور بموتها ... قصد الزمان مساءتي فرماك ... أبغي الأنيس فما أرى لي مؤنسا ... إلا التردد حيث كنت أراك ...
قال فأمر له الرشيد بأربعين ألفا لكل بيت عشرة آلاف فالله أعلم
( ثم دخلت سنة أربع وسبعين ومائة من الهجرة النبوية )
فيها وقعت عصبية بالشام وتخبيط من أهلها وفيها استقضى الرشيد يوسف ابن أبي يوسف وأبوه حي وفيها عزا الصائفة عبد الملك بن صالح فدخل بلاد الروم وفيها حج بالناس الرشيد فلما اقترب من مكة بلغه أن فيها وباء فلم يدخل مكة حتى كان وقت الوقوف فوقف ثم جاء المزدلفة ثم منى ثم دخل مكة فطاف وسعى ثم ارتحل ولم ينزل بها
( ثم دخلت سنة خمس وسبعين ومائة )
فيها أخذ الرشيد بولاية العهد من بعده لولده محمد بن زبيده وسماه الامين وعمره إذ ذاك خمس سنين فقال في ذلك سلم الخاسر ... قد وفق الله الخليفة إذ بنى ... بيت الخلافة للهجان الأزهر ... فهو الخليفة عن أبيه وجده ... شهدا عليه بمنظر وبمخبر ... قد بايع الثقلان في مهد الهدى ... لمحمد بن زبيدة ابنة جعفر ...
وقد كان الرشيد يتوسم النجابة والرجاحة في عبدالله المأمون ويقول والله فيه حزم المنصور ونسك المهدي وعزة نفس الهادي ولو شئت أن أقول الرابعة مني لقلت وإني لأقدم محمد بن زبيدة وإني لأعلم أنه متبع هواه ولكن لاأستطيع غير ذلك ثم أنشأ يقول (10/165)
لقد بان وجه الرأي غير أنني ... غلبت على الأمر الذي كان أحزما ... وكيف يرد الدار في الضرع بعدما ... نوزع حتى صار نهبا مقسما ... أخاف التواء الأمر بعد استوائه ... وأن ينقص الأمر الذي كان أبرما ...
وغزا الصائفة عبدالملك بن صالح في قول الواقدى وحج بالناس الرشيد وفيها سار يحيى بن عبدالله بن حسن إلى الديلم وتحرك هناك من الأعيان
( شعوانة العابدة الزاهدة )
كانت أمة سوداء كثيرة العبادة روى عنها كلمات حسان وقد سألها الفضل بن عياض الدعاء فقالت أما بينك وبينه ما إن دعوته استجاب لك فشهق الفضيل الفضل ووقع مغشيا عليه وفيها توفي الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي مولاهم قال ابن خلكان كان مولا قيس بن رفاعة وهو مولى عبد الرحمن بن مسافر الفهمي كان الليث إمام الديار المصرية بلا مدافعة وولد بقرقشندة من بلاد مصر سنة أربع وتسعين وكانت وفاته في شعبان من هذه السنة ونشأ بالديار المصرية وقال ابن خلكان أصله من قلقشندة وضبطه بلامين الثانية متحركة وحكى عن بعضهم أنه كان جيد الذهن وأنه ولى القضاء بمصر فلم يحمدوا ذهنه بعد ذلك ولد سنة أربع وعشرين ومائة وذلك غريب جدا وذكروا أنه كان يدخله من ملكه في كل سنة خمسة الاف دينار وقال آخرون كان يدخله من الغلة في كل سنة ثمانون ألف دينار وما وجبت عليه زكاة وكان إماما في الفقه والحديث والعربية قال الشافعي كان الليث أفقه من مالك إلا أنه ضيعه أصحابه وبعث إليه مالك يستهديه شيئا من العصفر لأجل جهاز ابنته فبعث إليه بثلاثين حملا فاستعمل منه مالك حاجته وباع منه بخمسمائة دينار ويقيت عنده منه بقية وحج مرة فأهدى له مالك طبقا فيه رطب فرد الطبق وفيه الف دينار وكان يهب للرجل من أصحابه من العلماء الألف دينار وما يقارب ذلك وكان يخرج إلى الاسكندرية في البحر هو وأصحابه في مركب ومطبخه في مركب ومناقبه كثيرة جدا وحكى ابن خلكان أنه سمع قائلا يقوم يوم مات الليث ... ذهب الليث فلا ليث لكم ... ومضى العلم غريبا وقبر ...
فالتفتوا فلم يروا أحدا وفيها توفى
( المنذر بن عبدالله بن المنذر )
القرشى عرض عليه المهدي أن يلي القضاء ويعطيه من بيت المال مائة ألف درهم فقال اني عاهدت الله أن لا إلى شيئا وأعيذ أمير المؤمنين بالله أن أخيس بعهدي فقال له المهدي الله قال الله قال انطلق فقد أعفيتك (10/166)
( ثم دخلت سنة ست وسبعين ومائة )
فيها كان ظهور يحيى ين عبدالله بن حسن حسن بن بن علي بن أبي طالب ببلاد الديلم واتبعه خلق كثير وجم غفير وقويت شوكته وارتحل اليه الناس من الكور والأمصار فانزعج لذلك الرشيد وقلق من أمره فندب إليهالفضل بن يحيى بن خالد بن برمك في خمسين الفا وولاه كور الجبل والري وجرجان وطبر ستان وقومس وغير ذلك فسار الفضل بن يحيى إلى تلك الناحية في أبهة عظيمة وكتب الرشيد تلحقه مع البرد في كل منزلة وأنواع التحف والبر وكاتب الرشيد صاحب الديلم ووعده بألف ألف درهم إن هو سهل خرج يحيى اليهم وكتب الفضل بن يحيى بن عبدالله يعده ويمنيه ويؤمله ويرجيه وأنه إن خرج إليه أن يقيم له العذر عند الرشيد فامتنع يحيى أن يخرج اليهم حتى يكتب له الرشيد كتاب أمان بيده فكتب الفضل إلى الرشيد بذلك ففرح الرشيد ووقع منه موقعا عظيما وكتب الامان بيده وأشهد عليه القضاة والفقهاء ومشيخة بني هاشم منهم عبد الصمد بن علي وبعث الأمان وأرسل معه جوائز وتحفا كثيرة اليهم ليدفعوا ذلك إلى جميعه ليه ففعلوا فدخلوا بغداد وتلقاه الرشيد وأكرمه وأجزل له في العطاء وخدمه آل برمك خدمة عظيمة بحيث إن يحيى بن خالد كان يقول خدمته بنفسى وولدي وعظم الفضل عند الرشيد جدا بهذه الفعلة حيث سعى بالصلح بين العباسين والفاطميين ففي ذلك يقول مروان ابن ابي حفصة بن يحيى ويشكره على صنيعه هذا ... ظفرت فلا شلت يد برمكية ... رتقت بها الفتق الذي بين هاشم ... على حين أعياه الرتقين التئامه ... فكفوا وقالوا ليس بالمتلائم ... وما زال قدح الملك يخرج فائزا ... لكم كلما ضمت قداح المساهم ...
قالوا ثم أن الرشيد تنكر ليحيى بن عبدالله بن حسن وتغير عليه ويقال إنه سجنه ثم استخضره وعنده جماعات من الهاشمين واحضر الأمان الذي بعث به إليه فسأل الرشيد محمد بن الحسن عن الأمان أصحيح هو قال نعم فتغيظ الرشيد عليه وقال أبو البختري ليس هذا الأمان بشيء فاحكم فيه بما شئت ومزق الأمان وبصق فيه البخترى وأقبل الرشيد على يحيى بن عبدالله فقال هيه هيه هيه وهو يبتسم تبسم الغضب وقال ان الناس يزعمون أنا سممناك فقال يحيى يا أمير المؤمنين إن لنا قرابة ورحما وحقا فعلام تعذبني وتحبسني فرق له الرشيد فاعترض بكار بن مصعب بن ثابت بن عبدالله بن الزبير فقال يا أمير المؤمنين لا يغرنك هذا الكلام من هذا فإنه عاص شاق وانما هذا منه مكر وخبث وقد أفسد علينا مدينتنا وأظهر (10/167)
فيها العصيان فقال له يحيى ومن أنتم عافاكم الله وإنما هاجر أبوك إلى المدينة بأبائي وآباء هذا ثم قال يحيى يا أمير المؤمنين لقد جاءني هذا حين قتل أخي محمد بن عبدالله فقال لعن الله قاتله وأنشدني فيه نحو من عشرين بيتا وقال لي إن تحركت إلى هذا الأمر فأنا أول من يبايعك وما يمنعك أن تلحق بالبصرة وأيدينا معك قال فتغير وجه الرشيد ووجه الزبير وأنكر وشرع يحلف الايمان المغلظة إنه لكاذب في ذلك وتحير الرشيد ثم قال ليحيى الحفظ شيئا من المرثية قال نعم وانشده منها جانبا فازداد الزبير في الانكار فقال له يحيى بن عبدالله فقل إن كنت كاذبا فقد برئت من حول الله وقوته ووكلني الله إلى حولي وقوتي فامتنع من الحلف بذلك فعزم عليه الرشيد فحلف بذلك فما كان إلا أن خرج من عند الرشيد فرماه الله بالفالج فمات من ساعته ويقال إن امرأته غمت وجهه بمخدة فقتله الله
ثم إن الرشيد أطلق يحيى بن عبد الله وأطلق ل مائة ألف دينار ويقال إنما حبسه بعض يوم وقيل ثلاثة أيام وكان جملة ما وصله من المال من الرشيد أربعمائة ألف دينار من بيت المال وعاش بعد ذلك كله شهرا واحدا ثم مات رحمه الله
وفيها وقعت فتنة عظيمة بالشام بين الننزاريه وهم قيس واليمانيه وهم يمن وهذا كان أول يوم بدو أمر العشيرتين بحوران وهم قيس ويمن أعادوا ما كانوا عليه في الجاهلية في هذا الآن وقتل منهم في هذه السنة بشر كثير وكان على نيابة الشام كلها من جهة الرشيد ابن عمه موسى بن عيسى وقيل عبد الصمد بن علي فالله أعلم [ وكان على نيابة دمشق بخصوصها سندى بن سهيل أحد مولي جعفر المنصور وقد هدم سور دمشق حين ثارت الفتنة خوفا من أن يتغلب عليها أبو الهيذام المزي رأس القيسية وقد كان مزب هذا دميم الخلق قال الجاحظ وكان لا يحلف المكاري ولا الملاح ولا الحائك ويقول القول قولهم ويستخير الله في الحمال ومعلم الكتاب وقد توفي سنة أربع ومائتين ] فلما تفاقم الأمر بعث الرشيد من جهته موسى بن يحيى بن خالد ومعه جماعة من القواد ورؤس الكتاب فأصلحوا بين الناس وهدأت الفتنة واستقام أمر الرعية وحملوا جماعات من رؤس الفتنة إلى الرشيد فرد أمرهم إلى يحيى بن خالد فعفا عنهم وأطلقهم وفي ذلك يقول بعض الشعراء ... قد هاجت الشام هيجا ... يشيب رأس الوليد ... فصب موسى عليها ... بخيله وجنوده ... فدانت الشام لما أتى ... بسنح وحيده ... هذا الجواد الذي ب ... د كل جود بجوده (10/168)
أعده جود أبيه ... يحيى وجود جدوده ... فجاد موسى بن يحيى ... بطارف وتليده ... ونال موسى ذرى المجد ... وهو حشو مهوده ... خصصنه بمدحي ... منثورة وقصيده ... من البرامك عودا ... له فأكرم بعوده ... حووا على الشعر طرا ... خفيفة ومديده ...
وفيها عزل الرشيد الغطريف بن عطاء عن خراسان وولاها حمزة بن مالك بن الهيثم الخزاعي الملقب بالعروس وفيها ولى الرشيد جعفر بن يحيى بن خالد نيابة مصر فاسناب عليها جعفر عمر بن مهران وكان رديء الخلق رديء الشكل زمن الكف أحول وكان سبب ولايته إياها أن نائبها موسى ابن عيسى كان قد عزم على خلع الرشيد فقال الرشيد والله لأعزلنه ولأولين عليها أحسن الناس فاستدعى عمر بن مهران هذا فولاه عليها عن نائبه جعفر بن يحيى البرمكي فسار اليها على بغل وغلامه أبو ردة على بغل آخر فدخلها كذلك فانتهى إلى مجلس نائبها موسى بن عيسى فجلس في أخريات الناس فلما انفض الناس أقبل عليه موسى بن عيسى وهو لا يعرف من هو فقال الك حاجة يا شيخ قال نعم أصلح الله الأمير ثم دفع الكتب إليه فلما قرأها قال أنت عمر بن مهران قال نعم قال لعن الله فرعون حين قال أليس لي ملك مصر ثم سلم إليه العمل وارتحل منها وأقبل عمر بن مهران على عمله وكان لا يقبل شيئا من الهدايا إلا ما كان ذهبا أو فضة أو قماشا ثم يكتب على كل هدية اسم مهديها ثم يطلب الخراج ويلح في طلبه عليهم وكان بعضهم يماطله به فأقسم لا يماطله أحد إلا فعل به وفعل فجمع من ذلك شيئا كثيرا وكان يبعث ما جمعه إلى بغداد ومن ما طله بعثه إلى بغداد فتأدب الناس معه ثم جاءهم القسط الثاني فعجز كثير منهم عن الأداء فجعل يستحضر ما كانوا أدوه إليه من الهدايا فإن كان نقدا أداه عنهم وان كان برا باعة وأداه عنهم وقال لهم إني إنما ادخرت هذا لكم إلى وقت حاجتكم ثم أكمل استخرج جميع الخراج بديار مصر ولم يفعل ذلك أحد من قبله ثم أنصرف عنها لأنه كان شرط الرشيد أنه إذا مهد البلاد وجبى الخراج فذاك إذنه في الانصراف ولم يكن معه بالديار المصرية جيش ولا غيره سوى مولاه أبو درة وحاجبه وهو منفذ أموره وفيها غزال الصائفة عبد الرحمن بن عبد الملك ففتح حصنا وفيها حجت زبيدة زوجة الرشيد ومعها أخوها وكان أمير الحج سليمان بن أبي جعفر المنصور عم الرشيد وفيها توفي
( إبراهيم بن صالح )
ابن علي بن عبدالله بن عباس كان أميرا على مصر توفي في شعبان ( إبراهيم بن هرمة ) (10/169)
كان شاعرا وهو إبراهيم بن علي بن سلمه بن عامر بن هرمة أبو اسحاق الفهري المدني وفد على المنصور في وفد من أهل المدينة حين استوفدهم عليه فجلسوا الى ستر دون المنصور يرى الناس من ورائه ولا يرونه وأبو الخصيب الحاجب واقف يقول يا أمير المؤمنين هذا فلان الخطيب فيأمره فيخطب ويقول هذا فلان الشاعر فيأمره فينشد حتى كان من آخرهم ابن هرمة هذا فسمعته يقول لا مرحبا ولا أهلاا ولا انعم الله بك عينا قال فقلت هلكت ثم استنشدني فأنشدته قصيدتي التي أقول فيها ... سرى ثوبة عند الصبا المتجابل ... وقرب للبين الخليط المزايل ...
حتى انتهيت الى قولى ... فأما الذي أمنته يأمن الردي ... وأما الذي حاولت بالثكل ثاكل ...
قال فأمر برفع الحجاب فإذا وجهه كأنه فلقة قمر فاستنشدني بقية القصيدة وأمر لي بالقرب بين يديه والجلوس إليه ثم قال ويحك يا إبراهيم لولا ذنوب بلغتني عنك لفضلتك على أصحابك فقلت يا أمير المؤمنين كل ذنب بلغك عني لم تعف عنه فأنا مقربه قال فتناول المخصرة فضربني بها ضربتين وأمر لي بعشرة آلاف وخلعه وعفى عني وألحقني بنظرائي وكان من جملة ما نقم المنصور عليه قوله
... ومهما ألام على حبهم ... فإني أحب بني فاطمه ... بني بنت من جاء بالمحكما ... ت وبالدين وبالسنة قائما ... فلست أبالي بحبي لهم ... سواهم من النعم السائمه ...
قال الأحفش قال لنا ثعلب قال الاصمعي ختمت الشعراء بإبن هرمة ذكر وفاته في هذه السنة أبو الفرج ابن الجوزي وفيها توفي الجراح بن مليح والد وكيع بن الجراح وسعيد بن عبد الرحمن ابن عبدالله بن جميل أبو عبد الله المدني ولى قضاء بغداد سبعة عشر سنة لعسكر المهدي وثقة ابن معين وغيره وفيها توفي
( صالح بن بشيرالمري )
أحد العباد الزهاد كان كثير البكاء وكان يعظ فيحضر مجلسه سفيان الثوري وغيره من العلماء ويقول سفيان هذا نذير قوم وقد استدعاه المهدي ليحضر عنده فجاء اليه راكبا على حمار فدناه من بساط الخليفة وهو راكب فأمر الخليفة ابنيه ولي العهد من بعده موسى الهادي وهارون الرشيد أن يقوما اليه لينزلاه عن دابته فابتدراه فأنزلاه فأقبل صالح على نفسه فقال لقد خبت وخسرت إن أنا داهنت ولم أصدع بالحق في هذا اليوم وفي هذا المقام ثم جلس الى المهدي فوعظه موعظة بليغة حتى أبكاه ثم قال له اعلم ان رسول الله صلى الله عليه و سلم خصم من خالفه في أمته ومن كان محمد خصمه كان الله خصمه فأعد لمخاصمة الله ومخاصمة رسوله حججا تضمن لك النجاة وإلا فاستسلم للهلكة واعلم أن أبطأ الصرعى نهضة صريع هوى بدعته وأعلم أن الله قاهر فوق عباده وأن أثبت الناس قدما (10/170)
آخذهم بكتاب الله وسنة رسوله وكلام طويل فبكى المهدي وأمر بكتابة ذلك الكلام في دواوينه
وفيها توفي عبدالملك بن محمد بن محمد بن أبي بكر عمرو بن حزم قدم قاضيا بالعراق وفرج بن فضالة التنوخى الحمصي كان على بيت المال ببغداد في خلافة الرشيد فتوفي في هذه السنة وكان مولده سنة ثمان وثمانين فمات وله ثمان وثمانون سنة ومن مناقبه أن المنصور دخل يوما إلى قصر الذهب فقام الناس إلا فرج بن فضالة فقال له وقد غضب عليه لم لم تقم قال خفت أن يسألني الله عن ذلك ويسألك لم رضيت بذلك وقد كره رسول الله صلى الله عليه و سلم القيام للناس قال فبكى المنصور وقربه به وقضى حوائجه والمسيب بن زهير بن عمرو أبو سلمه الضبي كان والى الشرطة ببغداد في أيام المنصور والمهدي والرشيد وولى خراسان مرة للمهدي عاش ستا وتسعين سنة والوضاح بن عبدالله أبو عوانه السرى مولاهم كان من أئمة المشايخ في الرواية توفي في هذه السنة وقد جاوز الثمانين
( ثم دخلت سنة سبع وسبعين ومائة )
فيها عزل الرشيد جعفر البرمكي عن مصر وولى عليها اسحاق بن سليمان وعزل حمزة بن مالك عن خراسان وولى عليها الفضل بن يحيى البرمكي مضافا الى ما كان بيده من الأعمال بالري وسجستان وغير ذلك وذكر الواقدي أنه أصاب الناس ريح شديدة وظلمه في أواخر المحرم من هذه السنه وكذلك في أواخر صفر منها وفيها حج بالناس الرشيد وفيها توفي ( شريك بن عبدالله ) القاضي الكوفي النخعي سمع أبا اسحاق وغير واحد وكان مشكورا في حكمه وتنفيذ الأحكام وكان لا يجلس للحكم حتى يتغدى ثم يخرج ورقة من خفة فينظر فيها ثم يأمر بتقديم الخصومة إليه فحرص بعض أصحابه على قراءة ما في تلك الورقة فاذا فيها شريك بن عبدالله اذكر الصراط وحدته يا شريك بن عبدالله اذكر الموقف بين يدي الله عز و جل كانت وفاته يوم السبت مستهل ذي القعدة منها وفيها توفي عبدالواحد بن زيد ومحمد بن مسلم وموسى بن أعين
( ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائة )
فيها وثبت طائفة من الحوفيه من قيس وقضاعة على عامل مصر اسحاق بن سليمان فقاتلوهم حتى أذعنو بالطاعة وأدوا ما عليهم من الخراج والوظائف واستمر هزئمه نائبا على مصر نحوا من شهر عوضا عن إسحاق بن سليمان ثم عزله الرشيد عنها وولى عليها عبد الملك بن صالح وفيها وثبت طائفة من أهل إفريقية فقتلوا الفضل بن روح بن حاتم وأخرجوا من كان بها من آل المهلب فبعث اليهم الرشيد هرثمه فرجعوا إلى الطاعة على يديه وفيها فوض الرشيد أمور الخلافة كلها الى يحيى بن خالد بن برمك وفيها خرج الوليد بن طريف بالجزيرة وحكم بها وقتل خلقا من أهلها ثم (10/171)
مضى منها الى أرمينية فكان من أمره ماسنذكره وفيها سار الفضل بن يحيى الى خراسان فأحسن السيرة فيها وبنى فيها الربط والمساجد وغزا ما وراء النهر وآتخذ بها جندا من العجم سماهم العباسية وجعل ولاؤهم له وكانوا نحوا من خمسمائة ألف وبعث منهم نحوا من عشرين ألفا إلى بغداد فكانوا يعرفونه بها بالكرمينية وفي ذلك يقول مروان بن أبي حفصه
... ما الفضل إلا سهاب لاأفول له ... عند الحروب إذا ما تأفل الشهب ... حام على ملك قوم غر سهمهم ... من الوراثة في أيديهم سبب ... أمست يد لبني ساق الحجيج بها ... كتائب مالها في غيرهم أرب ... كتائب لبني العباس قد عرفت ... ما ألف الفضل منها العجم والعرب ... أثبت خمس مئين في عدادهم ... من الألوف التي أحصت لها الكتب ... يقارعون عن القوم الذين هم ... أولى بأحمد في الفرقان إن نسبوا ... إن الجواد بن يحيى الفضل لاورق ... يبقى على جود كفيه ولا ذهب ... ما مر يوم له مذ شد مئزرة ... إلا تمول أقوام بما يهب ... كم غاية في الندى والبأس أحرزها ... للطالبين مداها دونها تعب ... يعطى النهى حين لايعطي الجواد ولا ... ينبو إذا سلت الهندية القضب ... ولا الرضى والرضى لله غاية ... إلى سوى الحق يدعوه لا الغضب ... وقد فاض عرفك حتى ما يعادله ... غيث مغيث ولا يحر له حدب ...
وكان قد أنشده قبل خروجه إلى خراسان
... ألم تر ان الجود من يد آدم ... تحدر حتى صار في راحة الفضل ... إذا ما أبو العباس سحت سماؤه ... فيالك من هطل ويالك من وبل ...
وقال فيه أيضا
... إذا أم طفل راعها جوع طفلها ... دعته بإسم الفضل فاعتصم الطفل ... ليحيى بك الاسلام إنك عزه ... وإنك من قوم صغيرهم كهل ...
قال فأمر له بمائة الف درهم ذكره ابن جرير وقال سلم الخاسر فيهم أيضا ...
وكيف تخاف من بؤس بدار ... يجورها البرامكة البحور ... وقوم منهم الفضل بن يحيى ... نفر ما يوازنه نفير ... له يومان يوم ندى وبأس ... كأن الدهر بينهما أسر (10/172)
إذا مالبرمكي غدا عشر ... فهمته أمير أو وزير ...
وقد اتفق للفضل في هذه السفرة الى خرسان أشياء غريبة وفتح بلادا كثيرة منها كابل وما وراء النهر وقهر ملك الترك وكان ممتنعا وأطلق أموالا جزيلة جدا ثم أقفل راجعا الى بغداد فلما اقترب منها خرج الرشيد ووجوه الناس اليه وقدم عليه الشعراء والخطباء وأكابر الناس فجعل يطلق الألف ألف والخمسمائة ألف نحوها وأنفذ في ذلك من الأموال شيئا كثيرا لا يمكن حصره إلا بتعب وكلفه وقد دخل عليه بعض الشعراء والبدر موضوعة بين يديه وهي تفرق على الناس فقال
... كفى الله بالفضل بن يحيى بن خالد ... وجود يديه يخل كل بخيل ...
فأمر له بمال جزيل وغزا الصائفة في هذه السنة معاوية بن زفير بن عاصم وغزا الشاتية سليمان ابن راشد وحج بالناس فيها محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس نائب مكة
وفيها توفي جعفر بن سليمان وعنتر بن القاسم وعبد الملك بن محمد بن ابي بكر بن عمرو بن حزم القاضي ببغداد وصلى عليه الرشيد ودفن بها وقد قيل إنه مات في التي قبلها فالله أعلم
( ثم دخلت سنة تسع وسبعين ومائة )
فيها كان قدوم الفضل بن يحيى من خراسان وقد استخلف عليها عمر بن جميل فولى الرشيد عليها منصور بن يزيد بن منصور الحميري وفيها عزل الرشيد خالد بن برمك على الحجوبة وردها الى الفضل بن ربيع وفيها خرج بخراسان حمزة بن أترك السجستاني وكان من أمره ماسيأتي طرف منه وفيها رجع الوليد بن طريف الشاري الى الجزيرة واشتدت شوكته وكثر اتباعه فبعث اليه الرشيد يزيد بن مزيد الشيباني فراوغه حتى قتله وتفرق أصحابه فقالت الفارعة في أخيها الوليد بن طريف ترثيه
... أيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف ... فتى لا يحب الزاد إلا من التقى ... ولا المال إلا من قنا وسيوف ...
وفيها خرج الرشيد معتمرا من بغداد شكر لله عز و جل فلما قضى عمرته أقام بالمدينة حتى حج بالناس في هذه السنة فمشى من مكة الى منى ثم الى عرفات وشهد المشاهد والمشاعر كلها ماشيا ثم انصرف الى بغداد على طريق البصرة وفيها توفي
( اسماعيل بن محمد )
بن ابن يزيد ربيعة أبو هاشم الحميري الملقب بالسيد كان من الشعراء المشهورين المبرزين فيه ولكنه كان رافضيا خبيثا وشيعيا غثيثا وكان ممن يشرب الخمر ويقول بالرجعة أي بالدور قال يوما لرجل أقرضني دينارا ولك عندي مائة دينار إذا رجعنا الى الدنيا فقال له (10/173)
الرجل اني أخشى أن تعود كلبا أو خنزيرا فيذهب ديناري
وكان قبحه الله يسب الصحابة في شعره قال الأصمعي ولولا ذلك ما قدمت عليه أحدا في طبقته ولا سيما الشيخين وابنيهما وقد أورد ابن الجوزي شيئا من شعره في ذلك كرهت أن أذكره لبشاعته وشناعته وقد اسود وجهه عند الموت وأصابه كرب شديد جدا ولما مات لم يدفنوه لسبه الصحابة رضي الله عنهم وفيها توفي
( حماد بن زيد )
أحد أئمة الحديث وخالد بن عبدالله أحد الصلحاء وكان من سادات المسلمين اشترى نفسه من الله أربع مرات ومالك بن أنس الامام والهقل بن زياد صاحب الأوزاعي وأبو الأحوص وكلهم قد ذكرناهم في التكميل
( والإمام مالك )
هو أشهرهم وهو أحد ألائمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة فهو مالك بن أنس بن مالك بن عامر بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيلان بن حشد بن عمر بن الحارث وهو ذو أصبح الحميري أبو عبدالله المدني إمام دار الهجرة في زمانه روى مالك عن غير واحد من التابعين وحدث عنه خلق من الأئمة منهم السفيانان وشعبة وابن المبارك والأوزاعي وابن مهدي وابن جريح والليث والشافعي والزهري شيخه ويحيى بن سعيد الأنصاري وهو شيخه ويحيى ين سعيد القطان ويحيى بن يحيى الاندلسي ويحيى بن يحيى النيسابوري قال البخاري أصح الاسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر وقال سفيان بن عيينه ما كان أشد انتقاده للرجال وقال يحيى بن معين كل من روى عن مالك فهو ثقه إلا أبا أميه وقال غير واحد هو أثبت أصحاب نافع والزهري وقال الشافعي إذا جاء الحديث فمالك النجم وقال من أراد الحديث فهو عيال على مالك ومناقبه كثيرة جدا وثناء الائمة عليه أكثر من أن يحضروا في هذا المكان قال أبو مصعب سمعت مالكا يقول ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك وكان إذا أراد أن يحدث تنظف وتطيب وسرح لحيته ولبس أحسن ثيابه وكان يلبس حسنا وكان نقش خاتمه حسبي الله ونعم الوكيل وكان إذا دخل منزله قال ما شاء الله ولا قوة الا بالله وكان منزله مبسوطا بأنواع المفارش ومن وقت خروج محمد بن عبدالله بن حسن لزم مالك بيته فلم يكن يأتي أحدا لا لعزاء ولا لهناء ولا يخرج لجمعة ولا لجماعة ويقول ما كل ما يعلم يقال وليس كل أحد يقدر على الاعتذار ولما احتضر قال أشهد أن لا إله إلا الله ثم جعل يقول لله الأمر من قبل ومن بعد ثم قبض في ليلة أربعة عشر من صفر وقيل من ربيع الأول من هذه السنه وله خمس وثمانون سنة قال الواقدي بلغ سبعين سنة ودفن بالبقيع وقد روى الترمذي عن سفيان بن عيينه عن ابن جريح عن أبي الزبير عن أبي صالح عن أبي هريره ( يوشك أن يضرب الناس أكباد الابل (10/174)
يطلبون العلم فلا يجدون أحدا أعلم من عالم المدينة ) ثم قال هذا حديث حسن وقد روى عن ابن عيينه أنه قال هو مالك بن أنس وكذا قال عبد الرزاق وعن ابن عيينه رواية أنه عبدالعزيز بن عبدالله العمري وقد ترجمه ابن خلكان في الوفيات فأطنب وأتى بفوائد حمة
( ثم دخلت سنة ثمانون ومائة )
فيها هاجت الفتنة بالشام بن النزارية واليمنية فانزعج الرشيد لذلك فندب جعفر البرمكي الى الشام في جماعة من الأمراء والجنود فدخل الشام فانقاد الناس له ولم يدع جعفر بالشام فرسا ولا سيفا ولا رمحا الا استلبه من الناس وأطفأ الله به نار تلك الفتنة وفي ذلك يقول بعض الشعراء ... لقد اوقدت بالشام نيران فتنة ... فهذا الشام تخمد نارها ... إذا جاش موج البحر من آل برمك ... عليها خبت شهبانها وشرارها ... رماها أمير المؤمنين بجعفر ... وفيه تلافى صدعها وانكسارها ... رماها بميمون النقيبة ماجد ... تراضى به قحطانها ونزارها ...
ثم كر جعفر راجعا الى بغداد بعدما استخلف على الشام عيسى العكى ولما قدم على الرشيد أكرمه وقربه وأدناه وشرع جعفر يذكر كثرة وحشته له في الشام ويحمد الله الذي من عليه برجوعه الى أمير المؤمنين ورؤيته وجهه وفيها ولى الرشيد جعفرا خراسان وسجستان فاستعمل على ذلك محمد بن الحسن بن قحطبة ثم عزل جعفرا عن خراسان بعد عشرين ليلة وفيها هدم الرشيد سور الموصل بسبب كثرة الخوارج وجعل الرشيد جعفرا على الحرس ونزل الرشيد الرقة واستوطنها واستناب على بغداد ابنه الامين محمدا وولاه العراقين وعزل هرثمة عن إفريقية واستدعاه الى بغداد فاستنابه جعفر على الحرس وفيها كانت بمصر زلزلة شديدة سقط منها رأس منارة الاسكندرية وفيها خرج بالجزيرة خراشة الشيباني فقتله مسلم بن بكار بن مسلم العقيلي وفيها ظهرت طائفة بجرجان يقال لها المحمرة لبسوا الحمرة واتبعوا رجلا يقال له عمر بن محمد العمركي وكان ينسب الى الزندقة فبعث الرشيد يأمر بقتله فقتل وأطفأ الله نارهم في ذلك الوقت وفيها غزا الصائفة زفر بن عاصم وحج بالناس موسى بن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس وفيها كانت وفاة جماعة من الاعيان
( اسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الانصاري )
قاريء أهل المدينة ومؤدب على بن المهدي ببغداد وقد مات على بن المهدي في هذه السنة أيضا وقد ولى إمارة الحج غير مرة وكان أسن من الرشيد بشهور
( حسان بن ابي سنان )
ابن أبي أوفى بن عوف التنوخي الأنباري ولد سنة ستين ورأى أنس بن مالك ودعا له فجاء من (10/175)
نسله قضاة ووزراء وصلحاء وأدرك الدولتين الأموية والعباسية وكان نصرانيا فأسلم وحسن إسلامه وكان يكتب بالعربية والفارسية والسريانية وكان يعرب الكتب بين يدي ربيعة لما ولاه السفاح الأنبار وفيها توفي عبد الوارث بن سعيد البيروتي أحد الثقات
وعافية بن يزيد
ابن قيس القاضي للمهدي على جانب بغداد الشرقي هو ابن علائة وكانا يحكمان بجامع الرصافة وكان عافية عابدا زاهدا ورعا دخل يوما على المهدي في وقت الظهيرة فقال يا أمير المؤمنين اعفنى فقال له المهدي ولم أعفيك هل اعترض عليك أحد من الأمراء فقال له لا ولكن كان بين اثنين خصومة عندي فعمد أحدهما إلى رطب السكر وكأنه سمع أنى أحبه فأهدى إلى منه طبقا لا يصلح إلا لأمير المؤمنين فرددته عليه فلما أصبحنا وجلسنا إلى الحكومة لم يستويا عندي في قلبي ولا نظري بل مال قلبي إلى المهدي منهما هذا مع أني لم أقبل منه ما أهداه فكيف لو قبلت منه فأعفنى عفا الله عنك فأعفاه وقال الأصمعي كنت عند الرشيد يوما وعنده عافية قد أحضره لأن قوما استعدوا عليه إلى الرشيد فجعل الرشيد يوقفه على ماقيل عنه وهو يجيب عما يسأله وطال المجلس فعطس الخليفة فشمته الناس ولم يشمته عافيه فقال له الرشيد لم لم تشمتنى مع الناس فقال لأنك لم تحمد الله واحتج بالحديث في ذلك فقال له الرشيد ارجع لعملك فوالله ما كنت لتفعل ماقيل عنك وأنت لم تسامحنى في عطسة لم أحمد الله فيها ثم رده ردا جميلا إلى ولايته وفيها توفي
سيبويه
إمام النحاة واسمه عمرو بن عثمان بن قنبر أبو بشر المعروف بسيبوية مولى بنى الحارث بن كعب وقيل آل مولى الربيع بن زياد وإنما سمى سيبويه لأن أمه كانت ترقصه وتقول له ذلك ومعنى سيبويه رائحة التفاح وقد كان في ابتداء أمره يصحب أهل الحديث والفقهاء وكان يستملى على حماد بن سلمة فلحن يوما فرد عليه قوله فأنف من ذلك فلزم الخليل بن أحمد فبرع في النحو ودخل بغداد وناظر الكسائي وكان سيبويه شابا حسنا جميلا نظيفا وقد تعلق من كل علم بسبب وضرب مع كل أهل أدب بسهم مع حداثة سنه وقد صنف في النحو كتابا لا يلحق شأوه وشرحه أئمة النحاة بعده فانفمروا في لجج بحره واستخرجوا من درره ولم يبلغوا إلى قعره وقد زعم ثعلب أنه لم ينفرد بتصنيفه بل ساعده جماعة في تصنيفه نحوا من أربعين نفسا هو أحدهم وهو أصول الخليل فادعاه سيبويه إلى نفسه وقد استبعد ذلك السيرافي في كتاب طبقات النحاة قال وقد أخذ سيبويه اللغات عن أبي الخطاب والأخفش وغيرهما وكان سيبويه يقول سعيد بن أبي العروبة والعروبة يوم الجمعة وكان يقول من قال عروبة فقد أخطأ فذكر ذلك ليونس فقال (10/176)
أصاب لله دره وقد ارتحل إلى خراسان ليحظى عند طلحة بن طاهر فإنه كان يحب النحو فمرض هناك مرضه الذى توفي فيه فتمثل عند الموت ... يؤمل دنيا لتبقى له * ... فمات المؤمل قبل الأمل ... يربى فسيلا ليبقى له ... فعاش الفسيل ومات الرجل ...
ويقال إنه لما احتضر وضع رأسه في حجر أخيه فدمعت عين أخيه فاستفاق فرآه يبكي فقال ... وكنا جميعا فرق الدهر بيننا ... الى الامد الاقصى فمن يأمن الدهرا ...
قال الخطيب البغدادي يقال إنه توفي وعمره ثنتان وثلاثون سنة وفيها توفيت
عفيرة العابدة
كانت طويلة الحزن كثيرة البكاء قدم قريب لها من سفر فجعلت تبكى فقيل له في ذلك فقالت لقد ذكرني قدوم هذا الفتى يوم القدوم على الله فمسرور ومثبور وفيها مات مسلم بن خالد الزنجي شيخ الشافعي كان من أهل مكة ولقد تكلموا فيه لسوء حفظه
ثم دخلت سنة احدى وثمانين ومائة فيها غزا الرشيد بلاد الروم فافتتح حصنا يقال له الصفصاف فقال في ذلك مروان بن أبي حفصة ... إن أمير المؤمنين المنصفا ... قد ترك الصفصاف قاعا صفصفا ...
وفيها غزا عبد الملك بن صالح بلاد الروم أنقرة وافتتح مطمورة وفيها تغلبت المحمرة على جرجان وفيها أمر الرشيد أن يكتب في صدور الرسائل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد الثناء على الله عز و جل وفيها حج بالناس الرشيد وتعجل بالنفر وسأله يحى بن خالد أن يعفيه من الولاية فأعفاه وأقام يحي بمكة وفيها توفي
الحسن بن قحطبة تأحد أكابر الأمراء وحمزة بن مالك ولى إمره خراسان في أيام الرشيد وخلف بن خليفة شيخ الحسن بن عرفة عن مائة سنة
وعبد الله بن المبارك
أبو عبد الحمن المروزى كان أبوه تركيا مولى لرجل من التجار من بنى حنظلة من أهل همذان وكان ابن المبارك إذا قدمها أحسن إلى ولد مولاهم وكانت أمه خوارزمية ولد لثمان عشرة ومائة وسمع إسماعيل بن خالد والأعمش وهشام بن عروة وحميد الطويل وغيرهم من أئمة التابعين وحدث عنه خلائق من الناس وكان موصوفا بالحفظ والفقة والعربية والزهد والكرم والشجاعة والشعر له التصانيف الحسان والشعر الحسن المتضمن حكما جمة وكان كثير الغزو والحج وكان له رأس مال نحو أربعمائة ألف يدور يتجر به في البلدان فحيث اجتمع بعالم أحسن إليه وكان يربو كسبه في كل سنة على مائة ألف ينفقها كلها في أهل العبادة والزهد والعلم وربما أنفق من رأس ماله قال (10/177)
سفيان بن عيينة نظرت في أمره وأمر الصحابة فما رأيتهم يفضلون عليه إلا في صحبتهم رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال إسماعيل بن عياش ما على وجه الأرض مثله وما أعلم خصلة من الخير إلا وقد جعلها الله في ابن المبارك ولقد حدثنى أصحابي أنهم صحبوه من مصر إلى مكة فكان يطعمهم الخبيص وهو الدهر صائم وقدم مرة الرقة وبها هارون الرشيد فلما دخلها احتفل الناس به وازدحم الناس حوله فأشرفت أم ولد للرشيد من قصر هناك فقالت ما للناس فقيل لها قدم رجل من علماء خراسان يقال له عبد الله بن المبارك فانجفل الناس إليه فقالت المرأة هذا هو الملك لا ملك هارون الرشيد الذى يجمع الناس عليه بالسوط والعصا والرغبة والرهبة
وخرج مرة إلى الحج فاجتاز ببعض البلاد فمات طائر معهم فأمر بالقائه على مزبلة هناك وسار أصحابه أمامه وتخلف هو وراءهم فلما مر بالمزبلة إذا جارية قد خرجت من دار قريبة منها فأخذت ذلك الطائر الميت ثم لفته ثم أسرعت به إلى الدار فجاء فسألها عن أمرها وأخذها الميتة فقالت أنا وأخى هنا ليس لنا شئ إلا هذا الازار وليس لنا قوت إلا ما يلقى على هذه المزبلة وقد حلت لنا الميتة منذ أيام وكان أبونا له مال فظلم وأخذ ماله وقتل فأمر ابن المبارك برد الأحمال وقال لوكيله كم معك من النفقة قال ألف دينار فقال عد منها عشرين دينارا تكفينا إلى مرو واعطها الباقي فهذا أفضل من حجنا في هذا العام ثم رجع
وكان إذا عزم على الحج يقول لأصحابه من عزم منكم في هذا العام على الحج فليأتي بنفقته حتى أكون أنا أنفق عليه فكان يأخذ منهم نفقاتهم ويكتب على كل صرة اسم صاحبها ويجمها في صندوق ثم يخرج بهم في أوسع ما يكون من النفقات والركوب وحسن الخلق والتيسير عليهم فإذا قضوا حجتهم فيقول لهم هل أوصاكم أهلوكم بهدية فيشترى لكل واحد منهم ما وصاه أهله من الهدايا المكية واليمنية وغيرها فاذا جاؤا إلى المدينة اشترى لهم منها الهدايا المدنية فاذا رجعوا الى بلادهم بعث من أثناء الطريق الى بيوتهم فأصلحت وبيضت ابوابها ورمم شعثها فاذا وصلوا إلى البلد عمل وليمة بعد قدومهم ودعاهم فأكلوا وكساهم ثم دعا بذلك الصندوق ففتحه وأخرج منه تلك الصرر ثم يقسم عليهم أن يأخذ كل واحد نفقته التي عليها اسمه فيأخذونها وينصرفون إلى منازلهم وهم شاكرون ناشرون لواء الثناء الجميل وكانت سفرته تحمل على بعير وحدها وفيها من أنواع المأكول من اللحم والدجاج والحلوى وغير ذلك ثم يطعم الناس وهو الدهر صائم في الحر الشديد وسأله مرة سائل فأعطاه درهما فقال له بعض أصحابه إن هؤلاء يأكلون الشواء والفالودج وقد كان يكفيه قطعة فقال والله ما ظننت أنه يأكل إلا البقل والخبز فأما إذا كان يأكل الفالوذج والشواء فإنه لا يكفيه درهم ثم أمر بعض غلمانه فقال رده وادفع إليه عشرة دراهم وفضائله ومناقبه كثيرة جدا (10/178)
قال أبو عمر بن عبد البر أجمع العلماء على قبوله وجلالته وإمامته وعدله توفي عبد الله بن المبارك بهيت في هذه السنة في رمضانها عن ثلاث وستين سنة
ومفضل بن فضالة
ولى قضاء مصر مرتين وكان دينا ثقة فسأل الله أن يذهب عنه الأمل فأذهبه فكان بعد ذلك لا يهنئه العيش ولا شئ من الدنيا فسأل الله أن يرده عليه فرده فرجع إلى حاله
ويعقوب التائب
العابد الكوفي قال على بن الموفق عن منصور بن عمار خرجت ذات ليلة وأنا أظن أني قد أصبحت فاذا على ليل فجلست إلى باب صغير وإذا شاب يبكي وهو يقول وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتك مخالفتك ولكن سولت لى نفسى وغلبتنى شقوتي وغرني سترك المرخى على فلأن من عذابك من يستنقذني وبحبل من أتصل إن أنت قطعت حبلك عنى واسوأتاه على ما مضى من أيامى في معصية ربي يا ويلى كم أتوب وكم أعود قد حان لى أن أستحى من ربي عز و جل قال منصور فقلت أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يأمرون قال فسمعت صوتا واضطرابا شديدا فذهبت لحاجتي فلما رجعت مررت بذلك الباب فإذا جنازة موضوعة فسألت عنه فإذا ذاك الفتى قد مات من هذه الآية
ثم دخلت سنة ثنتين وثمانين ومائة
فيها أخذ الرشيد لولده عبد الله المأمون ولاية العهد من بعد أخيه محمد الامين بن زبيدة وذلك بالرقة بعد مرجعه من الحج وضم ابنه المأمون إلى جعفر بن يحي البرمكي وبعثه إلى بغداد ومعه جماعة من أهل الرشيد خدمة له وولاه خراسان وما يتصل بها وسماه المأمون وفيها رجع يحي بن خالد البرمكي من مجاورته بمكة إلى بغداد وفيها غزا الصائمة عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح فبلغ مدينة أصحاب الكهف وفيها سملت الروم عينى ملكهم قسطنطين بن اليون وملكوا عليهم أمه رينى وتقلب أغسطه وحج بالناس موسى بن عيسى بن العباس
وفيها توفي من الأعيان إسماعيل بن عياش الحمصى أحد المشاهير من أئمة الشاميين وفيه كلام ومروان بن أبي حفصة الشاعر المشهور المشكور كان يمدح الخلفاء والبرامكة
ومعن بن زائدة حصل من الأموال شئيا كثيرا جدا وكان مع ذلك من أبخل الناس لا يكاد يأكل اللحم من بخله ولا يشعل في بيته سراجا ولا يلبس من الثياب الا الكرباسي والفرو الغليظ وكان رفيقه (10/179)
سلم الخاسر إذا ركب إلى دار الخلافة يأتي على بردون وعليه حلة تساوى ألف دينار والطيب ينفح من ثيابه ويأتي هو في شر حالة وأسوئها وخرج يوما إلى المهدي فقالت امرأة من أهله إن أطلق لك الخليفة شيئا فاجعل لى منه شيئا فقال إن أعطاني مائة ألف درهم فلك درهم فأعطاه ستين ألفا فأعطاها أربعة دوانيق توفي ببغداد في هذه السنة ودفن في مقبرة نصر بن مالك
والقاضي ابو يوسف
واسمه يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن سعد بن حسنة وهي أمه وأبوه بحير بن معاوية استصغر يوم أحد وأبو يوسف كان أكبر أصحاب أبي حنيفة روى الحديث عن الأعمش وهمام ابن عروة ومحمد بن إسحاق ويحى بن سعيد وغيرهم وعنه محمد بن الحسن وأحمد بن حنبل ويحي ابن معين قال على بن الجعد سمعته يقول توفي أبي وأنا صغير فأسلمتنى أمى إلى قصار فكنت أمر على حلقة أبي حنيفة فأجلس فيها فكانت أمي تتبعنى فتأخذ بيدى من الحلقة وتذهب بى إلى القصار ثم كنت أخالفها في ذلك وأذهب إلى أبي حنيفة فلما طال ذلك عليها قالت لأبي حنيفة إن هذا صبي يتيم ليس له شئ إلا ما أطعمه من مغزلى وإنك قد أفسدته علي فقال لها اسكتى يا رعناء ها هو ذا يتعلم العلم وسيأكل الفالوذج بدهن الفستق في صحون الفيروزج فقالت له إنك شيخ قد خرفت قال أبو يوسف فلما وليت القضاء وكان أول من ولاه القضاء الهادي وهو أول من لقب قاضي القضاة وكان يقال له قاضي قضاة الدنيا لأنه كان يستنيب في سائر الأقاليم التي يحكم فيها الخليفة قال أبو يوسف فبينا أنا ذات يوم عند الرشيد إذ أتى بفالوذج في صحن فيروزج فقال لي كل من هذا فانه لا يصنع لنا في كل وقت وقلت وما هذا يا أمير المؤمنين فقال هذا الفالوذج قال فتبسمت فقال مالك تتبسم فقلت لاشئ أبقى الله أمير المؤمنين فقال لتخبرنى فقصصت عليه القصة فقال إن العلم ينفع ويرفع في الدنيا والآخرة ثم قال رحم الله أبا حنيفة فلقد كان ينظر بعين عقله ما لا ينظر بعين رأسه وكان أبو حنيفة يقول عن أبي يوسف إنه أعلم أصحابه وقال المزنى كان أبو يوسف أتبعهم للحديث وقال ابن المدينى كان صدوقا وقال ابن معين كان ثقة وقال أبو زرعة كان سليما من التجهم وقال بشار الخفاف سمعت أبا يوسف يقول من قال القرآن مخلوق فحرام كلامه وفرض مباينته ولا يجوز السلام ولا رده عليه ومن كلامه الذى ينبغي كتابته بماء الذهب قوله من طلب المال بالكيما أفلس ومن تتبع غرائب الحديث كذب ومن طلب العلم بالكلام تزندق ولما تناظر هو ومالك بالمدينة بحضرة الرشيد في مسألة الصاع وزكاة الخضروات احتج مالك بما استدعى به من تلك الصيعان المنقولة عن آبائهم وأسلافهم وبأنه لم يكن الخضروات يخرج فيها شئ في زمن الخلفاء الراشدين فقال (10/180)
أبو يوسف لو رأى صاحبى ما رأيت لرجع كما رجعت وهذا انصاف منه
وقد كان يحضر في مجلس حكمه العلماء على طبقاتهم حتى إن أحمد بن حنبل كان شابا وكان يحضر مجلسه في أثناء الناس فيتناظرون ويتباحثون وهو مع ذلك يحكم ويصنف أيضا وقال وليت هذا الحكم وأرجو الله أن لا يسألنى عن جور ولا ميل إلى أحد إلا يوما واحدا جاءني رجل فذكر أن له بستانا وأنه في يد أمير المؤمنين فدخلت إلى أمير المؤمنين فأعلمته فقال البستان لى اشتراه لى المهدي فقلت إن رأى أمير المؤمنين أن يحضره لأسمع دعواه فأحضره فادعى بالبستان فقلت ما تقول يا أمير المؤمنين فقال هو بستاني فقلت للرجل قد سمعت ما أجاب فقال الرجل يحلف فقلت أتحلف يا أمير المؤمنين فقال لا فقلت سأعرض عليك اليمين ثلاثا فان حلفت وإلا حكمت عليك يا أمير المؤمنين فعرضتها عليه ثلاثا فامتنع فحكمت بالبستان للمدعى قال فكنت في أثناء الخصومة أو دأن ينفصل ولم يمكنى أن أجلس الرجل مع الخليفة وبعث القاضي أبو يوسف في تسليم البستان إلى الرجل
وروى المعافي بن زكريا الجريرى عن محمد بن أبي الأزهر عن حماد بن أبي إسحاق عن أبيه عن بشر بن الوليد عن أبي يوسف قال بينا أنا ذات ليلة قد نمت في الفراش إذا رسول الخليفة يطرق الباب فخرجت منزعجا فقال أمير المؤمنين يدعوك فذهبت فإذا هو جالس ومعه عيسى ابن جعفر فقال لي الرشيد إن هذا قد طلبت منه جارية يهبنيها فلن يفعل أو يبعنيها وإني أشهدك إن لم يجبنى إلى ذلك قتلته فقلت لعيسى لم لم تفعل فقال إني حالف بالطلاق والعتاق وصدقة مالى كله أن لا أبيعها ولا أهبها فقال لى الرشيد فهل له من مخلص فقلت نعم يبيعك نصفها ويهبك نصفها فوهبه النصف وباعه النصف بمائة ألف دينار فقبل منه ذلك وأحضرت الجارية فلما رآها الرشيد قال هل لى من سبيل عليها الليلة قلت إنها مملوكة ولا بد من استبرائها إلا أن تعتقها وتتزوجها فإن الحرة لا تستبرأ قال فأعتقها وتزوجها منه بعشرين ألف دينار وأمر لى بمائتي ألف درهم وعشرين تختا من ثياب وأرسلت إلى الجارية بعشرة آلاف دينار
قال يحيى بن معين كنت عند أبي يوسف فجاءته هدية من ثياب ديبقي وطيب وفانيل ندوغير ذلك فذا كرنى رجل في إسناد حديث ( من أهديت له هدية وعنده قوم جلوس فهم شركاؤه ) فقال أبو يوسف إنما ذاك في الأقط والتمر والزبيب ولم تكن الهدايا في ذلك الوقت ماترون ياغلام ارفع هذا إلى الخزائن ولم يعطهم منها شئيا وقال بشر بن غياث المريسى سمعت أبا يوسف يقول صحبت أبا حنيفة سبع عشرة سنة ثم انصبت على الدنيا سبع عشرة سنة وما أظن أجلى إلا أن اقترب فما مكث بعد ذلك إلا شهورا حتى مات (10/181)
وقد مات أبو يوسف في ربيع الأول من هذه السنة عن سبع وستين سنة ومكث في القضاء بعده ولده يوسف وقد كان نائبه على الجانب الشرقي من بغداد ومن زعم من الرواة أن الشافعي اجتمع بأبي يوسف كما يقوله عبد الله بن محمد البلوى الكذاب في الرحلة التي ساقها الشافعي فقد أخطأ في ذلك إنما ورد [ الشافعي ] بغداد في أول قدمة قدمها إليها في سنة أربع وثمانين وإنما اجتمع الشافعي بمحمد بن الحسن الشيباني فأحسن إليه وأقبل عليه ولم يكن بينهما شنآن كما يذكره بعض من لا خبره له في هذا الشأن والله أعلم وفيها توفي
يعقوب بن داوود بن طهمان
أبو عبد الله مولى عبد الله بن حازم السلمى استوزره المهدي وحظى عنده جدا وسلم إليه أزمة الأمور ثم لما أمر بقتل ذلك العلوى كما تقدم فأطلقه ونمت عليه تلك الجارية سجنه المهدى في بئر وبنيت عليه قبة ونبت شعره حتى صار مثل شعور الأنعام وعمى ويقال بل غشى بصره ومكث نحوا من خمسة عشر سنة في ذلك البئر لا يرى ضوءا ولا يسمع صوتا إلا في أوقات الصلوات يعلمونه بذلك ويدلى إليه في كل يوم رغيف وكوز ماء فمكث كذلك حتى انقضت أيام المهدي وأيام الهادي وصدر من أيام الرشيد قال يعقوب فأتاني آت في منامي فقال ... عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب ... فيأمن خائف ويفك عان ويأتي أهله النائى الغريب ...
فلما أصبحت نوديت فظننت أني أعلم بوقت الصلاة ودلى إلى حبل وقيل لى اربط هذا الحبل فو وسطك فأخرجونى فلما نظرت إلى الضياء لم أبصر شيئا وأوقفت بين يدى الخليفة فقيل لي سلم على أمير المؤمنين فظننته المهدى فسلمت عليه بإسمه فقال لست به فقلت الهادي فقال لست به فقلت السلام عليك يا أمير المؤمنين الرشيد فقال نعم ثم قال والله إنه لم يشفع فيك عندى أحد ولكنى البارحة حملت جارية لى صغيرة على عنقي فذكرت حملك إياى على عنقك فرحمت ما أنت فيه من الضيق فأخرجتك ثم أنعم عليه وأحسن إليه فغار منه يحي بن خالد بن برمك وخشى أن يعيده إلى منزلته التى كان عليها أيام المهدى وفهم ذلك يعقوب فاستأذن الرشيد في الذهاب إلى مكة فأذن له فكان بها حتى مات في هذه السنة رحمه الله وقال يخشى يحى أن أرجع إلى الولايات لا والله ما كنت لأفعل أبدا ولو رددت إلى مكاني وفيها ( توفي يزيد بن زريع ) أبو معاوية شيخ الامام أحمد بن حنبل في الحديث كان ثقة عالما عابدا ورعا توفي أبوه وكان والى البصرة وترك من المال خمسمائة درهم فلم ياخذ منها يزيد درهما واحدا وكان يعمل الخوص بيده ويقتات منه هو وعياله توفي بالبصرة في هذه السنة وقيل قبل ذلك فالله أعلم (10/182)
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين ومائة
فيها خرجت الخزر على الناس من جهة أرمينية فعاثوا في تلك البلاد فسادا وسبوا من المسلمين وأهل الذمة نحوا من مائة ألف وقتلوا بشرا كثيرا وانهزم نائب أرمينية سعيد بن مسلم فأرسل الرشيد إليهم خازم بن خزيمة ويزيد بن مزيد في جيوش كثيرة كثيفة فأصلحوا ما فسد في تلك البلاد وحج بالناس العباس بن موسى الهادي
وفيها توفي من الأعيان علي بن الفضيل بن عياض في حياة أبيه كان كثير العبادة والورع والخوف والخشية ومحمد بن صبيح أبو العباس مولى بنى عجل المذكر ويعرف بإبن السماك روى عن إسماعيل بن أبي خالد والأعمش والثورى وهشام بن عروة وغيرهم ودخل يوما على الرشيد فقال إن لك بين يدى الله موقفا فانظر أين منصرفك إلى الجنة أم النار فبكى الرشيد حتى كاد يموت
وموسى بن جعفر
ابن محمد بن على بن الحسن بن على بن أبي طالب أبو الحسن الهاشمي ويقال له الكاظم ولد سنة ثمان أو تسع وعشرين ومائة وكان كثير العبادة والمروءة إذا بلغه عن أحد أنه يؤذيه أرسل إليه بالذهب والتحف ولد له من الذكور والاناث أربعون نسمة وأهدى له مرة عبد عصيدة فاشتراه واشترى المزرعة التي هو فيها بألف دينار وأعتقة ووهب المزرعة له وقد استدعاه المهدى إلى بغداد فحبسه فلما كان في بعض الليالي رأى المهدى على بن أبي طالب وهو يقول له يا محمد فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم فاستيقظ مذعورا وأمر به فأخرج من السجن ليلا فأجلسه معه وعانقة وأقبل عليه وأخذ عليه العهد أن لا يخرج عليه ولا على أحد من أولاده فقال والله ما هذا من شأنى ولا حدثت فيه نفسى فقال صدقت وأمر له بثلاثة آلاف دينار وأمر به فرد إلى المدينة فما أصبح الصباح إلا وهو على الطريق فلم يزل بالمدنية حتى كانت خلافة الرشيد فحج فلما دخل ليسلم على قبرالنبي صلى الله عليه و سلم ومعه موسى بن جعفر الكاظم فقال الرشيد السلام عليك يا رسول الله يا ابن عم فقال موسى السلام عليك يا أبت فقال الرشيد هذا هو الفخر يا ابا الحسين ثم لم يزل ذلك في نفسه حتى استدعاه في سنة تسع وستين وسجنه فأطال سجنه فكتب إليه موسى رسالة يقول فيها أما بعد يا أمير المؤمنين إنه لم ينقض عنى يوم من البلاء إلا انقضى عنك يوم من الرخاء حتى يفضى بنا ذلك إلى يوم يخسر فيه المبطلون توفي لخمس بقين من رجب من هذه السنة ببغداد وقبره هناك مشهور وفيها توفي
هاشم بن بشير بن ابي حازم
القاسم بن دينار أبو معاوية السلمى الواسطى كان أبوه طباخا للحجاج بن يوسف الثقفي ثم كان (10/183)
بعد ذلك يبيع الكوامخ وكن يمنع ابنه من طلب العلم ليساعده على شغله فأبى إلا أن يسمع الحديث فاتفق أن هاشما مرض فجاءه أبو شيبة قاضى واسط عائدا له ومعه خلق من الناس فلما رآه بشير فرح بذلك وقال يا بنى أبلغ من أمرك أن جاء القاضي إلى منزلى لا أمنعك بعد هذا اليوم من طلب الحديث كان هاشم من سادات العلماء وحدث عنه مالك وشعبة والثوري وأحمد بن حنبل وخلق غير هؤلاء وكان من الصلحاء العباد ومكث يصلى الصبح بوضوء العشاء قبل أن يموت بعشر سنين
ويحي بن زكريا
ابن أبي زائدة قاضى المدائن كان ما الأئمة الثقات ويونس بن حبيب أحد النحاة النجباء أخذ النحو عن أبي عمرو بن العلاء وغيره وأخذ عنه الكسائي والفراء وقد كانت له حلقة بالبصرة ينتابها أهل العلم والأدب والفصحاء من الحاضرين والغرباء توفي في هذه السنة عن ثمان وسبعين سنة
ثم دخلت سنة أربع وثمانين ومائة
فيها رجع الرشيد من الرقة إلى بغداد فأخذ الناس بأداء بقايا الخراج الذى عليهم وولى رجلا يضرب الناس على ذلك ويحبسهم وولى على أطراف البلاد وعزل وولى وقطع ووصل وخرج بالجزيرة أبو عمرو الشاري فبعث إليه الرشيد من قبله شهر زور وحج بالناس فيها إبراهيم بن محمد العباسى وفيها توفي
احمد بن الرشيد
كان زاهدا عابدا قد تنسك وكان لا يأكل إلا من عمل يده في الطين كان يعمل فاعلا فيه وليس يملك الا مروا وزنبيلا أى مجرفة وقفة وكان يعمل في كل جمعة بدرهم ودانق يتقرب بهما من الجمعة إلى الجمعة وكان لا يعمل إلا في يوم السبت فقط ثم يقبل على العبادة بقية أيام الجمعة وكان من زبيدة في قول بعضهم والصحيح أنه من امرأة كان الرشيد قد أحبها فتزوجها فحملت منه بهذا الغلام ثم إن الرشيد أرسلها إلى البصرة وأعطاها خاتما من ياقوت أحمر وأشياء نفيسة وأمرها إذا أفضت إليه الهلافة أن تأيتيه فلما صارت الخلافة إليه لم تأته ولا ولدها بل اختفيا وبلغه أنهما ماتا ولم يكن الأمر كذلك وفحص عنهما فلم يطلع لهما على خبر فكان هذا الشاب يعمل بيده ويأكل من كدها ثم رجع إلى بغداد وكان يعمل في الطين ويأكل مدة زمانية هذا وهو ابن أمير المؤمنين ولا يذكر للناس من هو إلى أن اتفق مرضه في دار من كان يستعمله في الطين فمرضه عنده فلما احتضر أخرج الخاتم وقال لصاحب المنزل اذهب بهذا إلى الرشيد وقل له صاحب هذا الخاتم يقول لك إياك أن تموت في سكرتك هذه فتندم حيث لا ينفع نادما ندمه واحذر انصرافك من بين يدي الله إلى الدارين وأن يكون آخر العهد بك فإن ما أنت فيه لو دام لغيرك لم يصل إليك وسيصير إلى غيرك وقد بلغك أخبار من مضى (10/184)
قال فلما مات دفنه وطلبت الحضور عند الخليفة فلما أوقفت بين يديه قال ما حاجتك قلت هذا الخاتم دفعه إلى رجل وأمرنى أن أدفعه إليك وأوصاني بكلام أقوله لك فلما نظر الخاتم عرفه فقال ويحك وأين صاحب هذا الخاتم قال فقلت مات يا أمير المؤمنين ثم ذكرت الكلام الذى أوصاني به وذكرت له أنه يعمل بالفاعل في كل جمعة يوما بدرهم وأربع دوانيق أو بدرهم ودانق يتقوت به سائر الجمعة ثم يقبل على العبادة قال فلما سمع هذا الكلام قام فضرب بنفسه الأرض وجعل يتمرغ ويتقلب ظهرا لبطن ويقول والله لقد نصحتنى يابنى ثم بكى ثم رفع رأسه إلى الرجل وقال أتعرف قبره قلت نعم أنا دفنته قال إذا كان العشى فائتنى فقال فأتيته فذهب إلى قبره فلم يزل يبكى عنده حتى أصبح ثم أمر لذلك الرجل بعشرة آلاف درهم وكتب له ولعياله رزقا وفيها مات
عبد الله بن مصعب
ابن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام القرشى الأسدى والد بكار ألزمه الرشيد بولاية المدينة فقبلها بشروط عدل اشترطها فأجابه إلى ذلك ثم أضاف إليه نيابة اليمن فكان من أعدل الولاة وكان عمره يوم تولى نحوا من سبعين سنة
عبد الله بن عبد العزيز العمري
أدرك أبا طوالة وروى عن أبيه وإبراهيم بن سعد وكان عابدا زاهدا وعظ الرشيد يوما فأطنب وأطيب قال له وهو واقف على الصفا أتنظركم حولها يعنى الكعبة من الناس فقال كثير فقال كل منهم يسأل يوم القيامة عن خاصة نفسه وأنت تسأل عنهم كلهم فبكى الرشيد بكاء كثيرا وجعلوا يأتونه بمنديل بعد منديل ينشف به دموعه ثم قال له يا هارون إن الرجل ليسرف في ماله فيستحق الحجر عليه فيكيف بمن يسرف في أموال المسلمين كلهم ثم تركهم وانصرف والرشيد يبكى وله معه مواقف محمودة غير هذه توفي عن ست وستين سنة
ومحمد بن يوسف بن معدان
أبو عبد الله الأصبهاني أدرك التابعين ثم اشتغل بالعبادة والزهادة كان عبد الله بن المبارك يسميه عروس الزهاد وقال يحي بن سعيد القطان ما رأيت أفضل منه كان كأنه قد عاين وقال ابن مهدي ما رأيت مثله وكان لا يشتري خبزه من خباز واحد ولا بقله من بقال واحد كان لا يشترى إلا ممن لا يعرفه يقول أخشى أن يحابوني فأكون ممن يعيش بدينه وكان لا يضع جنبة للنوم صيفا ولا شتاء ومات ولم يجاوز الأربعين سنة رحمة الله (10/185)
ثم دخلت سنة خمس وثمانين ومائة
فيها قتل أهل طبرستان متوليهم مهرويه الرازي فولى الرشيد عليهم عبد الله بن سعيد الحرشى وفيها قتل عبد الرحمن الأنباري أبان بن قحطبة الخرجي بمرج العلقة وفيها عاث حمزة الشاري بلاد باذغنيس من خراسان فنهض عيسى بن على بن عيسى إلى عشرة آلاف من جيش حمزة فقتلهم وسار وراء حمزة إلى كابل وزابلستان وفيها خرج أبو الخصيب فتغلب على أبيورد وطوس ونيسابور وحاصر مرو وقوى أمره وفيها توفي يزيد بن مزيد ببرذعة فولى الرشيد مكانه ابنه أسد بن يزيد واستأذن الوزير يحي بن خالد الرشيد في أن يعتمر في رمضان فأذن له ثم رابط بجنده إلى وقت الحج وكان أمير الحج في هذه السنة منصور بن محمد بن عبد الله بن على بن عبد الله بن عباس وفيها توفي
عبد الصمد بن على
ابن عبد الله بن عباس عم السفاح والمنصور ولد سنة أربع ومائة وكان ضخم الخلق جدا ولم يبدل أسنانه وكانت أصولها صفيحة واحدة قال يوما للرشيد يا أمير المؤمينين هذا المجلس اجتمع فيه عم أمير المؤمنين وعم عمه وعم عم عمه وذلك أن سليمان بن أبي جعفر عم الرشيد والعباس بن محمد بن على عم سليمان وعبد الصمد بن على عم السفاح وتلخيص ذلك أن عبد الصمد عم عم عم الرشيد لأنه عم جده روى عبد الصمد عن أبيه عن جده عبد الله بن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ( إن البر والصلة ليطيلان الأعمار ويعمران الديار ويثريان الأموال ولو كان القوم فجارا ) وبه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ( إن البر والصلة ليخففان الحساب يوم القيامة ) ثم تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب وغير ذلك من الأحاديث
ومحمد بن إبراهيم بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس المعروف بالامام كان على إمارة الحاج وإقامة سقايته في خلافة المنصور عدة سنين توفي ببغداد فصلى عليه الأمين في شوال من هذه السنة ودفن بالعباسية
وفيها توفي من مشايخ الحديث تمام بن إسماعيل وعمرو بن عبيد والمطلب بن زياد والمعافي ابن عمران في قول ويوسف بن الماجشون وأبو إسحاق الفزاري إمام أهل الشام بعد الأوزاعي في المغازي والعلم والعبادة
ورابعة العدوية
وهي رابعة بنت إسماعيل مولاة آل عتيك العدوية البصرية العابدة المشهورة ذكرها أبو نعيم في الحلية والرسائل وابن الجوزي في صفوة الصفوة والشيخ شهاب الدين السهر وردى في المعارف والفشيرى وأثنى عليها أكثر الناس وتكلم فيها أبو داود السجستاني واتهمها بالزندقة (10/186)
فلعله بلغه عنها أمر وأنشد لها السهر وردى في المعارف
... إني جعلتك في الفؤاد محدثي ... وأبحت جسمى من أراد جلوسى ... فالجسم منى للجليس موانس ... وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسى ...
وقد ذكروا لها أحوالا وأعمالا صالحة وصيام نهار وقيام ليل ورؤيت لها منامات صالحة فالله أعلم توفيت بالقدس الشريف وقبرها شرقيه بالطور والله أعلم
ثم دخلت سنة ست وثمانين ومائة
فيها خرج على بن عيسى بن ماهان من مرو لحرب أبي الخصيب إلى نسا فقاتله بها وسبى نساءه وذراريه واستقامت خراسان وحج بالناس فيها الرشيد ومعه ابناه محمد الأمين وعبد الله المأمون فبلغ جملة ما أعطى لأهل الحرمين ألف ألف دينار وخمسين ألف دينار وذلك أنه كان يعطى الناس فيذهبون إلى الأمين فيعطيهم فيذهبون إلى المأمون فيعطيهم وكان إلى الأمين ولاية الشام والعراق وإلى المأمون همدان إلى بلاد المشرق ثم تابع الرشيد لولده القاسم من بعد ولديه ولقبه المؤتمن وولاه الجزيرة والثغور والعواصم وكان الباعث له على ذلك أن ابنه القاسم هذا كان في حجر عبد الملك بن صالح ولما بايع الرشيد لولديه كتب إليه ... يا أيها الملك الذى ... لو كان نجما كان سعدا ... اعقد لقاسم بيعة ... واقدح له في الملك زندا ... فالله فرد واحد ... فاجعل ولاة العهد فردا ...
ففعل الرشيد ذلك وقد حمده قوم على ذلك وذمه آخرون ولم ينتظم للقاسم هذا أمر بل اختطفته المنون والأقدار عن بلوغ الأمل والأوطار ولما قضى الرشيد حجه أحضر من معه من الأمراء والوزراء وأحضر ولي العهد محمدا الأمين وعبد الله المأمون وكتب بمضمون ذلك صحيفة وكتب فيها الأمراء والوزراء خطوطهم بالشهادة على ذلك وأراد الرشيد أن يعلقها في الكعبة فسقطت فقيل هذا أمر سريع انتقاضه وكذا وقع كما سيأتي وقال إبراهيم الموصلى في عقد هده البيعة في الكعبة ... خير الأمور مغبة ... وأحق أمر بالتمام ... أمر قضى أحكامه الر ... حمن في البلد الحرام ...
وقد أطال القول في هذا المقام أبو جعفر بن جرير وتبعه ابن الجوزي في المنتظم
وفيها توفي من الأعيان
أصبغ بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم أبو ريان في رمضان منها وحسان بن إبراهيم قاضي (10/187)
كرمان عن مائة سنة وسلم الخاسر الشاعر
وهو سلم بن عمرو بن حماد بن عطاء وإنما قيل له الخاسر لأنه باع مصحفا واشترى به ديوان شعر لامرئ القيس وقيل لأنه أنفق مائتي ألف في صناعة الأدب وقد كان شاعرا منطيقا له قدرة على الانشاء على حرف واحد كما قال في موسى الهادى
موسى المطر غيث بكر ثم انهمر كم اعتبر ثم فتر وكم قدر ثم غفر عدل السير باقي الأثر خير البشر فرع مضر بدر بدر لمن نظر هو الوزر لمن حضر والمفتخر لم غبر
وذكر الخطيب أنه كان على طريقة غير مرضية من المجون والفسق وأنه كان من تلاميذ بشار ابن برد وأن نظمه أحسن من نظم بشار فمما غلب فيه بشارا قوله ... من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيبات الفاتك اللهج
فقال مسلم ... من راقب الناس مات غما ... وفاز باللذة الجسور ...
فغضب بشار وقال أحذ معاني كلامى فكساها ألفاظا أخف من ألفاظي وقد حصل له من الخلفاء والبرامكة نحوا من أربعين ألف دينار وقيل أكثر من ذلك ولما مات ترك ستة وثلاثين ألف دينار وديعة عند أبي الشمر الغساني فغنى إبراهيم الموصلى يوما الرشيد فأطر به فقال له سل فقال يا أمير المؤمنين أسألك شيئا ليس فيه من مالك شئ ولا أرزأوك شيئا سواه قال وما هو فذكر له وديعة سلم الخاسر وأنه لم يترك وارثا فأمر له بها ويقال إنها كانت خمسين ألف دينار
والعباس بن محمد
ابن على بن عبد الله بن عباس عم الرشيد كان من سادات قريش ولى إمارة الجزيرة في أيام الرشيد وقد أطلق له الرشيد في يوم خمسة آلاف ألف درهم وإليه تنسب العباسية وبها دفن وعمره خمس وستون سنة وصلى عليه الامين
ويقطين بن موسى
كان أحد الدعاة إلى دولة بنى العباس وكان داهية ذا رأى وقد احتال مرة حيلة عظيمة لما حبس مروان الحمار إبراهيم بن محمد بحران فتحيرت الشيعة العباسية فيمن يولون ومن يكون ولى الأمر من بعده إن قتل فذهب يقطين هذا إلى مروان فوقف بين يديه في صورة تاجر فقال يا أمير المؤمنين إني قد بعت إبراهيم بن محمد بضاعة ولم أقبض ثمنها منه حتى أخذته سلك فإن رأى أمير المؤمنين أن يجمع بينى وبينه لأطالبه بمالى فعل قال نعم فأرسل به إليه مع غلام فلما رآه قال يا عدو الله إلى من أوصيت بعدك آخذ مالى منه فقال له إلى ابن الحارثية يعنى أخاه عبد الله السفاح فرجع يقطين إلى الدعاة إلى بنى العباس فأعلمهم بما قال فبايعوا السفاح فكان من أمره (10/188)
ما ذكرناه
ثم دخلت سنة سبع وثمانين ومائة
فيها كان مهلك البرامكة علىة يدى الرشيد قتل جعفر بن يحي بن خالد الرمكي ودمر ديارهم واندرست آثارهم وذهب صغارهم وكبارهم وقد اختلف في سبب ذلك علىأقوال ذكره ابن جرير وغيره قيل إن الرشيد كان قد سلم يحي بن عبد الله بن حسن إلى جعفر البرمكي ليسجنه عنده فما زال يحي يترفق له حتى أطلقه فم الفضل بن الربيع ذلك إلى الرشيد فقال له اللرشيد ويلك لا تدخل بينى وبين جعفر فلعله أطلقه عن أمرى وأنا لا أشعر ثم سأل الرشيد جعفرا عن ذلك فصدقه فتغيظ عليه وحلف ليقتلنه وكره البرامكة ثم قتلهم وقلاهم بعد ماكانوا أحظى الناس عنده وأحبهم إليه وكانت أم جعفر والفضل أم الرشيد من الرضاعة وقد جعلهم الرشيد من الرفعة في الدنيا وكثرة المال بسبب ذلك شيئا كثيرا لم يحصل لمن قبلهم من الوزراء ولا لمن بعدهم من الأكابر والوؤساء بحيث إن جعفرا بنى دارا غرم عليها عشرين ألف ألف درهم وكان ذلك من جملة ما نقمه عليه الرشيد ويقال إنما قتلهم الرشيد لأنه كان لا يمر ببلد ولا إقليم ولا قرية ولا مزرعة ولا بستان إلا قيل هذا لجعفر ويقال إن البرامكة كانوا يريدون إبطال خلافة الرشيد وإظهار الزندقة وقيل إنما قتلهم بسبب العباسة ومن العلماء من أنكر ذلك وإن كان ابن جرير قد ذكره
وذكر ابن الجوزي أن الرشيد سئل عن سبب قتله البرامكة فقال لو أعلم أن قميصي يعلم ذلك لأحرقته وقد كان جعفر يدخل على الرشيد بغير إذن حتى كان يدخل عليه وهو في الفراش مع حظاياه وهذه وجاهة ومنزلة علية وكان عنده من أحظى العشراء على الشراب المسكر فإن الرشيد كان يستعمل في أواخر أيام خلافته المسكر وكان أحب أهله إليه العباسة بنت المهدي وكان يحضرها معه وجعفر البرمكي حاضرا أيضا معه فزوجه بها ليحل النظر إليها واشترط عليه أن لا يطأها وكان الرشيد ربما قام وتركهما وهما ثملان من الشراب فربما واقعها جعفر فحبلت منه فولدت ولدا وبعثته مع بعض جواريها إلى مكة وكان يربى بها
وذكر ابن خلكان أن الرشيد لم زوج أخته العباسة من جعفر أحبها حبا شديدا فراودته عن نفسه فامتنع أشد الامتناع خوفا من الرشيد فاحتالت عليه وكانت أمه تهدى له في كله ليلة جمعة جارية حسناء بكرا فقالت لأمه أدخلينى عليه بصفة جارية فهابت ذلك فتهددتها حتى فعلت ذلك فلما دخلت عليه لم يتحقق وجهها فواقعها فقالت له كيف رأيت خديعة بنات الملوك وحملت من تلك الليلة فدخل على أمه فقال بعتينى والله برخيص ثم إن والده يحيى بن خالد جعل يضيق على عيال الرشيد في النفقة حتى شكت زبيدة ذلك إلى الرشيد مرات ثم أفشت له سر العباسة فاستشاط غيظا ولما أخبرته أن الوالد قد أرسلت به إلى مكة حج عام ذلك حتى تحقق الأمر ويقال (10/189)
إن بعض الجواري نمت عليها إلى الرشيد وأخبرته بما وقع وأن الولد بمكة وعنده جوار وأموال وحلى كثيرة فلم يصدق حتى حج في السنة الخالية ثم كشف الأمر عن الحال فإذا هو كما ذكر وقد حج في هذه السنة التي حج فيها الرشيد يحيى بن خالد فجعل يدعو عند الكعبة اللهم إن كان يرضيك عنى سلب جميع مالى وولدى وأهلى فافعل ذلك وأبق على منهم الفضل ثم خرج فلما كان عند باب المسجد رجع فقال اللهم والفضل معهم فإني راض برضاك عنى ولا تستثن منهم أحدا
فلما قفل الرشيد من الحج صار إلى الحيرة ثم ركب في السفن إلى الغمر من أرض الأنبار فلما كانت ليلة السبت سلخ المحرم من هذه السنة أرسل مسرورا الخادم ومعه حماد بن سالم أبو عصمة في جماعة من الجند فأطافوا بجعفر بن يحي ليلا فدخل عليه مسرور الخادم وعنده بختيشوع المتطبب وأبو ركانة الأعمى المغنى الكلوذاني وهو في أمره وسروره وأبو ركانة يغنيه
... فلا تبعد فكل فتى سيأتي ... عليه الموت يطرق أو يغادي ...
فقال الخادم له يا أبا الفضل هذا الموت قد طرقك أجب أمير المؤمنين فقام إليه يقبل قدميه ويدخل عليه أن يمكنه فيدخل إلى أهله فيوصى إليهم ويودعهم فقال أما الدخول فلا سبيل إليه ولكن أوص فأوصى وأعتق جميع مماليكه أو جماعة منهم وجاءت رسل الرشيد تستحثه فأخرج إخراجا عنيفا فجعلوا يقودونه حتى أتوا به المنزل الذى فيه الرشيد فحبسه وقيده بقيد حمار وأعلموا الرشيد بما كان يفعل فأمر بضرب عنقه فجاء السياف إلى جعفر فقال إن أمير المؤمنين قد أمرني أن آتيه برأسك فقال يا أبا هاشم لعل أمير المؤمنين سكران فإذا صحا عاتبك في فعاوده فرجع إلى الرشيد فقال إنه يقول لعلك مشغول فقال يا ماص بظر أمه ائتنى برأسه فكرر عليه جعفر المقالة فقال الرشيد في الثالثة برئت من المهدى إن لم تأتنى برأسه لأبعثن من يأتينى برأسك ورأسه فرجع إلى جعفر فحز رأسه وأتى به إلى الرشيد فألقاه بين يديه وأرسل الرشيد من ليلته البرد بالاحتياط على البرامكة جميعهم ببغداد وغيرها ومن كان منهم بسبيل فأخذوا كلهم عن آخرهم فلم يفلت منهم أحد وحبس يحي بن خالد في منزله وحبس الفضل بن يحي في منزل آخر وأخذ جميع ما كانوا يملكونه من الدنيا وبعث الرشيد برأس جعفر وجثته فنصب الرأس عند الجسرالأعلى وشقت الجثة باثنتين فنصب نصفها الواحد عند الجسر الأسفل والأخر عند الجسر الآخر ثم أحرقت بعد ذلك ونوديى في بغداد أن لا أمان للبرامكة ولا لمن آواهم إلا محمد بن يحي بن خالد فإنه مستثنى منهم لنصحه للخليفة وأتى الرشيد بأنس بن أبي شيخ كان يتهم بالزندقة وكان مصاحبا لجعفر فدار بينه وبين الرشيد كلام ثم أخرج الرشيد من تحت فراشه سيفا وأمر بضرب عنقه به وجعل يتمثل ببيت قيل في قتل أنس قبل ذلك (10/190)
تلمظ السيف من شوق إلى أنس ... فالسيف يلحظ والأقدار تنتظر ...
فضربت عنق أنس فسبق السيف الدم فقال الرشيد رحم الله عبد الله بن مصعب فقال الناس إن السيف كان للزبير بن العوام ثم شحنت السجون بالبرامكة واستلبت أموالهم كلها وزالت عنهم النعمة وقد كان الرشيد في اليوم الذى قتل جعفرا في آخره هو وإياه راكبين في الصيد في أوله وقد خلا به دون ولاة العهود وطيبه في ذلك بالغالية بيده فلما كان وقت المغرب ودعه الرشيد وضمه إليه وقال لولا أن الليلة ليلة خلوتي بالنساء ما فارقتك فاذهب إلى منزلك واشرب واطرب وطب عيشا حتى تكون على مثل حالى فأكون أنا وأنت في اللذة سواء فقال والله يا أمير المؤمنين لا أشتهى ذلك إلا معك فقال لا انصرف إلى منزلك فانصرف عنه جعفر فما هو إلا أن ذهب من الليل بعضه حتى أوقع به من البأس والنكال ما تقدم ذكره وكان ذلك ليلة السبت آخر ليلة من المحرم وقيل إنها أول ليلة من صفر في هذه السنة كان عمر جعفر إذ ذاك سبعا وثلاثين سنة ولما جاء الخبر إلى أبيه يحي بن خالد بقتله قال قتل الله ابنه ولما قيل له قد خربت دارك قال خرب الله دوره ويقال إن يحي لما نظر إلى دوره وقد هتكت ستورها واستبيحت قصورها وانتهب ما فيها قال هكذا تقوم الساعة وقد كتب إليه بعض أصحابه يعزيه فيما جرى له فكتب إليه جواب التعزية أنا بقضاء الله راض وبإختياره عالم ولا يؤاخذ الله العباد إلا بذنوبهم وما الله بظلام للعبيد وما يغفر الله أكثر ولله الحمد وقد أكثر الشعراء من المراثي في البرامكة فمن ذلك قول الرقاشي وقيل إنها لأبي نواس
... الآن استرحنا واستراحت ركابنا ... وأمسك من يحدي ومن كان يحتدى ... فقل للمطايا قد أمنت من السرى ... وطى الفيافي فدفدا بعد فدفد ... وقل للمنايا قد ظفرت بجعفر ... ولن تظفري من بعده بمسود ... وقل للعطايا بعد فضل تعلطى ... وقل للرزايا كل يوم تجددي ... ودونك سيفا برمكيا مهندا ... أصيب بسيف هاشمي مهند ...
وقال الرقاشي وقد نظر إلى جعفر وهو على جذاعه ... أما والله خوف واش ... وعين للخليفة لا تنام ... لطفنا حول جذعك واستلمنا ... كما للناس بالحجر استلام ... فما أبصرت قبلك يا ابن يحي ... حساما فله السيف الحسام ... على اللذات والدنيا جميعا ... ودولة آل برمك السلام ...
قال فاستدعاه الرشيد فقال له كم كان يعطيك جعفر كل عام قال ألف دينار فأمر له (10/191)
بألفي دينار وقال الزبير بن بكار عن عمه مصعب الزبيرى قال لما قتل الرشيد جعفرا وقفت امرأة على حمار فاره فقالت بلسان فصيح والله يا جعفر لئن صرت اليوم آية لقد كنت في المكارم غاية ثم أنشأت تقول ... ولما رأيت السيف خالط جعفرا ... ونادى متاد للخليفة في يحي ... بكيت على الدنيا وأيقنت أنما ... قصارى الفتى يوما مفارقة الدنيا ... وما هي إلا دولة بعد دولة ... تخول ذا نعمى وتعقب ذا بلوى ... إذا أنزلت هذا منازل رفعة ... من الملك حطت إلى الغاية القصوى ...
قال ثم حركت حمارها فذهبت فكأنها كانت ريحا لا أثر لها ولا يعرف أين ذهبت
وذكر ابن الجوزي أن جعفرا كان له جارية يقال لها فتينة مغنية لم يكن لها في الدنيا نظير كان مشتراها عليه بمن معها من الجواري مائة ألف دينار فطلبها منه الرشيد فامتنع من ذلك فلما قتله الرشيد اصطفى تلك الجارية فأحضرها ليلة في مجلس شرابه وعنده جماعة من جلسائه وسماره فأمر من معها أن يغنين فاندفعت كل واحدة تغنى حتى انتهت النوبة إلى فتينة فأمرها بالغناء فأسبلت دمعها وقالت أما بعد السادة فلا فغضب الرشيد غضبا شديدا وأمر بعض الحاضرين أن يأخذها إليه فقد وهبها له ثم لما أراد الانصراف قال له فيما بينه وبينه لا تطأها ففهم أنه إنما يريد بذلك كسرها فلما كان بعد ذلك أحضرها وأظهر أنه قد رضى عنها وأمرها بالغناء فامتنعت وأرسلت دمعها وقالت أما بعد السادة فلا فغضب الرشيد أشد من غضبه في المرة الأولى وقال النطع والسيف وجاء السياف فوقف على رأسها فقال له الرشيد إذا أمرتك ثلاثا وعقدت أصابعى ثلاثا فاضرب ثم قال غن فبكت وقالت أما بعد السادة فلا فقعد أصبعه الخنصر ثم أمرها الثانية فامتنعت فعقد اثنتين فارتعد الحاضرون وأشفقوا غاية الاشفاق وأقبلوا عليها يسألونها أن تغنى لئلا تقتل نفسها وأن تجيب أمير المؤمنين إلى ما يريد ثم أمرها الثالثة فاندفعت تغنى كارهة ... لما رأيت الدنيا قد درست ... أيقينت أن النعيم لم يعد ...
قال فوثب أليها الرشيد وأخذ العود من يدها وأقبل يضرب به وجهها ورأسها حتى تكسر وأقبلت الدماء وتطايرت الجوار من حولها وحملت من بين يديه فماتت بعد ثلاث
وروى أن الرشيد كان يقول لعن الله من أغراني بالبرامكة فما وجدت بعدهم لذة ولا راحة ولا رجاء وددت والله أني شطرت نصف عمرى وملكي وأني تركتهم على حالهم
وحكى ابن خلكان أن جعفرا اشترى جارية من رجل بأربعين ألف دينار فالتفتت إلى بائعها وقالت اذكر العهد الذى بينى وبينك لا تأكل من ثمنى شيئا فبكى سيدها وقال اشهدوا أنها (10/192)
حرة وأني قد تزوجتها فقال جعفر اشهدوا أن الثمن له أيضا وكتب إلى نائب له أما بعد فقد كثر شاكوك وقل شاكروك فاما أن تعدل وإما تعتزل ومن أحسن ما وقع منه من التلطف في إزالة هم الرشيد وقد دخل عليه منجم يهودي فأخبره أنه سيموت في هذه السنة فحمل الرشيد هما عظيما فدخل عليه جعفر فسأله ما الخبر فأخبره بقول اليهودي فاستدعى جعفر اليهودي فقال له كم بقى لك من العمر فذكر مدة طويلة فقال يا أمير المؤمنين اقتله حتى تعلم كذبه فيما أخبر عن عمره فأمر الرشيد باليهودي فقتل وسرى عن الرشيد الذي كان فيه
وبعد مقتل البرامكة قتل الرشيد إبراهيم بن عثمان بن نهيك وذلك أنه حزن على البرامكة ولاسيما على جعفر كان يكثر البكاء عليهم ثم خرج من حيز البكاء إلى حيز الانتصار لهم والأخذ بثأرهم وكان إذا شرب في منزله يقول لجاريته ائتنى بسيفى فيسله ثم يقول والله لأقتلن قاتله فأكثر أن يقول ذلك فخشى ابنه عثمان أن يطلع الخليفة على ذلك فيهلكهم عن آخرهم ورأى أن أباه لا ينزع عن هذا فذهب إلى الفضل بن الربيع فأعلمه فأخبر الفضل الخليفة فاستدعى به فاستخبره فأخبره فقال من يشهد معك عليه فقال فلان الخادم فجاء به فشهد فقال الرشيد لا يحل قتل أمير كبير بمجرد قول غلام وخصى لعلهما قد تواطآ على ذلك فأحضره الرشيد معه على الشراب ثم خلا به فقال ويحك يا إبراهيم إن عندى سرا أحب أن أطلعك عليه أقلقنى في الليل والنهار قال وما هو قال إني ندمت على قتل البرامكة ووددت أني خرجت من نصف ملكى ونصف عمرى ولم أكن فعلت بهم ما فعلت فإنى لم أجد بعدهم لذة ولا راحة فقال رحمة الله على أبى الفضل يعنى جعفرا وبكى وقال والله ياسيدي لقد أخطأت في قتله فقال له قم لعنك الله ثم حبسه ثم قتله بعد ثلاثة أيام وسلم أهله وولده
وفي هذه السنة غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح بسبب انه بلغه أنه يريد الخلافة واشتد غضبه بسببه على البرامكة الذين هم في الحبوس ثم سجنه فلم يزل في السجن حتى مات الرشيد فأخرجه الأمين وعقد له على نيابة الشام وفيها ثارت العصبية بالشام بين المضرية والنزارية فبعث إليهم الرشيد محمد بن منصور بن زياد فأصلح بينهم
وفيها كانت زلزلة عظيمة بالمصيصة فانهدم بعض سورها ونضب ماؤها ساعة من الليل وفيها بعث الرشيد ولده القاسم على الصائفة وجعله قربانا ووسيلة بين يديه وولاه العواصم فسار إلى بلاد الروم فحاصرهم حتى افتدوا بخلق من الأسارى يطلقونهم ويرجع عنهم ففعل ذلك وفيها نقضت الروم الصلح الذي كان بينهم وبين المسلمين الذى كان عقده الرشيد بينه وبين رنى ملكة الروم الملقبة أغسطه وذلك أن الروم عزلوها عنهم وملكوا عليهم النقفور وكان شجاعا يقال إنه (10/193)
منه سلالة آل جفنة فخلعوا رنى وسلموا عينيها فكتب نقفور إلى الرشيد من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب أما بعد فان الملكة التي كانت قبلى أقامتك مقام الرخ وأقامت نفسها مقام البيدق فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقا بحمل أمثاله إليها وذلك من ضعف النساء وحمقهن فإذا قرأت كتابي هذا فاردد إلى ماحملته إليك من الأموال وافتد نفسك به وإلا فالسيف بيننا وبينك فلما قرأ هارون الرشيد كتابه أخذه الغضب الشديد حتى لم يتمكن أحد أن ينظر إليه ولا يستطيع مخاطبته وأشفق عليه جلساؤه خوفا منه ثم استدعى بدواة وكتب على ظهر الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة والجواب ما تراه دون ما تسمعه والسلام ثم شخص من فوره وسار حتى نزل بباب هرقلة ففتحها واصطفى ابنة ملكها وغنم من الأموال شيئا كثيرا وخرب وأحرق فطلب نقفور منه الموادعه على خراج يؤدية إليه في كل سنة فأجابه الرشيد إلى ذلك فلما رجع من غزوته وصار بالرقة نقض الكافر العهد وخان الميثاق وكان البرد قد اشتد جدا فلم يقدر أحد أن يجئ فيخبر الرشيد بذلك لخوفهم على أنفسهم من البرد حتى يخرج فصل الشتاء وحج بالناس فيها عبد الله به عباس بن محمد بن على
ذكر من توفي فيها من الأعيان
جعفر بن يحي بن خالد بن برمك أبو الفضل البرمكى الوزير ابن الوزير ولاه الرشيد الشام وغيرها من البلاد وبعثه إلى دمشق لما ثارت الفتنة العشيران بحوران بين قيس ويمن وكان ذلك أول نار ظهرت بين قيس ويمن في بلاد الاسلام كان خامدا من زمن الجاهلية فأثاروه في هذا الأوان فلما قدم جعفر بجيشة خمدت الشرور وظهر السرور وقيلت في ذلك أشعار حسان قد ذكر ذلك ابن عساكر في ترجمة جعفر من تاريخه منها
... لفد أوقدت في الشام نيران فتنة ... فهذا أوان الشام تخمد نارها ... إذا جاش سوج البحر من ال برمك ... عليها خبت شهبانها وشرارها ... رماها أمير المومنين بجعفر ... وفيه تلافي صدعها وانجبارها ... هو الملك المأمول للبر والتقى ... وصولاته لا يستطاع خطارها ...
وهي قصيدة طويلة وكانت له فصاحة وبلاغة وذكاء وكرم زائد كان أبوه قد ضمه إلى القاضي أبي يوسف فتفقه عليه وصار له اختصاص بالرشيد وقد وقع ليلة بحضرة الرشيد زيادة علىألف توقيع ولم يخرج في شئ منها عن موجب الفقة وقد روى الحديث عن أبيه عن عبد الحميد الكاتب عن عبد الملك بن مروان كاتب عثمان عن زيد بن ثابت كاتب الوحي قال قال رسول الله (10/194)
صلى الله عليه و سلم ( إذا كتبت بسم الله الرحمن الرحيم فبين السين فيه ) رواه الخطيب وابن عساكر من طريق أبي القاسم الكعبي المتكلم واسمه عبد الله بن أحمد البلخي وقد كان كاتبا لمحمد بن زيد عن أبيه عن عبد الله بن طاهر بن الحسين بن زريق عن الفضل بن سهل ذى الرياستين عن جعفر بن يحي به وقال عمرو بن بحر الجاحظ قال جعفر للرشيد با أمير المؤمنين قال لى أبي يحي إذا أقبلت الدنيا عليك فأعط وإذا أدبرت فأعط فانها لا تبقى وأنشدنى أبي
... لا تبخلن لدنيا وهي مقبلة ... فليس ينقصها التبذير والسرف ... فإن تولت فأحرى أن تجود بها ... فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف ...
قال الخطيب ولقد كان جعفر من علو القدر ونفاذ الأمر وعظم المحل وجلالة المنزلة عند الرشيد على حالة انفرد بها ولم يشاركه فيها أحد وكان سمح الأخلاق طلق الوجه ظاهر البشر أما جوده وسخاؤه وبذله وعطاؤه فأشهر من أن يذكر وكان أيضا من ذوي الفصاحة والمذكورين بالبلاغة
وروى ابن عساكر عن مهذب حاجب العباس بن محمد صاحب قطيعة العباس والعباسية أنه أصابته فاقة وضائقة وكان عليه ديون فألح عليه المطالبون وعنده سفط فيه جواهر شراؤه عليه ألف ألف فأتى به جعفرا فعرضه عليه وأخبره بما هو عليه من الثمن وأخبره بإلحاح المطالبين بديونهم وأنه لم يبق له سوى هذا السفط فقال قد اشتريته منك بألف ألف ثم أقبضه المال وقبض السفط منه وكان ذلك ليلا ثم أمر من ذهب بالمال إلى منزله وأجلسه معه في السمر تلك الليلة فلما رجع إلى منزله إذا السفط قد سبقه إلى منزله أيضا قال فلما أصبحت غدوت إلى جعفر لأتشكر له فوجدته مع أخيه الفضل على باب الرشيد يستأذن عليه فقال له جعفر إني قد ذكرت أمرك للفضل وقد أمر لك بألف ألف وما أظنها إلا قد سبقتك إلى منزلك وسأفاوض فيك أمير المؤمنين فلما دخل ذكر له أمره وما لحقه من الديون فأمر له بثلاثمائة ألف دينار
وكان جعفر ليلة في سمره عند بعض أصحابه فجاءت الخنفساء فركبت ثياب الرجل فألقاها عنه جعفر وقال إن الناس يقولون من قصدته الخنفساء يبشر بمال يصيبه فأمر له جعفر بألف دينار ثم عادت الخنفساء فرجعت إلى الرجل فأمر له بألف دينار أخرى
وحج مرة مع الرشيد فلما كانوا بالمدينة قال لرجل من أصحابه انظر جارية أشتريها تكون فائقة في الجمال والغناء والدعابة ففتش الرجل فوجد [ جارية ] على النعت فطلب سيدها فيها مالا كثيرا على أن يراها جعفر فذهب جعفر إلى منزل سيدها فلما رآها أعجب بها فلما غنته أعجبته أكثر فساومه صاحبها فيها فقال له جعفر قد أحضرنا مالا فإن أعجبك وإلا زدناك فقال لها سيدها إني كنت في نعمة وكنت عندى في غاية السرور وإنه قد انقبض على حالى وإني قد أحببت أن (10/195)
أبيعك لهذا الملك لكى تكوني عنده كما كنت عندي فقالت له الجارية والله ياسيدي لو ملكت منك كما ملكت منى لم أبعك بالدنيا وما فيها وأين ما كنت عاهدتنى أن لا تبيعنى ولا تأكل من ثمني فقال سيدها لجعفر وأصحابه أشهدكم أنها حرة لوجه الله وأني قد تزوجتها فلما قال ذلك نهض جعفر وقام أصحابه وأمروا الحمال أن يحمل المال فقال جعفر والله لا يتبعنى وقال للرجل قد ملكتك هذا المال فأنفقه على أهلك وذهب وتركه
هذا وقد كان يبخل بالنسبة إلى أخيه الفضل إلا أن الفضل كان أكثر منه مالا وروى ابن عساكر من طريق الدار قطني بسنده أنه لما أصيب جعفر وجدوا له في جرة ألف دينار زنة كل دينار مائة دينار مكتوب على صفحة الدينار جعفر ... وأصفر من ضرب دار الملوك ... يلوح على وجهه جعفر ... يزيد على مائة واحدا ... متى تعطه معسرا يوسر ...
وقال أحمد بن المعلى الرواية كتبت عنان جارية الناطفي لجعفر تطلب منه أن يقول لأبيه يحي أن يشير على الرشيد بشرائها وكتبت إليه هذه الأبيات من شعرها في جعفر
... يا لائمي جهلا ألا تقصر ... من ذا على حر الهوى يصبر ... لا تلحنى إذا شربت الهوى ... صرفا فممزوج الهوى سكر ... أحاط بي الحب فخلفي له ... بحر وقدامي له أبحر ... تخفق رايات الهوى بالردى ... فوقي وحولي للهوى عسكر ... سيان عندي في الهوى لائم ... أقل فيه والذي يكثر ... أنت المصفى من بنى برمك ... يا جعفر الخيرات يا جعفر ... لا يبلغ الواصف في وصفه ... ما فيك من فضل ولا يعشر ... من وفر المال لأغراضه ... فجعفر أغراضه أوفر ... ديباجة الملك على وجهه ... وفي يديه العارض الممطر ... سحت علينا منهما ديمة ... ينهل منها الذهب الأحمر ... لو مسحت كفاه جلمودة ... نضر فيها الورق الأخضر ... لا يستتم المجد إلا فتى ... يصبر للبذل كما يصبر ... يهتز تاج الملك من فوقه ... فخرا ويزهى تحته المنبر ... أشبهه البدر إذا ما بدا ... أو غرة في وجهه يزهر ... والله ما أدري أبدر الدجى ... في وجهه أم وجهه أنور (10/196)
يستمطر الزوار منك الندى ... وأنت بالزوار تستبشر ...
وكتبت تحت أبياتها حاجتها فركب من فوره إلى أبيه فأدخله على الخليفة فأشار على بشارئها فقال لا والله لا أشتريها وقد قال فيها الشعراء فأكثروا واشتهر أمرها وهي التي يقول فيها أبو نواس
... لا يشتريها إلا ابن زانية ... أو قلطبان يكون من كانا ...
وعن ثمامة بن أشرس قال بت ليلة مع جعفر بن يحي بن خالد فانتبه من منامه يبكي مذعورا فقلت ما شأنك قال رأيت شيخا جاء فأخذ بعضادتي هذا الباب وقال
... كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر ...
قال فأجبته ... بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العوائر ...
قال ثمامة فلما كانت الليلة القابلة قتله الرشيد ونصب رأسه على الجسر ثم خرج الرشيد فنظر إليه فتأمله ثم أنشأ يقول ... تقاضاك دهرك ما أسلفا ... وكدر عيشك بعد الصفا ... فلا تعجبن فإن الزمان ... رهين بتفريق ما ألفا ...
قال فنظرت إلى جعفر وقلت أما لئن أصبحت اليوم آية فلقد كنت في الكرم والجود غاية قال فنظر إلى كأنه جمل صؤول ثم أنشأ يقول ... ما يعجب العالم من جعفر ... ما عاينوه فبنا كانا ... من جعفر أو من أبوه ومن ... كانت بنو برمك لولانا ...
ثم حول وجه فرسه وانصرف
وقد كان مقتل جعفر ليلة السبت مستهل صفر من سنة سبع وثمانين ومائة وكان عمره سبعا وثلاثين سنة ومكث وزيرا سبع عشرة سنة وقد دخلت عبادة أم جعفر على أناس في يوم عيد أضحى تستمنحهم جلد كبش تدفأ به فسألوها عن ما كانت فيه من النعمة فقالت لقد أصبحت في مثل هذا اليوم وإن على رأسى أربعمائة وصيفة وأقول إن ابنى جعفرا عاق لي وروى الخطيب البغدادي بإسناده أن سفيان بن عيينة لما بلغه قتل الرشيد جعفرا وما أحل بالبرامكة استقبل القبلة وقال اللهم إن جعفرا كان قد كفاني مؤنة الدنيا فاكفه مؤوه الأخره حكاية غريبة
حكاية غريبة
ذكر ابن الجوزي في المنتظم أن المأمون بلغه أن رجلا يأتي كل يوم إلى قبور البرامكة فيبكي عليهم ويندبهم فبعث من جاء به فدخل عليه وقد يئس من الحياة فقال له ويحك ما يحملك عل صنيقك هذا فقال يا أمير المؤمنين إنهم أسدوا إلى معروفا وخيرا كثيرا فقال وما الذي (10/197)
أسدوه إليك فقال أنا المنذر بن المغيرة من أهل دمشق كنت بدمشق في نعمة عظيمة واسعة فزالت عنى حتي أفضى بي الحال إلى أن بعت داري ثم لم يبق لى شئ فأشار بعض أصحابي على بقصد البرامكة ببغداد فأتيت أهلى وتحملت بعيالي فأتيت بغداد ومعي نيف وعشرون امرأة فأنزلتهن في مسجد مهجور ثم قصدت مسجدا مأهولا أصلى فيه فدخلت مسجدا فيه جماعة لم أر أحسن وجوها منهم فجلست إليهم فجعلت أدبر في نفسي كلاما أطلب به منهم قوتا للعيال الذين معى فيمنعنى من ذلك السؤال الحياء فبينا أنا كذلك إذا بخادم قد أقبل فدعاهم فقاموا كلهم وقمت معهم فدخلوا دارا عظيمة فإذا الوزير يحي بن خالد جالس فيها فجلسوا حوله فعقد عقد ابنته عائشة على ابن عم له ونثروا فلق المسك وبنادق العنبر ثم جاء الخدم إلى كل واحد من الجماعة بصينية من فضة فيها ألف دينار ومعها فتات المسك فأخذها القوم ونهضوا وبقيت أنا جالسا وبين يدي الصينية التي وضعوها لى وأنا أهاب أن آخذها من عظمتها في نفسي فقال لي بعض الحاضرين ألا تأخذها وتذهب فمددت يدي فأخذتها فأفرغت ذهبها في جيبى وأخذت الصينية تحت إبطي وقمت وأنا خائف أن تؤخذ منى فجعلت أتلفت والوزير ينظر إلى وأنا لا أشعر فلما بلغت الستارة أمرهم فردوني فيئست من المال فلما رجعت قال لى ما شأنك خائف فقصصت عليه خبرى فبكى ثم قال لأولاده خذوا هذا فضموه إليكم فجاءني خادم فأخذ منى الصينية والذهب وأقمت عندهم عشرة أيام من ولد إلى ولد وخاطري كله عند عيالي ولا يمكنني الانصراف فلما انقضت العشرة الأيام جاءني خادم فقال ألا تذهب إلى عيالك فقلت بلى والله فقام يمشى أمامي ولم يعطنى الذهب ولا الصينية فقلت يا ليت هذا كان قبل أن يؤخذ منى الصينية والذهب ياليت عيالي رأوا ذلك فسار يمشى أمامي إلى لم أر أحسن منها فدخلتها فإذا عيالي يتمرغون في الذهب والحرير فيها وقد بعثوا إلى الدار مائة ألف درهم وعشرة آلاف دينار وكتابا فيه تمليك الدار بما فيها وكتابا آخر فيه تمليك قريتين جليلتين فكنت مع البرامكة في أطيب عيش فلما أصيبوا أخذ منى عمرو بن مسعدة العريتين وألزمنى بخارجهما فكلما لحقتني فاقة قصدت دورهم وقبورهم فبكيت عليهم فأمر المأمون برد القريتين فبكى الشيخ بكاء شديدا فقال المأمون مالك ألم استأنف بك جميلا قال بلى ولكن هو من بركة البرامكة فقال له المأمون امض مصاحبا فإن الوفاء مبارك ومراعاة حسن العهد والصحبة من الايمان وفيها توفي
الفضيل بن عياض
أبو على التميمى أحد أئمة العباد الزهاد وهو أحد العلماء والأولياء ولد بخراسان بكورة دينور وقدم الكوفة وهو كبير فسمع بها الأعمش ومنصور بن المعتمر وعطاء بن السائب وحصين بن (10/198)
عبد الرحمن وغيرهم ثم انتقل إلى مكة فتعبد بها وكان حسن التلاوة كثير الصلاة والصيام وكان سيدا جليلا ثقة من أئمة الرواية رحمه الله ورضى عنه وله مع الرشيد قصة طويلة وقد روينا ذلك مطولا في كيفية دخول الرشيد عليه منزله وما قال له الفضيل بن عياض وعرض عليه الرشيد المال فأبى أن يقبل منه ذلك توفي بمكة في المحرم من هذه السنة وذكروا أنه كان شاطرا يقطع الطريق وكان يتعشق جارية فبينما هو ذات ليلة يتسور عليها جدارا إذ سمع قارئا يقرأ ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله فقال بلى وتاب وأقلع عما كان عليه ورجع إلى خربة فبات بها فسمع سفارا يقولون خذوا حذركم إن فضيلا أمامكم يقطع الطريق فأمنهم واستمر على توبته حتى كان منه ما كان من السيادة والعبادة والزهادة ثم صار علما يقتدى به ويهتدى بكلامه وفعاله
قال الفضيل لو أن الدنيا كلها حلال لا أحاسب بها لكنت أتقذرها كما يتقذر أحدكم الجيفة إذا مر بها أن تصيب ثوبه وقال العمل لأجل الناس شرك وترك العمل لأجل الناس رياء والاخلاص أن يعافيك الله منهما وقال له الرشيد يوما ما أزهدك فقال أنت أزهد منى لأني أنا زهدت في الدنيا التي هي أقل من جناح بعوضة وأنت زهدت في الآخرة التي لا قيمة لها فأنا زاهد في الفاني وأنت زاهد في الباقي ومن زهده في درة أزهد ممن زهد في بعرة وقد روي مثل هذا عن أبي حازم أنه قال ذلك لسليمان بن عبد الملك
وقال لو أن دعوة مستجابة لجعلتها للامام لأن به صلاح الرعية فاذا صلح أمنت العباد والبلاد وقال إني لأعصى الله فأعرف ذلك في خلق حماري وخادمي وامرأتى وفأر بيتى وقال في قوله تعالى ليبلوكم أيكم أحسن عملا قال يعنى أخلصه وأصوبه إن العمل يجب أن يكون خالصا لله وصوابا على متابعة النبي صلى الله عليه و سلم وفيها توفي
بشر بن المفضل وعبد السلام بن حرب وعبد العزيز بن محمد الدراوردي وعبد العزيز العمى وعلى بن عيسى الأمير ببلاد الروم مع القاسم بن الرشيد في الصائفة ومعتمر بن سليمان وأبو شعيب البراثي الزاهد وكان أول من سكن براثا في كوخ له يتعبد فيه فهويته امرأة من بنات الرؤساء فانخلعت مما كانت فيه من الدنيا والسعادة والحشمة وتزوجته وأقامت معه في كوخه تتعبد حتى ماتا يقال إن اسمها جوهرة
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين ومائة
فيها غزا إبراهيم بن إسرائيل الصائفة فدخل بلاد الروم من درب الصفصاف فخرج النقفور للقائة فجرح النقفور ثلاث جراح وانهزم وقتل من أصحابه أكثر من أربعين ألفا وغنموا أكثر من (10/199)
أربعة آلاف دابة وفيها رابط القاسم بن الرشيد بمرج دابق وفيها حج بالناس الرشيد وكانت آخر حجاته وقد قال أبو بكر حين رأى الرشيد منصرفا من الحج وقد اجتاز بالكوفة لا يحج الرشيد بعدها ولا يحج بعده خليفة أبدا وقد رأى الرشيد بهلول الموله فوعظه موعظة حسنة فروينا من طريق الفضل بن الربيع الحاجب قال حججت مع الرشيد فمررنا بالكوفة فإذا بهلول المجنون يهذي فقلت اسكت فقد أقبل أمير المؤمنين فسكت فلما حاذاه الهودج قال يا أمير المؤمنين حدثنى أيمن بن نائل ثنا قدامة بن عبد الله العامري قال رأيت النبي صلى الله عليه و سلم بمنى على جمل وتحته رحل رث ولم يكن ثم طرد ولا ضرب ولا إليك إليك قال الربيع فقلت يا أمير المؤمنين إنه بهلول فقال قد عرفته قل يا بهلول فقال ... هب أن قد ملكت الأرض طرا ... ودان لك العباد فكان ماذا ... أليس غدا مصيرك جوف قبر ... ويحثو عليك التراب هذا ثم هذا ...
قال أجدت يا بهلول أفغيره قال نعم يا أمير المؤمنين من رزقع الله مالا وجمالا فعف في جماله وواسى في ماله كتب في ديوان الله من الأبرار قال فظن أنه يريد شيئا فقال إنا أمرنا بقضاء دينك فقال لا تفعل يا أمير المؤمنين لا يقضى دين بدين اردد الحق الى أهله واقض دين نفسك من نفسك قال إنا أمرنا أن يجرى عليك رزق تقتات به قال لا تفعل يا أمير المؤمنين فإنه سبحانه لا يعطيك وينساني وها أنا قد عشت عمرا لم تجر على رزقا انصرف لاحاجة لى في جرايتك قال هذه ألف دينار خذها فقال ارددها على أصحابها فهو خير لك وما أصنع أنا بها انصرف عنى فقد آذيتنى قال فانصرف عنه الرشيد وقد تصاغرت عنده الدنيا وممن توفي فيها من الأعيان
ابو اسحاق الفزاري
إبراهيم بن محمد بن الحارث بن إسماعيل بن خارجة إمام أهل الشام في المغازي وغير ذلك أخذ عن الثوري والأوزاعي وغيرها توفي في هذه السنة وقيل قبلها
وإبراهيم الموصلي
النديم وهو إبراهيم بن ماهان بن بهمن أبو إسحاق أحد الشعراء والمغنين والندماء للرشيد وغيره أصله من الفرس وولد بالكوفة وصحب شبابها وأخذ عنهم الغناء ثم سافر إلى الموصل ثم عاد إلى الكوفة فقالوا الموصلى ثم اتصل بالخلفاء أولهم المهدي وحظى عند الرشيد وكان من جملة سماره وندمائه ومغنيه وقد أثرى وكثر ماله جدا حتى قيل إنه ترك أربعة وعشرين ألف ألف (10/200)
درهم وكانت له طرف وحكايات غريبة وكان مولده سنة خمس عشرة ومائة في الكوفة ونشأ في كفالة بنى تميم فتعلم منهم ونسب إليهم وكان فاضلا بارعا في صناعة الغناء وكان مزوجا بأخت المنصور الملقب بزلزل الذي كان يضرب معه فاذا غنى هذا وضرب هذا اهتز المجلس توفي في هذه السنة على الصحيح وحكى ابن خلكان في الوفيات أنه توفي وأبو العتاهية وأبو عمرو الشيباني ببغداد في يوم واحد من سنة ثلاث عشرة ومائتين وصحح الأول ومن قوله في شعره عند احتضاره قوله ... مل والله طبيبي ... من مقاساة الذي بي ... سوف أنعى عن قريب ... لعدو وحبيب ...
وفيها مات جرير بن عبد الحميد ورشد بن سعد وعبدة بن سليمان وعقبة بن خالد وعمر ابن أيوب العابد أحد مشايخ أحمد بن حنبل وعيسى بن يونس في قول
ثم دخلت سنة تسع وثمانين ومائة
فيها رجع الرشيد من الحج وسار إلى الري فولى وعزل وفيها رد على بن عيسى إلى ولاية خراسان وجاءه نواب تلك البلاد بالهدايا والتحف من سائر الأشكال والألوان ثم عاد إلى بغداد فأدركه عيد الأضحى بقصر اللصوص فضحى عنده ودخل إلى بغداد لثلاث بقين من ذي الحجة فلما اجتاز بالجسر أمر بجثة جعفر بن يحي البرمكي فأحرقت ودفنت وكانت مصلوبة من حين قتل إلى هذا اليوم ثم ارتحل الرشيد من بغداد إلى الرقة ليسكنها وهو متأسف على بغداد وطيبها وإنما مراده بمقامه بالرقة ردع المفسدين بها وقد قال العباس بن الأحنف في خروجهم من بغداد مع الرشيد ... ما أنخنا حتى ارتحلنا فما ن ... فرق بين المناخ والارتحال ... ساءلونا عن حالنا إذ قدمنا ... فقرنا وداعهم بالسؤال ...
وفيها فادى الرشيد الأسارى من المسلمين الذين كانوا ببلاد الروم حتى يقال إنه لم يترك بها أسيرا من المسلمين فقال فيه بعض الشعراء ... وفكت بك الأسرى التي شيدت لها ... محابس ما فيها حميم يزورها ... على حين أعيا المسلمين فكاكها ... وقالوا سجون المشركين قبورها ...
وفيها رابط القاسم بن الرشيد بمرج دابق يحاصر الروم وفيها حج بالناس العباس بن موسى ابن محمد بن على بن عبد الله بن عباس
ذكر من توفي فيها من الأعيان
على بن حمزة بع عبد الله بن فيروز أبو الحسن الأسدى مولاهم الكوفي المعروف بالكسائي لاحرامه في كساء وقيل لاشتغاله على حمزة الزيات في كساء كان نحويا لغويا أحد أئمة القراء أصله (10/201)
من الكوفة ثم استوطن بغداد فأدب الرشيد وولده الأمين وقد قرأ على حمزة بن حبيب الزيات قراءته وكان يقرئ بها ثم اختار لنفسه قراءة وكان يقرأ بها وقد روى عن أبي بكر بن عياش وسفيان بن عيينة وغيرهما وعنه يحي بن زياد الفراء وأبو عبيد قال الشافعي من أراد النحو فهو عيال على الكسائي أخذ الكسائي عن الخليل صناعة النحو فسأله يوما عن من أخذت هذا العلم قال من بوادي الحجاز فرحل الكسائي إلى هناك فكتب عن العرب شيئا كثيرا ثم عاد إلى الخليل فإذا هو قد مات وتصدر في موضعه يونس فجرت بينهما مناظرات أقر له فيها يونس بالفضل وأجلسه في موضعه
قال الكسائي صليت يوما بالرشيد فأعجبتنى قراءتي فغلطت غلطة ما غلطها صبي أردت أن أقول لعلهم يرجعون فقلت لعلهم ترجعين فما تجاسر الرشيد أن يردها فلما سلمت قال أى لغة هذه فقلت إن الجواد قد يعثر فقال أما هذا فنعم وقال بعضهم لقيت الكسائي فإذا هو مهموم فقلت مالك فقال إن يحي بن خالد قد وجه إلى ليسألنى عن أشياء فأخشى من الخطأ فقلت قل ما شئت فأنت الكسائي فقال قطعه الله يعنى لسانه إن قلت ما لم أعلم وقال الكسائي يوما قلت لنجار بكم هذان البابان فقال بسالجيان يا مصفعان
توفي الكسائي في هذه السنة على المشهور عن سبعين سنة وكان في صحبة الرشيد ببلاد الري فمات بنواحيها هو ومحمد بن الحسن في يوم واحد وكان الرشيد يقول دفنت الفقة والعربية بالري قال ابن خلكان هو ومحمد بن الحسن في يوم واحد وكان الرشيد يقول دفنت الفقة والعربية بالري قال ابن خلكان وقيل إن الكسائي توفي بطوس سنة ثنتين وثمانين ومائة وقد رأى بعضهم الكسائي في المنام ووجهه كالبدر فقال ما فعل بك ربك فقال غفر لي بالقرآن فقلت ما فعل حمزة قال ذاك في عليين ما نراه إلا كما نرى الكوكب وفيها توفي
محمد بن الحسن بن زفر
أبو عبد الله الشيباني مولاهم صاحب أبي حنيفة أصله من قرية من قرى دمشق قدم أبوه العراق فولد بواسط سنة ثنتين ومائة ونشأ بالكوفة نسمع من أبي حنيفة ومسعر والثوري وعمر بن ذر ومالك بن مغول وكتب عن مالك بن أنس والأوزاعي وابي يوسف وسكن بغداد ثم عزله وكان يقول لأهله لا تسألوني حاجة من حاجات الدنيا فتشغلوا قلبي وخذوا ما شئتم من مالي فإنه أقل لهمى وأفرغ لقلبي وقال الشافعي ما رأيت حبرا سمينا مثله ولا رأيت أخف روحا منه ولا أفصح منه كنت إذا سمعته يقرأ القرآن كأنما ينزل القرآن بلغته وقال أيضا ما رأيت أعقل منه كان يملأ العين والقلب قال الطحاوي كان الشافعي قد طلب من محمد بن الحسن (10/202)
كتاب السير فلم يجبه إلى الاعارة فكتب إليه ... قل للذي لم تر عيناى مثله ... حتى كان من رآه قد رأى من قبله ... العلم ينهى أهله أن يمنعوه أهله ... لعله ببذله لأهله لعله ...
قال فوجه به إليه في الحال هدية لا عارية وقال إبراهيم الحربي قيل لأحمد بن حنبل هذه المسائل الدقاق من اين هي لك من كتب محمد بن الحسن رحمه الله وقد تقدم أنه مات هو والكسائي في يوم واحد من هذه السنة فقال الرشيد دفنت اليوم اللغة والفقه جميعا وكان عمره ثمانية وخمسين سنة
ثم دخلت سنة تسعين ومائة من الهجرة
فيها خلع رافع بن ليث بن نصر بن سيار نائب سمرقند الطاعة ودعا إلى نفسه وتابعه أهل بلده وطائفة كثيرة من تلك الناحية واستفحل أمره فسار إليه نائب خراسان على بن عيسى فهزمه رافع وتفاقم الأمر به وفيها سار الرشيد لغزو بلاد الروم لعشر بقين من رجب وقد لبس على رأسه قلنسوة فقال فيها أبو المعلا الكلابي ... فمن يطلب لقاءك أو يرده ... فبالحرمين أو أقصى الثغور ... ففي أرض العدو على طمر ... وفي أرض الترفه فوق كور ... وما حاز الثغور سواك خلق ... ومن المتخلفين على الأمور ...
فسار حتى وصل إلى الطوانة فعسكر بها وبعث إليه نقفور إليه بالطاعة وحمل الخراج والجية حتة عن رأس ولده ورأسه وأهل مملكته في كل سنة خمسة عشر ألف دينار وبعث يطلب من الرشيد جارية قد أسروها وكانت ابنة ملك هرقلة وكان قد خطبها على ولده فبعث بها الرشيد مع هدايا وتحف وطيب بعث يطلبه من الرشيد واشترط عليه الرشيد أن يحمل في كل سنة ثلثمائة ألف دينار وأن لا يعمر هرقلة ثم انصرف الرشيد راجعا واستناب على الغزو عقبة بن جعفر ونقض أهل قبرص العهد فغزاهم معيوف بن يحي فسبى أهلها وقتل منهم خلقا كثيرا وخرج رجل من عبد القيس فبعث إليه الرشيد من قتله وحج بالناس فيها عيسى بن موسى الهادي
من توفي فيها من الأعيان والمشاهير
أسد بن عمرو بن عامر أبو المنذر البجلي الكوفي صاحب أبي حنيفه حكم ببغداد وبواسط فلما انكف بصره عزل نفسه عن القضاء قال أحمد بن حنبل كان صدوقا ووثقه ابن معين وتكلم فيه على بن المدينى والبخاري وسعدون المجنون صام ستين سنة فخف دماغه فسماه الناس مجنونا وقف يوما على حلقة ذي النون المصري فسمع كلامه فصرخ ثم أنشأ يقول ... ولا خير في شكوى إلى غير مشتكى ... ولا بد من شكوى إذا لم يكن صبر (10/203)
وقال الاصمعي مررت به وهو جالس عند رأس شيخ سكران يذب عنه فقلت له مالي أراك عند رأس هذا الشيخ فقال إنه مجنون فقلت أنت مجنون أو هو قال لا بل هو لأني صليت الظهر والعصر في جماعة وهو لم يصل جماعة ولا فرادى وهو مع هذا قد شرب الخمر وأنا لم أشربها قلت فهل قلت في هذا شيئا قال نعم ثم أنشأ يقول ... تركت النبيذ لأهل النبيذ ... وأصبحت أشرب ماء قراحا ... لأن النبيذ يذل العزيز ... ويكسو السواد الوجود الصباحا ... فان كان ذا جائزا للشباب ... فما العذر منه إذا الشيب لاحا ...
قال الأصمعي فقلت له صدقت أنت العاقل وهو المجنون
وعبيدة بن حميد بن صهيب أو عبد الرحمن التميمي الكوفي مؤدب الأمين روى عن الأعمش وغيره وعنه أحمد بن حنبل وكان يثنى عليه وفيها توفي
يحي بن خالد بن برمك
أبو على الوزير والد جعفر البرمكي ضم إليه المهدي ولده الرشيد فرباه وأرضعنه امرأته مع الفضل بن يحي فلما ولى الرشيد عرف له حقه وكان يقول قال أبي قال أبي وفوض إليه أمور الخلافة وأزمتها ولم يزل كذلك حتى نكبت البرامكة فقتل جعفر وخلد أباه يحي في الحبس حتى مات في هذه السنة وكان كريما فصيحا ذا رأى سديد يظهر من أموره خير وصلاح قال يوما لولده خذوا من كل شئ طرفا فإن من جهل شيئا عاداه وقال لأولاده اكتبوا أحسن ما تسمعون واحفظوا أحسن ما تكتبون وتحدثوا بأحسن ما تحفظون وكان يقول لهم إذا أقبلت الدنيا فأنفقوا منها فانها لا تبقى وإذا أدبرت فأنفقوا منها فإنها لا تبقى وكان إذا سأله في الطريق وهو راكب أقل ما يأمر له بمائتي درهم فقال رجل يوما ... يا سمى الحصور يحي ... أتيحت لك من فضل ربنا جنتان ... كل من مر في الطريق عليكم ... فله من نوالكم مائتان ... مائتا درهم لمثلى قليل ... هي للفارس العجلان ...
فقال صدقت وأمر فسبق به إلى الدار فلما رجع سأل عنه فاذا هو قد تزوج وهو يريد أن يدخل على أهله فأعطاه صداقها أربعة آلاف وعن دار أربعة آلاف وعن الأمتعة أربعة آلاف وكلفه الدخول أربعة آلاف وأربعة آلاف يستظهر بها وجاء رجل يوما فسأله شيئا فقال ويحك لعد جئتنى في وقت لا أملك فيه مالا وقد بعث إلى صاحب لي يطلب منى أن يهدى إلى ما أحب لقد جئتنى في وقت لا أملك فيه مالا وقد بعث إلى صاحب لى يطلب منى أن يهدى إلى ما أحب وقد بلغني أنك تريد ان تبيع جارية لك وأنك قد أعطيت فيها ثلاثة آلاف دينار وإني سأطلبها (10/204)
فلا تبعها منه بأقل من ثلاثين ألف دينار فجاؤني فبلغوا معي بالمساومة إلى عشرين ألف دينار فلما سمعتها ضفف قلبي عن ردها وأحببت إلى بيعها فأخذها وأخذت العشرين ألف دينار فأهداها إلى يحي فلما اجتمعت بيحي قال بكم بعتها قلت بعشرين ألف دينار قال إنك لخسيس خذ جاريتك إليك وقد بعث إلى صاحب فارس يطلب منى أن أستهديه شيئا وإني سأطلبها منه فلا تبها بأقل من خمسين ألف دينار فجاؤني فوصلوا في ثمنها إلى ثلاثين ألف دينار فبعتها منهم فما جئته لا منى أيضا وردها على فقلت أشهدك أنها حرة وأني قد تزوجتها وقلت جارية قد أفادتني خمسين ألف دينار لا أفرط فيها بعد اليوم
وذكر الخطيب أن الرشيد طلب من منصور بن زياد عشرة آلاف درهم ولم يكن عنده منها سوى ألف ألف درهم فضاق ذرعا وقد توعده بالقتل وخراب الديار إن لم يحملها في يومه ذلك فدخل على يحي بن خالد وذكر أمره فأطلق له خمسة آلاف ألف واستطلق له من ابنه الفضل ألفي ألف وقال لابنه يا بنى بلغني أنك تريد أن تشتري بها ضيعة وهذه ضيعة تغل الشكر وتبقى مدى الدهر وأخذ له من ابنه جعفر ألف ألف ومن جاريته دنانير عقدا اشتراه بمائة ألف دينار وعشرون ألف دينار وقال للمترسم عليه قد حسبناه عليك بألفي ألف فلما عرضت الأموال على الرشيد رد العقد وكان قد وهبه لجارية يحي فلم يعد فيه بعد إذ وهبه وقال له بعض بنيه وهم في السجن والقيود يا أبت بعد الأمر والنهي والنعمة صدنا إلى هذا الحال فقال يا بنى دعوه مظلوم سرت بليل ونحن عنها غافلون ولم يغفل الله عنها ثم أنشأ يقول ... رب قوم قد غدوا في نعمة ... زمنا والدهر ريان غدق ... سكت الدهر زمانا عنهم ... ثم أبكاهم دما حين نطق ...
وقد كان يحيى بن خالد هذا يجري على سفيان بن عيينة كل شهر ألف درهم وكان سفيان يدعو له سجوده يقول اللهم انه قد كفاني المؤنة وفرغني للعباده فاكفه أمر آخرته فلما مات يحيى رآه بعض اصحابه في المنام فقال ما فعل الله بك قال غفر لي بدعاء سفيان وقد كان وفاة يحي بن خالد رحمه الله في الحبس في الرافقة لثلاث خلون من المحرم من هذه لسنة عن سبعين سنة وصلى عليه ابنه الفضل ودفن على شط الفرات وقد وجد في جيبه رقعة مكتوب فيها بخطه قد تقدم الخصم والمدعا عليه بالأثر والحاكم الحكم العدل الذي لا يجور ولا يحتاج إلى بينه فحملت إلى الرشيد فلما قرأها بكى يومه ذلك وبقي أياما يتبين الأسى في وجهه وقد قال بعض الشعراء في يحي بن خالد
... سألت الندا هل أنت حر فقال لا ... ولكنني عبد ليحي بن خالد (10/205)
فقلت شراء قال لابل وراثه ... توارث رقي والد بعد والد ...
ثم دخلت سنة احدى وتسعين ومائة
فيها خرج رجل بسواد العراق يقال له ثروان بن سيف وجعل يتنقل فيها من بلد إلى بلد فوجه إليه الرشيد طوق بن مالك فهزمه وجرح ثروان وقتل عامة أصحابه وكتب بالفتح إلى الرشيد وفيها خرج بالشام أبو النداء فوجه إليه الرشيد يحي بن معاذ واستنابه على الشام وفيها وقع الثلج ببغداد وفيها غزا بلاد الروم يزيد بن مخلد الهبيرى في عشرة آلاف فأخذت عليه الروم المضيق فقتلوه في خمسين من أصحابه على مرحلتين من طرسوس وانهزم الباقون وولي الرشيد غزو الصائفة لهرثمة بن أعين وضم اليه ثلاثين ألفا فيهم مسرور الخادم وإليه النفقات
وخرج الرشيد إلى الحدث ليكون قريبا منهم وأمر الرشيد بهدم الكنائس والديور وألزم أهل الذمة بتمييز لباسهم وهيآتهم في بغداد وغيرها من البلاد وفيها عزل الرشيد على بن موسى عن إمرة خراسان وولاها هرثمة بن أعين وفيها فتح الرشيد هرقلة في شوال وخربها وسبى أهلها وبث الجيوش والسرايا بأرض الروم إلى عين زربة والكنيسة السوداء وكان دخل هرقلة في كل يوم مائة ألف وخمسة وثلاثين ألف مرتزق وولي حميد بن معيوف سواحل الشام إلى مصر ودخل جزيرة قبرص فسبى أهلها وحملهم حتى باعهم بالرافقة فبلغ ثمن الأسقف ألفي دينار باعهم أبو البخترى القاضي
وفيها أسلم الفضل بن سهل على يدي المامون وحج بالناس فيها الفضل بن عباس بن محمد بن على العباسي وكان والى مكة ولم يكن للناس بعد هذه السنة صائفة إلى سنة خمس عشرة ومائتين وفيها توفي من الأعيان
سلمة بن الفضل الأبرش وعبد الرحمن بن القاسم الفقية الراوي عن مالك بن يونس بن أبي إسحاق قدم على الرشيد فأمر له بمال جزيل نحوا من خمسين ألفا فلم يقبله والفضل بن موسى الشيباني ومحمد بن سلمة ومحمد بن الحسين المصيصى أحد الزهاد الثقات قال لم أتكلم بكلمة أحتاج إلى الاعتذار منها منذ خمسين سنة وفيها توفي معمر الرقي
ثم دخلت سنة ثنتين وتسعين ومائة
فيها دخل هرثمة بن أعين إلى خراسان نائبا عليها وقبض على على بن عيسى فأخذ أمواله وحواصله وأركبه على بعير وجهه لذنبه ونادى عليه ببلاد خراسان وكتب إلى الرشيد بذلك فشكره على ذلك ثم أرسله إلى الرشيد بعد ذلك فحبس بداره ببغداد وفيها ولى الرشيد ثابت بن نصر بن مالك نيابة الثغور بلاد الروم وفتح مطمورة وفيها كان الصلح بين المسلمين والروم على يد ثابت (10/206)
ابن نصر وفيها خرجت الخرمية بالجبل وبلاد أذربيجان فوجه الرشيد إليهم عبد الله بن مالك بن الهيثم الخزاعي في عشرة آلاف فارس فقتل منهم خلقا وأسر وسبى ذراريهم وقدم بهم بغداد فأمر له الرشيد بقتل الرجال منهم وبالذرية فبيعوا فيها وكان قد غزاهم قبل ذلك خزيمة بن خازم وفي ربيع الأول منها قدم الرشيد من الرقة إلى بغداد في السفن وقد استخلف على الرقة ابنه القاسم وبين يديه خزيمة بن خازم ومن نية الرشيد الذهاب إلى خراسان لغزو رافع بن ليث الذي كان قد خلع الطاعة واستحوذ على بلاد كثيرة من بلاد سمرقند وغيرها ثم خرج الرشيد في شعبان قاصدا خراسا واستخلف على بغداد ابنه محمدا الأمين وسأل المأمون من أبيه أن يخرج معه خوفا من غدر أخيه الأمين فأذن له فسار معه وقد شكا الرشيد في أثناء الطريق إلى بعض أمرائه جفاء من غدر أخيه الأمين فأذن له فسار معه وقد شكا الرشيد في أثناء الطريق إلى بعض أمرائه جفاء بنيه الثلاثة الذين جعلهم ولاة للعهد من بعده وأراه داء في جسده وقال إن لكل واحد من الأمين والمأمون والقاسم عندي عينا على وهم يعدون أنفاسي ويتمنون انقضاء أيامي وذلك شر لهم لو كانوا يعلمون فدعا له ذلك الأمير ثم أمر له الرشيد بالانصراف إلى عمله وودعه وكان آخر العهد به
وفيها تحرك ثروان الحروري وقتل عامل السلطان بطف البصرة وفيها قتل الرشيد الهيصم اليماني ومات عيسى بن جعفر وهو يريد اللحاق بالرشيد فمات في الطريق وفيها حج بالناس العباس ابن عبد الله بن جعفر بن أبي جعفر المنصور وفيها توفي
اسماعيل بن جامع
ابن إسماعيل بن عبد الله بن المطلب بن أبي وداعة أبو القاسم أحد المشاهير بالغناء كان ممن يضرب به المثل وقد كان أولا يحفظ القرآن ثم صار إلى صناعة الغناء وترك القرآن وذكر عنه أبو الفرج بن على بن الحسين صاحب الأغاني حكايات غريبة من ذلك أنه قال كنت يوما مشرفا من غرفة بحران إذ أقبلت جارية سوداء معها قربة تستقي الماء فجلست ووضعت قربتها واندفعت تغنى ... إلى الله أشكو بخلها وسماحتي ... لها عسل منى وتبذل غلقما ... فردى مصاب القلب انت قتلته ... ولا تتركيه هائم القلب مغرما ...
وتبذل علقما
... فردى مصاب القلب أنت قتلته ... ولا تتركيه هائم القلب مغرما ...
قال فمسعت مالا صبر لي عنه ورجوت أن تعيده فقامت وانصرفت فنزلت وانطلقت وراءها وسألتها أن تعيده فقالت إن على خراجا كل يوم درهمين فأعطيتها درهمين فأعادته فحفظته وسلكته يومي ذلك فلما أصبحت أنسيته فأقبلت السوداء فسألتها أن تعيده فلم تفعل إلا بدرهمين ثم قالت كأنك تستكثر أربعة دراهم كأني بك وقد أخذت عليه أربعة آلاف دينار قال فغنيته ليلة للرشيد فأعطاني ألف دينار ثم استعادنيه ثلاث مرات أخرى وأعطاني ثلاثة آلاف دينار فتبسمت فقال مم تبسمت فذكرت له القصة فضحك وألقى إلى كيسا آخر فيه ألف دينار وقال (10/207)
لا أكذب السوداء وحكى عنه أيضا قال أصبحت يوما بالمدينة وليس معي إلا ثلاثة دراهم فإذا جارية على رقبتها جرة تريد الركي وهي تسعى وتترنم بصوت شجي ... شكونا إلى أحبابنا طول ليلنا ... فقالوا لنا ما أقصر الليل عندنا ... وذاك لأن النوم يغشى عيونهم ... سريعا ولا يغشى لنا النوم أعينا ... إذا ما دنا الليل المضر بذي الهوى ... جزعنا وهم يستبشرون إذ دنا ... فلو أنهم كانوا يلاقون مثلما ... نلاقي لكانوا في المضاجع مثلنا ...
قال فاستعدته منها وأعطيتها الدراهم الثلاثة فقالت لتأخذن بدلها ألف دينار وألف دينار فأعطاني الرشيد ثلاثة آلاف دينار في ليلة على ذلك الصوت وفيها توفي
بكر بن النطاح أبو وائل الحنفي الشاعر المشهور نزل بغداد زمن الرشيد وكان يخالط أبا العتاهية قال أبو عفان أشعر أهل العدل من المحدثين أربعة أولهم بكر بن النطاح وقال المبرد سمعت الحسن بن رجاء يقول اجتمع جماعة من الشعراء ومعهم بكر بن النطاح يتناشدون فلما فرغوا من طولهم أنشد بكر بن النطاح لنفسه ... ما ضرها لو كتبت بالرضى ... فجف جفن العين أو أغمضا ... شفاعة مردودة عندها ... في عاشق يود لو قد قضى ... يانفس صبرا واعلمى أنما ... يأمل منها مثلما قد مضى ... لم تمرض الأجفان من قاتل ... بلحظة إلا لأن أمرضا ...
قال فابتدروه يقلبون رأسه ولما مات رثاه أبو العتاهية فقال ... مات ابن نطاح أبو وائل ... بكر فأمسى الشعر قد بانا ...
وفيها توفي بهلول المجنون كان يأوى إلى مقابر الكوفة وكان يتكلم بكلمات حسنة وقد وعظ الرشيد وغيره كما تقدم
وعبد الله بن ادريس الأودي الكوفي سمع الأعمش وابن جريج وشعبة ومالكا وخلقا سواهم وروى عنه جماعات من الأئمة وقد استدعاه الرشيد ليوليه القضاء فقال لا أصلح وامتنع أشد الامتناع وكان قد سأل قبله وكيعا فامتنع أيضا فطلب حفص بن غياث فقبل وأطلق لكل واحد خمسة ألاف عوضا عن كلفته التي تكلفها في السفر فلم يقبل وكيع ولا ابن إدريس وقبل ذلك حفص فحلف ابن إدريس لا يكلمه أبدا وحج الرشيد في بعض السنين فاجتاز بالكوفة ومعه القاضي أبو يوسف والأمين والمأمون فأمر الرشيد أن يجتمع شيوخ الحديث ليسمعوا ولديه فاجتمعوا إلا ابن إدريس هذا وعيسى بن يونس فركب الأمين والمأمون بعد فراغهما من سماعهما على من اجتمع من (10/208)
المشايخ إلى ابن إدريس فأسمعهما مائة حديث فقال له المأمون يا عم إن أردت أعدتها من حفظي فأذن له فأعادها من حفظه كما سمعها فتعجب لحفظه ثم أمر له المأمون بمال فلم يقبل منه شيئا ثم سارا إلى عيسى بن يونس فسمعا عليه ثم أمر له المأمون بعشرة آلاف فلم يقبلها فظن أنه استقلها فأضعفها فقال والله لو ملأت لى المسجد مالا إلى سقفه ما قبلت منه شيئا على حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم ولما احتضر ابن إدريس بكت ابنته فقال علام تبكي فقد ختمت هذا البيت أربعة آلاف ختمة
صعصعة بن سلام
ويقال ابن عبد الله أبو عبد الله الدمشقي ثم تحول إلى الأندلس فاستوطئها في زمن عبد الملك ابن معاوية وابنه هشام وهو أول من أدخل علم الحديث ومذهب الاوزاعي إلى بلاد الأندلس وولى الصلاة بقرطبة وفي أيامه غرست الأشجار بالمسجد الجامع هناك كما يراه الأوزاعي والشاميون ويكرهه مالك وأصحابه وقد روى عن مالك والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وروى عنه جماعة منهم عبد الملك بن حبيب الفقيه وذكره في كتاب الفقهاء وذكره ابن يونس في تاريخه تاريخ مصر والحميدي في تاريخ الأندلس وحرر وفاته في هذه السنة وحكى عن شيخه ابن حزم أن صعصعه هذا أول من أدخل مذهب الأوزاعي إلى الأندلس وقال ابن يونس أول من أدخل علم الحديث إليها وذكر أنه توفي قريبا من سنة ثمانين ومائة والذي حرره الحميدي في هذه السنة أثبت
علي بن ظبيان
أبو الحسن العبسى قاضي الشرقية من بغداد ولاه الرشيد ذلك كان ثقة عالما من أصحاب أبي حنيفة ثم ولاه الرشيد قضاء القضاه وكان الرشيد يخرج معه إذا خرج من عنده مات بقوميسين في هذه السنة
العباس بن الأحنف
ابن الأسود بن طلحة الشاعر المشهور كان من عرب خراسان ونشأ ببغداد وكان لطيفا ظريفا مقبولا حسن الشعر قال أبو العباس قال عبد الله بن المعتز لو قيل لى من أحسن الناس شعرا تعرفه لقتل العباس ... قد سحب الناس أذيال الظنون بنا ... وفرق الناس فينا قولهم فرقا ... فكاذب قد رمى بالظن غيركم ... وصادق ليس يدري أنه صدقا ...
وقد طلبه الرشيد ذات ليلة في أثناء الليل فانزعج لذلك وخاف نساؤه فلما وقف بين يدي الرشيد قال له ويحك إنه قد عن لى بيت في جارية لى فأحببت أن تشفعه بمثله فقال يا أمير المؤمنين ما خفت أعظم من هذه الليلة فقال ولم فذكر له دخول الحرس عليه في الليل ثم جلس حتى سكن روعه ثم قال نا قلت يا أمير المؤمنين فقال (10/209)
حنان قد رأيناها فلم نر مثلها بشرا ... يزيدك وجهها حسنا إذا مازدته نظرا ...
فقال الرشيد زد فقال
... إذا ما الليل مال عليك بالاظلام واعتكرا ... ودج فلم تر فجرا ... فابرزها تر قمرا ...
فقال إنا قد رأيناها وقد أمرنا لك بعشرة آلاف درهم ومن شعره الذي أقر له فيه بشار ابن برد وأثبته في سلك الشعراء بسببه قوله ... أبكى الذين أذاقوني مودتهم ... حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا ... واستنهضوني فلما قمت منتصبا ... بثقل ما حملوني منهم قعدوا ...
وله أيضا ... وحدثتنى يا سعد عنها فزدتني ... جنونا فزدني من حديثك ياسعد ... هواها هوى لم يعرف القلب غيره ... فليس له قبل وليس له بعد ...
قال الاصمعي دخلت على العباس بن الأحنف بالبصرة وهو طريح على فراشه يجود بنفسه وهو يقول
... يا بعيد الدار عن وطنه ... مفردا يبكى على شجنه ... كلما جد النحيب به ... زادت الأسقام في بدنه ...
ثم أغمى عليه ثم انتبه بصوت طائر على شجرة فقال
... ولقد زاد الفؤاد شجا ... هاتف يبكي على فننه ... شاقه ما شاقني فبكى ... كلنا يبكي على سكنه ...
قال ثم أغمى عليه أخرى فحركته فإذا هو قد مات قال الصولي كانت وفاته في هذه السنة وقيل بعدها وقيل قبلها في سنة ثمان وثمانين ومائة فالله أعلم وزعم بعض المؤرخين أنه بقي بعد الرشيد
عيسى بن جعفر بن أبي جعفر المنصور
أخو زبيدة كان نائبا على البصرة في أيام الرشيد فمات في أثناء هذه السنة وفيها توفي
الفضل بن يحي
ابن خالد بن برمك أخو جعفر وأخوته كان هو والرشيد يتراضعان أرضعت الخيزران فضلا وأرضعت أم الفضل وهي زبيدة بنت بن بريه هارون الرشيد وكانت زبيدة هذه من مولدات بتبين البرية وقد قال في ذلك بعض الشعراء ... كفى لك فضلا أن أفضل حرة ... غذتك بثدى والخليفة واحد ... لقد زنت يحي في المشاهد كلها ... كما زان يحي خالدا في المشاهد ...
قالوا وكان الفضل أكرم من أخيه جعفر ولكن كان فيه كبر شديد وكان عبوسا وكان جعفر أحسن بشرا منه وأطلق وجها وأقل عطاء وكان الناس إليه أميل ولكن خصلة الكرم (10/210)
تغطى جميع القبائح فهي تستر تلك الخصلة التي كانت في الفضل وقد وهب الفضل لطباخه مائة ألف درهم فعابه أبوه على ذلك فقال يا أبت إن هذا كان يصحبنى في العسر واليسر والعيش الخشن واستمر معى في هذا الحال فأحسن صحبتي وقد قال بعض الشعراء ... إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا ... من كان يعتادهم في المنزل الخشن ...
ووهب يوما لبعض الأدباء عشرة آلاف دينار فبكى الرجل فقال له مم تبكي أستقللتها قال لا والله ولكني أبكي أن الأرض تأكل مثلك أو تواري مثلك
وقال على بن الجهم عن أبيه أصبحت يوما لا أملك شيئا حتى ولا علف الدابة فقصدت الفضل ابن يحي فإذا هو قد أقبل من دار الخلافة في موكب من الناس فلما رآني رحب بي وقال هلم فسرت معه فلما كان ببعض الطريق سمع غلاما يدعو جارية من دار وإذا هو يدعوها بإسم جارية له يحبها فانزعج لذلك وشكا إلى ما لقي من ذلك فقلت أصابك ما أصحاب أخي بنى عامر حيث يقول ... وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى ... فهيج أحزان الفؤاد ولا يدري ... دعا بإسم ليلى غيرها وكأنما ... أطار بليلى طائرا كان في صدري ...
فقال اكتب لى هذين البيتين قال فذهبت إلى بقال فرهنت عنده خاتمي على ثمن ورقة وكتبتهما له فأخذهما وقال انطلق راشدا فرجعت إلى منزلى فقال لي غلامي هات خاتمك حتى نرهنه على طعام لنا وعلف لللدابة فقلت إني رهنته فما أمسينا حتى أرسل الى الفضل بثلاثين ألفا من الذهب وعشرة آلاف من الورق أجراه على كل شهر وأسلفني شهرا
ودخل على الفضل يوما بعض الأكابر فأكرمه الفضل وأجلسه معه على السرير فشكا إليه الرجل دينا عليه وسأله أن يكلم في ذلك امير المؤمنين فقال نعم وكم دينك قال ثلاثمائة ألف درهم فخرج من عنده وهو مهموم لضعف رده عليه ثم مال الى بعض إخوانه فاستراح عنده ثم رجع إلى منزله فإذا المال قد سبقه إلى داره وما أحسن ما قال فيه بعض الشعراء ... لك الفضل يا فضل بن يحي بن خالد ... وما كل من يدعى بفضل له فضل ... رأى الله فضلا منك في الناس واسعا ... فسماك فضلا فالتقى الاسم والفعل ...
وقد كان الفضل أكبر رتبة عند الرشيد من جعفر وكان جعفر أحظى عند ا لرشيد منه وأخص وقد ولى الفضل أعمالا كبارا منها نيابة خراسان وغيرها ولما قتل الرشيد البرامكة وحبسهم جلد الفضل هذا مائة سوط وخلده في الحبس حتى مات في هذه السنة قبل الرشيد بشهور خمسة في الرقة وصلى عليه بالقصر الذي مات فيه أصحابه ثم أخرجت جنازته فصلى عليها الناس ودفن هناك وله خمس وأربعون سنة وكان سبب موته ثقل أصابة في لسانه اشتد به يوم الخميس ويوم الجمعة وتوفي (10/211)
قبل أذان الغداة من يوم السبت قال ابن جرير وذلك في المحرم من سنة ثلاث وتسعين ومائة وقال ابن الجوزي في سنة ثنتين وتسعين فالله أعلم
وقد أطال ابن خلكان ترجمته وذكر طرفا صالحا من محاسنه ومكارمه من ذلك أنه ورد بلخ حين كان نائبا على خراسان وكان بها بيت النار التي كانت تعبدها المجوس وقد كان جده برمك من خدامها فهدم بعضه ولم يتمكن من هدمه كله لقوة احكامه وبنى مكانه مسجدا لله تعالى وذكر أنه كان يتمثل في السجن بهذه الأبيات ويبكي ... إلى الله فيما نالنا نرفع الشكوى ... ففي يده كشف المضرة والبلوى ... خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ... فلا نحن في الأموات فيها ولا الأحيا ... إذا جاءنا السجان يوما لحاجة ... عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا ...
ومحمد بن أمية الشاعر الكاتب وهو من بيت كلهم شعراء وقد اختلط أشعار بعضهم في بعض
ومنصور بن الزبرقان
ابن سلمة أبو الفضل النميري الشاعر امتدح الرشيد وأصله من الجزيرة وأقام ببغداد ويقال لجده مطعم الكبش الرخم وذلك أنه أضاف قوما فجعلت الرخم تحوم حولهم فأمر بكبش يذبح للرخم حتى لا يتأذى بها ضيفانه ففعل له ذلك فقال الشاعر فيه ... أبوك زعيم بنى قاسط ... وخالك ذو الكبش يغذي الرخم ...
وله أشعار حسنة وكان يروي عن كلثوم بن عمرو وكان شيخه الذي أخذ عنه الغناء
يوسف بن القاضي ابي يوسف
سمع الحديث من السري بن يحي ويونس بن أبي إسحاق ونظر في الرأى وتفقه وولى قضاء الجانب الشرقي ببغداد في حياة أبيه أبي يوسف وصلى بالناس الجمعة بجامع المنصور عن أمر الرشيد توفي في رجب من هذه السنة وهو قاضي ببغداد
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين ومائة
قال ابن جرير في المحرم منها توفي الفضل بن يحي وقال ابن الجوزي توفي الفضل في سنة ثنتين وتسعين كما تقدم وما قاله ابن جرير أقرب قال وفيها توفي سعيد الجوهري قال وفيها وافي الرشيد جرجان وانتهت إليه خزائن على بن عيسى تحمل على ألف وخمسمائة بعير وذلك في صفر منها ثم تحول منها إلى طوس وهو عليل فلم يزل بها حتى كانت وفاته فيها وفيها تواقع هرثمة نائب العراق هو ورافع بن الليث فكسره هرثمة وافتتح بخارى وأسر أخاه بشير بن الليث فبعثه الى الرشيد وهو بطوس قد ثقل عن السير فلما وقف بين يديه شرع يترقق له فلم يقبل منه بل قال (10/212)
والله لو لم يبق من عمرى إلا أن أحرك شفتي بقتلك لقتلتك ثم دعا بقصاب فجزأه بين يديه أربعة عشر عضوا ثم رفع الرشيد يديه إلى السماء يدعو الله أن يمكنه من أخيه كما مكنه من أخيه بشير
وفاة الرشيد
كان قد رأى وهو بالكوفة رؤيا أفزعته وغمه ذلك فدخل عليه جبريل بن بختيشوع فيقال مالك يا أمير المؤمنين فقال رأيت كفا فيها تربة حمراء خرجت من تحت سريري وقائلا يقول هذه تربه هارون فهون عليه جبريل أمرها وقال هذه من أضغاث الأحلام من حديث النفس فتناسها يا أمير المؤمنين فلما سار يريد خراسان ومر بطوس واعتقلته العلة بها ذكر رؤياه فهاله ذلك وقال لجبريل ويحك أما تذكر ما قصصته عليك من الرؤيا فقال بلى فدعا مسرورا الخادم وقال ائتني بشئ من تربة هذه الارض فجاءه بتربة حمراء في يده فلما رآها قال والله هذه الكف التي رأيت والتربة التي كانت فيها قال جبريل فو الله ما أتت عليه ثلاث حتى توفي وقد أمر بحفر قبره موته في الدار التي كان فيها وهي دار حميد بن أبي غانم الطائي فجعل ينظر إلى قبره وهو يقول يا ابن آدم تصير إلى هذا ثم أمر أن يقرأوا القرآن في قبره فقرءوه حتى ختموه وهو في محفة على شفير القبر ولما حضرته الوفاة احتبى بملاءة وجلس يقاسي سكرات الموت فقال له بعض من حضر لو اضطجعت كان أهون عليك فضحك ضحكا صحيحا ثم قال أما سمعت قول الشاعر ... وإني من قوم كرام يزيدهم ... شماسا وصبرا شدة الحدثان ...
مات ليلة السبت وقيل ليلة الأحد مستهل جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة عن خمس وقيل سبع وأربعين سنة وكان ملكه ثلاثا وعشرين سنة
وهذه ترجمته
هو هارون الرشيد أمير المؤمنين ابن المهدي محمد بن المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد بن على عبد الله بن عباس بن عبد المطلب القرشي الهاشمي أبو محمد ويقال أبو جعفر وأمه الخيزران أم ولد كان مولده في شوال سنة ست وقيل سبع وقيل ثمان وأربعين ومائة وقيل إنه ولد سنة خمسين ومائة وبويع له بالخلافة بعد موت أخيه موسى الهادي في ربيع الأةل سنة سبعين ومائة بعهد من أبيه المهدي روى الحديث عن أبيه وجده وحدث عن المبارك بن فضالة عن الحسن عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ( اتقوا النار ولو بشق تمرة ) أورده وهو على المنبر وهو يخطب الناس وقد حدث عنه ابنه وسليمان الهاشمي والد إسحاق ونباته بن عمرو وكان الرشيد أبيض طويلا جميلا وقد غزا الصائفة في حياة أبية مرارا وعقد الهدنة بين المسلمين والروم بعد محاصرته القفسطنطينية وقد لقي المسلمون من ذلك جهدا جهيدا وخوفا شديدا وكان (10/213)
الصلح مع امرأة ليون وهي الملقبة بأغسطه على حمل كثير تبذله للمسلمين في كل عام ففرح المسلمون بذلك وكان هذا الذي حدا أباه على البيعة له بعد أخية في سنة ست وستين ومائة ثم لما أفضت إليه الخلافة في سنة سبعين كان من أحسن الناس سيرة وأكثرهم غزوا وحجا ولهذا قال فيه أبو السعلي ... فمن يطلب لقاءك أو يرده ... فبالحرمين أو أقصى الثغور ... ففي أرض العدو على طمر ... وفي أرض الترفه فوق كور ... وما حاز الثغور سواك خلق ... من المخلفين على الأمور ...
وكان يتصدق من صلب ماله في كل يوم بألف درهم وإذا حج أحج معه مائة من الفقهاء وأبنائهم وإذا لم يحج احج ثلاثمائة بالنفقة السابغة والكسوة التامة وكان يحب التشبه بجده أبي جعفر المنصور إلا في العطاء فإنه كان سريع العطاء جزيله وكان يحب الفقهاء والشعراء ويعطيهم ولا يضيع لديه بر ومعروف وكان نقش خاتمه لا إله إلا الله وكان يصلى في كل يوم مائة ركعة تطوعا إلى أن فارق الدنيا إلا أن تعرض له علة وكان ابن أبي مريم هو الذي يضحكه وكان عنده فضيلة بأخبار الحجاز وغيرها وكان الرشيد قد أنرله في قصره وخلطه بأهله بنهه الرشيد يوما إلى صلاة الصبح فقام فتوضأ ثم أدرك الرشيد وهو يقرأ ومالي لا أعبد الذي فطرني فقال ابن أبي مريم لا أدري والله فضحك الرشيد وقطع الصلاة ثم أقبل عليه وقال ويحك اجتنب الصلاة والقرآن وقل فيما عدا ذلك ودخل يوما العباس بن محمد على الرشيد ومعه برنية من فضة فيها غالية من أحسن الطيب فجعل يمدحها ويزيد في شكرها وسأل من الرشيد أن يقبلها منه فقبلها فاستوهبها منه ابن أبي مريم فوهبها له فقال له العباس ويحك جئت بشئ منعته نفسي وأهلي وآثرت به أمير المؤمنين سيدي فأخذته فحلف ابن مريم ليطيبن به استه ثم أخذ منها شيئا فطلى به استه ودهن جوارحه كلها منها والرشيد لا يتمالك نفسه من الضحك ثم قال لخادم قائم عندهم يقال له خاقان اطلب لي غلامثي فقال الرشيد ادع له غلامه فقال له خذ هذه الغالية واذهب بها إلى ستك فمرها فلتطيب منها إستها حتى أرجع إليها فأنيكها فذهب الضحك بالرشيد كل مذهب ثم أقبل ابن أبي مريم على العباس بن محمد فقال له جئت بهذه الغالية تمدحها عند أمير المؤمنين الذي ما تمطر السماء شيئا ولا تنبت الأرض شيئا إلا وهو تحت تصرفه وفي يده وأعجب من هذا أن قيل لملك الموت ما أمرك به هذا فأنفذه وأنت تمدح هذه الغالية عنده كأنه بقال أو خباز أو طباخ أو تمار فكاد الرشيد يهلك من شدة الضحك ثم أمر لابن أبي مريم بمائة ألف درهم
وقد شرب الرشيد يوما دواء فسأله ابن أبي مريم أن يلي الحجابة في هذا اليوم ومهما حصل له كان بينه وبين امير المؤمنين فولاه الحجابة فجاءت الرسل بالهدايا من كل جانب من عند زبيدة (10/214)
والبرامكة كبار الأمراء وكان حاصله في هذا اليوم ستين ألف دينار فسأله الرشيد في اليوم الثاني عما تحصل فأخبره بذلك فقال له فأين نصيبي فقال ابن أبي مريم قد صالحتك عليه بعشرة آلاف تفاحة
وقد استدعى إليه أبا معاوية الضرير محمد بن حازم ليسمع منه الحديث قال أبو معاوية ما ذكرت عنده حديثا إلا قال صلى الله عليه و سلم على سيدي وإذا سمع فيه موعظة بكى حتى يبل الثرى وأكلت عنده يوما ثم قمت لأغسل يدي فصب الماء على وأنا لا أراه ثم قال يا أبا معاوية أتدري من يصب عليك الماء قلت لا قال يصب عليك أمير المؤمنين قال أبو معاوية فدعوت له فقال إنما أردت تعظيم العلم وحدثه أبو معاوية يوما عن الأغمش عن أبي صالح عن أبي هريرة بحديث احتجاج آدم وموسى فقال عم الرشيد أين التقيا يا أبا معاوية فغضب الرشيد من ذلك غضبا شديدا وقال أتعترض على الحديث على بالنطع والسيف فأحضر ذلك فقام الناس إليه يشفعون فيه فقال الرشيد هذه زندقة ثم أمر بسجنه وأقسم أن لا يخرج حتى يخبرني من ألقى إليه هذا فأقسم عمه بالايمان المغلظه ما قال هذا له أحد وإنما كانت هذه الكلمة بادرة منى وأنا أستغفر الله وأتوب إليه منها فأطلقه
وقال بعضهم دخلت على الرشيد وبين يديه رجل مضروب العنق والسياف يمسح سيفه في قفا الرجل المقتول فقال الرشيد قتلته لأنه قال القرآن مخلوق فقتله على ذلك قربة إلى الله عز و جل وقال بعض أهل العلم يا أمير المؤمنين انظر هؤلاء الذين يحبون أبا بكر وعمر ويقدمونهما فأكرمهم بعز سلطانك فقال الرشيد أولست كذلك أنا والله كذلك أحبها وأحب من يحبهما وأعاقب من يبغضهما وقال له ابن السماك إن الله لم يجعل أحدا فوقك فاجتهد أن لا يكون فيهم أحد أطوع إلى الله منك فقال لئن كنت أقصرت في الكلام لقد أبلغت في الموعظة
وقال له الفضيل بن عياض أو غيره ان الله لم يجعل احدا من هؤلاء فوقك في الدنيا فاجهد نفسك ان لا يكون احد منهم فوقك في الآخرة فاكدح انفسك واعملها في طاعة ربك
ودخل عليه ابن السماك يوما فاستسقى الرشيد فأتي بقلة فيها ماء مبرد فقال لابن السماك عظنى فقال يا أمير المؤمنين بكم كنت مشتريا هذه الشربة لو منعتها فقال بنصف ملكى فقال اشرب هنيئا فلما شرب قال أرأيت لو منعت خروجها من بدلك بكم كنت تشترى ذلك قال بنصف ملكي الآخر فقال إن ملكا قيمة نصفه شربه ماء وقيمة نصفة الآخر بولة لخليق أن لا يتنافس فيه فبكى هارون (10/215)
وقال ابن قتيبة ثنا الرياشي سمعت الأصمعي يقول دخلت على الرشيد وهو يقلم أظفاره يوم الجمعة فقلت له في ذلك فقال أخذ الأظفار يوم الخميس من السنة وبلغني أن أخذها يوم الجمعة ينفي الفقر فقلت يا أمير المؤمنين أو تخشى الفقر فقال يا أصمعي وهل أحد أخشى للفقر منى وروى ابن عساكر عن إبراهيم المهدي قال كنت يوما عند الرشيد فدعا طباخه فقال أعندك في الطعام لحم جزور قال نعم ألوان منه فقال أحضره مع الطعام فلما وضع بين يديه أخذ لقمة منه فوضعها في فيه فضحك جعفر البرمكي فترك الرشيد مضغ اللقمة وأقبل عليه فقال مم تضحك قال لا شئ يا أمير المؤمنين ذكرت كلاما بينى وبين جاريتى البارحة فقال له بحقي عليك لما أخبرتني به قال حتى تأكل هذه اللقمة فألقاها من فيه وقال والله لتخبرني فقال يا أمير المؤمنين بكم تقول إن هذا الطعام من لحم الجزور يقوم عليك قال بأربعة دارهم قال لا والله يا أمير المؤمنين بل بأربعمائة ألف درهم قال وكيف ذلك قال إنك طلبت من طباخك لحم جزور قبل هذا اليوم بمدة طويلة فلم يوجد عنده فقلت لا يخلون المطبخ من لحم جزور فنحن ننحر كل يوم جزورا لأجل مطبخ أمير المؤمنين لأنا لا نشترى من السوق لحم جزور فصرف في لحم الجزور من ذلك اليوم إلى هذا اليوم أربعمائة ألف درهم ولم يطلب أمير المؤمنين لحم جزور إلا هذا اليوم قال جعفر فضحكت لأن أمير المؤمنين إنما ناله من ذلك هذه اللقمة فهي على أمير المؤمنين بأربعمئة ألف
قال فبكى هارون الرشيد بكاء شديدا وأمر برفع السماط من بين يديه وأقبل على نفسه يوبخها ويقول هلكت والله يا هارون ولم يزل يبكي حتى آذنه المؤذنون بصلاة الظهر فخرج فصلى بالناس ثم رجع يبكي حتى آذنه المؤذنون بصلاة العصر وقد أمر بألفي ألف تصرف إلى فقراء الحرمين في كل حرم ألف ألف صدقة وأمر بألفي ألف يتصدق بها في جانبي بغداد الغربي والشرقي وبألف ألف يتصدق بها على فقراء الكوفة والبصرة ثم خرج إلى صلاة العصر ثم رجع يبكي حتى صلى المغرب ثم رجع فدخل عليه أو يوسف القاضي فقال ما شأنك يا أمير المؤمنين باكيا في هذا اليوم فذكر أمره وما صرف من المال الجزيل لأجل شهوته وإنما ناله منها لقمة فقال أبو يوسف لجعفر هل كان ما تذبحونه من الجزور يفسد أو يأكله الناس قال بل يأكله الناس فقال أبشر يا أمير المؤمنين بثواب الله فيما صرفته من المال الذي أكله المسلمون في الأيام الماضية وبما يسره الله عليك من الصدقة وبما رزقك الله من خشيته وخوفه في هذا اليوم وقد قال تعالى ولمن خاف مقام ربه جنتان فأمر له الرشيد بأربعمائة ألف ثم استدعى بطعام فأكل منه فكان غداؤه في هذا اليوم عشاء (10/216)
وقال عمرو بن بحر الجاحظ اجتمع للرشيد من الجد والهزل ما لم يجتمع لغيره من بعده كان أبو يوسف قاضيه والبرامكة وزراءه وحاجبه الفضل بن الربيع أنبه الناس وأشدهم تعاظما ونديمه عمر بن العباس بن محد صاحب العباسية وشاعره مروان بن أبي حفصة ومغنيه إبراهيم الموصلي واحد عصره في صناعته ومضحكه ابن أبي مريم وزامره برصوما وزوجته أم جعفر يعني زبيدة وكانت أرغب الناس في كل خير وأسرعهم إلى كل بر ومعروف أدخلت الماء الحرم بعد امتناعه من ذلك إلى أشياء من المعروف أجراها الله على يدها
وروى الخطيب البغدادي أن الرشيد كان يقول إنا من قوم عظمت رزيتهم وحسنت بعثتهم ورثنا رسول الله ( ص ) وبقيت فينا خلافة الله وبينما الرشيد يطوف يوما بالبيت إذ عرض له رجل فقال يا أمير المؤمنين إني أريد أن أكلمك بكلام فيه غلظة فقال لا ولا نعمت عين قد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني فأمره أن يقول له قولا لينا وعن شعيب بن حرب قال رأيت الرشيد في طريق مكة فقلت في نفسي قد وجب عليك الأمر بالمروف والنهي عن المنكر فخوفتني فقالت إنه الآن يضرب عنقك فقلت لا بد من ذلك فناديته فقلت يا هارون قد أتعبت الأمة والبهائم فقال خذوه فأدخلت عليه وفي يده لت من حديد يلعب به وهو جالس على كرسي فقال ممن الرجل فقلت رجل من المسلمين فقال ثكلتك أمك ممن أنت فقلت من الأنبار فقال ما حملك على أن دعوتني بإسمي قال فخطر ببالي شيء لم يخطر قبل ذلك فقلت أنا أدعو الله بإسمه يا الله أفلا أدعوك باسمك وهذا الله سبحانه قد دعا أحب خلقه إليه بأسمائهم يا آدم يا نوح يا هود يا صالح يا إبراهيم يا موسى يا عيسى يا محمد وكنى أبغض خلقه إليه فقال تبت يدا أبي لهب فقال الرشيد أخرجوه أخرجوه
وقال له ابن السماك يوما إنك تموت وحدك وتدخل القبر وحدك وتبعث منه وحدك فاحذر المقام بين يدي الله عز و جل والوقوف بين الجنة والنار حين يؤخذ بالكظم وتزل القدم ويقع الندم فلا توبة تقبل ولا عثرة تقال ولا يقبل فداء بمال فجعل الرشيد يبكي حتى علا صوته فقال يحيى بن خالد له يا ابن السماك لقد شققت على أمير المؤمنين الليلة فقام فخرج من عنده وهو يبكي وقال له الفضيل بن عياض في كلام كثير ليلة وعظه بمكة يا صبيح الوجه إنك مسؤل عن هؤلاء كلهم وقد قال تعالى وتقطعت بهم الأسباب قال حدثنا ليث عن مجاهد الوصلات التي كانت بينهم في الدينا فبكى حتى جعل يشهق وقال الفضيل استدعاني الرشيد يوما وقد زخرف منازله وأكثر الطعام والشراب واللذات فيها ثم استدعى أبا العتاهية فقال له صف لنا ما نحن فيه من العيش والنعيم فقال (10/217)
عش ما بدا لك سالما ... في ظل شاهقة القصور ... تسعى عليك بما اشتهيت ... لدى الرواح إلى البكور ... فاذا النفوس تقعقعت ... عن ضيق حشرجة الصدور ... فهناك تعلم موقنا ... ما كنت إلا في غرور ...
قال فبكى الرشيد بكاء كثيرا شديدا فقال له الفضل بن يحي دعاك أمير المؤمنين تسر فأحزنته فقال له الرشيد دعه فإنه رآنا في عمى فكره أن يزيدنا عمى ومن وجه آخر أن الرشيد قال لأبي العتاهية عظني بأبيات من الشعر وأوجز فقال ... لا تأمن الموت في طرف ولا نفس ... ولو تمتعت بالحجاب والحرس ... واعلم بأن سهام الموت صائبة ... لكل مدرع منها ومترس ... ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إن السفينة لا تجري على اليبس ...
ر قال فخر الرشيد مغشيا عليه وقد حبس الرشيد مرة أبا العتاهية وأرصد عليه من يأتيه بما يقول فكتب مرة على جدار الحبس
... أما والله إن الظلم شوم ... وما زال المسئ هو الظلوم ... إلى ديان يوم الدين نمضى ... وعند الله تجتمع الخصوم ...
قال فاستدعاه واستعجله في حل ووهبه ألف دينار وأطلقه وقال الحسن بن أبي الفهم ثنا محمد بن عباد عن سفيان بن عيينة قال دخلت على الرشيد فقال ما خبرك فقلت ... بعين الله ما تخفي البيوت ... فقد طال التحمل والسكوت ...
فقال يا فلان مائة ألف لابن عيينة تغنيه وتغنى عقبه ولا تضر الرشيد شيئا وقال الأصمعي كنت مع الرشيد في الحج فمررنا بواد فإذا على شفيره امرأة حسناء يديها قصعة وهي تسأل منها وهي تقول ... طحطحتنا طحاطح الأعوام ... ورمتنا حوادث الأيام ... فأتيناكم نمد أكفا ... نائلات لزادكم والطعام ... فاطلبوا الأجر والمثوبة فينا ... أيها الزائرون بيت الحرام ... من رآني فقد رآنى ورحلى ... فارحموا غربتي وذل مقامي ...
قال الأصمعي فذهبت إلى الرشيد فأخبرته بأمرها فجاء بنفسه حتى وقف عليها فسمعها فرحمها وبكى وأمر مسرورا الخادم أن يملأ قصعتها ذهبا فملأها حتى جعلت تفيض يمينا وشمالا وسمع مرة الرشيد أعرابيا يحدو إبله في طريق الحج (10/218)
أيها المجمع هما لأنهم ... أنت تقضي ولك الحمى تحم ... كيف ترقيك وقد جف القلم ... حطت الصحة منك والسقم ...
فقال الرشيد لبعض خدمه ما معك قال أربعمائة دينار فقال ادفعها إلى هذا الأعرابي فلما قبضها ضرب رفيقه بيده على كتفه وقال متمثلا ... وكنت جليس قعقاع بن عمرو ... ولا يشقى بقعقاع جليس ...
فأمر الرشيد بعض الخدم أن يعطى المتمثل ما معه من الذهب فاذا معه مائتا دينار قال أبو عبيد إن [ أصل ] هذا المثل أن معاوية بن أبي سفيان أهديت له هدية جامات من ذهب فرقها على جلسائه والى جانبه قعقاع بن عمرو وإلى جانب القعقاع أعرابي لم يفضل له منها شئ فأطرق الأعرابي حياء فدفع إليه القعقاع الجام الذي حصل له فنهض الأعرابي وهو يقول وكنت جليس قعقاع بن عمرو إلى آخره
وخرج الرشيد يوما من عند زبيده وهو يضحك فقيل له مم تضحك يا أمير المؤمنين فقال دخلت اليوم إلى هذه المرأة يعنى زبيدة فأقبلت عندها وبت فما استيقظت إلا على صوت ذهب يصب قالوا هذه ثلثمائة ألف دينار قدمت من مصر فقالت زبيدة هبها لي يا ابن عم فقلت هي لك ثم ما خرجت حتى عربدت على وقالت أى خير رأيته منك وقال الرشيد مرة للمفضل الضبي ما أحسن ما قيل في الذئب ولك هذا الخاتم وشراؤه ألف وستمائة دينار فأنشد قول الشاعر
... ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ... بأخرى الرزايا فهو يقظان نائم ...
فقال ما قلت هذا إلا لتسلبنا الخاتم ثم ألقاه إليه فبعث زبيدة فاشترته منه بألف وستمائة دينار وبعثت به إلى الرشيد وقالت إني رأيتك معجبا به فرده إلى المفضل والدنانير وقال ما كنا لنهب شيئا ونرجع فيه
وقال الرشيد يوما للعباس بن الأحنف أى بيت قالت العرب أرق فقال قول جميل في بثينة ... ألا ليتني أعمى أصم تقودني ... بثينة لا يخفي على كلامها ...
فقال له الرشيد أرق منه قولك في مثل هذا ... طاف الهوى في عباد الله كلهم ... حتى إذا مر بي من بينهم وقفا ...
فقال له العباس فقولك يا أمير المؤمنين أرق من هذا كله ... أما يكفيك أنك تملكني ... وأن الناس كلهم عبيدي ... وأنك لو قطعت يدي ورجلي ... لقلت من الهوى أحسنت زيدي ...
قال فضحك الرشيد وأعجبه ذلك ومن شعر الرشيد في ثلاث حظيات كن عنده من الخواص (10/219)
قوله ... ملك الثلاث الناشآت عناني ... وحللن من قلبي بكل مكان ... مالي تطاوعني البرية كلها ... وأطيعهن وهن في عصياني ... ما ذاك إلى أن سلطان الهوى ... وبه قوين أعز من سلطاني ...
ومما أورد له صاحب العقد في كتابه ... تبدى الصدود وتخفي الحب عاشقة ... فالنفس راضية والطرف غضبان ...
وذكر ابن جرير وغيره أنه كان في دار الرشيد من الجواري والحظايا وخدمهن وخدم زوجته وأخواته أربعة آلاف جارية وأنهن حضرن يوما بين يديه فغنته المطربات منهن فطرب جدا وأمر بمال فنثر عليهن وكان مبلغ ما حصل لكل واحدة منهن ثلاثة آلاف درهم في ذلك اليوم رواه ابن عساكر أيضا
وروى أنه اشترى جارية من المدينة فأعجب بها جدا فأمر باحضار مواليها ومن يلوذ بها ليقضي حوائجهم فقدموا عليه بثمانين نفسا فأمر الحاجب وهو الفضل ب بن الربيع ان يتلقاهم ويكتب حوائجهم فكان فيهم رجل قد أقام بالمدينة لأنه كان يهوى تلك الجارية فبعثت إليه فأتى به فقال له الفضل ما حاجتك قال حاجتي أن يجلسنى أمير المؤمنين مع فلانة فأشرب ثلاثة أرطال من خمر وتعنيني ثلاثة أصوات فقال أمجنون أنت فقال لا ولكن أعرض حاجتي هذه على أمير المؤمنين فذكر للرشيد ذلك فأمر بإحضاره وأن تجلس معه الجارية بحيث ينظر إليهما ولا يريانه فجلست على كرسى والخدام بين يديها وأجلس على كرسى فشرب رطلا وقال لها غننى ... خليلي عوجا بارك الله فيكما ... وإن لم تكن هند بأرضكما قصدا ... وقولا لها ليس الضلال أجازنا ... ولكننا جزنا لنلقاكم عمدا ... غدا يكثر البادون منا ومنكم ... وتزداد داري من دياركم بعدا ...
قال فغنته ثم استعجله الخدم فشرب رطلا آخر وقال عننى جعلت فداك ... تكلم منا في الوجوه عيوننا ... فنحن سكوت والهوى يتكلم ... ونغضب أحيانا ونرضى بطرفنا ... وذلك فيما بيننا ليس يعلم ...
قال فغنته ثم شرب رطلا ثالثا وقال غننى جعلنى الله فداك ... أحسن ما كنا تفرقنا ... وخاننا الدهر وما خنا ... فليت ذا الدهر لنا مرة ... عاد لنا يوما كما كنا ...
قال ثم قام الشاب إلى درجة هناك ثم ألقى نفسه من أعلاها على أم رأسه فمات فقال الرشيد عجل الفتى والله لو لم يعجل لوهبتها له (10/220)
وفضائل الرشيد ومكارمه كثيرة جدا قد ذكر الأئمة من ذلك شيئا كثيرا فذكرنا منه أنموذجا صالحا وقد كان الفضيل بن عياض يقول ليس موت أحد أعز علينا من موت الرشيد لما أتخوف بعده من الحوادث وإني لأدعو الله أن يزيد في عمره من عمرى قالوا فلما مات الرشيد وظهرت تلك الفتن والحوادث والاختلافات وظهر القول بخلق القرآن فعرفنا ما كان تخوفه الفضيل من ذلك وقد تقدمت رؤياه لذلك الكف وتلك التربة الحمراء وقائل يقول هذه تربة أمير المؤمنين فكان موته بطوس وقد روى ابن عساكر أن الرشيد رأى في منامه قائلا يقول كأني بهذا القصر قد باد أهله الشعر إلى آخره
وقد تقدم أن ذلك إنما رآه أخوه موسى الهادي وأبوه محمد المهدي فالله أعلم
وقدمنا أنه أمر بحفر قبره في حياته وأن تقرأ فيه ختمة تامة وحمل حتى نظر اليه فجعل يقول الى هنا تصير يا أبن آدم ويبكي وأمر أن يوسع عند صدره وأن يمد من عند رجليه ثم جعل يقول ما أغنى عنى ماليه هلك عنى سلطانيه ويبكي وقيل إنه لما احتضر قال اللهم انفعنا بالاحسان واغفر لنا الاساءة يا من لا يموت ارحم من يموت وكان مرضه بالدم وقيل بالسل وجبريل الطبيب يكتم ما به من العلة فأمر الرشيد رجلا أن يأخذ ماءه في قارورة ويذهب به إلى جبريل فيريه إياه ولا يذكر له بول من هو فإن سأله قال هو بول مريض عندنا فما رآه جبريل قال لرجل عنده هذا مثل ماء ذلك الرجل ففهم صاحب القارورة من عنى به فقال له بالله عليك أخبرني عن حال صاحب هذا الماء فإن لي عليه مالا فإن كان به رجاء وإلا أخذت مالي منه فقال اذهب فتخلص منه فانه لا يعيش إلا أياما فلما جاء وأخبر الرشيد بعث إلى جبريل فتغيب حتى مات الرشيد وقد قال الرشيد وهو في هذه الحال ... إني بطوس مقيم مالي بطوس حميم ... أرجو إلهي لما بي فإنه بي رحيم ... لقد أتى بي طوسا قضاؤه المحتوم ... وليس إلا رضائي والصبر والتسليم ...
مات بطوس يوم السبت لثلاث من جمادي الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة وقيل إنه توفي في جمادي الأولى وقيل في ربيع الأول وله من العمر خمس وقيل سبع وقيل ثمان وأربعون سنة ومدة خلافته ثلاث وعشرون سنة وشهر وثمانية عشر يوما وقيل ثلاثة أشهر وصلى عليه ابنه صالح ودفن بقرية من قرى طوس يقال لها سناباذ وقال بعضهم قرأت على خيام الر شيد بسناباذ والناس منصرفون من طوس من بعد موته
... منازل العسكر معمورة ... والمنزل الأعظم مهجور ... خليفة الله بدار البلى ... تسعى على أجداثه المور (10/221)
أقبلت العير تباهي به ... وانصرفت تندبه العير ...
وقد رثاه أبو الشيص فقال ... غربت في الشرق شمس ... فلها العينان تدمع ... ما رأينا قط شمسا ... غربت من حيث تطلع ...
وقد رثاه الشعراء بقصائد قال ابن الجوزي وقد خلف الرشيد من الميراث ما لم يخلفه أحد من الخلفاء وخلف من الجواهر والاثاث والأمتعة سوى الضياع والدور ما قيمته مائه ألف ألف دينار وخمسة وثلاثون ألف دينار قال ابن جرير وكان في بيت المال سبعمائة ألف ألف ونيف
ذكر زوجاته وبنيه وبناته
تزوج أم جعفر زبيدة بنت عمه جعفر بن أبي جعفر المنصور تزوجها في سنة خمس وستين ومائة في حياة أبيه المهدي فولدت له محمدا الأمين وماتت زبيدة في سنة ست عشرة ومائتين كما سيأتي وتزوج [ أمة العزيز ] أم ولد كانت لأخية موسى الهادي فولدت له على بن الرشيد وتزوج أم محمد بنت صالح المسكين والعباسة بنت عمه سليمان بن أبي جعفر فزفتا إليه في ليلة واحدة سنة سبع وثمانين ومائة بالرقة وتزوج عزيزة بنت الغطريف وهي بنت خاله أخي أمه الخيزران وتزوج ابنة عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عمر بن عثمان بن عفان العثمانية ويقال لها الجرشية لأنها ولدت بجرش بالمين وتوفي عن أربع زبيدة وعباسة وابنة صالح والعثمانية هذه وأما الحظايا من الجوار فكثير جدا حتى قال بعضهم إنه كان في داره اربعة آلاف جارية سرارى حسان
وأما أولاده الذكور فمحمد الأمين بن زبيدة وعبد الله المأمون من جارية اسمها مراجل ومحمد أبو إسحاق المعتصم من أم ولد يقال لها ماردة والقاسم المؤتمن من جارية يقال لها قصف وعلى أمه أمة العزيز وصالح من جارية اسمها رئم ومحمد أبو يعقوب ومحمد أبو عيسى ومحمد أبو العباس ومحمد أبو على كل هؤلاء من أمهات أولاد وكان من الاناث سكينة من قصف وأم حبيب من ماردة وأروى وأم الحسين وأم محمد وهي حمدونة وفاطمة وأمها غصص وأم سلمة وخديجة وأم القاسم رملة وأم على وأم الغالية وريطة كلهن من أمهات أولاد
خلافة محمد الأمينلما توفي الرشيد بطوس في جمادي الآخرة من هذه السنة أعني سنة ثلاث وتسعين ومائة كتب صالح بن الرشيد إلى أخيه ولى العهد من بعد أبيه محمد الأمين بن زبيدة وهو ببغداد يعلمه بوفاة أبيه ويعزيه فيه فوصل الكتاب صحبة رجاء الخادم ومعه الخاتم والقضيب والبردة يوم (10/222)
الخميس الرابع عشر من جمادي الآخرة فركب الأمين من قصرة الخلد إلى قصر أبي جعفر المنصور وهو قصر الذهب على شط بغداد فصلى بالناس ثم صعد المنبر فخطبهم وعزاهم في الرشيد وبسط آمال الناس ووعدهم الخير فبايعه الخواص من قومه ووجوه بنى هاشم والأمراء وأمر بصرف أعطيات الجند عن سنتين ثم نزل وأمر عمه سليمان بن جعفر أن يأخذ له البيعة من بقية الناس فلما انتظم أمر الأمين واستقام حاله حسده أخوه المأمون ووقع الخلف بينهما على ما سنذكره إن شاء الله تعالى
اختلاف الامين والمأمون
كان السبب في ذلك أن الرشيد لما وصل إلى أول بلاد خراسان وهب جميع ما فيها من الحواصل والدواب والسلاح لولده المأمون وجدد له البيعة وكان الامين قد بعث بكر بن المعتمر يكتب في خفية ليوصلها إلى الأمراء إذا مات الرشيد فلما توفي الرشيد نفذت الكتب إلى الأمراء وإلى صالح بن الرشيد وفيها كتاب إلى المأمون يأمره بالسمع والطاعة فأخذ صالح البيعة من الناس إلى الامين وارتحل الفضل بن الربيع بالجيش إلى بغداد وقد بقي في نفوسهم تحرج من البيعة التي أخذت للمأمون وكتب إليهم المأمون يدعوهم إلى بيعته فلم يجيبوه فوقعت الوحشة بين الأخوين ولكن تحول عامة الجيش إلى الأمين فعند ذلك كتب المأمون إلى أخيه الأمين بالسمع والطاعة والتعظيم وبعث إليه من هدايا خراسان وتحفها من الدواب والمسك وغير ذلك وهو نائبه عليها وقد أمر الأمين في صبيحة يوم السبت بعد أخذ البيعة يوم الجمعة ببناء ميدانين للصيد فقال في ذلك بعض الشعراء ... بنى أمين الله ميدانا ... وصير الساحة بستانا ... وكانت الغزلان فيه بانا ... يهدي إليه فيه غزلانا ...
وفي شعبان من هذه السنة قدمت زبيدة من الرقة بالخزائن وما كان عندها من التحف والقماش من الرشيد فتلقاها ولدها الأمين إلى الأنبار ومعه وجوه الناس وأقر الأمين أخاه المأمون على ما تحت يده من بلاد خراسان والري وغير ذلك وأقر أخاه القاسم على الجزيرة والثغور وأقر عمال أبيه على البلاد إلا القليل منهم
وفيها مات نقفور ملك الروم قتله البرجان وكان ملكه تسع سنين وأقام بعده ولده استبراق شهرين فمات فملكهم ميخائيل زوج أخت نقفور لعنهم الله وفيها تواقع هرثمة نائب خراسان ورافع ابن الليث فاستجاش رافع بالترك ثم هربوا وبقي رافع وحده فضعف أمره وحج بالناس نائب الحجاز داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن على وفيها توفي (10/223)
إسماعيل بن علية
وهو من أئمة العلماء والمحدثين الرفعاء روى عنه الشافعي وأحمد بن حنبل وقد ولى المظالم ببغداد وكان ناظر الصدقات بالبصرة وكان ثقة نبيلا جليلا كبيرا وكان قليل التبسم وكن يتجر في البز وينفق على عياله منه ويحج منه ويبر أصحابه منه مثل السفيانين وغيرهما وقد ولاه الرشيد القضاء فلما بلغ ابن المبارك أنه تولى القضاء كتب إليه يلومه نظما ونثرا فاستعفى ابن علية من القضاء فأعفاه وكانت وفاته في ذى القعدة من هذه السنة ودفن في مقابر عبد الله بن مالك وفيها مات
محمد بن جعفر
الملقب بغندر روى عن شعبة وسعيد بن ابي عروبة وعن خلق كثير وعنه جماعة منهم أحمد بن حنبل وكان ثقة جليلا حافظا متقنا وقد ذكر عنه حكايات تدل على تغفيله في أمور الدنيا كانت وفاته بالبصرة في هذه السنة وقيل في التي قبلها وقيل في التي بعدها وقد لقب وقد لقب بهذا اللقب جماعة من المتقدمين والمتأخرين وفيها توفي
ابو بكر بن العياش
أحد الأئمة سمع أبا إسحاق السبيعي والأعمش وهشام وهمام بن عروة وجماعة وحدث عنه خلق منهم أحمد بن حنبل وقال يزيد بن هارون كان حبرا فاضلا لم يضع جنبه إلى الأرض أربعين سنة قالوا ومكث ستين سنة يختم القرآن في كل يوم ختمة كاملة وصام ثمانين رمضانا وتوفي وله ست وتسعون سنة ولما احتضر بكى عليه ابنه فقال يا بنى علام تبكي والله ما أتى أبوك فاحشة قط
ثم دخلت سنة اربع وتسعين ومائة
فيها خلع أهل حمص نائبهم فعزله عنهم الأمين وولى عليهم عبد الله بن سعيد الحرشى فقتل طائفة من وجوه أهلها وحرق نواحيها فسألوه الأمان فأمنهم ثم هاجوا فضرب أعناق كثير منهم أيضا وفيها عزل الأمين أخاه القاسم عن الجزيزة والثغور وولى على ذلك خزيمة بن خازم وأمر أخاه بالمقام عنده ببغداد وفيها أمر الأمين بالدعاء لولده موسى على النابر في سائر الأمصار وبلامرة من بعده وسماه الناطق بالحق ثم يدعى من بعده لأخيه المأمون ثم لأخيه القاسم وكان من نية الأمين الوفاء لأخويه بما شرط لهما فلم يزل به الفضل بن الربيع حتى غير نيته في أخويه وحسن له خلع المأمون والقاسم وصغر عنده شأن المأمون وإنما حمله على ذلك خوفه من المأمون إن أفضت إليه الخلافة أن يخلعه من الحجابة فوافقه الأمين على ذلك وأمر بالدعاء لولده موسى وبولاية العهد من بعده وذلك في ربيع الأول من هذه السنة فلما بلغ المأمون قطع البريد عنه وترك ضرب اسمه على السكة والطرز وتنكر للأمين وبعث رافع بن الليث إلى المأمون يسأل منه الامان فأمنه (10/224)
فسار إليه بمن معه فأكرمه المأمون وعظمه وجاء هرثمة على إثره فتلقاه المأمون ووجوه الناس وولاه الحرس فلما بلغ الأمين أن الجنود التفت على أخيه المأمون ساءه ذلك وأنكره وكتب إلى المأمون كتابا وأرسل إليه رسلا ثلاثة من أكابر الأمراء سأله أن يجيبه إلى تقديم ولده عليه وأنه قد سماه الناطق بالحق فأظهر المأمون الامتناع فشرع الأمراء في مطايبته وملاينته وأن يجيبهم إلى ذلك فأبى كل الاباء فقال له العباس بن موسى بن عيسى فقد خلع أبي نفسه فماذا كان فقال المأمون إن أباك كان امرءا مكروها ثم لم يزل المأمون يعد العباس ويمنيه حتى بايعه بالخلافة ثم لما رجع إلى بغداد كان يراسله بما كان من أمر الأمين ويناصحه ولما رجع الرسل إلى الأمين أخبروه بما كان من قول أخيه فعند ذلك صمم الغضل بن الربيع على الأمين في خلع المأمون فخلعه وأمر بالدعاء لولده في سائر البلاد وأقاموا من يتكلم في المأمون ويذكر مساويه وبعثوا إلى مكة فأخذوا الكتاب الذي كتبه الرشيد وأودعه في الكعبة فمزقه الأمين وأكد البيعة إلى ولده الناطق بالحق على ما ولاه من الأعمال وجرت بين الأمين والمأمون مكاتبات ورسل يطول بسطها وقد استقصاها ابن جرير في تاريخه ثم آل بهما الأمر إلى أن احتفظ كل منهما على بلاده زحصنها وهيأ الجيوش والجنود وتألف الرعايا وفيها غدرت الروم بملكهم ميخائيل فراموا خلعه وقتله فترك الملك وترهب وولوا عليهم اليون وحج بالناس فيها نائب الحجاز داود بن عيسى وقيل على بن الرشيد وفيها توفي من الأعيان
سالم بن سالم ابو بحر البلخي
قدم بغداد وحدث بها عن إبراهيم بن طهمان والثوري وعنه الحسن بن عرفة وكان عابدا زاهدا مكث أربعين سنة لم يفرش له فراش وصامها كلها إلا يومي العيد ولم يرفع رأسه إلى السماء وكان داعية الارجاء ضعيف الحديث إلا أنه كان رأسا في الأمر بالمعروف اوالنهي عن المنكر وكان قد قدم بغداد فأنكر على الرشيد وشنع عليه فحبسه وقيده بإثنى عشر قيدا فلم يزل أبو معاوية يشفع فيه حتى جعلوه في أربعة قيود ثم كان يدعو الله أن يرده إلى أهله فلما توفي الرشيد أطلقته زبيدة فرجع وكانوا بمكة قد جاؤا حجاجا فمرض بمكة واشتهى يوما بردا فسقط في ذلك الوقت برد حين اشتهاه فأكل منه مات في ذي الحجة من هذه السنة
وعبد الوهاب بن عبد الحميد
الثقفي كانت غلته في السنة قريبا من خمسين ألفا ينفقها كلها على أهل الحديث توفي عن أربع وثمانين
وابو النصر الجهني المصاب
كان مقيما بالمدينة النبوية بالصفة من المسجد في الحائط الشمالي منه وكان طويل السكوت فإذا سئل أجاب بجواب حسن ويتكلم بكلمات مفيدة تؤثر عنه وتكتب وكان يخرج يوم الجمعة (10/225)
قبل الصلاة فيقف على مجامع الناس فيقول يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا و يوم لاتجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ثم ينتقل إلى جماعة أخرى ثم إلى أخرى حتى يدخل المسجد فيصلى فيه لجمعة ثم لايخرج منه حتى يصلى العشاء الآخرة
وقد وعظ مرة هارون الرشيد بكلام حسن فقال اعلم أن الله سائلك عن أمة نبيه فأعد لذلك جوابا وقد قال عمر بن الخطاب لو ماتت سخلة بالعراق ضياعا لخشيت أن يسألنى الله عنها فقال الرشيد إني لست كعمر وإن دهرى ليس كدهره فقال ما هذا بمغن عنك شيئا فأمر له بثلثمائة دينار فقال أنا رجل من أهل الصفة فمر بها فلتقسم عليهم وأنا واحد منهم
ثم دخلت سنة خمس وتسعين ومائة
فيها في صفر منها أمر الأمين الناس أن لا يتعاملوا بالدارهم والدنانير التي عليها اسم المأمون ونهى أن يدعى له على المنابر وأن يدعى له ولولده من بعده وفيها تسمى المأمون بإمام المؤمنين وفي ربيع الآخر فيها عقد الأمين لعلى بن عيسى بن ماهان الامارة على الجبل وهمذان واصبهان وقم وتلك البلاد وأمره بحرب المأمون وجهز معه جيشا كثيرا وأنفق فيهم نفقات عظيمة وأعطاه مائتي ألف دينار ولولده خمسين ألف دينار وألفي سيف محلى وستةآلاف ثوب للخلع فخرج على بن موسى بن ماهان من بغداد في أربعين ألف مقاتل فارس ومعه قيد من فضة ليأتي فيه بالمأمون وخرج الأمين معه مشيعا فسار حتى وصل الرى فتلقاه الأمير طاهر في أربعة آلاف فجرت بينهم أمور آل الحال فيها أن اقتتلوا فقتل على بن عيسى وانهزم أصحابه وحمل رأسه وجثته إلى الأمير طاهر فكتب بذلك إلى وزير المأمون ذي الرياستين وكان الذي قتل على بن عيسى رجل يقال له طاهر الصغير فسمى ذا اليمينين لأنه أخذ السيف بيديه الثنتيين فذبح به على بن عيسى بن ماهان ففرح بذلك المأمون وذووه وانتهى الخبر إلى الأمين وهو يصيد السمك من دجله فقال ويحك دعنى من هذا فان كوثرا قد صاد سمكتين ولم أصد بعد شيئا وأرجف الناس ببغداد وخافوا غائلة هذا الأمر وندم محمد الأمين على ماكان منه من نكث العهد وخلع المامون وما وقع من الأمر الفظيع وكان رجوع الخبر إليه في شوال من هذه السنة ثم جهز عبد الرحمن بن جبلة الأنباري في عشرين ألفا من المقاتلة إلى همذان ليقاتلوا طاهر بن الحسين بن مصعب ومن معه من الخراسانية فلما اقتربوا منهم تواجهوا فتقاتلوا قتالا شديدا حتى كثرت القتلى بينهم ثم انهزم أصحاب عبد الرحمن ابن جبلة فلجئوا إلى همذان فحاصرهم بها طاهر حتى اضطرهم إلى أن دعوا إلى الصلح فصالحهم وأمنهم ووفي لهم وانصرف عبد الرحمن بن جبلة على أن يكون راجعا إلى بغداد ثم غدوا بأصحاب (10/226)
طاهر وحملوا عليهم وهم غافلون منهم خلقا وصبر لهم أصحاب ثم نهضوا إليهم وحملوا عليهم فهزموهم وقتل أميرهم عبد الرحمن بن جبلة وفر أصحابه خائبين
فلما رجعوا إلى بغداد اضطربت الأمور وكثرت الأراجيف وكان ذلك في ذي الحجة من هذه السنة وطرد طاهر عمال الأمين عن قوزين وتلك النواحي وقوي أمر المأمون جدا بتلك البلاد وفي ذي الحجة من هذه السنة ظهر أمر السفياني بالشام واسمه على بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان فعزل نائب الشام عنها ودعا إلى نفسه فبعث إليه الأمين جيشا فلم يقدموا عليه بل أقاموا بالرقة ثم كان من أمره ماسنذكره وحج بالناس فيها نائب الحجاز داود ابن عيسى وفيها كانت وفاة جماعة من الأعيان منهم
إسحاق بن يوسف الأزرق
أحد أئمة الحديث روى عنه أحمد وغيره ومنهم
بكار بن عبد الله
ابن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير كان نائب المدينة للرشيد ثنتي عشرة سنة وشهرا وقد أطلق الرشيد على يديه لأهلها ألف ألف دينار ومائتي ألف دينار وكان شريفا جوادا معظما وفيها توفي
أبو نواس الشاعر
واسمه الحسن بن هانئ بن صباح بن عبد الله بن الجراح بن هنب بن داود بن غنم بن سليم ونسبه عبد الله بن سعد إلى الجراح بن عبد الله الحكمي ويقال له أبو نواس البصري كان أبوه من أهل دمشق من جند مروان بن محمد ثم صار إلى الأهواز وتزوج امرأة يقال لها خلبان فولدت له أبا نواس وابنا آخر يقال له أبا معاذ ثم صار أبو نواس إلى البصرة فتأدب بها على أبي زيد وأبي عبيدة وقرأ كتاب سيبويه ولزم خلفا الأحمر وصحب يونس بن حبيب الجرمي النحوي وقد قال القاضي ابن خلكان صحب أبا أسامة وابن الحباب الكوفي وروى الحديث عن أزهر بن سعد وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وعبد الواحد بن زياد ومعتمر بن سليمان ويحي القطان وعنه محمد بن إبراهيم بن كثير الصوفي وحدث عنه جماعة منهم الشافعي وأحمد بن حنبل وغندر ومشاهير العلماء ومن مشاهير حديثه ما رواه محمد بن إبراهيم بن كثير الصوفي عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( لا يموتن أحدكم إلى وهو يحسن الظن بالله فإن حسن الظن بالله ثمن الجنة ) وقال محمد بن إبراهيم دخلنا عليه وهو في الموت فقال له صالح بن على الهاشمي يا أبا علىأنت اليوم في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة وبينك وبين الله هنات فتب إلى الله من عملك فقال إياى تخوف بالله اسندوني قال فأسندناه فقال حدثنى حماد بن سلمه (10/227)
عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( لكل نبى شفاعة وإني اختبأت شفاعتى لأهل الكبائر من أمتى يوم القيامة ) ثم قال أفلا تراني منهم وقال أبو نواس ما قلت الشعر حتى رويت عن ستين امرأة منهن خنساء وليلى فما الظن بالرجال وقال يعقوب بن السكيت إذا رويت الشعر عن امرئ القيس والأعشى من أهل الجاهلية ومن الاسلاميين جرير والفرزدق ومن المحدثين عن أبي نواس فحسبك وقد أثنى عليه غير واحد منهم الأصمعي والجاحظ والنظام قال أبو عمرو الشيباني لولا أن أبا نواس أفسد شعره بما وضع فيه من الأقذار لا حتججنا به يعنى شعره الذي قاله في الخمريات والمردان وقد كان يميل إليهم ونحو ذلك مما هو معروف في شعره
واجتمع طائفة من الشعراء عند المأمون فقيل لهم أيكم القائل ... فلما تحساها وقفنا كأننا ... نرى قمرا في الأرض يبلغ كوكبا ...
قالوا أبو نواس قال فأيكم القائل ... إذا نزلت دون اللهاة من الفتى ... دعى همه عن قبله برحيل ...
قالوا أبو نواس قال فأيكم القائل ... فتمشت في مفاصلهم ... كتمشى البرؤ في السقم ...
قالوا أبو نواس قال فهو أشعركم وقال سفيان بن عيينة لابن مناذر ما أشعر ظيفكم أبا نواس في قوله ... يا قمرا أبصرت في مأتم ... يندب شجو بين أتراب ... أبرزه المأتم لي كارها ... برغم ذي باب وحجاب ... يبكي فيذري الدر من عينه ... ويلطم الورد يعناب ... لا زال موتا دأب أحبابه ... ولم تزل رؤيته دابي ...
قال ابن الأعرلبي أشعر الناس أبو نواس في قوله ...
تسترت من دهري بكل جناحه
... فعينى ترى دهرى وليس يراني ... فلو تسأل الأيام عني ما درت ... وأين مكاني ما عرفن مكاني ...
وقال أبو العتاهية قلت في الزهد عشرين ألف بيت وددت أن لي مكانها الأبيات الثلاثة التي قالها أبو نواس وهي هذه وكانت مكتوبه على قبره ... يا نواسي توقر ... أو تغير أو تصبر ... إن يكن ساءك دهر ... فلما سرك أكثر ... يا كثير الذنب ... عفو الله من ذنبك أكبر ...
ومن شعر أبي نواس يمدح بعض الأمراء (10/228)
أوجده اله فما مثله ... بطالب ذالك ولا ناشد ... ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد ...
وأنشد سفيان بن عيينة قول أبي نواس ...
ما هوى إلا له سبب ... يبتدي منه وينشعب ... فتنت قلبي نحجبة ... وجهها بالحسن منتقب ... خلته والحسن تأخذه ... تنتقي منه وتنتخب ... فاكتست منه طرائفه ... واستردت بعض ماتهب ... فهي لو صيرت فيه لها ... عودة لم يثنها أرب ... صار جدا ما مزحت به ... رب جد جره اللعب ...
فقال ابن عيينة آمنت بالذي خلقها وقال ابن دريد قال أبو حاتم لو أن العامة بدلت هذين البيتين كتبتهما بماء الذهب ... ولو أني استزدتك فوق مابي ... من البلوى لأعوزك المزيد ... ولو عرضت على الموتى حياتي ... بعيش مثل عيشش لم يريدوا ...
وقد سمع أبو نواس حديث سهيل عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ( القلوب جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف ) فنظم ذلك في قصيدة له فقال ... إن القلوب لأجناد مجندة ... لله في الأرض بالأهواء تعترف ... فما تناكر منها فهو مختلف ... وما تعارف منها فهو مؤتلف ...
ودخل يوما أبو نواس مع جماعة من المحدثين على عبد الواحد بن زياد فقال لهم عبد الواحد ليختر كل واحد منكم عشرة أحاديث أحدثه بها فاختار كل واحد عشرة إلا أبا نواس فقال له مالك لا تختار كما اختاروا فأنشأ يقول ... ولقد كنا روينا ... عن سعيد عن قتادة ... عن سعيد بن المسيب ... ثم سعد بن عباده ... وعن الشعبي والشعبي ... شيخ ذو جلاده ... وعن الأخيار نحكي ... وعن أهل الافادة ... أن من مات محبا ... فله أجر شهادة ...
فقال له عبد الواحد قم عني يا فاجر لا حدثتك ولا حدثت أحدا من هؤلاء من أجلك فبلغ ذلك مالك بن أنس وإبراهيم بن أبي يحي فقالا كان ينبغي أن يحدثه لعل الله أن يصلحه
قلت وهذا الذي انشده أبو نواس قد رواه ابن عدي في كامله عن ابن عباس موقوفا ومرفوعا من عشق فعف فكتم فمات شهيدا ومعناه أن من ابتلى بالعشق من غير اختيار منه فصبر (10/229)
وعف عن الفاحشة ولم يفش ذلك فمات بسبب ذلك حصل له أجر كثير فإن صح هذا كان ذلك له نوع شهادة والله أعلم
وروى الخطيب أيضا أن شعبة لقى أب نواس فقال له حدثنا من طرفك فقال مرتجلا حدثنا الخفاف عن وائل وخالد الحذاء عن جابر ومسعر عن بعض أصحابه يرفعه الشيخ إلى عامر قالوا جميعا أيما طفلة علقها ذو خلق طاهر فواصلته ثم دامت له على وصال الحافظ الذاكر كانت له الجنة مفتوحة يرتع في مرتعها الزاهر وأى معشوق جفا عاشقا بعد وصال دائم ناصر ففي عذاب الله بعدا له نعم وسحقا دائم ذاخر فقال له شعبة إنك لجميل الأخلاق وإني لأرجو لك وأنشد أبو نواس أيضا ... يا ساحر المقلتين والجيد ... وقاتلي منك بالمواعيد ... توعدني الوصل ثم تخلفني ... ويلاي من خلفك موعودي ... حدثنى الأزرق المحث عن ... شهر وعوف عن ابن مسعود ... ما يخلف الوعد غير كافرة ... وكافر في الجحيم مصفود ...
فبلغ ذلك إسحاق بن يوسف الأزرق فقال كذب عدو الله على وعلى التابعين وعلى أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم وعن سليم بن منصور بن عمار قال رأيت أبا نواس في مجلس أبي يبكي بكاء شديدا فقلت إني لأرجوا أن لا يعذبك الله بعد هذا البكاء فأنشأ يقول ... لم أبك في مجلس منصور ... شوقا إلى الجنة والحور ... ولا من القبر وأهواله ... ولا من النفخة في الصور ... ولا من النار وأغلالها ... ولا من الخذلان والجور ... لكن بكائي لكا شادن ... تقيه نفسى كل محذور ...
ثم قال إنما بكيت لبكاء هذا الأمرد الذي إلى جانبي أبيك وكان صبيا حسن الصورة يسمع الوعظ فيبكي خوفا من الله عز و جل
قال أبو نواس دعاني يوما بعض الحاكة وألح على ليضيفنى في منزله ولم يزل بي حتى أجبته فسار إلى منزله وسرت معه فإذا منزل لا بأس به وقد احتفل الحائك في الطعام وجمع جمعا من الحياك فأكلنا وشربنا ثم قال يا سيدي أشتهى أن تقول في جاريتى شيئا من الشعر وكان مغرما بجارية له قال فقلت أرنيها حتى أنظم على شكلها وحسنها فكشف عنها فإذا هي أسمج خلق الله وأوحشهم سوداء شمطاء ديدانية يسيل لعابها على صدرها فقلت لسيدها ما اسمها فقال تسنيم فأنشأت أقول ... أسهر ليلى حب تسنيم ... جارية في الحسن كالبوم ... كأنما نكهتها كامخ ... أو حزمة من حزم الثوم (10/230)
ضرطت من حبي لها ضرطة ... أفرعت منها ملك الروم ...
قال فقام الحائك يرقص ويصفق سائر يومه ويفرح ويقول إنه شبهها والله بملك الروم ومن شعره أيضا ... أبرمنى الناس يقولون ... بزعمهم كثرت اوزارية ... إن كنت في النار أم في جنة ... ماذا عليكم يابنى الزانية ...
وبالجملة فقد ذكروا له أمورا كثيرة ومجونا وأشعارا منكرة وله في الخمريات والقاذروات والتشبب بالمردان والنسوان أشياء بشعة شنيعة فمن الناس من يفقه ويرميه بالفاحشة ومنهم من يرميه بالزندقة ومنهم من يقول كان إنما يخرب على نفسه والأول أظهر لما في أشعاره فأما الزندقة فبعيدة عنه ولكن كان فيه مجون وخلاعة كثيرة وقد عزوا إليه في صغره وكبره أشياء منكرة الله أعلم بصحتها والعامة تنقل عنه أشياء كثيرة لاحقيقة لها وفي صحن جامع دمشق قبة يفور منها الماء يقول الدماشقة قبة أبي نواس وهي مبنية بعد موته بأزيد من مائة وخمسين سنة فما أدري لأى شئ نسبت إليه فالله أعلم بهذا
وقال محمد بن أبي عمر سمعت أبا نواس يقول والله ما فتحت سراويلي لحرام قط وقال له محمد الأمين بن الرشيد أنت زنديق فقال يا امير المؤمنين لست بزنديق وأنا أقول ... أصلى الصلاة الخمس في حين وقتها ... وأشهد بالتوحيد لله خاضعا ... وأحسن غسلى إن ركبت جنابة ... وإن جاءني المسكين لم أك مانعا ... وإني إن حانت من الكاس دعوة ... إلى بيعة الساقي أجبت مسارعا ... وأشهر بها صرفا على جنب ما عز ... وجدي كثير الشخم أصبح راضعا ... وجواذب حواري ولوز وسكر ... وما زال للخمار ذلك نافعا ... وأجعل تخليط الروافض كلهم ... لنفخة بختيشوع في النار طائعا ...
فقال له الأمين ويحك وما الذي ألجأك إلى نفخة بختيشوع فقال به تمت القافية فأمر له بجائزة وبختيشوع الذي ذكره هو طبيب الخلفاء وقال الجاحظ لا أعرف في كلام الشعراء أرق ولا أحسن من قول أبي نواس حيث يقول ... أيه نار قدح القادح ... وأى جد بلغ المازح ... لله در الشيب من واعظ ... وناصح لو خطئ الناصح ... يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ... ومنهج الحق له واضح ... فاسم بعينيك إلى نسوة ... مهورهن العمل الصالح ... لا يجتلي الحوراء في خدرها ... إلا امرؤ ميزانه راجح (10/231)
من اتقي الله فذاك الذي ... سيق إليه المتجر الرابح ... فاغد فما في الدين أغلوطة ... ورح لما أنت له رائح ...
وق استنشده أبو عفان قصيدته التي في أولها لا تنس ليلى ولا تنظر إلى هند فلما فرغ منها سجد له أبو عفان فقال له أبو نواس والله لا أكلمك مدة قال فغمنى ذلك فلما أردت الانصراف قال متى أراك فقلت ألم تقسم فقال الدهر أقصر من أن يكون معه هجر
ومن مستجاد شعره قوله ... ألا رب وجه في التراب عتيق ... ويارب حسن في التراب رقيق ... ويارب حزم في التراب ونجده ... ويارب رأى في التراب وثيق ... فقل لقريب الدار إنك ظاعن ... إلى سفر نائي المحل سحيق ... أرى كل حي هالكا وابن هالك ... وذا نسب في الهالكين عريق ... إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عده في لباس صديق ... وقوله ... لا تشرهن فإن الذل في الشرة ... والعز في احلم لا في الطيش والسفه ... وقل لمغتبط في التيه من حمق ... لو كنت تعلم ما في التيه لم تته ... التيه مفسدة للدين منقصة ... للعقل مهلكة للعرض فانتبه ...
وجلس أبو العتاهية القاسم بن إسماعيل على دكان وراق فكتب على ظهر دفتر هذه الأبيات ... أيا عجبا كيف يعصى الاله ... أم كيف يجحده الجاحد ... وفي كل شئ له آية ... تدل على إنه الواحد ...
ثم جاء أبو نواس فقرأها فقال أحسن قائله والله والله لوددت أنها لى بجميع شئ قلته لمن هذه قيل له لأبي العتاهية فأخذ فكتب في جانبها ... سبحان من خلق الخلق ... من ضعف مهين ... يسوقه من قرار ... إلى قرار مكين ... يخلق شيئا فشيئا ... في الحجب دون العيون ... حتى بدت حراكات
مخلوقة في سكون
...
ومن شعره المستجاد قوله ... انقطت شدتي فعفت الملاهي إذ ... رمى الشيب مفرقي بالدواهي ... ونهتني لانهى فملت إلى العدل ... وأشفقت من مقالة ناهي ... أيها الغافل المقر على السهو ... ولا عذر في المعاد لساهي (10/232)
لا بأعمالنا نطيق خلاصا ... يوم تبدو السماء فوق الجباه ... على أنا على الاساءة والتفريط ... نرجو من حسن عفو الاله ... وقوله ... نموت ونبلى غير أن ذنوبنا ... إذا نحن متنا لا تموت ولا تبلى ... ألا رب ذي عينين لا تنفعانه ... وما تنفع العينان من قلبه أعمى ... وقوله ... لو أن عينا أوهمتها نفسها ... يوم الحساب ممثلا لم تطرف ... سبحان ذي الملكوت أية ليلة ... حمقت صبيحتها بيوم الموقف ... كتب الفناء على البرية ربها ... فالناس بين مقدم ومخلف ...
وذكر أن أبا نواس لما أراد الاحرام بالحج قال ... يا مالكا ما أعدلك مليك كل من ملك ... لبيك إن الحمد لك والملك لا شريك لك ... عبدك قد أهل لك أنت له حيث سلك ... لولاك يارب هلك لبيك إن الحمد لك ... والملك لا شريك لك والليل لما أن حلك ... والسابحات في الفلك على مجاري تنسلك ... كل نبي وملك وكل من أهل لك ... سبح أو صلى فلك لبيك إن الحمد لك ... والملك لاشريك لك يا مخطئا ما أجهلك ... عصيت ربا عدلك وأقدرك وأمهلك ... عجل وبادر أملك واختم بخير عملك ... لبيك إن الحمد لك والملك لا شريك لك ...
وقال المعافي بن زكريا الحريري ثنا محمد بن العباس بن الوليد سمعت أحمد بن يحي بن ثعلب يقول دخلت على أحمد بن حنبل فرأيت رجلا تهمه نفسه لا يحب أن يكثر عليه كأن النيران قد سعرت بين يديه فمازلت أترفق به وتوسلت إليه أني من موالي شيبان حتى كلمنى فقال في أى شئ نظرت من العلوم فقلت في اللغة والشعر قال رأيت بالبصرة جماعة يكتبون عن رجل الشعر قيل لي هذا أبو نواس فتخللت الناس ورائي فلما جلست إليه أملى علينا ... إ ذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل ... خلوت ولكن في الخلاء رقيب ... ولا تحسبن الله يغفل ساعة ... ولا آثما يخفى عليه يغيب ... لهونا عن الآثام حتى تتابعت ... ذنوب على آثارهن ذنوب ... فياليت أن الله يغفر ما مضى ... ويأذن في توباتنا فنتوب ...
وزاد بعضهم في رواية عن أبي نواس بعد هذه الأبيات ... أقول إذا ضاقت علي مذاهبي ... وحلت بقلبي للهموم ندوب ... لطول جناياتي وعظم خطيئتي ... هلكت ومالي في المتاعب نصيب ... واغرق في بحر المخافة آيسا ... وترجع نفسي تارة فتتوب (10/233)
وتذكرني عفو الكريم عن الورى ... فأحيا وأرجو عفوه فأنيب ... وأخضع في قول وأرغب سائلا ... عسى كاشف البلوى على يتوب ...
قال ابن طراز الجريرى وقد رويت هذه الابيات لمن قيل لأبي نواس وهي في زهدياته وقد استشهد بها النحاة في أماكن كثيرة قد ذكرناها وقال حسن بن الداية دخلت على أبي نواس وهو في مرض الموت فقلت عظني فأنشأ يقول ... فكثر ما استطعت من الخطايا ... فإنك لاقيا ربا غفورا ... ستبصر إن وردت عليه غفوا ... وتلقى سيدا ملكا قديرا ... تعض ندامة كفيك مما ... تركت مخافة النار الشرورا ...
فقلت ويحك بمثل هذا الحال تعظني بهذه الموعظة اسكت حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال قال صلى الله عليه و سلم ( ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي وقد ) تقدم بهذا الاسناد عنه ( لا يموتن أحدكم إلا وهويحسن الظن بالله ) وقال الربيع وغيره عن الشافعي قال دخلنا على أبي نواس في اليوم الذي مات فيه وهو يجود بنفسه فقلنا ما أعددت لهذا اليوم فأنشأ يقول ... تعاظمنى ذنوبي فلما قرنته ... بعفوك ربي كان عفوك أعظما ... ومازلت ذا عفو عن الذنب لم تزل ... تجود وتعفو منه وتكرما ... ولولاك لم يقدر لا بليس عابد ... وكيف وقد أغوى صفيك آدما ...
رواه ابن عساكر وروى أنهم وجدوا عند رأسه رقعه مكتوبا فيها بخطه ... يارب إن عظمت ذنوبي كثرة ... فلقد علمت بأن عفوك أعظم ... أدعوك ربي كما أمرت تضرعا ... فاذا رددت يدي فمن ذا يرحم ... ان كان لا يرجوك إلا محسن ... فمن الذي يرجو المسئ المجرم ... مالي اليك وسيلة إلا الرجا ... وجميل عفوك ثم أني مسلم ...
وقال يوسف بن الداية دخلت عليه وهو في السياق فقلت كيف تجدك فأطرق مليا ثم رفع رأسه فقال ... دب في الفناء سفلا وعلوا ... وأراني أموت عضوا فعضوا ... ليس يمضى من لحظة بي إلا ... نقصتنى بمرها في جزوا ... ذهبت جدتي بلذة عيشى ... وتذكرت طاعة الله نضوا ... قد أسأنا كل الإساءة فاللهم ... صفحا عنا وغفرا وعفوا ...
ثم مات من ساعته سامحنا الله وإياه آمين
وقد كان نقش خاتمه لا إله إلا الله مخلصا فأوصى أن يجعل في فمه إذا غسلوه ففعلوا به ذلك ولما (10/234)
مات لم يجدوا له من المال سوى ثلثمائة درهم وثيابه وأثاثه وقد كانت وفاته في هذه السنة ببغداد ودفن في مقابر الشونيزي في تل اليهود وله خمسون سنة وقيل ستون سنة وقيل تسع وخمسون سنة وقد رآه بعض أصحابه في المنام فقال له مافعل الله بك فقال غفر لى بأبيات قلتها في النرجس ... تفكر في نبات الأرض وانظر ... إلى آثار ما صنع المليك ... عيون من لجين شاخصات ... بأبصار هي الذهب السبيك ... على قضب الزبر جد شاهدات ... بأن الله ليس له شريك ...
وفي رواية عنه أنه قال غفر لي بأبيات قلتها وهي تحت وسادتي فجاؤا فوجدوها برقعة في خطه ... يارب إن عظمت ذنوبي كثيرة ... فلقد علمت أن عفوك أعظم ...
الأبيات وقد تقدمت وفي رواية لابن عساكر قال بعضهم رأيته في المنام في هيئة حسنة ونعمة عظيمة فقلت له ما فعل الله بك قال غفر لي قلت بماذا وقد كنت مخلطا على نفسك فقال جاء ذات ليلة رجل صالح إلى المقابر فبسط رداءه وصلى ركعتين قرأ فيها ألفى قل هو الله أحد ثم أهدى ثواب ذلك لأهل تلك المقابر فدخلت أنا في جملتهم فغفر الله لي وقال ابن خلكان أول شعر قاله أبو نواس لما صحب أبا أسامه والبة بن الحباب ... حامل الهوى تعب يستخفه الطرب ... إن بكى يحق له ليس ما به لعب ... تضحكين لاهية والمحب ينتحب ... تعجبين من سقمى صحتى هي العجب ...
وقال المأمون ما أحسن قوله ... وما الناس إلا هالك وابن هالك ... وذو نسب في الهالكين عريق ... إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في لباس صديق ...
قال ابن خلكان وما أشد رجاءه بربه حيث يقول ... تحمل ما استطعت من الخطايا ... فإنك لاقيا ربا غفورا ... ستبصر إن قدمت عليه عفوا ... وتلقى سيدا ملكا كبيرا ... تعض ندامة كفيك مما ... تركت مخافة النار الشرورا ...
ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائة
فيها توفي أبو معاوية الضرير أحد مشايخ الحديث الثفات المشهورين والوليد بن مسلم الدمشقي تلميذ الأوزاعي وفيها حبس الأمين أسد بن يزيد لأجل أنه نقم على الأمين لعبه وتهاونه في أمر الرعية وارتكابه للصيد وغيره في هذا الوقت وفيها وجه الأمين أحمد بن يزيد وعبد الله بن حميد ابن قحطبة في أربعين ألفا إلى حلوان لقتال طاهر بن الحسين من جهة المأمون فلما وصلوا إلى قريب (10/235)
من حلوان خندق طاهر على جيشه خندقا وجعل يعمل الحيلة في إيقاع الفتنة بين الأميرين فاختلفا فرجعا ولم يقاتلاه ودخل طاهر إلى حلوان وجاءه كتاب المأمون بتسليم ما تحت يده الى هرثمه بن أعين وأن يتوجه هو الى الاهواز ففعل ذلك وفيها رفع المأمون وزيره الفضل بن سهل وولاه أعمالا كبارا وسماه ذا ا الرياستين وفيها ولي الأمين نيابة الشام لعبد الملك بن صالح بن على وقد كان أخرجه من سجن الرشيد وأمره أن يبعث له رجالا وجنودا لقتال طاهر وهرثمة فلما وصل إلى وقعت حروب كان مبدؤها من أهل حمص وتفاقم الأمر وطال القتال بين الناس ومات عبد الملك ابن صالح هنالك فرجع الجيش إلى بغداد صحبة الحسين بن على بن ماهان فتلقاه أهل بغداد بالاكرام وذلك في شهر رجب من هذه السنة فلما وصل جاء رسول الله الأمين يطلبه فقال والله ما أنا بمسامر ولا مضحك ولا وليت له عملا ولا جبي على يدي مالا فلماذا يطلبني في هذه الليلة
سبب خلع الأمين وكيف افضت الخلافة الى أخيه المأمون
لما أصبح الحسين بن على بن ماهان ولم يذهب إلى الأمين لما طلبه وذلك بعد مقدمة بالجيش من الشام قام في الناس خطيبا وألبهم على الأمين وذكر لعبه وما يتعاطاه من اللهو وغير ذرك من المعاصي وأنه لا تصلح الخلافه لمن هذا حاله وأنه يريد أن يوقع البأس بين الناس ثم حثهم على القيام عليه والنهوض إليه وندبهم لذلك فالتف عليه خلق كثير وحم غفير وبعث محمد الأمين إليه خيلا فاقتتلوا مليا من النهار فأمر الحسين أصحابه بالترجل إلى الأرض وأن يقاتلوا بالسيف والرماح فانهزم جيش الأمين وخلعه وأخذ البيعة لعبد الله المأمون وذلك يوم الأحد الحادي عشر من شهر رجب من هذه السنة ولما كان يوم الثلاثاء نقل الأمين من قصره إلى قصر أبي جعفر وسط بغداد وضيق عليه وقيده واضطهده وأمر العباس بن عيسى بن موسى أمه زبيدة أن تنتقل إلى هناك فامتنعت فضربها بالسوط وقهرها على الانتقال فنتقلت مع أولادها فلما أصبح الناس يوم الأربعاء طلبوا من الحسين بن على أعطياتهم واختلفوا عليه وصار أهل بغداد فرقتين فرقة مع الأمين وفرقة عليه فاقتتلوا قتالا شديدا فغلب حزب الخليفة أولئك وأسروا الحسين بن على ابن عيسى بن ماهان وقيدوه ودخلوا به على الخليفة ففكوا عنه قيوده وأجلسوا على سريره فعند ذلك أمر الخليفة من لم يكن معه سلاح من العامة أن يعطى سلاحا من الخزائن فانتهب الناس الخزائن التي فيها السلاح بسبب ذلك وأمر الأمين فأتى بالحسين بن على بن عيسى فلامه على ما صدر منه فاعتذر إليه بأن عفو الخليفة حمله على ذلك فعفا عنه وخلع عليه واستوزره وأعطاه (10/236)
الخاتم وولاه ما وراء بابه وولاه الحرب وسيره إلى حلوان فلما وصل إلى الجسر هرب في حاشيته وخدمه فبعث إليه الأمين من يرده فركبت الخيول وراءه فأدركوه فقاتلهم وقاتلوه فقتلوه لمنتصف رجب وجاؤا برأسه إلى الأمين وجدد الناس البيعة للأمين يوم الجمعة ولماقتل الحسين بن على بن عيسى هرب الفضل بن الربيع الحاجب واستحوذ طاهر بن الحسين على أكثر البلاد للمأمون واستناب بها النواب وخلع أكثر أهل الأقاليم الأمين وبايعوا المأمون ودنا طاهر إلى المدائن فأخذها مع واسط وأعمالها واستناب من جهته على الجهاز واليمن والجزيرة والموصل وغير ذلك ولم يبق مع الأمين من البلاد إلا القليل وفي شعبان منها عقد الأمين أربعمائة لواء مع كل لواء أمير وبعثهم لقتال هرثمة فالتقوا في شهر رمضان فكسرهم هرثمة وأسر مقدمهم على بن محمد بن عيسى بن نهيك وبعث به إلى المأمون وهرب جماعة من جند طاهر فساروا إلى الأمين فأعطاهم أموالا كثيرة وأكرمهم وغلف لحاهم بالغالية فسموا جيش الغالية ثم ندبهم الأمين وأرسل معهم جيشا كثيفا لقتال طاهر فهزمهم طاهر وفرق شملهم وأخذ ما كان معهم واقترب طاهر من بغداد فخاصرها وبعث القصاد والجواسيس يلقون الفتنة بين الجند حتى تفرقوا شيعا ثم وقع بين الجيش وتشعبت الأصاغر على الأكابر واختلفوا على الأمين في سادس دي الحجة فقال بعض البغاددة ... قل لأمين الله في نفسه ... ماشئت الجند سوى الغالية ... وطاهر نفسي فدا طاهر ... برسله والعدة الكافية ... أضحى زمام الملك في كفه ... مقاتلا للفئة الباغية ... يا ناكثا أسلمه نكثه ... عيوبه في خبثه فاشيه ... قد جاءك الليث بشداته ... مستكلبا في أسد ضارية ... فاهرب ولا مهرب من مثله ... إلا إلى النار أو الهاوية ...
فتفرق على الأمين شمله وحار في أمره وجاء بن الحسين بجيوشه فنزل على باب الأنبار يوم الثلاثاء لثنتى عشرة ليلة خلت من ذي الحجة واشتد الحال على أهل البلد وأخاف الدعار والشطار أهل الصلاح وخربت الديار وثارت الفتنة بين الناس حتى قاتل الأخ أخاه للاهواء المختلفه والابن أباه وجرت شرور عظيمة واختلفت الأهواء وكثر الفساد والقتل داخل البلد
وحج بالناس فيها العباس بن موسى بن عيسى الهاشمى من قبل طاهر ودعا للمأمون بالخلافة بمكة والمدينة وهو أول موسم دعى فيه للمأمون
وفيها توفي بقيه بن الوليد الحمصى إمام اهل حمص وفقيهها ومحدثها (10/237)
وحفص بن غياث القاضي
عاش فوق التسعين ولما احتضر بكى بعض أصحابه فقال له لا تبك والله ما حللت سراويلي على حرام قط ولا جلس بين يدي خصمان فباليت على من وقع الحكم عليه منهما قريبا كان أو بعيدا ملكا أو سوقة
وعبد الله بن مرزوق أبو محمد الزاهد كان وزيرا للرشيد فترك ذلك كله وتزهد وأوصى عند موته أن يطرح قبل موته على مزبلة لعل الله أن يرحمه
ابو شيص
الشاعر محمد بن زريق بن سليمان كان أستاذ الشعراء وإنشاء الشعر ونظمه أسهل عليه من شرب الماء كذا قال ابن خلكان وغيره وكان هو وأبو مسلم بن الوليد الملقب صريع الغواني وأبو نواس ودعبل يجتمعون ويتناشدون وقد عمى أبو الشيص في آخر عمره ومن جيد شعره قوله ... وقف الهوى بي حيث أنت فليس لى ... متأخر عنه ولا متقدم ... أجد الملامة في هواك لذيذة ... حبا لذكرك فليلمنى اللوم ... أشبهت أعدائي فصرت أحبهم ... إذ كان حظي منك حظي منهم ... وأهنتنى فأهنت نفسي صاغرا ... ما من يهون عليك ممن تكرم ...
ثم دخلت سنة سبع وتسعين ومائة
استهلت هذه السنة وقد ألح طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين ومن معهما في حصار بغداد والتضييق على الأمين وهرب القاسم بن الرشيد وعمه منصور بن المهدي إلى المأمون فأكرمهما وولي أخاه القاسم جرجان واشتد حصار بغداد ونصب عليها المجانيق والعرادات وضاق الأمين بهم ذرعا ولم يبق معه ما ينفق في الجند فاضطر إلى ضرب آنية الفضة والذهب دراهم ودنانير وهرب كثير من جنده إلى طاهر وقتل من أهل البلد خلق كثير وأخذت أموال كثيرة منهم وبعث الأمين إلى قصور كثيرة ودور شهيرة مزخرفة وأماكن ومحال كثيرة فحرقها بالنار لما رأى في ذلك من المصلحة فعل كل هذا فرارا من الموت ولتدوم الخلافة له فلم تدم وقتل وخربت دياره كما سيأتي قريبا وفعل طاهر مثل ما فعل الأمين حتى كادت بغداد تخرب بكمالها فقال بعضهم في ذلك ... من ذا أصابك يا بغداد ... ألم تكوني زمانا قرة العين ... ألم يكن فيك قوم كان مسكنهم ... وكان قربهم زينا من الزين ... صاح الغراب بهم بالبين فافترقوا ... ماذا لقيت بهم من لوعة البين ... استودع الله قوما ما ذكرتهم ... إلا تحدر ماء العين من عيني (10/238)
كانوا ففرقهم دهر وصدعهم ... والدهر يصدع ما بين الفريقين ...
وقد أكثر الشعراء في ذلك وقد أورد ابن جرير من ذلك طرفا صالحا وأورد في ذلك قصيدة طويلة جدا فيها بسط ما وقع وهي هول من الأهوال اقتصرناها بالكلية
واستحوذ طاهر على ما في الضياع من الغلات والحواصل للأمراء وغيرهم ودعاهم إلى الأمان والبيعة للمأمون فاستجابوا جميعهم منهم عبد الله بن حميد بن قحطبة ويحي بن على بن ماهان ومحمد بن أبي العباس الطوسى وكاتبه خلق من الهاشمين والأمراء وصارت قلوبهم معه واتفق في بعض الأيام أن ظفر أصحاب الأمين ببعض أصحاب طاهر فقتلوا منهم طائفة عند قصر صالح فلما سمع الأمين بذلك بطر وأشر وأقبل على اللهو والشرب واللعب ووكل الأمور وتدبيرها إلى محمد بن عيسى بن نهيك ثم قويت شوكة أصحاب طاهر وضعف جانب الأمين جدا وانحاز الناس إلى جيش طاهر وكان جانبه آمنا جدا لا يخاف أحد فيه من سرقة ولا نهب ولا غير ذلك وقد أخذ طاهر أكثر محال بغداد وأرباضها ومنع الملاحين أن يحملوا طعاما إلى من خالفه فغلبت الاسعار جدا عند من خالفه وندم من لم يكن خرج من بغداد قبل ذلك ومنعت التجار من القدوم إلى بغداد بشئ من البضائع أو الدقيق وصرفت السفن إلى البصرة وغيرها وجرت بين الفريقين حروب كثيرة فمن ذلك وقعة درب الحجارة كانت لأصحاب الأمين قتل فيها خلق من أصحاب طاهر كان الرجل من العيارين والحرافشة من البغاددة يأتي عريانا ومعه بارية مقيرة وتحت كتفه مخلاة فيها حجارة فاذا ضربه الفارس من بعيد بالسهم اتقاه بباريته فلا يؤذيه وإذا اقترب منه رماه بحجر في المقلاع أصابه فهزموهم لذلك ووقعة الشماسية أسر فيها هرثمة بن أعين فشق ذلك على طاهر وأمر بعقد جسر على دجلة فوق الشماسية وعبر طاهر بنفسه ومن معه إلى الجانب الآخر فقاتلهم بنفسه أشد القتال حتى أزالهم عن مواضعهم واسترد منهم هرثمة وجماعة ممن كانوا أسروهم من أصحابه فشق ذلك على محمد الأمين وقال في ذلك ... منيت بأشجع الثقلين قلبا ... إذا ما طال ليس كما يطول ... له مع كل ذي بدد رقيب ... يشاهده ويعلم ما يقول ... فليس بمغفل أمرا عنادا ... إذا ما الأمر ضيعة الغفول ...
وضعف أمر الأمين جدا ولم يبق عنده مال ينفقه على جنده ولا على نفسه وتفرق أكثر أصحابه عنه وبقي مضطهدا ذليلا ثم انقضت هذه السنة بكمالها والناس في بغداد في قلاقل وأهوية مختلفة وقتال وحريق وسرقات وساءت بغداد فلم يبق فيها أحد يرد عن أحدكما هي عادة الفتن وحج بالناس فيها العباس بن موسى الهاشمي من جهة المأمون وفيها توفي شعيب بن حرب أحد (10/239)
الزهاد وعبد الله بن وهب إمام إهل الديار المصرية وعبدالرحمن بن مسهر أخو على بن مسهر وعثمان بن سعيد الملقب بورش أحد القراء المشهورين الرواة عن نافع بن أبي نعيم ووكيع بن الجراح الرواسي أحد أعلام المحدثين مات عن ست وستين سنة
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ومائة
فيها خامر خزيمة بن خازم على محمد الأمين وأخذ الأمان من طاهر ودخل هرثمة بن أعين من الجانب الشرقي وفي يوم الأربعاء لثمان خلون من المحرم وثب خزيمة بن خازم ومحمد بن على بن عيسى على جسر بغداد فقطعاه ونصبا رايتهما عليه ودعوا إلى بيعة عبد الله المأمون وخلع محمد الأمين ودخل طاهر يوم الخميس إلى الجانب الشرقي فباشر القتال بنفسه ونادى بالأمان لمن لزم منزله وجرت عند دار الرقيق والكرخ وغيرهما وقعات وأحاطوا بمدينة أبي جعفر والخلد وقصر زبيدة ونصب المجانيق حول السور وحذاء قصر زبيدة ورماه بالمنجنيق فخرج الأمين بأمه وولده إلى مدينة أبي جعفر وتفرق عنه عامة الناس في الطريق لا يلوى أحد على أحد حتى دخل قصر أبي جعفر وانتقل من الخلد لكثرة ما يأتيه فيه من رمى المنجنيق وأمر بتحريق ما كان فيه من الأثاث والبسط والأمتعة وغيرذلك ثم حصر حصرا شديدا ومع هذه الشدة والضيق وإشرافه على الهلاك خرج ذات ليلة في ضوء القمر إلى شاطئ دجلة واستدعى بنبيذ وجارية فغنته فلم ينطلق لسانها إلا بالفراقيات وذكر الموت وهو يقول غير هذا وتذكر نظيره حتى غنته آخر ما غنته ... أما ورب السكون والحرك ... إن المنايا كثيرة الشرك ... ما اختلف الليل والنهار ولا ... دارت نجوم السماء في الفلك ... إلا لنقل السلطان من ملك ... قد انقضى ملكه إلى ملك ... وملك ذي العرش دائم أبدا ... ليس بفان ولا بمشترك ...
قال فسبها وأقامها من عنده فعثرت في قدح كان له بلور فكسرته فتطير بذلك ولما ذهبت الجارية سمع صارخا يقول قضى الأمر الذي فيه تستفتيان فقال لجليسه ويحك ألا تسمع فتسمع فلا يسمع شيئا ثم عاد الصوت بذلك فما كان إلا ليلة أو ليلتان حتى قتل في رابع صفر يوم الأحد وقد حصل له من الجهد والضيق في حصره شيئا كثيرا بحيث إنه لم يبق له طعام يأكله ولا شراب بحيث إنه جاع ليلة فما أتى برغيف ودجاجة إلا بعد شدة عظيمة ثم طلب ماء فلم يوجد له فبات عطشانا فلما أصبح قتل قبل أن يشرب الماء
كيفية مقتله
لما اشتد به الأمر اجتمع عنده من بقي معه من الأمراء والخدم والجند فشاورهم في أمره فقالت (10/240)
طائفة تذهب بمن بقي معك إلى الجزيرة أو الشام فتتقوى بالأموال وتستخدم الرجال وقال بعضهم تخرج إلى طاهر وتأخذ منه أمانا وتبايع لأخيك فإذا فعلت ذلك فإن أخاك سيأمر لك بما يكفيك ويكفي أهلك من أمر الدنيا وغاية مرادك الدعة والراحة وذلك يحصل لك تاما وقال بعضهم بل هرثمة أولى بأن يأخذ لك منه الأمان فانه مولاكم وهو أخى عليك فمال إلى ذلك فلما كانت ليلة الأحد الرابع من صفر بعد عشاء الآخرة واعد هرثمة أن يخرج إليه ثم لبس ثياب الخلافة وطيلسانا واستدعى بولديه فشمهما وضمهما إليه وقال أستودعكما الله ومسح دموعه بطرف كمه ثم ركب على فرس سوداء وبين يديه شمعة فلما انتهى إلى هرثمة أكرمه وعظمه وركبا في حراقة في دجلة وبلغ هذا كله إلى هرثمة فلحقهما وهما في الحراقة فأمالها أصحابه فغرق من فيها غير أن الأمين سبح إلى الجانب الآخر وأسره بعض الجند وجاء فأعلم طاهرا فبعث إليه جندا من العجم فجاؤا إلى البيت الذي هو فيه وعنده بعض أصحابه وهو يقول له ادن منى فاني أجد وحشة شديدة وجعل يلتف في ثيابه شديدا وقلبه يخفق خفقانا عظيما كاد يخرج من صدره فلما دخل عليه أولئك قال إنا لله وإنا إليه راجعون ثم دنا منه أحدهم فضربه بالسيف على مفرق رأسه فجعل يقول ويحكم أنا ابن عم رسول الله صلى الله عليه و سلم أنا ابن هارون أنا أخو المأمون الله الله في دمى فلم يلتفتوا إلى شئ من ذلك بل تكاثروا عليه وذبحوه من قفاه وهو مكبوب على وجهه وذهبوا برأسه إلى طاهر وتركوا جثته ثم جاؤا بكرة إليها فلفوها في جل فرس وذهبوا بها وذلك ليلة الأحد لأربع ليال خلت من صفر من هذه السنة
شيء من ترجمته
هو محمد الأمين بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن المنصور أبو عبد الله ويقال أبو موسى الهاشمى العباسي وأمه أم جعفر زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور كان مولده بالرصافة سنة سبعين ومائة [ قال أبو بكر بن أبي الدنيا حدثنا عياش بن هشام عن أبيه قال ولد محمد الأمين بن هارون الرشيد في شوال سنة سبعين ومائة ] وأتته الخلافة بمدينة السلام بغداد لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادي الآخرة سنة ثلاث وتسعين وقيل ليلة الأحد لخمس بقين من المحرم وقتل سنة ثمان وتسعين ومائة قتله قريش الدنداني وحمل رأسه إلى طاهر بن الحسين فنصبه على ربح وتلا هذه الآية قل اللهم مالك الملك وكانت ولايته أربع سنين وسبعة أشهر وثمانية ايام وكان طويلا سمينا أبيض أقنى الأنف صغير العينين عظيم الكراديس بعيدا ما بين المنكبين وقد رماه بعضهم بكثرة اللعب والشرب وقلة الصلاة وقد ذكر ابن جرير طرفا من سيرته في إكثاره من (10/241)
قتناء السودان والخصيان وإعطائه الأموال والجواهر وأمره باحضار الملاهي والمغنين من سائر البلاد وأنه أمر بعمل خمس حراقات على صورة الفيل والأسد والعقاب والحية والفرس وأنفق على ذلك أموالا جزيله جدا وقد امتدحه أبو نواس بشعر أقبح في معناه من صنيع الأمين فإنه قال في أوله ... سخر الله للأمين مطايا ... لم تسخر لصاحب المحراب ... فإذا ما ركابه سرن برا ... سار في الماء راكبا ليث غاب ...
ثم وصف كلا من تلك الحراقات واعتنى الأمين ببنايات هائلة للنزهة وغيرها وأنفق في ذلك أموالا كثيرة جدا فكثر النكير عليه بسبب ذلك
وذكر ابن جرير أنه جلس يوما في مجلس أنفق عليه مالا جزيلا في الخلد وقد فرش له بأنواع الحرير ونضد بآنية الذهب والفضة وأحضر ندماءه وأمر القهرمانة أن تهئ له مائة جارية حسناء وأمرها أن تبعثهن إليه عشرا بعد عشر يغننينه فلما جاءت العشر الأول اندفعن يغنين بصوت واحد ... همو قتلوه كي يكونوا مكانه ... كما غدرت بكسرى مرازبه ...
فغضب من ذلك وتبرم وضرب رأسها بالكأس وأمر بالقهرمانة أن تلقى إلى الأسد فأكلها
ثم استدعى بعشرة فاندفعن يغنين ... من كان مسرورا بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار ... يجد النساء حواسرا يندبنه ... يلطمن قبل تبلج الأسحار ...
فطردهن واستدعى بعشر غيرهن فلما حضرن اندفعن يغنين بصوت واحد ... كليب لعمرى كان أكثر ناصرا ... وأيسر ذنبا منك ضرج بالدم ...
فطردهن وقام من فوره وأمر بتخريب ذلك المجلس وتحريق مافيه
وذكر أنه كان كثير الأدب فصيحا يقول الشعر ويعطى عليه الجوائز الكثيرة وكان شاعره أبا نواس وقد قال فيه أبو نواس مدائح حسانا وقد وجده مسجونا في حبس الرشيد مع الزنادقة فأحضره وأطلقه وأطلق له مالا وجعله من ندمائه ثم حبسه مرة أخرى في شرب الخمر وأطال حبسه ثم أطلقه وأطلق له مالا وجعله من ندمائه ثم حبسه مرة أخرى في شرب الخمر وأطال حبسه ثم أطلقه وأخذ عليه العهد أن لا يشرب الخمر ولا يأتي الذكور من المردان فامتثل ذلك وكان لا يفعل شيئا من ذلك بعد ما استتابه بالأمين وقد تأدب على الكسائي وقرأ عليه القرآن وروى الخطيب من طريقه حديثا اورده عنه لما عزي في غلام له توفي بمكة فقال حدثنى أبي عن أبيه عن المنصور عن أبيه عن على بن عبد الله عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول ( من مات محرما حشر ملبيا )
وقد قدمنا ما وقع بينه وبين أخيه من الاختلاف والفرقة حتى أفضى ذلك إلى خلعه وعزله ثم (10/242)
إلى التضيق عليه ثم إلى قتله وأنه حصر في آخر أمره حتى احتاج إلى مصانعة هرثمة وأنه ألقى في حراقة ثم ألقي منها فسبح إلى الشط الآخر فدخل دار بعض العامة وهو في غاية الخوف والدهش والجوع والعرى فجعل الرجل يلقنه الصبر والاستغفار فاشتغل بذلك ساعة من الليل ثم جاء الطلب وراءه من جهة طاهر بن الحسين بن مصعب فدخلوا عليه وكان الباب ضيقا فتدافعوا عليه وقام إليهم فجعل يدافعهم عن نفسه بمخدة في يده فما وصلوا إليه حتى عرقبوه وضربوا رأسه أو خاصرته بالسيوف ثم ذبحوه وأخذوارأسه وجثته فأتوا بهما طاهرا ففرح بذلك فرحا شديدا وأمر بنصب الرأس فوق رمح هناك حتى أصبح الناس فنظروا اليه فوق الرمح عند باب الأنبار وكثر عدد الناس ينظرون إليه ثم بعث طاهر برأس الأمين مع ابن عمه محمد بن مصعب وبعث معه بالبردة والقضيب والنعل وكان من خوص مبطن فسلمه إلى ذي الرياستين فدخل به على المأمون على ترس فلما رآه سج وأمر لمن جاء به بألف ألف درهم وقد قال ذو الرياستين حين قدم الرأس يؤلب على طاهر أمرناه بأن يأتي به أسيرا فأرسل به إلينا عقيرا فقال المأمون مضى ما مضى وكتب طاهر إلى المأمون كتابا ذكر فيه صورة ما وقع حتى آل الحال إلى ما آل إليه
ولما قتل الأمين هدأت الفتن وخمدت الشرور وأمن الناس وطابت النفس ودخل طاهر بغداد يوم الجمعة وخطبهم خطبة بليغة ذكر فيها آيات كثيرة من القرآن وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وأمرهم فيها بالجماعة والسمع والطاعة ثم خرج إلى معسكره فأقام به وأمر بتحويل زبيدة من قصر أبي جعفر إلى قصر الخلد فخرجت يوم الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول من هذه السنة وبعث بموسى وعبد الله ابني الأمين إلى عمهما المأمون بخراسان وكان ذلك رأيا سديدا وقد وثب طائفة من الجند على طاهر بعد خمسة أيام من مقتل الأمين وطلبوا منه أرزاقهم فلم يكن عنده إذ ذاك مال فتحزبوا واجتمعوا ونهبوا بعض متاعه ونادوا يا موسى يا منصور واعتقدوا أن موسى بن الأمين الملقب بالناطق هناك وإذا هو قد سيره إلى عمه وانحاز طاهر بمن معه من القواد ناحية وعزم على قتالهم بمن معه ثم رجعوا إليه واعتذروا وندموا فأمر لهم برزق أربعة أشهر بعشرين ألف دينار اقترضها من بعض الناس فطابت الخواطر ثم إن إبراهيم بن المهدي قد أسف على قتل محمد الأمين بن زبيدة ورثاه بأبيات فبلغ ذلك المأمون فبعث إليه يعنفه ويلومه على ذلك وقد ذكر ابن جرير مراثي كثيرة للناس في الأمين وذكر من أشعار الذين هجوه طرفا وذكر من شعر طاهر بن الحسين حين قتله قوله ... ملكت الناس قسرا واقتدوا ... وقتلت الجبابرة الكبارا ... ووجهت الخلافة نحو مرو ... إلى المأمون تبتدر ابتدارا (10/243)
خلافة عبد الله المأمون بن الرشيد هارون
لما قتل أخوه محمد في رابع صفر من سنة ثمان وتسعين ومائة وقيل في المحرم استوسقت البيعة شرقا وغربا للمأمون فولى الحسن بن سهل نيابة العراق وفارس والأهواز والكوفة والبصرة والحجاز واليمن وبعث نوابه إلى هذه هذه الأقاليم وكتب إلى طاهر بن الحسين أن ينصرف إلى الرقة لحرب نصر بن شبث وولاه نيابة الجزيرة والشام والموصل والمغرب وكتب إلى هرثمة بن أعين بنيابة خراسان وفيها حج بالناس العباس بن عيسى الهاشمي وفيها توفي سفيان بن عيينة وعبد الرحمن ابن مهدي ويحي القطان فهؤلاء الثلاثة سادة العلماء في الحديث والفقة وأسماء الرجال
ثم دخلت سنة تسع وتسعين ومائة
فيها قدم الحسن بن سهل بغداد نائبا عليها من جهة المأمون ووجه نوابه إلى بقية أعماله وتوجه طاهر إلى نيابة الجزيرة والشام ومصر وبلاد المغرب وسار هرثمة إلى خراسان نائبا عليها وكان قد خرج في أواخر السنة الماضية في ذي الحجة منها الحسن الهرش يدعو إلى الرضى من آل محمد فجبى الأموال وانتهب الأنعام وعاث في البلاد فسادا فبعث إليه المأمون جيشا فقتلوه في المحرم من هذه السنة وفيها خرج بالكوفة محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن على بن أبي طالب يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة يدعو إلى الرضى من آل محمد والعمل بالكتاب والسنة وهو الذي يقال له ابن طباطبا وكان القائم بأمره وتدبير الحرب بين يديه أبو السرايا السرى بن منصور الشيباني وقد اتفق أهل الكوفة على موافقته واجتمعوا عليه من كل فج عميق ووفدت إليه الأعراب من نواحي الكوفة وكان النائب عليها من جهة الحسن بن سهل سليمان ابن أبي جعفر المنصور فبعث الحسن بن سهل يلومه ويؤنبه على ذلك وأرسل إليه بعشرة آلاف فارس صحبة زاهر بن زهير بن المسيب فتقاتلوا خارج الكوفة فهزموا زاهرا واستباحوا جيشه ونهبوا ما كان عليه وذلك يوم الأربعاء سلخ جمادي الآخرة فلما كان الغد من الوقعة توفي ابن طباطبا أمير الشيعة فجأة يقال إن أبا السرايا سمه وأقام مكانه غلاما أمرد يقال له محمد بم زيد بن على ابن الحسين بن على بن طالب وانعزل زاهر بمن بقي معه من أصحابه إلى قصر ابن هبيرة وأرسل الحسن بن سهل مع عبدوس بن محمد أربعة آلاف فارس صورة مدد لزاهر فالتقواهم وأبو السرايا فهزمهم ابو السراي ولم يفلت من أصحاب عبدوس أحد وانتشر الطالبيون في تلك البلاد وضرب أبو السرايا الدراهم والدنانير في الكوفة ونقش عليه إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا الآية ثم بعث أبو السرايا جيوشه إلى البصرة وواسط والمدائن فهزموا من فيها من النواب ودخلوها قهرا وقويت شوكتهم فأهم ذلك الحسن بن سهل وكتب إلى هرثمة يستدعيه لحرب أبي السرايا (10/244)
فتمنع ثم قدم عليه فخرج إلى أبي السرايا فهزم أبا السرايا غير مرة وطرده حتى رده إلى الكوفه ووثب الطالبيون على دور بنى العباس بالكوفة فنهبوها وخربوا ضياعهم وفعلوا أفعالا قبيحة وبعث أبو السرايا إلى المدائن فاستجابوا وبعث إلى أهل مكة حسين بن حسن الأفطس ليقيم لهم الموسم فخاف أن يدخلها جهرة ولما سمع نائب مكة وهو داود بن عيسى بن موسى بن على بن عبد الله بن عباس هرب من مكة طالبا أرض العراق وبقي الناس بلا إمام فسئل مؤذنها أحمد ابن محمد بن الوليد الأزرقي أن يصلى بهم فأبي فقيل لقاضيها محمد بن عبدالرحمن المخزومي فامتنع وقال لمن ادعو وقد هرب نواب البلاد فقدم الناس رجلا منهم فصلى بهم الظهر والعصر وبلغ الخبر إلى حسين الأفطس فدخل مكة في عشرة أنفس قبل الغروب فطاف بالبيت ثم وقف بعرفة ليلا وصلى بالناس الفجر بمزدلفه وأقام بقيه المناسك في أيام منى فدفع الناس من عرفة بغير إمام وفيها توفي إسحاق بن سليمان وابن نمير وابن سابور وعمرو العنبري والد مطيع البلخي ويونس بن بكير
ثم دخلت سنة مائتين من الهجرة
في أول يوم منها جلس حسين بن حسن الأفطس على طنفسة مثلثة خلف المقام وأمر بتجريد الكعبة ممما عليها من كساوى بنى العباس وقال نطهرها من كساويهم وكساها ملاءتين صفراوتين عليهما اسم أبي السرايا ثم أخذ ما في كنز الكعبة من الأموال وتتبع ودائع بنى العباس فأخذها حتى أنه أخذ مال ذوي المال ويزعم أنه للمسودة وهرب منه الناس إلى الجبال وسبك ما على رؤس الأساطين من الذهب وكان ينزل مقدار يسير بعد جهد وقلعوا ما في المسجد الحرام من الشبابيك وباعوها بالبخس وأساؤا السيرة جدا فلما بلغه مقتل أبي السرايا كتم ذلك وأمر رجلا من الطالبين شيخا كبيرا واستمر على سوء السيرة ثم هرب في سادس عشر المحرم منها وذلك لما قهر هرثمة أبا السرايا وهزم جيشه وأخرجه ومن معه من الطالبين من الكوفة ودخلها هرثمة ومنصور بن المهدي فأمنو أهلها ولم يتعرضوا لأحد وسار أبو السرايا بمن معه إلى القادسية ثم سار منها فاعترضهم بعض جيوش المأمون فهزمهم أيضا وجرح أبو السرايا بمن معه إلى القادسية ثم سار منها فاعترضهم بعض جيوش المأمون فهزمهم أيضا وجرح أبو السرايا جراحة منكرة جدا وهربوا يريدون الجزيرة إلى منزل أبي السرايا برأس العين فاعترضهم بعض الجيوش أيضا فأسروهم و أتوا بهم الحسن بن سهل وهو بالنهروان حين طردته الحربية فأمر بضرب عنق أبي السرايا فجزع من ذلك جزعا شديدا جدا وطيف برأسه وأمر بجسده أن يقطع اثنتين وينصب على جسرى بغداد فكان بني خروجه وقتله عشرة أشهر فبعث الحسن بن سهل بن محمد إلى المأمون مع رأس أبي السرايا وقال بعض الشعراء ... ألم ترضر به الحسن بن سهل ... بسيفك يا أمير المؤمنينا (10/245)
أدارت مرو رأسها أبي السرايا ... وأبقيت عبرة للعالمينا ...
وكان الذي في يده البصرة من الطالبين زيد بن موسى بن جعفر بن محمد بن على ابن الحسين ابن على ويقال له زيد النار لكثرة ما حرق من البيوت التي للمسودة فأسره على بن سعيد وأمنه وبعث به وبمن معه من القواد إلى اليمن لقتال من هناك من الطالبين
وفيها خرج باليمن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن على ويقال له الجزار لكثرة من قتل من أهل اليمن وأخذ من أموالهم وهو الذي كان بمكة وفعل فيها ما فعل كما تقدم فلما بلغه قتل من اهل اليمن وأخذ من أموالهم وهو الذي كان بمكة وفعل فيها ما فعل كما تقدم فلما بلغه قتل أبي السيرايا هرب إلى اليمن فلما بلغ نائب اليمن خبره ترك اليمن وسار إلى خراسان واجتاز بمكة وخذ أمه منها واستحوذ إبراهيم هذا على بلاد اليمن وجرت حروب كثيرة يطول ذكرها ورجع محمد بن جعفر العلوي عما كان يزعمه وكان قد ادعى الخلافة بمكة وقال كنت أظن أن المأمون قد مات وقد تحققت حياته وأنا أستغفر الله وأتوب إليه مما كنت ادعيت من ذلك وقد رجعت إلى الطاعة وأنا رجل من المسلمين ولما هزم هرثمة راسل أبا السرايا وهو الذي أمره بالظهور فاستدعاه المأمون إلى مرو فأمر به فضرب بين يديه ووطئ بطنه ثم رفع إلى الحبس ثم قتل بعد ذلك بأيام وانطوى خبره بالكلية ولما وصل خبر قتله إلى بغداد عبثت العامة والحربية بالحسن ابن سهل نائب العراق وقالوا لا ترضى به ولا بعماله ببلادنا وأقاموا إسحاق بن موسى المهدي نائبا واجتمع أهل الجانبين على ذلك والتفت على الحسن بن سهل جماعة من الأمراء والأجناد وأرسل من وافق العامة على ذلك من الامراء يحرضهم على القتال وجرت الحروب بينهم ثلاثة أيام في شعبان من هذه السنة ثم اتفق الحال على أن يعطيهم شيئا من ارزاقهم ينفقونها في شهر رمضان فما زال يمطلهم إلى ذي القعدة حتى يدرك الزرع فخرج في ذي القعدة زيد بن موسى الذي يقال له زيد النار وهو أخو أي السرايا وقد كان خروجه هذه المرة بناحية الأنبار فبعث إليه على بن عشام نائب بغداد عن الحسن بن سهل والحسن بالمدائن إذ ذاك فأخذ وأتى به إلى على ابن هشام و أطفأ الله ثأرته
وبعث المأمون في هذه السنة يطلب من بقي من العباسيين وأحصى كم العباسيين فبلغوا ثلاثة وثلاثين ألفا ما بين ذكور وإناث وفيها قتلت الروم ملكهم اليون وقد ملكهم سبع سنين وملكوا عليهم ميخائيل نائبه وفيها قتل المأمون يحي بن عامر بن إسماعيل لأنه قال للمأمون يا أمير الكافرين فقتل صبرا بين يديه وفيها حج بالناس محمد بن المعتصم بن هارون الرشيد وفيها توفي من الأعيان (10/246)
أسباط بن محمد وأبو ضمرة أنس بن عياض ومسلم بن قتيبة وعمر بن عبد الواحد وابن أبي فديك ومبشر بن إسماعيل ومحمد بن جبير ومعاذ بن هشام
ثم دخلت سنة إحدى ومائتين
فيها راود أهل بغداد منصور بن المهدي على الخلافة فامتنع من ذلك فراودوه على أن يكون نائبا للمأمون يدعو له في الخطبة فأجابهم إلى ذلك وقد أخرجوا على بن هشام نائب الحسن بن سهل من بين أظهرهم بعد أن جرت حروب كثيرة بسبب ذلك وفيها عم البلاء بالعيارين والشطار والفساق ببغداد وما حولها من القرى كانوا يأتون الرجل يسألونه مالا يقرضهم أو يصلهم به فيمتنع عليهم فيأخذون جميع مافي منزله وربما تعرضواللغلمان والنسوان ويأتون أهل القرية فيستافون من الأنعام والمواشي ويأخذون ماشاؤوا من الغلمان والنسوان ونهبوا أهل قطر بل ولم يدعوا لهم شيئا أصلا فانتدب لهم رجل يقال له خالد الدريوش وآخر يقال له سهل بن سلامة أبو حاتم الأنصاري من أهل خراسان والتف عليهم جماعة من العامة فكفوا شرهم وقاتلوهم ومنعوهم من الفساد في الأرض واستقرت الأمور كما كانت وذلك في شعبان ورمضان وفي شوال منها رجع الحسن بن سهل إلى بغداد وصالح الجند وانفصل منصور بن المهدي ومن وافقه من الأمراء وفيها بايع المأمون لعلى الرضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد بن الحسن الشهيد بن على بن أبي طالب أن يكون ولي العهد من بعده وسماه الرضى من آل محمد وطرح لبس السواد وأمر بلبس الخضرة فلبسها هو وجنده وكتب بذلك إلى الآفاق والأقاليم وكانت مبايعته له يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة إحدى ومائتين وذلك أن المأمون رأى أن عليا الرضى خير أهل البيت وليس في بنى العباس مثله في عمله ودينه فجعله ولي عهده من بعده
بيعة أهل بغداد لابراهيم بن المهدي
لما جاء الخبر أن المأمون بايع لعلى الرضى بالولاية من بعده اختلفوا فيما بينهم فمن مجيب مبايع ومن آب ممانع وجمهور العباسيين على الامتناع من ذلك وقام في ذلك ابنا المهدي إبراهيم ومنصور فلما كان يوم الثلاثاء لخمس بقين من ذي الحجة أظهر العباسيون البيعة لابراهيم بن المهدي ولقبوه المبارك وكان أسود اللون ومن بعده لابن أخيه إسحاق بن موسى بن المهدي وخلعوا المأمون فلما كان يوم الجمعة لليلتين بقيتا من ذي الحجة أرادوا أ يدعوا للممون ثم من بعده لابراهيم فقالت العامة لا تدعوا إلا إلى إبراهيم فقط واختلفوا واضطربوا فيما بينهم ولم يصلوا الجمعة وصلى الناس فرادى أربع ركعات
وفيها افتتح نائب طبرستان جبالها وبلاد اللارز والشيرز وذكر ابن حزم أن سلما الخاسر (10/247)
قال في ذلك شعرا وقد ذكر ابن الجوزي وغيره أن سلما توفي قبل ذلك بسنتين فالله أعلم
وفيها أصاب أهل خراسان والري وأصبهان مجاعة شديدة وغلا الطعام جدا وفيها تحرك بابك الخرمي واتبعه طوائف من السفلة والجهلة وكان يقول بالتناسخ وسيأتي ما آل أمره إليه وفيها حج بالناس إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمي
وفيها توفي من الأعيان أبو أسامة حماد بن أسامة وحماد بن مسعدة وحرسى بن عمارة وعلى بن عاصم ومحمد بن محمد صاحب أبي السرايا الذي قد كان بايعه أهل الكوفة بعد ابن طباطبا
ثم دخلت يوم منها بويع لابراهيم بن المهدي بالخلافة ببغداد وخلع المأمون فلما كان يوم الجمعة خامس المحرم صعد إبراهيم بن المهدي المنبر فبايعه الناس ولقب بالمبارك وغلب على الكوفة وأرض السود وطلب منه الجند أرزاقهم فماطلهم ثم اعطاهم مائتي درهم لكل واحد وكتب لهم بتعويض من أرض السواد فخرجوا لا يمرون بشئ إلا انتهبوه وأخذوا حاصل الفلاح والسلطان واستناب على الجانب الشرقي العباس بن موسى الهادي وعلى الجانب الغربي إسحاق بن موسى الهادي وفيها خرج خارجي يقال له مهدي بن علوان فبعث إليهم إبراهيم جيشا عليهم أبو إسحاق المعتصم ابن الرشيد في جماعة من الأمراء فكسره ورد كيده وفيها خرج أخو أبي السرايا فبيض بالكوفة فأرسل إليه إبراهيم بن المهدي من قاتله فقتل أخو أبي السرايا وأرسل برأسه إلى إبراهيم ولما كان ليلة أربع عشرة من ربيع الآخر من هذه السنة ظهرت في السماء حمرة ثم ذهبت وبقي بعدها عمودان أحمران في السماء إلى آخر الليل وجرت بالكوفة حروب بين أصحاب إبراهيم وأصحاب المأمون واقتتلوا قتالا شديدا وعلى أصحاب إبراهيم السواد وعلى أصحاب المأمون الخضرة واستمر القتال بينهم إلى أواخر رجب
وفيها ظفر إبراهيم بن المهدي بسهل بن سلامة المطوع فسجنه وذلك أنه التف عليه جماعة من الناس يقومون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولكن كانوا قد جاوزوا الحد وأنكروا على السطان ودعوا إلى القيام بالكتاب والسنة وصار باب داره كأنه باب دار السلطان عليه السلاح والرجال وغير ذلك من أبهة الملك فقاتله الجند فكسروا أصحابه فألقى السلاح وصار بين النساء والنظارة ثم اختفى في بعض الدور فأخذ وجئ به إلى إبراهيم فسجنه سنة كاملة وفيها أقبل المأمون من خراسان قاصدا العراق وذلك أن على بن موسى الرضى أخبر المأمون بما الناس فيه من الفتن والاختلاف بارض العراق وبأن الهاشميين قد أنهوا إلى الناس بأن المأمون مسحور ومسجون وأنهم قد نقموا عليك ببيعتك لعلى بن موسى وأن الحرب قائمة بين الحسن بن سهل وبين إبراهيم (10/248)
ابن المهدي فاستدعى المأمون بجماعة من أمرائه وأقربائه فسألهم عن ذلك فصدقوا عليا فيما قال بعد أخذهم الأمان منه وقالوا له إن الفضل بن سهل حسن لك قتل هرثمة وقد كان ناصحا لك فعاجله قتله وإن طاهر بن الحسين مهد لك الأمور حتى قاد إليك الخلافة بزمامها فطردته إلى الرقة فقعد لا عمل له ولا تستنهضه في أمر وإن الأرض تفتقت بالشرور والفتن من أقطارها فلما تحقق ذلك المأمون أمر بالرحيل إلى بغداد وقد فطن الفضل بن سهل بما تمالأ عليه أولئك الناصحون فضرب قوما ونتف لحى بعضهم وسار المأمون فلما كان بسرخس عدا قوم على الفضل بن سهل وزير المأمون وهو في الحمام فقتلوه بالسيوف وذلك يوم الجمعة لليلتين خلتا من شوال وله ستون سنة فبعث المأمون في آثارهم فجئ بهم وهم أربعة من المماليك فقتلهم وكتب إلى أخيه الحسن بن سهل يعزيه فيه وولاه الوزارة مكانه وارتحل المأمون من سرخس يوم عيد الفطر نحو العراق وإبراهيم بن المهدي بالمدائن وفي مقابلته جيش يقتلونه من جهة المأمون
وفيها تزوج المأمون بوران بنت الحسن بن سهل وزوج على بن موسى الرضى بإبنته أم حبيب وزوج ابنه محمد بن على بن موسى بإبنته الأخرى أم الفضل وحج بالناس إبراهيم بن موسى بن جعفر أخو على الرضى ودعا لأخيه بعد المأمون ثم انصرف بعد الحج إلى اليمن وقد كان تغلب عليها حمدويه بن على بن موسى بن ماهان وفيها توفي أيوب بن سويد وضمرة وعمرو بن حبيب والفضل بن سهل الوزير وأبو يحي الحماني
ثم دخلت سنة ثلاث ومائتين
فيها وصل المأمون العراق ومر بطوس فنزل بها وأقام عند قبر أبيه أياما من شهر صفر فلما كان في آخر الشهر أكل على بن موسى الرضى عنبا فمات فجأة فصلى عليه المأمون ودفنه إلى جانب أبيه الرشيد وأسف عليه أسفا كثيرا فيما ظهر وكتب إلى الحسن بن سهل يعزيه فيه ويخبره بما حصل له من الحزن عليه وكتب إلى بني العباس يقول لهم إنكم إنما نقمتم على بسبب توليتى العهد من بعدي لعلى بن موسى الرضى وها هو قد مات فارجعوا إلى السمع والطاعة فأجابوه بأغلظ جواب كتب به إلى أحد وفيها تغلبت الثوار على الحسن بن سهل حتى قيد بالحديد وأودع في بيت فكتب الأمراء بذلك إلى المأمون فكتب إليهم إني واصل على إثر كتابي هذا ثم جرت حروب كثيرة بين إبراهيم وأهل بغداد وتنكروا عليه وأبغضوه وظهرت الفتن والشطار والفساق ببغداد وتفاقم الحال وصلوا يوم الجمعة ظهرا أمهم المؤذنون فيها من غير خطبة صلوا أربع ركعات واشتد الأمر واختلف الناس فيما بينهم في إبراهيم والمأمون ثم غلبت المأمونية عليهم
خلع أهل بغداد إبراهيم بن المهدي
لما كان يوم الجمعة المقبلة دعا الناس للمأمون وخلعوا إبراهيم وأقبل حميد بن عبد الحيمد في جيش (10/249)
من جهة المأمون فحاصر بغداد وطمع جندها في العطاء إذا قدم فطاوعوه على السمع والطاعة للمأمون
وقد قاتل عيسى بن محمد بن أبي خالد في جماعة من جهة إبراهيم بن المهدي ثم احتال عيسى حتى صار في أيدي المأمونية أسيرا ثم آل الحال إلى اختفاء إبراهيم بن المهدي في آخر هده السنة
وكانت أيامه سنة وإحد عشر شهرا واثنى عشر يوما وقدم المأمون في هذا الوقت إلى همذان وجيوشه قد استنقذوا بغداد إلى طاعته وحج بالناس في هذه السنة سليمان بن عبد الله بن سليمان ابن على وفيها توفي من الأعيان
علي بن موسى
ابن جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن على بن ابي طالب القرشي الهاشمي العلوي الملقب بالرضى كان المأمون قد هم أن ينزل له عن الخلافة فأبى عليه ذلك فجعله ولى العهد من بعده كما قدمنا ذلك توفي في صفر من هذه السنة بطوس وقد روى الحديث عن أبيه وغيره وعنه جماعة منهم المأمون وأبو السلط الهروى وأبو عثمان المازني النحوي وقال سمعته يقول اله أعدل من أن يكلف العباد مالا يطيقون وهم أعجز من أن يفعلوا ما يريدون ومن شعره ... كلنا يأمل مدا في الأجل ... والمنايا هن آفات الأمل ... لاتغرنك أباطيل المنى ... والزم القصد ودع عنك العلل ... إنما الدنيا كظل زائل ... حل فيه راكب ثم ارتحل ...
ثم دخلت سنة اربع ومائتين
فيها كان قدوم المأمون أرض العراق وذلك أنه مر بجرجان فأقام بها شهرا ثم سار منها وكان ينزل في المنزل يوما أو يومين ثم جاء إلى النهروان فأقام بها ثمانية أيام وقد كتب إلى طاهر بن الحسين وهو بالرقة أن يوافيه إلى النهروان فوافاه بها وتلقاه رؤس أهل بيته والقواد وجمهور الجيش فلما كان يوم السبت الآخر دخل بغداد حين ارتفع النهار لأربع عشرة ليلة خلت من صفر في أبهة عظيمة وجيش عظيم وعليه وعلى جميع أصحابه وفتيانه الخضرة فلبس أهل بغداد وجميع بنى هاشم الخضرة ونزل المأمون بالرصافة ثم تحول إلى قصر على دجلة وجعل الأمراء ووجوه الدولة يترددون إلى منزله على العادة وقد تحول لباس البغاددة إلى الخضرة وجعلوا يحرقون كل مايجدونه من السواد فمكثوا كذلك ثمانية أيام ثم استعرض حوائج طاهر بن الحسين فكان أول حاجة سألها أن يرجع إلى لباس السواد فانه لباس آبائه من دولة ورثة الأنبياء فلما كان السبت الآخر وهو الثامن والعشرين من صفر جلس المأمون للناس وعليه الخضرة ثم إنه أمر بخلعة سوداء فألبسها طاهرا ثم ألبس بعده جماعة من الأمراء السواد فلبس الناس السواد وعادوا إلى (10/250)
ذلك فعلم منهم بذلك الطاعة والموافقة وقيل إنه مكث يلبس الخضرة بعد قدومه بغداد سبعا وعشرين يوما فالله أعلم
ولما جاء إليه عمه إبراهيم بن المهدي بعد اخفائه ست سنين وشهورا قال له المأمون أنت الخليفة الأسود فأخذ في الاعتذار والاستغفار ثم قال أنا الذي مننت عليه يا أمير المؤمنين بالعفو وأنشد المأمون عند ذلك ... ليس يزري السواد بالرجل الشهم ... ولا بالفتى الأديب الأريب ... إن يكن للسواد منك نصيب ... فبياض الأخلاق منك نصيبى ...
قال ابن خلكان وقد نظم هذا المعنى بعض المتأخرين وهو نصر الله بن قلانس الاسكندري فقال ... رب سوداء وهي بيضاء فعل ... حسد المسك عندها الكافور ... مثل حب العيون يحسبه الناس ... سوادا وإنما هو نور ...
وكان المأمون قد شاور في قتل عمه إبراهيم بن المهدي بعض أصحابه فقال له أحمد بن خالد الوزير الأحول يا أمير المؤمنين إن قتلته فلك نظراء في ذلك وإن عفوت عنه فما لك نظير ثم شرع المأمون في بناء قصور على دجلة إلى جانب قصره وسكنت الفتن وانزاحت الشرور وأمر بمقاسمة أهل السواد على الخمسين وكانوا يقاسمون على النصف واتخذ القفيز الملحم وهو عشرة مكاكي بالملوك الأهوازي ووضع شيئا كثيرا من خراجات بلاد شتى ورفق بالناس في مواضع كثيرة وولى أخاه أبا عيسى بن الرشيد لاكوفة وولى أخاه صالحا البصرة وولى عبيد الل بن الحسين ابن عبد اله بن العباس بن على بن أبي طالب نيابة الحرمين وهو الذي حج بالناس فيها وواقع يحي بن معاذ بابك الخرمي فلم يظفر به وفيها توفي من الأعيان جماعة منهم
ابو عبد الله محمد بن ادريس الشافعي
وقد أفردنا له ترجمة مطولة في أول كتابنا طبقات الشافعيين ولنذكر ههنا ملخصا من ذلك وبالله المستعان
هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم ابن المطلب بن عبد مناف بن قصى القرشي المطلبي والسائب بن عبيد أسلم يوم بدر وابنه شافع ابن السائب من صغار الصحابة وأمه أزدية وقد رأت حين حملت به كأن المشترى خرج من فرجها حتى انقض بمصر ثم وقع في كل بلد منه شظية وقد ولد الشافعي بغزة وقيل بعسقلان وقيل باليمن سنة خمسين ومائة ومات أبوه وهو صغير فحملته أمه إلى مكة وهو ابن سنتين لئلا يضيع نسبه فنشأ بها وقرأ القرآن وهو ابن سبع سنين وحفظ الموطأ وهو ابن عشر وأفتى وهو ابن (10/251)
خمس عشرة سنة وقيل ابن ثماني عشرة سنة أذن له شيخه مسلم بن خالد الزنجي وعنى باللغة والشعر وأقام في هذيل نحوا من عشر سنين وقيل عشرين سنة فتعلم منهم لغات العرب وفصاحتها وسمع الحديث الكثير على جماعة من المشايخ والأئمة وقرأ بنفسه الموطأ على مالك من حفظه فأعجبته قراءته وهمته وأخذ عنه علم الحجازيين بعد أخذه عن مسلم بن خالد الزنجي وروى عنه خلق كثير قد ذكرنا أسماءهم مرتيين على حروف المعجم وقرأ القرآن على إسماعيل بن قسطنطين عن شبل عن ابن كثير عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه و سلم عن جبريل عن الله عز و جل
وأخذ الشافعي الفقه عن مسلم بن خالد عن ابن جريح عن عطاء عن ابن عباس وابن الزبير وغيرهما عن جماعة من الصحابة منهم عمرو بن على وابن مسعود وزيد بن ثابت وغيرهم وكلهم عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وتفقه أيضا على مالك عن مشايخه وتفقه به حماعة قد ذكرناهم ومن بعدهم إلى زماننا في تصنيف مفرد وقد روى ابن أبي حاتم عن أبي بشر الدولابي عن محمد بن إدريس وراق الحميدي عن الشافعي أنه ولى الحكم بنجران من أرض اليمن ثم تعصبوا عليه ووشوا به إلى الرشيد أنه يروم الخلافة فحمل على بغل في قيد إلى بغداد فدخلها في سنة أربع وثمانين ومائة وعمره ثلاثون سنة فاجتمع بالرشيد فتاظر هو ومحمد بن الحسن بين يدي الرشيد وأحسن القول فيه محمد بن الحسن وتبين للرشيد فتناظر هو ومحمد بن الحسن بين يدي الرشيد وأحسن القول فيه محمد بن الحسن وتبين للرشيد براءته مما نسب إليه وأنزله محمد بن الحسن عنده وكان أبو يوسف قد مات قبل ذلك بسنة وقيل بسنتين وأكرمه محمد بن الحسن وكتب عنه الشافعي وقر بعير ثم أطلق له الرشيد ألفي دينار وقيل خمسة آلاف دينار وعاد الشافعي إلى مكة ففرق عامة ماحصل له في أهله وذوي رحمه من بنى عمه ثم عاد الشافعي إلى العراق في سنة خمس وتسعين ومائة فاجتمع به جماعة من العلماء هذه المرة منهم أحمد بن حنبل وأبو ثور والحسين بن على الكرابيسى والحارث بن شريح البقال وابو عبد الرحمن الشافعي والزعفراني وغيرهم ثم رجع إلى مكة ثم رجع إلى بغداد سنة ثمان وتسعين ومائة ثم انتقل منها إلى مصر فأقام بها إلى أن مات في هذه السنة سنة أربع ومائتين وصنف بها كتابه الأم وهو من كتبه الجديدة لأنها من رواية الربيع ابن سليمان وهو مصري وقد زعم إمام الحرمين وغيره أنها من القديم وهذا بعيد وعجيب من مثله والله أعلم
وقد أثنى على الشافعي غير واحد من كبار الأئمة منهم عبد الرحمن بن مهدي وسأله أن يكتب له كتابا في الأصول فكتب له الرسالة وكان يدعو له في الصلاة دائما وشيخه مالك بن أنس وقتيبة ابن سعيد وقال هو إمام وسفيان بن عيينة ويحي بن سعيد القطان وكان يدعو له أيضا في (10/252)
صلاته وأبو عبيد ما رأيت أفصح ولا أعقل ولا أورع من الشافعي ويحي بن اكثم القاضي وإسحاق بن راهوية ومحمد بن الحسن وغير واحد ممن يطول ذكرهم وشرح أقوالهم
وكان أحمد بن حنبل يدعو له في صلاته تحوا من أربعين سنة وكان أحمد يقول في الحديث الذي رواه أبو داود من طريق عبد الله بن وهب عن سعيد بن أبي أيوب عن شراحيل بن يزيد عن أبي علقمه عن ابي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم ( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها ) قال فعمر بن عبد العزيز على رأس المائة الأولى والشافعي على رأس المائة الثانية وقال أبو داود الطيالسي حدثنا جعفر بن سليمان عن نصر بن معبد الكندي أو العبدي عن الجارود عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( لا تسبوا قريشا فان عالمها يملأ الأرض علما اللهم إنك أذقت أولها عذابا ووبالا فأذق آخرها نوالا ) وهذا غريب من هذا الوجه وقد رواه الحاكم في مستدركه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم بنحوه قال أبو نعيم عبد الملك بن محمد الاسفرايينى لا ينطبق هذا إلا على محمد بن إدريس الشافعي حكاه الخطيب وقال يحي بن معين عن الشافعي هو صدوق لا بأس به وقال مرة لو كان الكذب له مباحا مطلقا لكانت مروءته تمنعه أن يكذب وقال ابن أبي حاتم سمعت أبي يقول الشافعي فقيه البدن صدوق اللسان وحكى بعضهم عن أبي رزعة أنه قال ما عند الشافعي حديث غلط فيه وحكى عن أبي داود نحوه
وقال إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة وقد سئل هل سنة لم تبلغ الشافعي فقال لا ومعنى هذا أنها تارة تبلغه بسندها وتارة مرسلة وتارة منقطعه كما هو الموجود في كتبه والله أعلم
وقال حرملة سمعت الشافعي يقول سميت ببغداد ناصر السنة وقال أبو ثور ما رأينا مثل الشافعي ولا هو رأى مثل نفسه وكذا قل لزعفراني وغيره وقال داود بن على الظاهري في كتاب جمعه في فضائل الشافعي للشافعي من الفضائل مل لم يجتمع لغيره من شرف نسبه وصحة دينه ومعتقده وسخاوة نفسه ومعرفته بصحة الحديث وسقمه وناسخه ومنسوخه وحفظه الكتاب والسنة وسيرة الخلفاء وحسن التصنيف وجودة الأصحاب والتلامذة مثل أحمد بن حنبل في زهده وورعه وإقامته على السنة ثم سرد أعيان أصحابه من البغاددة والمصريين وكذا عد أبو داود من جملة تلاميذه في الفقه أحمد بن حنبل وقد كان الشافعي من أعلم الناس بمعاني القرآن والسنة واشد الناس نزعا للدلائل منهما وكان من احسن الناس قصدا وإخلاصا كان يقول وددت أن الناس تعلموا نزعا للدلائل منها وكان من أحسن قصدا وإخلاصا كان يقول وددت أن الناس تعلموا هذا العلم ولا ينسب إلى شئ منه أبدا فأوجز عليه ولا يحمدوني وقد قال غير واحد عنه إذا صح عندكم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فقولوا به ودعوا قولي فأنى أقول به وإن لم تسمعوا منى (10/253)
وفي رواية فلا تقلدوني وفي رواية فلا تلتفتوا إلى قولى وفي رواية فاضربوا بقولي عرض الحائط فلا قول لي مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير له من أن يلقاه بشئ من الأهواء وفي رواية خير من أن يلقاه بعلم الكلام وقال لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه كما يفرون من الأسد وقال حكى في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم في القبائل وينادي عليهم هذاجزاء من ترك الكتاب والسنة واقبل على الكلام
وقال البويطي سمعت الشافعي يقول عليكم بأصحاب الحديث فانهم أكثر الناس صوابا
وقال إذا رأيت رجلا من أصحاب الحديث فكأنما رأيت رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم جزاهم الله خيرا حفظوا لنا الأصل فلهم علينا الفضل ومن شعره في هذا المعنى قوله ... كل العلوم سوى القرآن مشغلة ... إلا الحديث وإلا الفقة في الدين ... العلم ما كان فيه قال حدثنا ... وما سوى ذاك وسواس الشياطين ...
وكان يقول القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال مخلوق فهو كافر وقد روى عن الربيع وغير واحد من رؤس أصحابه ما يدل على أنه كان بآيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تحريف على طريقة السلف وقال ابن خزيمة أنشدني المزنى وقال أنشدنا الشافعي لنفسه قوله ... ماشئت كان وإن لم أشأ ... وما شئت إن لم تشأ لم يكن ... خلقت العباد على ماعلمت ... ففي العلم يجري الفتى والمسن ... فمنهم شقى ومنهم سعيد ... ومنهم قبيح ومنهم حسن ... على ذا مننت وهذا خذلت ... وهذا أعنت وذا لم يعن ...
وقال الربيع سمعت الشافعي يقول أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم على وعن الربيع قال أنشدني الشافعي ... قد عوج الناس حتى أحدثوا بدعا ... في الدين بالرأى لم تبعث بها الرسل ... حتى استخف بحق الله أكثرهم ... وفي الذي حملوا من حقه شغل ...
وقد ذكرنا من شعره في السنة وكلامه فيها وفيما قال من الحكم والمواعظ طرفا صالحا في الذي كتبناه في أول طبقات الشافعية وقد كانت وفاته بمصر يوم الخميس وقيل يوم الجمعة في آخر يوم من رجب سنة أربع ومائتين وعن أربع وخمسين سنة وكان أبيض جميلا طولا مهيبا يخضب بالحناء مخالفا للشيعة رحمه الله وأكرم مثواه (10/254)
وفيها توفي إسحاق بن الفرات وأشهب بن عبد العزيز المصري المالكي والحسن بن زياد اللؤلؤي الكوفي الحنفي وأبو داود سليمان بن داود الطيالسي صاحب المسند أحد الحفاظ وأبو بدر شجاع بن الوليد وأبو بكر الحنفي وعبد الكريم وعبد الوهاب بن عطا الخفاف والنضر بن شميل أحد أئمة اللغة وهشام بن محمد بن السائب الكلبي أحد علماء التاريخ
ثم دخلت سنة خمس ومائتين
فيها ولى المأمون طاهر بن الحسين بن مصعب نيابة بغداد والعراق وخراسان إلى أقصى عمل المشرق ورضى عنه ورفع منزلته جدا وذلك لأجل مرض الحسن بن سهل بالسواد وولى المأمون مكان طاهر على الرقة والجزيرة يحي بن معاذ وقدم عبد الله بن طاهر بن الحسين إلى بغداد في هذه السنة وكان أبوه قد استخلفه على الرقة وأمره بمقاتلة نصر بن شبث وولي المأمون عيسى ابن يزيد الجلودي مقاتله الزط وولي عيسى بن محمد بن أبي خالد أذربيجان ومات نائب مصر السري بن الحكم بها ونائب السند داود بن يزيد فولى مكانه بشر بن داود على أن يحمل إليه في كل سنة ألف ألف درهم وحج بالناس فيها عبيد الله بن الحسن نائب الحرمين وفيها توفي من الأعيان إسحاق بن منصور السلولي وبشر بن بكر الدمشقي وأبو عامر العقدي ومحمد بن عبيد الطنافسي ويعقوب الحضري وأبو سليمان الداراني عبد الرحمن بن عطية وقيل عبد الرحمن ابن أحمد بن عطية وقيل عبد الرحمن بن عسكر أبو سليمان الداراني أحد أئمة العلماء العاملين أصله من واسط سكن قرية غربي دمشق يقال لها داريا
وقد سمع الحديث من سفيان الثوري وغيره وروى عنه أحمد بن أبي الحواري وجماعة وأسند الحافظ ابن عساكر من طريقة قال سمعت على بن الحسن بن أبي الربيع الزاهد يقول سمعت إبراهيم بن أدهم يقول سمعت ابن عجلان يذكر عن القعقاع بن حكيم عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( من صلى قبل الظهر أربعا غفر الله ذنوبه يومه ذلك ) وقال أبو القاسم القشيري حكى عن أبي سليمان الداراني قال اختلفت إلى مجلس قاص فأثر كلامه في قلبي فلما قمت لم يبق في قلبي منه شيء فعدت إليه ثانية فأثر في قلبي بعد ما قمت وفي الطريق ثم عدت إليه ثالثة فأثر كلامه في قلبي حتى رجعت إلى منزلى فكسرت آلات المخالفات ولزمت الطريق فحكيت هذه الحكاية ليحي بن معاذ فقال عصفور اصطاد كركيا يعنى بالعصفور القاص وبالكركي أبا سليمان وقال أحمد بن أبي الحواري سمعت أبا سليمان يقول ليس لمن ألهم شيئا من الخير أن يعمل به حتى يسمع به في الأثر فاذا سمع به في الأثر عمل به فكان نورا على نور وقال الجنيد قال أبو سليمان ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين الكتاب والسنة (10/255)
قال وقال أبو سليمان أفضل الأعمال خلاف هوى النفس وقال لكل شيء علم وعلم الخذلان ترك البكاء من خشية الله وقال لكل شيء صدأ صدأ نور القلب شبع البطن وقال كل ما شغلك عن الله من أهل أو مال أو ولد فهو شؤم وقال كنت ليلة في المحراب أدعوا ويداي ممدوتان فغلبني البرد فضمنت إحداهما وبقيت الأخرى مبسوطه أدعو بها وغلبتني عينى فنمت فهتف بي هاتف يا أبا سليمان قد وضعنا في هذه ما أصابها ولو كانت الأخرى لوضعنا فيها قال فآليت على نفسى ألا أدعوا إلا ويداي خارجتان حرا كان أبو بردا وقال نمت ليلة عن وردي فإذا أنا بحوراء تقول لي تنام وأنا أربي لك في الخدور منذ خمسمائة عام وقال أحمد بن أبي الحواري سمعت أبا سليمان يقول إن في الجنة أنهارا على شاطئيها خيام فيهن الحور ينشيء الله خلق الحوراء إنشاء فاذا تكامل خلقها ضربت الملائكة عليهن الخيام الواحدة منهن جالسة على كرسى من ذهب ميل في ميل قد خرجت عجيزتها من جانب الكرسي فيجئ أهل الجنة من قصورهم يتنزهون على شاطئ تلك الأنهار ما شاؤا ثم يخلو كل رجل بواحدة منهن قال أبو سليمان كيف يكون في الدنيا حال من يريد افتضاض الأبكار على شاطيء تلك الأنهار في الجنة
وقال سمعت أبا سليمان يقول ربما مكثت خمس ليال لا أقرأ بعد الفاتحه بآية واحدة أتفكر في معانيها ولربما جاءت الآية من القرآن فيطير العقل فسبحان من يرده بعد وسمعته يقول أصل كل خير في الدنيا والآخره الخوف من الله عز و جل ومفتاح الدنيا الشبع ومفتاح الآخره الجوع وقال لي يوما يا أحمد جوع قليل وعرى قليل وفقر قليل وصبر قليل وقد انقضت عنك أيام الدنيا وقال أحمد اشتهى أبو سليمان يوما رغيفا حارا بملح فجئته به فعض منه عضة ثم طرحه وأقبل يبكي ويقول يارب عجلت لي شهوتي لقد أطلت جهدي وشقوتي وأنا نائب فلم يذق الملح حتى لحق بالله عز و جل قال وسمعته يقول مارضيت عن نفسى طرفة عين ولو أن أهل الأرض اجتمعوا على أن يضعوني كاتضاعي عند نفسي ما قدروا وسمعته يقول من رأى لنفسه قيمة لم يذق حلاوة الخدمة وسمعته يقول من حسن ظنه بالله ثم لم يخفه ويطعه فهو مخدوع وقال ينبغي للخوف أن يكون على العبد أغلب الرجاء فإذا غلب الرجاء على الخوف فسد القلب وقال لي يوما هل فوق الصبر منزلة فقلت نعم يعنى الرضا فصرخ صرخة غشى عليه ثم أفاق فقال إذا كان الصابرون يوفون أجرهم بغير حساب فما ظنك بالأخرى وهم الذين رضى عنهم وقال ما يسرني أن لي الدنيا وما فيها من أولها إلى آخرها أنفقه في وجوه البر وإني أغفل عن الله طرفة عين وقال قال زاهد لزاهد أوصني فقال لا يراك الله حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك فقال زدني فقال ما عندي زيادة وقال من أحسن في نهاره كوفيء في ليله ومن أحسن في ليلة كوفيء في نهاره ومن صدق في (10/256)
ترك شهوة أذهبها الله من قبله والله أكرم من أن يعذب قلبا بشهوة تركت له وقال إذا سكنت الدنيا القلب ترحلت منه الآخره وإذا كانت الآخرة في القلب جاءت الدنيا تزاحمها وإذا كانت الدنيا في القلب لم تراحمها الآخره لأن الدنيا لئيمة والآخرة كريمة وما ينبغي لكريم أن يزاحم لئيما
وقال أحمد بن أبي الحواري بت ليلة عند أبي سليمان فسمعته يقول وعزتك وجلالك لئن طالبتني بذنوبي لأطالبنك بعفوك ولئن طالبتني ببخلي لأطالبنك بكرمك ولئن أمرت بي إلى النار لأخبرن أهل النار أني أحبك وكان يقول لو شك الناس كلهم في الحق ما شككت فيه وحدي وكان يقول ما خلق الله خلقا أهون على من إبليس ولولا أن الله أمرني أن أتعوذ منه ما تعوذت منه أبدا ولو تبدي لي مالطمت إلا صفحة وجهه وقال إن اللص لا يجيء إلى خربة ينقب حيطانها وهو قادر على الدخول إليها من أى مكان شاء وإنما يجيء إلى البيت المعمور كذلك إبليس لا يجيء إلا إلا كل قلب عامر ليستنزله وينزله عن كرسيه ويسلبه أعز شيء وقال إذا أخلص العبد انقطعت عنه الوساوس والرؤيا وقال الرؤيا يعني الجنابة وقال مكثت عشرين سنة لم أحتلم فدخلت مكة ففاتتني صلاة العشاء جماعة فاحتلمت تلك الليلة وقال إن من خلق الله قوما لا يشغلهم الجنان وما فيها من النعيم عنه فكيف يشتغلون بالدنيا عنه وقال الدنيا عند الله أقل من جناح بعوضه فما الزهد فيها وإنما الزهد في الجنان والحور العين حتى لا يرى الله في قلبك غيره وقا الجنيد شيء يروى عن أبى سليمان أنا استحسنته كثيرا قوله من اشتغل بنفسه شغل عن الناس ومن اشتغل بربه شغل عن نفسه وعن الناس وقال خير السخاء ما وافق الحاجة وقال من طلب الدنيا حلالا واستغناء عن المسألة واستغناء عن الناس لقي الله يوم يلقاه ووجهه كالقمر ليلة البدر ومن طلب الدنيا مفاخرا ومكاثرا لقي الله يوم يلقاه وهو عليه غضبان وقد روي نحو هذا مرفوعا وقال إن قوما طلبوا الغنى في المال وجمعه فأخطأوا من حيث ظنوا ألا وأنما الغنى في القناعة وطلبوا الراحة في الكثرة وإنما الراحة في القلة وطلبوا الكرامة من الخلق وإنما هي في التقوى وطلبوا التنعم في اللباس الرقيق اللين والطعام الطيب والمسكن الأنيق المنيق وإنما هو في الاسلام والايمان والعمل الصالح والستر والعافية وذكر الله وقال لولا قيام الليل ما أحببت البقاء في الدنيا لغرس الأشجار ولا لكرى الأزهار وإنما أحبها لصيام الهواجر وقيام الليل وقال اهل الطاعة في ل ليلهم الذ من اهل اللهو في لهوهم وقال ربما استقبلني الفرح في جوف الليل وربما رايت القلب يضحك ضحكا وقال إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها طربا فأقول إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب
وقال أحمد بن أبي الحواري سمعت أبا سليمان يقول بينا أنا ساجد إذ ذهب بي النوم فاذا (10/257)
أنا بها يعنى الحوراء قد ركضتني برجلها فقالت حبيبي أترقد عيناك والملك يقطان ينظر إلى المتهجدين في تهجدهم بؤسا لعين آثرت لذة نومة على لذة مناجاة العزيز قم فقد دنا الفراغ ولقي المحبون بعضهم بعضا فما هذا الرقاد حبيبي وقرة عينى أترقد عيناك وأنا أتربي لك في الخدور منذ كذا وكذا قال فوثبت فزعا وقد عرقت حياء من توبيخها إياي وإن حلاوة منطقها لغي سمعي وقلبي وقال أحمد دخلت على أبي سليمان فإذا هو يبكي فقلت مالك فقال زجرت البارحة في منامي قلت ما الذي زجرك قال بينا أنا نائم في محرابي إذ وقفت على جارية تفوق الدنيا حسنا وبيدها ورقه وهي تقول أتنام يا شيخ فقلت من غلبت عينه نام قالت كلا إن طالب الجنة لا ينام ثم قالت أتقرأ قلت نعم فأخذت الورقة من يدها فاذا فيها مكتوب ... لهت بك لذة عن حسن عيش ... مع الخيرات في غرف الجنان ... تعيش مخلدا لا موت فيها ... وتنعم في الجنان مع الحسان ... تيقظ من منامك إن خيرا ... من النوم التهجد في القرآن ...
وقال أبو سليمان أما يستحي أحدكم أن يلبس عباءة بثلاثة دراهم وفي قلبه شهوة بخمسة دراهم وقال أيضا لا يجور لأحد أن يظهر للناس الزهد والشهوات في قلبه فإذا لم يبق في قلبه شيء من الشهوات جاز له أن يظهر إلى الناس الزهد بلبس العبا فإنها علم من أعلام الزهاد ولو لبس ثوبين أبيضين لسيتر بهما أبصار الناس عنه وعن زهده كان أسلم لزهده من لبس العبا وقال إذا رأيت الصوفي يتنوق في لبس الصوف فليس بصوفي وخيار هذه الأمة أصحاب القطن أبو بكر الصديق وأصحابه وقال غيره إذا رأيت ضوء الفقير في لباسه فاغسل يديك من فلاحه وقال أبو سليمان الاخ الذي يعظك برؤيته قبل كلامه وقد كنت أنظر إلى الأخ من أصحابي بالعراق فأنتفع برؤيته شهرا
وقال أبو سليمان قال الله تعالى عبدي إنك ما استحيت منى أنسيت الناس عيوبك وأنسيت بقاع الأرض ذنوبك ومحوت زلاتك من أم الكتاب ولم أناقشك الحساب يوم القيامة وقال أحمد سألت أبا سليمان عن الصبر فقال والله إنك لا تقدر عليه في الذي تحب فكيف تقدر عليه فيما تكره وقال أحمد تنهدت عنده يوما فقال إنك مسؤل عنها يوم القيامة فإن كانت على ذنب سلف فطوبى لك وإن كانت على فوت دنيا أو شهوة فويل لك وقال إنما رجع من رجع من الطريق قبل وصول ولو وصلوا إلى الله ما رجعوا وقا إنما عصى الله من عصاه لهوانهم عليه ولو عزموا عليه وكرموا لحجزهم عن معاصيه وحال بينهم وبينها وقال جلساء الرحمن يوم القيامة من جعل فيهم خصالا الكرم والحلم والعلم والحكمة والرأفة والرحمة والفضل والصفح والاحسان والبر والعفو واللطف
وذكر أبو عبد الرحمن السلمى في كتاب محن المشايخ أن أبا سليمان الداراني أخرج من دمشق (10/258)
وقالوا إنه يرى الملائكة ويكلمونه فخرج إلى بعض الثغور فرأى بعض أهل الشام في منامه أنه إن لم يرجع إليهم هلكوا فخرجوا في طلبه وتشفعوا وتذللوا له حتى ردوه
وقد اختلف الناس في وفاته على أقوال فقيل مات سنة أربع ومائتين وقيل سنة خمس ومائتين وقيل خمس عشرة ومائتين وقيل سنة خمس وثلاثين ومائتين فالله أعلم وقد قال مروان الطاطري يوم مات أبو سليمان لقد أصيب به أهل الاسلام كلهم قلت وقد دفن في قرية داريا في قبلتها وقبره بها مشهور وعليه بناء وقبلته مسجد بناه الأمير ناهض الدين عمر النهرواني وورقف على المقيمين عنده وقفا يدخل عليهم منه غلة وقد جدد مزاره في زماننا هذا ولم أر ابن عساكر تعرض لموضع دفنه بالكلية وهذا منه عجيب وروى ابن عساكر عن أحمد بن أبي الحواري قال كنت أشتهى أن أرى أبا سليمان في المنام فرأيته بعد سنة فقلت له ما فعل الله بك يا معلم فقال يا أحمد دخلت يوما من باب الصغير فرأيت حمل شيخ فأخذت منه عودا فما أدري تخللت به أو رميته فأنا في حسابه إلى الآن وقد توفي ابنه سليمان بعده بنحو من سنتين رحمهما الله تعالى
ثم دخلت سنتة ست ومائتين
فيها ولى المأمون داود بن ماسجور بلاد البصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين وأمره بمحاربة الزط وفيها جاء مد كثير فغرق أرض السواد وأهلك للناس شيئا كثيرا وفيها ولى المأمون عبد الله ابن طاهر بن الحسين أرض الرقة وأمره بمحاربة نصر بن شبث وذلك أن نائبها يحي بن معاذ مات وقد كان استخلف مكانه ابنه أحمد فلم يمض ذلك المأمون واستناب عليه عبد الله بن طاهر لشهامته وبصره بالأمور وحثه على قتال نصر بن شبث وقد كتب إليه أبوه من خراسان بكتاب فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واتباع الكتاب والسنة وقد ذكره ابن جرير بطوله وقد تداوله الناس بينهم واستحسنوه وتهادوه بينهم حتى بلغ أمره إلى المأمون فأمر فقرئ بين يديه فاستجاده جدا وأمر أن يكتب به نسخ إلى سائر العمال في الأقاليم وحج بالناس عبيد الله بن الحسن نائب الحرمين وفيها توفي إسحاق بن بشر الكاهلي أبو حذيفه صاحب كتاب المبتدأ وحجاج بن محمد الأعور وداود بن المحبر الذي وضع كتاب العقل وسبابة بن سوار ( شبابة ) ومحاضرين بن المورد وقطرب صاحب المثلث في اللغة ووهب بن جرير ويزيد بن هارون شيخ الامام أحمد
ثم دخلت سنة سبع ومائتين
فيها خرج عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن على بن أبي طالب ببلاد عك في اليمن يدعو إلى الرضى من آل محمد وذلك لما أساء العمال السرة وظلموا الرعايا فلما ظهر بايعه الناس فبعث إليه المأمون دينار بن عبد الله في جيش كثيف ومعه كتاب لعبد الرحمن هذا إن هو سمع (10/259)
وأطاع فحضروا الموسم ثم ساروا إلى اليمن وبعثوا بالكتاب إلى عبد الرحمن فسمع وأطاع وجاء حتى وضع يده في يد دينار فساروا به إلى بغداد ولبس السواد فيها
وفي هذه السنة توفي طاهر بن الحسين بن مصعب نائب العراق وخراسان بكاملها وجد في فراشه ميتا بعد ما صلى العشاء الآخرة والتف في الفراش فاستبطأ أهله خروجه لصلاة الفجر فدخل عليه أخوه وعمه فوجداه ميتا فلما بلغ موته المأمون قال لليدين وللفم الحمد لله الذي قدمه وأخرنا وذلك أنه بلغه أن طاهرا خطب يوما ولم يدع للمأمون فوق المنبر ومع هذا ولى ولده عبد الله مكانه وأضاف إليه زيادة على ما كان ولاه أباه الجزيرة والشام نيابة فاستخلف على خراسان أخاه طلحة بن طاهر سبع سنين ثم توفي طلحة فاستقل عبد الله بجميع تلك البلاد وكان نائبه على بغداد إسحاق ابن إبراهيم وكان طاهر بن الحسين هو الذي انتزع بغداد والعراق واغرورقت عيناه فقال له طاهر مايبكيك يا أمير المؤمنين فلم يخبره فأعطى طاهر حسينا الخادم مائتى الف درهم حتى استعلم له مما بكى امير المؤمنين فأخبره المأمون وقال لا تخبر به أحدا [ وإلا ] أقتلك إني ذكرت قتله لأخي وما ناله من الاهانة على يدي طاهر ووالله لاتفوته منى فلما تحقق طاهر ذلك سعى في النقلة من بين يدي المأمون ولم يزل حتى ولاه خراسان وأطلق له خادما من خدامه وعهد المأمون إلى الخادم إن رأى منه شيئا يريبه أن يسمه ودفع إليه سما لا يطاق فلما خطب طاهر ولم يدع للمأمون سمه الخادم في كامخ فمات من ليلته وقد كان طاهر هذا يقال له ذو اليمينين وكان أعور بفرد عين فقال فيه عمرو بن نباتة ... ياذا اليمينين وعين واحدة ... نقصان عين ويمين زائدة ...
واختلف في معنى قوله ذو اليمينين فقيل لأنه ضرب رجلا بشماله فقده نصفين وقيل لأنه ولي العراق وخراسان وقد كان كريما ممدحا يحب الشعراء ويعطيهم الجزيل ركب يوما في حراقة فقال فيه شاعر ... عجبت لحراقة ابن الحسين ... لا غرقت كيف لا تغرق ... وبحران من فوقها واحد ... وآخر من تحتها مطبق ... وأعجب من ذلك أعوادها ... وقد مسها كيف لا تورق ...
فأجازه بثلاثة آلاف دينار وقال إن زدتنا زدناك قال ابن خلكان وما أحسن ما قاله بعض الشعراء في بعض الرؤساء وقد ركب البحر ... ولما امتطى البحر ابتهلت تضرعا ... إلى الله يا مجري الرياح بلطفه (10/260)
جعلت الندا من كفه ومثل موجه ... فسلمه واجعل موجه مثل كفه ...
مات طاهر بن الحسين هذا يوم السبت لخمس بقين من جمادى الآخره سنة سبع ومائتين وكان مولده سنة سبع وخمسين وكان الذي سار إلى ولده عبد الله إلى الرقة يعزيه في أبيه ويهنيه بولاية تلك البلاد القاضي يحي بن أكثم عن أمر المأمون وفيها غلا السعر ببغداد والكوفة والبصرة حتى بلغ سعر القفير من الحنطة أربعين درهما وفيها حج بالناس أو على بن الرشيد أخو المأمون
وفيها توفي بشر بن عمر الزهراني وجعفر بن عون وعبد الصمد بن عبد الوارث وقراد ابن نوح وكثير بن هشام ومحمد بن كناسة ومحمد بن عمر الواقدي قاضي بغداد وصاحب السير والمغازي وأبو النضر هاشم بن القاسم والهيثم بن عدي صاحب التصانيف
يحي بن زياد بن عبد الله بن منصور
أبو زكريا الكوفي نزيل بغداد بنى سعد المشهور بالفراء شيخ النحاة واللغويين والقراء كان يقال له أمير المؤمنين في النحو وروي الحديث عن حازم بن الحسن البصري عن مالك بن دينار عن أنس بن مالك قال قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو بكر وعمر وعثمان مالك يوم الدين بألف رواه الخطيب قال وكان ثقة إماما وذكر أن المأمون أمره بوضع كتاب في النحو فأملاه وكتبه الناس عنه وأمر المأمون بكتبه في الخزائن وأنه كان يؤدب ولديه ولي العهد من بعده فقام يوما فابتدراه أيهما يقدم نعليه فتنازعا في ذلك ثم اصطلحا على أن يقدم كل واحد منهما نعلا فأطلق لهما أبوهما عشرين ألف دينار وللفراء عشرة آلاف درهم وقال له لا أعزمنك اذ يعد نعليك ولدا أمير المؤمنين ووليا العهد من بعده وروى أن بشر المريسى أو محمد بن الحسن سأل الفراء عن رجل سها في سجدتي السهو فقال لا شيء عليه قال ولم قال لأن أصحابنا قالوا المصغر لا يصغر فقال ما رأيت أن امرأة تلد مثلك والمشهور أن محمدا هو الذي سأله عن ذلك وكان ابن خالة الفراء وقال أبو بكر من محمد بن يحي الصولي توفي الفراء سنة سبع ومائتين قال الخطيب كانت وفاته ببغداد وقيل بطريق مكة وقد امتدحوه وأثنوا عليه في مصنفاته
ثم دخلت سنة ثمان ومائتين
فيها ذهب الحسن بن الحسين بن مصعب أخو طاهر فارا من خراسان إلى كرمان فعصى بها فسار إليه أحمد بن أبي خالد فحاصره حتى نزل قهرا فذهب به إلى المأمون فعفا عنه فاستحسن ذلك منه وفيها استعفى محمد بن سماعة من القضاء فأعفاه المأمون وولي مكانه إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة وفيها ولي المأمون محمد بن عبد الرحمن المخزومي القضاء بعسكر المهدي في شهر المحرم ثم عزله عن قريب وولي مكانه بشر بن سعيد بن الوليد الكندي في شهر ربيع الأول منها فقال المخزومي في ذلك (10/261)
ألا أيها الملك الموحد ربه ... قاضيك بشر بن الوليد حمار ... ينفي شهادة من يدين بما به ... نطق الكتاب وجاءت الأخبار ... ويعد عدلا من يقول بأنه ... شيخ تحيط بجسمه الأقطار ...
وفيها حج بالناس صالح بن هارون الرشيد عن أمر أخيه المأمون
وفيها توفي من الأعيان الأسود بن عامر وسعيد بن عامر وعبد الله بن بكر أحد مشايخ الحديث والفضل بن الربيع الحاجب ومحمد بن مصعب وموسى بن محمد الأمين الذي كان قد ولاه العهد من بعده ولقبه بالناطق فلم يتم له أمره حتى قتل أبوه وكان ما كان كما تقدم ويحي بن أبي بكر ويحي بن حسان ويعقوب بن إبراهيم الزهري ويونس بن محمد المؤدب
وفاة السيدة نفيسه
وهي نفيسة بنت أبي محمد الحسن بن زيد بن على بن أبي طالب القرشية الهاشمية كان أبوها نائبا للمنصور على المدينة النبوية خمس سنين ثم غضب المنصور عليه فعزله عنها وأخذ منه كل ما كان يملكه وما كان جمعه منها وأودعه السجن ببغداد فلم يزل به حتى توفي المنصور فأطلقه المهدي وأطلق له كل ما كان أخذ منه وخرج معه إلى الحج في سنة ثمان وستين ومائة فلما كان بالحاجر توفي عن خمس وثمانين سنة وقد روى له النسائي حديثه عن عكرمة عن ابن عباس ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم احتجم وهم محمرم ) وقد ضعفه ابن معين وابن عدي ووثقه ابن حبان وذكره الزبير بن بكار وأثنى عليه في رياسته وشهامته والمقصود أن ابنته نفيسة دخلت الديار المصرية مع زوجها المؤتمن إسحاق بن جعفر فأقامت بها وكانت ذات مال فأحسنت إلى الناس والجذمى والزمنى والمرضى وعموم الناس وكانت عابدة زاهدة كثيرة الخير ولما ورد الشافعي مصر أحسنت إليه وكان ربما صلى بها في شهر رمضان وحين مات أمرت بجنازته فأدخلت إليها المنزل فصلت عليه ولما توفيت عزم زوجها إسحاق بن جعفر أن ينقلها إلى المدينة النبوية فمنعه أهل مصر من ذلك وسألوه أن يدفنها عندهم فدفنت في المنزل الذي كانت تسكنه بمحلة كانت تعرف قديما بدرب السباع بين مصر والقاهرة وكانت وفاتها في شهر رمضان من هذه السنة فيما ذكره ابن خلكان قال ولأهل مصر فيها اعتقاد قلت وإلى الآن قد بالغ العامة في اعتقادهم فيها وفي غيرها كثيرا جدا ولا سيما عوام مصر فانهم يطلقون فيها عبارات بشيعة مجازفة تؤدي إلى الكفر والشرك وألفاظا كثيرة ينبغي أن يعرفوا أنه لا تجوز وربما نسبها بعضهم إلى زين العابدين وليست من سلالته والذي ينبغي أن يعتقد فيها ما يليق بمثلها من النساء الصالحات وأصل عبادة الأصنام من المغالاة في القبور وأصحابها وقد أمر النبي صلى الله عليه و سلم بتسويه القبور وطمسها والمغالاة في البشر حرام (10/262)
ومن زعم أنها تفك من الخشب أو أنها تنفع أو تضر بغير مشيئة الله فهو مشرك رحمها الله وأكرمها
الفضل بن الربيع
ابن يونس بن محمد بن عبدالله بن أبي فروة كيسان مولى عثمان بن عفان كان الفضل هذا متمكنا من الرشيد وكان زوال دولة البرامكة على يديه وقد وزر مرة للرشيد وكان شديد التشبه بالبرامكة وكانوا يتشبهون به فلم يزل يعمل جهده فيهم حتى هلكوا كما تقدم وذكر ابن خلكان أن الفضل هذا دخل يوما على يحي بن خالد وابنه جعفر يوقع بين يديه ومع الفضل عشر قصص فلم يقض له منها واحدة فجمعهن الفضل بن الربيع وقال ارجعن خائبات خاسئات ثم نهض وهو يقول ... عسى وعسى يثني الزمان عنانه ... بتصريف حال والزمان عثور ... فتقضى لبانات وتشفى حزائز ... وتحدث من بعد الأمور أمور ...
فسمعه الوزير يحي بن خالد فقال له أقسمت عليك لم رجعت فأخذ منه القصص فوقع عليها ثم لم يزل يحفر خلفهم حتى تمكن منهم وتولى الوزارة بعدهم وفي ذلك يقول أبو نواس ... ما رعى الدهر آل برملك لما ... أن رمى ملكهم بأمر فظيع ... إن دهرا لم يرع ذمه ليحي ... غير راع ذمام آل الربيع ...
ثم وزر من بعد الرشيد لابنه الأمين فلما دخل المأمون بغداد اختفى فأرسل له المأمون أمانا فخرج فجاء فدخل على المأمون بعد اختفاء مدة فأمنه ثم لم يزل خاملا حتى مات في هذه السنة وله ثمان وستون سنة
ثم دخلت سنة تسع ومائتين
فيها حصر عبد الله بن طاهر نصر بن شبث بعد ما حابه خمس سنين وضيق عليه جدا حتى ألجأه إلى أن طلب منه الأمان فكتب ابن طاهر إلى المأمون يعلمه بذلك فأرسل إليه أن يكتب له أمانا عن أمير المؤمنين فكتب له كتاب أمان فنزل فأمر عبد الله بتخريب المدينة التي كان متحصنا بها وذهب شره وفيها جرت حروب مع بابك الخرمي فأسر بابك بعض أمراء الإسلام وأحد مقدمي العساكر فاشتد ذلك على المسلمين وفيها حج بالناس صالح بن العباس بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس وهو والي مكة وفيها توفي ملك الروم ميخائيل بن نقفور ( جرجس ) وكان له عليهم تسع سنين فملكوا عليهم ابنه توفيل بن ميخائيل
وفيها توفي من مشايخ الحديث الحسن بن موسى الأشيب وأبو على الحنفي وحفص بن عبد الله قاضي نيسابور وعثمان بن عمر بن فارس ويعلى بن عبيد الطنافسي
ثم دخلت سنة عشر ومائتين
في صفر منها دخل نصر بن شبث بغداد بعثه عبد الله بن طاهر فدخلها ولم يتلقاه أحد من (10/263)
الجندبل دخلها وحده فأنزل في مدينة أبي جعفر ثم حول إلى موضع آخر وفي هذا الشهر ظفر المأمون بجماعة من كبراء من كان بايع إبراهيم بن المهدي فعاقبهم وحبسهم في المطبق ولما كن ليلة الأحد لثلاث عشرة من ربيع الآخر اجتاز إبراهيم بن المهدي وكان مختفيا مدة ست سنين وشهورا متنقبا في زي امرأة ومعه امرأتان في بعض دروب بغداد في أثناء الليل فقام الحارس فقال إلى أين هذه الساعة ومن أين ثم أراد أن يمسكهن فأعطاه إبراهيم خاتما كان في يده من ياقوت فلم نظر إليه استراب وقال إنما هذا خاتم رجل كبير الشأن فذهب بهن إلى متولي الليل فأمرهن أن يسفرن عن وجوههن فتمنع إبراهيم فكشفوا عن وجهه فإذا هو هو فعرفه فذهب به إلى صاحب الجسر فسلمه إليه فرفعه الآخر إلى باب المأمون فأصبح في دار الخلافة ونقابه على رأسه والملحفة في صدره ليراه الناس وليعلموا كيف أخذ فأمر المأمون بالاحتفاظ به والاحتراس عليه مدة ثم أطلقه ورضى عنه هذا وقد صلب جماعة ممن كان سجنهم بسببه لكونهم أرادوا الفتك بالموكلين بالسجن فصلب منهم أربعة
وقد ذكروا أن إبراهيم لما وقف بين يدي المأمون أنبه على ما كان منه فترقق له عمه إبراهيم كثيرا وقال يا أمير المؤمنين إن تعاقب فبحقك وإن تعف فبفضلك فقال بل أعفو يا إبراهيم إن القدرة تذهب الحفيظة والندم توبة وبينهما عفو الله عز و جل وهو أكبر مما تسأله فكبر إبراهيم وسجد شكرا لله عز و جل
وقد امتدح إبراهيم بن المهدي ابن أخيه المأمون بقصيدة بالغ فيها فلما سمعها المأمون قال أقول كما قال يوسف لإخوته لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين وذكر ابن عساكر أن المأمون لما عفا عن عمه إبراهيم أمره أن يغنيه شيئا فقال إني تركته فأمره فأخذ العود في حجره وقال ... هذا مقام سرور خربت منازله ودوره ... نمت عليه عداته كذابا فعاقبه أميره ...
ثم عاد فقال ... ذهبت من الدنيا وقد ذهبت عنى ... لوى الدهر بي عنها وولى بها عنى ... فإن أبك نفسي أبك نفسا عزيزة ... وإن أحتقرها أحتقرها على ضغن ... وإني وإن كنت المسيء بعينه ... فأني بربي موقن حسن الظن ... عدوت على نفسي فعاد بعفوه ... على فعاد العفو منا على من ...
فقال المأمون أحسنت يا أمير المؤمنين حقا فرمى العود من حجره ووثب قائما فزعا من هذا الكلام فقال له المأمون اجلس واسكن مرحبا بك وأهلا لم يكن لشيء تتوهمه ووالله لا رأيت طول أيامي شيئا تكرهه ثم أمر له بعشرة آلاف دينار وخلع عليه ثم أمر له برد جميع (10/264)
ما كان له من الأموال والضياع والدور فردت إليه وخرج من عنده مكرما معظما
عرس بوران
وفي رمضان منها بنى المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل وقيل إنه خرج في رمضان إلى معسكر الحسن بن سهل بفم الصلح وكان الحسن قد عوفي من مرضه فنزل المأمون عنده بمن معه من وجوه الأمراء والرؤساء وأكابر بنى هاشم فدخل ببوران في شوال من هذه السنة في ليلة عظيمة وقد أشعلت بين يديه شموع العنبر ونثر على رأسه الدر والجوهر فوق حصر منسوجة بالذهب الأحمر وكان عدد الجوهر منه ألف درة فأمر به فجمع في صينية من ذهب كان الجوهر فيها فقالوا يا أمير المؤمنين إنا نثرناه لتتلقطه الجواري فقال لا أنا أعوضهن من ذلك فجمع كله فلما جاءت العروس ومعها جدتها زبيدة أم أخيه الأمين من جملة من جاء معها فأجلست إلى جانبه فصب في حجرها ذلك الجوهر وقال هذا نحلة من إليك وسلى حاجتك فأطرقت حياء فقالت جدتها كلمى سيدك وسليه حاجتك فقد أمرك فقالت يا أمير المؤمنين أسألك أن ترضى عن عمك إبراهيم بن المهدي وأن ترده إلى منزلته التي كان فيها فقال نعم قالت وأم جعفر تعني زبيدة تأذن لها في الحج قال نعم فخلعت عليها زبيدة بذلتها الأميرية وأطلقت له قرية مقورة وأما والد العروس الحسن بن سهل فإنه كتب أسماء قراه وضياعه وأملاكه في رقاع ونثرها على الأمراء ووجوه الناس فمن وقعت بيده رقعة في قرية منها بعث إلى القرية التي فيها نوابه فسلمها إليه ملكا خالصا وأنفق على المأمون ومن كان معه من الجيش في مدة إقامته عنده سبعة عشر يوما ما يعادل خمسين ألف ألف درهم ولما أراد المأمون الانصراف من عنده أطلق له عشرة ألاف الف درهم وأقطعه البلد الذي هو نازل بها وهو إقليم فم الصلح مضافا إلى ما بيده من الاقطاعات ورجع المأمون إلى بغداد في أواخر شوال من هذه السنة وفي هذه السنة ركب عبد الله بن طاهر إلى مصر فاستعادها منه بعد حروب يطول ذكرها وفيها توفي من الأعيان أبو عمرو الشيباني اللغوي واسمه إسحاق بن مراد ومروان بن محمد الطاطري ويحي بن إسحاق والله سبحانه أعلم
ثم دخلت سنة إحدى عشرة ومائتين
فيها توفي أبو الجواب وطلق بن غنام وعبد الرازق بن همام الصنعاني صاحب المصنف والمسند وعبد الله بن صالح العجلي
أبو العتاهية الشاعر المشهور
واسمه إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان أصله من الحجاز وقد كان تعشق جارية للمهدي (10/265)
اسمها عتبه وقد طلبها منه غير مرة فإذا سمح له بها لم ترده الجارية وتقول للخليفة أتعطيني لرجل ذميم الخلق كان يبيع الجرار فكان يكثر التغزل فيها وشاع أمره واشتهر بها وكان المهدي يفهم ذلك منه واتفق في بعض الأحيان أن المهدي استدعى الشعراء إلى مجلسه وكان فيهم أبو العتاهية وبشار بن برد الأعمى فسمع صوت أبي العتاهية فقال بشار لجليسه أثم ههنا أبو العتاهية قال نعم فانطلق يذكر قصيدته فيها التي أولها ... ألا ما لسيدتي مالها ... أدلت فأجمل إدلالاها ...
فقال بشار لجليسه ما رأيت أجسر من هذا حتى انتهى أبو العتاهية إلىقوله ... أتته الخلافه منقادة ... إليه تجرر أذيالها ... فلم تك تصلح إلا له ... ولم يك يصلح إلا لها ... ولو رامها أحد غيره ... لزلزلت الأرض زلزالها ... ولو لم تطعه بنات القلوب ... لما قبل الله أعمالها ...
فقال بشار لجليسه انظروا أطار الخليفة عن فراشه أم لا قال فوالله ما خرج أحد من الشعراء يومئذ بجائزة غيره قال ابن خلكان اجتمع أبو العتاهية بأبي نواس وكان في طبقته وطبقة بشار فقال أبو العتاهية لأبي نواس كم تعمل في اليوم من الشعر قال بيتا أو بيتين فقال لكني أعمل المائة والمائتين فقال أبو نواس لعلك تعمل مثل قولك ... يا عتب مالي ولك ... يا ليتني لم أرك ... ولو عملت أنا مثل هذا لعملت الألف والألفين وأنا أعمل مثل قولي ... من كف ذات حر في زي ذي ذكر ... لها محبان لوطي وزناء ... ولو أردت مثلي لأعجزك الدهر قال ابن خلكان ومن لطيف شعر أبي العتاهية ... إني صبوت إليك حتى ... صرت من فرط التصابي ... يجد الجليس إذا دنا ... ريح التصابي في ثيابي ...
وكان مولده سنة ثلاثين ومائة وتوفي يوم الاثنين ثالث جمادي الآخرة سنة إحدى عشرة وقيل ثلاث عشرة ومائتين وأوصى أن يكتب علىقبره ببغداد
... إن عيشا يكون آخره الموت ... لعيش معجل التنغيص ...
ثم دخلت سنة ثنتي عشرة ومائتين
فيها وجه المأمون محمد بن حميد الطوسى على طريق الموصل لمحاربة بابك الخرمي في أرض أذربيجان فأخذ جماعة من الملتفين عليه فبعث بهم إلى المأمون وفي ربيع الأول أظهر المأمون (10/266)
في الناس بدعتين فظيعتين إحداهما أطم من الأخرى وهي القول بخلق القرآن والثانية تفضيل على بن أبي طالب على الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد أخطأ في كل منهما خطأ كبيرا فاحشا وأثم إثما عظيما وفيها حج بالناس عبد الله بن عبيد الله بن العباس العباسي وفيها توفي أسد بن موسى الذي يقال له أسد السنة والحسن بن جعفر وأبو عاصم النبيل واسمه الضحاك بن مخلد وأبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج الشامي الدمشقي ومحمد بن يونس الفريابي شيخ البخاري
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة ومائتين
فيها ثار رجلان عبد السلام وابن جليس فخلعا المأمون واستحوذا على الديار المصرية وتابعهما طائفة من القيسية واليمانية فولى المأمون أخاه أبا إسحاق نيابة الشام وولي ابنه العباس نيابه الجزيرة والثغور والعواصم وأطلق لكل منهما ولعبد الله بن طاهر ألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار وفيها ولى السند غسان بن عباد وحج بالناس أمير السنة الماضية وفيها توفي عبد الله بن داود الجريني وعبد الله بن يزيد المقري المصري وعبد الله بن موسى العبسى وعمرو بن أبي سلمة الدمشقي وحكى ابن خلكان أن بعضهم قال وفيها توقي إبراهيم بن ماهان الموصلي النديم وأبو العتاهية وأبو عمرو الشيباني النحوي في يوم واحد ببغداد ولكنه صحح أن إبراهيم النديم توفي سنة ثمان وثمانين ومائة قال السهيلي وفيها توفي عبد الملك بن هشام راوي السيرة عن ابن إسحاق حكاه ابن خلكان عنه والصحيح أنه توفي سنة ثمان عشرة ومائتين كما نص عليه أبو سعيد بن يونس في تاريخ مصر
العكوك الشاعر
أبو الحسن بن على بن جبلة الخراساني يلقب بالعكوك وكان من الموالي ولد أعمى وقيل بل أصابه جدري وهو ابن سبع سنين وكان أسود أبرص وكان شاعرا مطبقا فصيحا بليغا وقد أثنى عليه في شعره الجاحظ فمن بعده قال ما رأيت بدويا ولا حضريا أحسن إنشاء منه فمن ذلك قوله ... بأبي من زارني متكتما ... حذرا من كل شيء جزعا ... زائرا ثم عليه حسنه ... كيف يخفي الليل بدرا طلعا ... رصد الخلوة حتى أمكنت ... ورعى السامر حتى هجعا ... ركب الاهوال في زورته ... ثم ما سلم حتى رجعا ...
وهو القائل في أبي دلف القاسم بن عيسى العجلي ... إنما الدنيا أبو دلف ... بين مغزاه ومحتضره ... فاذا ولى أبو دلف ... ولت الدنيا على أثره (10/267)
كل من في الأرض من عرب ... بين باديه إلى حضره ... يرتجيه نيل مكرمة ... يأتسيها يوم مفتخره ...
ولما بلغ المأمون هذه الأبيات وهي قصيدة طويلة عارض فيها أبا نواس فتطلبه المأمون فهرب منه ثم أحضر بين يديه فقال له ويحك فضلت القاسم بن عيسى علينا فقال يا أمير المؤمنين أنتم أهل بيت اصطفاكم الله من بين عباده وآتاكم ملكا عظيما وإنما فضلته على أشكاله وأقرانه فقال والله ما أبقيت أحدا حيث تقول ... كل من في الأرض من عرب ... بين باديه إلى حضره ...
ومع هذا فلا أستحل قتلك بهذا ولكن بشركك وكفرك حيث تقول في عبد ذليل ... أنت الذي تنزل الأيام منزلها ... وتنقل الدهر من حال إلى حال ... وما مددت مدى طرف إلى أحد ... إلا قضيت بأرزاق وآجال ...
ذاك الله يفعله أخرجوا لسانه من قفاه فأخرجوا لسانه في هذه السنة فمات وقد امتدح حميد بن عبد الحميد الطوسي
... إنما الدنيا حميد ... وأياديه جسام ... فاذا ولى حميد ... فعلى الدنيا السلام ... ولمامات حميد هذا رثاه أبو العتاهية بقوله ... أبا غانم أما فواسع ... وقبرك معمور الجوانب محكم ... وما ينفع المقبور عمران قبره ... إذا كان فيه جسمه يتهدم ...
وقد أورد ابن خلكان لعكوك هذا أشعارا جيدة تركناها اختصارا
ثم دخلت سنة اربع عشرة ومائتين
في يوم السبت لخمس بقين من ربيع الأول منها التقى محمد بن حميد وبابك الخرمي لعنه الله فقتل الخرمي خلقا كثيرا من جيشه وقتله أيضا وانهزم بقية أصحاب ابن حميد فبعث المأمون إسحاق بن إبراهيم ويحي بن أكثم إلى عبد الله بن طاهر يخيرانه بين خراسان ونيابة الجبال وأذربيجان وأرمينية ومحاربة بابك فاختار المقام بخراسان لكثرة احتياجها إلى الضبط وللخوف من ظهور الخوارج وفيها دخل أبو إ سحاق بن الرشيد الديار المصرية فانتزعها من يد عبد السلام وابن جليس وقتلهما وفيها خرج رجل يقال له بلال الضبابي فبعث إليه المأمون ابنه العباس في جماعة من الأمراء فقتلوا بلالا ورجعوا إلى بغداد وفيها ولي المأمون على بن هشام الجبل وقم وأصبهان وأذربيجان وفيها حج بالناس إسحاق بن العباس بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس وفيها توفي أحمد بن خالد الموهبي (10/268)
احمد بن يوسف بن القاسم بن صبيح
أبو جعفر الكاتب ولى ديوان الرسائل للمأمون ترجمه ابن عساكر وأورد من شعره قوله ... قد يرزق المرء من غير حيلة صدرت ... ويصرف الرزق عن ذي الحيلة الداهي ... ما مسني من غنى يوما ولا عدم ... إلا وقولي عليه الحمد لله ... وله أيضا ... إذا قلت في شيء نعم فأتمه ... فإن نعم دين على الحر واجب ... وإلا فقل لا تستريح بها ... لئلا يقول الناس إنك كاذب ... وله ... إذا المرء أفشى سره بلسانه ... فلام عليه غيره فهو أحمق ... إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه ... فصدر الذي يستودع السر أضيق ...
وحسن بن محمد المروزي شيخ الامام أحمد وعبد الله بن الحكم المصرى ومعاوية بن عمر
أبو محمد عبد الله بن أعين بن ليث بن رافع المصري
أحد من قرأ الموطأ على مالك وتفقه بمذهبه وكان معظما ببلاد مصر وله بها ثروة وأموال وافره وحين قدم الشافعي مصر أعطاه ألف دينار وجمع له من أصحابه ألفي دينار وأجرى عليه وهو والد محمد بن عبد الله بن الحكم الذي صحب الشافعي ولماتوي في هذه السنة دفن إلى جانب قبر الشافعي ولما توفي ابنه عبد الرحمن دفن إلى جانب قبر أبيه من القبلة قال ابن خلكان فهي ثلاثة أقبر الشافعي شاميها وهما قبلته رحمهم الله
ثم دخلت سنة خمس عشرة ومائتين
في أواخر المحرم منها ركب المأمون في العساكر من بغداد قاصدا بلاد الروم لغزوهم واستخلف على بغداد وأعمالها إسحاق بن إبراهيم بن مصعب فلما كان بتكريت تلقاه محمد بن على بن موسى ابن جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن على بن أبي طالب من المدينة النبوية فأذن له المأمون في الدخول على ابنته أم الفضل بنت المأمون وكان معقود العقد عليها في حياة أبيه على بن موسى فدخل بها وأخذها معه إلى بلاد الحجاز وتلقاه أخوه أبو إسحاق بن الرشيد من الديار المصرية قبل وصوله إلى الموصل وسار المأمون في جحافل كثيرة إلى بلاد طرسوس فدخلها في جمادي الأولى وفتح حصنا هناك عنوة وأمر بهدمه ثم رجع الى دمشق فنزلها وعمر دير مرات بسفح قيسون وأقام بدمشق مدة وحج بالناس فيها عبد الله بن عبيد الله بن العباس العباسي وفيها توفي أو زيد الانصاري ومحمد بن المبارك الصوري وقبيصة بن عقبة وعلى بن الحسن بن شقيق ومكي بن إبراهيم
أبو زيد الأنصاري
فهو سعيد بن أوس بن ثابت البصري اللغوي أحد الثقات الاثبات ويقال إنه كان يرى ليلة (10/269)
القدر قال أبو عثمان المازني رأيت الأصمعي جاء إلى أبي زيد الأنصاري وقبل رأسه وجلس بين يديه وقال أنت رئيسنا وسيدنا منذ خمسين سنة قال ابن خلكان وله مصنفات كثيرة منها خلق الانسان وكتاب الابل وكتاب المياه وكتاب الفرس والترس وغير ذلك توفي في هذه السنة وقيل في التي قبلها أو التي بعدها وقد جاوز التسعين وقيل إنه قارب المائة وأما أبو سليمان فقد قدمنا ترجمته
ثم دخلت سنة ست عشرة ومائتين
فيها عدا الروم وهو توفيل بن ميخائيل على جماعة من المسلمين فقتلهم في أرض طرسوس نحوا من ألف وستمائة إنسان وكتب إلى المأمون فبدأ بفسه فلما قرأ المأمون كتابه نهض من فوره إلى بلاد الروم عودا على بدء وصحبته أخوه أبو إسحاق بن الرشيد نائب الشام ومصر فافتتح بلدانا كثيرة صلحا وعنوة وافتتح أخوه ثلاثين حصنا وبعث يحي بن أكثم في سرية إلى طوانة فافتتح بلادا كثيرة وأسر خلقا وحرق حصونا عدة ثم عاد إلى العسكر وأقام المأمون ببلاد الروم من نصف جمادي الآخره إلى نصف شعبان ثم عاد إلى دمشق وقد وثب رجل يقال له عبدوس الفهري في شعبان من هذه السنة ببلاد مصر فتغلب على نواب أبي إسحاق بن الرشيد واتبعه خلق كثير فركب المأمون من دمشق يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من ذي الحجة إلى الديار المصرية فكان من امره ما سنذكره
وفيها كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد يأمره أن يأمر الناس بالتكبير عقيب الصلوات الخمس فكان أول ما بدئ بذلك في جامع بغداد والرصافة يوم الجمعة لأربع عشر ليلة خلت من رمضان وذلك أنهم كانوا إذا قضوا الصلاة قام الناس قياما فكبروا ثلاث تكبيرات ثم استمروا على ذلك في بقية الصلوات وهذه بدعة أحدثها المأمون أيضا بلا مستند ولا دليل ولا معتمد فإن هذا لم يفعله قبله أحد ولكن ثبت في الصحيح عن ابن عباس أن رفع الصوت بالذكر كان على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ليعلم حين ينصرف الناس من المكتوبه وقد استحب هذا طائفة من العلماء كإبن حزم وغيره وقال ابن بطال المذاهب الأربعة على عدم استحبابه قال النووي وقد روى عن الشافعي أنه قال إنما كان ذلك ليعلم الناس أن الذكر بعد الصلوات مشروع فلما علم ذلك لم يبق للجهر معنى وهذا كما روى عن ابن عباس أنه كان يجهر في الفاتحة في صلاة الجنازة ليعلم الناس أنها سنة ولهذا نظائر والله أعلم
وأما هذه البدعة التي أمربها المأمون فانها بدعة محدثة لم يعمل بها أحد من السلف وفيها وقع برد شديد جدا وفيها حج بالناس الذي حج بهم في العام الماضي وقيل غيره والله أعلم وفيها توفي حبان ابن هلال وعبد الملك بن قريب الأصمعي صاحب اللغة والنحو والشعر وغير ذلك ومحمد بن بكار بن (10/270)
هلال وهوذه بن خليفة
زبيدة امرأة الرشيد وابنه عمه
وهي ابنة جعفر أم العزيز الملقبة زبيدة بنت جعفر بن المنصور العباسية الهاشمية القرشية كانت أحب الناس إلى الرشيد وكانت ذات حسن باهر وجمال طاهر وكان له معها من الخطايا والجواري والزوجات غيرها كثيرا كما ذكرنا ذلك في ترجمته وإنما لقبت زبيده لأن جدها أبا جعفر المنصور كان يلاعبها ويرقصها وهي صغيرة ويقول إنما أنت زبيدة لبياضها فغلب ذلك عليها فلا تعرف إلا به وأصل اسمها أم العزيز وكان لها من الجمال والمال والخير والديانة والصدقة والبر شيء كبير وروى الخطيب أنها حجت فبلغت نفقتها في ستين يوما أربعة وخمسين ألف ألف درهم ولما هنأت المأمون بالخلافة قالت هنأت نفسي بها عنك قبل أن أراك ولئن كنت فقدت ابنا خليفة لقد عوضت ابنا خليفة لم ألده وما خسر من اعتاض مثلك ولا ثكلت أم ملأت يدها منك وأنا أسأل الله أجرا على ما أخذ وإمتاعا بما عوض توفيت ببغداد في جمادي الأولى سنة ست عشرة ومائتين
ثم قال الخطيب حدثنى الحسين بن محمد الخلال لفظا قال وحدث أبا الفتح القواس قال ثنا صدقة بن هبيرة الموصلي ثنا محمد بن عبد الله الواسطي قال قال عبد الله بن المبارك رأيت زبيدة في المنام فقلت ما فعل الله بك فقالت غفر لي في أول معول ضرب في طريق مكة قلت فما هذه الصفرة قالت دفن بين ظهر انينا رجل يقال له بشر المريسي زفرت عليه جهنم زفرة فاقشعر لها جسدي فهذه الصفرة من تلك الزفرة وذكر ابن خلكان أنه كان لها مائة جارية كلهن يحفظن القرآن العظيم غير من قرأ منه ما قدر له وغير من لم يقرأ وكان يسمع لهن في القصر دوي كدوي النحل وكان ورد كل واحدة عشر القرآن وورد أنها رؤيت في المنام فسئلت عما كانت تصنعه من المعروف والصدقات وما عملته في طريق الحج فقالت ذهب ثواب ذلك كله إلى أهله وما نفعنا إلا ركعات كنت أركعهن في السحر وفيها جرت حوادث وأمور يطول ذكرها
ثم دخلت سنة سبعة عشرة ومائتين في المحرم منها دخل المأمون مصر وظفر بعبدوس الفهري فأمر فضربت عنقه ثم كر راجعا إلى الشام وفيها ركب المأمون إلى بلاد الروم أيضا فحاصر لؤلؤة مائة يوم ثم ارتحل عنها واستخلف على حصارها عجيفا فخدعته الروم فأسروه فأقام في أيديهم ثمانية أيام ثم انفلت منهم واستمر محاصرا لهم فجاء ملك الروم بنفسه فأحاط بجيشه من ورائه فبلغ المأمون فسار إليه فلما أحس توفيل بقدومه هرب وبعث وزيره صنغل فسأله الأمان والصالحة لكنه بدأ بنفسه قبل المأمون فرد عليه المأمون كتابا بليغا مضمونه التقريع والتوبيخ وإني إنما أقبل منك الدخول في الحنيفة (10/271)
وإلا فالسيف والقتل والسلام على من اتبع الهدي وفيها حج بالناس سليمان بن عبد الله بن سليمان ابن على وفيها توفي الحجاج بن منهال وشريح بن النعمان وموسى بن داود الضبي والله سبحانه أعلم
ثم دخلت سنة ثمان عشرة ومائتين
في أول يوم من جمادي الأولى وجه المأمون ابنه العباس إلى بلاد الروم لبناء الطونة وتجديد عمارتها وبعث إلى سائر الأقاليم في تجهيز الفعلة من كل بلد إليها من مصر والشام والعراق فاجتمع عليها خلق كثير وأمره أن يجعلها ميلا في ميل وأن يجعل سورها ثلاث فراسخ وأن يجعل لها ثلاثة أبواب
ذكر أول المحنة والفتنة
في هذه السنة كتب المأمون إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يأمره أن يمتحن القضاة والمحدثين بالقول بخلق القرآن وأن يرسل إليه جماعة منهم وكتب إليه يستحثه في كتاب مطول وكتب غيره قد سردها ابن جرير كلها ومضمونها الاحتجاج على أن القرآن محدث وكل محدث مخلوق وهذا احتجاج لا يوافقه عليه كثير من المتكلمين فضلا عن المحدثنين فان القائلين بأن الله تعالى تقوم به الأفعال الاختيارية لا يقولون بان فعله تعالى القائم بذاته المقدسة مخلوق بل لم يكن مخلوقا بل يقولون هو محدث وليس بمخلوق بل هو كلام الله القائم بذاته المقدسة وما كان قائما بذاته لا يكون مخلوقا وقد قال الله تعالى ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث وقال تعالى ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فالأمر بالسجود صدر منه بعد خلق آدم فالكلام القائم بالذات ليس مخلوقا وذا له موضع آخر وقد صنف البخاري كتابا في هذا المعنى سماه خلق أفال العباد والمقصود أن كتاب المأمون لما ورد بغداد قرئ على الناس وقد عين المأمون جماعة من المحدثين ليحضرهم إليه وهم محمد بن سعد كاتب الواقدي وأبو مسلم المستملى ويزيد بن هارون ويحي بن معين وأبو خيثمة زهير بن حرب وإسماعيل بن أبي مسعود وأحمد ابن الدورقي فبعث بهم إلى المأمون إلى الرقة فامتحنهم بخلق القرآن فأجابوه إلى ذلك واظهروا موافقته وهم كارهون فردهم إلى بغداد وأمر بإشهار أمرهم بين الفقهاء ففعل إسحاق ذلك وأحضر خلقا من مشايخ الحديث والفقهاء وائمة المساجد وغيرهم فدعاهم الى ذلك عن امر المأمون وذكر لهم موافقة أولئك المحدثين له على ذلك فأجابوا بمثل جواب أولئك موافقة لهم ووقعت بين الناس فتنة عظيمة فانا لله وإنا إليه راجعون ثم كتب المأمون إلى إسحاق أيضا بكتاب ثان يستدل به على القول بخلق القرآن بشبه من الدلائل أيضا لا تحقيق تحتها ولا حاصل لها بل هي من المتشابه (10/272)
وأورد من القرآن آيات هي حجة عليه اورد ابن جرير ذلك كله وأمر نائبه أن يقرأ ذلك على الناس وأن يدعوهم إليه وإلى القول بخلق القرآن فأحضر أبو إسحاق جماعة من الأئمة وهم أحمد بن حنبل وقتيبة وأبو حيان الزيادي وبشر بن الوليد الكندي وعلى بن ابي مقاتل وسعدويه الواسطي وعلى بن الجعد وإسحاق بن أبي إسرائيل وابن الهرش وابن علية الأكبر ويحي ابن عبد الحميد العمري وشيخ آخر من سلالة عمر كان قاضيا على الرقة وأبو نصر التمار وأبو معمر القطيعي ومحمد بن حاتم بن ميمون ومحمد بن نوح الجند يسابوري المضروب وابن الفرخان والنضر بن شميل وأبو على بن عاصم وأبو العوام البارد وأبو شجاع وعبد الرحمن بن إسحاق وجماعة فلما دخلوا على أبي إسحاق قرأ عليهم كتاب المأمون فلما فهموه قال لبشر بن الوليد ماتقول في القرآن فقال هو كلام الله قال ليس عن هذا أسألك وإنما أسألك أهو مخلوق قال ليس بخالق قال ولا عن هذا أسألك فقال ما أحسن غير هذا وصمم على ذلك فقال تشهد أن لا إله إلا الله أحدا فردا لم يكن قبله شيء ولا بعده شيء ولا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني ولا وجه من الوجوه قال نعم فقال للكاتب اكتب بما قال فكتب ثم امتحنهم رجلا رجلا فأكثرهم امتنع من القول بخلق القرآن فكان اذا امتنع الرحل منهم امتحنه بالرقعة التي وافق عليها بشر بن الوليد الكندي من أنه يقال لايشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني ولا وجه من الوجوه فيقول نعم كما قال بشر ولما انتهت النوبة إلى امتحان أحمد بن حنبل فقال له أتقول إن القرآن مخلوق فقال القرآن كلام الله لا أزيد على هذا فقال له ماتقول في هذه الرقعة فقال أقول ليس كمثله شيء وهو السميع البصير فقال رجل من المعتزله إنه يقول سميع بإذن بصير بعين فقال له إسحاق ما أردت بقولك سميع بصير فقال أردت منها ما أراده الله منها وهو كما وصف نفسه ولا أزيد على ذلك فكتب جوابات القوم رجلا رجلا وبعث بها إلى المأمون وكان من الحاضرين من أجاب إلى القول بخلق القرآن مصانعة مكرها لأنهم كانوا يعزلون من لا يجيب عن وظائفه وإن كان له رزق على بيت المال قطع وإن كان مفتيا منع من الإفتاء وإن كان شيخ حديث ردع عن الاسماع والأداء ووقعت فتنة صماء ومحنة شنعاء وداهية دهياء فلا حول ولاقوة إلا بالله فصل
فلما وصلت جوابات القوم إلى المأمون بعث إلى نائبه يمدحه على ذلك ويرد على كل فرد فرد ما قال في كتاب أرسله وأمر نائبه أن يمتحنهم أيضا فمن أجاب منهم شهر أمره في الناس ومن لم يجب منهم فابعثه إلى عسكر أمير المؤمنين مقيدا محتفظا به حتى يصل إلى أمير المؤمنين فيرى فيه (10/273)
رأيه ومن رأيه أن يضرب عنق من لم يقل بقوله فعند ذلك عقد النائب ببغداد مجلسا آخر وأحضر أولئك وفيهم إبراهيم بن المهدي وكان صاحبا لبشر بن الوليد الكندي وقد نص المأمون على قتلهما إن لم يجيبا على الفور فلما امتحنهم إسحاق أجابوا كلهم مكرهين متأولين قوله تعالى إلا من أكره وقلبه مطمئن بالأيمان الآيه إلا إربعة وهم أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح والحسن ابن حماد سجاده وعبيد الله بن عمر القواريري فقيدهم وأرصدهم ليبعث بهم إلى المأمون ثم استدعى بهم في اليوم الثاني فامتحنهم فأجاب سجاده إلى القول بذلك فأطلق ثم امتحنهم في اليوم الثالث فأجاب القواريري إلى ذلك فأطلق قيده وأخر أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح الجديسابوري لأنهما أصرا على الامتناع من القول بذلك فأكد قيودهما وجمعهما في الحديد وبعث بهما إلى الخليفة وهو بطرسوس وكتب كتابا بإرسالهما إليه فسارا مقيدين في محمارة على جمل متعادلين رضى الله عنهما وجعل الإمام أحمد يدعو الله عز و جل أن لا يجمع بينهما وبين المأمون وأن لا يرياه ولا يراهما ثم جاء كتاب المأمون إلى نائبه أنه قد بلغني أن القوم إنما أجابوا مكرهين متأولين قوله تعالى إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان الآية وقد أخطأوا في تأويلهم ذلك خطأ كبيرا فارسلهم كلهم إلى أمير المؤمنين فاستدعاهم إسحاق والزمهم بالمسير إلى طرسوس فساروا إليها فلما كانوا ببعض الطريق بلغهم موت المأمون فردوا إلى الرقة ثم أذن لهم بالرجوع إلى بغداد وكان أحمد ابن حنبل وابن نوح قد سبقا الناس ولكن لم يجتمعا به بل أهلكه الله قبل وصولهما إليه واستجاب الله سبحانه دعاء عبده ووليه الإمام أحمد بن حنبل فلم يريا المأمون ولا رآهما بل ردوا إلى بغداد وسيأتي تمام ما وقع لهم من الأمر الفظيع في أول ولاية المعتصم بن الرشيد وتمام باقي الكلام على ذلك في ترجمة الإمام أحمد عند ذكر وفاته في سنة إحدى وأربعين ومائتين وبالله المستعان
عبد الله المأمون
هو عبد الله المأمون بن هارون الرشيد العباسي القرشي الهاشمي أبو جعفر أمير المؤمنين وأمه أم ولد يقال لها مراجل الباذغيسية وكان مولده في ربيع الأول سنة سبعين ومائة ليلة توفي عمه الهادي وولي أبوه هارون الرشيد وكان ذلك ليلة الجمعة كما تقدم قال ابن عساكر روى الحديث عن أبيه وهاشم بن بشر وأبي معاوية الضرير ويوسف بن قحطبة وعباد بن العوام وإسماعيل بن علية وحجاج بن محمد الأعور وروى عنه أبو حذيفة إسحاق بن بشر وهو أسن منه ويحي بن أكثم القاضي وابنه الفضل بن المأمون ومعمر بن شبيب وأبو يوسف القاضي وجعفر بن أبي عثمان الطيالسي وأحمد بن الحارث الشعبي أو اليزيدي وعمرو بن مسعدة وعبد الله بن طاهر بن الحسين ومحمد بن إبراهيم السلمي ودعبل بن على الخزاعي قال وقدم دمشق مرات وأقام بها مدة ثم روى ابن عساكر (10/274)
من طريق أبي القاسم البغوي حدثنا أحمد بن إبراهيم الموصلي قال سمعت المأمون في الشماسية وقد أجرى الحلبة فجعل ينظر إلى كثرة الناس فقال ليحي بن أكثم أما ترى كثرة الناس قال حدثنا يوسف بن عطية عن ثابت عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال ( الخلق كلهم عيال الله فاحبهم إليه أنفعهم لعياله ) ومن حديث أبي بكر المنايحي عن الحسين بن أحمد المالكي عن يحي بن أكثم القاضي عن المأمون عن هشيم عن منصور عن الحسن عن أبي بكرة ان رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ( الحياء من الايمان ) ومن حديث جعفر بن أبي عثمان الطيالسي أنه صلى العصر يوم عرفة خلف المأمون بالرصافة فلما سلم كبر الناس فجعل يقول لا يا غوغاء لا يا غوغاء غدا التكبير سنة أبي القاسم صلى الله عليه و سلم فلما كان الغد صعد المنبر فكبر ثم قال أنبأ هشيم بن بشير ثنا ابن شبرمة عن الشعبي عن البراء بن عازب عن أبي بردة بن دينار قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( من ذبح قبل أن يصلى فانما هو لحم قدمه لأهله ومن ذبح بعد ان يصلى الغداة فقد أصاب السنة ) الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا اللهم اصلحني واستصلحنى وأصلح على يدي تولى المأمون الخلافة في المحرم لخمس بقين منه بعد مقتل أخيه سنة ثمان وتسعين ومائة واستمر في الخلافة عشرين سنة وخمسة أشهر وقد كان فيه تشيع واعتزال وجهل بالسنة الصحيحة وقد بايع في سنة إحدى ومائتين بولاية العهد من بعده لعلى الرضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن على زين العابدين بن الحسين بن على بن ابي طالب وخلع السواد ولبس الخضرة كما تقدم فأعظم ذلك العباسيون من البغاددة وغيرهم وخلعوا المأمون وولوا عليهم إبراهيم بن المهدي ثم ظفر المأمون بهم واستقام له الحال في الخلافة وكان على مذهب الاعتزال لأنه اجتمع بجماعة منهم بشر بن غياث المريسى فخدعوه وأخذ عنهم هذا المذهب الباطل وكان يحب العلم ولم يكن له بصيرة نافذة فيه فدخل عليه بسبب ذلك الداخل وراج عنده الباطل ودعا إليه وحمل الناس عليه قهرا وذلك في آخر أيامه وانقضاء دولته وقال ابن أبي الدنيا كان المأمون أبيض ربعه حسن الوجه قد وخطه الشيب يعلوه صفره أعين طويل اللحية رقيقها ضيق الجبين على خده خال أمه أم ولد يقال لها مراجل وروى الخطيب عن القاسم بن محمد بن عباد قال لم يحفظ القرآن أحد من الخلفاء غير عثمان بن عفان والمأمون وهذا غريب جدا لا يوافق عليه فقد كان يحفظ القرآن عدة من الخلفاء قالوا وقد كان المأمون ولو في شهر رمضان ثلاثا وثلاثين ختمة وجلس يوما لاملاء الحديث فاجتمع حوله القاضي يحي ابن أكثم وجماعة فأملى عليهم من حفظه ثلاثين حديثا وكانت له بصيرة بعلوم متعددة فقها وطبا وشعرا وفرائض وكلاما ونحوا وغريبه وغريب حديث وعلم النجوم وإليه ينسب الزيج المأموني وقد اختبر مقدار الدرجة في وطئه سنجار فاختلف عمله وعمل الأوائل من الفقهاء وروى ابن عساكر (10/275)
أن المأمون جلس يوما للناس وفي مجلسه الأمراء والعلماء فجاءت امرأة تتظلم إليه فذكرت أن أخاها توفي وترك ستمائة دينار فلم يحصل لها سوى دينار واحد فقال لها المأمون على البديهة قد وصل إليك حقك كأن أخاك قد ترك بنتين وأما وزوجة واثنى عشر أخا وأختا واحدة وهي أنت قالت نعم يا أمير المؤمنين فقال للبنتين الثلثان أربعمائة دينار وللأم السدس مائة دينار وللزوجة الثمن خمسة وسبعون دينارا بقي خمسة وعشرون دينارا لكل أخ ديناران ديناران ولك دينار واحد فعجب العلماء من فطنته وحدة ذهنه وسرعة جوابه وقد رويت هذه الحكاية عن على بن أبي طالب
ودخل بعض الشعراء على المأمون وقد قال فيه بيتا من الشعر يراه عظيما فلما أنشده إياه لم يقع منه موقعا طائلا فخرج من عنده محروما فلقيه شاعر آخر فقال له ألا أعجبك أنشدت المأمون هذا البيت فلم يرفع به رأسا فقال وماهو قال قلت فيه ... أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلا ... بالدين والناس بالدنيا مشاغيل ...
فقال له الشاعر الآخر ما زدت على أن جعلته عجوزا في محرابها فهلا قلت كما قال جرير في عبد العزيز بن مروان ... فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه ... ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله ...
وقال المأمون يوما لبعض جلسائه بيتان اثنان لاثنين ما يلحق بهما أحد قول أبي نواس ... إذا اختبر الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في لباس صديق ...
وقول شريح
... تهون على الدنيا الملامة إنه ... حريص على استصلاحها من يلومها ...
قال المأمون وقد ألجأني الزحام يوما وأنا في الموكب حتى خالطت السوقة فرأيت رجلا في دكان عليه أثواب خلقة فنظر إلى نظر من يرحمنى أو من يتعجب من أمرى فقال ... أرى كل مغرور تمنيه نفسه ... إذا ما مضى عام سلامة قابل ...
وقال يحي بن أكثم سمعت المأمون يوم عيد خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وصلى على الرسول صلى الله عليه و سلم ثم قال عباد الله عظم أمر الدارين وارتفع جزاء العالمين وطالت مدة الفريقين فوالله إنه للجد لا اللعب وإنه للحق لا الكذب وما هو إلا الموت والبعث والحساب والفصل والميزان والصراط ثم العقاب أو الثواب فمن نجا يومئذ فقد فاز ومن هوى يومئذ فقد خاب الخير كله في الجنة والشر كله في النار وروى ابن عساكر من طريق النضر بن شميل قال دخلت على المأمون فقال كيف أصبحت يا نضير فقلت بخير يا أمير المؤمنين فقال ما الا رجاء فقلت دين يوافق الملوك يصيبون به من دنياهم وينقصمون به من دينهم قال صدقت ثم قال يا نضر أتدري ما قلت في صبيحة هذا اليوم قلت إنى لمن علم الغيب لبعيد فقال قلت أبياتا وهي (10/276)
أصبح دينى الذي أدين به ... ولست منه الغداة معتذرا ... حب على بعد النبي ولا ... أشتم صديقا ولا عمرا ... ثم ابن عفان في الجنان مع ... الأبرار ذاك القتيل مصطبرا ... ألا ولا أشتم الزبير ولا ... طلحة إن قال قائل غدرا ... وعائش الأم لست أشتمها ... من يفتر بها فنحن منه برا ...
وهذا المذهب ثاني مراتب الشيعة وفيه تفضيل على على الصحابة وقد قال جماعة من السلف والدار قطني من فضل عليا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار يعنى في اجتهادهم ثلاثة أيام ثم اتفقوا على عثمان وتقديمه على على بعد مقتل عمر وبعد ذلك ست عشرة مرتبة في التشيع على ما ذكره صاحب كتاب البلاغ الأكبر والناموس الأعظم وهوكتاب ينتهي به إلى أكفر الكفر وقد روينا عن أمير المؤمنين على بن أبي طالب أنه قال لاأوتي بأحد فضلنى على أبي بكر وعمر إلا جلدته جلد المفترى وتواتر عنه أنه قال خير الناس بعد النبي صلى الله عليه و سلم أبو بكر ثم عمر فقد خالف المأمون الصحابة كلهم حتى على بن أبي طالب وقد أضاف المأمون إلى بدعته هذه التي أزرى فيها على المهاجرين والأنصار البدعة الأخرى والطامة الكبرى وهي القول بخلق القرآن مع ما فيه من الانهماك على تعاطي المسكر وغير ذلك من الأفعال التي تعدد فيها المنكر ولكن كان فيه شهامة عظيمة وقوة جسيمة في القتال وحصار الأعداء ومصابرة الروم وحصرهم وقتل رجالهم وسبي نسائهم وكان يقول كان لعمر بن عبد العزيز وعبد الملك حجاب وأنا بنفسي وكان يتحرى العدل ويتولى بنفسه الحكم بين الناس والفصل جاءته امرأة ضعيفة قد تظلمت على ابنه العباس وهو قائم على رأسه فأمر الحاجب فأخذه بيده فأجلسه معها بين يديه فادعت عليه بأنه أخذ ضيعة لها واستحوذ عليها فتناظرا ساعة فجعل صوتها يعلو على صوته فزجرها بعض الحاضرين فقال له المأمون اسكت فان الحق أنطقها والباطل أسكته ثم حكم لها بحقها وأغرم ابنه لها عشرة آلاف درهم
وكتب إلى بعض الأمراء ليس المرؤة أن يكون بيتك من ذهب وفضة وغريمك عار وجارك طاوو الفقير جائع ووقف رجل بين يديه فقال له المأمون والله لأقتلنك فقال يا أمير المؤمنين تأن على فإن الرفق نصف العفو فقال ويلك ويحك قد حلفت لأقتلنك فقال يا أمير المؤمنين إنك إن تلق الله حانثا خير من أن تلقاه قاتلا فعفا عنه وكان يقول ليت أهل الجرائم يعرفون أن مذهبي العفو حتى يذهب الخوف عنهم ويدخل السرور إلى قلوبهم وركب يوما في حراقة فسمع ملاحا يقول لأصحابه ترون هذا المأمون ينبل في عينى وقد قتل أخاه الأمين يقول ذلك وهو لا يشعر بمكان المأمون فجعل المأمون يتبسم ويقول كيف ترون الحيلة حتى أنبل في عين هذا الرجل الجليل (10/277)
القدر وحضر عند المأمون هدبة بن خالد ليتغدي عنده فلما رفعت المائدة جعل هدبة يلتقط ما تناثر منها من اللباب وغيره فقال له المأمون أما شبعت يا شيخ فقال بلى حدثنى حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال من ( أكل ما تحت مائدته أمن من الفقر ) قال فأمر له المأمون بألف دينار
وروى ابن عساكر أن المأمون قال يوما لمحمد بن عباد بن المهلب يا أبا عبدالله قد أعطيتك ألف ألف وألف ألف وأعطيتك دينارا فقال له يا أمير المؤمنين إن منع الموجود سوء ظن بالمعبود فقال أحسنت يا أبا عبد الله اعطوه ألف وألف وألف وألف وألف وألف ولما أراد المأمون أن يدخل ببوران بنت الحسن بن سهل جعل الناس يهدون لأبيها الأشياء النفيسة وكان من جملة من يعتز به رجل من الأدباء فأهدى إليه مزودا فيه ملح طيب ومزودا فيه أشنان جيد وكتب إليه إني كرهت أن تطوى صحيفة أهل البر ولا أذكر فيها فوجهت إليك بالمبتدأ به ليمنه وبركته وبالمختوم به لطيبه ونظافته وكتب إليه ... بضاعتي تقصر عن همتى ... وهمتى تقصر عن مالي ... فالملح والأشنان ياسيدي ... أحسن مايهد به أمثالي ...
قال فدخل بها الحسن بن سهل على المأمون فأعجبه ذلك وأمر بالمزودين ففرغا وملئا دنانير وبعث بهما إلى ذلك الأديب وولد للمأمون ابنه جعفر فدخل عليه الناس يهنئونه بصنوف التهاني ودخل بعض الشعراء فقال يهنيه بولده ... مد لك الله الحياة مدا ... حتى ترى ابنك هذا جدا ... ثم يفدى مثل ما تفدى ... كأنه انت إذا تبدى ... أشبه منك قامةوقدا ... مؤزرا بمجده مردا ...
قال فأمر له بعشرة آلاف درهم وقدم عليه وهو بدمشق مال جزيل بعد ما كان قد أفلس وشكى إلى أخيه المعتصم ذلك فوردت عليه خزائن من خراسان ثلاثون ألف ألف درهم فخرج يستعرضها وقد زينت الجمال والأحمال ومعه يحي بن أكثم القاضي فلما دخلت البلد قال ليس من المرؤة أن نحوز نحن هذا كله والناس ينظرون ثم فرق منه أربعة وعشرين ألف ألف درهم ورجله في الركاب لم ينزل عن فرسه ومن لطيف شعره ... لساني كتوم لأسراركم ... ودمعي نموم لسري مذيع ... فلولا دموعي كتمت الهوى ... ولولا الهوى لم تكن لي دموع ...
بعث خادما ليلة من الليالي ليأتيه بجارية فأطال الخادم عندها المكث وتمنعت الجاية من (10/278)
المجيء إليه حتى يأتي إليها المأمون بنفسه فأنشأ المأمون يقول ... بعثتك مشتاقا ففزت بنظرة ... وأغفلتني حتى أسأت بك الظنا ... فناجيت من أهوى وكنت مباعدا ... فياليت شعري عن دنوك ما أغنى ... ورددت طرفا في محاسن وجهها ... ومتعت باستسماع نغمتها أذنا ... أرى أثرا منه بعينيك بينا ... لقد سرقت عيناك من عينها حسنا ...
ولما ابتدع المأمون ما ابتدع من التشيع والاعقرال فرح بذلك بشر المريسي وكان بشر هذا شيخ المأمون فانشأ يقول ... قد قال مأموننا وسيدنا ... قولا له في الكتب تصديق ... إن عليا أعني أبا حسن ... أفضل من قد أقلت النوق ... بعد نبي الهدى وإن لنا ... أعمالنا والقرآن مخلوق ...
فأجابه بعض الشعراء من أهل السنة ... يا أيها الناس لا قول ولا عمل ... لمن يقول كلام الله مخلوق ... ما قال ذاك أبو بكر وعمر ... ولا النبي ولم يذكره صديق ... ولم يقل ذاك إلا كل مبتدع ... على الرسول وعند الله زنديق ... بشر أراد به إمحاق دينهم ... لأن دينهم والله ممحوق ... ياقوم أصبح عقل من خليفتكم ... مقيدا وهو في الاغلال موثوق ...
وقد سأل بشر بن المأمون أن يطلب قائل هذا فيؤدبه على ذلك فقال ويحك لو كان فقيها لأدبته ولكنه شاعر فلست أعرض له ولما تجهز المأمون للغزو في آخر سفرة سافرها إلى طرسوس استدعى بجارية كان يحبها وقد اشتراها في آخر عمره فضمها إليه فبكت الجارية وقالت قتلتني يا أمير المؤمنين بسفرك ثم أنشأت تقول ... سأدعوك دعوة المضطر ربا ... يثيب على الدعاء ويستجيب ... لعل الله أن يكفيك حربا ... ويجمعنا كما تهوى القلوب ...
فضمها إليه وأنشأ يقول متمثلا
... فيا حسنها إذ يغسل الدمع كحلها ... وإذ هي تذري الدمع منها الأنامل ... صبيحة قالت في العتاب قتلتني ... وقتلي بما قالت هناك تحاول ...
ثم أمر مسرورا الخادم بالاحسان إليها والاحتفاط عليها حتى يرجع ثم قال نحن كما قال الأخطل ... قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت بإطهار (10/279)
ثم ودعها وسار فمرضت الجارية في غيبته هذه ومات المأمون أيضا في غيبته هذه فلما جاء نعيه إليها تنفست الصعداء وحضرتها الوفاة وأنشأت تقول وهي في السياق ... إن الزمان ساقنا من مرارته ... بعد الحلاوة كاسات فأروانا ... أبدى لنا تارة منه فأضحكنا ... ثم انثنى تارة أخرى فأبكانا ... إنا إلى الله فيما لا يزال بنا ... من القضاء ومن تلوين دنيانا ... دنيا تراها ترينا من تصرفها ... ما لايدوم مصافاة وأحزانا ... ونحن فيها كأنا لا يزالينا ... للعيش أحيا وما يبكون موتانا ...
كانت وفاة المأمون بطرسوس في يوم الخميس وقت الظهر وقيل بعد العصر لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب من سنة ثماني عشرة ومائتين وله من العمر نحو من ثمان وأربعين سنة وكانت مدة خلافته عشرين سنة وأشهرا وصلى عليه أخوه المعتصم وهو ولي العهد من بعده ودفن بطرسوس في دار خاقان الخادم وقيل كانت وفاته يوم الثلاثاء وقيل يوم الأربعاء لثمان بقين من هذه السنة وقيل إنه مات خارج طرسوس بأربع مراحل فحمل إليها فدفن بها وقيل إنه نقل إلى أذنة في رمضان فدفن بها فالله أعلم وقد قال أبو سعيد المخزومي ... هل رأيت النجوم أغنت عن المأمون ... شيئا أو ملكه المأسوس ... خلفوه بعرصتي طرسوس ... مثل ما خلفوا أباه بطوس ...
وقد كان أوصى إلى أخيه المعتصم وكتب وصيته بحضرته وبحضرة ابنه العباس وجماعة القضاة والأمراء والوزراء والكتاب وفيها القول بخلق القرآن ولم يتب من ذلك بل مات عليه وانقطع عمله وهو على ذلك لم يرجع عنه ولم يتب منه وأوصى أن يكبر عليه الذي يصلى عليه خمسا واوصى المعتصم بتقوى الله عز و جل والرفق بالرعية واوصاه بعبد الله بن طاهر وأحمد بن أبي داود وقال شاوره في أمورك ولا تفارقه وإياك ويحي بن أكثم أن تصحبه ثم نهاه عنه وذمه وقال خاننى ونفر الناس عنى ففارقته غير راض عنه ثم أوصاه بالعلويين خيرا أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم وأن يواصلهم بصلاتهم في كل سنة
وقد ذكر ابن جرير للمأمون ترجمة حافلة أورد فيها كثيرة لم يذكرها ابن عساكر مع كثرة ما يورده وفوق كل ذي علم عليم
خلافة المعتصم بالله ابي اسحاق بن هارون
بويع له بالخلافة يوم مات أخوه المأمون بطرسوس يوم الخميس الثاني عشر من رجب من سنة (10/280)
ثماني عشرة ومائتين وكان إذ ذاك مريضا وهو الذي صلى على أخيه المأمون وقد سعى بعض الأمراء في ولاية العباس بن المأمون فخرج عليهم العباس فقال ما هذا الخلف البارد أنا قد بايعت عمى المعتصم فسكن الناس وخمدت الفتنة وركب البرد بالبيعة للمعتصم إلى الآفاق وبالتعزية بالمأمون فأمر المعتصم بهدم ما كان بناه المأمون في مدينة طوانة ونقل ما كان حول إليها من السلاح وغيره إلى حصون المسلمين وأذن الفعلة بالانصراف إلى بلدانهم ثم ركب المعتصم بالجنود قاصدا بغداد وصحبته العباس بن المأمون فدخلها يوم السبت مستهل رمضان في أبهة عظيمة وتجمل تام وفيها دخل خلق كثير من أهل همذان وأصبهان وماسبذان ومهرجان في دين الخرمية فتجمع منهم بشر كثير فجهز إليهم المعتصم جيوشا كثيرة آخرهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب في جيش عظيم وقد له على الجبال فخرج في ذي القعدة وقرئ كتابه بالفتح يوم التروية وأنه قهر الخرمية وقتل منهم خلقا كثيرا وهرب بقيتهم إلى بلاد الروم وعلى يدي هذا جرت فتنة الامام أحمد وضرب بين يديه كما سيأتي بسط ذلك في ترجمة أحمد في سنة إحدى وأربعين ومائتين وفيها توفي من الأعيان
بشر المريسي
وهو بشر بن غياث بن أبي كريمة أبو عبد الرحمن المريسي المتكلم شيخ المعتزلة وأحد من أصل المأمون وقد كان هذا الرجل ينظر أولا في شيء من الفقة وأخذ عن أبي يوسف القاضي وروى الحديث عنه وعن حماد بن سلمة وسفيان بن عيينة وغيرهم ثم غلب عليه علم الكلام وقد نهاه الشافعي عن تعلمه وتعاطيه فلم يقبل منه وقال الشافعي لئن يلقى الله العبد بكل ذنب ما عدا الشرك أحب إلى من أن يلقاه بعلم الكلام وقد اجتمع بشر بالشافعي عند ماقدم بغداد قال ابن خلكان جدد القول بخلق القرآن وحكى عنه أقوال شنيعة وكان مرجئيا وإليه تنسب المريسية من المرجئة وكان يقول إن السجود للشمس والقمر ليس بكفر وإنما هو علامة للكفر وكان يناظر الشافعي وكان لا يحسن النحو وكان يلحن لحنا فاحشا ويقال إن أباه كان يهوديا صباغا بالكوفة وكان يسكن درب المريسي ببغداد والمريس عندهم هو الخبر الرقاق يمرس بالسمن والتمر قال ومريس ناحية ببلاد النوبة تهب عليها في الشتاء ريح باردة
وفيها توفي عبد الله بن يوسف الشيبي وأبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر الغساني الدمشقي ويحي بن عبد الله البابلتي
وأبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب المعافري
راوى السيرة عن زياد بن عبد الله البكائي عن إبن إسحاق مصنفها وإنما نسبت إليه فيقال سيرة ابن هشام لأنه هذبها وزاد فيها ونقص منها وحررأماكن واستدرك أشياء وكان إماما في (10/281)
اللغة والنحو وقد كان مقيما بمصر واجتمع به الشافعي حين وردها وتناشدا من أشعار العرب شيئا كثيرا كانت وفاته بمصر لثلاث عشرة خلت من ربيع الآخر من هذه السنة قاله ابن يونس في تاريخ مصر وزعم السهيلي أنه توفي في سنة ثلاث عشرة كما تقدم فالله أعلم
ثم دخلت سنة تسع عشرة ومائتين
فيها ظهر محمد بن القاسم بن عمر بن على بن الحسين بن على بن أبي طالب بالطالقان من خراسان يدعو إلى الرضى من آل محمد واجتمع عليه خلق كثير وقاتله قواد عبد الله بن طاهر مرات متعددة ثم ظهروا عليه وهرب فأخذ ثم بعث به الى عبدالله بن طاهر فبعث به إلى المعتصم فدخل عليه للنصف من ربيع الآخر فأمر به فحبس في مكان ضيق طوله ثلاثة أذرع في ذراعين فمكث فيه ثلاثا ثم حول لأوسع منه وأجرى عليه رزق ومن يخدمه فلم يزل محبوسا هناك إلى ليلة عيد الفطر فاشتغل الناس بالعيد فدلى له حبل من كوة كان يأتيه الضوء منها فذهب فلم يدر كيف ذهب وإلى أين صار من الأرض
وفي يوم الأحد لاحدى عشرة ليلة خلت من جمادي الأولى دخل إسحاق بن إبراهيم إلى بغداد راجعا من قتال الخرمية ومعه أسارى منهم وقد قتل في حربه منهم مائة ألف مقاتل وفيها بعث المعتصم عجيفا في جيش كثيف لقتال الزط الذين عاثوا فسادا في بلاد البصرة وقطعوا الطريق ونهبو الغلات فمكث في قتالهم تسعة أشهر فقهرهم وقمع شرهم وأباد خضراهم وكان القائم بأمرهم رجل يقال له محمد بن عثمان ومعه آخر يقال له سملق وهو داهيتهم وشيطانهم فأراح الله المسلمين منه ومن شره
وفيها توفي سليمان بن داود الهاشمي شيخ الامام أحمد وعبد الله بن الزبير الحميدي صاحب المسند وتلميذ الشافعي وعلى بن عياش وأبو نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري وأبو بحار الهندي
ثم دخلت سنة عشرين ومائتين من الهجرة
في يوم عاشوراء دخل عجيف في السفن إلى بغداد ومعه من الزط سبعة وعشرون ألفا قد جاؤا بالأمان إلى الخليفة فأنزلوا في الجانب الشرقي ثم نفاهم إلى عين رومة فأغارت الروم عليهم فاحتاحوهم عن آخرهم ولم يفلت منهم أحد فكان آخر العهد بهم وفيها عقد المعتصم للأفشين واسمه حيدر بن كاوس على جيش عظيم لقتال بابك الخرمي لعنه الله وكان قد استفحل أمره جدا وقويت شوكته وانتشرت أتباعه في أذربيجان وما والاها وكان أول ظهوره في سنة إحدى ومائتين وكان زنديقا كبيرا وشيطانا رجيما فسار الأفشين وقد أحكم صناعة الحرب في الأرصاد وعمارة الحصون وإرصاد المدد وأرسل إليه المعتصم مع بغا الكبير أموالا جزيلة نفقة لمن معه من (10/282)
الجند والأتباع فالتقي هو وبابك فاقتتلا قتالا شديدا فقتل الأفشين من أصحاب بابك خلقا كثيرا أزيد من مائة ألف وهرب هو إلى مدينته فأوى فيها مكسورا فكان هذا أول ما تضعضع من أمر بابك وجرت بينهما حروب يطول ذكرها وقد استقصاها ابن جرير
وفيها خرج المعتصم من بغداد فنزل القاطول فأقام بها وفيها غضب المعتصم على الفضل بن مروان بعد المكانة العظيمة وعزله عن الوزراة وحبسه وأخذ أمواله وجعل مكانه محمد بن عبد الملك ابن الزيات وحج بالناس فيها صالح بن على بن محمد أمير السنة الماضية في الحج
وفيها توفي آدم بن أبي إياس وعبد الله بن رجاء وغفان بن مسلمة وقالون أحد مشاهير القراء وأبو حذيفة الهندي
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين ومائتين
فيها كانت وقعة هائلة بين بغا الكبير وبابك فهزم بابك بغا وقتل خلقا من أصحابه ثم اقتتل الأفشين وبابك فهزمه افشين وقتل خلقا من أصحابه بعد حروب طويلة قد استقصاها ابن جرير وحج بالناس فيا نائب مكة محمد بن داود بن عيسى بن موسى العباسي
وفيها توفي عاصم بن على وعبدالله بن مسلم القعنبي وعبدان وهشام بن عبيدالله الرازي
ثم دخلت سنة ثنتين وعشرين ومائتين
فيها جهز المعتصم جيشا كبيرا مددا للأفشين على محاربة بابك وبعث إليه ثلاثين ألف ألف درهم نفقة للجند فاقتتلوا قتالا عظيما وافتتح الافشين البذ مدينة بابك واستبحاح ما فيها وذلك يوم الجمعة لعشر بعين من رمضان وذلك بعد محاصرة وحروب هائلة وقتال شديد وجهد جهيد وقد أطال ابن جرير بسط ذلك جدا وحاصل الأمر أنه افتتح البلد وأخذ جميع ما فيه من الأموال مما قدر عليه
ذكر مسك بابك
لما احتوى المسلمين على بلده المسمى بالبذ وهي دار ملكه ومقر سلطته هرب بمن معه من أهله وولده ومعه أمه وامرأته فانفرد في شرذمة قليلة ولم يبق معهم طعام فاجتازوا بحراث فبعث غلامه إليه وأعطاه ذهبا فقال اعطه الذهب وخذ ما معه من الخبز فنظر شريك الحراث إليه من بعيد وهو يأخذ منه الخبز فظن أنه قد اغتصبه منه فذهب إلى حصن هناك فيه نائب للخليفة يقال له سهل بن سنباط ليستعدى على ذلك الغلام فقال ما خبرك فقال لاشيء إنما أعطيته دنانير وأخذت منه الخبز فقال ومن انت فأراد ان يعمي عليه الخبز فألح عليه فقال من غلمان بابك فقال واين هو فقال هاهو ذا جالس يريد الغداء فسار إليه سهل بن سنباط فلما رآه ترجل وقبل يده وقال ياسيدي أين تريد قال أريد أ ن أدخل بلاد (10/283)
الروم فقال إلى عند من تذهب أحرز من حصنى وأنا غلامك وفي خدمتك وما زال به حتى خدعه وأخذه معه إلى الحصن فأنزله عنده وأجرى عليه النفقات الكثيرة والتحف وغير ذلك وكتب إلى الأفشين يعلمه فأرسل إليه أميرين لقبضه فنزلا قريبا من الحصن وكتبا إلى ابن سنباط فقال أقيما مكانكما حتى يأتيكما أمري ثم قال لبابك إنه قد حصل لك هم وضيق من هذا الحصن وقد عزمت على الخروج اليوم إلى الصيد ومعنا بزاة وكلاب فإن أحببت أن تخرج معنا لتشرح صدرك وتذهب همك فافعل قال نعم فخرجوا وبعث ابن سنباط إلى الأميرين أن كونوا مكان كذا وكذا في وقت كذا وكذا من النهار فلما كانا بذلك الموضع أقبل الأميران بمن معهما من الجنود فأحاطوا ببابك وهرب ابن سنباط فلما رأوه جاؤا إليه فقالوا ترجل عن دابتك فقال ومن أنتما فذكروا أنهما من عند الأفشين فترجل حينئذ عن دابته وعليه دراعة بيضاء وخف قصير وفي يده باز فنظر إلى ابن سنباط فقال قبحك الله فهلا طلبت منى من المال ما شئت كنت أعطيتك أكثر مما يعطيك هؤلاء ثم أركبوه وأخذوا معهما إلى الأفشين لما اقتربوا منه خرج ففعل ذلك وكان يوما مشهودا جدا وكان ذلك في شوال من هذه السنة ثم احتفظ به وسجنه عنده ثم كتب الأفشين إلى المعتصم بذلك فأمره أن يقدم به وبأخيه وكان قد مسكه أيضا وكان اسم أخي بابك عبد الله فتجهز الأفشين بهما إلى بغداد في تمام هذه السنة ففرغت ولم يصل بهما إلى بغداد وحج بالناس فيها الأمير المتقدم ذكره في التي قبلها
وفيها توفي أبو اليمان الحكم بن نافع وعمر بن حفص بن عياش ومسلم بن إبراهيم ويحي بن صالح الوحاطي
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائتين
في يوم الخميس ثالث صفر منها دخل الأفشين وصحبته بابك على المعتصم سامرا ومعه أيضا أخو بابك في تجمل عظيم وقد أمر المعتصم ابنه هارون الواثق أن يتلقى الأفشين وكانت أخباره تفد إلى المعتصم في كل يوم من شدة اعتناء المعتصم بأمر بابك وقد ركبب المعتصم قبل وصول بابك بيومين على البريد حتى دخل إلى بابك وهو لا يعرفه فنظر إليه ثم رجع فلما كان يوم دخوله عليه تأهب المعتصم واصطف الناس سماطين وأمر بابك أن يركب على فيل ليشهر أمره ويعرفوه وعليه قباء ديباج وقلنسوة سمور مدورة وقد هيئوا الفيل وخضبوا أطرافه ولبسوه من الحرير والأمتعة التي تليق به كثيرا وقد قال فيه بعضهم ... قد خضب الفيل كعاداته ... يحمل شيطان خراسان ... والفيل لا تخضب أعضاؤة ... الا الذي شأن من الشان (10/284)
ولما أحضر بين يدي المعتصم أمر بقطع يديه ورجليه وجز رأسه وشق بطنه ثم أمر بحمل رأسه إلى خراسان وصلب جثته على خشبة بسامرا وكان بابك قد شرب الخمر ليلة قتله وهي ليلة الخميس لثلاث عشرة خلت من ربيع الآخر من هذه السنة وكان هذا الملعون قد قتل من المسلمين في مدة ظهوره وهي عشرون سنة مائتي ألف وخمسة وخمسين ألفا وخمسمائة إنسان قاله ابن جرير وأسر خلقا لا يحصون وكان جملة من استنقذه الأفشين من أسره نحوا من سبعة آلاف وستمائة إنسان وأسر من أولاده سبعة عشر رجلا ومن حلائله وحلائل أولاده ثلاثة وعشرون امرأة من الخواتين وقد كان أصل بابك من جارية زرية الشكل جدا فآل به الحال إلى ما آل به إليه ثم أراح الله المسلمين من شره بعدما افتتن به خلق كثير وجم غفير من العوام الطغام
ولما قتله المعتصم توج الأفشين وقلده وشاحين من جوهر وأطلق له عشرين ألف ألف درهم وكتب له بولاية السند وأمر الشعراء أن يدخلوا عليه فيمدحوه على ما فعل من الخير إلى المسلمين وعلى تخريبه بلاد بابك التي يقال لها البذ وتركه إياها قيعانا خرابا فقالوا في ذلك فأحسنوا وكان من جملتهم أبو تمام الطائي وقد أورد قصيدته بتماهها ابن جرير وهي قوله ... بذ الجلاد البذ فهو دفين ... ما إن بها إلا الوحوش قطين ... لم يقر هذا السيف هذا الصبر في ... هيجاء إلى عز هذا الدين ... قد كان عذرة سودد فافتضها ... بالسيف فحل المشرق الأفشين ... فأعادها تعوي الثعالب وسطها ... ولقد ترى بالأمس وهي عرين ... هطلت عليها من جماجم أهلها ... ديم إمارتها طلى وشؤون ... كانت من المهجات قبل مفازة ... عشرا فأضحت وهي منه معين ...
وفي هذة السنة أعنى سنة ثلاث وعشرين ومائتين أوقع ملك الروم توفيل بن ميخائيل بأهل ملطية من المسلمين وما والاها ملحمة عظيمة قبل فيها خلقا كثيرا من المسلمين وأسر مالا يحصون كثرة وكان من جملة من أسر ألف امرأة من المسلمات ومثل بمن وقع في أسره من المسلمين فقطع آذانهم وأنوفهم وسمل أعينهم قبحه الله وكان سبب ذلك أن بابك لما أحيط به في مدينة البذ استوسقت الجيوش حوله وكتب إلى ملك الروم يقول له إن ملك العرب قد جهز إلى جمهور جيشه ولم يبق في أطراف بلاده من يحفظها فإن كنت تريد الغنيمة فانهض سريعا إلى ما حولك من بلاده فخذها فانك لا تجد أحدا يمانعك عنها فركب توفيل بمائة ألف وانضاف إليه المحمرة الذين كانوا قد خرجوا في الجبال وقاتلهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب فلم يقدر عليهم لأنهم تحصنوا بتلك الجبال فلما قدم ملك الروم صاروا معه على المسلمين فوصلوا إلى ملطية فقتلوا من أهلها خلقا كثيرا (10/285)
وأسروا نساءهم فلم بلغ ذلك المعتصم انزعج لذلك جداوصرخ في قصره بالنفير ثم نهض من فوره وأمر بتعبئة الجيوش واستدعى القاضي والشهود فأشهدهم أن ما يملكه من الضياع ثلثه صدقة وثلثه لولده وثلثه لمواليه وخرج من بغداد فعسكر غربي دجلة يوم الاثنين لليلتين خلتا من جمادي الأولى ووجه بين يديه عجيفا وطائفة من الأمراء ومعهم خلق من الجيش إعانة لأهل زبطرة فأسرعوا السير فوجدوا ملك الروم قد فعل وانشمر راجعا إلى بلاده وتفارط الحال ولم يمكن الاستدراك فيه فرجعوا إلى الخليفة لاعلامه بما وقع من الأمر فقال للأمراء أى بلاد الروم أمنع قالوا عمورية لم يعرض لها أحد منذ كان الاسلام وهي أشرف عندهم من القسطنطينة
فتح عمورية على يد المعتصم
لما تفرغ المعتصم من بابك وقتله وأخذ بلاده استدعى بالجيوش إلى بين يديه وتجهز جهازا لم يجهزه أحد كان قبله من الخلفاء وأخذ معه من آلات الحرب والأحمال والجمال والقرب والدواب والنفط والخيل والبغال شيئا لم يسمع بمثله وسار إلى عمورية في جحافل أمثال الجبال وبعث الأفشين حيدر بن كاوس من ناحية سروج وعبى جيوشه تعبئة لم يسمع بمثلها وقدم بين يديه الأمراء العروفين بالحرب فانتهى في سيره إلى نهر اللسي وهو قريب من طرسوس وذلك في رجب من هذه السنة وقد ركب ملك الروم في جيشه فقصد نحو المعتصم فتقاربا حتى كان بين الجيشين نحو من أربعة فراسخ ودخل الأفشين بلاد الروم من ناحية أخرى فجاؤا في أثره وضاق ذرعه بسبب ذلك إن هو ناجز الخليفة جاءه الأفشين من خلفه فالتقيا عليه فيهلك وإن اشتغل بأحدهما وترك الآخر أخذه من خلفه ثم اقترب منه الأفشين من خلفه فالتقيا عليه فيهلك وإن اشتغل بأحدهما وترك الآخر أخذه من خلفه ثم اقترب منه الأفشين فسار إليه ملك الروم في شرذمه من جيشه واستخلف على بقية جيشه قريبا له فالتقيا هو والأفشين في يوم الخميس لخمس بقين من شعبان منها فثبت الأفشين في ثاني الحال وقتل من الروم خلقا وجرح آخرين وتغلب على ملك الروم وبلغه أن بقية الجيش قد شردوا عن قرابته وذهبوا عنه وتفرقوا عليه فأسرع الأوبة فإذا نظام الجيش قد أنحل فغضب على قرابته وضرب عنقه وجاءت الأخبار بذلك كله إلى المعتصم فسره ذلك وركب من فوره وجاء إلى أنقره ووافاه الأفشين بمن معه إلى هناك فوجدوا أهلها قد هربوا منه فتقربوا منها بما وجدوا من طعام وغيره ثم فرق المعتصم جيشه ثلاث فرق فالميمنه عليها الافشين والميسرة عليها اشناس والمعتصم في القلب وبين كل عسكرين فرسخان وأمر كل أمير من الأفشين وأشناس أن يجعل لجيشه ميمنة وميسرة وقلبا ومقدمة وساقة وأنهم مهما مروا عليه من القرى حرقوه وخربوه وأسروا وغنموا وسار بهم كذلك قاصدا إلى عمورية وكان بينها وبين مدينة أنقره سبع مراحل فأول من وصل إليها من الجيش أشناس أمير الميسرة ضحوة يوم الخميس لخمس خلون من رمضان (10/286)
من هذه السنة فدار حولها دورة ثم نزل على ميلين منها ثم قدم المعتصم صبيحة يوم الجمعة بعده فدار حولها دورة ثم نزل قريبا منها وقد تحصن أهلها تحصنا شديدا وملؤا أبراجها بالرجال والسلاح وهي مدينة عظيمة كبيرة جدا ذات سور منيع وأبراج عالية كبار كثيرة وقسم المعتصم الأبراج على الأمراء فنزل كل أمير تجاه الموضع الذي أقطعه وعينه له ونزل المعتصم قبالة مكان هناك قد أرشد إليه أرشده إليه بعض من كان فيها من المسلمين وكان قد تنصر عندهم وتزوج منهم فلما رأى أمير المؤمنين والمسلمين رجع إلى الإسلام وخرج إلى الخليفة فأسلم وأعلمه بمكان في السور كان قد هدمه السيل وبنى بناء ضعيفا بلا أساس فنصب المعتصم المجانيق حول عمورية فكان أول موضع انهدم من سورها ذلك الموضع الذي دلهم عليه ذلك الأسير فبادر أهل البلد فسدوه بالخشب الكبار المتلاصقة فألخ عليها المنجنيق فجعلوا فوقها البرادع ليردوا حدة الحجر فلم تغن شيئا وانهدم السور من ذلك الجانب وتفسخ فكتب نائب البلد إلى ملك الروم يلعمه بذلك وبعث ذلك مع غلامين من قومهم فلما اجتازوا بالجيش في طريقهما أنكر المسلمين امرهما فسألوهما ممن أنتما فقالا من أصحاب فالن لأمير سموه من أمراء المسلمين فحملا إلى المعتصم فقررهما فاذا معهما كتاب مناطس نائب عمورية إلى ملك الروم يعلمه بما حصل لهم من الحصار أنه عازم على الخروج من أبواب البلد بمن معه بغتة على المسلمين ومناجزهم القتال كائنا في ذلك ما كان فلما وقف لمعتصم على ذلك أمر بالغلامين فخلع عيهما وأن يعطى كل غلام منهما بدرة فأسلما من فورهما فأمرالخليفة أن يطاف بهما حول البلد وعليهما وأن يوقفا تحت حصن مناطس فينثر عليهما الدراهم والخلع ومعهما الكتاب الذي كتب به مناطس إلى ملك الروم فجعلت الروم تلعنها وتسبهما ثم أمر المعتصم عند ذلك بتجديد الحرس والاحتياط والاحتفاظ من خروج الروم بغتة فضاقت الروم ذرعا بذلك وألح عليهم المسلمون في الحصار وقد زاد المعتصم في المحانيق والدبابات وغير ذلك من آلات الحرب ولما رأى المعتصم عمق خندقها وارتفاع سورها أعمل المجانيق في مقاومة السور وكان قد غنم في الطريق غنما كثيرا جدا ففرقها في الناس وأمر أن يأكل كل رجل رأسا ويجيء بملؤ جلده ترابا فيطرحه في الخندق ففعل الناس ذلك فتساوى الخندق بوجه الأرض من كثرة ما طرح فيه من الأغنام ثم أمر بالتراب فوضع فوق ذلك حتى صار طريقا ممهدا وأمر بالدبابات أن توضع فوقه فلم يحوج الله إلى ذلك وبينما الناس في الجسر المردوم إذ هدم المنجنيق ذلك الموضع المعيب فلما سقط ما بين البرجين سمع الناس هدة عظيمة فظنها من لم يرها أن الروم قد خرجوا على المسلمين بغتة فبعث المعتصم من نادى في الناس إنما ذلك سقوط السور ففرح المسلمون بذلك فرحا شديدا لكن لم يكن ما هدم يسع الخيل والرجال إذا دخلوا وقوى الحصار وقد وكلت الروم بكل برج من أبراج السور أميرا يحفظه (10/287)
فضعف ذلك الأمير الذي هدمت ناحيته من السور عن مقاومة ما يلقاه من الحصار فذهب إلى مناطس فسأله تجدة فامتنع أحد من الروم أن ينجده وقالوا لانترك ما نحن موكلون في حفظه
فلما يئس منهم خرج إلى المعتصم ليجتمع به فلما وصل إليه أمر المعتصم المسلمين أن يدخلوا البلد من تلك الثغرة التي قد خلت من المقاتلة فركب المسلمون نحوها فجعلت الروم يشيرون إليهم ولا يقدرون على دفاعهم فلن يلتفت إليهم المسلمون ثم تكاثروا عليهم ودخلوا البلد قهراوتتابع المسلمون إليها يكبرون وتفرقت الروم عن أماكنها فجعل المسلمون يقتلونهم في كل مكان حيث وجدوهم وقد حشروهم في كنيسة لهم هائلة ففتحوها قسرا وقتلوا من فيها وأحرقوا عليهم باب الكنيسة فاحترقت فأحرقوا عن آخرهم ولم يبق فيها موضع محصن سوى المكان الذي فيه النائب وهو مناطس في حصن منيع فركب المعتصم فرسه وجاء حتى وقف بحذاء الحصن الذي فيه مناطس فناداه المنادي ويحك يا مناطس هذا أمير المؤمنين واقف تجاهك فقالوا ليس مناطس ههنا مرتين فغضب المعتصم من ذلك وولي فنادى مناطس هذا مناطس هذا مناطس فرجع الخليفة ونصب السلالم على الحصن وطلعت الرسل إليه فقالوا له ويحك انزل على حكم أمير المؤمنين فتمنع ثم نزل متقلدا سيفا فوضع السيف في عنقه ثم جيء به حتى أوقف بين يدي المعتصم فضربه بالسوط على رأسه ثم أمر به أن يمشي إلى مضرب الخليفة مهانا إلى الوطاق الذي فيه الخليفة نازل فأوثق هناك وأخذ المسلمون من عمورية أموالا لا تحد ولا توصف فحملوا منها ما أمكن حمله وأمر المعتصم بإحراق ما بقي من ذلك وبالعراق ماهنالك من المجانيق والدبابات وآلات الحرب لئلا يتقوى بها الروم على شيء من حرب المسلمين ثم انصرف المعتصم راجعا إلى ناحية طرسوس في آخر شوال من هذه السنة وكانت إقامته على عمورية خمسة وعشرين يوما
مقتل العباس بن المأمون
كان العباس مع عمه المعتصم في غزوة عمورية وكان عجيف بن عنبسة قد ندمه إذ لم يأخذ الخلافة بعد أبيه المأمون بطرسوس حين مات بها ولامه على مبايعته عمه المعتصم ولم يزل به حتى أجابه إلى الفتك بعمه وأخذ البيعة من الأمراء له وجهز رجلا يقال له الحارث السمرقندي وكان نديما للعباس فأخذ له البيعة من جماعة من الأمراء في الباطن واستوثق منهم وتقدم إليهم أنه يلي الفتك بعمه فلما كانوا بدرب الروم وهم قاصدون إلى أنقره ومنها إلى عمورية أشار عجيف على العباس أن يقتل عمه في هذا المضيق ويأخذ له البيعة ويرجع إلى بغداد فقال العباس إني أكره أن أعطل على الناس هذه الغزوة فلما فتحوا عمورية واستغل الناس بالمغانم أشار عليه أن يقتله فوعده مضيق الدرب إذا رجعوا فلما رجعوا فطن المعتصم بالخبر فأمر بالاحتفاظ وقوةالحرس وأخذ بالحزم (10/288)
واجتهد بالعزم واستدعى بالحارث السمرقندي فاستقره فأقر له بجعله الأمر وأخذ البيعة للعباس بن المأمون من جماعة من الامراء أسماهم له فاستكثرهم المعتصم واستدعى بابن أخيه العباس فقيده وغضب عليه وأهانه ثم أظهر له أنه قد رضى عنه وعفا عنه فأرسله من القيد وأطلق سراحه فلما كان من اليل استدعاه إلى حضرته في مجلس شرابه واستخلى به حتى سقاه واستحكاه عن الذي كان قد دبره من الأمر فشرح له القضية وذكر له القصة فاذا الأمر كما ذكر الحارث السمرقندي فلما أصبح استدعى بالحارث فأخلاه وسأله عن القضية ثانيا فذكرها له كما ذكرها أول مرة فقال ويحك إني كنت حريصا على ذلك فلم أجد إلى ذلك سبيلا بصدقك إياى في هذه القصة ثم أمر المعتصم حينئذ بابن أخيه العباس فقيد وسلم إلى الأفشين وأمر بعجيف وبقية الأمراء الذين ذكرهم فاحتفظ عليهم ثم أخذهم بأنواع النقمات التي اقترحتها لهم فقتل كل واحد منهم بنوع لم يقتل به الآخر ومات العباس بن المأمون بمنبج فدفن هناك وكان سبب موته أنه أجاعه جوعا شديدا ثم جيء بأكل كثير فأكل منه وطلب الماء فمنع منه حتى مات وأمر المعتصم بلعنه على المنبر وسماه اللعين وقتل جماعة من ولد المأمون أيضا
وحج بالناس فيها محمد بن داود وفيها توفي من الأعيان بابك الخرمي قتل وصلب كما قدمنا وخالد بن خراش وعبد الله بن صالح كاتب الليث بن سعد ومحمد بن سنان العوفي وموسى ابن إسماعيل
ثم دخلت سنة أربع وعشرين ومائتين
فيها خرج رجل بآمل طبرستان يقال له مازيار بن قارن بن يزداهرمز وكان لا يرضى أن يدفع الخراج إلى نائب خراسان عبد الله بن طاهر بن الحسين بل يبعثه إلى الخليفة ليقبضه منه فيبعث الخليفة من يتلقى الحمل إلى بعض البلاد ليقبضه منه ثم يدفعه إلى ابن طاهر ثم آل أمره إلى أن وثب على تلك البلاد وأظهر المخالفة للمعتصم وقد كان المازيار هذا ممن يكاتب بابك الخرمس ويعده بالنصر ويقال إن الذي قوى رأس مازيار على ذلك الأفشين ليعجز عبد الله بن طاهر عن مقاومته فيوليه المعتصم بلاد خراسان مكانه فبعث إليه المعتصم محمد بن إبراهيم بن مصعب أخا إسحاق بن إبراهيم في جيش كثيف فجرت بينهم حروب طويلة استقصاها ابن جرير وكان آخر ذلك أسر المازيار وحمله إلى ابن طاهر فاستقره عن الكتب التي بعثها إليه الأشفين فأقر بها فأرسله إلى المتصم وما معه من أمواله التي احتفظت للخليفة وهي أشياء كثيرة جدا من الجواهر والذهب والثياب فلما أوقف بين يدي الخليفة سأله عن كتب الأفشين أليه فأنكرها فأمر به فضرب بالسياط حتى مات وصلب إلى جانب بابك الخرمي على جسر بغداد وقتل عيون أصحابه وأتباعه
وفيها تزوج الحسن بن الأفسين باترجة بنتأشناس ودخل بها في قصر المعتصم بسامرا في جمادي (10/289)
وكان عرسا حافلا وليه المعتصم بنفسه حتى قيل إنهم كانوا يخضبون لحا العامية بالغالية وفيها خرج منكجور الأشروسنى قرابة الأفشين بأرض أذربيجان وخلع الطاعة وذلك أن الأفشين كان قد استنابه على بلاد أذربيجان حين فرغ من أمر بابك فظفر منكجور بمال عظيم مخزون لبابك في بعض البلدان فأخذه لنفسه وأخفاه عن المعتصم وظهر على ذلك رجل يقال له عبد الله بن عبد الرحمن فكتب إلى الخليفة في ذلك فكتب منكجور يكذبه في ذلك وهم به ليقتله فامتنع منه بأهل أردبيل فلما تحقق الخليفة كذب منكجور بعث إليه بغا الكبير فحاربه وأخذه بالأمان وجاء به إلى الخليفة وفيها مات مناطس الرومي نائب عمورية وذلك أن المعتصم أخذه معه أسيرا فاعتقله بسامرا حتى مات في هذه السنة وفي رمضان منها مات إبراهيم بن المهدي بن المنصور عم المعتصم ويعرف بإبن شكله وكان أسود اللون ضخما فصيحا فاضلا قال ابن ماكولا وكان يقال له الصيني يعنى لسواده وقد كان ترجمه ابن عساكر ترجمة حافلة وذكر أنه ولى إمرة دمشق نيابة عن الرشيد أخيه مدة سنتين ثم عزله عنها ثم أعاده إليها الثانية فأقام بها أربع سنين وذكر من عدله وصرامته أشياء حسنة وأنه أقام للناس الحج سنة أربع وثمانين ثم عاد إلى دمشق ولما بويع بالخلافة في أول خلافة المأمون سنة ثنتين ومائتين قتله الحسن بن سهل نائب بغداد فهزمه إبراهيم هذا فقصده حميد الطوسى فهزم إبراهيم واختفى إبراهيم ببغداد حين قدمها المأمون ثم ظفر به المأمون فعفا عنه وأكرمه وكانت مدة ولايته الخلافة سنة وإحدى عشر شهرا واثنا عشر يوما وكان بدء اختفائه في أواخر ذي الحجة سنة ثلاث ومائتين فمكث مختفيا ست سنين وأربعة أشهر وعشرا قال الخطيب كان إبراهيم بن المهدي هذا وافر الفضل غزير الأدب واسع النفس سخى الكف وكان معروفا بصناعة الغناء حاذقا فيها وقد قل المال عليه في أيام خلافته ببغداد فألح الأعراب عليه في أعطياهم فجعل يسوف بهم ثم خرد إليهم رسوله يقول إنه لا مال عنده اليوم فقال بعضهم فيلخرج الخليفة إلينا فليغن لاهل هذا الجانب ثلاثة أصوات ولأهل هذا الجانب ثلاثة أصوات فقال في ذلك دعبل شاعر المأمون يذم إبراهيم بن المهدي ... يا معشر الأعراب لا تغلطوا ... خذوا عطاياكم ولا تسخطوا ... فسوف يعطيكم جنينية ... لا تدخل الكيس ولا تربط ... والمعبديات لقوادكم ... وما بهذا أحد يغبط ... فهكذا يرزق أصحابه ... خليفة مصحفه البربط ...
وكتب إلى ابن أخيه المأمون حين طال عليه الاختفاء ولى الثأر محكم في القصاص والعفو أقرب للتقوى وقد جعل الله أمير المؤمنين فوق كل عفو كما جعل كل ذي نسب دونه فإن عفا (10/290)
فبفضله وإن عاقب فبحقه فوقع المأمون في جواب ذلك القدرة تذهب الحفيظه وكفي بالندم إنابه وعفو الله أوسع من كل شيء ولما دخل عليه أنشأ يقول ... إن أكن مذنبا فحظي أخطأت ... فدع عنك كثرة التأنيب ... قل كما قال يوسف لبني يعقوب ... لما أتوه لا تثريب ...
فقال المأمون لا تثريب وروى الخطيب أن إبراهيم لما وقف بين يدي المأمون شرع يؤنبه على مافعل فقال يا أمير المؤمنين حضرت أبي وهو جدك وقد أتي برجل ذنبه أعظم من ذنبي فأمر بقتله فقال مبارك بن فضالة يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تؤخر قتل هذا الرجل حتى أحدثك حديثا فقال قل فقال حدثني الحسن البصري عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ( إذا كان يوم القيامة نادى مناد من بطنان العرش ليقم العافون عن الناس من الخلفاء إلى أكرم الجزاء فلا يقوم إلا من عفا ) فقال المأمون قد قبلت هذا الحديث بقبوله وعفوت عنك ياعم وقد ذكرنا في سنة أربع ومائتين زيادة على هذا وكانت أشعاره جيدة بليغة سامحه الله وقد ساق من ذلك ابن عساكر جانبا جيدا
كان مولد إبراهيم هذا في مستهل ذي القعدة سنة ثنتين وستين ومائة وتوفي يوم الجمعة لسبع خلون من هذه السنة عن ثنتين وستين سنة
وفيها توفي سعيد بن أبي مريم المصري وسليمان بن حرب وأبو معمر المقعد وعلى بن محمد المدائني الأخباري أحد أئمة هذا الشأن في زمانه وعمرو بن مرزوق شيخ البخاري وقد تزوج هذا الرحل ألف امرأة وابو عبيد القاسم بن سلام البغدادي أحد أئمة اللغة والفقه والحديث والقرآن والأخبار وأيام الناس له المصنفات المشهورة المنتشرة بين الناس حتى يقال إن الامام أحمد كتب كتابه في الغريب بيده ولما وقف عليه عبد الله بن طاهر رتب له في كل شهر خمسمائة درهم وأجراها على ذريته من بعده وذكر ابن خلكان أن ابن طاهر استحسن كتابه وقال ما ينبغي لعقل بعث صاحبه على تصنيف هذا الكتاب أن تحوج صاحبه إلى طلب المعاش وأجرى له عشرة آلاف درهم في كل شهر وقال محمد بن وهب المسعودي سمعت أبا عبيد يقول مكثت في تصنيف هذا الكتاب أربعين سنة وقال هلال بن المعلي الرقي من الله على المسلمين بهؤلاء الأربعة الشافعي تفقه في الفقه والحديث وأحمد بن حنبل في المحنه ويحي بن معين في نفي الكذب وأبو عبيد في تفسير غريب الحديث ولولا ذلك لافتحم الناس المهالك
وذكر ابن خلكان أن أبا عبيد ولى القضاء بطرسوس ثماني عشرة سنة وذكر له من العبادة والاجتهاد في العبادة شيئا كثيرا وقد روى الغريب عن أبي زيد الأنصاري والأصمعي وأبي (10/291)
عبيد معمر بن المثنى وابن الأعرابي والفراء والكسائي وغيرهم وقال إسحاق بن راهويه نحن نحتاج إليه وهو لا يحتاج إلينا وقدم بغداد وسمع الناس منه ومن تصانيفه وقال إبراهيم الحربي كان كأنه جبل نفخ فيه روح يحسن كل شيء وقال أحمد بن كامل القاضي كان ابو عبيد فاضلا دينا ربانيا عالما متقنا في أصناف علوم أهل الايمان والاتقان والاسلام من القرآن والفقه والعربية والأحاديث حسن الرواية صحيح النقل لا أعلم أحدا طعن عليه في شيء من علمه وكتبه وله كتاب الأموال وكتاب فضائل القرآن ومعانيه وغير ذلك من الكتب المنتفع بها رحمه الله توفي في هذه السنة قاله البخاري وقيل في التي قبلها بمكة وقيل بالمدينة وله سبع وستون سنة وقيل جاوز السبعين فالله أعلم
ومحمد بن عثمان أبو الجماهر الدمشقي الكفرتوتي أحد مشايخ الحديث ومحمد بن الفضل أبو النعمان السدوسي الملقب بعارم شيخ البخاري ومحمد بن عيسى بن الطباع ويزيد بن عبد ربه الجرجسي الحمصي شيخها في زمانه
ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائتين
فيها دخل بغا الكبير ومعه منكجوز قد أعطى الطاعة بالأمان وفيها عزل المعتصم جعفر بن دينار عن نيابة اليمن وغضب عليه وولى اليمن ايتاخ وفيها وجه عبد الله بن طاهر بالمازيار فدخل بغداد على بغل باكاف فضربه المعتصم بين يديه أربعمائة وخمسين سوطا ثم سقى الماء حتى مات وأمر بصلبه إلى جنب بابك وأقر في ضربه أن الأفشين كان يكاتبه ويحسن له خلع الطاعة فغضب المعتصم على الأفشين وأمر بسجنه فنبى له مكان كالمنارة من دار الخلافة تسمى الكوة إنما تسعه فقط وذلك لما تحقق أنه يريد مخالفته والخروج عليه وأنه قد عزم على الذهاب لبلاد الخزر ليستجيش بهم على المسلمين فعاجله الخليفة بالقبض عليه قبل ذلك كله وعقد له المعتصم مجلسا فيه قاضيه أحمد ابن أبي دؤاد المعتزلى ووزير محمد بن عبد الملك بن الزيات ونائبه إسحاق بن إبراهيم بن مصعب فاتهم الأفشين في هذا المجلس بأشياء تدل على أنه باق على دين أجداداه من الفرس منها أنه غير مختن فاعتذر أنه يخاف ألم ذلك فقال له الوزير وهو الذي كان يناظره من بين القوم فأنت تطاعن بالرماح في الحروب ولا تخاف من طعنها وتخاف من قطع قلفة ببدنك ومنها أنه ضرب رجلين إماما ومؤذنا كل واحد ألف سوط لأنهما هدما بيت أصنام فاتخذاه مسجدا ومنها أنه عنده كتاب كليله ودمنه مصورا فيه الكفر وهو محلى بالجواهر والذهب فاعتذر أنه ورثه من آبائهم واتهم بأن الأعاجم يكاتبونه وتكتب إليه في كتبها أنت إله الآلهة من العبيد وأنه يقرهم على ذلك فجعل يعتذر بأنه أجراهم على ما كانوا يكاتبون به أباه وأجداده وخاف أن يأمرهم بترك ذلك فيتضع عندهم (10/292)
فقال له الوزير ويحك فماذا أبقيت لفرعون حين قال أنا ربكم الأعلى وأنه كان يكاتب المازيار بأن يخرج عن الطاعة وأنه في ضيق حتى ينصر دين المجوس الذي كان قديما ويظهره على دين العرب وأنه كان يستطيب المنخنقة على المذبوحة وانه كان في كل يوم أربعاء يستدعى بشاة سوداء فيضربها بالسيف نصفين ويمشي بينهما ثم يأكلها فعند ذلك أمر المعتصم بغا الكبير أن يسجنه مهانا ذليلا فجعل يقول إني كنت أتوقع منكم ذلك
وفي هذه السنة حمل عبد الله بن طاهر الحسن بن الأفشين وزوجته أترجة بنت أشناس إلى سامرا وحج بالناس فيها محمد بن داود
وفيها توفي من الأعيان اصبغ بن الفرج وسعدويه ومحمد بن سلام البيكندي شيخ البخاري وأبو عمر الجرمي وأبو دلف العجلي التميمي الأمير أحد الأجواد
وسعيد بن مسعدة
أبو الحسن الأخفش الأوسط البلخي ثم البصري النحوي أخذ النحو عن سيبوية وصنف كتبا كثيرة منها كتاب في معاني القرآن وكتاب الأوسط في النحو وغير ذلك وله كتاب في العروض زاد فيه بحر الخبب على الخيل وسمى الأخفش لصغر عينيه وضعف بصره وكان أيضا أدلغ وهو الذي لا يضم شفتيه على أسنانه كان أولا يقال له الأخفش الصغير بالنسبة إلى الأخفش الكبير أبي الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد الهجري شيخ سيبويه وأبي عبيدة فلما ظهر على بن سليمان ولقب بالأحفش أيضا صار سعيد بن مسعدة هو الأوسط والهجري الأكبر وعلى ابن سلميان الأصغر وكانت وفاته في هذه السنة وقيل سنة إحدى وعشرين ومائتين
الجرمي النحوي
وهو صالح بن إسحاق البصري قدم بغداد وناظر بها الفراء وكان قد أخذ النحو عن أبي عبيدة وأبي زيد والأصمعي وصنف كتبا منها الفرخ يعني فرخ كتاب سيبوية وكان فقيها فاضلا نحويا بارعا عالما باللغة حافظا لها دينا ورعا حسن المذهب صحيح لاعتقاد وروى الحديث ذكره ابن خلكان وروى عنه المبرد وذكره أبو نعيم في تاريخ اصبهان
ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائتين
في شعبان منها توفي الأفشين في الحبس فأمر به المعتصم فصلب ثم أحرق وذرى رماده في دجله واحتيط على أمواله وحواصله فوجدوا فيها أصناما مكللة بذهب وجواهر وكتبا في فضل دين المجوس واشياء كثيرة كان يتهم بها تدل على كفره وزندقته وتحقق بسببها ما ذكره عنه من الانتماء إلى (10/293)
دين آبائه المجوس وحج بالناس فيها محمد بن داود
وفيها توفي إسحاق القروي وإسماعيل بن أبي أوس ومحمد بن داود صاحب التفسير وغسان ابن الربيع ويحي بن يحي التميمي شيخ مسلم بن الحجاج ومحمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين
وأبو دلف العجلي
عيسى بن إدريس بن معقل بن عمير بن شيخ بن معاوية بن خزاعي بن عبد العزيز بن دلف ابن جشم بن قيس بن سعد بن عجل بن لحيم الأمير أبو دلف العجلي أحد قواد المأمون والمعتصم وإليه ينسب الأمير أبو نصر بن ماكولا صاحب كتاب الاكمال وكان القاضي جلال الدين خطيب دمشق القزويني يزعم أنه من سلالته ويذكر نسبه إليه وكا أبو دلف هذا كريما جوادا ممدحا قد قصده الشعراء من كل أوب وكان أبو تمام الطائي من جملة من يغشاه ويستمنح نداه وكانت لديه فضيلة في الأدب والغناء وصنف كتبا منها سساسة الملوك ومنها في الصيد وانبزاة وفي السلاح وغير ذلك وما أحسن ما قال فيه بكر بن النطاع الشاعر ... يا طالبا للكيمياء وعلمه ... مدح ابن عيسى الكيمياء الأعظم ... لو لم يكن في الأرض إلا درهم ... ومدحته لأتاك ذاك الدرهم ...
فيقال إنه أعطاه على ذلك عشرة آلاف درهم وكان شجاعا فاتكا وكان يستدين ويعطى وكان أبوه قد شرع في بناء مدينة الكرخ فمات ولم يتمها فأتمها أبو دلف وكان فيه تشيع وكان يقول من لم يكن متغاليا في التشيع فهو ولد زنا فقال له ابنه دلف لست على مذهبك يا أبة فقال والله لقد وطئت امك قبل ان اشتريها فهذا من ذاك وقد ذكر ابن خلكان أن ولده رأى في المنام بعد وفاة أبيه أن آتيا أتاه فقال أجب الأمير قال فقمت معه فأدخلني دارا وحشة وعرة سوداء الحيطان مغلقة السقوف والأبواب ثم أصعدني في درج منها ثم أدخلني غرفة وإذا في حياطانها أثر النيران وفي أرضها أثر الرماد وإذا بأبي فيها وهو عريان واضع رأسه بين ركبتيه فقال لى كالمستفهم أدلف فقال أدلف فأنشأ يقول ... أبلغن أهلنا ولا تخف عنهم ... ما لقينا في البررزخ الخناق ... قد سئلنا عن كل ما قد فعلنا ... فارحموا وحشتى وما قد ألاقى ...
ثم قال أفهمت قلت نعم ثم أنشأ يقول ... فلو أنا إذا متنا تركنا ... لكان الموت راحة كل حي ... ولكنا إذا متنا بعثنا ... ونسأل بعده عن كل شيء ...
ثم قال أفهمت قلت نعم وانتبهت (10/294)
ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائتين فيها خرج رجل من أهل الثغور بالشام يقال له أبو حرب المبرقع اليماني فخلع الطاعة ودعا إلى نفسه وكان سبب خروجه أن رجلا من الجند أراد أن ينزل في منزله عند امرأته في غيبته فمانعته المرأة فضربها الجندي في يدها فأثرت الضربة في معصمها فلما جاء بعلها أبو حرب أخبرته فذهب إلى الجندي وهو غافل فقتله ثم تحصن في رؤس الجبال وهو مبرقع فاذا جاء أحد دعاه إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويذم من السلطان فاتبعه على ذلك خلق كثير من الحراثين وغيرهم وقالوا هذا هو السفياني المذكور أنه يملك الشام فاستفحل أمره جدا واتبعه نحو من مائة ألف مقاتل فبعث إليه المعتصم وهو في مرض موته جيشا نحوا من مائة ألف مقاتل فلما قدم أمير المعتصم بمن معه وجدهم أمة كثيرة وطائفة كبيرة وقد اجتمعوا حول أبي حرب فخشى أن يواقعه والحالة هذه فانتظر إلى أيام حرث الأراضي فتفرق عنه الناس إلى أراضيم وبقي في شرذمة قليلة فناهضه فأسره وتفرق عنه أصحابه وحملة أمير السرية وهو رجاء بن أيوب حتى قدم به على المعتصم فلامه المعتصم في تأخره عن مناجزته أول ما قدم الشام فقال كان معه مائة ألف أو يزيدون فلم أزل أطاوله حتى أمكن الله منه فشكره على ذلك
وفيها في يوم الخميس الثامن من ربيع الأول من هذه السنة كانت وفاة أبي إسحاق محمد المعتصم بالله بن هارون الرشيد بن المهدي بن المنصور
وهذه ترجمته
هو أمير المؤمنين أبو إسحاق محمد المعتصم بن هارون الرشيد بن المهدي بن المنصور العباسي يقال له المثمن لأنه ثامن ولد العباس وأنه ثامن الخلفاء من ذريته ومنها أنه فتح ثمان فتوحات ومنها أنه أقام في الخلافة ثماني سنين وثمانية أشهر وثمانية أيام وقيل ويومين وأنه ولد سنة ثمانين ومائة في شعبان وهو الشهر الثامن من السنة وأنه توفي وله من العمر ثمانية وأربعون سنة ومها أنه خلف ثمانية بنين وثماني بنات ومنها أنه دخل بغداد من الشام في مستهل رمضان سنة ثمان عشرة ومائتين بعد استكمال ثمانية أشهر من السنة بعد موت أخيه المأمون قالوا وكان أميا لا يحسن الكتابة وكان سبب ذلك أنه كا يتردد معه إلى الكتاب غلام فمات الغلام فقال له أبوه الرشيد ما فعل غلامك قال مات فاستراح من الكتاب فقال الرشيد وقد بلغ منك كراهه الكتاب إلى أن تجعل الموت راحة منه والله يا بنى لا تذهب بعد اليوم إلى الكتاب فتركوه فكان أميا وقيل بل كان يكتب كتابة ضعيفة وقد أسند الخطيب من طريقة عن آبائه حديثين منكرين أحدهما في ذم بني أمية ومدح بنى العباس من الخلفاء والثاني في النهي عن الحجامة يوم الخميس وذكر بسنده (10/295)
عن المعتصم أن ملك الروم كتب إليه كتابا يتهدده فيه فقال للكاتب اكتب قد قرأت كتابك وفهمت خطابك والجواب ما ترى لا ماتسمع وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار قال الخطيب غزا المعتصم بلاد الروم في سنة ثلاث وعشرين ومائتين فأنكى نكاية عظيمة في العدو وفتح عمورية وقتل من أهلها ثلاثين ألفا وسبي مثلهم وكان في سبيه ستون بطريقا وطرح النار في عمورية في سائر نواحيها فأحرقها وجاء بنائبها إلى العراق وجاء ببابها أيضا معه وهو منصوب حتى الآن على أحد أبواب دار الخلافة مما يلي المسجد الجامع في القصر وروى عن أحمد بن أبي داؤد القاضي أنه قال ربما أخرج المعتصم ساعده إلى وقال لي عض يا أبا عبد الله بكل ما تقدر عليه فأقول إنه لا تطيب نفسي يا أمير المؤمنين ان أعض ساعدك فيقول إنه لا يضرني فأكدم بكل ما أقدر عليه فلا يؤثر ذلك في يده ومر يوما في خرافة أخيه بمخيم الجند فاذا امرأة تقول ابنى ابنى فقال لها ما شأنك فقالت ابنى أخذه صاحب هذه الخيمة فجاء إليه المعتصم فقال له أطلق هذا الصبي فامته عليه فقبض على جسده بيده فسمع صوت عظامه من تحت يده ثم أرسله فسقط ميتا وأمر بإخراج الصبي إلى أمه ولم ولى الخلافة كان شهماوله همة عالية في الحرب ومهابة عظيمة في القلوب وإنما كانت نهمته في الانفاق في الحرب لا في البناء ولا في غيره
وقال أحمد أبي داؤد تصدق المعتصم على يدي ووهب ما قيمته مائة ألف ألف درهم وقال غيره كان المعتصم إذا غضب لايبالي من قتل ولا ما فعل وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي دخلت يوما على المعتصم وعنده قينة له تغنيه فقال لي كيف تراها فقلت له اراها تقهره بحذق وتجتله برفق ولا تخرج من شيء إلا إلى أحسن منه وفي صوتها قطع شذور احسن من نظم الدر على النحور فقال والله لصفتك لها أحسن منها ومن غنائها ثم قال لابنه هارون الواثق ولي عهده منبعده اسمع هذا الكلام وقد استخدم المعتصم من الأتراك خلقا عظيما كان له من المماليك الترك قريب من عشرين ألفا وملك من آلات الحرب والدواب ما لم يتفق لغيره ولما حضرته الوفاة جعل يقول حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فاذا هم مبلسون وقال لو علمت ان عمري قصير مافعلت وقال إني أحدث هذا الخلق وجعل يقول ذهبت الحيل فلاحيلة وروى عنه انه قال في مرض موته اللهم إني أخافك من قبلي ولا أخافك من قبلك وأرجوك من قبلك ولا أرجوك من قبلي
كانت وفاته بسر من رأى في يوم الخميس ضحى لسبعة عشرة ليلة خلت من ربيع الأول من هذه السنة أعنى سنة سبع وعشرين ومائتين وكان مولده يوم الاثنين لعشر خلون من شعبان سنة ثمانين ومائة وولى الخلافة في رجب سنة ثمان عشرة ومائتين وكان أبيض أصهب اللحية (10/296)
طويلا مربوعا مشرب اللون أمه لم ولد اسمها ماردة وهو أحد أولاد ستة من أولاد الرشيد كل منهم اسمه محمد وهم ابو إسحاق محمد المعتصم وأبو العباس محمد الأمين وأبو عيسى محمد وأبو احمد وأبو يعقوب وأبو أيوب قاله هشام بن الكلبي وقد ولي الخلافة بعده ولده هارون الواثق وقد ذكر ابن جرير أن وزيره محمد بن عبد الملك بن الزيات رثاه فقال ... قد فلت إذا غيبوك واسطفقت ... عليك أيدي التراب والطين ... إذهب فنعم الحفيظ كنت على الدنيا ... ونعم الظهير للدين ... لا حبر الله أمه فقدت ... مثلك إلا بمثل هارون ...
وقا لمروان بن أبي الجنوب وهو ابن أخي حفصة
... أبو إسحاق مات ضحى فمتنا ... وأمسينا بهارون حيينا ... لئن جاء الخميس بما كرهنا ... لقد جاء الخميس بما هوينا ...
خلافة هارون الواثق بن المعتصم
بويع له بالخلافة قبل موت أبيه يوم الاربعاء لثمان خلون من ربيع الأول من هذه السنة أعنى سنة سبع وعشرين ومائتين ويكنى أبا جعفر وأمه أم ولد رومية يقال لها قراطيس وقد خرجت في هذه السنة قاصدة الحج فماتت بالحيرة ودفنت بالكوفة في دار داود بن عيسى وذلك لأربع خلون من ذي القعدة من هذه السنة وكان الذي أقام للناس الحج فيها حعفر بن المعتصم
وفيها توفي ملك الروم نوفيل بن ميخائيل وكانت مدة ملكه ثنتي عشرة سنة فملكت الروم بعده إمرأته تدورة وكان ابنها ميخائيل بن توفيل صغيرا وفيها توفي
بشر الحافي الزاهد المشهور
وهو بشر بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطاء بن هلال بن ماهان بن عبد الله المورزي أبو نصر الزاهد المعروف بالحافي نزل بغداد قال ابن خلكان وكان اسم جده عبد الله الغيور أسلم على يدي على بن أبي طالب قلت وكان مولده ببغداد سنة خمسين ومائة وسمع بها شيئا كثيرا من حماد بن زيد وعبد الله بن المبارك وابن مهدي ومالك وأبي بكر بن عياش وغيرهم وعنه جماعة منهم أبو خيثمة وزهير بن حرب وسرى السقطى والعباس بن عبد العظيم ومحمد بن حاتم قال محمد بن سعيد سمع بشرا كثيرا ثم اشتغل بالعبادة واعتزل الناس ولم يحدث وقد أثنى عليه غير واحد من الأئمة في عبادته وزهادته ورعه ونسكه وتقشفه قال الإمام أحمد يوم بلغه موته لم يكن له نظير إلا عامر بن عبد قيس ولو تزوج لتم أمره وفي رواية عنه أنه قال ما ترك بعده مثله وقال إبراهيم الحربي ما أخرجت بغداد أتم عقلا منه ولا أحفظ للسانه منه ما عرف له غيبة (10/297)
لمسلم وكان في كل شعرة منه عقل ولو قسم عقله على أهل بغداد لصاروا عقلاء وما نقص من عقله شيء وذكر غير واحد أن بشرا كان شاطرا في بدء أمره وأن سبب توبته أنه وجد رقعة فيها اسم الله عز و جل في أتون حمام فرفعها ورفع طرفه إلى السماء وقال سيدي اسمك ههنا ملقى يداس ثم ذهب إلى عطار فاشترى بدرهم غالية وضمخ تلك الرقعة منها ووضعها حيث لا تنال فاحي الله قلبه وألهمه رشده وصار إلى ما صار إليه من العبادة والزهادة
من كلامه من أحب الدنيا فليتهيأ للذل وكان بشر يأكل الخبز وحده فقيل له أما لك أدم فقال بلى أذكر العافية فأجعلها أدما وكان لا يلبس نعلا بل يمشي حافيا فجاء يوما إلى باب فطرقه فقيل من ذا فقال بشر الحافي فقالت له جارية صغيرة لو اشترى نعلا بدرهم لذهب عنه اسم الحافي قالوا وكان سبب تركه النعل أنه جاء مرة إلى حذاء فطلب منه شراكا لنعله فقال ما أكثر كلفتكم يا فقراء على الناس فطرح النعل من يده وخلع الأخرى من رجله وحلف لا يلبس نعلا أبدا
قال ابن خلكان وكانت وفاته يوم عاشوراء وقيل في رمضان ببغداد وقيل بمرو قلت الصحيح ببغداد في هذه السنة وقيل في سنة ست وعشرين والأول أصح والله أعلم وحين مات اجتمع في جنازته أهل بغداد عن بكرة ابيهم فأخرج بعد صلاة الفجر فلم يستقر في قبره إلا بعد العتمة وكان على المدائني وغيره من أئمة الحديث يصيح بأعلا صوته في الجنازة هذا والله شرف الدنيا قبل شرف الآخره وقد روى أن الجن كانت تنوح عليه في بيته الذي كان يسكنه وقد رآه بعضهم في المنام فقال ما فعل الله بك فقال غفر لي ولك من أحبني إلى يوم القيامة وذكر الخطيب أنه كان له أخوات ثلاث وهن مخة ومضغة وزبدة وكلهن عابدات زاهدات مثله وأشد ورعا أيضا ذهبت إحداهن إلى الأمام أحمد بن حنبل فقالت إني ربما طفيء السراج وأنا أغزل على ضوء القمر فهل على عند البيع أن أميز هذا من هذا فقال إن كان بينهما فرق فميزي للمشتري وقالت له مرة احداهن ربما تمر بنا مشاعل بني طاهر في الليل ونحن نغزل فنغزل الطاق والطاقين والطاقات فخلصنى من ذلك فأمرها أن تتصدق بذلك الغزل كله لما اشتبه عليها من معرفة ذلك المقدار وسألته عن أنين المريض أفيه شكوى قال لا إنما هو شكوى إلى الله عز و جل ثم خرجت فقال لابنه عبد الله يا بني اذهب خلفها فاعلم لي من هذه المرأة قال عبد الله فذهبت وراءها فإذا هي قد دخلت دار بشر وإذا هي أخته مخة
وروى الخطيب أيضا عن زبدة قالت جاء ليلة أخى بشر فدخل برجله في الدار وبقيت (10/298)
الأخرى خارج الدار فاستمر ليلته حتى أصبح فقيل له فيم تفكرت ليلتك فقال تفكرت في بشر النصراني وبشر اليهودي وبشر المجوسي وفي نفسي لأن اسمي بشر فقلت في نفسي ما الذي سبق لي من الله حتى خصنى بالاسلام من بينهم فتفكرت في فضل الله على وحمدته أن هداني للاسلام وجعلني ممن خصه به وألبسني لباس أحبابه وقد ترجمه ابن عساكر فأطنب وأطيب وأطال من غير ملال وقد ذكر له أشعارا حسنة وذكر أنه كان يتمثل بهذه الأبيات ... تعاف القذى في الماء لا تستطيعه ... وتكرع من حوض الذنوب فتشرب ... وتؤثر من أكل الطعام ألذه ... ولا تذكر المختار من أين يكسب ... وترقد يا مسكين فوق نمارق ... وفي حشوها نار عليك تلهب ... فحتى متى لا تستفيق جهالة ... وأنت ابن سبعين بدينك تلعب ...
وممن توفي فيها أحمد بن يونس وإسماعيل بن عمرو البجلي وسعيد بن منصور صاحب السنن المشهورة التي لا يشاركه فيها إلا القليل ومحمد بن الصباح الدولابي ولهن سنن ايضا وأبو الوليد الطيالسي وأبو الهذيل العلاف المتكلم المعتزلي والله أعلم
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين ومائتين
في رمضان منها خلع الواثق على اشناس الأمير وتوجه وألبسه وشاحين من جوهر وحج بالناس فيها محمد بن داود الأمير وغلا السعر على الناس في طريق مكة جدا وأصابهم حر شديد وهم بعرفة ثم اعقبه برد شديد ومطر عظيم كل ذلك في ساعة واحدة ونزل عليهم وهم بمنى مطر لم ير مثله وسقطت قطعة من الجبل عند جمرة العقبة فقتلت جماعة من الحجاج قال ابن جرير وفيها مات أبو الحسن المدائني أحد أئمة هذا الشأن في منزل إسحاق بن إبراهيم الموصلي وحبيب بن أوس الطائي أبو تمام الشاعر
قلت أما أبو الحسن المدائني فاسمه على بن المدائني أجد أئمة هذا الشأن وإمام الأخباريين في زمانه وقد قدمنا ذكر وفاته قبل هذه السنة وأما
أبو تمام الطائي الشاعر
صاحب الحماسة التي جمعها في فضل النساء بهمدان في دار وزيرها فهو حبيب بن أوس بن الحارث بن قيس بن الأشج بن يحي أو تمام الطائي الشاعر الأديب ونقل الخطيب عن محمد بن يحي الصولي أنه حكى عن بعض الناس أنهم قالوا أبو تمام حبيب بن تدرس النصراني فسماه أبوه حبيب أوس بدل تدرس قال ابن خلكان وأصله من قرية جاسم من عمل الجيدور بالقرب من طبرية وكان بدمشق يعمل عند حائك ثم سار به إلى مصر في شبيبته وابن خلكان أخذ ذلك (10/299)
من تاريخ ابن عساكر وقد ترجم له أبو تمام ترجمة حسنة قال الخطيب وهو شامي الأصل وكان بمصر في حداثته يسقي الماء في المسجد الجامع ثم جالس بعض الأدباء فاخذ عنهم وكان فطنا فهما وكا يحب الشعر فلم يزل يعانيه حتى قال الشعر فأجاد وشاع ذكره وبلغ المعتصم خبره فحمله إليه وهو بسر من رأى فعمل فيه قصائد فاجازه وقدمه على شعراء وقته قد بغداد فجالس الأدباء وعاشر العلماء وكان موصوفا بالظرف وحسن الأخلاق وقد روى عنه أحمد بن أبي طاهر أخبارا بسنده قال ابن خلكان كان يحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة للعرب غير القصائد والمقاطيع وغير ذلك وكان يقال في طيء ثلاثة حاتم في كرمه وداود الطائي في زهده وأبو تمام في شعره وقد كان الشعراء في زمانه جماعة فمن مشاهيرهم أبو الشيص ودعبل وابن أبي قيس وكان أبو تمام من خيارهم دينا وأدبا وأخلاقا ومن رقيق شعره قوله ... يا حليف الندى ويامعدن الجود ... ويا خير من حويت القريضا ... ليت حماك بي وكان لك الأجر ... فلا تشتكي وكنت المريضا ...
وقد ذكر الخطيب عن إبراهيم بن محمد بن عرفة أن أبا تمام توفي في سنة إحدى وثلاثين ومائتين وكذا قال ابن جرير وحكى عن بعضهم أنه توفي في سنةإحدى وثلاثين وقيل سنة ثنتين وثلاثين فالله أعلم وكانت وفاته بالموصل وبنيت على قبره قبة وقد رثاه الوزير محمد بن عبد الملك الزيات فقال ... نبأ أتى من أعظم الأنباء ... لما ألم مقلقل الأحشاء ... قالوا حبيب قد ثوى بخاتم فأجبتهم ... ناشدتكم لاتجعلوه الطائي ...
وقال غيره
... فجع القريض بخاتم الشعراء ... وغدير روضتها حبيب الطائي ... مانا معا فتجاورا في حفرة ... وكذاك كنا قبل في الأحياء ...
وقد جمع الصولي سعر أبي تمام على حروف المعجم قال ابن خلكان وقد امتدح أحمد بن المعتصم ويقال ابن المأمون بقصيدته التي يقول فيها ... إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس ...
فقال له بعض الحاضرين أتقول هذا لأمير المؤمنين وهو أكبر قدرا من هؤلاء فإنك مازدت على أن شبهته بأجلاف من العرب البوادي فأطرق إطراقه ثم رفع رأسه فقال ... لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلا شرودا في الندى والباس ... فالله قد ضر قد ضرب الأقل لنوره ... مثلا من المشكاة والنبراس ...
قال فلما اخذوا القصيدة لم يجدوا فيها هذين البيتين وإنما قالهما ارتجالا قال
ولم يعش بعد هذا إلا قليلا حتى مات وقيل إن الخليفة أعطاه الموصل لما مدحه بهذه القصيدة فأقام بها أربعين (10/300)
يوما ثم مات وليس هذا بصحيح ولا أصل له وإن كان قد لهج به بعض الناس كالزمخشري وغيره وقد أورد له ابن عساكر أشياء من شعره مثل قوله ... ولو كانت الأرزاق تجري على الحجا ... هلكن إذا من جهلهن البهائم ... ولم يجتمع شرق وغرب لقاصد ... ولا المجد في كف امرى والدراهيم ...
ومنه قوله
... وما أنا بالغيران من دون غرسه ... إذا أنما لم أصبح غيورا على العلم ... طبيب فؤادي مذ ثلاثين حجة ... ومذهب همي والمفرج للغم ...
ر وفيها توفي أبو نصر الفارابي والعبسي وأبو الجهم ومسدد وداود بن عمرو الضبي ويحي بن عبد الحميد الحماني
ثم دخلت دخلت سنة تسع وعشرين ومائتين
فيها أمر الواثق بعقوبة الدواوين وضربهم واستخلاص الأموال منهم لظهور خياناتهم وإسرافهم في أمورهم فمنهم من ضرب ألف سوط وأكثر من ذلك وأقل ومنهم من أخذ منه ألف ألف دينار ودون ذلك وجاهر الوزير محمد بن عبد الملك لسائر ولاة الشرط بالعداوة فعسفوا وحبسوا ولقوا شرا عظيما وجهدا جهيدا وجلس إسحاق بن إبراهيم للنظر في أمرهم وأقيموا للناس وافتضحوا هم والدواوين فضيحة بليغة وكان سبب ذلك أن الواثق جلس ليلة في دار الخلافة وجلسوا يسمرون عنده فقال هل منكم أحد يعرف سبب عقوبة جدي الرشيد للبرامكة فقال بعض الحاضرين نعم يا أمير المؤمنين سبب ذلك أن الرشيد عرضت له جارية فأعجبه جمالها فساوم سيدها فيها فقال يا أمير المؤمنين إن أقسمت بكل يمين أن لا أبيعها بأقل من مائة ألف دينار فاشتراها منه بها وبعث إلى يحي بن خالد الوزير ليبعث إليه بالمال من بيت المال فاعتل بأنها ليست عنده فأرسل الرشيد إليه يؤنبه ويقول أما في بيت مالي مائة ألف دينار وألح في طلبها فقال يحي بن خالد أرسلوها إليه دراهم ليستكثرها ولعله يرد الجارية فبعثوا بمائة ألف دينار دراهم ووضعوها في طريق الرشيد وهو خارج إلى الصلاة فلما اجتاز به رأى كوما من دراهم فقال ما هذا قالوا ثمن الجارية فاستكثر ذلك وأمر بخزنها عند بعض خدمه في دار الخلافة وأعجبه جمع المال في حواصله ثم شرع في تتبع أموال بيت المال فاذا البرامكة قد استهلكوها فجعل يهم بهم تارة يرد أخذهم وهلاكهم وتارة يحجم عنهم حتى إذا كان في بعض الليالي سمر عنده رجل يقال له أبو العود فأطلق له ثلاثين ألفا من الدراهم فذهب إلى الوزير يحي بن خالد بن برمك فطلبها منه فماطله مدة طويلة فلما كان في بعض الليالي في السمر عرض أبو العود بذلك للرشيد في قول عمر بن أبي ربيعة ... وعدت هند وما كادت تعد ... ليت هذا أنجزتنا ما تعد ... واستبدت مرة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبد (10/301)
فجعل الرشيد يكرر قوله إنما العاجز من لا يستبد ويعجبه ذلك فلما كان الصباح دخل عليه يحي بن خالد فأنشده الرشيد هذين البيتين وهو يستحسنهما ففهم ذلك يحي بن خالد وخاف وسأل عن من أنشد ذلك للرشيد فقيل له أبو العود فبعث إليه وأعطاه الثلاثين ألفا وأعطاه من عنده عشرين ألفا وكذلك ولداه الفضل وجعفر فما كان عن قريب حتى أخذ الرشيد البرامكة وكان من أمرهم ما كان
فلما سمع ذلك الواثق أعجبه ذلك وجعل يكرر قول الشاعر إنما العاجز من لا يستبد ثم بطش بالكتاب وهم الدواوين على إثر ذلك وأخذ منهم أموالا عظيمة جدا وفيها حج بالناس أمير السنة الماضية وهو أمير الحجيج في السنتين الماضيتين
وفيها توفي خلف بن هشام البزار أحد مشاهير القراء وعبد الله بن محمد السندي ونعيم بن حماد الخزاعي أحد أئمة السنة بعد أن كان من أكابر الجهمية وله المصنفات في السنن وغيرها وبشار بن عبد الله المنسوب إليه النسخة المكذوبة عنه أو منه ولكنها عالية الاسناد إليه ولكنها موضوعة
ثم دخلت سنة ثلاثين ومائتين
في جمادي منها خرجت بنو سليم حول المدينة النبوية فعاثوا في الأرض فسادا وأخافوا السبيل وقاتلهم أهل المدينة فهزموا أهلها واستحوذوا على ما بين المدينة ومكة من المناهل والقرى فبعث إليهم الواثق بغا الكبير أبا موسى التركي في جيش فقاتلهم في شعبان فقتل منهم خمسين فارسا وأسر منهم وانهزم بقيتهم فدعاهم إلى الأمان وأن يكونوا على حكم أمير المؤمنين فاجتمع إليه منهم خلق كثير فدخل بهم المدينة وسجن رؤسهم في دار يزيد بن معاوية وخرج إلى الحج في هذه السنة وشهد معه الموسم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب نائب العراق وفيها حج بالناس محمد بن داود المتقدم وفيها توفي
عبد الله بن طاهر بن الحسين
نائب خراسان وما والاها وكان خراج ماتحت يده في كل سنة ثمانية وأربعين ألف ألف درهم فولى الواثق مكانه ابنه طاهر وتوفي قبله أشناس التركي بتسعة أيام يوم الاثنين لأحدى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول من هذه السنة وقال ابن خلكان توفي سنة ثمان وعشرين بمرو وقيل بنيسابور وكان كريما جوادا وله شعر حسن وقد ولي نيابة مصر بعد العشرين ومائتين وذكر الوزير أبو القاسم بن المعزى أن البطيخ العبدلاوي الذي بمصر منسوب إلى سد الله بن طاهر هذا قال ابن خلكان لأنه كان يستطيبه وقيل لأن أول من زرعه هناك والله أعلم ومن جيد شعره
... اغتفر زلتي لتحرز فضل الش ... كر مني ولا يفوتك أجري (10/302)
لا تكلني إلى التوسل بالعذر ... لعلي ان لا أقوم بعذري ...
ومن شعره قوله
... نحن قوم يليننا الخد والنحر ... على أننا نلين الحديدا ... طوع ايدي الصبا تصيدنا العين ... ومن شأننا نصيد الأسودا ... نملك الصيد ثم تملكنا البيض ... المضيئات أعينا وخدودا ... تتقي سخطنا الأسود ونخشى ... سقط الخشف حين تبدي القعودا ... فترانا يوم الكريهة أحرا ... را وفي السلم للغواني عبيدا ...
قال ابن خلكان وكان خزاعيا من موالي طلحة الطلحات الخزاعي وقد كان أبو تمام يمدحه فدخل إليه مرة فأضافه الملح بهمدان فصنف له كتاب الحماسة عند بعض نسائه ولما ولاه المأمون نيابة الشام ومصر صار إليها وقد رسم له بما في ديار مصر من الحواصل فحمل إليه وهو في أثناء الطريق ثلاثة آلاف ألف دينار ففرقها كلها في مجلس واحد وأنه لما واجه مصر نظر إليها فاحتقرها وقال قبح الله فرعون ما كان أخسه وأضعف همته حين تبجح وتعاظم بملك هذه القرية وقال أنا ربكم الأعلى وقال أليس لي ملك مصر فكيف لو راى بغداد وغيرها
وفيها توفي على بن جعد الجوهري ومحمد بن سعد كاتب الواقدي مصنف كتاب الطبقات وغيره وسعيد بن محمد الجرمي
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائتين
فيها وقعت مفاداة الأسارى المسلمين الذين كانوا في أيدي الروم على يدي الأمير خاقان الخادم وذلك في المحرم من هذة السنة وكان عدة الأساري أربعة وثلثمائة واثنين وستين أسيرا
وفيها كان مقتل أحمد بن نصر الخزاعي رحمه الله وأكرم مثواه
وكان سبب ذلك أن هذا الرجل وهو أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم الخزاعي وكان جده مالك ابن الهيثم من أكبر الدعاة إلى دولة بني العباس الذين قتلوا ولده هذا وكان أحمد بن نصر هذا له وجاهة ورياسة وكان أبوه نصر بن مالك يغشاه أهل الحديث وقد بايعه العامة في سنة إحدى ومائتين على القيام بالأمر والنهي حين كثرت الشطار والدعار في غيبة المأمون عن بغداد كما تقدم ذلك وبه تعرف سويقة نصر ببغداد وكان أحمد بن نصر هذا من أهل العلم والديانة والعمل الصالح والاجتهاد في الخير وكان من أئمة السنة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وكان ممن يدعو إلى القول بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق وكان الواثق من أشد الناس في القول بخلق القرآن يدعو إليه ليلا ونهارا سرا وجهارا اعتمادا على ما كان عليه أبوه قبله وعمه المامون من (10/303)
غير دليل ولا برهان ولاحجة ولا بيان ولا سنة ولا قرآن فقام أحمد بن نصر هذا يدعو إلى الله وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن النكر والقول بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق في أشياء كثيرة دعا الناس إليها فاجتمع عليه جماعة من أهل بغداد والتف عليه من الألوف أعداد وانتصب للدعوة إلى أحمد بن نصر هذا رجلان وهما أبو هارون السراج يدعو أهل الجانب الشرقي وآخر يقال له طالب يدعو أهل الجانب الغربي فاجتمع عليه من الخلائق ألوف كثيرة وجماعات غزيرة فلما كان شهر شعبان من هذه السنة انتظمت البيعة لأحمد بن نصر الخزاعي في السير على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والخروج على السلطان لبدعته ودعوته إلى القول بخلق القرآن ولما هو عليه وأمراؤه وحاشيته من المعاصي والفواحش وغيرها فتواعدوا على أنهم في الليلة الثالثة من شعبان وهي ليلة الجمعة يضرب طبل في الليل فيجتمع الذين بايعوا في مكان اتفقوا عليه وأنفق طالب وأبو هارون في أصحابه دينارا دينارا وكان من جملة من أعطوه رجلان من بني أشرس وكانا يتعاطيان الشراب فلما كانت ليلة الخميس شربا في قوم من أصحابهم واعتقدا أن تلك الليلة هي ليلة الوعد وكان ذلك قبله بليلة فقاما يضربان على طبل في الليل ليجتمع إليهما الناس فلم يجئ أحد وانخرم النظام وسمع الحرس في الليل فأعلموا نائب السلطنة وهو محمد بن إبراهيم بن مصعب وكان نائبا لأخيه إسحاق بن إبراهيم لغيبته عن بغداد فأصبح الناس متخبطين واجتهد نائب السلطنة على إحضار ذينك الرجلين فأحضرا فعاقبهما فأقرا على أحمد بن نصر فطلبه وأخذ خادما له فاستقره فأقر بما أقر به الرجلان فجمع جماعة من رؤس أصحاب أحمد بن نصر معه وأرسل بهم إلى الخليفة بسر من رأى وذلك في آخر شعبان فأحضر له جماعة من الأعيان وحضر القاضي أحمد بن أبي داؤد المعتزلي وأحضر أحمد بن نصر ولم يظهر منه على أحمد بن نصر ولم يظهر منه على احمد ابن نصر عتب فلما أوقف أحمد بن نصر بين يدي الواثق لم يعاتبه على شيء مما كان منه في مبايعته العوام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيره بل أعرض عن ذلك كله وقال له ما تقول في القرآن فقال هو كلام الله قال أمخلوق هو قال هو كلام الله وكان أحمد بن نصر قد استقتل وباع نفسه وحضر وقد تحنط وتنور وشد على عورته ما يسترها فقال له فما تقول في ربك أتراه يوم القيامة فقال يا أمير المؤمنين قد جاء القرآن والأخبار بذلك قال الله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته ) فنحن على الخبر زاد الخطيب قال الواثق ويحك أيرى كما يرى المحدود المتجسم ويحويه مكان ويحصره الناظر أنا أكفر برب هذه صفته قلت
وما قاله الواثق لا يجوز ولا يلزم ولا يرد به هذا الخبر الصحيح والله أعلم ثم قال أحمد بن (10/304)
نصر للواثق وحدثني سفيان بحديث يرفعه ( إن قلب ابن آدم بأصبعين من أصابع الله يقلبه كيف شاء ) وكان النبي صلى الله عليه و سلم يقول ( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ) فقال له إسحاق بن إبراهيم ويحك انظر ما تقول فقال أنت أمرتني بذلك فأشفق إسحاق من ذلك وقال أنا أمرتك قال نعم أنت أمرتني أن أنصح له فقال الواثق لمن حوله ما تقولون في هذا الرجل فأكثروا القول فيه فقال عبد الرحمن بن إسحاق وكان قاضيا على الجانب الغربي فعزل وكان موادا لأحمد بن نصر قبل ذلك يا أمير المؤمنين هو حلال الدم وقال أبو عبد الله الأرمني صاحب أحمد بن أبي داؤد اسقني دمه يا أمير المؤمنين فقال الواثق لابد أن يأتي ما تريد وقال ابن أبي دؤاد هو كافر يستتاب لعل به عاهة أو نقص عقل فقال الواثق إذا رأيتموني قمت إليه فلا يقومن أحد معي فإني أحتسب خطاى ثم نهض إليه بالصمصامة وقد كانت سيفا لعمرو بن معد يكرب الزبيدي أهديت لموسى الهادي في أيام خلافته وكانت صفيحة مسحورة في أسفلها مسمورة بمسامير فلما انتهي إليه ضربه بها على عاتقه وهو مربوط بحبل قد أوقف على نطع ثم ضربه أخرى على رأسه ثم طعنه بالصمصامة في بطنه فسقط صريعا رحمه الله على النطع ميتا فانا لله وإنا إليه راجعون رحمه الله وعفا عنه ثم انتضى سيما الدمشقي سيفه فضرب عنقه وحز رأسه وحمل معترضا حتى أتى به الحظيرة التي فيها بابك الخرمي فصلب فيها وفي رجليه زوج قيود وعليه سراويل وقميص وحمل رأسه إلى بغداد فنصب في الجانب الشرقي أياما وفي الغربي اياما وعنده الحرس في الليل والنهار زفي أذنه رقعة مكتوب فيها هذا رأس الكافر المشرك الضال أحمد بن نصر الخزاعي ممن قتل على يدي عبد الله هارون الامام الواثق بالله أمير المؤمنين بعد أن أقام عليه الحجة في خلق القرآن ونفي التشبيه وعرض عليه التوبة ومكنه من الرجوع إلى الحق فأبى إلا المعاندة والتصريح فالحمد لله الذي عجله إلى ناره وأليم عقابه بالكفر فاستحل بذلك أمير المؤمنين دمه ولعنه
ثم أمر الواثق بتتبع رؤس أصحابه فأخذ منهم نحوا من تسع وعشرين رجلا فأودعوا في السجون وسموا الظلمة ومنعوا أن يزورهم أحد وقيدوا بالحديد ولم يجر عليهم شيء من الأرزاق التي كانت تجري على المحبوسين وهذا ظلم عظيم
وقد كان أحمد بن نصر هذا من أكابر العلماء العاملين القائمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسمع الحديث من حماد بن زيد وسفيان بن عيينة وهاشم بن بشير وكانت عنده مصنفاته كلها وسمع من الامام مالك بن أنس أحاديث جيدة ولم يحدث بكثير من حديثه وحدث عنه أحمد بن إبراهيم الدورقي وأخوه يعقوب بن إبراهيم ويحي بن معين وذكره يوما فترحم عليه وقال قد ختم الله له بالشهادة وكان لا يحدث ويقول إني لست أهلا لذلك وأحسن يحي بن معين الثناء (10/305)
عليه جدا وذكره الامام أحمد بن حنبل يوما فقال رحمه الله ما كان أسخاه بنفسه لله لقد جاد بنفسه له وقال جعفر بن محمد الصائغ بصرت عيناي وإلا فقئتا وسمعت أذناي وإلا فصمتا أحمد ابن نصر الخزاعي حين ضربت عنقه يقول رأسه لا إله إلا الله وقد سمعه بعض الناس وهو مصلوب على الجذع ورأسه يقرأ الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون قال فاقشعر جلدي ورآه بعضهم في النوم فقال له مافعل بك ربك فقال ما كانت إلا غفوة حتى لقيت الله عز و جل فضحك إلى ورأى بعضهم رسول الله صلى الله عليه و سلم في المنام ومعه أبو بكر وعمر قد مروا على الجذع الذي عليه رأس أحمد بن نصر فلما جاوزوه أعرض رسول الله صلى الله عليه و سلم بوجهه الكريم عنه فقيل له يارسول الله مالك أعرضت عن أحمد بن نصر فقال ( أعرضت عنه استحياء منه حين قتله رجل يزعم أنه من أهل بيتي )
ولم يزل رأسه منصوبا من يوم الخميس الثامن والعشرين من شعبان من هذه السنة أعني سنة إحدى وثلاثين ومائتين إلى بعد عيد الفطر بيوم أو يومين من سنة سبع وثلاثين ومائتين فجمع بين رأسه وجثته ودفن بالجانب الشرقي من بغداد بالمقبرة المعروفة بالمالكية رحمه الله وذلك بأمر المتوكل على الله الذي ولى الخلافة بعد أخيه الواثق وقد دخل عبد العزيز بن يحي الكتائي صحاب كتاب الحيدة على المتوكل وكان من خيار الخلفاء لأنه أحسن الصنيع لأهل السنة بخلاف أخيه الواثق وأبيه المعتصم وعمه المأمون فإنهم أساؤا إلى أهل السنة وقربوا أهل البدع والضلال من المعتزلة وغيرهم فأمره أن ينزل جثة محمد بن نصر ويدفنه ففعل وقد كان المتوكل يكرم الامام أحمد بن حنبل إكراما زائدا جدا كما سيأتي بيانه في موضعه والمقصود أن عبد العزيز صاحب كتاب الحيدة قال للمتوكل يا أمير المؤمنين ما رأيت أو مارئى أعجب من أمر الواثق قتل أحمد بن نصر وكان لسانه يقرأ إلى أن دفن فوجل المتوكل من كلامه وساءه ما سمع في أخيه الواثق فلما دخل عليه الوزير محمد بن عبد الملك بن الزيات قال له المتوكل في قلبي شيء من قتل أحمد بن نصر فقال يا أمير المؤمنين أحرقني الله بالنار إن قتله أمير المؤمنين الواثق إلا كافرا ودخل عليه هرثمة فقال له في ذلك فقال قطعني الله إربا إربا إن قتله إلا كافرا ودخل عليه القاضي أحمد بن أبي داؤد فقال له مثل ذلك فقال ضربني الله بالفالج إن قتله الواثق إلا كافرا قال المتوكل فأما ابن الزيات فأنا أحرقته بالنار وأما هرثمة فانه هرب فاجتاز بقبيلة خزاعة فعرفه رجل من الحي فقال يا معشر خزاعة هذا الذي قتل ابن عمكم أحمد بن نصر فقطعوه فقطعوه إربا إربا وأما ابن أبي دؤاد فقد سجنه الله في جلده يعني بالفالج ضربه الله قبل موته بأربع سنين وصودر من صلب ماله بمال جزيل جدا كما سيأتي بيانه في موضعه (10/306)
وروى أبو داود في كتاب المسائل عن أحمد بن إبراهيم الدورقي عن أحمد بن نصر قال سألت سفيان بن عيينة ( القلوب بين إصبعين من أصابع الله وإن الله يضحك ممن يذكره في الأسواق ) فقال اروها كما جاءت بلا كيف
وفيها أراد الواثق أن يحج واستعد فذكر له أن الماء بالطريق قليل فترك الحج عامئذ
وفيها تولى جعفر بن دينار نائب اليمن فسار إليها في أربعة آلاف فارس وفيها عدا قوم من العامة على بيت المال فأخذوا منه شيئا من الذهب والفضة فأخذوا وسجنوا وفيها ظهر خارجي ببلاد ربيعة فقاتله نائب الموصل فكسره وانهزم أصحابه وفيها قدم وصف الخادم بجماعة من الاكراد نحو من خمسمائة في القيود كانوا قد أفسدوا في الطرقات وقطعوها فأطلق الخليفة لوصيف الخادم خمسة وسبعين ألف دينار وخلع عليه وفيها قدم خاقان الخادم من بلاد الروم وقد تم الصلح والمفاداة بينه وبين الروم وقدم معه جماعة من رؤس الثغور فأمر الواثق بإمتحانهم بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة وأمر الواثق أيضا بإمتحان الأسارى الذين فودوا من أسر الفرنج بالقول بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخره فمن أجاب [ إلى القول بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة فودى وإلا ترك في أيدي الكفار وهذه بدعة صلعاء شنعاء عمياء صماء لا مستند لها من كتاب ولا سنة ولا عقل صحيح بل الكتاب والسنة والعقل الصحيح بخلافها كما هو مقرر في موضعه وبالله المستعان ]
وكان وقوع المفاداة عند نهر يقال له اللامس عند سلوقية بالقرب من طرسوس فبدل كل مسلم أو مسلمة في أيدي الروم أو ذمي أو ذمية كان تحت عقد المسلمين أسير من الروم كان بأيدي المسلمين ممن لم يسلم فنصبوا جسرين على النهر فإذا أرسل الروم مسلما أو مسلمة في جسرهم فانتهى إلى المسلمين كبر وكبر المسلمون ثم يرسل المسلمون أسيرا من الروم على جسرهم فإذا انتهى إليهم تكلم بكلام بشبه التكبير أيضا ولم يزالوا كذلك مدة أربعة أيام بدل كل نفس نفس ثم بعي مع خاقان جماعة من الروم الأسارى فأطقهم للروم حتى يكون له الفضل عليهم
قال ابن جرير وفيها مات الحسن بن الحسين أخو طاهر بطبرستان في شهر رمضان وفيها مات الخطاب بن وجه الفلس وفيها مات أبو عبد الله بن الأعرابي الرواية يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من شعبان وهو ابن ثمانين سنة وفيها ماتت أم أبيها بنت موسى أخت على بن موسى الرضا وفيها مات مخارق المغني وأبو نصر أحمد بن حاتم راوية الأصمعي وعمرو بن أبي عمرو الشيباني ومحمد بن سعدان النحوي قلت وممن توفي فيها أيضا أحمد نصر الخزاعي كما تقدم وإبراهيم (10/307)
ابن محمد بن عرعرة وأمية بن بسطام وأبو تمام الطائي في قول والمشهور ما تقدم وكامل بن طلحة ومحمد بن سلام الجمحي وأخوه عبد الرحمن ومحمد بن منهال الضرير ومحمد بن منهال أخو حجاج وهارون بن معروف والبويطي صاحب الشافعي مات في السجن مقيدا على القول بخلق القرآن فامتنع من ذلك ويحي بن بكير راوي الموطأ عن مالك
ثم دخلت سنة ثنتين وثلاثين ومائتين
فيها عاثت قبيلة يقال لها بنو نمير باليمامة فسادا فكتب الواثق إلى بغا الكبير وهو مقيم بأرض الحجاز فحاربهم مقتل منهم جماعة وأسر منهم آخرين وهزم بقيتهم ثم التقى مع بنى تميم وهو في ألفي فارس وهم ثلاثة آلاف فجرت بينهم حروب ثم كان الظفر له عليهم آخرا وذلك في النصف من جمادي الآخره ثم عاد بعد ذلك إلى بغداد ومعهم من أعيان رؤسهم في القيود والأسر جماعة وقد فقد من أعيانهم في الواقع ما ينيف على ألفي رجل من بنى سليم ونمير ومرة وكلاب وفزارة وثعلبه وطى وتميم وغيرهم وفي هذه السنة أصاب الحجيج في رجوعهم عطش شديد حتى بيعت الشربة بالدنانير الكثيرة ومات خلق كثير من العطش وفيها أمر الواثق بترك حباية أعشار سفن البحر وفيها كانت وفاة الخليفة الواثق بن محمد المعتصم ابن هارون الرشيد أبي جعفر هارون الواثق كان هلاكه في ذي الحجة من هذه السنة بعلة الاستسقاء فلم يقدر على حضور العيد عامئذ فاستناب في الصلاة بالناس قاضيه أحمد بن أبي داؤد الأيادي المعتزلي توفي لست بقين من ذي الحجة وذلك أنه قوى به الاستسقاء فأفعد في تنور قد أحمى له بحيث يمكنه الجلوس فيه ليسكن وجعه فلان عليه بعض الشيء اليسير فلما كان من الغد أمر بأن يحمى أكثر من العادة فأجلس فيه ثم أخرج فوضع في محفة فحمل فيها وحوله أمراؤه ووزراؤه وقاضيه فمات وهو محمول فيها فما شعروا حتى سقط جبينه على المحفة وهو ميت فغمض القاضي عينيه بعد سقوط جبينه وولى غسله والصلاة عليه ودفنه في قصر الهادي عليهما من الله ما يستحقانه وكان أبيض اللون مشربا حمرة جميل المنظر خبيث القلب حسن الجسم سيء الطوية قاتم العين اليسرى فيها نكته بضياء وكان مولده سنة ست وتسعين ومائة بطريق مكة فمات وهو ابن ست وثلاثين سنة ومدة خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وخمسة أيام وقيل سبعة أيام وثنتى عشرة ساعة فهكذا أيام أهل الظلم والفساد والبدع قليلة قصيرة وقد جمع الواثق أصحاب النجوم في زمانه حين اشتدت علته وإنما اشتدت بعد قتله أحمد بن نصر الخزاعي ليلحقه إلى بين يدي الله فلما جمعهم أمرهم أن ينظروا في مولده وما تقتضيه صناعة النجوم كم تدوم أيام دولته فاجتمع عنده من رؤسهم جماعة منهم الحسن بن سهل والفضل ابن إسحاق الهاشمي وإسماعيل بن نوبخت ومحمد بن موسى الخوارزمي المجوسي القطر بلى وسند (10/308)
صاحب محمد بن الهيثم وعامة من ينظر في النجوم فنظروا في مولده وما يقتضيه الحال عندهم فأجمعوا على أنه يعيش في الخلافة دهرا طويلا وقدروا له خمسين سنة مستقبلة من يوم نظروا نظر من لم يبصر فإنه لم يعش بعد قولهم وتقديرهم إلا عشرة أيام حتى هلك ذكره الامام أبو جعفر بن جرير الطبرى رحمه الله
قال ابن جرير وذكر الحسين بن الضحاك أنه شهد الواثق بعد أن مات المعتصم بأيام وقد قعد مجلسا كان أول مجلس قعده وكان أول ما غنى به في ذلك المجلس أن غنته شاربة جارية إبراهيم بن المهدي
... ما درى الحاملون يوم استقلوا ... نعشه للثواء أم للقاء ... فيلقل فيك باكياتك ماشئن ... صياحا في وقت كل مساء ...
قال فبكى وبكينا حتى شغلنا البكاء عن جميع ما كنا فيه ثم اندفع بعضهم يغنى
... ودع هريرة إن الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعاأيها الرجل ...
فازداد بكاؤه وقال ما سمعت كاليوم قط تعزية بأب وبغى نفس ثم ارفض ذلك المجلس وروى الخطيب أن دعبل بن على الشاعر لما تولى الواثق عمد إلى طومار فكتب فيه أبيات شعر ثم جاء إلى الحاجب فدفعه إليه وقال اقرأ أمير المؤمنين السلام وقل هذه أبيات امتدحك بها دعبل فلما فضها الواثق إذا فيها
... الحمد لله لاصبر ولا جدل ... ولا عزاء إذا أهل الهوى رقدوا ... خليفة مات لم يحزن له أحد ... وآخر قام لم يفرح به أحد ... فمر هذا ومر الشؤم يتبعه ... وقام هذا فقام الويل والنكد ...
قال فتطلبه الواثق بكل ما يقدر عليه من الطلب فلم يقدر عليه حتى مات الواثق وروى أيضا أنه لما استخلف الواثق ابن أبي داود على الصلاة في يوم العيد ورجع إليه بعد أن قضاها قال له كيف كان عيدكم يا أبا عبدالله قال كنا في نهار لا شمس فيه فضحك وقال يا أبا عبدالله أنا مؤيد بك قال الخطيب وكان ابن أبي داؤد استولى على الواثق وحمله على التشديد في المحنة ودعا الناس إلى القول بخلق القرآن قال ويقال إن الواثق رجع عن ذلك قبل موته فأخبرني عبدالله ابن أبي الفتح أنبأ أحمد بن إبراهيم بن الحسن ثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة حدثني حامد بن العباس عن رجل عن المهدي أن الواثق مات وقد تاب من القول بخلق القرآن وروى أن الواثق دخل عليه يوما مؤدبه فأكرمه إكراما كثيرا فقيل له في ذلك فقال هذا أول من فتق لساني بذكر الله وأدناني برحمة الله وكتب إليه بعض الشعراء
... جذبت دواعي النفس عن طلب الغنى ... وقلت لها عفي عن الطلب النزر (10/309)
فإن أمير المؤمنين بكفه ... مدار رحا الأرواق دائبه تجري ...
فوقع له في رقعته جذبتك نفسك عن امتهانها ودعنط إلى صونها فخذها ما طلبته هينا وأجزل له العطاء ومن شعره قوله
... هي المقادير تجري في أعنتها ... فاصبر فليس لها صبر على حال ...
ومن شعر الواثق قوله
... تنح عن القبيح ولا ترده ... ومن أوليته حسنا فزده ... ستكفى من عدوك كل كيد ... إذا كاد العدو ولم تكده ...
وقال القاضي يحي بن أكثم ما أحسن أحد من خلفاء بني العباس إلى آل أبي طالب ما أحسن إليهم الواثق ما مات وفيهم فقير ولما احتضر جعل يردد هذين البيتين
... الموت فيه جميع الخلق مشترك ... لا سوقة منهم يبقى ولا ملك ... ما ضر أهل قليل في تفارقهم ... وليس بغنى عن الأملاك ماملكوا ...
ثم أمر بالبسط فطويت ثم ألصق خده بالأرض وجعل يقول يامن لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه وقال بعضهم لما احتضر الواثق ونحن حوله غشى عليه فقال بعضنا لبعض انظروا هل قضى قال فدنوت من بيهم إليه لأنظر هل هدأ نفسه فأفاق فلحظ إلى بعينه فرجعت القهقري خوفا منه فتعلقت قائمة سيفي بشيء فكدت أن أهلك فما كان عن قريب حتى مات وأغلق عليه الباب الذي هو فيه بقي فيه وحده واشتغلوا عن تجهيزه بالبيعة لأخيه جعفر المتوكل وجلست أنا أحرس الباب فسمعت حركة من داخل البيت فدخلت فإذا جرد قد أكل عينه التي لحظ إلى بها وما كان حولها من الخدين
وكانت وفاته بسر من رأى التي كان يسكنها في القصر الهاروني في يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة من هذه السنة أعنى سنة ثنتين وثلاثين ومائتين عن ست وثلاثين سنة وقيل ثنتين وثلاثين سنة وكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وخمسة أيام وقيل خمس سنين وشهران وإحد وعشرين يوما وصلى عليه أخوه جعفر المتوكل على الله والله أعلم
خلافة المتوكل على الله جعفر بن المعتصم
بويع له بالخلافة بعد أخيه الواثق وقت الزوال من يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحدة وكانت الأتراك قد عزموا على تولية محمد بن الواثق فاستصغروه فتركوه وعدلوا إلى جعفر هذا وكان عمره إذ ذاك ستا وعشرون سنة وكان الذي ألبسه خلعة الخلافة أحمد بن أبي داؤد القاضي وكان هو أول من سلم عليه بالخلافة وبايعه الخاصة والعامة وكانوا قد اتفقوا على تسميته بالمنتصر بالله (10/310)
إلى صبيحة يوم الجمعة فقال ابن أبي داؤد رأيت أن يلقب بالمتوكل على الله فاتفقوا على ذلك وكتب إلى الآفاق وأمر بعطاء الشاكرية من الجند ثمانية شهور وللمغاربة أربعة شهور ولغيرهم ثلاثة شهور واستبشر الناس به وقد كان المتوكل رأى في منامه في حياة أخيه هارون الواثق كأن شيئا نزل عليه من السماء مكتوب فيه جعفر المتوكل على الله فعبره فقيل له هي الخلافة فبلغ ذلك أخاه الواثق فسجنه حينا ثم أرسله
وفيها حج بالناس أمير الحجيج محمد بن داود وفيها توفي الحكم بن موسى وعمرو بن محمد الناقد
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائتين
في يوم الأربعاء سابع صفر منها أمر الخليفة المتوكل على الله بالقبض على محمد بن عبد الملك ابن الزيات وزير الواثق وكان المتوكل يبغضه لأمور منها أن أخاه الواثق غضب على المتوكل في بعض الأوقات وكان ابن الزيات يزيده غضبا عليه فبقي ذلك في نفسه ثم كان الذي استرضى الواثق عليه أحمد بن أبي داؤد فحظى بذلك عنده في أيام ملكه ومنها أن ابن الزيات كان قد أشار بخلافة محمد بن الواثق بعد أبيه ولف عليه الناس وجعفر المتوكل في جنب دار الخلافة لم يلتفت إليه ولم يتم الأمر إلا لجعفر المتوكل على الله رغم أنف ابن الزيات فلهذا أمر بالقبض عليه سريعا فطلبه فركب بعد غدائه وهو يظن أن الخليفة بعث إليه فانتهى به الرسول إلى دار إيتاخ أمير الشرطة فاحتيط به وقيد وبعثوا في الحال إلى داره فأخذ جميع ما فيها من الأموال واللآلي والجواهر والحواصل والجواري والأثاث ووجدوا في مجلسه الخاص به آلات الشرب وبعث المتوكل في الحال أيضا إلى حواصله بسامرا وضياعه وما فيها فاحتاط عليها وأمر به أن يعذب ومنعوه من الكلام وجعلوا يساهرونه كلما أراد الرقاد نخس بالحديد ثم وضعه بعد ذلك كله في تنور من خشب فيه مسامير قائمة في أسفله فأقيم عليها ووكل به من يمنعه من القعود والرقاد فمكث كذلك أياما حتى مات وهو كذلك ويقال إنه أخرج من التنور وفيه رمق فضرب على بطنه ثم على ظهره حتى مات وهو تحت الضرب ويقال إنه أحرق ثم دفعت جثته إلى أولاده فدفنوه فنبشت عليه الكلاب فأكلت ما بقي من لحمه وجلده وكانت وفاته لاحدى عشرة من ربيع الأول منها وكان قيمة ما وجد له من الحواصل نحوا من تسعين ألف دينار وقد قدمنا أن المتوكل سأله عن قتل أحمد بن نصر الخزاعي فقال يا أمير المؤمنين أحرقني الله بالنار إن قتله الواثق إلا كافرا قال المتوكل فأنا أحرقته بالنار
وفيها في جمادي الأولى منها بعد مهلك ابن الزيات فلج أحمد بن أبي داؤد القاضي المعتزلي فلم يزل مفلوجا حتى مات بعد أربع سنين وهو كذلك كما دعا على نفسه حين سأله المتوكل عن (10/311)
قتل حمد بن نصر كما تقدم ثم غضب المتوكل على جماعة من الداواوين والعمال وأخذ منهم أموالا جزيلة جدا وفيها ولى المتوكل ابنه محمد المنتصر الحجاز واليمن وعقد له على ذلك كله في رمضان منها
وفيها عمد ملك الروم ميخائيل بن ترفيل الى امه تدورة فأقامها بالشمس والزمها الدير وقتل الرجل الذي
اتهمها به وكان ملكها ست سنين وفيها حج بالناس محمد بن داود امير مكة وفيها توفي ابراهيم بن الحجاج الشامي وحيان بن موسى العربي وسليمان بن عبد الرحمن الدمشقي وسهل بن عثمان العسكري ومحمد بن سماعة القاضي ومحمد بن عائد الدمشق صاحب المغازي ويحيى المقابري ويحيى بن معين أحد أئمة الجرح والتعديل وأستاذ أهل هذه الصناعة في زمانه
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ومائتين
فيها خرج محمد بن البعيث بن حلبس عن الطاعة في بلاد أذربيجان وأظهر أن المتوكل قد مات والتف عليه جماعة من أهل تلك الرساتيق ولجأ إلى مدينة مرند فحصنها وجاءته البعوث من كل جانب وأرسل إليه المتوكل جيوشا يتبع بعضها بعضا فنصبوا على بلده الجانيق من كل جانب وحاصروه محاصرة عظيمة جدا وقاتلهم مقاتلة هائلة وصبر هو وأصحابه صبرا بليغا وقدم بغا الشرابي لمحاصرته فلم يزل به حتى أسره واستباح أمواله وحريمه وقتل خلقا من رؤس أصحابه وأسر سائرهم وانحسمت مادة البعيث وفي جمادي الأولى منها خرج المتوكل إلى المدائن
وفيها حج ايتاخ أحد الأمراء الكبار وهو والي مكة ودعى له على المنابر وقد كان ايتاخ هذا غلاما خزريا طباخا وكان لرجل يقال له سلام الابرش فاشتراه منه المعتصم في سنة تسع وتسعين ومائة فرفع منزلته وحظي عنده وكذلك الواثق من بعده ضم إليه أعمالا كثيرة وكذلك عامله المتوكل وذلك لفروسيته ورجولته وشهامته ولما كان في هذه السنة شرب ليلة مع المتوكل فعربد عليه المتوكل فهم ايتاخ بقتله فلما كان الصباح اعتذر المتوكل إليه وقال له أنت أبي وأنت ربيتني ثم دس إليه من يشير إليه بأن يستأذن للحج فاستأذن له وأمره على كل بلدة يحل بها وخرج القواد في خدمته إلى طريق الحج حين خرج ووكل المتوكل الحجابة لوصيف الخادم عوضا عن ايتاخ وحج بالناس فيها محمد بن داود أمير مكة وهو أمير الحجيج من سنين متقدمة
وفيها توفي أبو خثيمة زهير بن حرب وسليمان بن داود الشاركوني أحد الحفاظ وعبد الله ابن محمد النفيلي وأبو ربيع الزهراني وعلى بن عبد الله بن جعفر المدني شيخ البخاري في صناعة الحديث ومحمد بن عبد الله بن نمير ومحمد بن أبي بكر المقدمي والمعافا الرسيغي ويحيى بن يحي الليثي راوي الموطأ عن مالك (10/312)
( ثم دخلت سنة خمس وثلاثون ومائتين )
في جمادي الآخرة منها كان هلاك إيتاخ في السجن وذلك أنه رجع من الحج فتلقته هدايا الخليفة فلما اقترب يريد دخول سامرا التي فيها المتوكل بعث إليه إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد عن أمر الخليفة يستدعيه إليها ليتلقاه وجوه الناس وبني هاشم فدخلها في أبهة عظيمة فقبض عليه إسحاق بن إبراهيم وعلى ابنيه مظفر ومنصور وكاتبيه سلمان بن وهب وقدامه بن زياد النصراني فأسلم تحت العقوبة وكان هلاك ايتاخ بالعطش وذلك أنه أكل أكلا كثيرا بعد جوع شديد ثم استقى الماء فلم يسقى حتى مات ليلة الأربعاء لخمس خلون من جمادي الآخرة منها ومكث ولداه في السجن مدة خلافة المتوكل فلما ولى المنتصر ولد المتوكل أخرجهما وفي شوال منها قدم بغا سامرا ومعه محمد بن البعيث وأخواه صقر وخالد ونائبه العلاء ومعهم من رؤس أصحابه نحو مائة وثمانين إنسانا فأدخلوا على الجمال ليراهم الناس فلما أوقف ابن البعيث بين يدي المتوكل أمر بضرب عنقه فأحضر السيف والنطع فجاء السياقون فوقفوا حوله فقال المتوكل ويلك ما دعاك إلى ما فعلت فقال الشقوة يا أمير المؤمنين وأنت الحبل الممدود بين الله وبين خلقه وأن لي فيك لظنين أسبقهما إلى قلبي أولاهما بك وهو العفو ثم اندفع يقول بديهة
... أبى الناس إلا وانك اليوم قاتلي ... أمام الهدى والصفح بالمرء أجمل ... وهل أنا إلا جبلة من خطيئة ... وعفوك من نور النبوة يجبل ... فإنك خير السابقين إلى العلى ... ولا شك أن خير الفعالين تفعل ...
فقال المتوكل أن معه لأدبا ثم عفا عنه ويقال شفع فيه المعتز بن المتوكل فشفعه ويقال بل أودع في السجن في قيود فلم يزل فيه حتى هرب بعد ذلك وقد قال حين هرب
... كم قضيت أمورا كان أهملها ... غيري وقد أخذ الإفلاس بالكظم ... لاتعذليني فيما ليس ينفعني ... إليك عني جرى المقدور بالقلم ... سأتلف المال في عسر في يسر ... إن الجواد الذي يعطي على العدم ...
وفيها أمر المتوكل أهل الذمة أن يتميزوا عن المسلمين في لباسهم وعمائمهم وثيابهم وأن يتطيلسوا بالمصبوغ بالقلي وان يكون على عمائمهم رقاع مخالفة للون ثيابهم من خلفهم ومن بين أيديهم وأن يلزموا بالزنانير الخاصرة لثيابهم كزنانير الفلاحين اليوم وأن يحملوا في رقابهم كرات من خشب كثيرة وان لا يركبوا خيلا ولتكن ركبهم من خشب إلى غير ذلك من الأمور المذلة لهم المهينة لنفوسهم وأن لا يستعملون في شيء من الدواوين التي يكون لهم فيها حكم على مسلم وأمر بتخريب كنائسهم المحدثة وبتضيق منازلهم المتسعة فيؤخذ منها العشر وأن يعمل مما كان متسعا من منازلهم (10/313)
مسجد وأمر بتسوية قبورهم بالأرض وكتب بذلك إلى سائر الأقاليم والافاق وإلى كل بلد ورستاق
وفيها خرج رجل يقال له محمود بن الفرج النيسابوري وهو ممن كان يتردد إلى خشبة بابك وهو مصلوب فيقعد قريبا منه وذلك بقرب دار الخلافة بسر من رأى فادعى انه نبي وأنه ذو القرنين وقد اتبعه على هذه الضلالة ووافقه على هذه الجهالة جماعة قليلون وهم تسعة وعشرون رجلا وقد نظم لهم كلاما في مصحف له قبحه الله زعم أن جبريل جاءه به من الله فأخذ فرفع أمره إلى المتوكل فأمر فضرب بين يديه بالسياط فاعترف بما نسب إليه وما هو معول عليه وأظهر التوبة من ذلك والرجوع عنه فأمر الخليفة كل واحد من أتباعه التسعة والعشرين أن يصفعه فصفعوه عشر صفعات وعليهم لعنة رب الأرض والسموات ثم إتفق موته في يوم الأربعاء لثلاث خلون من ذي الحجة من هذه السنة
وفي يوم السبت لثلاث بقين من ذي الحجة أخذ المتوكل على الله العهد من بعده لأولاده الثلاثة وهم محمد المنتصر ثم أبو عبد الله المعتز واسمه محمد وقيل الزبير ثم لإبراهيم وسماه المؤيد بالله ولم يل الخلافة هذا وأعطى كل واحد منهم طائفة من البلاد يكون نائبا عليها ويستنيب فيها ويضرب له السكة بها وقد عين ابن جرير لكل واحد منهم من البلدان والأقاليم وعقد لكل واحد منهم لواء أسود للعهد ولواء للعمالة وكتب بينهم كتابا بالرضى منهم ومبايعته لأكثر الأمراء على ذلك وكان مشهودا وفيها في شهر ذي الحجة منها تغير ماء دجلة إلى الصفرة ثلاثة أيام ثم صار في لون ماء الدردى ففزع الناس لذلك وفيها أتى المتوكل بيحيى بن عمر بن زيد بن على بن الحسين بن علي بن أبي طالب من بعض النواحي وكان قد اجتمع إليه قوم من الشيعة فأمر بضربه فضرب ثماني عشرة مقرعة ثم حبس في المطبق وحج بالناس محمد بن داود
قال ابن جرير وفيها توفى إسحاق بن إبراهيم صاحب الجسر يعني نائب بغداد يوم الثلاثاء لسبع بقين من ذي الحجة وجعل ابنه محمد مكانه وخلع عليه خمس خلع وقلده سيفا قلت وقد كان نائبا في العراق من زمن المأمون وهو من الدعاة تبعا لسادته وكبرائه إلى القول بخلق القرآن الذي قال الله تعالى فيهم ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل الآية وهو الذي كان يمتحن الناس ويرسلهم إلى المأمون وفيها توفي
إسحاق بن ما هان
الموصلي النديم الأديب النادر الشكل في وقته المجموع من كل فن يعرفه أبناء عصره في الفقه والحديث والجدل والكلام واللغة والشعر ولكن اشتهر بالغناء لأنه لم يكن له في الدنيا (10/314)
نظير فيه قال المعتصم إن إسحاق إذا غنى يخيل لي أنه قد زيد في ملكي وقال المأمون لولا اشتهاره بالغناء لوليته القضاء عليها من عفته ونزاهته وأمانته وله شعر حسن وديوان كبير وكانت عنده كتب كثيرة من كل فن توفي في هذه السنة وقيل التي قبلها وقيل في التي بعدها وقد ترجمه ابن عساكر ترجمة حافلة وذكر عنه أشياء حسنه وأشعارا رائقة وحكايات مدهشة يطول استقصاؤها فمن غريب ذلك أنه غنى يوم يحيى بن خالد بن برمك فوقع له بألف ألف ووقع ابنه جعفر بمثلها وابنه الفضل بمثلها في حكايات طويلة
وفيها توفي شريح بن يونس وشيبان بن فروخ وعبد الله بن عمر الفواريري وأبو بكر بن أبي شيبة أحد الأعلام وأئمة الإسلام وصاحب المصنف الذي لم يصنف أحد مثله قط لا قبله ولا بعده
ثم دخلت سنة ست وثلاثون ومائتين
فيها أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي بن أبي طالب وما حوله من المنازل والدور ونودي في الناس من وجدها بعد ثلاثة أيام ذهبت به إلى المطبق فلم يبق هناك بشر واتخذ ذلك الموضع مزرعة تحرث وتستغل وفيها حج بالناس محمد بن المنتصر بن المتوكل وفيها توفي محمد بن إبراهيم ابن مصعب سمه ابن أخيه محمد بن إسحاق بن إبراهيم وكان محمد بن إبراهيم هذا من الأمراء الكبار وفيها توفي الحسن بن سهل الوزير والد بوران زوجة المأمون التي تقدم ذكرها وكان من سادات الناس ويقال إن إسحاق بن إبراهيم المغني توفي في هذه السنة فالله أعلم وفيها توفي أبو سعيد محمد بن يوسف المروزي فجأة فولى ابنه يوسف مكانه على نيابة أرمينيه وفيها توفي إبراهيم بن المنذر الحرابي ومصعب بن عبدالله الزبيري وهدبة بن خالد القيسي وأبو الصلت الهروى أحد الضعفاء
( ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائتين )
فيها قبض يوسف بن محمد بن يوسف نائب أرمينية على البطريق الكبير وبعثه إلى نائب الخليفة واتفق بعد بعثه إياه أن سقط ثلج عظيم على تلك البلاد فتحزب أهل تلك الطريق وجاؤا فحاصروا البلد التي بها يوسف فخرج إليهم ليقاتلهم فقتلوه وطائفة كبيرة من المسلمين الذين معه وهلك كثير من الناس من شدة البرد ولما بلغ المتوكل ما وقع من هذاالأمر الفظيع أرسل إلى أهل تلك الناحية بغا الكبير من جيش كثيف جدا فقتل من قتل من أهل تلك الناحية ممن حاصر المدينة نحوا من ثلاثين ألفا وأسر منهم طائفة كبيرة ثم سار إلى بلاد ألباق من كور البسفر جان وسلك إلى مدن كثيرة كبار ومهد الممالك ووطد البلاد والنواحي وفي صفر منها غضب المتوكل على ابن ابي داؤد القاضي المعتزل وكان على المظالم فعزله عنها واستدعى بيحيى بن أكثم فولاه قضاة القضاة والمظالم أيضا وفي ربيع الأول أمر الخليفة بالاحتياط على ضياع ابن أبي دؤاد وأخذ ابنه الوليد محمد (10/315)
فحبسه في يوم السبت لثلاث خلون من ربيع الآخر وأمر بمصادرته فحمل مائة ألف وعشرين ألف دينار ومن الجواهر النفيسة ما يقوم بعشرين ألف دينار ثم صولح على ستة عشر الف ألف درهم وكان أبو دؤاد قد أصابه الفالج كما ذكرنا ثم نفي أهله من سامرا إلى بغداد مهانين قال ابن جرير فقال في ذلك ابو العتاهية
... لوكنت في الرأي منسوبا إلى رشد ... وكان عزمك عزما فيه توفيق ... لكان في الفقه شغل لو قنعت به ... عن أن تقول كتاب الله مخلوق ... ماذا عليك وأصل الدين يجمعهم ... ما كان في الفرع لولا الجهل والموق ...
وفي عيد الفطر منها امر المتوكل بانزال جثة أحمد بن نصر الخزاعي والجمع بين رأسه وجسده وأن يسلم إلى أوليائه ففرح الناس بذلك فرحا شيديدا واجتمع في جنازته خلق كثير جدا وجعلوا يتمسحون بها وبأعواد نعشه وكان يوما مشهودا ثم أتوا إلى الجذع الذي صلب عليه فجعلوا يتمسحون به وأرهج بذلك فرحا وسرورا فكتب المتوكل إلى نائبه يأمر بردعهم عن تعاطي مثل هذا وعن المغالاة في البشر ثم كتب المتوكل إلى الآفاق بالمنع من الكلام في مسألة الكلام والكف عن القول بخلق القرآن وأن من تعلم علم الكلام لو تكلم فيه فالمطبق مأواه إلى أن يموت وأمر الناس أن لا يشتغل أحد الا بالكتاب والسنة لا غير ثم أظهر إكرام الامام أحمد بن حنبل واستدعاه من بغداد إليه فاجتمع به فأكرمه وأمر له بجائزة سنية فلم يقبلها وخلع عليه خلعة سنية من ملابسه فاستحيا منه أحمد كثيرا فلبسها إلى الموضع الذي كان نازلا فيه ثم نزعها نزعا عنيفا وهو يبكي رحمه الله تعالى وجعل المتوكل في كل يوم يرسل إليه من طعامه الخاص ويظن أنه يأكل منه وكان أحمد لا يأكل لهم طعاما بل كان صائما مواصلا طاويا تلك الايام لأنه لم يتيسر له شيء يرضي أكله ولكن كان ابنه صالح وعبدالله يقبلان تلك الجوائز وهو لا يشعر بشي من ذلك ولولا انهم أسرعوا الأوبة إلى بغداد لخشي على أحمد ان يموت جوعا وارتفعت السنة جدا أيام المتوكل عفا الله عنه وكان لا يولي أحدا الا بعد مشورة الامام أحمد وكان ولاية يحيى بن أكثم قضاء القضاة موضع ابن أبي دؤاد عن مشورته وقد كان يحيى بن أكثم من أئمة السنة وعلماء الناس ومن المعظمين للفقه والحديث واتباع الأثر وكان قد ولى من جهته حبان بن بشر قضاء الشرقيه وسور إبن عبدالله قضاء الجانب الغربي وكان كلاهما أعورا فقال في ذلك بعض اصحاب إبن أبي دؤاد
... رأيت من العجائب قاضيين ... هما أحدوثة في الخافقين ... هما اقتسما العمى نصفين قدا ... كما اقتسما قضاء الجانبين ... ويحسب منهما من هز رأسا ... لنظر في مواريث ودين (10/316)
كأنك وضعت دنا ... فتحت بزالة من فرد عين ... هما فأل الزمان بهلك يحيى ... إذ افتتح القضاء بأعورين ...
وغزا الصائفة في هذه السنة علي بن يحيى الارمني وحج بالناس علي بن عيسى بن جعفر بن ابي جعفر المنصور أمير الحجاز وفيها توفي حاتم الأصم وممن توفي فيها الأعلى بن حماد وعبيد الله ابن معاذ العنبري وأبو كامل الفضل بن الحسن الجحدري
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائين
في ربيع الأول منها حاصر بغا مدينة تفليس وعلى مقدمته زيرك التركي فخرج اليه صاحب تفليس إسحاق بن اسماعيل فقاتله فأسر بغا اسحاق فأمر بضرب عنقه وصلبه وأمر بالقاء النار في النفط الى نحو المدينة وكان أكثر بنائها من خشب الصنوبر فأحرق أكثرها وأحرق من أهلها نحوا خمسين الفا وطفئت النار بعد يومين لأن نار الصنوبر لا بقاء لها ودخل الجند فأسروا من بقي من أهلها واستلبوهم حتى استلبوا المواشي ثم سار بغا إلى مدن أخرى ممن كان يماليء أهلها مع من قتل نائب أرمينية يوسف بن محمد بن يوسف فأخذ ثأره وعاقب من تجرأ عليه
وفيها جاءت الفرنج في نحو من ثلثمائة مركب قاصدين مصر من جهة دمياط فدخلوها فجأة فقتلوا من أهلها خلقا وحرقوا المسجد الجامع والمنبر وأسروا من النساء نحو من ستمائة إمرأة من المسلمات نحو مائة و خمسة وعشرين إمرأة وسائرهن من نساء القبط وأخذوا من الامتعة والمال والاسلحة شيئا كثيرا جدا وفر الناس منهم في كل جهة وكان من غرق في بحيرة تنيس أكثر ممن أسروه ثم رجعوا على حمية ولم يعرض لهم أحد حتى رجعوا بلادهم لعنهم الله وفي هذه السنة غزا الصائفة على ابن يحيى الأرمني وفيها حج بالناس الأمير الذي حج بهم قبلها
وفيها توفي اسحاق بن راهويه أحد الأعلام وعلماء الاسلام والمجتهدين من الأنام وبشر بن الوليد الفقيه الحنفي وطالون بن عباد ومحمد بن بكار بن الزيات ومحمد بن أبي السرى العسقلاني
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين ومائتين
في المحرم منها زاد المتوكل في التغليظ على أهل الذمة في التميز في اللباس وأكد الأمر بتخريب الكنائس المحدثة في الاسلام وفيها نفى المتوكل بن الجهم إلى خراسان وفيها اتفق شعانين النصارى ويوم النيروز في يوم واحد وهو الاحد لعشرين ليلة خلت من ذي القعدة وزعمت النصارى أن هذا لم يتفق مثله في الاسلام الا في هذا العام وغزا الصائفة على بن يحيى المذكور وفيها حج بالناس عبدالله بن محمد بن داود إلى مكة
قال ابن جرير فيها توفي أبو الوليد محمد بن القاضي أحمد بن محمد بن أبي دؤاد الأيادي المعتزلى (10/317)
قلت وممن توفي فيها داود بن رشد وصفوان بن صالح مؤذن أهل دمشق وعبدالملك بن حبيب الفقيه المالكي أحد المشاهير وعثمان بن أبي شيبة صاحب التفسير والمسند المشهور ومحمد بن مهران الرازي ومحمود بن غيلان ووهب بن نفيه وفيها توفي
( احمد بن عاصم الانطاكي )
أبو علي الواعظ الزاهد أحد العباد والزهاد له كلام حسن في الزهد ومعاملات القلوب قال أبو عبد الرحمن السلمى كان من طبقة الحارث المحاسبي وبشر الحافي وكان أبو سليمان الدراني يسميه جاسوس القلوب لحدة فراسته روى عن ابي معاوية الضرير وطبقته وعنه أحمد بن الحواري ومحمود بن خالد وأبو زرعة الدمشقي وغيرهم روى أحمد بن الحواري عن مخلد ابن الحسين عن هشام بن حسان قال مررت بالحسن البصري وهو جالس وقت السحر فقلت يا أبا سعيد مثلك يجلس في هذا الوقت قال إني توضأت وأردت نفسي على الصلاة فأبت على وأرادتني على أن تنام فأبيت عليها ومن مستجاد كلامه قوله إذا أردت صلاح قلبك فاستعن عليه بحفظ جوارحك وقال من الغنيمة الباردة أن تصلح ما بقي من عمرك فيغفر لك ما مضى منه وقال يسير اليقين يخرج الشك كله من قلبك ويسير الشك يخرج اليقين كله منه وقال من كان بالله أعرف كان منه أخوف وقال خير صاحب لك في دنياك الهم يقطعك عن الدنيا ويوصلك الى الآخرة ومن شعره ...
هممت ولم أعزم ولوكنت صادقا ... عزمت ولكن الفطام شديد ... ولوكان لي عقل وإيقان موقن ... لما كنت عن قصد الطريق أحيد ... ولو كان لي غير السلوك مطامعي ... ولكن عن الاقدار كيف أميد ...
ومن شعره ايضا ... قد بقيت مذبذبين حياري ... نطلب الصدق ما إليه سبيل ... فدواعي الهوى تخف علينا ... وخلاف الهوى علينا ثقيل ... فقد صدق في الاماكن حتى ... وصفه اليوم ما عليه دليل ... لا نرى خائفا فيلزمنا الخوف ... ولسنا نرى صادقا على ما يقول ...
ومن شعره أيضا ... هون عليك فكل الامر ينقطع ... وخل عنك ضباب الهم يندفع ... فكل هم له من بعده فرج ... وكل كرب إذا ضاق يتسع ... إن البلاء وإن طال الزمان به ... الموت يقطعه أو سوف ينقطع (10/318)
وقد أطال الحافظ ابن عساكر ترجمته ولم يؤرخ وفاته وإنما ذكرته ههنا تقريبا والله أعلم
( ثم دخلت سنة أربعين ومائتين )
فيها عدا أهل حمص على عاملهم أبي الغيث موسى بن إبراهيم الرافقي لأنه قتل رجلا من أشرافهم فتلوا جماعة من أصحابه وأخرجوه من بين أظهرهم فبعث إليهم المتوكل أميرا عليهم وقال للسفير معه إن قبلوه وإلا فأعلمني فقبلوه فعمل معهم فيهم الاعاجيب وأهانهم غاية الاهانة وفيها عزل المتوكل يحيى بن أكثم القاضي عن القضاء وصادره بما مبلغه ثمانون الف دينار وأخذ منه أراضي كثيرة في ارض البصرة وولى مكانه جعفر بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان بن علي على قضاء القضاة قال ابن جرير وفي المحرم منها توفي أحمد بن أبي دؤاد بعد ابنه بعشرين يوما
( وهذه ترجمته )
هو احمد بن أبي دؤاد واسمه الفرج وقيل دعمي والصحيح أن اسمه كنيته الايادي المعتزلي قال ابن خلكان في نسبه هو أبو عبدالله أحمد بن أبي دؤاد بن فرج بن جرير بن مالك بن عبدالله بن عباد بن سلام بن عبد هند بن عبد نجم بن مالك بن فيض بن متعه بن برجان بن دوس الهذلي بن أميه بن حذيفه بن زهير بن اياد بن أدبن معد بن عدنان قال الخطيب ولى ابن أبي دؤاد قضاء القضاة للممعتصم ثم للواثق وكان موصوفا بالجود والسخاء وحسن الخلق ووفور الادب غير أنه أعلن بمذهب الجهمية وحمل السلطان على امتحان الناس بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة قال الصولى لم يكن بعد البرامكة أكرم منه ولولا ما وضع من نفسه من محبة المحنة لاجتمعت عليه الانس قالوا وكان مولده في سنة ستين ومائة وكان أسن من يحيى بن أكثم بعشرين سنة قال ولده هذا معه إلى العراق فاشتغل بالعلم وصحب هياج بن العلاء السلمى أحد أصحاب واصل بن عطاء فأخذ عنه الاعتزال وذكر أنه كان يصحب يحيى بن أكثم القاضي ويأخذ عنه العلم ثم سرد له ترجمة طويلة في كتاب الوفيات وقد امتدحه بعض الشعراء فقال
... رسول الله والخلفاء منا ... ومنا أحمد بن أبي دؤاد ...
فرد عليه بعض الشعراء فقال
... فقل للفاهرين على نزار ... وهم في الارض سادات العباد ... رسول الله والخلفاء منا ... ونبرأ من دعى بني إياد ... وما منا إياد إذا أقرت ... بدعوة أحمد بن أبي دؤاد ...
قال فلما بلغ أحمد بن دؤاد قال لو لا اني أكره العقوبة لعاقبت هذا الشاعر عقوبة (10/319)
ما فعلها احد وعفا عنه قال الخطيب حدثني الأزهري ثنا أحمد بن عمر الواعظ حدثنا عمر بن الحسن بن علي بن مالك حدثني جرير بن أحمد أبو مالك قال كان أبي يعني أحمد بن أبي دؤاد إذا صلى رفع يديه إلى السماء وخاطب ربه وأنشأ يقول
... ما أنت بالسبب الضعيف وإنما ... نجح الامور بقوة الاسباب ... واليوم حاجتنا اليك وإنما ... يدعى الطبيب لساعة الاوصاب ...
ثم روى الخطيب أن أبا تمام دخل على ابن أبي دؤاد يوما فقال له أحسبك عاتبا فقال إنما يعتب على واحد وانت الناس جميعا فقال له أتي لك هذا فقال من قول أبي نواس
... وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد ...
وامتدحه أبو تمام فقال
... لقدأنست مساوى كل دهر ... محاسن أحمد بن أبي دؤاد ... وما سافرت في الآفاق إلا ... ومن جدوك راحلتي وزادي ... نعم الظن عندك والاماني ... وإن قلقت ركابي في البلاد ...
فقال له هذا المعنى تفردت به أو أخذته من غيرك فقال هو لي غير أني ألمحت بقول أبي نواس
... وان جرت الألفاظ يوما بمدحه ... لغيرك إنسانا فأنت الذي نعني ...
وقال محمد بن الصولى ومن مختار مديح ابي تمام لأحمد بن أبي دؤاد قوله ...
أأحمد ان الحاسدين كثير ... ومالك إن عد الكرام نظير ... حللت محلا فاضلا متقادما ... من المجد والفخر القديم فخور ... فكل غني أو فقير فانه ... اليك وان نال السماء فقير ... اليك تناهى المجد من كل وجهة ... يصير فما يعدوك حيث يصير ... وبدر إياد أنت لا ينكرونه ... كذاك إياد للأنام بدور ... تجنبت أن تدعى اليك ممدة ... وما رفعة إلا اليك تشير ...
قلت قد أخطأ الشاعر في هذه الأبيات خطأ كبيرا وأفحش في المبالغة كثيرا ولعله إن اعتقد هذا في مخلوق ضعيف مسكين ضال مضل أن يكون له جهنم وساءت مصيرا وقال ابن أبي دؤاد يوما لبعضهم لما لم تسألني فقال له لأني لو سألتك أعطيتك ثمن صلتك فقال له صدقت وأرسل إليه بخمسة آلاف درهم
وقال ابن الأعرابي سأل رجل ابن ابي دؤاد أن يحمله على عير فقال يا غلام اعطه عيرا وبغلا (10/320)
وبرذونا وفرسا وجاريه قال له لو أعلم مركوبا غير هذا لأعطيتك ثم أورد الخطيب بأسانيده عن جماعة أخبارا تدل على كرمه وفصاحته وأدبه وحلمه ومبادرته إلى قضاء الحاجات وعظيم منزلته عند الخلفاء وذكر عن محمد المهدي الواثق أن شيخا دخل يوما على الواثق فسلم عليه فلم يرد عليه الواثق بل قال لاسلم الله عليك فقال يا أمير المؤمنين بئس ما أدبك معلمك قال الله تعإلى وإذا حييتم بتحية فحييوا بأحسن منها أوردوها فلا حييتني بأحسن منها ولا رددتها فقال ابن ابي دؤاد يا أمير المؤمنين الرجل متكلم فقال ناظره فقال ابن أبي دؤاد ما تقول يا شيخ في القرآن امخلوق هو فقال الشيخ لم اتنصفني المسألة لي فقال قل فقال هذا الذي تقوله علمه رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أو ماعلموه فقال ابن أبي دؤاد لم يعلموه قال فأنت علمت مالم يعلموا فخجل وسكت ثم قال أقلني بل علموه قال فلم لا دعوا الناس إليه كما دعوتهم أنت أما يسعك ما وسعهم فخجل وسكت وأمر الواثق له بجائزة نحو أربعمائة دينار فلم يقبلها قال المهدي فدخل أبي المنزل فاستلقى على ظهره وجعل يكرر قول الشيخ في نفسه ويقول أما وسعك ما وسعهم ثم أطلق الشيخ وأعطاه أربعمائة دينار ورده إلى بلاده وسقط من عينيه ابن أبي دؤاد ولم يمتحن بعده أحدا ذكره الخطيب في تاريخه باسناد فيه بعض من لايعرف وساق قصته مطوله وقد أنشد ثعلب عن أبي حجاج الاعرابي أنه قال في ابن أبي دؤاد
... نكست الدين ابن أبي دؤاد ... فأصبح من أطاعك في ارتداد ... زعمت كلام ربك كان خلقا ... أما لك عند ربك من معاد ... كلام الله أنزله بعلم ... على جبريل إلى خير العباد ... ومن أمسى ببابك مستضيفا ... كمن حل الفلاة بغير زاد ... لقد أطرفت يا ابن أبي دؤاد ... بقولك إنني رجل إيادي ...
ثم قال الخطيب أنبأ القاضي أبو الطيب طاهر بن عبدالله الطبري قال أنشدنا المعافى بن زكريا الجريري عن محمد بن يحيى الصولى لبعضهم يهجو ابن أبي دؤاد
... لو كنت في الرأي منسوبا إلى رشد ... وكان عزمك عزما فيه توفيق ...
وقد تقدمت هذه الابيات
وروى الخطيب عن أحمد بن الموفق أويحيى أنه قال ناظرني رجل من الواقفية في خلق القرآن فنالني منه ما أكره فلما أمسيت أتيت امرأتي فوضعت لي العشاء فلم أقدر أن أنال منه شيئا فنمت فرأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم في المسجد الجامع وهناك حلقة فيها أحمد بن حنبل وأصحابه فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ هذه الآية فإن يكفر بها هؤلاء ويشير إلى حلقة ابن أبي دؤاد فقد وكلنا (10/321)
بها قوما ليسوا بها كافرين ويشير إلى أحمد بن حنبل وأصحابه قال بعضهم رأيت في المنام كأن قائلا يقول هلك الليلة احمد بن أبي دؤاد فقلت له وما سبب هلاكه فقال إنه أغضب الله عليه فغضب عليه من فوق سبع سموات وقال غيره رأيت ليلة مات ابن أبي دؤاد كأن النار زفرت زفرة عظيمة فخرج منها لهب فقلت ماهذا فقيل هذا أنجزت لإبن أبي دؤاد
وقد كان هلاكه في يوم السبت لسبع بقين من المحرم من هذه السنه وصلى عليه ابنه العباس ودفن في داره ببغداد وعمره يومئذ ثمانون سنة وابتلاه الله بفالج قبل موته بأربع سنين حتى بقي طريحا في فراشه لا يستطيع أن يحرك شيئا من جسده وحرم لذة الطعام والشراب والنكاح وغير ذلك
وقد دخل عليه بعضهم فقال والله ما جئتك عائدا وانما جئتك لأعزيك في نفسك وأحمد الله الذي سجنك في جسدك الذي هو أشد عليك عقوبة من سجن ثم خرج من عنه داعيا عليه بأن يزيده الله ولا ينقصه مما هو فيه فازداد مرضا إلى مرضه وقد صودر في العام الماضي بأموال جزيله جدا ولو كان يحمل العقوبة لوضعها عليه المتوكل قال ابن خلكان كان مولده في سنة ستين ومائة قلت فعلى هذا يكون أسن من أحمد بن حنبل ومن يحيى بن أكثم الذي ذكر ابن خلكان أن ابن أكثم كان سبب اتصال ابن أبي دؤاد بالخليفة المأمون فحظي عنده بحيث إنه أوصى به إلى أخيه المعتصم فولاه المعتصم القضاء والمظالم وكان ابن الزيات الوزير يبغضه وجرت بينهما منافسات وهجو وقد كان لا يقطع أمرا بدونه وعزل ابن أكثم عن القضاء وولاه مكانه وهذه المحنة التي هي أس ما بعدها من المحن والفتنة التي فتحت على الناس باب الفتن
ثم ذكر ابن خلكان ما ضرب به الفالج وما صودر به من المال وأن ابنه أبا الوليد محمد صودر بألف ألف دينار ومائتي ألف دينار وأنه مات قبل أبيه بشهر وأما ابن عساكر فانه بسط القول في ترجمته وشرحها شرحا جيدا وقد كان أديبا فصيحا كريما جوادا ممدحا يؤثر العطاء على المنع والتفرقة على الجمع وقد روى ابن عساكر باسناده أنه جلس يوما مع أصحابه ينتظرون خروج الواثق فقال ابن أبي دؤاد إنه ليعجبني هذان البيتان
... ولي نظرة لوكان يحبل ناظر ... بنظرته أنثى لقد حبلت مني ... فإن ولدت ما بين تسعة أشهر ... إلى ابنا فإن ابنها مني ...
ممن توفي فيها من الاعيان أبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي أحد الفقهاء والمشاهير قال الامام أحمد هو عندنا في مسلاخ الثوري وخليفة بن خياط أحد أئمة التاريخ وسويد بن سعد الحدثاني وسويد بن نصر وعبد السلام بن سعيد الملقب بسحنون أحد فقهاء المالكية المشهورين وعبدالواحد ابن غياث وقتيبة بن سعد شيخ الأئمة والسنة وأبو العميثل عبد الله بن خالد كاتب عبدالله بن (10/322)
طاهرة وشاعره كان عالما باللغة وله فيها مصنفات عديدة أورد منها ابن خلكان جملة ومن شعره يمدح عبدالله بن طاهر
... يامن يحاول أن تكون صفاته ... كصفات عبدالله أنصت واسمع ... فلا نصحنك في خصال والذي ... حج الحجيج إليه فاسمع أو دع ... أصدق وعف وبر واصبر واحتمل ... واصفح وكافيء دار واحلم واشجع ... والطف ولن وتأن وارفق واتئد ... واحزم وجد وحام واحمل وادفع ... فلقد نصحتك إن قبلت نصيحتي ... وهديت للنهج الاسد المهيع ...
وأما سحنون المالكي صاحب المدونة
فهو ابو سعيد عبدالسلام بن سعيد بن جندب بن حسان بن هلال بن بكار بن ربيعة التنوخي أصله من مدينة حمص فدخل به أبوه مع جندها بلاد المغرب فأقام بها وانتهت إليه رياسة مذهب مالك هناك وكان قد تفقه على ابن القاسم وسببه أنه أقام أسد بن الفرات صاحب الامام مالك من بلاد العرب إلى بلاد مصر فسأل عبدالرحمن بن القاسم صاحب مالك عن أسئلة كثيرة فأجابه عنها فعقلها عنه ودخل بها بلاد المغرب فانتسخها منه سحنون ثم قدم على ابن القاسم مصر فأعاد اسئلته عليه فزاد فيها ونقص ورجع عن أشياء منها فرتبها سحنون ورجع بها إلى بلاد المغرب وكتب معه ابن القاسم إلى أسد بن الفرات أن يعرض نسخة سحنون ويصلحها بها فلم يقبل فدعى ابن القاسم فلم ينتفع به ولا بكتابه وصارت الرحلة إلى سحنون وانتشرت عنه المدونة وساد أهل ذلك الزمان وتولى القضاء بالقيروان وإلى أن توفي في هذه السنة عن ثمانين سنة رحمه الله وإيانا
( ثم دخلت سنة احدى وأربعين ومائتين )
في جمادي الاولى أو الآخرة من هذه السنة وثب أهل حمص أيضا على عاملهم محمد بن عبدويه فأرادوا قتله وساعدهم نصارى أهلها أيضا عليه فكتب إلى الخليفة يعلمه بذلك فكتب إليه يأمره بمناهضتهم وكتب إلى متولي دمشق أن يمده بجيش من عنده ليساعده على أهل حمص وكتب إليه أن يضرب ثلاثة منهم معروفين بالشر بالسياط حتى يموتوا ثم يصلبهم على أبواب البلد وأن يضرب عشرين أخرين منهم كل واحد ثلثمائة وأن يرسلهم إلى سامرا مقيدين في الحديد وأن يخرج كل نصراني بها ويهدم كنيستها العظمى التي إلى جانب المسجد الجامع وأن يضيفها إليه وأمر بخمسين الف درهم وللأمراء الذين ساعدوه بصلات سنية فامتثل ما أمر به الخليفة فيهم وفيها أمر الخليفة المتوكل على الله بضرب رجل من اعيان أهل بغداد يقال له عيسى بن (10/323)
جعفر بن محمد بن عاصم فضرب ضربا شديدا مبرحا يقال إنه ضرب ألف سوط حتى مات وذلك أنه شهد عليه سبعة عشر رجلا عند قاضي الشرقيه أبي حسان الزيادي أنه يشتم أبا بكر وعمر وعائشة وحفصة رضي الله عنهم فرفع امره إلى الخليفة فجاء كتاب الخليفة إلى محمد بن عبدالله بن طاهر بن الحسن نائب بغداد يأمره أن يضربه بين الناس حد السب ثم يضرب بالسياط حتى يموت ويلقى في دجلة ولا يصلى عليه ليرتدع بذلك أهل الالحاد والمعاندة ففعل معه ذلك قبحه الله ولعنه ومثل هذ 1 يكفر وإن كان قد قذف عائشة بالاجماع وفيمن قذف سواها من أمهات المؤمنين قولان والصحيح أنه يكفر أيضا لأنهن أزواج رسول الله صلى الله عليه و سلم ورضي عنهن
قال ابن جرير وفي هذه السنة انقضت الكواكب ببغداد وتناثرت وذلك ليلة الخميس لليلة خلت من جمادي الآخرة قال وفيها مطر الناس في آب مطرا شديدا جدا قال وفيها مات من الدواب شيء كثير ولا سيما البقر قال وفيها أغارت الروم على عين زربة فأسروا من بها من الزط وأخذوا نساءهم وذراريهم ودوابهم قال وفيها الفداءبين المسلمين والروم في بلاد طرسوس بحضرة قاضي الفضاة جعفر بن عبدالواحد عن إذن الخليفة له في ذلك واستنابه ابن ابي الشوارب وكانت عدة الاسرى من المسلمين سبعمائة وخمس وثمانين رجلا ومن النساء مائة وخمسا وعشرين امرأة وقد كانت أم المؤمنين تدورة لعنها الله عرضت النصرانية على من كان في يدها من الاسارى وكانوا نحوا من عشرين الفا فمن أجابها إلى النصرانية وإلا قتله فقتلت اثني عشر ألفا وتنصر بعضهم وبقي منهم هؤلاء الذين فودوا وهم قريب من التسعمائة رجالا ونساء
وفيها أغارت البجة على جيش من أرض مصر وقد كانت البجة لا يغزون المسلمين قبل ذلك لهدنة كانت لهم من المسلمين فنقضوا الهدنه وصرحوا بالخلاف والبجة طائفة من سودان بلاد المغرب وكذا النوبة وشنون وزغرير ويكسوم وأمم كثيرة لا يعلمهم الا الله وفي بلاد هؤلاء معادن الذهب والجوهر وكان عليهم حمل كل سنة إلى ديار مصر من هذه المعادن فلما كانت دولة المتوكل امتنعوا من أداء ما عليهم سنين متعددة فكتب إلى نائب مصر وهو يعقوب بن إبراهيم الباذغيسى مولى الهادي وهو المعروف بقوصرة بذلك كله إلى المتوكل فغضب المتوكل من ذلك غضبا شديدا وشاور في أمر البجة فقيل له يا أمير المؤمنين إنهم قوم أهل إبل وبادية وأن بلادهم بعيدة ومعطشة ويحتاج الجيش الذاهبون إليها ان يتزودوا لمقامهم بها طعاما وماء فصده عن البعث إليهم ثم بلغه أنهم يغيرون على أطراف الصعيد ويخشى أهل مصر على أولادهم منهم فجهز لحربهم محمد بن عبدالله القمي وجعل إليه نيابة تلك البلاد كلها المتاخمة لأرضهم وكتب إلى عمال مصر أن يعينوه بكل ما يحتاج إليه من الطعام وغير ذلك فتخلص وتخلص معه الجيوش (10/324)
الذين انضافوا إليه من تلك البلاد حتى دحل بلادهم في عشرين ألف فارس وراجل وحمل معه الطعام الأدام في مراكب سبعة وأمر الذين هم بها ان يلجوا بها في البحر فيوافوه بها اذا توسط بلاد البجة ثم سار حتى دخل بلادهم وجاوز معادنهم وأقبل إليه ملك البجة واسمه علي بابا في جمع عظيم أضعاف من مع محمد بن عبدالله القمي وهم قوم مشركون يعبدون الاصنام فجعل الملك يطاول المسلمين لعله تنفذ أزوارهم فيأخذونهم بالأيدي فلما نفذ ما عند المسلمين طم فيهم السودان فيسر الله وله الحمد يوصول المراكب وفيها من الطعام والتمر والزيت وغير ذلك مما يحتاجون إليه شيء كثير جدا فقسمه الأمير بين المسلمين بحسب حاجاتهم فبئس السودان من هلاك المسلمين جوعا فشرعوا في التأهب لقتال المسلمين ومركبهم الابل شيبهه بالهجن زعرة جدا كثيرة النفار لا تكاد ترى شيئا ولا تسمع الا جفلت منه فلما كان يوم الحرب عمد أمير المسلمين إلى جميع الاجراس التي معهم في الجيش فجعلها في رقاب الخيول فلما كانت الواقعة حمل المسلمون حملة رجل واحد فنفرت بهم ابلهم من أصوات تلك الاجراس في كل وجه وتفرقوا شذر مدر واتبعهم المسلمون يقتلون من شاؤا لا يمتنع منهم أحد فلا يعلم عددا من قتلوا منهم الا الله عز و جل ثم أصبحوا وقد اجتمعوا رجالة فكسبهم القمى من حيث لا يشعرون فقتل عامة من بقي منهم وأخذ ملكهم بالأمان وأدى ما كان عليه من الحمل وأخذه معه أسير إلى الخليفة وكانت هذه الوقعة في أول يوم من هذه السنة فولاه الخليفة على بلاده كما كان وجعل إلى ابن القمي أمر تلك الناحية والنظر في أمرها ولله الحمد والمنة
قال ابن جرير ومات في هذه السنة يعقوب بن إبراهيم المعروف بقوصرة في جمادي الآخرة قلت وهذا الرجل كان نائبا على الديار المصرية من جهة المتوكل وفيها حج بالناس عبدالله بن محمد ابن داود وحج جعفر بن دينار وهو والي طريق مكة وأحداث الموسم ولم يتعرض ابن جرير لوفاة أحد من المحدثين في هذه السنة وقد توفي من الاعيان الإمام أحمد بن حنبل وجبارة بن المغسل الحماني وأبو ثوبة الحلبي وعيسى بن حماد سجادة ويعقوب بن حميد بن كاسب ولنذكر شيئا من
الامام أحمد بن حنبل
فنقول وبالله المستعان هو أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن اسد بن ادريس بن عبدالله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبه بن عكاية بن صعب بن علي بن بكر بن قاسط بن هنب بن أقصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة ابن نزار معد بن عدنان بن أد بن ادد بن الهميسع بن حمل بن النبت بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام أبو عبدالله الشيباني ثم المروزي ثم البغدادي هكذا ساق نسبه (10/325)
الحافظ الكبير أبو بكر البيهقي في الكتاب الذي جمعه في مناقب أحمد عن شيخه الحافظ أبي عبدالله الحاكم صاحب المستدرك وروى عن صالح ابن الامام أحمد قال رأى أبي هذا النسب في كتاب لي فقال وما تصنع به ولم ينكر النسب قالوا وقدم به أبوه من مرو وهو حمل فوضعته أمه في ببغداد في ربيع الأول من سنة أربع وستين ومائة وتوفي أبوه وهو ابن ثلاث سنين فكفلته أمه قال صالح عن أبيه فثقبت أذني وجعلت فيها لؤلؤتين فلما كبرت دفعتهما بثلاثين درهما وتوفي أبو عبدالله احمد بن حبنل يوم الجمعه الثاني عشر من ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين ومائتين وله من العمر سبع وسبعون سنة رحمه الله
وقد كان في حداثته يختلف إلى مجلس القاضي أبي يوسف ثم ترك وأقبل على سماع الحديث فكان أول طلبه للحديث وأول سماعه من مشايخه في سنة سبع وثمانين ومائة وقد بلغ من العمر ست عشر سنة وأول حجة حجها في سنة سبع وثمانين ومائة ثم سنة احدى وتسعين وفيها حج الوليد بن مسلم ثم سنة ست وتسعين وجاور في سنة سبع وتسعين ثم حج في سنة ثمان وتسعين وجاور إلى سنة تسع وتسعين وسافر إلى عند عبد الرازق إلى اليمن فكتب عنه هو ويحيى بن معين وإسحاق بن راهويه قال الامام أحمد حججت خمس حجج منها ثلاث راجلا انفقت في احدى هذه الحجات ثلاثين درهما قال وقد ضللت في بعضها الطريق وأنا ماش فجعلت أقول يا عباد الله دلوني على الطريق فلم أزل أقول ذلك حتى وقفت على الطريق قال وخرجت إلى الكوفة فكنت في بيت تحت رأسي لبنة ولو كان عندي تسعون درهما كنت رحلت إلى جرير بن عبد الحميد إلى الري وخرج بعض اصحابنا ولم يمكني الخروج لأنه لم يمكن عندي شيء
وقال ابن أبي حاتم عن أبيه عن حرمله سمعت الشافعي قال وعدني أحمد بن حنبل أن يقدم على مصر فلم يقدم قال ابن أبي حاتم يشبه أن تكون ذات اليد منعته أن يفي بالعدة وقد طاف أحمد بن حنبل في البلاد والآفاق وسمع من مشايخ العصر وكانوا يجلونه ويحترمونه في حال سماعه منهم وقد سرد شيخنا في تهذيبه أسماء شيوخه مرتبين على حروف المعجم وكذلك الرواة عنه قال البهيقي بعد أن ذكر جماعة من شيوخ الإمام أحمد وقد ذكر أحمد بن حنبل في المسند وغيره الرواية عن الشافعي وأخذ عنه جملة من كلامه في انساب قريش وأخذ عنه من الفقه ما هو مشهور وحين توفي الإمام أحمد في تركته رسالتي الشافعي القديمة والجديدة
قلت قد أفرد ما رواه أحمد عن الشافعي وهي أحاديث لا تبلغ عشرين حديثا ومن أحسن ما رويناه عن الامام أحمد عن الشافعي عن مالك بن أنس عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب ابن مالك عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
( نسمة المؤمن طائر تعلق في شجر الجنة يرجعه (10/326)
إلى جسده يوم البعث ) وقد قال الشافعي لأحمد لما اجتمع به في الرحلة الثانية إلى بغداد سنة تسعين ومائة وعمر أحمد إذ ذاك نيف وثلاثون سنة قال له يا أبا عبدالله إذا صح عندكم الحديث فأعلمني به أذهب إليه حجازيا كان أو شاميا أو عراقيا او يمنيا يعني لا يقول بقول فقهاء الحجاز الذين لا يقبلون الا رواية الحجازيين وينزلون أحاديث من سواهم منزلة احاديث أهل الكتاب وقول الشافعي له هذه المقالة تعظيم لأحمد وإجلال له وأنه عنده بهذه المثابه اذا صحح أو ضعف يرجع إليه وقد كان الامام أحمد بهذه المثابة عند الأئمة والعلماء كما سيأتي ثناء الأئمة عليه واعترافهم له بعلو المكانة في العلم والحديث وقد بعد صيته في زمانه واشتهر اسمه في شبيبته في الآفاق
ثم حكى البهيقي كلام أحمد في الايمان وأنه قول وعمل ويزيد وينقص وكلامه في القرآن كلام الله غير مخلوق وإنكاره على من يقول إن لفظة بالقرآن مخلوق يريد به القرآن قال وفيها حكى أبو عمارة وأبو جعفر أخبرنا أحمد شيخنا السراج عن أحمد بن حنبل أنه قال اللفظ محدث واستدل بقوله ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد قال فاللفظ كلام الآدميين وروى غيرهما عن أحمد أنه قال القرآن كيف ما تصرف فيه غير مخلوق وأما أفعالنا فهي مخلوقة قلت وقد قرر البخاري في هذا المعنى في أفعال العباد وذكره أيضا في الصحيح واستدل بقوله عليه السلام
( زينوا القرآن بأصواتكم ) ولهذا قال غير واحد من الائمة الكلام كلام الباري والصوت صوت القاري وقد قرر البهيقي ذلك أيضا
[ وروى البهيقي من طريق اسماعيل بن محمد السلمي عن أحمد أنه قال من قال القرآن محدث فهو كافر ومن طريق أبي الحسن الميموني عن أحمد أنه أجاب الجهيمة حين احتجوا عليه بقوله تعإلى ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون قال يحتمل أن يكون تنزيله الينا هوالمحدث لا الذكر نفسه هو المحدث وعن حبنل عن أحمد أنه قال يحتمل أن يكون ذكر آخر غير القرآن وهو ذكر رسول الله ( ص ) أو وعظه إياهم ثم ذكر البهيقي كلام الإمام أحمد وفي رؤية الله في الدار الاخرة واحتج بحديث صهيب في الرؤية وهي زيادة وكلامه في نفي التشبيه وترك الخوض في الكلام والتمسك بما ورد في الكتاب والسنة عن النبي ( ص ) وعن أصحابه [ روى البهيقي عن الحاكم عن أبي عمر بن السماك عن حنبل أن أحمد بن حنبل تأول قول الله تعإلى وجاء ربك أنه جاء ثوابه ثم قال البهيقي وهذا اسناد لا غبار عليه
وقال الامام أحمد حدثنا أبو بكر بن عياش ثنا عاصم عن زر عن عبدالله هو ابن مسعود (10/327)
قال ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رأوه سيئا فهو عند الله سيء وقد رأى الصحابة جميعا أن يستخلفوا أبا بكر رضي الله عنه اسناد صحيح قلت وهذا الاثر فيه حكاية اجماع عن الصحابة في تقديم الصديق والأمر كما قاله ابن مسعود وقد نص على ذلك غير واحد من الأئمة وقد قال أحمد حين اجتاز بحمص وقد حمل إلى المأمون في زمن المحنة ودخل عليه عمرو بن عثمان الحمصي فقال له ما تقول في الخلافة فقال أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ومن قدم عليا على عثمان فقد أزرى بأصحاب الشورى لأنهم قدموا عثمان رضي الله عنه
( ورعه وتقشفه وزهده رحمه الله )
روى البهيقي من طريق المزني عن الشافعي أنه قال للرشيد ان اليمن يحتاج إلى قاض فقال له اختر رجلا نوله اياها فقال الشافعي لأحمد بن حنبل وهو يتردد إليه في جملة من يأخذ عنه ألا تقبل قضاء اليمن فامتنع من ذلك امتناعا شديدا وقال الشافعي اني إنما اختلف اليك لأجل العلم المزهد في الدنيا فتأمرني أن ألي القضاء ولولا العلم لما أكلمك بعد اليوم فاستحى الشافعي منه
وروى أنه كان لا يصلي خلف عمه اسحاق بن حنبل ولا خلف بنيه ولا يكلهم أيضا لأنهم أخذو جائزة السلطان ومكث مرة ثلاثة أيام لا يجد ما يأكله حتى بعث إلى بعض أصحابه فاستقرض منه دقيقا فعرف أهله حاجته إلى الطعام وعجنوا وخبزوا له سريعا فقال ما هذه العجلة كيف خبزتم فقالوا وجدنا تنور بيت صالح مسجورا فخبزنا لك فيه فقال ارفعوا ولم يأكل وأمر بسد بابه إلى دار صالح قال البهيقي لأن صالحا أخذ بجائزة السلطان وهو المتوكل على الله وقال عبدالله ابنه مكث أبي بالعسكر عند الخليفة ستة عشر يوما يأكل فيها الا ربع مد سويقا يفطر بعد كل ثلاث ليال على سفه منه حتى رجع إلى بيته ولم ترجع إليه نفسه الا بعد ستة أشهر وقد رأيت موقية دخلا في حدقتيه قال البهيقي وقد كان الخليفة يبعث إليه المائدة فيها أشياء كثيرة من الانواع وكان أحمد لا يتناول منها شيئا قال وبعث المأمون مرة ذهبا يقسم على أصحاب الحديث فما بقي منهم أحدا إلا أخذ إلا أحمد بن حنبل فإنه أبى
وقال سليمان الشاذ كوني حضرت أحمد وقد رهن سطلا له عند فامى اليمن فلما جاءه بفكاكه اخرج له سطلين فقال خذ متاعك منهما فاشتبه ايهما له فقال انت في حل منه ومن الفكك وتركه وذهب وحكى ابنه عبدالله قال كنا في زمن الواثق في ضبق شديد فيكتب رجل إلى أبي إن عندي أربعة آلاف درهم ورثتها من أبي وليست صدقة ولا زكاة فإن رأيت أن تقبلها فامتنع من ذلك وكرر عليه فأبى فلما كان بعد حين ذكرنا ذلك فقال أبي لوكنا قبلناها كانت ذهبت وأكلناها وعرض عليه بعض التجار عشرة آلاف درهم ربحها من بضاعة جعلها (10/328)
بإسمه فأبى أن يقبلها وقال نحن في كفاية وجزاك الله عن قصدك خيرا وعرض عليه تاجر آخر ثلاثة آلاف دينار فامتنع من قبولها وقام وتركه ونفذت نفقة أحمد وهو في اليمن فعرص عليه شيخه عبدالرزاق ملء كفه دنانير فقال نحن في كفاية ولم يقبلها وسرقت ثيابه وهو في باليمن فجلس في بيته ورد عليه الباب وفقد أصحابه فجاءوا إليه فسألوه فأخبرهم فعرضوا عليه ذهبا فلم يقبله ولم يأخذ منهم إلا دينارا واحد ليكتب لهم به فكتب لهم بالأجر رحمه الله وقال أبو داود كانت مجالس أحمد مجالس الآخرة لايذكر فيها شيء من أمر الدنيا وما رأيت أحمد بن حنبل ذكر الدنيا قط وروى البهيقي أن أحمد سأل عن التوكل فقال هو قطع الاستشراف باليأس من الناس فقيل له هل من حجة على هذا قال نعم إن إبراهيم لما رمي به في النار في المنجنيق عرض له جبريل فقال هل لك من حاجة قال أما إليك فلا قال فسل من لك إليه حاجة فقال أحب الأمرين ألي أحبهما إليه
وعن أبي جعفر محمد بن يعقوب الصفار قال كنا مع أحمد بن حنبل بسر من رأى فقلنا ادع الله لنا فقال اللهم انك تعلم أنك على أكثر مما نحب فاجعلنا على ما تحب دائما ثم سكت فقلنا زدنا فقال اللهم انا نسألك بالقدرة التي قلت للسموات والارض ائتيا طوعا او كرها قالتا أتينا طائعين اللهم وفقنا لمرضاتك اللهم إنا نعود بك من الفقر الا اليك ونعود بك من الذل الا لك اللهم لا تكثر لنا فنطغى ولا تقل علينا ففنسى وهب لنا من رحمتك وسعة رزقك ما يكون بلاغا لنا في دنيانا وغنى من فضلك قال البهيقي وفي حكاية أبي الفضل التميمي عن أحمد وكان يدعو في السجود اللهم من كان من هذه الامة على غير الحق وهو يظن أنه على الحق فرده إلى الحق ليكون من أهل الحق وكان يقول اللهم إن قبلت عن عصاة أمة محمد صلى الله عليه و سلم فداء فاجعلني فداء لهم وقال صالح بن أحمد كأن أبي لا يدع أحدا يستقى له الماء للوضوء بل كان يلي ذلك بنفسه فإذا خرج الدلو ملآن قال الحمد لله فقلت يا أبة ما الفائدة بذلك فقال يا بني أما سمعت قول الله عز و جل أرئيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين والأخبار عنه في هذا الباب كثيرة جدا وقد صنف أحمد في الزهد كتابا حافلا عظيما لم يسبق إلى مثله ولم يلحقه أحد فيه والمظنون بل المقطوع به أنه كان يأخذ بما أمكنه منه رحمة الله
وقال اسماعيل بن اسحاق السراج قال لي أحمد بن حنبل هل تستطيع أن تريني الحارث المحاسبي إذا جاء منزلك فقلت نعم وفرحت بذلك ثم ذهبت إلى الحارث فقلت له إني أحب أن تحضر الليلة عندي أنت وأصحابك فقال إنهم كثير فأحضر لهم التمر والكسب فلما كان بين العشاءين جاؤا وكان الامام أحمد قد سبقهم فجلس في غرفة بحيث يراهم ويسمع كلامهم ولا يرونه فلما صلوا العشاء الآخرة لم يصلوا بعدها شيئا بل جاؤا بين يدي الحارث سكوتا (10/329)
مطرقي الرؤس كأنما على رؤسهما الطير حتى اذا كان قريبا من نصف الليل سأله رجل مسألة فشرع الحارث يتكلم عليها وعلى ما يتعلق بها من الزهد والورع والوعظ فجعل هذا يبكي وهذا يئن وهذا يزعق قال فصعدت الى الامام احمد الى الغرفة فاذا هو يبكي حتى كاد يغشى عليه ثم لم يزالوا كذلك حتى الصباح فلما أرادوا الانصراف قلت كيف رأيت هؤلاء يا ابا عبدالله فقال ما رأيت احدا يتكلم في الزهد مثل هذا الرجل وما رأيت مثل هؤلاء ومع هذا فلا أرى لك أن تجتمع بهم قال البهيقي يحتمل أنه كره له صحبتهم لأن الحارث بن أسد وان كان زاهدا فإنه كان عنده شيء من الكلام وكان أحمد يكره ذلك أو كره له صحبتهم من أجل أنه لايطيق سلوك طريقتهم وما هم عليه من الزهد والورع قلت بل انما كره ذلك لأن في كلامهم من التقشف وشدة السلوك التي يرد بها الشرع والتدقيق والمحاسبة الدقيقة البليغة ما لم بأت بها أمر ولهذا لما وقف أبو زرعة الرازي على كتاب الحارث المسمى بالرعاية قال هذا بدعة ثم قال للرجل الذي جاء بالكتاب عليك بما كان عليه مالك والثوري والأوزاعي والليث ودع عنك هذا فإنه بدعة وقال إبراهيم الحربي سمعت أحمد بن حنبل يقول إن أحببت أن يدوم الله لك على ما تحب فدم له على مايحب وقال الصبر على الفقر مرتبة لاينالها الا الأكابر وقال الفقر أشرف من الغنى فان الصبر عليه مرارة وانزعاجه أعظم حالا من الشكر وقال لا أعدل بفضل الفقر شيئا وكان يقول على العبد أن يقبل الرزق بعد اليأس ولا يقبله إذا تقدمه طمع أو استشراف وكان يحب التقليل من الدنيا لأجل خفة الحساب وقال إبراهيم قال رجل لأحمد هذا العلم تعلمته لله فقال له أحمد هذا شرط شديد ولكن حبب إلى شيء فجمعته وفي رواية أنه قال أما الله فعزيز ولكن حبب إلى شيء فجمعته
وروى البهيقي أن رجلا جاء إلى الامام أحمد فقال إن أمي زمنه مقعده منذ عشرين سنه وقد بعثتني اليك لتدعو لها فكأنه غضب من ذلك وقال نخن أحوج أن تدعو هي لنا من أن ندعو لها ثم دعا الله عز و جل لها فرجع الرجل إلى امه فدق الباب فخرجت إليه على رجليها وقالت قد وهبني الله العافية وروى أن سائلا سأل فأعطاه الامام أحمد قطعة فقام رجل إلى السائل فقال هبني هذه القطعة حتى أعطيك عوضها ما تساوي درهما فأبى فرقاه إلى خمسين درهما وهو يأبى وقال إني أرجو من بركتها ما ترجوه انت من بركتها ثم قال البهيقي رحمه الله باب
ذكر ما جاء في محنة ابي عبدالله احمد بن حنبل
في أيام المأمون ثم المعتصم ثم الواثق بسبب القرآن العظيم وما أصابه من الحبس الطويل والضرب الشديد والتهديد بالقتل بسوء العذاب وأليم العقاب وقلة مبالاته بما كان منهم في ذلك إليه وصبره عليه وتمسكه بما كان عليه من الدين القويم والصراط المستقيم وكان أحمد عالما بما ورد بمثل حاله من (10/330)
الايات المتلوة والاخبار المأثورة وبلغه ما أوصى به في المنام واليقظة فرضي وسلم إيمانا واحتسابا وفاز بخير الدنيا ونعيم ا لآخرة وهيأه الله بما آتاه من ذلك البلوغ أعلى منازل أهل البلاء في الله من أوليائه وألحق به محببيه فيما نال من كرامة الله تعالى ان شاء الله من غير بليه وبالله التوفيق والعصمة
قال الله تعإلى بسم الله الرحمن الرحيم آلم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولون آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا ولعلمن الكاذبين وقال الله تعإلى واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور في سواها معنى ما كتبنا وقد روى الامام أحمد الممتحن في مسنده قائلا فيه حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن عاصم بن بهدلة سمعت مصعب بن سعد يحدث عن سعد قال سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم
أي الناس أشد بلاء فقال ( الانبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلي الله الرجل على حسب دينه فإن كان رقيق الدين ابتلى هلى حسب ذلك وان كان صلب الدين ابتلى على حسب ذلك وما زال البلاء بالرجل حتى يمشي على الارض وما عليه خطيئة ) وقد روى مسلم في صحيحه قال حدثنا عبد الوهاب الثقفي ثنا أيوب عن أبي قلابة عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
( ثلاثة من كن فيه فقد وجد حلاوة الايمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه الا لله وأن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه ) أخرجاه في الصحيحين
وقال ابو القاسم البغوي حدثنا أحمد بن حنبل ثنا أبو المغيرة ثنا صفوان بن عمر السكسكى ثنا عمرو بن قيس السكوني ثنا عاصم بن حميد قال سمعت معاذ بن جبل يقول ( انكم لم تروا الا بلاء وفتنة ولن يزداد الامر الا شدة ولا الأنفس الا شحا ) وبه قال معاذ ( لن تروا من الائمة الا غلطة ولن تروا أمرا يهولكم ويشتد عليكم الا حضر بعده ما هو أشد منه ) قال البغوي سمعت أحمد يقول اللهم رضنا وروى البهيقي عن الربيع قال بعثني الشافعي بكتاب من مصر إلى أحمد بن حنبل فأتيته وقد انفتل من صلاة الفجر فدفعت إليه الكتاب فقال أقرأته فقلت لا فأخذه فقرأه فدمعت عيناه فقلت يا أبا عبدالله وما فيه فقال يذكر أنه رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم في المنام فقال اكتب إلى عبد الله احمد بن حنبل وأقرأ عليه السلام مني وقل له إنك ستمتحن وتدعى إلى القول بخلق القرآن فلا تجبهم ويرفع الله لك علما إلى يوم القيامة قال الربيع فقلت حلاوة البشارة فخلع قميصة الذي يلي جلده فأعطانيه فلما رجعت إلى لشافعي اخبرته فقال إني لست أفجعك فيه ولكن بله بالماء وأعطينيه حتى اتبرك به
ملخص الفتنة والمحنة من كلام أئمة السنة أثابهم الله الجنة
قد ذكرنا فيما تقدم أن المأمون كان قد استحوذ عليه جماعة من المعتزلة فأزاغوه عن طريق الحق (10/331)
إلى الباطل وزينوا له القول بخلق القرآن ونفي الصفات عن الله عز و جل قال البهيقي ولم يكن في الخلفاء قبله من بني أميه وبني العباس خليفة الاعلى مذهب السلف ومنهاجهم فلما ولى هو الخلافة اجتمع به هؤلاء فحملوه على ذلك وزينوا له واتفق خروجه إلى طرسوس لغزو الروم فكتب إلى نائبه ببغداد اسحاق بن إبراهيم ن مصعب يأمره أن يدعو الناس إلى القول بخلق القرآن واتفق له ذلك آخر عمره قبل موته بشهور سنة ثماني عشرة ومائتين فلما وصل الكتاب كما ذكرنا استدعى جماعة من أئمة الحديث فدعاهم الى ذلك فامتنعوا فتهددهم بالضرب وقطع الارزاق فأجاب أكثرهم مكرهين واستمر على الامتناع من ذلك الامام أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح الجند يسابوري فحملا على بعير وسيرا إلى الخليفة عن أمره بذلك وهما مقيدان متعادلان في محمل على بعير واحد فلما كانا ببلاد الرحبة جاءهما رجل من الاعراب من عبادهم يقال له جابر بن عامر فسلم على الامام احمد وقال له يا هذا إنك وافد الناس فلا تكن شؤما عليهم وإنك رأس الناس اليوم فإياك أن تجبهم إلى ما يدعونك إليه فيجيبوا فتحمل أوزارهم يوم القيامة وان كنت تحب الله فاصبر على ما انت فيه فانه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل وإنك ان لم تقتل تمت وان عشت عشت حميدا قال احمد وكان كلامه مما قوى عزمى على ما أنا فيه من الامتناع من ذلك الذي يدعونني إليه فلما اقترابا من جيش الخليفة ونزلوا بمرحلة جاء خادم وهو يمسح دموعه بطرف ثوبه ويقول يعز على أبا عبدالله إن المأمون قد سل سيفا لم يسله قبل ذلك وأنه يقسم بقرابته من رسول الله صلى الله عليه و سلم لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف قال فجثى والامام أحمد على ركبتيه ورمق بطرفه إلى السماء وقال سيدي غر حلمك هذا الفاجر حتى تجرأ على أولياءك بالضرب والقتل اللهم فإن لم يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤنته قال فجاءهم الصريخ بموت المأمون في الثلث الاخير من الليل قال أحمد ففرحنا ثم جاء الخبر بأن المعتصم قد ولي الخلافة وقد انضم إليه أحمد بن أبي دؤاد وان الأمر شديد فردونا إلى بغداد في سفينة مع بعض الاسارى ونالني منهم اذى كثير وكان في رجليه القيود ومات صاحبه محمد بن نوح في الطريق وصلى عليه أحمد فلما رجع احمد إلى بغداد دخلها في رمضان فأودع في السجن نحوا من ثمانية وعشرين شهرا وقيل نيفا وثلاثين شهرا ثم أخرج إلى الضرب بين يدي المعتصم وقد كان أحمد وهو في السجن هو الذي يصلي في أهل السجن والقيود في رجليه ( ذكر ضربه رضي الله عنه ) ( بين يدي المعتصم )
لما أحضره المعتصم من السجن زاد في قيوده قال أحمد فلم استطع أن أمشي بها فربطتها في (10/332)
السكة وحملتها بيدي ثم جأوني بدابة فحملت عليها فكدت أن أسقط على وجهي من ثقل القيود وليس معي أحد يمسكني فسلم الله حتى جئنا دار المعتصم فأدخلت في بيت وأغلق علي وليس عندي سراج فأردت الوضوء فمددت يدي فإذا إناء فيه ماء فتوضأت منه ثم قمت ولا أعرف القبلة فلما أصبحت إذ أنا على القبلة والحمد لله ثم دعيت فأدخلت على المعتصم فلما نظر الي وعنده ابن دؤاد قال أليس قد زعمتم أنه حدث السن وهذا شيخ مكهل فلما دنوت منه وسلمت قال لي ادنه فلم يزل يدنيني حتى قربت منه ثم قال اجلس فجلست وقد أثقلني الحديد فمكثت ساعة ثم قلت يا أمير المؤمنين إلى م دعا إليه ابن عمك رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إلى شهادة ان لا اله الا الله قلت فإني أشهد أن لاإله إلا الله قال ثم ذكرت له حديث ابن عباس في وفد عبد القيس ثم قلت فهذا الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ثم تكلم ابن أبي دؤاد بكلام لم أفهمه وذلك أني لم أتفقه كلامه ثم قال المعتصم لولا انك كنت في يد من قبلي لم اتعرض اليك ثم قال يا عبد الرحمن ألم آمرك أن ترفع المحنة قال أحمد فقلت الله أكبر هذا فرج المسلمين ثم قال ناظره يا عبد الرحمن كلمة فقال لي عبد الرحمن ما تقول في القرآن فلم أجبه فقال المعتصم أجبه فقلت ما تقول في العلم فسكت فقلت القرآن من علم الله ومن زعم أن علم الله مخلوق فقد كفر بالله فسكت فقالو فيما بينهم يا أمير المؤمنين كفرك وكفرنا فلم يلتفت إلى ذلك فقال عبد الرحمن كان الله ولا قرآن فقلت كان الله ولا علم فسكت فجعلوا يتكلمون من ههنا وههنا فقلت يا أمير المؤمنين أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسوله حتى أقول به فقال ابن دؤاد وأنت لا تقول الا بهذا وهذا فقلت وهل يقوم الاسلام الا بهما وجرت مناظرات طويلة واحتجوا عليه بقوله ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث وبقوله الله خالق كل شيء وأجاب بما حاصله أنه عام مخصوص بقوله تدمر كل شيء بأمر ربها فقال ابن ابي دؤاد هو والله يا أمير المؤمنين ضال مضل مبتدع وهنا قضاتك والفقهاء فسلهم فقال لهم ما تقولون فأجابوا بمثل ما قال ابن أبي دؤاد ثم أحضروه في اليوم الثاني وناظروه أيضا ثم في اليوم الثالث وفي ذلك كله كان يعلو صوته عليهم وتغلب حجته حججهم قال فإذا سكتوا فتح الكلام عليهم ابن أبي دؤاد وكان من أجهلهم بالعلم والكلام وقد تنوعت بهم المسائل في المجادلة ولا علم لهم بالنقل فجعلوا ينكرون الآثار ويردون الاحتجاج بها وسمعت منهم مقالات لم أكن أظن أن أحدا يقولها وقد تكلم معي ابن غوث بكلام طويل ذكر فيه الجسم وغيره بما لا فائدة فيه فقلت لا أدرى ما تقول إلا إني أعلم أن الله أحد صمد وليس كمثله شيء فسكت عني وقد أوردت لهم حديث (10/333)
لرؤية في الدار الآخرة فحاولوا أن يضعفوا إسناده ويلفقوا عن بعض المحدثين الحدثين كلاما يتساقون به إلى الطعن فيه وهيهات واني لهم التناوش من مكان بعيد وفي غبون ذلك كله يتلطف به الخليفة ويقول يا أحمد أجبني إلى هذا حتى أجعلك من خاصتي وممن يطأ بساطي فأقول يا أمير المؤمنين يأتوني بآية من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أجبهم إليها
واحتج أحمد عليهم حين أنكروا الآثار بقوله تعالى يا أبة لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا وبقوله وكلم الله موسى تكليما وبقوله إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدوني وبقوله إنما قولنا لشيء إذا أردنا أن نقول له كن فيكون ونحو ذلك من الآيات فلما لم يقم لهم معه حجة عدلوا إلى استعمال جاه الخليفة فقالوا يا أمير المؤمنين هذا كافر ضال مضل وقال له إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد يا أمير المؤمنين ليس من تدبير الخلافة أن تخلي سبيله ويغلب خليفتين فعند ذلك حمى واشتد غضبه وكان ألينهم عريكة وهو يظن أنهم على شيء قال احمد فعند ذلك قال لي لعنك الله طمعت فيك أن تجيبني فلم تجبني ثم قال خذوه واخلعوه واسحبوه قال أحمد فأخذت وسحبت وخلعت وجيء بي بالعاقبين والسياط وأنا أنظر وكان معي شعرات من شعر النبي صلى الله عليه و سلم مصرورة في ثوبي فجردوني منه وصرت بين العقابين فقلت يا أمير المؤمنين الله إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال
( لا يحل دم امريء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بأحدى ثلاث ) وتلوت الحديث وإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم ) فبم تستحل دمي ولم آت شيئا من هذا يا أمير المؤمنين اذكر وقوفك بين الله كوقوفي بين يديك فكأنه أمسك ثم يزالوا يقولون له يا أمير المؤمنين إنه ضال مضل كافر فأمر بي فقمت بين العقابين وجيء بكرسي فأقمت عليه وأمرني بعضهم أن آخذ بيدي بأي الخشبتين فلم أفهم فتخلعت يداي وجيء بالضرابين ومعهم السياط فجعل أحدهم يضربني سوطين ويقول له يعني المعتصم شد قطع الله يدك ويجيء الآخر فيضربني سوطين ثم الآخر كذلك فضربني أسواطا فأغمي علي وذهب عقلي مرارا فإذا سكن الضرب يعود علي عقلي وقام المعتصم إلى يدعوني إلى قولهم فلم أجبه وجعلوا يقولون ويحك الخليفة على رأسك فلم أقبل وأعادوا الضرب ثم عاد إلى فلم أجبه فأعادوا الضرب ثم جاء إلى الثالثة فدعاني فلم أعقل ما قال من شدة الضرب ثم أعادوا الضرب فذهب عقلي فلم أحس بالضرب وأرعبه ذلك من أمري وأمر بي فأطلقت ولم أشعر إلا وأنا في حجرة من بيت وقد أطلقت الأقياد من رجلي وكان ذلك في اليوم الخامس والعشرين من رمضان من سنة إحدى وعشرين ومائتين ثم أمر الخليفة بإطلاقه إلى أهله وكان جملة ما ضرب نيفا وثلاثين سوطا وقيل ثمانين سوطا لكن كان ضربا مبرحا (10/334)
شديدا جدا وقد كان الامام أحمد رجلا طوالا رقيقا أسمر اللون كثير التواضع رحمه الله
ولما حمل من دار الخلافة إلى دار إسحاق بن إبراهيم وهو صائم أتوه بسويق ليفطر من الضعف فامتنع من ذلك وأتم صومه وحين حضرت صلاة الظهر صلى معهم فقال هل ابن سماعة القاضي وصلبت في دمك فقال له أحمد قد صلى عمر وجرحه يثعب دما فسكت ويروى أنه لما أقيم ليضرب انقطعت تكة سراويله فخشى أن يسقط سراويله فتكشف عورته فحرك شفتيه فدعا لله فعاد سراويله كما كان ويروى أنه يقال يا غياث المستغيثين يا إله العالمين إن كنت تعلم أني قائم لك بحق فلا تهتك لي عورة
ولما رجع إلى منزله جاءه الجرايحي فقطع لحما ميتا من جسده وجعل يداويه والنائب في كل وقت يسأل عنه وذلك أن المعتصم ندم على ما كان منه إلى أحمد ندما كثيرا وجعل يسأل النائب عنه والنائب يستعلم خبره فلما عوفي فرح المعتصم والمسلمون بذلك ولما شفاه الله بالعافية بقي مده وإبهاماه يؤذيهما البرد وجعل كل من آذاه في حل إلا أهل البدعة وكان يتلو في ذلك قوله تعالى وليعفوا وليصفحوا الآية ويقول ماذا ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك وقد قال تعالى فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين وينادي المنادي يوم القيامة ( ليقم من أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا ) وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( ثلاث أقسم عليهن ما نقص مال من صدقة وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ومن تواضع لله رفعه الله ) وكان الذين ثبتوا على الفتنة فلم يجيبوا بالكلية أربعة أحمد بن حنبل وهو رئيسهم ومحمد بن نوح بن ميمون الجند يسابوري ومات في الطريق ونعيم بن حماد الخزاعي وقد مات في السجن وأبو يعقوب البويطي وقد مات في سجن الواثق على القول بخلق القرآن وكان مثقلا بالحديد وأحمد بن نصر الخزاعي وقد ذكرنا كيفية مقتله
ثناء الأئمة على الامام أحمد بن حنبل
قال البخاري لما ضرب أحمد بن حنبل كنا بالبصرة فسمعت أبا الوليد الطيالسي يقول لو كان أحمد في بنى إسرائيل لكان أحدوثه وقال إسماعيل بن الخليل لو كان أحمد في بنى إسرائيل لكان نبيا وقال المزني أحمد بن حنبل يوم المحنة وأبو بكر يوم الردة وعمر يوم السقيفة وعثمان يوم الدار وعلى يوم الجمل وصفين وقال حرملة سمعت الشافعي يقول خرجت من العراق فما تركت رجلا أفضل ولا أعلم ولا أورع ولا أتقى من أحمد بن حنبل وقال شيخ أحمد يحي بن سعيد القطان ما قدم على بغداد أحد أحب إلى من أحمد بن حنبل وقال قتيبة مات سفيان الثوري ومات الورع ومات الشافعي وماتت السنن ويموت أحمد بن حنبل وتظهر البدع وقال إن أحمد (10/335)
ابن حنبل قام في الأمة مقام النبوة قال البيهقي يعنى في صبره على ما أصابه من الأذى في ذات الله وقال أبو عمر بن النحاس وذكر أحمد يوما فقال رحمه الله في الدين ما كان أبصره وعن الدنيا ما كان أصبره وفي الزهد ما كان أخبره وبالصالحين ما كان ألحقه وبالماضين ما كان أشبهه عرضت عليه الدنيا فأباها والبدع فنفاها وقال بشر الحافي بعد ما ضرب أحمد بن حنبل أدخل أحمد الكير فخرج ذهبا أحمر وقال الميموني قال لي على بن المديني بعد ما امتحن أحمد وقيل قبل أن يمتحن يا ميمون ما قام أحد في الاسلام ما قام أحمد بن حنبل فعجبت من هذا عجبا شديدا وذهبت إلى أبي عبيد القاسم بن سلام فحكيت له مقالة على بن المديني فقال صدق إن أبا بكر وجد يوم الردة أنصارا وأعوانا وإن أحمد بم حنبل لم يكن له أنصار ولا أعوان ثم أخذ أبو عبيد يطرى أحمد ويقول لست أعلم في الاسلام مثله وقال إسحاق بن راهويه أحمد حجة بين الله وبين عبيده في أرضه وقال على بن المدينى إذا ابتليت بشيء فأفتاني أحمد بن حنبل لم أبال إذا لقيت ربي كيف كان وقال أيضا إني اتخذت أحمد حجة فيما بينى وبين الله عز و جل ثم قال ومن يقوى على ما يقوى عليه أبو عبد الله وقال يحيى بن معين كان في أحمد بن حنبل خصال مارأيتها في عالم قط كان محدثا وكان حافظا وكان عالما وكان ورعا وكان زاهدا وكان عاقلا
وقال يحي بن معين أيضا أراد الناس منا أن نكون مثل أحمد بن حنبل والله ما نقوى أن نكون مثله ولا نطيق سلوك طريقة وقال الذهلي اتخذت أحمد حجة فيما بينى وبين الله وقال هلال بن المعلى الرقي من الله على هذه الأمة بأربعة الشافعي فهم الأحاديث وفسرها وبين مجملها من مفصلها والخاص والعام والناسخ والمنسوخ وبأبي عبيد بين غريبها وبيحي بن معين نفى الكذب عن الأحاديث وبأحمد بن حنبل ثبت في المحنة لولا هولاء الأربعة لهلك الناس وقال أبو بكر ابن أبي داود أحمد بن حنبل مقدم على كل من يحمل بيدة قلما ومحبرة يعنى في عصره وقال أبو بكر محمد بن محمد بن رجاء ما رأيت مثل أحمد بن حنبل ولا رأيت من رأى مثله وقال أبو زرعة الرازي ما أعرف في أصحابنا أسود الرأس أفقه منه وروى البيهقي عن الحاكم عن يحي بن محمد العنبري قال أنشدنا أبو عبد الله البوسندي في أحمد بن حنبل رحمه الله
... إن ابن حنبل ان سألت إمامنا ... وبه الأئمة في الأنام تمسكوا ... خلف النبي محمدا بعد الألى ... خلفوا الخلائف بعده واستهلكوا ... حذو الشراك على الشراك وإنما ... يحذو المثال مثاله المستمسك ...
وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال ( لا تزال طائفة من أمتى على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ) وروى البيهقي عن (10/336)
أبى سعيد المالينى عن ابن عدى عن أبي القاسم البغوى عن أبي الربيع الزهراني عن حماد بن زيد عن بقية بن الوليد عن معاذ بن رفاعة عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري ح قال البغوي وحدثنى زياد بن أيوب حدثنا مبشر عن معاذ عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري ح قال البغوي قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدو له ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ) وهذا الحديث مرسل وإسناده فيه ضعف والعجب أن ابن عبد البر صححه واحتج به على عدالة كل من حمل العلم والامام أحمد من أئمة أهل العلم رحمه الله واكرم مثواه
ما كان من أمر الإمام أحمد بعد المحنة
حين خرج من دار الخلافة صار إلى منزله فدووى حتى برأ ولله الحمد ولزم منزله فلا يخرج منه إلى جمعه ولا جماعة وامتنع من التحديث وكانت غلته من ملك له في كل شهر سبعة عشر درهما ينفقها على عياله ويتقنع بذلك رحمه الله صابرا محتسبا ولم يزل كذلك مدة خلافة المعتصم وكذلك في أيام ابنه محمد الواثق فلما ولى المتوكل على الله الخلافة استبشر الناس بولايته فانه كان محبا للسنة وأهلها ورفع المحنة عن الناس وكتب إلى الآفاق لا يتكلم أحد في القول بخلق القرآن ثم كتب إلى نائبه ببغداد وهو إسحاق بن إبراهيم أن يبعث بأحمد بن حنبل إليه فاستدعى اسحاق بالامام احمد اليه فأكرمه وعظمه لما يعلم من اعظام الخليفة له واجلاله اياه وسأله فيما بينه وبينه عن القرآن فقال له أحمد سؤالك هذا سؤال تعنت أو استرشاد فقال بل سؤال استرشاد فقال هو كلام الله منزل غير مخلوق فسكن إلى قوله في ذلك ثم جهزه إلى الخليفة إلى سر من رأى ثم سبقه إليه
وبلغه أن أحمد اجتاز بابنه محمد بن إسحاق فلم يأته ولم يسلم عليه فغضب إسحاق بن إبراهيم من ذلك وشكاه إلى الخليفة فقال المتوكل يرد إن كان قد وطئ بساطي فرجع الامام أحمد من الطريق إلى بغداد وقد كان الامام أحمد كارها لمجيئه إليهم ولكن لم يهن ذلك على كثير من الناس وإنما كان رجوعه عن قول إسحاق بن إبراهيم الذي كان هو السبب في ضربه ثم إن رجلا من المبتدعة يقال له ابن البلخي وشى إلى الخليفة شيئا فقال إن رجلا من العلويين قد أوى إلى منزل أحمد بن حنبل وهو يبايع له الناس في الباطن فأمر الخليفة نائب بغداد ان يكبس منزل احمد من الليل فلم يشعروا إلا والمشاعل قد أحاطت بالدار من كل حانب حتى من فوق الأسطحة فوجدوا الامام أحمد جالسا في داره مع عياله فسألوه عما ذكر عنه فقال ليس عندي من هذا علم وليس من هذا شيء ولا هذا من نيتى وإني لأرى طاعة أمير المؤمنين في السر والعلانية وفي عسري ويسري ومنشطي ومكرهي وأثره على وإني لأدعو الله له بالتسديد والتوفيق في الليل والنهار في كلام كثير ففتشوا منزله حتى مكان الكتب وبيوت النساء والأسطحة وغيرها فلم يروا شيئا فلما بلغ (10/337)
المتوكل ذلك وعلم براءته مما نسب إليه علم أنهم يكذبون عليه كثيرا فبعث إليه يعقوب بن إبراهيم المعروف بقوصرة وهو أحد الحجبة بعشرة آلاف درهم من الخليفة وقال هو يقرأ عليك السلام ويقول استنفق هذه فامتنع من قبلوها فقال يا أبا عبد الله إني أخشى من ردك إياها أن يقع وحشة بينك وبينه والمصلحة لك قبولها فوضعها عنده ثم ذهب فلما كان من آخر الليل استدعى أحمد أهله وبنى عمه وعياله وقال لم أثم هذه الليلة من هذا المال فجلسوا وكتبوا أسماء جماعة من المحتاجين من أهل الحديث وغيرهم من أهل بغداد والبصرة ثم أصحب ففرقها في الناس ما بين الخمسين إلى المائة والمائتين فلم يبق منها درهما وأعطى منها لأبي أيوب وأبي سعيد الأشج وتصدق بالكيس الذي كانت فيه ولم يعط منها لأهله شيئا وهم في غاية الفقر والجهد وجاء بنوا ابنه فقال اعطنى درهما فنظر أحمد إلى ابنه صالح فتناول صالح قطعة فأعطاها الصبي فسكت أحمد
وبلغ الخليفة أنه تصدق بالجائزة كلها حتى كيسها فقال على بن الجهم يا أمير المؤمنين إنه قد قبلها منك وتصدق بها عنك وماذا يصنع أحمد بالمال إنما يكفيه رغيف فقال صدقت
فلما مات إسحاق بن إبراهيم وابنه محمد ولم يكن بيهما إلا القريب وتولى نيابة بغداد عبد الله ابن إسحاق كتب المتوكل إليه أن يحمل إليه الامام أحمد فقال لأحمد في ذلك فقال إني شيخ كبير وضعيف فرد الجواب على الخليفة بذلك فأرسل يعزم عليه لتأتينى وكتب إلى أحمد إني أحب أن آنس بقربك وبالنظر إليك ويحصل لى بركة دعائك فسار إليه الامام أحمد وهو عليل في بنيه وبعض اهله فلما قارب العسكر تلقاه وصيف الخادم في موكب عظيم فسلم وصيف على الامام احمد فرد السلام وقال له وصيف قد أمكنك الله من عدوك ابن أبي داؤد فلم يرد عليه جوابا وجعل ابنه يدعو الله للخليفة ولوصيف فلما وصلوا إلى العسكر بسر من رأى أنزل أحمد في دار إيتاخ فلما علم بذلك ارتحل منها وأمر أن يستكرى له دار غيرها وكان رؤس الأمراء في كل يوم يحضرون عنده ويبلغونه عن الخليفة السلام ولا يدخلون عليه حتى يقلعون ما عليهم من الزينة والسلاح وبعث إليه الخليفة بالمفارش الوطيئة وغيرها من الآلات التي تليق بتلك الدار العظيمة وأراد منه الخليفة أن يقيم هناك ليحدث الناس عوضا عما فاتهم منه في أيام المحنة وما بعدها من السنين المتطاولة فاعتذر إليه عليل وأسنانه تتحرك وهو ضعيف كان الخليفة يبعث إليه في كل يوم مائدة فيا ألوان الأطعمة والفاكهةوالثلج مما يقاوم مائة وعشرين درهما في كل يوم والخليفة يحسب أنه يأكل من ذلك ولم يكن أحمد بأكل شيئا من ذلك بالكلية بل كان صائما يطوى فمكث ثمانية أيام لم يستطعم بطعام ومع ذلك هو مريض ثم أقسم عليه ولده حتى شرب قليلا من السويق بعد ثمانية أيام وجاء عبيد الله بن يحيى بن خاقان بمال جزيل من الخليفة جائزة له فامتنع (10/338)
من قبوله فألح عليه الأمير فلم يقبل فأخذها الأمير ففرقها على بنيه وأهله وقال إنه لا يمكن ردها على الخليفة وكتب الخليفة لأهله وأولاده في كل شهر بأربعة آلاف درهم فمانع أبو عبد الله الخليفة فقال الخليفة لا بد من ذلك وما هذا إلا لولدك فأمسك أبو عبد الله عن مما نعته ثم أخذ يلوم أهله وعمه وقال لهم إنما بقي لنا أيام قلائل وكأننا قد نزل بنا الموت فاما إلى جنة وإما إلى نار فنخرج من الدنيا وبطوننا قد أخذت من مال هؤلاء في كلام طويل يعظهم به فاحتجوا عليه بالحديث الصحيح ( ما جاءك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مستشرف فخذه ) وأن ابن عمر وابن عباس قبلا جوائز السلطان فقال وما هذا وذاك سواء ولو أعلم أن هذا المال أخذ من حقه وليس بظلم ولا جور لم أبال
ولما استمر ضعفه جعل المتوكل يبعث إليه ما سويه المتطبب لنيظر في مرضه فرجع إليه فقال يا أمير المؤمنين إن أحمد ليس به علة في بدنه وإنما علته من قلة الطعام وكثرة الصيام والعبادة فسكت المتوكل ثم سألت أم الخليفة منه أن ترى الامام أحمد فبعث المتوكل إليه يسأله أن يجتمع بابنه المعتز ويدعو له وليكن في حجرة فتمنع من ذلك ثم أجاب إليه رجاء أن يعجل برجوعه إلى أهله ببغداد وبعث الخليفة إليه بخلعة سنية ومركوب من مراكبه فامتنع من ركوبه لأنه عليه ميثرة نمور فجيء ببغل لبعض التجار فركبه وجاء إلى مجلس المعتز وقد جلس الخليفة وأمه في ناحية في ذلك المجلس من وراء ستر رقيق فلما جاء أحمد قال سلام عليكم وجلس ولم يسلم عليه بالامرة فقالت أم الخليفة الله الله يا بنى في هذا الرجل ترده إلى أهله فإن هذا ليس ممن يريد ما أنتم فيه وحين رأى المتوكل أحمد قال لأمه يا أمه قد تأنست الدار وجاء الخادم ومعه خلعة سنية مبطنة وثوب وقلنسوة وطيلسان فألبسها أحمد بيده وأحمد لا يتحرك بالكلية قال الامام أحمد ولما جلست إلى المعتز قال مؤدبه أصلح الله الأمير هذا الذي أمر الخليفة أن يكون مؤدبك فقال إن علمنى شيئا تعلمته قال أحمد فتعجبت من ذكائه في صغره لأنه كان صغيرا جدا فخرج أحمد عنهم وهو يستغفر الله ويستعيذ بالله من مقته وغضبه
ثم بعد أيام أذن له الخليفة بالانصراف وهيأ له حزاقة فلم يقبل أن ينحدر فيها بل ركب في زورق فدخل بغداد مختفيا وأمر أن تباع تلك الخلعة وأن يتصدق بثمنها على الفقراء والمساكين وجعل أياما يتألم من اجتماعه بهم ويقول سلمت منهم طول عمري ثم ابتليت بهم في آخره وكن قد جاع عندهم جوعا عظيما كثيرا حتى كاد أن يقتله الجوع وقد قال بعض الأمراء للمتوكل إن أحمد لا يأكل لك طعاما ولا يشرب لك شرابا ولا يجلس على فرشك ويحرم ما تشربه فقال والله لو نشر المعتصم وكلمنى في أحمد ما قبلت منه وجعلت رسل الخليفة تفد إليه في كل يوم تستعلم أخباره (10/339)
وكيف حاله وجعل يستفتيه في أموال ابن أبي داؤد فلا يجيب بشيء ثم إن المتوكل أخرج ابن أبي داؤد من سر من رأى إلى بغداد بعد أن أشهد عليه نفسه ببيع ضياعه واملاكه واخذ امواله كلها قال عبد الله بن أحمد وحين رجع أبي من سامرا وجدنا عينيه قد دخلتا في موقيه وما رجعت إليه نفسه إلا بعد ستة أشهر وامتنع أن يدخل بيت قرابته أو يدخل بيتا هو فيه أو ينتفع بشيء مما هم فيه لأجل قبولهم أموال السلطان
وكان مسير أحمد إلى المتوكل في سنة سبع وثلاثين ومائتين ثم مكث إلى سنة وفاته وكل يوم إلا ويسأل عنه المتوكل ويوفد إليه في أمور يشاوره فيها ويستشيره في أشياء تقع له ولما قدم المتوكل بغداد بعث إليه ابن خاقان ومعه ألف دينار ليفرقها على من يرى فامتنع من قبولها وتفرقتها وقال إن أمير المؤمنين قد أعفاني مما أكره فردها وكتب رجل رقعة إلى المتوكل يقول يا أمير المؤمنين إن أحمد يشتم آباءك ويرميهم بالزندقة فكتب فيها المتوكل أما المأمون فانه خلط فسلط الناس على نفسه وأما أبي المعتصم فإنه كان رجل حرب ولم يكن له بصر بالكلام وأما أخي الواثق فإنه استحق ما قيل فيه ثم أمر أن يضرب الرجل لذي رفع إليه الرقعة مائتي سوط فأخذه عبد الله بن إسحاق ابن إبراهيم فضربه خمسمائة سوط فقال له الخليفة لم ضربته خمسمائة سوط فقال مائتين لطاعتك ومائتين لطاعة الله ومائة لكونه قذف هذا الشيخ الرجل الصالح أحمد بن حنبل
وقد كتب الخليفة إلى أحمد يسأله عن القول في القرآن سؤال استرشاد واستفادة لا سؤال تعنت ولا امتحان ولا عناد فكتب إليه أحمد رحمه الله رسالة حسنة فيها آثار عن الصحابة وغيرهم وأحاديث مرفوعة وقد أوردها ابنه صالح في المحنة التي ساقها وهي مروية عنه وقد نقلها غير واحد من الحفاظ
وفاة الإمام أحمد بن حنبل
قال ابنه صالح كان مرضه في أول ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين ومائتين ودخلت عليه يوم الأربعاء ثاني ربيع الأول وهو محموم يتنفس الصعداء وهو ضعيف فقلت يا أبت ما كان غداؤك فقال ماء الباقلا ثم إن صالحا ذكر كثرة مجيء الناس من الأكابر وعموم الناس لعيادته وكثرة حرج الناس عليه وكان معه خريقة فيها قطيعات ينفق على نفسه منها وقد أمر ولده عبد الله أن يطالب سكان ملكه وأن يكفر عنه كفارة يمين فأخذ شيئا من الأجرة فاشترى تمرا وكفر عن أبيه وفضل من ذلك ثلاثة دراهم وكتب الامام أحمد وصيته
( بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به أحمد بن حنبل أوصى أنه يشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون وأوصى من أطاعه من أهله وقرابته أن يعبدوا الله في العابدين وأن يحمدوه في (10/340)
الحامدين وأن ينصحوا المسلمين وأوصى أني قد رضيت بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد نبيا وأوصى لعبد الله بن محمد المعروف ببوران على نحوا من خمسين دينارا وهو مصدق فيها فيقضى ماله على من غلة الدار إن شاء الله فاذا استوفى أعطى ولد صالح كل ذكر وأنثى عشرة دراهم
ثم استدعى بالصبيان من ورثته فجعل يدعو لهم وكان قد ولد له صبي قبل موته بخمسين يوما فسماه سعيدا وكان له ولد آخر اسمه محمد قد مشى حين مرض فدعاه فالتزمه وقبله ثم قال ما كنت أصنع بالولد على كبر السن فقيل له ذرية تكون بعدك يدعون لك قال وذاك إن حصل وجعل يحمد الله تعالى وقد بلغه في مرضه عن طاوس أنه كان يكره أنين المريض فترك الأنين فلم يئن حتى كانت الليلة التي توفي في صبيحتها أن وكانت ليلة الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول من هذه السنة فأن حين اشتد به الوجع وقد روى عن ابنه عبد الله ويروى عن صالح أيضا أنه قال حين احتضر أبى جعل يكثر أن يقول لا بعد لا بعد فقلت يا أبة ما هذه اللفظة التي تلهج بها في هذه الساعة فقال يا بنى إن إبليس واقف في زواية البيت وهو عاض على اصبعه وهو يقول فتنى يا أحمد فأقول لا بعد لا بعد يعنى لا يفوته حتى تخرج نفسه من جسده على التوحيد كما جاء في بعض الأحاديث قال إبليس يارب وعزتك وجلالك ما أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم فقال الله وعزتي وجلالي ولا أزال أغفر لهم ما استغفروني
وأحسن ما كان من أمره أنه أشار إلى أهله أن يوضؤه فجعلوا يوضؤنه وهو يشير إليهم أن خللوا أصابعي وهو يذكر الله عز و جل في جميع ذلك فما أكملوا وضوءه توفي رحمه الله ورضى عنه وقد كانت وفاته يوم الجمعه حين مضى منه نحو من ساعتين فاجتمع الناس في الشوارع وبعث محمد بن طاهر حاجبه ومعه غلمان ومعهم مناديل فيها أكفان وأرسل يقول هذا نيابة عن الخليفة فانه لو كان حاضرا لبعث بهذا فأرسل أولاده يقولون إن أمير المؤمنين كان قد أعفاه في حياته مما يكره وأبوا أن يكفنوه بتلك الأكفان وأتى بثوب كان قد غزلته جاريته فكفنوه واشتروا معه عوز لفافة وحنوطا واشتروا له رواوية ماء وامتنعوا ان يغسلوه بماء بيوتهم لأنه كان قد هجر بيوتهم فلا يأكل منها ولا يستعير من أمتعتهم شيئا وكان لا يزال متغضبا عليهم لأنهم كانوا يتناولون ما رتب لهم على بيت المال وهو في كل شهر أربعة آلاف درهم وكان لهم عيال كثيرة وهم فقراء وحضر غسله نحو من مائة من بيت الخلافة من بنى هاشم فجعلوا يقبلون بين عينيه ويدعون له ويترحمون عليه رحمه الله وخرج الناس بنعشه والخلائق حوله من الرجال والنساء ما لم يعلم عددهم إلا الله ونائب البلد محمد بن عبد الله بن طاهر واقف في جملة الناس ثم تقدم فعزى أولاد الامام أحمد فيه وكان هو الذي أم الناس في الصلاة عليه وقد أعاد جماعة الصلاة عليه عند القبر وعلى القبر بعد أن دفن من أجل (10/341)
ذلك ولم يتسقر في قبره رحمه الله إلا بعد صلاة العصر وذلك لكثرة الخلق
وقد روى البيهقي وغير واحد أن الأمير محمد بن طاهر أمر بحزر الناس فوجدوا ألف ألف وثلثمائة ألف وفي رواية وسبعمائة ألف سوى من كان في السفن وقال ابن أبي حاتم سمعت أبا زرعة يقول بلغنى أن المتوكل أمر أن يمسح الموضع الذي وقف الناس فيه حيث صلوا على الامام أحمد بن حنبل فبلغ مقاسه ألفي ألف وخمسمائة ألف قال البيهقي عن الحاكم سمعت أبا بكر أحمد بن كامل القاضي يقول سمعت محمد بن يحي الزنجاني سمعت عبد الوهاب الواراق يقول ما بلغنا أن جمعا في الجاهلية ولا في الاسلام اجتمعوا في جنازة أكثر من الجمع الذي اجتمع على جنازة أحمد بن حنبل فقال عبد الرحمن بن أبي حاتم سمعت أبي يقول حدثنى محد بن العباس المكي سمعت الوركاني جار أحمد ابن حنبل قال أسلم يوم مات أحمد عشرون ألفا من اليهود والنصارى والمجوس وفي بعض النسخ أسلم عشرة آلاف بدل عشرين ألفا فالله أعلم
وقال الدارقطني سمعت أبا سهل بن زياد سمعت عبد الله بن أحمد يقول سمعت أبي يقول قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم الجنائز حين تمر وقد صدق الله قول أحمد في هذا فانه كان إمام السنة في زمانه وعيون مخالفيه أحمد بن أبي داؤد وهو قاضي قضاة الدنيا لم يحتفل أحد بموته ولم يلتفت إليه ولما مات ما شيعه إلا قليل من أعوان السلطان وكذلك الحارث بن أسد المحاسبي مع زهده وورعه وتنقيره ومحاسبته نفسه في خطراته وحركاته لم يصل عليه إلا ثلاثة أو أربعة من الناس وكذلك بشر بن غياث المريسى لم يصل عليه إلا طائفة يسيرة جدا فلله الأمر من قبل ومن بعد وقد روى البيهقي عن حجاج بن محمد الشاعر أنه قال ما كنت أحب أن أقتل في سبيل الله ولم أصل على الامام أحمد وروى عن رجل من أهل العلم أنه قال يوم دفن أحمد دفن اليوم سادس خمسة وهم أبو بكر وعمر وعلى وعمر بن عبد العزيز وأحمد وكان عمره يوم مات سبعا وسبعين سنة وأياما أقل من شهر رحمه الله تعالى
ذكر ما رئي له من المنامات
وقد صح في الحديث ( لم يبق من النبوة إلا المبشرات ) وفي رواية ( إلا الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له ) وروى البيهقي عن الحاكم سمعت على بن محشاد سمعت جعفر بن محمد بن الحسين سمعت سلمة بن شبيب يقول كنا عند أحمد بن حنبل وجاءه شيخ ومعه عكازة فسلم وجلس فقال من منكم أحمد بن حنبل فقال أحمد أنا ما حاجتك فقال ضربت إليك من أربعمائة فرسخ أريت الخضر في المنام فقال لي سر إلى أحمد بن حنبل وسل عنه وقل له إن ساكن العرش والملائكة راضون بما صبرت نفسك لله عز و جل وعن أبي عبد الله محمد بن خزيمة الاسكندراني قال لما (10/342)
مات أحمد بن حنبل اغتممت غما شديدا فرأيته في المنام وهو يتبختر في مشيته فقلت له يا أبا عبد الله أى مشية هذه فقال مشية الخدام في دار السلام فقلت ما فعل الله بك فقال أغفر لي وتوجني وألبسنى نعلين من ذهب وقال لي يا أحمد هذا بقولك القرآن كلامي ثم قال لي يا أحمد ادعنى بتلك الدعوات التي بلغتك عن سفيان الثوري وكنت تدعو بهن في دار الدنيا فقلت يارب كل شيء بقدرتك على كل شيء اغفر لي كل شيء حتى لا تسألنى عن شيء فقال لي يا أحمد هذه الجنة قم فادخلها فدخلت فاذا أنا بسفيان الثوري وله جناحان أخضران يطير بهما من نخله إلى نخلة ومن شجرة إلى شجرة وهو يقول الحمد لله الذي أورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العالمين قال فقلت له ما فعل بشر الحافي فقال بخ بخ ومن مثل بشر تركته بين يدي الجليل وبين يديه مائدة من الطعام والجليل مقبل عليه وهو يقول كل يامن لا يأكل واشرب يا من لم يشرب وانعم يا من لم ينعم أو كما قال وقال أبو محمد بن أبي حاتم عن محمد بن مسلم ابن وارة قال لما مات أبو زرعة رأيته في المنام فقلت له ما فعل الله بك فقال قال الجبار ألحقوه بأبي عبد الله وأبي عبد الله وأبي عبد الله مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وقال أحمد بن خرزاد الانطاكي رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت وقد برز الرب جل جلاله لفصل القضاء وكأن مناديا ينادي من تحت العرش أدخلوا أبا عبد الله وأبا عبد الله وأبا عبد الله الجنة قال فقلت لملك إلى جنبي من هؤلاء فقال مالك والثوري والشافعي وأحمد بن حنبل وروى أبو بكر بن أبي خيثمة عن يحي بن أيوب المقدسي قال رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم في النوم وهو نائم وعليه ثوب مغطى به وأحمد بن حنبل ويحي بن معين يذبان عنه وقد تقدم في ترجمة احمد بن ابي دؤاد عن يحيى الجلاء انه رأى كأن احمد بن حنبل في حلقة بالمسجد الجامع وأحمد بن أبي داؤد في حلقة أخرى وكأن رسول الله صلى الله عليه و سلم واقف بين حلقتين وهو يتلو هذه الآية فإن يكفر بها هؤلاء ويشير إلى حلقة ابن أبي داؤد فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين ويشير إلى أحمد بن حنبل وأصحابه
ثم دخلت سنة ثنتين وأربعين ومائتين
فيها كانت زلازل هائلة في البلاد فمنها ما كان بمدينة قومس تهدمت منها دور كثيرة ومات من أهلها نحو من خمسة وأربعين ألفا وستة وتسعين نفسا وكانت باليمن وخراسان وفارس والشام وغيرها من البلاد زلازل منكرة وفيها أغارت الروم على بلاد الجزيرة فانتبهوا شيئا كثيرا وأسروا نحوا من عشرة آلاف من الذراري فإنا لله وإنا إليه راجعون وفيها حج بالناس عبد الصمد بن موسى بن إبراهيم الامام بن محمد بن على نائب مكة
وفيها توفي من الأعيان الحسن بن على بن الجعد قاضي مدينة المنصور (10/343)
وأبو حسان الزيادي قاضي الشرقية واسمه الحسن بن عثمان بن حماد بن حسان بن عبد الرحمن بن يزيد البغدادي سمع الوليد بن مسلم ووكيع بن الجراح والواقدي وخلقا سواهم وعنه أبو بكر بن أبي الدنيا وعلى ابن عبد الله الفرغاني الحافظ المعروف بطفل وجماعة ترجمة ابن عساكر في تاريخه قال وليس هو من سلالة زياد بن أبيه إنما تزوج بعض أجداده بأم ولد لزياد فقيل له الزيادي ثم أورد من حديثه بسنده عن جابر ( الحلال بين والحرام بين ) الحديث وروى عن الخطيب أنه قال كان من العلماء الأفاضل من أهل المعرفة والثقة والأمانة ولى قضاء الشرقية في خلافة المتوكل وله تاريخ على السنين وله حديث كثير وقال غيره كان صالحا دينا قد عمل الكتب وكانت له معرفة جيدة بأيام الناس وله تاريخ حسن وكان كريما مفضالا وقد ذكر ابن عساكر عنه أشياء حسنة منها أنه أنفذ إليه بعض أصحابه يذكر له أنه قد أصابته ضائقة في عيد من الأعياد ولم يكن عنده غير مائة دينار فأرسلها بصرتها إليه ثم سأل ذلك الرجل صاحب له أيضا وشكا إليه مثلما شكا إلى الزيادي فأرسل بها الآخر إلى ذلك الآخر وكتب أبو حسان إلى ذلك الرجل الأخير الذي وصلت إليه أخيرا يستقرض منه شيئا وهو لا يشعر بالأمر فأرسل إليه بالمائة في صرتها فلما رآها تعجب من أمرها وركب إليه يسأله عن ذلك فذكر أن فلانا أرسلها إليه فاجتمعوا الثلاثة واقتسموا المائة الدينار رحمهم الله وجزاهم عن مرؤتهم خيرا
وفيها توفي أبو مصعب الزهري أحد رواة الموطأ عن مالك وعبد الله بن ذكوان أحد القراء المشاهير ومحمد بن أسلم الطوسي ومحمد بن رمح ومحمد بن عبد الله بن عمار الموصلي أحد أئمة الجرح والتعديل والقاضي يحي بن أكثم
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين ومائتين
في ذي القعدة منها توجه المتوكل على الله من العراق قاصدا مدينة دمشق ليجعلها له دار إقامه ومحلة إمامة فأدركه عيد الأضحى بها وتأسف أهل العراق على ذهاب الخليفة من بين أظهرهم فقال في ذلك يزيد بن محمد المهبلي ...
أظن الشام تشمت بالعراق ... إذا عزم الامام على انطلاق ... فان يدع العراق وساكنيها ... فقد تبلى المليحة بالطلاق ...
وحج بالناس فيها الذي حج بهم في التي قبلها وهو نائب مكة
وفيها توفي من الأعيان كما قال ابن جرير
إبراهيم بن العباس
متولى ديوان الضياع قلت هو إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول الصولي الشاعر الكاتب (10/344)
وهو عم محمد بن يحي الصولي وكان جده صول بكر ملك جرجان وكان أصله منها ثم تمجس ثم أسلم على يدي يزيد بن المهلب بن أبي صفرة ولابراهيم هذا ديوان شعر ذكره ابن خلكان واستجاد من شعره أشياء منها قوله
... ولرب نازلة يضيق بهاالفتى ... ذرعا وعند الله منها مخرج ... ضاقت فلما استحكمت حلقاتها ... فرجت وكنت أظنها لا تفرج ...
ومنها قوله ... كنت السواد لمقلتي ... فبكى عليك الناظر ... من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر ...
ومن ذلك ما كتب به إلى وزير المعتصم محمد بن عبد الملك بن الزيات
... وكنت أخي بإخاء الزمان ... فلما ثنى صرت حربا عوانا ... وكنت أذم إليك الزمان ... فأصبحت منك أذم الزمانا ... وكنت أعدك للنائبات ... فها أنا أطلب منك الأمانا ...
وله أيضا ... لا يمنعنك خفض العيش في دعه ... نزوع نفس إلى أهل وأوطان ... تلقى بكل بلاد إن حللت بها ... أهلا بأهل وأوطانا بأوطان ...
كانت وفاته بمنتصف شعبان من هذه السنة بسر من رأى والحسن بن مخلد بن الجراح خليفة ابراهيم بن شعبان قال ومات هاشم بن فيجور في ذي الحجة
قلت وفيها توفي أحمد بن سعيد الرباطي والحارث بن أسد المحاسبي أحد أئمة الصيوفية وحرملة ابن يحي التجيبى صاحب الشافعي وعبد الله بن معاوية الجمحي ومحمد بن عمر العدني وهارون ابن عبد الله الحماني وهناد بن السري
ثم دخلت سنة أربع وأربعين ومائتين
في صفر منها دخل الخليفة المتوكل إلى مدينة دمشق في أبهة الخلافة وكان يوما مشهودا وكان عازما على الاقامة بها وأمر بنقل دواوين الملك إليها وأمر ببناء القصور بها فبنيت بطريق داريا فأقام بها مدة ثم إنه استوخمها ورأى أن هواءها بارد ندى وماءها ثقيل بالنسبة إلى هواء العراق ومائه ورأى الهواء بها يتحرك من بعد الزوال في زمن الصيف فلا يزال في اشتداد وغبار إلى قريب من ثلث الليل ورأى كثرة البراغيث بها ودخل عليه فصل الشتاء فرأى من كثرة الأمطار والثلوج أمرا عجيبا وغلت الأسعار وهو بها لكثرة الخلق الذين معه وانقطعت الأجلاب بسبب كثرة الأمطار والثلوج فضجر منها ثم جهز بغا إلى بلاد الروم ثم رجع من آخر السنة إلى سامرا بعد ما أقام بدمشق شهرين وعشرة أيام ففرح به أهل بغداد فرحا شديدا وفيها أتى المتوكل بالحربة (10/345)
التي كانت تحمل بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم ففرح بها فرحا شديدا وقد كانت تحمل بين يدي رسول الله عليه وسلم يوم العيد وغيره وقد كانت للنجاشي فوهبها للزبير بن العوام فوهبها الزبير للنبي صلى الله عليه و سلم ثم ان المتوكل امر صاحب الشرطة ان يحملها بين يديه كما كانت تحمل بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم وفيها غضب المتوكل على الطبيب بختيوشع ونفاه وأخذ ماله وحج بالناس فيها عبد الصمد المتقدم ذكره قبلها واتفق في هذه السنة يوم عيد الأضحى وخميس فطر اليهود وشعانين النصاري وهذا عجيب غريب
وفيها توفي أحمد بن منيع وإسحاق بن موسى الخطمى وحميد بن مسعدة وعبد الحميد بن سنان وعلى بن حجر والوزير محمد بن عبد الملك الزيات ويعقوب بن السكيت صاحب إصلاح المنطق
ثم دخلت سنة خمس وأربعين ومائتين
فيها أمر المتوكل ببناء مدينة الماحوزة وحفر نهرها فيقال إنه أنفق على بنائها وبناء قصر الخلافة بها الذي يقال له اللؤلؤة ألف ألف دينار وفيها وقعت زلازل كثيرة في بلاد شتى فمن ذلك بمدينة إنطاكية سقط فيها ألف وخمسمائة دار وانهدم من سورها نيف وتسعون برجا وسمعت من كوى دورها أصوات مزعجه جدا فخرجوا من منازلهم سراعا يهرعون وسقط الجبل الذي إلى جانبها الذي يقال له الاقرع فساخ في البحر فهاج البحر عند ذلك وارتفع دخان أسود مظلم منتن وغار نهر على فرسخ منها فلا يدري أين ذهب ذكر ابو جعفر بن جرير قال وسمع فيها أهل تنيس ضجة دائمة طويلة مات منها خلق كثير قال وزلزلت فيها الرها والرقة وحران ورأس العين وحمص ودمشق وطرسوس والمصيصة وأذنة وسواحل الشام ورجفت اللاذقية بأهلها فما بقى منها منزل إلا انهدم وما بقي من أهلها إلا اليسير وذهبت جبلة بأهلها وفيها غارت مشاش عين مكة حتى بلغ ثمن القربة بمكة ثمانين درهما ثم أرسل المتوكل فأنفق عليها مالا جزيلا حتى خرجت وفيها مات إسحاق بن أبي إسرائيل وسوار بن عبد الله القاضي وهلال الرازي
وفيها هلك نجاح بن سلمة وقد كان على ديوان التوقيع وقد كان حظيا عند المتوكل ثم جرت له حكاية أفضت به إلى أن أخذ المتوكل أمواله وأملاكه وحواصله وقد اورد قصته ابن جرير مطولة وفيها توفي أحمد بن عبدة الضبي وأبو الحيس القواس مقرى مكة وأحمد بن نصر النيسابوري وإسحاق بن أبي إسرائيل وإسماعيل بن موسى ابن بنت السدى وذو النور المصرى وعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم ومحمد بن رافع وهشام بن عمار وأبو تراب النحشي
وأبن الراوندي
الزنديق وهو أحمد بن يحي بن إسحاق أبو الحسين بن الراوندي نسبة إلى قرية بلاد قاشان (10/346)
ثم نشا ببغداد كان يصف الكتب في الزندقة وكانت لديه فضيلة ولكنه استعملها فيما يضره ولا ينفعه في الدنيا ولا في الاخرة وقد ذكرنا له ترجمة مطولة حسب ما ذكرها ابن الجوزى في سنة ثمان وتسعين ومائتين وانما ذكرناه ههنا لان ابن خلكان ذكر انه توفى في هذه السنة وقد تلبس عليه ولم يحرجه بل مدحه فقال هو ابو الحسين احمد بن اسحاق الراوندى العالم المشهور له مقالة في علم الكلام وكان من الفضلاء في عصره وله من الكتب المصنفة نحو مائة واربعة عشر كتابا منها فضيحة المعتزلة وكتاب التاج وكتاب الزمردة وكتاب القصب وغير ذلك وله محاسن ومحاضرات مع جماعة من علماء الكلام وقد انفرد بمذاهب نقلها عنه اهل الكتاب
توفى سنة خمس واربعين ومائتين برحبة مالك بن طوق التغلبي وقيل ببغداد نقلت ذلك عن ابن خلكان بحروفه وهوغلط وانما ارخ ابن الجوزى وفاته في سنة ثمان وتسعين ومائتين كما سسيأتي له هناك ترجمة مطولة
ذو النون المصرى
ثوبان بن ابراهيم وقيل ابن الفيض بن ابراهيم ابو الفيض المصرى احد مشايخ المشهورين وقد ترجمه ابن خلكان في الوفيات وذكر شيئا من فضائله واحواله وارخ وفاته في هذه السنة وقيل في التي بعدها وقيل في سنة ثمان واربعين ومائتين فالله اعلم وهو معدود في جملة من روى الموطا عن مالك وذكره ابن يونس في تاريخ مصر وقال كان ابوه نوبيا وقيل انه كان من اهل اخيم وكان حكيما فصيحا وقيل سئل عن سبب توبته فذكر انه راى قبره عمياء نزلت من وكرها فانشقت لها الارض عن سكرجتين من ذهب وفضة في احداهما سمسم وفي الاخرى ماء فأكلت من هذه وشربت من هذه وقد شكى عليه مرة الى المتوكل فاحضره من مصر الى العراق فلما دخل عليه وعظه فأبكاه فرده مكرما فكان بعد ذلك اذا ذكر عند المتوكل يثني عليه
ثم دخلت سنة ست واربعين ومائتين
في يوم عاشوراء منها دخلن المتوكل الماحوزة فنزل بقصر الخلافة فيها واستدعى بالقراء ثم بالمطربين واعطى واطلق وكان يوما مشهودا وفي صفر منها وقع الفداء بين المسلمين والروم ففدى من المسلمين نحو من اربعة الاف اسير وفي شعبان منها امطرت بغداد مطرا عظيما استمر نحو من احد وعشرين يوما ووقع بارض بلخ مطر ماؤه دم عبيط وفيه حج بالناس محمد بن سليمان الزنيبي وحج فيها من الاعيان محمد بن عبدالله بن طاهر وولى امر الموسم
وممن توفى فيها من الاعيان احمد بن ابراهيم الدورقي والحسين بن ابي الحسن المروزى وابو عمر الدورى احد القراء المشاهير ومحمد بن مصفي الحمصي (10/347)
ودعبل بن على
ابن رزين بن سليمان الخزاعي مولاهم الشاعر الماجن البليغ في المدح وفي الهجاء أكثر حضر يوما عند سهل بن هارون الكاتب وكان بخيلا فاستدعى بغدائه فإذا ديك في قصعة وإذا هو قاس لا يقطعه سكين إلا بشدة ولا يعمل فيه ضرس فلما حضر بين يديه فقد رأسه فقال للطباخ ويلك ماذا صنعت أين رأسه قال طننت أنك لا تأكله فألقيته فقال ويحك والله إني لأعيب على من يلقي الرجلين فكيف بالرأس وفيه الحواس الأربع ومنه يصوت وبه فضل عينيه وبهما يضرب المثل وعرفه وبه يتبرك وعظمه أهنى العظام فإن كنت رغبت عن أكله فأحضره فقال لا أدري أين هو فقال بل أنا أدري هو في بطنك قاتلك الله فهجاه بأبيات ذكر فيها بخله ومسكه
أحمد بن أبي الحواري
واسمه عبد الله بن ميمون بن عياش بن الحارث أبو الحسن التغلبي الغطفاني أحد العلماء الزهاد المشهورين والعباد المذكورين والأبرار المشكورين ذوى الأحوال الصالحة والكرامات الواضحة أصله من الكوفة وسكن دمشق وتخرج بأبي سليمان الداراني رحمهما الله وروى الحديث عن سفيان بن عيينة ووكيع وأبي أسامة وخلق وعنه أبو داود وابن ماجه وأبو حاتم وأبو زرعة الدمشقي وأبو زرعة الرازي وخلق كثير وقد ذكره أبو حاتم فأثنى عليه وقال يحي بن معين إني لأظن أن الله يسقى أهل الشام به وكان الجنيد بن محمد يقول هو ريحانه الشام
وروى ابن عساكر أنه كان قد عاهد أبا سليمان الدارني ألا يغضبه ولا يخالفه فجاءه يوما وهو يحدث الناس فقال يا سيدي هذا قد سجروا التنور فماذا تأمر فلم يرد عليه أبو سليمان لشعله بالناس ثم أعادها أحمد ثانية وقال له في الثالثة اذهب فاقعد فيه ثم اشتغل أبو سليمان في حديث الناس ثم استفاق فقال لمن حضره إني قلت لأحمد اذهب فاقعد في التنور وإني أحسب أن يكون قد فعل ذلك فقوموا بنا إليه فذهبوا فوجدوه جالسا في التنور ولم يحترق منه شيء ولا شعرة واحدة وروى أيضا أن أحمد بن أبي الحواري أصبح ذات يوم وقد ولد له ولد ولا يملك شيئا يصلح به الولد فقال لخادمه اذهب فاستدن لنا وزنة من دقيق فبينما هو في ذلك إذ جاءه رجل بمائتي درهم فوضعها بين يديه فدخل عليه رجل في تلك الساعة فقال يا أحمد إنه قد ولد لي الليلة ولد ولا أملك شيئا فرفع طرفه إلى السماء وقال يا مولاى هكذا بالعجلة ثم قال للرجل خذ هذه الدراهم فأعطاه إياها كلها ولم يبق منها شيئا واستدان لأهله دقيقا وروى عنه خادمه أنه خرج للثغر لأجل الرباط فما زالت الهدايا تفد إليه من بركة النهار إلى الزوال ثم فرقها كلها إلى وقت (10/348)
الغروب ثم قال لي كن هكذا لاترد على الله شيئا ولاتدخر عنه شيئا
ولما جاءت المحنة في زمن المأمون إلى دمشق بخلق القرآن عين فيها أحمد بن أبي الحواري وهشام ابن عمار وسليمان بن عبد الرحمن وعبد الله بن ذكوان فكلهم أجابوا إلا ابن أبي الحواري فحبس بدار الحجارة ثم هدد فأجاب تورية مكرها ثم أطلق رحمه الله وقد قام ليلة بالثغر يكرر هذه الأية اياك نعبد واياك نستعين حتى أصبح وقد ألقى كتبه في البحر وقال نعم الدليل كنت لي على الله وإليه ولكن الاشتغال بالدليل بعد معرفة المدلول عليه والوصول إليه محال ومن كلامه لا دليل على الله سواه وإنما يطلب العلم لآداب الخدمة وقال من عرف الدنيا زهد فيها ومن عرف الآخره رغب فيها ومن عرف الله آثر رضاه وقال من نظر إلى الدنيا نظر إرادة وحب لها أخرج الله نور اليقين والزهد من قلبه وقال قلت لأبي سليمان في ابتداء أمري أوصني فقال اتستوص أنت فقلت نعم إن شاء الله تعالى فقال خالف نفسك في كل مراداتها فإنها الأمارة بالسوء وإياك أن تحقر إخوانك المسلمين واجعل طاعة الله دثارا والخوف منه شعارا والاخلاص له زادا والصدق حسنة واقبل منى هذه الكلمة الواحدة ولا تفارقها ولاتغفل عنها من استحي من الله في كل أوقاته وأحواله وأفعاله بلغه الله إلى مقام الأولياء من عباده قال فجعلت هذه الكلمات أمامي في كل وقت أذكرها وأطالب نفسي بها والصحيح أنه توفي في هذة السنة وقيل في سنة ثلاثين ومائتين وقيل غير ذلك فالله أعلم
ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائتين
في شوال منها كان مقتل الخليفة المتوكل على الله على يد ولده المنتصر وكان سبب ذلك أنه أمر ابنه عبدالله المعتز الذي هو ولي العهد من بعده أن يخطب بالناس في يوم جمعة فأداها أداء عظيما بليغا فبلغ ذلك من المنتصر كل مبلغ وحنق على أبيه وأخيه فأحضره أبوه وأهانه وأمر بضربه في رأسه وصفعه وصرح بعزله عن ولاية العهد من بعد أخيه فاشتد أيضا حنقه أكثر مما كان فلما كان يوم عيد الفطر خطب المتوكل بالناس وعنده بعض ضعف من علة به ثم عدل إلى خيام قد ضربت له أربعة أميال في مثلها فنزل هناك ثم استدعى في يوم ثالث شوال بندمائة على عادته في سمره وحضرته وشربه ثم تمالأ ولده المنتصر وجماعة من الأمراء على الفتك به فدخلوا عليه ليلة الأربعاء لأربع خلون من شوال ويقال من شعبان من هذه السنة وهو على السماط فابتدروه بالسيوف فقتلوه ثم ولوا بعده ولده المنتصر
ترجمة المتوكل على الله
جعفر بن المعتصم بن الرشيد بن محمد المهدي بن المنصور العباسي وأم المتوكل أم ولد يقال لها (10/349)
شجاع وكانت من سروات النساء سنحا وحزما كان مولده بفم الصلح سنة سبع ومائتين وبويع له بالخلافة بعد أخيه الواثق في يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة لسنة ثنتين وثلاثين ومائتين
وقد روى الخطيب من طريقه عن يحي بن أكثم عن محمد بن عبد الوهاب عن سفيان عن الأعمش عن موسى بن عبدالله بن يزيد عن عبد الرحمن بن هلال عن جرير بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ( من حرم الرفق حرم الخير ) ثم أنشأ المتوكل يقول
... الرفق بمن والأناة سعادة ... فاستأن في رفق تلاق نجاحا ... لا خير في حزم بغير روية ... والشك وهن إن أردت سراحا ...
وقال ابن عساكر في تاريخه وحدث عن أبيه المعتصم ويحي بن أكثم القاضي وروى عنه على ابن الجهم الشاعر وهشام بن عمار الدمشقي وقدم المتوكل دمشق في خلافته وبنى بها قصرا بأرض داريا وقال يوما لبعضهم إن الخلفاء تتغضب على الرعية لتطيعها وإني ألين لهم ليحبوني ويطيعوني وقال أحمد بن مروان المالكي ثنا أحمد بن على البصري قال وجه المتوكل إلى أحمد بن المعذل وغيره من العلماء فجمعهم في داره ثم خرج عليهم فقام الناس كلهم إليه إلا أحمد بن المعذل فقال المتوكل لعبيد الله إن هذا لا يرى بيعتنا فقال يا أمير المؤمنين بلى ولكن في بصره سوء فقال أحمد بن المعذل يا أمير المؤنين مافي بصرى سوء ولكن نزهتك من عذاب الله قال النبي صلى الله عليه و سلم ( من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار ) فجاء المتوكل فجلس إلى جنبه وروى الخطيب أن على بن الحهم دخل على المتوكل وفي يده درتان يقلبهما فأنشده قصيدته التي يقول فيها
... وإذا مررت ببئر عروة فاستقي من مائها ...
فأعطاه التي في يمينه وكانت تساوي مائة ألف ثم أنشده
... بسر من رأى أمير ... تغرف من بحره البحار ... يرجى ويخشى لكل خطب ... كأنه جنة ونار ... الملك فيه وفي بنيه ... ما اختلف الليل والنهار ... يداه في الجود ضرتان ... عليه كلتاهما تغار ... لم تأت منه اليمين شيئا ... إلا أتت مثله اليسار ...
قال فأعطاه التي في يساره أيضا قال الخطيب وقد رويت هذه الأبيات لعلى بن هارون البحتري في المتوكل وروى ابن عساكر عن على بن الجهم قال وقفت فتحية حظية المتوكل بين يديه وقد كتبت على خدها بالغالية جعفر فتأمل ذلك ثم أنشأ يقول (10/350)
وكاتبة في الخد بالمسك جعفرا ... بنفسي تحط المسك من حيث أثرا ... لئن أودعت سطرا من المسك خدها ... لقد أودعت قلبي من الحب أسطرا ... فيامن مناها في السريرة جعفر ... سقا الله من سقيا ثناياك جعفرا ... ويامن لملوك بملك يمينه ... مطيع له فيما أسر وأظهر ...
قال ثم أمر المتوكل عربا فغنت به وقال الفتح بن خاقان دخلت يوما على المتوكل فاذا هو مطرق مفكر فقلت يا أمير المؤمنين مالك مفكر فوالله ما على الأرض أطيب منك عيشا ولا أنعم منك بالا قال بلى أطيب منى عيشا رجل له دار واسعة وزوجة صالحة ومعيشة حاضرة لا يعرفنا فنؤذييه ولا يحتاج إلينا فنزدريه وكان المتوكل محببا إلى رعيته قائما في نصرة أهل السنة وقد شبهه بعضهم بالصديق في قتله أهل الردة لأنه نصر الحق ورده عليهم حتى رجعوا إلى الدين وبعمر بن عبد العزيز حين رد مطالم بنى أمية وقد أظهر السنة بعد البدعة وأحمد أهل البدع وبدعتهم بعد انتشارها واشتهارها فC وقد رآه بعضهم في المنام بعد موته وهو جالس في نور قال فقلت المتوكل قال المتوكل قلت فما فعل بك ربك قال غفر لي قلت بماذا قال بقليل من السنة أحييتها وروى الخطيب عن صالح بن أحمد أنه رأى في منامه ليلة مات المتوكل كأن رجلا يصعد به إلى السماء وقائلا يقول
... ملك يقاد إلى مليك عادل ... متفضل في العفو ليس بجائر ...
وروى عن عمرو بن شيبان الحلبي قال رأيت ليلة المتوكل قائلا يقول
... يا نائم العين في أوطان جثمان ... أفض دموعك يا عمرو بن شيبان ... أما ترى الفئة الأرجاس ما فعلوا ... بالهاشمي وبالفتح بن خاقان ... وافى إلى الله مظلوما فضج له ... أهل السموات من مثنى ووحدان ... وسوف يأتيكم من بعده فتن ... توقعوها لها شأن من الشان ... فابكوا على جعفر وابكوا خليفتكم ... فقد بكاه جميع الأنس والجان ...
قال فلما أصبحت أخبرت الناس برؤياي فجاء نعى المتوكل أنه قد قتل في تلك الليلة قال ثم رأيته بعد هذا بشهر وهو واقف بين يدي الله عز و جل فقلت ما فعل بك ربك فقال غفر لي قلت بماذا قال بقليل من السنة أحييتها قلت فما تصنع ههنا قال أنتظر ابنى محمدا أخاصمه إلى الله الحليم العظيم الكريم
وذكرنا قريبا كيفية مقتله وأنه قتل في ليلة الأربعاء أول الليل لأربع خلت من شوال من هذة السنة أعنى سنة سبع وأربعين ومائتين بالمتوكلية وهي الماحوزية وصلى عليه يوم الأربعاء (10/351)
ودفن بالجعفرية وله من العمر أربعون سنة وكانت مدة خلافته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وثلاثة أيام وكان أسمر حسن العينين نحيف الجسم خفيف العارضين أقرب إلى القصر والله سبحانه أعلم
خلافة محمد المنتصر بن المتوكل
قد تقدم أنه تمالأ هو وجماعة من الأمراء على قتل أبيه وحين قتل بويع له بالخلافة في الليل فلما كان الصباح من يوم الأربعاء رابع شوال أخذت له البيعة من العامة وبعث إلى أخيه المعتز فأحضره إليه فبايعه المعتز وقد كان المعتز هو ولي العهد من بعد أبيه ولكنه أكرهه وخاف فسلم وبايع فلما أخذت البيعة له كان أول ما تكلم به أنه اتهم الفتح بن خاقان على قتل أبيه وقتل الفتح أيضا ثم بعث البيع له إلى الآفاق وفي ثاني يوم من خلافته ولى المظالم لأبي عمرة أحمد ابن سعيد مولى بنى هاشم فقال الشاعر
... يا ضيعة الإسلام لما ولى ... مظالم الناس أبو عمره ... صير مأمونا على أمة ... وليس مأمونا على بعرة ...
وكانت البيعة له بالمتوكلية وهي المأحوزة فأقام بها عشرة أيام ثم تحول هو وجميع قواده وحشمه منها إلى سامرا وفيها في ذي الحجة أخرج المنتصر عمه على بن المعتصم من سامرا إلى بغداد ووكل به وحج بالناس محمد بن سليمان الزينبي وفيها توفي من الأعيان إبراهيم بن سعيد الجوهري وسفيان بن وكيع بن الجراح وسلمة بن شبيب
وأبو عثمان المازني النحوي
واسمه بكر بن محمد بن عثمان البصري شيخ النحاة في زمانه أخذه عن أبي عبيدة والاصمعي وأبي زيد الأنصاري وغيرهم وأخذ عنه أبو العباس المبرد واكثر عنه وللمازني مصنفات كثيرة في هذا الشأن وكان شبيها بالفقهاء ورعا زاهدا ثقة مأمونا روى عنه المبرد أن رجلا من أهل الذمة طلب منه أن يقرأ عليه كتاب سيبويه ويعطيه مائة دينار فامتنع من ذلك فلامه بعض الناس في ذلك فقال إنما تركت أخذ الأجرة عليه لما فيه من آيات الله تعالى فاتفق بعد هذا أن جارية غنت بحضرة الواثق ... أظلوم إن مصابكم رجلا ... رد السلام تحية ظلم ...
فاختلف من بحضرة الواثق في إعراب هذا البيت وهل يكون رجلا مرفوعا أو منصوبا وبم نصب أهو اسم أو ماذا وأصرت الجارية على أن المازني حفظها هذا هكذا قال فأرسل الخليفة إليه فلما مثل بين يديه قال له أنت المازني قال نعم قال من مازن تميم أم من مازن ربيعة أم مازن قيس فقلت من مازن ربيعة فأخذ يكلمني بلغتي فقال باسمك وهم يقلبون الباء ميما والميم باء فكرهت أن أقول مكر فقلت بكر فأعجبه إعراضي عن المكر إلى البكر وعرف ما أردت (10/352)
فقال علما انتصب رجلا فقلت لأنه معمول المصدر بمصابكم فأخذ اليزيدي يعارضه فعلاه المازني بالحجة فأطلق له الخليفة ألف دينار إلى أهله مكرما فعوضه الله عن المائة الدينار لما تركها لله سبحانه ولم يمكن الذمي من قراءة الكتاب لأجل ما فيه من القرآن ألف دينار عشرة أمثالها روى المبرد عنه قال أقرأت رجلا كتاب سيبويه إلى آخره فلما انتهى إلى آخره قال لي أما أنت أيها الشيخ فجزاك الله خيرا وأما أنا فوالله ما فهمت منه حرفا توفي المازني في هذه السنة وقيل في سنة ثمان وأربعين
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائتين
فيها أغزى المنتصر وصيفا التركي الصائفة لقتال الروم وذلك أن ملك الروم فصد بلاد الشام فعند ذلك جهز المنتصر وصيفا وجهز معه نفقات وعددا كثيرة وأمره إذا فرغ من قتال الروم أن يقيم بالثغر أربع سنين وكتب له إلى محمد بن عبد الله بن طاهر نائب العراق كتابا عظيما فيه آيات كثيرة في التحريض للناس على القتال والترغيب فيه وفي ليلة السبت لسبع بقين من صفر خلع أبو عبد الله المعتز والمؤيد إبراهيم أنفسهما من الخلافة وأشهدا عليهما بذلك وأنهما عاجزان عن الخلافة والمسلمين في حل من بيعتهما وذلك بعدما تهددهما أخوهما المنتصر وتوعدهما بالقتل إن لم يفعلا ذلك ومقصودة تولية ابنه عبد الوهاب باشارة أمراء الأتراك بذلك وخطب بذلك على رؤس الأشهاد بحضرةالقواد والقضاة وأعيان الناس والعوام وكتب بذلك إلى ألأفاق ليعلموا بذلك ويخطبوا له بذلك على المنابر ويتوالى على محال الكتابة والله غالب على أمره فأراد أن يسليهما الملك ويجعله في ولده والأقدار تكذبه وتخالفه وذلك أنه لم يستكمل بعد قتل أبيه سوى ستة أشهر ففي أواخر صفر من هذه السنة عرضت له علة كان فيها حتفه وقد كان المنتصر رأى في منامه كأنه يصعد سلما فبلغ إلى آخر خمس وعشرين درجة فقصها على بعض المعبرين فقال تلى خمسا وعشرين سنة الخلافة وإذا هي مدة عمره قد استكملها في هذه السنة وقال بعضهم دخلنا عليه يوما فإذا هو يبكي وينتحب شديدا فسأله بعض أصحابه عن بكائه فقال رأيت أبي المتوكل في منامي هذا وهو يقول ويلك يا محمد قتلتني وظلمتني وغصبتني خلافتي والله لا أمتعت بها بعدى إلا أياما يسيره ثم مصيرك إلى النار قال فما أملك عينى ولا جزعي فقال له أصحابه من الغرارين الذين يغرون الناس ويفتنونهم هذه رؤيا وهي تصدق وتكذب قم بنا إلى الشراب ليذهب همك وحزنك فأمر بالشراب فأحضر وجاء ندماؤه فأخذ في الخمر وهو منكسر الهمة وما زال كذلك مكسورا حتى مات
وقد اختلفوا في علته التي كان فيها هلاكه فقيل داء في رأسه فقطر في أذنه دهن فلما وصل (10/353)
إلى دماغه عوجل بالموت وقيل بل ورمت معدته فانتهى الورم إلى قلبه فمات وقيل بل أصابته ذبحة فاستمرت به عشرة أيام فمات وقيل بل فصده الحجام بمفصد مسموم فمات من يومه قال ابن جرير أخبرني بعض أصحابنا أن هذا الحجام رجع إلى منزله وهو محموم فدعا تلميذا له حتى يفصده فأخذ مبضع أستاذه ففصده به وهو لا يشعر وأنسى الله سبحانه الحجام فما ذكر حتى رآه قد فصده به وتحكم فيه السم فأوصى عند ذلك ومات من يومه وذكر ابن جرير أن أم الخليفة دخلت عليه وهو في مرضه الذي مات فيه فقالت له كيف حالك فقال ذهبت منى الدنيا والآخرة ويقال إنه أنشد لما أحيط به وأيس من الحياة ... فما فرحت نفسي بدنيا أصبتها ... ولكن إلى الرب الكريم أصير ...
فمات يوم الأحد لخمس بقين من ربيع الآخر من هذه السنة وقت صلاة العصر عن خمس وعشرين سنة قيل وستة أشهر ولا خلاف أنه إنما مكث بالخلافة ستة أشهر لا أزيد منها وذكر ابن جرير عن بعض أصحابه أنه لم يزل يسمع الناس يقولون العامة وغيرهم حين ولى المنتصر إنه لا يمكث في الخلافة سوى ستة أشهر وذلك مدة خلافة من قبل أباه لأجلها كما مكث شبرويه بن كسرى حين قتل أباه لأجل الملك وكذلك وقع وقد كان المنتصر أعين أقنى قصيرا مهيبا جيد البدن وهو أول خليفة من بنى العباس أبرز قبره بإشارة أمه حبشية الرومية
ومن جيد كلامه قوله والله ما عز ذو باطل قط ولو طلع القمر من جبنيه ولا ذل ذو حق قط ولو أصفق العالم
عليه بحمد الله تعالى قد تم طبع الجزء العاشر من البداية والنهاية ويليه الجزء الحادي عشر وأوله خلافة أحمد المستعين بالله والله نسأل المعونة والتوفيق (10/354)
بسم الله الرحمن الرحيم
خلافة المستعين بالله وهو أبو العباس أحمد بن محمد المعتصم بويع له بالخلافة يوم مات المنتصر بايعه عموم الناس ثم خرجت عليه شرذمة من الأتراك يقولون يا معتز يا منصور فالتف عليهم خلق وقام بنصر المستعين جمهور الجيش فاقتتلوا قتالا شديدا أياما فقتل منهم خلق من الفريقين وانتهبت أماكن كثيرة من بغداد وجرت فتن منتشرة كثيرة جدا ثم استقر الأمر للمستعين فعزل وولي وقطع ووصل وأمر ونهى أياما ومدة غير طويلة وفيها مات بغا الكبير في جمادى الآخرة منها فولي الخليفة مكانه ولده موسى بن بغا وقد كانت له همم عاليه وآثار سامية وغزوات في المشارق والمغارب متوالية وكان له من المتاع والضياع ما قيمته عشرة آلاف ألف دينار وترك عشر حبات جوهر قيمتها ثلاثة آلاف ألف دينار وثلاث جبات سلا ذهبا وورق وفيها عدا أهل حمص على عاملهم فأخرجوه من بين أظهرهم فأخذ منهم المستعين مائة رجل من سراتهم وأمر يهدم سورهم وفيها حج بالناس محمد بن سليمان الزينبي وفيها توفي من الأعيان أحمد بن صالح والحسين بن علي الكرابيسي وعبد الجبار بن العلاء وعبدالملك بن شعيب وعيسى بن حماد ومحمد بن حميد الرازي ومحمد بن زينور ومحمد بن العلاء أبو كريب ومحمد بن يزيد أبو هشام الرفاعي
وأبو حاتم السجستاني واسمه سهل بن محمد بن عثمان بن يزيد الجشمي أبو حاتم النحوي اللغوي صاحب المصنفات (11/2)
الكثيرة وكان بارعا في اللغة اشتغل فيها على أبي عبيد والأصمعي وأكثر الرواية عن أبي ريد الأنصاري وأخذ عنه المبرد وابن دريد وغيرهما وكان صالحا كثير الصدقة والتلاوة كان يتصدق كل يوم بدينار ويقرأ في كل أسبوع بختمة وله شعر كثير منه قوله ... أبرزوا وجهه الجميل ... ولاموا من افتتن ... لو أرادوا صيانتي ... ستروا وجهه الحسن ... كانت وفاته في المحرم وقيل في رجب من هذه السنة
ثم دخلت سنة تسع وأربعين ومائتين
في يوم الجمعة للنصف من رجب التقي جمع من المسلمين وخلق من الروم بالقرب من ملطية فاقتتلوا قتالا شديدا قتل من الفريقين خلق كثير وقتل أمير المسلمين عمر بن عبدالله بن الأقطع وقتل معه ألفا رجل من المسلمين وكذلك قتل علي بن يحيى الأرمني وكان أميرا في طائفة من المسلمين أيضا فإنا لله وإنا إليه راجعون وقد كان هذان الأميران من أكبر أنصار الإسلام ووقعت فتنة عظيمة ببغداد في أول يوم من صفر منها وذلك أن العامة كرهوا جماعة من الأمراء الذين قد تغلبوا على أمر الخلافة وقتلوا المتوكل واستضعفوا المنتصر والمستعين بعده فنهضوا إلى السجن فأخرجوا من كان فيه وجاؤا إلى أحد الجسرين فقطعوه وضربوا الآخر بالنار وأحرقوا ونادوا بالنفير فاجتمع خلق كثير وجم غفير ونهبوا أماكن متعددة وذلك بالجانب الشرقي من بغداد ثم جمع أهل اليسار أموالا كثيرة من أهل بغداد لتصرف إلى من ينهض إلى ثغور المسلمين لقتال العدو عوضا عن من قتل من المسلمين هناك فأقبل الناس من نواحي الجبال وأهواز وفارس وغيرها لغزو الروم وذلك أن الخليفة والجيش لم ينهضوا إلى بلاد الروم وقتال أعداء الإسلام وقد ضعف جانب الخلافة واشتغلوا بالقيان والملاهي فعند ذلك غضبت العوام من ذلك وفعلوا ما ذكرنا ولتسع بقين من ربيع الأول نهض عامة أهل سامرا إلى السجن فأخرجوا من فيه أيضا كما فعل أهل بغداد وجاءهم قوم من الجيش يقال لهم الزرافة فهزمتهم العامة فعند ذلك ركب وصيف وبغا الصغير وعامة الأتراك فقتلوا من العامة خلقا كثيرا وجرت فتن طويلة ثم سكنت وفي منتصف ربيع الآخر وقعت فتنة بين الأتراك وذلك أن المستعين قد فوض أمر الخلافة والتصرف في أموال بيت المال إلى ثلاثة وهم أتامش التركي وكان أخص من عند الخليفة وهو بمنزلة الوزير وفي حجره العباس بن المستعين يربيه ويعلمه الفروسية وشاهك الخادم وأم الخليفة وكان لا يمنعها شيئا تريده وكان لها كاتب يقال له سلمة بن سعيد النصراني فأقبل أتامش فأسرف في أخذ الأموال حتى لم يبق ببيت المال شيئا فغضب الأتراك من ذلك وغاروا منه فاجتمعوا (11/3)
وركبوا عليه وأحاطوا بقصر الخلافة وهو عند المستعين ولم يمكنه منعه منهم ولا دفعهم عنه فأخذوه صاغرا فقتلوه وانتهبوا أمواله وحواصله ودوره واستوزر الخليفة بعده أبا صالح عبدالله بن محمد بن يزداد وولي بغا الصغير فلسطين وولى وصيفا الأهواز وجرى خبط كثير وشر كثير ووهن الخليفة وضعف وتحركت المغاربة بسامرا في يوم الخميس لثلاث خلون من جمادى الآخرة فكانوا يجتمعون فيركبون ثم يتفرقون وفي يوم الجمعة لخمس بقين من جمادى الأولى وهو اليوم السادس عشر من تموز مطر أهل سامرا مطرا عظيما برعد شديد وبرق متصل وغيم منعقد مطبق والمطر مستهل كثير من أول النهار إلى اصفرار الشمس وفي ذي الحجة أصاب أهل الري زلزلة شديدة جدا ووتبعتها رجفة هائلة تهدمت منها الدور ومات منها خلق كثير وخرج بقية أهلها إلى الصحراء وفيها حج بالناس عبدالصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام وهو والي مكة وفيها توفي من الأعيان أيوب بن محمد الوزان والحسن بن الصباح البزار صاحب كتاب السنن ورجاء بن مرجا الحافظ وعبد بن حميد صاحب التفسير الحافل وعمرو بن علي الفلاس
وعلي بن الجهم
ابن بدر بن مسعود بن أسد القرشي السامي من ولد سامة بن لؤي الخراساني ثم البغدادي أحد الشعراء المشهورين وأهل الديانة المعتبرين وله ديوان شعر فيه أشعار حسنة وكان فيه تحامل على علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان له خصوصية بالتوكل ثم غضب عليه فنفاه إلى خراسان وأمر نائبه بها أن يضربه مجردا ففعل به ذلك ومن مستجاد شعره ... بلاء ليس يعدله بلا ... عداوة غير ذي حسب ودين ... يبيحك منه عرضا لم يصنه ... ويرتع منك في عرض مصون ... قال ذلك في مروان بن حفصة حين هجاه فقال في هجائه له ... لعمرك ما الجهم بن بدر بشاعر ... وهذا على بعده يدعي الشعرا ... ولكن أبي قد كان جارا لأمه ... فلما ادعى الأشعار أوهمني أمرا ... كان علي بن الجهم قد قدم الشام ثم عاد قاصدا العراق فلما جاوز حلب ثار عليه أناس من بني كلب فقاتلهم فجرح جرحا بليغا فكان فيه حتفه فوجد في ثيابه رقعة مكتوب فيها ... يا رحمتا للغريب بالبلد النا ... زح ماذا بنفسه صنعا ... فارق أحبابه فما انتفعوا ... بالعيش من بعده وما انتفعا ... كانت وفاته هذا السبب في هذه السنة (11/4)
ثم دخلت سنة خمسين ومائتين من الهجرة
فيها كان ظهور أبي الحسين يحيى بن عمر بن يحيى بن حسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وأمه أم الحسين فاطمة بنت الحسين بن عبدالله بن إسماعيل بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب وذلك أنه أصابته فاقة شديدة فدخل سامرا فسأل وصيفا أن يجري عليه رزقا فأغلظ له القول فرجع إلى أرض الكوفة فاجتمع عليه خلق من الأعراب وخرج إليه خلق من أهل الكوفة فنزل على الفاوجة وقد كثر الجمع معه فكتب محمد بن عبدالله بن طاهر نائب العراق إلى عاملة بالكوفة وهو أبو أيوب بن الحسن بن موسى بن جعفر بن سليمان يأمره بقتاله ودخل يحيى بن عمر قبل ذلك في طائفة من أحصابه إلى الكوفة فاحتوى على بيت مالها فلم يجد فيه سوى ألفي دينار وسبعين ألف درهم وظهر أمره بالكوفة وفتح السجنين وأطلق من فيهما وأخرج نواب الخليفة منها وأخذ أموالهم واستحوذ عليها واستحكم أمره بها والتف عليه خلق من الزيدية وغيرهم ثم خرج من الكوفة إلى سوادها ثم كر راجعا إليها فتلقاه عبدالرحمن بن الخطاب الملقب وجه الفلس فقاتله قتالا شديدا فانهزم وجه الفلس ودخل يحيى بن عمر الكوفة ودعا إلى الرضى من آل محمد وقوى أمره جدا وصار إليه جماعة كثيرة من أهل الكوفة وتولاه أهل بغداد من العامة وغيرهم ممن ينسب إلى التشيع وأحبوه أكثر من كل من خرج قبله من أهل البيت وشرع في تحصيل السلاح وإعداد آلات الحرب وجمع الرجال وقد هرب نائب الكوفة منها إلى ظاهرها واجتمع إليه أمداد كثيرة من جهة الخليفة مع محمد بن عبدالله بن ظاهر واستراحوا وجمعوا خيولهم فلما كان اليوم الثاني عشر من رجب أشار من أشار على يحيى بن عمر ممن لا رأي له أن يركب ويناجز الحسين بن إسماعيل ويكبس جيشه فركب في جيش كثير فيه خلق من الفرسان والمشاة أيضا من عامة أهل الكوفة بغير أسلحة فساروا إليهم فاقتتلوا قتالا شديدا في ظلمة آخر الليل فما طلع الفجر إلا وقد انكشف أصحاب يحيى بن عمر وقد تقنطر به فرسه ثم طعن في ظهره فخر أيضا فأخذوه وحزوا رأسه وحملوه إلى الأمير فبعثوه إلى ابن ظاهر فأرسله إلى الخليفة من الغد مع رجل يقال له عمر بن الخطاب أخي عبدالرحمن بن الخطاب فنصب بسامرا ساعة من النهار ثم بعث به إلى بغداد فنصب عند الجسر ولم يمكن نصبه من كثرة العامة فجعل في خزائن السلاح ولما جيء برأس يحيى بن عمر إلى محمد بن عبدالله بن طاهر دخل الناس يهنونه بالفتح والظفر فدخل عليه أبو هاشم داود بن الهيثم الجعفري فقال له أيها الأمير إنك لتهنى بقتل رجل لو كان رسول الله ( ص ) حيا لعزى به فما رد عليه شيئا ثم خرج أبو هاشم الجعفري وهو يقول ... يا بني طاهر كلوه وبيا ... إن لحم النبي غير مري (11/5)
إن وترا يكون طالبه الله ... ه لوتر نجاحه بالحري ... وكان الخليفة قد وجه أميرا إلى الحسين بن إسماعيل نائب الكوفة فلما قتل يحيى بن عمر دخلوا الكوفة فأراد ذلك الأمير أن يضع في أهلها السيف فمنعه الحسين وأمن الأسود والأبيض وأطفأ الله هذه الفتنة فلما كان رمضان من هذه السنة خرج الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسين بن زيد ابن الحسن بن علي بن أبي طالب بناحية طبرستان وكان سبب خروجه أنه لما قتل يحيى بن عمر أقطع المستعين لمحمد بن عبدالله بن طاهر طائفة من أرض تلك الناحية فبعث كاتبا له يقال له جابر بن هارون وكان نصرانيا ليتسلم تلك الأراضي فلما انتهى إليهم كرهوا ذلك جدا وأرسلوا إلى الحسن بن زيد هذا فجاء إليهم فبايعوه والتف عليه جملة الديلم وجماعة الأمراء في تلك النواحي فركب فيهم دخل آهل طبرستان وأخذها قهرا وجبى خراجها واستفحل أمره جدا ثم خرج منها طالبا لقتال سليمان بن عبدالله أمير تلك الناحية فالتقيا هنالك فكانت بينهما حروب ثم انهزم سليمان هزيمة منكرة وترك أهله وماله ولم يرجع دون جرحان فدخل الحسن بن زيد سارية فأخذ ما فيها من الأموال والحواصل وسير أهل سليمان إليه مكرمين على مراكب واجتمع للحسن بن زيد إمرة طبرستان بكمالها ثم بعث إلى الري فأخذها ايضا وأخرج منها الطاهرية وصار إلى جند همذان ولما بلغ خبره المستعين وكان مدير ملكه يومئذ وصيف التركي اغتم لذلك جدا واجتهد في بعث الجيوش والأمداد لقتال الحسن بن زيد هذا وفي يوم عرفة منها ظهر بالري أحمد بن عيسى بن حسين الصغير بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وإدريس بن موسى بن عبدالله بن موسى بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب فصلى بالناس يوم العيد أحمد بن عيسى هذا ودعا إلى الرضى من آل محمد فحاربه محمد بن علي بن طاهر فهزمه أحمد بن عيسى هذا واستفحل أمره وفيها وثب أهل حمص على عاملهم الفضل بن قارن فقتلوه في رجب فوجه المستعين إليهم موسى بن بغا الكبير فاقتتلوا بأرض الرستن فهزمهم وقتل جماعة من أهلها وأحرق أماكن كثيرة منها وأسر أشراف أهلها وفيها وثبت الشاكرية والجند في أرض فارس على عبدالله بن إسحاق بن إبراهيم فهرب منهم فانتهبوا داره وقتلوا محمد بن الحسن بن قارن وفيها غضب الخليفة على جعفر بن عبدالواحد ونفاه إلى البصرة وفيها أسقطت مرتبة جماعة من الأمويين في دار الخلافة وفيها حج بالناس جعفر بن الفضل أمير مكة وفيها توفي من الأعيان أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن السرح والبزي أحد القراء المشاهير (11/6)
والحارث بن مسكين وأبو حاتم السجستاني وقد تقدم ذكره في التي قبلها وعياد بن يعقوب الرواجي وعمرو بن بحر الجاحظ صاحب الكلام والمصنفات وكثير بن عبيد الحمصي ونصر بن علي الجهضمي
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين ومائتين
فيها اجتمع رأى المستعين وبغا الصغير ووصيف على قتل باغر التركي وكان من قواد الأمراء الكبار الذين باشروا قتل المتوكل وقد اتسع إقصاعه وكثرت عماله فقتل ونهبت دار كاتبه دليل بن يعقوب النصراني ونهبت أمواله وحواصله وركب الخليفة في حراقة من سامرا إلى بغداد فاضطربت الأمور بسبب خروجه وذلك في المحرم فنزل دار محمد بن عبدالله بن طاهر وفيها وقعت فتنة شنعاء بين جند بغداد وجند سامرا ودعا أهل سامرا إلى بيعة المعتز واستقر أمر أهل بغداد على المستعين وأخرج المعتز وأخوه المؤيد من السجن فبايع أهل سامرا المعتز واستحوذ على حواصل بيت المال بها فإذا بها خمسمائة ألف دينار وفي خزانة أم المستعين ألف ألف دينار وفي حواصل العباس بن المستعين ستمائة ألف دينار واستفحل أمر المعتز بسامرا وأمر المستعين لمحمد بن عبدالله بن طاهر أن يحصن بغداد ويعمل في السورين والخندق وغرم على ذلك ثلثمائة ألف دينار وثلاثين ألف دينار ووكل بكل باب أميرا يحفظه ونصب على السور خمسة مناجيق منها واحد كبير جدا يقال له الغضبان وست عرادات وأعدوا آلات الحرب والحصار والعدد وقطعت القناطر من كل ناحية لئلا يصل الجيش إليهم وكتب المعتز إلى محمد بن عبدالله بن طاهر يدعوه إلى الدخول معه في أمره ويذكره ما كان أخذه عليهم أبوه المتوكل من العهود والمواثيق من أنه ولي العهد بعده فلم يلتفت إليه بل رد عليه واحتج بحجج يطول ذكرها وكتب كل واحد من المستعين والمعتز إلى موسى بن بغا الكبير وهو مقيم بأطراف الشام لحرب أهل حمص يدعوه إلى نفسه وبعث إليه بألوية يعقدها لمن اختار من أصحابه وكتب إليه المستعين يأمره بالمسير إليه إلى بغداد ويأمره أن يستنيب في عمله فركب مسرعا إلى سامرا فكان مع المعتز على المستعين وكذلك هرب عبدالله بن بغا الصغير من عند أبيه من بغداد إلى المعتز وكذلك غيره من الأمراء والأتراك وعقد المعتز لأخيه أبي أحمد بن المتوكل على حرب المستعين وجهز معه جيشا لذلك فسار في خمسة آلاف من الأتراك وغيرهم نحو بغداد وصلى بعكبرا يوم الجمعة ودعا لأخيه المعتز ثم وصل إلى بغداد ليلة الأحد لسبع خلون من صفر فاجتمعت العساكر هنالك وقد قال رجل يقال له بانجانة كان في عسكر أبي أحمد ... يا بني طاهر جنود الل ... ه والموت بيئها منثور ... وجيوش أمامهن أبو أحمد ... د نعم المولى ونعم النصير ... ثم جرت بينهما حروب طويلة وفتن مهولة جدا قد ذكرها ابن جرير مطولة ثم بعث المعتز مع (11/7)
موسى بن ارشناس ثلاثة آلاف مددا لأخيه أبي أحمد فوصلوا لليلة بقيت من ربيع الأول فوقفوا في الجانب الغربي عند باب قطربل وأبو أحمد وأصحابه على باب الشماسية والحرب مستعرة والقتال كثير جدا والقتل واقع قال ابن جرير وذكر أن المعتز كتب إلى أخيه أبي أحمد يلومه على التقصير في قتال أهل بغداد فكتب إليه أبو أحمد ... لأمر المنايا علينا طريق ... للدهر فينا اتساع وضيق ... وأيامنا عبر للأنام ... فمنها البكور ومنها الطروق ... ومنها هنات تشيب الوليد ... ويخذل فيها الصديق الصديق ... وسور عريض له ذروة ... تفوت العيون وبحر عميق ... قتال مبيد وسيف عتيد ... وخوف شديد وحصن وثيق ... فهذا طريح وهذا جريح ... وهذا حريق وهذا غريق ... وهذا قتيل وهذا تليل ... وآخر يشدخه المنجيق ... هناك اغتصاب وثم انتهاب ... ودور خراب وكانت تروق ... إذا ما سمونا إلى مسلك ... وجدناه قد سدعنا الطريق ... فبالله نبلغ ما نرتجيه ... وبالله ندفع ما نطيق ... قال ابن جرير هذا الشعر ينشد لعلي بن أمية في فتنة المخلوع والمأمون وقد استمرت الفتنة والقتال ببغداد بين أبي أحمد أخي المعتز وبين محمد بن عبدالله بن طاهر نائب المستعين والبلد محصور وأهله في ضيق شديد جدا بقية شهور هذه السنة وقتل من الفريقين خلق كثير في وقعات متعددات وأيام نحسات فتارة يظهر أصحاب أبي أحمد ويأخذون بعض الأبواب فتحمل عليهم الطاهرية فيزيحونهم عنها ويقتلون منهم خلقا ثم يتراجعون إلى مواقفهم ويصابرونهم مصابرة عظيمة لكن أهل بغداد كلما هم إلى ضعف بسبب قلة الميرة والجلب إلى داخل البلد ثم شاع بين العامة أن محمد بن عبدالله بن طاهر يريد أن يخلع المستعين ويبايع للمعتز وذلك في أواخر السنة فتنصل من ذلك واعتذر إلى الخليفة وإلى العامة وحلف بالأيمان الغليظة فلم تبرأ ساحته من ذلك حق البراءة عند العامة واجتمعت العامة والغوغاء إلى دار ابن طاهر والخليفة نازل بها فسألوا أن يبرز لهم الخليفة ليروه ويسألوه عن ابن طاهر أهو راض عنه أم لا وما زالت الضجة والأصوات مرتفعة حتى برز لهم الخليفة من فوق المكان الذي هم فيه وعليه السواد ومن فوقه البردة النبوية وبيده القضيب وقال لهم فيما خاطبهم به أقسمت عليكم بحق صاحب هذه البردة والقضيب لما رجعتم إلى منازلكم (11/8)
ورضيتم عن ابن طاهر فإنه غير متهم لدى فسكت الغوغاء ورجعوا إلى منازلهم ثم انتقل الخليفة من دار ابن طاهر إلى دار رزق الخادم وذلك في أوائل ذي الحجة وصلى بهم العيد يوم الأضحى في الجزيرة التي بحذاء دار ابن طاهر وبرز الخليفة يومئذ للناس وبين يديه الحربة وعليه البردة وبيده القضيب وكان يوما مشهودا ببغداد على ما بأهلها من الحصار والغلاء بالأسعار وقد اجتمع على الناس الخوف والجوع المترجمان لباس الجوع والخوف نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة ولما تفاقم الأمر واشتد الحال وضاق المجال وجاع العيال وجهد الرجال جعل ابن طاهر يظهر ما كان كامنا في نفسه من خلع المستعين فجعل يعرض له في ذلك ولا يصرح ثم كاشفه به وأظهره له وناظره فيه وقال له إن المصلحة تقتضي أن تصالح عن الخلافة على مال تأخذه سلفا وتعجيلا وأن يكون لك من الخراج في كل عام ما تختاره وتحتاجه ولم يزل يفتل في الذروة والغارب حتى أجاب إلى ذلك وأناب فكتب فيما اشترطه المستعين في خلعه نفسه من الخلافة كتابا فلما كان يوم السبت لعشر بقين من ذي الحجة ركب محمد بن عبدالله بن طاهر إلى الرصافة وجمع القضاة والفقهاء وأدخلهم على المستعين فوجا فوجا يشهدون عليه أنه قد صير أمره إلى محمد بن عبدالله بن طاهر وكذلك جماعة الحجاب والخدم ثم تسلم منه جوهر الخلافة وأقام عند المستعين إلى هوى من الليل وأصبح الناس يذكرون ويتنوعون فيما يقولون من الأراجيف وأما ابن طاهر فإنه أرسل بالكتاب مع جماعة من الأمراء إلى المعتز بسامرا فلما قدموا عليه بذلك أكرمهم وخلع عليهم وأجازهم فأسنى جوائزهم وسيأتي ما كان من أمره أول السنة الداخلة وفيها كان ظهور رجل من أهل البيت أيضا بأرض قزوين وزنجان في ربيع الأول منها وهو الحسين بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الأرقط بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ويعرف بالكوكبي وسيأتي ما كان من أمره هناك وفيها خرج إسماعيل بن يوسف العلوي وهو ابن أخت موسى بن عبيدالله الحسني وسيأتي ما كان من أمره أيضا وفيها خرج بالكوفة أيضا رجل من الطالبيين وهو الحسين بن محمد بن حمزة بن عبدالله بن حسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فوجه إليه المستعين مزاحم بن خاقان فاقتتلا فهزم العلوي وقتل من أصحابه بشر كثير ولما دخل مزاحم الكوفة حرق بها ألف دار ونهب أموال الذين خرجوا معه وباع بعض جواري الحسين بن محمد هذا وكانت معتقة وفيها ظهر إسماعيل بن يوسف بن إبراهيم بن عبدالله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب بمكة فهرب منه نائبها جعفر بن الفضل بن عيسى بن موسى فانتهب منزله ومنازل أصحابه وقتل جماعة من الجند وغيرهم من أهل مكة وأخذ ما في الكعبة من الذهب والفضة والطيب وكسوة (11/9)
الكعبة وأخذ من الناس نحوا من مائتي ألف دينار ثم خرج إلى المدينة النبوية فهرب منه نائبها أيضا علي بن الحسين بن علي بن إسماعيل ثم رجع إسماعيل بن يوسف إلى مكة في رجب فحصر أهلها حتى هلكوا جوعا وعطشا فبيع الخبز ثلاث أواق بدرهم واللحم الرطل بأربعة وشربة الماء بثلاثة دراهم ولقي من أهل مكة كل بلاء فترحل عنهم إلى جدة بعد مقامه عليهم سبعة وخمسين يوما فانتهب أموال التجار هنالك وأخذ المراكب وقطع الميرة عن أهل مكة ثم عاد إلى مكة لا جزاه الله خيرا عن المسلمين فلما كان يوم عرفة لم يمكن الناس من الوقوف نهار ولا ليلا وقتل من الحجيج ألفا ومائة وسلبهم أموالهم ولم يقف بعرفة عامئذ سواه ومن معه من الحرامية لا تقبل الله منهم صرفا ولا عدلا وفيها وهن أمر الخلافة جدا وفيها توفي من الأعيان إسحاق بن منصور الكوننج وحميد بن زنجويه وعمرو بن عثمان بن كثير بن دينار الحمصي وأبو البقي هشام بن عبدالملك اليزني
سنة ثنتين وخمسين ومائتين
ذكر خلافة المعتز بالله بن المتوكل على الله بعد خلع المستعين نفسه استهلت هذه السنة وقد استقرت الخلافة باسم أبي عبدالله محمد المعتز بن جعفر المتوكل بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد وقيل إن اسم المعتز أحمد وقيل الزبير وهوالذي عول عليه ابن عساكر وترجمة في تاريخه فلما خلع المستعين نفسه من الخلافة وبايع للمعتز دعا الخطباء يوم الجمعة لابع المحرم من هذه السنة بجوامع بغداد على المنابر للخليفة المعتز بالله وانتقل المستعين من الرصافة إلى قصر الحسن بن سهل هو وعياله وولده وجواريه ووكل بهم سعيد بن رجاء في جماعة معه وأخذ من المستعين البردة والقضيب والخاتم وبعث بذلك إلى المعتز ثم أرسل إليه المعتز يطلب منه خاتمين من جوهر ثمين عنده يقال لأحدهما برج وللآخر جبل فأرسلهما وطلب المستعين أن يسير إلى مكة فلم يمكن فطلب البصرة فقيل له إنها وبيئة فقال إن ترك الخلافة أوبأ منها ثم أذن له في المسير إلى واسط فخرج ومعه حرس يوصلونه إليها نحو من أربعمائة واستوزر المعتز أحمد بن أبي إسرائيل وخلع عليه وألبسه تاجا على رأسه ولما تمهد أمر بغداد واستقرت البيعة للمعتز بها ودان له أهلها وقدمتها الميرة من كل جانب واتسع الناس في الأرزاق والأطعمة ركب أبو أحمد منها في يوم السبت لثنتي عشرة ليلة من المحرم إلى سامرا وشيعه ابن طاهر في وجوه الأمراء فخلع أبو أحمد على ابن طاهر خمس خلع وسيفا ورده من الطريق إلى بغداد وقد ذكر ابن جرير مدائح الشعراء في المعتز وتشفيهم بخلع المستعين فأكثر من ذلك جدا فمن ذلك قول محمد بن مروان بن أبي الجنوب ابن مروات في مدح المعتز وذم المستعين كما جرت به عادة الشعراء ... إن الأمور إلى المعتز قد رجعت ... والمستعين إلى حالاته رجعا (11/10)
وكان يعلم أن الملك ليس له ... وأنه لك لكن نفسه خدعا ... ومالك الملك مؤتيه ونازعه ... آتاك ملكا ومنه الملك قد نزعا ... إن الخلافة كانت لا تلائمه ... كانت كذات حليل زوجت متعا ... ما كان أقبح عند الناس بيعته ... وكان أحسن قول الناس قد خلعا ... ليت السفين إلى قاف دفعن به ... نفسي الفداء لملاح به دفعا ... كم ساس قبلك أمر الناس من ملك ... لو كان حمل ما حملته ظلعا ... أمسى بك الناس بعد الضيق في سعة ... والله يجعل بعد الضيق متسعا ... والله يدفع عنك السوء من ملك ... فإنه بك عنا السوء قد دفعا ... وكتب المعتز من سامرا إلى نائب بغداد محمد بن عبدالله بن طاهر أن يسقط اسم وصيف وبغا ومن كان في رسمهما في الدواوين وعزم على قتلهما ثم استرضى عنهما فرضى عنهما وفي رجب من هذه السنة خلع المعتز أخاه إبراهيم الملقب بالمؤيد من ولاية العهد وحبسه وأخاه أبا أحمد بعدما ضرب المؤيد أربعين مقرعة ولما كان يوم الجمعة خطب بخلعه وأمره أن يكتب كتابا على نفسه بذلك وكانت وفاته بعد ذلك بخمسة عشر يوما فقيل إنه أدرج في لحاف سمور وأمسك طرفاه حتى مات غما وقيل بل ضرب بحجارة من ثلج حتى مات بردا وبعد ذلك أخرج من السجن ولا أثر به فأحضر القضاة والأعيان فشهدوا على موته من غير سبب ولا أثر ثم حمل على حمار ومعه كفنه إلى أمه فدفنته
ذكر مقتل المستعين
وفي شوال منها كتب المعتز إلى نائبه محمد بن عبدالله بن طاهر يأمره بتجهيز جيش نحو المستعين فجهز أحمد بن طولون التركي فوافاه فأخرجه لست بقين من رمضان فقدم به القاطول لثلاث مضين من شوال ثم قتل فقيل ضرب حتى مات وقيل بل غرق في دجيل وقيل بل ضربت عنقه وقد ذكر ابن جرير أن المستعين سأل من سعيد بن صالح التركي حين أراد قتله أن يمهله حتى يصلي ركعتين فأمهله فلما كان في السجدة الأخيرة قتله وهو ساجد ودفن جثته في مكان صلاته وخفى أثره وحمل رأسه إلى المعتز فدخل به عليه وهو يلعب بالشطرنج فقيل هذا رأس المخلوع فقال ضعوه حتى أفرغ من الدست فلما فرغ نظر إليه وأمر بدفنه ثم أمر لسعيد بن صالح الذي قتله بخمسين ألف درهم وولاه معونة البصرة وفيها مات إسماعيل بن يوسف العلوي الذي فعل بمكة ما فعل كما تقدم من إلحاده في الحرم فأهلكه الله في هذه السنة عاجلا ولم ينظره وفيها مات أحمد بن محمد وهو المستعين بالله كما تقدم وإسحاق بن بهلول وزياد بن يوب ومحمد بن يشار وغندر وموسى بن المثنى الزمن ويعقوب بن إبراهيم الدورقي (11/11)
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين ومائتين
في رجب منها عقد المعتز لموسى بن بغا الكبير على جيش قريب من أربعة آلاف ليذهبوا إلى قتال عبدالعزيز بن أبي دلف بناحية همذان لأنه خرج عن الطاعة وهو في نحو من عشرين ألفا بناحية همذان فهزموا عبدالعزيز في أواخر هذه السنة هزيمة فظيعة ثم كانت بينهما وقعة أخرى في رمضان عند الكرج فهزم عبدالعزيز ايضا وقتل من أصحابه بشر كثير وأسروا ذراري كثيرة حتى أسروا أم عبدالعزيز أيضا وبعثوا إلى المعتز سبعين حملا من الرؤس وأعلاما كثيرة وأخذ من عبدالعزيز ما كان استحوذ عليه من البلاد وفي رمضان منها خلع على بغا الشرابي وألبسه التاج والوشاحين وفي يوم عيد الفطر كانت وقعة هائلة عند مكان يقال له البوازيج وذلك أن رجلا يقال له مساور بن عبدالحميد حكم فيها والتف عليه نحو من سبعمائة من الخوراج فقصد له رجل يقال له بندار الطبري في ثلاثمائة من أصحابه فالتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا فقتل من الخوارج نحو من خمسين وقتل من أصحاب بندار مائتان وقيل وخمسون رجلا وقتل بندار فيمن قتل رحمه الله ثم صمد مساور إلى حلوان فقاتله أهلها وأعانهم حجاج أهل خرسان فقتل مساور منهم نحوا من أربعمائة قبحه الله وقتل من جماعته كثيرون أيضا ولثلاث بقين من شوال قتل وصيف التركي وأرادت العامة نهب داره في سامرا ودور أولاده فلم يمكنهم ذلك وجعل الخليفة ما كان إليه إلى بغا الشرابي وفي ليلة أربع عشرة من ذي القعدة من هذه السنة خسف القمر حتى غاب أكثره وغرق نوره وعند انتهاء خسوفه مات محمد بن عبدالله بن طاهر نائب العراق ببغداد وكانت علته قروحا في رأسه وحلقه فذبحته ولما أتى به ليصلي عليه اختلف أخوه عبيدالله وابنه طاهر وتنازعا الصلاة عليه حتى جذبت السيوف وترامي الناس بالحجارة وصاحت الغوغاء يا طاهر يا منصور فمال عبيدالله إلى الشرقية ومعه القواد وأكابر الناس فدخل داره وصلى عليه ابنه وكان أبوه قد أوصى إليه وحين بلغ المعتز ما وقع بعث بالخلع والولاية إلى عبيد الله بن عبدالله بن طاهر فأطلق عبيد الله للذي قدم بالخلع خمسين ألف درهم وفيها نفى المعتز أخاه أبا أحمد من سر من رأى إلى واسط ثم إلى البصرة ثم رد إلى بغداد أيضا وفي يوم الإثنين منها سلخ ذي القعدة التقى موسى بن بغا الكبير والحسين بن أحمد الكوكبي الطالبي الذي خرج في سنة إحدى وخمسين عند قزوين فاقتتلا قتالا شديدا ثم هزم الكوكبي وأخذ موسى قزوين وهرب الكوكبي إلى الديلم وذكر ابن جرير عن بعض من حضر هذه الوقعة أن الكوكبي حين التقى أمر أصحابه أن يتترسوا بالحجف وكانت السهم لا تعمل فيهم فأمر موسى بن بغا أصحابه عند ذلك أن يطرحوا ما معهم من النفط ثم حاولوهم وأروهم أنهم قد انهزموا منهم فتبعهم أصحاب الكوكبي فلما توسطوا الأرض التي فيها النفط أمر عند ذلك (11/12)
بإلقاء النار فيه فجعل النفط يحرق أصحاب الكوكبي ففروا سراعا هاربين وكر عليهم موسى وأصحابه فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وهرب الكوكبي إلى الديلم وتسلم موسى قزوين وفيها حج بالناس عبدالله بن محمد بن سليمان الزينبي وفيها توفي من الأعيان أبو الأشعث وأحمد بن سعيد الدارمي
وسري السقطي
أحد كبار مشايخ الصوفية تلميذ معروف الكرخي حدث عن هشيم وأبي بكر بن عياش وعلى ابن عراب ويحيى بن يمان ويزيد بن هارون وغيرهم وعنه ابن أخته الجنيد بن محمد وأبو الحسن النوري ومحمد بن الفضل بن جابر السقطي وجماعة وكانت له دكان يتجر فيها فمرت به جارية قد انكسر إناء كان معها تشتري فيه شيئا لسادتها فجعلت تبكي فأعطاها سري شيئا تشتري بدله فنظر معروف إليه وما صنع بتلك الجارية فقال له بغض الله إليك الدنيا فوجد الزهد من يومه وقال سري مررت في يوم عيد فإذا معروف ومعه صغير شعث الحال فقلت ما هذا فقال هذا كان واقفا عند صبيان يلعبون بالجوز وهو مفكر فقلت له ما لك لا تلعب كما يلعبون فقال أنا يتميم ولا شيء معي أشتري به جوزا ألعب به فأخذته لأجمع له نوى يشتري به جوزا يفرح به فقلت ألا أكسوه وأعطيه شيئا يشتري به جوزا فقال أو تفعل فقلت نعم فقال خذه أغنى الله قلبك قال سري فصغرت عندي الدنيا حتى لهي أقل شيء وكان عنده مرة لوز فساومه رجل على الكر بثلاثة وستين دينارا ثم ذهب الرجل فإذا اللوز يساوي الكر تسعين دينارا فقال له إني أشترى منك الكر بتسعين دينارا فقال له إني أنما ساومتك بثلاثة وستين دينارا وإني لا أبيعه إلا بذلك فقال الرجل أنا أشتري منك بتسعين دينارا فقال لا أبيعك هو إلا بما ساومتك عليه فقال له الرجل إن من النصح أن لا أشتري منك إلا بتسعين دينارا وذهب فلم يشتر منه وجاءت امرأة يوما إلى سري فقالت إن ابني قد أخذه الحرسي وإني أحب أن تبعث إلى صاحب الشرطة لئلا يضرب فقام فصلى فطول الصلاة وجلعت المرأة تحترق في نفسها فلما انصرف من الصلاة قالت المرأة الله الله في ولدي فقال لها إني إنما كنت في حاجتك فما رام مجلسه الذي صلى فيه حتى جاءت امرأة إلى تلك المرأة فقالت لها ابشري فقد أطلق ولدك وها هو في المنزل فانصرفت إليه وقال سري أشتهي أن آكل أكلة ليس لله فيها علي تبعة ولا لأحد علي فيها منة فما أجد إلى ذلك سبيلا وفي رواية عنه أنه قال إني لأشتهي البقل من ثلاثين سنة فما أقدر عليه وقال احترق سوقنا فقصدت المكان الذي فيه دكاني فتلقاني رجل فقال ابشر فإن دكانك قد سلمت فقلت الحمد لله ثم ذكرت ذلك التحميد إذ حمدت الله على سلامة دنياي وإني لم أواس الناس فيما (11/13)
هم فيه فأنا أستغفر الله منذ ثلاثين سنة رواها الخطيب عنه وقال صليت وردى ذات ليلة ثم مددت رجلي في المحراب فنوديت يا سري هكذا تجالس الملوك قال فضممت رجلي وقلت وعزتك لا مددت رجلي أبدا وقال الجنيد ما رأيت أعبد من سري السقطي أتت عليه ثمان وتسعون سنة ما رؤى مضطجعا إلا في علة الموت وروى الخطيب عن أبي نعيم عن جعفر الخلدي عن الجنيد قال دخلت عليه أعوده فقلت كيف تجدك فقال ... كيف أشكو إلى طبيبي ما بي ... والذي أصابني من طبيبي ... قال فأخذت المروحة لأروح عليه فقال كيف يجد روح المروحة من جوفه يحترق من داخل ثم أنشأ يقول ... القلب محترق والدمع مستبق ... والكرب مجتمع والصبر مفترق ... كيف القرار على من لا قرار له ... مما جناه الهوى والشوق والقلق ... يارب إن كان شيء ... القلب محترق والدمع مستبق ... والكرب مجتمع والصبر مفترق ... كيف القرار على من لا قرار له ... مما جناه الهوى والشوق والقلق ... يارب أن كان شيء لي به فرج ... فامنن علي به ما دام بي رمق ...
قال فقلت له أوصني قال لا تصحب الأشرار ولاتشتغل عن الله بمجالسة الأبرار الأخيار وقد ذكر الخطيب وفاته يوم الثلاثاء لست خلون من رمضان سنة ثلاث وخمسين ومائتين بعد أذان الفجر ودفن بعد العصر بمقبرة الشوينزي وقبره ظاهر معروف وإلى جنبه قبر الجنيد وروى عن أبي عبيدة بن حريوبة قال رأيت سريا في المنام فقلت ما فعل الله بك فقال غفر لي ولكل من شهد جنازتي قلت فإني ممن حضر جنازتك وصلى عليك قال فأخرج درجا فنظر فيه فلم ير فيه اسمي فقلت بلى قد حضرت فإذا اسمي في الحاشية وحكى ابن خلكان قولا أن سريا توفي سنة إحدى وخمسين وقيل سنة ست وخمسين فالله أعلم قال ابن خلكان وكان السري ينشد كثيرا ولما ادعيت الحب قالت كذبتني
... فمالي أرى الأعضاء منك كواسيا ... فلا حب حتى يلصق الجلد بالحشي ... وتذهل حتى لا تجيب المناديا ...
ثم دخلت سنة أربع وخمسين ومائتين فيها أمر الخليفة المعتز بقتل بغا الشرابي ونصب رأسه بسامرا ثم ببغداد وحرقت جثته وأخذت أمواله وحواصله وفيها ولي الخليفة أحمد بن طولون الديار المصرية وهو باني الجامع المشهور بها وحج بالناس فيها على بن الحسين بن إسماعيل بن العباس بن محمد وتوفي فيها من الأعيان زياد بن أيوب الحسيانى وعلي بن محمد بن موسى الرضى يوم الأثنين لأربع بقين من جمادى الآخرة ببغداد وصلى عليه أبو أحمد المتوكل في الشارع المنسوب إلى أبي أحمد ودفن بداره ببغداد ومحمد بن عبدالله المخرمي وموهل بن إهاب (11/14)
وأما أبو الحسن علي الهادي
( فهو ) ابن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقرين علي زين العابدين بن الحسين الشهيد بن علي بن أبي طالب أحمد الأئمة الإثنى عشرية وهو والد الحسن ابن علي العسكري المنتظر عند الفرقة الضالة الجاهلة الكاذبة الخاطئة وقد كان عابدا زاهدا نقله المتوكل إلى سامرا فأقام بها أزيد من عشرين سنة بأشهر ومات بها هذه السنة وقد ذكر للمتوكل أن بمنزله سلاحا وكتبا كثيرة من الناس فبعث كبسة فوجدوه جالسا مستقبل القبلة وعليه مدرعة من صوف وهو على التراب ليس دونه حائل فأخذوه كذلك فحملوه إلى المتوكل وهو على شرابه فلما مثل بين يديه أجله وأعظمه وأجلسه إلى جانبه وناوله الكأس الذي في يده فقال يا أمير المؤمنين لم يدخل باطني ولم يخالط لحمي ودمي قط فاعفني منه فأعفاه ثم قال له أنشدني شعرا فأنشده
... باتوا على قلل الأجبال تحرسهم ... غلب الرجال فما أغنتهم القلل ... واستنزلوا بعد عز عن معاقلهم ... فأودعوا حفرا يا بئس ما نزلوا ... نادى بهم صارخ من بعد ما قبروا ... أين الأسرة والتيجان والحلل ... أين الوجوه التي كانت منعمة ... من دونها تضرب الاستار والكلل ... فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم ... تلك الوجوه عليها الدود يقتتل ... قد طال ما أكلوا دهرا وما لبسوا ... فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكلوا ... قال فبكى المتوكل حتى بل الثرى وبكى من حوله بحضرته وأمر برفع الشراب وأمر له بأربعة آلاف دينار وتحلل منه ورده إلى منزله مكرما رحمه الله
ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومائتين
فيها كانت وقعة بين مفلح وبين الحسن بن زيد الطالبي فهزمه مفلح ودخل وآمل طبرستان وحرق منازل الحسن بن زيد ثم سار وراءه إلى الديلم وفيها كانت محاربة شديدة بين يعقوب بن الليث وبين علي بن الحسين بن قريش بن شبل فبعث علي بن الحسين رجلا من جهته يقال له طوق بن المغلس فصابره أكثر من شهر ثم ظفر يعقوب بطوق فأسره فأسر وجوه أصحابه ثم سار إلى على بن الحسين هذا فأسره وأخذ بلاده وهي كرمان فأضافها إلى ما بيده من مملكة خراسان سجستان ثم بعث يعقوب بن الليث بهدية سنية إلى المعتز دواب وبازات وثياب فاخرة وفيها ولى الخليفة سليمان بن عبدالله بن طاهر نيابة بغداد والسواد في ربيع الأول منها وفيها أخذ صالح بن وصيف أحمد بن إسرائيل كاتب المعتز والحسن بن مخلد كاتب قبيحة أم المعتز وأبا نوح عيسى (11/15)
ابن إبراهيم وكانوا قد تما لؤا على أكل بيت المال وكانوا دواوين وغيرهم فضربهم وأخذ خطوطهم بأموال جزيلة يحملونها وذلك بغير رضي من المعتز في الباطن واحتيط على أموالهم وحواصلهم وضياعهم وسموا الكتاب الخونة وولى الخليفة عن قهر غيرهم وفي رجب منها ظهر عيسى بن جعفر وعلي بن زيد الحسنيان بالكوفة وقتلا بها عبدالله بن محمد بن داود بن عيسى واستفحل أمرهما بها
موت الخليفة المعتز بن المتوكل
ولثلاث بقين من رجب من هذه السنة خلع الخليفة المعتز بالله ولليلتين مضتا من شعبان أظهر موته وكان سبب خلعه أن الجند اجتمعوا فطلبوا منه أرزاقهم فلم يكن عنده ما يعطيهم فسأل من أن تقرضه مالا يدفعهم عنه به فلم تعطه وأظهرت أنه لا شيء عندها فاجتمع الأتراك على خلعه فأرسلوا إليه ليخرج إليهم فاعتذر بأنه قد شرب دواء وأن عنده ضعفا ولكن ليدخل إلى بعضكم فدخل إليه بعض الأمراء فتناولوه بالدبابيس يضربونه وجروا برجله وأخرجوه وعليه قميص مخرق ملطخ بالدم فأقاموه في وسط دار الخلافة في حر شديد حتى جعل يراوح بين رجليه من شدة الحر وجعل بعضهم يلطمه وهو يبكي ويقول له الضارب اخلعها والناس مجتمعون ثم أدخلوه حجرة مضيقا عليه فيها وما زالوا عليه بأنواع العذاب حتى خلع نفسه من الخلافة وولى بعده المهتدي بالله كما سيأتي ثم سلموه إلى من يسومه سوء العذاب بأنواع المثلات ومنع من الطعام والشراب ثلاثة أيام حتى جعل يطلب شربة من ماء البئر فلم يسق ثم أدخلوه سربا فيه جص جير فدسوه فيه فأصبح ميتا فاستلوه من الجص سليم الجسد وأشهدوا عليه جماعة من الأعيان أنه مات وليس به أثر وكان ذلك في اليوم الثاني من شعبان من هذه السنة وكان يوم السبت وصلى عليه المهتدي بالله ودفن مع أخيه المنتصر إلى جانب قصر الصوامع عن أربع وعشرين سنة وكانت خلافته أربع سنين وستة أشهر وثلاثة وعشرين يوما وكان طويلا جسيما وسيما أقنى الأنف مدور الوجه حسن الضحك أبيض أسود الشعر مجعدة كثيف اللحية حسن العينين ضيق الحاجبين أحمر الوجه وقد أثنى عليبه الإمام أحمد في جودة ذهنه وحسن فهمه وأدبه حين دخل عليه في حياة أبيه المتوكل كما قدمنا في ترجمة أحمد وروى الخطيب عن علي بن حرب قال دخلت على المعتز فما رأيت خليفة أحسن وجها منه فلما رأيته سجدت فقال يا شيخ تسجد لغير الله فقلت حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد النبيل ثنا بكار بن عبدالعزيز بن أبي بكرة عن أبيه عن جده ( أن رسول الله ( ص ) كان إذا رأى ما يفرح به أو بشر بما يسره سجد شكرا لله عز و جل ) وقال الزبير ابن بكار سرت إلى المعتز وهو أمير فلما سمع بقدومي خرج مستعجلا إلي فعثر فأنشأ يقول (11/16)
يموت الفتى من عثرة بلسانه ... وليس يموت المرء من عثرة الرجل ... فعثرته من فيه ترمي برأسه ... وعثرته في الرجل تبرأ على مهل ... وذكر ابن عساكر أن المعتز لما حذق القرآن في حياة أبيه المتوكل اجتمع أبوه والأمراء لذلك وكذلك الكبراء والرؤساء بسر من رأى واختلفوا لذلك أياما عديدة وجرت احوال عظيمة ولما جلس وهو صبي على المنبر وسلم على أبيه بالخلافة وخطب الناس نثرت الجواهر والذهب والدراهم على الخواص والعوام بدار الخلافة وكان قيمة ما نثر من الجواهر يساوي مائة ألف دينار ومثلها ذهبا وألف ألف درهم غير ما كان من خلع وأسمطة وأقمشة مما يفوت الحصر وكان وقتا مشهودا لم يكن سرورا بدار الخلافة أبهج منه ولا أحسن وخلع الخليفة على أم ولده المعتز قبيحة خلعا سنية وأعطاها وأجزل لها العطاء وكذلك خلع على مؤدب ولده وهو محمد بن عمران أعطاه من الجوهر والذهب والفضة والقماش شيئا كثيرا جدا والله سبحانه وتعالى أعلم
خلافة المهتدى بالله
أبي محمد عبدالله محمد بن الواثق بن المعتصم بن هارون كانت بيعته يوم الأربعاء لليلة بقيت من رجب من هذه السنة بعد السنة بعد خلع المعتز نفسه بين يديه وإشهاده عليه بأنه عاجز عن القيام بها وأنه قد رغب إلى من يقوم بأعبائها وهو محمد بن الواثق بالله ثم مد يده فبايعه قبل الناس كلهم ثم بايعه الخاصة ثم كانت بيعة العامة على المنبر وكتب على المعتز كتابا أشهد فيه بالخلع والعجز والمبايعة للمهتدي وفي آخر رجب وقعت في بغداد فتنة هائلة وثبت فيها العامة على نائبها سليمان بن عبدالله ابن طاهر ودعوا إلى بيعة أحمد بن المتوكل أخي المعتز وذلك لعدم علم أهل بغداد بما وقع بسامرا من بيعة المهتدي وقتل من أهل بغداد وغرق منهم خلق كثير ثم لما بلغهم بيعة المهتدى سكنوا وإنما بلغتهم في سابع شعبان فاستقرت الأمور واستقر المهتدي في الخلافة وقي رمضان من هذه السنة ظهر عند قبيحة أم المعتز أموال عظيمة وجواهر نفيسة كان من جملة ذلك ما يقارب ألفي ألف دينار ومن الزمرد الذي لم ير مثله مقدار مكوك ومن الحب الكبار مكوك وكيلجة يا قوت أحمر مما لم ير مثله أيضا وقد كان الأمراء طلبوا من ابنها المعتز خمسين ألف دينار تصرف في أرزاقهم وضمنوا له أن يقتلوا صالح بن وصيف فلم يكن عنده من ذلك شيء فطلب من أمه قبيحة هذه قبحها الله فامتنعت أن تقرضه ذلك فأظهرت الفقر والشح وأنه لا شيء عندها ثم لما قتل ابنها وكان ما كان ظهر عندها من الأموال ما ذكرنا وكان عندها من الذهب والفضة والآنية شيء كثير وقد كان لها من الغلات في كل سنة ما يعدل عشرة آلاف ألف دينار وقد كانت قبل ذلك مختفية عند صالح بن وصيف عدو ولدها ثم تزوجت به وكانت تدعو عليه تقول اللهم اخز صالح بن وصيف كما هتك ستري (11/17)
وقتل ولدي وبدد شملي وأخذ مالي وغربني عن بلدي وركب الفاحشة مني ثم استقرت الخلافة باسم المهتدي بالله وكانت بحمد الله خلافة صالحة قال يوما للأمراء إني ليست لي أم لها من الغلات ما يقاوم عشرة آلاف ألف دينار ولست أريد إلا القوت فقط أريد فضلا على ذلك إلا لاخوتي فإنهم مستهم الحاجة وفي يوم الخميس لثلاث بقين من رمضان أمر صالح بن وصيف بضرب أحمد بن إسرائيل الذي كان وزيرا وأبي نوح عيسى بن إبراهيم الذي كان نصرانيا فأظهر الإسلام وكان كاتب قبيحة فضرب كل واحد منهما خمسمائة سوط بعد استخلاص أموالهما ثم طيف بهما على بغلين منكسين فماتا وهما كذلك ولم يكن ذلك عن رضى المهتدي ولكنه ضعيف لا يقدر على الانكار على صالح بن وصيف في بادئ الآمر وفي رمضان في هذه السنة وقعت فتنة ببغداد أيضا بين محمد بن أوس ومن تبعه من الشاكرية والجند وغيرهم وبين العامة والرعاع فاجتمع من العامة نحو مائة ألف وكان بين الناس قتال بالنبال والرماح والسوط فقتل خلق كثير ثم انهزم محمد بن أوس وأصحابه فنهبت العامة ما وجدوا من أمواله وهو ما يعادل ألفي ألف أو نحو ذلك ثم اتفق الحال على إخراج محمد بن أوس من بغداد إلى أين أراد فخرج منها خائفا طريدا وذلك لأنه لم يكن عند الناس مرضى السيرة بل كان جبارا عنيدا وشيطانا مريدا وفاسقا شديدا وأمر الخليفة بأن ينفي القيان والمغنون من سامرا وأمر بقتل السباع والنمور التي في دار السلطان وقتل الكلاب المعدة للصيد أيضا وأمر بابطال الملاهي ورد المظالم وأن يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر وجلس للعامة وكانت ولايته في الدنيا كلها من أرض الشام وغيرها مفترقة ثم استدعى الخليفة موسى بن بغا الكبير إلى حضرته ليتقوى به على من عنده من الأتراك ولتجتمع كلمة الخلافة فاعتذر إليه من استدعائه بما هو فيه من الجهاد في تلك البلاد
خارجي آخر ادعي أنه من أهل البيت بالبصرة
في النصف من شوال ظهر رجل بظاهر البصرة زعم أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ولم يكن صادقا وإنما كان عسيفا يعني أجيرا من عبدالقيس واسمه علي بن محمد بن عبدالرحيم وامه قرة بنت علي بن رحيب من محمد بن حكيم من بني أسد بن خزيمة وأصله من قرية من قرى الري قاله ابن جرير قال وقد خرج أيضا في سنة تسع وأربعين ومائتين بالنجدين فادعى أنه على بن محمد بن الفضل بن الحسين بن عبدالله بن عباس بن علي بن أبي طالب فدعا الناس بهجر إلى طاعته فاتبعه جماعة من أهل هجر ووقع بسببه قتال كثير وفتن كبار وحروب كثيرة ولما خرج خرجته هذه الثانية بظاهر البصرة التف عليه (11/18)
خلق من الزنج الذين كانوا يكسحون السباخ فعبر بهم دجلة فنزل الديناري وكان يزعم لبعض من معه أنه يحيى بن عمر أبو الحسين المقتول بناحية الكوفة وكان يدعى أنه يحفظ سورا من القرآن في ساعة واحدة جرى بها لسانه لا يحفظها غيره في مدة دهر طويل وهن سبحان والكهف وص وعم وزعم أنه فكر يوما وهو في البادية إلى أي بلد يسير فخوطب من سحابة أن يقصد البصرة فقصدها فلما اقترب منها وجد أهلها مفترقين على شعبتين سعديه وبلالية فطمع أن ينضم إلى إحداهما فيستعين بها على الأخرى فلم يقدر على ذلك فارتحل إلى بغداد فأقام بها سنة وانتسب بها إلى محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد وكان يزعم بها أنه يعلم ما في ضمائر أصحابه وأن الله يعلمه بذلك فتبعه على ذلك جهلة من الطعام وطائفة من الرعاع العوام ثم عاد إلى أرض البصرة في رمضان فاجتمع معه بشر كثير ولكن لم يكن معهم عدد يقاتلون بها فأتاهم جيش من ناحية البصرة فاقتتلوا جميعا ولم يكن في جيش هذا الخارجي سوى ثلاثة أسياف وأولئك الجيش معهم عدد وعدد ولبوس ومع هذا هزم أصحاب هذا الخارجي ذلك الجيش وكانوا أربعة آلاف مقاتل ثم مضى نحو البصرة بمن معه فأهدى له رجل من أهل جبى فرسا فلم يجد لها سرجا ولا لجاما وإنما ألقى عليها حبلا وركبها وسنف حنكها بليف ثم صادر رجلا وتهدده بالقتل فأخذ منه مائة وخمسين دينارا وألف درهم وكان هذا أول مال نهبه من هذه البلاد وأخذ من آخر ثلاثة براذين ومن موضع آخر شيئا من الأسلحة والأمتعة ثم سار في جيش قليل السلاح والخيول ثم جرت بينه وبين نائب البصرة وقعات متعددة يهزمهم فيها وكل ما لأمره يقوى وتزداد أصحابه ويعظم أمره ويكثر جيشه وهو مع ذلك لا يتعرض لأموال الناس ولا يؤذي أحدا وإنما يريد أخذ أموال السلطان وقد انهزم أصحابه في بعض حروبه هزيمة عظيمة ثم تراجعوا إليه واجتمعوا حوله ثم كروا على أهل البصرة فهزموهم وقتلوا منهم خلقا وأسروا آخرين وكان لا يؤتى بأسير إلا قتله ثم قوى أمره وخافه أهل البصرة وبعث الخليفة إليها مددا ليقاتلوا هذا الخارجي وهو صاحب الزنج قبحه الله ثم أشار عليه بعض أصحابه أن يهجم بمن معه على البصرة فيدخلونها عنوة فهجن آراءهم وقال بل نكون منها قريبا حتى يكونوا هم الذين يطلبوننا إليها ويخطبوننا عليها وسيأتي ما كان من أمره وأمر أهل البصرة في السنة المستقبلةإن شاء الله وفيها حج بالناس علي بن الحسين بن إسماعيل بن محمد بن عبدالله بن عباس وفيها توفي
الجاحظ المتكلم المعتزلي
واليه تنسب الفرقة الجاحظية لجحوظ عينيه ويقال له الحدقي وكان شنيع المنظر سيء المخبر رديء الاعتقاد ينسب إلى البدع والضلالات وربما جاز به بعضهم إلى الانحلال حتى قيل في المثل يا ويح من كفره الجاحظ وكان بارعا فاضلا قد أتقن علوما كثيرة وصنف كتبا جمة تدل على قوة (11/19)
ذهنه وجودة تصرفه ومن أجل كتبه كتاب الحيوان وكتاب البيان والتبيين قال ابن خلكان وهما أحسن مصنفاته وقد أطال ترجمته بحكايات ذكرها عنه وذكر أنه أصابه الفالج في آخر عمره وحكى أنه قال أنا من جانبي الأيسر مفلوج لو قرض بالمقاريض ما علمت وجانبي الأيمن منضرس لو مرت به ذبابة لآلمتني وبي حصاة وأشد ما على ست وتسعون سنة وكان ينشد ... أترجو أن تكون وأنت شيخ ... كما قد كنت أيام الشباب ... لقد كذبتك نفسك ليس ثوب ... دريس كالجديد من الثياب ...
وفيها توفى عبد الله بن عبد الرحمن أبو محمد الدارمي وعبدالله بن هاشم الطوسي والخليفة أبو عبدالله المعتز بن المتوكل ومحمد بن عبدالرحيم الملقب صاعقة
محمد بن كرام
الذي تنسب إليه الفرقة الكرامية وقد نسب إليه جواز وضع الأحاديث على الرسول وأصحابه وغيرهم وهو محمد بن كرام بفتج الكاف وتشديد الراء على وزن جمال بن عراف بن حزامة بن البراء أبو عبدالله السجستاني العابد يقال إنه من بني تراب ومنهم من يقول محمد بن كرام بكسر الكاف وتشديد الراء وهو الذي سكن بيت المقدس إلى أن مات وجعل الآخر شيخا من أهل نيسابور والصحيح الذي يظهر من كلام أبي عبدالله الحاكم وابن عساكر أنهما واحد وقد روى ابن كرام عن علي بن حجرد وعلي بن إسحاق الحنظلي السمرقندي سمع منه التفسير عن محمد بن مروان عن الكلبي وإبراهيم بن يوسف الماكناني وملك بن سليمان الهروي وأحمد بن حرب وعتيق بن محمد الجسري وأحمد بن الأزهر النيسابوري وأحمد بن عبدالله الحوساري ومحمد بن تميم القارياني وكانا كذا بين وضاعين وغيرهم وعنه محمد بن إسماعيل بن إسحاق وأبو إسحاق بن سفيان وعبدالله بن محمد القيراطي وإبراهيم بن الحجاج النيسابوري وذكر الحاكم أنه حبس في حبس طاهر بن عبدالله فلما أطلقه ذهب إلى ثغور الشام ثم عاد إلى نيسابور فحبسه محمد بن طاهر بن عبدالله وأطال في حبسه وكان يتأهب لصلاة الجمعة ويأتي إلى السجان فيقول دعني أخرج إلى الجمعة فيمنعه السجان فيقول اللهم إنك تلعم أن المنع من غيري وقال غيره أقام ببيت المقدس أربع سنين وكان يجلس للوعظ عند العمود الذي عند مشهد عيسى عليه السلام واجتمع عليه خلق كثير ثم تبين لهم أنه يقول إن الأيمان قول بلا عمل فتركه أهلها ونفاه متوليها إلى غور زغر فمات بها ونقل إلى بيت المقدس مات في صفر من هذه السنة وقال الحاكم توفي ببيت المقدس ليلا ودفن بباب أريحا عند قبور الأنبياء عليهم السلام وله ببيت المقدس من الأحصاب نحو من عشرين ألفا والله أعلم (11/20)
ثم دخلت سنة ست وخمسين ومائتين في صبيحة يوم الإثنين الثاني عشر من المحرم قدم موسى بن بغا الكبير إلى سامرا فدخلها في جيش هائل قد عباه ميمنة وميسرة وقلبا وجناحين فأتوا دار الخلافة التي فيها المهتدي جالسا لكشف المظالم فاستأذنوا عليه فأبطأ الأذن ساعة واخر عنهم فظنوا في أنفسهم أن الخليفة إنما طلبهم خديعة منه ليسلط عليهم صالح بن وصيف فدخلوا عليه هجما يراطنونهم بالتركي ثم عزموا فأقاموه من مجلسه وانتهبوا ما كان فيه ثم أخذوه مهانا إلى دار أخرى فجعل يقول لموسى بن بغا مالك ويحك أنى إنما أرسلت إليك لأتقوى بك على صالح بن وصيف فقال موسى لا بأس عليك احلف لي أنك لا تريد بي خلاف ما أظهرت فحلف له المهتدي فطابت الأنفس وبايعوه بيعة ثانية مشافهة وأخذوا عليه العهود والمواثيق أن لا يمالئ صالحا عليهم واصطلحوا على ذلك ثم بعثوا إلى صالح بن وصيف ليحضرهم للمناظرة في أمر المعتز ومن قتله صالح بن وصيف من الكتاب وغيرهم فوعدهم أن يأتيهم ثم اجتمع بجماعة من الأمراء من أصحابه وأخذ يتأهب لجمع الجيوش عليهم ثم اختفى من ليلته لا يدري أحد أين ذهب في تلك الساعة فبعثوا المنادية تنادي عليه في أرجاء البلد وتهددوا من أخفاه فلم يزل مختفيا إلى آخر صفر على ما سنذكر ورد سليمان بن عبدالله بن طاهر إلى نيابة بغداد وسلم الوزير عبدالله بن محمد بن يزداد إلى الحسن بن مخلد الذي كان أراد صالح بن وصيف قتله مع ذينك الرجلين فبقى في السجن حتى رجع إلى الوزارة ولما أبطأ خبر صالح بن وصيف على موسى بن بغا وأصحابه قال بعضهم لبعض اخلعوا هذا الرجل يعني الخليفة فقال بعضهم أتقتلون رجلا صواما قواما لا يشرب الخمر ولا يأتي الفواحش والله إن هذا ليس كغيره من الخلفاء ولا تطاوعكم الناس عليه وبلغ ذلك الخليفة فخرج إلى الناس وهو متقلد سيفا فجلس على السرير واستدعى بموسى بن بغا وأصحابه فقال قد بلغني ما تمالأتم عليه من أمري وإني والله ما خرجت إليكم إلا وأنا متحنط وقد أوصيت أخي بولدي وهذا سيفي والله لأضربن به ما استمسك قائمه بيدي والله لئن سقط من شعري شعرة ليهلكن بدلها منكم أو ليذهبن بها أكثركم أما دين أما حياء أما تستحيون كم يكون هذا الاقدام على الخلفاء والجرأة على الله عز و جل وأنتم لا تبصرون سواء عندكم من قصد الابقاء عليكم والسيرة الصالحة فيكم ومن كان يدعو بأرطال الشراب المسكر فيشربها بين أظهركم وأنتم لا تنكرون ذلك ثم يستأثر بالأموال عنكم وعن الضعفاء هذا منزلي فاذهبوا فانظروا فيه وفي منازل إخوتي ومن يتصل بي هل ترون فيها من آلات الخلافة شيئا أو من فرشها أو غير ذلك وإنما في بيوتنا ما في بيوت آحاد الناس ويقولون إني أعلم علم صالح بن وصيف وهل هو إلا واحد منكم فاذهبوا فاعلموا (11/21)
علمه فابلغوا شفاء نفوسكم فيه وأما أنا فلست أعلم علمه قالوا فاحلف لنا على ذلك قال أما اليمين فإني أبذلها لكم ولكن أدخرها لكم حتى تكون بحضرة الهاشميين والقضاة والمعدلين وأصحاب المراتب في غد إذا صليت صلاة الجمعة قال فكأنهم لانوا لذلك قليلا فلما كان يوم الأحد لثمان بقين من صفر ظفروا بصالح بن وصيف فقتل وجيء برأسه إلى المهتدي بالله وقد انفتل من صلاة المغرب فلم يزد على أن قال واروه ثم أخذ في تسبيحه وذكره ولما أصبح الصباح من يوم الإثنين رفع الرأس على رمح ونودي عليه في أرجاء البلد هذا جزاء من قتل مولاه وما زال الأمر مضطربا متفاقما وعظم الخطب حتى أفضى إلى خلع الخليفة المهتدي وقتله رحمه الله خلع المهتدي بالله وولاية المعتمد أحمد بن المتوكل لما بلغ موسى بن بغا أن مساور الشاري قد عاث بتلك الناحية فسادا ركب إليه في جيش كثيف ومعه مفلح وبايكباك التركي فاقتتلوا هم ومساور الخارجي ولم يظفروا به بل هرب منهم وأعجزهم وكان قد فعل قبل مجيئهم الأفاعيل المنكرة فرجعوا ولم يقدروا عليه ثم إن الخليفة أراد أن يخالف بين كلمة الأتراك فكتب إلى بايكباك أن يتسلم الجيش من موسى بن بغا ويكون هو الأمير على الناس وأن يقبل بهم إلى سامرا فلما وصل إليه الكتاب أقرأه موسى بن بغا فاشتد غضبه على المهتدي واتفقا عليه وقصدا إليه إلى سامرا وتركا ما كانا فيه فلما بلغ المهتدي ذلك استخدم من فوره جندا من المغاربة والفراغنة والأشروسية والأرزكشية والأتراك أيضا وركب في جيش كثيف فما سمعوا به رجع موسى بن بغا إلى طريق خراسان وأظهر بايكباك السمع والطاعة فدخل في ثاني عشر رجب إلى الخليفة سامعا مطيعا فلما أوقف بين يديه وحوله الأمراء والسادة من بني هاشم شاورهم في قتله فقال له صالح بن علي بن يعقوب بن أبي جعفر المنصور يا أمير المؤمنين لم يبلغ أحد من الخلفاء في الشجاعة ما بلغت وقد كان أبو مسلم الخراساني شرا من هذا وأكثر جندا ولما قتله المنصور سكنت الفتنة وخمد صوت أصحابه فأمر عند ذلك بضرب عنق بايكباك ثم ألقى رأسه إلى الأتراك فلما رأوا ذلك أعظموه وأصبحوا من الغد مجتمعين على أخي بايكباك طغوتيا فخرج إليهم الخليفة فيمن معه فلما التقوا خامرات الأتراك الذين مع الخليفة إلى أصحابهم وصاروا إلبا واحدا على الخليفة فحمل الخليفة فقتل منهم نحوا من أربعة آلاف ثم حملوا عليه فهزموه ومن معه فانهزم الخليفة وبيده السيف صلتا وهو ينادي يا أيها الناس انضروا خليفتكم فدخل دار أحمد بن جميل صاحب المعونة فوضع فيها سلاحه ولبس البياض وأراد أن يذهب فيختفي فعاجله أحمد بن خاقان منها فأخذه قبل أن يذهب ورماه بسهم وطعن في خاصرته به وحمل على دابة وخلفة سائس وعليه قميص وسراويل حتى أدخلوه دار أحمد بن خاقان فجعل من هناك يصفعونه ويبزقون في وجهه وأخذ خطه بستمائة ألف دينار (11/22)
وسلموه إلى رجل فلم يزل يجأ خصيتيه ويطؤهما حتى مات رحمه الله وذلك يوم الخميس لثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب وكانت خلافته أقل من سنة بخمسة أيام وكان مولده في سنة تسع عشرة وقيل خمس عشرة ومائتين وكان أسمر رقيقا أحنى حسن اللحية يكنى أبا عبدالله وصلى عليه جعفر بن عبدالواحد ودفن بمقبرة المنتصر بن المتوكل قال الخطيب وكان من أحسن الخلفاء مذهبا وأجودهم طريقة وأكثرهم ورعا وعبادة وزهادة قال وروى حديثا واحدا قال حدثني علي بن هشام بن طراح عن محمد بن الحسن الفقيه عن ابن أبي ليلى وهو داود بن علي عن أبيه عن ابن عباس قال قال العباس يا رسول الله ما لنا في هذا الأمر قال ( لي النبوة ولكم الخلافة بكم يفتح هذا الأمر وبكم يختم ) وقال للعباس ( من أحبك نالته شفاعتي ومن أبغضك لا نالته شفاعتي ) وروى الخطيب أن رجلا استعان المهتدي على خصمه فحكم بينهما بالعدل فأنشأ الرجل يقول ... حكمتموه فقضى بينكم ... أبلج مثل القمر الزاهر ... لا يقبل الرشوة في حكمه ... ولا يبالي غبن الخاسر ... فقال له المهتدي أما أنت أيها الرجل فأحسن الله مقالتك ولست أغتر بما قلت وأما أنا فإني ما جلست مجلسي هذا حتى قرأت ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين قال فبكى الناس حوله فما رؤي أكثر باكيا من ذلك اليوم وقال بعضهم سرد المهتدي الصوم من حين تولى إلى حين قتل رحمه الله وكان يحب الاقتداء بما سلكه عمر بن عبدالعزيز الأموي في خلافته من الورع والتقشف وكثرة العبادة وشدة الاحتياط ولو عاش ووجد ناصرا لسار سيرته ما أمكنه وكان من عزمه أن يبيد الأتراك الذين أهانوا الخلفاء وأذلوهم وانتهكوا منصب الخلافة وقال أحمد بن سعيد الأموي كنا جلوسا بمكة وعندي جماعة ونحن نبحث في النحو وأشعار العرب إذ وقف علينا رجل نظنه مجنونا فأنشأ يقول ... أما تستحيون الله يا معدن النحو ... شغلتم بذا والناس في أعظم الشغل ... وإمامكم أضحى قتيلا مجندلا ... وقد أصبح الاسلام مفترق الشمل ... وأنتم على الأشعار والنحو عكفا ... تصيحون بالأصوات في أحسن السبل ... قال فنظر وأرخنا ذلك اليوم فإذا المهتدي بالله قد قتل في ذلك اليوم وهو يوم الإثنين لأربع عشرة بقيت من رجب سنة ست وخمسين ومائتين
خلافة المعتمد على الله
وهو أحمد بن المتوكل على الله ويعرف بابن فتيان بويع بالخلافة يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة (11/23)
خلت من رجب في هذه السنة في دار الأمير يارجوخ وذلك قبل خلع المهتدي بأيام ثم كانت بيعة العامة يوم الإثنين لثمان مضت من رجب قيل ولعشرين بقين من رجب دخل موسى بن بغا ومفلح إلى سر من رأى فنزل موسى في داره وسكن وخمدت الفتنة هنالك وأما صاحب الزنج المدعى أنه علوي فهو محاصر للبصرة والجيوش الخليفية في وجهه دونها وهو في كل يوم يقهرهم ويغنم أموالهم وما يفد إليهم في المراكب من الأطعمة وغيرها ثم استحوذ بعد ذلك على الابلة وعبادان وغيرهما من البلاد وخاف منه أهل البصرة خوفا شديدا وكلما لأمره في قوة وجيوشه في زيادة ولم يزل ذلك دأبة إلى انسلاخ هذه السنة وفيها خرج رجل آخر في الكوفة يقال له علي بن زيد الطالبي وجاء جيش من جهة الخليفة فكسره الطالبي واستفحل أمره بالكوفة وقويت شوكته وتفاقم أمره وفيها وثب محمد بن واصل التميمي على نائب الأهواز الحارث بن سيما الشرابي فقتله واستحوذ على بلاد الأهواز وفي رمضان منها تغلب الحسن بن زيد الطالبي على بلاد الرى فتوجه إليه موسى بن بغا في شوال وخرج الخليفة لنوديعه وفيها كانت وقعة عظيمة على باب دمشق بين اماجور نائب دمشق ولم يكن معه إلا قريب من أربعمائة فارس وبين ابن عيسى بن الشيخ وهو في قريب من عشرين ألفا فهزمه اماجور وجاءت ولاية من الخليفة لابن الشيخ علي بلاد أرمينية على أن يترك أهل الشام فقبل ذلك وانصرف عنهم وفيها حج بالناس محمد بن أحمد بن عيسى بن المنصور وكان في جملة من حج أو أحمد بن المتوكل فتعجل وعجل السير إلى سامرا فدخلها ليلة الأربعاء لثلاث بقيت من ذي الحجة من هذه السنة وفيها توفي المهتدي بالله الخليفة كما تقدم رحمه الله تعالى
والزبير بن بكار
ابن عبدالله بن مصعب بن ثابت بن عبدالله بن الزبير بن العوام القرشي الزبيري قاضي مكة قدم بغداد وحدث بها وله كتاب أنساب قريش وكان من أهل العلم بذلك وكتابه في ذلك حافل جدا وقدر روى عنه ابن ماجة وغيره ووثقه الدارقطني والخطيب وأثنى عليه وعلى كتابه وتوفي بمكة عن أربع وثمانين سنة في ذي القعدة من هذه السنة
الإمام محمد بن إسماعيل البخاري
صاحب الصحيح وقد ذكرنا له ترجمة حافلة في أول شرحنا لصحيحه ولنذكر هاهنا نبذة يسيرة من ذلك فنقول هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بزدزبه الجعفي مولاهم أبو عبدالله البخاري الحافظ إمام أهل الحديث في زمانه والمقتدى به في أوانه والمقدم على سائر أضرابه وأقرانه وكتابه الصحيح يستقى بقراءته الغمام وأجمع العلماء على قبوله وصحة ما فيه وكذلك (11/24)
سائر أهل الإسلام ولد البخاري رحمه الله في ليلة الجمعة الثالث عشر من شوال سنة أربع وتسعين ومايه ومات أبوه وهو صغير فنشأ في حجر أمه فألهمه الله حفظ الحديث وهو في المكتب وقرأ الكتب المشهورة وهو ابن ست عشر سنة حتى قيل إنه كان يحفظ وهو صبي سبعين ألف حديث سردا وحج وعمره ثماني عشرة سنة فأقام بمكة يطلب بها الحديث ثم رحل بعد ذلك إلى سائر مشايخ الحديث في البلدان التي أمكنته الرحلة إليها وكتب عن أكثر من ألف شيخ وروى عنه خلائق وأمم وقد روى الخطيب البغدادي عن الفربري أنه قال سمع الصحيح من البخاري معي نحو من سبعين ألفا لم يبق منهم أحد غيري وقد روى البخاري من طريق الفربري كما هي رواية الناس اليوم من طريقه وحماد بن شاكر وإبراهيم بن معقل وطاهر بن مخلد وآخر من حدث عنه أبو طلحة منصور بن محمد بن علي البردى النسفي وقد توفي النسفي هذا في سنة نسع وعشرين وثلاثمائة ووثقه الأمير أبو نصر بن ماكولا وممن روى عن البخاري مسلم في غير الصحيح وكان مسلم يتلمذ له ويعظمه وروى عنه الترمذي في جامعه والنسائي في سننه في قول بعضهم وقد دخل بغداد ثمان مرات وفي كل منها يجتمع بالامام أحمد فيحثه أحمد على المقام ببغداد ويلومه على الاقامة بخراسان وقد كان البخاري يستيقظ في الليلة الواحدة من نومه فيوقد السراج ويكتب الفائدة تمر بخاطرة ثم يطفىء سراجه ثم يقوم مرة أخرى وأخرى حتى كان يتعدد منه ذلك قريبا من عشرين مرة وقدكان أصيب بصره وهو صغير فرأت أمه إبراهيم الخليل عليه الصلاة و السلام فقال يا هذه قد رد الله على ولدك بصرة بكثرة دعائك أو قال بكائك فأصبح وهو بصير وقال البخاري فكرت البارحة فإذا أنا قد كتبت لي مصنفات نحوا من مائتي ألف حديث مسندة وكان يحفظها كلها ودخل مرة إلى سمرقند فاجتمع بأربعمائة من علماء الحديث بها فركبوا أسانيد وأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق وخلطوا الرجال في الأسانيد وجعلوا متون الأحاديث على غير أسانيدها ثم قرؤها على البخاري فرد كل حديث إلى إسناده وقوم تلك الأحاديث والأسانيد كلها وما تعنتوا عليه فيها ولم يقدروا أن يعلفوا عليه سقطة في إسناد ولا متن وكذلك صنع في بغداد وقد ذكروا أنه كان ينظر في الكتاب مرة واحدة فيحفظه من نظرة واحدة والأخبار عنه في ذلك كثيرة وقد أثنى عليه علماء زمانه من شيوخه وأقرانه فقال الإمام أحمد ما أخرجت خراسان مثله وقال علي بن المديني لم ير البخاري مثل نفسه وقال إسحاق بن راهويه لو كان في زمن الحسن لاحتاج الناس إليه في الحديث ومعرفته وفقهه وقال أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبدالله بن نمير ما رأينا مثله وقال علي بن حجر لا أعلم مثله وقال محمود بن النظر بن سهل الشافعي دخلت البصرة والشام والحجاز والكوفة ورأيت علماءها كلما جرى ذكر محمد بن إسماعيل (11/25)
البخاري فضلوه على أنفسهم وقال أبو العباس الدعولي كتب أهل بغداد إلى البخاري ... المسلمون بخير ما حييت لهم ... وليس بعدك خير حين تفتقد ... وقال الفلاس كل حديث لا يعرفه البخاري فليس بحديث وقال أبو نعيم أحمد بن حماد هو فقيه هذه الأمة وكذا قال يعقوب بن إبراهيم الدورقي ومنهم من فضله في الفقه والحديث على الإمام أحمد بن حنبل واسحاق بن راهويه وقال قتيبة بن سعيد رحل إلي من شرق الأرض وغربها خلق فما رحل إلى مثل محمد بن إسماعيل البخاري وقال مرجى بن رجاء فضل البخاري على العلماء كفضل الرجال على النساء يعني في زمانه وأما قبل زمانه مثل قرب الصحابة والتابعين فلا وقال هو آية من آيات الله تمشي على الأرض وقال أبو محمد عبدالله بن عبدالرحمن الدرامي محمد بن إسماعيل البخاري أفقهنا وأعلمنا وأغوصنا وأكثرنا طلبنا وقال إسحاق بن راهويه هو أبصر مني وقال أبو حاتم الرازي محمد بن إسماعيل أعلم من دخل العراق وقال عبداله العجلي رأيت أبا حاتم وأبا زرعة يجلسان إليه يسمعان ما يقول ولم يكن مسلم يبلغه وكان أعلم من محمد بن يحيى الذهلي بكذا وكذا وكان حييا فاضلا يحسن كل شيء وقال غيره رأيت محمد بن يحيى الذهلي يسأل البخاري عن الأسامي والكنى والعلل وهو يمر فيه كالسهم كأنه يقرأ قل هو الله أحد وقال أحمد بن حمدون انتصار رأيت مسلم بن الحجاج جاء إلى البخاري فقبل بن عينيه وقال دعني أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيد المحدثين وطبيب الحديث في علله ثم سأله عن حديث كفارة المجلس فذكر له علته فلما فرغ قال مسلم لا يبغضك إلا حاسد وأشهد أن ليس في الدنيا مثلك وقال الترمذي لم أر بالعراق ولا في خراسان في معنى العللل والتاريخ ومعرفة الأسانيد أعلم من البخاري وكنا يوما عند عبدالله بن منير فقال للبخاري جعلك الله زين هذه الأمة قال الترمذي فاستجيب له فيه وقال ابن خزيمة ما رأيت تحت أجيم السماء أعلم بحديث رسول الله ( ص ) ولا أحفظ له من محمد بن إسماعيل البخاري ولو استقصينا ثناء العلماء عليه في حفظه وإتقانه وعلمه وفقهه وورعه وزهده وعبادته لطال علينا ونحن على عجل من أجل الحوادث والله سبحانه المستعان وقد كان البخاري رحمه الله في غاية الحياء والشجاعة والسخاء والورع والزهد في الدنيا دار الفناء والرغبة في الآخرة دار البقاء وقال البخاري إني لأرجو أن ألقى الله ليس أحد يطالبني أني اغتبته فذكر له التاريخ وما ذكر فيه من الجرح والتعديل وغير ذلك فقال ليس هذا من هذا قال النبي ( ص ) ( إيذنوا له فلبئس أخو العشيرة ) ونحن إنما روينا ذلك رواية ولم نقله من عند أنفسنا وقد كان رحمه الله يصلي في كل ليلة ثلاث عشرة ركعة وكان يختم القرآن في كل ليلة رمضان ختمة وكانت له جدة ومال جيد ينفق منه سرا وجهرا وكان يكثر الصدقة بالليل والنهار وكان مستجاب الدعوة مسدد (11/26)
الرمية شريف النفس بعث إليه بعض السلاطين ليأتيه حتى يسمع أولاده عليه فأرسل إليه في بيته العلم والحلم يؤتى يعني إن كنتم تريدون ذلك فهلموا إلي وأبى أن يذهب إليهم والسلطان خالد بن أحمد الذهلي نائب الظاهرية ببخارى فبقى في نفس الأمير من ذلك فاتفق أن جاء كتاب من محمد بن يحيى الذهلي بأن البخاري يقول لفظه بالقرآن مخلوق وكان وقد وقع بين محمد بن يحيى الذهلي وبين البخاري في ذلك كلام وصنف البخاري في ذلك كتاب أفعال العباد فأراد أن يصرف الناس عن السماع من البخاري وقد كان الناس يعظمونه جدا وحين رجع إليهم نثروا على رأسه الذهب والفضة يوم دخل بخارى عائدا إلى أهله وكان له مجلس يجلس فيه للإملاء بجامعها فلم يقبلوا من الأمير فأمر عند ذلك بنفيه من تلك البلاد فخرج منها ودعا على خالد بن أحمد فلم يمض شهر حتى أمر ابن الظاهر بأن ينادى على خالد بن أحمد على أتان وزال ملكه وسجن في بغداد حتى مات ولم يبق أحد يساعده على ذلك إلا ابتلي ببلاء شديد فنزح البخاري من بلده إلى بلدة يقال لها خرتنك على فرسخين من سمرقند فنزل عند أقارب له بها وجعل يدعو الله أن يقبضه إليه حين رأى الفتن في الدين ولما جاء في الحديث ( وإذا أردت بقوم فتنة فتوفنا إليك غير مفتونين ) ثم اتفق مرضه على إثر ذلك فكانت وفاته ليلة عيد الفطر وكان ليلة السبت عند صلاة العشاء وصلي عليه يوم العيد بعد الظهر من هذه السنة أعنى سنة ست وخمسين ومائتين وكفن في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة وفق ما أوصى به وحين ما دفن فاحت من قبره رائحة غالية أطيب من ريح المسك ثم دام ذلك أياما ثم جعلت ترى سواري بيض بحذاء قبره وكان عمره يوم مات ثنتين وستين سنة وقد ترك رحمه الله بعده علما نافعا لجميع المسلمين فعلمه لم ينقطع بل هو موصول بما أسداه من الصالحات في الحياة وقد قال رسول الله ( ص ) ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث علم ينتفع به ) الحديث رواه مسلم وشرطه في صحيحه هذا أعز من شرط كل كتاب صنف في الصحيح لا يوازيه فيه غيره لا صحيح مسلم ولا غيره وما أحسن ما قال بعض الفصحاء من الشعراء ... صحيح البخاري لو أنصفوه ... لما خط إلا بماء الذهب ... هو الفرق بين الهدى والعمى ... هو السد بين الفتى والعطب ... أسانيد مثل نجوم السماء ... أمام متون لها كالشهب ... بها قام ميزان دين الرسول ... ودان به العجم بعد العرب ... حجاب من النار لا شك فيه ... يمز بين الرضى والغضب ... وستر رقيق إلى المصطفى ... ونص مبين لكشف الريب (11/27)
فيا عالما أجمع العالمو ... ن على فضل رتبته في الرتب ... سبق الأئمة فيما جمعت ... وفزت على زعمهم بالقصب ... نفيت الضعف من الناقل ... ين ومن كان منهما بالكذب ... وأبرزت في حسن ترتيبه ... وتبويبه عجبا للعجب ... فأعطاك مولاك ما تشتهيه ... وأجزل حظك فيما وهب ...
ثم دخلت سنة سبع وخمسين ومائتين
فيها ولي الخليفة المعتمد ليعقوب بن الليث بلخ وطخارستان وما يلي ذلك من كرمان وسجستان والسند وغيرها وفي صفر منها عقد المعتمد لأخيه أبي أحمد على الكوفة وطريق مكة والحرمين واليمن وأضاف إليه في رمضان نيابة بغداد والسواد وواسط وكور دجلة والبصرةى والأهواز وفارس وأذن له أن يستنيب في ذلك كله وفيها تواقع سعيد الحاجب وصاحب الزنج في أراضي البصرة فهزمه سعيد الحاجب واستنقذ من يده خلقا من النساء والذرية واسترجع منه أموالا جزيلة وأهان الزنج غاية الإهانة ثم إن الزنج بيتوا سعيدا وجيشه فقتلوا منهم خلقا كثيرا ويقال أن سعيد بن صالح قتل أيضا ثم إن الزنج التقواهم والمنصور بن جعفر الخياط في جيش كثيف فهزمهم صاحب الزنج المدعى أنه طالبي وهو كاذب قال ابن جرير وفيها ظفر ببغداد بموضع بقال له بركة زلزل برجل خناق قد قتل خلقا من النساء كان يؤلف المرأة ثم يخنقها ويأخذ ما عليها فحمل إلى المعتمد فضرب بين يديه بألفي سوط وأربعمائة فلم يمت حتى ضربه الجلادون على أنثييه بخشب العقابن فمات ورد إلى بغداد وصلب هناك ثم أحرقت جثته وفي ليلة الرابع عشر من شوال من هذه السنة كسف القمر وغاب أكثره وفي صبيحة هذا اليوم دخل جيش الخبيث الزنجي إلى البصرة قهرا فقتل من أهلها خلقا وهرب نائبها بغراج ومن معه وأحرقت الزنج جامع البصرة ودورا كثيرة وانتهبوها ثم تادى فيهم إبراهيم بن المهلبى أحد أصحاب الزنجي الخارجي من أراد الامان فليحضر فاجتمع عنده خلق كثير من أهل البصرة فرأى أنه قد أصاب فرصة فغدر بهم وأمر بقتلهم فلم يفلت منهم إلا الشاذ كانت الزنج 8 تحيط بجماعة من أهل البصرة ثم يقول بعضهم لبعض كيلوا وهي الاشارة بينهم إلى القتل فيحملون عليهم بالسيوف فلا يسمع إلا قول أشهد أن لا إله الله من أولئك المقتولين وصجيجهم عند القتل أي صراخ الزنج وضحكهم فإنا لله وإنا إليه راجعون وهكذا كانوا يفعلون في كل محال البصرة في عدة أيام نحسات وهرب الناس منهم كل مهرب وحرقوا الكلأ من الجبل إلى الجبل فكانت النار تحرق ما وجدت من شيء من إنسان أو بهيمة أو اثار أو غير ذلك وأحرقوا المسجد الجامع وقد قتل هؤلاء جماعة كثيرة من الأعيان والأدباء والفضلا والمحدثين (11/28)
والعلماء فإنا لله وإنا إليه راجعون ( 1 ) وكان هذا الخبيث قد أوقع في أهل فارس وقعة عظيمة ثم بلغه أن أهل البصرة قد جاءهم من الميرة شيء كثير وقد اتسعوا بعد الضيق فحسدهم على ذلك فروى ابن جرير عن من سمعه يقول دعوت الله علي أهل البصرة فخوطبت فقيل إنما أهل البصرة خبزة لك تأكلها من جوانبها فإذا انكسر نصف الرغيف خربت البصرة فأولت الرغيف القمر وانكساره انكسافه وقد كان هذا شائعا في أصحابه حتى وقع الأمر طبق ما أخبر به ولا شك أن هذا كان معه شيطان يخاطبه كما كان يأتي الشيطان مسيلمة وغيره قال ولما وقع ما وقع من الزنج بأهل البصرة قال هذا الخبيث لمن معه إني صبيحة ذلك دعوت الله على أهل البصرة فرفعت لي البصرة بين السماء والأرض ورأيت أهلها يقتلون ورأيت الملائكة تقاتل مع أصحابي وإني لمنصور على الناس والملائكة تقاتل معي وتثبت جيوشي ويؤيدني في حروبي ولما صار إليه العلوية الذين كانوا بالبصرة انتسب هو حينئذ إلى يحيى بن زيد وهو كاذب في ذلك بالاجماع لأن يحيى بن زيد لم يعقب إلا بنتا ماتت وهي ترضع فقبح الله هذا اللعين ما أكذبه وأفجره وأغدره وفيها في مستهل ذي القعدة وجه الخليفة جيشا كثيفا مع الأمير محمد المعروف بالمولد لقتال صاحب الزنج فقبض في طريقه على سعد بن أحمد الباهلي الذي كان قد تغلب على أرض البطائح وأخاف السبيل وفيها خالف محمد بن واصل الخليفة بأرض فارس وتغلب عليها وفيها وثب رجل من الروم يقال له بسيل الصقعلبي على ملك الروم ميخائيل بن توفيل فقتله واستحوذ على مملكة الروم وقد كان لميخائيل في الملك على الروم أربع وعشرون سنة وحج بالناس فيها الفضل بن إسحاق العباسي وفيها توفي من الأعيان
الحسن بن عرفة بن يزيد
صاحب الجزء المشهور المروى وقد جاوز المائة بعشر سنين وقيل بسبع وكان له عشرة من الولد سماهم بأسماء العشرة وقد وثقه يحيى بن معين وغيره وكان يتردد إلى الإمام أحمد بن حنبل ولد في سنة خمسين ومائة وتوفي في هذه السنة عن مائة وسبع سنين وأبو سعيد الأشج وبريد بن أخرم الطائي والرواسي ذبحهما الزنج في جملة من ذبحوا من أهل البصرة وعلي ب خشرم أحد مشايخ مسلم الذي يكثر عنهم الرواية والعباس بن الفرج أبو الفضل الرياشي النحوي اللغوي كان عالما بأيام العرب والسير وكان كثير الاطلاع ثقة عالما روى عن الأصمعي وأبي عبيدة وغيرهما وعنه إبراهيم الحربي وأبو بكر بن أبي الدنيا وغيرهما قتل بالبصرة في هذه السنة قتله الزنج ذكره ابن خلكان في الوفيات وحكى عنه الأصمعي أنه قال (11/29)
مر بنا أعرابي ينشد ابنه فقلنا له صفه لنا فقال كأنه دنينير فقلنا لم نره فلم نلبث أن جاء يحمله على عنقه أسيود كأنه سفل قدر فقلت لو سألتنا عن هذا لأرشدناك إنه منذ اليوم يلعب ههنا مع الغلمان ثم أنشد الأصمعي ... نعم ضجيع الفتى إذا برد ... الليل سحرا وقرقف العرد ... زينها الله في الفؤاد كما ... زين في عين والد ولد ...
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومائتين
في يوم الإثنين لعشر بقين من ربيع الأول عقد الخليفة لأخيه أبي أحمد علي ديار مصر وقنسرين والعواصم وجلس يوم الخميس في مستهل ربيع الآخر فخلع على أخيه وعلى مفلح وركبا نحو البصرة في جيش كثيف في عدد وعدد فاقتتلوا هم والزنج قتالا شديدا فقتل مفلح للنصف من جمادى الأولى أصابه سهم بلا نصل في صدره فأصبح ميتا وحملت جثته إلى سامرا فدفن بها وفيها أسر يحيى بن محمد البحراني أحد أمراء صاحب الزنج الكبار وحمل إلى سامرا فضرب بين يدي المعتمد مائتي سوط ثم قطعت يداه ورجلاه من خلاف ثم أخذ بالسيوف ثم ذبح ثم أحرق وكان الذين أسروه جيش أبي أحمد في وقعة هائلة مع الزنج قبحهم الله ولما بلغ خبره صاحب الزنج أسف على ذلك ثم قال لقد خوطبت فيه فقيل لي قتله كان خيرا لك لأنه كان شرها يخفى من المغانم خيارها وقد كان صاحب الزنج يقول لأصحابه لقد عرضت علي النبوة فخفت أن لا أقوم بأعبائها فلم أقبلها وفي ربيع الآخر منها وصل سعيد بن أحمد الباهلي إلى باب الخليفة فضرب سبعمائة سوط حتى مات ثم صلب وفيها قتل قاض وأربعة وعشرون رجلا من أصحاب صاحب الزنج عند باب العامة بسامرا وفيها رجع محمد بن واصل إلى طاعة السلطان وحمل خراج فارس وتمهدت الأمور هناك وفيها في أواخر رجب كان بين أبي أحمد وبين الزنج وقعة هائلة فقتل منها خلق من الفريقين ثم استوخم أبو أحمد منزله فانتقل إلى واسط فنزلها في أوائل شعبان فلما نزلها وقعت هناك زلزلة شديدة وهدة عظيمة تهدمت فيها بيوت ودور كثيرة ومات من الناس نحو من عشرين ألفا وفيها وقع في الناس وباء شديد وموت عريض ببغداد وسامرا وواسط وغيرها من البلاد وحصل للناس ببغداد داء يقال له القفاع وفي يوم الخميس لسبع خلون من رمضان اخذ رجل من باب العامة بسامرا ذكر عنه أنه يسب السلف فضرب ألف سوط حتى مات وفي يوم الجمعة ثامنه توفي الأمير يارجوخ فصلى عليه أخو الخليفة أبو عيسى وحضره جعفر بن المعتمد على الله وفيها كانت وقعة هائلة بين موسى بن بغا وبين أصحاب الحسين بن زيد ببلاد خراسان فهزمهم موسى هزيمة فظيعة وفيها كانت وقعة بين مسرور البلخي وبين مساور الخارجي فكسره مسرور وأسر من أصحابه جماعة (11/30)
كثيرة وفيها حج بالناس الفضل بن إسحاق المتقدم ذكره وفيها توفي من الأعيان أحمد بن بديل وأحمد بن حفص وأحمد بن سنان القطان ومحمد بن يحيى الذهلي ويحيى بن معاذ الرازي
ثم دخلت سنة تسع وخمسين ومائتين
في يوم الجمعة لأربع من ربيع الآخر رجع أبو أحمد بن المتوكل من واسط إلى سامرا وقد استخلف على حرب الزنج محمد الملقب بالمولد وكان شجاعا شهما وفيها بعث الخليفة إلى نائب الكوفة جماعة من القواد فذبحوه وأخذوا ما كان معه من المال فإذا هو أربعون ألف دينار وفيها تغلب رجل جمال يقال له شركب الجمال على مدينة مرو فانتهبها وتفاقم أمره وأمر أتباعه هناك ولثلاث عشرة بقيت من ذي القعدة توجه موسى بن بغا إلى حرب الزنج وخرج المعتمد لتوديعه وخلع عليه عند مفارقته له وخرج عبدالرحمن بن مفلح إلى بلاد الأهواز نائبا عليها وليكون عونا لموسى بن بغا على حرب صاحب الزنج الخبيث فهزم عبدالرحمن بن مفلح جيش الخبيث وقتل من الزنج خلقا كثيرا وأسر طائفة كبيرة منهم وأرعبهم رعبا كثيرا بحيث لم يتجاسروا على موافقتة مرة ثانية وقد حرضهم الخبيث كل التحريض فلم ينجع ذلك فيهم ثم تواقع عبدالرحمن بن مفلح وعلى ابن أبان المهلبي وهو مقدم جيوش صاحب الزنج فجرت بينهما حروب يطول شرحها ثم كانت الدائرة على الزنج ولله الحمد فرجع علي بن أبان إلى الخبيث مغلوبا مقهورا وبعث عبدالرحمن بالأسارى إلى سامرا فبادر إليهم العامة فقتلوا أكثرهم وسلبوهم قبل أن يصلوا إلى الخليفة وفيها دنا ملك الروم لعنه الله إلى بلاد سميساط ثم إلى ملطية فقاتله أهلها فهزموه وقتلوا بطريق البطارقة من أصحابه ورجع إلى بلاده خاسئا وهو حسير وفيها دخل يعقوب بن الليث إلى نيسابور وظفر بالخارجي الذي كان بهراة ينتحل الخلافة منذ ثلاثين سنة فقتله وحمل رأسه على رمح وطيف به في الآفاق ومعه رقعة مكتوب فيها ذلك وفيها حج بالناس إبراهيم بن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن يعقوب بن سليمان بن إسحاق بن علي بن عبدالله بن عباس وفيها توفي من الأعيان إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق أبو إسحاق الجوزجاني خطيب دمشق وإمامها وعالمها وله المصنفات المشهور المفيدة منها المترجم فيه علوم غزيرة وفوائده كثيرة
ثم دخلت سنة ستين ومائتين
فيها وقع غلاء شديد ببلاد الإسلام كلها حتى أحلى أكثر أهل البلدان منها إلى غيرها ولم يبق بمكة أحد من المجاورين حتى ارتحلوا إلى المدينة وغيرها من البلاد وخرج نائب ممكة منها وبلغ كر الشعير ببغداد مائة وعشرين دينارا واستمر ذلك شهورا وفيها قتل صاحب الزنج علي بن زيد صاحب الكوفة وفيها أخذ الروم من المسلمين حصن لؤلؤة وفيها حج بالناس إبراهيم بن محمد بن إسماعيل المذكور قبلها (11/31)
وفيها توفي من الأعيان الحسن بن محمد الزعفراني وعبدالرحمن بن شرف ومالك بن طوق صاحب الرحبة التي تنسب إليه وهو مالك بن طوق ويقال للرحبة رحبة مالك بن طوق وحنين ابن إسحاق العبادي الذي عرب كتاب اقليدس وحرره بعد ثابت بن قرة وعرب حنين أيضا كتاب المجسطي وغير ذلك من كتب الطب من لغة اليونان إلى لغة العرب وكان المأمون شديد الاعتناء بذلك جدا وكذلك جعفر البرمكي قبله ولحنين مصنفات كثيرة في الطب واليه تنسب مسائل حنين وكان بارعا في فنه جدا توفي يوم الثلاثاء لست خلون من صفر من هذه السنة قاله ابن خلكان
سنة إحدى وستين ومائتين
فيها انصرف الحسن بن زيد من بلاد الديلم إلى طبرستان وأحرق مدينة شالوس لمما لا تهم يعقوب بن الليث عليه وفيها قتل مساور الخارجي يحيى بن حفص الذي كان يلي طريق خراسان في جمادى الآخرة فشخص إليه مسرور البلخي ثم تبعه أبو أحمد بن المتوكل فهرب مساور فلم يلحق وفيها كانت وقعة بين ابن واصل الذي تغلب على فارس وعبدالرحمن بن مفلح فكسره ابن واصل وأسره وقتل طاشتمر واصطلم الجيش الذين كانوا معه فلم يفلت منهم إلا اليسير ثم سار ابن واصل إلى واسط يريد حرب موسى بن بغا فرجع موسى إلى نائب الخليفة وسأل أن يعفى من ولاية بلاد المشرق لما بها من الفتن فعزل عنها وولاها الخليفة إلى أخيه أبي أحمد وفيها سار أبو الساج إلى حرب الزنج فاقتتلوا قتالا شديدا وغلبتهم الزنج ودخلوا الأهواز فقتلوا خلقا من أهلها وأحرقوا منازل كثيرة ثم صرف أبو الساج عن نيابة الأهواز وخربها الزنج وولى الخليفة ذلك إبراهيم بن سيما وفيها تجهز مسرورا البلخى في جيش لقتال الزنج وفيها ولى الخليفة نصر بن أحمد بن أسد الساماني ما وراء نهر بلخ وكتب إليه بذلك في شهر رمضان وفي شوال قصد يعقوب بن الليث حرب ابن واصل فالتقيا في ذي القعدة فهزمه يعقوب وأخذ عسكره وأسر رجاله وطائفة من حرمه وأخذ من أمواله ما قيمته أربعون ألف ألف درهم وقتل من كان يمالئه وينصره من أهل تلك البلاد وأصلح الله به تلك الناحية ولاثنتي عشرة ليلة خلت من شوال ولى المعتمد على الله ولده جعفرا العهد من بعده وسماه المفوض إلى الله وولاه المغرب وضم إليه موسى بن بغا ولاية إفريقية ومصر والشام والجزيرة والموصل وأرمينية وطريق خراسان وغير ذلك وجعل الأمر من بعد ولده لأبي أحمد المتوكل ولقبه الموفق بالله وولاه المشرق وضم إليه مسرور البلخي وولاه المشرق وضم إليه مسرور البلخي وولاه بغداد والسواد والكوفة وطريق مكة والمدينة واليمن وكسكر وكوردجلة والأهواز وفارس وأصبهان والكرخ والدينور والرى وزنجان والسند وكتب بذلك مكاتبات وقرئت بالآفاق وعلق منها نسخة بالكعبة وفيها حج بالناس الفضل بن إسحاق (11/32)
وفيها توفي من الأعيان أحمد بن سليمان الرهاوي وأحمد بن عبدالله العجلي والحسن بن أبي الشوارب بمكة وداود بن سليمان الجعفري وشعيب بن أيوب وعبدالله بن الواثق أخو المهتدي بالله وأبو شعيب السوسي وأبو يزيد البسطامي أحد أئمة الصوفية وعلي بن إشكاب وأخوه أبو محمد ومسلم بن الحجاج صاحب الصحيح
ذكر شيء من ترجمته بالاختصار
هو مسلم أبو الحسين القشيري النيسابوري أحد الأئمة من حفاظ الحديث صاحب الصحيح الذي هو تلو صحيح البخاري عند أكثر العلماء وذهبت المغاربة وأبو علي النيسابوري من المشارقة إلى تفضيل صحيح مسلم على صحيح البخاري فإن أرادوا تقديمه عليه في كونه ليس فيه شيء من التعليقات إلا القليل وأنه يسوق الأحاديث بتمامها في موضع واحد ولا يقطعها كتقطيع البخاري لها في الأبواب فهذا القدر لا يوازي قوة أسانيد البخاري واختياره في الصحيح لها ما أورده في جامعه معاصرة الراوي لشيخه وسماعه منه وفي الجملة فإن مسلما لم يشترط في كتابه الشرط الثاني كما هو مقرر في علوم الحديث وقد بسطت ذلك في أول شرح البخاري والمقصود أن مسلما دخل إلى العراق والحجاز والشام ومصر وسمع من جماعة كثيرين قد ذكرهم شيخنا الحافظ المزي في تهذيبه مرتبين على حروف المعجم وروى عنه جماعة كثيرون منهم الترمذي في جامعه حديثا واحدا وهو حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله ( ص ) قال ( احصوا هلال شعبان لرمضان ) وصالح بن محمد حرره وعبدالرحمن بن أبي حاتم وابن خزيمة وابن صاعد وأبو عوانة الأسفراييني وقال الخطيب أخبرني محمد بن أحمد بن يعقوب أخبرنا أحمد بن نعيم الضبي أخبرنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم سمعت أحمد بن سلمة يقول رأيت أبا زرعة وأبا حاتم يقدمان مسلم بن الحجاج في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما وأخبرني ابن يعقوب أنا محمد بن نعيم سمعت الحسين بن محمد الماسرخسي يقول سمعت أبي يقول سمعت مسلما بن الحجاج يقول صنفت هذا المسند الصحيح من ثلثمائة ألف حديث مسموعة وروى الخطيب قائلا حدثني أبو القاسم عبيدالله بن أحمد بن علي السودرجاني بأصبهان سمعت محمد بن إسحاق بن منده سمعت أبا علي الحسين بن علي النيسابوري يقول ما تخت أديم السماء أصح من كتاب مسلم بن الحجاج في علم الحديث وقد ذكر مسلم عند إسحاق بن راهويه قال بالعجمية ما معناه أي رجل كان هذا وقال إسحاق بن منصور لمسلم لن نعدم الخير ما أبقاك الله للمسلمين وقد أثنى عليه جماعة من العلماء من أهل الحديث وغيرهم وقال أبو عبدالله محمد بن يعقوب الأخرم قل ما يفوت البخاري ومسلما ما يثبت في الحديث وروى الخطيب عن أبي عمر محمد بن حمدان الحيرى قال سألت أبا العباس أحمد بن سعيد بن عقدة الحافظ (11/33)
عن البخاري ومسلم أيهما أعلم فقال كان البخاري عالما ومسلما عالما فكررت ذلك عليه مرارا وهو يرد علي هذا الجواب ثم قال با أبا عمرو قد يقع للبخاري الغلط في أهل الشام وذلك أنه أخذ كتبهم فنظر فيها فربما ذكر الواحد منهم بكنيته ويذكره في موضع آخر باسمه ويتوهم أنهما اثنان وأما مسلم فقل ما يقع له الغلط لأنه كتب المقاطيع والمراسيل قال الخطيب إنما قفا مسلم طريق البخاري ونظر في علمه وحذا حذوه ولما ورد البخاري نيسابور في آخر أمره لازمه مسلم وأدام الاختلاف إليه وقد حدثني عيدالله بن أحمد بن عثمان الصيرفي قال سمعت أبا الحسن الدارقطني يقول لولا البخاري ما ذهب مسلم ولا جاء قال الخطيب وأخبرني أبو بكر المنكدر ثنا محمد بن عبدالله الحافظ حدثني أبو نصر بن محمد الزراد سمعت أبا حامد أحمد بن حمدان القصار سمعت مسلم بن الحجاج وجاء إلى محمد بن إسماعيل البخاري فقبل بين عينيه وقال دعني حتى أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيد المحدثين وطبيب الحديث في علله حدثك محمد بن سلام ثنا مخلد بن يزيد الحراني حدثنا ابن جريج عن موسى بن عقبة عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي ( ص ) في كفارة المجلس فما علته فقال البخاري هذا حديث مليح ولا أعلم في الدنيا في هذا الباب غير هذا الحديث إلا أنه معلول ثنا به موسى بن إسماعيل ثنا وهيب عن سهيل عن عون بن عبدالله قوله قال البخاري وهذا أولى فإنه لا يعرف لموسى بن عقبة سماع من سهيل قلت وقد أفردت لهذا الحديث جزءا على حدة وأوردت فيه طرقه وألفاظه ومتنه وعلله قال الخطيب وقد كان مسلم يناضل عن البخاري ثم ذكر ما وقع بين البخاري ومحمد بن يحيى الذهلي في مسألة اللفظ بالقرآن في نيسابور وكيف نودى على البخارى بسبب ذلك بنيسابور وأن الذهلي قال يوما لأهل مجلسه وفيهم مسلم بن الحجاج ألا من كان يقول بقول البخاري في مسألة اللفظ بالقرآن فليعتزل مجلسنا فنهض مسلم من فوره إلى منزله وجمع ما كان سمعه من الذهلي جميعه وأرسله إليه وترك الرواية عن الذهلي بالكلية فلم يرو عنه شيئا لا في صحيحه ولا في غيره واستحكمت الوحشة بينهما هذا ولم يترك البخاري محمد بن يحيى الذهلي بل روى عنه في صحيحه وغيره وعذره رحمه الله وقد ذكر الخطيب سبب موت مسلم رحمه الله أنه عقد له مجلس للمذاكرة فسئل يوما عن حديث فلم يعرفه فانصرف إلى منزله فأوقد السراج وقال لأهله لا يدخل أحد الليلة علي وقد أهديت له سلة من تمر فهي عنده يأكل تمرة ويكشف عن حديث ثم يأكل أخرى ويكشف عن آخر فلم يزل ذلك دأبه حتى أصبح وقد أكل تلك السلة وهو لا يشعر فحصل له بسبب ذلك ثقل ومرض من ذلك حتى كانت وفاته عشية يوم الأحد ودفن يوم الإثنين لخمس بقين من رجب سنة إحدى وستين ومائتين بنيسابور وكان مولده في السنة التي توفي فيها الشافعي وهي سنة أربع ومائتين فكان (11/34)
عمره سبعا وخمسين سنة رحمه الله تعالى
أبو يزيد البسطامي
اسمه طيفور بن عيسى بن علي أحد مشايخ الصوفية وكان جده مجوسيا فأسلم وكان لأبي يزيد أخوات صالحات عابدات وهو أجلهم قيل لأبي يزيد بأي شيء وصلت إلى المعرفة فقال ببطن جائع وبدن عار وكان يقول دعوت نفسي إلى طاعة الله فلم تجبني فمنعتها الماء سنة وقال إذا رأيتم الرجل قد أعطي من الكرامات حتى يرتفع في الهواء فلا تعتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود والوقوف عند الشريعة قال ابن خلكان وله مقامات ومجاهدات مشهورة وكرامات ظاهرة توفي سنة إحدى وستين ومائتين قلت وقد حكى عنه شحطات ناقصات قد تأولها كثير من الفقهاء والصوفية وحملوها على محامل بعيدة وقد قال بعضهم إنه قال ذلك في حال الاصطلام والغيبة ومن العلماء من بدعه وخطأه وجعل ذلك من أكبر البدع وأنها تدل على اعتقاد فاسد كامن في القلب ظهر في أوقاته والله أعلم
ثم دخلت سنة اثنتين وستين ومائتين
فيها قدم يعقوب بن الليث في جحافل فدخل واسط قهرا فخرج الخليفة المعتمد بنفسه من سامرا لقتاله فتوسط بين بغداد وواسط فانتدب له أبو احمد الموفق بالله أخو الخليفة في جيش عظيم على ميمنته موسى بن بغا وعلى ميسرته مسرور البلخي فاقتتلوا في رجب من هذه السنة أياما قتالا عظيما ثم كانت الغلبلة على يعقوب وأصحابه وذلك يوم عيد الشعانين فقتل منهم خلق كثير وغنم منهم أبو أحمد شيئا كثيرا من الذهب والفضة والمسك والدواب ويقال إنهم وجدوا في جيش يعقوب هذا رايات عليها صلبان ثم انصرف المعتمد إلى المدائن ورد محمد بن طاهر إلى نيابة بغداد وأمر له بخمسمائة ألف درهم وفيها غلب يعقوب بن الليث على بلاد فارس وهرب ابن واصل منها وفيها كانت حروب كثيرة بين صاحب الزنج وجيش الخليفة وفيها ولي القضاء على بن محمد بن أبي الشوارب وفيها جمع للقاضي إسماعيل بن إسحاق قضاء جانبي بغداد وفيها حج بالناس الفضل بن إسحاق العباسي قال ابن جرير وفيها وقع بين الخياطين والخرازين بمكة فاقتتلوا يوم التروية أو قبله بيوم فقتل منهم سبعة عشر نفسا وخاف الناس ان يفوتهم الحج بسببهم ثم توادعوا إلى ما بعد الحج وفيها توفي من الأعيان صالح بن علي بن يعقوب بن المنصور في ربيع الآخر منها وعمر بن شبة النميري ومحمد بن عاصم ويعقوب بن شيبة صاحب المسند الحافل المشهور والله أعلم
ثم دخلت سنة ثلاث وستين ومائتين
فيها جرت حروب كثيرة منتشرة في بلاد شتى فمن ذلك مقتلة عظيمة في الزنج لعنهم الله (11/35)
حصرهم في بعض المواقف بعض الأمراء من جهة الخليفة فقتل الموجودين عنده عن آخرهم وفيها سلمت الصقالبة حصن لؤلؤة إلى طاغية الروم وفيها تغلب أخو شركب الجمال علي نيسابور وأخرج منها عاملها الحسين بن طاهر وأخذ من أهلها ثلث أموالهم مصادرة قبحه الله وحج بالناس فيها الفضل بن إسحاق العباسي وفيها توفي من الأعيان مساور بن عبدالحميد الشاري الخارجي وقد كان من الأبطال والشجعان المشهورين والتف عليه خلق من الأعراب وغيرهم وطالت مدته حتى قصمه الله ووزير الخلافة عبيدالله بن يحيى بن خاقان صدمه في الميدان خادم يقال له رشيق فسقط عن دابته على أم رأسه فخرج دماغه من أذنيه وأنفه فمات بعد ثلاث ساعات وصلى عليه أبو أحمد الموفق بن المتوكل ومشى في جنازته وذلك يوم الجمعة لعشر خلون من ذي القعدة من هذه السنة واستوزر من الغد الحسن بن مخلد فلما قدم موسى بن بغا سامرا عزله واستوزر مكانه سليمان بن وهب وسلمت دار عبدالله بن يحيى بن خاقان إلى الأمير المعروف بكيطلغ وفيها توفي أحمد بن الأزهر والحسن بن أبي الربيع ومعاوية بن صالح الأشعري
ثم دخلت سنة أربع وستين ومائتين
في المحرم منها عسكر أبو أحمد وموسى بن بغا بسامرا وخرجا منها لليلتين مضتا من صفر وخرج المعتمد لتوديعهما وسارا إلى بغداد فلما وصلا إلى بغداد توفي الأمير موسى بن بغا وحمل إلى سامرا فدفن بها وفيها ولي محمد بن المولد واسطا لمحاربة سليمان بن جامع نائبها من جهة صاحب الزنج فهزمه ابن المولد بعد حروب طويلة وفيها سار ابن الديراني إلى مدينة الدينور واجتمع عليه دلف بن عبدالعزيز بن أبي دلف وابن عياض فهزماه ونهبا أمواله ورجع مغلولا ولما توفي موسى بن بغا عزل الخليفة الوزير الذي كان من جهته وهو سليمان بن حرب وحبسه مقيدا وأمر بنهب دوره ودور أقربائه ورد الحسن بن مخلد إلى الوزارة فبلغ ذلك أبا أحمد وهو ببغداد فسار بمن معه إلى سامرا فتحصن منه أخوه المعتمد بجانبها الغربي فلما كان يوم التروية عبر جيش أبي أحمد إلى الجانب الذي فيه المعتمد فلم يكن بينهم قتال بل اصطلحوا على رد سليمان بن وهب إلى الوزارة وهرب الحسن بن مخلد فنهبت أمواله وحواصله واختفى أبو عيسى بن المتوكل ثم ظهر وهرب جماعة من الأمراء إلى الموصل خوفا من أبي أحمد وفيها حج بالناس هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمي الكوفي وفيها توفي من الأعيان أحمد بن عبدالرحمن بن وهب واسماعيل بن يحيى المزني أحد رواة الحديث عن الشافعي من أهل مصر وقد ترجمناه في طبقات الشافعيين (11/36)
أبو زرعة عبيد الله بن عبدالكريم الرازي
أحد الحفاظ المشهورين قيل إنه كان يحفظ سبعمائة ألف حديث وكان فقيها ورعا زاهدا عابدا متواضعا خاشعا أثنى عليه أهل زمانه بالحفظ والديانة وشهدوا له بالتقدم على أقرانه وكان في حال شبيبته إذا اجتمع بأحمد بن حنبل يقتصر أحمد على الصلوات المكتوبات ولا يفعل المندوبات اكتفاء بمذاكرته توفي يوم الإثنين سلخ ذي الحجة من هذه السنة وكان مولده سنة مائتين وقيل سنة تسعين ومائة وقد ذكرنا ترجمته مبسوطة في التكميل ومحمد بن إسماعيل بن علية قاضي دمشق ويونس بن عبدالأعلى الصدفي المصري وهو ممن روى عن الشافعي وقد ذكرناه في التكميل وفي الطبقات وقبيحة أم المعتز إحدى حظايا المتوكل على الله وقد جمعت من الجواهر واللآلئ والذهب والمصاغ ما لم يعهد لمثلها ثم سلبت ذلك كله وقتل ولدها المعتز لأجل نفقات الجند وشحت عليه بخمسين ألف دينار تداري بها عنه كانت وفاتها في ربيع الأول من هذه السنة
ثم دخلت سنة خمس وستين ومائتين
فيها كانت وقعة بين ابن ليثويه عامل أبي أحمد وبين سليمان بن جامع فظفر بها ابن ليثويه بابن جامع نائب صاحب الزنج فقتل خلقا من أصحابه وأسر منهم سبعة وأربعين أسيرا وحرق له مراكب كثيرة وغنم منهم أموالا جزيلة وفي المحرم من هذه السنة حاصر أحمد بن طولون نائب الديار المصرية مدينة انطاكية وفيها سيما الطويل فأخذها منه وجاءته هدايا ملك الروم وفي جملتها أسارى من أسارى المسلمين ومع كل أسير مصحف منهم عبدالله بن رشيد بن كاوس الذي كان عامل الثغور فاجتمع لأحمد بن طولون ملك الشام بكماله مع الديار المصرية لأنه لما مات نائب دمشق اماخور ركب ابن طولون من مصر فتلقاه ابن ماخور إلى الرملة فأقره عليها وسار إلى مشق فدخلها ثم إلى حمص فتسلمها ثم إلى حلب فأخذها ثم ركب إلى إنطاكية فكان من أمره ما تقدم وكان قد استخلف على مصر ابنه العباس فلما بلغه قدوم أبيه علية من الشام أخذ ما كان في بيت المال من الحواصل ووازره جماعة على ذلك ثم ساروا إلى برقة خارجا عن طاعة أبيه فبعث إليه من اخذه ذليلا حقيرا وردوه إلى مصر فحبسه وقتل جماعة من أصحابه وفيها خرج رجل يقال له القاسم بن مهاة على دلف بن عبالعزيز بن أبي دلف العجلي فقتله واستحوذ على أصبهان فانتصر أصحاب دلف له فقتلوا القاسم ورأسوا عليهم أحمد بن عبدالعزيز وفيها لحق محمد المولد بيعقوب بن الليث فسار إليه في المحرم فأمر الخليفة بنهب حواصله وأمواله وأملاكه وفيها دخل صاحب الزنج إلى النعمانية فقتل وحرق ثم سار إلى جرجرايا فانزعج الناس منه (11/37)
ودخل أهل السواد إلى بغداد وفيها ولي أبو أحمد عمرو بن الليث خراسان وفارس وأصبهان وسجستان وكرمان والسند ووجهه إليها بذلك وبالخلع والتحف وفيها حاصرت الزنج تستر حتى كادوا يأخذونها فوافاهم تكين البخاري فلم يضع ثياب سفره حتى ناجز الزنج فقتل منهم خلقا وهزمهم هزيمة فظيعة جدا وهرب أميرهم على بن أبان المهلبي مخذولا قال ابن جرير وهذه وقعة باب كودك المشهورة ثم إن علي بن أبان المهلبي أخذ في مكاتبت تكين واستمالته إليه وإلى صاحب الزنج فسارع تكين في إجابته إلى ذلك فبلغ خبره مسرورا البلخي فسار نحوه وأظهر له الأمان حتى أخذه فقيده وتفرق جيشه عنه ففرقة صارت إلى الزنج وفرقة إلى محمد بن عبيدالله الكردي وفرقة انضافت إلى مسرور بعد إعطائه إياهم الأمان وولى مكانه على عمالته أميرا آخر يقال له اغرتمش وفيها حج بالناس هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى العباسي وفيها توفي من الأعيان أحمد بن منصور الرمادي راوية عبدالرزاق وقد صحب الإمام أحمد وكان يعد من الابدال توفي عن ثلاث وستين سنة وسعدان بن نصر وعبدالله بن محمد المخزومي وعلي بن حرب الطائي الموصلي وأبو حفص النيسابوري على بن موفق الزاهد ومحمد بن سحنون قال ابن الأثير في كامله وفيها قتل أبو الفطل العباس بن الفرج الرياشي صاحب أبي عبيدة والأصمعي قتلته الزنج بالبصرة
يعقوب بن الليث الصغار
أحد الملوك العقلاء الأبطال فتح بلادا كثيرة من ذلك بلد الرجح التي كان فيها ملك صاحب الزنج وكان يحمل في سرير من ذهب على رؤس اثنى عشر رجلا وكان له بيت في رأس جبل عال سماه مكة فما زال حتى قتل وأخذ بلده واستسلم أهلها فأسلموا على يديه ولكن كان قد خرج عن طاعة الخليفة وقاتله أبو أحمد الموفق كما تقدم ولما مات ولوا أخاه عمرو بن الليث ما كان يليله أخوه يعقوب مع شرطة بغداد وسامرا كما سيأتي
ثم دخلت سنة ست وستين ومائتين
في صفر منها تغلب إساتكين على بلد الرى وأخرج عاملها منها ثم مضى إلى قزوين فصالحه أهلها فدخلها وأخذ منها أموالا جزيلة ثم عاد إلى الري فمانعه أهلها عن الدخوال إليها فقهرهم ودخلها وفيها غارت سرية من الروم على ناحية ديار ربيعة فقتلوا وسبوا ومثلوا وأخذوا نحوا من مائتين وخمسين أسيرا فنفر إليهم أهل الصين وأهل الموصل فهربت منهم الروم ورجعوا إلى بلادهم وفيها ولي عمرو بن الليث شرطة بغداد وسامرا لعبيدالله بن طاهر وبعث إليه أبو أحمد بالخلعة (11/38)
وخلع عليه عمرو بن الليث أيضا وأهدى إليه عمودين من ذهب وذلك مضافا إلى ما كان يليه أخوه من البلدان وفيها سارا غرتمش إلى قتال على بن أبان المهلبي بتستر فأخذ من كان في السجن من أصحاب علي بن أبان المهلبي من الأمراء فقتلهم عن آخرهم ثم سار إلى علي بن أبان فاقتتلا قتالا شديدا في مرات عديدة وكان آخرها لعلي بن أبان المهلبي قتل خلقا كثيرا من أصحاب اغرتمش وأسر بعضهم فقتلهم أيضا وبعث برؤسهم إلى صاحب الزنج فنصبت رؤسهم على باب مدينته قبحه الله وفيها وثب أهل حمص على عاملهم عيسى الكرخي فقتلوه في شوال منها وفيها دعا الحسن بن محمد بن جعفر بن عبدالله بن حسين الأصغر العقيلي أهل طبرستان إلى نفسه وأظهر لهم أن الحسين بن زيد أسر ولم يبق من يقوم بهذا الأمر غيره فبايعوه فلما بلغ ذلك الحسين بن زيد قصده فقاتله فقتله ونهب أمواله وأموال من اتبعه وأحرق دورهم وفيها وقعت فتنة بالمدينة ونواحيها بين الجعفرية والعلوية ( وتغلب عليها رجل من أهل البيت من سلالة الحسن بن زيد الذي تغلب على طبرستان وجرت شرور كثيرة هنالك بسبب قتل الجعفرية والعلوية ) يطول ذكرها وفيها وثبت طائفة من الأعراب على كسوة الكعبة فانتهبوها وسار بعضهم إلى صاحب الزنج وأصاب الحجيج منهم شدة وبلاء شديد وأمور كريهة وفيها أغارت الروم أيضا على ديار ربيعة وفيها دخل أصحاب صاحب الزنج إلى رامهرمز فافتتحوها بعد قتال طويل وفيها دخل ابن أبي الساج مكة فقاتله المخزومي فقهره ابن أبي الساج وحرق داره واستباح ماله وذلك يوم التروية في هذه السنة ثم جعلت إمرة الحرمين إلى ابن أبي الساج من جهة الخليفة وحج بالناس فيها هارون بن محمد المتقدم ذكره قبلها وفيها عمل محمد بن عبدالرحمن الداخل إلى بلاد المغرب وهو خليفة بلاد الأندلس وبلاد المغرب مراكب في نهر قرطبة ليدخل بها إلى البحر المحيط ولتسير الجيوش في أطرافه إلى بعض البلاد ليقاتلوهم فلما دخلت المراكب البحر المحيط تكسرت وتقطعت ولم ينج من أهلها إلا اليسير بل غرق اكثرهم وفيها التقى أسطول المسلمين وأسطول الروم ببلاد صقلية فاقتتلوا فقتل من المسلمين خلق كثير فإنا لله وإنا إليه راجعون وفيها حارب لؤلؤ غلام بن طولون لموسى بن اتامش فكسره لؤلؤ وأسره وبعث به إلى مولاه أحمد بن طولون وهو إذ ذاك نائب الشام ومصر وإفريقية من جهة الخليفة ثم اقتتل لؤلؤ هذا وطائفة من الروم فقتل من الروم خلقا كثيرا قال ابن الأثير وفيها اشتد الحال وضاق الناس ذرعا بكثرة الهياج والفتن وتغلب القواد والأجناد على كثير من البلاد بسبب ضعف منصب الخلافة واشتغال أخيه أبي أحمد بقتال الزنج وفيها اشتد الحر في تشرين الثاني جدا ثم قوى به البرد حتى جمد الماء (11/39)
وفيها توفي من الأعيان إبراهيم بن رومة وصالح بن الإمام أحمد بن حنبل قاضي أصبهان ومحمد بن شجاع البلخي أحد عباد الجهمية ومحمد بن عبدالملك الدقيقي
ثم دخلت سنة سبع وستين ومائتين
فيها وجه أبو أحمد الموفق ولده أبا العباس في نحو من عشرة آلاف فارس وراجل في أحسن هيئة وأكمل تجمل لقتال الزنج فساروا نحوهم فكان بينهم وبينهم من القتال والنزال في أوقات متعددات ووقعات مشهورات ما يطول بسطه وقد استقصاه ابن جرير في تاريخه مبسوطا مطولا وحاصل ذلك أنه آل الحال أن استحوذ أبو العباس بن الموفق على ما كان استولى عليه الزنج ببلاد واسط وأراضي دجلة هذا وهو شاب حدث لا خبرة له بالحرب ( ولكن سلمة الله وغنمه وأعلى كلمته وسدد رميته وأجاب دعوته وفتح على يديه وأسبغ نعمه عليه وهذا الشاب هو الذي ولى الخلافة ) ( 1 ) بعد عمه المعتمد كما سيأتي ثم ركب أبو أحمد الموفق ناصر دين الله في بغداد في صفر منها في جيوش كثيفة فدخل واسط في ربيع الأول منها فتلقاه ابنه وأخبره عن الجيوش الذين معه وأنهم نصحوا وتحملوا من أعباء الجهاد فخلع على الأمراء كلهم خلعا سنية ثم سار بجميع الجيوش إلى صاحب الزنج وهو بالمدينة التي أنشأها وسماها المنيعة فقاتل الزنج دونها قتالا شديدا فقهرهم ودخلها عنوة وهربوا منها فبعث في آثارهم جيشا فلحقوهم إلى البطائح يقتلون ويأسرون وغنم ابو أحمد من المنيعة شيئا كثيرا واستنقذ من النساء المسلمات خمسة آلاف امرأة وأمر بإرسالهن إلى أهاليهن بواسط وأمر بهدم سور البلد وبطم خندقها وجعلها بلقعا بعد ما كنات للشر مجمعا ثم سار الموفق إلى المدينة التي لصاحب الزنج التي يقال لها المنصورة وبها سليمان بن جامع فحاصروها وقاتلوه دونها فقتل خلق كثير من الفريقين ورمى أبو العباس بن الموفق بسهم أحمد بن هندي أحد أمراء صاحب الزنج فأصابه في دماغه فقتله وكان من أكابر أمراء صاحب الزنج فشق ذلك على الزنج جدا وأصبح الناس محاصرين مدينة الزنج يوم السبت لثلاث بقين من ربيع الآخر والجيوش الموفقية مرتبة أحسن ترتيب فتقدم الموفق فصلى أربع ركعات وابتهل إلى الله في الدعاء واجتهد في حصارها فهزم الله مقاتلتها وانتهى إلى خندقها فإذا هو قد حصن غاية التحصين وإذا هم قد جعلوا حول البلد خمسة خنادق وخمسة أسوار فجعل كلما جاوز سورا قاتلوه دون الآخر فيقهرهم ويجوز إلى الذي يليه حتى انتهى إلى البلد فقتل منهم خلقا كثيرا وهرب بقيتهم وأسر من نساء الزنج من حلائل سليمان بن جامع وذويه نساء كثيرة وصبيانا واستنقذ من ايديهم النساء المسلمات والصبيان من أهل البصرة والكوفة نحوا من عشرة آلاف نسمة فسيرهم إلى أهليهم جزاه الله خيرا (11/40)
ثم أمر بهدم فنادقها وأسوارها وردم خنادقها وأنهارها وأقام بها سبعة عشر يوما وبعث في آثار من انهزم منهم فكان لا يأتون بأحد منهم إلا استماله إلى الحق برفق ولين وصفح فمن أجابه أضافه إلى بعض الأمراء وكان مقصوده رجوعهم إلى الدين والحق ومن لم يجبه قتله وحبسه ثم ركب إلى الأهواز فأجلاهم عنها وطردهم منها وقتل خلقا كثيرا من أشرافهم منهم أبو عيسى محمد بن إبراهيم البصري وكان رئيسا فيهم مطاعا وغنم شيئا كثيرا من أموالهم وكتب الموفق إلى صاحب الزنج قبحه الله كتابا يدعوه فيه إلى التوبة والرجوع عما ارتكبه من المآثم والمظالم والمحارم ودعوى النبوة والرسالة وخراب البلدان واستحلال الفروج الحرام ونبذ له الأمان إن هو رجع إلى الحق فلم يرد عليه صاحب الزنج جوابا
مسير أبي أحمد الموفق إلى مدينة صاحب الزنج وحصار المختارة
لما كتب أبو أحمد إلى صاحب الزنج يدعوه إلى الحق فلم يجبه استهانة به ركب من فوره في جيوش عظيمة قريب من خمسين ألف مقاتل قاصدا إلى المختارة مدينة صاحب الزنج فلما انتهى إليها وجدها في غاية الأحكام وقد حوط عليها من آلات الحصار شيئا كثيرا وقد التف على صاحب الزنج نحو من ثلثمائة ألف مقابل بسيف ورمح ومقلاع ومن يكثر سوادهم فقدم الموفق ولده أبا العباس بين يديه فتقدم حتى وقف تحت قصر الملك فحاصره محاصرة شديدة وتعجب الزنج من إقدامه وجرأته ثم تراكمت الزنج عليه من كل مكان فهزمهم وأثبت بهبوذ أكبر أمراء صاحب الزنج بالسهام والحجارة ثم خامر جماعة من أصحاب أمراء صاحب الزنج إلى الموفق فأكرمهم وأعطاهم خلعا سنية ثم رغب إلى ذلك جماعة كثيرون فصاروا إلى الموفق ثم ركب أبو أحمد الموفق في يوم النصف من شعبان ونادى في الناس كلهم بالأمان إلا صاحب الزنج فتحول خلق كثير من جيش صاحب الزنج إلى الموفق وابتنى الموفق مدينة تجاه مدينة صاحب الزنج سماها الموفقية وأمر بحمل الأمتعة والتجارات إليها فاجتمع بها أنواع الأشياء وصنوفها ما لم يجتمع يجتمع في بلد قبلها وعظم شأنها وامتلأت من المعايش والأرزاق وصنوف التجارات والسكان والدواب وغيرهم وإنما بناها ليستعين بها على قتال صاحب الزنج ثم جرت بينهم حروب عظيمة وما زالت الحرب ناشبة حتى انسلخت هذه السنة وهم محاصرون للخبيث صاحب الزنج وقد تحول منهم خلق كثير فصاروا على صاحب الزنج بعد ما كانوا معه وبلغ عدد من تحول قريبا من خمسين ألفا من الأمراء الخواص والأجناد والموفق وأصحابه في زيادة وقوة ونصر وظفر وفيها حج بالناس هارون بن محمد الهاشمي وفيها توفي من الأعيان إسماعيل بن سيبويه واسحاق بن إبراهيم بن شاذان ويحيى بن نصر الخولاني وعباس الترقفي ومحمد بن حماد أبو بكر المقرى صاحب خلف بن هشام (11/41)
البزار ببغداد في ربيع الأول ومحمد بن عزيز الايلي ويحيى بن محمد بن يحيى الذهلي حنكان ويونس ابن حبيب راوي مسند أبي داود الطيالسي عنه
ثم دخلت سنة ثمان وستين ومائتين
في المحرم منها استأمن جعفر بن إبراهيم المعروف بالسجان وكان من أكابر صاحب الزنج وثقاتهم في أنفسهم الموفق فأمنه وفرح به وخلع عليه وأمره فركب في سمرته فوقف تجاه قصر الملك فنادى في الناس وأعلمهم بكذب صاحب الزنج وفجوره وأنه في غرور هو ومن ابتعه فاستأمن بسبب ذلك بشر كثير منهم وبرد قتال الزنج عند ذلك إلى ربيع الآخر فعند ذلك أمر الموفق أصحابه بمحاصرة السور وأمرهم إذا دخلوه أن لا يدخلوا البلد حتى يأمرهم فنقبوا السور حتى انثلم ثم عجلوا الدخول فدخلوا فقاتلهم الزنج فهزمهم المسلمون وتقدموا إلى وسط المدينة فجاءتهم الزنج من كل جانب وخرجت عليهم الكمائن من أماكن لا يهتدون لها فقتلوا من المسلمين خلقا كثيرا واستلبوهم وفر الباقون فلامهم الموفق على مخالفته وعلى العجلة وأجرى الأرزاق على ذرية من قتل منهم فحسن ذلك عند الناس جدا وظفر ابو العباس بن الموفق بجماعة من الأعراب كانوا يجلبون الطعام إلى الزنج فقتلهم وظفر أبو العباس بن الموفق بجماعة من الأعراب كانوا يجلبون الطعام إلى الزنج فقتلهم وظفر ببهبوذ بن عبدالله بن عبدالوهاب فقتله وكان ذلك من أكبر الفتح عند المسلمين وأعظم الرزايا عند الزنج وبعث عمرو بن الليث إلى أبي أحمد الموفق ثلثمائة ألف دينار وخمسين منا من مسك وخمسين منا من عنبر ومائتي من من عود وفضة بقيمة ألف وثيابا من وشى وغلمانا كثيرة جدا وفيها خرج ملك الروم المعروف بابن الصقلبية فحاصر أهل ملطية فأعانهم أهل مرعش ففر الخبيث خاسئا وغزا الصائفة من ناحية الثغور عامل ابن طولون فقتل من الروم سبعة عشر ألفا وحج بالناس فيها هارون المتقدم وفيها قتل أحمد بن عبدالله دالخجستاني وفيها توفي من الأعيان أحمد بن سيار وأحمد بن شيبان وأحمد بن يونس الضبي وعيسى ابن أحمد البلخي ومحمد بن عبدالله بن عبدالحكم المصري الفقيه المالكي وقد صحب الشافعي وروى عنه
ثم دخلت سنة تسع وستين ومائتين
فيها اجتهد الموفق بالله في تخريب مدينة صاحب الزنج فخرب منه شيئا كثيرا وتمكن الجيوش من العبور إلى البلد ولكن جاءه في أثناء هذه الحالة سهم في صدره من يد رجل رومي يقال له قرطاس فكاد يقتله فاضطرب الحال لذلك وهو يتجلد ويحض على القتال مع ذلك ثم أقام ببلده الموفقية أياما يتداوى فاضطربت الأحوال وخاف الناس من صحاب الزنج وأشاروا على الموفق بالمسير إلى بغداد فلم يقبل فقويت علته ثم من الله عليه بالعافية في شعبان ففرح المسلمون بذلك فرحا شديدا فنهض مسرعا إلى الحصار فوجد الخبيث قد رمم كثيرا مما كان الموفق قد خربه وهدمه (11/42)
فأمر بتخريبه وما حوله وما قرب منه ثم لازم الحصار فما زال حتى فتح المدينة الغربية وخرب قصور صاحب الزنج ودور أمرائه وأخذ من أموالهم شيئا كثيرا مما لا يحد ولا يوصف كثرة وأسر من نساء الزنج واستنقذ من نساء المسلمين وصبيانهم خلقا كثيرا فأمر بردهم إلى أهاليهم مكرمين وقد تحول صاحب الزنج إلى الجانب الشرقي وعمل الجسر والقناطر الحائلة بينه وبين وصول السمريات إليه فأمر الوفق بتخريبها وقطع الجسور واستمر الحصار باقي هذه السنة وما برح حتى تسلم الجانب الشرقي أيضا واستحوذ على حواصله وأمواله وفر الخبيث هاربا غير آيب وخرج منها هاربا وترك حلائله وأولاده وحواصله فأخذها الموفق وشرح ذلك يطول جدا وقد حرره مبسوطا ابن جرير ولخصه ابن الأثير واختصره ابن كثير والله أعلم وهو الموفق إلى الصواب واليه المرجع إلى المآب ولما رأى الخليفة المعتمد أن أخاه أبا أحمد قد استحوذ على أمور الخلافة وصار هو الحاكم الآمر الناهي واليه تجلب التقادم وتحمل الأموال والخراج وهوالذي يولي ويعزل كتب إلى أحمد بن طولون يشكو إليه ذلك فكتب إليه ابن طولون أن يتحول إلى عنده إلى مصر ووعده النصر والقيام معه فاستغنم غيبة أخيه الموفق وركب في جمادى الأولى ومعه جماعة من القواد وقد أرصد له ابن طولون جيشا بالرقة يتلقونه فلما اجتاز الخليفة باسحاق بن كنداج نائب الموصل وعامة الجزيرة اعتقله عنده عن المسير إلى ابن طولون وفند أعيان الأمراء الذين معه وعاتب الخليفة ولامه على هذا الصنع أشد اللوم ثم ألزمه العود إلى سامرا ومن معه من الأمراء فرجعوا إليها في غاية الذل والاهانة ولما بلغ الموفق ذلك شكر سعى إسحاق وولاه جميع أعمال أحمد بن طولون إلى أقصى بلاد إفريقية وكتب إلى أخيه أن يلعن ابن طولون في راد العامة فلم يمكن المعتمد إلا إجابته إلى ذلك وهو كاره وكان ابن طولون قد قطع ذكر الموفق في الخطب وأسقط اسمه عن الطرازات وفيها في ذي القعدة وقعت فتنة بمكة بين أصحاب الموفق وأصحاب ابن طولون فقتل من أصحاب ابن طولون مائتان وهرب بقيتهم واستلبهم أصحاب الموفق شيئا كثيرا وفيها قطع الأعراب على الحجيج الطريق وأخذ منهم خمسة آلاف بعير بأحمالها وفيها توفي إبراهيم بن منقذ الكناني وأحمد بن خلاد مولى المعتصم وكان من دعاة المعتزلة اخذ الكلام عن جعفر بن معشر المعتزلي وسليمان بن حفص المعتزلي صاحب بشر المريسي وأبي الهذيل العلاف وعيسى بن الشيخ بن السليل الشيباني نائب إرمينية وديار بكر وأبو فروة يزيد بن محمد الرهاوي أحد الضعفاء
ثم دخلت سنة سبعين ومائتين
فيها كان مقتل صاحب الزنج قبحه الله وذلك أن الموفق لما فرغ من شأن مدينة صاحب الزنج (11/43)
وهي المختارة واحتاز ما كان بها من الأموال وقتل من كان بها من الرجال وسبى من وجد فيها من النساء والأطفال وهرب صاحب الزنج عن حومة الحرب والجلاد وسار إلى بعض البلاد طريدا شريدا بشر حال عاد الموفق إلى مدينته الموفقية مؤيدا منصورا وقدم عليه لؤلؤا غلام أحمد بن طولون منابذا لسيده سميعا مطيعا للموفق وكان وروده عليه في ثالث المحرم من هذه السنة فأكرمه وعظمه وأعطاه وخلع عليه وأحسن إليه وبعثه طليعة بين يديه لقتال صاحب الزنج وركب الموفق في الجيوش الكثيفة الهائلة وراءه فقصدوا الخبيث وقد تحصن ببلدة أخرى فلم يزل به محاصرا له حتى أخرجه منها ذليلا واستحوذ على ما كان بها من الأموال والمغانم ثم بعث السرايا والجيوش وراء حاجب الزنج فأسروا عامة من كان معه من خاصته وجماعته منهم سليمان بن جامع فاستبشر الناس بأسره وكبروا الله وحمدوه فرحا بالنصر والفتح وحمل الموفق بمن معه حملة واحدة على أصحاب الخبيث فاستحر فيهم القتل وما انجلت الحرب حتى جاء البشير بقتل صاحب الزنج في المعركة وأتى برأسه مع غلام لؤلؤة الطولوني فلما تحقق الموفق أنه رأسه بعد شهادة الأمراء الذي كانوا معه من أصحابه بذلك خر ساجدا لله ثم أنكفأ راجعا إلى الموفقية ورأس الخبيث يحمل بين يديه وسليمان معه أسير فدخل البلد وهو كذلك وكان يوما مشهودا وفرح المسلمون بذلك في المغارب والمشارق ثم جيء بانكلاني ولد صاحب الزنج وأبان بن علي المهلبي مسعر حريهم مأسورين ومعهما قريب من خمسة آلاف أسير فتم السرور وهرب قرطاس الذي رمى الموفق بصدره بذلك السهم إلى رامهرمز فأخذ وبعث به إلى الموفق فقتله أبو العباس أحمد بن الموفق واستتاب من بقى من أصحاب صاحب الزنج وأمنهم الموفق ونادى في الناس بالأمان وأن يرجع كل من كان أخرج من دياره بسبب الزنج إلى أوطانهم وبلدانهم ثم سار إلى بغداد وقدم ولده أبا العباس بين يديه ومعه رأس الخبيث يحمل ليراه الناس فدخلها لثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى من هذه السنة وكان يوما مشهودا وانتهت أيام صاحب الزنج المدعي الكذاب قبحه الله وقد كان ظهوره في يوم الأربعاء لأربع بقين من رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين وكان هلاكه يوم السبت لليلتين خلتا من صفر سنة سبعين ومائتين وكانت دولته أربع عشرة سنة وأربعة أشهر وستة أيام ولله الحمد والمنة وقد قيل في انقضاء دولة الزنج وما كان من النصر عليهم أشعار كثيرة من ذلك قول يحيى بن محمد الأسلمي ... أقول وقد جاء البشير بوقعة ... أعزت من الإسلام ما كان واهيا ... جزى الله خير الناس للناس بعد ما ... أبيح حماهم خير ما كان جازيا ... تفرد إذ لم ينصر الله ناصر ... بتجديد دين كان أصبح باليا (11/44)
وتشديد ملك قد وهى بعد عزه ... وأخذ بثأرات تبير الاعاديا ... ورد عمارات 2 ازيلت وأخربت ... ليرجع فيء قد تخرم وافيا ... وترجع أمصار أبيحت وأحرقت ... مرارا وقد أمست قواء عوافيا ... ويشفي صدور المسلمين بوقعة ... تقر بها منا العيون البواكيا ... ويتلى كتاب الله في كل مسجد ... ويلفى دعاء الطالبيين خاسيا ... فأعرض عن أحبابه ونعيمه ... وعن لذة الدنيا وأصبح غازيا ... وفي هذه السنة أقبلت الروم في مائة ألف مقاتل فنزلوا قريبا من طرسوس فخرج إليهم المسلمون فبيتوهم فقتلوا منهم في ليلة واحدة حتى الصباح نحوا من سبعين ألفا ولله الحمد وقتل المقدم الذي عليهم وهو بطريق البطارقة وجرح أكثر الباقين وغنم المسلمون منهم غنيمة عظيمة من ذلك سبع صلبان من ذهب وفضة وصليبهم الأعظم وهو من ذهب صامت مكلل بالجواهر وأربع كراسي من ذهب ومائتي كرسي من فضة وآنية كثيرة وعشرة آلاف علم من ديباج وغنموا حريرا كثيرا وأموالا جزيلة وخمسة عشر ألف دابة وسروجا وسلاحا وسيوفا محلاة وغير ذلك ولله الحمد وفيها توفي من الأعيان
أحمد بن طولون
أبو العباس أمير الديار المصرية دباني الجامع بها المنسوب إلى طولون وإنما بناه أحمد ابنه وقد ملك دمشق والعواصم والثغور ومدة طويلة وقد كان أبوه طولون من الأتراك الذين أهداهم نوح بن أسد الساماني عامل بخارى إلى المأمون في سنة مائتين ويقال إلى الرشيد في سنة تسعين ومائة ولد أحمد هذا في سنة أربع عشرة ومائتين ومات طولون أبوه في سنة ثلاثين وقيل في سنة أربعين ومائتين وحكى ابن خلكان أنه لم يكن أباه وإنما تبناه والله أعلم وحكى ابن عساكر أنه من جارية تركية اسمها هاشم ونشأ أحمد هذا في صيانة وعفاف ورياسة ودراسة للقرآن العظيم مع حسن الصوت به وكان يعيب على أولاد الترك ما يرتكبونه من المحرمات والمنكرات وكانت أمه جارية اسمها هاشم وحكى ابن عساكر عن بعض مشايخ مصر أن طولون لم يكن أباه وإنما كان قد تبناه لديانته وحسن صوته بالقرآن وظهور نجابته وصيانته من صغره وأن طولون اتفق له معه أن بعثه مرة في حاجة ليأتيه بها من دار لامارة فذهب فإذا حظية من حظايا طولون مع بعض الخدم وهما على فاحشة فأخذ حاجته التي أمره بها وكر راجعا إليه سريعا ولم يذكر له شيئا مما رأى من الحظية والخادم فتوهمت الحظية أن يكون أحمد قد أخبر طولون بما رأى فجاءت إلى طولون فقالت إن أحمد جاءني الآن إلى المكان الفلاني وراودني عن نفسي وانصرفت إلى قصرها فوقع في نفسه صدقها فاستدعى أحمد (11/45)
وكتب معه كتابا وختمه إلى بعض الأمراء ولم يواجه أحمد بشيء مما قالت الجارية وكان في الكتاب أن ساعة وصول حامل هذا الكتاب إليك تضرب عنقه وابعث برأسه سريعا إلي فذهب بالكتاب من عند طولون وهو لا يدري ما فيه فاجتاز بطريقه بتلك الحظية فاستدعته إليها فقال إني مشغول بهذا الكتاب لأوصله إلى بعض الأمراء قالت هلم فلي إليك حاجة وأرادت أن تحقق في ذهن الملك طولون ما قالت له عنه فحبسته عندها ليكتب لها كتابا ثم استوهبت من أحمد الكتاب الذي أمره طولون أن يوصله إلى ذلك الأمير فدفعه إليها فأرسلت به ذلك الخادم الذي وجده معها على الفاحشة وظنت أن به جائزة تريد أن تخص بها الخادم المذكور فذهب بالكتاب إلى ذلك الأمير فلما قرأه أمر بضرب عنق ذلك الخادم وأرسل برأسه إلى الملك طولون فتعجب الملك من ذلك وقال أين أحمد فطلب له فقال ويحك أخبرني كيف صنعت منذ خرجت من عندي فأخبره بما جرى من الأمر ولما سمعت تلك الحظية بأن رأس الخادم قد أتى به إلى طولون أسقط في يديها وتوهمت أن الملك قد تحقق الحال فقامت إليه تعتذر وتستغفر مما وقع منها مع الخادم واعترفت بالحق وبرأت أحمد مما نسبته إليه فحظي عند الملك طولون وأوصى له بالملك من بعده ثم ولى نيابة الديار المصرية للمعتز فدخلها يوم الأربعاء لسبع بقين من رمضان سنة أربع وخمسين ومائتين فأحسن إلى أهلها وأنفق فيهم من بيت المال ومن الصدقات واستغل الديار المصرية في بعض السنين أربعة آلاف ألف دينار وبنى بها الجامع غرم عليه مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار وفرغ منه في سنة سبع وخمسين وقيل في سنة ست وستين ومائتين وكانت له مائدة في كل يوم يحضرها الخاص والعام وكان يتصدق من خالص ماله في كل شهر بألف دينار وقد قال له وكيله يوما إنه تأتيني المرأة وعليها الإزار والبدلة ولها الهيئة الحسنة تسألني فأعطيها فقال من مد يده إليك فأعطه وكان من أحفظ الناس للقرآن ومن أطيبهم به صوتا وقد حكى ابن خلكان عنه أنه قتل صبرا نحوا من ثمانية عشر ألف نفس فالله أعلم وبنى المارستان غرم عليه ستين ألف دينار وعلى الميدان مائة وخمسين ألفا وكانت له صدقات كثيرة جدا وإحسان زائد ثم ملك دمشق بعد أميرها ماخور في سنة أربع وستين ومائتين فأحسن إلى أهلها أيضا إحسانا بالغا واتفق أنه وقع بها حريق عند كنسية مريم فنهض بنفسه إليه ومعه أبو زرعة عبدالرحمن بن عمر والحافظ الدمشقي وكاتبه أبو عبدالله أحمد بن محمد الواسطي فأمر كاتبه أن يخرج من ماله سبعين ألف دينار تصرف إلى أهل الدور والأموال التي أحرقت فصرف إليهم جميع قيمة ما ذكره وبقي أربعة عشر ألف دينار فاضلة عن ذلك فأمر بها أن توزع عليهم على قدر حصصهم ثم أمر بمال عظيم يفرق على فقراء دمشق وغوطتها فأقل ما حصل للفقير دينار رحمه الله ثم خرج إلى أنطاكية (11/46)
فحاصر بها صاحبها سيما حتى قتله وأخذ البلد كما ذكرنا توفي بمصر في أوائل ذي القعدة من هذه السنة من علة أصابته من أكل لبن الجواميس كان يحبه فأصابه بسببه درب فكاواه الأطباء وأمروه أن يحتمي منه فلم يقبل منهم فكان يأكل منه خفية فمات رحمه الله وقد ترك من الأموال والأثاث والدواب شيئا كثيرا جدا ومن ذلك عشرة آلاف ألف دينار ومن الفضة شيئا كثيرا وكان له ثلاثة وثلاثون ولدا منهم سبعة عشر ذكرا فقام بالأمر من بعده ولد خمارويه كما سيأتي ما كان من أمره وكان له من الغلمان سبعة آلاف مولى ومن البغال والخيل والجمال نحو سبعين ألف دابة وقيل أكثر من ذلك قال ابن خلكان وإنما تغلب على البلاد لاشتغال الموفق بن المتوكل بحرب صاحب الزنج وقد كان الموفق نائب أخيه المعتمد وفيها توفي أحمد بن عبدالكريم بن سهل الكاتب صاحب كتاب الخراج قاله ابن خلكان وأحمد بن عبدالله بن البرقي وأسيد بن عاصم الجمال وبكار بن قتيبة المصري في ذي الحجة من هذه السنة
والحسن بن زيد العلوي
صاحب طبرستان في رجب منها وكانت ولايته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر وستة أيام وقام من بعده بالأمر أخوه محمد بن زيد وكان الحسن بن زيد هذا كريما جوادا يعرف الفقه والعربية قال له مرة شاعر من الشعراء في جملة قصيدة مدحه بها الله فرد وابن زيد فرد فقال اسكت سد الله فاك ألا قلت الله فرد وابن زيد عبد ثم نزل عن سريره وخر لله ساجدا وألصق خده بالتراب ولم يعط ذلك الشاعر شيئا وامتدحه بعضهم فقال في أول قصيدة ... لاتقل بشرى ولكن بشريان ... غرة الداعي ويوم المهرجان ...
فقال له الحسن لو ابتدأت بالمصراع الثاني كان أحسن وأبعد لك أن تبتدئ شعرك بحرف لا فقال له الشاعر ليس في الدنيا أجل من قول لا إله إلا الله فقال أصبت وأمر له بجائزة سنية والحسن بن علي بن عفان العامري
وداود بن علي الأصبهاني ثم البغدادي الفقيه الظاهري إمام أهل الظاهر روى عن أبي ثور وإبراهيم بن خالد واسحاق بن راهويه وسليمان بن حرب وعبدالله بن سلمة القعنبي ومسدد بن سرهد وغير واحد روى عنه ابنه الفقيه أبو بكر بن داود وزكريا بن يحيى الساجي قال الخطيب كان فقيها زاهدا وفي كتبه حديث كثير دال على غزارة علمه كانت وفاته ببغداد في هذه السنة وكان مولده في سنة مائتين وذكر أبو إسحاق السيرامي في طبقاته أن أصله من أصبهان وولد بالكوفة ونشأ ببغداد (11/47)
وأنه انتهت إليه رياسة العلم بها وكان يحضر مجلسه أربعمائة طيلسان أخضر وكان من المتعصبين للشافعي وصنف مناقبه وقال غيره كان حسن الصلاة كثير الخشوع فيها والتواضع قال الأزدي ترك حديثه ولم يتابع الأزدي على ذلك ولكن روى عن الإمام أحمد أنه تكلم فيه بسبب كلامه في القرآن وأن لفظه به مخلوق كما نسب ذلك إلى الإمام البخاري رحمهما الله قلت وقد كان من الفقهاء المشهورين ولكن حصر نفسه بنفيه للقياس الصحيح فضاق بذلك ذرعه في أماكن كثيرة من الفقه فلزمه القول بأشياء قطعية صار إليها بسبب اتباعه الظاهر المجرد من غير تفهم لمعنى النص وقد اختلف الفقهاء القياسيون بعده في الاعتداد بخلافه هل ينعقد الإجماع بدونه مع خلافه أم لا على أقوال ليس هذا موضع بسطها وفيها توفي الربيع بن سليمان المرادي صاحب الشافعي وقد ترجمناه في طبقات الشافعية والقاضي بكار بن قتيبة الحاكم بالديار المصرية من سنة ست وأربعين ومائتين إلى أن توفي مسجونا بحبس أحمد بن طولون لكونه لم يخلع الموفق في سنة سبعين وكان عالما عابدا زاهدا كثير التلاوة والمحاسبة لنفسه وقد شغر منصب القضاء بعده بمصر ثلاث سنين وابن قتيبة الدينوري
وهو عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري قاضيها النحوي اللغوي صاحب المصنفات البديعة المفيدة المحتوية على علوم جمة نافعة اشتغل ببغداد وسمع بها الحديث على إسحاق بن راهوية وطبقته وأخذ اللغة عن أبي حاتم السجستاني وذويه وصنف وجمع وألف المؤلفات الكثيرة منها كتاب المعارف وأدب الكاتب الذي شرحه أبو محمد بن السيد البطليوسي وكتاب مشكل القرآن والحديث وغريب القرآن والحديث وعيون الأخبار وإصلاح الغلط وكتاب الخيل وكتاب الأنوار وكتاب المسلسل والجوابات وكتاب الميسر والقداح وغير ذلك كانت وفاته في هذه السنة وقيل في التي بعدها ومولده في سنة ثلاث عشرة ومائتين ولم يجاوز الستين وروى عنه ولده أحمد جميع مصنفاته وقد ولي قضاء مصر سنة إحدى وعشرين وثلثمائة وتوفي بها بعد سنة رحمهما الله ومحمد بن إسحاق بن جعفر الصفار ومحمد بن أسلم بن وارة ومصعب بن أحمد أبو أحمد الصوفي كان من أفران الجنيد وفيها توفي ملك الروم ابن الصقلبية لعنه الله وفيها ابتدأ إسماعيل بن موسى ببناء مدينة لارد من بلاد الأندلس
ثم دخلت سنة مائتين وإحدى وسبعين فيها عزل الخليفة عمرو بن الليث عن ولاية خراسان وأمر بلعنه على المنابر وفوض أمر (11/48)
خراسان إلى محمد بن طاهر وبعث جيشا إلى عمرو بن الليث فهزمه عمرو وفيها كانت وقعة بين أبي العباس المعتضد بن الموفق أبي أحمد وبين خمارويه بن أحمد بن طولون وذلك أن خماروية لما ملك بعد أبيه بلاد مصر والشام جاءه جيش من جهة الخليفة عليهم إسحاق بن كنداج نائب الجزيرة وابن أبي الساج فقاتلوه بأرض ويترز فامتنع من تسليم الشام إليهم فاستنجدوا بأبي العباس بن الموفق فقدم عليهم فكسر خمارويه بن أحمد وتسلم دمشق واحتازها ثم سار خلف خمارويه إلى بلاد الرملة فأدركه عند ماء عليه طواحين فاقتتلوا هنالك وكانت تسمى وقعة الطواحين فكانت النصرة أولا لأبي العباس على خمارويه فهزمه حتى هرب خمارويه لا يلوي على شيء فلم يرجع حتى دخل الديار المصرية فأقبل أبو العباس وأصحابه على نهب معسكرهم فبينما هم كذلك إذ أقبل كمين لجيش خمارويه وهم مشغولون بالنهب فوضعت المصريون فيهم السيوف فقتلوا منهم خلقا كثيرا وانهزم الجيش وهرب أبو العباس المعتضد فلم يرجع حتى وصل دمشق فلم يفتح له أهلها الباب فانصرف حتى وصل إلى طرسوس وبقي الجيشان المصري والعراقي يقتتلان وليس لواحد منهما أمير ثم كان الظفر للمصريين لأنهم أقاموا أبا العشائر أخا خمارويه عليم أميرا فغلبوا بسبب ذلك واستقرت أيديهم على دمشق وسائر الشام وهذه الوقعة من أعجب الوقعات وفيها جرت حروب كثيرة بأرض الأندلس من بلاد المغرب وفيها دخل إلى المدينة النبوية محمد وعلي ابنا الحسين بن جعفر بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فقتلا خلقا من أهلها وأخذا أموالا جزيلة وتعطلت الصلوات في المسجد النبوي أربع جمع لم يحضر الناس فيه جمعة ولا جماعة فإنا لله وإنا إليه راجعون وجرت بمكة فتنة أخرى واقتتل الناس على باب المسجد الحرام أيضا وحج بالناس هارون بن موسى المتقدم وفيها توفي عباس بن محمد الدينوري تلميذ ابن معين وغيره من أئمة الجرح والتعديل وعبدالرحمن بن محمد بن منصور البصري ومحمد بن حماد الطهراني ومحمد بن سنان العوفي ويوسف ابن مسلم وبوران زوجة المأمون زوجة المأمون ويقال إن اسمها خديجة وبوران لقب لها والصحيح الأول عقد عليها المأمون بفم الصلح سنة ست ومائتين ولها عشر سنين ونثر عليها أبوها يومئذ وعلى الناس بنادق المسك مكتوب في ورقة وسط كل بندقة اسم قرية أو ملك جارية أو غلام أو فرس فمن وصل إليه من ذلك شيء ملكه ونثر ذلك على عامة الناس ونثر الدنانير ونوافج المسك وبيض العنبر وأنفق على المأمون وعسكره مدة إقامته تلك الأيام الخمس ألف ألف درهم فلما ترحل المأمون عنه أطلق له عشرة آلاف ألف درهم وأقطعه فم الصلح وبنى بها سنة عشر فلما جلس المأمون فرشوا له حصرا من (11/49)
ذهب ونثروا على قدميه ألف حبة جوهر وهناك تور من ذهب فيه شمعة من عنبر زنة أربعين منا من عنبر فقال هذا سرف ونظر إلى ذلك الحب على الحصر يضيء فقال قاتل الله أبا نواس حيث يقول في صفة الخمر ... كأن صغرى وكبرى من فقاقعها ... حصباء در على أرض من الذهب ... ثم أمر بالدر فجمع فجعل في حجر العروس وقال هذا نحلة مني لك وسلي حاجتك فقالت لها جدتها سلي سيدك فقد استنطقك فقالت أسأل أمير المؤمنين أن يرضى عن إبراهيم بن المهدي فرضي عنه ثم أراد الاجتماع بها فاذ هي حائض وكان ذلك في شهر رمضان وتأخرت وفاتها إلى هذه السنة ولها ثمانون سنة
ثم دخلت سنة ثنتين وسبعين ومائتين
في جمادى الأول منها سار نائب قزوين وهو ارلزنكيس في أربعة آلاف مقاتل إلى محمد بن زيد العلوي صاحب طبرستان بعد أخيه الحسن بن زيد وهو بالري في جيش عظيم من الديلم وغيرهم فاقتتلوا قتالا شديدا فهزمه ارلزنكيس وغنم ما في معسكره وقتل من أصحابه ستة آلاف ودخل الرى فأخذها وصادر أهلها في مائة ألف دينار وفرق عماله في نواحي الرى وفيها وقع بين أبي العباس ابن الموفق وبين صاحب ثغر طرسوس وهو يازمان الخادم فثار أهل طرسوس على أبي العباس فأخرجوه عنهم فرجع إلى بغداد وفيها دخل حمدان بن حمدون وهارون الشارى مدينة الموصل وصلى بهم الشاري في جامعها الأعظم وفيها عاثت بنو شيبان في أرض الموصل فسادا وفيها تحركت بقية الزنج في أرض البصرة ونادوا يا انكلاي يا منصور وانكلاي هو ابن صاحب الزنج وسليمان ابن جامع وأبان بن علي المهبلي وجماعة من وجوههم كانوا في جيش الموفق فبعث إليهم فقتلوا وحملت رؤسهم إليه وصلبت أبدانهم ببغداد وسكنت شرورهم وفيها صلح أمر المدينة النبوية وتراجع الناس إليها وفيها جرت حروب كثيرة ببلاد الأندلس وأخذت الروم من المسلمين بالأندلس بلدين عظيمين فإنا لله وإنا إليه راجعون وفيها قدم صاعد بن مخلد الكاتب من فارس إلى واسط فأمر الموفق القواد أن يتلقوه فدخل في أبهة عظيمة ولكن ظهر منه تيه وعجب شديد فأمر الموفق عما قريب بالقبض عليه وعلى أهله وأمواله واستكتب مكانه أبا الصقر إسماعيل بن بلبل وحج بالناس فيها هارون بن محمد بن إسحاق المتقدم منذ دهر وفيها توفي من الأعيان إبراهيم بن الوليد بن الحسحاس وأحمد بن عبد الجبار بن محمد بن عطارد العطاردي التميمي راوي السيرة عن يونس بن بكير عن ابن إسحاق بن يسار وغير ذلك وأبو عنبة الحجازي وسليمان بن سيف وسليمان بن وهب الوزير في حبس الموفق وشعبة بن بكار (11/50)
يروى عن أبي عاصم النبيل ومحمد بن صالح بن عبدالرحمن الأنماطي ويلقب بمكحلة وهو من تلاميذ يحيى بن معين ومحمد بن عبدالوهاب الفراء ومحمد بن عبيد المنادي ومحمد بن عوف الحمصي
وأبو معشر المنجم
واسمه جعفر بن محمد البلخي أستاذ عصره في صناعة التنجيم وله فيه التصانيف المشهورة كالمدخل والزيج والألوف وغيرها وتكلم على ما يتعلق بالتيسير والأحكام قال ابن خلكان وله إصابات عجيبة منها أن بعض الملوك تطلب رجلا وأراد قتله فذهب ذلك الرجل فاختفى وخاف من أبي معشر أن يدل عليه بصنعة التنجيم فعمد إلى طست فملأه دماء ووضع أسفله هاونا وجلس على ذلك الهاون فاستدعى الملك أبا معشر وأمره أن يظهر هذا الرجل فضرب رمله وحرره ثم قال هذا عجيب جدا هذا الرجل جالس على جبل من ذهب في وسط بحر من دم وليس هذا في الدنيا ثم أعاد الضرب فوجده كذلك فتعجب الملك من ذلك ونادى في البلد في أمان ذلك الرجل المذكور فلما مثل بين يدي الملك سأله أين اختفى فأخبره بأمره فتعجب الناس من ذلك والظاهر أن الذي نسب إلى جعفر بن محمد الصادق من علم الرجز والطرف واختلاج الأعضاء إنما هو منسوب إلى جعفر ابن أبي معشر هذا وليس بالصادق وإنما يغلطون والله أعلم
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ومائتين
فيها وقع بين إسحاق بن كنداج نائب الموصل وبين صاحبه ابن أبي الساج نائب قنسرين وغيرها بعدما كانا متفقين وكاتب ابن أبي الساج خمارويه صاحب مصر وخطب له ببلاده وقدم خمارويه إلى الشام فاجتمع به ابن أبي الساج ثم سار إلى إسحاق بن كنداج فتواقعا فانهزم كنداج وهرب إلى قلعة ماردين فجاء فحاصره بها ثم ظهر أمر ابن أبي الساج واستحوذ على الموصل والجزيرة وغيرها وخطب بها لخمارويه واستفحل أمره جدا وفيها قبض الموفق على لؤلؤ غلام ابن طولون وصادره بأربعمائة ألف دينار وسجنه فكان يقول ليس لي ذنب إلا كثرة مالي ثم أخرج بعد ذلك من السجن وهو فقير ذليل فعاد إلى مصر في أيام هارون بن خمارويه ومعه غلام واحد فدخلها على برذون وهذا جزاء من كفر نعمة سيده وفيها عدا أولاد ملك الروم على ابيهم فقتلوه وملكوا أحد أولاده وفيها كانت وفاة محمد بن عبدالرحمن بن الحكم الأموي صاحب الأندلس عن خمس وستين سنة وكانت ولايته أربعا وثلاثين سنة وأحد عشر شهرا وكان أبيض مشربا بحمرة ربعة أوقص يخضب بالحناء والكتم وكان عاقلا لبيبا يدرك الأشياء المشتبهة وخلف ثلاثا وثلاثين ذكرا وقام بالأمر بعده ولده المنذر فأحسن إلى الناس (11/51)
وأحبوه وفيها كانت وفاة خلف بن أحمد بن خالد
الذي كان أمير خرسان في حبس المعتمد وهذا الرجل هو الذي أخرج البخارى محمد بن إسماعيل من بخارى وطرده عنها فدعا عليه البخارى فلم يفلح بعدها ولم يبق في الأمرة إلا أقل من شهر حتى احتيط عليه وعلى أمواله وأركب حمارا ونودي عليه في بلده ثم سجن من ذلك الحين فمكث في السجن حتى مات في هذه السنة وهذا جزاء من تعرض لأهل الحديث والسنة وممن توفي فيها أيضا إسحاق بن يسار وحنبل بن إسحاق عم الإمام أحمد بن حنبل وهو أحد الرواة المشهورين عنه على أنه قداتهم في بعض ما يرويه ويحكيه وأبو أمية الطرسوسي وأبو الفتح بن شخرف أحد مشايخ الصوفية وذوي الأحوال والكرامات والكلمات النافعات وقد وهم ابن الأثير في قوله في كامله إن أبا داود صاحب السنن توفي في هذه السنة وإنما توفي سنة خمس وسبعين كما سيأتي وفيها توفي
ابن ماجة القزويني
صاحب السنن وهو أبو عبدالله محمد بن يزيد بن ماجة صاحب كتاب السنن المشهورة وهي دالة على عمله وعلمه وتبحره واطلاعه واتباعه للسنة في الأصول والفروع ويشتمل على اثنين وثلاثين كتابا وألف وخمسمائة باب وعلى أربعة آلاف حديث كلها جياد سوى اليسيرة وقد حكى عن أبي زرعة الرازي أنه انتقد منها بضعة عشر حديثا ربما يقال إنها موضوعة أو منكرة جدا ولابن ماجة تفسير حافل وتاريخ كامل من لدن الصحابة إلى وعصره وقال أبو يعلى الخليل بن عبدالله الخليلي القزويني أبو عبدالله بن محمد بن يزيد بن ماجة ويعرف يزيد بماجة مولى ربيعة كان عالما بهذا الشأن صاحب تصانيف منها التاريخ والسنن ارتحل إلى العراقين ومصر والشام ثم ذكر طرفا من مشايخه وقد ترجمناهم في كتابنا التكميل ولله الحمد والمنة قال وقد روى عنه الكبار القدماء إبن سيبويه ومحمد بن عيسى الصفار واسحاق بن محمد وعلي بن إبراهيم بن سلمة القطان وجدي أحمد بن إبراهيم أخبرنا وسليمان بن يزيد وقال غيره كانت وفاة ابن ماجة يوم الإثنين ودفن يوم الثلاء لثمان بقين من رمضان سنة ثلاث وسبعين ومائتين عن أربع وستين سنة وصلى عليه أخوه أبو بكر وتولى دفنه مع أخيه الآخر أبي عبدالله وابنه عبدالله بن محمد بن يزيد رحمه الله
ثم دخلت سنة أربع وسبعين ومائتين فيها نشبت الحرب بين أبي أحمد الموفق وبين عمرو بن الليث بفارس فقصده أبو أحمد فهرب منه عمرو بن بلد إلى بلد وتتبعه ولم يقع بينهما قتال ولا مواجهة وقد تحيز إلى الموفق مقدم جيش عمرو بن الليث وهو أبو طلحة شركب الجمال ثم أراد العود فقبض عليه الموفق وأباح ماله لولده أبي العباس المعتضد وذلك بالقرب من شيراز وفيها غزا يازمان الخادم نائب طرسوس بلاد الروم (11/52)
فأوغل فيها فقتل وغنم وسلم وفيها دخل صديق الفرغاني سامرا فنهب دور النجار بها وكر راجعا وقد كان هذا الرجل ممن يحرس الطرقات فترك ذلك وأقبل يقطع الطرقات وضعف الجند بسامرا عن مقاومته وفيها توفي من الأعيان إبراهيم بن أحمد بن يحيى أبو إسحاق قال ابن الجوزي في المنتظم كان حافظا فاضلا روى عن حرملة وغيره وتوفي في جمادى الآخرة من هذه السنة إسحاق بن إبراهيم بن زياد أبو يعقوب المقرى توفي في ربيع الأول منها أيوب بن سليمان بن داود الصفدي يروى عن آدم بن إياس وعن ابن صاعد وابن السماك وكان ثقة توفي في رمضان منها الحسن بن مكرم بن حسان بن علي البزار ويروى عن عفان وأبي النضر ويزيد بن هارون وغيرهم وعنه المحاملي وابن مخلد والبخاري وكان ثقة توفي رمضان منها عن ثلاث وسبعين سنة خلف بن محمد بن عيسى أبو الحسين الواسطي الملقب بكردوس يروى عن يزيد بن هارون وغيره وعنه المحاملي وابن مخلد قال ابن أبي حاتم صدوق وقال الدارقطني ثقة توفي في ذي الحجة منها وقد نيف عن الثمانين عبدالله بن روح بن عبيدالله بن أبي محمد المدائني المعروف بعيد روس يروى عن شبابة ويزيد بن هارون وعنه المحاملي وابن السماك وأبو بكر الشافعي وكان من الثقات توفي في جمادى الآخرة منها عبدالله بن أبي سعيد أبو محمد الوراق أصله من بلخ وسكن بغداد وروى الحديث عن شريح بن يونس وعفان وعلي بن الجعد وغيرهم وعنه ابن أبي الدنيا والبغوي والمحاملي وكان ثقة صاحب أخبار وآداب وملح وتوفي بواسط في جمادى الآخرة منها عن سبع وسبعين سنة محمد بن إسماعيل بن زياد أبو عبدالله وقيل أبو بكر الدولابي سمع أبا النضر وأبا اليمان وأبا مسهر وعنه أبو الحسين المنادى ومحمد بن مخلد وابن السماك وكان ثقة ثم دخلت سنة خمس وسبعين ومائتين في المحرم منها وقع الخلاف بين أبي الساج وبين خمارويه فاقتتلا عند ثنية العقاب شرقي دمشق فقهر خمارويه لابن أبي الساج وانهزم وكانت له حواصل بحمص فبعث خمارويه من سبقه إليها فأخذها ومنع منه حمص فذهب إلى حلب فمنعه خمارويه فسار إلى الرقة فاتبعه فذهب إلى الموصل ثم انهزم منها خوفا من خمارويه ووصل خمارويه إليها واتخذ بها سريرا طويل القوائم فكان يجلس عليه في الفرات فعند ذلك طمع فيه ابن كنداج فسار وراءه ليظفر بشيء فلم يقدر وقد التقيا في بعض الأيام فصبر له ابن أبي الساج صبرا عظيما فسلم وانصرف إلى الموفق ببغداد فأكرمه وخلع عليه واستصحبه معه إلى الجبل ورجع إسحاق بن كنداج إلى ديار بكر من الجزيرة وفيها في شوال منها سجن أبو أحمد الموفق ولده أبا العباس المعتضد في دار الإمارة وكان سبب ذلك أنه أمره بالمسير إلى بعض الوجوه فامتنع أن يسير إلا إلى الشام التي ولاه إياها عمه المعتضد (11/53)
وأمر بسجنه فثارت الأمراء واختطبت بغداد فركب الموفق إلى بغداد وقال للناس أتظنون أنكم على ولدي أشفق مني فسكن الناس عند ذلك ثم أفرج عنه وفيها سار رافع إلى محمد بن زيد العلوي فأخذ منه مدينة جرجان فهرب إلى استراباذ فحصره بها سنين فغلا بها السعر حتى بيع الملح بها وزن درهم بدرهمين فهرب منهن ليلا إلى سارية فأذخ منها رافع بلادا كثيرة بعد ذلك في مدة متطاولة وفي المحرم منها أوفى صفر كانت وفاة المنذر بن محمد بن عبدالرحمن الأموي صاحب الأندلس عن ست وأربعين سنة وكانت ولايته سنة وأحد عشر يوما وكان أسمر طويلا بوجهه أثر جدري جوادا ممدحا يحب الشعراء ويصلهم بمال كثير ثم قام بالأمر من بعده أخوه محمد فامتلأت بلاد الأندلس في أيامه فتنا وشرا حتى هلك كما سيأتي وفيها توفي من الأعيان أبو بكر أحمد بن محمد الحجاج المروزي صاحب الإمام أحمد كان من الأذكياء كان أحمد يقدمه على جميع أصحابه ويأنس به ويبعثه في الحاجة ويقول له قل ما شئت وهو الذي أغمض الإمام أحمد وكان فيمن غسله وقد نقل عن أحمد مسائل كثيرة ووحصلت له رفعة عظيمة مع أحمد حين طلب إلى سامرا ووصل بخمسين ألفا فلم يقبلها أحمد بن محمد بن غالب بن خالد بن مرداس أبو عبدالله الباهلي البصري المعروف بغلام خليل سكن بغداد روى عن سليمان ابن داود الشاذكوني وشيبان بن فروخ وقرة بن حبيب وغيرهم وعنه ابن السماك وابن مخلد وغيرهما وقد أنكر عليه أبو حاتم وغيره أحاديث رواها منكرة عن شيوخ مجهولين قال أبو حاتم ولم يكن ممن يفتعل الحديث كان رجلا صالحا وكذبه أبو داود وغير واحد وروى ابن عدي عنه أنه اعترف بوضع الحديث ليرقق به قلوب الناس وكان عابدا زاهدا يقتات الباقلاء الصرف وحين مات أغلقت أسواق بغداد وحضر الناس جنازته والصلاة عليه ثم جعل في زورق وشيع إلى البصرة فدفن بها في رجب من هذه السنة وأحمد بن ملاعب روى عن يحيى بن معين وغيره وكان ثقة دينا عالما فاضلا انتشر به كثير من الحديث وأبو سعيد الحسن بن الحسين بن عبدالله بن السكري النحوي اللغوي صاحب التصانيف واسحاق بن إبراهيم بن هانئ أبو يعقوب النيسابوري كان من أخصاء أصحاب الإمام أحمد وعنده اختفى أحمد في زمن المحنة وعبدالله بن يعقوب بن إسحاق التميمي العطار الموصلي قال ابن الأثير كان كثير الحديث معدلا عند الحكام ويحيى بن أبي طالب وأبو داود السجستاني صاحب السنن اسمه سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن يحيى بن عمران أبو داود السجستاني أحد أئمة الحديث الرحالين إلى الآفاق في طلبه جمع وصنف وخرج وألف (11/54)
وسمع الكثير عن مشايخ البلدان في الشام ومصر والجزيرة والعراق وخراسان وغير ذلك وله السنن المشهورة المتداولة بين العلماء التي قال فيها أبو حامد الغزالي يكفي المجتهد معرفتها من الأحاديث النبوية حدث عنه جماعة منهم ابنه أبو بكر عبدالله وأبو عبدالرحمن النسائي وأحمد بن سليمان النجار وهو آخر من روى عنه في الدنيا سكن أبو داود البصرة وقدم بغداد غير مرة وحدث بكتاب السنن بها ويقال إنه صنفه بها وعرضه على الإمام أحمد فاستجاده واستسحنه وقال الخطيب حدثني أبو بكر محمد بن علي ابن إبراهيم القاري الدينوري من لفظه قال سمعت أبا الحسين محمد بن عبدالله بن الحسن القرصي قال سمعت أبا بكر بن داسه يقول سمعت أبا داود يقول كتبت عن رسول الله ( ص ) خمسمائة ألف حديث انتخبت منها ما ضمنته كتاب السنن جمعت فيه أربعة آلاف حديث وثمانمائة حديث ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث قوله عليه السلام ( إنما الأعمال بالنيات ) الثاني قوله ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) الثالث قوله ( لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه ) الرابع قوله ( الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات ) وحدثت عن عبدالعزيز بن جعفر الحنبلي أن أبا بكر الخلال قال أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني الإمام المقدم في زمانه رجل لم يسبقه إلى ممعرفة تخريج العلوم وبصره بمواضعها أحد من أهل زمانه رجل ورع مقدم قد سمع منه أحمد بن حنبل حديثا واحد كان أبو داود يذكره وكان أبو بكر الأصبهاني وأبو بكر بن صدقة يرفعان قدره ويذكرانه بما لا يذكران أحدا في زمانه بمثله قلت الحديث الذي كتبه عنه وسمعه منه الإمام أحمد بن حنبل هو ما رواه أبو داود من حديث حماد بن سلمة عن أبي معشر الدارمي عن أبيه ( أن رسول الله ( ص ) سئل عن العتيرة فحسنها ) وقال إبراهيم الحربي وغيره ألين لأبي داود الحديث كما ألين لداود الحديد وقال غيره كان أحد حفاظ الإسلام للحديث وعلله وسنده وكان في أعلا درجة النسك والعفاف والصلاح والورع من فرسان الحديث وقال غيره كان ابن مسعود يشبه بالنبي ( ص ) في هديه ودله وسمته وكان علقمة يشبهه وكان إبراهيم يشبه علقمة وكان منصور يشبه إبراهيم وكان سفيان يشبه منصور وكان وكيع يشبه سفيان وكان أحمد يشبه وكيعا وكان أبو داود يشبه أحمد بن حنبل وقال محمد ابن بكر بن عبدالرزاق كان لأبي داود كم واسع وكم ضيق فقيل له ما هذا يرحمك الله فقال هذا الوساع للكتب والآخر لا يحتاج إليه وقد كان مولد أبي داود في سنة ثنتين ومائتين وتوفي بالبصرة يوم الجمعة لأربع عشرة بقيت من شوال سنة خمس وسبعين ومائتين عن ثلاث وسبعين سنة ودفن إلى جانب قبر سفيان الثوري (11/55)
وقد ذكرنا ترجمته في التكميل وذكرنا ثناء الأئمة عليه وفيها توفي محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن العنبس الضميري الشاعر كان دينا كثير الملح وكان هجاء ومن جيد شعره قوله ... كم عليل عاش من بعد يأس ... بعد موت الطبيب والعواد ... قد تصاد القطا فتنجو سريعا ... ويحل البلاء بالصياد ...
ثم دخلت سنة ست وسبعين ومائتين في المحرم منها أعيد عمرو بن الليث إلى شرطة بغداد وكتب اسمه على الفرش والمقاعد والستور ثم أسقط اسمه عن ذلك وعزل وولى عبيدالله بن طاهر وفيها ولى الموفق لابن أبي الساج نيابة أذربيجان وفيها قصد هارون الشاري الخارجي مدينة الموصل فنزل شرقيها فحاصرها فخرج إليه أهلها فاستأمنوه فأمنهم ورجع عنهم وفيها حج بالناس هارون بن محمد العباسي أمير الحرمين والطائف ولما رجع حجاج اليمن نزلوا في بعض الأماكن فجاءهم سيل لم يشعروا به فغرقهم كلهم لم يفلت منهم أحد فإنا لله وإنا إليه راجعون وذكر ابن الجوزي في منتظمه وابن الأثير في كاملة أن في هذه السنة انفرج تل بنهر الصلة في أرض البصرة يعرف بتل بني شقيق عن سبعة أقبر في مثل الحوض وفيها سبعة أبدان صحيحة أجسادهم وأكفانهم يفوح منهم ريح المسك أحدهم شاب وله جمة وعلى شفته بلل كأنه قد شرب ماء الآن وكأن عينيه مكحلتان وبه ضربة في خاصرته وأراد أحدهم أن يأخذ من شعره شيئا فإذا هو قوي الشعر كأنه حي فتركوا على حالهم وممن توفي فيها من الأعيان أحمد بن حازم بن أبي عزرة الحافظ صاحب المسند المشهور له حديث كثير وروايته عالية وفيها توفي
بقي بن مخلد أبو عبدالرحمن الأندلسي الحافظ الكبير له المسند المبوب على الفقه روى فيه عن ألف وستمائة صحابي وقد فضله ابن حزم على مسند الإمام أحمد بن حنبل وعندي في ذلك نظر والظاهر أن مسند أحمد أجود منه وأجمع وقد رحل بقي إلى العراق فسمع من الإمام أحمد وغيره من أئمة الحديث بالعراق وغيرها يزيدون على المائتين بأربعة وثلاثين شيخا وله تصانيف أخر وكان مع ذلك رجلا صالحا عابدا زاهدا مجاب الدعوة جاءته امرأة فقالت إن ابني قد أسرته الإفرنج وإني لا أنام الليل من شوقي إليه ولي دويرة أريد أن أبيعها لأستفكه فان رأيت أن تشر على أحد يأخذها لأسعى في فكاكه بثمنها فليس يقر لي ليل ولا نهار ولا أجد نوما ولا صبرا ولا قرارا ولا راحة فقال نعم انصرفي حتى أنظر في ذلك إن شاء الله وأطرق الشيخ وحرك شفتيه يدعو (11/56)
الله عز و جل لولدها بالخلاص من أيدي الفرنج فذهبت المرأة فما كان إلا قليلا حتى جاءت الشيخ وابنها معها فقالت اسمع خبره يرحمك الله فقال كيف كان أمرك فقال إني كنت فيمن نخدم الملك ونحن في القيود فبينما أنا ذات يوم أمشي إذ سقط القيد من رجلي فأقبل على الموكل بي فشتمني وقال لم أزلت القيد من رجليك فقلت لا والله ما شعرت به ولكنه سقط ولم أشعر به فجاؤا بالحداد فأعادوه وأجادوه وشدوا مسماره وأبدوه ثم قمت فسقط أيضا فأعادوه وأكدوه فسقط أيضا فسألوا رهبانهم عن سبب ذلك فقالوا له والدة فقلت نعم فقالوا إنها قد دعت لك وقد استجيب دعاؤها أطلقوه فأطلقوني وخفروني حتى وصلت إلى بلاد الإسلام فسأله بقي بن مخلد عن الساعة التي سقط فيها القيد من رجله فإذا هي الساعة التي دعا فيها الله له ففرج عنه صاعد بن مخلد الكاتب كان كثير الصدقة والصلاة وقد أثنى عليه أبو الفرج بن الجوزي وتكلم فيه ابن الأثير في كامله وذكر أنه كان فيه تيه وحمق وقد يمكن الجمع بين القولين والصفتين ابن قتيبة وهو عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ثم البغدادي أحد العلماء والأدباء والحفاظ الأذكياء وقد تقدمت ترجمته وكان ثقة نبيلا وكان أهل العلم يتهمون من لم يكن في منزله شيء من تصانيفه وكان سبب وفاته أنه أكل لقمة من هريسة فإذا هي حارة فصاح صيحة شديدة ثم أغمي عليه إلى وقت الظهر ثم أفاق ثم لم يزل يشهد أن لا إله إلا الله إلى أن مات وقت السحر أول ليلة من رجب من هذه السنة وقيل إنه توفي في سنة سبعين ومائتين والصحيح في هذه السنة عبدالملك بن محمد بن عبدالله أبو قلابة الرياشي أحد الحفاظ كان يكنى بأبي محمد ولكن غلب عليه لقب أبو قلابة سمع يزيد بن هارون وروح بن عبادة وأبا داود الطيالسي وغيرهم وعنه ابن صاعد والمحاملي والبخاري وأبو بكر الشافعي وغيرهم وكان صدوقا عابدا يصلي في كل يوم اربعمائة ركعة وروى من حفظه ستين ألف حديث غلط في بعضها على سبيل العمد كان وفاته في شوال من هذه السنة عن ست وثمانين سنة ومحمد بن أحمد بن أبي العوام ومحمد بن إسماعيل الصايغ ويزيد بن عبدالصمد وأبو الرداد المؤذن وهو عبدالله بن عبدالسلام بن عبيد الرداد المؤذن صاحب المقياس بمصر الذي هو مسلم إليه وإلى ذريته إلى يومنا هذا قاله ابن خلكان والله أعلم ثم دخلت سنة سبع وسبعين ومائتين فيها خطب يازمان نائب طرسوس لخمارويه وذلك أنه هاداه بذهب كثير وتحف هائلة وفيها قدم جماعة من أصحاب خمارويه إلى بغداد وفيها ولي المطالم ببغداد يوسف بن يعقوب ونودي في الناس من كانت له مظلمة ولو عند الأمير الناصر لدين الله الموفق أو عند أحد من الناس فليحضر (11/57)
وسار الناس سيرة حسنة وأظهر صرامة لم ير مثلها وحج بالناس الأمير المتقدم ذكره قبل ذلك وفيها توفي من الأعيان إبراهيم بن صرا إسحاق بن أبي العينين وأبو إسحاق الكوفي قاضي بغداد بعد ابن سماعة سمع معلى بن عبيد وغيره وحدث عنه ابن أي الدنيا وغيره توفي عن ثلاث وتسعين سنة وكان ثقة فاضلا دينا صالحا أحمد بن عيسى
أبو سعيد الخراز أحد مشاهير الصوفية بالعبادة والمجاهدة والورع والمراقبة وله تصانيف في ذلك وله كرامات وأحوال وصبر على الشدائد وروى عن إبراهيم بن بشار صاحب إبراهيم بن أدهم وغيره وعنه على بن محمد المصري وجماعة ومن جيد كلامه إذا بكت أعين الخائفين فقد كاتبوا الله بدموعهم وقال العافية تستر البر والفاجر فإذا نزل البلاء تبين عنده الرجال وقال كل باطن يخالفه ظاهر فهو باطل وقال الاشتغال بوقت ماض تضييع وقت حاضر وقال ذنوب المقربين حسنات الأبرار وقال الرضا قبل القضاء تفويض والرضا مع القضاء تسليم وقد روى البيهقي بسنده إليه أنه سئل عن قول النبي ( ص ) ( جبلت القلوب على حب من أحسن إليها ) فقال يا عجبا لمن لم ير محسنا غير الله كيف لا يميل إليه بكليته قلت وهذا الحديث ليس بصحيح ولكن كلامه عليه من أحسن ما يكون وقال ابنه سعيد طلبت من أبي فضة فقال يا بني اصبر فلو أحب أبوك أن يركب الملوك إلى بابه ما تأبوا عليه وروى ابن عساكر عنه قال أصابني مرة جوع شديد فهممت أن أسأل الله طعاما فقلت هذا ينافي التوكل فهممت أن أسأله صبرا فهتف بي هاتف يقول
... ويزعم أنه منا قريب ... وأنا لا نضيع من أتانا ... ويسألنا القرى جهدا وصبرا ... كأنا لا نراه ولا يرانا ... قال فقمت ومشيت فراسخ بلا زاد وقال المحب يتعلل إلى محبوبه بكل شيء ولا يتسلى عنه بشيء يتبع آثاره ولا يدع استخباره ثم أنشد ... أسائلكم عنها قهل من مخبر ... فمالي بنعمى بعد مكة لي علم ... فلو كنت أدري أين خيم أهلها ... وأي بلاد الله إذ ظعنوا أموا ... إذا لسلكنا الريح خلفها ... ولو أصبحت نعمى ومن دونها النجم ... وكانت وفاته في هذه السنة وقيل في سنة سبع وأربعين وقيل في سنة ست وثمانين والأول أصح وفيها توفي عيسى بن عبدالله بن سنان بن ذكويه بن موسى الطيالسي الحافظ تلقب رعاب سمع عفان ابا نعيم وعنه أبو بكر الشافعي وغيره ووثقه الدارقطني كانت وفاته في شوال منها عن أربع وثمانين سنة وفيها توفي (11/58)
أبو حاتم الرازي
محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران أبو حاتم الحنظلي الرازي أحد أئمة الحفاظ الأثبات العارفين بعلل الحديث والجرح والتعديل وهو قرين أبي زرعة رحمهما الله سمع الكثير وطاف الأقطار والأمصار وروى عن خلق من الكبار وعنه خلق منهم الربيع بن سليمان ويونس بن عبد الأعلا وهما أكبر منه وقدم بغداد وحدث بها وروى عنه من أهلها أبراهيم الحربي وابن أبي الدنيا والمحاملي وغيرهم قال لابنه عبدالرحمن يا بني مشيت على قدمي في طلب الحديث أكثر من ألف فرسخ وذكر أنه لم يكن له شيء ينفق عليه في بعض الأحيان وأنه مكث ثلاثا لا يأكل شيئا حتى استقرض من بعض أصحابه نصف دينار وقد أثنى عليه غير واحد من العلماء والفقهاء وكان يتحدى من حضر عنده من الحفاظ وغيرهم ويقول من أغرب علي بحديث واحد صحيح فله علي درهم أتصدق به قال ومرادي أسمع ما ليس عندي فلم يأت أحد بشيء من ذلك وكان في جملة من حضر ذلك أبو زرعة الرازي كانت وفاة ابن أبي حاتم في شعبان من هذه السنة محمد بن الحسن بن موسى بن الحسن أبو جعفر الكوفي الخراز المعروف بالجندي له مسند كبير روى عن عبيد الله بن موسى والقعنبي وأبي نعيم وغيرهم وعنه ابن صاعد والمحاملي وابن السماك كان ثقة صدوقا محمد بن سعدان أبو جعفر الرازي سمع من أكثر من خمسمائة شيخ ولكن لم يحدث إلا باليسير توفي في شعبان منها قال ابن الجوزي وهم محمد بن سعدان البزار عن القعنبي وهو غير مشهور ومحمد بن سعدان النحوي مشهور توفي في سنة إحدى ومائتين قال ابن الأثير في كامله وفيها توفي
يعقوب بن سفيان بن حران
الإمام الفسوي وكان يتشيع ويعقوب بن يوسف بن معقل الأموي مولاهم والد أبي العباس أحمد بن الأصم وفيها ماتت عريب المغنية المأمونية قيل إنها ابنة جعفر بن يحيى البرمكي فأما يعقوب بن سفيان بن حران فهو أبو يوسف بن أبي معاوية الفارسي الفسوي سمع الحديث الكثير وروى عن أكثر من ألف شيخ من الثقات منهم هشام بن عمار ودحيم وأبو المجاهر وسليمان بن عبدالرحمن الدمشقي وسعيد بن منصور وأبو عاصم ومكي بن إبراهيم وسليمان بن حرب ومحمد بن كثير وعبيدالله بن موسى والقعنبي روى عنه النسائي في سننه وأبو بكر بن أبي داود والحسن بن سفيان وابن خراش وابن خزيمة وأبو عوانة الاسفراييني وغيرهم وصنف كتاب التاريخ والمعرفة وغيره من الكتب المفيدة وقد رحل في طلب الحديث إلى البلدان النائية وتغرب عن وطنه نحو ثلاثين سنة (11/59)
وروى ابن عساكر عنه قال كنت أكتب في الليل على ضوء السراج في زمن الرحلة فبينا أنا ذات ليلة إذ وقع شيء على بصري فلم أبصر معه السراج فجعلت أبكي على ما فاتني من ذهاب بصري وما يفوتني بسبب ذلك من كتابة الحديث وما أنا فيه من الغربة ثم غلبتني عيني فنمت فرأيت رسول الله ( ص ) فقال ما لك فشكوت إليه ما أنا فيه من الغربة ومما فاتني من كتابة السنة فقال ( أدن مني فدنوت منه فجعل يده على عيني وجعل كأنه يقرأ شيئا من القرآن ) ثم استيقظت فأبصرت وجلست أسبح الله وقد أثنى عليه أبو زرعة الدمشقي والحاكم أبو عبدالله النيسابوري وقال هو إمام أهل الحديث بفارس وقدم نيسابور وسمع منه مشايخنا وقدنسبه بعضهم إلى التشيع وذكر ابن عساكر أن يعقوب بن الليث صاحب فارس بلغه عنه أنه يتكلم في عثمان بن عفان فأمر بإحضاره فقال له وزيره أيها الأمير إنه لا يتكلم في شيخنا عثمان بن عفان السجزي إنما يتكلم في عثمان بن عفان الصحابي فقال دعوه ما لي وللصحابي إني إنما حسبته يتكلم في شيخنا عثمان بن عفان السجزي قلت وما أظن هذا صحيحا عن يعقوب بن سفيان فإنه إمام محدث كبير القدر وقد كانت وفاته قبل أبي حاتم بشهر في رجب منها بالبصرة رحمه الله وقد رآه بعضهم في المنام فقال ما فعل بك ربك فقال غفر لي وأمرني أن أملي الحديث في السماء كما كنت أمليه في الأرض فجلست للاملاء في السماء الرابعة وجلس حولي جماعة من الملائكة منهم جبريل يكتبون ما أمليه من الحديث بأقلام الذهب
عريب المأمونية
فقد ترجمها ابن عساكر في تاريخه وحكى عن بعضهم أنها ابنة جعفر البرمكي سرقت وهي صغيرة عند ذهاب دولة البرامكة وبيعت فاشتراها المأمون بن الرشيد ثم روى عن حماد بن إسحاق عن أبيه أنه قال ما رأيت قط امرأة أحسن وجها منها ولا أكثر أدبا ولا أحسن غناء وضربا وشعرا ولعبا بالشطرنج والنرد منها وما تشاء أن تجد خصلة ظريفة بارعة في امرأة إلا وجدتها فيها وقد كانت شاعرة مطيقة بليغة فصيحة وكان المأمون يتعشقها ثم أحبها بعده المعتصم وكانت هي تعشق رجلا يقال له محمد بن حماد وربما أدخلته إليها في دار الخلافة قبحها الله على ما ذكره ابن عساكر عنها ثم عشقت صالحا المنذري وتزوجته سرا وكانت تقول فيه الشعر وربما ذكرته في شعرها بين يدي المتوكل وهو لا يشعر فيمن هو فتضحك جواريه من ذلك فيقول يا سحاقات هذا خير من عملكن وقد أورد ابن عساكر شيئا كثيرا من شعرها فمن ذلك قولها لما دخلت على المتوكل تعوده من حمى أصابته فقالت ... أتوني فقالوا بالخليفة علة ... فقلت ونار الشوق توقد في صدري (11/60)
ألا ليت بي حمى الخليفة جعفر ... فكانت بي الحمى وكان له أجري ... كفى بي حزن أن قيل حم فلم أمت ... من الحزن إني بعد هذا لذو صبرى ... جعلت فدا للخليفة جعفر ... وذاك قليل للخليفة من شكري ... ولما عوفي دخلت عليه فغنته من قيلها ... شكرا لأنعم من عافاك من سقم ... دمت المعافاة من الآلام والسقم ... عادت ببرئك للأيام بهجتها ... واهتز نبت رياض الجود والكرم ... ما قام للدين بعد اليوم من ملك ... أعف منك ولا أرعى إلى الذمم ... فعمر الله فينا جعفرا ونفى ... بنور وجنته عنا دجى الظلم ... ولها في عافيته أيضا ... حمدنا الذي عافى الخليفة جعفرا ... على رغم أشياخ الضلالة والكفر ... وما كان إلا مثل بدر أصابه ... كسوف قليل ثم أجلي عن البدر ... سلامته للدين عز وقوة ... وعلته للدين قاصمة الظهر ... مرضت فأمرضت البرية كلها ... وأظلمت الأمصار من شدة الذعر ... فلما استبان الناس منك إفاقة ... أفاقوا وكانوا كالنيان على الجمر ... سلامة دنيانا سلامة جعفر ... فدام معافا سالما آخر الدهر ... إمام أعم الناس بالفضل والندا ... قريبا التقوى بعيدا من الوزر ... ولها أشعار كثيرة رائعة ومولدها في سنة إحدى وثمانين ومائة وماتت في سنة سبع وسبعين ومائتين بسر من رأى ولها ست وتسعون سنة
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائتين
قال ابن الجوزي في المحرم منها طلع نجم ذو جمة ثم صارت الجمة ذؤابة قال وفي هذه السنة غار ماء النيل وهذا شيء لم يعهد مثله ولا بلغنا في الأخبار السالفة فغلت الأسعار بسبب ذلك جدا وفيها خلع على عبد الله بن سليمان بالوزارة وفي المحرم منها قدم الموفق من الغزو فتلقاه الناس إلى النهروان فدخل بغداد وهو مريض بالنقرس فاستمر في داره في أوائل صفر ومات بعد أيام قال وفيها تحركت القرامطة وهم فرقة من الزنادقة الملاحدة أتباع الفلاسفة من الفرس الذين يعتقدون نبوة زرادشت ومردك وكانا يبيحان المحرمات ثم هم بعد ذلك أتباع كل ناعق إلى باطل وأكثر ما يفسدون من جهة الرافضة ويدخلون إلى الباطل من جهتهم لأنهم أقل الناس عقولا ويقال لهم الاسماعيلية لانتسابهم إلى إسماعيل الأعرج بن جعفر الصادق ويقال لها القرامطة قيل نسبة (11/61)
إلى قرمط بن الأشعث البقار وقيل إن رئيسهم كان في أول دعوته يأمر من اتبعه بخمسين صلاة في كل يوم وليلة ليشغلهم بذلك عما يريد تدبيره من المكيدة ثم اتخذ نقباء اثنى عشر وأسس لأتباعه دعوة ومسلكا يسلكونه ودعا إلى إمام أهل البيت ويقال لهم الباطنية لأنهم يظهرون الرفض ويبطنون الكفر المحض والجرمية والبابكية نسبة إلى بابك الجرمي الذي ظهر في أيام المعتصم وقتل كما تقدم ويقال لهم المحمرة نسبة إلى صبغ الحمرة شعارا مضاهاة لبني العباس ومخالفة لهم لأن بني العباس يلبسون السواد ويقال لهم التعليمية نسبة إلى التعلم من الإمام المعصوم وترك الرأي ومقتضى العقل ويقال لهم السبعية نسبة إلى القول بأن الكواكب السبعة المتحيزة السائرة مدبرة لهذا العالم فيما يزعمون لعنهم الله وهي القمر في الأولى وعطارد في الثانية والزهرة في الثالثة والشمس في الرابعة والمريخ في الخامسة والمشتري في السادسة وزحل في السابعة قال ابن الجوزي وقد بقي من البابكية جماعة يقال إنهم يجتمعون في كل سنة ليلة هم ونساؤهم ثم يطفئون المصباح وينتهبون النساء فمن وقعت يده في امرأة حلت له ويقولون هذا اصطياد مباح لعنهم الله وقد ذكر ابن الجوزي تفصيل قوهم وبسطه وقد سبقه إلى ذلك أبو بكر الباقلاني المتكلم المشهور في كتابه ( هتك الأستار وكشف الأسرار ) في الرد على الباطنية ورد على كتابهم الذي جمعه بعض قضاتهم بديار مصر في أيام الفاطميين الذي سماه ( البلاغ الأعظم والناموس الأكبر ) وجعله ست عشرة درجة أول درجة أن يدعو من يجتمع به أولا إن كان من أهل السنة إلى القول بتفضيل على علي عثمان بن عفان ثم ينتقل به إذا وافقه على ذلك إلى تفضيل علي على الشيخين أبي بكر وعمر ثم يترقى به إلى سبهما لأنهما ظلما عليا وأهل البيت ثم يترقى به إلى تجهيل الأمة وتخطئتها في موافقة أكثرهم على ذلك ثم يشرع في القدح في دين الإسلام من حيث هو وقد ذكر لمخاطبته لمن يريد أن يخاطبه بذلك شبها وضلالات لا تروج إلا على كل غبي جاهل شقي كما قال تعالى والسماء ذات الحبك إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك أي يضل به من هو ضال وقال فأنكم وما نعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم وقال وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون إلى غير ذلك من الآيات التي تتضمن أن الباطل والجهل والضلال والمعاصي لا ينقاد لها إلا شرار الناس كما قال الشعراء ... إن هو مستحوذ على أحد ... إلا على أضعف المجانين ... ثم بعد هذا كله لهم مقامات في الكفر والزندقة والسخافة مما ينبغي لضعيف العقل والدين أن ينزه (11/62)
نفسه عنه إذا تصوره وهو مما فتحه إبليس عليهم من أنواع الكفر وأنواع الجهالات وربما أفاد إبليس بعضهم أشياء لم يكن يعرفها كما قال بعض الشعراء ... وكنت امرأ من جند إبليس برهة ... من الدهر حتى صار إبليس من جندي ... والمقصود أن هذه الطائفة تحركت في هذه السنة ثم استفحل أمرهم وتفاقم الحال بهم كما سنذكره حتى آل بهم الحال إلى أن دخلوا المسجد الحرام فسفكوا دم الحجيج في وسط المسجد حول الكعبة وكسروا الحجر الأسود واقتلعوه من موضعه وذهبوا به إلى بلادهم في سنة سبع عشرة وثلاثمائة ثم لم يزل عندهم إلى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة فمكث غائبا عن موضعه من البيت ثنتين وعشرين سنة فإنا لله وإنا إليه راجعون وكل ذلك من ضعف الخليفة وتلاعب الترك بمنصب الخلافة واستيلائهم على البلاد وتشتت الأمر وقد اتفق في هذه السنة شيئان أحدهما ظهور هؤلاء والثاني موت حسام الإسلام وناصر دين الله أبو أحمد الموفق رحمه الله لكن الله أبقى للمسلمين بعده ولده أبو العباس أحمد الملقب بالمعتضد وكان شهما شجاعا
ترجمة أبي أحمد الموفق
هو الأمير الناصر لدين الله ويقال له الموفق ويقال له طلخة بن المتوكل على الله جعفر بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد كان مولده في يوم الأربعاء لليلتين خلتا من ربيع الأول سنة تسعة وعشرين ومائتين وكان أخوه المعتمد حين صارت الخلافة إليه قد عهد إليه بالولاية بعد أخيه جعفر ولقبه الموفق بالله ثم لما قتل صاحب الزنج وكسر جيشه تلقب بناصر دين الله وصار إليه العقد والحل والولاية والعزل وإليه يجبي الخراج وكان يخطب له على المنابر فيقال اللهم أصلح الأمير الناصر لدين الله أبا أحمد الموفق بالله ولي عهد المسلمين أخا أمير المؤمنين ثم اتفق موته قبل أخيه المعتمد بستة أشهر وكان غزير العقل حسن التدبير يجلس للمظالم وعنده القضاة فينصف المظلوم من الظالم وكان عالما بالأدب والنسب والفقه وسياسة الملك وغير ذلك وله محاسن ومآثر كثيرة جدا وكان سبب موته أنه أصابه مرض النقرس في السفر فقدم إلى بغداد وهو عليل منه فاستقر في داره في أوائل صفر وقد تزايد به المرض وتورمت رجله حتى عظمت جدا وكان يوضع له الأشياء المبردة كالثلج ونحوه وكان يحمل على سريره يحمله أربعون رجلا بالنوبة كل نوبة عشرون فقال لهم ذات يوم ما أظنكم إلا قد مللتم مني فياليتني كواحد منكم آكل كما تأكلون وأشرب كما تشربون وأرقد كما ترقدون في عافية وقال أيضا في ديواني مائة ألف مرتزق ليس فيهم أحد أسوأ حالا مني ثم كانت وفاته في القصر الحسيني ليلةالخميس لثمان بقين من صفر قال ابن الجوزي وله سبع وأربعون سنة تنقص شهرا وأياما (11/63)
ولما توفي اجتمع الأمراء على أخذ البيعة من بعده إلى ولده أبي العباس أحمد فبايع له المعتمد بولاية العهد من بعد أبيه وخطب له على المنابر وجعل إليه ما كان لأبيه من الولاية والعزل والقطع والوصل ولقب المعتضد بالله وفيها توفي إدريس بن سليم الفقعسي الموصلي قال ابن الأثير كان كثير الحديث والصلاح واسحاق بن كنداج نائب الجزيرة كان من ذوي الرأي وقام بما كان إليه ولده محمد ويازمان نائب طرسوس جاءه حجر منجنيق من بلدة كان محاصرها ببلاد الروم فمات منه في رجب من هذه السنة ودفن بطرسوس فولى نيابة الثغر بعده أحمد الجعيفي بأمر خمارويه بن أحمد بن طولون ثم عزله عن قريب بابن عمه موسى بن طولون وفيها توفي عبده بن عبدالرحيم قبحه الله ذكر ابن الجوزي أن هذا الشقي كان من المجاهدين كثيرا في بلاد الروم فلما كان في بعض الغزوات والمسلمون محاصروا بلدة من بلاد الروم إذ نظر إلى امرأة من نساء الروم في ذلك الحصن فهويها فراسلها ما السبيل إلى الوصول إليك فقالت أن تتنصر وتصعد إلي فأجابها إلى ذلك فما راع المسلمين إلا وهو عندها فاغتم المسلمون بسبب ذلك غما شديدا وشق عليهم مشقة عظيمة فلما كان بعد مدة مروا عليه وهو مع تلك المرأة في ذلك الحصن فقالوا يا فلان ما فعل قرآنك ما فعل علمك ما فعل صيامك ما فعل جهادك ما فعلت صلاتك فقال اعلموا أني أنسيت القرآن كله إلا قوله ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلهيهم الأمل فسوف يعلمون وقد صار لي فيهم مال وولد
ثم دخلت سنة تسع وسبعين ومائتين
في أواخر المحرم منها خلع جعفر المفوض من المعهد واستقل بولاية العهد من بعد المعتمد أبو العباس المعتضد بن الموفق وخطب له بذلك على رؤس الأشهاد وفي ذلك يقول يحيى بن علي يهني المعتضد ... ليهنيك عقد أنت فيه المقدم ... حباك به رب بفضلك أعلم ... فإن كنت قد أصبحت والي عهدنا ... فأنت غدا فينا الإمام المعظم ... و زال من والاك فيه مبلغا ... مناه ومن عاداك يخزى ويندم ... وكان عمود الدين فيه تعوج ... فعاد بهذا العهد وهو مقوم ... وأصبح وجه الملك جذلان ضاحكا ... يضيء لنا منه الذي كان مظلم ... فدونك شدد عقد ما قد حويته ... فإنك دون الناس فيه المحكم ... وفيها نودي ببغداد أن لا يمكن أحد من القصاص والطرقية والمنجمين ومن أشبههم من الجلوس في المساجد ولا في الطرقات وأن لا تباع كتب الكلام والفلسفة والجدل بين الناس وذلك بهمة (11/64)
أبي العباس المعتضد سلطان الإسلام وفيها وقعت حروب بين هارون الشاري وبين بني شيبان في أرض الموصل وقد بسط ذلك ابن الأثير في كامله وفي رجب منها كانت وفاة المعتمد على الله ليلة الإثنين لتسع عشرة ليلة خلت منه
ترجمة المعتمد على الله
هو أمير المؤمنين المعتمد بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد واسمه أحمد بن جعفر بن محمد بن هارون الرشيد مكث في الخلافة ثلاثا وعشرين سنة وستة أيام وكان عمره يوم مات خمسين سنة وأشهرا وكان أسن من أخيه الموفق بستة أشهر وتأخر بعده أقل من سنة ولم يكن إليه مع أخيه شيء من الأمر حتى أن المعتمد طلب في بعض الأيام ثلاثمائة دينار فلم يصل إليها فقال الشاعر في ذلك ... ومن العجائب في الخلافة أن ... ترى ما قل ممتنعا عليه ... وتؤخذ الدنا باسمه جميعا ... وما ذاك شيء في يديه ... إليه تحمل الأموال طرا ويمنع بعض ما يجبى إليه ...
كان المعتمد أول خليفة انتقل من سامرا إلى بغداد ثم لم يعد إليها أحد من الخلفاء بل جعلوا إقامتهم ببغداد وكان سبب هلاكه في ما ذكره ابن الأثير أنه شرب في تلك الليلة شرابا كثيرا وتعشى عشاء كثيرا وكان وقت وفاته في القصر الحسيني من بغداد وحين مات أحضر المعتضد القضاة والأعيان وأشهدهم أنه مات حتف أنفه ثم غسل وكفن وصلي عليه ثم حمل فدفن بسامرا وفي صبيحة العزاء بويع للمعتضد وفيها توفي
البلاذري المؤرخ
واسمه أحمد بن يحيى بن جابر بن داود أبو الحسن ويقال أبو جعفر ويقال أبو بكرالبغدادي البلاذري صاحب التاريخ المنسوب إليه سمع هشام بن عمار وأبا عبيد القاسم بن سلام وأبا الربيع الزهراني وجماعة وعنه يحيى بن النديم وأحمد بن عمار وأبو يوسف يعقوب بن نعيم بن قرقارة الأزدي قال ابن عساكر كان أديبا ظهرت له كتب جياد ومدح المأمون بمدائح وجالس المتوكل وتوفي أيام المعتمد وحصل له هوس ووسواس في آخر عمره وروى عنه ابن عساكر قال قال لي محمود الوراق قل من الشعر ما يبقى لك ذكره ويزول عنك إثمه فقلت عند ذلك
... استعدي يا نفس للموت واسعي ... لنجاة فالحازم المستعد ... إنما أنت مستعيرة وسوف ... تردين والعواري ترد ... أنت تسهين والحوادث لا ... تسهو وتلهين والمنايا تعد ... أي ملك في الأرض وأي حظ ... لامرئ حظه من الأرض لحد (11/65)
لا ترجى البقاء في معدن الموت ... ودار حتوفها لك ورد ... كيف يهوى امرؤ لذاذة أيام ... أنفاسها عليه فيها تعد ...
خلافة المعتضد
أمير المؤمنين أبي العباس أحمد بن أحمد الموفق بن جعفر المتوكل كان من خيار خلفاء بني العباس ورجالهم بويع له بالخلافة صبيحة موت المعتمد لعشر بقين من رجب منها وقد كان أمر الخلافة دائرا فأحياه الله على يديه بعدله وشهامته وجرأته واستوزر عبيدالله بن سليمان بن وهب وولي مولاه بدرا الشرطة في بغداد وجاءته هدايا عمرو بن الليث وسأل منه أن يوليه إمرة خراسان فأجابه إلى ذلك وبعث إليه بالخلع واللواء فنصبه عمرو في داره ثلاثة أيام فرحا وسرورا بذلك وعزل رافع بن هرثمة عن إمرة خراسان ودخلها عمرو بن الليث فلم يزل يتبع رافعا من بلد إلى بلد حتى قتله في سنة ثلاث وثمانين كما سيأتي وبعث برأسه إلى المعتضد وصفت إمرة خراسان لعمرو وفيها قدم الحسين بن عبدالله المعروف بالجصاص من الديار المصرية بهدايا عظيمة من خمارويه إلى المعتضد فتزوج المعتضد بابنة خمارويه فجهزها أبوها بجهاز لم يسمع بمثله حتى قيل إنه كان في جهازها مائة هاون من ذهب فحمل ذلك كله من الديار المصرية إلى دار الخلافة ببغداد صحبة العروس وكان وقتا مشهودا وفيها تملك أحمد بن عيسى بن الشيخ قلعة ماردين وكانت قبل ذلك لإسحاق بن كنداج وفيها حج بالناس هارون بن محمد العباسي وهي آخر حجة حجها بالناس وقد كان يحج بالناس من سنة أربع وستين ومائتين إلى هذه السنة وفيها توفي من الأعيان أحمد أمير المؤمنين المعتمد وأبو بكر بن أبي خيثمة وأحمد بن زهير بن خيثمة صاحب التاريخ وغيره سمع أبا نعيم وعفان وأخذ علم الحديث عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلم النسب عن مصعب الزبيري وأيام الناس عن أبي الحسن علي بن محمد المدائني وعلم الأدب عن محمد بن سلام الجمحي وكان ثقة حافظا ضابطا مشهورا وفي تاريخه فوائد كثيرة وفرائد غزيرة روى عنه البغوي وابن صاعد وابن أبي داود بن المنادي توفي في جمادى الأولى منها عن أربع وتسعين سنة وخاقان أبو عبدالله الصوفي كانت له أحوال أحواله وكرامات الترمذي واسمه محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن لضحاك وقيل محمد بن عيسى بن يزيد بن سورة بن السكن ويقال محمد بن عيسى بن سورة بن شداد بن عيسى السلمي الترمذي الضرير يقال إنه ولد أكمه وهو أحد أئمة هذا الشأن في زمانه وله المصنفات المشهورة منها الجامع والشمائل وأسماء الصحابة وغير ذلك وكتاب الجامع أحد الكتب الستة التي يرجع إليها العلماء في (11/66)
سائر الآفاق وجهالة ابن حزم لأبي عيسى الترمذي لا تضره حيث قال في محلاه ومن محمد بن عيسى ابن سورة فإن جهالته لا تضع من قدره عند أهل العلم بل وضعت منزلة ابن حزم عند الحفاظ ... وكيف يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل ... وقد ذكرنا مشايخ الترمذي في التكميل وروى عنه غير واحد من العلماء منهم محمد بن إسماعيل البخاري في الصحيح والهيثم بن كليب الشاشي صاحب المسند ومحمد بن محبوب المحبوبي راوي الجامع عنه ومحمد بن المنذر بن شكر قال أبو يعلى الخليل بن عبدالله الخليلي القزويني في كتابه علوم الحديث محمد بن عيسى بن سورة بن شداد الحافظ متفق عليه له كتاب في السنن وكتاب في الجرح والتعديل روى عنه أبو محبوب والأجلاء وهو مشهور بالإمانة والأمامة والعلم مات بعد الثمانين ومائتين كذا قال في تاريخ وفاته وقد قال الحافظ أبو عبدالله محمد بن أحمد بن سليمان الغنجار في تاريخ بخارى محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك السلمي الترمذي الحافظ دخل بخارى وحدث بها وهو صاحب الجامع والتاريخ توفي بالترمذ ليلة الإثنين لثلاث عشرة خلت من رجب سنة تسع وسبعين ومائتين ذكره الحافظ أبو حاتم بن حيان في الثقات فقال كان ممن جمع وصنف وحفظ وذاكر قال الترمذي كتب عني البخاري حديث عطية عن أبي سعيد أن رسول الله ( ص ) قال لعلي ( لا يحل لأحد يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك ) وروى ابن يقظة في تقييده عن الترمذي أنه قال صنفت هذا المسند الصحيح وعرضته على علماء الحجاز فرضوا به وعرضته على علماء العراق فرضوا به وعرضته على علماء خراسان فرضوا به ومن كان في بيته هذا الكتاب فكأنما في بيته نبي ينطق وفي رواية يتكلم قالوا وجملة الجامع مائة وإحدى وخمسون كتابا وكتاب العلل صنفه بسمرقند وكان فراغه منه في يوم عيد الأضحى سنة سبعين ومائتين قال ابن عطية سمعت محمد بن طاهر المقدسي سمعت أبا إسماعيل عبدالله بن محمد الأنصاري يقول كتاب الترمذي عندي أنور من كتاب البخاري ومسلم قلت ولم قال لأنه لا يصل إلى الفائدة منهما إلا من هو من أهل المعرفة التامة بهذا الفن وكتاب الترمذي قد شرح أحاديثه وبينها فيصل إليها كل أحد من الناس من الفقهاء والمحدثين وغيرهم قلت والذي يظهر من حال الترمذي أنه إنما طرأ عليه العمى بعد أن رحل وسمع وكتب وذاكر وناظر وصنف ثم اتفق موته في بلده في رجب منها على الصحيح المشهور والله أعلم
ثم دخلت سنة ثمانين ومائتين من الهجرة
في المحرم منها قتل المعتضد رجلا من أمراء الزنج كان قد لجأ إليه بالأمان ويعرف بسلمة ذكر له أن يدعو إلى رجل لا يعرف من هو وقد أفسد جماعة فاستدعى به فقرره فلم يقر وقال لو كان (11/67)
تحت قدمي ما أقررت به فأمر به فشد على عمود ثم لوحه على النار حتى تساقط جلده ثم أمر بضرب عنقه وصلبه لسبع خلون من المحرم وفي أول صفر ركب المعتضد من بغداد قاصدا بني شيبان من أرض الموصل فأوقع بهم بأسا شديدا عند جبل يقال له نوباذ وكان مع المعتضد حاد جيد الحداء فقال في تلك الليالي يحدو للمعتضد ... فأجهشت للنوباذ حين رأيته ... وهللت للرحمن حين رآني ... وقلت له اين الذين الذين عهدتهم ... بظلك في أمن ولين زماني ... فقال مضوا واستخلفوتي مكانهم ... ومن ذا الذي بقى على الحدثان ... وفيها أمر المعتضد بتسهيل عقبة حلوان فغرم عليها عشرين ألف دينار وكان الناس يلقون منها شدة عظيمة وفيها أمر بتوسيع جامع المنصور بإضافة دار المنصور إليه وغرم عليه عشرين ألف دينار وكان الدار قبلته فبناها مسجدا على حدة وفتح بينهما سبعة عشر بابا وحول المنبر والمحراب إلى المسجد ليكون في قبلة الجامع على عادته قال الخطيب وزاد بدر مولى المعتضد السقفان من قصر المنصور المعروفة بالبدرية
بناء دار الخلافة من بغداد في هذا الوقت
أول من بناها المعتضد في هذه السنة وهو أول من سكنها من الخلفاء إلى آخر دولتهم وكانت أولا دارا للحسن بن سهل تعرف بالقصر الحسني ثم صارت بعد ذلك لابنته بوران زوجة المأمون فعمرتها حتى استنزلها المعتضد عنها فأجابته إلى ذلك ثم أصلحت ما وهي منها ورممت ما كان قد نشعث فيها وفرشتها بأنواع الفرش في كل موضع منها ما يليق به من المفارش وأسكنته ما يليق به من الجواري والخدم وأعدت بها المآكل الشهية وما يحسن ادخاره في ذلك الزمان ثم أرسلت مفاتيحها إلى المعتضد فلما دخلها هاله ما رأى من الخيرات ثم وسعها وزاد فيها وجعل لها سورا حولها وكانت قدر مدينة شيراز وبنى الميدان ثم بنى فيها قصرا مشرفا على دجلة ثم بنى فيها المكتفى التاج فلما كان أيام المقتدر زاد فيها زيادات أخر كبارا كثيرة جدا ثم بعد هذا كله خربت حتى كأن لم يكن موضعها عمارة وتأخرت آثارها إلى أيام التتار الذين خربوها وخربوا بغداد وسبوا من كان بها من الحرائر كما سيأتي بيانه في موضعه من سنة ست وخمسين وستمائة قال الخطيب والذي يشبه أن بوران وهبت دارها للمعتمد لا للمعتضد فإنها لم تعش إلى أيامه وقد تقدمت وفاتها وفيها زلزلت أردبيل ست مرات فتهدمت دورها ولم يبق منها مائة دار ومات تحت الردم مائة ألف وخمسون ألفا فإنا لله وإنا إليه راجعون وفيها غارت المياه ببلاد الرى وطبرستان حتى بيع (11/68)
الماء كل ثلاثة أرطال بدرهم وغلت الأسعار هنالك جدا وفيها غزا إسماعيل بن أحمد الساماني ببلاد الترك ففتح مدينة ملكهم وأسر امرأته الخانون وأباه ونحوا من عشرة آلاف أسير وغنم من الدواب والأمتعة والأموال شيئا كثيرا أصاب الفارس ألف درهم وفيها حج بالناس أبو بكر محمد بن هارون بن إسحاق العباسي وفيها توفي من الأعيان أحمد بن سيار بن أيوب الفقيه الشافعي المشهور بالعبادة والزهادة وأحمد بن أبي عمران موسى بن عيسى أبو جعفر البغدادي كان من أكابر الحنفية تفقه على محمد بن سماعة وهو أستاذ أبي جعفر الطحاوي وكان ضريرا سمع الحديث من علي بن الجعد وغيره وقدم مصر فحدث بها من حفظه وتوفي بها في المحرم من هذه السنة وقد وثقه ابن يونس في تاريخ مصر
وأحمد بن محمد بن عيسى بن الأزهر
القاضي بواسط صاحب المسند روى عن مسلم بن إبراهيم وأبي سلمة التبوذكي وأبي نعيم وأبي الوليد وخلق وكان ثقة ثبتا تفقه بأبي سليمان الجوزجاني صاحب محمد بن الحسن وقد حكم بالجانب الشرقي من بغداد في أيام المعتز فلما كان أيام الموفق طلب منه ومن إسماعيل القاضي أن يعطياه ما بأيديهما من أموال اليتامى الموقوفة فبادر إلى ذلك إسماعيل القاضي واستنظره إلى ذلك أبو العباس البرقي هذا ثم بادر إلى كل من أنس منه رشدا من اليتامي فدفع إليه ماله فلما طولب به قال ليس عندي منه شيء دفعته إلى أهله فعزل عن القضاء ولزم بيته وتعبد إلى أن توفي في ذي الحجة منها وقد رآه بعضهم في المنام وقد دخل على رسول الله ( ص ) فقام إليه وصافحه وقبل بين عينيه وقال مرحبا بمن عمل بسنتي وأثري وفيها توفي جعفر بن المعتضد وكان يسامر أباه وراشد مولى الموفق بمدينة الدينور فحمل إلى بغداد وعثمان بن سعيد الدارمي مصنف الرد على بشر المريسي فيما ابتدعه من التأويل لمذهب الجهمية وقد ذكرناه في طبقات الشافعية ومسرور الخادم وكان من أكابر الأمراء ومحمد بن إسماعيل الترمذي صاحب التصانيف الحسنة في رمضان منها قاله ابن الأثير وشيخنا الذهبي وهلال بن المعلا المحدث المشهور وقد وقع لنا من حديثه طرف
وسيبويه استاذ النحاة
وقيل إنه توفي في سنة سبع وسبعين وقيل ثمان وثمانين وقيل إحدى وستين وقيل أربع وسبعين ومائة فاالله أعلم ( وهو أبو بشر عمر بن عثمان بن قنبر مولى بني الحارث بن كعب وقيل مولى الربيع بن زياد (11/69)
الحارثي البصري ولقب سيبويه لجماله وحمرة وجنتيه حتى كانتا كالتفاحتين وسيبويه في لغة فارس رائحة التفاح وهو الإمام العلامة العلم شيخ النحاة من لدن زمانه إلى زماننا هذا والناس عيال على كتابه المشهور في هذا الفن وقد شرح بشروح كثيرة وقل من يحيط علما به أخذ سيبويه العلم عن الخليل بن أحمد ولازمه وكان إذا قدم يقول الخليل مرحبا بزائر لا يمل وأخذ أيضا عن عيسى بن عمر ويونس بن حبيب وأبي زيد الأنصاري وأبي الخطاب الأخفش الكبير وغيرهم قدم من البصرة إلى بغداد أيام كان الكسائي يؤدب الأمين بن الرشيد فجمع بينهما فتناظرا في شيء من مسائل النحو فانتهى الكلام إلى أن قال الكسائي تقول العرب كنت أظن الزنبور أشد لسعا من النحلة فإذا هو إياها فقال سيبويه بيني وبين أعرابي لم يشبه شيء من الناس المولد وكان الأمين يحب نصرة أستاذه فسأل رجلا من الأعراب فنطق بما قال سيبويه فكره الأمين ذلك وقال له إن الكسائي يقول خلافك فقال إن لساني لا يطاوعني على ما يقول فقال أحب أن تحضر وأن تصوب كلام الكسائي فطاوعه على ذلك وانفصل المجلس عن قول الأعرابي إذا الكسائي أصاب فحمل سيبويه على نفسه وعرف أنهم تعصبوا عليه ورحل عن بغداد فمات ببلاد شيراز في قرية يقال لها البيضاء وقيل إنه ولد بهذه وتوفي بمدينة سارة في هذه السنة وقيل سنة سبع وسبعين وقيل ثمان وثمانين وقيل إحدى وتسعين وقيل أربع وتسعين ومائة فالله أعلم وقد ينف على الأربعين وقيل بل إنما عمر ثنتين وثلاثين سنة فالله أعلم قرأ بعضهم على قبره هذه الأبيات ... ذهب الأحبة بعد طول تزاور ... ونأى المزار فأسلموك وأقشعوا ... تركوك أوحش ما تكون بقفرة ... لم يؤنسوك وكربة لم يدفعوا ... قضى القضاء وصرت صاحب حفرة ... عنك الأحبة أعرضوا وتصدعوا ...
ثم دخلت سنة إحدى وثمانين ومائتين
فيها دخل المسلمون بلاد الروم فغنموا وسلموا وفيها تكامل غور المياه ببلاد الرى وطبرستان وفيها غلت الأسعار جدا وجهد الناس حتى أكل بعضهم بعضا فكان الرجل يأكل ابنه وابنته فإنا لله وإنا إليه راجعون وفيها حاصر المعتضد قلعة ماردين وكانت بيد حمدان بن حمدون ففتحها قسرا وأخذ ما كان فيها ثم أمر بتخريبها فهدمت وفيها وصلت قطر الندى بنت خمارويه سلطان الديار المصرية إلى بغداد في تجمل عظيم ومعها من الجهاز شيء كثير حتى قيل إنه كان في الجهاز مائة هاون من ذهب غير الفضة وما يتبع ذلك من القماش وغير ذلك مما لا يحصى ثم بعد كل حساب أرسل معها (11/70)
أبوها ألف ألف دينار وخمسين ألف دينار لتشتري بها من العراق ما قد تحتاج إليه مما ليس بمصر مثله وفيها خرج المعتضد إلى بلاد الجبل وولى ولده عليا المكتفى نيابة الرى وقزوين وأزربيجان وهمدان والدينور وجعل على كتابته أحمد بن الأصبغ وولى عمر بن عبدالعزيز بن أبي دلف نيابة أصبهان ونهاوند والكرخ ثم عاد راجعا إلى بغداد وحج بالناس محمد بن هارون بن إسحاق وأصاب الحجاج في الأجفر مطر عظم فغرق كثير منهم كان الرجل يغرق في الرمل فلا يقدر أحد على خلاصه منه وفيها توفي من الأعيان إبراهيم بن الحسن بن ديزيل الحافظ صاحب كتاب المصنفات منها في وقعة صفين مجلد كبير وأحمد بن محمد الطائي بالكوفة في جمادى منها
واسحاق بن إبراهيم
المعروف بابن الجيلي سمع الحديث وكان يفتي الناس بالحديث وكان يوصف بالفهم والحفظ وفيها توفي
أبو بكر عبدالله بن أبي الدنيا القرشي
مولى بني أمية وهو عبدالله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس أبو بكر بن أبي الدنيا الحافظ المصنف في كل فن المشهور بالتصانيف الكثيرة النافعة الشائعةالزائعة في الرقاق وغيرها وهي تزيد على مائة مصنف وفيل إنها نحوالثلثمائة مصنف وقيل أكثر وقيل أقل سمع ابن أبي الدنيا إبراهيم ابن المنذر الخزامي وخالد بن خراش وعلي بن الحعد وخلقا وكان مؤدب المعتضد وعلي بن المعتضد الملقب بالمكتفي بالله وكان له عليه كل يوم خمسة عشر دينارا وكان صدوقا حافظا ذا مروءة لكن قال فيه صالح بن محمد حزرة إلا أنه كان يروى عن رجل يقال له محمد بن إسحاق البلخي وكان هذا الرجل كذابا يضع للأعلام إسنادا وللكلام إسنادا ويروى أحاديث منكرة ومن شعر ابن أبي الدنيا أنه جلس أصحاب له ينتظرونه ليخرج إليهم فجاء المطر فحال بينه فكتب إليهم رقعة فيها ... أنا مشتاق إلى رؤيتكم ... يا أخلاي وسمعي والبصر ... كيف أنساكم وقلبي عندكم ... حال فيما بيننا هذا المطر ... توفي ببغداد في جمادى الأولى من هذه السنة عن سبعين سنة وصلى عليه يوسف بن يعقوب القاضي ودفن بالشونيزية رحمه الله عبدالرحمن بن عمرو وأبو زرعة البصري الدمشقي الحافظ الكبير المشهور بابن المواز الفقيه المالكي له اختيارات في مذهب مالك فمن ذلك وجوب الصلاة على رسول الله ( ص ) في الصلاة
ثم دخلت سنة ثنتين وثمانين ومائتين
في خامس ربيع الأول منها يوم الثلاثاء دخل المعتضد بزوجته قطر الندى ابنة خمارويه قدمت (11/71)
بغداد صحبة عمها وصحبة ابن الجصاص وكان الخليفة غائبا وكان دخولها إليه يوما مشهودا امتنع الناس من المرور في الطرقات من كثرة الخلق وفيها نهى المعتضد الناس أن يعملوا في يوم النيروز ما كانوا يتعاطونه من إيقاد النيران وصب الماء وغير ذلك من الأفعال المشابهة لأفعال المجوس ومنع من حمل هدايا الفلاحين إلى المنقطعين في هذا اليوم وأمر بتأخير ذلك إلى الحادي عشر من حزيران وسمى النيروز المعتضدي وكتب بذلك إلى الآفاق وفيها في ذي الحجة قدم إبراهيم بن أحمد الماذرائي من دمشق على البريد فأخبر الخليفة بأن خمارويه وثبت عليه خدامه فذبحته على فراشه وولوا بعده ولده حنش ثم قتلوه ونهبوا داره ثم ولوا هارون بن خماروية وقد التزم في كل سنة أن يحمل إلى الخليفة ألف ألف دينار وخسمائة ألف دينار فأقره المعتضد على ذلك فلما كان المكتفي عزله وولى مكانه محمد بن سليمان الواثقي فاصطفى أموال الطولونيين وكان ذلك آخر العهد منهم وفيها أطلق لؤلؤ غلام أحمد بن طولون من الحبس فعاد إلى مصر في أذل حال بعد أن كان من أكثر الناس مالا وعزا وجاها وفيها حج بالناس الأمير المتقدم ذكره وفيها توفي من الأعيان أحمد بن داود أبو حنيفة الدينوري اللغوي صاحب كتاب النبات
إسماعيل بن إسحاق
ابن إسماعيل بن حماد بن زيد أبو إسحاق الأزدي القاضي أصله من البصرة ونشأ ببغداد وسمع مسلم بن إبراهيم و محمد بن عبدالله الأنصاري والقعنبي وعلي بن المديني وكان حافظا فقيها مالكيا جمع وصنف وشرح في المذهب عدة مصنفات في التفسير والحديث والفقه وغير ذلك ولي القضاء في أيام المتوكل بعد سوار بن عبدالله ثم عزل ثم ولى وصار مقدم القضاة كانت وفاته فجأة ليلة الأربعاء لثمان بقين من ذي الحجة منها وقد جاوز الثمانين رحمه الله الحارث بن محمد بن أبي أسامة صاحب المسند المشهور
خمارويه بن أحمد بن طولون
صاحب الديار المصرية بعد أبيه سنة إحدى وسبعين ومائتين وقد تقاتل هو والمعتضد بن الموفق في حياة أبيه الموفق في أرض الرملة وقيل في أرض الصعيد وقد تقدم ذلك في موضعه ثم بعد ذلك لما آلت الخلافة إلى المعتضد تزوج بابنة خمارويه وتصافيا فلما كان في ذي الحجة من هذه السنة عدا أحد الخدام من الخصيان على خمارويه فذبحه وهو على فراشه وذلك أن خمارويه اتهمه بجارية له مات عن ثنتين وثلاثين سنة فقام بالأمر من بعده ولده هارون بن خمارويه وهو آخر الطولونية وذكر ابن الأثير أن عثمان بن سعيد بن خالد أبو سعيد الدارمي توفي في هذه السنة وكان شافعيا (11/72)
أخذ الفقه عن البويطي صاحب الشافعي فالله أعلم وقد قدمنا وفاة الفضل بن يحيى بن محمد بن المسيب بن موسى بن زهير بن يزيد بن كيسان بن بادام ملك اليمن أسلم بادام في حياة النبي ( ص )
ابو محمد الشعراني
الأديب الفقيه العابد الحافظ الرحال تلميذ يحيى بن معين روى عنه الفوائد في الجرح والتعيل وغير ذلك وكذلك اخذ عن أحمد بن حنبل وعلي بن المديني وقرأ على خلف بن هشام البزار وتعلم اللغة من ابن الأعرابي وكان ثقة كبيرا محمد بن القاسم بن خلاد أبو العيناء البصري الضرير الشاعر الأديب البليغ اللغوي تلميذ الأصمعي كنيته أبو عبدالله وإنما لقب بأبي العيناء لأنه سئل عن تصغير عيناء فقال عييناء له معرفة تامة بالأدب والحكايات والملح أما الحديث فليس منه إلا القليل
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين ومائتين
في المحرم منها خرج المعتضد من بغداد قاصدا بلاد الموصل لقتال هارون الشاري الخارجي فظفر به وهزم أصحابه وكتب بذلك إلى بغداد فلما رجع الخليفة إلى بغداد أمر بصلب هارون الشاري وكان صفريا فلما صلب قال لا حكم إلا لله ولو كره المشركون وقد قاتل الحسن بن حمدان الخوارج في هذه الغزوة قتالا شديدا مع الخليفة فأطلق الخليفة أباه حمدان بن حمدون من القيود بعد ما كان قد سجنه حينا من وقت أخذ قلعة ماردين فأطلقه وخلع عليه وأحسن إليه وفيها كتب المعتضد إلى الآفاق بردما فضل عن سهام ذوي الفرض إذا لم تكن عصبة إلى ذوي الأرحام وذلك بفتيا أبي حازم القاضي وقد قال في فتياه إن هذا اتفاق من الصحابة إلا زيد بن ثابت فإنه تفرد برد ما فضل والحلة هذه إلى بيت المال ووافق على ذلك علي بن محمد بن أبي الشوارب أبي حازم وخالفهما القاضي يوسف بن يعقوب وذهب إلى قول زيد فلم يلتفت إليه المعتضد ولا عد قوله شيئا وأمضى فتيا أبي حازم ومع هذا ولى القصاء يوسف بن يعوقب في الجانب الشرقي وخلع عليه خلعه سنية وقلد أبا حازم قضاء أماكن كثيرة وذلك لموافقته ابن أبي الشوارب وخلع عليه خلعا سنية أيضا وفيها وقع الفداء بين المسلمين والروم فاستنقذ من أيديهم ألفا أسير وخمسمائة وأربعة أنفس وفيها حاصرت الصقالبة الروم في القسطنطينية فاستعان ملك الروم بمن عنده من أسارى المسلمين وأعطاهم سلاحا كثيرا فخرجوا معهم فهزموا الصقالبة ثم خاف ملك الروم من غائلة أولئك المسلمين ففرقهم في البلاد وفيها خرج عمرو بن الليث من نيسابور لبعض أشغاله فخلفه فيها رافع بن هرثمة ودعا على منابرها لمحمد بن زيد المطلبي ولولده من بعده فرجع إليه عمرو وحاصره فيها ولم يزل به حتى أخرجه منها وقتله على بابها وفيها بعث الخليفة وزيره عبيدالله بن سليمان (11/73)
لقتال عمر بن عبدالعزيز بن أبي دلف فلما وصل إليه طلب منه عمر الأمان فأمنه وأخذه معه إلى الخليفة فتلقاه الأمراء وخلع عليه الخليفة وأحسن إليه وفيها توفي من الأعيان إبراهيم بن مهران أبو إسحاق الثقفي السراج النيسابوري كان الإمام أحمد يدخل إلى منزله وكان بقطيعة الربيع في الجانب الغربي وينبسط فيه ويفطر عنده وكان من الثقات العباد العلماء توفي في صفر منها إسحاق بن إبراهيم بن محمد بن حازم أبو القاسم الجيلي وليس هو بالذي تقدم ذكره في السنين المتقدمة سمع داود بن عمرو وعلي بن الجعد وخلقا كثيرا وقد لينه الدارقطني فقال ليس بالقوي توفي عن نحو من ثمانين سنة سهل بن عبدالله بن يونس التستري أبو محمد أحد أئمة الصوفية لقي ذا النون المصري ومن كلامه الحسن قوله أمس قد مات واليوم في النزع وغد لم يولد وهذا كما قال بعض الشعراء ... ما مضى فات والمؤمل غ ... يب ولك الساعة التي أنت فيها ... وقد تخرج سهل شيخا له محمد بن سوار وقيل إن سهلا قد توفي سنة ثلاث 8 وسبعين ومائتين فالله أعلم وفيها توفي عبدالرحمن بن يوسف بن سعيد بن خراش أبو محمد الحافظ المروزي أحد الجوالين الرحالين حفاظ الحديث والمتكلمين في الجرح والتعديل وقد كان ينبذ بشيء من التشيع فالله أعلم روى الخطيب عنه أنه قال شربت بولي في هذا الشأن خمس مرات يعنى أنه اضطر إلى ذلك في أسفاره في الحديث من العطش علي بن محمد بن أبي الشوارب عبدالملك الأموي البصري قاضي سامرا وقد ولى في بعض الأحيان قضاء القضاة وكان من الثقات سمع أبا الوليد وأبا عمر والحوصي وعنه النجاد وابن صاعد وابن قانع وحمل الناس عنه علما كثيرا
ابن الرومي الشاعر
صاحب الديوان في الشعر علي بن العباس بن جريج أبو الحسن المعروف بابن الرومي وهو مولى عبدالله بن جعفر وكان شاعرا مشهورا مطيقا فمن ذلك قوله ... إذا ما مدحت الباخلين فإنما ... تذكرهم ما في سواهم من الفضل ... وتهدي لهم غما طويلا وحسرة ... فإن منعوا منك النوال فبالعدل ... وقال ... إذا ما كساك الدهر سربال صحة ... ولم تخل من قوت يلذ ويعذب ... فلا تغبطن المترفين فإنه ... على قدر ما يكسوهم الدهر يسلب ... وقال أيضا ... عدوك من صديقك مستفاد ... فلا تستكثرن من الصحاب ... فإن الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب ... إذا ما انقلب الصديق غدا عدوا ... مبينا والأمور إلى انقلاب (11/74)
ولو كان الكثير يطيب كانت ... مصاحبة الكثير من الصواب ... ولكن قل ما استكثرت إلا ... وقعت على ذئاب في ثياب ... فدع عنك الكثير فكم كثير ... يعاف وكم قليل مستطاب ... وما اللجج العظام بمزريات ... ويكفي الري في النطف العذاب ... وقال أيضا ... وما الحسب الموروث إلا دردره ... بمحتسب إلا بآخر مكتسب ... فلا تنكل إلا على ما فعلته ... ولا تحسبن المجد يورث كالنسب ... فليس يسود المرء إلا بفعله ... وإن عد آباء كراما ذوي حسب ... إذا العود لم يثمر وإن كان أصله ... من المثمرات اعتده الناس في الحطب ... وللمجد قوم شيدوه بأنفس ... كرام ولم يعنوا بأم ولا بأب ... وقال أيضا وهو من لطف شعره ... قلبي من الطرف السقيم سقيم ... لو أن من أشكو إليه رحيم ... في وجهها أبدا نهار واضح ... من شعرها عليه ليل بهيم ... إن أقبلت فالبدر لاح وإن ... مشت فالغصن راح وإن رنت فالريم ... نعمت بها عيني فطال عذابها ... ولكم عذاب قد جناه نعيم ... نظرت فاقصدت الفؤاد بسهمها ... ثم انثنت نحوي فكدت أهيم ... ويلاه إن نظرت وإن هي أعرضت ... وقع السهام ووقعهن أليم ... يا مستحل دمي محرم رحمتي ... ما أنصف التحليل والتحريم ... وله أيضا وكان يزعم أنه ما سبق إليه ... آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم ... في الحادثات إذا زجرن نجوم ... منها معالم للهدى ومصابح ... تجلو الدجى والأخريات رجوم ... وذكر أنه ولد سنة إحدى وعشرين ومائتين ومات في هذه السنة وقيل في التي بعدها وقيل في سنة ست وسبعين ومائتين وذكر أن سبب وفاته أن وزير المعتضد القاسم بن عبدالله كان يخاف من هجوه ولسانه فدس عليه من أطعمه وهو بحضرته خشتنانكة مسمومة فلما أحس السم قام فقال له الوزير إلى أين إلى المكان الذي بعثتني إليه قال سلم على والدي فقال لست أجتاز على النار ومحمد بن سليمان بن الحرب أبو بكر الباغندي الواسطي كان من الحفاظ وكان أبو داود يسأله عن الحديث ومع هذا تكلموا فيه وضعفوه محمد بن غالب بن حرب أبو جعفر الضبي المعروف بتنهام (11/75)
سمع سفيان وقبيصة والقعنبي وكان من الثقات قال الدارقطني وربما أخطأ توفي في رمضان عن تسعين سنة
البحتري الشاعر
صاحب الديوان المشهور اسمه الوليد بن عبادة ويقال ابن عبيد بن يحيى أبو عباد الطائي البحتري الشاعر أصله من منبج وقدم بغداد ومدح المتوكل والرؤساء وكان شعره في المدح خيرا منه في المراثي فقيل له في ذلك فقال المديح للرجاء والمراثي للوفاء وبينهما بعد وقد روى شعره المبرد وابن درستويه وابن المرزبان وقيل له إنهم يقولون إنك أشعر من أبي تمام فقال لولا أبو تمام ما أكلت الخبز كان أبو تمام أستاذنا وقد كان البحتري شاعرا مطيقا فصيحا بليغا رجع إلى بلده فمات بها في هذه السنة وقيل في التي بعدها عن ثمانين سنة
ثم دخلت سنة أربع وثمانين ومائتين
في المحرم منها دخل رأس رافع بن هرثمة إلى بغداد فأمر الخليفة بنصبه في الجانب الشرقي إلى الظهر ثم بالجانب الغربي إلى الليل وفي ربيع الأول منها خلع علي محمد بن يوسف بن يعقوب بالقضاء بمدينة أبي جعفر المنصور عوضا عن ابن أبي الشوارب بعد موته بخمسة أشهر وأيام وقد كانت شاغرة تلك المدة وفي ربيع الآخر منها ظهرت بمصر ظلمة شديدة وحمرة في الأفق حتى كان الرجل ينظر إلى وجه صاحبه فيراه أحمر اللون جدا وكذلك الجدران فمكثوا كذلك من العصر إلى الليل ثم خرجوا إلى الصحراء يدعون الله ويتضرعون حتى كشف عنهم وفيها عزم المعتضد على لعن معاوية بن أبي سفيان على المنابر فحذره ذلك وزيره عبدالله بن وهب وقال له إن العامة تنكر قلوبهم ذلك وهم يترحمون عليه ويترضون عنه في أسواقهم وجوامعهم فلم يلتفت إليه بل أمر بذلك وأمضاه وكتب به نسخا إلى الخطباء بلعن معاوية وذكر فيها ذمه وذم ابنه يزيد بن معاوية وجماعة من بني أمية وأورد فيها أحاديث باطلة في زم معاوية وقرئت في الجانبين من بغداد ونهيت العامة عن الترحم على معاوية والترضي عنه فلم يزل به الوزير حتى قال له فيما قال يا أمير المؤمنين إن هذا الصنيع لم يسبقك أحد من الخلفاء إليه وهو مما يرغب العامة في الطالبيين وقبول الدعوة إليهم فوجم المعتضد عند ذلك لذلك تخوفا على الملك وقدر الله تعالى أن هذا الوزير كان ناصبيا يكفر عليا فكان هذا من هفوات المعتضد وفيها نودي في البلاد لا يجتمع العامة على قاص ولا منجم ولا جدلي ولا غير ذلك وأمرهم أن لا يهتموا لأمر النوروز ثم أطلق لهم النوروز فكانوا يصبون المياه على المارة وتوسعوا في ذلك وغلوا فيه حتى جعلوا يصبون الماء على الجند والشرط وغيرهم وهذا أيضا من هفواته قال ابن الجوزي وفيها وعد المنجمون الناس أن أكثر الأقاليم ستغرق في زمن الشتاء من كثرة الأمطار (11/76)
والسيول وزيادة الأنهار وأجمعوا على هذا الأمر فأخذ الناس كهوفا في الجبال خوفا من ذلك فأكذب الله تعالى المنجمين في قولهم فلم يكن عام أقل مطرا منه وقلت العيون جدا وقحط الناس في كل بقعة حتى استسقى الناس ببغداد وغيرها من البلاد مرارا كثيرة قال وفيها كان يتبدى في دار الخلافة شخص بيده سيف مسلول في الليل فإذا أرادوا أخذه انهزم فدخل في بعض الأماكن والزروع والأشجار والعطفات التي بدار الخلافة فلا يطلع له على خبر فقلق من ذلك المعتضد قلقا شديدا وأمر بتجديد سور دار الخلافة والاحتفاظ به وأمر الحرس من كل جانب بشدة الاحتراس فلم يفد ذلك شيئا ثم استدعى بالمغرمين ومن يعاني علم السحر وأمر المنجمين فعزموا واجتهدوا فلم يفد ذلك شيئا فأعياهم أمره فلما كان بعد مدة اطلع على جلية الأمر وحقيقة الخبر فوجده خادما خصيا من الخدام كان يتعشق بعض الجواري من حظايا المعتضد التي لا يصل إليها مثله ولا النظر إليها من بعيد فاتخذ لحا مختلفة الألوان يلبس كل ليلة واحدة واتخذ لباسا مزعجا فكان يلبس ذلك ويتبدي في الليل في شكل مزعج فيفزع الجواري وينزعجن وكذلك الخدم فيثورون إليه من كل جانب فإذا قصدوه دخل في بعض العطفات ثم يلقى ما عليه أو يجعله في كمه أو في مكان قد أعده لذلك ثم يظهر أنه من جملة الخدم المتطلبين لكشف هذا الأمر ويسأل هذا وهذا ما الخبر والسيف في يده صفة من يرى أنه قد رهب من هذا الأمر وإذا اجتمع الحظايا تمكن من النظر إلى تلك المعشوقة ولا حظها وأشار إليها بما يريده منها وأشارت إليه فلم يزل هذا دأبه إلى زمن المقتدر فبعثه في سرية إلى طرسوس فنمت عليه تلك الجارية وانكشف أمره وحاله وأهلكه الله وفيها اضطرب الجيش المصري على هارون بن خمارويه فأقاموا له بعض أمراء أبيه يدير الأمور ويصلح الأحوال وهو أبو جعفر بن أبان فبعث إلى دمشق وكانت قد منعت البيعة تسعة أشهر بعد أبيه واضطربت أحوالها فبعث إليهم جيشا كثيفا مع بدر الحمامي والحسن بن أحمد الماذرائي فأصلحا أمرها واستعملا على نيابتها طفح بن خف ورجعا إلى الديار المصرية والأمور مختلفة جدا وفيها وتوفي من الأعيان
أحمد بن المبارك أبو عمر المستملي
الزاهد النيسابوري يلقب بحكمويه العابد سمع قتيبة وأحمد وإسحاق وغيرهم واستملى على المشايخ ستا وخمسين سنة وكان فقيرا رث الهيئة زاهدا دخل يوما على أبي عثمان سعيد بن إسماعيل وهو في مجلس التذكير فبكى أبو عثمان وقال للناس إنما أبكاني رث 4 اثة ثياب رجل كبير من أهل العلم أنا أجله عن أن أسميه في هذا المجلس فجعل الناس يلقون الخواتم والثياب والدراهم حتى اجتمع من ذلك شيء كثير بين يدي الشيخ أبي عثمان فنهض عند ذلك أبو عمرو المستملى فقال (11/77)
أيها الناس أنا الذي قصدني الشيخ بكلامه ولولا أني كرهت أن يتهم باثم لسترت ما ستره فتعجب الشيخ من إخلاصه ثم أخذ أبو عمرو ذلك المجتمع من المال فما خرج من باب المسجد حتى تصدق بجميعه على الفقراء والمحاويج كانت وفاته في جمادى الآخرة من هذه السنة
إسحاق بن الحسن
ابن ميمون بن سعد أبو يعقوب الحربي سمع عفان وأبا نعيم وغيرهما وكان أسن من إبراهيم الحربي بثلاث سنين ولما توفي إسحاق نودي له بالبلد فقصد بالناس داره للصلاة عليه واعتقد بعض العامة أنه إبراهيم الحربي فجعلوا يقصدون داره فيقول إبراهيم ليس إلى هذا الموضع قصدكم وعن قريب تأتونه فما عمر بعده إلا دون السنة إسحاق بن محمد بن يعقوب الزهري عمر تسعين سنة وكان ثقة صالحا إسحاق بن موسى بن عمران الفقيه أبو يعقوب الاسفراييني الشافعي عبد الله بن علي بن الحسن بن إسماعيل أبو العباس الهاشمي كانت إليه الحسبة ببغداد وإمامه جامع الرصافة عبد العزيز بن معاوية العتابي من ولد عتاب بن أسيد بصرى قدم بغداد وحدث عن أزهر السمان وأبي عاصم النبيل يزيد بن الهيثم بن طهمان أبو خالد الدقاق ويعرف بالباد قال ابن الجوزي والصواب أن يقال البادي لأنه ولد توأما وكان هو الأول في الميلاد روى عن يحيى بن معين وغيره وكان ثقة صالحا
ثم دخلت سنة خمس وثمانين ومائتين
فيها وثب صالح بن مدرك الطائي على الحجاج بالأجفر فأخذ أموالهم ونساءهم يقال إنه أخذ منهم ما قيمته ألف ألف دينار وفي ربيع الأول منها يوم الأحد لعشر بقين منه ارتفعت بنواحي الكوفة ظلمة شديدة جدا ثم سقطت أمطار برعود وبروق لم ير مثلها وسقط في بعض القرى مع المطر حجارة بيض وسود وسقط برد كبار وزن البردة مائة وخمسون درهما واقتلعت الرياح شيئا كثيرا من النخيل والأشجار مما حول دجلة وزادت دجلة زيادة كثيرة حتى خيف على بغداد من الغرق وفيها غزا راغب الخادم مولى الموفق بلاد الروم ففتح حصونا كثيرة وأسر ذراري كثيرة جدا وقتل من أسارى الرجال الذين معه ثلاثة آلاف أسير ثم عاد سالما مؤيدا منصور وحج بالناس فيها محمد بن عبدالله بن داود الهاشمي وفيها توفي أحمد بن عيسى بن الشيخ صاحب آمد فقام بأمرها من بعده ولده محمد فقصده المعتضد ومعه ابنه أبو محمد المكتفي بالله فحاصره بها فخرج إليه سامعا مطيعا فتسلمها منه وخلع عليه وأكرم أهلها واستخلف عليها ولده المكتفي ثم سار إلى قنسرين والعواصم فتسلمها عن كتاب هارون (11/78)
ابن خمارويه وإذنه له في ذلك ومصالحته له فيها وفيها غزا بن الأخشيد بأهل طرسوس بلاد الروم ففتح الله على يديه حصونا كثيرة ولله الحمد وفيها توفي من الأعيان
إبراهيم بن إسحاق
ابن بشير بن عبدالله بن رستم أبو إسحاق الحربي أحد الأئمة في الفقه والحديث وغير ذلك وكان زاهدا عابدا تخرج بأحمد بن حنبل وروى عنه كثيرا قال الدارقطني إبراهيم الحربي إمام مصنف عالم بكل شيء بارع في كل علم صدوق كان يقاس بأحمد بن حنبل في زهده وورعه وعلمه ومن كلامه أجمع عقلاء كل أمة أن من لم يجر مع القدر لم يتهن بعيشه وكان يقول الرجل كل الرجل الذي يدخل غمه على نفسه ولا يدخله على عياله وقد كانت بي شقيقة منذ أربعين سنة ما أخبرت بها أحدا قط ولي عشرون سنة أبصر بفرد عين ما أخبرت بها أحدا قط وذكر أنه مكث نيفا وسبعين سنة من عمره ما يسأل أهله غداء ولا عشاء بل إن جاءه شيء أكله وإلا طوى إلى الليلة القابلة وذكر أنه أنفق في بعض الرماضانات على نفسه وعياله درهما واحدا وأربعة دوانيق ونصف وما كنا نعرف من هذه الطبائخ شيئا إنما هو بانجان مشوي أو باقة فجل أو نحو هذا وقد بعث إليه أمير المؤمنين المعتضد في بعض الأحيان بعشرة آلاف درهم فأبى أن يقبلها وردها فرجع الرسول وقال يقول لك الخليفة فرقها على من تعرف من فقراء جيرانك فقال هذا شيء لم نجمعه ولا نسأل عن جمعه فلا نسأل عن تفريقه قل لأمير المؤمنين إما يتركنا وإما نتحول من بلده ولما حضرته الوفاة دخل عليه بعض أصحابه يعوده فقامت ابنته تشكو إليه ما هم فيه من الجهد وأنه لا طعام لهم إلا الخبز اليابس بالملح وربما عدموا الملح في بعض الأحيان فقال لها إبراهيم يا بنية تخافين الفقر انظري إلى تلك الزاوية فيها اثنى عشر ألف جزء قد كتبتها ففي كل يوم تبيعي منها جزء بدرهم فمن عنده اثنى عشر ألف درهم فليس بفقير ثم كانت وفاته لسبع بقين من ذي الحجة وصلى عليه يوسف بن يعقوب القاضي عند باب الأنبار وكان الجمع كثيرا جدا
المبرد النحوي
محمد بن يزيد بن عبدالأكبر أبو العباس الأزدي الثمالى المعروف بالمبرد النحوي البصري إمام في اللغة والعربية أخذ ذلك عن المازني وأبي حاتم السجستاني وكان ثقة ثبتا فيما ينقله وكان مناوئا لثعلب وله كتاب الكامل في الأدب وإنما سمي بالمبرد لأنه اختبأ من الوالي عند أبي حاتم تحت المزبلة قال المبرد دخلنا يوما على المجانين نزورهم أنا وأصحاب معي بالرقة فإذا فيهم شاب قريب العهد بالمكان عليع ثياب ناعمة فلما بصر بنا قال حياكم الله ممن أنتم قلنا من أهل العراق فقال بأبي العراق وأهلها أنشدوني أو أنشدكم قال المبرد بل أنشدنا أنت فأنشأ يقول (11/79)
الله يعلم أنني كمد ... لا أستطيع بث ما أجد ... روحان لي روح تضمنها ... بلد وأخرى حازها بلد ... وأرى المقيمة ليس ينفعها ... صبر ولا يقوى لها جلد ... وأظن غائبتي كحاضرتي ... بمكانها تجد الذي أجد ... قال المبرد فقلت والله إن هذا طريف فزدنا منه فأنشأ يقول ... لما أناخوا قبيل الصبح عيرهم ... وحملوها فثارت بالهوى الإبل ... وأبرزت من خلال السجف ناظرها ... ترنو إلي ودمع العين ينهمل ... وودعت ببنان عقدها غم ... ناديت لا حملت رجلاك بأجمل ... ويلي من البين ماذا حل بي وبيهم ... من نازل البين حان البين وارتحلوا ... يا راحل العيس عجل كي أودعهم ... يا راحل العيس في ترحالك الأجل ... إني على العهد لم أنقض مودتهم ... فليت شعري لطول العهد ما فعلوا ... فقال رجل من البغضاء الذين معي ماتوا فقال الشاب إذا أموت فقال إن شئت فتمطي واستند إلى سارية عنده ومات وما برحنا حتى دفناه رحمه الله ومات المبرد وقد جاوز السبعين
ثم دخلت سنة ست وثمانين ومائتين
فيها وقع تسلم آمد من ابن الشيخ في ربيع الآخر ووصل كتاب هارون بن أحمد بن طولون من مصر إلى المعتضد وهو مخيم بآمد أن يسلم إليه قنسرين والعواصم على أن يقره على إمارة الديار المصرية فأجابه إلى ذلك ثم ترحل عن آمد قاصدا العراق وأمر بهدم سور آمد فهدم البعض ولم يقدر على ذلك فقال ابن المعتز يهنئه بفتح آمد ... اسلم أمير المؤمنين ودم ... في غبطة وليهنك النصر ... فلرب حادثة نهضت لها ... متقدما فتأخر الدهر ... ليث فرائسه الليوث ... فما بيض من دمها له ظفر ... ولما رجع الخليفة إلى بغداد جاءته هدية عمرو بن الليث من نيسابور فكان وصولها بغداد يوم الخميس لثمان بقين من جمادى الآخرة وكان مبلغها ما قيمته أربعة آلاف ألف درهم خارجا عن الدواب وسروج وسلاح وغير ذلك وفيها تحارب إسماعيل بن أحمد الساماني وعمرو بن الليث وذلك أن عمرو بن الليث لما قتل رافع بن هرثمة وبعث رأسه إلى الخليفة سأل منه أن يعطيه ما وراء النهر مضافا إلى ما بيده من ولاية خراسان فأجابه إلى ذلك فانزعج لذلك إسماعيل بن أحمد بن الساماني نائب ما وراء النهر وكتب إليه إنك قد وليت دنيا عريضة فاقتنع بها عن ما في يدي من هذه (11/80)
البلاد فلم يقبل فأقبل إليه إسماعيل في جيوش عظيمة جدا فالتقيا عند بلخ فهزم أصحاب عمرو وأسر عمرو فلما جيء به إلى إسماعيل بن أحمد قام إليه وقبل بين عينيه وغسل وجهه وخلع عليه وأمنه وكتب إلى الخليفة في أمره ويذكر أن أهل تلك البلاد قد ملوا وضجروا من ولايته عليهم فجاء كتاب الخليفة بأن يتسلم حواصله وأمواله فسلبه إياها فآل به الحال بعد أن كان مطبخه يحمل على ستمائة جمل إلى القيد والسجن ومن العجائب أن عمرا كان معه خمسون ألف مقاتل لم يصب أحد منهم ولا أسر سواه وحده وهذا جزاء من غلب عليه الطمع وقاده الحرص حتى أوقعه في ذل الفقر وهذه سنة الله في كل طامع فيما ليس له وفي كل طالب للزيادة في الدنيا
ظهور أبي سعيد الجنابي رأس القرامطة وهم أخبث من الزنج وأشد فسادا
كان ظهوره في جمادى الآخرة من هذه السنة بنواحي البصرة فالتف عليه من الأعراب غيرهم بشر كثير وقويت شوكته جدا وقتل من حوله من أهل القرى ثم صار الى القطيف قريبا من البصرة ورام دخولها فكتب الخليفة المعتضد إلى نائبها يأمره بتحصين سورها فعمروه وجددوا معالمه بنحو من أربعة آلاف دينار فامتنعت من القرامطة بسبب ذلك وتغلب أبو سعيد الجنابي ومن معه من القرامطة على هجر وما حولها من البلاد وأكثروا في الأرض الفساد وكان أصل أبي سعيد الجنابي هذا أنه كان سمسارا في الطعام يبيعه ويحسب للناس الأثمان فقدم رجل به يقال له يحيى بن المهدي في سنة إحدى وثمانين ومائتين فدعا أهل القطيف إلى بيعة المهدي فاستجاب له رجل يقال له علي بن العلاء بن حمدان الزيادي فساعده في الدعوة إلى المهدي وجمع الشيعة الذين كانوا في القطيف فاستجابوا له وكانوا في جملة من استجاب ابو السعيد الجنابي هذا قبحه الله ثم تغلب على أمرهم وأظهر فيهم القرمطة فاستجابوا له والتفوا عليه فتآمر عليهم وصار هو المشار إليه فيهم وأصله من بلدة هناك يقال لها جنابة وسيأتي ما يكون من أمره وأمر أصحابه قال في المنتظم ومن عجائب ما وقع من الحوادث في هذه السنة ثم روى بسنده أن امرأة تقدمت إلى قاضي الرى فادعت على زوجها بصداقها خمسمائة دينار فأنكره فجاءت ببينه تشهد لها به فقالوا نريد أن تسفر لنا عن وجهها حتى نعلم أنها الزوجة أم لا فلما صمموا على ذلك قال الزوج لا تفعلوا هي صادقة فيما تدعيه فأقر بما ادعت ليصون زوجته عن النظر إلى وجهها فقالت المرأة حين عرفت ذلك منه وإنه إنما أقر ليصون وجهها عن النظر هو في حل من صداقي عليه في الدنيا والآخرة وممن توفي فيها من الأعيان المشاهير أحمد بن عيسى أبو السعيد الخراز فيما ذكره شيخنا الذهبي (11/81)
وقد أرخه ابن الجوزي في سنة سبعة وسبعين ومائتين فالله أعلم
إسحاق بن محمد بن أحمد بن أبان
أبو يعقوب النخعي الأحمر وإليه تنسب الطائفة الإسحاقية من الشيعة وقد ذكر ابن النوبختي والخطيب وابن الجوزي أن هذا الرجل كان يعتقد إلهية علي بن أبي طالب وإنه انتقل إلى الحسن ثم الحسين وإنه كان يظهر في كل وقت وقد اتبعه على هذا الكفر خلق من الحمر قبحهم الله وقبحه وإنما قيل له الأحمر لأنه كان أبرص وكان يطلي برصه بما يغير لونه وقد أورد له النويختي أقوالا عظيمة في الكفر لعنه الله وقد روى شيئا من الحكايات والملح عن المازني وطبقته مثل هذا أقل وأذل من أن يروي عنه أو يذكر إلا بذمه بقي بن مخلد بن يزيد أبو عبدالرحمن الأندلسي الحافظ أحد علماء الغرب له التفسير والمسند والسنن والأثار التي فضلها ابن حزم على تفسير ابن جرير ومسند أحمد ومصنف ابن أبي شيبة وفيما زعم ابن حزم نظر وقد ترجمه الحافظ ابن عساكر في تاريخه فأثنى عليه خيرا ووصفه بالحفظ والاتقان وأنه كان مجاب الدعوة رحمه الله وأرخ وفاته بهذه السنة عن خمس وسبعين سنة
الحسن بن بشار
أبو علي الخياط روى عن أبي بلال الأشعري وعنه أبو بكر الشافعي وكان ثقة رأى في منامه وقد كانت به علة قائلا يقول له كل لا وادهن بلا ففسره بقوله تعالى زيتونة لا شرقية ولا غربية فأكل زيتونا وشرب زيتا فبرأ من علته تلك محمد بن إبراهيم أبو جعفر الأنماطي المعروف بمربع تلميذ يحيى بن معين كان ثقة حافظا عبدالرحيم الرقي ومحمد بن وضاح المصنف وعلي بن عبدالعزيز البغوي صاحب المسند
محمد بن يونس
ابن موسى بن سليمان بن عبيد بن ربيعة بن كديم أبو العباس القرشي البصري الكديمي وهو ابن امرأة نوح بن عبادة ولد سنة ثلاث وثمانين ومائة وسمع عبدالله بن داود الخريبي ومحمد بن عبدالله الأنصاري وأبا داود الطيالسي والأصمعي وخلقا وعنه ابن السماك والنجاد وآخر من حدث عنه أبو بكر بن مالك القطيفي وقد كان حافظا مكثرا مغربا وقد تكلم فيه الناس لأجل غرائبه في الروايات وقد ذكرنا ترجمته في التكميل توفي يوم الجمعة قبل الصلاة للنصف من جمادى الآخرة منها وقد جاوز المائة وصلى عليه يوسف بن يعقوب القاضي يعقوب بن إسحاق بن نخبة أبو يوسف الواسطي سمع من يزيد بن هارون وقدم بغداد وحدث بها أربعة أحاديث ووعد الناس أن يحدثهم من الغد فمات من ليلته عن مائة واثني (11/82)
عشر سنة الوليد أبو عبادة البختري فيما ذكر الذهبي وقد تقدم ذكره في سنة ثلاث وثمانين كما ذكره ابن الجوزي فالله أعلم
ثم دخلت سنة سبع وثمانين ومائتين
في ربيع الأول منها تفاقم أمر القرامطة صحبة أبي سعيد الجنابي فقتلوا وسبوا وأفسدوا في بلاد هجر فجهز الخليفة إليهم جيشا كثيفا وأمر عليهم العباس بن عمرو الغنوي وأمره على اليمامة والبحرين ليحارب أبا سعيد هذا فالتقوا هنالك وكان العباس في عشرة آلاف مقاتل فأسرهم أبو سعيد كلهم ولم ينج منهم إلا الأمير وحده وقتل الباقون عن آخرهم صبرا بين يديه قبحه الله وهذا عجيب جدا وهو عكس واقعة عمرو بن الليث فإنه أسر من بين أصحابه وحده ونجوا كلهم وكانوا خمسين ألفا ويقال إن العباس لما قتل أبو سعيد أصحابه صبرا بين يديه وهو ينظر وكان في جملة من أسر أقام عند أبي سعيد أياما ثم أطلقه وحمله على رواحل وقال ارجع إلى صاحبك وأخبره بما رأيت وقد كانت هذه الواقعة في أواخر شعبان منها فلما وقع هذا الأمر الفظيع انزعج الناس لذلك انزعاجا عظيما جدا وهم أهل البصرة بالخروج منها فمنعهم من ذلك نائبها أحمد الواثقي وفيها أغارت الروم على بلاد طرسوس وكان نائبها ابن الأخشيد قد توفي في العام الماضي واستخلف على الثغر أبا ثابت فطمعت الروم في تلك الناحية وحشدوا عساكرهم فالتقا بهم أبو ثابت فلم يقدر على مقاومتهم فقتلوا من أصحابه جماعة وأسروه فيمن أسروا فاجتمع أهل الثغر على ابن الأعرابي فولوه أمرهم وذلك في ربيع الآخر وفيها قتل
محمد بن زيد العلوي
أمير طبرستان والديلم وكان سبب ذلك أن إسماعيل الساماني لما ظفر بعمرو بن الليث ظن محمد أن إسماعيل لا يجاوز عمله وأن خراسان قد خلت له فارتحل من بلده يريد خراسان وسبقه إسماعيل إليها وكتب إليه أن الزم عملك ولا تتجاوزه إلى غيره فلم يقبل فبعث إليه جيشا مع محمد بن هارون الذي كان ينوب عن رافع بن هرثمة فلما التقيا هرب منه محمد بن هارون خديعة فسار الجيش وراءه في الطلب فكر عليهم راجعا فانهزموا منه فأخذ ما في معسكرهم وجرح محمد بن زيد جراحات شديدة فمات بسببها بعد أيام وأسر ولده زيد فبعث به إلى إسماعيل بن أحمد فأكرمه وأمر له بجائزة وقد كان محمد بن زيد هذا فاضلا دينا حسن السيرة فيما وليه من تلك البلاد وكان فيه تشيع تقدم إليه يوما خصمان اسم أحدهما معاوية واسم الآخر علي فقال محمد بن زيد إن الحكم بينكما ظاهر فقال معاوية أيها الأمير لا تغترن بنا فإن أبي كان من كبار الشيعة وإنما سماني معاوية مداراة لمن (11/83)
ببلدنا من أهل السنة وهذا كان أبوه من كبار النواصب فسماه عليا تقاة لكم فتبسم محمد بن زيد وأحسن اليهما قال ابن الأثير في كامله وممن توفي فيها إسحاق بن يعقوب بن عمر بن الخطاب العدوي عدي ربيعة وكان أميرا على ديار ربيعة بالجزيرة فولى مكانه عبدالله بن الهيثم بن عبدالله بن المعتمر وعلي بن عبدالعزيز البغوي صاحب أبي عبيدالقاسم بن سلام ومهدي بن أحمد بن مهدي الأزدي الموصلي وكان من الأعيان وذكر هو وأبو الفرج بن الجوزي أن قطر الندى بنت خمارويه ابن أحمد بن طولون امرأة المعتضد توفيت في هذه السنة قال ابن الجوزي لسبع خلون من رجب منها ودفنت داخل القصر بالرصافة يعقوب بن يوسف بن أيوب أبو بكر المطوعي سمع أحمد بن حنبل وعلي بن المديني وعنه النجاد والخلدي وكان ورده في كل يوم قراءة قل هو الله أحد إحدى وثلاثين ألف مرة أو إحدى وأربعين ألف مرة قلت وممن توفي فيها أبو بكر بن أبي عاصم صاحب السنة والمصنفات وهو
أحمد بن عمرو بن أبي عاصم الضحاك
ابن النبيل له المصنفات في الحديث كثيرة منها كتاب السنة في أحاديث الصفات على طريق السلف وكان حافظا قد ولي قضاء أصبهان بعد صالح بن أحمد وقد طاف البلاد قبل ذلك في طلب الحديث وصحب أبا تراب النخشي وغيره من مشايخ الصوفية وقد اتفق له مرة كرامة هائلة كان هو واثنان من كبار الصالحين في سفر فنزلوا على رمل أبيض فجعل أبو بكر هذا يقبله بيده ويقول اللهم ارزقنا خبيصا يكون غداء على لون هذا الرمل فلم يكن بأسرع من أن أقبل أعرابي وبيده قصعة فيها خبيص بلون ذلك الرمل وفي بياضه فأكلوا منه وكان يقول لا أحب أن يحضر مجلسي مبتدع ولا مدع ولا طعان ولا لعان ولا فاحش ولا بذيء ولا منحرف عن الشافعي وأصحاب الحديث توفي في هذه السنة بأصبهان وقد رآه بعضهم بعد وفاته وهو يصلي فلما انصرف قال ما فعل بك فقال يؤنسي ربي عز و جل
ثم دخلت سنة تسع وثمانين ومائتين
اتفق في هذه السنة آفات ومصائب عديدة منها أن الروم قصدوا بلاد الرقة في جحافل عظيمة وعساكر من البحر والبر فقتلوا خلقا وأسروا نحوا من خمسة عشر ألفا من الذرية ومنها أن بلاد أذربيجان أصاب أهلها وباء شديد حتى لم يبق أحد يقدر على دفن الموتى فتركوا في الطرق لا يوارون ومنها أن بلاد أردبيل أصابها ريح شديدة من بعد العصر إلا ثلث الليل ثم زلزلوا زلزالا شديدا واستمر ذلك عليهم أياما فتهدمت الدور والمساكن وخسف بآخرين منهم وكان جملة من مات تحت الهدم مائة ألف وخمسين ألفا فإنا لله وإنا إليه راجعون وفيها اقترب القرامطة من البصرة (11/84)
فخاف أهلها منهم خوفا شديدا وهموا بالرحيل منها فمنعهم نائبها وفيها توفي من الأعيان
بشر بن موسى بن صالح أبو علي الأسدي
بشر بن موسى بن صالح أبو علي الأسدي ولد سنة تسعين ومائة وسمع من روح بن عبادة حديثا واحدا وسمع الكثير من هودة بن خليفة والحسن بن موسى الأشيب وأبي نعيم وعلي بن الجعد والأصمعي وغيرهم وعنه ابن المنادى وابن مخلد وابن صاعد والنجاد وأبو عمرو والزاهد والخلدي والسلمي وأبو بكر الشافعي وابن الصواف وغيرهم وكان ثقة أمينا حافظا وكان من البيوتات وكان الإمام أحمد يكرمه ومن شعره ... ضعفت ومن جاز الثمانين يضعف ... وينكر منه كل ما كان يعرف ... ويمشي رويدا كالأسير مقيدا ... يداني خطاه في الحديد ويرسف ... ثابت بن قرة بن هارون ويقال ابن زهرن بن ثابت بن كدام بن إبراهيم الصابئي الفيلسوف الحراني صاحب التصانيف من جملتها أنه حرر كتاب إقليدس الذي عربه حنين بن إسحاق العبادي وكان أصله صوفيا فترك ذلك واشتغل بعلم الأوائل فنال من رتبة سامية عند أهله ثم صار إلى بغداد فعظم شأنه بها وكان يدخل مع المنجمين على الخليفة وهو باق على دين الصابئة وحفيده ثابت بن سنان له تاريخ أجاد فيه وأحسن وكان بليغا ماهرا حاذقا بالغا وعمه إبراهيم بن ثابت بن قرة كان طبيبا عارفا أيضا وقد سردهم كلهم في هذه الترجمة القاضي ابن خلكان الحسن بن عمرو بن الجهم أبو الحسن الشيعي من شيعة المنصور لا من الروافض حدث عن علي بن المديني وحكى عن بشر الحافي وعنه أبو عمرو بن السماك عبيدالله بن سليمان بن وهب وزير المعتضد كان حظيا عنده وقد عز عليه موته وتألم لفقده وأهمه من يجعله في مكانه بعده فعقد لولده القاسم بن عبيد الله على الوزارة من بعد أبيه جبرا لمصابه به وأبو القاسم عثمان بن سعيد بن بشار المعروف بالأنماطي أحد كبار الشافعية وقد ذكرناه في طبقاتهم وهارون بن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى أبو موسى الهاشمي إمام الناس في الحج عدة سنين متوالية وقد سمع وحدث وتوفي بمصر في رمضان من هذه السنة
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين ومائتين
فيها عاثت القرامطة بسواد كوفة فظفر بعض العمال بطائفة منهم فبعث برئيسهم إلى المعتضد وهو أبو الفوارس فنال من العباس بين يدي الخليفة فأمر به فقلعت أضراسه وخلعت يداه ثم قطعتا مع رجليه ثم قتل وصلب ببغداد وفيها قصدت القرامطة دمشق في جحفل عظيم فقاتلهم نائبها طغج بن جف من جهة هارون بن خمارويه فهزموه مرات متعددة وتفاقم الحال بهم وكان ذلك بسفارة يحيى بن زكرويه بن بهرويه الذي ادعى عند القرامطة أنه محمد بن عبدالله بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وقد كذب في ذلك وزعم لهم أنه (11/85)
قد اتبعه على أمره مائة ألف وأن ناقته مأمورة حيث ما توجهت به نصر على أهل تلك الجهة فراج ذلك عندهم ولقبوه الشيخ واتبعه طائفة من بني الأصبغ وسموا بالفاطميين وقد بعث إليهم الخليفة جيشا كثيفا فهزموه ثم اجتازوا بالرصافة فأحرقوا جامعها ولم يجتازوا بقرية إلا نهبوها ولم يزل ذلك دأبهم حى وصلوا إلى دمشق فقاتلهم نائبها فهزموه مرات وقتلوا من اهلا خلقا كثيرا وانتهبوا من أموالها شيئا كثيرا فإنا لله وإنا إليه راجعون وفي هذه الحالة الشديدة اتفق موت
الخليفة المعتضد
بالله في ربيع الأول منها الخليفة المعتضد هو أحمد بن الأمير أبي أحمد الموفق الملقب بناصر دين الله واسم أبي أحمد محمد وقيل طلحة بن جعفر المتوكل على الله بن المعتضم بن هارون الرشيد أبو العباس المعتضد بالله ولد في سنة ثنتين وقيل ثلاث وأربيعن ومائتين وأمه أم ولد وكان أسمر نحيف الجسم معتدل القامة قدو خطه الشيب في مقدم لحيته طول وفي رأسه شامة بيضاء بويع له بالخلافة صبيحة يوم الإثنين إحدى عشرة بقيت من رجب سنة تسع وسبعين ومائتين واستوزر عبدالله بن وهب بن سليمان وولى القضاء إسماعيل بن إسحاق ويوسف بن يعقوب وابن أبي الشوارب وكان أمر الخلافة قد ضعف في أيام عمه المعتمد فلما ولى المعتضد أقام شعارها ورفع منارها وكان شجاعا فاضلا من رجالات قريش حزما وجرأة وإقداما وحزمة وكذلك كان أبوه وقد أورد ابن الجوزي بإسناده أن المعتضد اجتاز في بعض أسفاره بقرية فيها مقثاة فوقف صاحبها صائحا مستصرخا بالخليفة فاستدعى به فسأله عن أمره فقال إن بعض الجيش أخذوا لي شيئا من القثاء وهم من غلمانك فقال أتعرفهم فقال نعم فعرضهم عليه فعرف منهم ثلاثة فأمر الخليفة بتقييدهم وحبسهم فلما كان الصباح نظر الناس ثلاثة أنفس مصلوبين على جادة الطريق فاستعظم الناس ذلك واستنكروا وعابوا ذلك على الخليفة وقالوا قتل ثلاثة بسبب قثاء أخذوه فلما كان بعد قليل أمر الخواص وهو مسامره أن ينكر عليه ذلك ويتلطف في مخاطبته في ذلك وألأمراء حضور فدخل عليه ليلة وقد عزم على ذلك ففهم الخليفة ما في نفسه من كلام يريد أن يبديه فقال له إني أعرف أن في نفسك كلاما فما هو فقال يا أمير المؤمنين وأنا آمن قال نعم قلت له فإن الناس ينكرون عليك تسرعك في سفك الدماء فقال والله ما سفكت دما حراما منذ وليت الخلافة إلا بحقه فقلت له فعلام قتلت أحمد بن الطيب وقد كان خادمك ولم يظهر له خيانة فقال ويحك إنه دعاني إلى الالحاد والكفر بالله فيما بيني وبينه فلما دعاني إلى ذلك قلت له يا هذا أنا ابن عم صاحب الشريعة وأنا منتصب في منصبه فأكفر حتى أكون من غير قبيلته فقتلته على الكفر والزندقة فقلت له فما بال الثلاثة الذين (11/86)
قتلتهم على القثاء فقال والله ما كان هؤلاء الذين أخذوا القثاء وإنما كانوا لصوصا قد قتلوا وأخذوا المال فوجب قتلهم فبعثت فجئت بهم من السجن فقتلتهم وأريت الناس أنهم الذين أخذوا القثاء وأردت بذلك أن أرهب الجيش لئلا يفسدوا في الأرض ويتعدوا على الناس ويكفوا عن الأذى ثم أمر بإخراج أولئك الذين أخذوا القثاء فأطلقهم بعد ما استتابهم وخلع عليهم وردهم إلى أرزاقهم قال ابن الجوزي خرج المعتضد يوما فعسكر بباب الشماسية ونهى أن يأخذ أحد من بستان أحد شيئا فأتى بأسود قد أخذ عذقا من بسر فتأمله طويلا ثم أمر بضرب عنقه ثم إلتفت إلى الأمراء فقال العامة ينكرون هذا ويقولون إن رسول الله ( ص ) قال ( لا قطع في ثمر ولا كثر ) ولم يكفه أن يقطع يده حتى قتله وإني لم أقتل هذا على سرقته وإنما هذا الأسود رجل من الزنج كان قد استأمن في حياة أبي وإنه تقاول هو ورجل من المسلمين فضرب المسلم فقطع يده فمات المسلم فأهدر أبي دم الرجل المقتول تأليفا للزنج فآليت على نفسي لئن أنا قدرت عليه لأقتلنه فما قدرت عليه إلا هذه الساعة فقتلته بذلك الرجل وقال أبو بكر الخطيب أخبرنا محمد بن أحمد بن يعقوب حدثنا محمد بن نعيم الضبي سمعت أبا الوليد حسان بن محمد الفقيه يقول سمعت أبا العباس بن سريج يقول سمعت إسماعيل بن اسحاق القاضي يقول دخلت على المعتضد وعلى رأسه أحداث روم صباح الوجوه فنظرت إليهم فرآني المعتضد وأنا أتأملهم فلما أردت القيام أشار إلي فجلست ساعة فلما خلا قال لي أيها القاضي والله ما حللت سراويلي على حرام قط وروى البيهقي عن الحاكم عن حسان بن محمد عن ابن سريج القاضي إسماعيل إبن إسحاق قال دخلت يوما على المعتضد فدفع إلي كتابا فقرأته فإذا فيه الرخص من زلل العماء قد جمعها له بعض الناس فقلت يا أمير المؤمنين إنما جمع هذا زنديق فقال كيف فقلت إن من أباح المتعة لم يبح الغناء ومن اباح الغناء لم يبح إضافته إلى آلات اللهو ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه فأمر بتحريق ذلك الكتاب وروى الخطيب بسنده عن صافي الجرمي الخادم قال انتهى المعتضد وأنا بين يديه إلى منزل شعث وابنه المقتدر جعفر جالس فيه وحوله نحو من عشرة من الوصائف والصبيان من أصحابه في سنه عنده وبين يديه طبق من فضة فيه عنقود عنب وكان العنب إذ ذاك عزيزا وهو يأكل عنبه واحدة ثم يفرق على أصحابه من الصبيان كل واحد عنبة فتركه المعتضد وجلس ناحية في بيت مهوما فقلت له ما لك يا أمير المؤمنين فقال ويحك والله لولا النار والعار لأقتلن هذا الغلام فإن في قتله صلاحا للأمة فقلت أعيذك بالله يا أمير المؤمنين من ذلك فقال ويحك يا صافي هذا الغلام في غاية السخاء لما أراه يفعل مع الصبيان فإن طباع الصبيان تأبى الكرم وهذا في غاية الكرم وإن الناس من بعدي لا يولون عليهم إلا من (11/87)
هو من ولدي فسيلي عليهم المكتفي ثم لا تطول أيامه لعلته التي به وهي داء الخنازير ثم يموت فيلي الناس جعفر هذا الغلام فيذهب جميع أموال بيت المال إلى الحظايا لشغفه بهن وقرب عهده من تشببه بهن فتضيع أمور المسلمين وتعطل الثغور وتكثر الفتن والهرج والخوارج والشرور قال صافي والله لقد شاهدت ما قاله سواء بسواء وروى ابن الجوزي عن بعض خدم المعتضد قال كان المعتضد يوما نائما وقت القائلة ونحن حول سريره فاستيقظ مذعورا ثم صرح بنا فجئنا إليه فقال ويحكم اذهبوا إلى دجلة فأول سفينة تجدوها فارغة منحدرة فأتوني بملاحها واحتفظوا بالسفينة فذهبنا سراعا فوجدنا ملاحا في سميرية فاغرة منحدرا فأتينا به الخليفة فلما رأى الملاح الخليفة كاد أن يتلف فصاح به الخليفة صيحة عظيمة فكادت روح الملاح تخرج فقال له الخليفة ويحك يا ملعون اصدقني عن قصتك مع المرأة التي قتلتها اليوم والا ضربت عنقك قال فتلعثم ثم قال نعم يا أمير المؤمنين كنت اليوم سحرا في مشرعتي الفلانية فنزلت امرأة لم أر مثلها وعليها ثياب فاخرة وحلي كثيرة وجوهر فطمعت فيها واحتلت عليها فشددت فاها وغرقتها وأخذت جميع ما كان عليها من الحلي والقماش وخشيت أن أرجع به إلى منزلي فيشتهر خبرها فأردت الذهاب به إلى واسط فلقيني هؤلاء الخدم فأخذوني فقال وأين حليها فقال في صدر السفينة تحت البواري فأمر الخليفة عند ذلك بإحضار الحلي قجيء به فإذا هو حلي كثير يساوي أموالا كثيرة فأمر الخليفة بتغريق الملاح في المكان الذي غرق فيه المرأة وأمر أن ينادى على أهل المرأة ليحضروا حتى يتسلموا مال المرأة فنادى بذلك ثلاثة أيام في أسواق بغداد وأزقتها فحضروا بعد ثلاثة أيام فدفع إليهم ما كان من الحلي وغيره مما كان للمرأة ولم يذهب منه شيء فقال له خدمه يا أمير المؤمنين من أين علمت هذا قال رأيت في نومي تلك الساعة شيخا أبيض الرأس واللحية والثياب وهو ينادي يا أحمد يا أحمد خذ أول ملاح ينحدر الساعة فاقبض عليه وقرره عن خبر المرأة التي قتلها اليوم وسلبها قأقم عليه الحد وكان ما شاهدتم وقال جعيف السمرقندي الحاجب كنت مع مولاي المعتضد في بعض متصيداته وقد انقطع عن العسكر وليس معه غيري إذ خرج علينا أسد فقصد قصدنا فقال لي المعتضد يا جعيف أفيك خير اليوم قلت لا والله قال ولا أن تمسك فرسي وأنزل أنا فقلت بلى قال فنزل عن فرسه وغرز أطراف ثيابه في منطقته واستل سيفه ورمى بقرابه إلي ثم تقدم إلى الأسد فوثب الأسد عليه فضربه بالسيف فأطار يده فاشتغل الأسد بيده فضربه ثانية على هامته ففلقها فخر الأسد صريعا فدنا منه فمسح سيفه في صوفه ثم أقبل إلى إلي فأغمد سيفه في قرابه ثم ركب فرسه فذهبنا إلى العسكر قال وصحبته إلى أن مات فما سمعته ذكر ذلك لأحد فما أدري من أي شيء أعجب من (11/88)
من شجاعته أم من عدم احتفاله بذلك حيث لم يذكره لأحد أم من عدم عتبه علي حيث ضننت بنفسي عنه والله ما عاتبني في ذلك قط وروى ابن عساكر عن أبي الحسين النوري أنه اجتاز بزورق فيه خمر مع ملاح فقال ما هذا ولمن هذا فقال له هذه خمر للمعتضد فصعد أبو الحسين إليها فجعل يضرب الدنان بعمود في يده حتى كسرها كلها إلا دنا واحدا تركه واستغاث الملاح فجاءت الشرطة فأخذوا أبا الحسين فأوقفوه بين يدي المعتضد فقال له ما أنت فقال أنا المحتسب فقال ومن ولاك الحسبة فقال الذي ولاك الخلافة يا أمير المؤمنين فأطرق رأسه ثم رفعها فقال ما الذي حملك على ما فعلت فقال شفقة عليك لدفع الضرر عنك فأطرق رأسه ثم رفعه فقال ولأي شيء تركت منها دنا واحدا لم تكسره فقال لأني إنما أقدمت عليها فكسرتها إجلالا لله تعالى فلم أبال أحدا حتى انتهيت إلى هذا الدن دخل نفسي إعجاب من قبيل أني قد أقدمت على مثلك فتركته فقال له المعتضد اذهب فقد أطلقت يدك فغير ما أحببت أن تغيره من المنكر فقال له النوري الآن انتقض عزمي عن التغيير فقال ولم فقال لأني كنت أغير عن الله وأنا الآن أغير عن شرطي فقال سل حاجتك فقال أحب أن تخرجني من بين يديك سالما فأمر فأخرج فصار إلى البصرة فأقام بها مختفيا خشية أن يشق عليه أحد في حاجة عند المعتضد فلما توفي المعتضد رجع إلى بغداد وذكر القاضي أبو الحسن محمد بن عبد الواحد الهاشمي عن شيخ من التجار قال كان لي على بعض الأمراء مال كثير فماطلني ومنعني حقي وجعل كلما جئت أطالبه حجبني عنه ويأمر غلمانه يؤذونني فاشتكيت عليه إلى الوزير فلم بفد ذلك شيئا وإلى أولياء الأمر من الدولة فلم يقطعوا منه شيئا وما زاده ذلك إلا منعا وجحودا فأيست من المال الذي عليه ودخلني هم من جهته فبينما أنا كذلك وأنا حائر إلى من أشتكي إذ قال لي رجل ألا تأتي فلانا الخياط إمام مسجد هناك فقلت وما عسى أن يصنع خياط مع هذا الظالم وأعيان الدولة لم يقطعوا فيه فقال لي هو أقطع وأخوف عنده من جميع من اشتكيت إليه فاذهب إليه لعلك أن تجد عنده فرجا قال فقصدته غير محتفل في أمره فذكرت له حاجتي ومالي وما لقيت من هذا الظالم فقام معي فحين عاينه الأمير قام إليه وأكرمه واحترمه وبادر إلى قضاء حقي الذي عليه فأعطانيه كاملا من غير أن يكون منه إلى الأمير كبير أمر غير أنه قال له ادفع إلى هذا الرجل حقه وإلا أذنت فتغير لون الأمير ودفع إلى حقي قال التاجر فعجبت من ذلك الخياط مع رثاثة حاله وضعف بنيته كيف أنطاع ذلك الأمير له ثم إني عرضت عليه شيئا من المال فلم يقبل مني شيئا وقال لو أردت هذا لكان لي من الأموال ما لا (11/89)
يحصى فسألته عن خبره وذكرت له تعجبي منه وألححت عليه فقال إن سبب ذلك أنه كان عندنا في جوارنا أمير تركي من أعالي الدولة وهو شاب حسن فمر به ذات يوم امرأة حسناء قد خرجت من الحمام وعليها ثياب مرتفة ذات قيمة فقام إليها وهو سكران فتعلق بها يريدها على نفسها ليدخلها منزله وهي تأبى عليه وتصيح بأعلى صوتها يا مسلمين أنا امرأة ذات زوج وهذا الرجل يريدني على نفسي ويدخلني منزله وقد حلف زوجي بالطلاق أن لا أبيت في غير منزله ومتى بت ها هنا طلقت منه ولحقني بسبب ذلك عار لا تدحضه الأيام ولا تغسله المدامع قال الخياط فقمت إليه فأنكرت عليه وأردت خلاص المرأة من يديه فضربني بدبوس في يده فشج رأسي وغلب المرأة على فسها وأدخلها منزله قهرا فرجعت أنا فغسلت الدم عنى وعصبت رأسي وصليت بالناس العشاء ثم قلت للجماعة إن هذا قد فعل ما قد علمتم فقوموا معي إليه لننكر عليه ونخلص المرأة منه فقام الناس معي فهجمنا عليه داره فثار إلينا في جماعة من غلمانه بأيديهم العصي والدبابيس يضربون الناس وقصدني هو من بينهم فضربني ضربا شديدا مبرحا حتى أدماني وأخرجنا من منزله ونحن في غاية الإهانة فرجعت إلى منزلي وأنا لا أهتدي إلى الطريق من شدة الوجع وكثرة الدماء فنمت على فراشي فلم يأخذني نوم وتحيرت ماذا أصنع حتى أنقذ المرأة من يده في الليل لترجع فتبيت في منزلها حتى لا يقع على زوجها الطلاق فألهمت أن أؤذن الصبح في أثناء الليل لكي يظن أن الصبح قد طلع فيخرجها من منزله فتذهب إلى منزل زوجها فصعدت المنارة وجعلت أنظر إلى باب داره وأنا أتكلم على عادتي قبل الأذان هل أرى المرأة قد خرجت ثم أذنت فلم تخرج ثم صممت على أنه إن لم تخرج أقمت الصلاة حتى يتحقق الصباح فبينا أنا أنظر هل تخرج المرأة أم لا إذ امتلأت الطريق فرسانا ورجالة وهم يقولون أين الذي أذن هذه الساعة فقلت ها أنا ذا وأنا أريد أن يعينوني عليه فقال انزل فنزلت فقال أجب أمير المؤمنين فأخذوني وذهبوا بي لا أملك من نفسي شيئا حتى أدخلوني عليه فلما رأيته جالسا في مقام الخلافة ارتعدت من الخوف وفزعت فزعا شديدا فقال ادن فدنوت فقال لي ليسكن روعك وليهدأ قلبك وما زال يلاطفني حتى اطمأننت وذهب خوفي فقال أنت الذي أذنت هذه الساعة قلت نعم يا أمير المؤمنين فقال ما حملك علىأن أذنت هذه الساعة وقد بقي من الليل أكثر مما مضى منه فتغر بذلك الصائم والمسافر والمصلي وغيرهم فقلت يؤمنني أمير المؤمنين حتى أقص عليه خبري فقال أنت آمن فذكرت له القصة قال فغضب غضبا شديدا وأمر بإحضار ذلك الأمير والمراة من ساعته على أي حالة كانا فأحضرا سريعا فبعث بالمراة إلى زوجها مع نسوة من جهته ثقات ومعهن ثقة من جهته أيضا وأمره أن يأمر زوجها بالعفو والصفح عنها والإحسان إليها فإنها مكرهة ومعذورة ثم أقبل على ذلك الشاب (11/90)
الأمير فقال له كم لك من الرزق وكم عندك من المال وكم عندك من الجوار والزوجات فذكر له شيئا كثيرا فقال له ويحك أما كفاك ما أنعم الله به عليك حتى انتهكت حرمة الله وتعديت حدوده وتجرأت على السلطان وما كفاك ذلك أيضا حتى عمدت إلى رجل أمرك بالمعروف ونهاك عن المنكر فضربته وأهنته وأدميته فلم يكن له جواب فأمر به فجعل في رجله قيد وفي عنقه غل ثم أمر به فأدخل في جوالق ثم أمر به فضرب بالدبابيس ضربا شديدا حتى خفت ثم أمر به فألقي في دجلة فكان ذلك آخر العهد به ثم أمر بدرا صاحب الشرطة أن يحتاط على ما في داره من الحواصل والأموال التي كان يتناولها من بيت المال ثم قال لذلك الرجل الصالح الخياط كلما رأيت منكرا صغيرا كان أو كبيرا ولو على هذا وأشار إلى صاحب الشرطة فأعلمني فإن اتفق اجتماعك بي وإلا فعلى ما بيني وبينك الأذان فأذن في أي وقت كان أو في مثل وقتك هذا قال فلهذا لا آمر أحدا من هؤلاء الدولة بشيء إلا امتثلوه ولا أنهاهم عن شيء إلا تركوه خوفا من المعتضد وما احتجت أن أؤذن في مثل تلك الساعة إلى الآن وذكر الوزير عبيد الله بن سليمان بن وهب قال كنت يوما عند المعتضد وخادم واقف على رأسه يذب عنه بمدبة في يده إذ حركها فجاءت في قلنسوة الخليفة فسقطت عن رأسه فأعظمت أنا ذلك جدا وخفت من هول ما وقع ولم يكترث الخليفة لذلك بل أخذ قلنسوته فوضعها على رأسه ثم قال لبعض الخدم مر هذا البائس ليذهب لراحته فإنه قد نعس وزيدوا في عدة من يذب بالنوبة قال الوزير فأخذنا في الثناء على الخليفة والشكر له على حلمه فقال إن هذا البائس لم يتعمد ما وقع منه وإنما نعس وليس العتاب والمعاتبة إلا على المتعمد لا على المخطئ والساهي وقال جعيف السمرقندي الحاجب لما جاء الخبر إلى المعتضد بموت وزيره عبيدالله بن سليمان خر ساجدا طويلا فقيل له يا أمير المؤمنين لقد كان عبيد الله يخدمك وينصح لك فقال إنما سجدت شكرا لله أني لم أعزله ولم أوذه وقد كان ابن سليمان حازم الرأي قويا وأراد أن يولي مكانه أحمد بن محمد بن الفرات فعدل به بدر صاحب الشرطة عنه وأشار عليه بالقاسم بن عبيدالله فسفه رأيه فألح عليه فولاه وبعث إليه يعزيه في أبيه ويهنيه بالوزارة فما لبث القاسم بن عبيدالله حتى ولي المكتفي الخلافة من بعد أبيه المعتضد وحتى قتل بدرا وكان المعتضد ينظر إلى ما بينهما من العداوة من وراء ستر رقيق وهذه فراسة عظيمة وتوسم قوي ورفع يوما إلى المعتضد قوما يجتمعون على المعصية فاستشار وزيره في أمرهم فقال ينبغي أن يصلب بعضهم ويحرق بعضهم فقال ويحك لقد بردت لهب غضبي عليهم بقسوتك أما علمت أن الرعية وديعة الله عند سلطانها وأنه سائله عنها ولم يقابلهم بما قال الوزير ولهذه النية لما ولى الخلافة كان بيت المال صفرا من المال وكانت الأحوال فاسدة والعرب تعيث في الأرض (11/91)
فسادا في كل جهة فلم يزل برأيه وتسديده حتى كثرت الأموال وصلحت الأحوال في سائر الأقاليم والآفاق ومن شعره في جارية له توفيت فوجد عليها ... يا حبيبا لم يكن يع ... دله عندي حبيب ... أنت عن عيني بعيد ... ومن القلب قريب ... ليس لي بعدك في شي ... ء من اللهو نصيب ... لك من قلبي علي قلبي ... وإن غبت رقيب ... وحياتي منك مذغب ... ت حياة لا تطيب ... لو تراني كيف لي بع ... دك عول ونحيب ... وفؤادي حشوه من ... حرق الحزن لهيب ... ما أرى نفسي وإن طي ... بتها عنك تطيب ... ليس دمع لي يعصي ... ني وصبري ما يجيب ... وقال فيها ... لم أبك للدار ولكن لمن ... قد كان فيها مرة ساكنا ... فخانني الدهر بفقدانه ... وكنت من قبل له آمنا ... ودعت صبري عنه تودعه ... وبان قلبي معه ظاعنا ... وكتب إليه ابن المعتز يعزيه ويسليه عن مصيبته فيها ... يا إمام الهدى حياتك طالت ( 1 ) ... وعشت أنت سليما ... أنت علمتنا على النعم الشك ... ر وعند المصائب التسليما ... فتسللا عن ما مضى وكأن التي كانت سرورا صارت ثوابا عظيما ... قد رضينا بأن نموت وتحيى ... إن عندي في ذاك حظا جسيما ... من يمت طائعا لمولاه فقد ... أعطى فوزا ومات موتا كريما ... وقد رثى أبو العباس عبدالله بن المعتز العباسي بن عمر المعتضد بمرثاة حسنة يقول فيها ... يا دهر ويحك ما أبقيت لي أحدا ... وأنت والد سوء تأكل الولدا ... أستغفر الله بل ذا كله قدر ... رضيت بالله ربا واحدا صمدا ... يا ساكن القبر في غيراء مظلة ... بالظاهرية مقصى الدار منفردا ... أين الجيوش التي قد كنت تشحنها ... أين الكنوز التي لم تحصها عددا (11/92)
أين السرير الذي قد كنت تملؤه ... مهابة من رأته عينه ارتعدا ... أين القصور شيدتها فعلت ... ولاح فيها سنا الابريز فانقدا ... قد أتعبوا كل مرقال مذكرة ... وجناء تنثر من أشداقها الزبدا ... أين الأعادي الألي ذللت صعبهم ... أين الليوث التي صيرتها نقدا ... أين الوفود على الأبواب عاكفة ... ورد القطا صفر ما جال واطردا ... أين الرجال قياما في مراتبهم ... من راح منهم ولم يطمر فقد سعدا ... أين الجياد التي حجلتها بدم ... وكن يحملن منك الضيغم الأسدا ... أين الرماح التي غذيتها مهجا ... مذ مت ما وردت قلبا ولا كبدا ... أين السيوف وأين النبل مرسلة ... يصبن من شئت من قرب وإن بعدا ... أين المجانيق أمثال السيول إذا ... رمين حائط حصن قائم قعدا ... أين الفعال التي قد كنت تبدعها ... ولا ترى أن عفوا نافعا أبدا ... أين الجنان التي تجري جداولها ... ويستجيب إليها الطائر الغردا ... أين الملاهي وأين الراح تحسبها ... ياقوتة كسيت من فضة زردا ... أين الوثوب إلى الأعداء مبتغيا ... صلاح ملك بني العباس إذ فسدا ... ما زلت تقسر منهم كل قسورة ... وتحطم العاتي الجبار معتمدا ... ثم انقضيت فلا عين ولا أثر ... حتى كأنك يوما لم تكن أحدا ... لا شيء يبقى سوى خير تقدمه ... ما دام ملك لأنسان ولا خلدا ... ذكرها ابن عساكر في تاريخه واجتمع ليلة عند المعتضد ندماؤه فلما انقضى السمر وصار إلى حظاياه ونام القوم السمار نبههم من نومهم خادم وقال يقول لكم أمير المؤمنين إنه أصابه أرق بعدكم وقد عمل بيتا أعياه ثانيه فمن عمل ثانيه فله جائزة وهو هذا البيت ... ولما انتبهنا للخبال الذي سرى ... إذا الدار قفر والمزار بعيد ... قال فجلس القوم من فرشهم يفكرون في ثانيه فبدر واحد منهم فقال ... فقلت لعيني عاودي النوم واهجعي ... لعل خيالا طارقا سيعود ... قال فلما رجع الخادم به إلى المعتضد وقع منه موقعا جيدا وأمر له بجائزة سنية واستعظم المعتضد يوما من بعض الشعراء قول الحسن بن منير المازني البصري ... لهفي على من أطار النوم فامتنعا ... وزاد قلبي على أوجاعه وجعا (11/93)
كأنما الشمس من أعطافه طلعت ... حسنا أو البدر من أردانه لمعا ... في وجه شافع يمحوو إساءته ... من القلوب وجيها أين ما شفعا ... ولما كان في ربيع الأول من هذه السنة اشتد وجع المعتضد فاجتمع رؤس الأمراء مثل يونس الخادم وغيره إلى الوزير القاسم بن عبيدالله فأشاروا بأن يجتمع الناس لتجديد البيعة للمكتفي بالله علي بن المعتضد بالله ففعل ذلك وتأكدت البيعة وكان في ذلك خير كثير وحين حضرت المعتضد الوفاة أنشد لنفسه ... تمتع من الدنيا فإنك لا تبقى ... وخذ صفوها ما إن صفت ودع الرنقا ... ولا تأمنن الدهر إني ائتمنته ... فلم يبق لي حالا ولم يرع لي حقا ... قتلت صناديد الرجال فلم أدع ... عدوا ولم أمهل على خلق خلقا ... وأخليت دار الملك من كل نازع ... فشردتهم غربا ومزقتهم شرقا ... فلما بلغت النجم عزا ورفعة ... وصارت رقاب الخلق لي أجمع رقا ... رماني الردى سهما فأخمد جمرتي ... فها أنا ذا في جفرتي عاجلا ألقى ... ولم يغن عني ما جمعت ولم أجدد ... لدى ملك إلا حباني حبها رفقا ... وأفسدت دنياي وديني سفاهة ... فمن ذا الذي مثلي بمصرعه أشقا ... فياليت شعري بعد موتي هل أصر ... إلى رحمة الله أم في ناره ألقى ... وكانت وفاته ليلة الإثنين لثمان بقين من ربيع الأول من هذه السنة ولم يبلغ الخمسين وكانت خلافته تسع سنين وتسعة أشهر وثلاثة عشر يوما وخلف من الأولاد الذكور عليا المكتفي وجعفر المقتدر وهارون ومن البنات إحدى عشرة بنتا ويقال سبع عشرة بنتا وترك في بيت المال سبعة عشر ألف ألف دينار وكان يمسك عن صرف الأموال في غير وجهها فلهذا كان بعض الناس يبخله ومن الناس من يجعله من الخلفاء الراشدين المذكورين في الحديث حديث جابر بن سمرة فالله أعلم
خلافة المكتفي بالله أبي محمد
علي بن المعتضد بالله أمير المؤمنين بويع بالخلافة عند موت أبيه في ربيع الأول من هذه السنة وليس في الخلفاء من اسمه على سوى هذا وعلي بن أبي طالب وليس فيهم من يكنى بأبي محمد إلا هو والحسن بن علي بن أبي طالب والهادي والمستضيء بالله وحين ولي المكتفي كثرت الفتن وانتشرت في البلاد وفي رجب منها زلزلت الأرض زلزلزة عظيمة جدا وفي رمضان منها تسافط وقت السحر من السماء نجوم كثيرة ولم يزل الأمر كذلك حتى طلعت الشمس ولما أفضت الخلافة إليه كان بالرقة فكتب إليه الوزير وأعيان الأمراء فركب فدخل بغداد في يوم مشهود وذلك يوم (11/94)
الإثنين لثمان خلون من جمادى منها وفي هذا اليوم أمر بقتل عمرو بن الليث الصفار وكان معتقلا في سجن أبيه وأمر بتخريب المطامير التي كان اتخذها أبوه للمسجونين وأمر ببناء جامع مكانها وخلع في هذا اليوم على الوزير القاسم بن عبيد الله بن سليمان ست خلع وقلده سيفا وكان عمره يوم ولي الخلافة خمسا وعشرين سنة وبعض أشهر وفيها انتشرت القرامطة في الآفاق وقطعوا الطريق على الحجيج وتسمى بعضهم بأمير المؤمنين فبعث المكتفي إليهم جيشا كثيرا وأنفق فيهم أموالا جزيلة فأطفأ الله بعض شرهم وفيها خرج محمد بن هارون عن طاعة إسماعيل بن أحمد الساماني وكاتب أهل الرى بعد قتله محمد بن زيد الطالبي فصار إليهم فسلموا البلد إليه فاستحوذ عليها فقصده إسماعيل بن أحمد الساماني بالجيوش فقهره وأخرجه منها مذموما مدحورا قال ابن الجوزي في المنتظم وفي يوم التاسع من ذي الحجة منها صلى الناس العصر في زمن الصيف وعليهم ثياب الصيف فهبت ريح باردة جدا حتى احتاج الناس إلى الاصطلاء بالنار ولبسوا الفرا والمحشوات وجمد الماء كفصل الشتاء قال ابن الأثير ووقع بمدينة حمص مثل ذلك وهب ريح عاصف بالبصرة فاقتلعت شيئا كثيرا من نخيلها وخسف بموضع فيها فمات تحته سبعة آلاف نسمة قال ابن الجوزي وابن الأثير وزلزت بغداد في رجب منها مرات متعددة ثم سكنت وحج بالناس فيها الفضل بن عبد الملك وفيها توفي من الأعيان إبراهيم بن محمد بن إبراهيم أحد الصوفية الكبار قال ابن الأثير وهو من أقران السري السقطي قال لأن ترد إلى الله ذرة من همك خير لك مما طلعت عليه الشمس أحمد بن محمد المعتضد بالله غلب عليه سوء المزاج والجفاف من كثرة الجماع وكان الأطباء يصفون له ما يرطب بدنه له فيستعمل ضد ذلك حتى سقطت قوته
بدر غلام المعتضد رأس الجيش
كان القاسم الوزير قد عزم على أن يصرف الخلافة عن أولاد المعتضد وفاوض بذلك بدرا هذا فامتنع عليه وأبى فلما ولي المكتفي بن المعتضد خاف الوزير غائلة ذلك فحسن الوزير للمكتفي قتل بدر هذا فبعث المكتفي فاحتاط على حواصله وأمواله وهو بواسط وبعث الوزير إليه بالأمان فلما قدم بدر فبعث إليه من قتله يوم الجمعة لست خلون من رمضان من هذه السنة ثم قطع رأسه وبقيت جثته أخذها أهله فبعثوا بها إلى مكة في تابوت فدفن بها لأنه أوصى بذلك وكان قد أعتق كل مملوك له قبل وفاته وحين أرادوا قتله صلى ركعتين رحمه الله الحسين بن محمد بن عبدالرحمن بن الفهم بن محرز بن إبراهيم الحافظ البغدادي سمع خلف بن هشام ويحيى بن معين ومحمد بن سعد وغيرهم وعنه الحنطي والطوماري وكان عسرا في (11/95)
التحديث إلا لمن لازمه وكانت له معرفة جيدة بالأخبار والنسب والشعر وأسماء الرجال يميل إلى مذهب العراقيين في الفقه قال عنه الدارقطني ليس بالقوي عمارة ابن وثيمة بن موسى أبو رفاعة الفارسي صاحب التاريخ على السنن ولد بمصر وحدث عن أبي صالح كاتب الليث وغيره هارون بن الليث الصفار أحد الأمراء الكبار قتل في السجن أول ما قدم المكتفي بغداد
ثم دخلت سنة تسعين ومائتين
فيها أقبل يحيى بن زكرويه بن مهرويه أبو قاسم القرمطي المعروف بالشيخ في جحافله فعاث بناحية الرقة فسادا فجهز إليه الخليفة جيشا نحو عشرة آلاف فارس وفيها ركب الخليفة من بغداد إلى سامرا يريد الإقامة بها فثنى رأيه عن ذلك الوزير فرجع إلى بغداد وفيها قتل يحيى بن زكرويه على باب دمشق زرقه رجل من المغاربة بمزراق نار فقتله ففرح الناس بقتله وتمكن منه المزراق فأحرقه وكان هذا المغربي من جملة جيش المصريين فقام بأمر القرامطة من بعده أخوه الحسين وتسمى بأحمد وتكنى بأبي العباس وتلقب بأمير المؤمنين وأطاعه القرامطة فحاصر دمشق فصحاله أهلها على مال ثم سار إلى حمص فافتتحها وخطب له على منابرها ثم سار إلى حماه ومعرة النعمان فقهر أهل تلك النواحي واستباح أموالهم وحريمهم وكان يقتل الدواب والصبيان في المكاتب ويبيح لمن معه وطء النساء فربما وطئ الواحدة الجماعة الكثيرة من الرجال فإذا ولدت ولدا هنأ به كل واحد منهم الآخر فكتب أهل الشام إلى الخليفة ما يلقون من هذا اللعين فجهز إليهم جيوشا كثيفة وأنفق فيهم أموالا جزيلة وركب في رمضان فنزل الرقة وبث الجيوش في كل جانب لقتال القرامطة وكان القرمطي هذا يكتب إلى أصحابه ( من عبدالله المهدي أحمد بن عبدالله المهدي المنصور الناصر لدين الله القائم بأمر الله الحاكم بحكم الله الداعي إلى كتاب الله الذاب عن حريم الله المختار من ولد رسول الله ) وكان يدعي أنه من سلالة علي بن أبي طالب من فاطمة وهو كاذب أفاك أثيم قبحه الله فإنه كان من أشد الناس عدواة لقريش ثم لبني هاشم دخل سلمية فلم يدع بها أحدا من بني هاشم حتى قتلهم وقتل أولادهم واستباح حريمهم وفيها تولى ثغر طرسوس أبو عامر أحمد بن نصر عوضا عن مظفر بن جناح لشكوى أهل الثغر منه وحج بالناس الفضل بن محمد العباسي وفيها توفي من الأعيان
عبدالله بن الإمام أحمد بن حنبل
أبو عبدالرحمن الشيباني كان إماما ثقة حافظا ثبتا مكثرا عن أبيه وغيره قال ابن المنادى لم يكن أحد أروى عن أبيه منه روى عنه المسند ثلاثين ألفا والتفسير مائة ألف حديث وعشرون ألفا من ذلك سماع ومن ذلك إجازة ومن ذلك الناسخ والمنسوخ والمقدم (11/96)
والمؤخر في كتاب الله والتاريخ وحديث سبعة وكرامات القراء والمناسك الكبير الصغير وغير ذلك من التصانيف وحديث الشيوخ قال وما زلنا نرى أكابر شيوخنا يشهدون له بمعرفة الرجال وعلل الحديث والأسماء والكنى والمواظبة على طلب الحديث في العراق وغيرها ويذكرون عن أسلافهم الإقرار له بذلك حتى أن بعضهم أسرف في تقريظه له بالمعرفة وزيادة السماع للحديث عن أبيه ولما رمض قيل له أين تدفن فقال صح عندي أن بالقطيعة نبيا مدفونا ولأن أكون بجوار نبي أحب إلي من أن أكون في جوار أبي مات في جمادى الآخرة منها عن سبع وسبعين سنة كما مات لها أبوه واحتمع في جنازته خلق كثير من الناس وصلي عليه زهير ابن أخيه ودفن في مقابر باب التين رحمه الله تعالى عبدالله بن أحمد بن سعيد أبو بحر الرباطي المروزي صحب أبا تراب النخشبي وكان الجنيد بمدحه ويثني عليه عمر بن إبراهيم أبو بكر الحافظ المعروف بأبي الأذان كان ثقة ثبتا محمد بن الحسين بن الفرج أبو ميسرة الهمداني صاحب المسند كان أحد الثقات المشهورين والمصنفين
محمد بن عبدالله أبو بكر الدقاق
أحد أئمة الصوفية وعبادهم روى عن الجنيد أنه قال رأيت إبليس في المنام وكأنه عريان فقلت ألا تستحي من الناس فقال وهو لا يظنهم ناسا لو كانوا ناسا ما كنت ألعب بهم كما يلعب الصبيان بالكرة إنما الناس جماعة غير هؤلاء فقلت أين هم فقال في مسجد الشونيزي فقد أضنوا قلبي وأتعبوا جسدي كلما هممت بهم أشاروا إلى الله عز و جل فأكاد أحترق قال فلما انتبهت لبست ثيابي ورحت إلى المسجد الذي ذكر فإذا فيه ثلاثة جلوس ورؤسهم في مرقعاتهم فرفع أحدهم رأسه إلى وقال يا أبا القاسم لا تغتر بحديث الخبيث وأنت كلما قيل لك شيء تقبل فإذا هم أبو بكر الدقاق وأبو الحسين النوري وأبو حمزة محمد بن علي بن علوية بن عبدالله الجرجاني الفقيه الشافعي تلميذ المزني ذكره ابن الأثير
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين ومائتين
فيها جرت وقعة عظيمة بين القرامطة وجند الخليفة فهزموا القرامطة وأسروا رئيسهم الحسن بن زكرويه ذا الشامة فلما أسر حمل إلى الخليفة في جماعة كثيرة من أصحابه من رؤسهم وأدخل بغداد على فيل مشهور وأمر الخليفة بعمل دفة مرتفعة فأجلس عليها وجيء بأصحابه فجعل يضرب أعناقهم بين يديه وهو ينظر وقد جعل في فمه خشبة معترضة مشدودة إلى قفاه ثم أنزل فضرب مائتي سوط ثم قطعت يداه ورجلاه وكوى ثم أحرق وحمل رأسه على خشبة وطيف به أرجاء بغداد وذلك في ربيع الأول منها (11/97)
وفيها قصدت الأتراك بلاد ما وراء النهر في حجافل عظيمة فبيتهم المسلمون فقتلوا منهم خلقا كثيرا وسبوا منهم ما لا يحصون [ ورد الله الذين كفروا بغيظهم لما ينالوا خيرا ] وفيها بعث ملك الروم عشرة صلبان مع كل صليب عشرة آلاف فغاروا على أطراف البلاد وقتلوا خلقا وسبوا نساء وذرية وفيها دخل نائب طرسوس بلاد الروم ففتح مدينة أنطاكية وهي مدينة عظيمة على ساحل البحر تعادل عندهم القسطنطينية وخلص من أسارى المسلمين خمسة آلاف أسير وأخذ للروم ستين مركبا وغنم شيئا كثيرا فبلغ نصيب كل واحد من الغزاة ألف دينار وحج بالناس فيها الفضل بن عبدالملك الهاشمي وفيها توفي من الأعيان
أحمد بن يحيى بن زيد بن سيار
أبو العباس الشيباني مولاهم الملقب بثعلب إمام الكوفيين في النحو واللغة مولده في سنة مائتين سمع محمد بن زياد الأعرابي والزبير بن بكار والقواريري وغيرهم وعنه ابن الأنباري وابن عرفة وأبو عمرو الزاهد وكان ثقة حجة دينا صالحا مشهورا بالصدق والحفظ وذكر أنه سمع من القواريري مائة ألف حديث توفي يوم السبت لثلاث عشرة بقيت من جمادى الأولى منها عن إحدى وتسعين سنة قال ابن خلكان وكان سبب موته أنه خرج من الجامع وفي يده كتاب ينظر فيه وكان قد أصابه صمم شديد فصدمته فرس فألقته في هوة فاضطرب دماغه فمات في اليوم الثاني رحمه الله وهو مصنف كتاب الفصيح وهو صغير الحجم كثير الفائدة وله كتاب المصون واختلاف النحويين ومعاني القرآن وكتاب القراءات ومعاني الشعر وما يلحن فيه العامة وغير ذلك وقد نسب إليه من الشعر قوله ... إذا كنت قوت النفس ثم هجرتها ... فكم تلبث النفس التي أنت قوتها ... سيبقى بقاء النبت في الماء أو كما ... أقام لدى يمومة الماء صوتها ... أغرك أنى قال تصبرت جاهدا ... وفي النفس مني منك ما سيميتها ... فلو كان ما بي بالصخور لهدها ... وبالريح ما هبت وطال حفوفها ... فصبرا لعل الله يجمع بيننا ... فأشكو هموما منك فيك لقيتها ... وفيها توفي القاسم بن عبيدالله بن سليمان بن وهب الوزير تولى بعد أبيه الوزارة في آخر أيام المعتضد ثم تولى لولده المكتفي فلما كان رمضان من هذه السنة مرض فبعث إلى السجون فأطلق من فيها من المطلبيين ثم توفى في ذي القعدة منها وقد قارب ثلاثا وثلاثين سنة وقد كان حظيا عند الخليفة وخلف من الأموال ما يعدل سبعمائة ألف دينار ومحمد بن محمد بن إسماعيل بن شداد أبو عبدالله البصري القاضي بواسط المعروف بالجبروعي (11/98)
حدث عن مسدد وعن علي بن المديني وابن نمير وغيرهم وكان من الثقات والقضاة الأجواد العدول الأمناء ومحمد بن إبراهيم البوشنجي ومحمد بن علي الصايغ وقنبل أحد مشاهير القراء وأئمة العلماء
ثم دخلت سنة ثنتين وتسعين ومائتين
فيها دخل محمد بن سليمان في نحو عشرة آلاف مقاتل من جهة الخليفة المكتفي إلى الديار المصرية لقتال هارون بن خمارويه فبرز إليه هارون فاقتتلا فقهره محمد بن سليمان وجمع آل طولون وكانوا سبعة عشر رجلا فقتلهم واستحوذ على أموالهم وأملاكهم وانقضت دولة الطولونية على الديار المصرية وكتب بالفتح إلى المكتفي وحج بالناس الفضل بن عبدالملك الهاشمي القائم بأمر الحجاج في السنين المتقدمة وممن توفي فيها من الأعيان
إبراهيم بن عبدالله بن مسلم الكجي
أحد المشايخ المعمرين كان يحضر مجلسه خمسون ألفا ممن معه محبرة سوى النظارة ويستملي عليه سبعة مستملين كل يبلغ صاحبه ويكتب بعض الناس وهم قيام وكان كلما حدث بعشرة آلاف حديث تصدق بصدقة ولما فرغ من قراءة السنن عليه عمل مأدبة غرم عليها ألف دينار وقال شهدت اليوم على رسول الله ( ص ) فقبلت شهادتي وحدي أفلا أعمل شكرا لله عز و جل وروى ابن الجوزي والخطيب عن أبي مسلم الكجي قال خرجت ذات ليلة من المنزل فمررت بحمام وعلي جنابة فدخلته فقلت للحمامي أدخل حمامك أحد بعد فقال لا فدخلت فلما فتحت باب الحمام الداخل إذا قائل يقول أبا مسلم أسلم تسلم ثم أنشأ يقول ... لك الحمد إما على نعمة ... وإما على نقمة تدفع ... تشاء فتفعل ما شئته ... وتسمع من حيث لا يسمع ... قال فبادرت فخرجت فقلت للحمامي أنت زعمت أنه لم يدخل حمامك أحد فقال نعم وما ذاك فقلت إني سمعت قائلا يقول كذا وكذا قال وسمعته قلت نعم فقال يا سيدي هذا رجل من الجان يتبدى لنا في بعض الأحيان فينشد الأشعار ويتكلم بكلام حسن فيه مواعظ فقلت هل حفظت من شعره شيئا فقال نعم ثم أنشدني من شعره فقال هذه الأبيات ... أيها المذنب المفرط مهلا ... كم تمادى تكسب الذنب جهلا ... كم وكم تسخط الجليل بفعل ... سمج وهو يحسن الصنع فعلا ... كيف تهدا جفون من ليس يدري ... أرضي عنه من على العرش أم لا ... عبد الحميد بن عبدالعزيز أبو حاتم القاضي الحنفي كان من خيار القضاة وأعيان الفقهاء ومن أئمة العلماء ورعا نزها كثير الصيانة والديانة والأمانة وقد ذكر له ابن الجوزي في المنتظم (11/99)
آثارا حسنة وأفعالا جميلة رحمه الله
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين ومائتين
فيها التف على أخي الحسين القرمطي المعروف بذي الشامة الذي قتل في التي قبلها خلائق من القرامطة بطريق الفرات فعاث بهم في الأرض فسادا ثم قصد طبرية فامتنعوا فدخلها قهرا فقتل بها خلقا كثيرا من الرجال وأخذ شيئا كثيرا من الأموال ثم كر راجعا إلى البادية ودخلت فرقة أخرى منهم إلى هيت فقتلوا أهلها إلا القليل وأخذوا منها أموالا جزيلة حملوها على ثلاثة آلاف بعير فبعث إليهم المكتفي جيشا فقاتلوهم وأخذوا رئيسهم فضربت عنقه ونبغ رجل من القرامطة يقال له الداعية باليمن فحاصر صنعاء فدخلها قهرا وقتل خلقا من أهلها ثم سار إلى بقية مدن اليمن فأكثر الفساد وقتل خلقا من العباد ثم قاتله أهل صنعاء فظفروا به وهزموه فأغار على بعض مدنها وبعث الخليفة إليها مظفر بن حجاج نائبا فسار إليها فلم يزل بها حتى مات وفي يوم عيد الأضحى دخلت طائفة من القرامطة إلى الكوفة فنادوا يا ثارات الحسين يعنون المصلوب في التي قبلها ببغداد وشعارهم يا أحمد يا محمد يعنون الذين قتلوا معه فبادر الناس الدخول من المصلى إلى الكوفة فدخلوا خلفهم فرمتهم العامة بالحجارة فقتلوا منهم نحو العشرين رجلا ورجع الباقون خاسئين وفيها ظهر رجل بمصر يقال له الخليجي فخلع الطاعة واجتمع إليه طائفة من الجند فأمر الخليفة أحمد بن كنغلغ نائب دمشق وأعمالها فركب إليه فاقتتلا بظاهر مصر فهزمه الخليجي هزيمة منكرة فبعث إليه الخليفة جيشا آخر فهزموا الخليجي وأخذوه فسلم إلى الأمير الخليفة وانطفأ خبره واشتغل الجيش بأمر الديار المصرية فبعث القرامطة جيشا إلى بصرى صحبة رجل يقال له عبدالله بن سعيد كان يعلم الصبيان فقصد بصرى وأذرعات والبثنية فحاربه أهلها ثم أمنهم فلما أن تمكن منهم قتل المقاتلة وسبى الذرية ورام الدخول إلى دمشق فحاربه نائب دمشق أحمد بن كنغلغ وهو صالح بن الفضل فهزمه القرمطي وقتل صالح فيمن قتل وحاصر دمشق فلم يمكنه فتحها فانصرف إلى طبرية فقتلوا أكثر أهلها ونهبوا منها شيئا كثيرا كما ذكرنا ثم ساروا إلى هيت ففعلوا بها ذلك كما تقدم ثم ساروا إلى الكوفة في يوم عيد الأضحى كما ذكرنا كل ذلك بإشارة زكرويه بن مهرويه وهو مختف في بلده بين ظهراني قوم من القرامطة فإذا جاءه الطلب نزل بئرا قد اتخذها ليختفي فيها وعلى بابه تنور فتقوم امرأة فتسجره وتخبز فيه فلا يشعر به أصلا ولا يدري أحد أين هو فبعث الخليفة إليه جيشا فقاتلهم زكرويه بنفسه ومن أطاعه فهزم جيش الخليفة وغنم من أموالهم شيئا كثيرا جدا فتقوى به واشتد أمره فندب الخليفة إليه جيشا آخر كثيفا فكان من أمره (11/100)
وأمرهم ما سنذكره وفيها خرب إسماعيل بن أحمد الساماني نائب خراسان وما وراء النهر طائفة كبيرة من بلاد الأتراك وفيها أغارت الروم على بعض أعمال حلب فقتلوا ونهبوا وسبوا وفيها حج بالناس الفضل بن عبدالملك الهاشمي وفيها توفي من الأعيان
أبو العباس الناشي الشاعر
واسمه عبدالله بن محمد أبو العباس المعتزلي أصله من الأنبار وأقام ببغداد مدة ثم انتقل إلى مصر فمات بها وكان جيد الذهن يعاكس الشعراء ويرد على المنطقيين والفروضيين وكان شاعرا مطيقا إلا أنه كان فيه هوس وله قصيدة حسنة في نسب رسول الله ( ص ) قد ذكرناها في السيرة قال إن خلكان كان عالما في عدة علوم من جملتها علم المنطق وله قصيدة في فنون من العلم على روى واحد تبلغ أربعة آلاف بيت وله عدة تصانيف وأشعار كثيرة عبيد بن محمد بن خلف أبو محمد البزار أحد الفقهاء من أصحاب أبي ثور وكان عنده فقه أبي ثور وكان من الثقات النبلاء نصر بن أحمد بن عبدالعزيز أبو محمد الكندي الحافظ المعروف بنصرك كان أحد حفاظ الحديث المشهورين وكان الأمير خالد بن أحمد الذهلي نائب بخاري قد ضمه إليه وصنف له المسند توفي ببخارى في هذه السنة
ثم دخلت سنة أربع وتسعين ومائتين
في المحرم من هذه السنة اعترض زكرويه في أصحابه إلى الحجاج من أهل خراسان وهم قافلون من مكة فقتلهم عن آخرهم وأخذ أموالهم وسبى نساءهم فكان قيمة ما أخذه منهم ألفي ألف دينار وعدة من قتل عشرين ألف إنسان وكانت نساء القرامطة يطفن بين القتلى من الحجاج وفي أيديهم الآنية من الماء يزعمن أنهن يسقين الجريح العطشان فمن كلمهن من الجرحى قتلنه وأجهزن عليه لعنهن الله ولعن أزواجهن
ذكر مقتل زكرويه لعنه الله
لما بلغ الخليفة خبر الحجيج وما أوقع بهم الخبيث جهز إليه جيشا كثيفا فالتقوا معه فاقتتلوا قتالا شديدا جدا قتل من القرامطة خلق كثير ولم يبق منهم إلا القليل وذلك في أول ربيع الأول منها وضرب رجل زكرويه بالسيف في رأسه فوصلت الضربة إلى دماغه وأخذ أسيرا فمات بعد خمسة أيام فشقوا بطنه وصبروه وحملوه في جماعة من رؤس أصحابه إلى بغداد واحتوى عسكر الخليفة على ما كان بأيدي القرامطة من الأموال والحواصل وأمر الخليفة بقتل أصحاب القرمطي وأن يطاف برأسه في سائر بلاد خراسان لئلا يمتنع الناس عن الحج وأطلق من كان بأيدي القرامطة من النساء والصبيان الذين أسروهم وفيها غزا أحمد بن كنغلغ نائب دمشق بلاد الروم من ناحية طرسوس فقتل منهم نحوا من أربعة (11/101)
آلاف وأسر من ذراريهم نحوا من خمسين ألفا وأسلم بعض البطارقة وصحبته ونحو من مائتي أسير كانوا في حبسه من المسلمين فأرسل ملك الروم جيشا في طلب ذلك البطريق فركب في جماعة من المسلمين فكبس جيش الروم فقتل منهم مقتلة عظيمة وغنم غنيمة كثيرة جدا ولما قدم على الخيفة أكرمه وأحسن إليه وأعطاه ما تمناه عليه وفيها ظهر بالشام رجل فادعى أنه السفياني فأخذ وبعث به إلى بغداد فادعى أنه موسوس فترك وحج بالناس الفضل بن عبدالملك الهاشمي وفيها توفي من الأعيان الحسين بن محمد بن حاتم بن يزيد بن علي بن مروان أبو علي المعروف بعبيد العجلي كان حافظا مكثرا متقنا مقدما في حفظ المسندات توفي في صفر منها صالح بن محمد بن عمرو بن حبيب أبو علي الأسدي أسد خزيمة المعروف بحرزة لأنه قرأ على بعض المشايخ كانت له خرزة يرقأ بها المريض فقرأها هو حرزة تصحيفا منه فغلب عليه ذلك فلقب به وقد كان حافظا مكثرا جوالا رحالا طاف الشام ومصر وخراسان وسكن بغداد ثم انتقل منها إلى بخارى فسكنها وكان ثقة صدوقا أمينا وله رواية كثيرة عن يحيى بن معين وسؤالات كثيرة كان مولده بالرقة سنة عشر ومائتين وتوفي في هذه السنة محمد بن عيسى بن محمد بن عبدالله بن علي بن عبدالله بن عباس المعروف بالبياضي لأنه حضر مجلس الخليفة وعليه ثياب البياض فقال الخليفة من ذاك البياضي فعرف به وكان ثقة روى عن ابن الأنباري وابن مقسم قتله القرامطة في هذه السنة محمد بن الإمام إسحاق بن راهويه سمع أباه وأحمد بن حنبل وغيرهما وكان عالما بالفقه والحديث جميل الطريقة حميد السيرة قتلته القرامطة في هذه السنة في جملة من قتلوا من الحجيج
محمد بن نصر أبو عبدالله المروزي
ولد ببغداد ونشأ بنيسابور واستوطن سمرقند وكان من أعلم الناس باختلاف الصحابة والتابعين فمن بعدهم من أئمة الإسلام وكان عالما بالأحكام وقد رحل إلى الآفاق وسمع من المشايخ الكثير النافع وصنف الكتب المفيدة الحافلة النافعة وكان من أحسن الناس صلاة وأكثرهم خشوعا فيها وقد صنف كتابا عظيما في الصلاة وقد روى الخطيب عنه أنه قال خرجت من مصر قاصدا مكة فركبت البحر ومعي جارية فغرقت السفينة فذهب لي في الماء ألفا جزء وسلمت أنا والجارية فلجأنا إلى جزيرة فطلبنا بها ماء فلم نجد فوضعت رأسي على فخذ الجارية ويئست من الحياة فبينا أنا كذلك إذا رجل قد أقبل وفي يده كوز فقال هاه فأخذته فشربت منه وسقيت الجارية ثم ذهب فلم أدر من أين أقبل ولا إلى أين ذهب ثم إن الله سبحانه أغاثنا فنجانا من ذلك الغم وقد كان من أكرم الناس وأسخاهم نفسا وكان إسماعيل بن أحمد يصله في كل سنة بأربعة آلاف ويصله أخوه إسحاق بن (11/102)
أحمد بأربعة آلاف ويصله أهل سمرقند بأربعة آلاف فينفق ذلك كله فقيل له لو ادخرت شيئا لنائبه فقال سبحان الله أنا كنت بمصر أنفق فيها في كل سنة عشرين درهما فرأيت إذا لم يحصل لي شيء من هذا المال لا يتهيأ لي في السنة عشرون درهما وكان محمد بن نصر المروزي إذا دخل على إسماعيل بن أحمد الساماني ينهض له ويكرمه فعاتبه يوما أخوه إسحاق فقال له تقوم لرجل في مجلس حكمك وأنت ملك خراسان قال إسماعيل فبت تلك الليلة وأنا مشتت القلب من قول أخي وكانوا هم ملوك خراسان وما وراء النهر قال فرأيت رسول الله ( ص ) في المنام وهو يقول ( يا إسماعيل ثبت ملكك وملك بنيك بتعظيمك محمد بن نصر وذهب ملك أخيك باستخفافه بمحمد بن نصر ) وقد اجتمع بالديار المصرية محمد بن نصر ومحمد بن جرير الطبري ومحمد بن المنذر فجسلوا في بيت يكتبون الحديث ولم يكن عندهم في ذلك اليوم شيء يقتاتونه فاقترعوا فيما بينهم أيهم يخرج يسعى لهم في شيء يأكلونه فوقعت القرعة على محمد بن نصر هذا فقام إلى الصلاة فجعل يصلي ويدعو الله عز و جل وذلك وقت القائلة فرأى نائب مصر وهو طولون وقيل أحمد بن طولون في منامه في ذلك الوقت رسول الله و ( ص ) وهو يقول له ( أدرك المحدثين فإنهم ليس عندهم ما يقتاتونه ) فانتبه من ساعته فسأل من ها هنا من المحدثين فذكر له هؤلاء الثلاثة فأرسل إليهم في الساعة الراهنة بألف دينار فدخل الرسول بها عليهم وأزال الله ضررهم ويسر أمرهم واشترى طولون تلك الدار وبناها مسجدا وجعلها على أهل الحديث وأوقف عليها أوقافا جزيلة وقد بلغ محمد بن نصر سنا عالية وكان يسأل الله ولدا فأتاه يوما إنسان فبشره بولد ذكر فرفع يديه فحمد الله وأثنى عليه وقال الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل فاستفاد الحاضرون من ذلك عدة فوائد منها أنه قد ولد له على الكبر ولد ذكر بعد ما كان سأل الله عز و جل ومنها أنه سمى يوم مولده كما سمى رسول الله ( ص ) ولده إبراهيم يوم مولده قبل السابع ومنها اقتداؤه بالخليل أول ولد له إسماعيل موسى بن هارون بن عبدالله أبو عمران المعروف والده بالحمال ولد سنة أربع عشرة ومائتين وسمع أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهما وكان إمام عصره في حفظ الحديث ومعرفة الرجال وكان ثقة متقنا شديد الورع عظيم الهيبة قال عبدالغني بن سعيد الحافظ المصري كان أحسن الناس كلاما على الحديث أثنى عليه علي بن المديني ثم موسى بن هارون ثم الدارقطني
ثم دخلت سنة خمس وتسعين ومائتين
فيها كانت المفاداة بين المسلمين والروم وكان من جملة من استنقذ من أيدي الروم من نساء ورجال نحوا من ثلاثة آلاف نسمة وفي النصف من صفر منها كانت وفاة إسماعيل بن أحمد (11/103)
الساماني أمير خراسان وما وراء النهر وقد كان عاقلا عادلا حسن السيرة في رعيته حليما كريما وهو الذي كان يحسن إلى محمد بن نصر المروزي ويعظمه ويكرمه ويحترمه ويقوم له في مجلس ملكه فلما مات تولى بعده ولده أحمد بن إسماعيل بن أحمد الساماني وبعث إليه الخليفة تشريفة وقد ذكر الناس يوما عند إسماعيل بن أحمد هذا الفخر بالأنساب فقال إنما الفخر بالأعمال وينبغي أن يكون الإنسان عصاميا لا عظاميا أي ينبغي أن يفتخر بنفسه لا بنسبه وبلده وجده كما قال بعضهم وبجدي سموت لا بجدودي وقال آخر ... حسبي فخارا وشيمتي أدبي ... ولست من هاشم ولا العرب ... إن الفتى من يقول ها أنا ذا ... وليس الفتى من يقول كان أبي ... وفي ذي القعدة منها كانت وفاة الخليفة المكتفي بالله أبو محمد
وفاة الخليفة المكتفي بالله أبو محمد ابن المعتضد وهذه ترجمته وذكر وفاته
وهو أمير المؤمنين المكتفي بالله بن المعتضد بن الأمير أبي أحمد الموفق بن المتوكل على الله وقد ذكرنا أنه ليس من الخلفاء من اسمه على سواه بعد علي بن أبي طالب وليس من الخلفاء من يكنى بأبي محمد سوى الحسن بن علي بن أبي طالب وهو وكان مولده في رجب سنة أربع وستين ومائتين وبويع له بالخلافة بعد أبيه وفي حياته يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة بقيت من ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين وعمره نحوا من خمس وعشرين سنة وكان ربعة من الرجال جميلا رقيق الوجه حسن الشعر وافر اللحية عريضها ولما مات أبوه المعتضد وولي هو الخلافة دخل عليه بعض الشعراء فأنشده ... أجل الرزايا أن يموت إمام ... وأسنى العطايا أن يقوم إمام ... فأسقى الذي مات الغمام وجوده ... ودامت تحيات له ولاسلام ... وأبقى الذي قام الآله وزاده ... مواهب لا يفنى لهن دوام ... وتمت له الآمال واتصلت بها ... فوائد موصول بهن تمتم ... هو المكتفي بالله يكفيه كلما ... عناه بركن منه ليس برام ... فأمر له بجائزة سنية وقد كان يقول الشعر فمن ذلك قوله من لي بأن أعلم ما ألقى ... فتعرف مني الصبابة والعشقا ... ما زال لي عبدا وحبي له ... صيرني عبدا له رقا ... العتق من شأني ولكنني ... من حبه لا أملك العتقا (11/104)
وكان نقش خاتمه علي المتوكل على ربه وكان له من الولد محمد وجعفر وعبدالصمد وموسى وعبدالله وهارون والفضل وعيسى والعباس وعبدالملك وفي أيامه فتحت أنطاكية وكان فيها من أسارى المسلمين بشر كثير وجم غفير ولما حضرته الوفاة سأل عن أخيه أبي الفضل جعفر بن المعتضد وقد صح عنده أنه بالغ فأحضره في يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي القعدة منها وأحضر القضاة وأشهدهم على نفسه بأنه قد فوض أمر الخلافة إليه من بعده ولقبه بالمقتدر بالله وتوفي بعد ثلاثة أيام وقيل آخر يوم السبت بعد المغرب وقيل بين الظهر والعصر لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي القعدة ودفن في دار محمد بن عبدالله بن طاهر عن ثنتين وقيل ثلاث وثلاثين سنة وكانت خلافته ست سنين وستة أشهر وتسعة عشر يوما وأوصى بصدقة من خالص ماله ستمائة ألف دينار وكان قد جمعها وهو صغير وكان مرضه بداء الخنازير رحمه الله
خلافة المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن المعتضد
جددت له البيعة بعد موت أخيه وقت السحر لأربع عشرة ليلة خلت من ذي القعدة من هذه السنة أعني سنة خمس وتعسين ومائتين وعمره إذ ذاك ثلاث عشرة سنة وشهر واحد وإحدى وعشرون يوما ولم يل الخلافة أحد قبله أصغر منه ولما جلس في منصب الخلافة صلى أربع ركعات ثم سلم ورفع صوته بالدعاء والاستخارة ثم بايعه الناس بيعة العامة وكتب اسمه على الرقوم وغيرها المقتدر بالله وكان في بيت مال الخاصة خمسة عشر ألف ألف دينار وفي بيت مال العامة ستمائة ألف دينار ونيف وكانت الجواهر الثمينة في الحواصل من لدن بنى أمية وأيام بني العباس قد تناهى جمعها فما زال يفرقها في حظاياه وأصحابه حتى أنفذها وهذا حال الصبيان وسفهاء الولاة وقد استوزر جماعة من الكتاب يكثر تعدادهم منهم أبو الحسن علي بن محمد بن الفرات ولاه ثم عزله بغيره ثم أعاده ثم عزله ثم قتله وقد استقصى ذكرهم ابن الجوزي وكان له من الخدم والحشمة التامة والحجاب شيء كثير جدا وكان كريما وفيه عبادة مع هذا كله كان كثير الصلاة كثير الصيام تطوعا وفي يوم عرفة في أول ولايته فرق من الأغنام والأبقار ثلاثين ألف رأس ومن الإبل ألفي بعير ورد الرسوم والأرزاق والكلف إلى ما كانت عليه في زمن الأوائل من بني العباس وأطلق أهل الحبوس الذين يجوز إطلاقهم فوكل أمر ذلك إلى القاضي أبي عمر محمد بن يوسف وكان قد بنيت له أبنية في الرحبة صرف عليها في كل شهر ألف دينار فأمر بهدمها ليوسع على المسلمين الطرقات وسيأتي ذكر شيء من أيامه في ترجمته وفيها توفي من الأعيان
أبو إسحاق المزكي
إبراهيم بن محمد بن يحيى بن سختويه سختويه بن عبدالله أبو إسحاق المزكي الحافظ الزاهد إمام أهل (11/105)
عصره بنيسابور في معرفة الحديث والرجال والعلل وقد سمع خلقا من المشايخ الكبار ودخل على الإمام أحمد وذاكره وكان مجلسه مهيبا ويقال إنه كان مجاب الدعوة وكان لا يملك الإدارة التي يسكنها وحانوتا يستغله كل شهر سبعة عشر درهما ينفقها على نفسه وعياله وكان لا يقبل من أحد شيئا وكان يطبخ له الجزر بالخل فيأتدم به طول الشتاء وقد قال أبو علي الحسين بن علي الحافظ لم تر عيناي مثله
ابو الحسين النوري أحد أئمة الصوفية
اسمه أحمد بن محمد ويقال محمد بن محمد والأول أصح ويعرف بابن البغوي أصله من خراسان وحدث عن سرى السقطى ثم صار هو من أكابر أئمة القوم قال أبو أحمد المغازلي ما رأيت أحدا قط أعبد من أبي الحسين النوري قيل له ولا الجنيد قال ولا الجنيد ولا غيره وقال غيره صام عشرين سنة لا يعلم به أحد لا من أهله ولا من غيره وتوفي في مسجد وهو مقنع فلم يعلم به أحد إلا بعد أربعة أيام
إسماعيل بن أحمد بن سامان
أحد ملوك خراسان وهو الذي قتل عمرو بن الليث الصفار الخارجي وكتب بذلك إلى المعتضد فولاه خراسان ثم ولاه المكتفي الرى وما وراء النهر وبلاد الترك وقد غزا بلادهم وأوقع بهم بأسا شديدا وبنى الربط في الطرقات يسع الرباط منها آل فارس وأوقف عليهم أوقافا جزيلة وقد أهدى إليه طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث هدايا جزيلة منها ثلاث عشرة جوهرة زنة كل جوهرة منها ما بين السبع مثاقيل إلى العشرة وبعضها أحمر وبعضها أزرق قيمتها مائة ألف دينار فبعث بها إلى الخليفة المعتضد وشفع في طاهر فشفعه فيه ولما مات إسماعيل بن أحمد وبلغ المكتفي موته تمثل بقول أي نواس ... لن يخلف الدهر مثلهم أبدا ... هيهات هيهات شأنه عجب ...
المعمري الحافظ
صاحب عمل اليوم والليلة وهو الحسن بن علي بن شبيب أبو علي المعمري الحافظ رحل وسمع من الشيوخ وأدرك خلقا منهم علي بن المديني ويحيى بن معين وعنه ابن صاعد والنجاد والجلدي وكان من بحور العلم وحفاظ الحديث صدوقا ثبتا وقد كان يشبك أسنانه بالذهب من الكبر لأنه جاوز الثمانين وكان يكنى أولا بأبي القاسم ثم بأبي علي وقد ولي القضاء للبرتي على القصر وأعمالها وإنما قيل له المعمري بأمه أم الحسن بنت أبي سفيان صاحب معمر بن راشد وقد صنف المعمري كتابا جيدا في عمل يوم وليله واسمه الحسن بن علي بن شبيب أبو علي المعمري توفي ليلة الجمعة لإحدى عشرة ليلة بقيت من المحرم (11/106)
عبدالله بن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب واسم أبي شعيب عبدالله بن مسلم أبو شعيب الأموي الحراني المؤدب المحدث ابن المحدث تولد سنة ست وثمانين ومائتين سمع أباه وجده وعفان بن مسلم وأبا خيثمة كان صدوقا ثقة مأمونا توفي في ذي الحجة منها علي بن أحمد المكتفي بالله تقدم ذكره أبو جعفر الترمذي محمد بن محمد بن نصر أبو جعفر الترمذي الفقيه الشافعي كان من أهل العلم والزهد ووثقه الدارقطني كان مأمونا ناسكا وقال القاضي أحمد ابن كامل لم يكن لأصحاب الشافعي بالعراق أرأس منه ولا أورع كان متقلالا في المطعم على حالة عظيمة فقرا وورعا وصبرا وكان ينفق في كل شهر أربعة دراهم وكان لا يسأل احدا شيئا وكان قد اختلط في آخر عمره توفي المحرم منها
ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائتين
في ربيع الأول منها اجتمع جماعة من القواد والجند والأمراء على خلع المقتدر وتولية عبدالله ابن المعتز الخلافة فأجابهم على أنه لا يسفك بسببه دم وكان المقتدر قد خرج يلعب بالصولجان فقصد إليه الحسن بن حمدان يريد أن يفتك به فلما سمع المقتدر الصيحة بادر إلى دار الخلافة فأغلقها دون الجيش واجتمع الأمراء والاعيان والقضاة في دار المخرمي فبايعوا عبدالله بن المعتز وخوطب بالخلافة ولقب بالمرتضى بالله وقال الصولي إنما لقبوه المنتصف بالله واستوزر أبا عبيد الله محمد بن داود وبعث إلى المقتدر يأمره بالتحول من دار الخلافة إلى دار ابن طاهر لينتقل إليها فأجابه بالسمع والطاعة وركب الحسن بن حمدان من الغد لى دار الخلافة ليتسلمها فقاتله الخدم ومن فيها ولم ي يسلموها إليه وهزموه فلم يقدر على تخليص أهله وماله إلا بالجهد ثم ارتحل من فوره إلى الموصل وتفرق نظام ابن المعتز وجماعته فأراد ابن المعتز أن يتحول إلى سامرا لينزلها فلم يتبعه أحد من الأمراء فدخل دار ابن الجصاص فاستجار به فأجاره ووقع النهب في البلد واختبط الناس وبعث المقتدر إلى أصحاب ابن المعتز فقبض عليهم وقتل أكثرهم وأعاد ابن الفرات إلى الوزارة فجدد البيعة إلى المقتدر وأرسل إلى دار ابن الجصاص فتسلمها وأحضر ابن المعتز وابن الجصاص فصادر ابن الجصاص بمال جزيل جدا نحو ستة عشر ألف ألف درهم ثم أطلقه واعتقل ابن المعتز فلما دخل في ربيع الآخر ليلتان ظهر للناس موته وأخرجت جثته فسلمت إلى أهله فدفن وصفح المقتدر عن بقية من سعى في هذه الفتنة حتى لا تفسد نيات الناس قال ابن الجوزي ولا يعرف خليفة خلع ثم أعيد إلا الأمين والمقتدر وفي يوم السبت لأربع بقين من ربيع الأول سقط ببغداد ثلج عظيم حتى اجتمع على الأسطحة منه نحو أربعة أصابع وهذا غريب في بغداد جدا ولم تخرج السنة حتى خرج الناس يستسقون لأجل تأخر المطر عن إبانة (11/107)
وفي شعبان منها خلع على يونس الخادم وأمر بالمسير إلى طرسوس لأجل غزو الروم وفيها أمر المقتدر بأن لا يستخدم أحد من اليهود والنصارى في الدواوين وألزموا بلزومهم بيوتهم وأن يلبسوا المساحي ويضعوا بين أكتافهم رقاعا ليعرفوا بها وألزموا بالذل حيث كانوا وحج بالناس فيها الفضل ابن عبدالملك الهاشمي ورجع كثير من الناس من قلة الماء بالطريق وفيها توفي من الأعيان أحمد بن محمد بن زكريا بن أبي عتاب أبو بكر البغدادي الحافظ ويعرف بأخي ميمون روى عن نصر بن علي الجهضمي وغيره وروى عنه الطبراني وكان يمتنع من أن يحدث وإنما يسمع منه في المذاكرة توفي في شوال منها
أبو بكر الأثرم
أحمد بن محمد بن هاني الطائي الأثرم تلميذ الإمام أحمد سمع عفان وأبا الوليد والقعنبي وأبا نعيم وخلقا كثيرا وكان حافظا صادقا قوي الذاكرة كان ابن معين يقول عنه كان أحد ابويه جنيا لسرعة فهمه وحفظه وله كتب مصنفة في العلل والناسخ والمنسوخ وكان من بحور العلم
خلف بن عمرو بن عبدالرحمن بن عيسى
أبو محمد العكبري سمع الحديث وكان ظريفا وكان له ثلاثون خاتما وثلاثون عكازا يلبس في كل يوم من الشهر خاتما ويأخذ في يده عكازا ثم يستأنف ذلك في الشهر الثاني وكان له سوط معلق في منزله فإذا سئل عن ذلك قال ليرهب العيال منه
ابن المعتز الشاعر والخليفة
عبدالله بن المعتز بالله محمد بن المتوكل على الله جعفر بن المعتصم بالله محمد بن الرشيد يكنى أبو العباس الهاشمي العباسي كان شاعرا مطيقا فصيحا بليغا مطبقا وقريش قادة الناس في الخير ودفع الشر وقد سمع المبرد وثعلبا وقد روى عنه من الحكم وألاداب شيء كثير فمن ذلك قوله أنفاس الحي خطايا أهل الدنيا ركب يسار بهم وهو نيام ربما أورد الطمع ولم يصدر ربما شرق شارب الماء قبل ريه من تجاوز الكفاف لم يغنه الاكثار كلما عظم قدر المتنافس فيه عظمت الفجيعة به من ارتحله الحرص أضناه الطلب وروى انضاه الطلب أي أضعفه والأول معناه أمرضه الحرص نقص من قدر الإنسان ولا يزيد في حظه شيئا أشقى الناس أقربهم من السلطان كما أن أقرب الأشياء إلى النار أقربها حريقا من شارك السلطان في عز الدنيا شاركه في ذل الآخرة يكفيك من الحاسد أنه يغتم وقت سرورك الفرضة سريعة الفوت بعيدة العود الاسرار إذا كثرت خزانها ازدادت ضياعا العزل نصحك من تيه الولاة الجزع أتعب من الصبر لا تشن وجه العفو بالتقريع تركه الميت عز للورثة وذل له إلى غير ذلك من كلامه وحكمه ومن شعره مما يناسب المعنى قوله (11/108)
بادر إلى مالك ورثه ... ما المرء في الدنيا بلباث ... كم جامع يخنق أكياسه ... قد صارفي ميزان ميراث ... وله أيضل ياذا الغنى والسطوة القاهرة ... والدولة الناهية الآمرة ... ويا شياطين بنى آدم ... ويا عبيد الشهوة الفاجرة ... انتظرو الدنيا وقد أدبرت ... وعن قليل تلد الآخرة ... وله أيضا ... ابك يانفس وهاتى ... توبة قبل الممات ... قبل أن يفجعنا الده ... ر ببين وشتات ... لا تخونينى إذا مت ... * وقامت بى نعاتى ... إنما الوفى بعهدى ... * من وفي بعد وفاتي ... قال الصولي نظر ابن المعتز في حياة أبيه الخليفة إلى جارية فأعجبته فمرض من حبها فدخل أبوه عليه عائدا فقال له كيف تجدك فأنشأ يقول ... أيها العاذلون لا تعذلوني ... وانظروا حسن وجهها تعذروني ... وانظروا هل ترون أحسن منها ... إن رأيتم شبيهها فاعذلوني ... قال ففحص الخليفة عن القصة واستعلم خبر الجارية ثم بعث إلى سيدها فشتراها منه بسبعة آلاف دينار وبعث بها إلى ولده وقد تقدم أن في ربيع الأول من هذه السنة اجتمع الأمراء والقضاة على خلع المقتدر وتولية عبد الله بن المعتز هذا ولقب بالمرتضى والمنتصف بالله فما مكث بالخلافة إلا يوما أو بعض يوم ثم انتصر المقتدر وقتل غالب من خرج عليه واعتقل ابن المعتز عنده في الدار ووكل به يونس الخادم فقتل في أوائل ربيع الآخر لليلتين خلتا منه ويقال إنه أنشد في آخر يوم من حياته وهو ... يانفس صبرا لعل الخبر عقباك ... خانتك من بعد طول الأمن دنياك ... مرت بنا سحرا طير فقلت لها * ... طوباك ياليتنى إياك طوباك ... إن كان قصيدك شرقا فالسلام على ... شاطى الصراة أبلغي إن كان مسراك ... من موثق بالمنايا لا فكاك له ... يبكى الدماء على إلف له باكى ... فرب آمنة جاءت منيتها ... ورب مفلتة من بين أشراك ... أظنه آخر اليام من عمرى ... وأوشك اليوم أن يبكى لي الباكى ...
ولما قدم ليقتل أنشأ يقول
... فقل للشامتين بنا رويدا ... أمامكم المصائب والخطوب (11/109)
هو الدهر لا بد من أن ... يكون إليكم منه ذنوب ... ثم كان ظهور قتله لليلتين من ربيع الآخر منها وقد ذكرله ابن خلكان مصنفات كثيرة منها طبقات الشعراء وكتاب أشعار الملوك وكتاب الآداب وكتاب البديع وكتاب في الغناء وغير ذلك وذكر أن طائفة من الأمراء خلعوا المقتدر وبايعوه بالخلافة يوما وليلة ثم تمزق شمله واختفى في بيت ابن الجصاص الجوهرى ثم ظهر عليه فقتل وصودر ابن الجصاص بألفي دينار وبقي معه ستمائة ألف دينار وكان ابن المعتز أسمر اللون مدور الوجه يخضب بالسواد عاش خمسين سنة وذكر شيئا من كلامه وأشعاره رحمه الله
محمد بن الحسين بن حبيب
أبو حصين الوادعى القاضى صاحب المسند من أهالي الكوفة قدم بغداد وحدث بها عن أحمد بن يونس اليربوعى ويحيى بن عبد الحميد وجندل بن والق وعنه ابن صاعد والنجاد والمحاملى قال الدار قطني كان ثقة توفى بالكوفة محمد بن داود بن الجراح أبو عبد الله الكاتب عم الوزير علي بن عيسى كان من أعلم الناس بالأخبار وأيام الخلفاء له مصنفات في ذلك روى عن عمر بن شيبة وغيره كانت وفاته في ربيع الأول منها عن ثلاث وخمسين سنة
ثم دخلت سنة سبع وتسعين ومائتين
فيها غزا القاسم بن سيما الصائفة وفادى يونس الخادم الأسارى الذين بأيدي الروم وحكى ابن الجوزي عن ثابت بن سنان أنه رأى في أيام المقتدر ببغداد امرأة بلا ذراعين ولا عضدين إنما كفاها ملصقان بكتفيها لاتسطيع أن تعمل بهما شيئا وإنما كانت تعمل برجليها ما تعمله النساء بأيديهن الغزل والفتل ومشط الرأس وغير ذلك وفيها تأخرت الأمطار عن بغداد وارتفعت الأسعار بها وجاءت الأخبار بأن مكة جاءها سيل عظيم غرق أركان البيت وفاضت زمزم ولم ير ذلك قبل هذه السنة وحج بالناس الفضل الهاشمي وفيها توفى من الأعيان
محمد بن داود بن علي
أبو بكر الفقيه ابن الفقيه الظاهرى كان عالما بارعا أديبا شاعرا فقيها ماهرا له كتاب الزهرة اشتغل على أبيه وتبعه في مذهبه ومسلكه وما اختاره من الطرائق وارتضاه وكان أبوه يحبه ويقربه ويدنيه قال رويم بن محمد كنا يوما عند داود إذ جاء ابنه هذا باكيا فقال مالك فقال إن الصيبا يلقبونني عصفور الشوك فضحك أبوه فاشتد غضب الصبى وقال لأبيه أنت أضر علي 2 منهم فضمه أبوه إليه وقال لا إله إلا الله ما الألقاب إلا من السماء ما أنت يابنى إلا عصفور الشوك ولما توفى أبوه أجلس في مكانه في الحلقة فاستصغره الناس عن ذلك فسأله سائل يوما عن حد السكر (11/110)
فقال إذا غربت عنه الفهوم وباح بسره المكتوم فاستحسن الحاضرون منه ذلك وعظم في أعين الناس قال ابن الجوزي في المنتظم وقد ابتلي بحب صبى اسمه محمد بن جامع ويقال محمد بن زحرف فاستعمل العفاف والدين في حبه ولم يزل ذلك دأبه فيه حتى كان سبب وفاته في ذلك قلت فدخل في الحديث المروي عن ابن عباس موقوفا عليه ومرفوعا عنه ( من عشق فكتم فعف فمات مات شهيدا ) وقد قيل عنه إنه كان يبيح العشق بشرط العفاف وحكى هو عن نفسه أنه لم يزل يتعشق منذ كان في الكتاب وأنه صنف كتاب الزهرة في ذلك من صغره ورد ما وقف أبوه داود على بعض ذلك وكان يتناظر هو وأبو العباس بن شريح كثيرا بحضرة القاضي أبي عمر محمد بن يوسف فيعجب الناس من مناظرتهما وحسنها وقد قال له ابن شريح يوما في مناظرته أنت بكتاب الزهرة أشهر منك بهذا فقال له تعيرنى بكتاب الزهرة وأنت لا تحسن تشتم قراءته وهو كتاب جمعناه هزلا فاجمع أنت مثله جدا وقال القاضي أبوعمر كنت يوماأنا وأبوبكر بن داود راكبين فإذا جارية تغنى بشئ من شعره ... أشكو إليك فؤادا أنت متلفه ... شكوى عليل إلى إ لف يعلله ... سقمي تزيد على الأيام كثرته ... وأنت في عظم ما ألقى تقلله ... ألله حرم قتلى في الهوى أسفا ... وأنت ياقاتلي ظلما تحلله ...
فقال أبو بكر كيف السبيل إلى استرجاع هذا فقلت هيهات ساربة الركبان كانت وفاة محمد بن داود رحمه الله في رمضان من هذه السنة وجلس ابن شريح لعزاه وقال ما أثني إلا على التراب الذى أكل لسان محمد بن داود رحمه الله
محمد بن عثمان بن أبي شيبة
أبو جعفر حدث عن يحيى بن معين وعلي بن المديني وخلق وعنه ابن صاعد والخلدى والباغندى وغيرهم وله كتاب في التاريخ وغيره من المصنفات وقد وثقه صالح بن محمد جزرة وغيره وكذبه عبدالله بن الإمام أحمد وقال هو كذاب بين الأمر وتعجب ممن يروي عنه توفى في ربيع الأول منها محمد بن طاهر بن عبد الله بن الحسن بن مصعب من بيت الامارة والحشمة باشر نيابة العراق مدة ثم خراسان ثم ظفر به يعقوب بن الليث في سنة ثمان وخمسين فأسره وبقى معه يطوف به الآفاق أربع سنين ثم تخلص منه في بعض الوقعات ونجا بنفسه ولم يزل مقيما ببغداد إلى أن توفى في هذه السنة
موسى بن إسحاق
ابن موسى بن عبد الله أبو بكر الأنصارى الخطمى مولده سنة عشر ومائتين
سميع أباه وأحمد ابن حنبل وعلي بن الجعد وغيرهم وحدث عنه الناس وهو شاب وقرأوا عليه القرآن وكان ينتحل (11/111)
مذهب الشافعي وولى قضاء الأهواز وكان ثقة فاضلا عفيفا فصيحاكثير الحديث توفى في المحرم منها
يوسف بن يعقوب
ابن إسماعيل بن حماد بن زيد والد القاضى أبى عمر وهو الذى قتل الحلاج كان يوسف هذا من أكابر العلماء وأعيانهم ولد سنة ثمان ومائتين وسمع سليمان بن حرب وعمرو بن مرزوق وهدبة ومسددا وكان ثقة ولي قضاء البصرة وواسط والجانب الشرقى من بغداد وكان عفيفا شديد الحرمة نزها جاءه يوما بعض خدم الخليفة المعتضد فترفع في المجلس على خصمه فأمره حاجب القاضى أن يساوى خصمه فامتنع إدلالا بجاهه عند الخليفة فزبره القاضى وقال ائتونى بدلال النخس حتى أبيع هذا العبد وأبعث بثمنه إلى الخليفة وجاء حاجب القاضي فأخذه بيده وأجلسه مع خصمه فلما انقضت الحكومة رجع الخادم إلى المعتضد فبكى بين يديه فقال له مالك فأخبره بالخبر وما أراد القاضى من بيعه فقال والله لو باعك لأجزت بيعه ولما استرجعتك أبدا فليس خصوصيتك عندي تزيل مرتبة الشرع فإنه عمود السلطان وقوام الأديان كانت وفاته في رمضان منها
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ومائتين
فيها قدم القاسم بن سيما من بلاد الروم فدخل بغداد ومعه الأسارى والعلوج بأيديهم أعلام عليها صلبان من الذهب وخلق من الأسارى وفيها قدمت هدايا نائب خراسان أحمد بن إسماعيل ابن أحمد السامانى من ذلك مائة وعشرون غلاما بحرابهم وأسلحتهم وما يحتاجون إليه وخمسون بازا وخمسون جملا تحمل من مرتفع الثياب وخمسون رطلا من مسك وغير ذلك وفيها فلج القاضي عبد الله بن علي بن محمد بن عبد الملك بن أبى الشوارب فقلد مكانه على الجانب الشرقى والكرخ ابنه محمد وفيها في شعبان أخذ رجلان يقال لأحدهما أبو كبيرة والآخر يعرف بالسمري فذكروا أنهما من أصحاب رجل يقال له محمد بن بشر وأنه يدعى الربوبية وفيها وردت الأخبار بأن الروم قصدت اللاذقية وفيها وردت الأخبار بأن ريحا صفراء هبت بمدينة الموصل فمات من حرها بشر كثير وفيها حج بالناس الفضل الهاشمى وفيها توفى من الأعيان
ابن الراوندي
أحد مشاهير الزنادقة كان أبوه يهوديا فأظهر الإسلام ويقال إنه حرف التوراة كما عادى ابنه القرآن بالقرآن وألحد فيه وصنف كتابا في الرد على القرآن سماه الدامغ وكتابا في الرد على الشريعة والإعتراض عليها سماه الزمردة وكتابا يقال له التاج في معنى ذلك وله كتاب الفريد وكتاب إمامة المفضول الفاضل وقد انتصب للرد على كتبه هذه جماعة منهم الشيخ أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائى شيخ المعتزلة في زمانه وقد أجاد في ذلك وكذلك ولده أبو هاشم عبد السلام (11/112)
ابن أبى على قال الشيخ أبو علي قرأت كتاب هذا الملحد الجاهل السفيه ابن الراوندى فلم أجد فيه إلا السفه والكذب والافتراء قال وقد وضع كتابا في قدم العالم ونفى الصانع وتصحيح مذهب الدهرية والرد على أهل التوحيد ووضع كتابا في الرد على محمد رسول الله ( ص ) في سبعة عشر موضعا ونسبه إلى الكذب يعنى النبى ( ص ) وطعن على القرآن ووضع كتابا لليهود والنصارى وفضل دينهم على المسلمين والإسلام يحتج لهم فيها على إبطال نبوة محمد ( ص ) إلى غير ذلك من الكتب التي تبين خروجه عن الإسلام نقل ذلك ابن الجوزي عنه وقد أورد ابن الجوزى في منتظمه طرفا من كلامه وزندقته وطعنه على الآيات والشريعة ورد عليه في ذلك وهو أقل وأخس وأذل من أن يلتفت إليه وإلى جهله وكلامه وهذيانه وسفهه وتمويهه وقد أسند إليه حكايات من المسخرة والاستهتار والكفر والكبائر منها ماهو صحيح عنه ومنها ماهو مفتعل عليه ممن هو مثله وعلى طريقته ومتسلكه في الكفر والتستر في المسخرة يخرجونها في قوالب مسخرة وقلوبهم مشحونة بالكفر والزندقة وهذا كثير موجود فيمن يدعى الإسلام وهو منافق يتمسخرون بالرسول ودينه وكتابه وهؤلاء ممن قال الله تعالى فيهم ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم الآية وقد كان أبو عيسى الوارق مصاحبا لابن الراوندى قبحهما الله فلما علم الناس بأمرهما طلب السلطان أبا عيسى فأودع السجن حتى مات وأما ابن الراوندي فهرب فلجأ إلى ابن لاوي اليهودي وصنف له في مدة مقامه عنه كتابه الذى سماه ( الدامغ للقرآن ) فلم يلبث بعده إلا أياما يسيرة حتى مات لعنه الله ويقال إنه أخذ وصلب قال أبو الوفاء بن عقيل ورأيت في كتاب محقق أنه عاش ستا وثلاثين سنة مع ما انتهى إليه من التوغل في المخازي في هذا العمر القصير لعنه الله وقبحه ولا رحم عظامه وقد ذكره ابن خلكان في الوفيات وقلس عليه ولم يخرجه بشىء ولا كأن الكلب أكل له عجينا على عادته في العلماء والشعراء فالشعراء يطيل تراجمهم والعلماء يذكر لهم ترجمة يسيرة والزنادقة يترك ذكر زندقتهم وأرخ ابن خلكان تاريخ وفاته في سنة خمس وأربعين ومائتين وقد وهم وهما فاحشا والصحيح أنه توفى في هذه السنة كما أرخه ابن الجوزى وغيره وفيها توفي
الجنيد بن محمد بن الجنيد
أبو القاسم الخزاز ويقال له القواريري أصله من نهاوند ولد ببغداد ونشأ بها وسمع الحديث من الحسين بن عرفة وتفقه بأبى ثور إبراهيم بن خالد الكلبي وكان يفتي بحضرته وعمره عشرون سنة وقد ذكرناه في طبقات الشافعية واشتهر بصحبة الحارث المحاسبي وخاله سرى السقطى (11/113)
ولازم التعبد ففتح الله عليه بسبب ذلك علوما كثيرة وتكلم على طريقة الصوفية وكان ورده في كل يوم ثلثمائة ركعة وثلاثين ألف تسبيحة ومكث أربعين سنة لا يأوى إلى فراش ففتح عليه من العلم النافع والعمل الصالح بأمور لم تحصل لغيره في زمانه وكان يعرف سائر فنون العلم وإذا أخذ فيها لم يكن له فيها وقفة ولا كبوة حتى كان يقول في المسألة الواحدة وجوها كثيرة لم تخطر للعلماء ببال وكذلك في التصوف وغيره ولما حضرته الوفاة جعل يصلي ويتلو القرآن فقيل له لورفقت بنفسك في مثل هذا الحال فقال لا أحد أحوج إلى ذلك منى الآن وهذا أوان طى صحيفتى قال ابن خلكان أخذ الفقه عن أبي ثور ويقال كان يتفقه على مذهب سفيان الثورى وكان ابن سريح يصحبه ويلازمه وربما استفاد منه أشياء في الفقه لم تخطر له ببال ويقال إنه سأله مرة عن مسألة فأجابه فيها بجوابات كثيرة فقال يا أبا القاسم ألم أكن أعرف فيها سوى ثلاثة أجوبة مما ذكرت فأعدها علي فأعادها بجوابات أخرى كثيرة فقال والله ما سمعت هذا قبل اليوم فأعده فأعاده بجوابات أخرى غير ذلك فقال له لم أسمع بمثل هذا فأمله علي حتى أكتبه فقال الجنيد لئن كنت أجريه فأنا أمليه اى إن الله هو الذى يجري ذلك على قلبي وينطق به لساني وليس هذا مستفاد من كتب ولا من تعلم وإنما هذا من فضل الله عز و جل يلهمنيه ويجريه على لساني فقال فمن أين استفدت هذا العلم قال من جلوسي بين يدي الله أربعين سنة والصحيح أنه كان على مذهب سفيان الثوري وطريقه والله أعلم وسئل الجنيد عن العارف
فقال من نطق عن سرك وأنت ساكت وقال مذهبنا هذا مقيد بالكتاب والسنة فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في مذهبنا وطريقتنا ورأى بعضهم معه مسبحة فقال له أنت مع شرفك تتخذ مسبحة فقال طريق وصلت به إلى الله لا أفارقه وقال له خاله السري تكلم على الناس فلم ير نفسه موضعا فرأى في المنام رسول الله ( ص ) فقال له تكلم على الناس فغدا على خاله فقال له لم تسمع منى حتى قال لك رسول الله ( ص ) فتكلم على الناس فجاءه يوما شاب نصراني في صورة مسلم فقال له يا أبا القاسم ما معنى قول النبي ( ص ) ( اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ) فأطرق الجنيد ثم رفع رأسه إليه وقال أسلم فقد آن لك أن تسلم قال فأسلم الغلام وقال الجنيد ما انتفعت بشيء انتفاعي بأبيات سمعتها من جارية تغني بها في غرفة وهي تقول
... إذا قلت أهدى الهجر لي حلل البلى ... تقولين لولا الهجر لم يطب الحب ... وإن قلت هذا القلب أحرقه الجوى ... تقولين لي إن الجوى شرف القلب (11/114)
وإن قلت ما أذنبت قالت مجيبة ... حياتك ذنب لايقاس به ذنب ... قال فصعقت وصحت فخرج صاحب الدار فقال ياسيدي مالك قلت مما سمعت قال هي هبة مني إليك فقلت قد قبلتها وهي حرة لوجه الله ثم زوجتها لرجل فأولدها ولدا صالحا حج على قدميه ثلاثين حجة وفيها توفى
سعيد بن إسماعيل بن سعيد بن منصور أبو عثمان الواعظ
ولد بالرى ونشأ بها ثم انتقل إلى نيسابور فسكنها إلى أن مات بها وقد دخل بغداد وكان يقال إنه مجاب الدعوة قال الخطيب أخبرنا عبد الكريم بن هوازن قال سمعت أبا عثمان يقول منذ أربعين سنة ما أقامني الله في حالة فكرهتها ولا نقلني إلى غيرها فسخطتها وكان أبو عثمان ينشد ... أسأت ولم أحسن وجئتك هاربا ... وأين لعبد عن مواليه مهرب ... يؤمل غفرانا فإن خاب ظنه ... فما أحد منه على الأرض أخيب ... وروى الخطيب أنه سئل أي أعمالك أرجى عندك فقال إني لما ترعرعت وأنا بالرى وكانوا يريدونني على التزويج فأمتنع فجائتني امرأة فقالت يا أبا عثمان قد أحببتك حبا أذهب نومي وقراري وأنا أسألك بمقلب القلوب وأتوسل به إليه لما تزوجتني فقلت ألك والد فقالت نعم فأحضرته فاستدعى بالشهود فتزوجتها فلما خلوت بها إذا هي عوراء عرجاء شوهاء مشوهة الخلق فقلت اللهم لك الحمد على ما قدرته لي وكان أهل بيتي يلومونني على تزويجي بها فكنت أزيدها برا وإكراما وربما احتبستني عندها ومنعتني من الحضور إلى بعض المجالس وكأني كنت في بعض أوقاتي على الجمر وأنا لا أبدي لها من ذلك شيئا فمكثت كذلك خمس عشرة سنة فما شيء أرجى عندي من حفظي عليها ما كان في قلبها من جهتي وفيها توفي
سمنون بن حمزة
ويقال ابن عبدالله أحد مشايخ الصوفية كان ورده في كل يوم وليلة خمسمائة ركعة وسمى نفسه سمنونا الكذاب لقوله ... فليس لي في سواك حظ ... فكيفما شئت فامتحني ... فابتلي بعسر البول فكان يطوف على المكاتب ويقول للصبيان ادعوا لعمكم الكذاب وله كلام متين في المحبة ووسوس في آخر عمره وله كلام في المحبة مستقيم وفيها توفي
صافي الحربي
كان من أكابر أمراء الدولة العباسية أوصى في مرضه أن ليس له عند غلامه القاسم شيء فلما مات حمل غلامه القاسم إلى الوزير مائة ألف دينار وسبعمائة وعشرين منطقة من الذهب مكللة فاستمروا به على إمرته ومنزلته (11/115)
إسحاق بن حنين بن إسحاق
أبو يعقوب العبادي نسبه إلى قبائل الجزيرة الطبيب بن الطبيب له ولأبيه مصنفات كثيرة في هذا الفن وكان أبوه يعرب كلام إرسططا ليس وغيره من حكماء اليونان توفي في هذه السنة
الحسين بن أحمد بن محمد بن زكريا
أبو عبدالله الشيعي الذي أقام الدعوة للمهدي وهو عبدالله بن ميمون الذي يزعم أنه فاطمي وقد زعم غير واحد من أهل التاريخ أنه كان يهوديا صباغا بسلمية والمقصود الآن أن انتزع الملك من يد أبي نصر زيادة الله آخر ملوك بني الأغلب على بلاد إفريقية واستدعى حينئذ مخذومه المهدى من بلاد المشرق فقدم فلم يخلص إليه إلا بعد شدائد طوال وحبس في أثناء الطريق فاستنقذه هذا الشيعي وسلمه من الهلكة فندمه أخوه أحمد وقال له ماذا صنعت وهلا كنت استبددت بالأمر دون هذا فندم وشرع يعمل الحيلة في المهدي فاستشعر المهدي بذلك فدس إليهما من قتلهما في هذه السنة بمدينة رقادة من بلاد القيروان من إقليم إفريقية هذا ملخص ما ذكره ابن خلكان
ثم دخلت سنة تسع وتسعين ومائتين
قال ابن الجوزي وفيها ظهرت ثلاث كواكب مذنبة أحدها في رمضان واثنان في ذي القعدة تبقى أياما ثم تضمحل وفيها وقع طاعون بأرض فارس مات فيه سبعة آلاف إنسان وفيها غضب الخليفة على الوزير علي بن محمد بن الفرات وعزله عن الوزارة وأمر بنهب داره فنهبت أقبح نهب واستوزر أبا علي محمد بن عبدالله بن يحيى بن خاقان وكان قد التزم لأم ولد المعتضد بمائة ألف دينار حتى سعت في ولايته وفيها وردت هدايا كثيرة من الأقاليم من ديار مصر وخراسان وغيرها من ذلك خمسمائة ألف دينار من مصر استخرجت من كنز وجد هناك من غير موانع كما يدعيه كثير من جهلة العوام وغيرهم من ضعيفي الأحلام مكرا وخديعة ليأكلوا أموال الطغام والعوام أهل الطمع والآثام وقد وجد في هذا الكنز ضلع إنسان طوله أربعة أشبار وعرضه شبر وذكر أنه من قوم عاد فالله أعلم وكان من جملة هدية مصر تيس له ضرع يحلب لبنا ومن ذلك بساط أرسله ابن أبي الساج في جملة هداياه طوله سبعون ذراعا وعرضه ستون ذراعا عمل في عشر سنين لا قيمة له وهدايا فاخرة أرسلها أحمد بن إسماعيل بن أحمد الساماني من بلاد خراسان كثيرة جدا وحج بالناس فيها الفضل بن عبدالملك العباسي أمير الحجيج من مدة طويلة وفيها توفي من الأعيان (11/116)
أحمد بن نصر بن إبراهيم أبو عمرو الخفاف
الحافظ كان يذاكر بمائة ألف حديث سمع إسحاق بن راهويه وطبقته وكان كثير الصيام سرده نيفا وثلاثين سنة وكان كثير الصدقة سأله سائل فأعطاه درهمين فحمد الله فجعلها خسمة فحمد الله فجعلها عشرة ثم ما زال يزيده ويحمد السائل الله حتى جعلها مائة فقال جعل الله عليك واقية باقية فقال للسائل والله لو لزمت الحمد لأزيدنك ولو إلى عشرة آلاف درهم
البهلول بن إسحاق بن البهلول
ابن حسان بنم سنان أبو محمد التنوخي سمع إسماعيل بن أبي أويس وسعيد بن منصور ومصعبا الزبيري وغيرهم وعنه جماعة آخرهم أبو بكر الإسماعيلي الجرجاني الحافظ وكان ثقة حافظا ضابطا بليغا فصيحا في خطبه توفي فيها عن خمس وتسعين سنة
الحسين بن عبدالله بن أحمد أبو علي الخرقي
صاحب المختصر في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل كان خليفة للمروذي توفي يوم عيد الفطر ودفن عند قبر الإمام أحمد بن حنبل
محمد بن إسماعيل أبو عبدالله المغربي
حج على قدميه سبعا وتسعين حجة وكان يمشي في الليل المظلم حافيا كما يمشي الرجل في ضوء النهار وكان المشاة يأتمون به فيرشدهم إلى الطريق وقال ما رأيت ظلمة منذ سنين كثيرة وكانت قدماه مع كثرة مشيه كأنهما قدما عروس مترفة وله كلام مليح نافع ولما مات أوصى أن يدفن إلى جانب شيخه علي بن رزين فهما على جبل الطور قال أبو نعيم كان أبو عبدالله المغربي من المعمرين توفي عن مائة وعشرين سنة وقبره بجبل طور سينا عند قبر أستاذه علي بن رزين قال أبو عبدالله أفضل الأعمال عمارة الأوقاف وقال الفقير هو الذي لا يرجع إلى مستند في الكون غير الإلتجاء إلى من إليه ليعينه بالاستعانة كما عزره بالافتقار إليه وقال أعظم الناس ذلا فقير داهن غنياء وتواضع له وأعظم الناس عزا غنى تذلل لفقير أو حفظ حرمته
محمد بن أبي بكر بن أبي خيثمة
أبو عبدالله الحافظ بن الحافظ كان أبوه يستعين به في جمع التاريخ وكان فهما حاذقا حافظا توفي في ذي القعدة منها
محمد بن أحمد بن كيسان النحوي
أحد حفاظه والمكثرين منه كان يحفظ طريقة البصريين والكوفيين معا قال ابن مجاهد كان ابن كيسان أنحى من الشيخين المبرد وثعلب (11/117)
محمد بن يحيى
أبو سعيد سكن دمشق روى عن إبراهيم بن سعد الجوهري وأحمد بن منيع وابن أبي شيبة وغيرهم روى عنه أبو بكر النقاش وغيره وكان محمد بن يحيى هذا يدعى بحامل كفنه وذلك ما ذكره الخطيب قال بلغني أنه توفي فغسل وكفن وصلى عليه ودفن فلما كان الليل جاء نباش ليسرق كفنه ففتح عليه قبره فلما حل عنه كفنه استوى جالسا وفر النباش هاربا من الفزع ونهض محمد بن يحيى هذا فأخذ كفنه معه وخرج من القبر وقصد منزله فوجد أهله يبكون عليه فدق عليهم الباب فقالوا من هذا فقال أنا فلان فقالوا يا هذا لا يحل لك أن تزيدنا حزنا إلى حزننا فقال افتحو والله أنا فلان فعرفوا صوته فلما رأوه فرحوا به فرحا شديدا وأبدل الله حزنهم سرورا ثم ذكر لهم ما كان من أمره وأمر النباش وكأنه قد أصابته سكتة ولم يكن قد مات حقيقة فقدر الله بحوله وقوته أن بعث له هذا النباش ففتح عليه قبره فكان ذلك سبب حياته فعاش بعد ذلك عدة سنين ثم كانت وفاته في هذه السنة
فاطمة القهرمانية
غضب عليها المقتدر مرة فصادرها وكان في جملة ما أخذ منها مائتي ألف دينار ثم غرقت في طيارة لها في هذه السنة
ثم دخلت سنة ثلثمائة من الهجرة
فيها كثر ماء دجلة وتراكمت الأمطار ببغداد وتناثرت نجوم كثيرة في ليلة الأربعاء لسبع بقين من جمادى الآخرة وفيها كثرت الأمراض ببغداد والأسقام وكلبت الكلاب حتى الذئاب بالبادية وكانت تقصد الناس بالنهار فمن عضته أكلبته وفيها انحسر جبل بالدينور يعرف بالتل فخرج من تحته ماء عظيم غرق عدة من القرى وفيها سقطت شرذمة أي قطعة من جبل لبنان إلى البحر وفيها حملت بغلة ووضعت مهرة وفيها صلب الحسين بن منصور الحلاج وهو حي أربعة أيام يومين في الجانب الشرقي ويومين في الجانب الغربي وذلك في ربيع الأول منها وحج بالناس أمير الحجيج المتقدم ذكره في السنين قبلها وهو الفضل بن عبد الملك الهاشمي العباسي أثابه الله وتقبل منه وفيها توفي من الأعيان
الأحوص بن الفضل
ابن معاوية بن خالد بن غسان أبو أمية الغلابي القاضي بالبصرة وغيرها روى عن أبيه التاريخ استتر مرة عنده ابن الفرات فلما أعيد إلى الوزارة ولاه قضاء البصرة والأهواز وواسط وكان عفيفا نزها فلما نكب ابن الفرات قبض عليه نائب البصرة فأودعه السجن فلم يزل به حتى مات فيه فيها قال ابن الجوزي ولا نعلم قاضيا مات في السجن سواه (11/118)
عبيد الله بن عبدالله بن طاهر
ابن الحسين بن مصعب أبو أحمد الخزاعي ولي إمرة بغداد وحدث عن الزبير بن بكار وعنه الصولي والطبراني وكان أديبا فاضلا ومن شعره ... حق التنائي بين أهل الهوى ... تكاتب يسخن عين النوى ... وفي التداني لا انقضى عمره ... تزاور يشفى غليل الجوى ... واتفق له مرة أن جارية له مرضت فاشتهت ثلجا وكان حظية عنده فلم يوجد الثلج إلا عند رجل فساومه وكيله على رطل منه فامتنع من بيعه إلا كل رطل بالعراقي بخمسة آلاف درهم وذلك لعلم صاحب الثلج بحاجتهم إليه فرجع الوكيل ليشاوره فقال ويحك اشتره ولو بما عساه أن يكون فرجع إلى صاحب الثلج فقال لا أبيعه إلا بعشرة آلاف فاشتراه بعشرة آلاف ثم اشتهت الجارية ثلجا أيضا وذلك لموافقته لها فرجع فاشترى منه رطلا آخر بعشرة آلاف ثم آخر بعشرة آلاف وبقي عند صاحب الثلج رطلان فنطفت نفسه إلى أكل رطل منه ليقول أكلت رطلا من الثلج بعشرة آلاف فأكله وبقي عنده رطل فجاءه الوكيل فامتنع أن يبيعه الرطل إلا بثلاثين ألفا فاشتراه منه فشفيت الجارية وتصدقت بمال جزيل فاستدعى سيدها صاحب الثلج فأعطاه من تلك الصدقة مالا جزيلا فصار من أكثر الناس مالا بعد ذلك واستخدمه ابن طاهر عنده والله أعلم وومن توفي في حدود الثلثمائة من الهجرة
الصنوبري الشاعر
وهو محمد بن أحمد بن محمد بن مراد أبو بكر الضبي الصنوبري الحنبلي قال الحافظ ابن عساكر كان شاعرا محسنا وقد حكى عن علي بن سليمان الأخفش ثم ذكر أشياء من لطائف شعره فمن ذلك قوله ... لا النوم أدرى به ولا الأرق ... يدري بهذين من به رمق ... إن دموعي من طول ما استبقت ... كلت فما تستطيع تستبق ... ولي ملك لم تبد صورته ... مذ كان إلا صلت له الحدق ... نويت تقبيل نار وجنته ... وخفت أدنو منها فأحترق ...
وله أيضا
... شمس غدا يشبه شمسا غدت ... وخدها في النور من خده ... تغيب في فيه ولكنها ... من بعد ذا تطلع في خده (11/119)
وقد روى الحافظ البيهقي عن شيخه الحاكم عن أبي الفضل نصر بن محمد الطوسي قال أنشدنا أبو بكر الصنوبري فقال ... هدم الشيب ما بناه الشباب ... والغواني ما عصين خضاب ... قلب الآبنوس عاجا ... فللأعين منه والقلوب انفلاب ... وضلال في الرأي أن يشنأ ال ... بازي على حسنه ويهوى الغراب ... وله أيضا وقد أورده ابن عساكر في ابن له فطم فجعل يبكي على ثديه ... منعوه أحب شيء 2 إليه ... من جميع الورى ومن والديه ... منعوه غذاه ولقد كان ... مباحا له وبين يديه ... عجبا له على صغر السن ... هوى فاهتدى الفراق إليه ...
إبراهيم بن أحمد بن محمد
ابن المولد أبو إسحاق الصوفي الواعظ الرقي أحد مشايخها روى الحديث وصحب أبا عبدالله ابن الجلاء الدمشقي والجنيد وغير واحد وروى عنه تمام بن محمد وأبو عبدالرحمن السلمي وقد أورد ابن عساكر من شعره قوله ... لك مني على البعاد نصيب ... لم ينله على الدنو حبيب ... وعلى الطرف من سواك حجاب ... وعلى القلب من هواك رقيب ... زين في ناظري هواك وقلبي ... والهوى فيه رائع ومشوب ... كيف يغني قرب الطبيب عليلا ... أنت أسقمته وأنت الطبيب ... وقوله ... الصمت آمن من كل نازلة ... من ناله نال أفضل الغنم ... ما نزلت بالرجال نازلة ... أعظم ضرا من لفظة نعم ... عثرة هذا اللسان مهلكة ... ليست لدينا كعثرة القدم ... احفظ لسانا يلقيك في تلف ... فرب قول أذل ذا كرم ...
ثم دخلت سنة إحدى وثلثمائة
فيها غزا الحسين بن حمدان الصائفة ففتح حصونا كثيرة من بلاد الروم وقتل منها أمما لا يحصون كثرة وفيها عزل المقتدر محمد بن عبدالله عن وزارته وقلدها عيسى بن علي وكان من خيار الوزراء وأقصدهم للعدل والإحسان واتباع الحق وفيها كثرت الأمراض الدموية ببغداد في تموز وآب فمات من ذلك خلق كثير من أهلها وفيها وصلت هدايا صاحب عمان ومن جملتها بغلة بيضاء (11/120)
وغزال أسود وفي شعبان منها ركب المقتدر إلى باب الشماسية على الخيل ثم انحدر إلى داره في دجلة وكانت أول ركبة ركبها جهرة للعامة وفيها استأذن الوزير علي بن عيسى الخليفة المقتدر في مكاتبة رأس القرامطة أبي سعيد الحسن بن بهرام الجنابي فأذن له فكتب كتابا طويلا يدعوه فيه إلى السمع والطاعة ويوبخه على ما يتعاطاه من ترك الصلاة والزكاة وارتكاب المنكرات وإنكارهم على من يذكر الله ويسبحه ويحمده واستهزائهم بالدين واسترقاقهم الحرائر ثم توعده بالحرب وتهدده بالقتل فلما سار بالكتاب نحوه قتل أبو سعيد قبل أن يصله قتله بعض خدمه وعهد بالأمر من بعده لولده سعيد فغلبه على ذلك أخوه أبو طاهر سليمان بن أبى سعيد فلما قرأ كتاب الوزير أجابه بما حاصله إن هذا الذى تنسب إلينا مما ذكرتم لم يثبت عندكم إلا من طريق من يشنع علينا وإذا كان الخليفة ينسبنا إلى الكفر بالله فكيف يدعونا إلى السمع والطاعة له وفيها جيء بالحسين بن منصور الحلاج إلى بغداد وهو مشهور على جمل وغلام له راكب جملا آخر ينادي عليه أحد دعاة القرامطة فاعرفوه ثم حبس ثم جيء به إلى مجلس الوزير فناظره فإذا هو لا يقرأ القرآن ولا يعرف في الحديث ولا الفقه شيئا ولا في اللغة ولا في الأخبار ولا في الشعر شيئا وكان الذى نقم عليه أنه وجدت له رقاع يدعو فيها الناس إلى الضلالة والجهالة بأنواع من الرموز يقول في مكاتباته كثيرا تبارك ذو النور الشعشعاني فقال له الوزير تعلمك الطهور والفروض أجدى عليك من رسائل لا تدري ما تقول فيها وما أحوجك إلى الأدب ثم أمر به فصلب حيا حلب الإشتهار لا القتل ثم أنزل فأجلس في دار الخلافة فجعل يظهر لهم أنه على السنة وأنه زاهد حتى اغتر به كثير من الخدام وغيرهم من أهل دار الخلافة من الجهلة حتى صاروا يتبركون به ويتمسحون بثيابه وسيأتي ما صار إليه أمره حين قتل بإجماع الفقهاء وأكثر الصوفية ووقع في هذه السنة في آخرها ببغداد وباء شديد جا مات بسببه بشر كثير ولا سيما بالحربية غلقت عامة دورها وحج بالناس فيها الأمر المتقدم ذكره وفيها توفي من
الأعيان إبراهيم بن خالد الشافعى
جمع العلم والزهد وهو من تلاميذ أبى بكر الأسماعيلي
جعفر بن محمد
ابن الحسين بن المستفاض أبو بكر الفريابي قاضي الدينور طاف البلاد في طلب العلم وسمع الكثير من المشايخ الكثيرين مثل قتيبة وأبى كريب وعلي بن المدينى وعنه أبو الحسين بن المنادى والنجاد وأبو بكر الشافعي وخلق واستوطن بغداد وكان ثقة حافظا حجة وكان عدة من يحضر مجلسه نحوا من ثلاثين ألفا والمستملمون عليه منهم فوق الثلاثمائة وأصحاب المحابر نحوا من عشرة آلاف توفي في المحرم منها عن أربع وتسعين سنة وكان قد حفر لنفسه قبرا قبل وفاته (11/121)
بخمس سنين وكان يأتيه فيقف عنده ثم لم يقض له الدفن فيه بل دفن بمكان آخر رحمه الله حيث كان
أبو سعيد الجنابى القرمطي
وهو الحسن بن بهرام قبحه الله رأس القرامطة والذى يعول عليه في بلاد البحرين وما والاها ( علي بن أحمد الرأسي ) كان يلي بلاد واسط إلى شهر زور وغير ذلك وقد خلف من الأموال شيئا كثيرا فمن ذلك ألف ألف دينار ومن آنيه الذهب والفضة نحو مائة ألف دينار ومن البقر ألف ثور ومن الخيل والبغال والجمال ألف رأس
محمد بن عبد الله بن علي بن محمد بن أبي الشوارب
يعرف بالأحنف كان قد ولى قضاء مدينة المنصور نيابة عن أبيه حين فلج مات في جمادى الأولى منها وتوفى أبوه في رجب منها بينهما ثلاثة وسبعون يوما ودفنا في موضع واحد وأبو بكر محمد بن هارون البردعي الحافظ بن ناجية والله سبحانه وتعالى أعلم
ثم دخلت سنة ثنتين وثلاثمائة
فيها ورد كتاب مؤنس الخادم قد أوقع بالروم بأسا شديدا وقد أسر منهم مائة وخمسين بطريقا أي أميرا ففرح المسلمون بذلك وفيها ختن المقتدر خمسة من أولاده فغرم على ختانهم ستمائة ألف دينار وقد ختن قبلهم ومعهم خلقا من اليتامى وأحسن إليهم بالمال والكساوى وهذا صنيع حسن إن شاء الله وفيها صادر المقتدر أبي علي بن الجصاص بستة عشر ألف ألف دينار غير الآنية والثياب الثمينة وفيها أدخل الخليفة أولاده إلى المكتب وكان يوما مشهودا وفيها بنى الوزير المارستان بالحربية من بغداد وأنفق عليه أموالا جزيلة جزاه الله خيرا وحج بالناس فيها الفضل الهاشمى وقطعت الأعراب وطائفة من القرامطة الطريقين على الراجعين من الحجيج وأخذوا منهم أموالا كثيرة وقتلوا منهم خلقا وأسروا أكثر من مائتى امرأة حرة فانا لله وإنا إليه راجعون وفيها توفي من الأعيان
بشر بن نصر بن منصور
أبو القاسم الفقيه الشافعى من أهل مصر يعرف بغلام عرق وعرق خادم من خدام السلطان كان يلى البريد فقدم معه بهذا الرجل مصر فأقام بها حتى مات بها بدعة جارية غريب المغنية بذل لسيدتها فيها مائة ألف دينار وعشرون ألف دينار من بعض من رغب فيها من الخلفاء فعرض ذلك عليها فكرهت مفارقة سيدتها فأعتقتها سيدتها في موتها وتأخرت وفاتها إلى هذه السنة وقد تركت من المال العين والأملاك مالم يملكه رجل
القاضي أبو زرعه محمد بن عثمان الشافعي
قاضي مصر ثم دمشق وهو أول من حكم بمذهب الشافعى بالشام وأشاعه بها وقد كان أهل (11/122)
الشام على مذهب الأوزاعي من حين مات إلى هذه السنة وثبت على مذهب الأوزاعى بقايا كثيرون لم يفارقوه وكان ثقة عدلا من سادات القضاة وكان أصله من أهل الكتاب من اليهود ثم أسلم وصار إلى ما صار إليه وقد ذكرنا ترجمته في طبقات الشافعية
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثمائة
وفيها وقف المقتدر بالله أموالا جزيلة وضياعا على الحرمين الشريفين واستدعى بالقضاة والأعيان وأشهدهم على نفسه بما وقفه من ذلك وفيها قدم إليه بجماعة من الأسارى من الأعراب الذين كانوا قد اعتدوا على الحجيج فلم يتمالك العامة أن اعتدوا عليهم فقتلوهم فأخذ بعضهم فعوقب لكونه افتات على السلطان وفيها وقع حريق شديد في سوق النجارين ببغداد فأحرق السوق بكامله وفي ذي الحجة منها مرض المقتدر ثلاثة عشر يوما ولم يمرض في خلافته مع طولها إلا هذه المرضة وحج بالناس فيها الفضل الهاشمي ولما خاف الوزير على الحجاج القرامطة كتب إليهم رسالة ليشغلهم بها فاتهمه بعض الكتاب بمراسلته القرامطة فلما انكشف أمره وما قصده حظي بذلك عند الناس جدا وممن توفي من الأعيان
النسائي أحمد بن علي
ابن شعيب بن علي بن سنان بن بحر بن دينار أبو عبدالرحمن النسائي صاحب السنن الإمام في عصره والمقدم على أضرابه وأشكاله وفضلاء دهره رحل إلى الآفاق واشتغل بسماع الحديث والاجتماع بالأئمة الحذاق ومشايخه الذين روى عنهم مشافهة قد ذكرناهم في كتابنا التكميل وترجمناه أيضا هنالك وروى عنه خلق كثير وقد جمع السنن الكبير وانتخب منه ما هو أقل حجما منه بمرات وقد وقع لي سماعهما وقد أبان في تصنيفه عن حفظ وإتقان وصدق وإيمان وعلم وعرفان قال الحاكم عن الدارقطني أبو عبدالرحمن النسائي مقدم على كل من يذكر بهذا العلم من أهل عصره وكان يسمى كتابه الصحيح وقال أبو علي الحافظ للنسائي شرط في الرجال أشد من شرط مسلم بن الحجاج وكان من أئمة المسلمين وقال أيضا هو الإمام في الحديث بلا مدافعة وقال أبو الحسين محمد بن مظفر الحافظ سمعت مشايخنا بمصر يعترفون له بالتقدم والإمامة ويصفون من اجتهاده في العبادة بالليل والنهار ومواظبته على الحج والجهاد وقال غيره كان يصوم يوما ويفطر يوما وكان له أربع زوجات وسريتان وكان كثير الجماع حسن الوجه مشرق اللون قالوا وكان يقسم للإماء كما يقسم للحرائر وقال الدارقطني كان أبو بكر بن الحداد كثير الحديث ولم يرو عن أحد سوى النسائي وقال رضيت به حجة فيما بيني وبين الله عز و جل وقال ابن يونس كان النسائي إماما في الحديث ثقة ثبتا حافظا كان خروجه من مصر في سنة ثنتين وثلاثمائة وقال ابن عدي سمعت منصورا الفقيه وأحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي يقولان أبو عبدالرحمن النسائي إمام من أئمة المسلمين وكذلك (11/123)
أثنى عليه غير واحد من الأئمة وشهدوا له بالفضل والتقدم في هذا الشأن وقد ولي الحكم بمدينة حمص سمعته من شيخنا المزي عن رواية الطبراني في معجمه الأوسط حيث قال حدثنا أحمد بن شعيب الحاكم بحمص وذكروا أنه كان له من النساء أربع نسوة وكان غاية الحسن وجهه كأنه قنديل وكان يأكل في كل يوم ديكا ويشرب عليه نقيع الزبيب الحلال وقد قيل عنه إنه كان ينسب إليه شيء من التشيع قالوا ودخل إلى دمشق فسأله أهلها أن يحدثهم بشيء من فضائل معاوية فقال أما يكفي معاوية أن يذهب رأسا برأس حتى يروي له فضائل فقاموا إليه فجعلوا يطعنون في خصيتيه حتى أخرج من المسجد الجامع فسار من عندهم إلى مكة فمات بها في هذه السنة وقبره بها هكذا حكاه الحاكم عن محمد بن إسحاق الأصبهاني عن مشايخه وقال الدارقطني كان أفقه مشايخ مصر في عصره وأعرفهم بالصحيح من السقيم من الآثار وأعرفهم بالرجال فلما بلغ هذا المبلغ حسدوه فخرج إلى الرملة فسئل عن فضائل معاوية فأمسك عنه فضربوه في الجامع فقال أخرجوني إلى مكة فأخرجوه وهو عليل فتوفي بمكة مقتولا شهيدا مع ما رزق من الفضائل رزق الشهادة في آخر عمره مات مكة سنة ثلاث وثلاثمائة قال الحافظ ابو بكر محمد بن عبدالغنى بن نقطة في تقييده ومن خطه نقلت ومن خط أبي عامر محمد بن سعدون العبدري الحافظ مات أبو عبدالرحمن النسائي بالرملة مدينة فلسطين يوم الإثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من صفر سنة ثلاث وثلاثمائة ودفن ببيت المقدس وحكى ابن خلكان أنه توفي في شعبان من هذه السنة وأنه إنما صنف الخصائص في فضل علي وأهل البيت لأنه رأى أهل دمشق حين قدمها في سنة ثنتين وثلاثمائة عندهم نفرة من على وسألوه عن معاوية فقال ما قال فدققوه في خصيتيه فمات وهكذا ذكر ابن يونس وأبو جعفر الطحاوي إنه توفي بفلسطين في سفر من هذه السنة وكان مولده في سنة خمس عشرة أو أربع عشرة ومائتين تقريبا عن قوله فكان عمره ثمانيا وثمانين سنة
الحسن بن سفيان
ابن عامر بن عبدالعزيز بن النعمان بن عطاء أبو العباس الشيباني النسوي محدث خراسان وقد كان يضرب إليه آباط الإبل في معرفة الحديث والفقه رحل إلى الآفاق وتفقه على أبي ثور وكان يفتي بمذهبه وأخذ الأدب عن أصحاب النضر بن شميل وكانت إليه الرحلة بخراسان ومن غريب ما اتفق له أنه كان هو وجماعة من أصحابه بمصر في رحلتهم إلى الحديث فضاق عليهم الحال حتى مكثوا ثلاثة أيام لا يأكلون فيها شيئا ولا يجدون ما يبيعونه للقوت واضطرهم الحال إلى تجشم السؤال وأنفت أنفسهم من ذلك وعزت عليهم وامتنع كل الامتناع والحاجة تضطرهم إلى تعاطي ذلك فاقترعوا فيما بينهم أيهم يقوم بأعباء هذا الأمر فوقعت القرعة على الحسن بن سفيان هذا (11/124)
فقام عنهم فاختلى في زاوية المسجد الذي هم فيه فصلى ركعتين أطال فيهما واستغاث بالله عز و جل وسأله بأسمائه العظام فما انصرف من الصلاة حتى دخل عليهم المسجد شاب حسن الهيئة مليح الوجه فقال أين الحسن بن سفيان فقلت أنا فقال الأمير طولون يقرأ عليكم السلام ويعتذر إليكم في تقصيره عنكم وهذه مائة دينار لكل واحد منكم فقلنا له ما الحامل له على ذلك فقال إنه أحب أن يختلي اليوم بنفسه فبينما هو الآن نائم إذ جاءه فارس في الهواء بيده رمح فدخل عليه منزله ووضع عقب الرمح في خاصرته فوكزه وقال قم فأدرك الحسن بن سفيان وأصحابه قم فأدركهم قم فأدركهم فإنهم منذ ثلاث جياع في المسجد الفلاني فقال له من أنت فقال أنا رضوان خازن الجنة فاستيقظ الأمير وخاصرته تؤلمه ألما شديدا فبعث بالنفقة في الحال إليكم ثم جاء لزيارتهم واشترى ما حول ذلك المجلس ووقفه على الواردين عليه من أهل الحديث جزاه الله خيرا وقد كان الحسن بن سفيان رحمه الله من أئمة هذا الشأن وفرسانه وحفاظه وقد اجتمع عنده جماعة من الحفاظ منهم ابن جرير الطبري وغيره فقرؤا عليه شيئا من الحديث وجعلوا يقلبون الأسانيد ليستعلموا ما عنده من العلم فما قلبوا شيئا من الإسناد إلا ردهم فيه إلى الصواب وعمره إذ ذاك سبعون سنة وهو في هذا السن حافظ ضابط لا يشذ عنه شيء من حديثه ومن فوائده العبسي كوفي والعيشي بصري والعنسي مصري
رويم بن أحمد
ويقال ابن محمد بن رويم بن يزيد أبو الحسن ويقال أبو محمد أحد أئمة الصوفية كان عالما بالقرآن ومعانيه وكان يتفقه على مذهب داود بن الظاهري قال بعضهم كان رويم يكتم حي الدنيا أربعين سنة ومعناه أنه تصوف أربعين سنة ثم لما ولي إسماعيل بن إسحاق القضاء ببغداد جعله وكيلا في بابه فترك التصوف ولبس الخز والقصب والديبقى وركب الخيل وأكل الطيبات وبنى الدور
زهير بن صالح بن الإمام أحمد بن حنبل
روى عن أبيه وعنه أبو بكر أحمد بن سليمان النجاد كان ثقة مات وهو شاب قاله الدارقطني
ابو علي الجبائي
شيخ المعتزلة واسمه محمد بن عبدالوهاب أبو علي الجبائي شيخ طائفة الاعتزال في زمانه وعليه اشتغل أبو الحسن الأشعري ثم رجع عنه وللجبائي تفسير حافل مطول له فيه اختيارات غريبة في التفسير وقد رد عليه الأشعري فيه وقال وكأن القرآن نزل في لغة أهل جباء كان مولده في سنة خمس وثلاثين ومائتين ومات في هذه السنة
أبو الحسن بن بسام الشاعر
واسمه علي بن أحمد بن منصور بن نصر بن بسام البسامي الشاعر المطبق للهجاء فلم يترك أحدا حتى هجاه حتى أباه وأمه أمامة بنت حمدون النديم وقد أورد له ابن خلكان أشياء كثيرة من (11/125)
شعره فمن ذلك قوله في تخريب المتوكل قبر الحسن بن علي وأمره بأن يزرع ويمحي رسمه وكان شديد التحامل على علي وولده فلما وقع ما ذكرناه سنة ست وثلاثين ومائتين قال ابن بسام هذا في ذلك ... تالله إن كانت أمية قد أتت ... قتل ابن بنت نبيها مظلوما ... فلقد أتاه لنو أبيه بمثله ... هذا لعمرك قبره مهدوما ... أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا ... في قتله فتتبعوه رميما ...
ثم دخلت سنة أربع وثلاثمائة
فيها عزل المقتدر وزيره أبا الحسن علي بن عيسى بن الجراح وذلك لأنه وقعت بينه وبين أم موسى القهرمانة نفرة شديدة فسأل الوزير أن يعفى من الوزارة فعزل ولم يتعرضوا لشيء من أملاكه وطلب أبو الحسن بن الفرات فأعيد إلى الوزارة بعد عزله عنها خمس سنين وخلع عليه الخليفة يوم التروية سبع خلع وأطلق إليه ثلاثمائة ألف درهم وعشرة تخوت ثياب ومن الخيل والبغال والجمال شيء كثير وأقطع الدار التي بالحريم فسكنها وعمل فيها ضيافة تلك الليلة فسقى فيها أربعين ألف رطل من الثلج وفي نصف هذه السنة اشتهر ببغداد أن حيوانا يقال له الزرنيب يطوف بالليل يأكل الأطفال من الأسرة ويعدو على النيام فربما قطع يد الرجل وثدي المرأة وهو نائم فجعل الناس يضربون على أسطحتهم على النحاس من الهواوين وغيرها ينفرونه عنهم حتى كانت بغداد بالليل ترتج من شرقها وغربها واصطنع الناس لأولادهم مكبات من السعف وغيرها واغتنمت اللصوص هذه الشوشة فكثرت النقوب وأخذت الأموال فأمر الخليفة بأن يؤخذ حيوان من كلاب الماء فيصلب على الجسر ليسكن الناس عن ذلك ففعلوا فسكن الناس ورجعوا إلى أنفسهم واستراح الناس من ذلك وفيها قلد ثابت بن سنان الطبيب أمر المارستان ببغداد في هذه السنة وكانت خمسا وكان هذا الطبيب مؤرخا وفيها ورد كتاب من خراسان بأنهم وجدوا قبور شهداء قد قتلوا في سنة سبعين من الهجرة مكتوبة أسماؤهم في رقاع مربوطة في آذانهم وأجسادهم طرية كما هي رضي الله تعالى عنهم وفيها توفي من الأعيان
لبيد بن محمد بن أحمد بن الهيثم بن صالح
ابن عبدالله بن الحصين بن علقمة بن نعيم بن عطارد بن حاجب أبو الحسن التميم الملقب فروجه قدم بغداد وحدث بها وكان ثقة حافظا
يوسف بن الحسين بن علي
أبو يعقوب الرازي سمع أحمد بن حنبل وصحب ذا النون وكان قد بلغه أن ذا النون يحفظ (11/126)
اسم الله الأعظم فقصده ليعلمه إياه قال فلما وردت عليه استهان بي وكانت لي لحية طويلة ومعي ركوة طويلة فجاء رجل يوما فناظر ذا النون فأسكت ذا النون فقلت له دع الشيخ وأقبل علي فأقبل فناظرته فأسكته فقام ذو النون فجلس بين يدي وهو شيخ وأنا شاب ثم اعتذر إلي فخدمته سنة ثم سألته أن يعلمني الاسم الأعظم فلم يبعد مني ووعدني فمكثت عنده بعد ذلك ستة أشهر ثم أخرج إلي طبقا عليه مكبة مستورا بمنديل فقال لي اذهب بهذا الطبق إلى صاحبنا فلان قال فجعلت أفكر في الطريق ما هذا الذي أرسلني به فلما وصلت الجسر فتحته فإذا فأرة ففرت وذهبت فاغتظت غيظا شديدا وقلت ذو النون سخر بي فرجعت إليه وأنا حنق فقال لي ويحك إنما اختبرتك فإذا لم تكن أمينا على فأرة فإن لا تكون أمينا على الاسم الأعظم بطريق الأولى اذهب عني فلا أراك بعدها وقد رؤى أبو الحسين الراز هذا في المنام بعد موته فقيل له ما فعل الله بك فقال غفر لي بقولي عند الموت اللهم إني نصحت الناس قولا وخنت نفسي فعلا فهب خيانة فعلي لنصح قولي
يموت بن المزرع بن يموت
أبو بكر العبدي من عبدالقيس وهو ثوري وهو ابن أخت الجاحظ قدم بغداد وحدث بها عن أبي عثمان المازني وأبي حاتم السجستاني وأبي الفضل الرياشي وكان صاحب أخبار وآداب وملح وقد غير اسمه بمحمد فلم يغلب عليه إلا الأول وكان إذا ذهب يعود مريضا فدق الباب فقالوا من فيقول ابن المزرع ولا يذكر اسمه لئلا يتفاءلوا به
ثم دخلت سنة خمسة وثلاثمائة
فيها قدم رسول ملك الروم في طلب المفاداة والهدنة وهو شاب حدث السن ومعه شيخ منهم وعشرون غلاما فلما قدم بغداد شاهد أمرا عظيما جدا وذلك أن الخليفة أمر الجيش والناس بالاحتفال بذلك ليشاهد ما فيه إرهاب الأعداء فركب الجيش بكماله وكان مائة ألف وستين ألفا ما بين فارس وراجل غير العساكر الخارجة في سائر البلاد مع نوابها فركبوا في الأسلحة والعدد التامة وغلمان الخليفة سبعة آلاف أربعة آلاف بيض وثلاثة آلاف سود وهم في غاية الملابس والعدد والحلي والحجبة يومئذ سبعمائة حاجب واما الطيارات التي بدجلة والزيارب والسمريات فشيء كثير مزينة فحين دخل الرسول دار الخلافة انبهر وشاهد أمرا أدهشه ورأى من الحشمة والزينة والحرمة ما يبهر الأبصار وحين اجتاز بالحاجب ظن أنه الخليفة فقيل له هذا الحاجب فمر بالوزير في أبهته فظنه الخليفة فقيل له هذا الوزير وقد زينت دار الخلافة بزينة لم يسمع بمثلها كان فيها من الستور يومئذ ثمانية وثلاثون ألف ستر منها عشرة آلاف وخمسمائة ستر مذهبة وقد بسط فيها اثنان وعشرون ألف بساط لم ير مثلها وفيها من الوحوش قطعان متآنسة بالناس تأكل من أيديهم (11/127)
ومائة وسبع مع السباعة ثم أدخل إلى دار الشجرة وهي عبارة عن بركة فيها ماء صاف وفي وسط ذلك الماء شجرة من ذهب وفضة لها ثمانية عشر غصنا أكثرها من ذهب وفي الأغصان الشماريخ والأوراق الملونة من الذهب والفضة واللآلئ واليواقيت وهي تصوت بأنواع الأصوات من الماء المسلط عليها والشجرة بكمالها تتمايل كما تتمايل الأشجار بحركات غجيبة تدهش من يراها ثم أدخل إلى مكان يسمونه الفردوس فيه من أنواع المفارش والآلات ما لا يحد ولا يوصف كثرة وحسنا وفي دهاليزه ثمانية عشرة ألف جوشن مذهبة فما زال كلما مر على مكان أدهشه وأخذ ببصره حتى انتهى إلى المكان الذي فيه الخليفة المقتدر بالله وهو جالس على سرير من آبنوس قد فرش بالديبقي المطرز بالذهب وعن يمين السرير سبعة عشر عنقود معلقة وعن يساره مثلها وهي جوهر من أفخر الجواهر كل جوهرة يعلو ضوؤها على ضوء النهار ليس لواحدة منها قيمة ولا يستطاع ثمنها فأوقف الرسول والذين معه بين يدي الخليفة على نحو من مائة ذراع والوزير علي بن محمد بن الفرات واقف بين يدي الخليفة والترجمان دون الوزير والوزير يخاطب الترجمان والترجمان يخاطبهما فلما فرغ منها خلع عليهما وأطلق لهما خمسين سقرقا في كل سقرق خمسة آلاف درهم وأخرجا من بين يديه وطيف بهما في بقية دار الخلافة وعلى حافات دحلة الفيلة والزرافات والسباع والفهود وغير ذلك ودجلة داخلة في دار الخلافة وهذا من أغرب ما وقع من الحوادث في هذه السنة وحج بالناس فيها الفضل الهاشمي وفيها توفي من الأعيان
محمد بن أحمد أبو موسى
النحوي الكوفي المعروف بالجاحظ صحب ثعلبا أربعين سنة وخلفه في حلقته وصنف غريب الحديث وخلق الإنسان والوحوش والنبات وكان دينا صالحا روى عنه أبو عمر الزاهد توفي ببغداد في ذي الحجة منها ودفن بباب التين وعبدالله بشرويه الحافظ وعمران بن مجاشع وأبو خليفة الفضل بن الحباب وقاسم بن زكريا ابن يحيى المطرز المقرى أحد الثقات الأثبات سمع أبا كريب وسويد بن سعيد وعنه الخلدي وأبو الجعاني توفي ببغداد
ثم دخلت سنة ست وثلاثمائة
في أول يوم من المحرم فتح المارستان الذي بنته السيدة أم المقتدر وجلس فيه سنان بن ثابت ورتبت فيه الأطباء والخدم والقومة وكانت نفقته في كل شهر ستمائة دينار وأشار سنان على الخليفة ببناء مارستان فقبل منه وبناه وسماه المقتدري وفيها وردت الأخبار عن أمراء الصوائف بما فتح الله عليهم من الحصون في بلاد الروم وفيها رجفت العامة وشنعوا بموت المقتدر فركب في الجحافل حتى بلغ الثريا ورجع من باب العامة ووقف كثيرا ليراه الناس ثم ركب إلى الشماسية وانحدر إلى دار الخلافة في دجلة فسكنت الفتن وفيها قلد المقتدر حامد بن العباس الوزارة وخلع عليه وخرج من (11/128)
عنده وخلفه أربعمائة غلام لنفسه فمكث أياما ثم تبين عجزه عن القيام بالأمور فأضيف إليه علي بن عيسى لينفذ الأمور وينظر معه في الأعمال وكان أبو علي بن مقلة ممن يكتب أيضا بحضرة حامد بن العباس الوزير ثم صارت المنزلة كلها لعلي بن عيسى واستقل بالوزارة في السنة الآتية وفيها أمرت السيدة أم المقتدر قهرمانة لها تعرف بتملي أن تجلس بالتربة التي بنتها بالرصافة في كل يوم جمعة وأن تنظر في المظالم التي ترفع إليها في القصص ويحضر في مجلسها القضاة والفقهاء وحج بالناس فيها الفضل الهاشمي وفيها توفي
إبراهيم بن أحمد بن الحارث
أبو القاسم الكلابي الشافعي سمع الحارث بن مسكين وغيره وكان رجلا صالحا تفقه على مذهب الشافعي وكان يحب الخلوة والانقباض توفي في شعبان منها احمد بن الحسن الصوفي أحد مشايخ الحديث المكثرين المعمرين
أحمد بن عمر بن سريج
أبو العباس القاضي بشيراز صنف نحو أربعمائة مصنف وكان أحد أئمة الشافعية ويلقب بالباز الأشهب أخذ الفقه عن أبي قاسم الأنماطي وعن أصحاب الشافعي كالمزني وغيره وعنه انتشر مذهب الشافعي في الآفاق وقد ذكرنا ترجمته في الطبقات توفي في جمادى الأولى منها عن سبع وخمسين سنة وستة أشهر قال ابن خلكان توفي يوم الإثنين الخامس والعشرين من ربيع الأول وعمره سبع وخمسون سنة وثلاثة أشهر وقبره يزار
أحمد بن يحيى
أبو عبدالله الجلاد بغدادي سكن الشام وصحب أبا التراب النخشبي وذا النون المصري روى أبو نعيم بسنده عنه قال قلت لأبوي وأنا شاب إني أحب أن تهباني لله عز و جل فقالا قد وهبناك لله فغبت عنهما مدة طويلة ثم رجعت إلى بلدنا عشاء في ليلة مطيرة فانتهبت إلى الباب فدفعته فقالا من هذا فقلت أنا ولدكما فلان فقالا إنه قد كان لنا ولد ووهبناه لله عز و جل ونحن من العرب لا نرجع فيما وهبنا ولم يفتحا لي الباب
الحسن بن يوسف بن إسماعيل بن حماد بن زيد
القاضي أبو يعلى وهو أخو القاضي أبي عمر محمد بن يوسف كان إليه ولاية القضاء بالأردن
عبدالله بن أحمد بن موسى بن زياد
أبو محمد الجواليقي القاضي المعروف بعبدان الأههوازي ولد سنة ست عشرة ومائتين كان أحد الحفاظ الأثبات يحفظ مائة ألف حديث جمع المشايخ والأبواب روى عن هدبة وكامل بن طلحة وغيرهم وعنه ابن صاعد والمحاملي وغيرهم
محمد بن بابشاذ أبو عبيدالله البصري
سكن بغداد وحدث بها عن عبيدالله بن معاذ العنبري وبشر بن معاذ العقدي وغيرهما وفي حديثه غرائب ومناكير توفي في شوال منها (11/129)
محمد بن الحسين بن شهريار
أبو بكر القطان البلخي الأصل روى عن الفلاس وبشر بن معاذ وعنه أبو بكر الشافعي ومحمد بن عمر بن الجعاني كذبه ابن ناجية وقال الدارقطني ليس به بأس
محمد بن خلف بن حيان بن صدقة بن زياد
أبو بكر الضبي القاضي المعروف بوكيع كان عالما فاضلا عارفا بأيام الناس ففيها قارئا نحويا له مصنفات منها كتاب عدد آي القرآن ولي القضاء بالأهواز وحدث عن الحسن بن عرفة والزبير بن بكار وغيرهما وعنه أحمد بن كامل وأبو علي الصواف وغيرهما ومن شعره الجيد ... إذا ما غدت طلابة العلم تبتغي ... من العلم يوما ما يخلد في الكتب ... غدوت بتشمير وجد عليهم ... ومحبرتي أذني وودفترها قلبي ...
منصور بن إسماعيل بن عمر
أبو الحسن الفقير أحد أئمة الشافعية وله مصنفات في المذهب وله الشعر الحسن قال ابن الجوزي ويظهر في شعره التشيع وكان جنديا ثم كف بصره وسكن الرملة ثم قدم مصر ومات بها
أبو نصر المحب
أحد مشايخ الصوفية كان له كرم وسخاء ومروءة ومر بسائل سأل وهو يقول شفيعي إليكم رسول الله ( ص ) فشق أبو نصر إزاره وأعطاه نصفه ثم مشى خطوتين ثم رجع إليه فأعطاه النصف الآخر وقال هذا نذالة
ثم دخلت سنة سبع وثلاثمائة
في صفر منها وقع حريق بالكرخ في الباقلانتين هلك فيه خلق كثير من الناس وفي ربيع الآخر منها دخل بأسارى من الكرخ نحو مائة وخمسين أسيرا وأنقذهم الأمير بدر الحماني وفي ذي القعدة منها انقض كوكب عظيم غالب الضوء وتقطع ثلاث قطع وسمع بعد انقضاضه صوت رعد شديد هائل من غير غيم ذكره ابن الجوزي وفيها دخلت القرامطة إلى البصرة فأكثروا فيها الفساد وفيها عزل حامد بن العباس عن الوزارة وأعيد إليها أبو الحسن بن الفرات المرة الثالثة وفيها كسرت العامة أبواب السجون فأخرجوا من كان بها وأدركت الشرطة من أخرجوا من السجن فلم يفتهم أحد منهم بل ردوا إلى السجون وحج بالناس فيها أحمد بن العباس أخو أم موسى القهرمانة وفيها توفي من الأعيان
أحمد بن علي بن المثنى
أبو يعلى الموصلي صاحب المسند المشهور سمع الإمام أحمد بن حنبل وطبقته وكان حافظا خيرا حسن التصنيف عدلا فيما يرويه ضابطا لما يحدث به
إسحاق بن عبدالله بن إبراهيم بن عبدالله بن سلمة
أبو يعقوب البزار الكوفي رحل إلى الشام ومصر وكتب الكثير وصنف المسند واستوطن بغداد وكان من الثقات روى عنه (11/130)
ابن المظفر الحافظ قدم بغداد وروى عنه الطبراني والأزدي وغيرهما من الحفاظ وكان ثقة حافظا عارفا توفي بحلب في هذه السنة
زكريا بن يحيى الساجي
الفقيه المحدث شيخ أبي الحسن الأشعري في السنة والحديث علي بن سهل بن الأزهر أبو الحسن الأصبهاني كان أولا مترفا ثم صار زاهدا عابدا يبقى الأيام لا يأكل فيها شيئا وكان يقول ألهاني الشوق إلى الله عن الطعام والشراب وكان يقول أنا لا أموت كما يموتون بالاعلال والأسقام إنما هو دعاء وإجابة أدعى فأجيب فكان كما قال بينما هو جالس في جماعة إذ قال لبيك ووقع ميتا محمد بن هارون الروياني صاحب المسند وابن دريج العكبري والهيثم بن خلف
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثمائة
فيها غلت الأسعار في هذه السنة ببغداد فاضطربت العامة وقصدوا دار حامد بن العباس الذي ضمن برائي من الخليفة فغلت الأسعار بسبب ذلك وعدوا في ذلك اليوم وكان يوم الجمعة على الخطيب فمنعوه الخطبة وكسروا المنابر وقتلوا الشرط وحرقوا جسورا كثيرة فأمر الخليفة بقتال العامة ثم نقض الضمان الذي كان حامد بن العباس ضمنه فانحطت الأسعار وبيع الكر بناقص خمسة دنانير فطابت أنفس الناس بذلك وسكنوا وفي تموز منها وقع برد شديد جدا حتى نزل الناس عن الأسطحة وتدثروا باللحف والأكسية ووقع في شتاء هذه السنة بلغم عظيم وكان فيها برد شديد جدا بحيث اضر ذلك ببعض النخيل وحج بالناس فيها أحمد بن العباس أخو القهرمانة وفيها توفي من الأعيان
إبراهيم بن سفيان الفقيه
راوي صحيح مسلم عنه
أحمد بن الصلت
أحمد بن الصلت بن المغلس أبو العباس الحماني أحد الوضاعين للأحاديث روى عن خاله جبارة بن المغلس وأبي نعيم ومسلم بن إبراهيم وأبي بكر بن أبي شيبة وأبي عبيدالقاسم بن سلام وغيرهم أحاديث كلها وضعها هو في مناقب أبي حنيفة وغير ذلك وحكى عن يحيى بن معين وعلي بن المديني وبشر بن الحارث أخبارا كلها كذب قال أبو الفرج بن الجوزي قال لي محمد بن أبي الفوارس كان أحمد بن الصلت يضع الحديث إسحاق بن أحمد الخزاعي والمفضل الجندي وعبدالله بن محمد بن وهب الدينوري
وعبدالله بن ثابت بن يعقوب
أبو عبدالله المقري النحوي التوزي سكن بغداد وروى عن عمرو بن شبة وعنه أبو عمرو بن السماك ومن شعره الجيد ... إذا لم تكن حافظا واعيا ... فعلمك في البيت لا ينفع ... وتحضر بالجهل في مجلس ... وعلمك في الكتب مستودع (11/131)
ومن يك في دهره هكذا ... يكن دهره القهقرى يرجع ...
ثم دخلت سنة تسع وثلاثمائة
فيها وقع حريق كثير في نواحي بغداد بسبب زنديق قتل فألقى من كان من جهته الحريق في أماكن كثيرة فهلك بسبب ذلك خلق كثير من الناس وفي جمادى الأولى منها قلد المقتدر مؤنس الخادم بلاد مصر والشام ولقبه المظفر وأمر بكتب ذلك في المراسلات إلى الآفاق وفي ذي القعدة منها أحضر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري إلى دار الوزير عيسى بن علي لمناظرة الحنابلة في أشياء نقموها عليه فلم يحضورا ولا واحد منهم وفيها قدم الوزير حامد بن العباس للخليفة بستنانا بناه وسماه الناعورة قيمته مائة ألف دينار وفرش مساكنه بأنواع المفارش المفتخرة وفيها كان مقتل الحسين بن منصور الحلاج ولنذكر شيئا من ترجمته وسيرته وكيفية قتله على وجه الإيجاز وبيان المقصود بطريق الانصاف والعدل من غير تحمل ولا هوى ولا جور
ترجمة الحلاج
ونحن نعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يكن قاله أو نتحمل عليه في أقواله وأفعاله فنقول هو الحسين ابن منصور بن محمي الحلاج أبو مغيث ويقال أبو عبدالله كان جده مجوسيا اسمه محمي من أهل فارس من بلدة يقال لها البيضاء ونشأ بواسط ويقال بتستر ودخل بغداد وتردد إلى مكة وجاور بها في وسط المسجد في البرد والحر مكث على ذلك سنوات متفرقة وكان يصابر نفسه ويجاهدها ولا يجلس إلا تحت السماء في وسط المسجد الحرام ولا يأكل إلا بعض قرص ويشرب قليلا من الماء معه وقت الفطور مدة سنة كاملة وكان يجلس على صخرة في شدة الحر في جبل أبي قبيس وقد صحب جماعة من سادات المشايخ الصوفية كالجنيد بن محمد وعمرو بن عثمان المكي وأبي الحسين النوري قال الخطيب البغدادي والصوفية مختلفون فيه فأكثرهم نفى أن يكون الحلاج منهم وأبى أن يعده فيهم وقبله من متقدميهم أبو العباس بن عطاء البغدادي ومحمد بن خفيف الشيرازي وإبراهيم بن محمد النصر أباذي النيسابوري وصححوا له حاله ودونوا كلامه حتى قال ابن خفيف الحسين بن منصور عالم رباني وقال أبو عبدالرحمن السلمي واسمه محمد بن الحسين سمعت إبراهيم ابن محمد النصر اباذي وعوتب في شيء حكى عن الحلاج في الروح فقال للذي عاتبه إن كان بعد النبيين والصديقين موحد فهو الحلاج قال أبو عبدالرحمن وسمعت منصور بن عبدالله يقول سمعت الشبلي يقول كنت أنا والحسين بن منصور شيئا واحدا إلا أنه أظهر وكتمت وقد روى عن الشبلي من وجه آخر أنه قال وقد رأى الحلاج مصلوبا ألم أنهك عن العالمين قال الخطيب والذين نفوه من الصوفية نسبوه إلى الشعبذة في فعله وإلى الزندقة في عقيدته وعقده قال وله إلى (11/132)
الآن أصحاب ينسبون إليه ويغالون فيه ويغلون وقد كان الحلاج في عبارته حلو المنطق وله شعر على طريقة الصوفية قلت لم يزل الناس منذ قتل الحلاج مختلفين في أمره فأما الفقهاء فحكى عن غير واحد من العلماء والأئمة إجماعهم على قتله وأنه قتل كافرا وكان كافرا ممخرقا مموها مشعبذا وبهذا قال أكثر الصوفية فيه ومنهم طائفة كما تقدم أجملوا القول فيه وغرهم ظاهره ولم يطلعوا على باطنه ولا باطن قوله فإنه كان في ابتاء أمره فيه تعبد وتأله وسلوك ولكن لم يمكن له علم ولا بنى أمره وحاله على تقوى من الله ورضوان فلهذا كان ما يفسده أكثر مما يصلحه وقال سفيان بن عيينة من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى ولهذا دخل على الحلاج الحلول والاتحاد فصار من أهل الانحلالل والانحراف وقد روى من وجه أنه تقلبت به الأحوال وتردد إلى البلدان وهو في ذلك كله يظهر للناس أنه من الدعاة إلى الله عز و جل وصح أنه دخل إلى الهند وتعلم بها السحر وقال أدعو به إلى الله وكان أهل الهند يكاتبونه بالمغيث أي أنه من رجال الغيث ويكاتبه أهل سركسان بالمقيت ويكاتبه أهل خراسان بالمميز وأهل فارس بأبي عبدالله الزاهد وأهل خوزستان بأبي عبدالله الزاهد حلاج الأسرار وكان بعض البغاددة حين كان عندهم يقولون له المصطلم وأهل البصرة يقولون له المحير ويقال إنما سماه الحلاج أهل الأهواز لأنه كان يكاشفهم عن ما في ضمائرهم وقيل لأنه مرة قال لحلاج اذهب لي في حاجة كذا وكذا فقال إني مشغول بالحلج فقال اذهب فأنا أحلج عنك فذهب ورجع سريعا فإذا جميع ما في ذلك المخزن قد حلجه يقال إنه أشار بالمرود فامتاز الحب عن القطن وفي صحة هذا ونسبته إليه نظر وإن كان قد جرى مثل هذا فالشياطين تعين أصحابها ويستخدمونهم وقيل لأن أباه كان حلاجا ومما يدل على ا نه كان ذا حلول في بدء أمره أشياء كثيرة منها شعره في ذلك فمن ذلك قوله ... جبلت روحك في روحي كما ... يجبل العنبر بالمسك الفنق ... فإذا مسك شيء مسني ... وإذا أنت أنا لا نفترق ... وقوله ... مزجت روحك في روحي كما ... تمزج الخمرة بالماء الزلال ... فإذا مسك شيء مسني ... فإذا أنت أنا في كل حال ... وقوله أيضا ... قد تحققتك في سر ... ي فخاطبك لساني ... فاجتمعنا لمعان ... وافترقنا لمعان ... إن يكن غيبتك التعظي ... م عن لحظ العيان ... فلقد صيرك الوج ... د من الأحشاء دان (11/133)
وقد أنشد لابن عطاء قول الحلاج ... أريدك لا أريدك للثواب ... ولكني أريدك للعقاب ... وكل مآربي قد نلت منها ... سوى ملذوذ وجدي بالعذاب ... فقال بانن عطاء قال هذا ما تزايد به عذاب الشغف وهيام الكلف واحتراق الأسف فإذا صفا ووفا علا إلى مشرب عذب وهاطل من الحق دائم سكب وقد أنشد لأبي عبدالله بن خفيف قول الحلاج ... سبحان من أظهر ناسوته ... سرسنا لاهوته الثاقب ... ثم بدا في خلقه ظاهرا ... في صورة الآكل والشارب ... حتى قال عاينه خلقه ... كلحظة الحاجب بالحاجب ... فقال ابن خفيف علا من يقول هذا لعنه الله فقيل له إن هذا من شعر الحلاج فقال قد يكون مقولا عليه وينسب إليه أيضا ... أوشكت تسأل عني كيف كنت ... وما لاقيت بعدك من هم وحزن ... لا كنت لا كنت إن كنت أدري كيف كنت ... ولا لا كنت أدري كيف لم أكن ... قال ابن خلكان ويروى لسمنون لا للحلاج ومن شعره أيضا قوله ... متى سهرت عيني لغيرك أو بكت ... فلا أعطيت ما أملت وتمنت ... وإن أضمرت نفسي سواك فلا زكت ... رياض المنى من وجنتيك وجنت ... ومن شعره أيضا ... دنيا تغالطني كأن ... ي لست أعرف حالها ... حظر المليك حرامها ... وأنا أحتميت حلالها ... فوجدتها محتاجة ... فوهبت لذتها لها ... وقد كان الحلاج يتلون في ملابسه فتارة يلبس لباس الصوفية وتارة يتجرد في ملابس زرية وتارة يلبس لباس الأجناد ويعاشر أبناء الأغنياء والملوك والأجناد وقد رآه بعض أصحابه في ثياب رثة وبيده ركوة وعكازة وهو سائح فقال له ما هذه الحالة يا حلاج فأنشأ يقول ... لئم أمسيت في ثوبي عديم ... لقد بليا على حر كريم ... فلا يغررك أن أبصرت حالا ... مغيرة عن الحال القديم ... فلي نفس ستتلف أو سترقى ... لعمرك بي إلى أمر جسيم ... ومن مستجاد كلامه وقد سأله رجل أن يوصيه بشيء ينفعه الله به فقال عليك نفسك إن لم تشغلها بالحلق وإلآ شغلتك عن الحق وقال له الرجل عظني فقال كن مع الحق بحكم ما أوجب (11/134)
وروى الخطيب بسنده إليه أنه قال علم الأولين وألاخرين مرجعه إلى أربع كلمات حب الجليل وبغض القليل واتباع التنزيل وخوف التحويل قلت وقد أخطأ الحلاج في المقامين الأخيرين فلم يتبع التنزيل ولم يبق على الاستقامة بل تحول عنها إلى الإعوجاج والبدعة والضلالة نسأل الله العافية وقال أبو عبدالرحمن السلمي عن عمرو بن عثمان المكي أنه قال كنت أماشي الحلاج في بعض أزقة مكة وكنت أقرأ القرآن فسمع قراءتي فقال يمكنني أن أقول مثل هذا ففارقته قال الخطيب وحدثني مسعود بن ناصر أنبأنا ابن باكوا الشيرازي سمعت أبا زرعة الطبري يقول الناس فيه يعني حسين بن منصور الحلاج بين قبول ورد ولكن سمعن محمد بن يحيى الرازي يقول سمعت عمرو بن عثمان يلعنه ويقول لو قدرت عليه لقتلته بيدي فقلت له إيش الذي وجد الشيخ عليه قال قرأت آية من كتاب الله فقال يمكنني أن أؤلف مثله وأتكلم به قال أبو زرعة الطبري وسمعت أبا يعقوب الأقطع يقول زوجت ابنتي من الحسين الحلاج لما رأيت من حسن طريقته واجتهاده فبان لي منه بعد مدة يسيرة أنه ساحر محتال خبيث كافر قلت كان تزويجه إياها بمكة وهي أم الحسين بنت أبي يعقوب الأقطع فأولدها ولده أحمد بن الحسين بن منصور وقد ذكر سيرة أبيه كما ساقها من طريق الخطيب وذكر أبو القاسم القشيري في رسالته في باب حفظ قلوب المشايخ أن عمرو بن عثمان دخل على الحلاج وهو بمكة وهو يكتب شيئا في أوراق فقال له ما هذا فقال هو ذا أعارض القرآن قال فدعا عليه فلم يفلح بعدها وأنكر على أبي يعقوب الأقطع تزويجه إياه ابنته وكتب عمرو بن عثمان إلى الآفاق كتبا كثيرة يلعنه فيها ويحذر الناس منه فشرد الحلاج في البلاد فعاث يمينا وشمالا وجعل يظهر أنه يدعو إلى الله ويستعين بأنواع من الحيل ولم يزل ذلك دأبه وشأنه حتى أحل الله به بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين فقتله بسيف الشرع الذي لا يقع إلا بين كتفي زنديق والله أعدل من أن يسلطه على صديق كيف وقد تهجم على القرآن العظيم وقد أراد معارضته في البلد الحرام حيث نزل به جبريل وقد قال تعالى ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ندقه من عذاب أليم ولا إلحاد أعظم من هذا وقد أشبه الحلاج كفار قريش في معاندتهم كما قال تعالى عنهم وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين
أشياء من حيل الحلاج
روى الخطيب البغدادي أن الحلاج بعث رجلا من خاصة أصحابه وأمره أن يذهب بين يديه إلى بلد من بلاد الجبل وأن يظهر لهم العبادة والصلاح والزهد فإذا رآهم قد أقبلوا عليه وأحبوه واعتقدوه أظهر لهم أنه قد عمى ثم يظهر لهم بعد أيام أنه قد تكسح فإذا سعوا في مداواته قال لهم يا جماعة (11/135)
الخير إنه لا ينفني شيء مما تفعلون ثم يظهر لهم بعد أيام أنه قد رأى رسول الله ( ص ) في المنام وهو يقول له إن شفاءك لا يكون إلا على يد القطب وإنه سيقدم عليك في اليوم الفلاني في الشهر الفلاني وصفته كذا وكذا وقال له الحلاج إني سأقدم عليك في ذلك الوقت فذهب ذلك الرجل إلى تلك البلاد فأقام بها يتعبد ويظهر الصلاح والتنسك يقرأ القرآن فأقام مدة على ذلك فاعتقدوه وأحبوه ثم أظهر لهم أنه قد عمي فمكث حينا على ذلك ثم أظهر لهم أنه قد زمن فسعوا بمداواته بكل ممكن فلم ينتج فيه شيء فقال لهم يا جماعة الخير هذا الذي تفعلونه معي لا ينتج شيئا وأنا قد رأيت رسول الله ( ص ) في المنام وهو يقول لي إن عافيتك وشفاءك إنما هو على يدي القطب وإنه سيقدم عليك في اليوم الفلاني في الشهر الفلاني وكانوا أو لا يقودونه إلى المسجد ثم صاروا يحملونه ويكرمونه كان في الوقت الذي ذكر لهم واتفق هو والحلاج عليه أقبل الحلاج حتى دخل البلد مختفيا وعليه ثياب صوف بيض فدخل المسجد ولزم سارية يتعبد فيه لا يلتفت إلى أحد فعرفه الناس بالصفات التي وصف لهم ذلك العليل فابتدروا إليه يسلمون عليه ويتمسحون به ثم جاؤا إلى ذلك الزمن المتعافي فأخبره بخبره فقال صفوه لي فوصفوه له فقال هذا الذي أخبرني عنه رسول الله ( ص ) في المنام وأن شفائي علي يديه اذهبوا بي إليه فحملوه حتى وضعوه بين يديه فكلمه فعرفه فقال يا أبا عبدالله إني رأيت رسول الله ( ص ) في المنام ثم ذكر له رؤياه فرفع الحلاج يديه فدعا له ثم تفل من ريقه في كفيه ثم مسح بهما على عينيه ففتحهما كأن لم يكن بهما داء قط فأبصر ثم أخذ من ريقه فمسح على رجليه فقام من ساعته فمشى كأنه لم يكن به شيء شيء والناس حضور وأمراء تلك البلاد وكبراؤهم عنده فضج الناس ضجة عظيمة وكبروا الله وسبحوه وعظموا الحلاج تعظيما زائدا على ما أظهر لهم من الباطلل والزور ثم أقام عندهم مدة يكرمونه ويعظمونه ويودون لو طلب منهم ما عساه أن يطلب من أموالهم فلما أراد الخروج عنهم أرادوا أن يجمعوا له مالا كثيرا فقال أما أنا فلا حاجة لي بالدنيا وإنما وصلنا إلى ما وصلنا إليه بترك الدنيا ولعل صاحبكم هذا أن يكون له إخوان وأصحاب من الأبدال الذين يجاهدون بثغر طرسوس ويحجون ويتصدقون محتاجين إلى ما يعينهم على ذلك فقال ذلك الرجل المتزامن المتعافى صدق الشيخ قد رد الله علي بصري ومن الله علي بالعافية لأجعلن بقية عمري في الجهاد في سبيل الله والحج إلى بيت الله مع إخواننا الأبدال والصالحين الذين نعرفهم ثم حثهم على إعطائه المال ما طابت من أنفسهم ثم إن الحلاج خرج عنهم ومكث ذلك الرجل بين أظهرهم مدة إلى أن جمعوا له مالا كثيرا ألوفا من الذهب والفضة فلما اجتمع له ما أراد ودعهم وخرج عنهم فذهب إلى الحلاج فاقتسما ذلك المال (11/136)
وروى عن بعضهم قال كنت أسمع أن الحلاج له أحوال وكرامات فأحببت أن أختبر ذلك فجئته فسلمت عليه فقال لي تشتهي علي الساعة شيئا فقلت أشتهي سمكا طريا فدخل منزله فغاب ساعة ثم خرج علي ومعه سمكة تضطرب ورجلاه عليهما الطين فقال دعوت الله فأمرني أن آتي البطائح لآتيك بهذه السمكة فخصت الأهواز وهذا الطين منها فقلت إن شئت أدخلتني منزلك حتى أنظر ليقوى يقيني بذلك فإن ظهرت على شيء وإلا آمنت بك فقال ادخل فدخلت فأغلق علي الباب وجلس يراني فدرت البيت فلم أجد فيه منفذا إلى غيره فتحيرت في أمره ثم نظرت فإذا أنا بتأزيرة وكان مؤزرا بازار ساج فحركتها فانفلقت فإذا هي باب منفذ فدخلته فأفضى بي إلى بستان هائل فيه من سائر الثمار الجديدة والعتيقة قد أحسن إبقاءها وإذا أشياء كثيرة معدودة للأكل وإذا هناك بركة كبيرة فيها سمك كثير صغار وكبار فدخلتها فأخرجت منها واحدة فنال رجلي من الطين مثل الذي نال رجليه فجئت إلى الباب فقلت افتح قد آمنت بك فلما رآني على مثل حاله أسرع خلفي جريا يريد أن يقتلني فضربته بالسمكة في وجهه وقلت يا عدو الله أتعبتني في هذا اليوم ولما خلصت منه لقيني بعد أيام فضاحكني وقال لا تفش ما رأيت لأحد وإلا بعثت إليك من يقتلك على فراشك قال فعرفت أنه يفعل إن أفشيت عليه فلم أحدث به أحدا حتى صلب وقال الحلاج يوما لرجل آمن بي حتى أبعث لك بعصفورة تأخذ من ذرقها وزن حبة فتضعه على كذا منا من نحاس فيصير ذهبا فقال له الرجل آمن أنت بي حتى أبعث إليك بفيل إذا استلقى على قفاه بلغت قوائمه إلى السماء وإذا أردت أن تخفيه وضعته في إحدى عينيك قال فبهت وسكت ولما ورد بغداد جعل يدعو إلى نفسه ويظهر أشياء من المخاريق والشعوذة وغيرها من الأحوال الشيطانية واكثر ما كان يروج على الرافضة لقلة عقولهم وضعف تمييزهم بين الحق والباطل وقد استدعى يوما برئيس من الرافضة فدعاه إلى الإيمان به فقال له الرافضي إني رجل أحب النساء وإني أصلع الرأس وقد شبت فإن أنت أذهبت عني هذا وهذا آمنت بك وأنك الإمام المعصوم وإن شئت قلت إنك نبي وإن شئت قلت أنك أنت الله قال فبهت الحلاج ولم يحر إليه جوابا قال الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي كان الحلاج متلونا تارة يلبس المسوح وتارة يلبس الدراعة وتارة يلبس القباء وهو مع كل قوم على مذهبهم وإن كانوا أهل سنة أو رافضة أو معتزلة أو صوفية أو فساقا أو غيرهم ولما أقام بالأهواز جعل ينفق من دراهم يخرجها يسميها دراهم القدرة فسئل الشيخ أبو علي الجبائي عن ذلك فقال إن هذا كله مما يناله البشر بالحيلة ولكن أدخلوه بيتا لا منفذ له ثم سلوه أن يخرج لكم جرزتين من شوك فلما بلغ ذلك إلى الحلاج تحول من الأهواز قال (11/137)
الخطيب أنبأ إبراهيم بن مخلد أنبأ إسماعيل بن علي الخطيب في تاريخه قال وظهر أمر رجل يقال له الحلاج الحسين بن منصور وكان في حبس السلطان بسعاية وقعت به وذلك في وزارة علي بن عيسى الأولى وذكر عنه ضروب من الزندقة ووضع الحيل على تضليل الناس من جهات تشبه الشعوذة والسحر وادعاء النبوة فكشفه علي بن عيسى عند قبضه عليه وأنهى خبره إلى السلطان يعني الخليفة المقتدر بالله فلم يقر بما رمى به من ذلك فعاقبه وصلبه حيا أياما متوالية في رحبة الجسر في كل يوم غدوة وينادى عليه بما ذكر عنه ثم ينزل به ثم يحبس فأقام في الحبس سنين كثيرة ينقل من حبس إلى حبس خوفا من إضلاله أهل كل حبس إذا طالت مدته عندهم إلى أن حبس آحر حبسة في دار السلطان فاستغوى جماعة من غلمان السلطان وموه عليهم واستمالهم بضروب من الحيل حتى صاروا يحمونه ويدفعون عنه ويرفهونه بالمآكل المطيبة ثم راسل جماعة من الكتاب وغيرهم ببغداد وغيرها فاستجابوا له وترقى به الأمر إلى أن ادعى الربوبية وسعى بجماعة من أصحابه إلى السلطان فقبض عليهم ووجد عند بعضهم كتب تدل على تصدبق ما ذكر عنه وأقر بعضهم بذلك بلسانه وانتشر خبره وتكلم الناس في قتله فأمر الخليفة بتسليمه إلى حامد بن العباس وأمره أن يكشفه بحضرة القضاة والعلماء ويجمع بينه وبين أصحابه فجرى في ذلك خطوب طوال ثم استيقن السلطان أمره ووقف على ما ذكر عنه وثبت ذلك على يد القضاة وأفتى به العلماء فأمر بقتله وإحراقه بالنار فأحضر مجلس الشرطة بالجانب الغربي في يوم الثلاثاء لتسع بقين من ذي القعدة سنة تسع وثلثمائة فضرب بالسياط نحوا من ألف سوط ثم قطعت بداه ورجلاه ثم ضربت عنقه وأحرقت جثته بالنار ونصب رأسه للناس على سور الجسر الجديد وعلقت يداه وجلاه وقال أبو عبدالرحمن بن الحسن السلمي سمعت إبراهيم بن محمد الواعظ يقول قال أبو القاسم الرازي قال أبو بكر بن ممشاذ حضر عندنا بالدينور رجل ومعه مخلاة فما كان يفارقها ليلا ولا نهارا فأنكروا ذلك من حاله ففتشوا مخلاته فوجدوا فيها كتابا للحلاج عنوانه من الرحمن الرحيم إلى فلان بن فلان يدعوه إلى الضلالة والإيمان به فبعث بالكتب إلى بغداد فسئل الحلاج عن ذلك فأقر أنه كتبه فقالوا له كنت تدعي النبوة فصرت تدعي الألوهية والربوبية فقال لا ولكن هذا عين الجمع عندنا هل الكاتب إلا الله وأنا واليد آلة فقيل له معك على ذلك أحد قال نعم ابن عطاء وأبو محمد الحريري وأبو بكر الشبلي فسئل الحريري عن ذلك فقال من يقول بهذا كافر وسئل الشبلي عن ذلك فقال من يقول بهذا يمنع وسئل ابن عطاء عن ذلك فقال القول ما يقول الحلاج في ذلك فعوقب حتى كان سبب هلاكه ثم روى أبو عبدالرحمن السلمي عن محمد بن عبدالرحمن الرازي أن الوزير حامد بن العباس لما احضر الحلاج سأله عن اعتقاده فأقر به فكتبه فسأل عن ذلك (11/138)
فقهاء بغداد فأنكروا ذلك وكفروا من اعتقده فكتبه فقال الوزير إن أبا العباس بن عطاء يقول بهذا فقالوا من قال بهذا فهو كافر ثم طلب الوزير ابن عطاء إلى منزله فجاء فجلس في صدر المجلس فسأله عن قول الحلاج فقال من لا يقول بهذا القول فهو بلا اعتقاد فقال الوزير لابن عطاء ويحك تصوب مثل هذا القول وهذا الاعتقاد فقال ابن عطاء ما لك ولهذا عليك بما نصبت له من أخذ أموال الناس وظلمهم وقتلهم فما لك ولكلام هؤلاء السادة من الأولياء فأمر الوزير عند ذلك ] بضرب شدقيه ونزع خفيه وأن يضرب بهما على رأسه فما زال يفعل به ذلك حتى سال الدم من منخريه وأمر بسجنه فقالوا له إن العامة تستوحش من هذا ولا يعجبها فحمل إلى منزله فقال ابن عطاء اللهم اقتله واقطع يديه ورجليه ثم مات ابن عطاء بعد سبعة أيام ثم بعد مدة قتل الوزير شر قتلة وقطعت يداه ورجلاه وأحرقت داره وكان العوام يرون ذلك بدعوة ابن عطاء على عادتهم في مرائيهم فيمن أوذي ممن لهم معه هوى بل قد قال ذلك جماعة ممن ينسب إلى العلم فيمن يؤذي ابن عربي أو يحط على حسين الحلاج أو غيره هذا بخطيئة فلان وقد اتفق علماء بغداد على كفر الحلاج وزندقته وأجمعوا على قتله وصلبه وكان علماء بغداد إذ ذاك هم الدنيا قال أبو بكر محمد بن داود الظاهري حين أحضر الحلاج في المرة الأولى قبل وفاة أبو بكر هذا وسئل عنه فقال إن كان ما أنزل الله على نبيه ( ص ) حقا وما جاء به حقا فما يقوله الحلاج باطل وكان شديدا عليه وقال أبو بكر الصولي قد رأيت الحلاج وخاطبته فرأيته جاهلا يتعاقل وغبيا يتبالغ وخبيثا مدعيا وراغبا يتزهد وفاجرا يتعبد ولما صلب في أول مرة ونودي عليه أربعة أيام سمعه بعضهم وقد جيء به ليصلب وهو راكب على بقرة يقول ما أنا بالحلاج ولكن ألقي علي شبهه وغاب عنكم فلما أدني إلى الخشبة ليصلب عليها سمعته وهو مصلوب يقول يا معين الفنا علي أعني على الفنا وقال بعضهم سمعته وهو مصلوب يقول إلهي اصبحت في دار الرغائب أنظر إلي العجائب إلهي إنك تتودد إلى من يؤذيك فكيف بمن يؤذى فيك
صفة مقتل الحلاج
قال الخطيب البغدادي وغيره كان الحلاج قد قدم آخر قدمة إلى بغداد فصحب الصوفية وانتسب إليهم وكان الوزير إذ ذاك حامد بن العباس فبلغه أن الحلاج قد أضل خلقا من الحشم والحجاب في دار السلطان ومن غلمان نصر القشوري الحاجب وجعل لهم في جملة ما ادعاه أنه يحيي الموتى وأن الجن يخدمونه ويحضرون له ما شاء ويختار ويشتهيه وقال إنه أحيا عدة من الطير وذكر لعلي بن عيسى أن رجلا يقال له محمد بن علي القنائي الكاتب يعبد الحلاج ويدعو الناس إلى (11/139)
طاعته فطلبه فكبس منزله فأخذه فأقر أنه من أصحاب الحلاج ووجد في منزله أشياء بخط الحلاج مكتوبة بماء الذهب في ورق الحرير مجلدة بأفخر الجلود ووجد عنده سفطا فيه من رجيع الحلاج وعذرته وبوله وأشياء من آثاره وبقية خبز من زاده فطلب الوزير من المقتدر أن يتكلم في أمر الحلاج ففوض أمره إليه فاستدعى بجماعة من أصحاب الحلاج فتهددهم فاعترفوا له أنه قد صح عندهم أنه إله مع الله وأنه يحيي الموتى أنهم كاشفوا الحلاج بذلك ورموه به في وجهه فجحد ذلك وكذبهم وقال أعوذ بالله أن أدعى الربوبية أو النبوة وإنما أنا رجل أعبد الله وأكثر له الصوم والصلاة وفعل الخير لا أعرف غير ذلك وجعل لا يزيد على الشهادتين والتوحيد ويكثر أن يقول سبحانك لا إله إلا أنت عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت وكانت عليه مدرعة سوداء وفي رجليه ثلاثة عشر قيدا والمدرعة وأصلة إلى ركبتيه والقيود وأصلة إلى ركبتيه أيضا وكان مع ذلك يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة وكان قبل احتياط الوزير حامد بن العباس عليه في حجرة من دار نصر القشوري الحاجب مأذونا لمن يدخل إليه وكان يسمي نفسه تارة بالحسين بن منصور وتارة محمد بن أحمد الفارسي وكان نصر الحاجب هذا قد افتتن به وظن أنه رجل صالح وكان قد أدخله على المقتدر بالله فرقاه من وجع حصل فاتفق زواله عنه وكذلك وقع لوالدة المقتدر السيدة رقاها فزالت عنها فنفق سوقه وحظي في دار السلطان فلما انتشر الكلام فيه سلم إلى الوزير حامد بن العباس فحبسه في قيود كثيرة في رجليه وجمع له الفقهاء فأجمعوا على كفره وزندقته وأنه ساحر ممخرق ورجع عنه رجلان صالحان ممن كان اتبعه أحدهما أبو علي هارون بن عبدالعزيز الأوارجي وألاخر يقال له الدباس فذكرا من فضائحه وما كان يدعو الناس إليه من الكذب والفجور والمخرفة والسحر شيئا كثيرا وكذلك أحضرت زوجة ابنه سليمان فذكرت عنه فضائح كثيرة من ذلك أنه أراد أن يغشاها وهي نائمة فانتبهت فقال قومي إلى الصلاة وإنما كان يريد أن يطأها وأمر ابنتها بالسجود له فقالت أو يسجد بشر لبشر فقال نعم إله في السماء وإله في الأرض ثم أمرها أن تأخذ من تحت بارية هنالك ما أرادت فوجدت تحنها دنانير كثيرة مبدورة ولما كان معتقلا في دار حامد بن العباس الوزير دخل عليه بعض الغلمان ومعه طبق فيه طعام ليأكل منه فوجده قد ملأ البيت من سقفه إلى أرضه فذعر ذلك الغلام وفزع فزعا شديدا وألقى ما كان في يده من ذلك الطبق والطعام ورجع محموما فمرض عدة أيام ولما كان آخر مجلس من مجالسه أحضر القاضي أبو عمر محمد بن يوسف وجيء بالحلاج وقد أحضر له كتاب من دور بعض أصحابه وفيه من أراد الحج ولم يتيسر له فليبن في داره بيتا لا يناله شيء من (11/140)
من النجاسة ولا يمكن أحدا من دخوله فإذا كان في أيام الحج فليصم ثلاثة أيام وليطف به كما يطاف بالكعبة ثم يفعل في داره ما يفعله الحجيج بمكة ثم يستدعي بثلاثين يتيما فيطعمهم من طعامه ويتولى خدمتهم بنفسه ثم يكسوهم قميصا قميصا ويعطي كل واحد منهم سبعة دراهم أو قال ثلاثة دراهم فإذا فعل ذلك قام له مقام الحج وإن من صام ثلاثة أيام لا يفطر إلا في اليوم الرابع على ورقات هندبا أجزأه ذلك عن صيام رمضان ومن صلى في ليلة ركعتين من أول الليل إلى آخره أجزأه ذلك عن الصلاة بعد ذلك وأن من جاور بمقابر الشهداء وبمقابر قريش عشرة أيام يصلي ويدعو ويصوم ثم لا يفطر إلا على شيء من خبز الشعير والملح الجريش أغناه ذلك عن العبادة في بقية عمره فقال له القاضي أبو عمر من أين لك هذا فقال من كتاب الاخلاص للحسن البصري فقال له كذبت يا حلال الدم قد سمعنا كتاب الاخلاص للحسن بمكة ليس فيه شيء من هذا فأقبل الوزير على القاضي فقال له قد قلت يا حلال الدم فاكتب ذلك في هذه الورقة وألح عليه وقدم له الدواة فكتب ذلك في تلك الورقة وكتب من حضر خطوطهم فيها وأنفذها الوزير إلى المقتدر وجعل الحلاج يقول لهم ظهرى حمى ودمي حرام وما يحل لكم أن تتأولوا على ما يبيحه واعتقادي الإسلام ومذهبي السنة وتفضيل أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبدالرحمن ابن عوف وأبي عبيدة بن الجراح ولي كتب في السنة موجودة في الوارقين فالله الله في دمي فلا يلتفتون إليه ولا إلى شيء مما يقول وجعل يكرر ذلك وهم يكتبون خطوطهم بما كان من الأمر ورد الحلاج إلى محبسه وتأخر جواب المقتدر ثلاثة أيام حتى ساء ظن الوزير حامد بن العباس فكتب إلى الخليفة يقول له إن أمر الحلاج قد اشتهر ولم يختلف فيه اثنان وقد افتتن كثير من الناس به فجاء الجواب بأن يسلم إلى محمد بن عبدالصمد صاحب الشرطة وليضربه ألف سوط فإن مات والا ضربت عنقه ففرح الوزير بذلك وطلب صاحب الشرطة فسلمه إليه وبعث معه طائفة من غلمانه يصلونه معه إلى محل الشرطة من الجانب الغربي خوفا من أن يستنقذ من أيديهم وذلك بعد عشاء الآخرة في ليلة الثلاثاء لست بقين من ذي القعدة من هذه السنة وهو راكب على بغل عليه إكاف وحوله جماعة من أعوان السياسة على مثل شكله فاستقر منزله بدار الشرطة في هذه الليلة فذكر أنه بات يصلي تلك الليلة ويدعو دعاء كثيرا قال أبو عبدالرحمن السلمي سمعت أبا بكر الشاشي يقول قال أبو الحديد يعني المصري لما كانت الليلة التي قتل في صبيحتها الحلاج قام يصلي من الليل فصلى ما شاء الله فلما كان آخر الليل قام قائما فتغطى بكسائه ومد يده نحو القبلة فتكلم بكلام جائز الحفظ فكان مما حفظت منه قوله نحن شواهدك فلو دلتنا عزتك لتبدى ما شئت من شأنك (11/141)
ومشيئتك وأنت الذي في السماء إله وفي الأرض إله تتجلى لما تشاء مثل تجليك في مشيئتك كأحسن الصورة والصورة فيها الروح الناطقة بالعلم والبيان والقدرة ثم إني أوعزت إلى شاهدك لأني في ذاتك الهوى كيف أنت إذا مثلت بذاتي عند حلول لذاتي ودعوت إلى ذاتي بذاتي وأبديت حقائقي علومي ومعجزاتي صاعدا في معارجي إلى عروش أزلياتي عند التولي عن برياتي إني احتضرت وقتلت وصلبت وأحرقت واحتملت سافيات الذاريات ولججت في الجاريات وأن ذرة من ينجوج مكان هالوك متجلياتي لأعظم من الراسيات ثم أنشأ يقول ... أنعى إليك نفوسا طاح شاهدها ... فيما ورا الحيث بل في شاهد القدم ... أنعى إليك قلوبا طالما هطلت ... سحائب الوحى فيها أبحر الحكم ... أنعى إليك لسان الحق منك ومن ... أودى وتذكاره في الوهم كالعدم ... أنعى اليك بيانا يستكين له ... أقوال كل فصيح مقول فهم ... أنعى إليك إشارات العقول معا ... لم يبق منهن إلا دارس العلم ... أنعى وحبك أخلاقا لطائفة ... كانت مطاياهم من مكمد الكظم ... مضى الجميع فلا عين ولا أثر ... مضى عاد وفقدان الأولى إرم ... وخلفوا معشرا يحذون لبستهم ... أعمى من البهم بل أعمى من النعم ... قالوا ولما أخرج الحلاج من المنزل الذي بات فيه ليذهب به إلى القتل أنشد ... طلبت المستقر بكل أرض ... فلم أر لي بأرض مستقرا ... وذقت من الزمان وذاق مني ... وجدت مذاقه حلوا ومرا ... أطعت مطامعي فاستعبدتني ... ولو أني قنعت لعشت حرا ... وقيل إنه قالها حين قدم إلى الجذع ليصلب والمشهور الأول فلما أخرجوه للصلب مشى إليه وهو يتبختر في مشيته وفي رجليه ثلاثة عشر قيدا وجعل ينشد ويتمايل ... نديمي غير منسوب ... إلى شيء من الحيف ... سقاني مثل ما يشر ... ب قعل الضيف الضيف ... فلما دارت الكأس ... دعا بالنطع والسيف ... كذا من يشرب الراح ... مع التنين في الصيف ... ثم قال يستعجل بها الذي لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ثم لم ينطق بعد ذلك حتى فعل به ما فعل قالوا ثم قدم فضرب ألف سوط ثم قطعت يداه ورجلاه وهو في ذلك كله ساكت ما نطق بكلمة ولم يتغير لونه ويقال إنه جعل يقول مع كل سوط أحد أحد قال أبو عبدالرحمن سمعت عبدالله بن علي يقول سمعت عيسى القصار يقول آخر كلمة تكلم بها الحلاج حين قتل أن قال حسب الواحد إفراد الواحد له فما سمع بهذه الكلمة أحد من المشايخ إلا (11/142)
رق له واستحسن هذا الكلام منه وقال السلمي سمعت أبا بكر المحاملي يقول سمعت أبا الفاتك البغدادي وكان صاحب الحلاج قال رأيت في النوم بعد ثلاث من قتل الحلاج كأني واقف بين يدي ربي عز و جل وأنا أقول يا رب ما فعل الحسين بن منصور فقال كاشفته بمعنى فدعا الخلق إلى نفسه فأنزلت به ما رأيت ومنهم من قال بل جزع عند القتل جزعا شديدا وبكى بكاء كثيرا فالله أعلم وقال الخطيب ثنا عبدالله بن أحمد بن عثمان الصيرفي قال قال لنا أبو عمر بن حيوية لما أخرج الحسين بن منصور الحلاج ليقتل مضيت في جملة الناس ولم أزل أزاحم حتى رأيته فدنوت منه فقال لأصحابه لا يهولنكم هذا الأمر فإني عائد إليكم بعد ثلاثين يوما ثم قتل فما عاد وذكر الخطيب أنه قال وهو يضرب لمحمد بن عبدالصمد وإلى الشرطة أدع بي إليك فإن عندي نصيحة تعدل فتح القسطنطينية فقال له قد قيل لي إنك ستقول مثل هذا وليس إلى رفع الضرب عنك سبيل ثم قطعت يداه ورجلاه وحز رأسه وأحرقت جثته وألقى رمادها في دجلة ونصب الرأس يومين ببغداد على الجسر ثم حمل إلى خراسان وطيف به في تلك النواحي وجعل أصحابه يعدون أنفسهم برجوعه إليهم بعد ثلاثين يوما وزعم بعضهم أنه رأى الحلاج من آخر ذلك اليوم وهو راكب على حمار في طريق النهروان فقال لعلك من هؤلاء النفر الذين ظنوا أني أنا هو المضروب المقتول إني لست به وإنما ألقي شبهي على رجل ففعل به ما رأيتم وكانوا بجهلهم يقولون إنما قتل عدو من أعداء الحلاج فذكر هذا لبعض علماء ذلك الزمان فقال إن كان هذا الرأي صادقا فقد تبدى له شيطان على صورة الحلاج ليضل الناس به كما ضلت فرقة النصارى بالمصلوب قال الخطيب واتفق له أن دجلة زادت في هذا العام زيادة كثيرة فقال إنما زادت لأن رماد جثة الحلاج خالطها وللعوام في مثل هذا وأشباهه ضروب من الهذيانات قديما وحديثا ونودي ببغداد أن لا تشتري كتب الحلاج ولا تباع وكان قتله يوم الثلاثاء لست بقين من ذي القعدة من سنة تسع وثلثمائة ببغداد وقد ذكره ابن خلكان في الوفيات وحكى اختلاف الناس فيه ونقل عن الغزالي أنه ذكره في مشكاة الأنوار وتأول كلامه وحمله على ما يليق ثم نقل ابن خلكان عن إمام الحرمين أنه كان يذمه ويقول إنه اتفق هو والجنابي وابن المقفع على إفساد عقائد الناس وتفرقوا في البلاد فكان الجنابي في هجر والبحرين وابن المقفع ببلاد الترك ودخل الحلاج العراق فحكم صاحباه عليه بالهلكة لعدم انخداع أهل العراق بالباطل قال ابن خلكان وهذا لا ينتظم فإن ابن المقفع كان قبل الحلاج بدهر في أيام السفاح والمنصور ومات سنة خمسين وأربعين ومائتين أو قبلها ولعل إمام الحرمين أراد ابن المقفع الخراساني الذي ادعى الربوبية وأوتي العمر واسمه عطاء وقد قتل (11/143)
نفسه بالسم في سنة ثلاث وستين ومائتين ولا يمكن اجتماعه مع الحلاج أيضا وإن أردنا تصحيح كلام إمام الحرمين فنذكر ثلاثة قد اجتمعوا في وقت واحد على إضلال الناس وإفساد العقائد كما ذكر فيكون المراد بذلك الحلاج وهو الحسين بن منصور الذي ذكره وابن السمعاني يعني أبا جعفر محمد ابن علي وأبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الحسن بن بهرام الجنابي القرمطي الذي قتل الحجاج وأخذ الحجر الأسود وطم زمزم ونهب أستار الكعبة فهؤلاء يمكن اجتماعهم في وقت واحد كما ذكرنا ذلك مبسوطا وذكره ابن خلكان ملخصا وفيها توفي من الأعيان
أبو العباس بن عطاء أحد أئمة الصوفية
وهو أحمد بن محمد بن عطاء الأدمي حدث عن يوسف بن موسى القطان والمفضل بن زياد وغيرهما وقد كان موافقا للحلاج في بعض اعتقاده على ضلاله وكان أبو العباس هذا يقرأ في كل يوم ختمة فإذا كان شهر رمضان قرأ في كل يوم وليلة ثلاث ختمات وكان له ختمة يتدبرها ويتدبر معاني القرآن فيها فمكث فيها سبعة عشرة سنة ومات ولم يختمها وهذا الرجل ممن كان اشتبه عليه أمر الحلاج وأظهر موافقته فعاقبه الوزير حامد بن العباس بالضرب البليغ على شدقيه وأمر بنزع خفيه وضربه بهما على رأسه حتى سال الدم من منخريه ومات بعد سبعة أيام من ذلك وكان قد دعا على الوزير أن تقطع يداه ورجلاه ويقتل شر قتلة فمات الوزير بعد مدة كذلك وفيها توفي أبو إسحاق إبراهيم بن هارون الطبيب الحراني وأبو محمد عبدالله بن حمدون النديم
ثم دخلت سنة عشر وثلثمائة
فيها أطلق يوسف بن أبي الساج من الضيق وكان معتقلا وردت إليه أمواله وأعيد إلى عمله وأضيف إليه بلدان أخرى ووظف عليه في كل سنة خمسمائة ألف دينار يحملها إلى الحضرة فبعث حينئذ إلى مؤنس الخادم يطلب منه أبا بكر بن الأدمي القارئ وكان قد قرأ بين يديه حين اعتقل في سنة إحد وستين ومائتين وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة فخاف القارئ من سطوته واستعفى من مؤنس الخادم فقال له مؤنس اذهب وأنا شريكك في الجائزة فلما دخل عليه قرأ بين يديه وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فقال بل أحب أن تقرأ ذلك العشر الذي قرأته عند سجني وإشهاري وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة فإن ذلك كان سبب توبتي ورجوعي إلى الله عز و جل وكان ذلك على يديك ثم أمر له بمال جزيل وأحسن إليه وفيها مرض علي بن عيسى الوزير فجاءه هارون بن المقتدر ليعوده ويبلغه سلام أبيه عليه فبسط له الطريق فلما اقترب من داره تحامل وخرج إليه فبلغه سلام الخليفة وجاء مؤنس الخادم معه ثم جاء الخبر بأن الخليفة قد عزم على عيادته فاستعفى من مؤنس الخادم ثم ركب على جهد عظيم حتى سلم على الخليفة (11/144)
لئلا يكلفه الركوب إليه وفيها قبض على القهرمانة أم موسى ومن ينسب إليها وكان حاصل ما حمل إلى بيت المال من جهتها ألف ألف دينار وفي يوم الخميس منها لعشر بقين من ربيع الآخر ولي المقتدر منصب القضاء أبا الحسين عمر بن الحسين بن علي الشيباني المعروف بابن الاشناني وكان من حفاظ الحديث وفقهاء الناس ولكنه عزل بعد ثلاثة أيام وكان قبل ذلك محتسبا ببغداد وفيها عزل محمد بن عبدالصمد عن شرطة بغداد ووليها نازوك وخلع عليه وفيها في جمادى الآخرة فيها ظهر كوكب له ذنب طوله ذراعان في برج السنبلة وفي شعبان منه وصلت هدايا نائب مصر وهو الحسين بن المارداني وفي جملتها بغلة معها فلوها وغلام يصل لسانه إلى طرف أنف وفيها قرئت الكتب على المنابر بما كان من الفتوح على المسلمين ببلاد الروم وفيها ورد الخبر بأنه انشق بأرض واسط فلوع في الأرض في سبعة عشر موضعا أكبرها طوله ألف ذراع وأقلها مائتا ذراع وأنه غرق من أمهات القرى ألف وثلثمائة قرية وحج بالناس إسحاق بن عبدالملك الهاشمي وممن توفي فيها من الأعيان
أبو بشر الدولابي
محمد بن أحمد بن حماد أبو سعيد أبو بشر الدولابي مولى الأنصار ويعرف بالوراق أحد الأئمة من حفاظ الحديث وله تصانيف حسنة في التاريخ وغير ذلك وروى عن جماعة كثيرة قال ابن يونس كان يصعق توفي وهو قاصد الحج بين مكة والمدينة بالعرج في ذي القعدة وفيها توفي
أبو جعفر بن جرير الطبري
محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الإمام أبو جعفر الطبري كان مولده في سنة أربع وعشرين ومائتين وكان أسمر أعين مليح الوجه مديد القامة فصيح اللسان وروى الكثير عن الجم الغفير ورحل إلى الآفاق في طلب الحديث وصنف التاريخ الحافل وله التفسير الكامل الذي لا يوجد له نظير وغيرهما من المصنفات النافعة في الأصول والفروع ومن أحسن ذلك تهذيب الآثار ولو كمل لما احتيج معه إلى شيء ولكان فيه الكفاية لكنه لم يتمه وقد روى عنه أنه مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم أربعين ورقة قال الخطيب البغدادي استوطن ابن جرير بغداد وأقام بها إلى حين وفاته وكان من أكابر أئمة العلماء ويحكم بقوله ويرجع إلى معرفته وفضله وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره وكان حافظا لكتاب الله عارفا بالقراءات كلها بصيرا بالمعانمي فقيها في الأحكام عالما بالسنن وطرقها وصحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها عارفا بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم عارفا بأيام الناس وأخبارهم وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك وكتاب في التفسير لم يصنف أحد مثله وكتاب سماه تهذيب الآثار لم أر سواه في معناه إلا أنه لم يتمه وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة واختيارات (11/145)
وتفرد بمسائل حفظت عنه قال الخطيب وبلغني عن الشيخ أبي حامد أحمد بن أبي طاهر الفقيه الأسفرائيني أنه قال لو سافر رجل إلى الصين حتى ينظر في كتاب تفسير ابن جرير الطبري لم يكن ذلك كثيرا أو كما قال وروى الخطيب عن إمام الأئمة أبي بكر بن خزيمة أنه طالع تفسير محمد بن جرير في سنين من أوله إلى آخره ثم قال ما أعلم على أديم الأرض أعلم من ابن جرير ولقد ظلمته الحنابلة وقال محمد لرجل رحل إلى بغداد يكتب الحديث عن المشايخ ولم يتفق له سماع من ابن جرير لأن الحنابلة كانوا يمنعون أن يجتمع به أحد فقال ابن خزيمة لو كتبت عنه لكان خيرا لك من كل من كتبت عنه قلت وكان من العبادة والزهادة والورع والقيام في الحق لا تأخذه في ذلك لومة لائم وكان حسن الصوت بالقراءة مع المعرفة التامة بالقراءات على أحسن الصفات وكان من كبار الصالحين وهو أحد المحدثين الذين اجتمعوا في مصر في أيام ابن طولون وهم محمد بن إسحاق بن خزيمة إمام الأئمة ومحمد بن نصر المروزي ومحمد بن هارون الروياني محمد بن جرير الطبري هذا وقد ذركرناهم في ترجمة محمد بن نصر المروزي وكان الذي قام فصلى وهو محمد بن إسحاق بن خزيمة وقيل محمد بن نصر فرزقهم الله وقد أراد الخليفة المقتدر في بعض الأيام أن يكتب كتاب وقف تكون شروطه متفقا عليها بين العلماء فقيل له لا يقدر على استحضار ذلك إلا محمد بن جرير الطبري فطلب منه ذلك فكتب له فاستدعاه الخليفة إليه وقرب منزلته عنده وقال له سل حاجتك فقال لا حاجة لي فقال لا بد أن تسألني حاجة أو شيئا فقال أسأل من أمير المؤمنين أن يتقدم أمره إلى الشرطة حتى يمنعوا السؤال يوم الجمعة أن يدخلوا إلى مقصورة الجامع فأمر الخليفة بذلك وكان ينفق على نفسه من مغل قرية تركها له أبوه بطبرستان ومن شعره ... إذا أعسرت لم يعلم رفيقي ... وأستغني فيستغني صديقي ... حيائي حافظ لي ماء وجهي ... ورفقي في مطالبتي رفيقي ... ولو أني سمحت ببذل وجهي ... لكنت إلى الغني سهل الطريق ... ومن شعره أيضا ... خلقان لا أرضى طريقهما ... بطر الغنى ومذلة الفقر ... فإذا غنيت فلا تكن بطرا ... وإذا افتقرت فته على الدهر ... وقد كانت وفاته وقت المغرب عشية يوم الأحد ليومين بقيا من شوال من سنة عشر وثلثمائة وقد جاوز الثمانين بخمس سنين أو ست سنين وفي شعر رأسه ولحيته سواد كثير ودفن في داره لأن بعض عوام الحنابلة ورعاعهم منعوا من دفنه نهارا ونسبوه إلى الرفض ومن الجهلة من رماه بالإلحاد وحاشاه من ذلك كله بل كان أحد أئمة الإسلام علما وعملا بكتاب الله وسنة رسوله وإنما تقلدوا ذلك عن أبي بكر محمد بن داود الفقيه الظاهري حيث كان يتكلم فيه ويرميه بالعظائم (11/146)
وبالرفض ولما توفي اجتمع الناس من سائر أقطار بغداد وصلوا عليه بداره ودفن بها ومكث الناس يترددون إلى قبره شهورا يصلون عليه وقد رأيت له كتابا جمع فيه أحاديث غدير خم في مجلدين ضخمين وكتابا جمع فيه طريق حديث الطير ونسب إليه أنه كان يقول بجواز مسح القدمين في الوضوء وأنه لا يوجب غسلهما وقد اشتهر عنه هذا فمن العلماء من يزعم أن ابن جرير اثنان أحدهما شيعي واليه ينسب ذلك وينزهون أبا جعفر هذا عن هذه الصفات والذي عول عليه كلامه في التفسير أنه يوجب غسل القدمين ويوجب مع الغسل دلكهما ولكنه عبر عن الدلك بالمسح فلم يفهم كثير من الناس مراده ومن فهم مراده نقلوا عنه أنه يوجب الغسل والمسح وهو الدلك والله أعلم وقد رثاه جماعة من أهل العلم منهم ابن الأعرابي حيث يقول ... حدث مفظع وخطب جليل ... دق عن مثله اصطبار الصبور ... قام ناعي العلوم اجمع لما ... قام ناعي محمد بن جرير ... فهوت أنجم لها زاهرات ... مؤذنات رسومها بالدثور ... وتغشى ضياها النير الإش ... راق ثوب الدجنة الديجور ... وغدا روضها الأنيق هشيما ... ثم عادت سهولها كالوعور ... يا أبا جعفر مضيت حميدا ... غيروان في الجد والتشمير ... بين أجر على اجتهادك موفو ... ر وسعي إلى التقى مشكور ... مستحقا به الخلود لدى جن ... ة عدن في غبطة وسرور ... ولأبي بكر بن دريد رحمه الله فيه مرثاة طويلة وقد أوردها الخطيب البغدادي بتمامها والله سبحانه أعلم
دخلت سنة إحدى عشرة وثلثمائة
فيها دخل أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنابي أمير القرامطة في ألف وسبعمائة فارس إلى البصرة ليلا نصب السلالم الشعر في سورها فدخلها قهرا وفتحوا أبوابها وقتلوا من لقوه من أهلها وهرب أكثر الناس فألقوا أنفسهم في الماء فغرق كثير منهم ومكث بها سبعة عشر يوما يقتل ويأسر من نسائها وذراريها ويأخذ ما يختار من أموالها ثم عاد إلى بلده هجر كلما بعث إليه الخليفة جندا من قبله فر هاربا وترك البلد خاويا إنا لله وإنا إليه راجعون وفيها عزل المقتدر عن الوزارة حامد بن العباس وعلي بن عيسى وردها إلى أبي الحسن بن الفرات مرة ثالثة وسلم إليه حامدا وعلي بن عيسى فأما حامد فإن المحسن بن الوزير ضمنه من المقتدر بخمسمائة ألف ألف دينار فتسلمه فعاقبه بأنواع العقوبات وأخذ منه أموالا جزيلة لا تحصى ولا تعد كثرة ثم أرسله مع موكلين عليه إليه إلي واسط ليحتاطوا على أمواله وحواصله هناك وأمرهم أن يسقوه سما في الطريق فسقوه ذلك في بيض مشوي (11/147)
كان قد طلبه منهم فمات في رمضان من هذه السنة وأما علي بن عيسى فإنه صودر بثلثمائة ألف دينار وصودر قوم آخرون من كتابه فكان جملة ما أخذ من هؤلاء مع ما كان صودرت به القهرمانة من الذهب شيئا كثيرا جدا آلاف ألف من الدنانير وغير ذلك من الأثاث والأملاك والدواب والآنية من الذهب والفضة وأشار الوزير ابن الفرات على الخليفة المقتدر بالله أن يبعد عنه مؤنس الخادم إلى الشام وكان قد قدم من بلاد الروم من الجهاد وقد فتح شيئا كثيرا من حصون الروم وبلدانهم وغنم مغانم كثيرة جدا فأجابه إلى ذلك فسأل مؤنس الخليفة أن ينظره إلى سلخ شهر رمضان وكان مؤنس من أعلم بما يعتمده ابن الوزير من تعذيب الناس ومصادرتهم بالأموال فأمر الخليفة مؤنسا بالخروج إلى الشام وفيها كثر الجراد وأفسد كثيرا من الغلات وفي رمضان منها أمر الخليفة برد ما فضل من المواريث على ذوي الأرحام وفي رمضان أحرق بالنار على باب العامة مائتين وأربعة أعدال من كتب الزنادقة منها ما كان صنفه الحلاج وغيره فسقط منها ذهب كثير كانت محلاة به وفيها اتخذ أبو الحسن ابن الفرات الوزير مرستانا في درب الفضل وكان ينفق عليه من ماله في كل شهر مائتى دينار وفيها توفي من الأعيان الخلال
الخلال أحمد بن محمد بن هاون
أبو بكر الخلال صاحب الكتاب الجامع لعلوم الإمام أحمد ولم يصنف في مذهب الإمام أحمد مثل هذا الكتاب وقد سمع الخلال الحديث من الحسن بن عرفة وسعدان بن نصر وغيرهما توفي يوم الجمعة قبل الصلاة ليومين مضتا من هذه السنة
أبو محمد الجريري
أحد أئمة الصوفية أحمدبن محمد بن الحسين أبومحمد الجريري أحد كبار الصوفية صحب سريا السقطي وكان الجنيد يكرمه ويحترمه ولما حضرت الجنيد الوفاة أوصى أن يجالس الجريري وقد اشتبه على الجريري هذا شأن الحلاج فكان ممن أجمل القول فيه على أن الجريري هذا مذكور بالصلاح والديانة وحسن الأدب
الزجاج صاحب معاني القرآن
إبراهيم بن السري بن سهل أبو إسحاق الزجاج كان فاضلا دينا حسن الاعتقاد وله المصنفات الحسنة منها كتاب معاني القرآن وغيره من المصنفات العديدة المفيدة وقد كان أول أمره يخرط الزجاج فأحب علم النحو فذهب إلى المبرد وكان يعطي المبرد كل يوم درهما ثم استغنى الزجاج وكثر ماله ولم يقطع عن المبرد ذلك الدرهم حتى مات وقد كان الزجاج مؤدبا للقاسم بن عبيد الله فلما ولي الوزارة كان الناس يأتونه بالرقاع ليقدمها إلى الوزير فحصل له بسبب ذلك ما يزيد على أربعين (11/148)
ألف دينار توفي في جمادى الأولى منها وعنه أخذ أبو علي الفارسي النحوي وابن القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي نسب إليه لأخذه عنه وهو صاحب كتاب الجمل في النحو
بدر مولى المعتضد
وهو بدر الحمامي ويقال له بدر الكبير كان في آخر وقت على نيابة فارس ثم وليها من بعده ولده محمد
حامد بن العباس
الوزير استوزره المقتدر في سنة ست وثلثمائة وكان كثير المال والغلمان كثير النفقات كريما سخيا كثير المروءة له حكايات تدل على بذله وإعطائه الأموال الجزيلة ومع هذا كان قد جمع شيئا كثيرا وجد له في مطمورة ألوف من الذهب كان كل يوم إذا دخلها ألقى فيها ألف دينار فلما امتلأت طمها فلما صودر دل عليها فاستخرجوا منها مالا كثيرا جدا ومن أكبر مناقبه أنه كان من السعاة في قتل الحسين الحلاج كما ذكرنا ذلك توفي الوزير حامد بن العباس في رمضان منها مسموما وفيها توفي عمر بن محمد بحتر البحتري صاحب الصحيح
ابن خزيمة
محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة بن صالح بن بكر السلمى مولى محسن بن مزاحم الإمام أبو بكر بن خزيمة الملقب بإمام الأئمة كان بحرا من بحور العلم طاف البلاد ورحل إلى الآ فاق في الحديث وطلب العلم فكتب الكثير وصنف وجمع وكتابه الصحيح من أنفع الكتب وأجلها وهو من المجتهدين في دين الإسلام حكى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الشافعية عنه أنه قال ما قلدت أحدا منذ بلغت ستة عشر سنة وقد ذكرنا له ترجمة مطولة في كتابنا طبقات الشافعية وهو أحد المحمدين الذين أرملوا بمصر ثم رزقهم الله ببركة صلاته وقد ذكرنا نحو ذلك في ترجمة الحسن بن سفيان وفيها توفي محمد بن زكريا الطبيب صاحب المصنف الكبير في الطب
ثم دخلت سنة ثنتي عشرة وثلثمائة
في المحرم منها اعترض القرمطي أبو طاهر الحسين بن أبي سعيد الجنابي لعنه الله ولعن أباه للحجيج وهم راجعون من بيت الله الحرام قد أدوا فرض الله عليهم فقطع عليهم الطريق فقاتلوه دفعا عن أموالهم وأنفسهم وحريمهم فقتل منهم خلقا كثيرا لا يعلمهم إلا الله وأسر من نسائهم وأبنائهم ما اختاره واصطفى من أموالهم ما أراد فكان مبلغ ما أخذه من أموال ما يقاوم ألف ألف دينار ومن الأمتعة والمتاجر نحو ذلك وترك بقية الناس بعد ما أخذ جمالهم وزادهم وأموالهم ونساءهم وأبناءهم على بعد الديار في تلك الفيافي والبرية بلا ماء ولا زاد ولا محمل وقد جاحف عن الناس نائب الكوفة أبو الهيجاء عبدالله بن حمدان فهزمه وأسره إنا لله وإنا إليه راجعون وكان عدة من مع (11/149)
القرمطي ثمانمائة مقاتل وعمره إذ ذاك سبع عشرة سنة قصمه الله ولما انتهى خبرهم إلى بغداد قام نساؤهم وأهاليهم في النياحة ونشرن شعورهن ولطمن خدودهن وانضاف إليهن نساء الذين نكبوا على يد الوزير وابنه وكان ببغداد يوم مشهود بسبب ذلك في غاية البشاعة والشناعة فسأل الخليفة عن الخبر فذكروا له أنهم نسوة الحجيج ومعهن نساء الذين صادرهم ابن الفرات وجاءت على يدالحاجب نصر بن القشورى على الوزير فقال يا أمير المؤمنين إنما استولى هذا القرمطي على ما استولى عليه بسبب إبعادك مؤنس الخادم المظفر فطمع هؤلاء في الأطراف وما أشار عليك بإبعاده إلا ابن الفرات فبعث الخليفة إلى ابن الفرات يقول إن الناس يتكلمون فيك لنصحك إياى وأرسل يطيب قلبه فركب هو وولده إلى الخليفة فدخلا عليه فأكرمهما وطيب قلوبهما فخرجا من عنده فنالهما أذى كثير من نصر الحاجب وغيره من كبار الأمراء وجلس الوزير في دسته فحكم بين الناس كعادته وبات ليلته تلك مفكرا في أمره وأصبح كذلك وهو ينشد ... فأصبح لا يدري وإن كان حازما ... أقدامه خير له أم داره ... ثم جاءه في ذلك اليوم أميران من جهة الخليفة فدخلا عليه داره إلى بين حريمه وأخرجوه مكشوفا رأسه وهو في غاية الذل والصغار والإهانة والعار فأركبوه في حراقة إلى الجانب الآخر وفهم الناس ذلك فرجموا ابن الفرات بالآجر وتعطلت الجوامع وخربت العامة المحاريب ولم يصل الناس الجمعة فيها وأخذ خط الوزير بألفي ألف دينار وأخذ خط ابنه بثلاثة آلاف ألف دينار وسلما إلى نازوك أمير الشرطة فاعتقلا حينا حتى خلصت منهما الأموال ثم أرسل الخليفة خلف مؤنس الخادم فلما قدم سلمهما إليه فأهانهما غاية الإهانة بالضرب والتقريع له ولولده المجرم الذي ليس بمحسن ثم قتلا بعد ذلك واستوزر عبد الله بن محمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن خاقان أبو القاسم وذلك في تاسع ربيع الأول منها ولما دخل مؤنس بغداد دخل في تجمل عظيم وشفع عند ابن خاقان في أن يرسل إلى علي بن عيسى وكان قد صار إلى صنعاء اليمن مطرودا فعاد إلى مكة وبعث إليه الوزير أن ينظر في أمر الشام ومصر وأمر الخليفة مؤنس الخادم بأن يسير إلى الكوفة لقتال القرامطة وأنفق على خروجه ألف ألف دينار وأطلق القرمطي من كان أسره من الحجيج وكانوا ألفي رجل وخمسمائة امرأة وأطلق أبا الهيجاء نائب الكوفة معهم أيضا وكتب إلى الخليفة يسأل منه البصرة والأهواز فلم يجب إلى ذلك وركب المظفر مؤنس في جحافل إلى بلاد الكوفة فسكن أمرها ثم انحدر منها إلى واسط واستناب على الكوفة وبغداد ياقوت الخادم فتمهدت الأمور وانصلحت وفي هذه السنة ظهر رجل بين الكوفة وبغداد فادعى أنه محمد بن إسماعيل بن محمد بن محمد بن الحسين بن علي بن أبي طالب وصدقه على ذلك طائفة من الأعراب والطغام والتفوا عليه (11/150)
وقويت شوكته في شوال فأرسل إليه الوزير جيشا فقاتلوه فهزموه وقتلوا خلقا من أصحابه وتفرق بقيتهم وهذا المدعي المذكور هو رئيس الإسماعيلية وهو أولهم وظفر نازوك صاحب الشرطة بثلاثة من أصحاب الحلاج وهم حيدرة والشعراني وابن منصور فطالبهم بالرجوع عن اعتقادهم فيه فلم يرجعوا فضرب رقابهم وصلبهم في الجانب الشرقي ولم يحج في هذه السنة أحد من أهل العراق لكثرة خوف الناس من القرامطة وفيها توفي من الأعيان
إبراهيم بن خميس
أبو إسحاق الواعظ الزاهد كان يعظ الناس فمن جملة كلامه الحسن قوله يضحك القضاء من الحذر ويضحك الأجل من الأمل ويضحك التقدير مع التدبير وتضحك القسمة من الجهد والعناء
علي بن محمد بن الفرات
ولاه المقتدر الوزارة ثم عزله ثم ولاه ثم عزله ثم ولاه ثم عزله ثم ولاه ثم عزله ثم ولاه ثم قتله في هذه السنة وقتل ولده وكان ذا مال جزيل ملك عشرة آلاف ألف دينار وكان يدخل له من ضياعه كل سنة ألف ألف دينار وكان ينفق على خمسة آلاف من العباد والعلماء تجري عليهم نفقات في كل شهر ما فيه كفايتهم ووكان له معرفة بالوزارة والحساب يقال إنه نظر يوما في ألف كتاب ووقع على ألف رقعة فتعجب من حضره من ذلك وكانت فيه مروءة وكرم وحسن سيرة في ولاياته غير هذه المرة فإنه ظلم وغشم وصادر الناس وأخذ أموالهم فأخذه الله أخذ القرى وهي ظالمة أخذ عزيز مقتدر وقد كان ذا كرم وسعة في النفقة ذاكر عنده ذات ليلة أهل الحديث والصوفية وأهل الأدب فأطلق من ماله لكل طائفة عشرين ألفا وكتب رجل على لسانه إلى نائب مصر كتابا فيه وصية به منه اليه فلما دفع الكتوب إلى نائب مصر استراب منه وقال ما هذا خظ الوزير وأرسل به إلى الوزير فلما وقف عليه عرف أنه كذب وزور فاستشار الحاضرين عنده فيما يفعل بالذي زور عليه فقال بعضهم تقطع يديه وقال آخر تقطع إبهاميه وقال آخر يضرب ضربا مبرحا فقال الوزير أو خير من ذلك كله ثم أخذ الكتاب وكتب عليه نعم هذا خطي وهو من أخص أصحابي فلا تتركن من الخير شيئا مما تقدر عليه إلا أوصلته إليه فلما عاد الكتاب أحسن نائب مصر إلى ذلك الرجل إحسانا بالغا ووصله بنحو من شعرين ألف دينار واستدعى ابن الفرات يوما ببعض الكتاب فقال له ويحك إن نيتي فيك سيئة وإني في كل وقت أريد أن أقبض عليك وأصادرك فأراك في المنام تمنعني برغيف وقد رأيتك في المنام من ليال وإني أريد القبض عليك فجعلت تمتنع مني فأمرت جندي أن يقاتلوك فجعلوا كلما ضربوك بشيء من سهام وغيرها تتقي الضرب برغيف في يدك فلا يصل إليك شيء فأعلمني ما قصة هذا الرغيف (11/151)
فقال أيها الوزير إن أمي منذ كنت صغيرا كل ليلة تضع تحت وسادتي رغيفا فإذا أصبحت تصدقت به عني فلم يزل كذلك دأبها حتى ماتت فلما ماتت فعلت أنا ذلك مع نفسي فكل ليلة أضع تحت وسادتي رغيفا ثم أصبح أتصدق به فعجب الوزير من ذلك وقال والله لا ينالك مني بعد اليوم سوء أبدا ولقد حسنت نيتي فيك وقد أحببتك وقد أطال ابن خكلان ترجمته فذكر بعض ما أوردنا في ترجمته
محمد بن محمد بن سليمان بمن الحارث بن عبدالرحمن
أبو بكر الأزدي الواسطي المعروف بالباغندي سمع محمد بن عبدالله بن نمير وابن أبي شيبة وشيبان بن فروخ علي بن المديني وخلقا من أهل الشام ومصر والكوفة والبصرة وبغداد ورحل إلى الأمصار البعيدة وعني بهذا الشأن واشتغل فيه فأفرط حتى قيل إنه ربما سرد بعض الأحاديث بأسانيدها في الصلاة والنوم وهو لا يشعر فكانوا يسبحون به حتى يتذكر أنه في الصلاة وكان يقول أنا أجيب في ثلثمائة ألف مسألة من الحديث لا أتجاوزه إلى غيره وقدد رأى رسول الله ( ص ) في منامه فقال له يا رسول الله أيما أثبت في الأحاديث منصور أو الأعمش فقال له منصور وقد كان يعاب بالتدليس حتى قال الدارقطني هو كثير التدليس يحدث بما لم يسمع وربما سرق بعض الأحاديث والله أعلم
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة
قال ابن الجوزي في ليلة بقيت من المحرم انقض كوكب من ناحية الجنوب إلى الشمال قبل مغيب الشمس فأضاءت الدنيا منه وسمع له صوت كصوت الرعد الشديد وفي صفر منها بلغ الخليفة أن جماعة من الرافضة يجتمعون في مسجد برائي فينالون من الصحابة ولا يضلون الجمعة ويكاتبون القرامطة ويدعون إلى محمد بن إسماعيل الذي ظهر بين الكوفة وبغداد ويدعون أنه المهدي ويتبرأون من المقتدر وممن تبعه فأمر بالإحتياط عليهم واستفتى العلماء بالمسجد فافتوا بأنه مسجد ضرار فضرب من قدر عليه منهم الضرب المبرح ونودي عليهم وأمر بهدم ذلك المسجد المذكور فهدم هدمه نازوك وأمر الوزير الخاقاني فجعل مكانه مقبرة فدفن فيها جماعة من الموالي وخرج الناس للحج في ذي القعدة فاعترضهم أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنابي القرمطي م فرجع أكثر الناس إلى بلدانهم ويقال إن بعضهم سأل منه الأمان ليذهبوا فأمنهم وقد قاتله جند الخليفة فلم يفد ذلك شيئا لتمرده وشدة بأسه فانزعج أهل بغداد من ذلك وترحل أهل الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي خوفا منهم ودخل القرمطي إلى الكوفة فأقام بها شهرا يأخذ من أموالها ونسائها ما يختار قال ابن الجوزي وكثر الرطب في هذه السنة ببغداد حتى بيع كل ثمانية أرطال بحبة وعمل (11/152)
منه تمر وحمل إلى البصرة وعزل المقتدر وزيره الخاقاني بعد أن ولاه سنة وستة أشهر ويومين وولى مكانه أبا القاسم أحمد بن عبيدالله بن أحمد بن الخطيب الخصيبي لأجل مال بذله من جهة زوجة للحسن بن الفرات وكان ذلك المال سبعمائة ألف دينار فأمر الخصيبي علي بن عيسى علي أن يكون مشرفا على ديار مصر وبلاد الشام وهو مقيم بمكة يسير إلى تلك البلاد في بعض الأوقات فيعمل ما ينبغي ثم يرجع إلى مكة وفيها توفي من توفي من الأعيان
علي بن عبدالحميد بن عبدالله بن سليمان
أبو الحسن الغضائري سمع القواريري وعباسا العنبري وكان من العباد الثقات قال جئت يوما إلى السري السقطي فدققت عليه بابه فخرج إلي ووضع يده على عضادتي الباب وهو يقول اللهم اشغل من شغلني عنك بك قال فنالتني بركة هذه الدعوة فحججت على قدمي من حلب إلى مكة أربعين حجة ذهابا وإيابا
ابو العباس السراج الحافظ
محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن مهران بن عبدالله الثقفي مولاهم أبو العباس السراج أحد الأئمة الثقات الحفاظ مولده سنة ثمان عشرة ومائتين سمع قتيبة واسحق بن راهوية وخلقا كثيرا من أهل خراسان وبغداد والكوفة والبصرة والحجاز وقد حدث عنه البخاري ومسلم وهما أكبر منه وأقدم ميلادا ووفاة وله مصنفات كثيرة نافعة جدا وكان يعد من مجابي الدعوة وقد رأى في منامه كأنه يرقي في سلم فصعد فيه تسعا وتسعين درجة فما أولها على أحد إلا قال له تعيش تسعا وتسعين سنة فكان كذلك وقد ولد له ابنه أبو عمر وعمره ثلاث وثمانون سنة قال الحاكم فسمعت أبا عمرو يقول كنت إذا دخلت المسجد على أبي والناس عنده يقول لهم هذا عملته في ليلة ولي من العمر ثلاث وثمانون سنة
ثم دخلت سنة أربع عشرة وثلاثمائة
فيها كتب ملك الروم وهو الدمستق لعنه الله إلى أهل السواحل أن يحملوا إليه الخراج فأبوا عليه فركب إليهم في جنوده في أول هذه السنة فعاث في الأرض فسادا ودخل ملطية فقتل من أهلها خلقا وأسر وأقام بها ستة عشر يوما وجاء أهلها إلى بغداد يستنجدون الخليفة عليه ووقع في بغداد حريق في مكانين مات فيهما خلق كثير وأحرق في أحدهما ألف دار ودكان وجاءت الكتب بموت الدمستق ملك النصارى فقرئت الكتب على المنابر وجاءت الكتب من مكة أنهم في غاية الانزعاج بسبب اقتراب القرامطة إليهم وقصدهم إياهم فرحلوا منها إلى الطائف وتلك النواحي وفيها هبت ريح عظيمة بنصيبين اقتلعت أشجارا كثيرة وهدمت البيوت قال ابن (11/153)
الجوزي وفي يوم الأحد لثمان مضين من شوال منها وهو سابع كانون الأول سقط ببغداد ثلج عظيم جدا حصل بسببه برد شديد بحيث أتلف كثيرا من النخيل والأشجار وجمدت الأدهان حتى الأشربة وماء الورد والخل والخلجان الكبار ودجلة وعقد بعض مشايخ الحديث مجلسا للتحديث على متن دجلة من فوق الجمد وكتب هنالك ثم انكسر البرد بمطر وقع فأزال ذلك كله ولله ولله الحمد وفيها قدم الحجاج من خراسان إلى بغداد فاعتذر إليهم مؤنس الخادم بأن القرامطة قد قصدوا مكة فرجعوا ولم يتهيأ الحج في هذه السنة من ناحية العراق بالكلية وفي ذي القعدة عزل الخليفة وزيره أبا العباس الخصيبي بعد سنة وشهرين وأمر بالقبض عليه وحبسه وذلك لإهماله أمر الوزارة والنظر في المصالح وذلك لاشتغاله بالخمر في كل ليلة فيصبح مخمورا لا تمييز له وقد وكل الأمور إلى نوابه فخانوا وعلموا مصالحهم وولى أبا القاسم عبيد الله بن محمد الكلوذاني نيابة عن علي بن عيسى حتى يقدم ثم أرسل في طلب علي بن عيسى وهو بدمشق فقدم بغداد في أبهة عظيمة فنظر في المصالح الخاصة والعامة ورد الأمور إلى السداد وتمهدت الأمور واستدعى بالخصيبي فتهدده ولامه وناقشه على ما كان يعتمده ويفعله في خاصة نفسه من معاصي الله عز و جل وفي الأمور العامة وذلك بحضرة القضاة والأعيان ثم رده إلى السجن وفيها أخذ نصر ابن أحمد الساماني الملقب بالسعيد بلاد الري وسكنها إلى سنة ست عشرة وثلثمائة وفيها غزت الصائفة من طرسوس بلاد الروم فغنموا وسلموا ولم يحج ركب العراق خوفا من القرامطة وفيها توفي من الأعيان سعد النوبي صاحب باب النوبى من دار الخلافة ببغداد في صفر وأقيم أخوه مكانه في حفظ هذا الباب الذي صار ينسب بعد إليه ومحمد بن محمد الباهلي ومحمد بن عمر ابن لبابة القرمطي ونصر بن القاسم الفرائضي الحنفي أبو الليث سمع القواريري وكان ثقة عالما بالفرائض على مذهب أبي حنيفة مقربا جليلا
ثم دخلت سنة خمس عشرة وثلاثمائة
في صفر منها كان قدوم علي بن عيسى بن الوزير من دمشق وقد تلقاه الناس إلى أثناء الطريق فمنهم من لقيه إلى الأنبار ومنهم دون ذلك وحين دخل إلى الخليفة خاطبه الخليفة فأحسن مخاطبته ثم انصرف إلى منزله فبعث الخليفة وراءه بالفرش والقماش وعشرين ألف دينار واستدعاه من الغد فخلع عليه فأنشد وهو في الخلعة ... ما الناس إلا مع الدنيا وصاحبها ... فكيف ما انقلبت به انقلبوا ... يعظمون أخا الدنيا فإن وثبت ... يوما عليه بمالا يشتهي وثبوا ... وفيها جاءت الكتب بأن الروم دخلوا شميساط وأخذوا جميع ما فيها ونصبوا فيها خيمة الملك (11/154)
وضربوا الناقوس في الجامع بها فأمر الخليفة مؤنس الخادم بالتجهيز إليهم وخلع عليه خلعة سنية ثم جاءت الكتب بأن المسلمين وثبوا على الروم فقتلوا منهم خلقا كثيرا جدا فلله الحمد والمنة ولما تجهز مؤنس للمسير جاءه بعض الخدم فأعلمه أن الخليفة يريد أن يقبض عليه إذ دخل لوداعه وقد حضرت له ريبة في دار الخلافة مغطاة ليقع فيها فأحجم عن الذهاب وجاءت الأمراء إليه من كل جانب ليكونوا معه على الخليفة فبعث إليه الخليفة رقعة فيها خطه يحلف له أن هذا الأمر الذي بلغه ليس بصحيح فطابت نفسه وركب إلى دار الخلافة في غلمانه فلما دخل على الخليفة خاطبه مخاطبة عظيمة وحلف أنه طيب القلب عليه وله عنده الصفاء الذي يعرفه ثم خرج من بين يديه معظما مكرما وركب العباس بن الخليفة والوزير ونصر الحاجب في خدمته لتوديعه وكبر الأمراء بين يديه مثل الحجبة وكان خروجه يوما مشهودا قاصدا بلاد الثغور لقتال الروم وفي جمادى الأولى منها قبض على رجل خناق قد قتل خلقا من النساء وكان يدعي لهن أنه يعرف العطف والتنجيم فقصده النساء لذلك فإذا انفرد بالمرأة قام إليها ففعل معها الفاحشة وخنقها بوتر وأعانته امرأته وحفر لها في داره فدفنها فإذا امتلأت تلك الدار من القتلى انتقل إلى دار أخرى ولما ظهر عليه وجد في داره التي هو فيها أخيرا سبع عشرة امرأة قد خنقهن ثم تتبعت الدور التي سكنها فوجدوه قد قتل شيئا كثيرا من النساء فضرب ألف سوط ثم خنق حتى مات وفيها كان ظهور الديلم قبحهم الله ببلاد الرى وكان فيهم ملك غلب على أمرهم يقال له مرداويح يجلس على السرير من ذهب وبين يديه سرير من فضة ويقول أنا سليمان بن داود وقد سار في أهل الرى وقزوين وأصبهان سيرة قبيحة جدا فكان يقتل النساء والصبيان في المهد ويأخذ أموال الناس وهو في غاية الجبروت والشدة والجرأة على محارم الله عز و جل فقتله الأتراك وأراح الله المسلمين من شره وفيها كانت بين يوسف بن أبي الساج وبين أبي طاهر القرمطي عند الكوفة موقعة فسبقه إليها أبو طاهر فحال بينه وبينها فكتب إليه يوسف بن أبي الساج اسمع وأطع والا فاستعد للقتال يوم السبت تاسع شوال منها فكتب إليه هلم فسار إليه فلما تراءا الجمعان استقل يوسف الجيش القرمطي وكان مع يوسف بن أبي الساج عشرون ألفا ومع القرمطي ألف فارس وخمسمائة رجل فقال يوسف وما قيمة هؤلاء الكلاب وأمر الكاتب أن يكتب بالفتج إلى الخليفة قبل اللقاء فلما اقتتلوا ثبت القرامطة ثبوتا عظيما ونزل القرمطي فحرض أصحابه وحمل بهم حملة صادقة فهزموا جند الخليفة وأسروا يوسف ابن أبي الساج أمير الجيش وقتلوا خلقا كثيرا من جند الخليفة واستحوذوا على الكوفة وجاءت الأخبار بذلك إلى بغداد وشاع بين الناس أن القرامطة يريدون أخذ بغداد فانزعج الناس لذلك وظنوا صدقه فاجتمع الوزير بالخليفة وقال يا أمير المؤمنين إن الأموال إنما تدخر لتكون عونا على (11/155)
قتال أعداء الله وإن هذا الأمر لم يقع أمر بعد زمن الصحابة أفظع منه قد قطع هذا الكافر طريق الحج على الناس وفتك في المسلمين مرة بعد مرة وإن بيت المال ليس فيه شيء فاتق الله يا أمير المؤمنين وخاطب السيدة يعني أمه لعل أن يكون عندها شيء ادخرته لشدة فهذا وقته فدخل على أمه فكانت هي التي ابتدأته بذ 1 لك وبذلت له خمسمائة ألف دينار وكان في بيت المال مثلها فسلمها الخليفة إلى الوزير ليصرفها في تجهيز الجيوش لقتال القرامطة فجهز جيشا أربعين ألف مقاتل مع أمير يقال له بلبق فسار نحوهم فلما سمعوا به أخذوا عليه الطرقات فأراد دخول بغداد فلم يمكنه ثم التقوا معه فلم يلبث بلبق وجيشه أن انهزم فإنا لله وإنا إليه راجعون وكان يوسف بن أبي الساج معهم مقيدا في خيمة فجعل ينظر إلى محل الوقعة فلما رجع القرمطي قال أردت أن تهرب فأمر به فضربت عنقه ورجع القرمطي من ناحية بغداد إلى الأنبار ثم انصرف إلى هيت فأكثر أهل بغداد الصدقة وكذلك الخليفة وأمه والوزير شكرا لله على صرفه عنه وفيها بعث المهدي المدعي أنه فاطمي ببلاد المغرب ولده أبا القاسم في جيش إلى بلاد منها فانهزم جيشه وقتل من أصحابه خلق كثير وفيها اختط المهدي المذكور مدينته المحمدية وفيها حاصر عبدالرحمن بن الداخل إلى بلاد المغرب الأموي مدينة طليطلة وكانوا مسلمين لكنهم نقضوا عهده ففتحها قهرا وقتل خلقا من أهلها وفيها توفي من الأعيان
بن الجصاص الجوهري
واسمه الحسين بن عبدالله بن الجصاص الجوهري أبو عبدالله البغدادي كان ذا مال عظيم وثروة واسعة وكان أصل نعمته من بيت أحمد بن طولون كان قد جعله جوهريا له يسوق له ما يقع من نفائش الجواهر بمصر فاكتسب بسبب ذلك أموالا جزيلة جدا قال ابن الجصاص كنت يوما بباب ابن طولون إذ خرجت القهرمانة وبيدها عقد فيه مائة حبة الجوهر تساوي كل واحدة ألفي دينار قالت أريد أن تأخذ هذا فتخرطه حتى يكون أصغر من هذا الحجم فإن هذا نافر عما يريدونه فأخذته منها وذهب به إلى منزلي وجعلت جواهر أصغر منه تساوي أقل من عشر قيمة تلك بكثير فدفعتها إليها وفزت أنا بذلك الذي جاءت به وأرادت خرطه وإتلافه فكانت قيمتة مائتي ألف دينار واتفق أنه صودر في أيام المقتدر مصادرة عظيمة أخذ منه فيها ما يقاوم ستة عشر ألف ألف دينار وبقي معه من الأموال شيء كثير جدا قال بعض التجار دخلت عليه فوجدته يتردد في منزله كأنه مجنون فقلت له ما لك هكذا فقال ويحك أخذ مني كذا وكذا فأنا أحس أن روحي ستخرج فعذرته ثم أخذت في تسليته فقلت له إن دورك وبساتينك وضياعك الباقية تساوي سبعمائة ألف دينار وأصدقني كم بقي عندك من الجواهر والمتاع فإذا شيء يساوي ثلثمائة ألف دينار (11/156)
غير ما بقي عند من الذهب والفضة المصكوكة فقلت له إن هذا أمر لا يشاركك فيه أحد من التجار ببغداد مع ما لك من الوجاهة عند الدولة والناس قال فسرى عنه وتسلى عما فات وأكل وكان له ثلاثة أيام لم يأكل شيئا ولما خلص في مصادرة المقتدر بشفاعة أمه السيدة فيه حكى عنه نفسه قال نظرت في دار الخلافة إلى مائة خيشة فيها متاع رث مما حمل إلي من مصر وهو عندهم في دار مضيعة وكان لي في حمل منها ألف دينار موضوعة في مصر لا يشعر بها أحد فاستوهبت ذلك من أم المقتدر فكلمت في ذلك ولدها فأطلقه إلي فتسلمته فإذا الذهب لم ينقص منه شيء وقد كان ابن الجصاص مع ذلك مغفلا شديد التغفل في كلامه وأفعاله وقد ذكر عنه أشياء تدل على ذلك وقيل إنه إنما كان يظهر ذلك قصدا ليقال إنه مغفل وقيل إنه كان يقول ذلك على سبيل البسط والدعابة والله سبحانه أعلم وفيها توفي عبدالله بن محمد القزويني و
علي بن سليمان بن المفضل
أبو الحسن الأخفش روى عن المبرد وثعلب واليزيدي وغيرهم وعنه الروياني والمعافا وغيرهما وكان ثقة في نقله فقيرا في ذات يده توصل إلى أبي علي بن مقلة حتى كلم فيه الوزير علي بن عيسى في أن يرتب له شيئا فلم يجبه إلى ذلك وضاق به الحال حتى كان يأكل اللفت النيء فمات فجأة من كثرة أكله في شعبان منها وهذا هو الأخفش الصغير والأوسط هو سعيد بن مسعدة تلميذ سيبويه وأما الكبير فهو أبو الخطاب عبدالحميد بن عبدالحميد من أهل هجر وهو شيخ سيبويه وأبي عبيد وغيرهما وقيل إن أبا بكر محمد بن السري السراج النحوي صاحب الأصول في النحو فيها مات قاله ابن الأثير ومحمد بن المسيب الأرغياني
ثم دخلت سنة ست عشرة وثلاثمائة
فيها عاث أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنابي القرمطي في الأرض فسادا حاصر الرحبة فدخلها قهرا وقتل من أهلها خلقا وطلب منه أهل قرقيسيا الأمان فأمنهم وبعث سراياه إلى ما حولها من الأعراب فقتل منهم خلقا حتى صار الناس إذا سمعوا بذكره يهربون من سماع اسمه وقدر على الأعراب إمارة يحملونها إلى هجر في كل سنة عن كل رأس ديناران وعاث في نواحي الموصل فسادا وفي سنجار ونواحيها وخرب تلك الديار وقتل وسلب ونهب فقصده مؤنس الخادم فلم يتواجها بل رجع إلى بده هجر فابتنى بها دارا سماها دار الهجرة ودعا إلى المهدي الذي ببلاد المغرب بمدينة المهدية وتفاقم أمره وكثرت أتباعه فصاروا يكبسون القرية من أرض السواد فيقتلون أهلها وينهبون أموالها ورام في نفسه دخول الكوفة وأخذها فلم يطق ذلك ولما رأى الوزير على (11/157)
ابن عيسى ما يفعله هذا القرمطي في بلاد الإسلام وليس له دافع استعفى من الوزارة لضعف الخليفة وجيشه عنه وعزل نفسه منها فسعى فيها علي بن مقلة الكاتب المشهو فوليها بسفارة نصر الحاجب وإلى عبدالله البريدي بالباء الموحدة من البريد ويقال اليزيدي لخدمة جده يزيد بن منصور الجهيري ثم جهز الخليفة جيشا كثيفا مع مؤنس الخادم فاقتتلوا مع القرامطة فقتلوا من القرامطة خلقا كثيرا وأسروا منهم طائفة كثيرة من أشرافهم ودخل بهم مؤنس الخادم بغداد ومعه أعلام من أعلامهم منكسة مكتوب عليها ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ففرح الناس بذلك فرحا شديدا وطابت أنفس البغاددة وانكسر القرامطة الذين كانوا قد نشأوا وفشوا بأرض العراق وفوض القرامطة أمرهم إلى رجل يقال له حريث بن مسعود ودعوا إلى المهدي الذي ظهر ببلاد المغرب جد الفاطميين وهم أدعياء كذبة كما قد ذكر ذلك غير واحد من العلماء كما سيأتي تفصيله وبيانه في موضعه وفيها وقعت وحشة بين مؤنس الخادم والمقتدر وسبب ذلك أن نازوكا أمير الشرطة وقع بينه وبين هارون بن عريب وهو ابن خال المقتدر فانتصر هارون على نازوك وشاع بين العامة أن هارون سيصير أمير الأمراء فبلغ ذلك مؤنس الخادم وهو بالرقة فأسرع الأوبة إلى بغداد واجتمع بالخليفة فتصالحا ثم إن الخليفة نقل هارون إلى دار الخلافة فقويت الوحشة بينهما وانضم إلى مؤنس جماعة من الأمراء وترددت الرسل بينهما وانقضت هذه السنة والأمر كذلك وهذا كله من ضعف الأمور واضطرابها وكثرة الفتن وانتشارها وفيها كان مقتل الحسين بن القاسم الداعي العلوي صاحب الري على يد صاحب الديلم وسلطانهم مرداويح قبحه الله وفيها توفي من الأعيان
بنان بن محمد بن حمدان بن سعيد
أبو الحسن الزاهد ويعرف بالجمال وكانت له كرامات كثيرة وله منزلة كبيرة عند الناس وكان لا يقبل من السلطان شيئا وقد أنكر بوما على ابن طولون شيئا من المنكرات وأمره بالمعروف فأمر به فألقى بين يدي الأسد فكان الأسد يشمه ويحجم عنه فأمر برفعة من بين يديه وعظمه الناس جدا وسأله بعض الناس عن حاله حين كان بين يدي الأسد فقال له لم يكن على بأس قد كنت أفكر في سؤر السباع واختلاف العلماء فيه هل هو طاهر أم نجس قالوا وجاءه رجل فقال له إن لي على رجل مائة دينار وقد ذهبت الوثيقة وأنا أخشى أن ينكر الرجل فأسألك أن تدعو لي بأن يرد الله على الوثيقة فقال بنان إني رجل قد كبرت سني ورق عظمي وأنا أحب الحلواء فاذهب فاشتر لي منها رطلا وأتني به حتى أدعو لك فذهب الرجل فاشترى الرطل ثم جاء به إليه ففتح الورقة التي فيها الحلواء فإذا هي حجته بالمائة دينار فقال له أهذه حجتك قال نعم قال خذ (11/158)
حجتك وخذ الحلواء فأطعمها صبيانك ولما توفي خرج أهل مصر في جنازته تعظيما له وإكراما لشأنه وفيها توفي محمد بن عقيل البلخي وأبو بكر بن أبي داود السجستاني الحافظ بن الحافظ وأبو عوانة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الاسفرائيني صاحب الصحيح المستخرج على مسلم وقد كان من الحفاظ المكثرين والأئمة المشهورين ونصر الحاجب كان من خيار الأمراء دينا عاقلا أنفق من ماله في حرب القرامطة مائة ألف دينار وخرج بنفسه محتسبا فمات في أثناء الطريق في هذه السنة وكان حاجبا للخليفة المقتدر
ثم دخلت سنة سبع عشرة وثلاثمائة
فيها كان خلع المقتدر وتولية القاهر محمد بن المعتضد بالله في المحرم اشتدت الوحشة بين مؤنس الخادم والمقتدر بالله وتفاقم الحال وآل إلى أن اجتمعوا على خلع المقتدر وتولية القاهر محمد بن المعتضد فبايعوه بالخلافة وسلموا عليه بها ولقبوه القاهر بالله وذلك ليلة السبت النصف من المحرم وقلد على بن مقلة وزارته ونهبت دار المقتدر وأخذوا منها شيئا كثيرا جدا وأخذوا لأم المقتدر خمسمائة ألف دينار وكانت قد دفنتها في قبر في تربتها فحملت إلى بيت المال وأخرج المقتدر وأمه وخالته وخواصه وجواريه من دار الخلافة وذلك بعد محاصرة دار الخلافة وهرب من كان بها من الحجبة والخدم وولى نازوك الحجوبة مضافا إلى ما بيده من الشرطة وألزم المقتدر بأن كتب على نفسه كتابا بالخلع من الخلافة وأشهد على نفسه بذلك جماعة من الأمراء والأعيان وسلم الكتاب إلى القاضي أبي عمر محمد بن يوسف فقال لولده الحسين احتفظ بهذا الكتاب فلا يرينه أحد من خلق الله ولما أعيد المقتدر إلى الخلافة بعد يومين رده إليه فشكره على ذلك جدا وولاه قضاء القضاة فلما كان يوم الأحد السادس عشر من المحرم جلس القاهر بالله في منصب الخلافة وجلس بين يديه الوزير أبو علي بن مقلة وكتب إلى العمال بالآفاق يخبرهم بولاية القاهر بالخلافة عوضا عن المقتدر وأطلق علي بن عيسى من السجن وزاد في أقطاع جماعة من الأمراء الذين قاموا بنصره منهم أبو الهيجاء بن حمدان فلما كان يوم الإثنين جاء الجند وطلبوا أرزاقهم وشغبوا وبادروا إلى نازوك فقتلوه وكان مخمورا ثم صلبوه وهرب الوزير ابن مقلة وهرب الحجاب ونادوا يا مقتدر يا منصور ولم يكن مؤنس يومئذ حاضرا وجاء الجند إلى باب مؤنس يطالبونه بالمقتدر فأغلق بابه دونهم وجاحف دونه خدمه فلما رأى مؤنس أنه لا بد من تسليم المقتدر اليهم أمر بالخروج فخاف المقتدر أن يكون حيلة عليه ثم تجاسر فخرج فحمله الرجال على أعناقهم حتى أدخلوه دار الخلافة فسأل عن أخيه القاهر وأبي الهيجاء بن حمدان ليكتب لهما أمانا فما كان عن قريب حتى جاءه خادم ومعه راس أبي الهيجاء وقد احترز رأسه وأخرجه من بين كتفيه ثم (11/159)
استدعى بأخيه القاهر فأجلسه بين يديه واستدعاه إليه وقبل بين عينيه وقال يأ أخي أنت لا ذنب لك وقد علمت أنك مكره مفهور والقاهر يقول الله الله نفسي يا أمير المؤمنين فقال وحق رسول الله ( ص ) لا جرى عليك مني سوء أبدا وعاد ابن مقلة فكتب إلى الآفاق يعلمهم بعود المقتدر إلى الخلافة وتراجعت الأمور إلى حالها الأول وحمل رأس نازوك وأبي الهيجاء ونودي عليهما هذا رأس من عصى مولاه وهرب أبو السرايا بن حمدان إلى الموصل وكان ابن نفيس من أشد الناس على المقتدر فلما دعا إلى الخلافة خرج من بغداد متنكرا فدخل الموصل ثم صار إلى إرمينية ثم لحق بالقسطنطينية فتنصر بها مع أهلها وأما مؤنس فإنه لم يكن في الباطن على المقتدر وإنما وافق جماعة الأمراء مكرها ولهذا لما كان المقتدر في داره لم ينله منه ضيم بل كان يطب قلبه ولو شاء لقتله لما طلب من داره فلهذا لما عاد المقتدر إلى الخلافة رجع إلى دار مؤنس فبات بها عنده لثقته به وقرر أبا علي بن مقلة على الوزارة وولى محمد بن يوسف قضاء القضاة وجعل محمد أخاه وهو القاهر عند والدته بصفة محبوس عندها فكانت تحسن إليه غاية الإحسان وتشتري له السراري وتكرمه غاية الاكرام
ذكر أخذ القرامطة الحجر الأسود إلى بلادهم
فيها خرج ركب العراق وأميرهم منصور الديلمي فوصلوا إلى مكة سالمين وتوافت الركوب هناك من كل مكان وجانب وفج فما شعروا إلا بالقرمطي قد خرج عليهم في جماعته يوم التروية فانتهب أموالهم واستباح قتالهم فقتل في رحاب مكة وشعابها وفي المسجد الحرام وفي جوف الكعبة من الحجاج خلقا كثيرا وجلس أميرهم أبو طاهر لعنه الله على باب الكعبة والرجال تصرع حوله والسيوف تعمل في الناس في المسجد الحرام في يوم التروية الذي هو من أشرف الأيام وهو يقول أنا لله وبالله أنا أنا أخلق الخلق وأفنيهم أنا فكان الناس يفرون منهم فيتعلقون بأستار الكعبة فلا يجدي ذلك عنهم شيئا بل يقتلون وهم كذلك ويطوفون فيقتلون في الطواف وقد كان بعض أهل الحديث يومئذ يطوف فلما قضى طوافه أخذته السيوف فلما وجب أنشد وهو كذلك ... ترى المحبين صرعى في ديارهم ... كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا ... فلما قضى القرمطي لعنه الله أمره وفعل ما فعل بالحجيج من الأفاعيل القبيحة أمر أن تدفن القتلى في بئر زمزم ودفن كثيرا منهم في أماكنهم من الحرم وفي المسجد الحرام ويا حبذا تلك القتلة وتلك الضجعة وذلك المدفن والمكان ومع هذا لم يغسلوا ولم يكفنوا ولم يصل عليهم لأنهم محرمون شهداء في نفس الأمر وهدم قبة زمزم أمر بقلع الكعبة ونزع كسوتها عنها وشققها بين (11/160)
أصحابه وأمر رجلا أن يصعد إلى ميزاب الكعبة فيقتلعه فسقط على أم رأسه فمات إلى النار فعند ذلك انكف الخبيث عن الميزاب ثم أمر بأن يقلع الحجر الأسود فجاءه رجل فضربه بمثقل في يده وقال أين الطير الأبابيل أين الحجارة من سجيل ثم قلع الحجر الأسود وأخذوه حين راحوا معهم إلى بلادهم فمكث عندهم ثنتين وعشرين سنة حتى ردوه كما سنذكره في سنة تسع وثلاثين وثلثمائة فإنا لله وإنا إليه راجعون ولما رجع القرمطي إلى بلاده ومعه الحجر الأسود وتبعة أمير مكة هو وأهل بيته وجنده وسأله وتشفع إليه أن يرد الحجر الأسود ليوضع في مكانه وبذل له جميع ما عنده من الأموال فلم يلتفت إليه فقاتله أمير مكة فقتله القرمطي وقتل أكثر أهل بيته وأهل مكة وجنده واستمر ذاهبا إلى بلاده ومعه الحجر وأموال الحجيج وقد ألحد هذا اللعين في المسجد الحرام إلحادا لم يسبقه إليه أحد ولا يلحقه فيه وسيجاريه على ذلك الذي لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد وإنما حمل هؤلاء على هذا الصنيع أنهم كفار زنادقة وقد كانوا ممالئين للفاطميين الذين نبغوا في هذه السنة ببلاد إفريقية من أرض المغرب ويلقب أميرهم بالمهدي وهو أبو محمد عبيدالله بن ميمون القداح وقد كان صباغا بسلمية وكان يهوديا فادعى أنه أسلم ثم سافر من سلمية فدخل بلاد إفريقية فادعى أنه شريف فاطمي فصدقه على ذلك طائفة كثيرة من البربر وغيرهم من الجهلة وصارت له دولة فملك مدنية سجلماسة ثم ابتنى مدينة وسماها المهدية وكان قرار ملكه بها وكان هؤلاء القرامطة يراسلونه ويدعون إليه ويترامون عليه ويقال إنهم كانوا يفعلون ذلك سياسة ودولة لا حقيقة له وذكر ابن الأثير أن المهدي هذا كتب إلى أبي طاهر يلومه على ما فعل بمكة حيث سلط الناس على الكلام فيهم وانكشفت أسرارهم التي كانوا يبطنونها بما ظهر من صنيعهم هذا القبيح وأمره برد ما أخذه منها وعوده إليها فكتب إليه بالسمع والطاعة وأنه قد قبل ما أشار إليه من ذلك وقد أسر بعض أهل الحديث في أيدي القرامطة فمكث في أيديهم مدة ثم فرج الله عنه وكان يحكي عنهم عجائب من قلة عقولهم وعدم دينهم وأن الذي أسره كان يستخدمه في أشق الخدمة وأشها وكان يعربد عليه إذا سكر فقال لي ذات ليلة وهو سكران ما تقول في محمدكم فقلت لا أدري فقال كان سائسا ثم قال ما تقول في أبي بكر فقلت لا أدري فقال كان ضعيفا مهينا وكان عمر فظا غليظا وكان عثمان جاهلا أحمق وكان علي ممخرقا ليس كان عنده أحد يعلمه ما ادعى أنه في صدره من العلم أما كان يمكنه أن يعلم هذا كلمة وهذا كلمة ثم قال هذا كله مخرقة فلما كان من الغد قال لا تخبر بهذا الذي قلت لك أحدا ذكره ابن الجوزي في منتظمه وروى عن بعضهم أنه قال كنت في المسجد الحرام يوم التروية في مكان الطواف فحمل على (11/161)
رجل كان إلى جانبي فقتله القرمطي ثم قال يا حمير ورفع صوته بذلك أليس قلتم في بيتكم هذا ومن دخله كان آمنا فأين الأمن قال فقلت له اسمع جوابك قال نعم قلت إنما أراد الله فأمنوه قال فثنى رأس فرسه وانصرف وقد سأل بعضهم ههنا سؤالا فقال قد احل الله سبحانه بأصحاب الفيل وكانوا نصارى ما ذكره في كتابه ولم يفعلوا بمكة شيئا مما فعله هؤلاء ومعلوم أن القرامطة شر من اليهود والنصارى والمجوس بل ومن عبدة الأصنام وأنهم فعلوا بمكة ما لم يفعله أحد فهلا عوجلوا بالعذاب والعقوبة كما عوجل أصحاب الفيل وقد أجيب عن ذلك بأن أصحاب الفيل إنما عوقبوا إظهارا لشرف البيت ولما يراد به من التشريف العظيم بإرسال النبي الكريم من البلد الذي فيه البيت الحرام فلما أرادوا إهانة هذه البقعة التي يراد تشريفها وإرسال الرسول منها أهلكهم سريعا عاجلا ولم يكن شرائع مقررة تدل على فضله فلو دخلوه وأخربوه لأنكرت القلوب فضله وأما هؤلاء القرامطة فإنما فعلوا ما فعلوا بعد تقرير الشرائع وتمهيد القواعد والعلم بالضرورة من دين الله بشرف مكة والكعبة وكل مؤمن يعلم أن هؤلاء قد ألحدوا في الحرم إلحادا بالغا عظيما وأنهم من أعظم الملحدين الكافرين بما تبين من كتاب الله وسنة رسوله فلهذا لم يحتج الحال إلي معالجتهم بالعقوبة بل أخرهم الرب تعالى ليوم تشخص فيه الأبصار والله سبحانه يمهل ويملي ويستدرج ثم يأذخ أخذ عزيز مقتدر كما قال النبي ( ص ) ( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ) ثم قرأ قوله تعالى ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار وقال لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد وقال نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ وقال متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون وفيها وقعت فتنة ببغداد بين أصحاب أبي بكر المروذي الحنبلي وبين طائفة من العامة اختلفوا في تفسير قوله تعالى عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا فقالت الحنابلة يجلسه معه على العرش وقال الآخرون المراد بذلك الشفاعة العظمى فاقتتلوا بسبب ذلك وقتل بينهم قتلى فإنا لله وإنا إليه راجعون وقد ثبت في صحيح البخاري أن المراد بذلك مقام الشفاعة العظمى وهي الشفاعة في فضل القضاء بين العباد وهو المقام الذي يرغب إليه فيه الخلق كلهم حتى إبراهيم ويغبطه به الأولون والآخرون وفيها وقعت فتنة بالموصل بين العامة فيما يتعلق بأمر المعاش وانتشرت وكثر أهل الشر فيها واستظهروا وجرت بينهم شرور ثم سكنت وفيها وقعت فتنة ببلاد خراسان بين بني ساسان وأميرهم نصر بن أحمد الملقب بسعيد وخرج في شعبان خارجي بالموصل وخرج آخر بالبواريج فقاتلهم أهل تلك الناحية حتى سكن شرهم وتفرق أصحابهم وفيها التقى مفلح (11/162)
الساجي وملك الروم الدمستق فهزمه مفلح وطرد وراءه إلى أرض الروم وقتل منهم خلقا كثيرا وفيها هبت ريح شديدة ببغداد تحمل رمادا أحمر يشبه رمل أرض الحجاز فامتلأت منه البيوت وفيها توفي من الأعيان أحمد بن الحسن بن الفرج بن سفيان أبو بكر النحوي كان عالما بمذهب الكوفيين وله فيه تصانيف
أحمد بن مهدي بن رميم
العابد الزاهد أنفق في طلب العلم ثلثمائة ألف درهم ومكث أربعين سنة لا يأوى إلى فراش وقد روى الحافظ أبو نعيم أنه جاءته امرأة ذات ليلة فقالت له إني قد امتحنت بمحنة وأكرهت على الزنا وأنا حبلى منه وقد تسترت بك وزعمت أنك زوجي وأن هذا الحمل منك فاسترني سترك الله ولا تفضحني فسكت عنها فلما وضعت جاءني أهل المحلة وإمام مسجدهم يهنئونني بالولد فأظهرت البشر وبعثت فاشتريت بدينارين شيئا حلوا وأطعمتهم وكنت أوجه إليها مع إمام المسجد في كل شهر دينارين صفة نفقة للمولود وأقول أقرئها مني السلام فإنه قد سبق مني ما فرق بيني وبينها فمكثت كذلك سنتين ثم مات الولد فجاؤني يعزونني فيه فأظهرت الحزن عليه ثم جاءتني أمه بالدنانير التي كنت أرسل بها إليها نفقة الولد قد جمعتها في صره عندها فقالت لي سترك الله وجزاك خيرا وهذه الدنانير التي كنت ترسل بها فقلت إني كنت أرسل بها صلة للولد وقد مات وأنت ترثينه فهي لك فافعلي بها ما شئت فدعت وانصرفت
بدر بن الهيثم
ابن خلف بن خالد بن راشد بن الضحاك بن النعمان بن محرق بن النعمان بن المنذر أبو القاسم البلخي القاضي الكوفي نزل بغداد وحدث بها عن أبي كريب وغيره وكان سماعه للحديث بعد ما جاوز أربعين سنة وكان ثقة نبيلا عاش مائة سنة وسبع عشرة سنة توفي في شوال منها بالكوفة
عبدالله بن محمد بن عبدالعزيز
ابن المرزبان بن سابور بن شاهنشاه أبو القاسم البغوي ويعرف بابن بنت منيع ولد سنة ثلاث عشرة وقيل أربعة عشرة ومائتين ورأى أبا عبيد القاسم بن سلام ولم يسمع منه وسمع من أحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحيى بن معين وعلي بن الجعد وخلف بن هشام بن البزار وخلق كثير وكان معه جزء فيه سماعه من ابن معين فأخذه موسى بن هارون الحافظ فرماه في دجلة وقال يريد أن يجمع بين الثلاثة وقد تفرد عن سبع وثمانين شيخا وكان ثقة حافظا ضابطا روى عن الحفاظ وله مصنفات وقال موسى بن هارون الحافظ كان ابن بنت منيع ثقة صدوقا فقيل له إن ههنا ناسا يتكلمون فيه فقال يحسدونه ابن بنت منيع لا يقول إلا الحق وقال ابن أبي (11/163)
حاتم وغيره أحاديثه تدخل في الصحيح وقال الدارقطني كان البغوي قل ما يتكلم على الحديث فإذا تكلم كان كلامه كالمسمار في الساج وقد ذكره ابن عدي في كامله فتكلم فيه وقال حدث بأشياء أنكرت عليه وكان معه طرف من معرفة الحديث والتصانيف وقد انتدب ابن الجوزي للرد على ابن عدي في هذا الكلام وذكر أنه توفي ليلة عبد الفطر منها وقد استكمل مائة سنة وثلاث سنين وشهورا وهو مع ذلك صحيح السمع والبصر والأسنان يطأ الاماء توفي ببغداد ودفن بمقبرة باب التبن رحمه الله وأكرم مثواه
محمد بن أبي الحسين بن محمد بن عثمان
الشهيد الحافظ أبو الفضل الهروي يعرف بابن أبي سعد قدم بغداد وحدث بها عن محمد بن عبدالله الأنصاري وحدث عنه ابن المظفر الحافظ وكان من الثقات الأثبات الحفاظ المتقنين له مناقشات على بضعة عشر حديثا من صحيح مسلم قتلته القرامطة يوم التروية بمكة في هذه السنة في جملة من قتلوا رحمه الله وأكرم مثواه
الكعبي المتكلم
هو أبو القاسم عبدالله بن أحمد بن محمود البلخي االكعبي المتكلم نسبة إلى بني كعب وهو أحد مشايخ المعتزلة وتنسب إليه الطائفة الكعبية منهم قال ابن خلكان كان من كبار المتكلمين وله اختيارات في علم الكلام من ذلك أنه كان يزعم أن أفعال الله تقع بلا اختيار منه ولا مشيئة قلت وقد خالف الكعبي نص القرآن في غير ما موضع قال تعالى وربك يخلق ما يشاء ويختار وقال ولو شاء ربك ما فعلوه ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولو أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها الآية وغيرها مما هو معلوم بالضرورة وصريح العقل والنقل
ثم دخلت سنة ثمان عشرة وثلثمائة
فيها عزل الخليفة المقتدر وزيره أبا علي بن مقلة وكانت مدة وزارته سنتين وأربعة أشهر وثلاثة أيام واستوزر مكانه سليمان بن الحسن بن مخلد وجعل علي بن عيسى ناظرا معه وفي جمادى الأولى منها أحرقت دار أبي علي بن مقلة وكان قد أنفق عليها مائة ألف دينار فانتهب الناس أخشابها وما وجدوا فيها من حديد ورصاص وغيره وصادره الخليفة بمائتي ألف دينار وفيها طرد الخليفة الرجالة الذين كانوا بدار الخلافة عن بغداد وذلك أنه لما رد المقتدر إلى الخلافة شرعوا ينفسون بكلام كثير عليه ويقولون من أعان ظالما سلطه الله عليه ومن أصعد الحمار على السطح لم يقدر أن ينزله فأمر بإخراجهم ونفيهم عن بغداد ومن أقام منهم عوقب فأحرقت دور كثيرة من قراباتهم واحترق بعض نسائهم وأولادهم فخرجوا منها في غاية الإهانة فنزلوا واسط وتغلبوا عليها وأخرجوا (11/164)
عاملها منها فركب إليهم مؤنس الخادم فأوقع بهن بأسا شديدا وقتل منهم خلقا كثيرا فلم يقم لهم بعد ذلك قائمة وفي ربيع الأول منها عزل الخليفة ناصر الدولة بن حمدان عن الموصل وولى عليها عميه سعيدا ونصرا أبنا حمدان وولاه ديار ربيعة نصيبين وسنجار والخابور ورأس العين ومعها ميافارقين وازرن ضمن ذلك من الخليفة بمال يحمله إليه في كل سنة وفي جمادى الأولى منها خرجد رجل ببلاد البواريج يقال له صالح بن محمود فاجتمع عليه جماعة من بني مالك ثم سار إلى سنجار فحاصرها فدخلها وأخذ شيئا كثيرا من أموالها وخطب بها خطبة ووعظ فيها وذكر فكان في جملة ما قال نتولى الشيخين ونتبرأ من الحسين ولا نرى المسح على الخفين ثم سار فعاث في الأرض فسادا فانتدب له نصر بن حمدان فقاتله فأسره ومعه ابنان له فحمل إلى بغداد فدخلها وقد اشتهر شهرة فظيعة وخرج آخر ببلاد الموصل فاتبعه ألف رجل فحاصر أهل نصيبين فخرجوا إليه فاقتتلوا معه فقتل منهم مائة وأسر ألفا ثم باعهم نفوسهم وصادر أهلها بأربعمائة ألف درهم فانتدب إليه ناصر الدولة فقاتله فظفر به وأسره وأرسله إلى بغداد أيضا وفيها خلع الخليفة على ابنه هارون وركب معه الوزير والجيش وأعطاه نيابة فارس وكرمان وسجستان ومكرمات وخلع على ابنه أبي العباس الراضي وجعله نائب بلاد المغرب ومصر والشام وجعل مؤنس الخادم يسد عنه أمورها وحج بالناس فيها عبدالسميع بن أيوب بن عبدالعزيز الهاشمي وخرج الحجيج بغفارة بدرقة حتى يسلموا في الدرب في الذهاب والإياب من القرامطة وفيها توفي من الأعيان
أحمد بن إسحاق
ابن البهلول بن حسان بن أبي سنان أبو جعفر التنوخي القاضي الحنفي العدل الثقة الرضي وكان فقيها نبيلا سمع الحديث الكثير وروى عن أبي كريب حديثا واحدا وكان عالما بالنحو فصيح العبارة جيد الشعر محمودا في الأحاكم اتفق أن السيدة أم المقتدر وقفت وقفا وجعل هذا عنده نسخة به سلة الحكم ثم أرادت أن تنقض ذلك الوقف فطلبت هذا الحاكم وأن يحضر معه كتاب الوقف لتأخذه منه فتعدمه فلما حضر من وراء الستارة فهم المقصود فقال لها لا يمكن هذا لأني خازن المسلمين فأما أن تعزلوني عن القضاء وتولوا هذا غيري وإما أن تتركوا هذا الذي تريدون أن تفعلوه فلا سبيل إليه وأنا حاكم فشكته إلى ولدها المقتدر فشفع عنده بالمقتدر بذلك فذكر له صورة الحال فرجدع إلى أمه فقال لها إن هذا الرجل ممن يرغب فيه ولا يزهد فيه ولا سبيل إلى عزله ولا التلاعب به فرضيت عنه وبعثت تشكره على ما صنع من ذلك فقال من قدم أمر الله على أمر العباد كفاه الله شرهم ورزقه خيرهم وقد كانت وفاته في هذه السنة وقد جاوز الثمانين (11/165)
يحيى بن محمد بن صاعد
أبو محمد مولى أبي جعفر المنصور رحل في طلب الحديث وكتب وسمع وحفظ وكان من كبار الحفاظ وشيوخ الرواية وكتب عنه جماعة من الأكابر وله تصانيف تدل على حفظه وفقهه وفهمه توفي بالكوفة وله سبعون سنة
الحسين بن علي بن أحمد بن بشار بن زياد
المعروف بابن العلاف الضرير النهرواني الشاعر المشهور وكان أحد سمار المعتضد وله مرثاة طنانة في هر له قتله جيرانه لأنه أكل أفراخ حمامهم من أبراجهم وفيها آداب ورقة ويقال إنه أراد بها ابن المعتز لكنه لم يتجاسر أن ينسبها إليه من الخليفة المقتدر لأنه هو الذي قتله وأولها ... يا هر فارقتنا ولم تعد ... وكنت عندي بمنزل الولد ... وهي خمس وستون بيتا
ثم دخلت سنة تسع عشرة وثلاثمائة
في المحرم منها دخل الحجيج بغداد وقد خرج مؤنس إلى الحج فيها في جديش كثيف خوفا من القرامطة ففرح المسلمون بذلك وزينت بغداد يومئذ وضربت الخيام والقباب لمؤنس الخادم وقد بلغ مؤنسا أثناء الطريق أن القرامطة أمامه فعدل بالناس عن الجادة وأخذ بهم في شعاب وأودية أياما فشاهد الناس في تلك الأماكن عجائب ورأوا غرائب وعظاما في غاية الضخامة وشاهدوا ناسا قد مسخوا حجارة ورأى بعضهم امرأة واقفة على تنور تخبز فيه قد مسخت حجرا والتنور قد صار حجرا وحمل مؤنس من ذلك شيئا كثيرا إلى الخليفة ليصدق ما يخبر به من ذلك ذكر ذلك ابن الجوزي في منتظمه فيقال إنهم من قوم عاد أو من قوم شعيب أو من ثمود فالله أعلم وفيها عزل المقتدر وزيره سليمان بن الحسن بعد سنة وشهرين وتسعة أيام واستوزر مكانه أبا القاسم عبيدالله بن محمد الكلوذاني ثم عزله بعد شهرين وثلاثة أيام واستوزر الحسين بن القاسم ثم عزله أيضا وفيها وقعت وحشة بين الخليفة ومؤنس بسبب أن الخليفة ولي الحسبة لرجل اسمه محمد بن ياقوت وكان أميرا على الشرطة فقال مؤنس إن الحسبة لا يتولاها إلا القضاة والعدول وهذا لا يصلح لها ولم يزل بالخليفة حتى عز محمد بن ياقوت عن الحسبة والشرطة أيضا وانصلح الحال بينهما ثم تجددت الوحشة بينهما في ذي الحجة من هذه السنة وما زالت تتزايد حتى آل الحال إلى قتل المقتدر بالله كما سنذكره وفيها أوقع ثمل متولى طرسوس بالروم وقعة عظيمة قتل منهم خلقا كثيرا وأسر نحوا من ثلاثة آلاف وغنم من الذهب والفضة والديباج شيئا كثيرا جدا ثم أوقع بهم مرة ثانية كذلك وكتب الديراني الأرمني إلى الروم يحثهم على الدخول إلى بلاد (11/166)
الإسلام ووعدهم النصر منه والإعانة فدخلوا في جحافل عظيمة كثيرة جدا وانضاف إليهم الأرمني فركب إليهم مفلح غلام يوسف بن أبي الساج وهو يومئذ نائب أذربيجان واتبعه خلق كثير من المتطوعة فقصد أولا بلاد ابن اليران فقتل من الأرمن نحوا من مائة ألف وأسر خلقا كثيرا وغنم أموالا جزيلة وتحصن ابن الديراني في قلعة له هناك وكاتب الروم فوصلوا إلى شميشاط فحاصروها فبعث أهلها يستصرخون سعيد بن حمدان نائب الموصل فسار إليهم مسرعا فوجد الروم قد كادوا يفتحونها فلما علموا بقدومه رحلوا عنها واجتازوا بملطية فنهبوها ورجعوا خاسئين إلى بلادهم ومعهم ابن نفيس المتنصر وقد كان من أهل بغداد وركب ابن حمدان في آثار القوم فدخل بلادهم فقتل خلقا كثيرا منهم وأرسر وغنم أشياء كثيرة قال ابن الأثير وفي شوال من هذه السنة جاء سيل عظيم إلى تكريت ارتفع في أسواقها أربعة عشر شبرا وغرق بسببه أربعمائة دار وخلق لا يعلمهم إلا الله حتى كان المسلمون والنصارى يدفنون جميعا لا يعرف هذا من هذا قال وفيها هاجت بالموصل ريح محمرة ثم اسودت حتى كان الإنسان لا يبصر صاحبه نهارا وظن الناس أنها القيامة ثم انجلى ذلك بمطر أرسله الله عليهم وفيها توفي من الأعيان الحسين بن عبدالرحمن أبو عبدالله الأنطاكي قاضي ثغور الشام يعرف بابن الصابوني وكان ثقة نبيلا قدم بغداد وحدث بها
علي بن الحسين بن حرب بن عيسى
تولى القضاء بمصر مدة طويلة جدا وكان ثقة عالما من خيار القضاة وأعدلهم تفقه على مذهب أبي ثور وقد كرناه في طبقات الشافعية وقد استعفى عن القضاء فعزل عنه في سنة إحدى عشرة وثلثمائة ورجع إلى بغداد فأقام بها إلى أن مات في ههذه السنة في صفر منها وصلى عليه أبو سعيد الأصطخري ودفن بداره قال الدارقطني حدث عنه أبو عبدالرحمن النسائي في الصحيح ولعله مات قبله بعشرين سنة وذكر من جلالته وفضله رحمه الله محمد بن الفضل بن العباس أبو عبدالله البلخي الزاهد حكى عنه أنه مكث أربعين سنة لم يخط فيها خطوة في هوى نفسه ولا نظر في شيء فاستحسنه حياء من الله عز و جل وأنه مكث ثلاثين سنة لم يمل على ملكية قبيحا
محمد بن سعيد بن أبو الحسين الوراق
صاحب أبي عثمان النيسابوري وكان فقيها يتكلم على المعاملات ومن جيد كلامه قوله من غض بصره عن محرم أورثه الله بذلك حكمة على لسانه يهتدي بها سامعوه ومن غض نفسه عن شبهة نور الله قلبه نورا يهتدي به إلى طريق مرضاة الله (11/167)
يحيى بن عبدالله بن موسى أبو زكريا الفارسي كتب بمصر عن الربيع بن سليمان وكان ثقة عدلا صدوقا عند الحكام
ثم دخلت سنة عشرين وثلاثمائة من الهجرة
فيها كان مقتل المقتدر بالله الخليفة وكان سبب ذلك أن مؤنسا الخادم خرج من بغداد في المحرم منها مغاضبا الخليفة في ممالكيه وحشمه متوجها نحو الموصل ورد من أثناء الطريق مولاه يسري إلى المقتدر ليستعلم له أمره وبعث معه رسالة يخاطب بها أمير المؤمنين ويعاتبه في أشياء فلما وصل أمر الوزير وهو الحسين بن القاسم وكان من أكبر أعداء مؤنس بأن يؤديها فامتنع من أدائها إلا إلى الخليفة فأحضره بين يديه وأمره بأن يقولها للوزير فامتنع وقال ما أمرني بهذا صاحبي فشتمه الوزير وشتم صاحبه مؤنسا وأمر بضربه ومصادرته بثلثمائة ألف دينار وأخذ خطه بها وأمر بنهب داره ثم أمر الوزير بالقبض على أقطاع مؤنس وأملاكه وأملاك من معه فحصل من ذلك مال عظيم وارتفع أمر الوزير عند المقتدر ولقبه عميد الدولة وضرب اسمه على الدراهم والدنانير وتمكن من الأمور جدا فعزل وولى وقطع ووصل اياما يسيرة وفرح بنفسه حينا قليلا وأرسل إلى هارون بن عريب في الحال وإلى محمد بن ياقوت يستحضرهما إلى الحضرة عوضا عن مؤنس فصمم المظفر مؤنس في سيره فدخل الموصل وجعل يقول لأمراء الأعراب إن الخليفة قد ولاني الموصل وديار ربيعة فالتف عليه منهم خلق كثير وجعل ينفق فيهم الأموال الجزيلة وله وهل إليهم قبل ذلك أيادي سابغة وقد كتب الوزير إلى آل حمدان وهم ولاه الموصل وتلك النواحي يأمرهم بمحاربته فركبوا إليه في ثلاثين ألفا وواجههم مؤنس في ثمانمائة من ممالكيه وخدمه فهزمهم ولم يقتل منهم سوى رجل واحد يقال له داود وكان من أشجعهم وقد كان مؤنس رباه وهو صغير ودخل مؤنس الموصل فقصدته العساكر من كل جانب يدخلون في طاعته لإحسانه إليهم قبل ذلك من بغداد والشام ومصر والأعراب حتى صار في جحافل من الجنود وأما الوزير المذكور فإنه ظهرت خيانته وعجزه فعزله المقتدر في ربيع الآخر منها وولى مكانه الفضل بن جعفر بن محمد بن الفرات وكان آخر وزراء المقتدر وأقام مؤنس بالموصل تسعة أشهر ثم ركب في الجيوش في شوال قاصدا بغداد ليطالب المقتدر بأرزاق الأجناد وإنصافهم فسار وقد بعث بين يديه الطلائع حتى جاء فنزل بباب الشماسية ببغداد وقابله عنده ابن ياقوت وهاون بن عريب عن كره منه وأشير على الخليفة أن يستدين من والدته مالا ينفقه في الأجناد فقال لم يبق عندها شيء وعزم الخليفة على الهرب إلى واسط وأن يترك بغداد إلى مؤنس حتى يراجع أمر الناس ثم يعود إليها فرده عن ذلك ابن ياقوت وأشار بمواجهته لمؤنس وأصحابه فإنهم متى رأوا الخليفة هربوا كلهم إليه وتركوا (11/168)