بلغ المشارق والمغارب يبتغي ... أسباب أمر من حكيم مرشد ... فرأى مغيب الشمس عند غروبها ... في عين ذي خلب وثأط حرمد ... من بعده بلقيس كانت عمتي ... ملكتهم حتى أتاها الهدهد ...
قال السهيلي وقيل كان اسمه مرزبان بن مرزبة ذكره ابن هشام ( 1 ) وذكر في موضع آخر أن اسمه الصعب بن ذي مرائد وهو أول التبابعة وهو الذي حكم لإبراهيم في بئرالسبع وقيل إنه أفريدون بن أسفيان الذي قتل الضحاك وفي خطبة قس يا معشر إياد بن الصعب ذو القرنين ملك الخافقين وأذل الثقلين وعمر الفين ثم كان كلحظة عين ثم أنشد ابن هشام للأعشى ... والصعب ذو القرنين أصبح ثاويا ... بالجنو في جدث أشم مقيما ...
وذكر الدارقطني وابن ماكولا أن اسمه هرمس ( 2 ) ويقال هرويس بن قيطون بن رومى بن لنطى بن كشلوخين بن يونان بن يافث بن نوح فالله اعلم وقال إسحق بن بشر عن سعيد بن بشير عن قتادة قال اسكندر هو ذو القرنين وأبوه أول القياصرة وكان من ولد سام بن نوح عليه السلام فأما ذو القرنين الثاني فهو اسكندر بن فيلبس بن مصريم بن هرمس بن ميطون بن رومي بن لنطي بن يونان بن يافث بن يونة بن شرخون بن رومة بن شرفط بن توفيل بن رومي بن الأصفر بن يقز بن العيص بن إسحق بن إبراهيم الخليل كذا نسبه الحافظ ابن عساكر في تاريخه المقدوني اليوناني المصري باني اسكندرية الذي يؤرخ بأيامه الروم وكان متأخرا عن الاول بدهر طويل كان هذا قبل المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة وكان ارطاطاليس الفيلسوف وزيره وهو الذي قتل دارا بن دارا وأذل ملوك الفرس وأوطأ أرضهم (2/105)
وإنما نبهنا عليه لأن كثيرا من الناس يعتقد أنهما واحد وأن المذكور في القرآن هو الذي كان أرطاطاليس وزيره فبقع بسبب ذلك خطأ كبير وفساد عريض طويل كثير فإن الأول كان عبدا مؤمنا صالحا وملكا عادلا وكان وزيره الخضر وقد كان نبيا على ما قررناه قبل هذا وأما الثاني فكان مشركا وكان وزيره فيلسوفا وقد كان بين زمانهما أزيد من الفي سنة فأين هذا من هذا لا يستويان ولا يشتهان إلا على غبى لا يعرف حقائق الأمور فقوله تعالى ويسألونك عن ذي القرنين كان سببه أن قريشا سألوا اليهود عن شيء يمتحنون به علم سول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا لهم سلوه عن رجل طواف في الأرض وعن فتية خرجوا لا يدري ما فعلوا فأنزل الله تعالى قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين ولهذا قال قل سأتلوا عليكم منه ذكرا أي من خبره وشأنه ذكرا أي خبرا نافعا كافيا في تعريف أمره وشرح حاله فقال إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا أي وسعنا مملكته في البلاد وأعطيناه من آلات المملكة ما يستعين به على تحصيل ما يحاوله من المهمات العظيمة والمقاصد الجسيمة قال قتيبة عن أبي عوانة عن سماك عن حبيب بن حماد قال كنت عند علي بن أبي طالب وسأله رجل عن ذي القرنين كيف بلغ المشرق والمغرب فقال له سخر له السحاب ومدت له الأسباب وبسط له في النور وقال أزيدك فسكت الرجل وسكت علي رضي الله عنه وعن أبي إسحاق السبيعي عن عمرو بن عبدالله الوادعي سمعت معاوية يقول ملك الأرض أربعة سليمان بن داود النبي عليهما السلام وذو القرنين ورجل من أهل حلوان ورجل آخر فقيل له الخضر قال لا وقال الزبير بن بكار حدثني ابراهيم بن المنذر عن محمد بن الضحاك عن أبيه عن سفيان الثوري قال بلغني أنه ملك الأرض كلها أربعة مؤمنان وكافران سليمان النبي وذو القرنين نمرود وبخت نصر وهكذا قال سعيد بن بشير سواء وقال اسحاق بن بشر عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن قال كان ذو القرنين ملك بعد النمرود وكان من قصته أنه كان رجلا مسلما صالحا أتى المشرق والمغرب مد الله له في الأجل ونصره حتى قهر البلاد واحتوى على الأموال وفتح المدائن وقتل الرجال وجال في البلاد والقلاع فسار حتى أتى المشرق والمغرب فذلك قول الله ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا أي خبرا إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا أي علما بطلب أسباب المنازل قال اسحاق وزعم مقاتل أنه كان يفتح المدائن ويجمع الكنوز فمن اتبعه على دينه وتابعه عليه وإلا قتله وقال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وعبيد بن يعلى والسدي وقتادة والضحاك وآتيناه من كل شيء سببا يعني علما وقال قتادة ومطر الوراق معالم الأرض ومنازلها وأعلامها وآثارها وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم يعني تعليم الألسنة كان لا يغزو قوما إلا حدثهم بلغتهم والصحيح أنه يعم كل سبب يتوصل به إلى نيل مقصوده في المملكة وغيرها فإنه كان يأخذ من كل اقليم من الأمتعة (2/106)
والمطاعم والزاد ما يكفيه ويعينه على أهل الاقليم الآخر
وذكر بعض أهل الكتاب أنه مكث الفا وستمائة سنة يجوب الأرض ويدعو أهلها إلى عبادة الله وحده لا شريك له وفي كل هذه المدة نظر والله أعلم وقد روى البيهقي وابن عساكر حديثا متعلقا بقوله وآتيناه من كل شيء سببا مطولا جدا وهو منكر جدا وفي اسناده محمد بن يونس الكديمي وهو متهم فلهذا لم نكتبه لسقوطه عندنا والله أعلم وقوله فأتبع سببا أي طريقا حتى إذا بلغ مغرب الشمس يعني من الأرض انتهى إلى حيث لا يمكن أحدا أن يجاوزه ووقف على حافة البحر المحيط الغربي الذي يقال له أوقيانوس الذي فيه الجزائر المسماة بالخالدات التي هي مبدأ الأطوال على أحد قولي أرباب الهيئة والثاني من ساحل هذا البحر كما قدمنا وعنده شاهد مغيب الشمس فيما رآه بالنسبة إلى مشاهدته تغرب في عين حمئة والمراد بها البحر في نظره فإن من كان في البحر أو على ساحله يرى الشمس كأنها تطلع من البحر وتغرب فيه ولهذا قال وجدها أي في نظره ولم يقل فإذا هي تغرب في عين حمئة أي ذات حمأة قال كعب الأحبار وهو الطين الأسود وقرأه بعضهم حامية فقيل يرجع إلى الأول وقيل من الحرارة وذلك من شدة المقابلة لوهج ضوء الشمس وشعاعها وقد روى الإمام أحمد عن يزيد بن هارون عن العوام بن حوشب حدثني مولى لعبدالله بن عمرو عن عبدالله قال نظر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الشمس حين غابت فقال في نار الله الحامية لولا ما يزعها من أمر الله لأحرقت ما على الأرض فيه غرابة وفيه رجل مبهم لم يسم ورفعه فيه نظر وقد يكون موقوفا من كلام عبدالله بن عمرو فإنه أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب المتقدمين فكان يحدث منها والله أعلم
ومن زعم من القصاص أن ذا القرنين جاوز مغرب الشمس وصار يمشي بجيوشه في ظلمات مددا طويلة فقد أخطأوا بعد النجعة وقال ما يخالف العقل والنقل
بيان طلب ذي القرنين عين الحياة
وقد ذكر ابن عساكر من طريق وكيع عن أبيه عن معتمر بن سليمان عن أبي جعفر الباقر عن أبيه زين العابدين خبرا مطولا جدا فيه أن ذا القرنين كان له صاحب من الملائكة يقال له رناقيل فسأله ذو القرنين هل تعلم في الأرض عينا يقال لها عين الحياة فذكر له صفة مكانها فذهب ذو القرنين في طلبها وجعل الخضر على مقدمته فانتهى الخضر اليها في واد في أرض الظلمات فشرب منها ولم يهتد ذو القرنين اليها وذكر اجتماع ذي القرنين ببعض الملائكة في قصر هناك وأنه أعطاه حجرا فلما رجع إلى جيشه سأل العلماء عنه فوضعوه في كفة ميزان وجعلوا في مقابلته ألف حجر مثله فوزنها حتى سأل الخضر فوضع قباله حجرا وجعل عليه حفنة من تراب فرجح به وقال هذا مثل ابن آدم لا يشبع حتى يوارى (2/107)
بالتراب فسجد له العلماء تكريما له وإعظاما والله أعلم ثم ذكر تعالى أنه حكم في أهل تلك الناحية قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا أي فيجتمع عليه عذاب الدنيا والآخرة وبدأ بعذاب الدنيا لأنه أزجر عند الكافر وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا فبدأ بالأهم وهو ثواب الآخرة وعطف عليه الإحسان منه إليه وهذا هو العدل والعلم والإيمان قال الله تعالى ثم أتبع سببا أي سلك طريقا راجعا من المغرب إلى المشرق فيقال إنه رجع في ثنتي عشر سنة حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا أي ليس لهم بيوت ولا اكنان يستترون بها من حر الشمس قال كثير من العلماء ولكن كانوا يأوون إذا اشتد عليهم الحر إلى اسراب قد اتخذوها في الأرض شبه القبور قال الله تعالى كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا أي ونحن نعلم ما هو عليه ونحفظه ونكاؤه بحراستنا في مسيره ذلك كله من مغارب الأرض إلى مشارقها
وقد روى عن عبيد بن عمير وابنه عبدالله وغيرهما من السلف أن ذوا القرنين حج ماشيا فلما سمع ابراهيم الخليل بقدومه تلقاه فلما اجتمعا دعا له الخليل ووصاه بوصايا ويقال انه جيء بفرس ليركبها فقال لا أركب في بلد فيه الخليل فسخر الله له السحاب وبشره ابراهيم بذلك فكانت تحمله إذا أراد وقوله تعالى ثم اتبع سببا حتى اذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا يعني عشما يقال انهم هم الترك ابناء عم يأجوج ومأجوج فذكروا له أن هاتين القبيلتين قد تعدوا عليهم وأفسدوا في بلادهم وقطعوا السبل عليهم وبذلوا له حملا وهو الخراج على أن يقيم بينهم وبينهم حاجزا يمنعهم من الوصول إليهم فامتنع من أخذ الخراج اكتفاء بما أعطاه الله من الأموال الجزيلة قال ما مكني فيه ربي خير ثم طلب منهم أن يجمعوا له رجالا وآلات ليبني بينهم وبينهم سدا وهو الردم بين الجبلين وكانوا لا يستطيعون الخروج اليهم إلا من بينهما وبقية ذلك بحار مغرقة وجبال شاهقة فبناه كما قال تعالى من الحديد والقطر وهو النحاس المذاب وقيل الرصاص والصحيح الأول فجعل بدل اللبن حديدا وبدل الطين نحاسا ولهذا قال تعالى فما اسطاعوا أن يظهروه أي يعلوا عليه بسلالم ولا غيرها وما استطاعوا له نقبا أي بمعاول ولا فؤس ولا غيرها فقابل الأسهل بالأسهل والأشد بالأشد قال هذا رحمة من ربي أي قدر الله وجوده ليكون رحمة منه بعباده أن يمنع بسببه عدوان هؤلاء القوم على من جاورهم في تلك المحلة فإذا جاء وعد ربي أي الوقت الذي قدر خروجهم على الناس في آخر الزمان جعله دكاء أي مساويا للأرض ولا بد من كون هذا ولهذا قال وكان وعد ربي حقا كما قال تعالى حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق الآية ولذا قال ههنا وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض يعني يوم فتح السد على الصحيح ونفخ في (2/108)
الصور فجمعناهم جمعا وقد أوردنا الأحاديث المروية في خروج يأجوج ومأجوج في التفسير وسنوردها ان شاء الله في كتاب الفتن والملاحم من كتابنا هذا إذا انتهينا إليه بحول الله وقوته وحسن توفيقه ومعونته وهدايته
قال أبو داود الطيالسي عن الثوري بلغنا أن أول من صافح ذو القرنين وروى عن كعب الأحبار انه قال لمعاوية إن ذا القرنين لما حضرته الوفاة أوصى أمه إذا هو مات أن تصنع طعاما وتجمع نساء أهل المدينة وتضعه بين أيديهن وتأذن لهن فيه إلا من كانت ثكلى فلا تأكل منه شيئا فلما فعلت ذلك لم تضع واحدة منهن يدها فيه فقالت لهن سبحان الله كلكن ثكلى فقلن أي والله ما منا إلا من اثكلت فكان ذلك تسلية لأمه وذكر اسحاق بن بشر عن عبدالله بن زياد عن بعض أهل الكتاب وصية ذي القرنين وموعظة أمه موعظة بليغة طويلة فيها حكم وأمور نافعة وأنه مات وعمره ثلاثة آلاف سنة وهذا غريب
قال ابن عساكر وبلغني من وجه آخر أنه عاش ستا وثلاثين سنة وقيل كان عمره ثنتين وثلاثين سنة وكان بعد داود بسبعمائة سنة وأربعين سنة وكان بعد آدم بخمسة آلاف ومائة واحدى وثمانين سنة وكان ملكه ست عشرة سنة وهذا الذي ذكره انما ينطبق على اسكندر الثاني لا الأول وقد خلط في أول الترجمة وآخرها بينهما والصواب التفرقة كما ذكرنا اقتداء بجماعة من الحفاظ والله أعلم وممن جعلهما واحدا الامام عبدالملك بن هشام راوي السيرة وقد أنكر ذلك عليه الحافظ أبو القاسم السهيلي رحمه الله انكارا بليغا ورد قوله ردا شنيعا وفرق بينهما تفريقا جيدا كما قدمنا قال ولعل جماعة من الملوك المتقدمين تسموا بذي القرنين تشبها بالأول والله أعلم
ذكر أمتي يأجوج ومأجوج
وصفاتهم وما ورد من أخبارهم وصفة السد
هم من ذرية آدم بلا خلاف نعلمه ثم الدليل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول الله تعالى يوم القيامة يا آدم قم فابعث بعث النار من ذريتك فيقول يا رب وما بعث النار فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة فحينئذ يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد قالوا يا رسول الله أينا ذلك الواحد فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ابشروا فإن منكم واحدا ومن يأجوج ومأجوج ألفا وفي رواية فقال ابشروا فإن فيكم أمتين ما كانتا في شيء إلا كثرتاه أي غلبتاه كثرة وهذا يدل على كثرتهم وانهم أضعاف الناس مرارا عديدة ثم هم من ذرية نوح لأن (2/109)
الله تعالى أخبر أنه استجاب لعبده نوح في دعائه على أهل الأرض بقوله رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا وقال تعالى فأنجيناه وأصحاب السفينة وقال جعلنا ذريته هم الباقين وتقدم في الحديث المروي في المسند والسنن أن نوحا ولد له ثلاثة وهم سام وحام ويافث فسام أبو العرب وحام أبو السودان ويافث أبو الترك فيأجوج ومأجوج طائفة من الترك وهم مغل المغول وهم أشد بأسا وأكثر فسادا من هؤلاء ونسبتهم إليهم كنسبة هؤلاء إلى غيرهم وقد قيل إن الترك إنما سموا بذلك حين بنى ذو القرنين السد والجأ يأجوج ومأجوج إلى ما وراءه فبقيت منهم طائفة لم يكن عندهم كفسادهم فتركوا من ورائه فلهذا قيل لهم الترك
ومن زعم أن يأجوج ومأجوج خلقوا من نطفة آدم حين احتلم فاختلطت بتراب فخلقوا من ذلك وانهم ليسوا من حواء فهو قول حكاه الشيخ أبو زكريا النواوي في شرح مسلم وغيره وضعفوه وهو جدير بذلك إذ لا دليل عليه بل هو مخالف لما ذكرناه من أن جميع الناس اليوم من ذرية نوح بنص القرآن وهكذا من زعم أنهم على أشكال مختلفة وأطوال متباينة جدا فمنهم من هو كالنخلة السحوق ومنهم من هو غاية في القصر ومنهم من يفترش أذنا من أذنيه ويتغطى بالأخرى فكل هذه أقوال بلا دليل ورجم بالغيب بغير برهان والصحيح أنهم من بني آدم وعلى أشكالهم وصفاتهم وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعا ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن وهذا فيصل في هذا الباب وغيره وما قيل من أن أحدهم لا يموت حتى يرى من ذريته ألفا فإن صح في خبر قلنا به والا فلا نرده إذ يحتمله العقل والنقل أيضا قد يرشد اليه والله أعلم بل قد ورد حديث مصرح بذلك ان صح قال الطبراني حدثنا عبدالله بن محمد بن العباس الأصبهاني حدثنا أبو مسعود أحمد بن الفرات حدثنا أبو داود الطيالسي حدثنا المغيرة عن مسلم عن أبي اسحاق عن وهب بن جابر عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ان يأجوج ومأجوج من ولد آدم ولو أرسلوا لأفسدوا على الناس معائشهم ولن يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته الفا فصاعدا وان من وارئهم ثلاث أمم تاويل وتاريس ومنسك وهو حديث غريب جدا وإسناده ضعيف وفيه نكارة شديدة وأما الحديث الذي ذكره ابن جرير في تاريخه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ذهب اليهم ليلة الإسراء فدعاهم إلى الله فامتنعوا من اجابته ومتابعته وأنه دعا تلك الأمم التي هناك تاريس وتاويل ومنسك فأجابوه فهو حديث موضوع اختلقه أبو نعيم عمرو بن الصبح أحد الكذابين الكبار الذين اعترفوا بوضع الحديث والله أعلم
فإن قيل فكيف دل الحديث المتفق عليه أنهم فداء المؤمنين يوم القيامة وأنهم في النار ولم يبعث اليهم رسل وقد قال الله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا فالجواب أنهم لا يعذبون إلا بعد قيام الحجة عليهم والأعذار اليهم كما قال تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا فإن كانوا في زمن (2/110)
الذي قبل بعث محمد صلى الله عليه و سلم قد أتتهم رسل منهم فقد قامت على أولئك الحجة وان لم يكن قد بعث الله اليهم رسلا فهم في حكم أهل الفترة ومن لم تبلغه الدعوة وقد دل الحديث المروي من طرق عن جماعة من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ان من كان كذلك يمتحن في عرصات القيامة فمن أجاب الداعي دخل الجنة ومن أبى دخل النار وقد أوردنا الحديث بطرق وألفاظه وكلام الأئمة عليه عند قوله وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقد حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري اجماعا عن أهل السنة والجماعة وامتحانهم لا يقتضي نجاتهم ولا ينافي الأخبار عنهم بأنهم من أهل النار لأن الله يطلع رسوله صلى الله عليه و سلم على ما يشاء من أمر الغيب وقد اطلعه على أن هؤلاء من أهل الشقاء وأن سجاياهم تأبى قبول الحق والانقياد له فهم لا يجيبون الداعي إلى يوم القيامة فيعلم من هذا أنهم كانوا أشد تكذيبا للحق في الدنيا لو بلغهم فيها لأن في عرصات القيامة ينقاد خلق ممن كان مكذبا في الدنيا فايقاع الإيمان هناك لما يشاهد من الأهوال أولى وأحرى منه في الدنيا والله أعلم كما قال تعالى ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا ابصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون وقال تعالى أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا وأما الحديث الذي فيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دعاهم ليلة الإسراء فلم يجيبوا فإنه حديث منكر بل موضوع وضعه عمرو بن الصبح
وأما السد فقد تقدم أن ذا القرنين بناه من الحديد والنحاس وساوى به الجبال الصم الشامخات الطوال فلا يعرف على وجه الأرض بناء أجل منه ولا أنفع للخلق منه في أمر دنياهم قال البخاري وقال رجل للنبي صلى الله عليه و سلم رأيت السد قال وكيف رأيته قال مثل البرد المحبر فقال رأيته هكذا ذكره البخاري معلقا بصيغة الجزم وأره مسندا من وجه متصل أرتضيه غير أن ابن جرير رواه في تفسيره مرسلا فقال حدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة قال ذكر لنا أن رجلا قال يا رسول الله قد رأيت سد يأجوج ومأجوج قال انعته لي قال كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء قال قد رأيته
وقد ذكر أن الخليفة الواثق بعث رسلا من جهته وكتب لهم كتبا إلى الملوك يوصلونهم من بلاد الى بلاد حتى ينهوا إلى السد فيكشفوا عن خبره وينظروا كيف بناه ذو القرنين على أي صفة فلما رجعوا أخبروا عن صفته وأن فيه بابا عظيما وعليه أقفال وأنه بناء محكم شاهق منيف جدا وأن بقية اللبن الحديد والآلات في برج هناك وذكروا أنه لا يزال هناك حرس لتلك الملوك المتاخمة لتلك البلاد ومحلته في شرقي الأرض في جهة الشمال في زاوية الأرض الشرقية الشمالية ويقال أن بلادهم متسعة جدا وانهم يقتاتون بأصناف من المعايش من حراثة وزراعة واصطياد من البر ومن البحر وهم أمم وخلق لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم فإن قيل فما الجمع بين قوله تعالى فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا وبين الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها قالت استيقظ رسول الله صلى الله عليه و سلم (2/111)
من نوم محمرا وجهه وهو يقول لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق تسعين قلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال نعم إذا كثر الخبث وأخرجاه في الصحيحين من حديث وهيب عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا وعقد تسعين فالجواب أما على قول من ذهب إلى أن هذا اشارة إلى فتح أبواب الشر والفتن وان هذا استعارة محضة وضرب مثل فلا اشكال واما على قول من جعل ذلك اخبارا عن أمر محسوس كما هو الظاهر المتبادر فلا اشكال أيضا لأن قوله فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا أي في ذلك الزمان لأن هذه صيغة خبر ماض فلا ينفي وقوعه فيما يستقبل بإذن الله لهم في ذلك قدرا وتسليطهم عليه بالتدريج قليلا قليلا حتى يتم الأجل وينقضي الأمر المقدور فيخرجون كما قال الله تعالى وهم من كل حدب ينسلون ولكن الحديث الآخر اشكل من هذا وهو ما رواه الإمام أحمد في مسنده قائلا حدثنا روح حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة حدثنا أبو رافع عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ان يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا فيعودون اليه كاشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرون غدا إن شاء الله ويستثني فيعودون اليه وهو كهيئة يوم تركوه فيحفرونه ويخرجون على الناس فيستقون المياه وتتحصن الناس في حصونهم فيرمون بسهامهم إلى السماء فترجع وعليها كهيئة الدم فيقولون قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء فيبعث الله عليهم نغفا في اقفائهم فيقتلهم بها قال رسول الله صلى الله عليه و سلم والذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتشكر شكرا من لحومهم ودمائهم ورواه أحمد أيضا عن حسن بن موسى عن سفيان عن قتادة به وهكذا رواه ابن ماجه من حديث سعيد عن قتادة الا أنه قال حديث أبو رافع ورواه الترمذي من حديث أبي عوانة عن قتادة به ثم قال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه فقد أخبر في هذا الحديث أنهم كل يوم يلحسونه حتى يكادوا ينذرون شعاع الشمس من ورائه لرقته فإن لم يكن رفع هذا الحديث محفوظا وانما هو مأخوذ عن كعب الأحبار كما قاله بعضهم فقد استرحنا من المؤنة وان كان محفوظا فيكون محمولا على أن ضيعهم هذا يكون في آخر الزمان عند اقتراب خروجهم كما هو المروي عن كعب الأحبار أو يكون المراد بقوله وما استطاعوا له نقبا أي نافذا منه فلا ينفي أن يلحسوه ولا ينفذوه والله أعلم وعلى هذا فيمكن الجمع بين هذا وبين ما في الصحيحين عن أبي هريرة فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وعقد تسعين أي فتح فتحا نافذا فيه والله أعلم (2/112)
قصة أصحاب الكهف
قال الله تعالى أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى ورطبنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا واذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيء لكم من أمركم مرفقا وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا انهم ان يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وان الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا بنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم الا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا الا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لاقرب من هذا رشدا ولبثوا في كهفهم ثلثمائة سنين وازدادوا تسعا قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السموات والأرض أبصر به واسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا
كان سبب نزول قصة أصحاب الكهف وخبر ذي القرنين ما ذكره محمد بن اسحاق في السيرة وغيره ان قريشا بعثوا إلى اليهود يسألونهم عن أشياء يمتحنون بها رسول الله صلى الله عليه و سلم ويسألونه عنها ليختبروا ما يجيب به فيها فقالوا سلوه عن أقوام ذهبوا في الدهر فلا يدري ما صنعوا وعن رجل طواف في الأرض وعن الروح فأنزل الله تعالى ويسألونك عن الروح ويسألونك عن ذي القرنين وقال ههنا أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا أي ليسوا بعجب عظيم بالنسبة الى ما اطلعناك عليه من الأخبار العظيمة والآيات الباهرة والعجائب الغريبة والكهف هو الغار في الجبل قال شعيب الجبائي (2/113)
واسم كهفهم حيزم وأما الرقيم فعن ابن عباس أنه قال لا أدري ما المراد به وقيل هو الكتاب المرقوم فيه اسماؤهم وما جرى لهم كتب من بعدهم اختاره ابن جرير وغيره وقيل هو اسم الجبل الذي فيه كهفهم قال ابن عباس وشعيب الجبائي واسمه بناجلوس وقيل هو اسم واد عند كهفهم وقيل اسم قرية هنالك والله أعلم
قال شعيب الجبائي واسم كلبهم حمران واعتناء اليهود بأمرهم ومعرفة خبرهم يدل على أن زمانهم متقدم على ما ذكره بعض المفسرين انهم كانوا بعد المسيح وانهم كانوا نصارى والظاهر من السياق أن قومهم كانوا مشركين يعبدون الأصنام قال كثير من المفسرين والمؤرخين وغيرهم كانوا في زمن ملك يقال له دقيانوس وكانوا من أبناء الأكابر وقيل من أبناء الملوك واتفق اجتماعهم في يوم عيد لقومهم فرأوا ما يتعاطاه قومهم من السجود للأصنام والتعظيم للأوثان فنظروا بعين البصيرة وكشف الله عن قلوبهم حجاب الغفلة والهمهم رشدهم فعلموا أن قومهم ليسوا على شيء فخرجوا عن دينهم وانتموا إلى عبادة الله وحده لا شريك له ويقال إن كل واحد منهم لما أوقع الله في نفسه ما هداه اليه من التوحيد انحاز عن الناس واتفق اجتماع هؤلاء الفتية في مكان واحد كما صح في البخاري الأرواح جنودة مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف فكل منهم سأل الآخر عن أمره وعن شأنه فأخبره ما هو عليه واتفقوا على الانحياز عن قومهم والتبري منهم والخروج من بين أظهرهم والفرار بدينهم منهم وهو المشروع حال الفتن وظهور الشرور قال الله تعالى نحن نقص عليك نبأهم بالحق انهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى وربطنا على قلوبهم اذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه الها لقد قلنا اذا شططا هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين أي بدليل ظاهر على ما ذهبوا اليه وصاروا من الأمر عليه فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا واذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله أي وإذ فارقتموهم في دينهم وتبرأتم مما يعبدون من دون الله وذلك لأنهم كانوا يشركون مع الله كما قال الخليل انني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وهكذا هؤلاء الفتيبة قال بعضهم اذ قد فارقتم قومكم في دينهم فاعتزلوهم بابدانكم لتسلموا منهم أن يوصلوا اليكم شرا فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيء لكم من أمركم مرفقا أي يسبل عليكم ستره وتكونوا تحت حفظه وكنفه ويجعل عاقبة أمركم إلى خير كما جاء في الحديث اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا ومن عذاب الآخرة ثم ذكر تعالى صفة الغار الذي آووا اليه وان بابه موجه الى نحو الشمال واعماقه إلى جهة القبلة وذلك انفع الأماكن أن يكون المكان قبليا وبابه نحو الشمال فقال وترى الشمس اذا طلعت تزاور وقرىء تزور عن كهفهم ذات اليمين واذا غربت تقرضهم ذات الشمال فاخبر أن الشمس يعني في زمن الصيف وأشباهه تشرق أول طلوعها في الغار في جانبه الغربي ثم تشرع في (2/114)
الخروج منه قليلا قليلا وهو ازورارها ذات اليمين فترتفع في جو السماء وتتقلص عن باب الغار ثم إذا تضيفت للغروب تشرع في الدخول فيه من جهته الشرقية قليلا قليلا إلى حين الغروب كما هو المشاهد بمثل هذا المكان والحكمة في دخول الشمس إليه في بعض الاحيان أن لا يفسد هواؤه وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله أي بقاؤهم على هذه الصفة دهرا طويلا من السنين لا يأكلون ولا يشربون ولا تتغذى أجسادهم في هذه المدة الطويلة من آيات الله وبرهان قدرته العظيمة من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا وتحسبهم أيقاظا وهم رقود قال بعضهم لان أعينهم مفتوحة لئلا تفسد بطول الغمض ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال قيل في كل عام يتحولون مرة من جنب إلى جنب ويحتمل أكثر من ذلك فالله أعلم وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد قال شعيب الجبائي اسم كلبهم حمران وقال غيره الوصيد اسكفة الباب والمراد أن كلبهم الذي كان معهم وصحبهم حال انفرادهم من قومهم لزمهم ولم يدخل معهم في الكهف بل ربض على بابه ووضع يديه على الوصيد وهذا من جملة أدبه ومن جملة ما أكرموا به فإن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب ولما كانت التبعية مؤثرة حتى كان في كلب هؤلاء صار باقيا معهم ببقائهم لان من أحب قوما سعد بهم فإذا كان هذا في حق كلب فما ظنك بمن تبع أهل الخير وهو أهل للإكرام وقد ذكر كثير من القصاص والمفسرين لهذا الكلب نبأ وخبرا طويلا أكثره متلقى من الإسرائيليات وكثير منها كذب ومما لا فائدة فيه كاختلافهم في اسمه ولونه
وأما اختلاف العلماء في محلة هذا الكهف فقال كثيرون هو بأرض ايلة وقيل بأرض نينوى وقيل بالبلقاء وقيل ببلاد الروم وهو أشبه والله أعلم ولما ذكر الله تعالى ما هو الانفع من خبرهم والاهم من أمرهم ووصف حالهم حتى كأن السامع راء والمخبر مشاهد لصفة كهفهم وكيفيتهم في ذلك الكهف وتقلبهم من جنب إلى جنب وإن كلبهم باسط ذراعيه بالوصيد قال لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا أي لما عليهم من المهابة والجلالة في أمرهم الذي صاروا إليه ولعل الخطاب ههنا لجنس الإنسان المخاطب لا بخصوصية الرسول صلى الله عليه و سلم كقوله فما يكذبك بعد بالدين أي أيها الإنسان وذلك لأن طبيعة البشرية تفر من رؤية الأشياء المهيبة غالبا ولهذا قال لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا ودل على أن الخبر ليس كالمعاينة كما جاء في الحديث لأن الخبر قد حصل ولم يحصل الفرار ولا الرعب ثم ذكر تعالى أنه بعثهم من رقدتهم بعد نومهم بثلاثمائة سنة وتسع سنين فلما استيقظوا قال بعضهم لبعض كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة أي بدراهمكم هذه يعني التي معهم إلى المدينة ويقال كان اسمها دفسوس فلينظر أيها أزكى طعاما أي أطيب مالا فليأتكم برزق منه أي بطعام تأكلونه وهذا من زهدهم (2/115)
وورعهم وليتلطف أي في دخوله إليها ولا يشعرن بكم أحدا إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا أي إن عدتم في ملتهم بعد إذ أنقذكم الله منها وهذا كله لظنهم أنهم رقدوا يوما أو بعض يوم او أكثر من ذلك ولم يحسبوا أنهم قد رقدوا أزيد من ثلثمائة سنة وقد تبدلت الدول اطوارا عديدة وتغيرت البلاد ومن عليها وذهب أولئك القرن الذين كانوا فيهم وجاء غيرهم وذهبوا وجاء غيرهم ولهذا لما خرج أحدهم وهو تيذوسيس ( 1 ) فيما قيل وجاء إلى المدينة متنكرا لئلا يعرفه أحد من قومه فيما يحسبه تنكرت له البلاد واستنكره من يراه من اهلها واستغربوا شكله وصفته ودراهمه فيقال إنهم حملوه إلى متوليهم وخافوا من أمره أن يكون جاسوسا أو تكون له صولة يخشون من مضرتها فيقال إنه هرب منهم ويقال بل أخبرهم خبره ومن معه وما كان من أمرهم فانطلقوا معه ليريهم مكانهم فلما قربوا من الكهف دخل إلى أخوانه فأخبرهم حقيقة أمرهم ومقدار ما رقدوا فعلموا أن هذا أمر قدره الله فيقال إنهم استمروا راقدين ويقال بل ماتوا بعد ذلك
وأما اهل البلدة فيقال إنهم لم يهتدوا إلى موضعهم من الغار وعمي الله عليهم أمرهم ويقال لم يستطيعوا دخوله حسا ( 2 ) ويقال مهابة لهم
واختلفوا في أمرهم فقائلون يقولون ابنوا عليهم بنيانا أي سدوا عليهم باب الكهف لئلا يخرجوا أو لئلا يصل إليهم ما يؤذيهم وآخرون وهم الغالبون على أمرهم قالوا لنتخذن عليهم مسجدا أي معبدا يكون مباركا لمجاورته هؤلاء الصالحين وهذا كان شائعا فيمن كان قبلنا فأما في شرعنا فقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا وأما قوله وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها فمعنى أعثرنا أطلعنا على أمرهم الناس قال كثير من المفسرين ليعلم الناس ان المعاد حق وأن الساعة لا ريب فيها إذا علموا أن هؤلاء القوم رقدوا أزيد من ثلثمائة سنة ثم قاموا كما كانوا من غير تغير منهم فإن من أبقاهم كما هم قادر على إعادة الابدان وإن أكلتها الديدان وعلى إحياء الأموات وإن صارت أجسامهم وعظامهم رفاتا وهذا مما لا يشك فيه المؤمنون إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون هذا ويحتمل عود الضمير في قوله ليعلموا إلى أصحاب الكهف إذ علمهم بذلك من انفسهم أبلغ من علم غيرهم بهم ويحتمل أن يعود على الجميع والله أعلم ثم قال تعالى سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم فذكر اختلاف الناس في كميتهم فحكى ثلاثة أقوال وضعف الأولين وقرر الثالث فدل على أنه الحق إذ لو قيل غير ذلك لحكاه ولو لم يكن هذا الثالث هو الصحيح (2/116)
لوهاه فدل على ما قلناه ولما كان النزاع في مثل هذا لا طائل تحته ولا جدوى عنده أرشد نبيه صلى الله عليه و سلم إلى الأدب في مثل هذا الحال اذا اختلف الناس فيه أن يقول الله أعلم ولهذا قال قل ربي أعلم بعدتهم وقوله ما يعلمهم إلا قليل أي من الناس فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا أي سهلا ولا تتكلف أعمال الجدال في مثل هذا الحال ولا تستفت في أمرهم أحدا من الرجال ولهذا أبهم تعالى عدتهم في أول القصة فقال إنهم فتية آمنوا بربهم ولو كان في تعين عدتهم كبير فائدة لذكرها عالم الغيب والشهادة وقوله تعالى ولا تقولن لشيء اني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا أدب عظيم أرشده الله تعالى اليه وحث خلقه عليه وهو ما اذا قال احدهم إني سأفعل في المستقبل كذا فيشرع له أن يقول ان شاء الله ليكون ذلك تحقيقا لعزمه لأن العبد لا يعلم ما في غد ولا يدري أهذا الذي عزم عليه مقدر أم لا وليس هذا الاستثناء تعليقا وانما هو الحقيقي ولهذا قال ابن عباس يصح إلى سنة ولكن قد يكون في بعض المحال لهذا ولهذا كما تقدم في قصة سليمان عليه السلام حين قال لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تلد كل واحدة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله فقيل له قل إن شاء الله فلم يقل فطاف فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة نصف انسان قال رسول الله صلى الله عليه و سلم والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركا لحاجته وقوله واذكر ربك اذا نسيت وذلك لأن النسيان قد يكون من الشيطان فذكر الله يطرده عن القلب فيذكر ما كان قد نسيه وقوله وقل عيسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا أي إذا اشتبه آمر وأشكل حال والتبس أقوال الناس في شيء فارغب إلى الله ييسره لك ويسهله عليك ثم قال ولبثوا في كهفهم ثلثمائة سنين وازدادوا تسعا لما كان في الأخبار بطول مدة لبثهم فائدة عظيمة ذكرها تعالى وهذه التسع المزيدة بالقمرية وهي لتكميل ثلثمائة شمسية فإن كل مائة قمرية تنقص عن الشمسية ثلاث سنين قال الله أعلم بما لبثوا أي إذا سئلت عن مثل هذا وليس عندك في ذلك نقل فرد الأمر في ذلك إلى الله عز و جل له غيب السموات والأرض أي هو العالم بالغيب فلا يطلع عليه إلا من شاء من خلقه أبصر به واسمع يعني أنه يضع الأشياء في محالها لعلمه التام بخلقه وبما يستحقونه ثم قال ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا أي ربك المنفرد بالملك والمنصرف وحده لا شريك له
قصة الرجلين المؤمن والكافر
قال الله تعالى في سورة الكهف بعد قصة أهل الكهف واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ودخل جنته (2/117)
وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا إلى قوله هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا قال بعض الناس هذا مثل مضروب ولا يلزم أن يكون واقعا والجمهور أنه أمر قد وقع وقوله واضرب لهم مثلا يعني لكفار قريش في عدم اجتماعهم بالضعفاء والفقراء وازدرائهم بهم وافتخارهم عليهم كما قال تعالى واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون كما قدمنا الكلام على قصتهم قبل قصة موسى عليه السلام والمشهور أن هذين كانا رجلين مصطحبين وكان أحدهما مؤمنا والآخر كافرا ويقال إنه كان لكل منهما مال فانفق المؤمن ماله في طاعة الله ومرضاته ابتغاء وجهه وأما الكافر فإنه اتخذ له بساتين وهما الجنتان المذكورتان في الآية على الصفة والنعت المذكور فيهما أعناب ونخيل تحف تلك الأعناب والزروع في ذلك والأنهار سارحة ههنا وههنا للسقي والتنزه وقد استوثقت فيهما الثمار واضطربت فيهما الأنهار وابتهجت الزروع والثمار وافتخر مالكهما على صاحبه المؤمن الفقير قائلا له أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا أي أوسع جنانا ومراده أنه خير منه ومعناه ماذا أغنى عنك انفاقك ما كنت تملكه في الوجه الذي صرفته فيه كان الأولى بك أن تفعل كما فعلت لتكون مثلي فافتخر على صاحبه ودخل جنته وهو ظالم لنفسه أي وهو على غير طريقة مرضية قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وذلك لما رأى من اتساع أرضها وكثرة مائها وحسن نبات أشجارها ولو قد بادت كل واحدة من هذه الأشجار لاستخلف مكانها أحسن منها وزروعها دارة لكثرة مياهها ثم قال وما أظن الساعة قائمة فوثق بزهرة الحياة الدنيا الفانية وكذب بوجود الآخرة الباقية الدائمة ثم قال ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا أي ولئن كان ثم آخرة ومعاد فلأجدن هناك خيرا من هذا وذلك لأنه اغتر بدنياه واعتقد أن الله لم يعطه ذلك فيها إلا لحبه له وحظوته عنده كما قال العاص بن وائل فيما قص الله من خبره وخبر خباب بن الأرت في قوله أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا وقال تعالى اخبارا عن الإنسان إذا أنعم الله عليه ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى قال الله تعالى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ وقال قارون إنما أوتيته على علم عندي أي لعلم الله بي أني أستحقه قال الله تعالى أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون وقد قدمنا الكلام على قصته في أثناء قصة موسى وقال تعالى وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون وقال تعالى أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ولما اغتر هذا الجاهل بما خول به في الدنيا فجحد الآخرة وادعى أنها ان وجدت ليجدن عند ربه خيرا مما هو فيه وسمعه صاحبه يقول ذلك قال له (2/118)
وهو يحاوره أي يجادله أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا أي أجحدت المعاد وأنت تعلم أن الله خلقك من تراب ثم من نطفة ثم صورك أطوارا حتى صرت رجلا سويا سميعا بصيرا تعلم وتبطش وتفهم فكيف أنكرت المعاد والله قادر على البداءة لكنا هو الله ربي أي لكن أنا أقول بخلاف ما قلت وأعتقد خلاف معتقدك هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا أي لا أعبد سواه واعتقد أنه يبعث الأجساد بعد فنائها ويعيد الأموات ويجمع العظام الرفات وأعلم أن الله لا شريك له في خلقه ولا في ملكه ولا إله غيره ثم أرشده إلى ما كان الأولى به أن يسلكه عند دخول جنته فقال ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله ولهذا يستحب لكل من أعجبه شيء من ماله أو أهله أو حاله أن يقول كذلك وقد ورد فيه حديث مرفوع في صحته نظر قال أبو يعلى الموصلي حدثنا جراح بن مخلد حدثنا عمرو بن يوسف حدثنا عيسى بن عون حدثنا عبدالملك بن زرارة عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما أنعم الله على عبد نعمة من أهل أو مال أو ولد فيقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله فيرى فيه أنه دون الموت وكان يتأول هذه الآية ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله قال الحافظ أبو الفتح الأزدي عيسى بن عون عن عبدالملك بن زرارة عن أنس لا يصح ثم قال المؤمن للكافر فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك أي في الدار الآخرة ويرسل عليها حسبانا من السماء قال ابن عباس والضحاك وقتادة أي عذابا من السماء والظاهر أنه المطر المزعج الباهر الذي يقتلع زروعها وأشجارها فتصبح صعيدا زلقا وهو التراب الأملس الذي لا نبات فيه أو يصبح ماؤها غورا وهو ضد المعين السارح فلن تستطيع له طلبا يعني فلا تقدر على استرجاعه قال الله تعالى وأحيط بثمره أي جاءه أمر أحاط بجميع حواصله وخرب جنته ودمرها فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها أي خربت بالكلية فلا عودة لها وذلك ضد ما كان عليه أمل حيث قال وما أظن أن تبيد هذه أبدا وندم على ما كان سلف منه من القول الذي كفر بسببه بالله العظيم فهو يقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا قال الله تعالى ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا هنالك أي لم يكن أحد يتدارك ما فرط من أمره وما كان له قدرة في نفسه على شيء من ذلك كما قال تعالى فما له من قوة ولا ناصر وقوله الولاية لله الحق ومنهم من يبتدىء بقوله هنالك الولاية لله الحق وهو حسن أيضا لقوله الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا فالحكم الذي لا يرد ولا يمانع ولا يغالب في تلك الحال وفي كل حال لله الحق ومنهم من رفع الحق جعله صفة للولاية وهما متلازمتان وقوله هو خير ثوابا وخير عقبا أي معاملته خير لصاحبها ثوابا وهو الجزاء وخير عقبا وهو العاقبة في الدنيا والآخرة وهذه القصة تضمنت أنه لا ينبغي لأحد أن يركن إلى الحياة الدنيا ولا يغتر (2/119)
بها ولا يثق بها بل يجعل طاعة الله والتوكل عليه في كل حال نصب عينيه وليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يديه وفيها أن من قدم شيئا على طاعة الله والانفاق في سبيله عذب به وربما سلب منه معاملة له بنقيض قصده وفيها أن الواجب قبول نصيحة الأخ المشفق وأن مخالفته وبال ودمار على من رد النصيحة الصحيحة وفيها أن الندامه لا تنفع إذا حان القدر ونفذ الأمر الحتم بالله المستعان وعليه التكلان
قصة أصحاب الجنة
قال الله تعالى إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم فتنادوا مصبحين أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين وغدوا على حرد قادرين فلما رأوها قالوا إنا لضالون بل نحن محرومون قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها انا إلى ربنا راغبون كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون وهذا مثل ضربه الله لكفار قريش فيما أنعم به عليهم من ارسال الرسول العظيم الكريم اليهم فقابلوه بالتكذيب والمخالفة كما قال تعالى ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار قال ابن عباس هم كفار قريش فضرب تعالى لهم مثلا بأصحاب الجنة المشتملة على أنواع الزروع والثمار التي قد انتهت واستحقت أن تجد وهو الصرام ولهذا قال اذ أقسموا فيما بينهم ليصرمنها أي ليجدنها وهو الاستغلال مصبحين أي وقت الصبح حيث لا يراهم فقير ولا محتاج فيعطوه شيئا فحلفوا على ذلك ولم يستثنوا في يمينهم فعجزهم الله وسلط عليها الآفة التي احرقتها وهي السفعة التي اجتاحتها ولم تبق بها شيئا ينتفع به ولهذا قال فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم أي كالليل الأسود المنصرم من الضياء وهذه معاملة بنقيض المقصود فتنادوا مصبحين أي فاستيقظوا من نومهم فنادى بعضهم بعضا قائلين أغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين أي باكروا إلى بستانكم فاصرموه قبل أن يرتفع النهار ويكثر السؤال فانطلقوا وهم يتخافتون أي يتحدثون فيما بينهم خفية قائلين لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين أي اتفقوا على هذا واشتوروا عليه وغدوا على حرد قادرين أي انطلقوا مجدين في ذلك قادرين عليه مضمرين على هذه النية الفاسدة وقال عكرمة والشعبي وغدوا على حرد أي غضب على المساكين وأبعد السدي في قوله أن اسم حرثهم حرد فلما رأوها أي وصلوا اليها ونظروا ما حل بها وما قد صارت إليه من الصفة المنكرة بعد تلك النضرة والحسن والبهجة فانقلبت بسبب النية الفاسدة فعند ذلك قالوا انا لضالون أي قد نهينا عنها وسلكنا غير طريقها ثم قالوا بل نحن محرومون أي بل عوقبنا بسبب سوء قصدنا وحرمنا بركة حرثنا قال أوسطهم قال ابن عباس (2/120)
ومجاهد وغير واحد هو أعدلهم وخيرهم ألم أقل لكم لولا تسبحون قيل تستثنون قاله مجاهد والسدي وابن جرير وقيل تقولون خيرا بدل ما قلتم من الشر قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين فندموا حيث لا ينفع الندم واعترفوا بالذنب بعد العقوبة وذلك حيث لا ينجع وقد قيل ان هؤلاء كانوا اخوة وقد ورثوا هذه الجنة من أبيهم وكان يتصدق منها كثيرا فلما صار أمرها اليهم استهجنوا أمر أبيهم وأرادوا استغلالها من غير أن يعطوا الفقراء شيئا فعاقبهم الله أشد العقوبة ولهذا أمر الله تعالى بالصدقة من الثمار وحث على ذلك يوم الجداد كما قال تعالى كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ثم قيل كانوا من أهل اليمن من قرية يقال لها ضروان وقيل من أهل الحبشة والله أعلم قال الله تعالى كذلك العذاب أي هكذا نعذب من خالف أمرنا ولم يعطف على المحاويج من خلقنا ولعذاب الآخرة أكبر أي أعظم وأحكم من عذاب الدنيا لو كانوا يعلمون وقصة هؤلاء شبيه بقوله تعالى ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون قيل هذا مثل مضروب لأهل مكة وقيل هم أهل مكة أنفسهم ضربهم مثلا لأنفسهم ولا ينافي ذلك والله أعلم اه
قصة أصحاب أيلة الذين اعتدوا في سبتهم
قال الله تعالى في سورة الأعراف واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين وقال تعالى في سورة البقرة ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين وقال تعالى في سورة النساء أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وغيرهم هم أهل ايلة زاد ابن عباس بين مدين والطور قالوا وكانوا متمسكين بدين التوراة في تحريم السبت في ذلك الزمان فكانت الحيتان قد ألفت منهم السكينة في مثل هذا اليوم وذلك أنه كان يحرم عليهم الاصطياد فيه وكذلك جميع الصنائع والتجارات والمكاسب فكانت الحيتان في مثل يوم السبت يكثر غشيانها لمحلتهم من البحر فتأتي من ههنا وههنا ظاهرة آمنة مسترسلة فلا يهيجونها ولا يذعرونها ويوم لا يسبتون لا تاتيهم وذلك لأنهم كانوا يصطادونها فيما عدا السبت (2/121)
قال الله تعالى كذلك نبلوهم أي نختبرهم بكثرة الحيتان في يوم السبت بما كانوا يفسقون أي بسبب فسقهم المتقدم فلما رأوا ذلك احتالوا على اصطيادها في يوم السبت بأن نصبوا الحبال والشباك والشصوص وحفروا الحفر التي يجري معها الماء إلى مصانع قد أعدوها إذا دخلها السمك لا يستطيع أن يخرج منها ففعلوا ذلك في يوم الجمعة فإذا جاءت الحيتان مسترسلة يوم السبت علقت بهذه المصايد فإذا خرج سبتهم أخذوها فغضب الله عليهم ولعنهم لما احتالوا على خلاف أمره وانتهكوا محارمه بالحيل التي هي ظاهرة للناظر وهي في الباطن مخالفة محضة فلما فعل ذلك طائفة منهم افترق الذين لم يفعلوا فرقتين فرقة أنكروا عليهم صنيعهم هذا واحتيالهم على مخالفة الله وشرعه في ذلك الزمان وفرقة أخرى لم يفعلوا ولم ينهوا بل أنكروا على الذين نهوا وقالوا لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا يقولون ما الفائدة في نهيكم هؤلاء وقد استحقوا العقوبة لا محالة فأجابتهم الطائفة المنكرة بأن قالوا معذرة إلى ربكم أي فيما أمرنا به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فنقوم به خوفا من عذابه ولعلهم يتقون أي ولعل هؤلاء يتركون ما هم عليه من هذا الصنيع فيقيهم الله عذابه ويعفو عنهم إذا هم رجعوا واستمعوا قال الله تعالى فلما نسوا ما ذكروا به أي لم يلتفتوا إلى من نهاهم عن هذا الصنيع الشنيع الفظيع انجينا الذين ينهون عن السوء وهم الفرقة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر وأخذنا الذين ظلموا وهم المرتكبون الفاحشة بعذاب بئيس وهو الشديد المؤلم الموجع بما كانوا يفسقون ثم فسر العذاب الذي أصابهم بقوله فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين وسنذكر ما ورد من الآيات في ذلك
والمقصود هنا أن الله أخبر أنه أهلك الظالمين ونجى المؤمنين المنكرين وسكت عن الساكتين وقد اختلف فيهم العلماء على قولين فقيل إنهم من الناجين وقيل إنهم من الهالكين والصحيح الأول عند المحققين وهو الذي رجع إليه ابن عباس إمام المفسرين وذلك عن مناظرة مولاه عكرمة فكساه من أجل ذلك حلة سنية تكرمة قلت وانما لم يذكروا مع الناجين لأنهم وان كرهوا ببواطنهم تلك الفاحشة إلا أنهم كان ينبغي لهم أن يحملوا ظواهرهم بالعمل المأمور به من الإنكار القولي الذي هو أوسط المراتب الثلاث التي أعلاها الانكار باليد ذات البنان وبعدها الانكار القولي باللسان وثالثها الانكار بالجنان فلما لم يذكروا نجوا مع الناجين إذ لم يفعلوا الفاحشة بل أنكروها وقد روى عبدالرزاق عن ابن جريج عن رجل عن عكرمة عن ابن عباس وحكى مالك عن ابن رومان وشيبان عن قتادة وعطاء الخراساني ما مضمونه أن الذين ارتكبوا هذا الصنع اعتزلهم بقية أهل البلد ونهاهم من نهاهم منهم فلم يقبلوا فكانوا يبيتون وحدهم ويغلقون بينهم وبينهم أبوابا حاجزا لما كانوا يترقبون من هلاكهم فأصبحوا ذات يوم وأبواب ناحيتهم مغلقة لم يفتحوها وارتفع النهار واشتد الضحاء فأمر بقية أهل البلد رجلا أن يصعد على سلالم ويشرف عليهم من فوقهم فلما أشرف عليهم إذا هم قردة لها أذناب يتعاوون ويتعادون ففتحوا عليهم الأبواب (2/122)
فجعلت القردة تعرف قراباتهم ولا يعرفهم قراباتهم فجعلوا يلوذون بهم ويقول لهم الناهون ألم ننهكم عن صنيعكم فتشير القردة برؤسها أن نعم ثم بكى عبدالله بن عباس وقال إنا لنرى منكرات كثيرة ولا ننكرها ولا نقول فيها شيئا وقال العوفي عن ابن عباس صار شباب القرية قردة وشيوخها خنازير وروى ابن أبي حاتم من طريق مجاهد عن ابن عباس أنهم لم يعيشوا إلا فواقا ثم هلكوا ما كان لهم نسل وقال الضحاك عن ابن عباس أنه لم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام ولم يأكل هؤلاء ولم يشربوا ولم ينسلوا وقد استقصينا الآثار في ذلك في تفسير سورة البقرة والأعراف ولله الحمد والمنة وقد روى ابن أبي حاتم وابن جرير من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة وخنازير وإنما هو مثل ضربه الله كمثل الحمار يحمل أسفارا وهذا صحيح إليه وغريب منه جدا ومخالف لظاهر القرآن ولما نص عليه غير واحد من السلف والخلف والله أعلم قصة أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون تقدم ذكرها قبل قصة موسى عليه السلام قصة سبأ سيأتي ذكرها في أيام العرب إن شاء الله تعالى وبه الثقة قصة قارون وقصة بلعام تقدمتا في قصة موسى وهكذا قصة الخضر وقصة فرعون والسحرة كلها في ضمن قصة موسى وقصة البقرة تقدمت في قصة موسى وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت في قصة حزقيل وقصة الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى في قصة شمويل وقصة الذي مر على قرية في قصة عزير
قصة لقمان قال
تعالى ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي مال ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأتي بها الله إن الله لطيف خبير يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير هو لقمان بن عنقاء بن سدون ويقال لقمان بن ثاران حكاه السهيلي عن ابن جرير والقتيبي قال السهيلي وكان نوبيا من أهل أيلة قلت وكان رجلا صالحا ذا عبادة وعبارة وحكمة عظيمة ويقال كان قاضيا في زمن داود عليه السلام فالله أعلم وقال سفيان الثوري عن الأشعث عن عكرمة عن ابن عباس قال كان (2/123)
عبدا حبشيا نجارا وقال قتادة عن عبدالله بن الزبير قلت لجابر بن عبدالله ما انتهى إليكم في شأن لقمان قال كان قصيرا أفطس من النوبة وقال يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب قال كان لقمان من سودان مصر ذو مشافر أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة وقال الأوزاعي حدثني عبدالرحمن بن حرملة قال جاء أسود إلى سعيد بن المسيب يسأله فقال له سعيد لا تحزن من اجل أنك أسود فإنه كان من أخير الناس ثلاثة من السودان بلال ومهجع مولى عمر ولقمان الحكيم كان أسود نوبيا ذا مشافر وقال الأعمش عن مجاهد كان لقمان عبدا أسود عظيم الشفتين مشقق القدمين وفي رواية مصفح القدمين وقال عمر بن قيس كان عبدا أسود غليظ الشفتين مصفح القدمين فأتاه رجل وهو في مجلس أناس يحدثهم فقال له ألست الذي كنت ترعى معي الغنم في مكان كذا وكذا قال نعم قال فما بلغ بك ما أرى قال صدق الحديث والصمت عما لا يعنيني رواه ابن جرير عن ابن حميد عن الحكم عنه وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا صفوان حدثنا الوليد حدثنا عبدالرحمن بن أبي يزيد بن جابر قال إن الله رفع لقمان الحكيم لحكمته فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك فقال ألست عبد بن فلان الذي كنت ترعى غنمي بالأمس قال بلى قال فما بلغ بك ما أرى قال قدر الله وأداء الأمانة وصدق الحديث وترك ما لا يعنيني وقال ابن وهب أخبرني عبدالله بن عياش الفتياني عن عمر مولى عفرة قال وقف رجل على لقمان الحكيم فقال أنت لقمان أنت عبد بني النحاس قال نعم قال فأنت راعي الغنم الأسود قال أما سوادي فظاهر فما الذي يعجبك من امري قال وطء الناس بساطك وغشيهم بابك ورضاهم بقولك قال يا ابن أخي إن صنعت ما أقول لك كنت كذلك قال ما هو قال لقمان غضي بصري وكفي لساني وعفة مطمعي وحفظي فرجي وقيامي بعدتي ووفائي بعهدي وتكرمتي ضيفي وحفظي جاري وتركي ما لا يعنيني فذاك الذي صيرني كما ترى وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا ابن فضيل حدثنا عمرو بن واقد عن عبدة ابن رباح عن ربيعة عن أبي الدرداء انه قال يوما وذكر لقمان الحكيم فقال ما أوتي عن أهل ولا مال ولا حسب ولا خصال ولكنه كان رجلا ضمضامة سكيتا طويل التفكر عميق النظر لم ينم نهارا قط ولم يره احد يبزق ولا يتنحنح ولا يبول ولا يتغوط ولا يغتسل ولا يعبث ولا يضحك وكان لا يعيد منطقا نطقه إلا أن يقول حكمة يستعيدها إياه أحد وكان قد تزوج وولد له اولاد فماتوا فلم يبك عليهم وكان يغشى السلطان ويأتي الحكام لينظر ويتفكر ويعتبر فبذلك أوتي ما أوتي ومنهم من زعم أنه عرضت عليه النبوة فخاف أن لا يقوم بأعبائها فاختار الحكمة لانها أسهل عليه وفي هذا نظر والله أعلم وهذا مروي عن قتادة كما سنذكره وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من طريق وكيع عن إسرائيل عن جابر الجعفي عن عكرمة أنه قال كان لقمان نبيا وهذا ضعيف الحال الجعفي (2/124)
والمشهور عن الجمهور أنه كان حكيما وليا ولم يكن نبيا وقد ذكره الله تعالى في القرآن فأثنى عليه وحكى من كلامه فيما وعظ به ولده الذي هو أحب الخلق إليه وهو أشفق الناس عليه فكان من أول ما وعظ به أن قال يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم فنهاه عنه وحذره منه وقد قال البخاري حدثنا قتيبة حدثنا جرير عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله قال لما نزلت الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وقالوا أينا لم يلبس إيمانه بظلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إنه ليس بذاك ألم تسمع إلى قول لقمان يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم رواه مسلم من حديث سليمان بن مهران الأعمش به ثم اعترض تعالى بالوصية بالوالدين وبيان حقهما على الولد وتأكده وأمر بالإحسان إليهما حتى ولو كانا مشركين ولكن لا يطاعان على الدخول في دينهما إلى أن قال مخبرا عن لقمان فيما وعظ به ولده يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير ينهاه عن ظلم الناس ولو بحبة خردل فإن الله يسأل عنها ويحضرها حوزة الحساب ويضعها في الميزان كما قال تعالى إن الله لا يظلم مثقال ذرة وقال تعالى ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين وأخبره أن هذا الظلم لو كان في الحقارة كالخردلة ولو كان في جوف صخرة صماء لا باب لها ولا كوة أو لو كانت ساقطة في شيء من ظلمات الارض أو السموات في اتساعهما وامتداد أرجائهما لعلم الله مكانها إن الله لطيف خبير أي علمه دقيق فلا يخفى عليه الذر مما تراآى للنواظر أو توارى كما قال تعالى وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين وقال وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين وقال عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين وقد زعم السدي في خبره عن الصحابة أن المراد بهذه الصخرة الصخرة التي تحت الأرضين السبع وهكذا حكى عن عطية العوفي وأبي مالك والثوري والمنهال بن عمر وغيرهم وفي صحة هذا القول من أصله نظر ثم إن في هذا هو المراد نظر آخر فإن هذه الآية نكرة غير معرفة فلو كان المراد بها ما قالوه لقال فتكن في الصخرة وإنما المراد فتكن في صخرة أي صخرة كانت كما قال الإمام أحمد حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله للناس كائنا ما كان ثم قال يا بني أقم الصلاة أي أدها بجميع واجباتها من حدودها وأوقاتها وركوعها وسجودها وطمأنينتها وخشوعها وما شرع فيها واجتنب ما ينهي عنه فيها ثم قال وامر بالمعروف وانه عن المنكر أي بجهدك وطاقتك أي إن استطعت باليد فباليد وإلا فبلسانك فإن لم تستطع فبقلبك ثم أمره بالصبر فقال واصبر على ما أصابك وذلك أن (2/125)
الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر في مظنة أن يعادي وينال منه ولكن له العاقبة ولهذا أمره بالصبر على ذلك ومعلوم أن عاقبة الصبر الفرج وقوله إن ذلك من عزم الأمور التي لا بد منها ولا محيد عنها وقوله ولا تصعر خدك للناس قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك ويزيد بن الأصم وأبو الجوزاء وغير واحد معناه لا تتكبر على الناس وتميل خدك حال كلامك لهم وكلامهم لك على وجه التكبر عليهم والإزدراء لهم قال أهل اللغة وأصل الصعر داء يأخذه الإبل في اعناقها فتلتوي رؤسها فشبه به الرجل المتكبر الذي يميل وجهه إذا كلم الناس أو كلموه على وجه التعظم عليهم
قال أبو طالب في شعره ... وكنا قديما لا نقر ظلامة ... إذا ما ثنوا صعر الخدود نقيمها ...
وقال عمرو بن حيي التغلبي ... وكنا إذا الجبار صعر خده ... أقمنا له من ميله فتقوما ...
وقوله ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور ينهاه عن التبختر في المشية على وجه العظمة والفخر على الناس كما قال تعالى ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا يعني لست بسرعة مشيك تقطع البلاد في مشيتك هذه ولست بدقك الأرض برجلك تخرق الأرض بوطئك عليها ولست بتشامخك وتعاظمك وترفعك تبلغ الجبال طولا فاتئد على نفسك فلست تعدو قدرك وقد ثبت في الحديث بينما رجل يمشي في برديه يتبختر فيهما إذ خسف الله به الأرض فهو يتجلل فيها إلى يوم القيامة وفي الحديث الآخر إياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة لا يحبها الله كما قال في هذه الآية إن الله لا يحب كل مختال فخور ولما نهاه عن الاختيال في المشي أمره بالقصد فيه فإنه لا بد له أن يمشي فنهاه عن الشر وأمره بالخير فقال واقصد في مشيك أي لا تبتاطأ مفرطا ولا تسرع اسراعا مفرطا ولكن بين ذلك قواما كما قال تعالى وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ثم قال واغضض من صوتك يعني إذا تكلمت لا تتكلف رفع صوتك فإن أرفع الأصوات وأنكرها صوت الحمير وقد ثبت في الصحيحين الأمر بالإستعاذة عند سماع صوت الحمير بالليل فإنها رأت شيطانا ولهذا نهى عن رفع الصوت حيث لا حاجة إليه ولا سيما عند العطاس فيستحب خفض الصوت وتخمير الوجه كما ثبت به الحديث من صنيع رسول الله صلى الله عليه و سلم فأما رفع الصوت بالأذان وعند الدعاء إلى الفئة للقتال وعند الإهلاك ونحو ذلك فذلك مشروع فهذا مما قصه الله تعالى عن لقمان عليه السلام في القرآن من الحكم والوصايا النافعة الجامعة للخهر المانعة من الشر وقد وردت آثار كثيرة في أخباره ومواعظه وقد كان له كتاب يؤثر عنه يسمى بحكمة لقمان ونحن نذكر من ذلك ما تيسر إن شاء الله تعالى
قال الإمام أحمد حدثنا علي بن إسحاق انبأنا ابن المبارك أنبأنا سفيان أخبرني نهيك بن يجمع الضبي (2/126)
عن قزعة عن ابن عمر قال أخبرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن لقمان الحكيم كان يقول إن الله إذا استودع شيئا حفظه وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا عيسى بن يونس عن الأوزاعي عن موسى ابن سليمان عن القاسم بن مخيمرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني إياك والتقنع فإنه مخونة بالليل مذمة بالنهار وقال ايضا حدثنا أبي حدثنا عمرو بن عمارة حدثنا ضمرة حدثنا السري بن يحيى قال لقمان لابنه يا بني إن الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك وحدثنا أبي حدثنا عبدة بن سليمان أنبأنا ابن المبارك أنبأنا عبدالرحمن المسعودي عن عون بن عبدالله قال قال لقمان لابنه يا بني إذا أتيت نادي قوم فادمهم بسهم الإسلام يعني السلام ثم اجلس بناحيتهم فلا تنطق حتى تراهم قد نطقوا فإن أفاضوا في ذكر الله فأجل سهمك معهم وإن أفاضوا في غير ذلك فحول عنهم إلى غيرهم وحدثنا أبي حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا ضمرة عن حفص بن عمر قال وضع لقمان جرابا من خردل إلى جانبه وجعل يعظ ابنه وعظة ويخرج خردلة حتى نفد الخردل فقال يا بني لقد وعظتك موعظة لو وعظها جبل تفطر قال فتفطر ابنه وقال أبو القاسم الطبراني حدثنا يحيى بن عبد الباقي المصيصي حدثنا أحمد بن عبدالرحمن الحراني حدثنا عثمان بن عبدالرحمن الطرائفي عن ابن سفيان المقدسي عن خليفة بن سلام عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اتخذوا السودان فإن ثلاثة منهم من أهل الجنة لقمان الحكيم والنجاشي وبلال المؤذن قال الطبراني يعني الحبشي وهذا حديث غريب منكر وقد ذكر له الإمام أحمد في كتاب الزاهد ترجمة ذكر فيها فوائد مهمة جمة فقال حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن رجل عن مجاهد ولقد آتينا لقمان الحكمة قال الفقه والإصابة في غير نبوة وكذا روى عن وهب بن منبه وحدثنا وكيع حدثنا سفيان عن أشعث عن عكرمة عن ابن عباس قال كان لقمان عبدا حبشيا وحدثنا أسود حدثنا حماد عن علي بن يزيد عن سعيد بن المسيب أن لقمان كان خياطا وحدثنا سياد حدثنا جعفر حدثنا مالك يعني بن دينار قال قال لقمان لابنه يا بني انخذ طاعة الله تجارة تأتك الأرباح من غير بضاعة وحدثنا يزيد حدثنا أبو الأشهب عن محمد بن واسع قال كان لقمان يقول لابنه يا بني اتق الله ولا ترى الناس أنك تخشى الله ليكرموك بذلك وقلبك فاجر وحدثنا يزيد بن هرون ووكيع قالا حدثنا أبو الأشهب عن خالد الربعي قال كان لقمان عبدا حبشيا نجارا فقال له سيده اذبح لي شاة فذبح له شاة فقال ائتني بأطيب مضغتين فيها فأتاه باللسان والقلب فقال أما كان فيها شيء أطيب من هذين قال لا قال فسكت عنه ما سكت ثم قال له اذبح لي شاة فذبح له شاة فقال له وألق أخبثها مضغتين فرمى باللسان والقلب فقال أمرتك أن تأتيني بأطيبها مضغتين فأتيتني باللسان والقلب وأمرتك أن تلقي أخبثها مضغتين فألقيت اللسان والقلب فقال له إنه ليس شيء أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا وحدثنا داود بن رشيد حدثنا ابن المبارك حدثنا معمر عن ابي عثمان رجل من أهل البصرة يقال له الجعد أبو عثمان قال قال لقمان لابنه لا ترغب في ود الجاهل (2/127)
فيرى أنك ترضى عمله ولا تهاون بمقت الحكيم فيزهده فيك وحدثنا داود بن أسيد حدثنا إسماعيل بن عياش عن ضمضم ابن زرعة عن شريح بن عبيد الحضرمي عن عبدالله بن زيد قال قال لقمان ألا أن يد الله على أفواه الحكماء لا يتكلم أحدهم إلا ما هيأ الله له وحدثنا عبد الرزاق سمعت بن جريج قال كنت أقنع رأسي بالليل فقال لي عمر اما علمت أن لقمان قال القناع بالنهار مذلة معذرة أو قال معجزة بالليل فلم تقنع رأسك بالليل قال قلت له إن لقمان لم يكن عليه دين وحدثني حسن بن الجنيد حدثنا سفيان قال لقمان لابنه يا بني ما ندمت على السكوت قط وإن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب وحدثنا عبد الصمد ووكيع قالا حدثنا حدثنا أبو الأشهب عن قتادة أن لقمان قال لابنه يا بني اعتزل الشر يعتزلك فإن الشر للشر خلق وحدثنا أبو معاوية حدثنا هشام بن عروة عن أبيه قال مكتوب في الحكمة يا بني إياك والرغب فإن الرغب كل الرغب يبعد القريب من القريب ويزيل الحكم كما يزيل الطرب يا بني إياك وشدة الغضب فإن شدة الغضب ممحقة لفؤاد الحكيم قال الإمام أحمد حدثنا عبدالرحمن بن مهدي حدثنا نافع بن عمر عن ابن أبي مليكة عن عبيد بن عمير قال قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني اختر المجالس على عينك فإذا رأيت المجلس يذكر فيه الله عز و جل فاجلس معهم فإنك إن تك عالما ينفعك علمك وإن تك غبيا يعلموك وإن يطلع الله عليهم برحمة تصيبك معهم يا بني لا تجلس في المجلس الذي لا يذكر الله فيه فإنك إن تك عالما لا ينفعك علمك وإن تك غبيا يزيدوك غبيا وإن يطلع الله إليهم بعد ذلك بسخط يصيبك معهم يا بني لا تغبطوا أمراء رحب الذراعين يسفك دماء المؤمنين فإن له عند الله قاتلا لا يموت
وحدثنا أبو معاوية حدثنا هشام بن عروة عن أبيه قال مكتوب في الحكمة بني لتكن كلمتك طيبة وليكن وجهك بسطا تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم العطاء وقال مكتوب في الحكمة أو في التوراة الرفق رأس الحكمة وقال مكتوب في التوراة كما ترحمون ترحمون وقال مكتوب في الحكمة كما تزرعون تحصدون وقال مكتوب في الحكمة أحب خليلك وخليل أبيك وحدثنا عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة قال قيل للقمان أي الناس أصبر قال صبر لا يتبعه أذى قيل فأي الناس أعلم قال من ازداد من علم الناس إلى علمه قيل فأي الناس خير قال الغنى قيل الغنى من المال قال لا ولكن الغني الذي إذا التمس عنده خير وجد وإلا أغنى نفسه عن الناس
وحدثنا سفيان هو ابن عيينة قال قيل للقمان أي الناس شر قال الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئا وحدثنا أبو الصمد عن مالك بن دينار قال وجدت في بعض الحكمة يبدد الله عظام الذين يتكلمون بأهواء الناس ووجدت فيها لا خير لك في أن تعلم ما لم تعلم ولما تعمل بما قد علمت فإن مثل ذلك مثل رجل احتطب حطبا فحزم حزمة ثم ذهب يحملها فعجز عنها فضم إليه أخرى وقال عبدالله بن أحمد حدثنا الحكم بن أبي زهير وهو الحكم بن موسى حدثنا الفرج بن فضالة عن أبي سعيد قال قال لقمان لابنه (2/128)
يا بني لا يأكل طعامك إلا الأتقياء وشاور في أمرك العلماء وهذا مجموع ما ذكره الإمام أحمد في هذه المواضع وقد قدمنا من الآثار كثيرا لم يروها كما أنه ذكر أشياء ليست عندنا والله أعلم
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا العباس بن الوليد حدثنا زيد بن يحيى بن عبيد الخزاعي حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة قال خير الله لقمان الحكيم بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة على النبوة قال فأتاه جبريل وهو نائم فدر عليه الحكمة قال فأصبح ينطق بها قال سعد سمعت قتادة يقول قيل للقمان كيف اخترت الحكمة على النبوة وقد خيرك ربك فقال إنه لو أرسل إلى بالنبوة عزمة لرجوت فيه الفوز منه ولكنت أرجو أن أقوم بها ولكن خيرني فخفت أن أضعف عن النبوة فكانت الحكمة أحب إلي وهذا فيه نظر لأن سعيد بن بشير عن قتادة قد تكلموا فيه والذي رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله ولقد آتينا لقمان الحكمة قال يعني الفقه والإسلام ولم يكن نبيا ولم يوح إليه وهكذا نص على هذا غير واحد من السلف منهم مجاهد وسعيد بن المسيب وابن عباس والله أعلم
قصة أصحاب الأخدود
قال الله تعالى والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد الذي له ملك السموات والأرض والله على كل شيء شهيد إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق قد تكلمنا على ذلك مستقصى في تفسير هذه السورة ولله الحمد وقد زعم محمد بن إسحاق أنهم كانوا بعد مبعث المسيح وخالفه غيره فزعموا أنهم كانوا قبله وقد ذكر غير واحد أن هذا الصنيع مكرر في العالم مرارا في حق المؤمنين من الجبارين الكافرين ولكن هؤلاء المذكورون في القرآن قد ورد فيهم حديث مرفوع وأثر أورده ابن اسحاق وهما متعارضان وها نحن نوردهما لتقف عليهما قال الإمام أحمد حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر فلما كبر الساحر قال للملك إني قد كبرت سني وحضر اجلي فادفع إلي غلاما فلأعلمه السحر فدفع إليه غلاما فكان يعلمه السحر وكان بين الملك وبين الساحر راهب فأتى الغلام على الراهب فسمع من كلامه فأعجبه نحوه وكلامه وكان إذا أتى الساحر ضربه وقال ما حبسك وإذا أتى أهله ضربوه وقالوا ما حبسك فشكا ذلك إلى الراهب فقال إذا أراد الساحر أن يضربك فقل حبسني أهلي وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل حبسني الساحر قال فبينا هو ذات يوم إذ أتى على دابة فظيعة عظيمة قد حبست الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا فقال اليوم أعلم أمر الساحر أحب إلى الله أم أمر الراهب قال فأخذ حجرا فقال اللهم إن كان أمر الراهب (2/129)
أحب إليك وأرضي من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس ورماها فقتلها ومضى فأخبر الراهب بذلك فقال أي بني أنت أفضل مني وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدل علي فكان الغلام يبرىء الاكمه والابرص وسائر الأدواء ويشفيهم الله على يديه وكان جليس للملك فعمى فسمع به فأتاه بهدايا كثيرة فقال اشفني ولك ما ههنا اجمع فقال ما أنا اشفي أحدا إنما يشفي الله عز و جل فإن آمنت به ودعوت الله شفاك فآمن فدعا الله فشفاه ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس فقال له الملك يا فلان من رد عليك بصرك فقال ربي قال أنا قال لا ربي وربك الله قال ولك رب غيري قال نعم ربي وربك الله فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام فأتى به فقال أي بني بلغ من سحرك أن تبرىء الأكمه والأبرص وهذه الأدواء قال ما أشفي أنا أحدا إنما يشفي الله عز و جل قال أنا قال لا قال أولك رب غيري قال ربي وربك الله قال فأخذه أيضا بالعذاب ولم يزل به حتى دل على الراهب فأتى الراهب فقال ارجع عن دينك فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه وقال للأعمى ارجع عن دينك فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه وقال للغلام ارجع عن دينك فأبى فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا وقال إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فدهدهوه فذهبوا به فلما علوا الجبل قال اللهم أكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فدهدهوا أجمعون وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك فقال ما فعل أصحابك فقال كفانيهم الله فبعث به مع نفر في قرقة فقال إذا لججتم البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاغرقوه في البحر فلججوا به البحر فقال الغلام اللهم اكفنيهم بما شئت فغرقوا أجمعون وجاء الغلام حتى دخل على الملك فقال ما فعل أصحابك فقال كفانيهم الله ثم قال للملك إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني وإلا فإنك لا تستطيع قتلي قال وما هو قال تجمع الناس في صعيد واحد ثم تصلبن على جذع وتأخذ سهما من كنانتي ثم قل بسم الله رب الغلام فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني ففعل ووضع السهم في كبد القوس ثم رماه وقال بسم الله رب الغلام فوقع السهم في صدغه فوضع الغلام يد ه على موضع السهم ومات فقال الناس آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام فقيل للملك أرأيت ما كنت تحذر فقد والله نزل بك قد آمن الناس كلهم فأمر بأفواه السكك فحفر فيها الأخاديد وأضرمت فيها النيران وقال من رجع عن دينه فدعوه وإلا فأقحموه فيها وقال فكانوا يتعادون فيها ويتواقعون فجاءت امرأة بابن لها ترضعه فكأنها تقاعست أن تقع في النار فقال الصبي اصبري يا أماه فإنك على الحق كذا رواه الإمام أحمد ورواه مسلم والنسائي من حديث حماد بن سلمة زاد النسائي وحماد بن زيد كلاهما عن ثابت به ورواه الترمذي من طريق عبد الرزاق عن معمر عن ثابت بإسناده نحوه وجرد إيراده كما بسطنا ذلك في التفسير
وقد أورد محمد بن اسحاق هذه القصة على وجه آخر فقال حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب وحدثني أيضا بعض أهل نجران عن أهلها أن اهل نجران كانوا أهل شرك يعبدون الأوثان وكان في (2/130)
قرية من قراها قريبا من نجران ونجران هي القرية العظمى التي اليها جماع أهل تلك البلاد ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر فلما نزلها قيمون ولم يسموه لي بالاسم الذي سماه ابن منبه قالوا رجل نزلها فابتنى خيمة بين نجران وبين تلك القرية التي فيها الساحر وجعل أهل نجران يرسلون غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر فبعث التامر ابنه عبدالله بن التامر مع غلمان أهل نجران فكان إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من عبادته وصلاته فجعل يجلس اليه ويسمع منه حتى أسلم فوحد الله وعبده وجعل يسأله عن شرائع الإسلام حتى إذا فقه فيه جعل يسأله عن الاسم الأعظم وكان يعلمه فكتمه إياه وقال له يا ابن أخي انك لن تحمله أخشى ضعفك عنه والتامر لا يظن الا أن ابنه عبدالله يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمان فلما رأى عبدالله أن صاحبه قد ضن به عنه وتخوف ضعفه فيه عمد إلى قداح فجمعها ثم لم يبق لله اسما يعلمه الا كتبه في قدح لكل اسم قدح حتى إذا أحصاها أوقد نارا ثم جعل يقذفها قدحا قدحا حتى إذا مر بالاسم الأعظم قذف فيها بقدحه فوثب القدح حتى خرج منها لم تضره شيئا فأخذه ثم أتى به صاحبه فأخبره أنه قد علم الاسم الأعظم الذي قد كتمه فقال وما هو قال كذا وكذا قال وكيف علمته فأخبره بما صنع قال أي ابن أخي قد أصبته فأمسك على نفسك وما أظن أن تفعل فجعل عبدالله بن التامر إذا دخل نجران لم يلق أحدا به ضر الا قال يا عبدالله أتوحد الله وتدخل في ديني وأدعو الله لك فيعافيك عما أنت فيه من البلاء ودعا له فعوفي حتى رفع شأنه إلى ملك نجران فدعاه فقال أفسدت علي أهل قريتي وخالفت ديني ودين آبائي لأمثلن بك قال لا تقدر على ذلك فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح على رأسه فيقع إلى الأرض ما به بأس وجعل يبعث به إلى مياه بنجران بحور لا يلقى فيها شيء الا هلك فيلقى به فيها فيخرج ليس به بأس فلما غلبه قال له عبدالله بن التامر والله لا تقدر على قتلي حتى توحد الله فتؤمن بما آمنت به فإنك ان فعلت سلطت علي فقتلتني قال فوحد الله ذلك الملك وشهد شهادة عبدالله بن التامر ثم ضربه بعصا في يده فشجه شجة غير كبيرة فقتله وهلك الملك مكانه واستجمع أهل نجران على دين عبدالله بن التامر وكان على ما جاء به عيسى بن مريم من الإنجيل وحكمه ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الأحزاب فمن هنالك كان أصل دين النصرانية بنجران قال ابن اسحاق فهذا حديث محمد بن كعب وبعض أهل نجران عن عبدالله بن التامر فالله أعلم أي ذلك كان قال فسار اليهم ذو نواس بجنده فدعاهم إلى اليهودية وخيرهم بين ذلك أو القتل فاختاروا القتل فخدوا الأخدود وحرق بالنار وقتل بالسيف ومثل بهم فقتل منهم قريبا من عشرين ألفا ففي ذي نواس وجنده أنزل الله على رسوله قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود الآيات وهذا يقتضي أن هذه القصة غير ما وقع في سياق مسلم وقد زعم بعضهم أن الأخدود وقع في العالم كثيرا كما قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو اليمان أنبأنا صفوان عن عبدالرحمن بن جبير قال كانت الأخدود في اليمن زمان تبع وفي القسطنطينة زمان قسطنطين حين صرف النصارى (2/131)
قبلتهم عن دين المسيح والتوحيد واتخذ أتونا وألقى فيه النصارى الذين كانوا على دين المسيح والتوحيد وفي العراق في أرض بابل في زمان بخت نصر حين صنع الصنم وأمر الناس فسجدوا له فامتنع دانيال وصاحباه عزريا ومشايل فأوقد لهم أتونا وألقى فيها الحطب والنار ثم القاهما فيه فجعلها الله عليهم بردا وسلاما وأنقذهم منها وألقى فيها الذين بغوا عليه وهم تسعة رهط فأكلتهم النار وقال أسباط عن السدي في قوله قتل أصحاب الأخدود قال كان الأخدود ثلاثة خد بالشام وخد بالعراق وخد باليمن رواه ابن أبي حاتم وقد استقصيت ذكر أصحاب الأخدود والكلام على تفسيرها في سورة البروج ولله الحمد والمنة
بيان الاذن في الرواية عن اخبار بني إسرائيل
قال الإمام أحمد حدثنا عبدالصمد حدثنا همام حدثنا زيد عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال قال حدثوا عني ولا تكذبوا علي ومن كذب علي متعمدا فليتبؤ مقعده من النار وحدثوا عن بني اسرائيل ولا حرج وقال أيضا حدثنا عفان حدثنا همام أنبأنا زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال قال لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن فمن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه وقال حدثوا عن بني اسرائيل ولا حرج حدثوا عني ولا تكذبوا علي قال ومن كذب علي قال همام احسبه قال متعمدا فليتبوأ مقعده من النار وهكذا رواه مسلم والنسائي من حديث همام ورواه أبو عوانة الاسفراييني عن أبي داود السجستاني عن هدبة عن همام عن زيد بن أسلم به ثم قال قال أبو داود أخطأ فيه همام وهو من قول أبي سعيد كذا قال وقد رواه الترمذي عن سفيان عن وكيع عن سفيان بن عيينة عن زيد بن أسلم ببعضه مرفوعا فالله أعلم قال الإمام أحمد حدثنا الوليد بن مسلم أنبأنا الأوزاعي حدثنا حسان بن عطية حدثني أبو كبشة السلولي أن عبدالله بن عمرو بن العاص حدثه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يعني يقول بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني اسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ورواه أحمد أيضا عن عبدالله بن نمير وعبدالرزاق كلاهما عن الأوزاعي به وهكذا رواه البخاري عن أبي عاصم النبيل عن الأوزاعي به وكذا رواه الترمذي عن بندار عن أبي عاصم ثم رواه عن محمد بن يحيى الذهلي عن محمد بن يوسف العرياني عن عبدالرحمن بن ثابت بن ثوبان عن حسان بن عطية وقال حسن صحيح وقال أبو بكر البزار حدثنا محمد بن المثنى أبو موسى حدثنا هشام بن معاوية حدثنا أبي عن قتادة عن أبي حسان عن عبدالله بن عمرو قال كان نبي الله صلى الله عليه و سلم يحدثنا عامة ليلة عن بني اسرائيل حتى نصبح ما نقوم فيها إلا لمعظم صلاة ورواه أبو داود عن محمد بن مثنى ثم قال البزار حدثنا محمد بن مثنى حدثنا عفان حدثنا أبو هلال عن قتادة عن أبي حسان عن عمران بن حسين قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحدثنا (2/132)
عامة ليلة عن بني اسرائيل لا يقوم الا لمعظم صلات قال البزار وهشام احفظ من أبي هلال يعني أن الصواب عن عبدالله بن عمرو لا عن عمران بن حصين والله أعلم وقال الإمام أحمد حدثنا يحيى هو القطان عن محمد بن عمرو حدثنا أبو سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج اسناد صحيح ولم يخرجوه وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا أبو خيثمة حدثنا وكيع حدثنا ربيع بن سعد الجعفي عن عبدالرحمن بن سابط عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم حدثوا عن بني اسرائيل فإنه قد كان فيهم الأعاجيب ثم أنشأ يحدث صلى الله عليه و سلم قال خرجت طائفة من بني إسرائيل حتى أتوا مقبرة من مقابرهم فقالوا لو صلينا ركعتين ودعونا الله عز و جل فيخرج لنا رجلا قد مات نسائله يحدثنا عن الموت ففعلوا فبينما هم كذلك إذ أطلع رجل رأسه من قبر من تلك القبور بين عينيه أثر السجود فقال يا هؤلاء ما أردتم إلي فقد مت منذ مائة عام فما سكنت عني حرارة الموت حتى الآن فادعوا الله أن يعيدني كما كنت وهذا حديث غريب اذا تقرر جواز الرواية عنهم فهو محمول على ما يمكن أن يكون صحيحا فاما ما يعلم أو يظن بطلانه لمخالفته الحق الذي بأيدينا عن المعصوم فذاك متروك مردود لا يعرج عليه ثم مع هذا كله لا يلزم من جواز روايته أن تعتقد صحته لما رواه البخاري قائلا حدثنا محمد بن يسار حدثنا عثمان بن عمر حدثنا علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل الينا وما أنزل اليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون تفرد به البخاري من هذا الوجه
وروى الإمام أحمد من طريق الزهري عن أبي نملة الأنصاري عن أبيه أنه كان جالسا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال إذا جاء رجل من اليهود فقال يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم الله أعلم فقال اليهودي أنا أشهد أنها تتكلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله فإن كان حقا لم تكذبوهم وإن كان باطلا لم تصدقوهم تفرد به أحمد وقال الإمام أحمد حدثنا شريح بن النعمان حدثنا هشيم أنبأنا مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبدالله أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه و سلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه على النبي صلى الله عليه و سلم قال فغضب وقال امتهوكون فيها يا ابن الخطاب والذي نفسي به لقد جئتكم به بيضاء نقية لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به والذي نفسي به لو أن موسى كان حيا ما وسعه الا أن يتبعني تفرد به أحمد واسناده على شرط مسلم فهذه الأحاديث دليل على أنهم قد بدلوا ما بأيديهم من الكتب السماوية وحرفوها واولوها ووضعوها على غير مواضعها ولا سيما ما يبدونه من المعربات التي لم يحيطوا بها علما وهي بلغتهم فكيف يعبرون عنها بغيرها ولأجل هذا وقع في تعريبهم خطأ كبير ووهم كثير مع ما لهم من المقاصد الفاسدة والآراء الباردة وهذا يتحققه من نظر في (2/133)
كتبهم التي بأيديهم وتأمل ما فيها من سوء التعبير وقبيح التبديل والتغيير وبالله المستعان وهو نعم المولى ونعم النصير وهذه التوراة التي يبدونها ويخفون منها كثيرا فيما ذكروه فيها تحريف وتبديل وتغيير وسوء تعبير يعلم من نظر فيها وتأمل ما قالوه وما أبدوه وما أخفوه وكيف يسوغون عبارة فاسدة البناء والتركيب باطلة من حيث معناها وألفاظها وهذا كعب الأحبار من أجود من ينقل عنهم وقد أسلم في زمن عمر وكان ينقل شيئا عن أهل الكتاب فكان عمر رضي الله عنه يستحسن بعض ما ينقله لما يصدقه من الحق وتأليفا لقلبه فتوسع كثير من الناس في أخذ ما عنده وبالغ أيضا هو في نقل تلك الأشياء التي كثير منها ما يساوي مداده ومنها ما هو باطل لا محالة ومنها ما هو صحيح لما يشهد له الحق الذي بأيدينا وقد قال البخاري وقال أبو اليمان حدثنا شعيب عن الزهري أخبرني حميد بن عبدالرحمن أنه سمع معاوية يحدث رهطا من قريش بالمدينة وذكر كعب الأحبار فقال ان كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب وان كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب يعني من غير قصد منه وروى البخاري من حديث الزهري عن عبيدالله بن عبدالله عن ابن عباس أنه قال كيف يسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل الله على رسوله أحدث الكتب بالله تقرأونه محضا لم يشب وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا الا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألته لا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل عليكم وروى ابن جرير عن عبدالله بن مسعود أنه قال لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل والله أعلم
قصة جريج أحد عباد بني اسرائيل
قال الإمام أحمد حدثنا وهب بن جرير حدثني أبي سمعت محمد بن سيرين يحدث عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يتكلم في المهد الا ثلاثة عيسى بن مريم قال وكان في بني اسرائيل رجل عابد يقال له جريج فابتنى صومعة وتعبد فيها قال فذكر بنو اسرائيل عبادة جريج فقالت بغى منهم لئن شئتم لافتننه فقالوا قد شئنا ذاك قال فاتته فتعرضت له فلم يلتفت إليها فأمكنت نفسها من راع كان يؤوى غنمه إلى أصل صومعة جريج فحملت فولدت غلاما فقالوا ممن قالت من جريج فأتوه فاستنزلوه فشتموه وضربوه وهدموا صومعته فقال ما شأنكم قالوا انك زنيت بهذه البغي فولدت غلاما فقال وأين هو قالوا هو هذا قال فقام فصلى ودعا ثم انصرف إلى الغلام فطعنه باصبعه فقال بالله يا غلام من أبوك فقال أنا ابن الراعي فوثبوا إلى جريج فجعلوا يقبلونه وقالوا نبني صومعتك من ذهب قال لا حاجة لي في ذلك ابنوها من طين كما كانت قال وبينما امرأة في حجرها ابن لها ترضعه اذ مر بها راكب ذو شارة فقالت (2/134)
اللهم اجعل ابني مثل هذا قال فترك ثديها وأقبل على الراكب فقال اللهم لا تجعلني مثله قال ثم عاد إلى ثديها فمصه قال أبو هريرة فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يحكي صنيع الصبي ووضع اصبعه في فيه يمصها ثم مرت بأمة تضرب فقالت اللهم لا تجعل ابني مثلها قال فترك ثديها وأقبل على الأمة فقال اللهم اجعلني مثلها قال فذاك حين تراجعا الحديث فقالت خلفي مر الراكب ذو الشارة فقلت اللهم اجعل ابني مثله فقلت اللهم لا تجعلني مثله ومررت بهذه الأمة فقلت اللهم لا تجعل ابني مثلها فقلت اللهم اجعلني مثلها فقال يا أمتاه ان الراكب ذو الشارة جبار من الجبابرة وان هذه الأمة يقولون زنت ولم تزن وسرقت ولم تسرق وهي تقول حسبي الله وهكذا رواه البخاري في أحاديث الأنبياء وفي المظالم عن مسلم بن ابراهيم ومسلم في كتاب الأدب عن زهير بن حرب عن يزيد بن هرون كلاهما عن جرير بن حازم به طريق أخرى وسياق آخر
قال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا سليمان بن المغيرة حدثنا حميد بن هلال عن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال كان جريج يتعبد في صومعته قال فأتته أمه فقالت يا جريج أنا أمك وكلمني قال وكان أبو هريرة يصف كيف كان رسول الله صلى الله عليه و سلم وضع يده على حاجبه الأيمن قال وصادفته يصلي قال يا رب أمي وصلاتي فاختار صلاته فرجعت ثم أتته فصادفته يصلي فقالت يا جريج أنا أمك فكلمني فقال يا رب أمي وصلاتي فاختار صلاته فقالت اللهم هذا جريج وانه ابني واني كلمته فأبى أن يكلمني اللهم فلا تمته حتى تريه المومسات ولو دعت عليه أن يفتتن لافتتن قال وكان راع يأوي إلى ديره فخرجت امرأة فوقع عليها الراعي فولدت غلاما فقيل ممن هذا فقالت هو من صاحب الدير فأقبلوا بفؤسهم ومساحيهم وأقبلوا إلى الدير فنادوه فلم يكلمهم فأقبلوا يهدمون ديره فنزل اليهم فقالوا سل هذه المرأة قال أراه تبسم قال ثم مسح رأس الصبي فقال من أبوك قال راعي الضأن قالوا يا جريج نبني ما هدمنا من ديرك بالذهب والفضة قال لا ولكن أعيدوه كما كان ففعلوا ورواه مسلم في الاستيذان عن شيبان بن فروخ عن سليمان بن المغيرة به
سياق آخر قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا حماد أنبأنا ثابت عن أبي رافع عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال كان في بني اسرائيل رجل يقال له جريج كان يتعبد في صومعته فأتته أمه ذات يوم فنادته فقالت أي جريج أي بني أشرف على أكلمك أنا أمك اشرف علي فقال أي ربي صلاتي وأمي فأقبل على صلاته ثم عادت فنادته مرارا فقالت أي جريج أي بني أشرف علي فقال أي رب صلاتي وأمي فأقبل على صلاته فقالت اللهم لا تمته حتى تريه المومسة وكانت راعية ترعى غنما لأهلها ثم تأوي إلى ظل صومعته فأصابت فاشحة فحملت فأخذت وكان من زنى منهم قتل فقالوا ممن قالت من جريج صاحب الصومعة فجاؤوا بالفؤس والمرور فقالوا أي جريج أي مرائي أنزل فأبى وأقبل على صلاته يصلي فأخذوا في هدم صومعته (2/135)
فلما رأى ذلك نزل فجعلوا في عنقه وعنقها حبلا فجعلوا يطوفون بهما في الناس فوضع أصبعه على بطنها فقال أي غلام من أبوك فقال أبي فلان راعي الضأن فقبلوه وقالوا إن شئت بنينا لك صومعتك من ذهب وفضة قال أعيدوها كما كانت وهذا سياق غريب واسناده على شرط مسلم ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب من هذا الوجه
فهؤلاء ثلاثة تكلموا في المهد عيسى بن مريم عليه السلام وقد تقدم الكلام على قصته وصاحب جريج بن البغي من الراعي كما سمعت واسمه يابوس كما ورد مصرحا به في صحيح البخاري والثالث ابن المرأة التي كانت ترضعه فتمنت له أن يكون كصاحب الشارة الحسنة فتمنى أن يكون كتلك الأمة المتهومة بما هي بريئة منه وهي تقول حسبي الله ونعم الوكيل كما تقدم في رواية محمد بن سيرين عن أبي هريرة مرفوعا وقد رواه الإمام أحمد عن هوذة عن عوف الأعرابي عن خلاس عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم بقصة هذا الغلام الرضيع وهو اسناد حسن
وقال البخاري حدثنا أبو اليمان حدثنا شعيب حدثنا أبو الزناد عن عبدالرحمن الأعرج حدثه أنه سمع أبا هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم قال بينما امرأة ترضع ابنها إذ مر بها راكب وهي ترضعه فقالت اللهم لا تمت ابني حتى يكون مثل هذا فقال اللهم لا تجعلني مثله ثم رجع في الثدي ومر بامرأة تجر ويلعب بها فقالت اللهم لا تجعل ابني مثل هذه فقال اللهم اجعلني مثلها فقال أما الراكب فإنه كافر وأما المرأة فإنهم يقولون إنها تزني وتقول حسبي الله ويقولون تسرق وتقول حسبي الله وقد رود في من تكلم في المهد أيضا شاهد يوسف كما تقدم وابن ماشطة آل فرعون والله أعلم
قصة برصيصا
وهي عكس قضية جريج فإن جريجا عصم وذلك فتن قال ابن جرير حدثني يحيى بن ابراهيم المسعودي أنبأنا أبي عن أبيه عن جده عن الأعمش عن عمارة عن عبدالرحمن بن يزيد عن عبدالله بن مسعود في هذه الآية كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريىء منك إني أخاف الله رب العالمين فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين قال ابن مسعود وكانت امرأة ترعى الغنم وكان لها أخوة أربعة وكانت تأوي بالليل إلى صومعة راهب قال فنزل الراهب ففجر بها فحملت فأتاه الشيطان فقال له اقتلها ثم ادفنها فإنك رجل تصدق ويسمع قولك فقتلها ثم دفنها قال فأتى الشيطان اخوتها في المنام فقال لهم ان الراهب صاحب الصومعة فجر بأختكم فلما أحبلها قتلها ثم دفنها في مكان كذا وكذا فلما أصبحوا قال رجل منهم والله لقد رأيت البارحة رؤيا ما أدري أقصها عليكم أم أترك قالوا لا بل قصها علينا قال فقصها فقال الآخر وأنا والله لقد رأيت ذلك فقال الآخر وأنا والله لقد رأيت (2/136)
ذلك قالوا فوالله ما هذا إلا لشي فانطلقوا فاستعدوا ملكهم على ذلك الراهب فأتوه فأنزلوه ثم انطلقوا به فأتاه الشيطان فقال إني أنا أوقعتك في هذا ولن ينجيك منه غيري فاسجد لي سجدة واحدة وانجيك مما أوقعتك فيه قال فسجد له فلما أتوا به ملكهم تبرأ منه وأخذ فقتل وهكذا روى عن ابن عباس وطاوس ومقاتل بن حيان نحو ذلك
وقد روى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بسياق آخر فقال ابن جرير حدثنا خلاد بن أسلم حدثنا النضر بن شميل أنبأنا شعبة عن أبي اسحاق سمعت عبدالله بن نهيك سمعت عليا يقول ان راهبا تعبد ستين سنة وان الشيطان أراده فأعياه فعمد الى امرأة فأجنها ولها اخوة فقال لإخوتها عليكم بهذا القس فيداويها قال فجاؤوا بها إليه فداواها وكانت عنده فبينما هو يوما عندها إذ اعجبته فأتاها فحملت فعمد إليها فقتلها فجاء إخوتها فقال الشيطان للراهب انا صاحبك انك أعييتني أنا صنعت هذا بك فاطعني أنجك مما صنعت بك اسجد لي سجدة فسجد له قال اني برىء منك إني أخاف الله رب العالمين فذلك قوله كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني برىء منك اني أخاف الله رب العالمين
قصة الثلاثة الذين أووا إلى الغار فانطبق عليهم
فتوسلوا إلى الله تعالى بصالح أعمالهم ففرج عنهم قال الإمام البخاري حدثنا اسماعيل بن خليل أخبرنا علي بن مسهر عن عبيدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم يمشون إذا أصابهم مطر فآووا إلى غار فانطبق عليهم فقال بعضهم لبعض انه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصدق فليدع كل رجل منكم بما يعلم انه قد صدق فيه فقال واحدا منهم اللهم ان كنت تعلم أنه كان لي أجير عمل لي على فرق من أزر فذهب وتركه واني عمدت إلى ذلك الفرق فزرعته فصار من أمره اني اشتريت منه بقرا وانه أتاني يطلب أجره فقلت اعمد إلى تلك البقر فسقها فقال لي إنما لي عندك فرق من أرز فقلت له اعمد إلى تلك البقر فإنها من ذلك الفرق فساقها فإن كنت تعلم اني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا فانساخت عنهم الصخرة فقال الآخر اللهم إن كنت تعلم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت آتيهما كل ليلة بلبن غنم لي فأبطأت عنهما ليلة فجئت وقد رقدا وأهلي وعيالي يتضاغون من الجوع وكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي فكرهت أن أوقظهما وكرهت أن أدعهما فيستكنا لشربتهما فلم أزل أنتظر حتى طلع الفجر فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا فانساخت عنهم الصخرة حتى نظروا إلى السماء فقال الآخر اللهم إن كنت تعلم أنه كانت لي ابنة عم من أحب الناس إلي وإني راودتها عن نفسها فأبت الا أن آتيها بمائة دينار فطلبتها حتى قدرت فاتيتها بها فدفعتها اليها فأمكنتني من نفسها فلما قعدت بين رجليها قالت اتق الله ولا تفض الخاتم الا بحقه فقمت وتركت المائة دينار فإن كنت (2/137)
تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا ففرج الله عنهم فخرجوا رواه مسلم عن سويد بن سعيد عن علي بن مسهر به وقد رواه الإمام أحمد منفردا به عن مروان بن معاوية عن عمرو بن حمزة بن عبدالله بن عمر عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم بنحوه ورواه الإمام أحمد من حديث وهب بن منبه عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه و سلم بنحو من هذا السياق وفيه زيادات ورواه البزار من طريق أبي اسحاق عن رجل من بجيلة عن النعمان بن بشير مرفوعا مثله ورواه البزار في مسنده من حديث أبي حنش عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه و سلم بنحوه
خبر الثلاثة الأعمى والأبرص والأقرع
روى البخاري ومسلم من غير وجه عن همام بن يحيى عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة حدثني عبدالرحمن بن أبي عمرة أن أبا هريرة حدثه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول ان ثلاثة في بني اسرائيل أبرص وأعمى وأقرع بدا لله أن يبتليهم فبعث الله اليهم ملكا فأتى الأبرص فقال له أي شيء أحب إليك فقال لون حسن وجلد حسن قد قذرني الناس قال فمسحه فذهب عنه فأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا فقال أي المال أحب إليك قال الإبل أو قال البقر هو شك في ذلك أن الأبرص والأقرع قال أحدهما الإبل وقال الآخر البقر فأعطي ناقة عشراء فقال يبارك لك فيها قال وأتى الأقرع فقال له أي المال أحب إليك قال شعر حسن ويذهب عني هذا قد قذرني الناس فمسحه فذهب وأعطي شعرا حسنا قال فأي المال أحب إليك قال قال البقر فأعطاه بقرة حاملا وقال يبارك لك فيها قال وأتي الأعمى فقال أي شيء أحب إليك قال يرد الله إلي بصري فأبصر به الناس قال فمسحه فرد الله إليه بصره قال فأي المال أحب إليك قال الغنم فأعطاه شاة والدا فأنتج هذان وولد هذا فكان لهذا واد من الإبل ولهذا واد من البقر ولهذا واد من الغنم ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال رجل مسكين تقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ اليوم الا بالله ثم بك أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرا اتبلغ عليه في سفري فقال له أن الحقوق كثيرة فقال له كأني أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيرا فأعطاك الله عز و جل فقال لقد ورثت لكابر عن كابر فقال إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت وأتى الأقرع في صورته وهيئته فقال له مثل ما قال لهذا فرد عليه مثل ما رد عليه هذا فقال ان كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت وأتى الأعمى في صورته فقال رجل مسكين وابن سبيل وتقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ اليوم الا بالله ثم بك أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري فقال قد كنت أعمى فرد الله إلى بصري وفقيرا فقد أغناني فخذ ما شئت فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله عز و جل فقال أمسك مالك فإنما ابتليتم فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك هذا لفظ البخاري في أحاديث بني إسرائيل (2/138)
حديث الذي استلف من صاحبه ألف دينار فأداها
قال الإمام أحمد حدثنا يونس بن محمد حدثنا ليث عن جعفر بن ربيعة عن عبدالرحمن بن هرمز عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه ذكر أن رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار فقال ائتني بشهداء أشهدهم قال كفى بالله شهيدا قال ائتني بكفيل قال كفى بالله كفيلا قال صدقت فدفعها إليه إلى أجل مسمى فخرج في البحر فقضى حاجته ثم التمس مركبا يقدم عليه للأجل الذي أجله فلم يجد مركبا فأخذ خشبة فنقرها وأدخل فيها ألف دينار وصحيفة معها إلى صاحبها ثم زجج موضعها ثم أتى بها البحر ثم قال اللهم إنك قد علمت أني استسلفت فلانا ألف دينار فسألني كفيلا فقلت كفى بالله كفيلا فرضي بذلك وسألني شهيدا فقلت كفى بالله شهيدا فرضي بذلك وإني قد جهدت أن أجد مركبا أبعث إليه بالذي أعطاني فلم أجد مركبا وإني أستودعتكها فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه ثم انصرف وهو في ذلك يطلب مركبا إلى بلده فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبا يجيئه بماله فإذا بالخشبة التي فيها المال فأخذها لأهله حطبا فلما كسرها وجد المال والصحيفة ثم قدم الرجل الذي كان تسلف منه فأتاه بألف دينار وقال والله ما زلت جاهدا في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركبا قبل الذي أتيت فيه قال هل كنت بعثت إلي بشيء قال ألم أخبرك أني لم أجد مركبا قبل هذا الذي جئت فيه قال فإن الله أدى عنك الذي بعثت به في الخشبة فانصرف بالفك راشدا هكذا رواه الإمام أحمد مسندا وقد علقه البخاري في غير موضع من صحيحه بصيغة الجزم عن الليث بن سعد وأسنده في بعضها عن عبدالله بن صالح كاتب الليث عنه والعجب من الحافظ أبي بكر البزار كيف رواه في مسنده عن الحسن بن مدرك عن يحيى بن حماد عن أبي عوانة عن عمر بن سلمة عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم بنحوه ثم قال لا يروى الا من هذا الوجه بهذا الإسناد
قصة أخرى شبيهة بهذه القصة في الصدق والأمانة
قال البخاري حدثنا اسحاق بن نصر أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اشترى رجل من رجل عقارا له فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب فقال له الذي اشترى العقار خذ ذهبك مني انما اشتريت منك الأرض ولم أبتع منك الذهب وقال الذي له الأرض إنما بعتك الأرض وما فيها فتحاكما إلى رجل فقال الذي تحاكما إليه ألكما ولد قال أحدهما لي غلام وقال الآخر لي جارية قال انكحوا الغلام الجارية وأنفقوا على أنفسهما منه وتصدقا هكذا روى البخاري هذا الحديث في إخبار بني إسرائيل وأخرجه مسلم عن محمد بن رافع عن عبدالرزاق به وقد (2/139)
روى أن هذه القصة وقعت في زمن ذي القرنين وقد كان قبل بني إسرائيل بدهور متطاولة والله أعلم
قال اسحاق بن بشر في كتابه المبتدأ عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن أن ذا القرنين كان يتفقد أمور ملوكه وعماله بنفسه وكان لا يطلع على أحد منهم خيانة الا أنكر ذلك عليه وكان لا يقبل ذلك حتى يطلع هو بنفسه قال فبينما هو يسير متنكرا في بعض المدائن فجلس إلى قاض من قضاتهم اياما لا يختلف اليه أحد في خصومة فلما أن طال ذلك بذي القرنين ولم يطلع على شيء من أمر ذلك القاضي وهم بالانصراف إذا هو برجلين قد اختصما إليه فادعى أحدهما فقال أيها القاضي إني اشتريت من هذا دارا عمرتها ووجدت فيها كنزا وإني دعوته إلى أخذه فأبى علي فقال له القاضي ما تقول قال ما دفنت وما علمت به فليس هو لي ولا أقبضه منه قال المدعى أيها القاضي مر من يقبضه فتضعه حيث أحببت فقال القاضي تفر من الشر وتدخلني فيه ما أنصفتني وما أظن هذا في قضاء الملك فقال القاضي هل لكما أمرا نصف مما دعوتماني إليه قالا نعم قال للمدعي ألك ابن قال نعم وقال للآخر ألك ابنة قال نعم قال اذهبا فزوج ابنتك من ابن هذا وجهزهما من هذا المال وادفعا فضل ما بقي اليهما يعيشان به فتكونا مليا بخيره وشره فعجب ذو القرنين حين سمع ذلك ثم قال للقاضي ما ظننت أن في الأرض أحدا يفعل مثل هذا أو قاض يقضي بمثل هذا فقال القاضي وهو لا يعرفه وهل أحد يفعل غير هذا قال ذو القرنين نعم قال القاضي فهل يمطرون في بلادهم فعجب ذو القرنين من ذلك وقال بمثل هذا قامت السموات والأرض
قصة أخرى
قال البخاري حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن أبي عدي عن شعبة عن قتادة عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين انسانا ثم خرج يسأل فأتى راهبا فسأله فقال هل من توبة قال لا فقتله فجعل يسأل فقال له رجل ائت قرية كذا وكذا فأدركه الموت فناء يصدره نحوها فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فأوحى الله إلى هذه ان تقربي وأوحى إلى هذه أن تباعدي وقال قيسوا ما بينهما فوجد إلى هذه أقرب بشبر فغفر له هكذا رواه ههنا مختصرا وقد رواه مسلم عن بندار به ومن حديث شعبة ومن وجه آخر عن قتادة به مطولا
حديث آخر
قال البخاري حدثنا علي بن عبدالله حدثنا سفيان حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال صلى الله عليه و سلم ثلاة الصبح ثم أقبل على الناس فقال بينما رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها فقالت إنا لم نخلق لهذا إنما خلقنا للحرث فقال الناس سبحان الله بقرة تكلم فقال فانى أو من بهذا أنا وأبو بكر وعمر وما هما ثم قال وبينما رجل في غنمه إذ عدا الذئب فذهب منها بشاة فطلب (2/140)
حتى كأنه استنقذها منه فقال له الذئب ( 1 ) هذا استنقذتها مني فمن لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري فقال الناس سبحان الله ذئب يتكلم قال فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر وما هما ثم قال وحدثنا علي قال حدثنا سفيان عن مسعر عن سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم بمثله وقد أسنده البخاري في المزارعة عن علي بن المديني ومسلم عن محمد بن عباد كلاهما عن سفيان بن عيينة وأخرجاه من طريق شعبة كلاهما عن مسعر به وقال الترمذي حسن صحيح وأخرج مسلم الطريق الأول من حديث سفيان بن عيينة وسفيان الثوري كلاهما عن ابي الزناد
حديث آخر قال البخاري حدثنا عبد العزيز بن عبدالله حدثنا إبراهيم عن سعد عن أبيه عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إنه كان فيما مضى قبلكم من الامم محدثون وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب لم يخرجه مسلم من هذا الوجه وقد روى عن إبراهيم بن سعد عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها
حديث آخر قال البخاري حدثنا عبدالله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن حميد بن عبدالرحمن أنه سمع معاوية بن أبي سفيان عام حج على المنبر فتناول قصة من شعر كانت في يدي حرسي فقال يا أهل المدينة أين علماؤكم سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم ينهى عن مثل هذه ويقول إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذها نساؤهم وهكذا رواه مسلم وأبو داود من حديث مالك وكذا رواه معمر ويونس وسفيان بن عيينة عن الزهري بنحوه وقال الترمذي حديث صحيح وقال البخاري حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا عمرو بن مرة قال سمعت سعيد بن المسيب قال قدم معاوية بن أبي سفيان المدينة آخر قدمة قدمها فخطبنا فأخرج من كمه كبة شعر وقال ما كنت أرى أحدا يفعل هذا غير اليهود إن النبي صلى الله عليه و سلم سماه الزور يعني الوصال في الشعر تابعه غندر عن شعبة والعجب أن مسلما رواه من غير وجه عن غندر عن شعبة ومن حديث قتادة عن سعيد بن المسيب به
حديث آخر قال البخاري حدثنا سعيد بن تليد حدثنا ابن وهب قال أخبرني جرير بن حازم عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم بينما كلب يطيف بركيه كاد يقتله العطش إذ رأته بغى من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها فسقته فغفر لها به ورواه مسلم عن أبي الطاهر بن السرح عن ابن وهب به
حديث آخر قال البخاري حدثنا عبدالله بن أسماء حدثنا جويرية عن نافع عن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار فلا هي أطعمتها ولا سقتها إذ حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض وكذا رواه مسلم عن عبدالله بن محمد بن أسماء به (2/141)
حديث آخر قال الإمام أحمد حدثنا عثمان بن عمر حدثنا المستمر بن الريان حدثنا أبو نضرة عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال كان في بني إسرائيل امرأة قصيرة فصنعت رجلين من خشب فكانت تمشي بين امرأتين قصيرتين واتخذت خاتما من ذهب وحشت تحت فصه أطيب الطيب والمسك فكانت إذا مرت بالمجلس حركته فنفح ريحه رواه مسلم من حديث المستمر وخليد بن جعفر كلاهما عن أبي نضرة عن أبي سعيد مرفوعا قريبا منه وقال الترمذي حديث صحيح
حديث آخر قال البخاري حدثنا آدم حدثنا شعبة عن منصور سمعت ربعي بن حراش يحدث عن ابن مسعود قال قال النبي صلى الله عليه و سلم إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت تفرد به البخاري دون مسلم وقد رواه بعضهم عن ربعي بن حراش عن حذيفة مرفوعا وموقوفا أيضا والله أعلم
حديث آخر قال الإمام أحمد حدثنا هاشم بن القسم حدثنا عبد الحميد يعني بن بهرام حدثنا شهر بن حوشب قال قال أبو هريرة قال قال رسول الله بينما رجل وامرأة له في السلف الخالي لا يقدران على شيء فجاء الرجل من سفره فدخل على امرأته جائعا قد أصابته سغبة شديدة فقال لامرأته عندك شيء قالت نعم أبشر أتاك رزق الله فاستحثها فقال ويحك ابتغي إن كان عندك شيء قالت نعم هنيئة نرجو رحمة الله حتى إذا طال عليه المطال قال ويحك قومي فابتغي إن كان عندك شيء فأتيني به فإني قد بلغت الجهد وجهدت فقالت نعم الآن ينضج التنور فلا تعجل فلما أن سكت عنها ساعة وتحينت أيضا أن يقول لها قالت من عند نفسها لو قمت فنظرت إلى تنوري فقامت فوجدت تنورها ملآن من جنوب الغنم ورحاها تطحن فقامت إلى الرحى فنفضتها واستخرجت ما في تنورها من جنوب الغنم قال أبو هريرة فوالذي نفس أبي القاسم بيده عن قول محمد صلى الله عليه و سلم لو أخذت ما في رحيبها ولم تنفضها لطحنت إلى يوم القيامة وقال أحمد حدثنا أبو عامر حدثنا أبو بكر عن هشام عن محمد عن أبي هريرة قال دخل رجل على اهله فلما رأى ملبهم من الحاجة خرج إلى البرية فلما رأت امرأته ما لقي قامت إلى الرحى فوضعتها وإلى التنور فسجرته ثم قالت اللهم ارزقنا فنظرت فإذا الجفنة قد امتلأت قال وذهبت إلى التنور فوجدته ممتلئا قال فرجع الزوج قال أصبتم بعد شيئا قالت امرأته نعم من ربنا فرفعتها إلى الرحى ثم قامت فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم قال أما إنه لو لم ترفعها لم تزل تدور إلى يوم القيامة قال شهدت النبي صلى الله عليه و سلم وهو يقول والله لان يأتي أحدكم بحزمة حطب ثم يحمله فيبيعه فيستعفف منه خير له من أن يأتي رجلا فيسأله
قصة الملكين التائبين
قال الإمام أحمد حدثنا يزيد بن هارون حدثنا المسعودي عن سماك بن حرب عن عبدالرحمن بن عبدالله بن مسعود عن أبيه قال بينما رجل فيمن كان قبلكم كان في مملكته ففكر فعلم أن ذلك منقطع عنه (2/142)
وأن ما هو فيه قد شغله عن عبادة ربه فانساب ذات ليلة من قصره وأصبح في مملكة غيره وأتى ساحل البحر فكان به يضرب اللبن بالآجر فيأكل ويتصدق بالفضل ولم يزل كذلك حتى رقى أمره إلى ملكهم فأرسل إليه فأبى أن يأتيه فركب إليه الملك فلما رآه ولى هاربا فركض في أثره فلم يدركه فناداه يا عبدالله إنه ليس عليك مني بأس فقام حتى أدركه فقال له من أنت رحمك الله فقال أنا فلان بن فلان صاحب مملكة كذا وكذا ففكرت في أمري فعلمت أنما أنا فيه منقطع وأنه قد شغلني عن عبادة ربي عز و جل فتركته وجئت ههنا أعبد ربي فقال له ما أنت بأحوج لما صنعت مني قال فنزل عن دابته فسيبها وتبعه فكانا جميعا يعبدان الله عز و جل فدعوا الله أن يميتهما جميعا فماتا قال عبدالله فلو كنت برملية مصر لأريتكم قبورهما بالنعت الذي نعت لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم
حديث آخر قال البخاري حدثنا أبو الوليد حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن عقبة بن عبد الغافر عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم إن رجلا كان قبلكم رغسه الله مالا فقال لبنيه لما حضر أي أب كنت لكم قالوا خير أب قال فإني لم أعمل خيرا قط فإذا مت فاحرقوني ثم اسحقوني ثم اذروني في يوم عاصف ففعلوا فجمعه الله عز و جل فقال ما حملك فقال مخافتك فتلقاه برحمته ورواه في مواضع أخر ومسلم من طرق عن قتادة به ثم رواه البخاري ومسلم من حديث ربعي بن حراش عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه و سلم بنحوه ومن حديث الزهري عن حميد بن عبدالرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم بنحوه
حديث آخر قال البخاري حدثنا عبد العزيز بن عبدالله حدثنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال كان رجل يداين الناس فكان يقول لفتاه إذا أتيت معسرا فتجاوز عنه لعل الله أن يتجاوز عنا قال فلقي الله فتجاوز عنه وقد رواه في مواضع أخر ومسلم من طريق الزهري به
حديث آخر قال البخاري حدثنا عبد العزيز بن عبدالله حدثني مالك عن محمد بن المنكدر عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أنه سمعه يسأل أسامة بن زيد ماذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم في الطاعون قال أسامة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم الطاعون رجل أرسل على طائفة من بني إسرائيل وعلى من كان قبلكم فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارا منه قال أبو النضر لا يخرجكم إلا فرارا منه ورواه مسلم من حديث مالك ومن طرق أخر عن عامر بن سعد به حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا داود بن أبي الفرات حدثنا عبدالله بن بريدة عن يحيى بن يعمر عن عائشة قالت سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الطاعون أخبرني أنه عذاب يبعثه الله على من يشاء من عباده وأن الله جعله رحمة للمؤمنين ليس من أحد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا محتسبا يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد تفرد به البخاري عن مسلم من هذا الوجه (2/143)
حديث آخر قال البخاري حدثنا قتيبة حدثنا ليث عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت فقالوا من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا ومن يجتريء عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه و سلم فكلمه أسامة فقال أتشفع في حد من حدود الله ثم قام فخطب ثم قال إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها وأخرجه بقية الجماعة من طرق عن الليث بن سعد به
حديث آخر وقال البخاري حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا عبد الملك بن ميسرة سمعت النزال بن سبرة الهلالي عن ابن مسعود قال سمعت رجلا قرأ وسمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ خلافها فجئت به إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبرته فعرفت في وجهه الكراهية وقال كلاكما محسن ولا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا تفرد به البخاري دون مسلم
حديث آخر قال البخاري حدثنا عبد العزيز بن عبدالله حدثنا إبراهيم عن صالح عن ابن شهاب قال قال أبو سلمة بن عبدالرحمن إن أبا هريرة قال إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم تفرد به دون مسلم وفي سنن أبي داود صلوا في نعالكم خالفوا اليهود
حديث آخر قال البخاري حدثنا علي بن عبدالله حدثنا سفيان عن عمرو عن طاووس عن ابن عباس سمعت عمر يقول قاتل الله فلانا ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها رواه مسلم من حديث ابن عيينة ومن حديث عمرو بن دينار به ثم قال البخاري تابعه جابر وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم ولهذا الحديث طرق كثيرة وسيأتي في باب الحيل من كتاب الأحكام إن شاء الله وبه الثقة
حديث آخر قال البخاري حدثنا عمران بن ميسرة حدثنا عبد الوارث حدثنا خالد عن أبي قلابة عن أنس بن مالك قال ذكروا النار والناقوس فذكروا اليهود والنصارى فأمر بلال ان يشفع الأذان وأن يوتر الإقامة وأخرجه بقية الجماعة من حديث أبي قلابة عبدالله بن زيد الجرمي به والمقصود من هذا مخالفة أهل الكتاب في جميع شعارهم فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما قدم المدينة كان المسلمون يتحينون وقت الصلواة بغير دعوة إليها ثم أمر من ينادي فيهم وقت الصلاة الصلاة جامعة ثم أرادوا أن يدعوا إليها بشيء يعرفه الناس فقال قائلون نضرب بالناقوس وقال آخر نوري نارا فكرهوا ذلك لمشابهة أهل الكتاب فأرى عبدالله بن زيد بن عبد ربه الانصاري في منامه الأذان فقصها على رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمر بلالا فنادى كما هو مبسوط في موضعه من باب الأذان في كتاب الأحكام
حديث آخر قال البخاري حدثنا بشر بن محمد أنبأنا عبدالله أنبأنا معمر ويونس عن (2/144)
الزهري أخبرني عبيدالله بن عبدالله أن عائشة وابن عباس قالا لما نزل برسول الله صلى الله عليه و سلم طفق يطرح خميصة على وجهه فإذا أغتم كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا وهكذا رواه في غير موضع ومسلم من طرق عن الزهري به
حديث آخر قال البخاري حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا أبو غسان قال حدثني زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه فقلنا يا رسول الله اليهود والنصارى قال النبي صلى الله عليه و سلم فمن وهكذا رواه مسلم من حديث زيد بن أسلم به
والمقصود من هذه الأخبار عما يقع من الأقوال والأفعال المنهي عنها شرعا مما يشابه أهل الكتاب قبلنا أن الله ورسوله ينهيان عن مشابهتهم في أقوالهم وأفعالهم حتى لو كان قصد المؤمن خيرا لكنه تشبه ففعله في الظاهر فعلهم وكما نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها لئلا تشابه المشركين الذين يسجدون للشمس حينئذ وإن كان المؤمن لا يخطر بباله شيء من ذلك بالكلية وهكذا قوله تعالى يا أيها الذين أمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم فكان الكفار يقولون للنبي صلى الله عليه و سلم كلامهم معه راعنا أي انظر إلينا ببصرك واسمع كلامنا ويقصدون بقولهم راعنا من الرعونة فنهى المؤمنين أن يقولوا ذلك وإن كان لا يخطر ببال أحد منهم هذا أبدا فقد روى الإمام أحمد والترمذي من حديث عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم فليس للمسلم ان يتشبه بهم لا في أعيادهم ولا مواسمهم ولا في عباداتهم لأن الله تعالى شرف هذه الأمة بخاتم الأنبياء الذي شرع له الدين العظيم القويم الشامل الكامل الذي لو كان موسى بن عمران الذي أنزلت عليه التوراة وعيسى بن مريم الذي أنزل عليه الإنجيل حيين لم يكن لهما شرع متبع بل لو كانا موجودين بل وكل الأنبياء لما ساغ لواحد منهم ان يكون على غير هذه الشريعة المطهرة المشرفة المكرمة المعظمة فإذا كان الله تعالى قد من علينا بأن جعلنا من أتباع محمد صلى الله عليه و سلم فيكف يليق بنا أن نتشبه بقوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل قد بدلوا دينهم وحرفوه وأولوه حتى صار كأنه غير ما شرع لهم أولا ثم هو بعد ذلك كله منسوخ والتمسك بالمنسوخ حرام لا يقبل الله منه قليلا ولا كثيرا ولا فرق بينه وبين الذي لم يشرع بالكلية والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
حديث آخر قال البخاري حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إنما أجلكم في أجل من خلا من قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس (2/145)
وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالا فقال من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط فعملت اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط ثم قال من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط فعملت النصارى من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط ثم قال من يعمل لي من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين إلا فأنتم الذين تعملون من صلاة العصر إلى المغرب على قيراطين قيراطين إلا لكم الأجر مرتين فغضب اليهود والنصارى فقالوا نحن أكثر عملا وأقل عطاء قال الله تعالى هل ظلمتكم من حقكم شيئا فقالوا لا قال فإنه فضلي أوتيه من أشاء وهذا الحديث فيه دليل على أن مدة هذه الامة قصيرة بالنسبة إلى ما مضى من مدد الأمم قبلها لقوله إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم قبلكم كما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس فالماضي لا يعلمه إلا الله كما أن الآتي لا يعلمه إلا هو ولكنه قصير بالنسبة إلى ما سبق ولا اطلاع لاحد على تحديد ما بقي إلا الله عز و جل كما قال الله تعالى لا يجليها لوقتها إلا هو وقال يسألونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها وما تذكره بعض الناس من الحديث المشهور عند العامة من أنه عليه السلام لا يؤلف تحت الأرض فليس له أصل في كتب الحديث وورد فيه حديث أن الدنيا جمعة من جمع الآخرة وفي صحته نظر والمراد من هذا التشبيه بالعمال تفاوت أجورهم وأن ذلك ليس منوطا بكثرة العمل وقلته بل بأمور أخر معتبرة عند الله تعالى وكم من عمل قليل أجدى ما لا يجديه العمل الكثير هذه ليلة القدر العمل فيها أفضل من عبادة ألف شهر سواها وهؤلاء أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم أنفقوا في أوقات لو أنفق غيرهم من الذهب مثل أحد ما بلغ من أحدهم ولا نصيفه من تمر وهدا رسول الله صلى الله عليه و سلم بعثه الله على رأس أربعين سنة من عمره وقبضه وهو ابن ثلاث وستين على المشهور وقد برز في هذه المدة التي هي ثلاث وعشرون سنة في العلوم النافعة والأعمال الصالحة على سائر الانبياء قبله حتى على نوح الذي لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ويعمل بطاعة الله ليلا ونهارا صباحا ومساء صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء أجمعين فهذه الأمة إنما شرفت وتضاعف ثوابها ببركة سيادة نبيها وشرفه وعظمته كما قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم لئلا يعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم فصل
وأخبار بني إسرائيل كثيرة جدا في الكتاب والسنة النبوية ولو ذهبنا نتقصى ذلك لطال الكتاب ولكن ذكرنا ما ذكره الإمام أبو عبدالله البخاري في هذا الكتاب ففيه مقنع وكفاية وهو تذكرة وأنموذج (2/146)
لهذا الباب والله أعلم وأما الأخبار الإسرائيلية فيما يذكره كثير من المفسرين والمؤرخين فكثيرة جدا ومنها ما هو صحيح موافق لما وقع وكثير منها بل أكثرها مما يذكره القصاص مكذوب مفترى وضعه زنادقتهم وضلالهم وهي ثلاثة أقسام منها ما هو صحيح لموافقته ما قصه الله في كتابه أو أخبر به رسول الله صلى الله عليه و سلم ومنها ما هو معلوم البطلان لمخالفته كتاب الله وسنة رسوله ومنها ما يحتمل الصدق والكذب فهذا الذي أمرنا بالتوقف فيه فلا نصدقه ولا نكذبه كما ثبت في الصحيح إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وتجوز روايته مع هذا الحديث المتقدم وحدثوا عن بني اسرائيل ولا حرج
تحريف أهل الكتاب وتبديلهم أديانهم
أما اليهود فقد أنزل الله عليهم التوراة على يدي موسى بن عمران عليه السلام وكانت كما قال الله تعالى ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وقال تعالى قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وقال تعالى ولقد آتينا موسى وهرون الفرقان وضياء وذكرى للمتقين وقال تعالى وآتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصراط المستقيم وقال تعالى انا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشوني ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون فكانوا يحكمون بها وهم متمسكون بها برهة من الزمان ثم شرعوا في تحريفها وتبديلها وتغييرها وتأويلها وابداء ما ليس منها كما قال الله تعالى وان منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون فأخبر تعالى أنهم يفسرونها ويتأولونها ويضعونها على غير مواضعها وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء وهو أنهم يتصرفون في معانيها ويحملونها على غير المراد كما بدلوا حكم الرجم بالجلد والتحميم مع بقاء لفظ الرجم فيها وكما أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد مع أنهم مأمورون بإقامة الحد والقطع على الشريف والوضيع فأما تبديل ألفاظها فقال قائلون بأنها جميعها بدلت وقال آخرون لم تبدل واحتجوا بقوله تعالى وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله وقوله الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات الآية وبقوله قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين وبقصة الرجم فإنهم كما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر وفي صحيح مسلم عن البراء بن عازب وجابر بن عبدالله وفي السنن عن أبي هريرة (2/147)
وغيره لما تحاكوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في قصة اليهودي واليهودية الذين زنيا فقال لهم ما تجدون في التوراة في شأن الرجم فقالوا نفضحهم ويجلدون فأمرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بإحضار التوراة فلما جاؤوا بها وجعلوا يقرؤنها ويكتمون آية الرجم التي فيها ووضع عبدالله بن صور يأيده على آية الرجم وقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم ارفع يدك يا أعور فرفع يده فإذا فيها آية الرجم فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم برجمهما وقال اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه وعند أبي داود أنهم لما جاؤا بها نزع الوسادة من تحته فوضعها تحتها وقال آمنت بك وبمن أنزلك وذكر بعضهم أنه قام لها ولم أقف على إسناده والله أعلم وهذا كله يشكل على ما يقوله كثير من المتكلمين وغيرهم أن التوراة انقطع تواترها في زمن بخت نصر ولم يبق من يحفظها إلا العزيز ثم العزيز إن كان نبيا فهو معصوم والتواتر إلى المعصوم يكفي اللهم إلا أن يقال إنها لم تتواتر إليه لكن بعده زكريا ويحيى وعيسى وكلهم كانوا متمسكين بالتوراة فلو لم تكن صحيحة معمولا بها لما اعتمدوا عليها وهم أنبياء معصومون ثم قد قال الله تعالى فيما أنزل على رسوله محمد خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه وعلى جميع الأنبياء منكرا على اليهود في قصدهم الفاسد إذ عدلوا عما يعتقدون صحته عندهم وأنهم مأمورون به حتما إلى التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهم يعاندون ما جاء به لكن لما كان في زعمهم ما قد يوافقهم على ما ابتدعوه من الجلد والتحميم المصادم لما أمر الله به حتما وقالوا إن حكم لكم بالجلد والتحميم فاقبلوه وتكونون قد اعتذرتم بحكم نبي لكم عند الله يوم القيامة وإن لم يحكم لكم بهذا بل بالرجم فاحذروا إن تقبلوا منه فأنكر الله تعالى عليهم في هذا القصد الفاسد الذي إنما حملهم عليه الغرض الفاسد وموافقة الهوى لا الدين الحق فقال وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين إنا أنزلنا التوراة فيها هدي ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله الآية ولهذا حكم بالرجم قال اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه وسألهم ما حملهم على هذا ولم تركوا أمر الله الذي بأيديهم فقالوا إن الزنا قد كثر في أشرافنا ولم يمكنا أن نقيمه عليهم وكنا نرجم من زنى من ضعفائنا فقلنا تعالوا إلى أمر نصف نفعله مع الشريف والوضيع فاصطلحنا على الجلد والتحميم فهذا من جملة تحريفهم وتبديلهم وتغييرهم وتأويلهم الباطل وهذا انما فعلوه في المعاني مع بقاء لفظ الرجم في كتابهم كما دل عليه الحديث المتفق عليه فلهذا قال من قال هذا من الناس إنه لم يقع تبديلهم إلا في المعاني وإن الألفاظ باقية وهي حجة عليهم إذ لو أقاموا ما في كتابهم جميعه لقادهم ذلك إلى اتباع الحق ومتابعة الرسول محمد صلى الله عليه و سلم كما قال الله تعالى الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم الآية وقال تعالى ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن (2/148)
تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة الآية وقال تعالى قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم الآية وهذا المذهب وهو القول بأن التبديل إنما وقع في معانيها لا في ألفاظها حكاه البخاري عن ابن عباس في آخر كتابه الصحيح وقرر عليه ولم يرده وحكاه العلامة فخر الدين الرازي في تفسيره عن أكثر المتكلمين
ليس للجنب لمس التوراة
وذهب فقهاء الحنفية إلى أنه لا يجوز للجنب مس التوراة وهو محدث وحكاه الحناطي في فتاويه عن بعض أصحاب الشافعي وهو غريب جدا وذهب آخرون من العلماء إلى التوسط في هذين القولين منهم شيخنا الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية رحمه الله فقال أما من ذهب إلى أنها كلها مبدلة من أولها إلى آخرها ولم يبق منها حرف إلا بدلوه فهذا بعيد وكذا من قال لم يبدل شيء منها بالكلية بعيد أيضا والحق أنه دخلها تبديل وتغيير وتصرفوا في بعض ألفاظها بالزيادة والنقص كما تصرفوا في معانيها وهذا معلوم عند التأمل ولبسطه موضع آخر والله أعلم كما في قوله في قصة الذبيح اذبح ابنك وحيدك وفي نسخة بكرك اسحاق فلفظة اسحاق مقحمة مزيدة بلا مرية لأن الوحيد وهو البكر اسماعيل لأنه ولد قبل اسحاق بأربع عشر سنة فكيف يكون الوحيد البكر اسحاق وانما حملهم على ذلك حسد العرب أن يكون اسماعيل غير الذبيح فأرادوا أن يذهبوا بهذه الفضيلة لهم فزادوا ذلك في كتاب الله افتراء على الله وعلى رسوله صلى الله عليه و سلم وقد اغتر بهذه الزيادة خلق كثير من السلف والخلف ووافقوهم على أن الذبيح اسحاق والصحيح الذبيح اسماعيل كما قدمنا والله أعلم وهكذا في توراة السامرة في العشر الكلمات زيادة الأمر بالتوجه إلى الطور في الصلاة وليس ذلك في سائر نسخ اليهود والنصارى
وهكذا يوجد في الزبور المأثور عن داود عليه السلام مختلفا كثيرا وفيه أشياء مزيدة ملحقة فيه وليست منه والله أعلم قلت وأما ما بأيديهم من التوراة المعربة فلا يشك عاقل في تبديلها وتحريف كثير من ألفاظها وتغيير القصص والألفاظ والزيادات والنقص البين الواضح وفيها من الكذب البين والخطأ الفاحش شيء كثير جدا فأما ما يتلونه بلسانهم ويكتبونه بأقلامهم فلا اطلاع لنا عليه والمظنون بهم أنهم كذبة خونة يكثرون الفرية على الله ورسله وكتبه
وأما النصارى فأناجيلهم الأربعة من طريق مرقس ولوقا ومتى ويحنا أشد اختلافا وأكثر زيادة ونقصا وأفحش تفاوتا من التوراة وقد خالفوا أحكام التوراة والإنجيل في غير ما شيء قد شرعوه لأنفسهم فمن ذلك صلاتهم إلى الشرق وليست منصوصا عليها ولا مأمورا بها في شيء من الأناجيل الأربعة وهكذا تصويرهم كنائسهم وتركهم الختان ونقلهم صيامهم إلى زمن الربيع وزيادته إلى خمسين يوما وأكلهم (2/149)
الخنزير ووضعهم الأمانة الكبيرة وإنما هي الخيانة الحقيرة والرهبانية وهي ترك التزويج لمن أراد التعبد وتحريمه عليه وكتبهم القوانين التي وضعتها لهم الأساقفة الثلاثمائة والثمانية عشر فكل هذه الأشياء ابتدعوها ووضعوها في أيام قسطنطين بن قسطن باني القسطنطينية وكان زمنه بعد المسيح بثلاثمائة سنة وكان أبوه أحد ملوك الروم وتزوج أمه هيلانة في بعض أسفاره للصيد من بلاد حران وكانت نصرانية على دين الرهابين المتقدمين فلما ولد لها منه قسطنطين المذكور تعلم الفلسفة وبهر فيها وصار فيه ميل بعض الشيء إلى النصرانية التي أمه عليها فعظم القائمين بها بعض الشيء وهو على اعتقاد الفلاسفة فلما مات أبوه واستقل هو في المملكة سار في رعيته سيرة عادلة فأحبه الناس وساد فيهم وغلب على ملك الشام بأسره مع الجزيرة وعظم شأنه وكان أول القياصرة ثم اتفق اختلاف في زمانه بين النصارى ومنازعة بين بترك الاسكندرية اكصندروس وبين رجل من علمائهم يقال له عبدالله بن أريوس فذهب اكصندروس إلى أن عيسى بن الله تعالى الله عن قوله وذهب ابن أريوس إلى أن عيسى عبدالله ورسوله واتبعه على هذا طائفة من النصارى واتفق الأكثرون الأخسرون على قول بتركهم ومنع ابن أريوس من دخول الكنيسة وهو أصحابه فذهب يستعدي على اكصندروس وأصحابه إلى ملك قسطنطين فسأله الملك عن مقالته فعرض عليه عبدالله بن أريوس ما يقول في المسيح من أنه عبدالله ورسوله واحتج على ذلك فحال إليه وجنح إلى قوله فقال له قائلون فينبغي أن تبعث إلى خصمه فتسمع كلامه فأمر الملك بإحضاره وطلب من سائر الأقاليم كل أسقف وكل من عنده في دين النصرانية وجمع البتاركة الأربعة من القدس وانطاكية ورومية والأسكندرية فيقال إنهم اجتمعوا في مدة سنة وشهرين ما يزيد على ألفي أسقف فجمعهم في مجلس واحد وهو المجمع الأول من مجامعهم الثلاثة المشهورة وهم مختلفون اختلافا متباينا منتشرا جدا فمنهم الشرذمة على المقالة التي لا يوافقهم أحد من الباقين عليها فهولاء خمسون على مقالة وهؤلاء ثمانون على مقالة أخرى وهؤلاء عشرة على مقالة وأربعون على أخرى ومائة على مقالة ومائتان على مقالة وطائفة على مقالة ابن أريوس وجماعة على مقالة أخرى فلما تفاقم أمرهم وانتشر اختلافهم حار فيهم الملك قسطنطين مع أنه سيء الظن بما عدا دين الصابئين من أسلافه اليونانيين فعمد إلى أكثر جماعة منهم على مقالة من مقالاتهم فوجدهم ثلثمائة وثمانية عشر أسقفا قد اجتمعوا على مقالة اكصندروس ولم يجد طائفة بلغت عدتهم فقال هؤلاء أولى بنصر قولهم لأنهم أكثر الفرق فاجتمع بهم خصوصا ووضع سيفه وخاتمه إليهم وقال إني رأيتكم أكثر الفرق قد اجتمعتم على مقالتكم هذه فأنا أنصرها وأذهب إليها فسجدوا له وطلب منهم أن يضعوا له كتابا في الأحكام وأن تكون الصلاة إلى الشرق لأنها مطلع الكواكب النيرة وأن يصوروا في كنائسهم صورا لها جثث فصالحوه على أن تكون في الحيطان فلما توافقوا على ذلك أخذ في نصرهم وإظهار كلمتهم وإقامة مقالتهم وإبعاد من خالفهم وتضعيف رأيه وقوله فظهر أصحابه (2/150)
بجاهه على مخالفيهم وانتصروا عليهم وأمر ببناء الكنائس على دينهم وهم الملكية نسبة إلى دين الملك فبنى في أيام قسطنطين بالشام وغيرها في المدائن والقرى أزيد من اثنتيي عشر ألف كنيسة واعتنى الملك ببناء بيت لحم يعني على مكان مولد المسيح وبنت أمه هيلانة قمامة بيت المقدس على مكان المصلوب الذي زعمت اليهود والنصارى بجهلهم وقلة علمهم أنه المسيح عليه الصلاة و السلام ويقال إنه قتل من أعداء أولئك وخد لهم الأخاديد في الأرض وأجج فيها النار وأحرقهم بها كما ذكرناه في سورة البروج وعظم دين النصرانية وظهر أمره جدا بسبب الملك قسطنطين وقد أفسده عليهم فسادا لا اصلاح له ولا نجاح معه ولا فلاح عنده وكثرت أعيادهم بسبب عظمائهم وكثرت كنائسهم على أسماء عبادهم وتفاقم كفرهم وغلظت مصيبتهم وتخلد ضلالهم وعظم وبالهم ولم يهد الله قلوبهم ولا أصلح بالهم بل صرف قلوبهم عن الحق وأمال عن الاستقامة ثم اجتمعوا بعد ذلك مجمعين في قضية النسطورية واليعقوبية وكل فرقة من هؤلاء تكفر الأخرى وتعتقد تخليدهم في نار جهنم ولا يرى مجامعتهم في المعابد والكنائس وكلهم يقول بالأقانيم الثلاثة أقنوم الأب وأقنوم الابن وأقنوم الكلمة ولكن بينهم اختلاف في الحلول والاتحاد فيما بين اللاهوت والناسوت هل تدرعه أو حل فيه أو اتحد به واختلافهم في ذلك شديد وكفرهم بسببه غليظ وكلهم على الباطل إلا من قال من الأريوسية أصحاب عبدالله بن أريوس إن المسيح عبدالله ورسوله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه كما يقول المسلمون فيه سواء ولكن لما استقر أمر الأريوسية على هذه المقالة تسلط عليهم الفرق الثلاثة بالأبعاد والطرد حتى قلوا فلا يعرف اليوم منهم أحد فيما يعلم والله أعلم
كتاب الجامع الأخبار الأنبياء المتقدمين
قال الله تعالى تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس الآية وقال تعالى إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبرهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما وقد روى ابن حبان في صحيحه وابن مردويه في تفسيره وغيرهما من طريق ابراهيم بن هشام عن يحيى بن محمد الغساني الشامس وقد تكلموا فيه حدثني أبي عن جدي عن أبي إدريس عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله كم الأنبياء قال مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا قلت يا رسول الله كم الرسل منهم قال ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير قلت يا رسول الله من كان أولهم قال آدم قلت يا رسول الله (2/151)
نبي مرسل قال نعم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه ثم سواه قبلا ثم قال يا أبا ذر أربعة سريانيون آدم وشيث ونوح وخنوخ وهو ادريس وهو أول من خط بالقلم وأربعة من العرب هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر وأول نبي من بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى وأول النبيين آدم وآخرهم نبيك وقد أورد هذا الحديث أبو الفرج بن الجوزي في الموضوعات وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر فقال حدثنا محمد بن عوف حدثنا أبو المغيرة حدثنا معان بن رفاعة عن علي بن زيد عن القاسم عن أبي أمامة قال قلت يا رسول الله كم الأنبياء قال مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا الرسل من ذلك ثلثمائة وخمسة عشر جما غفيرا وهذا أيضا من هذا الوجه ضعيف فيه ثلاثة من الضعفاء معان وشيخه وشيخ شيخه وقد قال الحافظ أبو يعلى الموصلي حدثنا أحمد بن اسحاق أبو عبدالله الجوهري البصري حدثنا مكي بن ابراهيم حدثنا موسى بن عبيدة اليزيدي عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث الله ثمانية آلاف نبي أربعة آلاف إلى بني إسرائيل وأربعة آلاف إلى سائر الناس موسى وشيخه ضعيفان أيضا وقال أبو يعلى أيضا حدثنا أبو الربيع حدثنا محمد بن ثابت العبدي حدثنا معبد بن خالد الأنصاري عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كان فيمن خلا من إخواني من الأنبياء ثمانية آلاف نبي ثم كان عيسى ثم كنت أنا يزيد الرقاشي ضعيف وقد رواه الحافظ أبو بكر الاسماعيلي عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة حدثنا أحمد بن طارق حدثنا مسلم بن خالد حدثنا زياد بن سعد عن محمد بن المنكدر عن صفوان بن سليم عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم بعثت على أثر ثمانية آلاف نبي منهم أربعة آلاف من بني اسرائيل وهذا اسناد لا بأس به لكني لا أعرف حال أحمد بن طارق هذا والله أعلم
حديث آخر قال عبدالله بن الإمام أحمد وجدت في كتاب أبي بخطه حدثني عبدالمتعالي ابن عبدالوهاب حدثنا يحيى بن سعيد الأموي حدثنا مجالد عن أبي الوداك قال قال أبو سعيد هل تقر الخوارج بالدجال قال قلت لا فقال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إني خاتم ألف نبي أو أكثر وما بعث الله نبيا يتبع إلا وحذر أمته منه وانى قد بين لي فيه ما لم يبين لأحد منهم وأنه أعور وأن ربكم ليس بأعور وعينه اليمنى عوراء جاحظة لا تخفى كأنها نخامة في حائط مجصص وعينه اليسرى كأنها كوكب دري معه من كل لسان ومعه صورة الجنة خضراء يجري فيها الماء وصورة النار سوداء تدخن وهذا حديث غريب وقد روى عن جابر بن عبدالله فقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا عمرو بن علي حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا مجالد عن الشعبي عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إني لخاتم ألف نبي أو أكثر وإنه ليس منهم بني إلا وقد أنذر قومه الدجال وأنه قد تبين لي فيه ما لم يتبين لأحد منهم وانه أعور وإن ربكم ليس بأعور وهذا اسناد حسن وهو محمول على ذكر عدد من أنذر قومه الدحال من الأنبياء لكن في الحديث (2/152)
الآخر ما من نبي إلا وقد أنذر أمته الدجال فالله أعلم
وقال البخاري حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن فرات قال سمعت أبا حازم قال قاعدت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه و سلم قال كانت بنو اسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وانه لا نبي بعدي وسيكون خلفاء فيكثرون قالوا فما تأمرنا يا رسول الله قال فوا ببيعة الأول فالأول أعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم وكذا رواه مسلم عن بندار ومن وجه آخر عن فرات به نحوه
وقال البخاري حدثنا عمرو بن حفص حدثنا أبي حدثني الأعمش حدثني شقيق قال قال عبدالله هو ابن مسعود كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون رواه مسلم من حديث الأعمش به نحوه وقال الإمام أحمد حدثنا عبدالرزاق أنبأنا معمر عن زيد بن أسلم عن رجل عن أبي سعيد الخدري قال وضع رجل يده اليمنى على النبي صلى الله عليه و سلم فقال والله ما أطيق أن أضع يدي عليك من شدة حماك فقال النبي صلى الله عليه و سلم إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء كما يضاعف لنا الأجر ان كان النبي من الأنبياء ليبتلى بالقمل حتى يقتله وان كان النبي من الأنبياء ليبتلى بالفقر حتى يأخذ العباء فيجوبها وإن كانوا ليفرحون بالبلاء كما يفرحون بالرخاء هكذا رواه الإمام أحمد من طريق زيد بن أسلم عن رجل عن أبي سعيد وقد رواه ابن ماجه عن دحيم عن ابن أبي فديك عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد فذكره وقال الإمام أحمد حدثنا وكيع حدثنا سفيان بن عاصم بن أبي النجود عن مصعب بن سعد عن أبيه قال قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء قال الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل من الناس يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه وإن كان في دينه رقة خفف عليه ولا يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث عاصم بن أبي النجود وقال الترمذي حسن صحيح وتقدم في الحديث نحن معشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد وأمهاتنا شتى والمعنى أن شرائعهم وان اختلفت في الفروع ونسخ بعضها بعضا حتى انتهى الجميع إلى ما شرع الله لمحمد صلى الله عليه و سلم وعليهم أجمعين إلا أن كل نبي بعثه الله فإنما دينه الإسلام وهو التوحيد أن يعبد الله وحده لا شريك له كما قال الله تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا يوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وقال تعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون وقال تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة الآية فأولاد العلات أن يكون الأب واحدا والأمهات متفرقات فالأب بمنزلة الدين وهو التوحيد والأمهات بمنزلة الشرائع في اختلاف أحكامها كما قال تعالى لكل (2/153)
جعلنا منكم شرعة ومنهاجا وقال لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه وقال ولكل وجهة هو موليها على أحد القولين في تفسيرها
والمقصود أن الشرائع وان تنوعت في أوقاتها إلا أن الجميع آمرة بعبادة الله وحده لا شريك له وهو دين الإسلام الذي شرعه الله لجميع الأنبياء وهو الدين الذي لا يقبل الله غيره يوم القيامة كما قال تعالى ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين وقال تعالى ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون وقال تعالى إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا الآية فدين الإسلام هو عبادة الله وحده لا شريك له وهو الاخلاص له وحده دون ما سواه والاحسان أن يكون على الوجه المشروع في ذلك الوقت المأمور به ولهذا لا يقبل الله من أحد عملا بعد أن بعث محمدا صلى الله عليه و سلم على ما شرعه له كما قال تعالى قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا وقال تعالى وأوحى إلى هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ وقال تعالى ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم بعثت إلى الأحمر والأسود قيل أراد العرب والعجم وقيل الإنس والجن وقال صلى الله عليه و سلم والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم والأحاديث في هذا كثيرة جدا والمقصود أن اخوة العلات أن يكونوا من أب واحد وأمهاتهم شتى مأخوذ من شرب العلل بعد النهل وأما اخوة الأخياف فعكس هذا أن تكون أمهم واحدة من آباء شتى وأخوة الأعيان فهم الأشقاء من أب واحد وأم واحدة والله سبحانه وتعالى أعلم وفي الحديث الآخر نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا فهو صدقة وهذا من خصائص الأنبياء أنهم لا يورثون وما ذاك إلا لأن الدنيا أحقر عندهم من أن تكون مخلفة عنهم ولأن توكلهم على الله عز و جل في ذراريهم أعظم وأشد وآكد من أن يحتاجوا معه إلى أن يتركوا لورثتهم من بعدهم مالا يستأثرون به عن الناس بل يكون جميع ما تركوه صدقة لفقراء الناس ومحاويجهم وذو خلتهم وسنذكر جميع ما يختص بالأنبياء عليهم السلام مع خصائص نبينا صلى الله عليه و سلم وعليهم أجمعين في أول كتاب النكاح من كتاب الأحكام الكبير حيث ذكره الأئمة من المصنفين اقتداء بالإمام أبي عبدالله الشافعي رحمة الله عليه وعليهم أجمعين وقال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن زيد بن وهب عن عبدالرحمن أن عبد رب الكعبة قال انتهيت إلى عبدالله بن عمرو وهو جالس في ظل الكعبة فسمعته يقول بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفر إذ نزل منزلا فمنا من يضرب خباءه ومنا من هو في جشره ومنا من ينتضل إذ نادى مناديه الصلاة جامعة قال فاجتمعنا قال فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فخطبنا فقال إنه لم يكن نبي قبلي إلا دل (2/154)
أمته على خير ما يعلمه لهم وحذرهم ما يعلمه شرا لهم وإن أمتكم هذه جعلت عافيتها في أولها وان آخرها سيصيبها بلاء شديد وأمور ينكرونها تجيء فتن يريق بعضها بعضا تجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه مهلكتي ثم تنكشف ثم تجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه ثم تنكشف فمن سره منكم أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتدركه موتته وهو مؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر قال فأدخلت رأسي من بين الناس فقلت أنشدك بالله أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه و سلم قال فأشار بيده إلى أذنيه وقال سمعته أذناي ووعاه قلبي قال فقلت هذا ابن عمك يعني معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل وأن نقتل أنفسنا وقد قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل قال فجمع يديه فوضعهما على جبهته ثم نكس هنيهة ثم رفع رأسه فقال أطعه في طاعة الله واعصه في معصية الله ورواه أحمد أيضا عن وكيع عن الأعمش به وقال فيه أيها الناس إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على ما يعلمه خيرا لهم وينذره ما يعلمه شرا لهم وذكر تمامه بنحوه وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه من طرق عن الأعمش به ورواه مسلم أيضا من حديث الشعبي عن عبدالرحمن بن عبد رب الكعبة عن عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم بنحوه ( 1 )
آخر الجزء الثامن من خط المصنف رحمه الله تعالى يتلوه إن شاء الله تعالى كتاب أخبار العرب وكان الفراغ من تتمة هذا المجلد في سابع عشر شوال سنة سهر ربعره من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام بدمشق المحروسة على يد أفقر عباد الله وأحوجهم إلى رحمته وعفوه وغفرانه ولطفه وكرمه اسماعيل الدرعي الشافعي الأنصاري غفر الله تعالى له وختم له بخير ولأحبابه ولاخوانه ولمشايخه ولجميع المسلمين والصلاة والسلام على محمد خير خلقه وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين (2/155)
ذكر أخبار العرب
قيل إن جميع العرب ينتسبون إلى اسماعيل بن ابراهيم عليهما لسلام والتحية والاكرام والصحيح المشهور أن العرب العاربة قبل اسماعيل وقد قدمنا أن العرب العاربة منهم عاد وثمود وطسم وجديس وأميم وجرهم والعماليق وأمم آخرون لا يعلمهم إلا الله كانوا قبل الخليل عليه الصلاة و السلام وفي زمانه أيضا فأما العرب المستعربة وهم عرب الحجاز فمن ذرية اسماعيل بن ابراهيم عليهما السلام وأما عرب اليمن وهم حمير فالمشهور أنهم من قحطان واسمه مهزم قاله ابن ماكولا وذكروا أنهم كانوا أربعة اخوة قحطان وقاحط ومقحط وفالغ وقحطان بن هود وقيل هو هود وقيل هود أخوه وقيل من ذريته وقيل أن قحطان من سلالة اسماعيل حكاه ابن اسحاق وغيره فقال بعضهم هو قحطان بن تيمن بن قيذر بن اسماعيل وقيل غير ذلك في نسبه إلى اسماعيل والله أعلم
وقد ترجم البخاري في صحيحه على ذلك فقال باب نسبة اليمن الى اسماعيل عليه السلام حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن يزيد بن أبي عبيد حدثنا سلمة رضي الله عنه قال خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم على قوم من أسلم يتناضلون بالسيوف فقال ارموا بني اسماعيل وأنا مع بني فلان لأحد الفريقين فأمسكوا بأيدهم فقال ما لكم قالوا وكيف نرمي وأنت مع بني فلان فقال ارموا وأنا معكم كلكم انفرد به البخاري وفي بعض الفاظه ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا ارموا وأنا مع ابن الأدرع فأمسك القوم فقال ارموا وأنا معكم كلكم قال البخاري وأسلم بن أفصي بن حارثة بن عمرو بن عامر من خزاعة يعني وخزاعة فرقة ممن كان تمزق من قبائل سبأ حين أرسل الله عليهم سيل العرم كما سيأتي بيانه وكانت الأوس والخزرج منهم وقد قال لهم عليه الصلاة و السلام ارموا بني اسماعيل فدل على أنهم من سلالته وتأوله آخرون على أن المراد بذلك جنس العرب لكنه تأويل بعيد إذ هو خلاف الظاهر بلا دليل لكن الجمهور على أن العرب القحطانية من عرب اليمن وغيرهم ليسوا من سلالة إسماعيل وعندهم أن جميع العرب ينقسمون إلى قسمين قحطانية وعدنانية فالقحطانية شعبان سبأ وحضرموت والعدنانية شعبان أيضا ربيعة ومضر ابنا نزار بن معد بن عدنان والشعب الخامس وهم قضاعة مختلف فيهم فقيل إنهم عدنانيون قال ابن عبدالبر وعليه الأكثرون ويروى هذا عن ابن عباس وابن عمر وجبير بن مطعم وهو اختيار الزبير بن بكار وعمه مصعب الزبيري وابن هشام وقد ورد في حديث قضاعة بن معدر ولكنه لا يصح قاله ابن عبدالبر وغيره ويقال إنهم لن يزالوا في جاهليتهم وصدر من الإسلام ينتسبون إلى عدنان فلما كان في زمن خالد بن يزيد بن معاوية وكانوا أخواله انتسبوا إلى قحطان فقال في ذلك أعشى بن ثعلبة في قصيدلة له (2/156)
أبلغ قضاعة في القرطاس إنهم ... لولا خلائف آل الله ما عتقوا ... قالت قضاعة إنا من ذوي يمن ... والله يعلم ما بروا وما صدقوا ... قد ادعوا والدا ما نال أمهم ... قد يعلمون ولكن ذلك الفرق ...
وقد ذكر أبو عمرو السهيلي أيضا من شعر العرب ما فيه إبداع في تفسير قضاعة في انتسابهم إلى اليمن والله أعلم والقول الثاني أنهم من قحطان وهو قول ابن اسحاق والكلبي وطائفة من أهل النسب قال ابن اسحاق وهو قضاعة بن مالك بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان وقد قال بعض شعرائهم وهو عمرو بن مرة صحابي له حديثان ... يا أيها الداعي ادعنا وأبشر ... وكن قضاعيا ولا تنزر ... نحن بنو الشيخ الهجان الأزهر ... قضاعة بن مالك بن حمير ... النسب المعروف غير المنكر ... في الحجر المنقوش تحت المنبر ...
قال بعض أهل النسب هو قضاعة بن مالك بن عمر بن مرة بن زيد بن حمير وقال ابن لهيعة عن معروف بن سويد عن أبي عشابة ( 1 ) محمد بن موسى عن عقبة بن عامر قال قلت يا رسول الله أما نحن من معد قال لا قلت فممن نحن قال أنتم قضاعة بن مالك بن حمير قال أبو عمر بن عبدالبر ولا يختلفون أن جهينة بن زيد بن أسود بن أسلم بن عمران بن إلحاف بن قضاعة قبيلة عقبة بن عامر الجهني فعلى هذا قضاعة في اليمن في حمير بن سبأ وقد جمع بعضهم بين هذين القولين بما ذكره الزبير بن بكار وغيره من أن قضاعة امرأة من جرهم تزوجها مالك بن حمير فولدت له قضاعة ثم خلف عليها معد بن عدنان وابنها صغير وزعم بعضهم أنه كان حملا فنسب إلى زوج أمه كما كانت عادة كثير منهم ينسبون الرجل إلى زوج أمه والله أعلم
وقال محمد بن سلام البصري النسابة العرب ثلاثة جراثم العدنانية والقحطانية وقضاعة قيل له فأيهما أكثر العدنانية أو القحطانية فقال ما شائت قضاعة أن تيامنت فالقحطانية أكثر وان تعددت فالعدنانية أكثر وهذا يدل على أنهم يتلومون في نسبهم فإن صح حديث ابن لهيعة المقدم فهو دليل على أنهم من القحطانية والله أعلم وقد قال الله تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم قال علماء النسب يقال شعوب ثم قبائل ثم عمائر ثم بطون ثم أفخاذ ثم فصائل ثم عشائر والعشيرة أقرب الناس إلى الرجل وليس بعدها شيء ولنبدأ أولا بذكر (2/157)
القحطانية ثم نذكر بعدهم عرب الحجاز وهم العدنانية وما كان من أمر الجاهلية ليكون ذلك متصلا بسيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم إن شاء الله تعالى وبه الثقة
وقد قال البخاري باب ذكر قحطان حدثنا عبدالعزيز بن عبدالله حدثنا سليمان بن بلال عن ثور بن زيد عن أبي المغيث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه وكذا رواه مسلم عن قتيبة عن الدراوردي عن ثور بن زيد به قال السهيلي وقحطان أول من قيل له أبيت اللعن وأول من قيل له أنعم صباحا وقال الإمام أحمد حدثنا أبو المغيرة عن جرير حدثني راشد بن سعد المقراي عن أبي حي عن ذي فجر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال كان هذا الأمر في حمير فنزعه الله منهم فجعله في قريش قال قال عبدالملك كان هذا في كتاب أبي وحيث حدثنا به تكلم به على الاستواء يعني وسيعود اليهم
قصة سبأ
قال الله تعالى لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور
قال علماء النسب منهم محمد بن اسحاق اسم سبأ عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان قالوا وكان أول من سبى من العرب فسمى سبأ لذلك وكان يقال له الرائش لأنه كان يعطي الناس الأموال من متاعه قال السهيلي ويقال إنه أول من تتوج وذكر بعضهم أنه كان مسلما وكان له شعر بشر فيه بوجود رسول الله صلى الله عليه و سلم فمن ذلك قوله ... سيملك بعدنا ملكا عظيما ... نبي لا يرخص في الحرام ... ويملك بعده منهم ملوك ... يدينون العباد بغير ذام ... ويملك بعدهم منا ما ملوك ... يصير الملك فينا باقتسام ... ويملك بعد قحطان نبي ... تقي جبينه خير الأنام ... يسمى أحمدا يا ليت أني ... أعمر بعد مبعثه بعام ... فأعضده وأحبوه بنصري ... بكل مدجج وبكل رام ... متى يظهر فكونوا ناصريه ... ومن يلقاه يبلغه سلامي (2/158)
حكاه ابن دحية في كتابه التنوير في مولد البشير النذير
وقال الإمام أحمد حدثنا أبو عبدالرحمن حدثنا ابن لهيعة عن عبدالله بن دعلة سمعت عبدالله بن العباس يقول إن رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن سبأ ما هو أرجل أم امرأة أم أرض قال بل هو رجل ولد عشرة فسكن اليمن منهم ستة وبالشام منهم أربعة فأما اليمانيون فمذحج وكندة والأزد والأشعريون وأنمار وحمير وأما الشامية فلخم وجذا وعاملة وغسان وقد ذكرنا في التفسير أن فروة بن مسيك الغطيفي هو السائل عن ذلك كما استقصينا طرق هذا الحديث وألفاظه هناك ولله الحمد
والمقصود أن سبأ يجمع هذه القبائل كلها وقد كان فيهم التبابعة بأرض اليمن واحدهم تبع وكان لملوكهم تيجان يلبسونها وقت الحكم كما كانت الأكاسرة ملوك الفرس يفعلون ذلك وكانت العرب تسمي كل من ملك اليمن مع الشحر وحضرموت تبعا كما يسمون من ملك الشام مع الجزيرة قيصر ومن ملك الفرس كسرى ومن ملك مصر فرعون ومن ملك الحبشة النجاشي ومن ملك الهند بطليموس وقد كان من جملة ملوك حمير بأرض اليمن بلقيس وقد قدمنا قصتها مع سليمان عليه السلام وقد كانوا في غبطة عظيمة وأرزاق دارة وثمار وزروع كثيرة وكانوا مع ذلك على الاستقامة والسداد وطريق الرشاد فلما بدلوا نعمة الله كفرا أحلوا قومهم دار البوار
قال محمد بن اسحاق عن وهب بن منبه أرسل الله إليهم ثلاثة عشر نبيا وزعم السدي أنه أرسل إليهم اثني عشر ألف نبي فالله أعلم والمقصود أنهم لما عدلوا عن الهدى إلى الضلال وسجدوا للشمس من دون الله وكان ذلك في زمان بلقيس وقبلها أيضا واستمر ذلك فيهم حتى أرسل الله عليهم سيل العرم كما قال تعالى فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور
ذكر غير واحد من علماء السلف والخلف من المفسرين وغيرهم أن سد مأرب كان صنعته أن المياه تجري من بين جبلين فعمدوا في قديم الزمان فسدوا ما بينهما ببناء محكم جدا حتى ارتفع الماء فحكم على أعالي الجبلين وغرسوا فيهما البساتين والأشجار المثمرة الأنيقة وزرعوا الزروع الكثيرة ويقال كان أول من بناه سبأ بن يعرب وسلط إليه سبعين واديا يفد إليه وجعل له ثلاثين فرضة يخرج منها الماء ومات ولم يكمل بناؤه فكملته حمير بعده وكان اتساعه فرسخا في فرسخ وكانوا في غبطة عظيمة وعيش رغيد وأيام طيبة حتى ذكر قتادة وغيره أن المرأة كانت تمر بالمكتل على رأسها فتمتلي من الثمار ما يتساقط فيه من نضجه وكثرته وذكروا أنه لم يكن في بلادهم شيء من البراغيث ولا الدواب الموذية لصحة هوائهم وطيب فنائهم كما قال تعالى لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور وكما قال تعالى وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد (2/159)
فلما عبدوا غير الله وبطروا نعمته وسألوا بعد تقارب ما بين قراهم وطيب ما بينها من البساتين وامن الطرقات سألوا أن يباعد بين أسفارهم وأن يكون سفرهم في مشاق وتعب وطلبوا أن يبدلوا بالخير شرا كما سأل بنو اسرائيل بدل المن والسلوى البقول والقثاء والفوم والعدس والبصل فسلبوا تلك النعمة العظيمة والحسنة العميمة بتخريب البلاد والشتات على وجوه العباد كما قال تعالى فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم قال غير واحد أرسل الله على أصل السد الفار وهو الجرذ ويقال الخلد فلما فطنوا لذلك أرصدوا عندها السنانير فلم تغن شيئا إذ قد حم القدر ولم ينفع الحذر كلا لا وزر فلما تحكم في أصله الفساد سقط وانهار فسلك الماء القرار فقطعت تلك الجداول والأنهار وانقطعت تلك الثمار ومادت تلك الزروع والأشجار وتبدلوا بعدها بردىء الأشجار والأثمار كما قال العزيز الجبار وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد هو الأراك وثمره البرير وأثل وهو الطرفاء وقيل يشبهه وهو حطب لأثمر له وشيء من سدر قليل وذلك لأنه لما كان يثمر النبق كان قليلا مع أنه ذو شوك كثير وثمره بالنسبة إليه كما يقال في المثل لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقى ولهذا قال تعالى ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور أي إنما نعاقب هذه العقوبة الشديدة من كفر بنا وكذب رسلنا وخالف أمرنا وانتهك محارمنا وقال تعالى فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق وذلك أنهم لما هلكت أموالهم وخربت بلادهم احتاجوا أن يرتجلوا منها وينتقلوا عنها فتفرقوا في غور البلاد ونجدها أيدي سبأ شذر مذر فنزلت طوائف منهم الحجاز ومنهم خزاعة نزلوا ظاهر مكة وكان من أمرهم ما سنذكره ومنهم المدينة المنورة اليوم فكانوا أول من سكنها ثم نزلت عندهم ثلاث قبائل من اليهود بنو قينقاع وبنو قريظة وبنو النضير فخالفوا الأوس والخزرج وأقاموا عندهم وكان من أمرهم ما سنذكره ونزلت طائفة أخرى منهم الشام وهم الذين تنصروا فيما بعد وهم غسان وعاملة وبهراء ولخم وجذام وتنوخ وتغلب وغيرهم وسنذكرهم عند ذكر فتوح الشام في زمن الشيخين رضي الله عنهما
قال محمد بن اسحاق حدثني أبو عبيدة قال قال الأعشى بن قيس بن ثعلبة وهو ميمون بن قيس ... وفي ذاك للمؤتسى أسوة ... ومأرم عفي عليها العرم ... رخام بنته لهم حمير ... إذا جاء مواره لم يرم ... فأروى الزرع وأعنانها ... على سعة ماءهم إذ قسم ... فصاروا أيادي لا يقدرون ... على شرب طفل إذا ما فطم ...
وقد ذكر محمد بن اسحاق في كتاب السيرة أن أول من خرج من اليمن قبل سيل العرم عمرو بن عامر اللخمي ولخم هو ابن عدي بن الحارث بن مرة بن ازد بن زيد بن مهع بن عمرو بن عريب بن يشجب (2/160)
ابن زيد بن كهلان بن سبأ ويقال لخم بن عدي بن عمرو بن سبأ قاله ابن هشام قال ابن اسحاق وكان سبب خروجه من اليمن فيما حدثني أبو زيد الأنصاري أنه رأى جرذا يحفر في سد مأرب الذي كان يحبس عليهم الماء فيصرفونه حيث شاؤوا من أرضهم فعلم أنه لا بقاء للسد على ذلك فاعتزم على النقلة عن اليمن فكاد قومه فأمر اصغر ولده إذا أغلظ عليه ولطمه أن يقوم إليه فيلطمه ففعل ابنه ما أمره به فقال عمرو لا أقيم ببلد لطم وجهي فيه أصغر ولدي وعرض أمواله فقال أشراف من أشراف اليمن اغتنموا غضبة عمرو فاشتروا منه أمواله وانتقل في ولده وولد ولده وقالت الأزد لا نتخلف عن عمرو بن عامر فباعوا أموالهم وخرجوا معه فساروا حتى نزلوا بلاد عك مجتازين يرتادون البلدان فحاربتهم عك فكانت حربهم سجالا ففي ذلك قال عباس بن مرداس ... وعك بن عدنان الذين تلعبوا ... بغسان حتى طردوا كل مطرد ...
قال فارتحلوا عنهم فتفرقوا في البلاد فنزل آل جفنة بن عمرو بن عامر الشام ونزل الأوس والخزرج يثرب ونزلت خزاعة مرا ونزلت أزد السراة السراة ونزلت أزد عمان عمان ثم أرسل الله تعالى على السد السيل فهدمه وفي ذلك أنزل الله هذه الآيات وقد روى عن السدي قريب من هذا وعن محمد بن اسحاق في روايته أن عمرو بن عامر كان كاهنا وقال غيره كانت امرأته طريفة بنت الخير الحميرية كاهنة فأخبرت بقرب هلاك بلادهم وكأنهم رأوا شاهد ذلك في الفأر الذي سلط على سدهم ففعلوا ما فعلوا والله أعلم وقد ذكرت قصته مطولة عن عكرمة فيما رواه ابن أبي حاتم في التفسير
فصل
وليس جميع سبأ خرجوا من اليمن لما أصيبوا بسيل العرم بل أقام أكثرهم بها وذهب أهل مأرب الذين كان لهم السد فتفرقوا في البلاد وهو مقتضى الحديث المتقدم عن ابن عباس أن جميع قبائل سبأ لم يخرجوا من اليمن بل انما تشاءم منهم أربعة وبقي باليمن ستة وهم مذحج وكندة وأنمار والأشعريون وأنمار هو أبو خثعم وبجيلة وحمير فهؤلاء ست قبائل من سبأ أقاموا باليمن واستمر فيهم الملك والتبايعة حتى سلبهم ذلك ملك الحبشة بالجيش الذي بعثه صحبه أميريه أبرهة وارياط نحوا من سبعين سنة ثم استرجعه سيف ابن ذي يزن الحميري وكان ذلك قبل مولد رسول الله صلى الله عليه و سلم بقليل كما سنذكره مفصلا قريبا إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان ثم أرسل رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أهل اليمن عليا وخالد بن الوليد ثم أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل وكانوا يدعون إلى الله تعالى ويبينون لهم الحجج ثم تغلب على اليمن الأسود العنسي واخرج نواب رسول الله صلى الله عليه و سلم منها فلما قتل الأسود استقرت اليد الإسلامية عليها في أيام أبي بكر الصديق رضي الله عنه كما سنبين ذلك بعد البعثة إن شاء الله تعالى (2/161)
قصة ربيعة بن نصر بن أبي حارثة بن عمرو بن عامر
المتقدم ذكره اللخمي كذا ذكره ابن إسحاق وقال السهيلي ونساب اليمن تقول نصر بن ربيعة ابن نصر بن الحارث بن نمارة بن لخم وقال الزبير بن بكار ربيعة بن نصر بن مالك بن شعوذ بن مالك بن عجم بن عمرو بن نمارة بن لخم ولخم أخو جذام وسمي لخما لأنه لخم أخاه أي لطمه أي لطمه فعضه الآخر في يده فجذمها فسمي جذاما وكان ربيعة أحد ملوك حمير التبابعة وخبره مع شق وسطيح الكاهنين وإنذارهما بوجود رسول الله صلى الله عليه و سلم أما سطيح فاسمه ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدي بن مازن غسان وأما شق فهو ابن صعب بن يشكر بن رهم بن أفرك بن قيس بن عبقر بن أنمار بن نزار ومنهم من يقول أنمار بن أراش بن لحيان بن عمرو بن الغوث بن نابت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ ويقال إن سطيحا كان لا أعضاء له وإنما كان مثل السطيحة ووجهه في صدره وكان إذا غضب انتفخ وجلس وكان شق نصف إنسان ويقال إن خالد بن عبدالله بن القسري كان سلالته وذكر السهيلي أنهما ولدا في يوم واحد وكان ذلك يوم ماتت طريفة بنت الخير الحميرية ويقال إنها تفلت في فم كل منهما فورث الكهانة عنها وهي امرأة عمرو بن عامر المتقدم ذكره والله أعلم قال محمد بن إسحاق وكان ربيعة بن نصر ملك اليمن بين أضعاف ملوك التبابعة فرأى رؤيا هائلة هالته وفظع بها فلم يدع كاهنا ولا ساحرا ولا عائفا ولا منجما من أهل مملكته إلا جمعه إليه فقال لهم إني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها فأخبروني بها وبتأويلها فقالوا اقصصها علينا نخبرك بتأويلها فقال إني أن اخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم بتأويلها لأنه لا يعرف تأويلها إلا من عرفها قبل أن أخبره بها فقال له رجل منهم فإن كان الملك يريد هذا فليبعث إلى شق وسطيح فإنه ليس أحد أعلم منهما فهما يخبرانه بما سأل عنه فبعث إليهما فقدم إليه سطيح قبل شق فقال له إني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها فاخبرني بها فإنك إن أحبتها أصبت تأويلها فقال أفعل رأيت حممة خرجت من ظلمة فوقعت بأرض تهمة فأكلت منها كل ذات جمجمة فقال له الملك ما أخطأت منها شيئا يا سطيح فما عندك في تأويلها قال أحلف بما بين الحرتين من حنش لتهبطن أرضكم الحبش فليملكن ما بين أبين إلى جرش فقال له الملك يا سطيح إن هذا لنا لغائط موجع فمتى هو كائن أفي زماني أم بعده فقال لا وأبيك بل بعده بحين أكثر من ستين أو سبعين يمضين من السنين قال أفيدوم ذلك من سلطانهم أم ينقطع قال بل ينقطع لبضع وسبعين من السنين ثم يقتلون ويخرجون منها هاربين قال ومن بلى ذلك من قتلهم وإخراجهم قال يليهم أرم ذي يزن يخرج عليهم من عدن فلا يترك منهم أحدا باليمن قال أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع قال بل ينقطع قال ومن يقطعه قال نبي زكي يأتيه الوحي من قبل العلي قال وممن هذا النبي قال رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر قال وهل (2/162)
للدهر من آخر قال نعم يوم يجمع فيه الأولون والآخرون يسعد فيه المحسنون ويشقى فيه المسيئون قال أحق ما تخبرني قال نعم والشفق والغسق والفلق إذا اتسق إن ما أنبأتك به لحق قال ثم قدم عليه شق فقال له كقوله لسطيح وكتمه ما قال سطيح لينظر أيتفقان أم يختلفان قال نعم رأيت حممة خرجت من ظلمة فوقعت بين روضة وأكمة فأكلت منها كل ذات نسمة فلما قال له ذلك عرف أنهما قد اتفقا وأن قولهما واحد إلا أن سطيحا قال وقعت بأرض تهمة فأكلت منها كل ذات جمجمة وقال شق وقعت بين روضة وأكمة فاكلت منها كل ذات نسمة فقال له الملك ما أخطأت يا شق منها شيئا فما عندك في تأويلها فقال أحلف بما بين الحرتين من إنسان لينزلن أرضكم السودان فليغلبن على كل طفلة البنان وليملكن ما بين أبين إلى نجران فقال له الملك وأبيك يا شق إن هذا لنا لغائظ موجع فمتى هو كائن أفي زماني أم بعده قال لا بل بعده بزمان ثم يستنقذكم منهم عظيم ذو شان ويذيقهم أشد الهوان قال ومن هذا العظيم الشان قال غلام ليس بدني ولا مدن يخرج عليهم من بيت ذي يزن قال أفيدوم سلطانه أم ينقطع قال بل ينقطع برسول مرسل يأتي بالحق والعدل من أهل الدين والفضل يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل قال وما يوم الفصل قال يوم يجزى فيه الولات يدعى فيه من السماء بدعوات تسمع منها الاحياء والأموات ويجمع الناس فيه للميقات يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات قال أحق ما تقول قال أي ورب السماء والأرض وما بينهما من رفع وخفض إن ما أنبأتك به لحق ما فيه أمض قال ابن اسحق فوقع في نفس ربيعة بن نصر ما قالا فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خرزاذ فأسكنهم الحيرة قال ابن اسحق فمن بقية ولد ربيعة بن نصر النعمان بن المنذر بن النعمان بن المنذر بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر يعني الذي كان نائبا على الحيرة لملوك الاكاسرة وكانت العرب تفد إليه وتمتدحه وهذا الذي قاله محمد بن إسحاق من أن النعمان بن المنذر من سلالة ربيعة بن نصر قاله أكثر الناس وقد روى ابن إسحاق أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما جيء بسيف النعمان بن المنذر سأل جبير بن مطعم عنه ممن كان فقال من أشلاء قنص بن معد بن عدنان قال ابن اسحق فالله أعلم أي ذلك كان
قصة تبع أبي كرب مع اهل المدينة وكيف أراد غزو البيت الحرام ثم شرفه وعظمه وكساه الحلل فكان أول من كساه
قال ابن إسحاق فلما هلك ربيعة بن نصر رجع ملك اليمن كله إلى حسان بن تبان أسعد أبي كرب وتبان أسعد تبع الآخر ابن علكيركب بن زيد وزيد بن تبع الاول بن عمرو ذي الأذعار بن أبرهة ذي المنار بن الرائش بن عدي بن صيفي بن سبأ الأصغر بن كعب كهف الظلم بن زيد بن سهل بن عمرو بن قس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير (2/163)
ابن أنس بن الهميسع بن العربحج والعربحج هو حميبر بن سبأ الاكبر بن يعرب بن يشجب بن قحطان قال عبد الملك بن هشام سبأ بن يشجب بن بعرب بن قحطان قال ابن إسحاق وتبان أسعد أبو كرب هو الذي قدم المدينة وساق الحبرين من اليهود إلى اليمن وعمر البيت الحرام وكساه وكان ملكه قبل ملك ربيعة بن نصر وكان قد جعل طريقه حين رجع من غزوة بلاد المشرق على المدينة وكان قد مر بها في بدأته فلم يهج أهلها وخلف بين أظهرهم ابنا له فقتل غيلة فقدمها وهو مجمع لاخرابها واستئصال أهلها وقطع نخلها فجمع له هذا الحي من الأنصار ورئيسهم عمرو بن طلحة أخو بني النجار ثم أحد بني عمرو بن مبذول واسم مبذول عامر بن مالك بن النجار واسم النجار تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة عمرو بن عامر
وقال ابن هشام عمرو بن طلحة هو عمرو بن معاوية بن عمرو بن عامر بن مالك بن النجار وطلة أمه وهي بنت عامر بن زريق الخزرجية
قال ابن إسحاق وقد كان رجل من بني عدي بن النجار يقال له أحمر عدا على رجل من أصحاب تبع وجده يجد عذقا له فضربه بمنجلة فقتله وقال إنما التمر لمن أبره فزاد ذلك تبعا حنقا عليهم فاقتتلوا فتزعم الانصار أنهم كانوا يقاتلونه بالنهار ويقرونه بالليل فيعجبه ذلك منهم ويقول والله إن قومنا لكهام وحكى ابن إسحاق عن الأنصار ان تبعا إنما كان حنقه على اليهود أنهم منعوهم منه
قال السهيلي ويقال إنه إنما جاء لنصرة الأنصار أبناء عمه على اليهود الذين نزلوا عندهم في المدينة على شروط فلم يفوا بها واستطالوا عليهم والله أعلم
قال بن إسحاق فبينا تبع على ذلك من قتالهم إذ جاءه حبران من أحبار اليهود من بني قريظة عالمان راسخان حين سمعا بما يريد من إهلاك المدينة وأهلها فقالوا له أيها الملك لا تفعل فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها ولم نأمن عليك جل العقوبة فقال لهما ولم ذلك قالا هي مهاجر نبي يخرج من هذا الحرم من قريش في آخر الزمان تكون داره وقراره فتناهى ورأى أن لهما علما وأعجبه ما سمع منهما فانصرف عن المدينة وأتبعهما على دينهما قال ابن إسحاق وكان تبع وقومه أصحاب أوثان يعبدونها فتوجه إلى مكة وهي طريقه إلى اليمن حتى إذا كان بين عسفان وامج أتاه نفر من هذيل بن مدركة بن الياس بن مضر بن بزار بن معد بن عدنان فقالوا له أيها الملك ألا ندلك على بيت مال داثر أغفلته الملوك قبلك فيه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والذهب والفضة قال بلى قالوا بيت بمكة يعبده أهله ويصلون عنده وإنما أراد الهذليون هلاكه بذلك لما عرفوا من هلاك من أراده من الملوك وبغى عنده فلما أجمع لما قالوا أرسل إلى الحبرين فسألهما عن ذلك فقالا له ما أراد القوم إلا هلاكك وهلاك جندك ما نعلم بيتا لله عز و جل اتخذه في الأرض لنفسه غيره ولئن فعلت ما دعوك إليه لتهلكن وليهلكن من معك جميعا قال (2/164)
فماذا تأمرانني أن أصنع إذا أنا قدمت عليه قالا تصنع عنده ما يصنع أهله تطوف به وتعظمه وتكرمه وتحلق رأسك عنده وتذلل له حتى تخرج من عنده قال فما يمنعكما أنتما من ذلك قالا أما والله إنه لبيت أبينا إبراهيم عليه السلام وإنه لكما أخبرناك ولكن أهله حالوا بيننا وبينه بالأوثان التي نصبوها حوله وبالدماء التي يهريقون عنده وهم نجس أهل شرك أو كما قالا له فعرف نصحهما وصدق حديثهما وقرب النفر من هذيل فقطع أيديهم وأرجهلم ثم مضى حتى قدم مكة فطاف بالبيت ونحر عنده وحلق رأسه وأقام بمكة ستة أيام فيما يذكرون ينحر بها للناس ويطعم أهلها ويسقيهم العسل وأرى في المنام أن يكسوا البيت فكساء الخصف ثم أرى في المنام أن يكسوه أحسن من ذلك فكساء المعافر ثم أرى أن يكسوه أحسن من ذلك فكساء الملاء والوصائل وكان تبع فيما يزعمون أول من كسا البيت وأوصى به ولاته من جرهم وأمرهم بتطهيره وأن لا يقربوه دما ولا ميتة ولا مئلاتا وهي المحايض وجعل له بابا ومفتاحا ففي ذلك قالت سبيعة بنت الأحب تذكر ابنها خالد بن عبد مناف بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب وتنهاه عن البغي بمكة وتذكر له ما كان من أمر تبع فيها ... أبني لا تظلم بمكة ... لا الصغير ولا الكبير ... واحفظ محارمها بني ... ولا يغرنك الغرور ... أبني من يظلم بمكة ... يلق أطراف الشرور ... أبني يضرب وجهه ... ويلج بخديه السعير ... أبني قد جربتها ... فوجدت ظالمها يبور ... الله آمنها وما ... بنيت بعرصتها قصور ... والله آمن طيرها ... والعصم تامن في ثبير ... ولقد غزاها تبع ... فكسا بنيتها الحبير ... وأذل ربي ملكه ... فيها فأوفى بالنذور ... يمشي إليها حافيا ... بفنائها ألفا بعير ... ويظل يطعم أهلها ... لحم المهارى والجزور ... يسقيهم العسل المصفى ... والرحيض من الشعير ... والفيل أهلك جيشه ... يرمون فيها بالصخور ... والملك في أقصى البلاد ... وفي الأعاجم والخزور ... فاسمع إذا حدثت وأفهم ... كيف عاقبة الأمور ...
قال ابن اسحاق ثم خرج تبع متوجها إلى اليمن بمن معه من الجنود وبالحبرين حتى إذا دخل اليمن (2/165)
دعا قومه إلى الدخول فيما دخلوا فيه فأبواعليه حتى يحاكموه إلى النار التي كانت باليمن قال ابن اسحاق حدثني أبو مالك بن ثعلبة بن أبي مالك القرظي قال سمعت إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيدالله يحدث أن تبعا لما دنا من اليمن ليدخلها حالت حمير بينه وبين ذلك وقالوا لا تدخلها علينا وقد فارقت ديننا فدعاهم إلى دينه وقال إنه خير من دينكم قالوا تحاكمنا إلى النار قال نعم قال وكانت باليمن فيما يزعم أهل اليمن نار تحكم بينهم فيما يختلفون فيه تأخذ الظالم ولا تضر المظلوم فخرج قومه بأوثانهم وما يتقربون به في دينهم وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما متقلديها حتى قعدوا للنار عند مخرجها الذي تخرج منه فخرجت النار إليهم فلما أقلبت نحوهم حادوا عنها وهابوها فزجرهم من حضرهم من الناس وأمروهم بالصبر لها فصبروا حتى غشيتهم فأكلت الأوثان وما قربوا معها ومن حمل ذلك من رجال حمير وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما تعرق جباههما ولم تضرهما فاصفقت عند ذلك حمير على دينهما فمن هنالك كان أصل اليهودية باليمن
قال ابن اسحاق وقد حدثني محدث أن الحبرين ومن خرج من حمير إنما اتبعوا النار ليردوها وقالوا من ردها فهو أولى بالحق فدنا منها رجال حمير بأوثانهم ليردوها فدنت منهم لتأكلهم فحادوا عنها ولم يستطيعوا ردها فدنا منها الحبران بعد ذلك وجعلا يتلوان التوراه وهي تنقص عنهما حتى رداها لي مخرجها الذي خرجت منه فأصفقت عند ذلك حمير على دينهما والله أعلم أي ذلك كان قال ابن اسحاق وكان رئام بيتا لهم يعظمونه وينحرون عنده ويكلمون فيه إذ كانوا على شركهم فقال الحبران لتبع إنما هو شيطان يفتنهم بذلك فخل بيننا وبينه قال فشأنكما به فاستخرجا منه فيما يزعم أهل اليمن كلبا أسود فذبحاه ثم هدما ذلك البيت فبقاياه اليوم كما ذكر لي بها آثار الدماء التي كانت تهراق عليه وقد ذكرنا في التفسير الحديث الذي ورد عن النبي صلى الله عليه و سلم لا تسبوا تبعا فإنه قد كان أسلم قال السهيلي وروى معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لا تسبوا أسعد الحميري فإنه أول من كسى الكعبة
قال السهيلي وقد قال تبع حين أخبره الحبران عن رسول الله صلى الله عليه و سلم شعرا ... شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله باري النسم ... فلو مد عمري إلى عمره ... لكنت وزيرا له وابن عم ... وجاهدت بالسيف أعداءه ... وفرجت عن صدره كل هم ... قال ولم يزل هذا الشعر تتوارثه الأنصار ويحفظونه بينهم وكان عند أبي أيوب الأنصاري رصي الله عنه وأرضاه قال السهبلي وذكر ابن أبي الدنيا في كتب القبور أن قبرا حفر بصنعاء فوجد فيه امرأتان معهما لوح من فضة مكتوب بالذهب وفيه هذا قبر ليس وجنى ابنتي تبع ماتا وهما تشهد أن (2/166)
ألا آله إلا الله وحده لا شريك له وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما ثم صار الملك فيما بعد إلى حسان بن تبان أسعد وهو أخو اليمامة الزرقاء التي صلبت على باب مدينة جو فسميت من يومئذ اليمامة قال ابن اسحاق فلما ملك ابنه حسان بن أبي كرب تبان أسعد سار بأهل اليمن يريد أن يطاء بهم أرض العرب وأرض الأعاجم حتى إذا كانوا ببعض أرض العراق كرهت حمير وقبائل اليمن السير معه وأرادوا الرجعة إلى بلادهم وأهليهم فكلموا أخا له يقال له عمرو وكان معه في جيشه فقالوا له أقتل أخاك حسان ونملك علينا وترجع بنا إلى بلادنا فأجابهم فاجتمعوا على ذلك إلا ذارعين الحميري فإنه نهى عمرا عن ذلك فلم يقبل منه فكتب ذو رعين رقعة فيها هذان البيتان ... ألا من يشتري سهرا بنوم ... سعيد من يبيت قرير عين ... فأما حمير غدرت وخانت ... فمعذرة الا له لذي رعين ...
ثم استودعهما عمرا فلما قتل عمرو أخاه حسان ورجع إلى اليمن منع منه النوم وسلط عليه السهر فسأل الأطباء والحذاق من الكهان والعرافين عما به فقيل له إنه والله ما قتل رجل أخاه قط أو ذا رحم بغيا إلا ذهب نومه وسلط عليه السهر فعند ذلك جعل يقتل كل من أمره بقتل أخيه فلما خلص إلى ذي رعين قال له إن لي عندك براءة قال وما هي قال الكتاب الذي دفعته إليك فأخرجه فإذا فيه البيتان فتركه ورأى أنه قد نصحه وهلك عمرو فمرج أمر حمير عند ذلك وتفرقوا
وثوب لخنيعة ( 1 ) ذي شناتر على ملك اليمن
وقد ملكها سبعا وعشرين سنة قال ابن اسحاق فوثب عليهم رجل من حمير لم يكن من بيوت الملك يقال له لخنيعة ينوف ذو شناتر فقتل خيارهم وعبث ببيوت أهل المملكة منهم وكان مع ذلك أمرءا فاسقا يعمل عمل قوم لوط فكان يرسل إلى الغلام من أبناء الملوك فيقع عليه في مشربة له قد صنعها لذلك لئلا يملك بعد ذلك ثم يطلع من شربته تلك الى حرسه ومن حضر من جنده قد أخذ مسواكا فجعله في فيه ليعلمهم أنه قد فرغ منه حتى بعث إلى زرعة ذي نواس بن تبان أسعد أخي حسان وكان صبيا صغيرا حين قتل أخوه حسان ثم شب غلاما جميلا وسيما ذا هيئة وعقل فلما أتاه رسوله عرف ما يريد منه فأخذ سكينا جديدا لطيفا فخبأه بين قدميه ونعله ثم أتاه فلما خلا معه وثب إليه فواثبه ذو نواس فوجأه حتى قتله ثم حز رأسه فوضعه في الكوة التي كان يشرف منها ووضع مسواكه في فيه ثم خرج على الناس فقالوا له ذا نواس أرطب أم يباس فقال سل نحماس استرطبان ذو نواس استرطبان لا بأس ( 2 ) فنظروا إلى الكوة (2/167)
فإذا رأس لخنيعة مقطوع فخرجوا في أثر ذي نواس حتى أدركوه فقالوا ما ينبغي أن يملكنا غيرك إذ أرحتنا من هذا الخبيث فملكوه عليهم واجتمعت عليه حمير وقبائل اليمن فكان آخر ملوك حمير وتسمى يوسف فأقام في ملكه زمانا وبنجران بقايا من أهل دين عيسى بن مريم عليه السلام على الإنجيل أهل فضل واستقامة من أهل دينهم لهم رأس يقال له عبدالله بن الثامر ثم ذكر ابن اسحاق سبب دخول أهل نجران في دين النصارى وان ذلك كان على يدي رجل يقال له فيميون كان من عباد النصارى بأطراف الشام وكان مجاب الدعوة وصحبه رجل يقال له صالح فكان يتعبدان يوم الأحد ويعمل فيميون بقية الجمعة في البناء وكان يدعو للمرضى والزمنى وأهل العاهات فيشفون ثم استأسره وصاحبه بعض الأعراب فباعوهما بنجران فكان الذي اشترى فيميون يراه إذا قام في مصلاه بالبيت الذي هو فيه في الليل يمتلي عليه البيت نورا فأعجبه ذلك من أمره وكان أهل نجران يعبدون نخلة طويلة يعلقون عليها حلى نسائهم ويعكفون عندها فقال فيميون لسيده أرأيت إن دعوت الله على هذه الشجرة فهلكت أتعلمون أن الذي أنتم عليه باطل قال نعم فجمع له أهل نجران وقام فيميون إلى مصلاه فدعا الله عليها فأرسل الله عليها قاصفا فجعفها من أصلها ورماها إلى الأرض فاتبعه أهل نجران على دين النصرانية وحملهم على شريعة الإنجيل حتى حدثت فيهم الأحداث التي دخلت على أهل دينهم بكل أرض فمن هنالك كانت النصرانية بنجران من أرض العرب ثم ذكر ابن اسحاق قصة عبدالله بن الثامر حين تنصر على يدي فيميون وكيف قتله وأصحابه ذو نواس وخد لهم الاخدود وقال ابن هشام وهو الحفر المستطيل في الأرض مثل الخندق وأجج فيه النار وحرقهم بها وقتل آخرين حتى قتل قريبا من عشرين ألفا كما قدمنا ذلك مبسوطا في أخبار بني إسرائيل وكما هو مستقصى في تفسير سورة والسماء ذات البروج من كتابنا التفسير ولله الحمد
خروج الملك باليمن من حمير إلى الحبشة السودان
كما أخبر بذلك شق وسطيح الكاهنان وذلك أنه لم ينج من أهل نجران إلا رجل واحد يقال (2/168)
له دوس ذو ثعلبان على فرس له فسلك الرمل فأعجزهم فمضى على وجهه ذلك حتى أتى قيصر ملك الروم فاستنصره على ذي نواس وجنوده وأخبره بما بلغ منهم وذلك لأنه نصراني على دينهم فقال له بعدت بلادك منا ولكن سأكتب لك إلى ملك الحبشة فإنه على هذا الدين وهو أقرب إلى بلادك فكتب إليه يأمره بنصره والطلب بثأره فقدم دوس على النجاشي بكتاب قيصر فبعث معه سبعين ألفا من الحبشة وأمر عليهم رجلا منهم يقال له أرياط ومعه في جنده أبرهة الأشرم فركب أرياط البحر حتى نزل بساحل اليمن ومعه دوس وسار إليه ذو نواس في حمير ومن أطاعه من قبائل اليمن فلما التقوا انهزم ذو نواس وأصحابه فلما رأى ذو نواس ما نزل به وبقومه وجه فرسه في البحر ثم ضربه فدخل فيه فخاض به ضحضاح البحر حتى أفضى به إلى غمره فأدخله فيها فكان آخر العهد به ودخل أرياط اليمن وملكها
وقد ذكر ابن اسحاق هاهنا أشعارا للعرب فيما وقع من هذه الكائنة الغريبة وفيها فصاحة وحلاوة وبلاغة وطلاوة ولكن تركنا إيرادها خشية الإطالة وخوف الملالة وبالله المستعان
خروج أبرهة الأشرم على أرياط واختلافهما
قال ابن اسحاق فأقام ارياط بأرض اليمن سنين في سلطانه ذلك ثم نازعة أبرهة حتى تفرقت الحبشة عليهما فانحاز إلى كل منهما طائفة ثم سار أحدهما إلى الآخر فلما تقارب الناس أرسل أبرهة إلى أرياط إنك لن تضيع بأن تلقى الحبشة بعضها ببعض حتى تفنيها شيئا شيئا فأبرز لي وأبرز لك فأينا أصاب صاحبه انصرف إليه جنده فأرسل إليه أرياط انصفت فخرج إليه أبرهة وكان رجلا قصيرا لحيما وكان ذا دين في النصرانية وخرج إليه أرياط وكان رجلا جميلا عظيما طويلا وفي يده حربة له وخلف أبرهة غلام يقال له عتودة يمنع ظهره فرفع أرياط الحربة فضرب أبرهة يريد يافوخه فوقعت الحربة على جبهة أبرهة فشرمت حاجبه وعينه وأنفه وشفته فبذلك سمى أبرهة الأشرم وحمل عتودة على أرياط من خلف أبرهة فقتله وانصرف جند أرياط إلى أبرهة فاجتمعت عليه الحبشة باليمن وودى أبرهة أرياط فلما بلغ ذلك النجاشي ملك الحبشة الذي بعثهم إلى اليمن غضب غضبا شديدا على أبرهة وقال عدا على أميري فقتله بغير أمري ثم حلف لا يدع أبرهة حتى يطأ بلاده ويجز ناصيته فحلق أبرهة رأسه وملأ جرابا من تراب اليمن ثم بعث به إلى النجاشي ثم كتب إليه أيها الملك إنما كان أرياط عبدك وأنا عبدك فاختلفنا في أمرك وكل طاعته لك إلا أني كنت أقوى على أمر الحبشة واضبط لها وأسوس منه وقد حلقت رأسي كله حين بلغني قسم الملك وبعثت إليه بجراب تراب من أرضي ليضعه تحت قدمه فيبر قسمه في فلما انتهى ذلك إلى النجاشي رضي عنه وكتب إليه أن أثبت بأرض اليمن حتى يأتيك أمري فأقام أبرهة باليمن (2/169)
سبب قصر أبرهة بالفيل مكة ليخرب الكعبة
ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول
قيل أول من ذلل الفيلة إفريدون بن أثفيان الذي قتل الضحاك قاله الطبري وهو أول من اتخذ للخيل السرج وأما أول من سخر الخيل وركبها فطهمورث وهو الملك الثالث من ملوك الدنيا ويقال إن أول من ركبها اسماعيل بن ابراهيم عليهما السلام ويحتمل أنه أول من ركبها من العرب والله تعالى أعلم ويقال إن الفيل مع عظمة خلقه يفرق من الهر وقد احتال بعض أمراء الحروب في قتال الهنود بإحضار سنانير إلى حومة الوغى فنفرت الفيلة
قال ابن اسحاق ثم إن أبرهة بني القليس بصنعاء كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض وكتب إلى النجاشي إني قد بنيت لك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب
فذكر السهيلي أن أبرهة استذل أهل اليمن في بناء هذه الكنيسة الخسيسة وسخرهم فيها أنواعا من السخر وكان من تأخر عن العمل حتى تطلع الشمس يقطع يده لا محالة وجعل ينقل إليها من قصر بلقيس رخاما وأحجارا وأمتعة عظيمة وركب فيها صلبانا من ذهب وفضة وجعل فيها منابر من عاج وابنوس وجعل ارتفاعها عظيما جدا واتساعها باهرا فلما هلك بعد ذلك أبرهة وتفرقت الحبشة كان من يتعرض لأخذ شيء من بنائها وأمتعتها أصابته الجن بسوء وذلك لأنها كانت مبنية على اسم صنمين كعيب وامرأته وكان طول كل منهما ستون ذراعا فتركها أهل اليمن على حالها فلم تزل كذلك إلى زمن السفاح أول خلفاء بني العباس فبعث إليها جماعة من أهل العزم والحزم والعلم فنقضوها حجرا حجرا ودرست آثارها إلى يومنا هذا
قال ابن اسحاق فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة إلى النجاشي غضب رجل من النسأة من كنانة الذين ينسئون شهر الحرام إلى الحل بمكة أيام الموسم كما قررنا ذلك عند قوله إنما النسيء زيادة في الكفر الآية قال ابن اسحاق فخرج الكناني حتى أتى القليس فقعد فيه أي أحدث حيث لا يراه أحد ثم خرج فلحق بأرضه فأخبر أبرهة بذلك فقال من صنع هذا فقيل له صنعه رجل من أهل هذا البيت الذي تحجه العرب بمكة لما سمع بقولك أنك تريد أن تصرف حج العرب إلى بيتك هذا فغضب فجاء فقعد فيها أي أنه ليس لذلك باهل فغضب أبرهة عند ذلك وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه ثم أمر الحبشة (2/170)
فتهيأت وتجهزت ثم سار وخرج معه بالفيل وسمعت بذلك العرب فأعظموه وفظعوا به ورأوا جهاده حقا عليهم حين سمعوا بأنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام فخرج إليه رجل كان من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت الله الحرام وما يريده من هدمه واخرابه فأجابه من أجابه إلى ذلك ثم عرض له فقاتله فهزم ذو نقر وأصحابه وأخذ له ذو نفر فأتى به أسيرا فلما أراد قتله قال له ذو نفر يا أيها الملك لا تقتلني فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من القتل فتركه من القتل وحبسه عنده في وثاق وكان أبرهة رجلا حليما ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج له حتى إذا كان بأرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي في قبيلتي خثعم وهما شهران وناهس ومن تبعه من قبائل العرب فقاتله فهزمه أبرهة وأخذ له نفيل أسيرا فأتى به فلما هم بقتله قال له نفيل أيها الملك لا تقتلني فأني دليلك بأرض العرب وهاتان يداي لك على قبيلتي خثعم شهران وناهس بالسمع والطاعة فخلى سبيله وخرج به معه يدله حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف في رجال ثقيف فقالوا له أيها الملك إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون ليس عندنا لك خلاف وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد يعنون اللآت إنما تريد البيت الذي بمكة ونحن نبعث معك من يدلك عليه فتجاوز
عنهم قال ابن اسحاق واللات بيت لهم بالطائف كانوا يعظمونه نحو تعظيم الكعبة قال فبعثوا معه أبا رغال يدله على الطريق إلى مكة فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله بالمغمس فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك فرجمت قبره العرب فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس وقد تقدم في قصة ثمود أن أبا رغال كان رجلا منهم وكان يمتنع بالحرم فلما خرج منه أصابه حجر فقتله وأن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لأصحابه وآية ذلك أنه دفن معه غصنان من ذهب فحفروا فوجدوهما قال وهو أبو ثقيف
قلت والجمع بين هذا وبين ما ذكر ابن اسحاق أن أبا رغال هذا المتأخر وافق اسمه اسم جده الأعلى ورجمه الناس كما رجموا قبر الأول وأيضا والله أعلم وقد قال جرير ... إذا مات الفرزدق فارجموه ... كرجمكم لقبر أبي رغال ...
الظاهر أنه
الثاني قال ابن اسحاق فلما نزل أبرهة بالمغمس بعث رجلا من الحبشة يقال له الأسود بن مفصود على خيل له حتى انتهى إلى مكة فساق إليه أموال تهامة من قريش وغيرهم وأصاب فيها مائتي بعير لعبدالمطلب بن هاشم وهو يومئذ كبير قريش وسيدها فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله ثم عرفوا أنه لا طاقة لهم به فتركوا ذلك وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة وقال له سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفهم ثم قل له ان الملك يقول إني لم آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت فإن لم تعرضوا (2/171)
لنا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم فإن هو لم يرد حربي فائتني به فلما دخل حناطة مكة سأل عن سيد قريش وشريفها فقيل له عبدالمطلب بن هاشم فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة فقال له عبدالمطلب والله ما نريد حربه وما لنا بذلك من طاقة هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه السلام أو كما قال فإن يمنعه منه فهو حرمه وبيته وان يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه فقال له حناطة فانطلق معي إليه فإنه قد أمرني أن آتيه بك فانطلق معه عبدالمطلب ومعه بعض بنيه حتى أتى العسكر فسأل عن ذي نفر وكان له صديقا حتى دخل عليه وهو في محبسه فقال له يا ذا نفر هل عندك من غناء فيما نزل بنا فقال له ذو نفر وما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله غدوا أو عشيا ما عندي غناء في شيء مما نزل بك إلا أن أنيسا سائس الفيل صديق لي فسأرسل إليه وأوصيه بك وأعظم عليه حقك وأسأله أن يستأذن لك على الملك فتكلمه بما بدا لك ويشفع لك عنده بخير ان قدر على ذلك فقال حسبي فبعث ذو نفر إلى أنيس فقال له ان عبدالمطلب سيد قريش وصاحب عين مكة يطعم الناس بالسهل والوحوش في رؤوس الجبال وقد أصاب له الملك مائتي بعير فاستأذن له عليه وأنفعه عنده بما استطعت قال افعل فكلم أنيس أبرهة فقال له أيها الملك هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك وهو صاحب عين مكة وهو الذي يطعم الناس بالسهل والوحوش في رؤوس الجبال فائذن له عليك فليكلمك في حاجته فأذن له أبرهة قال وكان عبدالمطلب أوسم الناس وأعظمهم وأجملهم فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه عن أن يجلسه تحته وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جانبه ثم قال لترجمانه قل له حاجتك فقال له ذلك الترجمان فقال حاجتي أن يرد على الملك مائتي بعير أصابها لي فلما قال له ذلك قال أبرهة لترجمانه قل له لقد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم قد زهدت فيك حين كلمتني أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لأهدمه لا تكلمني فيه فقال له عبدالمطلب إني أنا رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه فقال ما كان ليمتنع مني قال أنت وذاك فرد على عبدالمطلب إبله
قال ابن اسحاق ويقال إنه كان قد دخل مع عبدالمطلب على أبرهة يعمر بن نفاثة بن عدي بن الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة سيد بني بكر وخويلد بن وائلة سيد هذيل فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم ولا يهدم البيت فأبى عليهم ذلك فالله أعلم أكان ذلك أم لا
فلما انصرفوا عنه انصرف عبدالمطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في رؤس الجبال ثم قام عبدالمطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده وقال عبدالمطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة ... لا هم إن العبد يمنع ... رحله فامنع رحالك (2/172)
لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم غدوا محالك ... إن كنت تاركهم ... وقبلتنا فأمر ما بدا لك ...
قال ابن هشام هذا ما صح له منها وقال ابن اسحاق ثم أرسل عبدالمطلب حلقة باب الكعبة وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال يتحرزون فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة وهيأ فيله وعبى جيشه وكان اسم الفيل محمودا فلما وجهوا الفيل إلى مكة أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى جنب الفيل ثم أخذ بأذنه فقال أبرك محمود وارجع راشدا من حيث أتيت فإنك في بلد الله الحرام وأرسل اذنه فبرك الفيل قال السهيلي أي سقط إلى الأرض وليس من شأن الفيلة أن تبرك وقد قيل إن منها ما يبرك كالبعير فالله أعلم
وخرج نفيل بن حبيب يشتد حتى أصعد في الجبل وضربوا الفيل ليقوم فأبى فضربوا رأسه بالطبرزين ليقوم فأبى فادخلوا محاجن لهم في مراقه فبزغوه بها ليقوم فأبى فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك ووجوه إلى مكة فبرك وأرسل الله عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان ( 1 ) مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها حجر في منقاره وحجران في رجليه أمثال الحمص والعدس لا تصيب منهم أحدا إلا هلك وليس كلهم أصابت وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق التي منها جاءوا ويسألون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن فقال نفيل في ذلك ... ألا حييت عنا يا ردينا ... نعمناكم مع الإصباح عينا ... ردينة لو رأيت فلا تريه ... لدى جنب المحصب ما رأينا ... إذا لعذرتني وحمدت أمري ... ولم تاسي على ما فات بينا ... حمدت الله إذ أبصرت طيرا ... وخفت حجارة تلقى علينا ... وكل القوم يسأل عن نفيل ... كأن علي للحبشان دينا ...
قال ابن اسحاق فخرجوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون بكل مهلك على كل منهل وأصيب أبرهة في جسده وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة كلما سقطت أنملة اتبعتها منه مدة تمت قيحا ودما حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه فيما يزعمون
قال ابن اسحاق حدثني يعقوب بن عتبة أنه حدث أن أول ما رؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام وأنه أول ما رؤى بها مرائر الشجر الحرمل والحنظل والعشر ذلك العام
قال ابن إسحاق فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه و سلم كان مما يعدد الله على قريش من نعمته عليهم وفضله (2/173)
ما رد عنهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم ومدتهم فقال تعالى ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول
ثم شرع ابن إسحاق وابن هشام يتكلمان على تفسير هذه السورة والتي بعدها وقد بسطنا القول في ذلك في كتابنا التفسير بما فيه كفاية إن شاء الله تعالى وله الحمد والمنة
قال ابن هشام الأبابيل الجماعات ولم تتكلم لها العرب بواحد علمناه قال وأما السجيل فأخبرني يونس النحوي وأبو عبيدة أنه عند العرب الشديد الصلب قال وزعم بعض المفسرين أنهما كلمتان بالفارسية جعلتهما العرب كلمة واحدة وانها سنج وجل ( 1 ) فالسنج الحجر والجل الطين يقول الحجارة من هذين الجنسين الحجر والطين قال والعصف ورق الزرع الذي لم يقصب وقال الكسائي سمعت بعض النحويين يقول واحد الأبابيل ابيل وقال كثيرون من السلف الأبابيل الفرق من الطير التي يتبع بعضها بعضا من ههنا وههنا وعن ابن عباس كان لها خراطيم كخراطيم الطير وأكف كأكف الكلاب وعن عكرمة كانت رؤوسها كرؤوس السباع خرجت عليهم من البحر وكانت خضرا وقال عبيد بن عمير كانت سودا بحرية في مناقيرها وأكفها الحجارة وعن ابن عباس كانت أشكالها كعنقاء مغرب وعن ابن عباس كان أصغر حجر منها كرأس الإنسان ومنها ما هو كالإبل وهكذا ذكره يونس بن بكير عن ابن إسحاق وقيل كانت صغارا والله أعلم
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا محمد بن عبدالله بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن عبيد بن عمير قال لما أراد الله أن يهلك أصحاب الفيل بعث عليهم طيرا أنشئت من البحر أمثال الخطاطيف كل طير منها يحمل ثلاثة أحجار حجرين في رجليه وحجرا في منقاره قال فجاءت حتى صفت على رؤوسهم ثم صاحت وألقت ما في رجليها ومناقيرها فما يقع حجر على رأس رجل الا خرج من دبره ولا يقع على شيء من جسده إلا خرج من الجانب الآخر وبعث الله ريحا شديدة فضربت الحجارة فزادتها شدة فأهلكوا جميعا
وقد تقدم أن ابن اسحاق قال وليس كلهم اصابته الحجارة يعني بل رجع منهم راجعون إلى اليمن حتى أخبروا أهلهم بما حل بقومهم من النكال وذكروا أن أبرهة رجع وهو يتساقط أنملة أنملة فلما وصل إلى اليمن انصدع صدره فمات لعنه الله وروى ابن اسحاق قال حدثني عبدالله بن أبي بكر عن سمرة عن عائشة قالت لقد رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان وتقدم أن سائس الفيل كان اسمه أنيسا فأما قائده فلم يسم والله أعلم
وذكر النقاش في تفسيره أن السيل احتمل جثثهم فألقاها في البحر قال السهيلي وكانت قصة الفيل (2/174)
أول المحرم من سنة ست وثمانين وثمانمائة ( 1 ) من تاريخ ذي القرنين
قلت وفي عامها ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم على المشهور وقيل كان قبل مولده بسنين كما سنذكر إن شاء الله تعالى وبه الثقة
ثم ذكر ابن اسحاق ما قالته العرب من الأشعار في هذه الكائنة العظيمة التي نصر الله فيها بيته الحرام الذي يريد أن يشرفه ويعظمه ويطهره ويوقره ببعثة محمد صلى الله عليه و سلم وما يشرع له من الدين القويم الذي أحد أركانه الصلاة بل عماد دينه وسيجعل قبلته إلى هذه الكعبة المطهرة ولم يكن ما فعله بأصحاب الفيل نصرة لقريش إذ ذاك على النصارى الذين هم الحبشة فإن الحبشة إذ ذاك كانوا أقرب لها من مشركي قريش وإنما كان النصر للبيت الحرام وارهاصا وتوطئه لبعثة محمد صلى الله عليه و سلم فمن ذلك ما قاله عبدالله بن الزبعري السهمي ... تنكلوا ( 2 ) عن بطن مكة إنها ... كانت قديما لا يرام حريمها ... لم تخلق الشعرى ليالي حرمت ... إذ لا عزيز من الأنام يرومها ... سائل أمير الحبش عنها ما رأى ... فلسوف ينبي الجاهلين عليمها ... ستون ألفا لم يؤبوا أرضهم ... بل لم يعش بعد الأياب سقيمها ... كانت بها عاد وجرهم قبلهم ... والله من فوق العباد يقيمها ...
ومن ذلك قول أبي قيس بن الأسلت الأنصاري المدني ... ومن صنعه يوم فيل الحبوش ... إذ كلما بعثوه رزم ... محاجنهم تحت أقرابه ... وقد شرموا أنفه فانخرم ... وقد جعلوا سوطه مغولا ... إذا يمموه قفاه كلم ... فولى وأدبر أدراجه وقد باء بالظلم من كان ثم ... فأرسل من فوقهم حاصبا ... فلفهم مثل لف القزم ... تحض على الصبر أحبارهم ... وقد ثأجوا كثؤاج الغنم ...
ومن ذلك قول أبي الصلت ربيعة بن أبي ربيعة وهب بن علاج الثقفي قال ابن هشام ويروى لأمية بن أبي الصلت ... إن آيات ربنا ثاقبات ... ما يمارى فيهن إلا الكفور ... خلق الليل والنهار فكل ... مستبين حسابه مقدور (2/175)
ثم يجلو النهار رب رحيم ... بمهاة شعاعها منشور ... حبس الفيل بالمغمس حتى ... صار يحبو كأنه معقور ... لازما حلقة الجران كما قد ... من صخر كبكب محدور ... حوله من ملوك كندة أبطال ... ملاويث في الحروب صقور ... خلفوه ثم ابذعروا جميعا ... كلهم عظم ساقه مكسور ... كل دين يوم القيامة عند الله ... إلا دين الحنيفة بور ...
ومن ذلك قول أبي قيس بن الاسلت أيضا ... فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا ... بأركان هذا البيت بين الأخاشب ... فعندكم منه بلاء مصدق ... غداة أبي يكسوم هادي الكتائب ... كتيبته بالسهل تمشي ورجله ... على القاذفات في رؤس المناقب ... فلما أتاكم نصر ذي العرش ردهم ... جنود المليك بين ساف وحاصب ... فولوا سراعا هاربين ولم يؤب ... إلى أهله ملحبش غير عصائب ...
ومن ذلك قول عبيد الله بن قيس الرقيات في عظمة البيت وحمايته بهلاك من أراده بسوء ... كاده الأشرم الذي جاء بالفيل ... فولى وجيشه مهزوم ... واستهلت عليهم الطير بالجندل ... حتى كأنه مرجوم ... ذاك من يغزه من الناس يرجع ... وهو فل من الجيوش ذميم ...
قال ابن إسحاق وغيره فلما هلك ابرهة ملك الحبشة بعده ابنه يكسوم ثم من بعده أخوه مسروق ابن ابرهة وهو آخر ملوكهم وهو الذي انتزع سيف بن ذي يزن الحميري الملك من يده بالجيش الذين قدم بهم من عند كسرى أنوشروان كما سيأتي بيانه
وكانت قصة الفيل في المحرم سنة ست وثمانين وثمانمائة من تاريخ ذي القرنين وهو الثاني اسكندر ابن فلبس المقدوني الذي يؤرخ له الروم ولما هلك ابرهة وابناه وزال ملك الحبشة عن اليمن هجر القليس الذي كان بناه ابرهة وأراد صرف حج العرب إليه لجهله وقلة عقله وأصبح يبابا لا أنيس له وكان قد بناه على صنمين وهما كعيب وامرأته وكانا من خشب طول كل منهما ستون ذراعا في السماء وكانا مصحوبين من الجان ولهذا كان لا يتعرض أحد إلى أخذ شيء من بناء القليس وأمتعته إلا أصابوه بسوء فلم يزل كذلك إلى أيام السفاح أول خلفاء بني العباس فذكر له أمره وما فيه من الأمتعة والرخام الذي كان ابرهة نقله إليه من صرح بلقيس الذي كان باليمن فبعث إليه من خربه حجرا حجرا وأخذ جميع ما فيه من الأمتعة والحواصل هكذا ذكره السهيلي والله أعلم (2/176)
خروج الملك عن الحبشة ورجوعه إلى سيف بن ذي يزن
قال محمد بن اسحاق رحمه الله فلما هلك أبرهة ملك الحبشة يكسوم بن أبرهة وبه كان يكنى فلما هلك يكسوم ملك اليمن من الحبشة أخوه مسروق بن أبرهة قال فلما طال البلاء على أهل اليمن خرج سيف بن ذي يزن الحميري وهو سيف بن ذي يزن بن ذي أصبح بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن العرنجج وهو حمير بن سبأ وكان سيف يكنى أبا مرة حتى قدم على قيصر ملك الروم فشكى إليه ما هو فيه وسأله أن يخرجهم عنه ويليهم هو ويخرج إليهم من شاء من الروم فيكون له ملك اليمن فلم يشكه فخرج حتى أتى النعمان بن المنذر وهو عامل كسرى على الحيرة وما يليها من أرض العراق فشكا إليه أمر الحبشة فقال له النعمان إن لي على كسرى وفادة في كل عام فأقم عندي حتى يكون ذلك ففعل ثم خرج معه فأدخله على كسرى وكان كسرى يجلس في إيوان مجلسه الذي فيه تاجه وكان تاجه مثل القنقل ( 1 ) العظيم فيما يزعمون يضرب فيه الياقوت والزبرجد واللؤلؤ بالذهب والفضة معلقا بسلسلة من ذهب في رأس طاقة في مجلسه ذلك وكانت عنقه لا تحمل تاجه إنما يستر عليه بالثياب حتى يجلس في مجلسه ذلك ثم يدخل رأسه في تاجه فإذا استوى في مجلسه كشف عنه الثياب فلا يراه أحد لم يره قبل ذلك إلا برك هيبة له فلما دخل عليه طأطأ رأسه فقال الملك إن هذا الأحمق يدخل علي من هذا الباب الطويل ثم يطأطىء رأسه فقيل ذلك لسيف فقال إنما فعلت هذا لهمي لأنه يضيق عنه كل شيء ثم قال أيها الملك غلبتنا على بلادنا إلا غربة قال كسرى أي إلا غربة الحبشة أم السند قال بل الحبشة فجئتك لتنصرني ويكون ملك بلادي لك فقال له كسرى بعدت بلادك مع قلة خيرها فلم أكن لأورط جيشا من فارس بأرض العرب لا حاجة لي بذلك ثم أجازه بعشرة آلاف درهم واف وكساه كسوة حسنة فلما قبض ذلك منه سيف خرج فجعل ينثر تلك الورق للناس فبلغ ذلك الملك فقال إن لهذا لشأنا ثم بعث إليه فقال عمدت إلى حباء الملك تنثره للناس قال وما أصنع بحباك ما جبال أرضى التي جئت منها إلا ذهب وفضة يرغبه فيها فجمع كسرى مرازبته فقال لهم ما ترون في أمر هذا الرجل وما جاء له فقال قائل أيها الملك إن في سجونك رجالا قد حبستهم للقتل فلو أنك بعثتهم معه فإن يهلكوا كان ذلك الذي أردت بهم وإن ظفروا كان ملكا أزددته فبعث معه كسرى من كان في (2/177)
سجونه وكانوا ثمانمائة رجل واستعمل عليهم وهرز كان ذا سن فيهم وأفضلهم حسبا وبيتا فخرجوا في ثمان سفائن فغرقت سفينتان ووصل إلى ساحل عدن ست سفائن فجمع سيف إلى وهرز من استطاع من قومه وقال له رجلي ورجلك حتى نموت جميعا أو نظفر جميعا فقال له وهرز أنصفت وخرج إليه مسروق بن أبرهة ملك اليمن وجمع إليه جنده فأرسل إليهم وهرز ابنا له ليقاتلهم فيختبر قتالهم فقتل ابن وهرز فزاده ذلك حنقا عليهم فلما تواقف الناس على مصافهم قال وهرز أروني ملكهم فقالوا له أترى رجلا على الفيل عاقدا تاجه على رأسه بين عينيه ياقوتة حمراء قال نعم قالوا ذلك ملكهم فقال اتركوه قال فوقفوا طويلا ثم قال علام هو قالوا قد تحول على الفرس قال اتركوه فتركوه طويلا ثم قال علام هو قالوا على البغلة قال وهرز بنت الحمار ذل وذل ملكه إني سأرميه فإن رأيتم أصحابه لم يتحركوا فأثبتوا حتى أوذنكم فإني قد أخطأت الرجل وإن رأيتم القوم قد استداروا به ولاهوا فقد أصبت الرجل فاحملوا عليهم ثم وتر قوسه وكانت فيما يزعمون لا يوترها غيره من شدتها وأمر بحاجبيه فعصبا له ثم رماه فصك الياقوتة التي بين عينيه وتغلغلت النشابة في رأسه حتى خرجت من قفاه ونكس عن دابته واستدارت الحبشة ولاثت به وحملت عليهم الفرس فانهزموا فقتلوا وهربوا في كل وجه وأقبل وهرز ليدخل صنعاء حتى إذا أتى بابها قال لا تدخل رايتي منكسة أبدا اهدموا هذا الباب فهدم ثم دخلها ناصبا رايته فقال سيف بن ذي يزن الحميري ... يظن الناس بالملكين ... أنهما قد التأما ... ومن يسمع بلأ مهما ... فإن الخطب قد فقما ... قتلنا القيل مسروقا ... وروينا الكثيب دما ... وإن القيل قيل الناس ... وهرز مقسم قسما ... يذوق مشعشعا حتى ... نفيء السبي والنعما ...
ووفدت العرب من الحجاز وغيرها على سيف يهنئونه بعود الملك إليه وامتدحوه فكان من جملة من وفد قريش وفيهم عبدالمطلب بن هاشم فبشره سيف برسول الله صلى الله عليه و سلم وأخبره بما يعلم من أمره وسيأتي ذلك مفصلا في باب البشارات به عليه الصلاة و السلام
قال ابن اسحاق وقال أبو الصلت بن أبي ربيعة الثقفي قال ابن هشام ويروى لأمية بن أبي الصلت ... ليطلب الوتر أمثال ابن ذي يزن ... ريم في البحر للأعداء أحوالا ... يمم قيصرا لما حان رحلته ... فلم يجد عنده بعض الذي سالا ... ثم انثنى نحو كسرى بعد عاشرة ... من السنين يهين النفس والمالا ... حتى أتى ببني الأحرار يحملهم ... إنك عمري لقد أسرعت قلقالا (2/178)
لله درهم من عصبة خرجوا ... ما إن أرى لهم في الناس أمثالا ... غلبا مرازبة بيضا أساورة ... أسدا تربب في الغيضات أشبالا ... يرمون عن سدف كأنها غبط ... بزمخر يعجل المرمي إعجالا ... أرسلت أسدا على سود الكلاب فقد ... أضحى شريدهم في الأرض فلالا ... فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا ... في رأس غمدان دارا منك محلالا ... واشرب هنيئا فقد شالت نعامتهم ... وأسبل اليوم في برديك إسبالا ... تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا ...
يقال إن غمدان قصر باليمن بناه يعرب بن قحطان وملكه بعده واحتله وائلة بن حمير بن سبأ ويقال كان ارتفاعه عشرين طبقة فالله أعلم
قال ابن اسحاق وقال عدي بن زيد الحميري وكان أحد بني تميم ... ما بعد صنعاء كان يعمرها ... ولاة ملك جزل مواهبها ... رفعها من بني لذي قزع المزن ... وتندى مسكا محاربها ... محفوقة بالجبال دون عرى الكائد ... ما يرتقى غواربها ... يأنس فيها صوت النهام إذا ... جاوبها بالعشى قاصبها ... ساقت إليها الأسباب جند بني ... الأحرار فرسانها مواكبها ... وفوزت بالبغال توسق بالحتف ... وتسعى بها توالبها ... حتى يراها الأقوال من طرف المنقل ... مخضرة كتائبها ... يوم ينادون آل بربر واليكسوم ... لا يفلحن هاربها ... فكان يوما باقي الحديث وزالت ... أمه ثابت مراتبها ... وبدل الهيج بالزرافة والأيام ... خون جم عجائبها ... بعد بني تبع نخاورة ... قد اطمأنت بها مرازبها ...
قال ابن هشام وهذا الذي عنى سطيح بقوله يليه ارم ذي يزن يخرج عليهم من عدن فلا يترك منهم أحدا باليمن والذي عنى شق بقوله غلام ليس بدني ولا مدن يخرج من بيت ذي يزن
قال ابن اسحاق وأقام وهرز والفرس باليمن فمن بقية ذلك الجيش من الفرس الأبناء الذين باليمن اليوم وكان ملك الحبشة باليمن فيما بين أن دخلها ارياط إلى أن قتلت الفرس مسروق بن أبرهة وأخرجت الحبشة اثنتين وسبعين سنة توارث ذلك منهم أربعة إرياط ثم أبرهة ثم يكسوم بن أبرهة ثم مسروق بن أبرهة (2/179)
ما آل إليه أمر الفرس باليمن
قال ابن هشام ثم مات وهرز فأمر كسرى ابنه المرزبان بن وهرز على اليمن ثم مات المرزبان فأمر كسرى ابنه التينجان ثم مات فأمر ابن التينجان ثم عزله عن اليمن وأمر عليها باذان وفي زمنه بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ابن هشام فبلغني عن الزهري انه قال كتب كسرى إلى باذان إنه بلغني أن رجلا من قريش خرج بمكة يزعم أنه نبي فسر إليه فاستتبه فإن تاب وإلا فابعث إلي برأسه فبعث باذان بكتاب كسرى إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله قد وعدني أن يقتل كسرى في يوم كذا وكذا من شهر كذا فلما أتى باذان الكتاب وقف لينتظر وقال ان كان نبيا فسيكون ما قال فقتل الله كسرى في اليوم الذي قال رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ابن هشام على يدي ابنه شيرويه قلت وقال بغضهم بنوه تمالئوا على قتله وكسرى هذا هو أبرويز بن هرمز بن أنو شروان بن قباز وهو الذي غلبت الروم في قوله تعالى الم غلبت الروم في أدنى الأرض كما سيأتي بيانه قال السهيلي وكان قتله ليلة الثلاثاء لعشر خلون من جمادى الأولى سنة تسع من الهجرة وكان والله أعلم لما كتب إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعوه إلى الإسلام فغضب ومزق كتابه كتب إلى نائبه باليمن يقول له ما قال وفي بعض الروايات أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لرسول باذان إن ربي قد قتل الليلة ربك فكان كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم قتل تلك الليلة بعينها قتله بنوه لظلمه بعد عدله بعد ما خلعوه وولوا ابنه شيرويه فلم يعش بعد قتله أباه الا ستة أشهر أو دونها وفي هذا يقول خالد بن حق الشيباني ... وكسرى إذ تقسمه بنوه ... بأسياف كما اقتسم اللحام ... تمخضت المنون له بيوم ... ألا ولكل حاملة تمام ...
قال الزهري فلما بلغ ذلك باذان بعث بإسلامه وإسلام من معه من الفرس إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت الرسل إلى من نحن يا رسول الله قال أنتم منا وإلينا أهل البيت قال الزهري ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم سلمان منا أهل البيت قلت والظاهر أن هذا كان بعد ما هاجر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة ولهذا بعث الأمراء إلى اليمن لتعليم الناس الخير ودعوتهم إلى الله عز و جل فبعث أولا خالد بن الوليد وعلي بن أبي طالب ثم أتبعهما أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل ودانت اليمن وأهلها للإسلام ومات باذان فقام بعده ولده شهر بن باذان وهو الذي قتله الأسود العنسي حين تنبأ وأخذ زوجته كما سيأتي بيانه وأجلى عن اليمن نواب رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما قتل الأسود عادت اليد الإسلامية عليها وقال ابن هشام وهذا هو الذي عنى به سطيح بقوله نبي زكي يأتيه الوحي من قبل العلي والذي عنى شق بقوله بل ينقطع برسول مرسل يأتي بالحق والعدل بين أهل الدين والفضل يكون الملك في قومه (2/180)
إلى يوم الفصل
قال ابن إسحاق وكان في حجر باليمن فيما يزعمون كتاب بالزبور كتب بالزمان الأول لمن ملك ذمار الحمير الاخيار لمن ملك ذمار للحبشة الاشرار لمن ملك ذمار لفارس الاحرار لمن ملك ذمار لقريش التجار وقد نظم بعض الشعراء هذا المعنى فيما ذكره المسعودي ... حين شدت ذمار قيل لمن أنت ... فقالت لحمير الأخبار ... ثم سينت من بعد ذاك فقالت ... أنا للحبش أخبث الأشرار ... ثم قالوا من بعد ذاك لمن أنت ... فقالت لفارس الأحرار ... ثم قالوا من بعد ذاك لمن أنت ... فقالت إلى قريش التجار ...
ويقال إن هذا الكلام الذي ذكره محمد بن إسحاق وجد مكتوبا عند قبر هود عليه السلام حين كشفت الريح عن قبره بأرض اليمن وذلك قبل زمن بلقيس بيسير في أيام مالك بن ذي المنار أخي عمرو ذي الاذعار بن ذي المنار ويقال كان مكتوبا على قبر هود أيضا وهو من كلامه عليه السلام حكاه السهيلي والله أعلم
قصة الساطرون صاحب الحضر
وقد ذكر قصته ها هنا عبد الملك بن هشام لاجل ما قاله بعض علماء النسب إن النعمان بن المنذر الذي تقدم ذكره في ورود سيف بن ذي يزن عليه وسؤاله في مساعدته في رد ملك اليمن إليه إنه من سلالة الساطرون صاحب الحضر وقد قدمنا عن ابن إسحاق إن النعمان بن المنذر من ذرية ربيعة بن نصر وأنه روى عن جبير بن مطعم أنه من أشلاء قيصر بن معد بن عدنان فهذه ثلاثة أقوال في نسبه فاستطرد ابن هشام في ذكر صاحب الحضر والحضر حصن عظيم بناه هذا الملك وهو الساطرون على حافة الفرات وهو منيف مرتفع البناء واسع الرحبة والفناء دوره بقدر مدينة عظيمة وهو في غاية الأحكام والبهاء والحسن والسناء وإليه يجبي ما حوله من الأقطار والأرجاء واسم الساطرون الضيزن ابن معاوية بن عبيد بن أجرم من بني سليح بن حلوان بن الحاف بن قضاعة كذا نسبه ابن الكلبي وقال غيره كان من الجرامقة وكان احد ملوك الطوائف وكان يقدمهم إذا اجتمعوا لحرب عدو من غيرهم وكان حصنه بين دجلة والفرات
قال ابن هشام وكان كسرى سابور ذو الأكتاف غزا الساطرون ملك الحضر وقال غير ابن هشام إنما الذي غزا صاحب الحضر سابور بن أردشير بن بابك أول ملوك بني ساسان اذل ملوك الطوائف ورد الملك إلى الأكاسرة وأما سابور ذو الاكتاف بن هرمز فبعد ذلك بدهر طويل والله (2/181)
أعلم ذكره السهيلي
قال ابن هشام فحصره سنتين وقال غيره أربع سنين وذلك لأنه كان أغار على بلاد سابور في غيبته بأرض العراق فأشرفت بنت الساطرون وكان اسمها النضيرة فنظرت إلى سابور وعليه ثياب ديباج وعلى رأسه تاج من ذهب مكال بالزبرجد والياقوت واللؤلؤ وكان جميلا فدست إليه أتتزوجني أن فتحت لك باب الحضر فقال نعم فلما أمسى ساطرون شرب حتى سكر وكان لا يبيت إلا سكران فأخذت مفاتيح باب الحضر من تحت رأسه وبعثت بها مع مولى لها ففتح الباب ويقال بل دلتهم على نهر يدخل منه الماء متسع فولجوا منه إلى الحضر ويقال بل دلتهم على طلسم كان في الحضر وكان في علمهم أنه لا يفتح حتى تؤخذ حمامة ورقاء وتخضب رجلاها بحيض جارية بكر زرقاء ثم ترسل فإذا وقعت على سور الحضر سقط ذلك الطلسم فيفتح الباب ففعل ذلك فانفتح الباب فدخل سابور فقتل ساطرون واستباح الحضر وخربه وسار بها معه فتزوجها فبينا هي نائمة على فراشها ليلا إذ جعلت تململ لا تنام فدعا لها بالشمع ففتش فراشها فوجد عليه ورقة آس فقال لها سابور أهذا الذي أسهرك قالت نعم قال فما كان أبوك يصنع بك قالت كان يفرش لي الديباج ويلبسني الحرير ويطعمني المخ ويسقيني الخمر قال أفكان جزاء أبيك ما صنعت به أنت إلى بذلك أسرع فربطت قرون رأسها بذنب فرس ثم ركض الفرس حتى قتلها ففيه يقول أعشى بن قيس بن ثعلبة ... ألم تر للحضر إذ أهله ... بنعمى وهل خالد من نعم ( 1 ) ... أقام به شاهبور الجنود ... حولين تضرب فيه القدم ... فلما دعا ربه دعوة ... أناب إليه فلم ينتقم ... فهل زاده ربه قوة ... ومثل مجاوره لم يقم ... وكان دعا قومه دعوة ... هلموا إلى أمركم قد صرم ... فموتوا كراما بأسيافكم ... أرى الموت يجشمه من جشم ...
وقال عدي بن زيد في ذلك ... والحضر صابت عليه داهية ... من فوقه أيد مناكبها ... ربية لم توق والدها ... لحينها إذا أضاع راقبها ... إذ غبقته صهباء صافية ... والخمر وهل يهيم شاربها ... فأسلمت أهلها بليلتها ... تظن أن الرئيس خاطبها (2/182)
فكان حظ العروس إذ جشر ... الصبح دماء تجري سبائبها ... وخرب الحضر واستبيح وقد ... أحرق في خدرها مشاجبها ...
وقال عدي بن زيد أيضا ... أيها الشامت المعير بالدهر ... أأنت المبرا الموفور ... أم لديك العهد الوثيق من الأيام ... بل أنت جاهل مغرور ... من رأيت المنون خلدن أم ... من ذا عليه من أن يضام خفير ... أين كسرى كسرى الملوك أتو ... شروان أم أين قبله سابور ... وبنو الاصفر الكرام ملوك ... الروم لم يبق منهم مذكور ... وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجلة ... تجبي إليه والحلبور ... شاده مرمرا وجلله كاسا ... فللطير في ذراه وكور ... لم يهبه ريب المنون فبان ... الملك عنه فبابه مهجور ... وتذكر رب الخورنق إذ ... أشرف يوما وللهدى تفكير ... سره ماله وكثرة ما ... يملك والبحر معرضا والسدير ... فارعوى قلبه وقال وما غبطة ... حي إلى الممات يصير ... ثم اضحوا كأنهم ورق جف ... فألوت به الصبا والدبور ...
قلت ورب الخورنق الذي ذكره في شعره رجل من الملوك المتقدمين وعظه بعض علماء زمانه في أمره الذي كان قد أسرف فيه وعتا وتمرد فيه واتبع نفسه هواها ولم يراقب فيها مولاها فوعظه بمن سلف قبله من الملوك والدول وكيف بادوا ولم يبق منهم أحد وأنه ما صار إليه عن غيره إلا وهو منتقل عنه إلى من بعده فأخذته موعظته وبلغت منه كل مبلغ فارعوى لنفسه وفكر في يومه وأمسه وخاف من ضيق رمسه فتاب وأناب ونزع عما كان فيه وترك الملك ولبس ذي الفقراء وساح في الفلوات وحظى بالخلوات وخرج عما كان الناس فيه من اتباع الشهوات وعصيان رب السموات وقد ذكر قصته مبسوطة الشيخ الإمام موفق بن قدامة المقدسي رحمه الله في كتاب التوابين وكذلك أوردها بإسناد متين الحافظ أبو القاسم السهيلي في كتاب الروض الأنف المرتب أحسن ترتيب وأوضح تبيين
خبر ملوك الطوائف
وأما صاحب الحضر وهو ساطرون فقد تقدم أنه كان مقدما على سائر ملوك الطوائف وكان من زمن اسكندر بن فلبيس المقدوني اليوناني وذلك لأنه لما غلب على ملك الفرس دارا بن دارا وأذل (2/183)
مملكته وخرب بلاده واستباح بيضة قومه ونهب حواصله ومزق شمل الفرس شذر مذر عزم أن لا يجتمع لهم بعد ذلك شمل ولا يلتئم لهم أمر فجعل يقر كل ملك على طائفة من الناس في أقليم من أقاليم الأرض ما بين عربها وأعاجمها فاستمر كل ملك منهم يحمي حوزته ويحفظ حصته ويستغل محلته فإذا هلك قام ولده من بعده أو أحد قومه فاستمر الأمر كذلك قريبا من خمسمائة سنة حتى كان ازدشير بن بابك من بني ساسان بن بهمن بن أسفنديار بن يشتاسب بن لهراسب فأعاد ملكهم إلى ما كان عليه ورجعت الممالك برمتها إليه وأزال ممالك مملوك الطوائف ولم يبق منهم تالد ولا طارف وكان تأخر عليه حصار صاحب الحضر الذي كان أكبرهم وأشدهم وأعظمهم إذ كان رئيسهم ومقدمهم فلما مات أزدشير تصدى له ولده سابور فحاصره حتى أخذه كما تقدم والله سبحانه وتعالى أعلم
ذكر بني إسماعيل وما كان من أمور الجاهلية إلى زمان البعثة
تقدم ذكر إسماعيل نفسه عليه السلام مع ذكر الأنبياء وكيف كان من أمره حين احتمله أبوه براهيم الخليل عليه الصلاة و السلام مع أمه هاجر فأسكنها بوادي مكة بين جبال فاران حيث لاأنيس به ولا حسيس وكان إسماعيل رضيعا ثم ذهب وتركهما هنالك عن أمر الله له بذلك ليس عند أمه سوى جراب فيه تمر ووكاء فيه ماء فلما نفد ذلك أنبع الله لهاجر زمزم التي هي طعام طعم وشفاء سقم كما تقدم بيانه في حديث ابن عباس الطويل الذي رواه البخاري رحمه الله ثم نزلت جرهم وهي طائفة من العرب العاربة من أمم العرب الأقدمين عند هاجر بمكة على أن ليس لهم في الماء شيء إلا ما يشربون منه وينتفعون به فاستأنست هاجر بهم وجعل الخليل عليه السلام يطالع أمرهم في كل حين يقال إنه كان يركب البراق من بلاد بيت المقدس في ذهابه وإيابه ثم لما ترعرع الغلام وشب وبلغ مع أبيه السعي كانت قصة الذبح كما تقدم بيان أن الذبيح هو إسماعيل على الصحيح ثم لما كبر تزوج من جرهم امرأة ثم فارقها وتزوج غيرها وتزوج بالسيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي وجاءته بالبنين الاثنى عشر كما تقدم ذكرهم وهم نابت وقيذر ومنشا ومسمع وماشي ودما وأذر ويطور ونيشى وطيما وقيذما ( 1 ) هكذا ذكره محمد (2/184)
ابن إسحاق وغيره عن كتب أهل الكتاب وله ابنة واحدة اسمها نسمة وهي التي زوجها من ابن اخيه العيصو بن إسحاق بن إبراهيم فولد منها الروم وفارس والاشبان أيضا في احد القولين
ثم جميع عرب الحجاز على اختلاف قبائلهم يرجعون في أنسابهم إلى ولديه نابت وقيذر وكان الرئيس بعده والقائم بالأمور الحاكم في مكة والناظر في أمر البيت وزمزم نابت بن إسماعيل وهو ابن أخت الجرهميين ثم تغلبت جرهم على البيت طمعا في بني أختهم فحكموا بمكة وما والاها عوضا عن بني إسماعيل مدة طويلة فكان أول من صار إليه أمر البيت بعد نابت مضاص بن عمرو بن سعد بن الرقيب بن عيبر ( 1 ) بن نبت بن جرهم وجرهم بن قحطان ويقال جرهم بن يقطن بن عيبر بن شالخ بن ارفخشذ ابن سام بن نوح الجرهمي وكان نازلا بأعلى مكة بقعيقعان وكان السميدع سيد قطوراء نازلا بقومه في أسفل مكة وكل منهما يعشر من مر به مجتازا إلى مكة ثم وقع بين جرهم وقطوراء فاقتتلوا فقتل السميدع واستوثق الأمر لمضاض وهو الحاكم بمكة والبيت لا ينازعه في ذلك ولد إسماعيل مع كثرتهم وشرفهم وانتثارهم بمكة وبغيرها وذلك لخؤلتهم له ولعظمة البيت الحرام ثم صار الملك بعده إلى ابنه الحارث ثم إلى عمرو بن الحارث ثم بغت جرهم بمكة وأكثرت فيها الفساد وألحدوا بالمسجد الحرام حتى ذكر أن رجلا منهم يقال له اساف بن بغى وامرأة يقال لها نائلة بنت وائل اجتمعا في الكعبة فكان منه إليها الفاحشة فمسخهما الله حجرين فنصبهما الناس قريبا من البيت ليعتبروا بهما فلما طال المطال بعد ذلك بمدد عبدا من دون الله في زمن خزاعة كما سيأتي بيانه في موضعه فكانا صنمين منصوبين يقال لهما إساف ونائلة فلما أكثرت جرهم بالبغي بالبلد الحرام تمالأت عليهم خزاعة الذين كانوا نزلوا حول الحرم وكانوا من ذرية عمرو بن عامر الذي خرج من اليمن لأجل ما توقع من سيل العرم كما تقدم وقيل إن خزاعة من بني إسماعيل فالله أعلم
والمقصود أنهم اجتمعوا لحربهم وآذنوهم بالحرب واقتتلوا واعتزل بنو إسماعيل كلا الفريقين فغلبت خزاعة وهم بنو بكر بن عبد مناة وغبشان وأجلوهم عن البيت فعمد عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي وهو سيدهم إلى غزالي الكعبة وهما من ذهب وحجر الركن وهو الحجر الأسود وإلى سيوف محلاة وأشياء أخر فدفنها في زمزم وعلم زمزم وارتحل بقومه فرجعوا إلى اليمن وفي ذلك يقول عمرو بن الحارث ابن مضاض ... وفائلة والدمع سكب مبادر ... وقد شرقت بالدمع منها المحاجر ... كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر ... فقلت لها والقلب مني كأنما ... يلجلجه بين الجناحين طائر (2/185)
بلى نحن كنا أهلها فأزالنا ... صروف الليالي والجدود العواثر ... وكنا ولاة البيت من بعد نابت ... نطوف بذاك البيت والخير ظاهر ... ونحن ولينا البيت من بعد نابت ... بعز فما يحظى لدينا المكاثر ... ملكنا فعززنا فأعظم بملكنا ... فليس لحي غيرنا ثم فاخر ... ألم تنكحوا من خير شخص علمته ... فأبناؤه منا ونحن الأصاهر ... فإن تنثني الدنيا علينا بحالها ... فإن لها حالا وفيها التشاجر ... فأخرجنا منها المليك بقدرة ... كذلك يا للناس تجري المقادر ... أقول إذا نام الخلي ولم أنم ... أذا العرش لا يبعد سهيل وعامر ... وبدلت منها أو جهالا أحبها ... قبائل منها حمير ويحابر ... وصرنا أحاديثا وكنا بغبطة ... بذلك عفتنا السنون الغوابر ... فسحت دموع العين تبكي لبلدة ... بها حرم أمن وفيها المشاعر ... وتبكي لبيت ليس يؤذى حمامه ... يظل به أمنا وفيه العصافر ... وفيه وحوش لا ترام أنيسة ... إذا خرجت منه فليس تغادر ...
قال ابن إسحاق وقال عمرو بن الحارث بن مضاض أيضا يذكر بني بكر وغبشان الذين خلفوا بعدهم بمكة ... يا أيها الناس سيروا إن قصاركم ... أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا ... حثوا المطي وأرخوا من أزمتها ... قبل الممات وقضوا ما تقضونا ... كنا أناسا كما كنتم فغيرنا ... دهر فأنتم كما صرنا تصيرونا ...
قال ابن هشام هذا ماصح له منها وحدثني بعض أهل العلم بالشعر أن هذه الأبيات أول شعر قيل في العرب وأنها وجدت مكتوبة في حجر باليمن ولم يسم قائلها وذكر السهيلي لهذه الأبيات أخوة وحكى عندها حكاية معجبة وانشادات معربة قال وزاد أبو الوليد الأزرقي في كتابه فضائل مكة على هذه الأبيات المذكورة المنسوبة إلى عمرو بن الحارث بن مضاض ... قد مال دهر علينا ثم أهلكنا ... بالبغي فينا وبز الناس ناسونا ... واستخبروا في صنيع الناس قبلكم ... كما استبان طريق عنده الهونا ... كنا زمانا ملوك الناس قبلكم ... بمسكن في حرام الله مسكونا (2/186)
قصة خزاعة وعمرو بن لحي وعبادة العرب للأصنام
قال ابن إسحاق ثم أن غبشان من خزاعة وليت البيت دون بني بكر بن عبد مناة وكان الذي يليه منهم عمرو بن الحارث الغبشاني وقريش إذ ذاك حلول وصرم وبيوتات متفرقون في قومهم من بني كنانة قالوا وإنما سميت خزاعة خزاعة لأنهم تخزعوا من ولد عمرو بن عامر حين أقبلوا من اليمن يريدون الشام فنزلوا بمر الظهران فأقاموا به قال عون بن أيوب الأنصاري ثم الخزرجي في ذلك ... فلما هبطنا بطن مر تخزعت ... خزاعة منا في حلول كراكر ... حمت كل واد من تهامة واحتمت ... بصم القنا والمرهفات البواتر ...
وقال أبو المطهر إسماعيل بن رافع الأنصاري الأوسي ... فلما هبطنا بطن مكة أحمدت ... خزاعة دار الآكل المتحامل ... فحلت أكاريسا وشتت قنابلا ... على كل حي بين نجد وساحل ... نفوا جرهما عن بطن مكة واحتبوا ... بعز خزاعي شديد الكواهل ...
فوليت خزاعة البيت يتوارثون ذلك كابرا عن كابر حتى كان آخرهم حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة الخزاعي الذي تزوج قصي بن كلاب ابنته حبى فولدت له بنيه الأربعة عبد الدار وعبد مناف وعبد العزى وعبدا ثم صار امر البيت إليه كما سيأتي بيانه وتفصيله في موضعه إن شاء الله تعالى وبه الثقة واستمرت خزاعة على ولاية البيت نحوا من ثلاثمائة سنة وقيل خمسمائة سنة والله أعلم وكانوا سوس ( 1 ) في ولايتهم وذلك لان في زمانهم كان أول عبادة الأوثان بالحجاز وذلك بسبب رئيسهم عمرو بن لحي لعنه الله فإنه أول من دعاهم إلى ذلك وكان ذا مال جزيل جدا يقال أنه فقأ أعين عشرين بعيرا وذلك عبارة عن أنه ملك عشرين ألف بعير وكان من عادة العرب أن من ملك ألف بعير فقأ عين واحد منها لأنه يدفع بذلك العين عنها وممن ذكر ذلك الأزرقي وذكر السهيلي أنه ربما ذبح أيام الحجيج عشرة آلاف بدنة وكسى عشرة آلاف حلة في كل سنة يطعم العرب ويحيس لهم الحيس بالسمن والعسل ويلت لهم السويق قالوا وكان قوله وفعله فيهم كالشرع المتبع لشرفه فيهم ومحلته عندهم وكرمه عليهم
قال ابن هشام حدثني بعض أهل العلم أن عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره (2/187)
فلما قدم آب من أرض البلقاء وبها يومئذ العماليق وهم ولد عملاق ويقال ولد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح رآهم يعبدون الأصنام فقال لهم ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون قالوا له هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا فقال لهم ألا تعطوني منها صنما فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه فأعطوه صنما يقال له هبل فقدم به مكة فنصبه وأمر الناس بعبادته وتعظيمه
قال ابن إسحاق ويزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل عليه السلام أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن منهم حين ضاقت عليهم والتمسوا الفسح في البلاد إلا حمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم فحيث ما نزلوا وضعوه فطافوا به كطوافهم بالكعبة حتى سلخ ذلك بهم إلى أن كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة وأعجبهم حتى خلفت الخلوف ونسوا ما كانوا عليه
وفي الصحيح عن أبي رجاء العطاردي قال كنا في الجاهلية إذا لم نجد حجرا جمعنا حثية من التراب وجئنا بالشاة فحلبناها عليه ثم طفنا بها
قال ابن اسحاق واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام غيره فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم قبلهم من الضلالات وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم عليه السلام يتمسكون بها من تعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة والوقوف على عرفات والمزدلفة وهدي البدن والاهلال بالحج والعمرة مع ادخالهم فيه ما ليس منه فكانت كنانة وقريش إذا هلوا قالوا لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك فيوحدونه بالتلبية ثم يدخلون معه أصنامهم ويجعلون ملكها بيده يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه و سلم وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون أي ما يوحدونني لمعرفة حقي إلا جعلوا معي شريكا من خلقي
وقد ذكر السهيلي وغيره أن أول من لبى هذه التلبية عمرو بن لحي وأن إبليس تبدى له في صورة شيخ فجعل يلقنه ذلك فيسمع منه ويقول كما يقول واتبعه العرب في ذلك
وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا سمعهم يقولون لبيك لا شريك لك يقول قد قد أي حسب حسب وقد قال البخاري ثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا يحيى بن آدم نا إسرائيل عن أبي حفص عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن أول من سيب السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر وإني رأيته يجر أمعاءه في النار تفرد به أحمد من هذا الوجه وهذا يقتضي أن عمرو بن لحي هو أبو خزاعة الذي تنسب إليه القبيلة بكمالها كما زعمه بعضهم من أهل النسب فيما حكاه ابن إسحاق وغيره ولو تركنا مجرد هذا لكان ظاهرا في ذلك بل كالنص ولكن قد جاء ما يخالفه من بعض الوجوه فقال البخاري وقال أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال سمعت سعيد بن المسيب قال البحيرة التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس والسائبة التي كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها (2/188)
شيء قال وقال أبو هريرة قال النبي صلى الله عليه و سلم رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبة في النار كان أول من سيب السوائب وهكذا رواه البخاري ايضا ومسلم من حديث صالح بن كيسان عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة به ثم قال البخاري ورواه ابن الهاد عن الزهري قال الحاكم أراد البخاري رواه ابن الهاد عن عبد الوهاب بن بخت عن الزهري كذا قال
وقد رواه أحمد عن عمرو بن سلمة الخزاعي عن الليث بن سعد عن يزيد بن الهاد عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول رأيت عمرو بن عامر يجر قصبه في النار وكان أول من سيب السوائب وبحر البحيرة ولم يذكر بينهما عبد الوهاب بن بخت كما قال الحاكم فالله أعلم
وقال أحمد أيضا حدثنا عبد الرازق حدثنا معمر عن الزهري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار وهو أول من سيب السوائب وهذا منقطع من هذا الوجه والصحيح الزهري عن سعيد عنه كما تقدم وقوله في هذا الحديث والذي قبله الخزاعي يدل على أنه ليس والد القبيلة بل منتسب إليها مع ما وقع في الرواية من قوله أبو خزاعة تصحيف من الراوي من أخو خزاعة أو أنه كان يكنى بأبي خزاعة ولا يكون ذلك من باب الأخبار بأنه أبو خزاعة كلهم والله أعلم
وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي أن أبا صالح السمان حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لأكثم بن الجون الخزاعي يا أكثم رأيت عمرو بن لحي ابن قمعة بن خندف يجر قصبة في النار فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا بك منه فقال أكثم عسى أن يضرني شبهه يا رسول الله قال لا إنك مؤمن وهو كافر إنه كان أول من غير دين إسماعيل فنصب الأوثان وبحر البحيرة وسيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي ليس في الكتب من هذا الوجه وقد رواه ابن جرير عن هناد بن عبدة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم بنحوه أو مثله وليس في الكتب أيضا وقال البخاري حدثني محمد بن أبي يعقوب ابو عبدالله الكرماني حدثنا حسان بن إبراهيم حدثنا يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا ورأيت عمرا يجر قصبة وهو أول من سيب السوائب تفرد به البخاري وروى الطبراني من طريق صالح عن ابن عباس مرفوعا في ذلك والمقصود أن عمرو بن لحي لعنه الله كان قد ابتدع لهم أشياء في الدين غير بها دين الخليل فاتبعه العرب في ذلك فضلوا بذلك ضلالا بعيدا بينا فظيعا شنيعا وقد أنكر الله تعالى عليهم في كتابه العزيز في غير ما آية منه فقال تعالى ولا تقولوا لم تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب الآية وقال تعالى ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون وقد تكلمنا على هذا كله مبسوطا وبينا اختلاف السلف في تفسير ذلك فمن أراد فليأخذه (2/189)
من ثم ولله الحمد والمنة وقال تعالى ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسئلن عما كنتم تفترون وقال تعالى وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركائهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم أنه حكيم عليم قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين
وقال البخاري في صحيحه
باب جهل العرب
حدثنا أبو النعمان حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة في سورة الأنعام قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين وقد ذكرنا تفسير هذه الآية وما كانوا ابتدعوه من الشرائع الباطلة الفاسدة التي ظنها كبيرهم عمرو بن لحي قبحه الله مصلحة ورحمة بالدواب والبهائم وهو كاذب مفتر في ذلك ومع هذا الجهل والضلال اتبعه هؤلاء الجهلة الطغام فيه بل قد تابعوه فيما هو أطم من ذلك وأعظم بكثير وهو عبادة الأوثان مع الله عز و جل وبدلوا ما كان الله بعث به إبراهيم خليله من الدين القويم والصراط المستقيم من توحيد عبادة الله وحده لا شريك له وتحريم الشرك وغيروا شعائر الحج ومعالم الدين بغير علم ولا برهان ولا دليل صحيح ولا ضعيف واتبعوا في ذلك من كان قبلهم من الأمم المشركين وشابهوا قوم نوح وكانوا أول من أشرك بالله وعبد الأصنام ولهذا بعث الله إليهم نوحا وكان أول رسول بعث ينهى عن عبادة الأصنام كما تقدم بيانه في قصة نوح وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا الآية قال ابن عباس كان هؤلاء قوما صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم فلما طال عليهم الأمد عبدوهم وقد بينا كيفية ما كان من أمرهم في عبادتهم بما أغنى عن إعادته ههنا
قال ابن إسحاق وغيره ثم صارت هذه الأصنام في العرب بعد تبديلهم دين إسماعيل فكان ود لبني كلب بن مرة بن غتلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة وكان منصوبا بدومة الجندل (2/190)
وكان سواع لبني هذيل بن الياس بن مدركة بن مضر وكان منصوبا بمكان يقال له رهاط وكان يغوث لبني أنعم من طيء ولأهل جرش من مذحج وكان منصوبا بجرش وكان يعوق منصوبا بأرض همدان من اليمن لبني خيوان بطن من همدان وكان نسر منصوبا بأرض حمير لقبيلة يقال لهم ذو الكلاع
قال ابن إسحاق وكان لخولان بأرضهم صنم يقال له عم أنس يقسمون له من أنعامهم وحروثهم قسما بينه وبين الله فيما يزعمون فما دخل في حق عم أنس من حق الله الذي قسموه له تركوه له وما دخل في حق الله من حق عم أنس ردوه عليه وفيهم أنزل الله وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا قال وكان لبني ملكان بن كنانة بن خزيمة بن مدركة صنم يقال له سعد صخرة بفلاة من أرضهم طويلة فأقبل رجل منهم بابل له مؤبلة ليقفها عليه التماس بركته فيما يزعم فلما رأته الابل وكانت مرعية لا تركب وكان الصنم يهراق عليه الدماء نفرت منه فذهبت في كل وجه وغضب ربها وأخذ حجرا فرماه به ثم قال لا بارك الله فيك نفرت على ابلي ثم خرج في طلبها فلما اجتمعت له قال ... أتينا إلى سعد ليجمع شملنا ... فشتتنا سعد فلا نحن من سعد ... وهل سعد إلا صخرة بتنوفة ... من الأرض لا يدعو لغي ولا رشد ...
قال ابن إسحاق وكان في دوس صنم لعمرو بن حممة الدوسي قال وكانت قريش قد اتخذت صنما على بئر في جوف الكعبة يقال له هبل وقد تقدم فيما ذكره ابن هشام أنه أول صنم نصبه عمرو بن لحي لعنه الله
قال ابن إسحاق واتخذوا إسافا ونائلة على موضع زمزم ينحرون عندهما ثم ذكر أنهما كانا رجلا وامرأة فوقع عليها في الكعبة فمسخهما الله حجرين ثم قال حدثني عبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة أنها قالت سمعت عائشة تقول ما زلنا نسمع أن اسافا ونائلة كانا رجلا وامرأة من جرهم أحدثا في الكعبة فمسخهما الله عز و جل حجرين والله أعلم وقد قيل إن الله لم يمهلهما حتى فجرا فيها بل مسخهما قبل ذلك فعند ذلك نصبا عند الصفا والمروة فلما كان عمرو بن لحي نقلهما فوضعهما على زمزم وطاف الناس بهما وفي ذلك يقول أبو طالب وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم ... بمفضي السيول من أساف ونائل ...
وقد ذكر الواقدي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما أمر بكسر نائلة يوم الفتح خرجت منها سوداء شمطاء تخمش وجهها وتدعو بالويل والثبور وقد ذكر السهيلي أن أجا وسلمى وهما جبلان بأرض الحجاز إنما سميا باسم رجل اسمه أجا بن عبد الحي فجر بسلمى بنت حام فصلبا في هذين الجبلين فعرفا بهما قال وكان بين أجا وسلمى صنم لطي يقال له قلس
قال ابن إسحاق واتخذ أهل كل دار في دارهم صنما يعبدونه فإذا أراد الرجل منهم سفرا تمسح به (2/191)
حين يركب فكان ذلك آخر ما يصنع حين يتوجه إلى سفره وإذا قدم من سفره تمسح به فكان ذلك أول ما يبدأ به قبل أن يدخل على أهله قال فلما بعث الله محمد صلى الله عليه و سلم بالتوحيد قالت قريش أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب قال ابن إسحاق وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة لها سدنة وحجاب وتهدي لها كما تهدي للكعبة وتطوف بها كطوافها بها وتنحر عندها وهي مع ذلك تعرف فضل الكعبة عليها لانها بناء إبراهيم الخليل عليه السلام ومسجده وكانت لقريش وبني كنانة العزى بنخلة وكانت سدنتها وحجابها بني شيبان من سليم حلفاء بني هاشم وقد خربها خالد بن الوليد زمن الفتح كما سيأتي قال وكانت اللات لثقيف بالطائف وكانت سدنتها وحجابها بني معتب من ثقيف وخربها أبو سفيان والمغيرة بن شعبة بعد مجيء أهل الطائف كما سيأتي قال وكانت مناة للأوس والخزرج ومن دان بدينهم من اهل المدينة على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد وقد خربها أبو سفيان أيضا وقيل علي بن أبي طالب كما سيأتي قال وكان ذو الخلصة لدوس وخثعم وبجيلة ومن كان ببلادهم من العرب بتبالة وكان يقال له الكعبة اليمانية ولبيت مكة الكعبة الشامية وقد خربه جرير بن عبدالله البجلي كما سيأتي قال وكان قلس لطي ومن يليها بجبلي طي بين أجا وسلمى وهما جبلان مشهوران كما تقدم قال وكان رآم بيتا لحمير وأهل اليمن كما تقدم ذكره في قصة تبع أحد ملوك حمير وقصة الحبرين حين خرباه وقتلا منه كلبا أسود قال وكانت رضاء بيتا لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم ولها يقول المستوغر واسمه كعب بن ربيعة بن كعب ... ولقد شددت على رضاء شدة ... فتركتها قفرا بقاع اسحما ... وأعان عبدالله في مكروهها ... وبمثل عبدالله أغشى المحرما ...
ويقال إن المستوغر هذا عاش ثلاثمائة سنة وثلاثين سنة وكان أطول مضر كلها عمرا وهو الذي يقول
... ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وعمرت من عدد السنين مئينا ... مائة حدتها بعدها مائتان لي ... وازددت من عدد الشهور سنينا ... هل ما بقي إلا كما قد فاتنا ... يوم يمر وليلة تحدونا ...
قال ابن هشام ويروي هذه الأبيات لزهير بن جناب بن هبل قال السهيلي ومن المعمرين الذين جازوا المائتين والثلاثمائة زهير هذا وعبيد بن شربة ودغفل بن حنظلة النسابة والربيع بن ضبع الفزاري وذو الأصبع العدواني ونصر بن دهمان بن أشجع بن ريث بن غطفان وكان قد اسود شعره بعد ابيضاضه وتقوم ظهره بعد اعوجاجه قال وكان ذ الكعبات لبكر وتغلب بن وائل وأياد بسنداد وله يقول أعشى بن قيس بن ثعلبة (2/192)
بين الخورنق والسدير وبارق ... والبيت ذي الشرفات من سنداد ...
وأول هذه القصيدة ... ولقد علمت وأن تطاول بي المدى ... أن السبيل سبيل ذي الأعواد ... ماذا أؤمل بعد آل محرق ... تركوا منازلهم وبعد إياد ... نزلوا بأنقرة يسيل عليهم ... ماء الفرات يجيء من أطواد ... أرض الخورنق والسدير وبارق ... والبيت ذي الكعبات من سنداد ... جرت الرياح على محل ديارهم ... فكأنما كانوا على ميعاد ... وأرى النعيم وكلما يلهى به ... يوما يصير إلى بلى ونفاد ...
قال السهيل الخورنق قصر بناه النعمان الأكبر لسابور ليكون ولده فيه عنده وبناه رجل يقال له سنمار في عشرين ولم ير بناء أعجب منه فخشي النعمان أن يبنى لغيره مثله فألقاه من أعلاه فقتله ففي ذلك يقول الشاعر ... جزاني جزاه الله شر جزائه ... جزاء سنمار وما كان ذا ذنب ... سوى رضفه البنيان عشرين حجة ... يعد عليه بالقرامد والسكب ... فلما انتهى البنيان يوما تمامه ... وآض كمثل الطود والباذخ الصعب ... رمى بسنمار على حق رأسه ... وذاك لعمر الله من أقبح الخطب ...
قال السهيلي أنشده الجاحظ في كتاب الحيوان والسنمار من أسماء القمر والمقصود أن هذه البيوت كلها هدمت لما جاء الإسلام جهز رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى كل بيت من هذه سرايا تخربه وإلى تلك الأصنام من كسرها حتى لم يبق للكعبة ما يضاهيها وعبدالله وحده لا شريك له كما سيأتي بيانه وتفصيله في مواضعه إن شاء الله تعالى وبه الثقة
خبر عدنان جد عرب الحجاز
لا خلاف أن عدنان من سلالة اسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام واختلفوا في عدة الآباء بينه وبين اسماعيل على أقوال كثيرة فأكثر ما قيل أربعون أبا وهو الموجود عند أهل الكتاب أخذوه من كتاب رخيا كاتب أرميا بن حلقيا على ما سنذكره وقيل بينهما ثلاثون وقيل عشرون وقيل خمسة عشر وقيل عشرة وقيل تسعة وقيل سبعة وقيل إن أقل ما قيل في ذلك أربعة لما رواه موسى بن يعقوب عن عبدالله بن وهب بن زمعة الزمعي عن عمته عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال معد بن عدنان (2/193)
ابن أدد بن زند بن اليرى بن اعراق الثرى قالت أم سلمة فزند هو الهميسع واليرى هو نابت وأعراق الثرى هو اسماعيل لأنه ابن ابراهيم وابراهيم لم تأكله النار كما أن النار لا تأكل الثرى قال الدارقطني لا نعرف زندا إلا في هذا الحديث وزند بن الجون وهو أبو دلامة الشاعر
قال الحافظ أبو القاسم السهيلي وغيره من الأئمة مدة ما بين عدنان إلى زمن اسماعيل أكثر من أن يكون بينهما أربعة أباء أو عشرة أو عشرون وذلك أن معد بن عدنان كان عمره زمن بخت نصر ثنتي عشرة سنة وقد ذكر أبو جعفر الطبري وغيره أن الله تعالى أوحى في ذلك الزمان إلى أرمياء بن حلقيا أن اذهب إلى بخت نصر فأعلمه أني قد سلطته على العرب وأمر الله أرميا أن يحمل معه معد بن عدنان على البراق كي لا تصيبه النقمة فيهم فإني مستخرج من صلبه نبيا كريما أختم به الرسل ففعل أرميا ذلك واحتمل معدا على البراق إلى أرض الشام فنشأ مع بني اسرائيل ممن بقي منهم بعد خراب بيت المقدس وتزوج هناك امرأة اسمها معانة بنت جوشن من بني دب بن جرهم قبل أن يرجع إلى بلاده ثم عاد بعد أن هدأت الفتن وتمحضت جزيرة العرب وكان رخيا كاتب أرمياء قد كتب نسبه في كتاب عنده ليكون في خزانة أرمياء فيحفظ نسب معد كذلك والله أعلم ولهذا كره مالك رحمه الله رفع النسب إلى ما بعد عدنان
قال السهيلي وإنما تكلمنا في رفع هذه الأنساب على مذهب من يرى ذلك ولم يكرهه كابن اسحاق والبخاري والزبير بن بكار والطبري وغيرهم من العلماء وأما مالك رحمه الله فقد سئل عن الرجل يرفع نسبه إلى آدم فكره ذلك وقال له من اين له علم ذلك فقيل له فإلى اسماعيل فأنكر ذلك أيضا وقال ومن يخبره به وكره أيضا أن يرفع في نسب الأنبياء مثل أن يقال ابراهيم بن فلان بن فلان هكذا ذكره المعيطي في كتابه
قال وقول مالك هذا نحو مما روى عن عروة بن الزبير أنه قال ما وجدنا أحدا يعرف ما بين عدنان واسماعيل وعن ابن عباس أنه قال بين عدنان واسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون وروى عن ابن عباس أيضا أنه كان إذا بلغ عدنان يقول كذب النسابون مرتين أو ثلاثا والأصح عن ابن مسعود مثله وقال عمر بن الخطاب إنما تنسب إلى عدنان وقال أبو عمر بن عبدالبر في كتابه الانباه في معرفة قبائل الرواه روى ابن لهيعة عن أبي الأسود أنه سمع عروة بن الزبير يقول ما وجدنا أحدا يعرف ما وراء عدنان ولا ما وراء قحطان الا تخرصا وقال أبو الأسود سمعت أبا بكر بن سليمان بن أبي خيثمة وكان من أعلم قريش بأشعارهم وأنسابهم يقول ما وجدنا أحدا يعرف ما وراء معد بن عدنان في شعر شاعر ولا علم عالم
قال أبو عمر وكان قوم من السلف منهم عبدالله بن مسعود وعمرو بن ميمون الأزدي ومحمد بن كعب القرظي إذا تلوا والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله قالوا كذب النسابون (2/194)
قال أبو عمر رحمه الله والمعنى عندنا في هذا غير ما ذهبوا والمراد أن من ادعى احصاء بني آدم فإنهم لا يعلمهم إلا الله الذي خلقهم وأما أنساب العرب فإن أهل العلم بأيامها وأنسابها قد وعوا وحفظوا جماهيرها وأمهات قبائلها واختلفوا في بعض فروع ذلك
قال أبو عمر والذي عليه أئمة هذا الشأن في نسب عدنان قالوا عدنان بن أدد بن مقوم بن ناحور بن تيرح بن يعرب بن يشجب بن نابت بن اسماعيل بن ابراهيم الخليل عليهما السلام وهكذا ذكره محمد بن اسحاق بن يسار في السيرة
قال ابن هشام ويقال عدنان بن أد يعني عدنان بن أد بن أدد ثم ساق أبو عمر بقية النسب إلى آدم كما قدمناه في قصة الخليل عليه السلام وأما الأنساب إلى عدنان من سائر قبائل العرب فمحفوظة شهيرة جدا لا يتمارى فيها اثنان والنسب النبوي إليه أظهر وأوضح من فلق الصبح وقد ورد حديث مرفوع بالنص عليه كما سنورده في موضعه بعد الكلام على قبائل العرب وذكر أنسابها وانتظامها في سلك النسب الشريف والأصل المنيف إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم وما أحسن ما نظم النسب النبوي الإمام أبو العباس عبدالله بن محمد الناشىء في قصيدته المشهورة المنسوبة إليه وهي قوله ... مدحت رسول الله أبغي بمدحه ... وفور حظوظي من كريم المآرب ... مدحت امرءا فاق ( 1 ) المديح موحدا ... بأوصافه عن مبعد ومقارب ... نبيا تسامى في المشارق نوره ... فلاحت هواديه لأهل المغارب ... أتتنا به الأنباء قبل مجيئه ... وشاعت به الأخبار في كل جانب ... وأصبحت الكهان تهتف باسمه ... وتنفي به رجم الظنون الكواذب ... وأنطقت الأصنام نطقا تبرأت ... إلى الله فيه من مقال الأكاذب ... وقالت لأهل الكفر قولا مبينا ... أتاكم نبي من لؤي بن غالب ... ورام استراق السمع جن فزيلت ... مقاعدهم منها رجوم الكواكب ... هدانا إلى ما لم نكن نهتدي له ... لطول العمى من واضحات المذاهب ... وجاء بآيات تبين أنها ... دلائل جبار مثيب معاقب ... فمنها انشقاق البدر حين تعممت ... شعوب الضيا منه رؤس الأخاشب ... ومنها نبوع الماء بين بنانه ... وقد عدم الوراد قرب المشارب ... فروى به جما غفيرا وأسهلت ... بأعناقه طوعا اكف المذانب (2/195)
وبئر طغت بالماء من مس سهمه ... ومن قبل لم تسمح بمذقة شارب ... وضرع مراه فاستدر ولم يكن ... به درة تصغي إلى كف حالب ... ونطق فصيح من ذراع مبينة ... لكيد عدو للعداوة ناصب ... وإخباره بالأمر من قبل كونه ... وعند بواديه بما في العواقب ... ومن تلكم الآيات وحي أتي به ... قريب المآني مستجم العجائب ... تقاصرت الأفكار عنه فلم يطع ... بليغا ولم يخطر على قلب خاطب ... حوى كل علم واحتوى كل حكمة ... وفات مرام المستمر الموارب ... أتانا به لا عن رؤية مرتيء ... ولا صحف مستمل ولا وصف كاتب ... يواتيه طورا في إجابة سائل ... وإفتاء مستفت ووعظ مخاطب ... واتيان برهان وفرض شرائع ... وقص احاديث ونص مآرب ... وتصريف أمثال وتثبيت حجة ... وتعريف ذي جحد وتوقيف كاذب ... وفي مجمع النادي وفي حومة الوغى ... وعند حدوث المعضلات الغرائب ... فيأتي على ما شئت من طرقاته ... قويم المعاني مستدر الضرائب ... يصدق منه البعض بعضا كأنما ... يلاحظ معناه بعين المراقب ... وعجز الورى عن أن يجيئوا بمثل ما ... وصفناه معلوم بطول التجارب ... تأتى بعبد الله أكرم والد ... تبلج منه عن كريم المناسب ... وشيبة ذي الحمد الذي فخرت به ... قريش على أهل العلى والمناصب ... ومن كان يستسقي الغمام بوجهه ... ويصدر عن آرائه في النوائب ... وهاشم الباني مشيد افتخاره ... بغر المساعي وامتنان المواهب ... وعبد مناف وهو علم قومه اشتطاط ... الأماني واحتكام الرغائب ... وإن قصيا من كريم غراسه ... لفي منهل لم يدن من كف قاضب ... به جمع الله القبائل بعد ما ... تقسمها نهب الاكف السوالب ... وحل كلاب من ذرى المجد معقلا ... تقاصر عنه كل دان وغائب ... ومرة لم يحلل مريرة عزمه ... سفاه سفيه أو محوبة حائب ... وكعب علا عن طالب المجد كعبه ... فنال بأدنى السعي أعلا المراتب ... وألوى لؤي بالعداة فطوعت ... له همم الشم الانوف الأغالب ... وفي غالب بأس أبي البأس دونهم ... يدافع عنهم كل قرن مغالب (2/196)
وكانت لفهر في قريش خطابه ... بعوذ بها عند اشتجار المخاطب ... وما زال منهم مالك خير مالك ... وأكرم مصحوب وأكرم صاحب ... وللنضر طول يقصر الطرف دونه ... بحيث التقى ضوء النجوم الثواقب ... لعمري لقد أبدى كنانه قبله ... محاسن تأبى إن تطوع لغالب ... ومن قبله أبقى خزيمة حمده ... تليد تراث عن حميد الأقارب ... ومدركة لم يدرك الناس مثله ... أعف وأعلى عن دني المكاسب ... وإلياس كان اليأس منه مقارنا ... لأعدائه قبل اعتداد الكتائب ... وفي مضر يستجمع الفخر كله ... إذا اعتركت يوما زحوف المقانب ... وحل نزار من رياسة أهله ... محلا تسامى عن عيون الرواقب ... وكان معد عدة لولية ... إذا خاف من كيد العدو المحارب ... ومازال عدنان إذا عد فضله ... توحد فيه عن قرين وصاحب ... وأد تأدي الفضل منه بغاية ... وأرث حواه عن قروم اشايب ... وفي أدد حلم تزين بالحجا ... إذا الحلم أزهاه قطوب الحواجب ... ومازال يستعلي هميسع بالعلى ... ويتبع آمال البعيد المراغب ... ونبت بنته دوحة العز وابتنى ... معاقله في مشمخر الأهاضب ... وحيزت لقيذار سماحة حاتم ... وحكمة لقمان وهمه حاجب ... هموا نسل إسماعيل صادق وعده ... فما بعده في الفخر مسعى لذاهب ... وكان خليل الله أكرم من عنت ... له الأرض من ماش عليها وراكب ... وتارح مازالت له أريجة ... تبين منه عن حميد المضارب ... وناحور نحار العدى حفظت له ... مآثر لما يحصها عد حاسب ... وأشرع في الهيجاء ضيغم غابة ... يقد الطلى بالمرهفات القواضب ... وأرغو ناب في الحروب محكم ... ضنين على نفس المشح المغالب ... وما فالغ في فضله تلو قومه ... ولا عابر من دونهم في المراتب ... وشالخ وارفخشذ وسام سمت بهم ... سجايا في المصطفين الأطايب ... ولملك أبوه كان في الروع رائعا ... جريئا على نفس الكمي المضارب ... ومن قبل لملك لم يزل متوشلخ ... يذود العدى بالذائدات الشوازب (2/197)
وكانت لإدريس النبي منازل ... من الله لم تقرن بهمة راغب ... ويارد بحر عند آل سراته ... أبى الخزايا مستدق المآرب ... وكانت لمهلاييل فهم فضائل ... مهذبة من فاحشات المثالب ... وقينان من قبل اقتنى مجد قومه ... وفاد بشأو الفضل وخد الركائب ... وكان أنوش ناش للمجد نفسه ... ونزهها عن مرديات المطالب ... ومازال شيث بالفضائل فاضلا ... شريفا بريئا من ذميم المعائب ... وكلهم من نور آدم أقبسوا ... وعن عوده أجنوا ثمار المناقب ... وكان رسول الله أكرم منجب ... جرى في ظهور الطيبين المناجب ... مقابلة آباؤه أمهاته ... مبرأة من فاضحات المثالب ... عليه سلام الله في كل شارق ... ألاح لنا ضوءا وفي كل غارب ...
هكذا أورد القصيدة الشيخ أبو عمر بن عبدالبر وشيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي في تهذيبه من شعر الأستاذ أبي العباس عبدالله بن محمد الناشي المعروف بابن شرشير أصله من الأنبار ورد بغداد ثم ارتحل إلى مصر فأقام بها حتى مات سنة ثلاث وتسعين ومائتين وكان متكلما معتزليا يحكي عنه الشيخ أبو الحسن الأشعري في كتابه المقالات فيما يحكي عن المعتزلة وكان شاعرا مطبقا حتى أن من جملة اقتداره على الشعر كان يعاكس الشعراء في المعاني فينظم في مخالفتهم ويبتكر ما لا يطيقونه من المعاني البديعة والألفاظ البليغة حتى نسبه بعضهم إلى التهوس والاختلاط وذكر الخطيب البغدادي أن له قصيدة على قافية واحدة قريبا من أربعة آلاف بيت ذكرها الناجم وأرخ وفاته كما ذكرنا
قلت وهذه القصيدة تدل على فضيلته وبراعته وفصاحته وبلاغته وعلمه وفهمه وحفظه وحسن لفظه واطلاعه واضطلاعه واقتداره على نظم هذا النسب الشريف في سلك شعره وغوصه على هذه المعاني التي هي جواهر نفيسة من قاموس بحره فC وأثابه وأحسن مصيره وإيابه
أصول أنساب عرب الحجاز إلى عدنان
وذلك لأن عدنان ولد له ولدان معد وعك قال السهيلي ولعدنان أيضا ابن اسمه الحارث وآخر يقال له المذهب قال وقد ذكر أيضا في بنيه الضحاك وقيل إن الضحاك ابن لمعد لا ابن عدنان قال وقيل إن عدن الذي تعرف به مدينة عدن وكذلك أبين كانا ابنين لعدنان حكاه الطبري فتزوج عك في الأشعريين وسكن في بلادهم من اليمن فصارت لغتهم واحدة فزعم بعض أهل اليمن أنهم منهم فيقولون عك بن عدنان بن عبدالله بن الأزد بن يغوث ويقال عك بن عدنان بن الذيب بن عبدالله (2/198)
ابن الأسد ويقال الريث بدل الذيب والصحيح ما ذكرنا من أنهم من عدنان قال عباس بن مرداس ... وعك بن عدنان الذين تلعبوا ... بغسان حتى طردوا كل مطرد ...
وأما معد فولد له أربعة نزار وقضاعة وقنص وإياد وكان قضاعة بكره وبه كان يكنى وقد قدمنا الخلاف في قضاعة ولكن هذا هو الصحيح عند ابن اسحاق وغيره والله أعلم
وأما قنص فيقال إنهم هلكوا ولم يبق لهم بقية إلا أن النعمان بن المنذر الذي كان نائبا لكسرى على الحيرة كان من سلالته على قول طائفة من السلف وقيل بل كان من حمير كما تقدم والله أعلم
وأما نزار فولد له ربيعة ومضر وأنمار قال ابن هشام وإياد بن نزار كما قال الشاعر ... وفتو حسن أوجههم ... من إياد بن نزار بن معد ...
قال وإياد ومضر شقيقان أمهما سودة بنت عك بن عدنان وأم ربيعة وأنمار شقيقة بنت عك بن عدنان ويقال جمعة بنت عك بن عدنان قال ابن اسحاق فأما أنمار فهو والد خثعم وبجيلة قبيلة جرير بن عبدالله البجلي قال وقد تيامنت فلحقت باليمن قال ابن هشام وأهل اليمن يقولون أنمار بن أراش بن لحيان بن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ قلت والحديث المتقدم في ذكر سبأ يدل على هذا والله أعلم
قالوا وكان مضر أول من حدا وذلك لأنه كان حسن الصوت فسقط يوما عن بعيره فوثبت يده فجعل يقول وايدياه وايدياه فأعنقت الإبل لذلك قال ابن اسحاق فولد مضر بن نزار رجلين الياس وعيلان وولد لالياس مدركة وطابخة وقمعة وأمهم خندف بنت عمران بن الحاف بن قضاعة قال ابن اسحاق وكان اسم مدركة عامرا واسم طابخة عمرا ولكن اصطاد صيدا فبيناهما يطبخانه إذ نفرت الإبل فذهب عامر في طلبها حتى أدركها وجلس الآخر يطبخ فلما راحا على أبيهما ذكرا له ذلك فقال لعامر أنت مدركة وقال لعمرو أنت طابخة قال وأما قمعة فيزعم نساب مضران خزاعة من ولد عمرو ابن لحي بن قمعة بن الياس قلت والأظهر أنه منهم لا والدهم وأنهم من حمير كما تقدم والله أعلم
قال ابن اسحاق فولد مدركة خزيمة وهذيل وأمهما امرأة من قضاعة وولد خزيمة كنانة وأسدا وأسدة والهون وزاد أبو جعفر الطبري ( 1 ) في أبناء كنانة على هؤلاء الأربعة عامرا والحارث والنضير (2/199)
وغنما وسعدا وعوفا وجرولا والحدال وغزوان قال وولد كنانة النضر ومالكا وعبد مناة وملكان
قريش نسبا واشتقاقا وفضلا وهم بنو النضر بن كنانة
قال ابن اسحاق وأم النضر برة بنت مر بن أد بن طابخة وسائر بنيه لامرأة أخرى وخالفه ابن هشام فجعل برة بنت مرام النضر ومالك وملكان وأم عبد مناة هالة بنت سويد بن الغطريف من أزد شنوءة قال ابن هشام النضر هو قريش فمن كان من ولده فهو قرشي ومن لم يكن من ولده فليس بقرشي وقال ويقال فهر بن مالك هو قريش فمن كان من ولده فهو قرشي ومن لم يكن من ولده فليس بقرشي وهذان القولان قد حكاهما غير واحد من أئمة النسب كالشيخ أبي عمر بن عبدالبر والزبير بن بكار ومصعب وغير واحد قال أبو عبيد وابن عبدالبر والذي عليه الأكثرون أنه النضر بن كنانة لحديث الأسعد بن قيس قلت وهو الذي نص عليه هشام بن محمد بن السائب الكلبي وأبو عبيدة معمر بن المثنى وهو جادة مذهب الشافعي رضي الله عنه ثم اختار أبو عمر أنه فهر بن مالك واحتج بأنه ليس أحد اليوم ممن ينتسب إلى قريش إلا وهو يرجع في نسبه إلى فهر بن مالك ثم حكى اختيار هذا القول عن الزبير بن بكار ومصعب الزبيري وعلي بن كيسان قال وإليهم المرجع في هذا الشأن وقد قال الزبير بن بكار وقد أجمع نساب قريش وغيرهم أن قريشا إنما تفرقت من فهر بن مالك والذي عليه من أدركت من نساب قريش أن ولد فهر بن مالك قرشي وأن من جاوز فهر بن مالك بنسبه فليس من قريش ثم نصر هذا القول نصرا عزيزا وتحامى له بأنه ونحوه أعلم بأنساب قومهم وأحفظ لما آثرهم وقد روى البخاري من حديث كليب بن وائل قال قلت لربيبة النبي صلى الله عليه و سلم يعني زينب في حديث ذكره أخبريني عن النبي صلى الله عليه و سلم أكان من مضر قالت فممن كان إلا من مضر من بني النضر بن كنانة وقال الطبراني ثنا إبراهيم بن نائلة الأصبهاني حدثنا اسماعيل بن عمرو البجلي ثنا الحسن بن صالح عن أبيه عن الجشيش ( 1 ) الكندي قال جاء قوم من كندة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا أنت منا وادعوه فقال لا نحن بنو النضر بن كنانة لا نقف أمنا ولا ننتفي من أبينا
وقال الإمام أبو عثمان سعيد بن يحيى بن سعيد ثنا أبي ثنا الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس (2/200)
قال جاء رجل من كندة يقال له الجشيش إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله إنا نزعم أن عبد مناف منا فاعرض عنه ثم عاد فقال مثل ذلك ثم أعرض عنه ثم عاد فقال مثل ذلك فقال النبي صلى الله عليه و سلم نحن بنو النضر بن كنانة لا نقف أمنا ولا ننتفي من أبينا فقال الأشعث ألا كنت سكت من المرة الأولى فأبطل ذلك قولهم على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم وهذا غريب أيضا من هذا الوجه والكلبي ضعيف والله أعلم
وقد قال الإمام أحمد حدثنا بهز وعفان قالا ثنا حماد بن سلمة قال ثنى عقيل بن أبي طلحة وقال عفان عقيل بن طلحة السلمي عن مسلم بن الهيصم عن الأشعث بن قيس أنه قال أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم في وفد كندة قال عفان لا يروني أفضلهم قال فقلت يا رسول الله إنا نزعم أنكم منا قال فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم نحن بنو النضر بن كنانة لا نقف أمنا ولا ننتفي من أبينا قال فقال الأشعث بن قيس فوالله لا أسمع أحدا نفى قريشا من النضر بن كنانة إلا جلدته الحد وهكذا رواه ابن ماجه من طرق عن حماد بن سلمة به وهذا إسناد جيد قوي وهو فيصل في هذه المسألة فلا التفات إلى قول من خالفه والله أعلم ولله الحمد والمنة وقد قال جرير بن عطية التميمي يمدح هشام بن عبدالملك بن مروان ... فما الأم التي ولدت قريشا ... بمقرفة النجار ولا عقيم ... وما قرم بأنجب من أبيكم ... ولا خال بأكرم من تميم ...
قال ابن هشام يعني أم النضر بن كنانة وهي برة بنت مر أخت تميم بن مر
وأما اشتقاق قريش فقيل من التقرش وهو التجمع بعد التفرق وذلك في زمن قصي بن كلاب فإنهم كانوا متفرقين فجمعهم بالحرم كما سيأتي بيانه وقد قال حذافة بن غانم العدوي ... أبوكم قصي كان يدعى مجمعا ... به جمع الله القبائل من فهر ...
وقال بعضهم كان قصي يقال له قريش قيل من التجمع والتقرش التجمع كما قال أبو خلدة اليشكري ... إخوة قرشوا الذنوب علينا ... في حديث من دهرنا وقديم ...
وقيل سميت قريش من التقرشي وهو التكسب والتجارة حكاه ابن هشام رحمه الله وقال الجوهري القرش الكسب والجمع وقد قرش يقرش قال الفراء وبه سميت قريش وهي قبيلة وأبوهم النضر بن كنانة فكل من كان من ولده فهو قرشي دون ولد كنانة فما فوقه وقيل من التفتيش قال هشام بن الكلبي كان النضر بن كنانة تسمى قريشا لأنه كان يقرش عن خلة الناس وحاجتهم فيسدها بماله والتقريش هو التفتيش وكان بنوه يقرشون أهل الموسم عن الحاجة فيرفدونهم بما يبلغهم بلادهم فسموا بذلك من فعلهم وقرشهم قريشا وقد قال الحارث بن حلزة في بيان أن التقرش التفتيش ... أيها الناطق المقرش عما ... عند عمرو فهل له إبقاء ...
حكى ذلك الزبير بن بكار وقيل قريش تصغير قرش وهو دابة في البحر قال بعض الشعراء (2/201)
وقريش هي التي تسكن البحر ... بها سميت قريش قريشا ...
قال البيهقي أخبرنا أبو نصر بن قتادة أنا أبو الحسن علي بن عيسى الماليني حدثنا محمد بن الحسن بن الخليل النسوي أن أبا كريب حدثهم حدثنا وكيع بن الجراح عن هشام بن عروة عن أبيه عن أبي ركانة العامري أن معاوية قال لابن عباس فلم سميت قريش قريشا فقال لدابة تكون في البحر تكون أعظم دوابه فيقال لها القرش لا تمر بشيء من الغث والسمين إلا أكلته قال فأنشدني في ذلك شيئا فأنشده شعر الجمحي إذ يقول
... وقريش هي التي تسكن البحر ... بها سميت قريش قريشا ... تأكل الغث والسمين ولا ... تتركن لذي الجناحين ريشا ... هكذا في البلاد حي قريش ... يأكلون البلاد أكلا كميشا ... ولهم آخر الزمان نبي ... يكثر القتل فيهم والخموشا ...
وقيل سموا بقريش بن الحارث بن يخلد بن النضر بن كنانة وكان دليل بني النضر وصاحب ميرتهم فكانت العرب تقول قد جاءت عير قريش قالوا وابن بدر بن قريش هو الذي حفر البئر المنسوبة إليه التي كانت عندها الوقعة العظمى يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله أعلم
ويقال في النسبة إلى قريش قرشي وقريشي قال الجوهري وهو القياس قال الشاعر ... لكل قريشي عليه مهابة ... سريع إلى داعي الندا والتكرم ...
قال فإذا أردت بقريش الحي صرفته وإن أردت القبيلة منعته قال الشاعر في ترك الصرف ... وكفى قريش المعضلات وسادها ... ( 1 )
وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي عمر والأوزاعي قال حدثني شداد أبو عمار حدثني واثلة بن الأسقع قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله اصطفى كنانة من ولد اسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى هاشما من قريش واصطفاني من بني هاشم قال أبو عمر بن عبدالبر يقال بنو عبدالمطلب فصيلة رسول الله صلى الله عليه و سلم وبنو هاشم فخذه وبنو عبد مناف بطنه وقريش عمارته وبنو كنانة قبيلته ومضر شعبه صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين
ثم قال ابن اسحاق فولد النضر بن كنانة مالكا ومخلدا قال ابن هشام والصلت وأمهم جميعا بنت سعد بن الظرب العدواني قال كثير بن عبدالرحمن وهو كثير عزة أحد بني مليح بن عمرو من خزاعة (2/202)
أليس أبي بالصلت أم ليس إخوتي ... لكل هجان من بني النضر أزهرا ... رأيت ثياب العصب مختلط السدي ... بنا وبهم والحضرمي المخصرا ... فإن لم تكونوا من بني النضر فاتركوا ... أراكا بأذناب الفواتج أخضرا
... قال ابن هشام وبنو مليح بن عمرو يعزون إلى صلت بن النضر
قال ابن اسحاق فولد مالك بن النضر فهر بن مالك وأمه جندلة بنت الحارث بن مضاض الأصغر وولد فهر غالبا ومحاربا والحارث وأسدا وأمهم ليلى بنت سعد بن هذيل بن مدركة
قال ابن هشام وأختهم لأبيهم جندلة بنت فهر قال ابن اسحاق فولد غالب بن فهر لؤي بن غالب وتيم بن غالب وهم الذين يقال لهم بنو الأدرم وأمهما سلمى بنت عمرو الخزاعي قال ابن هشام وقيس بن غالب وأمه سلمى بنت كعب بن عمرو الخزاعي وهي أم لؤي قال ابن اسحاق فولد لؤي بن غالب أربعة نفر كعبا وعامرا وسامة وعوفا قال ابن هشام ويقال والحارث وهم جشم بن الحارث في هزان من ربيعة وسعد بن لؤي وهما بنانة في شيبان بن ثعلبة وبنانة حاضنة لهم وخزيمة بن لؤي وهم عايذة في شيبان بن ثعلبة
ثم ذكر ابن اسحاق خبر سامة بن لؤي وأنه خرج إلى عمان فكان بها وذلك لشنآن كان بينه وبين أخيه عامر فأخافه عامر فخرج عنه هاربا إلى عمان وأنه مات بها غريبا وذلك أنه كان يرعى ( 1 ) ناقته فعلقت حية بمشفرها فوقعت لشقها ثم نهشت الحية سامة حتى قتلته فيقال إنه كتب بأصبعه على الأرض ... عين فأبكي لسامة بن لؤي ... علقت ما بسامة العلاقه ... لا أرى مثل سامة بن لؤي ... يوم حلوا به قتيلا لناقه ... بلغا عامرا وكعبا رسولا ... أن نفسي إليهما مشتاقه ... إن تكن في عمان داري فإني ... غالبي خرجت من غير فاقه ... رب كأس هرقت يا ابن لؤي ... حذر الموت لم تكن مهراقه ... رمت دفع الحتوف يابن لؤي ... ما لمن رام ذاك بالحتف طاقة ... وخروس السرى تركت رزيا ... بعد جد وحدة ورشاقه ...
قال ابن هشام وبلغني ان بعض ولده أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فانتسب إلى سامة بن لؤي فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم آلشاعر فقال له بعض أصحابه كأنك يا رسول الله أردت قوله ... رب كأس هرقت يابن لؤي ... حذر الموت لم تكن مهراقه (2/203)
فقال أجل وذكر السهيلي عن بعضهم أنه لم يعقب وقال الزبير ولد أسامة بن لؤي غالبا والنبيت والحارث قالوا وكانت له ذرية بالعراق يبغضون عليا ومنهم علي بن الجعد كان يشتم أباه لكونه سماه عليا ومن بني سامة بن لؤي محمد بن عرعرة بن اليزيد شيخ البخاري
وقال ابن اسحاق وأما عوف بن لؤي فإنه خرج فيما يزعمون في ركب من قريش حتى إذا كان بأرض غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان أبطىء به فانطلق من كان معه من قومه فأتاه ثعلبة بن سعد وهو أخوه في نسب بني ذبيان فحبسه وزوجه والتاطه وآخاه فشاع نسبه في ذبيان وثعلبة فيما يزعمون
قال ابن اسحاق وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير أو محمد بن عبدالرحمن بن عبدالله بن الحصين أن عمر بن الخطاب قال لو كنت مدعيا حيا من العرب أو ملحقهم بنا لادعيت بني مرة بن عوف إنا لنعرف منهم الأشباه مع ما نعرف من موقع ذلك الرجل حيث وقع يعني عوف بن لؤي
قال ابن اسحاق وحدثني من لا أتهم أن عمر بن الخطاب قال لرجال منهم من بني مرة إن شئتم أن ترجعوا إلى نسبكم فارجعوا إليه قال ابن اسحاق وكان القوم أشرافا في غطفان هم سادتهم وقادتهم قوم لهم صيت في غطفان وقيس كلها فأقاموا على نسبهم قالوا وكانوا يقولون إذا ذكر لهم نسبهم ما ننكره وما نجحده وإنه لأحب النسب إلينا ثم ذكر أشعارهم في انتمائهم إلى لؤي قال ابن اسحاق وفيهم كان البسل وهو تحريم ثمانية أشهر لهم من كل سنة من بين العرب وكانت العرب تعرف لهم ذلك ويأمنونهم فيها ويؤمنونهم أيضا قلت وكانت ربيعة ومضر إنما يحرمون أربعة أشهر من السنة وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم واختلفت ربيعة ومضر في الرابع وهو رجب فقالت مضر هو الذي بين جمادى وشعبان وقالت ربيعة هو الذي بين شعبان وشوال وقد ثبت في الصحيحين عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال في خطبة حجة الوداع إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان فنص على ترجيح قول مضر لا ربيعة وقد قال الله عز و جل إن عدة الشهور عند الله اثنى عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم فهذا رد على بني عوف بن لؤي في جعلهم الأشهر الحرم ثمانية فزادوا على حكم الله وأدخلوا فيه ما ليس منه وقوله في الحديث ثلاث متواليات رد على أهل النسيء الذين كانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر وقوله فيه ورجب مضر رد على ربيعة قال ابن اسحاق فولد كعب بن لؤي ثلاثة مرة وعديا وهصيصا وولد مرة ثلاثة أيضا كلاب بن مرة وتيم بن مرة ويقظة بن مرة من أمهات ثلاث قال وولد كلاب رجلين قصي بن كلاب وزهرة بن كلاب وأمهما فاطمة بنت سعد بن سيل أحد الجدرة من جعثمة الأسد من اليمن حلفاء بني الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة وفي أبيها يقول الشاعر (2/204)
ما نرى في الناس شخصا واحدا ... من علمناه كسعد بن سيل ... فارسأ أضبط فيه عسرة ... وإذا ما واقف القرن نزل ... فأرسأ يستدرج الخيل كما استدرج ... الحر القطامي الحجل ...
قال السهيلي سيل اسمه خير بن جمالة وهو أول من طليت ( 1 ) له السيوف بالذهب والفضة
قال ابن اسحاق وانما سمو الجدرة لأن عامر بن عمرو بن خزيمة بن جعثمة تزوج بنت الحارث بن مضاض الجرهمي وكانت جرهم إذ ذاك ولاة البيت فبنى للكعبة جدارا فسمى عامر بذلك الجادر فقيل لولده الجدرة لذلك
خبر قصي بن كلاب وارتجاعه ولاية البيت إلى قريش وانتزاعه ذلك من خزاعة
وذلك أنه لما مات أبوه كلاب تزوج أمه ربيعة بن حرام من عذرة وخرج بها وبه إلى بلاده ثم قدم قصي مكة وهو شاب فتزوج حبى ابنة رئيس خزاعة خليل بن حبشية ( 2 ) فأما خزاعة فزعم أن حليلا أوصى إلى قصي بولاية البيت لما رأى من كثرة نسله من ابنته وقال أنت أحق بذلك مني قال (2/205)
ابن اسحاق ولم نسمع ذلك إلا منهم وأما غيرهم فإنهم يزعمون أنه استغاث بإخوته من أمه وكان رئيسهم رزاح بن ربيعة وأخوته وبني كنانة وقضاعة ومن حول مكة من قريش وغيرهم فأجلاهم عن البيت واستقل هو بولاية البيت لأن إجازة الحجيج كانت إلى صوفة وهم بنو الغوث بن مر بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر فكان الناس لا يرمون الجمار حتى يرموا ولا ينفرون من منى حتى ينفروا فلم يزل كذلك فيهم حتى انقرضوا فورثهم ذلك بالقعدد بنو سعد بن زيد مناة بن تميم فكان أولهم صفوان بن الحارث بن شجنة بن عطارد بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم وكان ذلك في بيته حتى قام على آخرهم الإسلام وهو كرب بن صفوان وكانت الإجازة من المزدلفة في عدوان حتى قام الإسلام على آخرهم وهو أبو سيارة عميلة بن الأعزل وقيل اسمه العاص واسم الأعزل خالد وكان يجيز بالناس على أتان له عوراء مكث يدفع عليها في الموقف أربعين سنة وهو أول من جعل الدية مائة وأول من كان يقول أشرق ثبير كيما نغير حكاه السهيلي
وكان عامر بن الظرب العدواني لا يكون بين العرب نائرة إلا تحاكموا إليه فيرضون بما يقضي به فتحاكموا إليه مرة في ميراث خنثى فبات ليلته ساهرا يتروى ماذا يحكم به فرأته جارية له كانت ترعى عليه غنمه اسمها سخيلة فقالت له ما لك لا أبالك الليلة ساهرا فذكر لها ما هو مفكر فيه وقال لعلها يكون عندها في ذلك شيء فقالت ابتع القضاء المبال فقال فرجتها والله يا سخيلة وحكم بذلك
قال السهيلي وهذا الحكم من باب الاستدلال بالإمارات والعلامات وله أصل في الشرع قال الله تعالى وجاءوا على قميصه بدم كذب حيث لا أثر لأنياب الذئب فيه وقال تعالى إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين وفي الحديث أنظروها فإن جاءت به أورق جعدا جماليا فهو الذي رميت به قال ابن اسحاق وكان النسيء في بني فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر قال ابن اسحاق وكان أول من نسأ الشهور على العرب القلمس وهو حذيفة بن عبد بن فقيم بن عدي ثم قام بعده ابنه عباد ثم قلع بن عباد ثم أمية بن قلع ثم عوف بن أمية ثم كان آخرهم أبو ثمامة جنادة بن عوف بن قلع بن عباد بن حذيفة وهو القلمس فعلى أبي ثمامة قام الإسلام وكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه فخطبهم فحرم الأشهر الحرم فإذا أراد أن يحل منها شيئا أحل المحرم وجعل مكانه صفرا ليواطئوا عدة ما حرم الله فيقول اللهم إني أحللت أحد الصفرين الصفر الأول وانسأت الآخر للعام المقبل فتتبعه العرب في ذلك ففي ذلك يقول عمير بن قيس أحد بني فراس بن غنم بن مالك بن كنانة ويعرف عمير بن قيس هذا بجدل الطعان ... لقد علمت معد أن قومي ... كرام الناس أن لهم كراما (2/206)
فأي الناس فاتوا بوتر ... وأي الناس لم نعلك لجاما ... ألسنا الناسئين على معد ... شهور الحل نجعلها حراما ...
وكان قصي في قومه سيدا رئيسا مطاعا معظما والمقصود أنه جمع قريشا من متفرقات مواضعهم من جزيرة العرب واستعان بمن أطاعه من أحياء العرب على حرب خزاعة واجلائهم عن البيت وتسليمه إلى قصي فكان بينهم قتال كثيرة ودماء غزيرة ثم تداعوا إلى التحكيم فتحاكموا إلى يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة فحكم بأن قصيا أولى بالبيت من خزاعة وإن كل دم أصابه قصي من خزاعة وبني بكر موضوع بشدخه تحت قدميه وأن ما أصابته خزاعة وبنو بكر من قريش وكنانة وقضاعة ففيه الدية مؤداة وأن يخلى بين قصي وبين مكة والكعبة فسمي يعمر يومئذ الشداخ
قال ابن اسحاق فولي قصي البيت وأمر مكة وجمع قومه من منازلهم إلى مكة وتملك على قومه وأهل مكة فملكوه إلا أنه أقر العرب على ما كانوا عليه لأنه يرى ذلك دينا في نفسه لا ينبغي تغييره فأقر آل صفوان وعدوان والنسأة ومرة بن عوف على ما كانوا عليه حتى جاء الإسلام فهدم الله به ذلك كله قال فكان قصي أول بني كعب أصاب ملكا أطاع له به قومه وكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء فحاز شرف مكة كله وقطع مكة رباعا بين قومه فأنزل كل قوم من قريش منازلهم من مكة
قلت فرجع الحق إلى نصابه ورد شارد العدل بعد إيابه واستقرت بقريش الدار وقضت من خزاعة المراد والأوطار وتسلمت بيتهم العتيق القديم لكن بما أحدثت خزاعة من عبادة الأوثان ونصبها إياها حول الكعبة ونحرهم لها وتضرعهم عندها واستنصارهم بها وطلبهم الرزق منها وأنزل قصي قبائل قريش أباطح مكة وأنزل طائفة منهم ظواهرها فكان يقال قريش البطاح وقريش الظواهر فكانت لقصي بن كلاب جميع الرئاسة من حجابة البيت وسدانته واللواء وبنى دارا لإزاحة الظلمات وفصل الخصومات سماها دار الندوة إذا أعضلت قضية اجتمع الرؤساء من كل قبيلة فاشتوروا فيها وفصلوها ولا يعقد عقد لواء ولا عقد نكاح إلا بها ولا تبلغ جارية أن تدرع فتدرع إلا بها وكان باب هذه الدار إلى المسجد الحرام ثم صارت هذه الدار فيما بعد إلى حكيم بن حزام بعد بني عبد الدار فباعها في زمن معاوية بمائة ألف درهم فلامه على بيعها معاوية وقال بعت شرف قومك بمائة ألف فقال إنما الشرف اليوم بالتقوى والله لقد ابتعتها في الجاهلية بزق خمر وها أنا قد بعتها بمائة ألف وأشهدكم أن ثمنها صدقة في سبيل الله فأينا المغبون ذكره الدارقطني في أسماء رجال الموطأ وكانت إليه سقاية الحجيج فلا يشربون إلا من ماء حياضه وكانت زمزم إذ ذاك مطموسة من زمن جرهم قد تناسوا أمرها من تقادم عهدها ولا يهتدون إلى موضعها قال الواقدي وكان قصي أول من أحدث وقيد النار بالمزدلفة ليهتدي إليها من يأتي من عرفات والرفادة وهي إطعام الحجيج أيام الموسم الى أن يخرجوا راجعين إلى بلادهم (2/207)
قال ابن اسحاق وذلك أن قصيا فرضه عليهم فقال لهم يا معشر قريش إنكم جيران الله وأهل مكة وأهل الحرم وأن الحجاج ضيف الله وزوار بيته وهم أحق بالضيافة فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحج حتى يصدروا عنكم ففعلوا فكانوا يخرجون لذلك في كل عام من أموالهم خرجا فيدفعونه إليه فيصنعه طعاما للناس أيام منى فجرى ذلك من أمره في الجاهلية حتى قام الإسلام ثم جرى في الإسلام إلى يومك هذا فهو الطعام الذي يصنعه السلطان كل عام بمنى للناس حتى ينقضي الحج
قلت ثم انقطع هذا بعد ابن اسحاق ثم أمر بإخراج طائفة من بيت المال فيصرف في حمل زاد وماء لأبناء السبيل القاصدين إلى الحج وهذا صنيع حسن من وجوه يطول ذكرها ولكن الواجب أن يكون ذلك من خالص بيت المال من أحل ما فيه والأولى أن يكون من جوالي الذمة لأنهم لا يحجون البيت العتيق وقد جاء في الحديث من استطاع الحج فلم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا
وقال قائلهم في مدح قصي وشرفه في قومه ... قصي لعمري كان يدعى مجمعا ... به جمع الله القبائل من فهر ... همو املؤا البطحاء مجدا وسؤددا ... وهم طردوا عنا غواة بني بكر ...
قال ابن اسحاق ولما فرغ قصي من حربه انصرف أخوه رزاح بن ربيعة إلى بلاده بمن معه وإخوته من أبيه الثلاثة وهم حن ومحمود وجلهمة قال رزاح في إجابته قصيا ... ولما أتى من قصي رسول ... فقال الرسول أجيبوا الخليلا ... نهضنا إليه نقود الجياد ... ونطرح عنا الملول الثقيلا ... نسير بها الليل حتى الصباح ... ونكمي النهار لئلا نزولا ... فهن سراع كورد القطا ... يجبن بنا من قصي رسولا ... جمعنا من السرمن اشمذين ( 1 ) ... ومن كل حي جمعنا قبيلا ... فيالك حلبة ما ليلة ... تزيد على الألف سيبا رسيلا ... فلما مررن على عسجر ... وأسهلن من مستناخ سبيلا ... وجاوزن بالركن من ورقان ... وجاوزن بالعرج حيا حلولا ... مررن على الحلي ما ذقنه ... وعالجن من مر ليلا طويلا ... ندني من العوذ أفلاءها ... ارادة أن يسترقن الصهيلا ... فلما انتهينا إلى مكة ... أبحنا الرجال قبيلا قبيلا ... نعاورهم ثم حد السيوف ... وفي كل أوب خلسنا العقولا (2/208)
نخبزهم ( 1 ) بصلاب النسور ... خبز القوي العزيز الذليلا ... قتلنا خزاعة في دارها ... وبكرا قتلنا وجيلا فجيلا ... نفيناهم من بلاد المليك ... كما لا يحلون أرضا سهولا ... فأصبح سيبهم في الحديد ... ومن كل حي شفينا الغليلا ...
قال ابن اسحاق فلما رجع رزاح إلى بلاده نشره الله ونشر حنا فهما قبيلا عذرة إلى اليوم
قال ابن اسحاق وقال قصي بن كلاب في ذلك ... أنا ابن العاصمين بني لؤي ... بمكة منزلي وبها ربيت ... إلى البطحاء قد علمت معد ... ومروتها رضيت بها رضيت ... فلست لغالب أن لم تأثل ... بها أولاد قيذر والنبيت ... رزاح ناصري وبه أسامي ... فلست أخاف ضيما ما حييت ...
وقد ذكر الأموي عن الأشرم عن أبي عبيدة عن محمد بن حفص أن رزاحا إنما قدم بعدما نفى قصي خزاعة والله أعلم فصل
ثم لما كبر قصي فوض أمر هذه الوظائف التي كانت إليه من رئاسات قريش وشرفها من الرفادة والسقاية والحجابة واللواء والندوة إلى ابنه عبد الدار وكان أكبر ولده وإنما خصصه بها كلها لأن بقية أخوته عبد مناف وعبد الشمس وعبدا كانوا قد شرفوا في زمن أبيهم وبلغوا في قوتهم شرفا كبيرا فأحب قصي أن يلحق بهم عبد الدار في السؤدد فخصصه بذلك فكان أخوته لا ينازعونه في ذلك فلما انقرضوا تشاجر أبناؤهم في ذلك وقالوا إنما خصص قصي عبد الدار بذلك ليلحقه بإخوته فنحن نستحق ما كان آباؤنا يستحقونه وقال بنو عبد الدار هذا أمر جعله لنا قصي فنحن أحق به واختلفوا اختلافا كثيرا وانقسمت بطون قريش فرقتين ففرقة بايعت عبد الدار وحالفتهم وفرقة بايعت بني عبد مناف وحالفوهم على ذلك ووضعوا أيديهم عند الحلف في جفنة فيها طيب ثم لما قاموا مسحوا أيديهم بأركان الكعبة فسموا حلف المطيبين وكان منهم من قبائل قريش بنو أسد بن عبد العزى بن قصي وبنو زهرة وبنو تيم وبنو الحارث بن فهر وكان مع بني عبد الدار بنو مخزوم وبنو سهم وبنو جمح وبنو عدي واعتزلت بنو عامر بن لؤي ومحارب بن فهر الجميع فلم يكونوا مع واحد منهما ثم اصطلحوا واتفقوا على أن تكون الرفادة والسقاية لبني عبد مناف وأن تستقر الحجابة واللواء والندوة في بني عبد الدار فانبرم الأمر على ذلك واستمر (2/209)
وحكى الأموي عن الأشرم عن أبي عبيدة قال وزعم قوم من خزاعة أن قصيا لما تزوج حبى بنت حليل ونقل حليل عن ولاية البيت جعلها إلى ابنته حبى واستناب عنها أبا غبشان سليم بن عمرو بن لؤي بن ملكان بن قصي بن حارثة بن عمرو بن عامر فاشترى قصي ولاية البيت منه بزق خمر وقعود فكان يقال أخسر من صفقة أبي غبشان ولما رأت خزاعة ذلك اشتدوا على قصي فاستنصر أخاه فقدم بمن معه وكان ما كان ثم فوض قصي هذه الجهات التي كانت إليه من السدانة والحجابة واللواء والندوة والرفادة والسقاية إلى ابنه عبد الدار كما سيأتي تفصيله وإيضاحه وأقر الإجازة من مزدلفة في بني عدوان وأقر النسيء في فقيم وأقر الإجازة وهو النفر في صوفة كما تقدم بيان ذلك كله مما كان بأيديهم قبل ذلك
قال ابن اسحاق فولد قصي أربعة نفر وامرأتين عبد مناف وعبد الدار وعبد العزى وعبدا وتخمر وبرة وأمهم كلهم حبى بنت حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعي وهو آخر من ولى البيت من خزاعة ومن يده أخذ البيت قصي بن كلاب قال ابن هشام فولد عبد مناف بن قصي أربعة نفر هاشما وعبد شمس والمطلب وأمهم عاتكة بنت مرة بن هلال ونوفل بن عبد مناف وأمه واقدة بنت عمرو المازنية قال ابن هشام وولد لعبد مناف أيضا أبو عمرو وتماضر وقلابة وحية وريطة وأم الأخثم وأم سفيان قال ابن هشام وولد هاشم بن عبد مناف أربعة نفر وخمس نسوة عبدالمطلب واسدا وأبا صيفي ونضلة والشفا وخالدة وضعيفة ورقية وحية فأم عبدالمطلب ورقية سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار من المدينة وذكر أمهات الباقين قال وولد عبدالمطلب عشرة نفر وست نسوة وهم العباس وحمزة وعبدالله وأبو طالب واسمه عبد مناف لا عمران والزبير والحارث وكان بكر أبيه وبه كان يكنى وجحل ومنهم من يقول حجل وكان يلقب بالغيداق لكثرة خيره والمقوم وضرار وأبو لهب واسمه عبد العزى وصفية وأم حكيم البيضاء وعاتكة وأميمة وأروى وبرة وذكر أمهاتهم إلى أن قال وأم عبدالله وأبي طالب والزبير وجميع النساء إلا صفية فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان قال فولد عبدالله محمدا رسول الله صلى الله عليه و سلم سيد ولد آدم وأمه آمنة بن وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي ثم ذكر أمهاتها فأغرق إلى أن قال فهو أشرف ولد آدم حسبا وأفضلهم نسبا من قبل أبيه وأمه صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين وقد تقدم حديث الأوزاعي عن شداد أبي عمار عن واثلة بن الأسقع قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى هاشما من قريش واصطفاني من بني هاشم رواه مسلم وسيأتي بيان مولده الكريم وما ورد فيه من الأخبار والآثار وسنورد عند (2/210)
سرد النسب الشريف فوائد أخر ليست هاهنا إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان
ذكر جمل من الأحداث في الجاهلية
قد تقدم ما كان من أخذ جرهم ولاية البيت من بني اسماعيل طمعوا فيهم لأنهم أبناء بناتهم وما كان من توثب خزاعة على جرهم وانتزاعهم ولاية البيت منهم ثم ما كان من رجوع ذلك إلى قصي وبنيه واستمرار ذلك في أيديهم إلى أن بعث الله رسوله صلى الله عليه و سلم فأقر تلك الوظائف على ما كانت عليه
ذكر جماعة مشهورين في الجاهلية
خبر خالد بن سنان العبسي الذي كان في زمن الفترة وقد زعم بعضهم أنه كان نبيا والله أعلم
قال الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا أحمد بن زهير التستري حدثنا يحيى بن المعلى بن منصور الرازي حدثنا محمد بن الصلت حدثنا قيس بن الربيع عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال جاءت بنت خالد بن سنان إلى النبي صلى الله عليه و سلم فبسط لها ثوبه وقال بنت نبي ضيعه قومه وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار عن يحيى بن المعلى بن منصور عن محمد بن الصلت عن قيس عن سالم عن سعيد عن ابن عباس قال ذكر خالد بن سنان عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال ذاك نبي ضيعه قومه ثم قال ولا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه وكان قيس بن الربيع ثقة في نفسه إلا أنه كان رديء الحفظ وكان له ابن يدخل في أحاديثه ما ليس منها والله أعلم
قال البزار وقد رواه الثوري عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير مرسلا وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي حدثنا المعلى بن مهدي الموصلي قال حدثنا أبو عوانة عن أبي يونس عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلا من عبس يقال له خالد بن سنان قال لقومه إني أطفىء عنكم نار الحرتين فقال له رجل من قومه ( 1 ) والله يا خالد ما قلت لنا قط إلا حقا فما شأنك وشأن نار الحرتين تزعم أنك تطفئها فخرج خالد ومعه أناس من ( 2 ) قومه فيهم عمارة بن زياد فأتوها فإذا هي تخرج من شق جبل فخط لهم خالد خطة فأجلسهم فيها فقال إن أبطأت عليكم فلا تدعوني باسمي فخرجت كأنها خيل شقر يتبع بعضها بعضا فاستقبلها خالد فجعل يضربها بعصاه وهو يقول بدا بدا بدا كل هدى زعم ابن راعية المعزى أني لا أخرج منها وثيابي بيدي حتى دخل معها الشق فأبطأ عليهم فقال لهم عمارة بن زياد والله إن صاحبكم لو كان حيا لقد خرج إليكم بعد قالوا فادعوه باسمه قال فقالوا إنه قد نهانا أن ندعوه باسمه فدعوه باسمه فخرج وهو آخذ برأسه فقال ألم أنهكم أن تدعوني باسمي فقد والله قتلتموني فادفنوني فإذا مرت بكم الحمر فيها حمار أبتر فأنبشوني فإنكم تجدوني حيا فدفنوه فمرت بهم الحمر فيها حمار أبتر فقلنا أنبشوه فإنه أمرنا (2/211)
أن ننبشه فقال لهم عمارة لا تنبشوه لا والله لا تحدث مضر أنا ننبش موتانا وقد كان قال لهم خالد إن في عكن امرأته لوحين فإن أشكل عليكم أمر فانظروا فيهما فإنكم ستجدون ما تسألون عنه قال ولا يمسهما حائض فلما رجعوا إلى امرأته سألوها عنهما فأخرجتهما إليهم وهي حائض فذهب ما كان فيهما من علم
قال أبو يونس قال سماك بن حرب سئل عنه النبي صلى الله عليه و سلم فقال ذاك نبي أضاعه قومه قال أبو يونس قال سماك بن حرب إن ابن خالد بن سنان أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال مرحبا بابن أخي فهذا السياق موقوف على ابن عباس وليس فيه أنه كان نبيا والمرسلات التي فيها أنه نبي لا يحتج بها هاهنا والأشبه أنه كان رجلا صالحا له أحوال وكرامات فإنه إن كان في زمن الفترة فقد ثبت في صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال إن أولى الناس بعيسى بن مريم أنا لأنه ليس بيني وبينه نبي وإن كان قبلها فلا يمكن أن يكون نبيا لأن الله تعالى قال لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك وقد قال غير واحد من العلماء إن الله تعالى لم يبعث بعد اسماعيل نبيا في العرب إلا محمدا صلى الله عليه و سلم خاتم الأنبياء الذي دعا به إبراهيم الخليل باني الكعبة المكرمة التي جعلها الله قبلة لأهل الأرض شرعا وبشرت به الأنبياء لقومهم حتى كان آخر من بشر به عيسى بن مريم عليه السلام وبهذا المسلك بعينه يرد ما ذكره السهيلي وغيره من إرسال نبي من العرب يقال له شعيب بن ذي مهذم بن شعيب بن صفوان صاحب مدين وبعث إلى العرب أيضا حنظلة بن صفوان فكذبوهما فسلط الله على العرب بخت نصر فنال منهم من القتل والسبي نحو ما نال من بني إسرائيل وذلك في زمن معد بن عدنان والظاهر أن هؤلاء كانوا قوما صالحين يدعون إلى الخير والله أعلم وقد تقدم ذكر عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف في أخبار خزاعة بعد جرهم
حاتم الطائي أحد أجواد الجاهلية
وهو حاتم بن عبدالله بن سعد بن الحشرج بن امرىء القيس بن عدي بن أحزم بن أبي أحزم ( 1 ) واسمه هرومة بن ربيعة بن جرول بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيء أبو سفانة الطائي والد عدي بن حاتم الصحابي كان جوادا ممدحا في الجاهلية وكذلك كان ابنه في الإسلام وكانت لحاتم مآثر وأمور عجيبة وأخبار مستغربة في كرمه يطول ذكرها ولكن لم يكن يقصد بها وجه الله والدار الآخرة وإنما كان قصده السمعة والذكر قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده حدثنا محمد بن معمر حدثنا عبيد بن واقد القيسي حدثنا أبو نصر هو الناجي عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر قال ذكر حاتم عند النبي صلى الله عليه و سلم فقال ذاك أراد أمرا فأدركه حديث غريب قال الدارقطني تفرد به عبيد بن واقد عن أبي نصر الناجي ويقال إن اسمه حماد
قال ابن عساكر وقد فرق أبو أحمد الحاكم بين أبي نصر الناجي وبين أبي نصر حماد ولم يسم الناجي (2/212)
ووقع في بعض روايات الحافظ ابن عساكر عن أبي نصر شيبة الناجي والله أعلم
وقال الإمام أحمد حدثنا يزيد بن اسماعيل حدثنا سفيان عن سماك بن حرب عن مري بن قطري عن عدي بن حاتم قال قلت لرسول الله صلى الله عليه و سلم إن أبي كان يصل الرحم ويفعل ويفعل فهل له في ذلك يعني من أجر قال إن أباك طلب شيئا فأصابه وهكذا رواه أبو يعلى عن القواريري عن غندر عن شعبة عن سماك به وقال إن أباك أراد أمرا فأدركه يعني الذكر وهكذا رواه أبو القاسم البغوي عن علي بن الجعد عن شعبة به سواء وقد ثبت في الصحيح في الثلاثة الذين تسعر بهم جهنم منهم الرجل الذي ينفق ليقال إنه كريم فيكون جزاؤه أن يقال ذلك في الدنيا وكذا في العالم والمجاهد وفي الحديث الآخر في الصحيح أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن عبدالله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة فقالوا له كان يقري الضيف ويعتق ويتصدق فهل ينفعه ذلك فقال إنه لم يقل يوما من الدهر رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين هذا وقد كان من الأجواد المشهورين أيضا المطعمين في السنين الممحلة والأوقات المرملة وقال الحافظ أبو بكر البيهقي أنبأنا أبو عبدالله الحافظ حدثني أبو بكر محمد بن عبدالله بن يوسف العماني حدثنا أبو سعيد عبيد بن كثير بن عبدالواحد الكوفي حدثنا ضرار بن صرد حدثنا عاصم بن حميد عن أبي حمزة الثمالي عن عبدالرحمن بن جندب عن كميل بن زياد النخعي قال قال علي بن أبي طالب يا سبحان الله ما أزهد كثيرا من الناس في خير عجبا لرجل يجيئه أخوه المسلم في حاجة فلا يرى نفسه للخير أهلا فلو كان لا يرجو ثوابا ولا يخشى عقابا لكان ينبغي له أن يسارع في مكارم الأخلاق فإنها تدل على سبيل النجاح فقام إليه رجل وقال فداك أبي وأمي يا أمير المؤمنين أسمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم قال نعم وما هو خير منه لما أتى بسبايا طيء وقعت جارية حمراء لعساء زلفاء عيطاء شماء الأنف معتدلة القامة والهامة درماء الكعبين خدلجة الساقين لفاء الفخذين خميصة الخصرين ضامرة الكشحين مصقولة المتنين قال فلما رأيتها أعجبت بها وقلت لأطلبن إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فيجعلها في فيئي فلما تكلمت أنسيت جمالها لما رأيت من فصاحتها فقالت يا محمد إن رأيت أن تخلي عني ولا تشمت بي أحياء العرب فإني ابنة سيد قومي وإن أبي كان يحمي الذمار ويفك العاني ويشبع الجائع ويكسو العاري ويقري الضيف ويطعم الطعام ويفشي السلام ولم يرد طالب حاجة قط وأنا ابنة حاتم طيىء فقال النبي صلى الله عليه و سلم يا جارية هذه صفة المؤمنين حقا لو كان أبوك مؤمنا لترحمنا عليه خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق والله تعالى يحب مكارم الأخلاق فقام أبو بردة بن ينار فقال يا رسول الله والله يحب مكارم الأخلاق فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة أحد إلا بحسن الخلق
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا حدثني عمر بن بكر عن أبي عبدالرحمن الطائي هو القاسم بن عدي عن عثمان عن عركي بن حليس الطائي عن أبيه عن جده وكان أخا عدي بن حاتم لأمه قال قيل لنوار امرأة (2/213)
حاتم حدثينا عن حاتم قالت كل أمره كان عجبا أصابتنا سنة حصت كل شيء فاقشعرت لها الأرض واغبرت لها السماء وضنت المراضع على أولادها وراحت الإبل حدبا حدابير ما تبض بقطرة وحلقت المال وأنا لفي ليلة صنبر بعيدة ما بين الطرفين إذ تضاغى الأصبية من الجوع عبدالله وعدي وسفانة فوالله إن وجدنا شيئا نعللهم به فقام إلى أحد الصبيان فحمله وقمت إلى الصبية فعللتها فوالله إن سكتا إلا بعد هدأة من الليل ثم عدنا إلى الصبي الآخر فعللناه حتى سكت وما كاد ثم افترشنا قطيفة لنا شامية ذات خمل فاضجعنا الصبيان عليها ونمت أنا وهو في حجرة والصبيان بيننا ثم أقبل علي يعللني لأنام وعرفت ما يريد فتناومت فقال مالك أنمت فسكت فقال ما أراها إلا قد نامت وما بي نوم فلما أدلهم الليل وتهورت النجوم وهدأت الأصوات وسكنت الرجل إذ جانب البيت قد رفع فقال من هذا فولى حتى قلت إذا قد أسحرنا أو كدنا عاد فقال من هذا قالت جارتك فلانة يا أبا عدي ما وجدت على أحد معولا غيرك أتيتك من عند أصبية يتعاوون عواء الذئاب من الجوع قال أعجليهم علي قالت النوار فوثبت فقلت ماذا صنعت أضطجع والله لقد تضاغى أصبيتك فما وجدت ما تعللهم فكيف بهذه وبولدها فقال اسكتي فوالله لأشبعنك إن شاء الله قالت فأقبلت تحمل اثنين وتمشي جنبتيها أربعة كأنها نعامة حولها رئالها فقام إلى فرسه فوجأ بحربته في لبته ثم قدح زنده وأورى ناره ثم جاء بمدية فكشط عن جلده ثم دفع المدية إلى المرأة ثم قال دونك ثم قال ابعثي صبيانك فبعثتهم ثم قال سوءة أتأكلون شيئا دون أهل الصرم فجعل يطوف فيهم حتى هبوا وأقبلوا عليه والتفع في ثوبه ثم اضطجع ناحية ينظر إلينا والله ما ذاق مزعة وإنه لأحوجهم إليه فأصبحنا وما على الأرض منه إلا عظم وحافر
وقال الدارقطني حدثني القاضي أبو عبدالله المحاملي حدثنا عبدالله بن أبي سعد وحدثنا عثيم بن ثوابة بن حاتم الطائي عن أبيه عن جده قال قالت امرأة حاتم لحاتم يا أبا سفانة اشتهي أن آكل أنا وأنت طعاما وحدنا ليس عليه أحد فأمرها فحولت خيمتها من الجماعة على فرسخ وأمر بالطعام فهيء وهي مرخاة ستورها عليه وعليها فلما قارب نضج الطعام كشف عن رأسه ثم قال ... فلا تطبخي قدري وسترك دونها ... علي اذن ما تطبخين حرام ... ولكن بهذاك اليفاع فأوقدي ... بجزل إذا أوقدت لا بضرام ...
قال ثم كشف الستور وقدم الطعام ودعى الناس فأكل وأكلوا فقالت ما أتممت لي ما قلت فأجابها فاتى لا تطاوعني نفسي ونفسي أكرم علي من أن يثنى علي هذا وقد سبق لي السخاء ثم أنشأ يقول ... أمارس نفسي البخل حتى أعزها ... وأترك نفس الجود ما أستثيرها ... ولا تشتكيني جارتي غير أنها ... إذا غاب عنها بعلها لا أزورها ... سيبلغها خيري ويرجع بعلها ... إليها ولم تقصر عليها ستورها (2/214)
ومن شعر حاتم ... إذا ما بت أشرب فوق ري ... لسكر في الشراب فلا رويت ... إذا ما بت أختل عرس جاري ... ليخفيني الظلام فلا خفيت ... أأفضح جارتي وأخون جاري ... فلا والله أفعل ما حييت ...
ومن شعره أيضا ... ما ضر جارا لي أجاوره ... أن لا يكون لبابه ستر ... أغضي إذا ما جارتي برزت ... حتى يواري جارتي الخدر ...
ومن شعر حاتم أيضا ... وما من شيمتي شتم ابن عمي ... وما أنا مخلف من يرتجيني ... وكلمة حاسد من غير جرم ... سمعت وقلت مري فأنقذيني ... وعابوها علي فلم تعبني ... ولم يعرق لها يوما جبيني ... وذي وجهين يلقاني طليقا ... وليس إذا تغيب يأتسيني ... ظفرت بعيبه فكففت عنه ... محافظة على حسبي وديني ...
ومن شعره ... سلي البائس المقرور يا أم مالك ... إذا ما أتاني بين ناري ومجزري ... أأبسط وجهي إنه أول القرى ... وأبذل معروفي له دون منكري ...
وقال أيضا ... وإنك إن أعطيت بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا ...
وقال القاضي أبو الفرج المعافى بن زكرياء الجريري حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي حدثنا أبو العباس المبرد أخبرني الثوري عن أبي عبيدة قال لما بلغ حاتم طيء قول المتلمس ... قليل المال تصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير على الفساد ... وحفظ المال خير من فناه ... وعسف في البلاد بغير زاد ...
قال ماله قطع الله لسانه حمل الناس على البخل فهلا قال ... فلا الجود يفني المال قبل فنائه ... ولا البخل في مال الشحيح يزيد ... فلا تلتمس مالا بعيش مقتر ... لكل غد رزق يعود جديد ... ألم تر أن المال غاد ورائح ... وأن الذي يعطيك غير بعيد ...
قال القاضي أبو الفرج ولقد أحسن في قوله وأن الذي يعطيك غير بعيد ولو كان مسلما لرجى (2/215)
له الخير في معاده وقد قال الله في كتابه واسألوا الله من فضله وقال تعالى وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعانى وعن الوضاح بن معبد الطائي قال وفد حاتم الطائي على النعمان بن المنذر فأكرمه وأدناه ثم زوده عند انصرافه جملين ذهبا وورقا غير ما أعطاه من طرائف بلده فرحل فلما أشرف على أهله تلقته أعاريب طيء فقالت يا حاتم أتيت من عند الملك وأتينا من عند أهالينا بالفقر فقال حاتم هلم فخذوا ما بين يدي فتوزعوه فوثبواإلى ما بين يديه من حباء النعمان فاقتسموه فخرجت إلى حاتم طريفة جاريته فقالت له اتق الله وأبق على نفسك فما يدع هؤلاء دينارا ولا درهما ولا شاة ولا بعيرا فأنشأ يقول ... قالت طريفة ما تبقي دراهمنا ... وما بنا سرف فيها ولا خرق ... إن يفن ما عندنا فالله يرزقنا ... ممن سوانا ولسنا نحن نرتزق ... ما يألف الدرهم الكاري خرقتنا ... إلا يمر عليها ثم ينطلق ... إنا إذا اجتمعت يوما دراهمنا ... ظلت إلى سبل المعروف تستبق ...
وقال أبو بكر بن عياش قيل لحاتم هل في العرب أجود منك فقال كل العرب أجود مني ثم أنشأ يحدث قال نزلت على غلام من العرب يتيم ذات ليلة وكانت له مائة من الغنم فذبح لي شاة منها وأتاني بها فلما قرب إلى دماغها قلت ما أطيب هذا الدماغ قال فذهب فلم يزل يأتيني منه حتى قلت قد اكتفيت فلما أصبحت إذا هو قد ذبح المائة شاة وبقي لا شيء له فقيل فما صنعت به فقال ومتى أبلغ شكره ولو صنعت به كل شيء قال على كل حال فقال أعطيته مائة ناقة من خيار إبلي وقال محمد بن جعفر الخرائطي في كتاب مكارم الأخلاق حدثنا العباس بن الفضل الربعي حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثني حماد الراوية ومشيخة من مشيخة طيء قالوا كانت عنترة ( 1 ) بنت عفيف بن عمرو بن امرىء القيس أم حاتم طيء لا تمسك شيئا سخاء وجودا وكان اخوتها يمنعونها فتأبى وكانت امرأة موسرة فحبسوها في بيت سنة يطعمونها قوتها لعلها تكف عما تصنع ثم أخرجوها بعد سنة وقد ظنوا أنها قد تركت ذلك الخلق فدفعوا إليها صرمة من مالها وقالوا استمتعي بها فأتتها امرأة من هوازن وكانت تغشاها فسألتها فقالت دونك هذه الصرمة فقد والله مسني من الجوع ما آليت ان لا أمنع سائلا ثم أنشأت تقول ... لعمري لقدما عضني الجوع عضة ... فآليت أن لا أمنع الدهر جائعا ... فقولا لهذا اللائمي اليوم أعفني ... وان أنت لم تفعل فعض الأصابعا ... فماذا عساكم أن تقولوا لأختكم ... سوى عذلكم أو عذل من كان مانعا ... وماذا ترون اليوم إلا طبيعة ... فكيف بتركي يا ابن أمي الطبائعا (2/216)
وقال الهيثم بن عدي عن ملحان بن عركي بن عدي بن حاتم عن أبيه عن جده قال شهدت حاتما يكيد بنفسه فقال لي أي بني إني أعهد من نفسي ثلاث خصال والله ما خاتلت جارة لريبة قط ولا أو تمنت علي أمانة إلا أديتها ولا أوتي أحد من قبلي بسوء وقال أبو بكر الخرائطي حدثنا علي بن حرب حدثنا عبدالرحمن بن يحيى العدوي حدثنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبي مسكين يعني جعفر بن المحرر بن الوليد عن المحرر مولى أبي هريرة قال مر نفر من عبد القيس بقبر حاتم طيىء فنزلوا قريبا منه فقام إليه بعضهم يقال له أبو الخيبري فجعل يركض قبره برجله ويقول يا أبا جعد أقرنا فقال له بعض أصحابه ما تخاطب من رمة وقد بليت واجنهم الليل فناموا فقام صاحب القول فزعا يقول يا قوم عليكم بمطيكم فإن حاتما أتاني في النوم وأنشدني شعرا وقد حفظته يقول ... أبا الخيبري وأنت امرؤ ... ظلوم العشيرة شتامها ... أتيت بصحبك تبغي القرى ... لدي حفرة قد صدت هامها ... أتبغي لي الذنب عند المبيت ... وحولك طيء وأنعامها ... وإنا لنشبع أضيافنا ... وتأتي المطي فنعتامها ...
قال وإذا ناقة صاحب القول تكوس عقيرا فنحروها وقاموا يشتوون ويأكلون وقالوا والله لقد أضافنا حاتم حيا وميتا قال وأصبح القوم وأردفوا صاحبهم وساروا فإذا رجل ينوه بهم راكبا جملا ويقود آخر فقال أيكم أبو الخيبري قال أنا قال إن حاتما أتاني في النوم فأخبرني أنه قرى أصحابك ناقتك وأمرني أن أحملك وهذا بعير فخذه ودفعه إليه
شيء من أخبار عبدالله بن جدعان
هو عبدالله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة سيد بني تيم وهو ابن عم والد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وكان من الكرماء الأجواد في الجاهلية المطعمين للمسنتين وكان في بدء أمره فقيرا مملقا وكان شريرا يكتر من الجنايات حتى أبغضه قومه وعشيرته وأهله وقبيلته وأبغضوه حتى أبوه فخرج ذات يوم في شعاب مكة حائرا بائرا فرأى شقا في جبل فظن أن يكون به شيئا يؤذي فقصده لعله يموت فيستريح مما هو فيه فلما اقترب منه إذا ثعبان يخرج إليه ويثب عليه فجعل يحيد عنه ويثب فلا يغني شيئا فلما دنا منه إذا هو من ذهب وله عينان هما ياقوتتان فكسره وأخذه ودخل الغار فإذا فيه قبور لرجال من ملوك جرهم ومنهم الحارث بن مضاض الذي طالت غيبته فلا يدرى أين ذهب ووجد عند رؤسهم لوحا من ذهب فيه تاريخ وفاتهم ومدد ولايتهم وإذا عندهم من الجواهر واللآلىء والذهب والفضة شيء كثير فأخذ منه حاجته ثم خرج وعلم باب الغار ثم انصرف إلى قومه فأعطاهم حتى أحبوه وسادهم وجعل يطعم الناس وكلما قل ما في يده ذهب إلى ذلك الغار فأخذ حاجته ثم رجع فممن ذكر هذا (2/217)
عبدالملك بن هشام في كتاب التيجان وذكره أحمد بن عمار في كتاب ري العاطش وأنس الواحش وكانت له جفنة يأكل منها الراكب على بعيره ووقع فيها صغير فغرق وذكر ابن قتيبة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لقد كنت أستظل بظل جفنة عبدالله بن جدعان صكة عمي أي وقت الظهيرة وفي حديث مقتل أبي جهل أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لأصحابه تطلبوه بين القتلي وتعرفوه بشجة في ركبته فإني تزاحمت أنا وهو على مأدبة لابن جدعان فدفعته فسقط على ركبته فانهشمت فأثرها باق في ركبته فوجدوه كذلك وذكروا أنه كان يطعم التمر والسويق ويسقي اللبن حتى سمع قول أمية بن أبي الصلت ... ولقد رأيت الفاعلين وفعلهم ... فرأيت أكرمهم بني الديان ... البر يلبك بالشهاد طعامهم ... لا ما يعللنا بنو جدعان ...
فأرسل ابن جدعان إلى الشام ألفي بعير تحمل البر والشهد والسمن وجعل مناديا ينادي كل ليلة على ظهر الكعبة أن هلموا إلى جفنة ابن جدعان فقال أمية في ذلك ... له داع بمكة مشمعل ... وآخر فوق كعبتها ينادي ... إلى ردح من الشيزي ملاء ... لباب البر يلبك بالشهاد ...
ومع هذا كله فقد ثبت في الصحيح لمسلم أن عائشة قالت يا رسول الله إن ابن جدعان كان يطعم الطعام ويقري الضيف فهل ينفعه ذلك يوم القيامة فقال لا إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين
امرؤء القيس بن حجر الكندي صاحب إحدى المعلقات
وهي أفخرهن وأشهرهن التي أولها ... قفانبك من ذكري حبيب ومنزل ...
قال الإمام أحمد حدثنا هشام حدثنا أبو الجهم عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار وقد روى هذاالحديث عن هشام جماعة كثيرون منهم بشر بن الحكم والحسن بن عرفة وعبدالله بن هارون أمير المؤمنين المأمون أخو الأمين ويحيى بن معين وأخرجه ابن عدي من طريق عبدالرزاق عن الزهري به وهذا منقطع ورديء من وجه آخر عن أبي هريرة ولا يصح من غير هذا الوجه
وقال الحافظ ابن عساكر هو امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن يعرب بن ثور بن مرتع بن معاوية بن كندة أبو يزيد ويقال أبو وهب (2/218)
ويقال أبو الحارث الكندي كان بأعمال دمشق وقد ذكر مواضع منها في شعره فمن ذلك قوله ... قفانبك من ذكري حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل ... فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها ... لما نسجتها من جنوب وشمأل ...
قال وهذه مواضع معروفة بحوران ثم روى من طريق هشام بن محمد بن السائب الكلبي حدثني فروة بن سعيد بن عفيف بن معدي كرب عن أبيه عن جده قال بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ أقبل وفد من اليمن فقالوا يا رسول الله لقد أحيانا الله ببيتين من شعر امرىء القيس قال وكيف ذاك قالوا أقبلنا نريدك حتى إذا كنا ببعض الطريق أخطأنا الطريق فمكثنا ثلاثا لا نقدر على الماء فتفرقنا إلى أصول طلح وسمر ليموت كل رجل منا في ظل شجرة فبينا نحن بآخر رمق إذا راكب يوضع على بعير فلما رآه بعضنا قال والراكب يسمع ... ولما رأت أن الشريعة همها ... وأن البياض من فرائصها دامي ... تيممت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الظل عرمضها طامي ...
فقال الراكب ومن يقول هذا الشعر وقد رأى ما بنا من الجهد قال قلنا امرؤ القيس بن حجر قال والله ما كذب هذا ضارج عندكم فنظرنا فإذا بيننا وبين الماء نحو من خمسين ذراعا فحبونا إليه على الركب فإذا هو كما قال امرؤ القيس عليه العرمض يفيء عليه الظل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ذاك رجل مذكور في الدنيا منسي في الآخرة شريف في الدنيا خامل في الآخرة بيده لواء الشعراء يقودهم إلى النار
وذكر الكلبي أن امرأ القيس أقبل براياته يريد قتال بني أسد حين قتلوا أباه فمر بتبالة وبها ذو الخلصة وهو صنم وكانت العرب تستقسم عنده فاستقسم فخرج القدح الناهي ثم الثانية ثم الثالثة كذلك فكسر القداح وضرب بها وجه ذي الخلصة وقال عضضت بايرابيك لو كان أبوك المقتول لما عوقتني ثم أغار على بني أسد فقتلهم قتلا ذريعا قال ابن الكلبي فلم يستقسم عند ذي الخلصة حتى جاء الإسلام وذكر بعضهم أنه امتدح قيصر ملك الروم يستنجد في بعض الحروب ويسترفده فلم يجد ما يؤمله عنده فهجاه بعد ذلك فيقال إنه سقاه سما فقتله فالجأه الموت إلى جنب قبر امرأه عند جبل يقال له عسيب فكتب هنالك ... أجارتنا إن المزار قريب ... وإني مقيم ما أقام عسيب ... أجارتنا إنا غريبان ههنا ... وكل غريب للغريب نسيب ...
وذكروا أن المعلقات السبع كانت معلقة بالكعبة وذلك أن العرب كانوا إذا عمل أحدهم قصيدة عرضها على قريش فإن أجازوها علقوها على الكعبة تعظيما لشأنها فاجتمع من ذلك هذه المعلقات السبع فالأولى لامرىء القيس بن حجر الكندي كما تقدم وأولها (2/219)
قفانبك من ذكري حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل ... والثانية للنابغة الذبياني واسمه زياد بن معاوية ويقال زياد بن عمرو بن معاوية بن ضباب بن جابر بن يربوع بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض وأولها ... يا دار مية بالعلياء فالسند ... أقوت وطال عليها سالف الأبد ...
والثالثة لزهير بن أبي سلمى ربيعة بن رياح المزني وأولها ... أمن أم أوفى دمنة لم تكلم ... بحومانة الدراج فالمتثلم ...
والرابعة لطرفة بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل وأولها ... لخولة أطلال ببرقة ثهمد ... تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد ...
والخامسة لعنترة بن شداد بن معاوية بن قراد بن مخزوم بن ربيعة بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس العبسي وأولها ... هل غادر الشعراء من متردم ... أم هل عرفت الدار بعد توهم ...
والسادسة لعلقمة بن عبدة بن النعمان بن قيس أحد بني تميم وأولها ... طحا بك قلب في الحسان طروب ... بعيد الشباب عصر حان مشيب ...
والسابعة ومنهم من لا يثبتها في المعلقات وهو قول الأصمعي وغيره وهي للبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر وأولها ... عفت الديار محلها فمقامها ... بمنى تأبد غولها فرجامها ...
فأما القصيدة التي لا يعرف قائلها فيما ذكره أبو عبيدة والأصمعي والمبرد وغيرهم فهي قوله ... هل بالطلول لسائل رد ... أم هل لها بتكلم عهد ...
وهي مطولة وفيها معاني حسنة كثيرة
أخبار أمية بن أبي الصلت الثقفي
قال الحافظ ابن عساكر هو أمية بن أبي الصلت عبدالله بن أبي ربيعة بن عوف بن عقدة بن عزة بن عوف بن ثقيف بن منبه بن بكر بن هوازن أبو عثمان ويقال أبو الحكم الثقفي شاعر جاهلي قدم (2/220)
دمشق قبل الإسلام وقيل إنه كان مستقيما ( 1 ) وأنه كان في أول أمره على الإيمان ثم زاغ عنه وأنه هو الذي أراده الله تعالى بقوله واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين
قال الزبير بن بكار فولدت رقية بنت عبد شمس بن عبد مناف أمية الشاعر ابن أبي الصلت واسم أبي الصلت ربيعة بن وهب بن علاج بن أبي سلمة بن ثقيف وقال غيره كان أبوه من الشعراء المشهورين بالطائف وكان أمية أشعرهم
وقال عبد الرزاق قال الثوري أخبرني حبيب بن أبي ثابت أن عبدالله بن عمرو قال في قوله تعالى واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين هو أمية بن أبي الصلت وكذا رواه أبو بكر بن مردويه عن أبي بكر الشافعي عن معاذ بن المثنى عن مسدد عن أبي عوانة عن عبد الملك بن عمير عن نافع بن عاصم بن مسعود قال إني لفي حلقة فيها عبدالله بن عمرو فقرأ رجل من القوم الآية التي في الأعراف واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فقال هل تدرون من هو فقال بعضهم هو صيفي بن الراهب وقال آخر بل هو بلعم رجل من بني إسرائيل فقال لا قال فمن قال هو أمية بن أبي الصلت وهكذا قال أبو صالح والكلبي وحكاه قتادة عن بعضهم وقال الطبراني حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا عبدالله بن شبيب الربعي حدثنا محمد بن مسلمة بن هشام المخزومي حدثنا إسماعيل ابن الطريح بن إسماعيل الثقفي حدثني أبي عن أبيه عن مروان بن الحكم عن معاوية بن أبي سفيان عن أبيه قال خرجت أنا وأمية بن أبي الصلت الثقفي تجارا إلى الشام فكلما نزلنا منزلا اخذ أمية سفرا له يقرؤه علينا فكنا كذلك حتى نزلنا قرية من قرى النصارى فجاؤه وأكرموه وأهدوا له وذهب معهم إلى بيوتهم ثم رجع في وسط النهار فطرح ثوبيه وأخذ ثوبين له أسودين فلبسهما وقال لي هل لك يا أبا سفيان في عالم من علماء النصارى إليه يتناهي علم الكتاب تسأله قلت لا إرب لي فيه والله لئن حدثني بما أحب لا أثق به ولئن حدثني بما أكره لأجدن منه قال فذهب وخالفه شيخ من النصارى فدخل علي فقال ما يمنعك أن تذهب إلى هذا الشيخ قلت لست على دينه قال وإن فإنك تسمع منه عجبا وتراه ثم قال لي أثقفي أنت قلت لا ولكن قرشي قال فما يمنعك من الشيخ فوالله إنه ليحبكم ويوصي بكم قال فخرج من عندنا ومكث أمية عندهم حتى جاءنا بعد هدأة من الليل فطرح ثوبيه ثم انجدل على فراشه فوالله ما نام ولا قام حتى أصبح كئيبا حزينا ساقطا غبوقة على صبوحه ما يكلمنا ولا نكلمه ثم قال ألا ترحل قلت وهل بك من رحيل قال نعم فرحلنا فسرنا بذلك ليلتين ثم قال في الليلة الثالثة إلا تحدث يا أبا سفيان قلت وهل بك من حديث والله ما رأيت ( 2 ) مثل الذي رجعت به من عند صاحبك قال أما إن ذلك لشيء لست فيه إنما ذلك لشيء (2/221)
وجلت منه من منقلبي قلت وهل لك من منقلب قال أي والله لأموتن ثم لأحيين قال قلت هل أنت قابل أمانتي قال علي ماذا قلت على أنك لا تبعث ولا تحاسب قال فضحك ثم قال بلى والله يا أبا سفيان لنبعثن ثم لنحاسبن وليدخلن فريق الجنة وفريق النار قلت ففي أيهما أنت أخبرك صاحبك قال لا علم لصاحبي بذلك لا في ولا في نفسه قال فكنا في ذلك ليلتين يعجب مني وأضحك منه حتى قدمنا غوطة دمشق فبعنا متاعنا وأقمنا بها شهرين فارتحلنا حتى نزلنا قرية من قرى النصارى فلما رأوه جاؤه وأهدوا له وذهب معهم إلى بيعتهم ( 1 ) فما جاء إلا بعد منتصف النهار فلبس ثوبيه وذهب إليهم حتى جاء بعد هدأة من الليل فطرح ثوبيه ورمى بنفسه على فراشه فوالله ما نام ولا قام وأصبح حزينا كئيبا لا يكلمنا ولا نكلمه ثم قال ألا ترحل قلت بلى إن شئت فرحلنا كذلك من بثه وحزنه ليالي ( 2 ) ثم قال لي يا أبا سفيان هل لك في المسير لنتقدم أصحابنا قلت هل لك فيه قال نعم فسرنا حتى برزنا من اصحابنا ساعة ثم قال هيا صخر فقلت ما تشاء قال حدثني عن عتبة بن ربيعة أيجتنب المظالم والمحارم قلت إي والله قال ويصل الرحم ويأمر بصلتها قلت إي والله قال وكريم الطرفين وسط في العشيرة قلت نعم قال فهل تعلم قرشيا أشرف منه قلت لا والله لا أعلم قال أمحوج هو قلت لا بل هو ذو مال كثير قال وكم أتى عليه من السن فقلت قد زاد على المائة قال فالشرف والسن والمال أزرين به قلت ولم ذاك يزري به لا والله بل يزيده خيرا قال هو ذاك هل لك في المبيت قلت لي فيه قال فاضطجعنا حتى مر الثقل قال فسرنا حتى نزلنا في المنزل وبتنا به ثم ارتحلنا منه فلما كان الليل قال لي يا أبا سفيان قلت ما تشاء قال هل لك في مثل البارحة قلت هل لك فيه قال نعم فسرنا على ناقتين بختيتين حتى إذا برزنا قال هيا صخر هيه عن عتبة بن ربيعة قال قلت هيها فيه قال ايجتنب المحارم والمظالم ويصل الرحم ويأمر بصلتها قلت إي والله إنه ليفعل قال وذو مال قلت وذو مال قال أتعلم قرشيا أسود منه قلت لا والله ما أعلم قال كم أتى له من السن قلت قد زاد على المائة قال فإن السن والشرف والمال أزرين به قلت كلا والله ما أزري به ذلك وأنت قائل شيئا فقله قال لا تذكر حديثي يأتي منه ما هو آت ثم قال فإن الذي رأيت أصابني أني جئت هذا العالم فسألته عن أشياء ثم قلت أخبرني عن هذا النبي الذي ينتظر قال هو رجل من العرب قلت قد علمت أنه من العرب فمن أي العرب هو قال من أهل بيت تحجه العرب قلت وفينا بيت تحجه العرب قال هو من أخوانكم من قريش فأصابني والله شيء ما أصابني مثله قط وخرج من يدي فوز الدنيا والآخرة وكنت أرجو أن اكون إياه قلت فإذا كان ما كان فصفه لي قال رجل شاب حين دخل في الكهولة بدو أمره يجتنب المظالم والمحارم ويصل الرحم ويأمر بصلتها وهو محوج كريم الطرفين متوسط في العشيرة أكثر جنده من الملائكة قلت وما آية ذلك قال قد رجفت الشام منذ هلك عيسى بن مريم عليه السلام ثمانين رجفة كلها (2/222)
فيها مصيبة وبقيت رجفة عامة فيها مصائب قال أبو سفيان فقلت هذا والله الباطل لئن بعث الله رسولا لا يأخذه إلا مسنا شريفا قال أمية والذي حلفت به إن هذا لهكذا يا أبا سفيان تقول إن قول النصراني حق هل لك في المبيت قلت نعم لي فيه قال فبتنا حتى جاءنا الثقل ثم خرجنا حتى إذا كان بيننا وبين مكة مرحلتان ليلتان ( 1 ) أدركنا راكب من خلفنا فسألناه فإذا هو يقول أصابت أهل الشام بعدكم رجفة دمرت أهلها وأصابتهم فيها مصائب عظيمة قال أبو سفيان فأقبل على أمية فقال كيف ترى قول النصراني يا أبا سفيان قلت أرى وأظن والله إن ما حدثك به صاحبك حق قال أبو سفيان فقدمنا مكة فقضيت ما كان معي ثم انطلقت حتى جئت اليمن تاجرا فكنت بها خمسة أشهر ثم قدمت مكة فبينا أنا في منزلي جاءني الناس يسلمون علي ويسألون عن بضائعهم حتى جاءني محمد بن عبدالله وهند عندي تلاعب صبيانها فسلم علي ورحب بي وسألني عن سفري ومقامي ولم يسألني عن بضاعته ثم قام فقلت لهند والله إن هذا ليعجبني ما من احد من قريش له معي بضاعة إلا وقد سألني عنها وما سألني هذا عن بضاعته فقالت لي هند أو ما علمت شأنه فقلت وأنا فزع ما شأنه قالت يزعم أنه رسول الله فوقذتني وتذكرت قول النصراني فرجفت حتى قالت لي هند مالك فانتبهت فقلت إن هذا لهو الباطل لهو أعقل من أن يقول هذا قالت بلى والله إنه ليقولن ذلك ويدعو إليه وإن له لصحابة على دينه قلت هذا هو الباطل قال وخرجت فبينا أنا أطوف بالبيت إذ بي قد لقيته فقلت له إن بضاعتك قد بلغت كذا وكذا وكان فيها خير فأرسل من يأخذها ولست آخذ منك فيها ما آخذ من قومي فأبى علي وقال اذن لا آخذها قلت فأرسل فخذها وآنا آخذ منك مثل ما آخذ من قومي فأرسل إلي بضاعته فأخذها وأخذت منه ما كنت آخذ من غيره قال أبو سفيان فلم أنشب أن خرجت إلى اليمن ثم قدمت الطائف فنزلت على أمية بن أبي الصلت فقال لي يا أبا سفيان ما تشاء هل تذكر قول النصراني فقلت أذكره وقد كان فقال ومن قلت محمد بن عبدالله قال ابن عبد المطلب قلت ابن عبد المطلب ثم قصصت عليه خبر هند قال فالله يعلم وأخذ يتصبب عرقا ثم قال والله يا أبا سفيان لعله إن صفته لهي ولئن ظهر وأنا حي لأطلبن من الله عز و جل في نصره عذرا قال ومضيت إلى اليمن فلم أنشب أن جاءني هنالك استهلاله وأقبلت حتى نزلت على أمية ابن أبي الصلت بالطائف فقلت يا أبا عثمان قد كان من امر الرجل ما قد بلغك وسمعته فقال قد كان لعمري قلت فأين أنت منه يا أبا عثمان فقال والله ما كنت لأومن برسول من غير ثقيف أبدا قال أبو سفيان وأقبلت إلى مكة فوالله ما أنا ببعيد حتى جئت مكة فوجدت أصحابه يضربون ويحقرون قال أبو سفيان فجعلت أقول فأين جنده من الملائكة قال فدخلني ما يدخل الناس من النفاسة وقد رواه الحافظ البيهقي في كتاب الدلائل من حديث إسماعيل بن طريح به ولكن سياق الطبراني الذي أوردناه أتم وأطول والله أعلم (2/223)
وقال الطبراني حدثنا بكر بن أحمد بن نفيل حدثنا عبدالله بن شبيب حدثنا يعقوب بن محمد الزهري حدثنا مجاشع بن عمرو الأسدي حدثنا ليث بن سعد عن أبي الأسود محمد بن عبدالرحمن عن عروة بن الزبير عن معاوية بن أبي سفيان عن أبي سفيان بن حرب أن أمية بن أبي الصلت كان بغزة أو بأيلياء فلما قفلنا قال لي أمية يا أبا سفيان هل لك أن تتقدم على الرفقة فنتحدث قلت نعم قال ففعلنا فقال لي يا أبا سفيان إيه عن عتبة بن ربيعة قلت كريم الطرفين ويجتنب المحارم والمظالم قلت نعم قال وشريف مسن قلت وشريف مسن قال السن والشرف ازريابه فقلت له كذبت ما ازداد سنا إلا ازداد شرفا قال يا أبا سفيان إنها كلمة ما سمعت أحدا يقولها لي منذ تبصرت فلا تعجل علي حتى أخبرك قال قلت هات قال إني كنت أجد في كتبي نبيا يبعث من حرتنا هذه فكنت أظن بل كنت لا أشك أني أنا هو فلما دارست أهل العلم إذا هو من بني عبد مناف فنظرت في بني عبد مناف فلم أجد أحدا يصلح لهذا الأمر غير عتبة بن ربيعة فلما أخبرتني بسنه عرفت أنه ليس به حين جاوز الأربعين ولم يوح إليه قال أبو سفيان فضرب الدهر ضربه فأوحى إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وخرجت في ركب من قريش أريد اليمن في تجارة فمررت بأمية فقلت له كالمستهزىء به يا أمية قد خرج النبي الذي كنت تنعته قال أما أنه حق فاتبعه قلت ما يمنعك من اتباعه قال ما يمنعني إلا الإستحياء من نساء ثقيف إني كنت أحدثهن أني هو ثم يرينني تابعا لغلام من بني عبد مناف ثم قال أمية كأني بك يا أبا سفيان قد خالفته ثم قد ربطت كما يربط الجدي حتى يؤتى بك إليه فيحكم فيك بما يريد
وقال عبد الرازق أخبرنا معمر عن الكلبي قال بينا أمية راقد ومعه ابنتان له إذ فزعت احداهما فصاحت عليه فقال لها ما شأنك قالت رأيت نسرين كشطا سقف البيت فنزل أحدهما إليك فشق بطنك والآخر واقف على ظهر البيت فناداه فقال أوعى قال نعم قال أزكى قال لا فقال ذاك خير أريد بأبيكما فلم يفعله وقد روى من وجه آخر بسياق آخر فقال إسحاق بن بشر عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيب وعثمان بن عبدالرحمن عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال قدمت الفارعة أخت أمية بن أبي الصلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد فتح مكة ( 1 ) وكانت ذات لب وعقل وجمال وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم بها معجبا فقال لها ذات يوم يا فارعة هل تحفظين من شعر أخيك شيئا فقالت نعم وأعجب من ذلك ما قد رأيت قالت كان أخي في سفر فلما انصرف بدأني فدخل على فرقد على سريري وأنا أحلق أديما في يدي إذ أقبل طائران أبيضان أو كالطيرين أبيضين فوقع على الكوة أحدهما ودخل الآخر فوقع عليه فشق الواقع عليه ما بين قصه إلى عانته ثم أدخل يده في جوفه فأخرج قلبه فوضعه في كفه ثم شمه فقال له الطائر الآخر أوعى قال وعى قال أزكى قال أبي ثم رد القلب إلى مكانه فالتأم الجرح أسرع من طرفة عين ثم ذهبا فلما رأيت ذلك (2/224)
دنوت منه فحركته فقلت هل تجد شيئا قال لا إلا توهينا في جسدي وقد كنت ارتعبت مما رأيت فقال مالي أراكي مرتاعة قالت فأخبرته الخبر فقال خير أريد بي ثم صرف عني ثم أنشأ يقول ... باتت همومي تسري طوارقها ... أكف عيني والدمع سابقها ... مما أتاني من اليقين ولم ... أوت براة يقص ناطقها ( 1 ) ... أم من تلظى عليه واقدة النار ... محيط بهم سرادقها ... أم أسكن الجنة التي وعد ... الأبرار مصفوفة نمارقها ... لا يستوي المنزلان ثم ولا ... الأعمال لا تستوي طرائقها ... هما فريقان فرقة تدخل الجنة ... حفت بهم حدائقها ... وفرقة منهم قد أدخلت ... النار فساءتهم مرافقها ... تعاهدت هذه القلوب إذا همت بخير عاقت عوائقها ... وصدها للشقاء عن طلب الجنة ... دنيا ألله ماحقها ... عبد دعا نفسه فعاتبها ... يعلم أن البصير رامقها ... ما رغب النفس في الحياة وإن ... تحيى قليلا فالموت لاحقها ... يوشك من فر من منيته ... يوما على غرة يوافقها ... إن لم تمت غبطة تمت هرما ... للموت كأس والمرء ذائقها ...
قال ثم انصرف إلى رحله فلم يلبث إلا يسيرا حتى طعن في حيارته ( 1 ) فأتاني الخبر فانصرفت إليه فوجدته منعوشا قد سجى عليه فدنوت منه فشهق شهقة وشق بصره ونظر نحو السقف ورفع صوته وقال لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما لا ذر مال فيفدني ولا ذو أهل فتحميني ثم أغمى عليه إذ شهق شهقة فقلت قد هلك الرجل فشق بصره نحو السقف فرفع صوته فقال لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما لا ذو براءة فأعتذر ولا ذو عشيرة فأنتصر ثم أغمى عليه إذ شهق شهقة وشق بصره ونظر نحو السقف فقال لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما بالنعم محفود وبالذنب محصود ثم أغمى عليه إذ شهق شهقة فقال لبيكما لبيكما ها أنا لديكما ... إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما ...
ثم أغمى عليه إذ شهق شهقة فقال ... كل عيش وإن تطاول دهرا ... صائر مرة ( 2 ) إلى أن يزولا ... ليتني كنت قبل ما قد بدا لي ... في قلال الجبال أرعى الوعولا (2/225)
قالت ثم مات فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم يا فارعة إن مثل أخيك كمثل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها الآية وقد تكلم الخطابي على غريب هذا الحديث وروى الحافظ ابن عساكر عن الزهري أنه قال قال أمية ابن أبي الصلت ... ألا رسول لنا منا يخبرنا ... ما بعد غايتنا من رأس مجراني ( 1 ) ...
قال ثم خرج أمية بن أبي الصلت إلى البحرين وتنبأ رسول الله صلى الله عليه و سلم وأقام أمية بالبحرين ثماني سنين ثم قدم الطائف فقال لهم ما يقول محمد بن عبدالله قالوا يزعم أنه نبي هو الذي كنت تتمنى قال فخرج حتى قدم عليه مكة فلقيه فقال يا ابن عبد المطلب ما هذا الذي تقول قال أقول إني رسول الله وأن لا إله إلا هو قال إني أريد أن أكلمك فعدني غدا قال فموعدك غدا قال فتحب أن آتيك وحدي أو في جماعة من أصحابي وتأتيني وحدك أو في جماعة من أصحابك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أي ذلك شئت قال فإني آتيك في جماعة فأت في جماعة قال فلما كان الغد غدا أمية في جماعة من قريش قال وغدا رسول الله صلى الله عليه و سلم معه نفر من أصحابه حتى جلسوا في ظل الكعبة قال فبدأ أمية فخطب ثم سجع ثم أنشد الشعر حتى إذا فرغ الشعر قال أجبني با ابن عبد المطلب فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم
بسم الله الرحمن الرحيم يس والقرآن الحكيم حتى إذا فرغ منها وثب أمية يجر رجليه قال فتبعته قريش يقولون ما تقول يا أمية قال أشهد أنه على الحق فقالوا هل تتبعه قال حتى أنظر في أمره قال ثم خرج أمية إلى الشام وقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة فلما قتل أهل بدر قدم أمية من الشام حتى نزل بدرا ثم ترحل يريد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال قائل يا أبا الصلت ما تريد قال أريد محمدا قال وما تصنع قال أومن به وألقي إليه مقاليد هذا الأمر قال أتدري من في القليب قال لا قال فيه عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما ابنا خالك وأمه ربيعة بنت عبد شمس قال فجدع أذني ناقته وقطع ذنبها ثم وقف على القليب يقول ... ما ذا ببدر فالعقنقل ... من مرازبة جحاجح ...
القصيدة إلى آخرها كما سيأتي ذكرها بتمامها في قصة بدر إن شاء الله ثم رجع إلى مكة والطائف وترك الإسلام ثم ذكر قصة الطيرين وقصة وفاته كما تقدم وأنشد شعره عند الوفاة
... كل عيش وإن تطاول دهرا ... صائر مرة إلى أن يزولا ... ليتني كنت قبل ما قد بدا لي ... في قلال الجبال أرعى الوعولا ... فاجعل الموت نصب عينيك واحذر ... غولة الدهر أن للدهر غولا ... نائلا ظفرها القساور والصد ... عان والطفل في المناور الشكيلا ... وبغاث النياف واليعفر النافر ... والعوهج البرام الضئيلا (2/226)
فقوله القساور جمع قسورة وهو الأسد والصدعان ثيران الوحش واحدها صدع والطفل الشكل من حمرة العين والبغاث الرخم والنياف الجبال واليعفر الظبي والعوهج ولد النعامة يعني أن الموت لا ينجو منه الوحوش في البراري ولا الرخم الساكنة في رؤس الجبال ولا يترك صغيرا لصغره ولا كبيرا لكبره وقد تكلم الخطابي وغيره على غريب هذه الأحاديث وقد ذكر السهيلي في كتابه التعريف والإعلام أن أمية بن أبي الصلت أول من قال باسمك اللهم وذكر عند ذلك قصة غريبة وهو أنهم خرجوا في جماعة من قريش في سفر فيهم حرب بن أمية والد أبي سفيان قال فمروا في مسيرهم بحية فقتلوها فلما أمسوا جاءتهم امرأة من الجان فعاتبتهم في قتل تلك الحية ومعها قضيب فضربت به الأرض ضربة نفرت الإبل عن آخرها فذهبت وشردت كل مذهب وقاموا فلم يزالوا في طلبها حتى ردوها فلما اجتمعوا جاءتهم أيضا فضربت الأرض بقضيبها فنفرت الإبل فذهبوا في طلبها فلما أعياهم ذلك قالوا والله هل عندك لما نحن فيه من مخرج فقال لا والله ولكن سأنظر في ذلك قال فساروا في تلك المحلة لعلهم يجدو أحدا يسألونه عما قد حل بهم من العناء إذا نار تلوح على بعد فجاؤها فإذا شيخ على باب خيمة يوقد نارا وإذا هو من الجان في غاية الضآلة والدمامة فسلموا عليه فسألهم عما هم فيه فقال إذا جاءتكم فقل بسمك اللهم فإنها تهرب فلما اجتمعوا وجاءتهم الثالثة والرابعة قال في وجهها أمية بسمك اللهم فشردت ولم يقر لها قرار لكن عدت الجن على حرب بن أمية فقتلوه بتلك الحية فتبره أصحابه هنالك حيث لا جار ولا دار ففي ذلك يقول الجان ... وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر ...
وذكر بعضهم أنه كان يتفرس في بعض الأحيان في لغات الحيوانات فكان يمر في السفر على الطير فيقول لاصحابه إن هذا يقول كذا وكذا فيقولون لا نعلم صدق ما يقول حتى مروا على قطيع غنم قد انقطعت منه شاة ومعها ولدها فالتفتت إليه فثغت كانها تستحثه فقال أتدرون ما تقول له قالوا لا قال إنها تقول أسرع بنا لا يجيء الذئب فيأكلك كما أكل الذئب أخاك عام اول فأسرعوا حتى سألوا الراعي هل أكل له الذئب عام أول حملا بتلك البقعة فقال نعم قال ومر يوما على بعير عليه امرأة راكبة وهو يرفع رأسه إليها ويرغو فقال إنه يقول لها إنك رحلتيني وفي الحداجة مخيط فانزلوا تلك المرأة وحلوا ذلك الرحل فإذا فيه مخيط كما قال
وذكر ابن السكيت أن أمية بن أبي الصلت بينما هو يشرب يوما إذ نعب غراب فقال له بفيك التراب مرتين فقيل له ما يقول فقال إنه يقول إنك تشرب هذا الكأس الذي في يدك ثم تموت ثم نعب الغراب فقال إنه يقول وآية ذلك أني أنزل على هذه المزبلة فآكل منها فيعلق عظم في حلقي فأموت ثم نزل الغراب على تلك المزبلة فأكل شيئا فعلق في حلقه عظم فمات فقال أمية أما هذا فقد صدق في (2/227)
نفسه ولكن سأنظر هل صدق في أم لا ثم شرب ذلك الكأس الذي في يده ثم اتكأ فمات وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن مهدي عن الثوري عن عبدالملك بن عمير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم
فقال الإمام أحمد حدثنا روح حدثنا زكرياء بن اسحاق حدثنا إبراهيم بن ميسرة إنه سمع عمرو بن الشريد يقول قال الشريد كنت ردفا لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لي أمعك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء قلت نعم قال فأنشدني فأنشدته بيتا فلم يزل يقول كلما أنشدته بيتا ايه حتى أنشدته مائة بيت قال ثم سكت النبي صلى الله عليه و سلم وسكت وهكذا رواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة عن أبي تميم بن ميسرة به ومن غير وجه عن عمرو بن الشريد عن أبيه الشريد بن سويد الثقفي عن النبي صلى الله عليه و سلم وفي بعض الروايات فقال رسول الله إن كاد يسلم وقال يحيى بن محمد بن صاعد حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا أبو أسامة حدثنا حاتم بن أبي صفرة عن سماك بن حرب عن عمرو بن نافع عن الشريد الهمداني وأخواله ثقيف قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع فبينا أنا أمشي ذات يوم إذا وقع ناقلة خلفي فإذا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال الشريد فقلت نعم قال ألا أحملك قلت بلى وما من إعياء ولكني أردت البركة في ركوبي مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فأناخ فحملني فقال أمعك من شعر أمية بن أبي الصلت قلت نعم قال هات فأنشدته قال أظنه قال مائة بيت فقال عند الله علم أمية بن أبي الصلت ثم قال ابن صاعد هذا حديث غريب فأما الذي يروى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال في أمية آمن شعره وكفر قلبه فلا أعرفه والله أعلم
وقال الإمام أحمد حدثنا عبدالله بن محمد هو أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبدة بن سليمان عن محمد بن اسحاق عن يعقوب بن عتبة عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم صدق أمية في شيء من شعره قال ... زحل وثور تحت رجل يمينه ... والنسر للأخرى وليث مرصد ... والشمس تبدو كل آخر ليلة ... حمراء يصبح لونها يتورد ... تأبى فما تطلع لنا في رسلها ... إلا معذبة وإلا تجلد ...
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم صدق وفي رواية أبي بكر الهذلي عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال إن الشمس لا تطلع حتى ينخسها سبعون ألف ملك يقول لها اطلعي اطلعي فتقول لا أطلع على قوم يعبدونني من دون الله فإذا همت بالطلوع أتاها شيطان يريد أن يثبطها فتطلع بين قرنيه وتحرقه فإذا تضيفت للغروب عزمت لله عز و جل فيأتيها شيطان يريد أن يثبطها عن السجود فتغرب من قرنيه وتحرقه أورده ابن عساكر مطولا ومن شعره في حملة العرش (2/228)
فمن حامل إحدى قوائم عرشه ... ولولا إله الخلق كلوا وأبلدوا ... قيام على الأقدام عانون تحته ... فرائصهم من شدة الخوف ترعد ...
رواه ابن عساكر وروى عن الأصمعي أنه كان ينشد من شعر أمية ... مجدوا الله فهو للمجد أهل ... ربنا في السماء أمسى كبيرا ... بالبناء الأعلى الذي سبق الناس ... وسوى فوق السماء سريرا ... شرجعا ( 1 ) يناله بصر العين ... ترى دونه الملائك صورا ...
ثم يقول الأصمعي الملائك جمع ملك والصور جمع أصور وهو المائل العنق وهؤلاء حملة العرش ومن شعر أمية بن أبي الصلت يمدح عبدالله بن جدعان التيمي ... أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء ... وعلمك بالحقوق وأنت فرع ... لك الحسب المهذب والسناء ... كريم لا يغيره صباح ... عن الخلق الجميل ولا مساء ... يباري الريح مكرمة وجودا ... إذا ما الكلب أحجره الشتاء ... وأرضك أرض مكرمة بنتها ... بنو تيم وأنت لها سماء ... إذا أثنى عليك المرء يوما كفاه من تعرضه الثناء ...
وله فيه مدائح أخر وقد كان عبدالله بن جدعان هذا من الكرماء الأجواد الممدحين المشهورين وكان له جفنة يأكل الراكب منها وهو على بعيره من عرض حافتها وكثرة طعامها وكان يملأها لباب البر يلبك بالشهد والسمن وكان يعتق الرقاب ويعين على النوائب وقد سألت عائشة النبي صلى الله عليه و سلم أينفعه ذلك فقال أنه لم يقل يوما من الدهر رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ومن شعر أمية البديع ... لا ينكثون الأرض عند سؤالهم ... كتطلب العلات بالعيدان ... بل يسفرون وجوههم فترى لها ... عند السؤال كأحسن الألوان ... وإذا المقل أقام وسط رحالهم ... ردوه رب صواهل وقيان ... وإذا دعوتهم لكل ملمة ... سدوا شعاع الشمس بالفرسان ...
آخر ترجمة أمية بن أبي الصلت
بحيرا الراهب
الذي توسم في رسول الله صلى الله عليه و سلم النبوة وهو مع عمه أبي طالب حين قدم الشام في تجار من أهل مكة وعمره إذ ذاك اثنى عشرة سنة فرأى الغمامة تظله من بينهم فصنع لهم طعاما ضيافة واستدعاهم كما (2/229)
سيأتي بيان ذلك في السيرة وقد روى الترمذي في ذلك حديثا بسطنا الكلام عليه هنالك وقد أورد له الحافظ ابن عساكر شواهد وسائغات في ترجمة بحيرا ولم يورد ما رواه الترمذي وهذا عجب وذكر ابن عساكر أن بحيرا كان يسكن قرية يقال لها الكفر ( 1 ) بينها وبين بصرى ستة أميال وهي التي يقال لها دير بحيرا قال ويقال أنه كان يسكن قرية يقال لها منفعة بالبلقاء وراء زيرا والله أعلم
ذكر قس بن ساعدة الإيادي
قال الحافظ أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتاب هواتف الجان حدثنا داود القنطري حدثنا عبدالله بن صالح حدثني أبو عبدالله المشرقي عن أبي الحارث الوراق عن ثور بن يزيد عن مورق العجلي عن عبادة بن الصامت قال لما قدم وفد اياد على النبي صلى الله عليه و سلم قال يا معشر وفد اياد ما فعل قس بن ساعدة الإيادي قالوا هلك يا رسول الله قال لقد شهدته يوما بسوق عكاظ على جمل أحمر يتكلم بكلام معجب مونق لا أجدني أحفظه فقام إليه أعرابي من أقاصي القوم فقال أنا أحفظه يا رسول الله قال فسر النبي صلى الله عليه و سلم بذلك قال فكان بسوق عكاظ على جمل أحمر وهو يقول يا معشر الناس اجتمعوا فكل من فات فات وكل شيء آت آت ليل داج وسماء ذات أبراج وبحر عجاج نجوم تزهر وجبال مرسية وأنهار مجرية إن في السماء لخبرا وإن في الأرض لعبرا ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون أرضوا بالإقامة فأقاموا أم تركوا فناموا أقسم قس بالله قسما لا ريب فيه إن لله دينا هو أرض من دينكم هذا ثم أنشأ يقول ... في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصائر ... لما رأيت مواردا ... للموت ليس لها مصادر ... ورأيت قومي نحوها ... يمضي الأصاغر والأكابر ... لا من مضى يأتي إليك ... ولا من الباقين غابر ... أيقنت أنى لا محالة ... حيث صار القوم صائر ...
وهذا إسناد غريب من هذا الوجه وقد رواه الطبراني من وجه آخر فقال في كتابه المعجم الكبير حدثنا محمد بن السري بن مهران بن الناقد البغدادي حدثنا محمد بن حسان السهمي حدثنا محمد بن الحجاج عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس قال قدم وفد عبد القيس على النبي صلى الله عليه و سلم فقال أيكم (2/230)
يعرف القس بن ساعدة الأيادي قالوا كلنا يعرفه يا رسول الله قال فما فعل قالوا هلك قال فما أنساه بعكاظ في الشهر الحرام وهو على جمل أحمر وهو يخطب الناس وهو يقول يا أيها الناس اجتمعوا واستمعوا وعوا من عاش مات ومن مات فات وكل ما هو آت آت إن في السماء لخبرا وإن في الأرض لعبرا مهاد موضوع وسقف مرفوع ونجوم تمور وبحار لا تغور وأقسم قس قسما حقا لئن كان في الأمر رضي ليكون بعده سخط إن لله لدينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون أرضوا بالمقام فأقاموا أم تركوا فناموا ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أفيكم من يروي شعره فأنشده بعضهم ... في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصائر ... ما رأيت مواردا ... للموت ليس لها مصادر ... ورأيت قومي نحوها ... يسعى الأصاغر والأكابر ... لا يرجع الماضي إلى ... ولا من الباقين غابر ... أيقنت أني لا محالة ... حيث صار القوم صائر ...
وهكذا أورده الحافظ البيهقي في كتابه دلائل النبوة من طريق محمد بن حسان السلمي به وهكذا رويناه في الجزء الذي جمعه الأستاذ أبو محمد عبدالله بن جعفر بن درستويه في أخبار قس قال حدثنا عبدالكريم بن الهيثم الدير عاقولي عن سعيد بن شبيب عن محمد بن الحجاج عن إبراهيم الواسطي نزيل بغداد ويعرف بصاحب الفريسة وقد كذبه يحيى بن معين وأبو حاتم الرازي والدارقطني واتهمه غير واحد منهم بن عدي بوضع الحديث وقد رواه البزار وأبو نعيم من حديث محمد بن الحجاج هذا ورواه ابن درستويه وأبو نعيم من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وهذه الطريق أمثل من التي قبلها وفيه إن أبا بكر هو الذي أورد القصة بكمالها نظمها ونثرها بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم ورواه الحافظ أبو نعيم من حديث أحمد بن موسى بن اسحاق الحطمي حدثنا علي بن الحسين بن محمد المخزومي حدثنا أبو حاتم السجستاني حدثنا وهب بن جرير عن محمد بن اسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس قال قدم وفد بكر بن وائل على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لهم ما فعل حليف لكم يقال له قس بن ساعدة الأيادي وذكر القصة مطولة وأخبرنا الشيخ المسند الرحلة أحمد بن أبي طالب الحجار إجازة إن لم يكن سماعا قال أجاز لنا جعفر بن علي الهمداني قال أخبرنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السلفي سماعا وقرأت على شيخنا الحافظ أبي عبدالله الذهبي أخبرنا أبو علي الحسن بن علي بن أبي بكر الخلال سماعا قال أنا جعفر بن علي سماعا قال أنا السلفي سماعا أنا أبو عبدالله محمد بن أحمد بن إبراهيم الرازي أنا أبو الفضل محمد بن أحمد عيسى السعدي أنا أبو القاسم عبيدالله (2/231)
ابن أحمد بن علي المقرىء حدثنا أبو محمد عبدالله بن جعفر بن درستويه النحوي قال حدثنا اسماعيل بن ابراهيم بن أحمد السعدي قاضي فارس حدثنا أبو داود سليمان بن سيف بن يحيى بن درهم الطائي من أهل حران حدثنا أبو عمرو سعيد بن يربع عن محمد بن اسحاق حدثني بعض أصحابنا من أهل العلم عن الحسن بن أبي الحسن البصري أنه قال كان الجارود بن المعلى بن حنش بن معلى العبدي نصرانيا حسن المعرفة بتفسير الكتب وتأويلها عالما بسير الفرس وأقاويلها بصيرا بالفلسفة والطب ظاهر الدهاء والأدب كامل الجمال ذا ثروة ومال وأنه قدم على النبي صلى الله عليه و سلم وافدا في رجال من عبد القيس ذوي اراء وأسنان وفصاحة وبيان وحجج وبرهان فلما قدم على النبي صلى الله عليه و سلم وقف بين يديه وأشار إليه وأنشأ يقول ... يا نبي الهدى أتتك رجال ... قطعت فدفدا وآلا فآلا ... وطوت نحوك الصحاصح تهوي ... لا تعد الكلال فيك كلالا ... كل بهماء قصر الطرف عنها ... أرقلتها قلاصنا ارقالا ... وطوتها العتاق يجمح فيها ... بكماة كأنجم تتلالا ... تبتغي دفع بأس يوم عظيم ... هائل أوجع القلوب وهالا ... ومزادا لمحشر الخلق طرا ... وفراقا لمن تمادى ضلالا ... نحو نور من الإله وبرهان ... وبر ونعمة أن تنالا ... خصك الله يا ابن آمنة الخير ... إذ أتت سجالا سجالا ... فاجعل الحظ منك يا حجة الله ... جزيلا لا حظ خلف أحالا ...
قال فأدناه النبي صلى الله عليه و سلم وقرب مجلسه وقال له يا جارود لقد تأخر الموعود بك وبقومك فقال الجارود فداك أبي وأمي أما من تأخر عنك فقد فاته حظه وتلك أعظم حوبة واغلظ عقوبة وما كنت فيمن رآك أو سمع بك فعداك واتبع سواك وإني الآن على دين قد علمت به قد جئتك وها أنا تاركه لدينك أفذلك مما يمحص الذنوب والمآثم والحوب ويرضى الرب عن المربوب فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم أنا ضامن لك ذلك واخلص الآن لله بالوحدانية ودع عنك دين النصرانية فقال الجارود فداك أبي وأمي مديدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنك محمد عبده ورسوله قال فأسلم وأسلم معه أناس من قومه فسر النبي صلى الله عليه و سلم بإسلامهم وأظهر من إكرامهم ما سروا به وابتهجوا به ثم أقبل عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أفيكم من يعرف قس بن ساعدة الإيادي فقال الجارود فداك أبي وأمي كلنا نعرفه وأني من بينهم لعالم بخبره واقف على أمره كان قس يا رسول الله سبطا من أسباط العرب عمر ستمائة سنة تقفر منها خمسة أعمار في البراري والقفار يضج بالتسبيح على مثال المسيح لا يقره قرار ولا تكنه دار ولا يستمتع به جار كان يلبس الامساح ويفوق السياح ولا يفتر من رهبانيته يتحسى في سياحته بيض النعام (2/232)
ويأنس بالهوام ويستمتع بالظلام يبصر فيعتبر ويفكر فيختبر فصار لذلك واحدا تضرب بحكمته الأمثال وتكشف به الأهوال أدرك رأس الحواريين سمعان وهو أول رجل تأله من العرب ووحد وأقر وتعبد وأيقن بالبعث والحساب وحذر سوء المآب وأمر بالعمل قبل الفوت ووعظ بالموت وسلم بالقضا على السخط والرضا وزار القبور وذكر النشور وندب بالأشعار وفكر في الأقدار وأنبأ عن السماء والنماء وذكر النجوم وكشف الماء ووصف البحار وعرف الآثار وخطب راكبا ووعظ دائبا وحذر من الكرب ومن شدة الغضب ورسل الرسائل وذكر كل هائل وأرغم في خطبه وبين في كتبه وخوف الدهر وحذر الأزر وعظم الأمر وجنب الكفر وشوق إلى الحنيفية ودعا إلى اللاهوتية وهو القائل في يوم عكاظ شرق وغرب ويتم وحزب وسلم وحرب ويابس ورطب وأجاج وعذب وشموس وأقمار ورياح وأمطار وليل ونهار وأناث وذكور وبرار وبحور وحب ونبات وآباء وأمهات وجمع وأشتات وآيات في إثرها آيات ونور وظلام ويسر واعدام ورب وأصنام لقد ضل الأنام نشو مولود ووأد مفقود وتربية محصود وفقير وغني ومحسن ومسيء تبا لأرباب الغفلة ليصلحن العامل عمله وليفقدن الآمل أمله كلا بل هو إله واحد ليس بمولود ولا والد أعاد وأبدى وأمات وأحيا وخلق الذكر والأنثى رب الآخرة والأولى أما بعد فيا معشر إياد أين ثمود وعاد وأين الآباء والأجداد وأين العليل والعواد كل له معاد يقسم قس برب العباد وساطح المهاد لتحشرن على الانفراد في يوم التناد إذا نفخ في الصور ونقر في الناقور وأشرقت الأرض ووعظ الواعظ فانتبذ القانط وأبصر اللاحظ فويل لمن صدف عن الحق الأشهر والنور الأزهر والعرض الأكبر في يوم الفصل وميزان العدل إذا حكم القدير وشهد النذير وبعد النصير وظهر التقصير ففريق في الجنة وفريق في السعير وهو القائل ... ذكر القلب من جواه ادكار ... وليال خلالهن نهار ... وسجال هواطل من غمام ... ثرن ماء وفي جواهن نار ... ضوءها يطمس العيون وأرعاد ... شداد في الخافقين تطار ... وقصور مشيدة حوت الخير ... وأخرى خلت بهن قفار ... وجبال شوامح راسيات ... وبحار ميهاههن غزار ... ونجوم تلوح في ظلم الليل ... نراها في كل يوم تدار ... ثم شمس يحثها قمر الليل ... وكل متابع موار ... وصغير وأشمط وكبير ... كلهم في الصعيد يوما مزار ... وكبير مما يقصر عنه ... حدسه الخاطر الذي لا يحار (2/233)
فالذي قد ذكرت دل على الله ... نفوسا لها هدى واعتبار ...
قال فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم مهما نسيت فلست أنساه بسوق عكاظ واقفا على جمل أحمر يخطب الناس اجتمعوا فأسمعوا وإذا سمعتم فعوا وإذا وعيتم فانتفعوا وقولوا وإذا قلتم فاصدقوا من عاش مات ومن مات فات وكل ما هو آت آت مطر ونبات وأحياء وأموات ليل داج وسماء ذات أبراج ونجوم تزهر وبحار تزخر وضوء وظلام وليل وأيام وبر وآثام إن في السماء خبرا وإن في الأرض عبرا يحار فيهن البصرا مهاد موضوع وسقف مرفوع ونجوم تغور وبحار لا تفور ومنايا دوان ودهر خوان كحد النسطاس ووزن القسطاس أقسم قس قسما لا كاذبا فيه ولا آثما لئن كان في هذا الأمر رضي ليكونن سخط ثم قال أيها الناس إن لله دينا هو أحب إليه من دينكم هذا الذي أنتم عليه وهذا زمانه وأوانه ثم قال ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون ارضوا بالمقام فأقاموا أم تركوا فناموا والتفت رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بعض أصحابه فقال أيكم يروي شعره لنا فقال أبو بكر الصديق فداك أبي وأمي أنا شاهد له في ذلك اليوم حيث يقول ... في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصائر ... لما رأيت مواردا ... للموت ليس لها مصادر ... ورأيت قومي نحوها ... يمضي الأصاغر والأكابر ... لا يرجع الماضي إلي ... ولا من الباقين غابر ... أيقنت أني لا محالة ... حيث صار القوم صائر ...
قال فقام إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم شيخ من عبد القيس عظيم الهامة طويل القامة بعيد ما بين المنكبين فقال فداك أبي وأمي وأنا رأيت من قس عجبا فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم ما الذي رأيت يا أخا بني عبد القيس فقال خرجت في شبيبتي أربع بعيرا لي لدعني أقفو أثره في تنائف قفاف ذات ضغابيس وعرصات جثجاث بين صدور جذعان وغمير حوذان ومهمه ظلمان ورصيع ليهقان فبينا أنا في تلك الفلوات أجول بسبسبها وارنق فدفدها إذا أنا بهضبة في نشزاتها أراك كباث مخضوضلة وأغصانها متهدلة كأن بريرها حب الفلفل وبواسق اقحوان وإذا بعين خرارة وروضة مدهامة وشجرة عارمة وإذا أنا بقس بن ساعدة في أصل تلك الشجرة وبيده قضيب فدنوت منه وقلت له أنعم صباحا فقال وأنت فنعم صباحك وقد وردت العين سباع كثيرة فكان كلما ذهب سبع منها يشرب من العين قبل صاحبه ضربه قس بالفضيب الذي بيده وقال اصبر حتى يشرب الذي قبلك فذعرت من ذلك ذعرا شديدا ونظر إلي فقال لا تخف وإذا بقبرين بينهما مسجد فقلت ما هذا القبران قال قبرا أخوين كانا يعبدان الله عز و جل بهذا الموضع فأنا مقيم بين قبريهما عبدالله حتى الحق بهما فقلت له أفلا تلحق بقومك فتكون معهم في خيرهم وتباينهم على (2/234)
شرهم فقال لي ثكلتك أمك أو ما علمت أن ولد اسماعيل تركوا دين أبيهم واتبعوا الأضداد وعظموا الأنداد ثم أقبل على القبرين وأنشأ يقول ... خليلي هبا طالما قد رقدتما ... أجدكما لا تقضيان كراكما ... أرى النوم بين الجلد والعظم منكما ... كأن الذي يسقي العقار سقاكما ... أمن طول نوم لا تجيبان داعيا ... كأن الذي يسقي العقار سقاكما ... ألم تعلما أني بنجران مفردا ... وما لي فيه من حبيب سواكما ... مقيم على قبريكما لست بارحا ... إياب الليالي أو يجيب صداكما ... أأبكيكما طول الحياة وما الذي ... يرد على ذي لوعة أن بكاكما ... فلو جعلت نفس لنفس أمرىء فدى ... لجدت بنفسي أن تكون فداكما ... كأنكما والموت أقرب غاية ... بروحي في قبريكما قد أتاكما ...
قال فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم رحم الله قسا أما إنه سيبعث يوم القيامة أمة واحدة وهذا الحديث غريب جدا من هذا الوجه وهو مرسل إلا أن يكون الحسن سمعه من الجارود والله أعلم
وقد رواه البيهقي والحافظ أبو القاسم ابن عساكر من وجه آخر من حديث محمد بن عيسى بن محمد بن سعيد القرشي الأخباري ثنا أبي ثنا علي بن سليمان بن علي عن علي بن عبدالله عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال قدم الجارود بن عبدالله ( 1 ) فذكر مثله أو نحوه مطولا بزيادات كثيرة في نظمه ونثره وفيه ما ذكره عن الذي ضل بعيره فذهب في طلبه قال فبت في واد لا آمن فيه جتفي ولا أركن إلى غير سبفي أرقب الكوكب وأرمق الغيهب حتى إذا الليل عسعس وكاد الصبح أن يتنفس هتف بي هاتف يقول ... يا أيها الراقد في الليل الأجم ... قد بعث الله نبيا في الحرم ... من هاشم أهل الوفاء والكرم ... يجلو دجيات الدياجي والبهم ...
قال فأدرت طرفي فما رأيت له شخصا ولا سمعت له فحصا قال فأنشأت أقول ... يا أيها الهاتف في داجي الظلم ... أهلا وسهلا بك من طيف ألم ... بين هداك الله في لحن الكلم ... ماذا الذي تدعو إليه يغتنم ...
قال فإذا أنا بنحنحة وقائلا يقول ظهر النور وبطل الزور وبعث الله محمدا بالحبور صاحب النجيب الأحمر والتاج والمغفر والوجه الأزهر والحاجب الأقمر والطرف الأحور صاحب قول شهادة أن لا إله إلا الله وذلك محمد المبعوث إلى الأسود والأبيض أهل المدر والوبر ثم أنشأ يقول (2/235)
الحمد لله الذي ... لم يخلق الخلق عبث ... لم يخلنا يوما سدى ... من بعد عيسى واكترث ... أرسل فينا أحمدا ... خير نبي قد بعث ... صلى عليه الله ما ... حج له ركب وحث ...
وفيه من إنشاء قس بن ساعدة ... يا ناعي الموت والملحود في جدث ... عليهم من بقايا قولهم خرق ... دعهم فإن لهم يوما يصاح بهم ... فهم إذا انتبهوا من نومهم أرقوا ... حتى يعودوا بحال غير حالهم ... خلقا جديدا كما من قبله خلقوا ... منهم عراة ومنهم في ثيابهم ... منها الجديد ومنها المنهج الخلق ...
ثم رواه البيهقي عن محمد بن عبدالله بن يوسف بن أحمد الأصبهاني حدثنا أبو بكر أحمد بن سعيد ابن فرضخ الاخميمي بمكة ثنا القاسم بن عبدالله بن مهدي ثنا أبو عبيد الله سعيد بن عبدالرحمن المخزومي ثنا سفيان بن عيينة عن أبي حمزة الثمالي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فذكر القصة وذكر الانشاد قال فوجدوا عند رأسه صحيفة فيها ... يا ناعي الموت والأموات في جدث ... عليهم من بقايا نومهم خرق ... دعهم فإن لهم يوما يصاح بهم ... كما تنبه من نوماته الصعق ... منهم عراة وموتى في ثيابهم ... منها الجديد ومنها الازرق الخلق ...
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم والذي بعثني بالحق لقد آمن قس بالبعث وأصله مشهور وهذه الطرق على ضعفها كالمتعاضدة على اثبات أصل القصة وقد تكلم أبو محمد بن درستويه على غريب ما وقع في هذا الحديث وأكثره ظاهر إن شاء الله تعالى وما كان فيه غرابة شديدة نبهنا عليه في الحواشي ( 1 )
وقال البيهقي أنا أبو سعيد بن محمد بن أحمد الشعيثي ثنا أبو عمرو بن أبي طاهر المحمد آباذي لفظا ثنا أبو لبابة محمد بن المهدي الأموردي ( 2 ) ثنا أبي ثنا سعيد بن هبيرة ثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن أنس بن مالك قال قدم وفد إياد على النبي صلى الله عليه و سلم فقال ما فعل قس بن ساعدة قالوا هلك قال أما إني سمعت منه كلاما أرى أني أحفظه فقال بعض القوم نحن نحفظه يا رسول الله قال هاتوا فقال قائلهم إني واقف بسوق عكاظ فقال يا أيها الناس استمعوا واسمعوا وعوا كل من عاش مات وكل من مات فات وكل ما هو آت آت ليل داج وسماء ذات أبراج ونجوم تزهر وبحار تزخر وجبال مرسية وأنهار مجرية إن في السماء لخبرا وإن في الأرض لعبرا أرى الناس يموتون ولا يرجعون ارضوا بالإقامة فأقاموا أم تركوا فناموا أقسم (2/236)
قس قسما بالله لا آثم فيه إن لله دينا هو أرضى مما أنتم عليه ثم أنشأ يقول ... في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصائر ... لما رأيت مصارعا ... للقوم ليس لها مصادر ... ورأيت قومي نحوها ... يمضي الأكابر والأصاغر ... أيقنت إني لا محالة ... حيث صار القوم صائر ...
ثم ساقه البيهقي من طرق أخر قد نبهنا عليها فيما تقدم ثم قال بعد ذلك كله وقد روى هذا الحديث عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس بزيادة ونقصان وروى من وجه آخر عن الحسن البصري منقطعا وروى مختصرا من حديث سعد بن أبي وقاص وأبي هريرة قلت وعبادة بن الصامت كما تقدم وعبدالله بن مسعود كما رواه أبو نعيم في كتاب الدلائل عن عبدالله بن محمد بن عثمان الواسطي عن أبي الوليد طريف بن عبيدالله مولى علي بن أبي طالب بالموصل عن يحيى بن عبدالحميد الحماني عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود فذكره وروى أبو نعيم أيضا حديث عبادة المتقدم وسعد بن أبي وقاص ثم قال البيهقي وإذا روى الحديث من أوجه أخر وان كان بعضها ضعيفا دل على أن للحديث أصلا والله أعلم
زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه
هو زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزي بن رياح بن عبدالله بن قرظ بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي القرشي العدوي وكان الخطاب والد عمر بن الخطاب عمه وأخاه لأمه وذلك لأن عمرو بن نفيل كان قد خلف على امرأة أبيه بعد أبيه وكان لها من نفيل أخوه الخطاب قاله الزبير بن بكار ومحمد بن اسحاق وكان زيد بن عمرو قد ترك عبادة الأوثان وفارق دينهم وكان لا يأكل إلا ما ذبح على اسم الله وحده قال يونس بن بكير عن محمد بن اسحاق حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر قالت لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مسندا ظهره إلى الكعبة يقول يا معشر قريش والذي نفس زيد بيده ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري ثم يقول اللهم إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به ولكني لا أعلم ثم يسجد على راحلته وكذا رواه أبو أسامة عن هشام به وزاد وكان يصلي إلى الكعبة ويقول إلهي إله إبراهيم وديني دين إبراهيم وكان يحيى الموؤدة ويقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته لا تقتلها ادفعها إلي اكفلها فإذا ترعرعت فإن شئت فخذها وإن شئت فادفعها أخرجه النسائي من طريق أبي أسامة وعلقه البخاري فقال وقال الليث كتب إلى هشام بن عروة عن أبيه به وقال يونس بن بكير عن محمد بن اسحاق وقد كان نفر من قريش زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل بن أسد بن (2/237)
عبد العزى وعثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى وعبدالله بن جحش بن رياب بن يعمر بن صبرة بن برة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسعد بن أسد بن خزيمة وأمه أميمة بنت عبدالمطلب وأخته زينب بنت جحش التي تزوجها رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد مولاه زيد بن حارثة كما سيأتي بيانه حضروا قريشا عند وثن لهم كانوا يذبحون عنده لعيد من أعيادهم فلما اجتمعوا خلا بعض أولئك النفر إلى بعض وقالوا تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض فقال قائلهم تعلمن والله ما قومكم على شيء لقد أخطؤا دين إبراهيم وخالفوه ما وثن يعبد لا يضر ولا ينفع فابتغوا لأنفسكم فخرجوا يطلبون ويسيرون في الأرض يلتمسون أهل كتاب من اليهود والنصارى والملل كلها الحنيفية دين إبراهيم فأما ورقة بن نوفل فتنصر واستحكم في النصرانية وابتغى الكتب من أهلها حتى علم علما كثيرا من أهل الكتاب ولم يكن فيهم أعدل أمرا وأعدل ثباتا من زيد بن عمرو بن نفيل اعتزل الأوثان وفارق الأديان من اليهود والنصارى والملل كلها إلا دين الحنيفية دين إبراهيم يوحد الله ويخلع من دونه ولا يأكل ذبائح قومه فإذا هم بالفراق لما هم فيه قال وكان الخطاب قد آذاه أذى كثيرا حتى خرج منه إلى أعلى مكة ووكل به الخطاب شبابا من قريش وسفهاء من سفهائهم فقال لا تتركوه يدخل فكان لا يدخلها إلا سرا منهم فإذا علموا به أخرجوه وآذوه كراهية أن يفسد عليهم دينهم أو يتابعه أحد إلى ما هو عليه وقال موسى بن عقبة سمعت من أرضى يحدث عن زيد بن عمرو بن نفيل كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء ماء وأنبت لها من الأرض لم تذبحوها على غير اسم الله انكارا لذلك وإعظاما له وقال يونس عن ابن اسحاق وقد كان زيد بن عمرو بن نفيل قد عزم على الخروج من مكة فضرب في الأرض يطلب الحنيفية دين إبراهيم وكانت امرأته صفية بنت الحضرمي كلما أبصرته قد نهض للخروج وأراده آدنت الخطاب بن نفيل فخرج زيد إلى الشام يلتمس ويطلب في أهل الكتاب الأول دين إبراهيم ويسأل عنه ولم يزل في ذلك فيما يزعمون حتى أتى الموصل والجزيرة كلها ثم أقبل حتى أتى الشام فجال فيها حتى أتى راهبا ببيعة من أرض البلقاء كان ينتهي إليه علم النصرانية فيما يزعمون فسأله عن الحنيفية دين إبراهيم فقال له الراهب إنك لتسأل عن دين ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم لقد درس من علمه وذهب من كان يعرفه ولكنه قد أظل خروج نبي وهذا زمانه وقد كان شام اليهودية والنصرانية فلم يرض شيئا منها فخرج سريعا حين قال له الراهب ما قال يريد مكة حتى إذا كان بأرض لخم عدوا عليه فقتلوه فقال ورقة يرثيه ... رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما ... تجنبت تنورا من النار حاميا ... بدينك ربا ليس رب كمثله ... وتركك أوثان الطواغي كما هيا ... وقد تدرك الإنسان رحمة ربه ... ولو كان تحت الأرض ستينا واديا ( 1 ) (2/238)
وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة حدثنا أحمد بن طارق الوابشي ثنا عمرو بن عطية عن أبيه عن ابن عمر عن زيد بن عمرو بن نفيل أنه كان يتأله في الجاهلية فانطلق حتى أتى رجلا من اليهود فقال له أحب أن تدخلني معك في دينك فقال له اليهودي لا أدخلك في ديني حتى تبوء بنصيبك من غضب الله فقال من غضب الله أفر فانطلق حتى أتى نصرانيا فقال له أحب أن تدخلني معك في دينك فقال لست أدخلك في ديني حتى تبوء بنصيبك من الضلالة فقال من الضلالة أفر قال له النصراني فإني أدلك على دين إن تبعته اهتديت قال أي دين قال دين إبراهيم قال فقال اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم عليه أحيى وعليه أموت قال فذكر شأنه للنبي صلى الله عليه و سلم فقال هو أمة وحده يوم القيامة وقد روى موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر نحو هذا وقال محمد بن سعد حدثنا علي بن محمد بن عبدالله بن سيف القرشي عن اسماعيل عن مجالد عن الشعبي عن عبدالرحمن بن زيد بن الخطاب قال قال زيد بن عمرو بن نفيل شاممت اليهودية والنصرانية فكرهتهما فكنت بالشام وما والاها حتى أتيت راهبا في صومعة فذكرت له اغترابي عن قومي وكراهتي عبادة الأوثان واليهودية والنصرانية فقال له أراك تريد دين إبراهيم يا أخا أهل مكة انك لتطلب دينا ما يوجد اليوم أحد يدين به وهو دين أبيك إبراهيم كان حنيفا لم يكن يهوديا ولا نصرانيا كان يصلي ويسجد إلى هذا البيت الذي ببلادك فالحق ببلدك فإن الله يبعث من قومك في بلدك من يأتي بدين إبراهيم الحنيفية وهو أكرم الخلق على الله وقال يونس عن ابن اسحاق حدثني بعض آل زيد بن عمرو بن نفيل إن زيدا كان إذا دخل الكعبة قال لبيك حقا حقا تعبدا ورقا عذت بما عاذ به إبراهيم وهو قائم إذ قال الهي انفي لك عان راغم مهما تجشمني فإني جاشم البر أبغي لا انحال ليس مهجر كمن قال وقال أبو داود الطيالسي حدثنا المسعودي عن نفيل بن هشام بن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي عن أبيه عن جده أن زيد بن عمرو وورقة بن نوفل خرجا يلتمسان الدين حتى انتهيا إلى راهب بالموصل فقال لزيد بن عمرو من أين أقبلت يا صاحب البعير فقال من بنية إبراهيم فقال وما تلتمس قال ألتمس الدين قال ارجع فإنه يوشك أن يظهر في أرضك قال
فأما ورقة فتنصر وأما أنا فعزمت على النصرانية فلم يوافقني فرجع وهو يقول ... لبيك حقا حقا تعبدا ورقا ... البر أبغي لا أنحال فهل مهجر كمن قال ( 1 ) ...
آمنت بما آمن به إبراهيم وهو يقول انفي لك عان راغم مهما تجشمني فإني جاشم ثم يخر فيسجد قال وجاء ابنه يعني سعيد بن زيد أحد العشرة رضي الله عنه فقال يا رسول الله إن أبي كما رأيت وكما بلغك فاستغفر له قال نعم فإنه يبعث يوم القيامة أمة واحدة قال وأتى زيد بن عمرو بن زيد على رسول الله صلى الله عليه و سلم ومعه زيد بن حارثة وهما يأكلان من سفرة لهما فدعواه لطعامهما فقال زيد بن عمرو يا ابن (2/239)
أخي أنا لا آكل مما ذبح على النصب وقال محمد بن سعد حدثنا محمد بن عمرو حدثني أبو بكر بن أبي سبرة عن موسى بن ميسرة عن ابن أبي مليكة عن حجر بن أبي أهاب قال رأيت زيد بن عمرو وأنا عند صنم بوانة بعد ما رجع من الشام وهو يراقب الشمس فإذا زالت استقبل الكعبة فصلى ركعة سجدتين ثم يقول هذه قبلة إبراهيم واسماعيل لا أعبد حجرا ولا أصلي له ولا آكل ما ذبح له ولا استقسم الأزلام وإنما أصلي لهذا البيت حتى أموت وكان يحج فيقف بعرفة وكان يلبي فيقول لبيك لا شريك لك ولا ند لك ثم يدفع من عرفة ماشيا وهو يقول لبيك متعبدا مرقوقا
وقال الواقدي حدثني علي بن عيسى الحكمي عن أبيه عن عامر بن ربيعة قال سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يقول أنا انتظر نبيا من ولد اسماعيل ثم من بني عبدالمطلب ولا أراني أدركه وأنا أومن به وأصدقه وأشهد أنه نبي فإن طالت بك مدة فرأيته فأقرئه مني السلام وسأخبرك ما نعته حتى لا يخفى عليك قلت هلم قال هو رجل ليس بالطويل ولا بالقصير ولا بكثير الشعر ولا بقليله وليست تفارق عينه حمرة وخاتم النبوة بين كتفيه واسمه أحمد وهذا البلد مولده ومبعثه ثم يخرجه قومه منها ويكرهون ما جاء به حتى يهاجر إلى يثرب فيظهر أمره فإياك أن تخدع عنه فإني طفت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم فكان من أسأل من اليهود والنصارى والمجوس يقولون هذا الدين وراءك وينعتونه مثل ما نعته لك ويقولون لم يبق نبي غيره قال عامر بن ربيعة فلما أسلمت أخبرت رسول الله صلى الله عليه و سلم قول زيد بن عمرو وأقرائه منه السلام فرد عليه السلام وترحم عليه وقال قد رأيته في الجنة يسحب ذيولا
وقال البخاري في صحيحه ذكر زيد بن عمرو بن نفيل حدثنا محمد بن أبي بكر حدثنا فضيل بن سليمان حدثنا موسى بن عقبة حدثني سالم عن عبدالله بن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه و سلم الوحي فقدمت إلى النبي صلى الله عليه و سلم سفرة فأبى أن يأكل منها ثم قال زيد إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل الا ما ذكر اسم الله عليه وإن زيد بن عمرو يعيب على قريش ذبائحهم ويقول الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء ماء وأنبت لها من الأرض ثم يذبحونها على غير اسم الله انكارا لذلك وإعظاما له
قال موسى بن عقبة وحدثني سالم بن عبدالله ولا أعلمه إلا يحدث به عن ابن عمر أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه فلقي عالما من اليهود فسأله عن دينهم فقال إني لعلي أن أدين دينكم فأخبرني فقال إنك لا تكون على ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله قال زيد وما أفر إلا من غضب الله تعالى ولا أحمل من غضب الله شيئا ولا أستطيعه فهل تدلني على غيره قال ما أعلمه إلا أن تكون حنيفا قال زيد وما الحنيف قال دين إبراهيم عليه السلام لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا يعبد إلا الله فخرج زيد فلقي عالما من النصارى فذكر مثله فقال لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من (2/240)
على غيره قال ما أعلمه إلا أن تكون حنيفا قال وما الحنيف قال دين إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا يعبد إلا الله فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم خرج فلما برز رفع يديه فقال اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم قال وقال الليث كتب إلى هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر قالت رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائما مسندا ظهره إلى الكعبة يقول يا معشر قريش والله ما منكم على دين إبراهيم غيري وكان يحيي الموؤدة يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته لا تقتلها أنا أكفيك مؤنتها فيأخذها فإذا ترعرعت قال لأبها إن شئت دفعها إليك وإن شئت كفيتك مؤنتها انتهى ما ذكره البخاري
وهذا الحديث الأخير قد أسنده الحافظ ابن عساكر من طريق أبي بكر بن أبي داود عن عيسى بن حماد عن الليث عن هشام عن أبيه عن أسماء فذكر نحوه وقال عبدالرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء قالت سمعت زيد بن عمرو بن نفيل وهو مسند ظهره إلى الكعبة يقول يا معشر قريش إياكم والزنا فإنه يورث الفقر وقد ساق ابن عساكر هاهنا أحاديث غريبة جدا وفي بعضها نكارة شديدة ثم أورد من طرق متعددة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال يبعث يوم القيامة أمة واحدة فمن ذلك ما رواه محمد بن عثمان بن أبي شيبة حدثنا يوسف بن يعقوب الصفار حدثنا يحيى بن سعيد الأموي عن مجالد عن الشعبي عن جابر قال سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن زيد بن عمرو بن نفيل أنه كان يستقبل القبلة في الجاهلية ويقول إلهي إله إبراهيم وديني دين إبراهيم ويسجد فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم يحشر ذاك أمة وحده بيني وبين عيسى بن مريم إسناده جيد حسن وقال الواقدي حدثني موسى بن شيبة عن خارجة بن عبدالله بن كعب بن مالك قال سمعت سعيد بن المسيب يذكر زيد بن عمرو بن نفيل فقال توفي وقريش تبني الكعبة قبل أن ينزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه و سلم بخمس سنين ولقد نزل به وأنه ليقول أنا على دين إبراهيم فأسلم ابنه سعيد بن زيد واتبع رسول الله صلى الله عليه و سلم وأتى عمر بن الخطاب وسعيد بن زيد رسول الله صلى الله عليه و سلم فسألاه عن زيد بن عمرو بن نفيل فقال غفر الله له ورحمه فإنه مات على دين إبراهيم قال فكان المسلمون بعد ذلك اليوم لا يذكره ذاكر منهم إلا ترحم عليه واستغفر له ثم يقول سعيد بن المسيب رحمه الله وغفر له وقال محمد بن سعد عن الواقدي حدثني زكريا بن يحيى السعدي عن أبيه قال مات زيد بن عمرو بن نفيل بمكة ودفن بأصل حراء وقد تقدم أنه مات بأرض البلقاء من الشام لما عدا عليه قوم من بني لخم فقتلوه بمكان يقال له ميفعة والله أعلم
وقال الباغندي عن أبي سعيد الأشج عن أبي معاوية عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم دخلت الجنة فرأيت لزيد بن عمرو بن نفيل دوحتين وهذا إسناد جيد وليس هو في شيء من الكتب ومن شعر زيد بن عمرو بن نفيل رحمه الله ما قدمناه في بدء الخلق من تلك القصيدة ... إلى الله أهدي مدحتي وثنائيا ... وقولا رضيا لايني الدهر باقيا (2/241)
إلى الملك الأعلى الذي ليس فوقه ... إله ولا رب يكون مدانيا ...
وقد قيل إنها لأمية بن أبي الصلت والله أعلم ومن شعره في التوحيد ما حكاه محمد بن اسحاق والزبير بن بكار وغيرهما ... وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له الأرض تحمل صخرا ثقالا ... دحاها فلما استوت شدها ... سواء وأرسى عليها الجبالا ... وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له المزن تحمل عذبا زلالا ( 1 ) ... إذا هي سيقت إلى بلدة ... أطاعت فصبت عليها سجالا ... وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له الريح تصرف حالا فحالا ...
وقال محمد بن اسحاق حدثني هشام بن عروة قال روى أبي أن زيد بن عمرو قال ... أرب واحد أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور ... عزلت اللات والعزى جميعا ... كذلك يفعل الجلد الصبور ... فلا العزى أدين ولا ابنتيها ... ولا صنمي بني عمرو أزور ... ولا غنما أدين وكان ربا ... لنا في الدهر إذ حلمي يسير ... عجبت وفي الليالي معجبات ... وفي الأيام يعرفها البصير ... بأن الله قد أفنى رجالا ... كثيرا كان شأنهم الفجور ... وأبقى آخرين ببر قوم ... فيربل ( 2 ) منهم الطفل الصغير ... وبينا المرء يعثر ثاب يوما ... كما يتروح الغصن النضير ... ولكن أعبد الرحمن ربي ... ليغفر ذنبي الرب الغفور ... فتقوى الله ربكم احفظوها ... متى ما تحفظوها لا تبوروا ... ترى الأبرار دارهم جنان ... وللكفار حامية سعير ... وخزي في الحياة وإن يموتوا ... يلاقوا ما تضيق به الصدور ...
هذا تمام ما ذكره محمد بن اسحاق من هذه القصيدة وقد رواه أبو القاسم البغوي عن مصعب بن عبدالله عن الضحاك بن عثمان عن عبدالرحمن بن أبي الزناد قال قال هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر قالت قال زيد بن عمرو بن نفيل ... عزلت الجن والجنان عني ... كذلك يفعل الجلد الصبور ... فلا العزى أدين ولا ابنتيها ... ولا صنمي بني طسم أدير (2/242)
ولاغنما أدين وكان ربا ... لنا في الدهر إذ حلمي صغير ... أربا واحدا أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور ... ألم تعلم بأن الله أفنى ... رجالا كان شأنهم الفجور ... وابقى آخرين ببر قوم ... فيربو منهم الطفل الصغير ... وبينا المرء يعثر ثاب يوما ... كما يتروح الغصن النضير ...
قالت فقال ورقة بن نوفل ... رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما ... تجنبت تنورا من النار حاميا ... لدينك ربا ليس ربا كمثله ... وتركك جنان الجبال كما هيا ... أقول إذا أهبطت أرضا مخوفة ... حنانيك لا تظهر علي الأعاديا ... حنانيك إن الجن كانت رجاءهم ... وأنت إلهي ربنا ورجائيا ... لتدركن المرء رحمة ربه ... وإن كان تحت الأرض سبعين واديا ... أدين لرب يستجيب ولا أرى ... أدين لمن لا يسمع الدهر واعيا ... أقول إذا صليت في كل بيعة ... تباركت قد أكثرت باسمك داعيا ...
تقدم أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام هو وورقة بن نوفل وعثمان بن الحويرث وعبيدالله بن جحش فتنصروا إلا زيدا فإنه لم يدخل في شيء من الأديان بل بقي على فطرته من عبادة الله وحده لا شريك له متبعا ما أمكنه من دين إبراهيم على ما ذكرناه وأما ورقة بن نوفل فسيأتي خبره في أول المبعث وأما عثمان بن الحويرث فأقام بالشام حتى مات فيها عند قيصر وله خبر عجيب ذكره الأموي ومختصره أنه لما قدم على قيصر فشكى إليه ما لقي من قومه كتب له إلى ابن جفنة ملك عرب الشام ليجهز معه جيشا لحرب قريش فعزم على ذلك فكبت إليه الأعراب تنهاه عن ذلك لما رأوا من عظمة مكة وكيف فعل الله بأصحاب الفيل فكساه ابن جفنة قميصا مصبوغا مسموما فمات من سمه فرثاه زيد بن عمرو بن نفيل بشعر ذكره الأموي تركناه اختصارا وكانت وفاته قبل المبعث بثلاث سنين أو نحوها والله سبحانه وتعالى أعلم
شيء من الحوادث في زمن الفترة
فمن ذلك بنيان الكعبة
وقد قيل إن أول من بناه آدم وجاء في ذلك حديث مرفوع عن عبدالله بن عمرو وفي سنده ابن لهيعة وهو ضعيف وأقوى الأقوال أن أول من بناه الخليل عليه السلام كما تقدم وكذلك رواه (2/243)
سماك بن حزب عن خالد بن عرعرة عن علي بن أبي طالب قال ثم تهدم فبنته العمالقة ثم تهدم فبنته جرهم ثم تهدم فبنته قريش قلت سيأتي بناء قريش له وذلك قبل المبعث بخمس سنين وقبل بخمس عشرة سنة وقال الزهري كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد بلغ الحلم وسيأتي ذلك كله في موضعه إن شاء الله وبه الثقة
كعب بن لؤي
روى أبو نعيم من طريق محمد بن الحسن بن زبالة عن محمد بن طلحة التيمي عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن أبي سلمة قال كان كعب بن لؤي يجمع قومه يوم الجمعة وكانت قريش تسميه العروبة فيخطبهم فيقول أما بعد فاسمعوا وتعلموا وافهموا واعلموا ليل ساج ونهار ضاح والأرض مهاد والسماء بناء والجبال أوتاد والنجوم أعلام والأولون كالآخرين والأنثى والذكر والروح وما يهيج إلى بلى فصلوا أرحامكم واحفظوا أصهاركم وثمروا أموالكم فهل رأيتم من هالك رجع أو ميت نشر الدار أمامكم والظن غير ما تقولون حرمكم زينوه وعظموه وتمسكوا به فسيأتي له نبأ عظيم وسيخرج منه نبي كريم ثم يقول ... نهار وليل كل يوم بحادث ... سواء علينا ليلها ونهارها ... يؤوبان بالأحداث حتى تأوبا ... وبالنعم الضافي علينا ستورها ... على غفلة يأتي النبي محمد ... فيخبر أخبارا صدوق خبيرها ...
ثم يقول والله لو كنت فيها ذا سمع وبصر ويد ورجل لتنصبت فيها تنصب الجمل ولأرقلت بها إرقال العجل ثم يقول ... يا ليتني شاهدا نجواء دعوته ... حين العشيرة تبغي الحق خذلانا ...
قال وكان بين موت كعب بن لؤي ومبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم خمسمائة عام وستون سنة
تجديد حفر زمزم
على يدي عبدالمطلب بن هاشم التي كان قد درس رسمها بعد طم جرهم لها إلى زمانه
قال محمد بن اسحاق ثم إن عبدالمطلب بينما هو نائم في الحجر وكان أول ما ابتدى به عبدالمطلب من حفرها كما حدثني يزيد بن أبي حبيب المصري عن مرثد بن عبدالله المزني عن عبدالله بن رزين الغافقي أنه سمع علي بن أبي طالب يحدث حديث زمزم حين أمر عبدالمطلب بحفرها قال قال عبدالمطلب إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت فقال لي احفر طيبة قال قلت وما طيبة قال ثم ذهب عني قال فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فجاءني فقال احفر برة قال قلت وما برة قال ثم ذهب عني فلما كان الغد (2/244)
رجعت إلى مضجعي فنمت فجاءني فقال احفر المضنونة قال قلت وما المضنونة قال ثم ذهب عني فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني قال احفر زمزم قال قلت وما زمزم قال لا تنزف أبدا ولا تزم تسقي الحجيج الأعظم وهي بين الفرث والدم عند نقرة الغراب الأعصم عند قرية النمل قال فلما بين لي شأنها ودل على موضعها وعرف أنه قد صدق غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث بن عبدالمطلب وليس له يومئذ ولد غيره فحفز فلما بدا لعبدالمطلب الطمي كبر فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته فقاموا إليه فقالوا يا عبدالمطلب إنها بئر أبينا اسماعيل وإن لنا فيها حقا فأشركنا معك فيها قال ما أنا بفاعل إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم وأعطيته من بينكم قالوا له فأنصفنا فانا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها قال فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه قالوا كاهنة بني سعد بن هذيم قال نعم وكانت بإشراف الشام فركب عبدالمطلب ومعه نفر من بني أمية وركب من كل قبيلة من قريش نفر فخرجوا والأرض إذ ذاك مفاوز حتى إذا كانوا ببعضها نفد ماء عبدالمطلب وأصحابه فعطشوا حتى استيقنوا بالهلكة فاستسقوا من معهم فأبوا عليهم وقالوا إنا بمفازة وإنا نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم فقال عبدالمطلب إني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما لكم الآن من القوة فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته ثم واروه حتى يكون آخرهم رجلا واحدا فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعه فقالوا نعما أمرت به فحفر كل رجل لنفسه حفرة ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشى ثم إن عبدالمطلب قال لأصحابه ألقينا بأيدينا هكذا للموت لا نضرب في الأرض لا نبتغي لأنفسنا لعجز فعسى أن يرزقنا ماء ببعض البلاد فارتحلوا حتى إذا بعث عبدالمطلب راحلته انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب فكبر عبدالمطلب وكبر أصحابه ثم نزل فشرب وشرب أصحابه واستسقوا حتى ملئوا أسقيتهم ثم دعا قبائل قريش وهم ينظرون إليهم في جميع هذه الأحوال فقال هلموا إلى الماء فقد سقانا الله فجاؤوا فشربوا واستقوا كلهم ثم قالوا قد والله قضى لك علينا والله مانخاصمك في زمزم أبدا إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة هو الذي سقاك زمزم فارجع إلى سقايتك راشدا فرجع ورجعوا معه ولم يصلوا إلى الكاهنة وخلوا بينه وبين زمزم
به قال ابن اسحاق فهذا ما بلغني عن علي بن أبي طالب في زمزم قال ابن اسحاق وقد سمعت من يحدث عن عبدالمطلب أنه قيل له حين أمر بحفر زمزم ... ثم ادع بالماء الروى غير الكدر ... يسقي حجيج الله في كل مبر ... ليس يخاف منه شيء ما عمر ...
قال فخرج عبدالمطلب حين قيل له ذلك إلى قريش فقال تعلموا أني قد أمرت أن أحفر زمزم قالوا فهل بين لك أين هي قال لا قالوا فارجع إلى مضجعك الذي رأيت فيه ما رأيت فإن يك حقا من الله (2/245)
يبين لك وإن يك من الشيطان فلن يعود إليك فرجع ونام فأتى فقيل له احفر زمزم إنك إن حفرتها لن تندم وهي تراث من أبيك الأعظم لا تنزف أبدا ولا تزم تسقي الحجيج الأعظم مثل نعام جافل لم يقسم وينذر فيها نادر بمنعم تكون ميراثا وعقدا محكم ليست لبعض ما قد تعلم وهي بين الفرث والدم
قال ابن اسحاق فزعموا أن عبدالمطلب حين قيل له ذلك قال وأين هي قيل له عند قرية النمل حيث ينقر الغراب غدا فالله أعلم أي ذلك كان قال فغدا عبدالمطلب ومعه ابنه الحارث وليس له يومئذ ولد غيره زاد الأموي ومولاه أصرم فوجد قرية النمل ووجد الغراب ينقر عندها بين الوثنين أساف ونائلة اللذين كانت قريش تنحر عندهما فجاء بالمعول وقام ليحفر حيث أمر فقامت إليه قريش وقالت والله لا نتركنك تحفر بين وثنينا اللذين ننحر عندهما فقال عبدالمطلب لابنه الحارث زد عنى حتى احفر فوالله لأمضين لما أمرت به فلما عرفوا أنه غير نازع خلوا بينه وبين الحفر وكفوا عنه فلم يحر إلا يسيرا حتى بدا له الطمي فكبر وعرف أنه قد صدق فلما تمادى به الحفر وجد فيها غزالتين من ذهب اللتين كانت جرهم قد دفنتهم ووجد فيها أسيافا قلعية وأدرعا فقالت له قريش يا عبدالمطلب لنا معك في هذا شرك وحق قال لا ولكن هلم إلى أمر نصف بيني وبينكم نضرب عليها بالقداح قالوا وكيف نصنع قال اجعل للكعبة قدحين ولي قدحين ولكم قدحين فمن خرج قدحاه على شيء كان له ومن تخلف قدحاه فلا شيء له قالوا أنصفت فجعل للكعبة قدحين أصفرين وله أسودين ولهم أبيضين ثم أعطوا القداح للذي يضرب عند هبل وهبل أكبر أصنامهم ولهذا قال أبو سفيان يوم أحد أعل هبل يعني هذا الصنم وقام عبدالمطلب يدعو الله وذكر يونس بن بكير عن محمد بن اسحاق أن عبدالمطلب جعل يقول ... اللهم أنت الملك المحمود ... ربي أنت المبدىء المعيد ... وممسك الراسية الجلمود ... من عندك الطارف والتليد ... إن شئت ألهمت كما تريد ... لموضع الحلية والحديد ... فبين اليوم لما تريد ... إني نذرت العاهد المعهودا ... أجعله رب لي فلا أعود ...
قال وضرب صاحب القداح فخرج الأصفران على الغزالين للكعبة وخرج الأسودان على الأسياف والأدراع لعبدالمطلب وتخلف قدحا قريش فضرب عبدالمطلب الأسياف بابا للكعبة وضرب في الباب الغزالين من ذهب فكان أول ذهب حلية للكعبة فيما يزعون ثم إن عبدالمطلب أقام سقاية زمزم للحاج وذكر ابن اسحاق وغيره أن مكة كان فيها أبيار كثيرة قبل ظهور زمزم في زمن عبدالمطلب ثم عددها ابن اسحاق وسماها وذكر أماكنها من مكة وحافريها إلى أن قال فعفت زمزم على البئار كلها (2/246)
وانصرف الناس كلهم إليها لمكانها من المسجد الحرام ولفضلها على ما سواها من المياه ولأنها بئر اسماعيل بن إبراهيم وافتخرت بها بنو عبد مناف على قريش كلها وعلى سائر العرب وقد ثبت في صحيح مسلم في حديث إسلام أبي ذران رسول الله صلى الله عليه و سلم قال في زمزم إنها لطعام طعم وشفاء سقم وقال الإمام أحمد حدثنا عبدالله بن الوليد عن عبدالله بن المؤمل عن أبي الزبير عن جابر بن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ماء زمزم لما شرب منه وقد رواه ابن ماجة من حديث عبدالله بن المؤمل وقد تكلموا فيه ولفظه ماء زمزم لما شرب له ورواه سويد بن سعيد عن عبدالله بن المبارك عن عبدالرحمن بن أبي الموالي عن محمد بن المنكدر عن جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ماء زمزم لما شرب له ولكن سويد بن سعيد ضعيف والمحفوظ عن ابن المبارك عن عبدالله بن المؤمل كما تقدم وقد رواه الحاكم عن ابن عباس مرفوعا ماء زمزم لما شرب له وفيه نظر والله أعلم وهكذا روى ابن ماجه أيضا والحاكم عن ابن عباس أنه قال لرجل إذا شربت من زمزم فاستقبل الكعبة واذكر اسم الله وتنفس ثلاثا وتضلع منها فإذا فرغت فاحمد الله فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن آية ما بيننا وبين المنافقين لا يتضلعون من ماء زمزم وقد ذكر عن عبدالمطلب أنه قال اللهم إني لا أحلها لمغتسل وهي لشارب حل وبل وقد ذكره بعض الفقهاء عن العباس بن عبدالمطلب والصحيح أنه عن عبدالمطلب نفسه فإنه هو الذي جدد حفر زمزم كما قدمنا والله أعلم وقد قال الأموي في مغازيه حدثنا أبو عبيد أخبرني يحيى بن سعيد عن عبدالرحمن بن حرملة سمعت سعيد بن المسيب يحدث أن عبدالمطلب بن هاشم حين احتفر زمزم قال لا أحلها لمغتسل وهي لشارب حل وبل وذلك أنه جعل لها حوضين حوضا للشرب وحوضا للوضوء فعند ذلك قال لا أحلها لمغتسل لينزه المسجد عن أن يغتسل فيه قال أبو عبيد قال الأصمعي قوله وبل اتباع قال أبو عبيد والاتباع لا يكون بواو العطف وإنما هو كما قال معتمر بن سليمان أن بل بلغة حمير مباح ثم قال أبو عبيد حدثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم بن أبي النجود أنه سمع ردا أنه سمع العباس يقول لا أحلها لمغتسل وهي لشارب حل وبل وحدثنا عبدالرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن عبدالرحمن بن علقمة أنه سمع ابن عباس يقول ذلك وهذا صحيح اليهما وكأنهما يقولان ذلك في أيامهما على سبيل التبليغ والإعلام بما اشترطه عبدالمطلب عند حفره لها فلا ينافي ما تقدم والله أعلم وقد كانت السقاية إلى عبدالمطلب أيام حياته ثم صارت إلى ابنه أبي طالب مدة ثم اتفق أنه املق في بعض السنين فاستدان من أخيه العباس عشرة آلاف إلى الموسم الآخر وصرفها أبو طالب في الحجيج في عامه فيما يتعلق بالسقاية فلما كان العام المقبل لم يكن مع أبي طالب شيء فقال لأخيه العباس اسلفني أربعة عشر ألفا أيضا إلى العام المقبل أعطيك جميع مالك فقال له العباس بشرط ان لم تعطني تترك السقاية لي أكفكها فقال نعم فلما جاء العام الآخر لم يكن مع أبي طالب ما يعطي العباس فترك له السقاية فصارت إليه ثم من بعده صارت إلى عبدالله ولده (2/247)
ثم إلى علي بن عبدالله بن عباس ثم إلى داود بن علي ثم إلى سليمان بن علي ثم إلى عيسى بن علي ثم أخذها المنصور واستناب عليها مولاه أبا رزين ذكره الأموي
نذر عبدالمطلب ذبح ولده
قال ابن اسحاق وكان عبدالمطلب فيما يزعمون نذر حين لقي من قريش ما لقي عند حفر زمزم لئن ولد له عشرة نفر ثم بلغوا معه حتى يمنعوه ليذبحن أحدهم لله عند الكعبة فلما تكامل بنوه عشرة وعرف أنهم سيمنعونه وهم الحارث والزبير وحجل وضرار والمقوم وأبو لهب والعباس وحمزة وأبو طالب وعبدالله جمعهم ثم أخبرهم بنذره ودعاهم إلى الوفاء لله عز و جل بذلك فأطاعوه وقالوا كيف نصنع قال ليأخذ كل رجل منكم قدحا ثم يكتب فيه اسمه ثم ائتوني ففعلوا ثم أتوه فدخل بهم على هبل في جوف الكعبة وكانت تلك البئر هي التي يجمع فيها ما يهدى للكعبة وكان عند هبل قداح سبعة وهي الأزلام التي يتحاكمون إليها إذا أعضل عليهم أمر من عقل أو نسب أوامر من الأمور جاؤه فاستقسموا بها فما أمرتهم به أو نهتهم عنه امتثلوه والمقصود أن عبدالمطلب لما جاء يستقسم بالقداح عند هبل خرج القدح على ابنه عبدالله وكان أصغر ولده وأحبهم إليه فأخذ عبدالمطلب بيد ابنه عبدالله وأخذ الشفرة ثم أقبل به إلى أساف ونائلة ليذبحه فقامت إليه قريش من أنديتها فقالوا ما تريد يا عبدالمطلب قال اذبحه فقالت له قريش وبنوه أخوة عبدالله والله لا تذبحه أبدا حتى تعذر فيه لئن فعلت هذا لا يزال الرجل يجيء بابنه حتى يذبحه فما بقاء الناس على هذا وذكر يونس بن بكير عن ابن اسحاق أن العباس هو الذي اجتذب عبدالله من تحت رجل أبيه حين وضعها عليه ليذبحه فيقال إنه شج وجهه شجا لم يزل في وجهه إلى أن مات ثم أشارت قريش على عبدالمطلب أن يذهب إلى الحجاز فإن بها عرافة لها تابع فيسألها عن ذلك ثم أنت على رأس أمرك إن أمرتك بذبحه فاذبحه وإن أمرتك بأمر لك وله فيه مخرج قبلته فانطلقوا حتى أتوا المدينة فوجدوا العرافة وهي سجاح فيما ذكره يونس بن بكير عن ابن اسحاق بخيبر فركبوا حتى جاؤها فسألوها وقص عليها عبدالمطلب خبره وخبر ابنه فقالت لهم ارجعوا عني اليوم حتى يأتيني تابعي فأسأله فرجعوا من عندها فلما خرجوا قام عبدالمطلب يدعو الله ثم غدوا عليها فقالت لهم قد جاءني الخبر كم الدية فيكم قالوا عشر من الإبل وكانت كذلك قالت فارجعوا إلى بلادكم ثم قربوا صاحبكم وقربوا عشرا من الإبل ثم اضربوا عليها وعليه بالقداح فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم وإن خرجت على الإبل فانحروها عنه فقد رضي ربكم ونجا صاحبكم فخرجوا حتى قدموا مكة فلما أجمعوا على ذلك الأمر قام عبدالمطلب يدعو الله ثم قربوا عبدالله وعشرا من الإبل ثم ضربوا فخرج القدح على عبدالله فزادوا عشرا ثم ضربوا فخرج القدح على عبدالله فزادوا عشرا فلم (2/248)
يزالوا يزيدون عشرا عشرا ويخرج القدح على عبدالله حتى بلغت الإبل مائة ثم ضربوا فخرج القدح على الإبل فقالت عند ذلك قريش لعبدالمطلب وهو قائم عند هبل يدعو الله قد انتهى رضى ربك يا عبدالمطلب فعندها زعموا أنه قال لا حتى اضرب عليها بالقداح ثلاث مرات فضربوا ثلاثا ويقع القدح فيها على الإبل فنحرت ثم تركت لا يصد عنها انسان ولا يمنع قال ابن هشام ويقال ولا سبع وقد روى أنه لما بلغت الإبل مائة خرج على عبدالله أيضا فزادوا مائة أخرى حتى بلغت مائتين فخرج القدح على عبدالله فزادوا مائة أخرى فصارت الإبل ثلاثمائة ثم ضربوا فخرج القدح على الإبل فنحرها عند ذلك عبدالمطلب والصحيح الأول والله أعلم وقد روى ابن جرير عن يونس بن عبدالأعلى عن ابن وهب عن يونس بن يزيد عن الزهري عن قبيصة بن ذؤيب أن ابن عباس سألته امرأة أنها نذرت ذبح ولدها عند الكعبة فأمرها بذبح مائة من الإبل وذكر لها هذه القصة عن عبدالمطلب وسألت عبدالله بن عمر فلم يفتها بشيء بل توقف فبلغ ذلك مروان بن الحكم وهو أمير على المدينة فقال إنهما لم يصيبا الفتيا ثم أمر المرأة أن تعمل ما استطاعت من خير ونهاها عن ذبح ولدها ولم يأمرها بذبح الإبل وأخذ الناس بقول مروان بذلك والله أعلم
تزويج عبدالمطلب ابنه عبدالله من آمنة بنت وهب الزهرية
قال ابن اسحاق ثم انصرف عبدالمطلب آخذا بيد ابنه عبدالله فمر به فيما يزعمون على امرأة من بني أسد بن عبد العزى بن قصي وهي أم قنال أخت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي وهي عند الكعبة فنظرت إلى وجهه فقالت أين تذهب يا عبدالله قال مع أبي قالت لك مثل الأبل التي نحرت عنك وقع على الآن قال أنا مع أبي ولا أستطيع خلافه ولا فراقه فخرج به عبدالمطلب حتى أتى وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر وهو يومئذ سيد بني زهرة سنا وشرفا فزوجه ابنته آمنة بنت وهب وهي يومئذ سيدة نساء قومها فزعموا أنه دخل عليها حين أملكها مكانه فوقع عليها فحملت منه برسول الله صلى الله عليه و سلم ثم خرج من عندها فأتى المرأة التي عرضت عليه ما عرضت فقال لها ما لك لا تعرضين علي اليوم ما كنت عرضت بالأمس قالت له فارقك النور الذي كان معك بالأمس فليس لي بك حاجة وكانت تسمع من أخيها ورقة بن نوفل وكان قد تنصر واتبع الكتب أنه كائن في هذه الأمة نبي فطمعت أن يكون منها فجعله الله تعالى في أشرف عنصر وأكرم محتد وأطيب أصل كما قال تعالى الله أعلم حيث يجعل رسالاته وسنذكر المولد مفصلا ومما قالت أم قتال بنت نوفل من الشعر تتأسف على ما فاتها من الأمر الذي رامته وذلك فيما رواه (2/249)
البيهقي من طريق يونس بن بكير عن محمد بن اسحاق رحمه الله ... عليك بآل زهرة حيث كانوا ... وآمنة التي حملت غلاما ... ترى المهدي حين نزا عليها ... ونورا قد تقدمه أماما ...
إلى أن قالت ... فكل الخلق يرجوه جميعا ... يسود الناس مهتديا إماما ... يراه الله من نور صفاه ... فأذهب نوره عنا الظلاما ... وذلك صنع ربك إذ حباه ... إذا ما سار يوما أو أقاما ... فيهدي أهل مكة بعد كفر ... ويفرض بعد ذلكم الصياما ...
وقال أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي حدثنا علي بن حرب حدثنا محمد بن عمارة القرشي حدثنا مسلم بن خالد الزنجي حدثنا ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال لما انطلق عبدالمطلب بابنه عبدالله ليزوجه مر به على كاهنة من أهل تبالة متهودة قد قرأت الكتب يقال لها فاطمة بنت مر الخثعمية فرأت نور النبوة في وجه عبدالله فقالت يا فتى هل لك أن تقع علي الآن وأعطيك مائة من الإبل فقال عبدالله ... أما الحرام فالممات دونه ... والحل لا حل فأستبينه ... فكيف بالأمر الذي تبغينه ... يحمي الكريم عرضه ودينه ( 1 ) ...
ثم مضى مع أبيه فزوجه آمنة نبت وهب بن عبد مناف بن زهرة فأقام عندها ثلاثا ثم إن نفسه دعته إلى ما دعته إليه الكاهنة فأتاها فقالت ما صنعت بعدي فأخبرها فقالت والله ما أنا بصاحبة ريبة ولكني رأيت في وجهك نورا فأردت أن يكون في وأبى الله إلا أن يجعله حيث أراد ثم أنشأت فاطمة تقول ... إني رأيت مخيلة لمعت ... فتلألأت بحناتم ( 2 ) القطر ... فلمأتها نورا يضيء له ... ما حوله كإضاءة البدر ... ورجوتها فخرا أبوء به ... ما كل قادح زنده يوري ... لله ما زهرية سلبت ... ثوبيك ما استلبت وما تدري ...
وقالت فاطمة أيضا ... بني هاشم قد غادرت من أخيكم ... أمينة إذ للباه يعتركان (2/250)
كما غادر المصباح عند خموده ... فتائل قد ميثت له بدهان ... وما كل ما يحوي الفتى من تلاده ... بحزم ولا ما فاته لتواني ... فأجمل إذا طالبت أمرا فإنه ... سيكفيكه جدان يعتلجان ... سيكفيكه إما يد مقفللة ... وإما يد مبسوطة ببنان ( 1 ) ... ولما حوت منه أمينة ما حوت ... حوت منه فخرا ما لذلك ثان ...
وروى الإمام أبو نعيم الحافظ في كتاب دلائل النبوة من طريق يعقوب بن محمد الزهري عن عبدالعزيز بن عمران عن عبدالله بن جعفر عن ابن عون عن المسور بن مخرمة عن ابن عباس قال إن عبدالمطلب قدم اليمن في رحلة الشتاء فنزل على حبر من اليهود قال فقال لي رجل من أهل الديور يعني أهل الكتاب يا عبدالمطلب أتأذن لي أن أنظر إلى بعضك قال نعم إذا لم يكن عورة قال ففتح إحدى منخري فنظر فيه ثم نظر في الآخر فقال أشهد ان في إحدى يديك ملكا وفي الأخرى نبوة وإنا نجد ذلك في بني زهرة فكيف ذلك قلت لا أدري قال هل لك من شاغة قلت وما الشاغة قال زوجة قلت أما اليوم فلا قال فإذا رجعت فتزوج فيهم فرجع عبدالمطلب فتزوج هالة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة فولدت حمزة وصفية ثم تزوج عبدالله بن عبدالمطلب آمنة بنت وهب فولدت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت قريش حين تزوج عبدالله بآمنة فلج أي فاز وغلب عبدالله على أبيه عبدالمطلب (2/251)
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب سيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال الله تعالى الله أعلم حيث يجعل رسالاته ولما سأل هرقل ملك الروم لأبي سفيان تلك الأسئلة عن صفاته عليه الصلاة و السلام قال كيف نسبه فيكم قال هو فينا ذو نسب قال كذلك الرسل تبعث في أنساب قومها يعني في أكرمها أحسابا وأكثرها قبيلة صلوات الله عليهم أجمعين
فهو سيد ولد آدم وفخرهم في الدنيا والآخرة أبو القاسم وأبو إبراهيم محمد وأحمد والماحي الذي يمحى به الكفر والعاقب الذي ما بعده نبي والحاشر الذي يحشر الناس على قدميه والمقفى ونبي الرحمة ونبي التوبة ونبي الملحمة وخاتم النبيين والفاتح وطه ويس وعبدالله
قال البيهقي وزاد بعض العلماء فقال سماه الله في القرآن رسولا نبيا أمينا شاهدا مبشرا نذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ورؤفا رحيما ومذكرا وجعله رحمة ونعمة وهاديا
وسنورد الأحاديث المروية في أسمائه عليه الصلاة و السلام في باب نعقده بعد فراغ السيرة فإنه قد وردت أحاديث كثيرة في ذلك اعتنى بجمعها الحافظان الكبيران أبو بكر البيهقي وأبو القاسم بن عساكر وأفرد الناس في ذلك مؤلفات حتى رام بعضهم أن يجمع له عليه الصلاة و السلام ألف اسم وأما الفقيه الكبير أبو بكر بن العربي المالكي شارح الترمذي بكتابه الذي سماه الأحوذي فإنه ذكر من ذلك أربعة وستين اسما والله أعلم
وهو ابن عبدالله وكان أصغر ولد أبيه عبدالمطلب وهو الذبيح الثاني المفدى بمائة من الإبل كما تقدم
قال الزهري وكان أجمل رجال قريش وهو أخو الحارث والزبير وحمزة وضرار وأبي طالب واسمه عبد مناف وأبي لهب واسمه عبد العزى والمقوم واسمه عبد الكعبة وقيل هما إثنان وحجل واسمه المغيرة والغيداق وهو كبير الجود واسمه نوفل ويقال إنه حجل فهؤلاء أعمامه عليه الصلاة (2/252)
والسلام وعماته ست وهن أروى وبرة وأميمة وصفية وعاتكة وأم حكيم وهي البيضاء وسنتكلم على كل منهم فيما بعد إن شاء الله تعالى كلهم أولاد عبدالمطلب واسمه شيبة يقال لشيبة كانت في رأسه ويقال له شيبة الحمد لجوده وإنما قيل له عبدالمطلب لأن أباه هاشما لما مر بالمدينة في تجارته إلى الشام نزل على عمرو بن زيد بن لبيد بن حرام بن خداش بن خندف بن عدي بن النجار الخزرجي النجاري وكان سيد قومه فأعجبته ابنته سلمى فخطبها إلى أبيها فزوجها منه واشترط عليه مقامها عنده وقيل بل اشترط عليه أن لا تلد إلا عنده بالمدينة فلما رجع من الشام بنى بها وأخذها معه إلى مكة فلما خرج في تجارة أخذها معه وهي حبلى فتركها بالمدينة ودخل الشام فمات بغزة ووضعت سلمى ولدها فسمته شيبة فأقام عند أخواله بني عدي بن النجار سبع سنين ثم جاء عمه المطلب بن عبد مناف فأخذه خفية من أمه فذهب به إلى مكة فلما رآه الناس ورأوه على الراحلة قالوا من هذا معك فقال عبدي ثم جاؤا فهنؤه به وجعلوا يقولون له عبدالمطلب لذلك فغلب عليه وساد في قريش سيادة عظيمة وذهب بشرفهم ورآستهم فكان جماع أمرهم عليه وكانت إليه السقاية والرفادة بعد المطلب وهو الذي جدد حفر زمزم بعد ما كانت مطمومة من عهد جرهم وهو أول من طلى الكعبة بذهب في أبوابها من تينك الغزالتين اللتين من ذهب وجدهما في زمزم مع تلك الأسياف القلعية قال ابن هشام وعبدالمطلب أخو أسد وفضلة وأبي صيفي وحية وخالدة ورقية والشفاء وضعيفة كلهم أولاد هاشم واسمه عمرو وانما سمي هاشما لهشمه الثريد مع اللحم لقومه في سني المحل كما قال مطرود بن كعب الخزاعي في قصيدته وقيل للزبعري والد عبدالله ... عمرو الذي هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف ... سنت إليه الرحلتان كلاهما ... سفر الشتاء ورحلة الأصياف ...
وذلك لأنه أول من سن رحلتي الشتاء والصيف وكان أكبر ولد أبيه وحكى ابن جرير أنه كان تؤام أخيه عبد شمس وأن هاشما خرج ورجله ملتصقة برأس عبد شمس فما تخلصت حتى سال بينهما دم فقال الناس بذلك يكون بين أولادهما حروب فكانت وقعة بني العباس مع بني أمية بن عبد شمس سنة ثلاث وثلاثين ومائة من الهجرة وشقيقهم الثالث المطلب وكان المطلب أصغر ولد أبيه وأمهم عاتكة بنت مرة بن هلال ورابعهم نوفل من أم أخرى وهي واقدة بنت عمرو المازنية وكانوا قد سادوا قومهم بعد أبيهم وصارت إليهم الرياسة وكان يقال لهم المجيرون وذلك لأنهم أخذوا لقومهم قريش الأمان من ملوك الأقاليم ليدخلوا في التجارات إلى بلادهم فكان هاشم قد أخذ أمانا من ملوك الشام والروم وغسان وأخذ لهم عبد شمس من النجاشي الأكبر ملك الحبشة وأخذ لهم نوفل من الأكاسرة وأخذ لهم المطلب أمانا من ملوك حمير ولهم يقول الشاعر (2/253)
يا أيها الرجل المحول رحله ... إلا نزلت بآل عبد مناف ...
وكان إلى هاشم السقاية والرفادة بعد أبيه وإليه وإلى أخيه المطلب نسب ذوي القربى وقد كانوا شيئا واحدا في حالتي الجاهلية والإسلام لم يفترقوا ودخلوا معهم في الشعب وانخذل عنهم بنو عبد شمس ونوفل ولهذا يقول أبو طالب في قصيدته ... جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا ... عقوبة شر عاجلا غير آجل ...
ولا يعرف بنو أب تباينوا في الوفاة مثلهم فإن هاشما مات بغزة من أرض الشام وعبد شمس مات بمكة ونوفل مات بسلامان من أرض العراق ومات المطلب وكان يقال له القمر لحسنه بريمان من طريق اليمن فهؤلاء الأخوة الأربعة المشاهير وهم هاشم وعبد شمس ونوفل والمطلب ولهم أخ خامس ليس بمشهور وهو أبو عمرو واسمه عبد وأصل اسمه عبد قصي فقال الناس عبد بن قصي درج ولا عقب له قاله الزبير بن بكار وغيره وأخوات ست وهن تماضر وحية وريطة وقلابة وأم الأخثم وأم سفيان كل هؤلاء أولاد عبد مناف ومناف اسم صنم وأصل اسم عبد مناف المغيرة وكان قد رأس في زمن والده وذهب به الشرف كل مذهب وهو أخو عبد الدار الذي كان أكبر ولد أبيه وإليه أوصى بالمناصب كما تقدم وعبدالعزى وعبد وبرة وتخمر وأمهم كلهم حبى بنت حليل بن حبشي بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعي وأبوها آخر ملوك خزاعة وولاة البيت منهم وكلهم أولاد قصي واسمه زيد وإنما سمي بذلك لأن أمه تزوجت بعد أبيه بربيعة بن حزام بن عذرة فسافر بها إلى بلاده وابنها صغير فسمى قصيا لذلك ثم عاد إلى مكة وهو كبير ولم شعث قريش وجمعها من متفرقات البلاد وأزاح يد خزاعة عن البيت وأجلاهم عن مكة ورجع الحق إلى نصابه وصار رئيس قريش على الإطلاق وكانت إليه الوفادة والسقاية وهو سنها والسدانة والحجابة واللواء وداره دار الندوة كما تقدم بسط ذلك كله ولهذا قال الشاعر ... قصي لعمري كان يدعى مجمعا ... به جمع الله القبائل من فهر ...
وهو أخو زهرة كلاهما ابنا كلاب أخي تيم ويقظة أبي مخزوم ثلاثتهم أبناء مرة أخي عدي وهصيص وهم أبناء كعب وهو الذي كان يخطب قومه كل جمعة ويبشرهم بمبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم وينشد في ذلك أشعارا كما قدمنا وهو أخو عامر وسامة وخزيمة وسعد والحارث وعوف سبعتهم أبناء لؤي أخي تيم الأدرم وهما ابنا غالب أخي الحارث ومحارب ثلاثتهم أبناء فهر وهو أخو الحارث وكلاهما ابن مالك وهو أخو الصلت ويخلد وهم بنو النضر الذي إليه جماع قريش على الصحيح كما قدمنا الدليل عليه وهو أخو مالك وملكان وعبد مناة وغيرهم كلهم أولاد كنانة أخي أسد وأسدة والهون أولاد خزيمة وهو أخو هذيل وهما ابنا مدركة واسمه عمرو أخو طابخة واسمه عامر وقمعة ثلاثتهم أبناء الياس (2/254)
وأخي الياس هو غيلان والد قيس كلها وهما ولدا مضر أخي ربيعة ويقال لهما الصريحان من ولد اسماعيل وأخواهما أنمار واياد تيامنا أربعتهم أبناء نزار أخي قضاعة في قول طائفة ممن ذهب إلى أن قضاعة حجازية عدنانية وقد تقدم بيانه كلاهما أبناء معد بن عدنان
وهذا النسب بهذه الصفة لا خلاف فيه بين العلماء فجميع قبائل عرب الحجاز ينتهون إلى هذا النسب ولهذا قال ابن عباس وغيره في قوله تعالى قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى لم يكن بطن من بطون قريش الا ولرسول الله صلى الله عليه و سلم نسب يتصل بهم وصدق ابن عباس رضي الله عنه فيما قال وأزيد مما قال وذلك أن جميع قبائل العرب العدنانية تنتهي إليه بالآباء وكثير منهم بالأمهات أيضا كما ذكره محمد بن اسحاق وغيره في أمهاته وأمهات آبائه وأمهاتهم ما يطول ذكره وقد حرره ابن اسحاق رحمه الله والحافظ ابن عساكر وقد ذكرنا في ترجمة عدنان نسبه وما قيل فيه وأنه من ولد اسماعيل لا محالة وإن اختلف في كم بينهما أبا على أقوال قد بسطناها فيما تقدم والله أعلم
وقد ذكرنا بقية النسب من عدنان إلى آدم وأوردناه قصيدة أبي العباس الناشيء المتضمنة ذلك كل ذلك في أخبار عرب الحجاز ولله الحمد
وقد تلكم الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله في أول تاريخه على ذلك كلاما مبسوطا جيدا محررا نافعا وقد ورد حديث في انتسابه عليه السلام إلى عدنان وهو على المنبر ولكن الله أعلم بصحته كما قال الحافظ أبو بكر البيهقي أنبأنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر بن حفص المقرىء ببغداد حدثنا أبو عيسى بكار بن أحمد بن بكار حدثنا أبو جعفر أحمد بن موسى بن سعد املاء سنة ست وتسعين ومائتين حدثنا أبو جعفر محمد بن أبان القلانسي حدثنا أبو محمد عبدالله بن محمد بن ربيعة القدامي حدثنا مالك بن أنس عن الزهري عن أنس وعن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام قال بلغ النبي صلى الله عليه و سلم أن رجالا من كندة يزعمون أنهم منه وأنه منهم فقال إنما كان يقول ذلك العباس وأبو سفيان بن حرب فيأمنا بذلك وإنا لن ننتفي من آبائنا نحن بنو النضر بن كنانة قال وخطب النبي صلى الله عليه و سلم فقال أنا محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نذار وما افترق الناس فرقتين إلا جعلني الله في خيرها فأخرجت من بين أبوي فلم يصبني شيء من عهر الجاهلية وخرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم حتى انتهيت إلى أبي وأمي فأنا خيركم نفسا وخيركم أبا وهذا حديث غريب جدا من حديث مالك تفرد به القدامى وهو ضعيف ولكن سنذكر له شواهد من وجوه أخر فمن ذلك قوله خرجت من نكاح لا من سفاح قال عبدالرزاق أخبرنا ابن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه أبي جعفر الباقر في قوله تعالى لقد جاءكم رسول من أنفسكم قال لم يصبه شيء (2/255)
من ولادة الجاهلية قال وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إني خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح وهذا مرسل جيد وهكذا رواه البيهقي عن الحاكم عن الأصم عن محمد بن إسحاق الصنعاني عن يحيى بن أبي بكير عن عبد الغفار بن القاسم عن جعفر بن محمد عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله أخرجني من النكاح ولم يخرجني من السفاح وقد رواه ابن عدي موصولا فقال حدثنا أحمد بن حفص حدثنا محمد بن أبي عمرو العدني المكي حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين قال أشهد على أبي حدثني عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه و سلم قال خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلى ان ولدني ابي وأمي ولم يصبني من سفاح الجاهلية شيء هذا غريب من هذا الوجه ولا يكاد يصح وقال هشيم حدثنا المديني عن أبي الحويرث عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما ولدني من نكاح أهل الجاهلية شيء ما ولدني إلا نكاح كنكاح الإسلام وهذا أيضا غريب أورده الحافظ ابن عساكر ثم أسنده من حديث أبي هريرة وفي إسناده ضعف والله أعلم وقال محمد بن سعد أخبرنا محمد بن عمر حدثني محمد بن عبدالله بن مسلم عن عمه الزهري عن عروة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ولدت من نكاح غير سفاح ثم أورد ابن عساكر من حديث أبي عاصم عن شبيب عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى وتقلبك في الساجدين قال من نبي إلى نبي حتى أخرجت نبيا ورواه عن عطاء وقال محمد بن سعد أخبرنا هشام بن محمد الكلبي عن أبيه قال كتبت للنبي صلى الله عليه و سلم خمسمائة أم فما وجدت فيهن سفاحا ولا شيئا مما كان من أمر الجاهلية وثبت في صحيح البخاري من حديث عمرو بن أبي عمرو عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه وفي صحيح مسلم من حديث الأوزاعي عن شداد أبي عمار عن واثلة بن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن الله اصطفى من ولد إبراهيم اسماعيل واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة واصطفى من بني كنانة قريشا واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم وقال الإمام أحمد حدثنا أبو نعيم عن سفيان عن يزيد بن أبي زياد عن عبدالله بن الحارث بن نوفل عن المطلب بن أبي وداعة قال قال العباس بلغه صلى الله عليه و سلم بعض ما يقول الناس فصعد المنبر فقال من أنا قالوا أنت رسول الله قال أنا محمد بن عبدالله بن عبد المطلب إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه وجعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقة وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة وجعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا فأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا صلوات الله وسلامه عليه دائما أبدا إلى يوم الدين وقال يعقوب بن سفيان حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسماعيل بن أبي خالد عن يزيد بن أبي زياد عن عبدالله بن الحارث بن نوفل عن العباس بن عبد المطلب قال قلت يا رسول الله إن قريشا إذا التقوا لقي بعضهم بعضا بالبشاشة وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها فغضب (2/256)
رسول الله صلى الله عليه و سلم عند ذلك غضبا شديدا ثم قال والذي نفس محمد بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله فقلت يا رسول الله إن قريشا جلسوا فتذاكروا أحسابهم فجعلوا مثلك كمثل نخلة في كبوة من الأرض فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله يوم خلق الخلق جعلني في خيرهم ثم لما فرقهم قبائل جعلني في خيرهم قبيلة ثم حين جعل البيوت جعلني في خير بيوتهم فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا ورواه أبو بكر بن أبي شيبة عن ابن فضيل عن يزيد بن أبي زياد عن عبدالله بن الحارث عن ربيعة بن الحارث قال بلغ النبي صلى الله عليه و سلم فذكره بنحو ما تقدم ولم يذكر العباس وقال يعقوب بن سفيان حدثني يحيى بن عبد الحميد حدثني قيس بن عبدالله عن الأعمش عن عليلة بن ربعي عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله قسم الخلق قسمين فجعلني في خيرهما قسما فذلك قوله وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال فأنا من أصحاب اليمين وأنا خير أصحاب اليمين ثم جعل القسمين أثلاثا فجعلني في خيرها ثلثا فذلك قوله وأصحاب الميمنة والسابقون السابقون فأنا من السابقين وأنا خير السابقين ثم جعل الأثلاث قبائل فجعلني في خيرها قبيلة فذلك قوله وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير وأنا أتقى ولد آدم وأكرمهم على الله ولا فخر ثم جعل القبائل بيوتا فجعلني في خيرها بيتا وذلك قوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا فأنا وأهل بيتي مطهرون من الذنوب وهذا الحديث فيه غرابة ونكارة وروى الحاكم والبيهقي من حديث محمد بن ذكوان خال ولد حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن ابن عمر قال إنا لقعود بفناء النبي صلى الله عليه و سلم إذ مرت به امرأة فقال بعض القوم هذه ابنة رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أبو سفيان مثل محمد في بني هاشم مثل الريحانة في وسط النتن فانطلقت المرأة فأخبرت النبي صلى الله عليه و سلم فجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم يعرف في وجهه الغضب فقال ما بال أقوام تبلغني عن أقوام إن الله خلق السماوات سبعا فاختار العلياء منها فأسكنها من شاء من خلقه ثم خلق الخلق فاختار من الخلق بني آدم واختار من بني آدم العرب واختار من العرب مضر واختار من مضر قريشا واختار من قريش بني هاشم واختارني من بني هاشم فأنا خيار من خيار فمن أحب العرب فبحبي احبهم ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم هذا أيضا حديث غريب وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر وروى الحاكم والبيهقي أيضا من حديث موسى بن عبيدة حدثنا عمرو بن عبدالله بن نوفل عن الزهري عن أبي أسامة أو أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لي جبريل قلبت الأرض من مشارقها ومغاربها فلم أجد رجلا أفضل من محمد وقلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم قال الحافظ البيهقي وهذه الأحاديث وإن كان في رواتها من لا يحتج به فبعضها يؤكد بعضا ومعنى جميعها يرجع إلى حديث واثلة بن الأسقع والله أعلم (2/257)
قلت وفي هذا المعنى يقول أبو طالب يمتدح النبي صلى الله عليه و سلم ... إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر ... فعبد مناف سرها وصميمها ... فإن حصلت أشراف عبد منافها ... ففي هاشم أشرافها وقديمها ... وإن فخرت يوما فإن محمدا ... هو المصطفى من سرها وكريمها ... تداعت قريش غثها وسمينها ... علينا فلم تظفر وطاشت حلومها ... وكنا قديما لا نقر ظلامة ... إذا ما ثنوا صعر الخدود نقيمها ... ونحمي حماها كل يوم كريهة ... ونضرب عن أجحارها من يرومها ... بنا انتعش العود الذواء وإنما ... بأكنافنا تندى وتنمى أرومها ...
وقال أبو السكن زكريا بن يحيى الطائي في الجزء المنسوب إليه المشهور حدثني عمر بن أبي زحر بن حصين عن جده حميد بن منهب قال قال جدي خريم بن أوس هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقدمت عليه منصرف من تبوك فأسلمت فسمعت العباس بن عبد المطلب يقول يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم قل لا يفضض الله فاك فأنشأ يقول ... من قبلها طبت في الظلال وفي ... مستودع حيث يخصف الورق ... ثم هبطت البلاد لا بشر أنت ... ولا مضغة ولا علق ... بل نطفة تركب السفين وقد ... الجم نسرا وأهله الغرق ... تنقل من صلب إلى رحم ... إذا مضى عالم بدا طبق ... حتى احتوى بيتك المهيمن من ... خندف علياء تحتها النطق ... وأنت لما ولدت أشرقت الأرض ... وضاءت بنورك الأفق ... فنحن في ذلك الضياء وفي النور ... وسبل الرشاد نخترق ...
وقد روى هذا الشعر لحسان بن ثابت فروى الحافظ أبو القاسم بن عساكر من طريق أبي الحسن ابن أبي الحديد أخبرنا محمد بن أبي نصر أنا عبد السلام بن محمد بن أحمد القرشي حدثنا أبو حصين محمد بن إسماعيل بن محمد التميمي حدثنا محمد بن عبدالله الزاهد الخراساني حدثني إسحاق بن إبراهيم بن سنان حدثنا سلام بن سليمان أبو العباس المكفوف المدائني حدثنا ورقاء بن عمر عن ابن أبي نجيح عن عطاء ومجاهد عن ابن عباس قال سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت فداك أبي وأمي أين كنت وآدم في الجنة قال فتبسم حتى بدت نواجذه ثم قال كنت في صلبه وركب بي السفينة في صلب أبي نوح وقذف بي في صلب أبي إبراهيم لم يلتق أبواي على سفاح قط لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الحسيبة إلى الأرحام الطاهرة صفتي مهدي لا ينشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما وقد أخذ الله بالنبوة ميثاقي وبالإسلام عهدي (2/258)
ونشر في التوراه والانجيل ذكري وبين كل نبي صفتي تشرق الأرض بنوري والغمام بوجهي وعلمني كتابه وزادني شرفا في سمائه وشق لي اسما من أسمائه فذو العرش محمود وأنا محمد وأحمد ووعدني أن يحبوني بالحوض والكوثر وأن يجعلني أول شافع وأول مشفع ثم أخرجني من خير قرن لأمتي وهم الحمادون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر قال ابن عباس فقال حسان بن ثابت في النبي صلى الله عليه و سلم ... قبلها طبت في الظلال وفي ... مستودع يوم يخصف الورق ... ثم سكنت البلاد لا بشر أنت ... ولا نطفة ولا علق ... مطهر تركب السفين وقد ... ألجم نسرا وأهله الغرق ... تنقل من صلب إلى رحم ... إذا مضى طبق بدا طبق ...
فقال النبي صلى الله عليه و سلم يرحم الله حسانا فقال علي بن أبي طالب وجبت الجنة لحسان ورب الكعبة ثم قال الحافظ ابن عساكر هذا حديث غريب جدا
قلت بل منكر جدا والمحفوظ أن هذه الأبيات للعباس رضي الله عنه ثم أوردها من حديث أبي السكن زكريا بن يحيى الطائي كما تقدم
قلت ومن الناس من يزعم أنها للعباس بن مرداس السلمي فالله أعلم
تنبيه قال القاضي عياض في كتابه الشفاء وأما احمد الذي أتى في الكتب وبشرت به الانبياء فمنع الله بحكمته أن يسمى به أحد غيره ولا يدعى به مدعو قبله حتى لا يدخل لبس على ضعيف القلب أو شك وكذلك محمد لم يسم به أحد من العرب ولا غيرهم إلى أن شاع قبل وجوده وميلاده أن نبيا يبعث اسمه محمد فسمى قوم قليل من العرب أبناءهم بذلك رجاء ان يكون أحدهم هو والله أعلم حيث يجعل رسالاته وهم محمد بن أحيحة بن الجلاح الأوسي ومحمد بن سلمة الأنصاري ومحمد بن البراء الكندي ومحمد بن سفيان بن مجاشع ومحمد بن حمران الجعفي ومحمد بن خزاعى السلمي لا سابع لهم ويقال إن اول من سمي محمدا محمد بن سفيان بن مجاشع واليمن تقول بل محمد بن ليحمد من الأزد ثم إن الله حمى كل من تسمى به أن يدعي النبوة أو يدعيها له أحد أو يظهر عليه سبب يشكل أحدا في أمره حتى تحققت الشيمتان له صلى الله عليه و سلم لم ينازع فيهما هذا لفظه
باب مولد رسول الله صلى الله عليه و سلم
ولد صلوات الله عليه وسلامه يوم الاثنين لما رواه مسلم في صحيحه من حديث غيلان بن جرير بن عبدالله بن معبد الزماني عن أبي قتادة أن اعرابيا قال يا رسول الله ما تقول في صوم يوم الاثنين فقال ذاك يوم ولدت فيه وأنزل علي فيه وقال الإمام أحمد حدثنا موسى بن داود حدثنا ابن لهيعة عن (2/259)
خالد بن أبي عمران عن حنش الصنعاني عن ابن عباس قال ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الاثنين واستنبىء يوم الاثنين وخرج مهاجرا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين وقدم المدينة يوم الاثنين وتوفي يوم الاثنين ورفع الحجر الأسود يوم الاثنين تفرد به أحمد ورواه عمرو بن بكير عن ابن لهيعة وزاد نزلت سورة المائدة يوم الاثنين اليوم أكملت لكم دينكم وهكذا رواه بعضهم عن موسى بن داود به وزاد أيضا وكانت وقعة بدر يوم الاثنين وممن قال هذا يزيد بن حبيب وهذا منكر جدا قال ابن عساكر والمحفوظ أن بدرا ونزول اليوم أكملت لكم دينكم يوم الجمعة وصدق ابن عساكر وروى عبدالله بن عمر عن كريب عن ابن عباس ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الاثنين وتوفي يوم الاثنين وهكذا روى من غير هذا الوجه عن ابن عباس أنه ولد يوم الاثنين وهذا ما لا خلاف فيه أنه ولد صلى الله عليه و سلم يوم الاثنين وأبعد بل أخطأ من قال ولد يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من ربيع الأول نقله الحافظ ابن دحية فيما قرأه في كتاب أعلام الروي بأعلام الهدى لبعض الشيعة ثم شرع ابن دحية في تضعيفه وهو جدير بالتضعيف إذ هو خلاف النص ثم الجمهور على أن ذلك كان في شهر ربيع الأول فقيل لليلتين خلتا منه قاله ابن عبد البر في الاستيعاب ورواه الواقدي عن أبي معشر نجيح بن عبدالرحمن المدني وقيل لثمان خلون منه حكاه الحميدي عن ابن حزم ورواه مالك وعقيل ويونس بن يزيد وغيرهم عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم ونقل ابن عبد البر عن أصحاب التاريخ انهم صححوه وقطع به الحافظ الكبير محمد بن موسى الخوارزمي ورجحه الحافظ أبو الخطاب بن دحية في كتابه التنوير في مولد البشير النذير وقيل لعشر خلون منه نقله ابن دحية في كتابه ورواه ابن عساكر عن أبي جعفر الباقر ورواه مجالد عن الشعبي كما مر وقيل لثنتي عشرة خلت منه نص عليه ابن إسحاق ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن عفان عن سعيد بن مينا عن جابر وابن عباس أنهما قالا ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم عام الفيل يوم الاثنين الثامن عشر ( 1 ) من شهر ربيع الأول وفيه بعث وفيه عرج به إلى السماء وفيه هاجر وفيه مات وهذا هو المشهور عند الجمهور والله أعلم وقيل لسبعة عشر خلت منه كما نقله ابن دحية عن بعض الشيعة وقيل لثمان بقين منه نقله ابن دحية من خط الوزير أبي رافع بن الحافظ أبي محمد بن حزم عن أبيه والصحيح عن ابن حزم الأول أنه لثمان مضين منه كما نقله عنه الحميدي وهو أثبت والقول الثاني أنه ولد في رمضان نقله ابن عبد البر عن الزبير بن بكار وهو قول غريب جدا وكان مستنده أنه عليه الصلاة و السلام أوحى إليه في رمضان بلا خلاف وذلك على رأس أربعين سنة من عمره فيكون مولده في رمضان وهذا فيه نظر والله أعلم وقد روى خيثمة بن سليمان الحافظ عن خلف بن محمد كردوس الواسطي عن المعلى بن عبدالرحمن عن عبد الحميد بن جعفر عن الزهري عن عبيد الله بن عبدالله عن (2/260)
ابن عباس قال ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الاثنين في ربيع الأول وأنزلت عليه النبوة يوم الاثنين في أول شهر ربيع الأول وأنزلت عليه البقرة يوم الاثنين في ربيع الأول وهذا غريب جدا رواه ابن عساكر قال الزبير بن بكار حملت به أمه في أيام التشريق في شعب أبي طالب عند الجمرة الوسطى وولد بمكة بالدار المعروفة بمحمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف لثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان ورواه الحافظ ابن عساكر من طريق محمد بن عثمان بن عقبة بن مكرم عن المسيب بن شريك عن شعيب بن شعيب عن أبيه عن جده قال حمل برسول الله صلى الله عليه و سلم في يوم عاشوراء في المحرم وولد يوم الاثنين لثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة ثلاث وعشرين من غزوة أصحاب الفيل وذكر غيره أن الخيزران وهي أم هارون الرشيد لما حجت أمرت ببناء هذه الدار مسجدا فهو يعرف بها اليوم وذكر السهيلي ان مولده عليه الصلاة و السلام كان في العشرين من نيسان وهذا أعدل الزمان والفصول وذلك لسنة اثنتين وثمانين وثمانمائة لذي القرنين فيما ذكر أصحاب الزيج وزعموا أن الطالع كان لعشرين درجة من الجدي وكان المشتري وزحل مقترنين في ثلاث درج من العقرب وهي درجة وسط السماء وكان موافقا من البروج الحمل وكان ذلك عند طلوع القمر أول الليل نقله كله ابن دحية والله
أعلم قال ابن إسحاق وكان مولده عليه الصلاة و السلام عام الفيل وهذا هو المشهور عن الجمهور قال إبراهيم بن المنذر الحزامي وهو الذي لا يشك فيه أحد من علمائنا أنه عليه الصلاة و السلام ولد عام الفيل وبعث على رأس اربعين سنة من الفيل وقد رواه البيهقي من حديث أبي إسحاق السبيعي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم عام الفيل وقال محمد بن إسحاق حدثني المطلب بن عبدالله بن قيس بن مخرمة عن أبيه عن جده قيس بن مخرمة قال ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه و سلم عام الفيل كنا لدين قال وسأل عثمان رضي الله عنه قباث بن أشيم أخا بني يعمر بن ليث أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أكبر مني وأنا أقدم منه في الميلاد ورأيت خزق الفيل أخضر محيلا ورواه الترمذي والحاكم من حديث محمد بن إسحاق به
قال ابن إسحاق وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم عام عكاظ ابن عشرين سنة
وقال ابن إسحاق كان الفجار بعد الفيل بعشرين سنة وكان بناء الكعبة بعد الفجار بخمسة عشر سنة والمبعث بعد بنائها بخمس سنين وقال محمد بن جبير بن مطعم كانت عكاظ بعد الفيل بخمس عشرة سنة وبناء الكعبة بعد عكاظ بعشر سنين والمبعث بعد بنائها بخمس عشرة سنة وروى الحافظ البيهقي من حديث عبد العزيز بن أبي ثابت المديني حدثنا الزبير بن موسى عن أبي الحويرث قال سمعت عبد الملك بن مروان يقول لقباث بن أشيم الكناني ثم الليثي يا قباث أنت أكبر أم رسول الله (2/261)
صلى الله عليه و سلم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أكبر مني وأنا أسن ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم عام الفيل ووقفت بي أمي على روث الفيل محيلا أعقله وتنبأ رسول الله صلى الله عليه و سلم على رأس أربعين سنة وقال يعقوب بن سفيان حدثنا يحيى بن عبدالله بن بكير حدثنا نعيم يعني ابن ميسرة عن بعضهم عن سويد بن غفلة أنه قال أنا لدة رسول الله صلى الله عليه و سلم ولدت عام الفيل قال البيهقي وقد روى عن سويد بن غفلة أنه قال أنا أصغر من رسول الله صلى الله عليه و سلم بسنتين قال يعقوب وحدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا عبد العزيز بن أبي ثابت حدثني عبدالله بن عثمان بن أبي سليمان النوفلي عن أبيه عن محمد بن جبير بن مطعم قال ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم عام الفيل وكانت بعده عكاظ بخمس عشرة سنة وبنى البيت على رأس خمس وعشرين سنة من الفيل وتنبأ رسول الله صلى الله عليه و سلم على رأس أربعين سنة من الفيل
والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولد عام الفيل على قول الجمهور فقيل بعده بشهر وقيل بأربعين يوما وقيل بخمسين يوما وهو أشهر وعن أبي جعفر الباقر كان قدوم الفيل للنصف من المحرم ومولد رسول الله صلى الله عليه و سلم بعده بخمس وخمسين ليلة وقال آخرون بل كان عام الفيل قبل مولد رسول الله صلى الله عليه و سلم بعشر سنين قاله ابن أبزى وقيل بثلاث وعشرين سنة رواه شعيب بن شعيب عن أبيه عن جده كما تقدم وقيل بعد الفيل بثلاثين سنة قاله موسى بن عقبة عن الزهري رحمه الله واختاره موسى بن عقبة ايضا رحمه الله وقال أبو زكريا العجلاني بعد الفيل بأربعين عاما رواه ابن عساكر وهذا غريب جدا وأغرب منه ما قال خليفة بن خياط حدثني شعيب بن حبان عن عبد الواحد بن أبي عمرو عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل الفيل بخمس عشرة سنة وهذا حديث غريب ومنكر وضعيف أيضا قال خليفة بن خياط والمجتمع عليه أنه عليه السلام ولد عام الفيل
صفة مولده الشريف عليه الصلاة و السلام
قد تقدم أن عبد المطلب لما ذبح تلك الابل المائة عن ولده عبدالله حين كان نذر ذبحه فسلمه الله تعالى لما كان قدر في الازل من ظهور النبي الأمي صلى الله عليه و سلم خاتم الرسل وسيد ولد آدم من صلبه فذهب كما تقدم فزوجه أشرف عقيلة في قريش آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة الزهرية فحين دخل بها وأفضى إليها حملت برسول الله صلى الله عليه و سلم وقد كانت أم قتال رقيقة بنت نوفل أخت ورقة بن نوفل توسمت ما كان بين عيني عبدالله قبل ان يجامع آمنة من النور فودت أن يكون ذلك متصلا بها لما كانت تسمع من اخيها من البشارات بوجود محمد صلى الله عليه و سلم وأنه قد أزف زمانه فعرضت نفسها عليه قال بعضهم ليتزوجها وهو أظهر والله أعلم فامتنع عليها فلما انتقل ذلك النور الباهر إلى آمنة بمواقعته (2/262)
أياها كأنه تندم على ما كانت عرضت عليه فتعرض لها لتعاوده فقالت لا حاجة لي فيك وتأسفت على ما فاتها من ذلك وأنشدت في ذلك ما قدمناه من الشعر الفصيح البليغ وهذه الصيانة لعبدالله ليست له وإنما هي لرسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه كما قال تعالى الله أعلم حيث يجعل رسالاته وقد تقدم الحديث المروي من طريق جيد أنه قال عليه الصلاة و السلام ولدت من نكاح لا من سفاح
والمقصود أن أمه حين حملت به توفي أبوه عبدالله وهو حمل في بطن أمه على المشهور قال محمد بن سعد حدثنا محمد بن عمر هو الواقدي حدثنا موسى بن عبيدة اليزيدي وحدثنا سعيد بن أبي زيد عن أيوب بن عبدالرحمن بن أبي صعصعة قال خرج عبدالله بن عبد المطلب إلى الشام إلى غزة في عير من عيران قريش يحملونه تجارات ففرغوا من تجارتهم ثم انصرفوا فمروا بالمدينة وعبدالله بن عبد المطلب يومئذ مريض فقال أتخلف عند أخوالي بني عدي بن النجار فأقام عندهم مريضا شهرا ومضى اصحابه فقدموا مكة فسألهم عبد المطلب عن ابنه عبدالله فقالوا خلفناه عند اخواله بني عدي بن النجار وهو مريض فبعث إليه عبد المطلب أكبر ولده الحارث فوجده قد توفي ودفن في دار النابغة فرجع إلى أبيه فأخبره فوجد عليه عبد المطلب وإخوته وأخواته وجدا شديدا ورسول الله صلى الله عليه و سلم يومئذ حمل ولعبدالله بن عبد المطلب يوم توفي خمس وعشرون سنة
قال الواقدي هذا هو أثبت الأقاويل في وفاة عبدالله وسنه عندنا قال الواقدي وحدثني معمر عن الزهري أن عبد المطلب بعث عبدالله إلى المدينة يمتار لهم تمرا فمات قال محمد بن سعد وقد أنبأنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه وعن عوانة بن الحكم قالا توفي عبدالله بن عبد المطلب بعد ما أتى على رسول الله صلى الله عليه و سلم ثمانية وعشرين شهرا وقيل سبعة أشهر وقال محمد بن سعد والأول أثبت أنه توفي ورسول الله صلى الله عليه و سلم حمل وقال الزبير بن بكار حدثني محمد بن حسن عن عبد السلام عن ابن خربوذ قال توفي عبدالله بالمدينة ورسول الله صلى الله عليه و سلم ابن شهرين وماتت أمه وهو ابن أربع سنين ومات جده وهو ابن ثمان سنين فأوصى به إلى عمه أبي طالب والذي رجحه الواقدي وكاتبه الحافظ محمد بن سعد انه عليه الصلاة و السلام توفي أبوه وهو جنين في بطن أمه وهذا أبلغ اليتم وأعلى مراتبه وقد تقدم في الحديث ورؤيا أمي الذي رأت حين حمل بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام وقال محمد بن إسحاق فكانت آمنة بنت وهب ام رسول الله صلى الله عليه و سلم تحدث أنها أتيت حين حملت برسول الله صلى الله عليه و سلم فقيل لها إنك قد حملت بسيد هذه الأمة فإذا وقع إلى الأرض فقولي أعيذه بالواحد من شر كل حاسد من كل بر عاهد ( 1 ) وكل عبد رائد يذود عني ذائد فإنه عند الحميد الماجد حتى أراه قد أتى المشاهد وآية ذلك أنه يخرج معه نور يملأ قصور بصرى من ارض الشام فإذا وقع فسميه محمدا فإن اسمه في التوراة أحمد يحمده أهل السماء وأهل (2/263)
الأرض واسمه في الإنجيل أحمد يحمده أهل السماء وأهل الأرض واسمه في القرآن محمد وهذا وذاك يقتضي أنها رأت حين حملت به عليه السلام كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام ثم لما وضعته رأت عيانا تأويل ذلك كما رأته قبل ذلك هاهنا والله أعلم
وقال محمد بن سعد أنبأنا محمد بن عمر هو الواقدي حدثنا محمد بن عبدالله بن مسلم عن الزهري وقال الواقدي حدثنا موسى بن عبدة عن أخيه ومحمد بن كعب القرظي وحدثني عبدالله بن جعفر الزهري عن عمته أم بكر بنت المسود عن أبيها وحدثنا عبدالرحمن بن إبراهيم المزني وزياد بن حشرج عن أبي وجزة وحدثنا معمر عن أبي نجيح عن مجاهد وحدثنا طلحة بن عمرو عن عطاء عن ابن عباس دخل حديث بعضهم في حديث بعض أن آمنة بنت وهب قالت لقد علقت به تعني رسول الله صلى الله عليه و سلم فما وجدت له مشقة حتى وضعته فلما فصل مني خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق إلى المغرب ثم وقع إلى الأرض معتمدا على يديه ثم أخذ قبضة من التراب فقبضها ورفع رأسه إلى السماء وقال بعضهم وقع جاثيا على ركبتيه وخرج معه نور أضاءت له قصور الشام وأسواقها حتى رؤيت أعناق الإبل ببصرى رافعا رأسه إلى السماء وقال الحافظ أبو بكر البيهقي أنبأنا محمد بن عبدالله الحافظ أنبأنا محمد بن اسماعيل أنبأنا محمد بن اسحاق حدثنا يونس بن مبشر بن الحسن حدثنا يعقوب بن محمد الزهري حدثنا عبدالعزيز بن عمران حدثنا عبدالله بن عثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم عن أبيه عن ابن أبي سويد الثقفي عن عثمان بن أبي العاص حدثتني أمي أنها شهدت ولادة آمنة بنت وهب رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة ولدته قالت فما شيء أنظره في البيت إلا نور وإني أنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول ليقعن علي
وذكر القاضي عياض عن الشفاء أم عبدالرحمن بن عوف أنها كانت قابلته وأنها أخبرت به حين سقط على يديها واستهل سمعت قائلا يقول يرحمك الله وإنه سطع منه نور رؤيت منه قصور الروم
قال محمد بن اسحاق فلما وضعته بعثت إلى عبدالمطلب جاريتها وقد هلك أبوه وهي حبلى ويقال إن عبدالله هلك والنبي صلى الله عليه و سلم ابن ثمانية وعشرين شهرا فالله أعلم أي ذلك كان فقالت قد ولد لك غلام فانظر إليه فلما جاءها أخبرته وحدثته بما كانت رأت حين حملت به وما قيل لها فيه وما أمرت أن تسميه فأخذه عبدالمطلب فأدخله على هبل في جوف الكعبة فقام عبدالمطلب يدعو ويشكر الله عز و جل ويقول ... الحمد لله الذي أعطاني ... هذا الغلام الطيب الأردان ... قد ساد في المهد على الغلمان ... أعيذه بالبيت ذي الأركان ... حتى يكون بلغة الفتيان ... حتى أراه بالغ البنيان (2/264)
أعيذه من كل ذي شنآن ... من حاسد مضطرب العنان ... ذي همة ليس له عينان ... حتى أراه رافع اللسان ( 1 ) ... أنت الذي سميت في القرآن ... في كتب ثابتة المثاني ... أحمد مكتوب على اللسان ...
وقال البيهقي أنبأنا أبو عبدالله الحافظ أنا أبو بكر محمد بن أحمد بن حاتم الدرابودي ( 2 ) بمرو حدثنا أبو عبدالله البوشنجي حدثنا أبو أيوب سليمان بن سلمة الخبائري حدثنا يونس بن عطاء بن عثمان بن ربيعة بن زياد بن الحارث الصدائي بمصر حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس عن أبيه العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه قال ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم مختونا مسرورا قال فأعجب جده عبدالمطلب وحظى عنده وقال ليكونن لابني هذا شأن فكان له شأن وهذا الحديث في صحته نظر وقد رواه الحافظ ابن عساكر من حديث سفيان بن محمد المصيصي عن هشيم عن يونس بن عبيد عن الحسن عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من كرامتي على الله أني ولدت مختونا ولم ير سوأتي أحد ثم أورده من طريق الحسن بن عرفة عن هشيم به ثم أورده من طريق محمد بن محمد بن سليمان هو الباغندي حدثنا عبدالرحمن بن أيوب الحمصي حدثنا موسى بن أبي موسى المقدسي حدثني خالد بن سلمة عن نافع عن ابن عمر قال ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم مسرورا مختونا وقال أبو نعيم حدثنا أبو أحمد محمد بن أحمد الغطريفي حدثنا الحسين بن أحمد بن عبدالله المالكي حدثنا سليمان بن سلمة الخبائري حدثنا يونس بن عطاء حدثنا الحكم بن أبان حدثنا عكرمة عن ابن عباس عن أبيه العباس قال ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم مختونا مسرورا فأعجب ذلك جده عبدالمطلب وحظى عنده وقال ليكونن لابني هذا شأن فكان له شأن وقد ادعى بعضهم صحته لما ورد له من الطرق حتى زعم بعضهم أنه متواتر وفي هذا كله نظر ومعنى مختونا أي مقطوع الختان ومسرورا أي مقطوع السرة من بطن أمه وقد روى الحافظ ابن عساكر من طريق عبدالرحمن بن عيينة البصري حدثنا علي بن محمد المدائني السلمي حدثنا سلمة بن محارب بن مسلم بن زياد عن أبيه عن أبي بكرة أن جبريل ختن النبي صلى الله عليه و سلم حين طهر قلبه وهذا غريب جدا وقد روى أن جده عبدالمطلب ختنه وعمل له دعوة جمع قريشا عليها والله أعلم
وقال البيهقي أنبأنا أبو عبدالله الحافظ أنبأني محمد بن كامل القاضي شفاها أن محمد بن اسماعيل حدثه يعني السلمي حدثنا أبو صالح عبدالله بن صالح حدثني معاوية بن صالح عن أبي الحكم التنوخي قال كان المولود إذا ولد في قريش دفعوه إلى نسوة من قريش إلى الصبح يكفأن عليه برمة فلما ولد (2/265)
رسول الله صلى الله عليه و سلم دفعه عبدالمطلب إلى نسوة فكفأن عليه برمة فلما أصبحن أتين فوجدن البرمة قد انفلقت عنه باثنتين ووجدنه مفتوح العينين شاخصا ببصره إلى السماء فأتاهن عبدالمطلب فقلن له ما رأينا مولودا مثله وجدناه قد انفلقت عنه البرمة ووجدناه مفتوحا عينيه شاخصا ببصره إلى السماء فقال احفظنه فإني أرجو أن يكون له شأن أو أن يصيب خيرا فلما كان اليوم السابع ذبح عنه ودعا له قريشا فلما أكلوا قالوا يا عبدالمطلب أرأيت ابنك هذا الذي أكرمتنا على وجهه ما سميته قال سميته محمدا قالوا فما رغبت به عن أسماء أهل بيته قال أردت أن يحمده الله في السماء وخلقه في الأرض قال أهل اللغة كل جامع لصفات الخير يسمى محمدا كما قال بعضهم ... إليك أبيت اللعن أعملت نافتي ... إلى الماجد القرم الكريم المحمد ...
وقال بعض العلماء ألهمهم الله عز و جل أن سموه محمدا لما فيه من الصفات الحميدة ليلتقي الاسم والفعل ويتطابق الاسم والمسمى في الصورة والمعنى كما قال عمه أبو طالب ويروى لحسان ... وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد ...
وسنذكر أسماءه عليه الصلاة و السلام وشمائله وهي صفاته الظاهرة وأخلاقه الطاهرة ودلائل نبوته وفضائل منزلته في آخر السيرة إن شاء الله
قال الحافظ أبو بكر البيهقي أنبأنا أبو عبدالله الحافظ حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا أحمد بن شيبان الرملي حدثنا أحمد بن إبراهيم الحبلى حدثنا الهيثم بن جميل حدثنا زهير عن محارب بن دثار عن عمرو بن يثربي عن العباس بن عبدالمطلب قال قلت يا رسول الله دعاني إلى الدخول في دينك أمارة لنبوتك رأيتك في المهد تناغي القمر وتشير إليه باصبعك فحيث أشرت إليه مال قال إني كنت أحدثه ويحدثني ويلهيني عن البكاء واسمع وجبته حين يسجد تحت العرش ثم قال تفرد به الليثي وهو مجهول فصل
فيما وقع من الآيات ليلة مولده عليه الصلاة و السلام
قد ذكرنا في باب هواتف الجان ما تقدم من خرور كثير من الأصنام ليلتئذ لوجوهها وسقوطها عن أماكنها وما رآه النجاشي ملك الحبشة وظهور النور معه حتى أضاءت له قصور الشام حين ولد وما كان من سقوطه جاثيا رافعا رأسه إلى السماء وانفلاق تلك البرمة عن وجهه الكريم وما شوهد من النور في المنزل الذي ولد فيه ودنو النجوم منهم وغير ذلك
حكى السهيلي عن تفسير بقي بن مخلد الحافظ أن إبليس رن أربع رنات حين لعن وحين أهبط (2/266)
وحين ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم وحين أنزلت الفاتحة قال محمد بن اسحاق وكان هشام بن عروة يحدث عن أبيه عن عائشة قالت كان يهودي قد سكن مكة يتجر بها فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم قال في مجلس من قريش يا معشر قريش هل ولد فيكم الليلة مولود فقال القوم والله ما نعلمه فقال الله أكبر أما إذا أخطأكم فلا بأس انظروا واحفظوا ما أقول لكم ولد هذه الليلة نبي هذه الأمة الأخيرة بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات كأنهن عرف فرس لا يرضع ليلتين وذلك أن عفريتا من الجن أدخل أصبعه في فمه فمنعه الرضاع فتصدع القوم من مجلسهم وهم يتعجبون من قوله وحديثه فلما صاروا إلى منازلهم أخبر كل إنسان منهم أهله فقالوا قد والله ولد لعبدالله بن عبدالمطلب غلام سموه محمدا فالتقى القوم فقالوا هل سمعتم حديث اليهودي وهل بلغكم مولد هذا الغلام فانطلقوا حتى جاءوا اليهودي فأخبروه الخبر قال فاذهبوا معي حتى أنظر إليه فخرجوا به حتى أدخلوه على آمنة فقالوا أخرجي إلينا ابنك فأخرجته وكشفوا له عن ظهره فرأى تلك الشامة فوقع اليهودي مغشيا عليه فلما أفاق قالوا له مالك ويلك قال قد ذهبت والله النبوة من بني إسرائيل فرحتم بها يا معشر قريش والله ليسطون بكم سطوة يخرج خبرها من المشرق والمغرب
وقال محمد بن اسحاق حدثني صالح بن إبراهيم عن يحيى بن عبدالرحمن بن أسعد بن زرارة قال حدثني من شئت من رجال قومي ممن لا أتهم عن حسان بن ثابت قال إني لغلام يفعة ابن سبع سنين أو ثمان سنين أعقل ما رأيت وسمعت إذا بيهودي في يثرب يصرخ ذات غداة يا معشر يهود فاجتمعوا إليه وأنا أسمع فقالوا ويلك ما لك قال قد طلع نجم أحمد الذي يولد به في هذه الليلة وروى الحافظ أبو نعيم في كتاب دلائل النبوة من حديث أبي بكر بن عبدالله العامري عن سليمان بن سحيم وذريح بن عبدالرحمن كلاهما عن عبدالرحمن بن أبي سعيد عن أبيه قال سمعت أبي مالك بن سنان يقول جئت بني عبد الأشهل يوما لأتحدث فيهم ونحن يومئذ في هدنة من الحرب فسمعت يوشع اليهودي يقول أظل خروج نبي يقال له أحمد يخرج من الحرم فقال له خليفة بن ثعلبة الأشهلي كالمستهزىء به ما صفته فقال رجل ليس بالقصير ولا بالطويل في عينيه حمرة يلبس الشملة ويركب الحمار سيفه على عاتقه وهذا البلد مهاجره قال فرجعت إلى قومي بني خدرة وأنا يومئذ أتعجب مما يقول يوشع فاسمع رجلا منا يقول ويوشع يقول هذا وحده كل يهود يثرب يقولون هذا قال أبي مالك بن سنان فخرجت حتى جئت بني قريظة فأجد جمعا فتذاكروا النبي صلى الله عليه و سلم فقال الزبير بن باطا قد طلع الكوكب الأحمر الذي لم يطلع إلى لخروج نبي أو ظهوره ولم يبق أحد إلا أحمد وهذا مهاجره قال أبو سعيد فلما قدم النبي صلى الله عليه و سلم أخبره أبي هذا الخبر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لو أسلم الزبير لأسلم ذووه من رؤساء اليهود إنما هم له تبع وقال أبو نعيم حدثنا عمر بن محمد حدثنا إبراهيم بن السندي حدثنا النضر بن سلمة حدثنا (2/267)
اسماعيل بن قيس بن سليمان بن زيد بن ثابت عن أم سعد بنت سعد بن الربيع سمعت زيد بن ثابت يقول كان أحبار يهود بني قريظة والنضير يذكرون صفة النبي صلى الله عليه و سلم فلما طلع الكوكب الأحمر أخبروا أنه نبي وأنه لا نبي بعده واسمه أحمد ومهاجره إلى يثرب فلما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة أنكروا وحسدوا وكفروا وقد أورد هذه القصة الحافظ أبو نعيم في كتابه من طرق أخرى ولله الحمد
وقال أبو نعيم ومحمد بن حبان حدثنا أبو بكر بن أبي عاصم حدثنا وهب بن بقية حدثنا خالد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة ويحيى بن عبدالرحمن بن حاطب عن أسامة بن زيد قال قال زيد بن عمرو بن نفيل قال لي حبر من أحبار الشام قد خرج في بلدك نبي أو هو خارج قد خرج نجمه فارجع فصدقه واتبعه
ذكر ارتحاس إيوان كسرى
وسقوط الشرفات وخمود النيران ورؤيا الموبذان وغير ذلك من الدلالات
قال الحافظ أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتاب هواتف الجان حدثنا علي بن حرب حدثنا أبو أيوب يعلى بن عمران من آل جرير بن عبدالله البجلي حدثني مخزوم بن هاني المخزومي عن أبيه وأتت عليه خمسون ومائة سنة قال لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم ارتجس إيوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرفة وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام وغاضت بحيرة ساوة ورأى الموبذان إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادهم فلما أصبح كسرى أفزعه ذلك فتصبر عليه تشجعا ثم رأى أنه لا يدخر ذلك عن مرازبته فجمعهم ولبس تاجه وجلس على سريره ثم بعث إليهم فلما اجتمعوا عنده قال أتدرون فيم بعثت إليكم قالوا لا إلا أن يخبرنا الملك فبينما هم كذلك إذ ورد عليهم كتاب خمود النيران فازداد غما إلى غمه ثم أخبرهم بما رأى وما هاله فقال الموبذان وأنا أصلح الله الملك قد رأيت في هذه الليلة رؤيا ثم قص عليه رؤياه في الإبل فقال أي شيء يكون هذا يا موبذان قال حدث يكون في ناحية العرب وكان أعلمهم من أنفسهم فكتب عند ذلك من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر أما بعد فوجه إلي برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه فوجه إليه بعبد المسيح بن عمرو بن حيان بن نفيلة الغساني فلما ورد عليه قال له ألك علم بما أريد أن أسألك عنه فقال لتخبرني أو ليسألني الملك عما أحب فإن كان عندي منه علم وإلا أخبرته بمن يعلم فأخبره بالذي وجه به إليه فيه قال علم ذلك عند خال لي يسكن مشارف الشام يقال له سطيح قال فاسأله فاسأه عما سألتك عنه ثم ائتني بتفسيره فخرج عبدالمسيح (2/268)
حتى انتهى إلى سطيح وقد أشفى علي الضريح فسلم عليه وكلمه فلم يرد إليه سطيح جوابا فأنشأ يقول ... أصم أم يسمع غطريف اليمن ... أم فاد فاز لم به شأو العنن ... يا فاصل الخطة أعيت من ومن ... أتاك شيخ الحي من آل سنن ... وأمه من آل ذئب بن حجن ... أزرق نهم الناب صرار الأذن ... أبيض فضفاض الرداء والبدن ... رسول قيل العجم يسري للوسن ... يجوب بي الأرض علنداة شزن ... لا يرهب الرعد ولا ريب الزمن ... ترفعني وجنا وتهوي بي وجن ... حتى أتى عاري الجآجي والقطن ... تلفه في الريح بوغاء الدمن ... كأنما حثحث من حضني ثكن ( 1 ) ...
قال فلما سمع سطيح شعره رفع رأسه يقول عبد المسيح على جمل مشيح أتى سطيح وفد أوفى على الضريح بعثك ملك بني ساسان لارتجاس الإيوان وخمود النيران ورؤيا الموبذان رأى إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة وظهر صاحب الهراوة وفاض وادي السماوة وغاضت بحيرة ساوة وخمدت نار فارس فليس الشام لسطيح شاما يملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرفات وكلما هو آت آت ثم قصى سطيح مكانه فنهض عبد المسيح إلى راحلته وهو يقول ... شمر فإنك ماضي العزم شمير ... لا يفزعنك تفريق وتغيير ... إن يمس ملك بني ساسان أفرطهم ... فإن ذا الدهر أطوار دهارير ... فربما ربما أضحوا بمنزلة ... يخاف صولهم الأسد المهاصير ... منهم أخو الصرح بهرام وإخوته ... والهرمزان وشابور وسابور ... والناس أولاد علات فمن علموا ... أن قد أقل فمحقور ومهجور ... ورب قوم لهم صحبان ذي أذن ... بدت تلهيهم فيه المزامير ... وهم بنو الام إما إن رأوا نشبا ... فذاك بالغيب محفوظ ومنصور ... والخير والشر مقرونان في قرن ... فالخير متبع والشر محذور ... قال فلما قدم عبد المسيح على كسرى أخبره ما قال له سطيح فقال كسرى إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكا كانت أمور وأمور فملك منهم عشرة في أربع سنين وملك الباقون إلى خلافة عثمان رضي الله عنه ورواه البيهقي من حديث عبدالرحمن بن محمد بن إدريس عن علي بن حرب الموصلي بنحوه (2/269)
قلت كان آخر ملوكهم الذي سلب منه الملك يزدجرد بن شهريار بن أبرويز بن هرمز بن أنوشروان وهو الذي انشق الإيوان في زمانه وكان لأسلافه في الملك ثلاثة آلاف سنة ومائة وأربعة وستون سنة وكان أول ملوكهم خيومرت بن أميم بن لاوذ بن سام بن نوح ( 1 )
أما سطيح هذا فقال الحافظ ابن عساكر في تاريخه هو الربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب ابن عدي بن مازن بن الأزد ويقال الربيع بن مسعود وأمه ردعا بنت سعد بن الحارث الحجوري وذكر غير ذلك في نسبه قال وكان يسكن الجابية ثم روى عن أبي حاتم السجستاني قال سمعت المشيخة منهم أبو عبيدة وغيره قالوا وكان من بعد لقمان بن عاد ولد في زمن سيل العرم وعاش إلى ملك ذي نواس وذلك نحو من ثلاثين قرنا وكان مسكنه البحرين وزعمت عبد القيس أنه منهم وتزعم الأزد أنه منهم وأكثر المحدثين يقولون هو من الأزد ولا ندري ممن هو غير أن ولده يقولون إنه من الأزد وروى عن ابن عباس أنه قال لم يكن شيء من بني آدم يشبه سطيحا إنما كان لحما على وضم ليس فيه عظم ولا عصب إلا في رأسه وعينيه وكفيه وكان يطوى كما يطوى الثوب من رجليه إلى عنقه ولم يكن فيه شيء يتحرك إلا لسانه وقال غيره إنه كان إذا غضب انتفخ وجلس ثم ذكر ابن عباس أنه قدم مكة فتلقاه جماعة من رؤسائهم منهم عبد شمس وعبد مناف أبناء قصي فامتحنوه في أشياء فأجابهم فيها بالصدق فسألوه عما يكون في آخر الزمان فقال خذوا مني ومن الهام الله إياي أنتم الآن يا معشر العرب في زمان الهرم سواء بصائركم وبصائر العجم لا علم عندكم ولا فهم وينشو من عقبكم ذوو فهم يطلبون أنواع العلم فيكسرون الصنم ويتبعون الردم ويقتلون العجم يطلبون الغنم ثم قال والباقي الأبد والبالغ الأمد ليخرجن من ذا البلد نبي مهتد يهدي إلى الرشد يرفض يغوث والفند يبرأ عن عبادة الضدد يعبد ربا انفرد ثم يتوفاه الله بخير دار محمودا من الأرض مفقودا وفي السماء مشهودا ثم يلي أمره الصديق إذا قضى صدق وفي رد الحقوق لا خرق ولا نزق ثم يلي أمره الحنيف مجرب غطريف قد أضاف المضيف وأحكم التحنيف ثم ذكر عثمان ومقتله وما يكون بعد ذلك من أيام بني أمية ثم بني العباس وما بعد ذلك من الفتن والملاحم ساقه ابن عساكر بسنده عن ابن عباس بطوله وقد قدمنا قوله لربيعة بن نصر ملك اليمن حين أخبره برؤياه قبل أن يخبره بها ثم ما يكون في بلاد اليمن من الفتن وتغيير الدول حتى يعود إلى سيف بن ذي يزن فقال له أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع قال بل ينقطع قال ومن يقطعه قال نبي زكي يأتيه الوحي من قبل العلي قال وممن هذا النبي قال من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر قال وهل للدهر من آخر قال نعم يوم يجمع فيه الأولون والآخرون يسعد فيه المحسنون ويشقى فيه المسيئون قال أحق ما تخبرني (2/270)
قال نعم والشفق والغسق والقمر إذا اتسق إن ما أنبأتك عليه لحق ووافقه على ذلك شق سوآ بسواء بعبارة أخرى كما تقدم ومن شعر سطيح قوله ... عليكم بتقوى الله في السر والجهر ... ولا تلبسوا صدق الأمانة بالغدر ... وكونوا لجار الجنب حصنا وجنة ... إذا ما عرته النائبات من الدهر ...
وروى ذلك الحافظ ابن عساكر ثم أورد ذلك المعافي بن زكريا الجريري فقال وأخبار سطيح كثيرة وقد جمعها غير واحد من أهل العلم والمشهور أنه كان كاهنا وقد أخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم وعن نعته ومبعثه وروى لنا بإسناد الله به أعلم أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن سطيح فقال نبي ضيعه قومه
قلت أما هذاالحديث فلا أصل له في شيء من كتب الإسلام المعهودة ولم أره بإسناد أصلا ويروي مثله في خبر خالد بن سنان العبسي ولا يصح أيضا وظاهر هذه العبارات تدل على علم جيد لسطيح وفيها روائح التصديق لكنه لم يدرك الإسلام كما قال الجريري فإنه قد ذكرنا في هذا الأثر أنه قال لابن أخته يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة وظهر صاحب الهراوة وفاض وادي السماوة وغاضت بحيرة ساوة وخمدت نار فارس فليس الشام لسطيح شاما يملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرفات وكل ما هو آت آت ثم قضى سطيح مكانه وكان ذلك بعد مولد رسول الله صلى الله عليه و سلم بشهر أو شية أي أقل منه وكانت وفاته بأطراف الشام مما يلي أرض العراق فالله أعلم بأمره وما صار إليه وذكر ابن طرار الحريري ( 1 ) أنه عاش سبعمائة سنة وقال غيره خمسمائة سنة وقيل ثلاثمائة سنة فالله أعلم وقد روى ابن عساكر أن ملكا سأل سطيحا عن نسب غلام اختلف فيه فأخبره على الجلية في كلام طويل مليح فصيح فقال له الملك يا سطيح ألا تخبرني عن علمك هذا فقال إن علمي هذا ليس مني ولا بجزم ولا بظن ولكن أخذته عن أخ لي قد سمع الوحي بطور سيناء فقال له أرأيت أخاك هذا الجني أهو معك لا يفارقك فقال إنه ليزول حيث أزول ولا انطق إلا بما يقول وتقدم أنه ولد هو وشق بن مصعب بن يشكر بن رهم بن بسر بن عقبة الكاهن الآخر ولدا في يوم واحد فحملا إلى الكاهنة طريفة بنت الحسين الحميدية فتفلت في أفواههما فورثا منها الكهانة وماتت من يومها وكان نصف إنسان ويقال إن خالد بن عبدالله القسري من سلالته وقد مات شق قبل سطيح بدهر
وأما عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيان بن نفيلة الغساني النصراني فكان من المعمرين وقد ترجمه الحافظ ابن عساكر في تاريخه وقال هو الذي صالح خالد بن الوليد على ( 2 ) وذكر له معه قصة طويلة وأنه أكل من يده سم ساعة فلم يصبه سوء لأنه لما أخذه قال بسم الله وبالله رب الأرض والسماء الذي لا يضر مع اسمه أذى ثم أكله فعلته غشية فضرب بيديه على صدره ثم عرق وأفاق رضي الله عنه (2/271)
وذكر لعبد المسيح أشعارا غير ما تقدم ( 1 )
وقال أبو نعيم حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة حدثنا عقبة بن مكرم حدثنا المسيب بن شريك حدثنا محمد بن شريك عن شعيب بن شعيب عن أبيه عن جده قال كان بمر الظهران راهب من الرهبان يدعى عيصا من أهل الشام وكان متخفرا بالعاص بن وائل وكان الله قد آتاه علما كثيرا وجعل فيه منافع كثيرة لأهل مكة من طيب ورفق وعلم وكان يلزم صومعة له ويدخل مكة في كل سنة فيلقى الناس ويقول إنه يوشك أن يولد فيكم مولود يا أهل مكة يدين له العرب ويملك العجم هذا زمانه ومن أدركه واتبعه أصاب حاجته ومن أدركه فخالفه أخطأ حاجته وبالله ما تركت أرض الخمر والخمير والأمن ولا حللت بأرض الجوع والبؤس والخوف إلا في طلبه وكان لا يولد بمكة مولود إلا يسأل عنه فيقول ما جاء بعد فيقال له فصفه فيقول لا ويكتم ذلك للذي قد علم أنه لاق من قومه مخافة على نفسه أن يكون ذلك داعية إلى أدنى ما يكون إليه من الأذى يوما ولما كان صبيحة اليوم الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج عبدالله بن عبدالمطلب حتى أتي عيصا فوقف في أصل صومعته ثم نادى يا عيصاه فناداه من هذا فقال أنا عبدالله فأشرف عليه فقال كن أباه فقد ولد المولود الذي كنت أحدثكم عنه يوم الإثنين ويبعث يوم الإثنين ويموت يوم الإثنين قال فإنه قد ولد لي مع الصبح مولود قال فما سميته قال محمدا قال والله لقد كنت أشتهي أن يكون هذا المولود فيكم أهل البيت لثلاث خصال نعرفه بها منها أن نجمة طلع البارحة وأنه ولد اليوم وأن اسمه محمد انطلق إليه فإن الذي كنت أخبركم عنه ابنك قال فما يدريك أنه ابني ولعله أن يولد في هذا اليوم مولود غيره قال قد وافق ابنك الإسم ولم يكن الله ليشبه علمه على العلماء فإنه حجة وآية ذلك أنه الآن وجع فيشتكي أياما ثلاثة فيظهر به الجوع ثلاثا ثم يعافى فاحفظ لسانك فإنه لم يحسد أحد حسده قط ولم يبغ على أحد كما يبغي عليه أن تعش حتى يبدو مقاله ثم يدعو لظهر لك من قومك ما لا تحتمله إلا على صبر وعلى ذل فاحفظ لسانك ودار عنه قال فما عمره قال إن طال عمره وإن قصر لم يبلغ السبعين يموت في وتر دونها من الستين في إحدى وستين أو ثلاث وستين في أعمار جل أمته قال وحمل برسول الله صلى الله عليه و سلم في عاشر المحرم وولد يوم الإثنين لثنتي عشرة خلت من رمضان سنة ثلاث وعشرين من غزوة أصحاب الفيل هكذا رواه أبو نعيم وفيه غرابة
حواضنه ومراضعه عليه الصلاة و السلام
كانت أم أيمن واسمها بركة تحضنه وكان قد ورثها عليه الصلاة و السلام من أبيه فلما كبر أعتقها وزوجها مولاه زيد بن حارثة فولدت له أسامة بن زيد رضي الله عنهم وأرضعته مع أمه عليه الصلاة و السلام مولاة عمه أبي لهب ثويبة قبل حليمة السعدية أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث (2/272)
الزهري عن عروة بن الزبير عن زينب بنت أم سلمة عن أم حبيبة بنت أبي سفيان قالت يا رسول الله انكح اختي بنت أبي سفيان ولمسلم عزة بنت أبي سفيان فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أو تحبين ذلك قلت نعم لست لك بمخلية وأحب من شاركني في خير اختي فقال النبي صلى الله عليه و سلم فإن ذلك لا يحل لي قالت فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة وفي رواية درة بنت أبي سلمة قال بنت أم سلمة قلت نعم قال إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها لابنة أخي من الرضاعة ارضعتني وأبا سلمة ثويبة فلا تعرضن على بناتكن ولا اخواتكن زاد البخاري قال عروة وثويبة مولاة لأبي لهب أعتقها فأرضعت رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشر خيبة فقال له ماذا لقيت فقال أبو لهب لم ألق بعدكم خيرا غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة وأشار إلى النقرة التي بين الإبهام والتي تليها من الأصابع
وذكر السهيلي وغيره إن الرائي له هو أخوه العباس وكان ذلك بعد سنة من وفاة أبي لهب بعد وقعة بدر وفيه أن أبا لهب قال للعباس انه ليخفف علي في مثل يوم الاثنين قالوا لانه لما بشرته ثويبة بميلاد ابن أخيه محمد بن عبدالله أعتقها من ساعته فجوزي بذلك لذلك
رضاعه عليه الصلاة و السلام
من حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية وما ظهر عليه من البركة وآيات النبوة
قال محمد بن إسحاق فاسترضع له عليه الصلاة و السلام من حليمة بنت أبي ذؤيب واسمه عبدالله بن الحارث بن شجنة بن جابر بن رزام بن ناصرة بن سعد بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن عيلان بن مضر ( 1 ) قال واسم أبي رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي أرضعه يعني زوج حليمة الحارث بن عبد العزى بن رفاعة بن ملان بن ناصرة بن سعد بن بكر بن هوازن وأخوته عليه الصلاة و السلام يعني من الرضاعة عبدالله بن الحارث وأنيسة بنت الحارث وحذافة بنت الحارث وهي الشيماء وذكروا أنها كانت تحضن رسول الله صلى الله عليه و سلم مع أمه إذ كان عندهم
قال ابن إسحاق حدثني جهم بن أبي جهم مولى لامرأة من بني تميم كانت عند الحارث بن حاطب ويقال له مولى الحارث بن حاطب قال حدثني من سمع عبدالله بن جعفر بن أبي طالب قال حدثت عن حليمة بنت الحارث أنها قالت قدمت مكة في نسوة وذكر الواقدي بإسناده أنهن كن عشرة نسوة من بني سعد بن بكر يلتمسن بها الرضعاء من بني سعد نلتمس بها الرضعاء في سنة شهباء فقدمت (2/273)
على أتان لي قمراء كانت أذمت بالركب ( 1 ) ومعي صبي لنا وشارف لنا والله ما تبض بقطرة وما ننام ليلتنا ذلك أجمع ( 2 ) مع صبينا ذاك ما نجد في ثديي ما يغنيه ولا في شارفنا ما يغذيه ولكنا كنا نرجو الغيث والفرج فخرجت على أتاني تلك فلقد أذمت بالركب حتى شق ذلك عليهم ضعفا وعجفا فقدمنا مكة فوالله ما علمت منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم فتأباه إذا قيل إنه يتيم تركناه قلنا ماذا عسى أن تصنع إلينا أمه إنما نرجو المعروف من أبي الولد فأما أمه فماذا عسى أن تصنع إلينا فوالله ما بقي من صواحبي امرأة إلا أخذت رضيعا غيري فلما لم نجد غيره وأجمعنا الانطلاق قلت لزوجي الحارث بن عبد العزى والله وإني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ليس معي رضيع لأنطلقن إلى ذلك اليتيم فآخذنه فقال لا عليك أن تفعلي فعسى أن يجعل الله لنا فيه بركة فذهبت فأخذته فوالله ما أخذته إلا أني لم أجد غيره فما هو إلا أن أخذته فجئت به رحلي فأقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن فشرب حتى روى وشرب أخوه حتى روى وقام صاحبي إلى شارفنا تلك فإذا إنها لحافل فحلب ما شرب وشربت حتى روينا فبتنا بخير ليلة فقال صاحبي حين أصبحنا يا حليمة والله إني لأراك قد أخذت نسمة مباركة ألم ترى ما بتنا به الليلة من الخير والبركة حين أخذناه فلم يزل الله عز و جل يزيدنا خيرا ثم خرجنا راجعين إلى بلادنا فوالله لقطعت أتاني بالركب حتى ما يتعلق بها حمار حتى أن صواحبي ليقلن ويلك يا بنت أبي ذؤيب هذه أتانك التي خرجت عليها معنا فأقول نعم والله إنها لهي فقلن والله إن لها لشأنا حتى قدمنا أرض بني سعد وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها فإن كانت غنمي لتسرح ثم تروح شباعا لبنا فتحلب ما شئنا وما حوالينا أو حولنا أحد تبض له شاة بقطرة لبن وإن أغنامهم لتروح جياعا حتى إنهم ليقولون لرعاتهم أو لرعيانهم ويحكم انظروا حيث تسرح غنم بنت أبي ذؤيب فاسرحوا معهم فيسرحون مع غنمي حيث تسرح فتروح أغنامهم جياعا ما فيها قطرة لبن وتروح أغنامي شباعا لبنا نحلب ما شئنا فلم يزل الله يرينا البركة نتعرفها حتى بلغ سنتين فكان يشب شبابا لا تشبه الغلمان فوالله ما بلغ السنتين حتى كان غلاما جفرا ( 3 ) فقدمنا به على أمه ونحن أضن شيء به مما رأينا فيه من البركة فلما رأته أمه قلت لها دعينا نرجع بابننا هذه السنة الأخرى فإنا نخشى عليه وباء مكة فوالله ما زلنا بها حتى قالت نعم فسرحته معنا فأقمنا به شهرين أو ثلاثة فبينما هو خلف بيوتنا مع أخ له من الرضاعة في بهم لنا جاء أخوه ذلك يشتد فقال ذاك أخي القرشي جاءه رجلان عليهما ثياب بيض فاضجعاه فشقا بطنه فخرجت أنا وأبوه نشتد نحوه فنجده قائما منتقعا لونه فاعتنقه أبوه وقال يا بني (2/274)
ما شأنك قال جاءني رجلان عليهما ثياب بيض أضجعاني وشقا بطني ثم استخرجا منه شيئا فطرحاه ثم رداه كما كان فرجعنا به معنا فقال أبوه يا حليمة لقد خشيت أن يكون ابني قد أصيب فانطلقي بنا نرده إلى أهله قبل أن يظهر به ما نتخوف قالت حليمة فاحتملناه فلم ترع أمه إلا به فقدمنا به عليها فقالت ما ردكما به يا ظئر فقد كنتما عليه حريصين فقالا لا والله إلا أن الله قد أدى عنا وقضينا الذي علينا وقلنا نحشى الإتلاف والإحداث نرده إلى أهله فقالت ما ذاك بكما فأصدقاني شأنكما فلم تدعنا حتى أخبرناها خبره فقالت أخشيتما عليه الشيطان كلا والله ما للشيطان عليه من سبيل والله إنه لكائن لابني هذا شأن ألا أخبركما خبره قلنا بلى قالت حملت به فما حملت حملا قط أخف منه فأريت في النوم حين حملت به كأنه خرج مني نور أضاءت له قصور الشام ثم وقع حين ولدته وقوعا ما يقعه المولود معتمدا على يديه رافعا رأسه إلى السماء فدعاه عنكما وهذا الحديث قد روي من طرق أخر وهو من الأحاديث المشهورة المتداولة بين أهل السير والمغازي
وقال الواقدي حدثني معاذ بن محمد بن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال خرجت حليمة تطلب النبي صلى الله عليه و سلم وقد وجدت البهم تقيل فوجدته مع أخته فقالت في هذا الحر فقالت أخته يا أمه ما وجد أخي حرا رأيت غمامة تظلل عليه إذا وقف وقفت وإذا سار سارت حتى انتهى إلى هذا الموضع
وقال ابن اسحاق حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أنهم قالوا له أخبرنا عن نفسك قال نعم أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى عليهما السلام ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام واسترضعت في بني سعد بن بكر فبينما أنا في بهم لنا أتاني رجلان عليهما ثياب بيض معهما طست من ذهب مملوء ثلجا فأضجعاني فشقا بطني ثم استخرجا قلبي فشقاه فأخرجا منه علقة سوداء فألقياها ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج حتى إذا ألقياه رداه كما كان ثم قال أحدهما لصاحبه زنه بعشرة من أمته فوزنني بعشرة فوزنتهم ثم قال زنه بمائة من أمته فوزنني بمائة فوزنتهم ثم قال زنه بألف من أمته فوزنني بألف فوزنتهم فقال دعه عنك فلو وزنته بأمته لوزنهم وهذا إسناد جيد قوي
وقد روى أبو نعيم الحافظ في الدلائل من طريق عمر بن الصبح وهو أبو نعيم عن ثور بن يزيد عن مكحول عن شداد بن أوس هذه القصة مطولة جدا ولكن عمر بن صبح هذا متروك كذاب متهم بالوضع فلهذا لم نذكر لفظ الحديث إذ لا يفرح به ثم قال وحدثنا أبو عمر بن حمدان حدثنا الحسن بن نفير حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا بقية بن الوليد عن بحير بن سعيد عن خالد بن معدان عن عبدالرحمن بن عمرو السلمي عن عتبة بن عبدالله أنه حدثه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم فقال كيف كان أول شأنك يا رسول الله قال كانت حاضنتي من بني سعد بن بكر فانطلقت أنا وابن لها في بهم لنا ولم نأخذ (2/275)
معنا زادا فقلت يا أخي اذهب فائتنا بزاد من عند أمنا فانطلق أخي ومكثت عند البهم فأقبل طائران أبيضان كأنهما نسران فقال أحدهما لصاحبه أهو هو فقال نعم فأقبلا يبتدراني فأخذاني فبطحاني للقفا فشقا بطني ثم استخرجا قلبي فشقاه فأخرجا منه علقتين سوداوين فقال أحدهما لصاحبه ائتني بماء ثلج فغسلا به جوفي ثم قال ائتني بماء برد فغسلا به قلبي ثم قال ائتني بالسكينة فذرها في قلبي ثم قال أحدهما لصاحبه خطه فخاطه وختم على قلبي بخاتم النبوة فقال أحدهما لصاحبه اجعله في كفة واجعل ألفا من أمته في كفة فإذا أنا أنظر إلى الألف فوقي أشفق أن يخر على بعضهم فقال لو أن أمته وزنت به لمال بهم ثم انطلقا فتركاني وفرقت فرقا شديدا ثم انطلقت إلى أمي فأخبرتها بالذي لقيت فأشفقت أن يكون قد لبس بي فقالت أعيذك بالله فرحلت بعيرا لها وحملتني على الرحل وركبت خلفي حتى بلغنا إلى أمي فقالت أديت أمانتي وذمتي وحدثتها بالذي لقيت فلم يرعها وقالت إني رأيت خرج مني نور أضاءت منه قصور الشام ورواه أحمد من حديث بقية بن الوليد به وهكذا رواه عبدالله بن المبارك وغيره عن بقية بن الوليد به وقد رواه ابن عساكر من طريق أبي داود الطيالسي حدثنا جعفر بن عبدالله بن عثمان القرشي أخبرني عمير بن عمر بن عروة بن الزبير قال سمعت عروة بن الزبير يحدث عن أبي ذر الغفاري قال قلت يا رسول الله كيف علمت أنك نبي حين علمت ذلك واستيقنت أنك نبي قال يا أبا ذر أتاني ملكان وأنا ببعض بطحاء مكة فوقع أحدهما على الأرض وكان الآخر بين السماء والأرض فقال أحدهما لصاحبه أهو هو قال هو هو قال زنه برجل فوزنني برجل فرجحته وذكر تمامه وذكر شق صدره وخياطته وجعل الخاتم بين كتفيه قال فما هو إلا أن وليا عني فكأنما أعاين الأمر معاينة ثم أورد ابن عساكر عن أبي بن كعب بنحو ذلك ومن حديث شداد بن أوس بابسط من ذلك وثبت في صحيح مسلم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أتاه جبريل عليه السلام وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب واستخرج منه علقة سوداء فقال هذا حظ الشيطان ثم غسله في طشت من ذهب بماء زمزم ثم لأمه ثم أعاده في مكانه وجاء الغلمان يسعون إلى أمه يعني ظئره فقالوا إن محمدا قد قتل فاستقبلوه وهو منتقع اللون قال أنس وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره وقد رواه ابن عساكر من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن عبد ربه بن سعيد عن ثابت البناني عن أنس أن الصلاة فرضت بالمدينة وأن ملكين أتيا رسول الله صلى الله عليه و سلم فذهبا به إلى زمزم فشقا بطنه فأخرجا حشوته في طشت من ذهب فغسلاه بماء زمزم ثم لبسا جوفه حكمة وعلما ومن طريق ابن وهب أيضا عن يعقوب بن عبدالرحمن الزهري عن أبيه عن عبدالرحمن بن عامر بن عتبة بن أبي وقاص عن أنس قال أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاث ليال قال خذوا خيرهم وسيدهم فأخذوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فعمد به إلى زمزم فشق جوفه ثم أتى بتور من ذهب فغسل (2/276)
جوفه ثم ملىء حكمة وإيمانا وثبت من رواية سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس وفي الصحيحين من طريق شريك بن أبي نمر عن أنس وعن الزهري عن أنس عن أبي ذر وقتادة عن أنس وعن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه و سلم في حديث الإسراء كما سيأتي قصة شرح الصدر ليلتئذ وإنه غسل بماء زمزم ولا منافاة لاحتمال وقوع ذلك مرتين مرة وهو صغير ومرة ليلة الإسراء ليتأهب للوفود إلى الملأ الأعلى ولمناجاة الرب عز و جل والمثول بين يديه تبارك وتعالى
وقال ابن اسحاق وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لأصحابه أنا أعربكم أنا قرشي واسترضعت في بني سعد بن بكر وذكر ابن اسحاق أن حليمة لما أرجعته إلى أمه بعد فطامه مرت به على ركب من النصارى فقاموا إليه عليه الصلاة و السلام فقلبوه وقالوا إنا سنذهب بهذا الغلاء إلى ملكنا فإنه كائن له شأن فلم تكد تنفلت منهم إلا بعد جهد وذكر أنها لما ردته حين تخوفت عليه أن يكون أصابه عارض فلما قربت من مكة افتقدته فلم تجده فجاءت جده عبدالمطلب فخرج هو وجماعة في طلبه فوجده ورقة بن نوفل ورجل آخر من قريش فاتيا به جده فأخذه على عاتقه وذهب فطاف به يعوذه ويدعو له ثم روه إلى أمه آمنة
وذكر الأموي من طريق عثمان بن عبدالرحمن الوقاصي وهو ضعيف عن الزهري عن سعيد بن المسيب قصة مولده عليه الصلاة و السلام ورضاعه من حليمة على غير سياق محمد بن اسحاق وذكر أن عبدالمطلب أمر ابنه عبدالله أن يأخذه فيطوف به في أحياء العرب ليتخذ له مرضعة فطاف حتى استأجر حليمة على رضاعه وذكر أنه أقام عندها ست سنين تزيره جده في كل عام فلما كان من شق صدره عندهم ما كان ردته إليهم فأقام عند أمه حتى كان عمره ثماني سنين ماتت فكفله جده عبدالمطلب فمات وله عليه الصلاة و السلام عشر سنين فكفله عماه شقيقا أبيه الزبير وأبو طالب فلما كان له بضع عشرة سنة خرج مع عمه الزبير إلى اليمن فذكر أنهم رأوا منه آيات في تلك السفرة منها أن فحلا من الإبل كان قد قطع بعض الطريق في واد ممرهم عليه فلما رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم برك حتى حك بكلكله الأرض فركبه عليه الصلاة و السلام ومنها أنه خاض بهم سيلا عرما فأيبسه الله تعالى حتى جاوزوه ثم مات عمه الزبير وله أربع عشرة سنة فانفرد به أبو طالب
والمقصود أن بركته عليه الصلاة و السلام حلت على حليمة السعدية وأهلها وهو صغير ثم عادت على هوازن بكمالهم فواضله حين أسرهم بعد وقعتهم وذلك بعد فتح مكة بشهر فمتوا إليه برضاعه فأعتقهم وتحنن عليهم وأحسن إليهم كما سيأتي مفصلا في موضعه إن شاء الله تعالى
قال محمد بن اسحاق في وقعة هوازن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بحنين فلما أصاب من أموالهم وسباياهم أدركه وفد هوازن بالجعرانة وقد أسلموا فقالوا يا رسول الله إنا أهل وعشيرة وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك فامنن علينا من الله عليك وقام (2/277)
خطيبهم زهير بن صرد فقال يا رسول الله إن ما في الحظائر من السبايا خالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك فلو أنا ملحنا ( 1 ) ابن أبي شمر أو النعمان بن المنذر ثم أصابنا منهما مثل الذي أصابنا منك رجونا عائدتهما وعطفهما وأنت خير المكفولين ثم أنشد ... أمنن علينا رسول الله في كرم ... فإنك المرء نرجوه وندخر ... امنن على بيضة قد عاقها قدر ... ممزق شملها في دهرها غير ... أبقت لنا الدهر هتافا على حزن ... على قلوبهم الغماء والغمر ... إن لم تداركها نعماء تنشرها ... يا أرجح الناس حلما حين يختبر ... امنن على نسوة قد كنت ترضعها ... إذ فوك يملؤه من محضها درر ... امنن على نسوة قد كنت ترضعها ... وإذ يزينك ما تأتي وما تذر ... لا تجعلنا كمن شالت نعامته ... واستبق منا فانا معشر زهر ... إنا لنشكر للنعمى وإن كفرت ... وعندنا بعد هذا اليوم مدخر ...
وقد رويت هذه القصة من طريق عبيدالله بن رماحس الكلبي الرملي عن زياد بن طارق الجشمي عن أبي صرد زهير بن جرول وكان رئيس قومه قال لما أسرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم حنين فبينا هو يميز بين الرجال والنساء وثبت حتى قعدت بين يديه وأسمعته شعرا أذكره حين شب ونشأ في هوازن حيث أرضعوه ... امنن علينا رسول الله في دعة ... فإنك المرء نرجوه وننتظر ... امنن على بيضة قد عاقها قدر ... ممزق شملها في دهرها غير ... أبقت لنا الحرب هتافا على حزن ... على قلوبهم الغماء والغمر ... إن لم تداركها نعماء تنشرها ... يا أرجح الناس حلما حين يختبر ... امنن على نسوة قد كنت ترضعها ... إذ فوك تملؤه من محضها الدرر ... إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها ... وإذ يزينك ما تأتي وما تذر ... لا تجعلنا كمن شالت نعامته ... واستبق منا فانا معشر زهر ... إنا لنشكر للنعمى وإن كفرت ... وعندنا بعد هذا اليوم مدخر ... فألبس العفو من قد كنت ترضعه ... من أمهاتك إن العفو مشتهر ... إنا نؤمل عفوا منك تلبسه ... هذي البرية إذ تعفو وتنتصر ... فاغفر عفا الله عما أنت راهبه ... يوم القيامة إذ يهدى لك الظفر (2/278)
قال فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أما ما كان لي ولبني عبدالمطلب فهو لله ولكم فقالت الأنصار وما كان لنا من الله ولرسوله ولرسوله صلى الله عليه و سلم وسيأتي أنه عليه الصلاة و السلام أطلق لهم الذرية وكانت ستة آلاف ما بين صبي وامرأة وأعطاهم أنعاما وأناسي كثيرا حتى قال أبو الحسين بن فارس فكان قيمة ما أطلق لهم يومئذ خمسمائة ألف ألف درهم فهذا كله من بركته العاجلة في الدنيا فكيف ببركته على من اتبعه في الدار الآخرة فصل
قال ابن اسحاق بعد ذكر رجوعه عليه الصلاة و السلام إلى أمه آمنة بعد رضاعة حليمة له فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم مع أمه آمنة بنت وهب وجده عبدالمطلب في كلاءة الله وحفظه ينبته الله نباتا حسنا لما يريد به من كرامته فلما بلغ ست سنين توفيت أمه آمنة بنت وهب
قال ابن اسحاق حدثني عبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن أم رسول الله صلى الله عليه و سلم آمنة توفيت وهو ابن ست سنين بالأبواء بين مكة والمدينة كانت قد قدمت به على أخواله من بني عدي بن النجار تزيره إياهم فماتت وهي راجعة به إلى مكة وذكر الواقدي بأسانيده أن النبي صلى الله عليه و سلم خرجت به أمه إلى المدينة ومعها أم أيمن وله ست سنين فزارت أخواله قالت أم أيمن فجاءني ذات يوم رجلان من يهود المدينة فقالا لي أخرجي إلينا أحمد ننظر إليه فنظرا إليه وقلباه فقال أحدهما لصاحبه هذا نبي هذه الأمة وهذه دار هجرته وسيكون بها من القتل والسبي أمر عظيم فلما سمعت أمه خافت وانصرفت به فماتت بالأبواء وهي راجعة وقد قال الإمام أحمد حدثنا حسين بن محمد حدثنا أيوب بن جابر عن سماك عن القاسم بن عبدالرحمن عن ابن بريدة عن أبيه قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى إذا كنا بودان قال مكانكم حتى آتيكم فانطلق ثم جاءنا وهو ثقيل فقال إني أتيت قبر أم محمد فسألت ربي الشفاعة يعني لها فمنعنيها وإني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها وكنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام فكلوا وامسكوا ما بدا لكم ونهيتكم عن الأشربة في هذه الأوعية فاشربوا ما بدا لكم وقد رواه البيهقي من طريق سفيان الثوري عن علقمة بن يزيد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال انتهى النبي صلى الله عليه و سلم إلى رسم قبر فجلس وجلس الناس حوله فجعل يحرك رأسه كالمخاطب ثم بكى فاستقبله عمر فقال ما يبكيك يا رسول الله قال هذا قبر آمنة بنت وهب استأذنت ربي في أن أزور قبرها فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فأبى علي وأدركتني رقتها فبكيت قال فما رؤيت ساعة أكثر باكيا من تلك الساعة تابعه محارب بن دثار عن بريدة عن أبيه ثم روى البيهقي عن الحاكم عن الأصم عن بحر بن نصر عن عبدالله بن وهب حدثنا ابن جريج عن أيوب بن هاني عن (2/279)
مسروق بن الأجدع عن عبدالله بن مسعود قال خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم ينظر في المقابر وخرجنا معه فأمرنا فجلسنا ثم تخطى القبور حتى انتهى إلى قبر منها فناجاه طويلا ثم ارتفع نحيب رسول الله صلى الله عليه و سلم باكيا فبكينا لبكاء رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم أقبل علينا فتلقاه عمر بن الخطاب فقال يا رسول الله ما الذي أبكاك لقد أبكانا وأفزعنا فجاء فجلس إلينا فقال أفزعكم بكائي قلنا نعم قال إن القبر الذي رأيتموني أناجي قبر آمنة بنت وهب وإني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي واستأذنت ربي في الاستغفار لها فلم يأذن لي فيه ونزل علي ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه أن إبراهيم لأواه حليم فأخذني ما يأخذ الولد للوالدة من الرقة فذلك الذي أبكاني غريب ولم يخرجوه وروى مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن محمد بن عبيد عن يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال زار النبي صلى الله عليه و سلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله ثم قال استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي فزوروا القبور تذكركم الموت وروى مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عفان عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن رجلا قال يا رسول الله أين أبي قال في النار فلما قفا دعاه فقال إن أبي وأباك في النار وقد روى البيهقي من حديث أبي نعيم الفضل بن دكين عن إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال إن أبي كان يصل الرحم وكان وكان فأين هو قال في النار قال فكأن الأعرابي وجد من ذلك فقال يا رسول الله أين أبوك قال حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار قال فأسلم الأعرابي بعد ذلك فقال لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه و سلم تعبا ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار غريب ولم يخرجوه من هذا الوجه وقال الإمام أحمد حدثنا أبو عبدالرحمن حدثنا سعيد هو ابن أبي أيوب حدثنا ربيعة بن سيف المعافري عن أبي عبدالرحمن الحبلي عن عبدالله بن عمرو قال بينما نحن نمشي مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ بصر بامرأة لا يظن أنه عرفها فلما توسط الطريق وقف حتى انتهت إليه فإذا فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال ما أخرجك من بيتك يا فاطمة فقالت أتيت أهل هذا البيت فترحمت إليهم ميتهم وعزيتهم قال لعلك بلغت معهم الكدي ( 1 ) قالت معاذ الله أن أكون بلغتها معهم وقد سمعتك تذكر في ذلك ما تذكر ( 2 ) قال لو بلغتيها معهم ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك ثم رواه أحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي من حديث ربيعة بن سيف بن مانع المعافري الصنمي (2/280)
الأسكندري وقد قال البخاري عنده مناكير وقال النسائي ليس به بأس وقال مرة صدوق وفي نسخة ضعيف وذكره ابن حبان في الثقات وقال كان يخطىء كثيرا وقال الدارقطني صالح وقال ابن يونس في تاريخ مصر في حديثه مناكير توفي قريبا من سنة عشرين ومائة والمراد بالكدي القبور وقيل النوح
والمقصود أن عبدالمطلب مات على ما كان عليه من دين الجاهلية خلافا لفرقة الشيعة فيه وفي ابنه أبي طالب على ما سيأتي في وفاة أبي طالب وقد قال البيهقي بعد روايته هذه الأحاديث في كتابه دلائل النبوة وكيف لا يكون أبواه وجده عليه الصلاة و السلام بهذه الصفة في الآخرة وقد كانوا يعبدون الوثن حتى ماتوا ولم يدينوا دين عيسى بن مريم عليه السلام وكفرهم لا يقدح في نسبه عليه الصلاة و السلام لأن انكحة الكفار صحيحة الا تراهم يسلمون مع زوجاتهم فلا يلزمهم تجديد العقد ولا مفارقتهن إذا كان مثله يجوز في الإسلام وبالله التوفيق انتهى كلامه
قلت وأخباره صلى الله عليه و سلم عن أبويه وجده عبدالمطلب بأنهم من أهل النار لا ينافي الحديث الوارد عنه من طرق متعددة أن أهل الفترة والأطفال والمجانين والصم يمتحنون في العرصات يوم القيامة كما بسطناه سندا ومتنا في تفسيرنا عند قوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا فيكون منهم من يجيب ومنهم من لا يجيب فيكون هؤلاء من جملة من لا يجيب فلا منافاة ولله الحمد والمنة
وأما الحديث الذي ذكره السهيلي وذكر أن في إسناده مجهولين إلى ابن أبي الزناد عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سأل ربه أن يحيي أبويه فأحياهما وآمنا به فإنه حديث منكر جدا وإن كان ممكنا بالنظر إلى قدرة الله تعالى لكن الذي ثبت في الصحيح يعارضه والله أعلم فصل
قال ابن اسحاق وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم مع جده عبدالمطلب بن هاشم يعني بعد موت أمه آمنة بنت وهب فكان يوضع لعبدالمطلب فراش في ظل الكعبة وكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له قال فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يأتي وهو غلام جفر حتى يجلس عليه فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه فيقول عبدالمطلب إذا رأى ذلك منهم دعوا إبني فوالله إن له لشأنا ثم يجلسه معه على فراشه ويمسح ظهره بيده ويسره ما يراه يصنع وقال الواقدي حدثني محمد بن عبدالله عن الزهري وحدثنا عبدالله بن جعفر عن عبدالواحد بن حمزة بن عبدالله وحدثنا هاشم بن عاصم الأسلمي عن المنذر بن جهم وحدثنا معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وحدثنا عبدالرحمن بن عبدالعزيز عن أبي الحويرث وحدثنا ابن أبي سبرة عن سليمان بن (2/281)
سحيم عن نافع عن ابن جبير دخل حديث بعضهم في بعض قالوا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يكون مع أمه آمنة بنت وهب فلما توفيت قبضه إليه جده عبدالمطلب وضمه ورق عليه رقة لم يرقها على ولده وكان يقربه منه ويدنيه ويدخل عليه إذا خلا وإذا نام وكان يجلس على فراشه فيقول عبدالمطلب إذا رأى ذلك دعوا ابني إنه يؤسس ملكا
وقال قوم من بني مدلج لعبدالمطلب احتفظ به فأنا لم نر قدما أشبه بالقدم الذي في المقام منه فقال عبدالمطلب لأبي طالب اسمع ما يقول هؤلاء فكان أبو طالب يحتفظ به وقال عبدالمطلب لأم أيمن وكانت تحضنه يا بركة لا تغفلي عن ابني فإني وجدته مع غلمان قريب من السدرة وإن أهل الكتاب يزعمون أن ابني نبي هذه الأمة وكان عبدالمطلب لا يأكل طعاما إلا يقول علي بابني فيؤتى به إليه
فلما حضرت عبدالمطلب الوفاة أوصى أبا طالب بحفظ رسول الله صلى الله عليه و سلم وحياطته ثم مات عبدالمطلب ودفن بالحجون
وقال ابن اسحاق فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم ثمان سنين هلك جده عبدالمطلب بن هاشم ثم ذكر جمعه بناته وأمره إياهن أن يرثينه وهن أروى وأميمة وبرة وصفية وعاتكة وأم حكيم البيضاء وذكر أشعارهن وما قلن في رثاء أبيهن وهو يسمع قبل موته وهذا أبلغ النوح وبسط القول في ذلك وقد قال ابن هشام ولم أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرف هذا الشعر
قال ابن اسحاق فلما هلك عبدالمطلب بن هاشم ولي السقاية وزمزم بعده ابنه العباس وهو من أحدث إخوته سنا فلم تزل إليه حتى قام الإسلام وأقرها في يده رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد جده عبدالمطلب مع عمه أبي طالب لوصية عبدالمطلب له به ولأنه كان شقيق أبيه عبدالله أمهما فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم قال فكان أبو طالب هو الذي يلي أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان إليه ومعه وقال الواقدي أخبرنا معمر عن ابن نجيح عن مجاهد وحدثنا معاذ بن محمد الأنصاري عن عطاء عن ابن عباس وحدثنا محمد بن صالح وعبدالله بن جعفر وإبراهيم بن اسماعيل بن أبي حبيبة دخل حديث بعضهم في حديث بعض قالوا لما توفي عبدالمطلب قبض أبو طالب رسول الله صلى الله عليه و سلم فكان يكون معه وكان أبو طالب لا مال له وكان يحبه حبا شديدا لا يحبه ولده وكان لا ينام إلا إلى جنبه ويخرج فيخرج معه وصب به أبو طالب صبابة لم يصب مثلها بشيء قط وكان يخصه بالطعام وكان إذا أكل عيال أبي طالب جميعا أو فرادى لم يشبعوا وإذا أكل معهم رسول الله صلى الله عليه و سلم شبعوا فكان إذا أراد أن يغديهم قال كما أنتم حتى يأتي ولدي فيأتي رسول الله صلى الله عليه و سلم فيأكل معهم فكانوا يفضلون من طعامهم وإن لم يكن منهم لم يشبعوا فيقول أبو طالب إنك (2/282)
لمبارك وكان الصبيان يصبحون رمصا شعثا ويصبح رسول الله صلى الله عليه و سلم دهينا كحيلا
وقال الحسن بن عرفة حدثنا علي بن ثابت عن طلحة بن عمرو سمعت عطاء بن أبي رباح سمعت ابن عباس يقول كان بنو أبي طالب يصبحون رمصا عمصا ويصبح رسول الله صلى الله عليه و سلم صقيلا دهينا وكان أبو طالب يقرب إلى الصبيان صفحتهم أول البكرة فيجلسون وينتهبون ويكف رسول الله صلى الله عليه و سلم يده فلا ينتهب معهم فلما رأى ذلك عمه عزل له طعامه على حدة
وقال ابن اسحاق حدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير أن أباه حدثه أن رجلا من لهب كان عائفا فكان إذا قدم مكة أتاه رجال من قريش بغلمانهم ينظر إليهم ويعتاف لهم فيهم قال فأتي أبو طالب برسول الله صلى الله عليه و سلم وهو غلام مع من يأتيه قال فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم شغله عنه شيء فلما فرغ قال الغلام علي به فلما رأى أبو طالب حرصه عليه غيبه عنه فجعل يقول ويلكم ردوا على الغلام الذي رأيته آنفا فوالله ليكونن له شأن قال وانطلق به أبو طالب فصل
في خروجه عليه الصلاة و السلام مع عمه أبي طالب إلى الشام وقصته مع بحيرى الراهب
قال ابن اسحاق ثم إن أبا طالب خرج في ركب تاجرا إلى الشام فلما تهيأ للرحيل وأجمع السير صب به رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما يزعمون فرق له أبو طالب وقال والله لأخرجن به معي ولا أفارقه ولا يفارقني أبدا أو كما قال فخرج به فلما نزل الركب بصري من أرض الشام وبها راهب يقال له بحيرى في صومعة له وكان إليه علم أهل النصرانية ولم يزل في تلك الصومعة منذ قط راهب فيها إليه يصير علمهم عن كتاب فيما يزعمون يتوارثونه كابرا عن كابر فلما نزلوا ذلك العام ببحيرى وكانوا كثيرا ما يمرون به فلا يكلمهم ولا يعرض لهم حتى كان ذلك العام فلما نزلوا قريبا من صومعته صنع لهم طعاما كثيرا وذلك فيما يزعمون عن شيء رآه وهو في صومعته يزعمون أنه رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم في الركب حتى أقبل وغمامة تظلله من بين القوم ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريبا منه فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة وتهصرت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى استظل تحتها فلما رأى ذلك بحيرى نزل من صومعته وقد أمر بطعام فصنع ثم أرسل إليهم فقال إني صنعت لكم طعاما يا معشر قريش فأنا أحب أن تحضروا كلكم كبيركم وصغيركم وعبدكم وحركم فقال له رجل منهم والله يا بحيرى إن لك لشأنا اليوم ما كنت تصنع هذا بنا وقد كنا نمر بك كثيرا فما شأنك اليوم قال له بحيرى صدقت قد كان ما تقول ولكنكم ضيف وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاما فتأكلون منه كلكم فاجتمعوا إليه وتخلف رسول الله صلى الله عليه و سلم من بين القوم لحداثة سنه في رحال القوم تحت الشجرة (2/283)
فلما رآهم بحيرى لم ير الصفة التي يعرف ويجده عنده فقال يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي قالوا يا بحيرى ما تخلف أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام وهو أحدثنا سنا فتخلف في رحالنا قال لا تفعلوا ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم قال فقال رجل من قريش مع القوم واللات والعزى إن كان للؤم بنا أن يتخلف محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب عن طعام من بيننا ثم قام إليه فاحتضنه وأجلسه مع القوم فلما رأى بحيرى جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا قام إليه بحيرى وقال له يا غلام أسألك بحق اللات والعزى الا أخبرتني عما أسألك عنه وإنما قال له بحيرى ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال له لا تسألني باللات والعزى شيئا فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما فقال له بحيرى فبالله ألا ما أخبرتني عما أسألك عنه فقال له سلني عما بدا لك فجعل يسأله عن أشياء من حاله من نومه وهيئته وأموره فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يخبره فوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه موضعه من صفته التي عنده فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب فقال ما هذا الغلام منك قال ابني قال بحيرى ما هو بابنك وما ينبغي لهذاالغلام أن يكون أبوه حيا قال فإنه ابن أخي قال فما فعل أبوه قال مات وأمه حبلى به قال صدقت ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم فاسرع به إلا بلاده فخرج به عمه أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام
قال ابن اسحاق فزعموا فيما روى الناس أن زريرا وثماما ودريسما وهم نفر من أهل الكتاب قد كانوا رأوا رسول الله صلى الله عليه و سلم مثلما رأى بحيرى في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبي طالب فأرادوه فردهم عنه بحيرى فذكرهم الله وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته وأنهم أجمعوا لما أرادوا به لم يخلصوا إليه حتى عرفوا ما قال لهم وصدقوه بما قال فتركوه وانصرفوا عنه وقد ذكر يونس بن بكير عن ابن اسحاق أن أبا طالب قال في ذلك ثلاث قصائد هكذا ذكر ابن إسحاق هذا السياق من غير إسناد منه وقد ورد نحوه من طريق مسند مرفوع
فقال الحافظ أبو بكر الخرائطي حدثنا عباس بن محمد الدوري حدثنا قراد أبو نوح حدثنا يونس عن أبي إسحاق عن أبي بكر بن أبي موسى عن أبيه قال خرج أبو طالب إلى الشام ومعه رسول الله صلى الله عليه و سلم في أشياخ من قريش فلما أشرفوا على الراهب يعني بحيرى هبطوا فحلوا رحالهم فخرج إليهم الراهب وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج ولا يلتفت إليهم قال فنزل وهم يحلون رحالهم فجعل يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد النبي صلى الله عليه و سلم فقال هذا سيد العالمين وفي رواية البيهقي زيادة هذا رسول رب العالمين بعثه الله رحمة للعالمين فقال له أشياخ من قريش وما علمك فقال إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق (2/284)
شجرة ولا حجر إلا خر ساجدا ولا يسجدون إلا لنبي وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه ثم رجع فصنع لهم طعاما فلما أتاهم به وكان هو في رعية الإبل فقال أرسلوا إليه فأقبل وغمامة تظله فلما دنا من القوم قال انظروا إليه عليه غمامة فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة فلما جلس مال فيء الشجرة عليه قال انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه قال فينما هو قائم عليهم وهو ينشدهم ألا يذهبوا به إلى الروم فإن الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فقتلوه فالتفت فإذا هو بسبعة نفر من الروم قد أقبلوا قال فاستقبلهم فقال ما جاء بكم قالوا جئنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر فلم يبق طريق إلا بعث إليه ناس وإنا أخبرنا خبره إلى طريقك هذه قال فهل خلفكم أحد هو خير منكم قالوا لا إنما أخبرناه خبره إلى طريقك هذه قال أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده فقالوا لا قال فبايعوه وأقاموا معه عنده قال فقال الراهب أنشدكم الله أيكم وليه قالوا أبو طالب فلم يزل يناشده حتى رده وبعث معه أبو بكر بلالا وزوده الراهب من الكعك والزيت هكذا رواه الترمذي عن أبي العباس الفضل بن سهل الأعرج عن قراد أبي نوح به والحاكم والبيهقي وابن عساكر من طريق أبي العباس محمد بن يعقوب الأصم عن عباس بن محمد الدوري به وهكذا رواه غير واحد من الحفاظ من حديث أبي نوح عبدالرحمن بن غزوان الخزاعي مولاهم ويقال له الضبي ويعرف بقراد سكن بغداد وهو من الثقات الذين أخرج لهم البخاري ووثقه جماعة من الأئمة والحفاظ ولم أر أحدا جرحه ومع هذا في حديثه هذا غرابة قال الترمذي حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وقال عباس الدوري ليس في الدنيا أحد يحدث به غير فراد أبي نوح وقد سمعه منه أحمد بن حنبل رحمه الله ويحيى بن معين لغرابته وانفراده حكاه البيهقي وابن عساكر
قلت فيه من الغرائب أنه من مرسلات الصحابة فإن أبا موسى الأشعري إنما قدم في سنة خيبر سنة سبع من الهجرة ولا يلتفت إلى قول ابن اسحاق في جعله له من المهاجرة إلى أرض الحبشة من مكة وعلى كل تقدير فهل مرسل فإن هذه القصة كانت ولرسول الله صلى الله عليه و سلم من العمر فيما ذكره بعضهم ثنتا عشرة سنة ولعل أبا موسى تلقاه من النبي صلى الله عليه و سلم فيكون أبلغ أو من بعض كبار الصحابة رضي الله عنهم أو كان هذا مشهورا مذكورا أخذه من طريق الاستفاضة
الثاني أن الغمامة لم تذكر في حديث أصح من هذا
الثالث أن قوله وبعث معه أبو بكر بلالا إن كان عمره عليه الصلاة و السلام إذ ذاك ثنتي عشرة سنة فقد كان عمر أبي بكر إذ ذاك تسع سنين أو عشرة وعمر بلال أقل من ذلك فأين كان أبو بكر إذ ذاك ثم أين كان بلال كلاهما غريب اللهم إلا أن يقال إن هذا كان ورسول الله صلى الله عليه و سلم كبيرا إما بأن يكون سفره بعد هذا أو إن كان القول بأن عمره كان إذ ذاك ثنتي عشرة سنة غير محفوظ فإنه إنما (2/285)
ذكره مقيدا بهذا الواقدي وحكى السهيلي عن بعضهم أنه كان عمره عليه الصلاة و السلام إذ ذاك تسع سنين والله أعلم قال الواقدي حدثني محمد بن صالح وعبدالله بن جعفر وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحصين قالوا لما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم اثنتي عشرة سنة خرج به عمه أبو طالب إلى الشام في العير التي خرج فيها للتجارة ونزلوا بالراهب بحيرى فقال لأبي طالب بالسر ما قال وأمره أن يحتفظ به فرده معه أبو طالب إلى مكة
وشب رسول الله صلى الله عليه و سلم مع أبي طالب يكلؤه الله ويحفظه ويحوطه من أمور الجاهلية ومعائبها لما يريد من كرامته حتى بلغ أن كان رجلا أفضل قومه مروءة وأحسنهم خلقا وأكرمهم مخالطة وأحسنهم حوارا وأعظمهم حلما وأمانة وأصدقهم حديثا وأبعدهم من الفحش والأذى ما رؤى ملاحيا ولا مماريا أحدا حتى سماه قومه الأمين لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة فكان أبو طالب يحفظه ويحوطه وينصره ويعضده حتى مات
وقال محمد بن سعد أخبرنا خالد بن معدان حدثنا معتمر بن سليمان سمعت أبي يحدث عن أبي مجلز أن عبدالمطلب أو أبا طالب شك خالد قال لما مات عبدالله عطف على محمد فكان لا يسافر سفرا إلا كان معه فيه وإنه توجه نحو الشام فنزل منزلا فأتاه فيه راهب فقال إن فيكم رجلا صالحا ثم قال أين أبو هذا الغلام قال فقال ها أنا ذا وليه أو قيل هذا وليه قال احتفظ بهذا الغلام ولا تذهب به إلى الشام إن اليهود حسد وإني أخشاهم عليه قال ما أنت تقول ذلك ولكن الله يقوله فرده وقال اللهم إني أستودعك محمدا ثم إنه مات
قصة بحيرا
حكى السهيلي عن سير الزهري أن بحيرى كان حبرا من أحبار اليهود
قلت والذي يظهر من سياق القصة أنه كان راهبا نصرانيا والله أعلم وعن المسعودي أنه كان من عبد القيس وكان اسمه جرجيس وفي كتاب المعارف لابن قتيبة سمع هاتف في الجاهلية قبل الإسلام بقليل يهتف ويقول ألا إن خير أهل الأرض ثلاثة بحيرى ورئاب بن البراء الشني والثالث المنتظر وكان الثالث المنتظر هو الرسول صلى الله عليه و سلم قال ابن قتيبة وكان قبر رئاب الشني وقبر ولده من بعده لا يزال يرى عندهما طش وهو المطر الخفيف فصل
في منشئه عليه الصلاة و السلام ومرباه وكفاية الله له وحياطته وكيف كان يتيما فآواه وعائلا فأغناه
قال محمد بن اسحاق فشب رسول الله صلى الله عليه و سلم يكلؤه الله ويحفظه ويحوطه من أقذار الجاهلية لما (2/286)
يريد من كرامته ورسالته حتى بلغ أن كان رجلا أفضل قومه مروءة وأحسنهم خلقا وأكرمهم حسبا وأحسنهم جوارا وأعظمهم حلما وأصدقهم حديثا وأعظمهم أمانة وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال تنزها وتكرما حتى ما اسمه في قومه إلا الأمين لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما ذكر لي يحدث عما كان الله يحفظه به في صغره وأمر جاهليته أنه قال لقد رأيتني في غلمان من قريش ننقل الحجارة لبعض ما يلعب الغلمان كلنا قد تعرى وأخذ إزاره وجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر إذ لكمني لاكم ما أراه لكمة وجيعة ثم قال شد عليه إزارك قال فأخذته فشددته علي ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي وإزاري علي من بين أصحابي وهذه القصة شبيهة بما في الصحيح عند بناء الكعبة حين كان ينقل هو وعمه العباس فإن لم تكنها فهي متقدمة عليها كالتوطئة لها والله أعلم
قال عبدالرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع جابر بن عبدالله يقول لما بنيت الكعبة ذهب رسول الله صلى الله عليه و سلم ينقل الحجارة فقال العباس لرسول الله صلى الله عليه و سلم إجعل إزارك على عاتقك من الحجارة ففعل فخر إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء ثم قام فقال إزاري فشد عليه إزاره أخرجاه في الصحيحين من حديث عبدالرزاق وأخرجاه أيضا من حديث روح بن عبادة عن زكرياء بن أبي إسحاق عن عمرو بن دينار عن جابر بنحوه
وقال البيهقي أخبرنا أبو عبدالله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا محمد بن اسحاق الصاغاني حدثنا محمد بن بكير الحضرمي حدثنا عبدالرحمن بن عبدالله الدشتكي حدثنا عمرو بن أبي قيس عن سماك عن عكرمة حدثني ابن عباس عن أبيه أنه كان ينقل الحجارة إلى البيت حين بنت قريش البيت قال وأفردت قريش رجلين رجلين الرجال ينقلون الحجارة وكانت النساء تنقل الشيد قال فكنت أنا وابن أخي وكنا نحمل على رقابنا وأزرنا تحت الحجارة فإذا غشينا الناس أئتزرنا فبينما أنا أمشي ومحمد أمامي قال فخر وانبطح على وجهه فجئت أسعى وألقيت حجري وهو ينظر إلى السماء فقلت ما شأنك فقام وأخذ إزاره قال إني نهيت أن أمشي عريانا قال وكنت أكتمها من الناس مخافة أن يقولوا مجنون وروى البيهقي من حديث يونس بن بكير عن محمد بن اسحاق حدثني محمد بن عبدالله بن قيس بن مخرمة عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده علي بن أبي طالب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يهمون به من النساء الا ليلتين كلتاهما عصمني الله عز و جل فيهما قلت ليلة لبعض فتيان مكة ونحن في رعاء غنم أهلها فقلت لصاحبي أبصر لي غنمي حتى أدخل مكة أسمر فيها كما يسمر الفتيان فقال بلى قال فدخلت حتى جئت أول دار من دور مكة سمعت عزفا بالغرابيل والمزامير فقلت ما هذا (2/287)
قالوا تزوج فلان فلانة فجلست أنظر وضرب الله على أذني فوالله ما أيقظني الا مس الشمس فرجعت إلى صاحبي فقال ما فعلت فقلت ما فعلت شيئا ثم أخبرته بالذي رأيت ثم قلت له ليلة أخرى أبصر لي غنمي حتى اسمر ففعل فدخلت فلما جئت مكة سمعت مثل الذي سمعت تلك الليلة فسألت فقيل نكح فلان فلانة فجلست أنظر وضرب الله على أذني فوالله ما أيقظني الا مس الشمس فرجعت إلى صاحبي فقال ما فعلت فقلت لا شيء ثم أخبرته الخبر فوالله ما هممت ولا عدت بعدهما لشيء من ذلك حتى أكرمني الله عز و جل بنبوته وهذا حديث غريب جدا وقد يكون عن علي نفسه ويكون قوله في آخره حتى أكرمني الله عز و جل بنبوته مقحما والله أعلم
وشيخ ابن اسحاق هذا ذكره ابن حبان في الثقات وزعم بعضهم أنه من رجال الصحيح قال شيخنا في تهذيبه ولم أقف على ذلك والله أعلم
وقال الحافظ البيهقي حدثني أبو عبدالله الحافظ حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا الحسن بن علي بن عفان العامري حدثنا أبو أسامة حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة ويحيى بن عبدالرحمن بن حاطب عن أسامة بن زيد عن زيد بن حارثة قال كان صنم من نحاس يقال له أساف ونائلة يتمسح به المشركون إذا طافوا فطاف رسول الله صلى الله عليه و سلم وطفت معه فلما مررت مسحت به فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تمسه قال زيد فطفنا فقلت في نفسي لأمسنه حتى أنظر ما يكون فمسحته فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ألم تنه قال البيهقي زاد غيره عن محمد بن عمرو بإسناده قال زيد فوالذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب ما استلم صنما قط حتى أكرمه الله تعالى بالذي أكرمه وأنزل عليه
وتقدم قوله عليه الصلاة و السلام لبحيرى حين سأله باللات والعزى لا تسألني بهما فوالله ما أبغضت شيئا بغضهما فأما الحديث الذي قاله الحافظ أبو بكر البيهقي أخبرنا أبو سعد الماليني أنبأنا أبو أحمد بن عدي الحافظ حدثنا إبراهيم بن أسباط حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن سفيان الثوري عن محمد بن عبدالله بن محمد بن عقيل عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه و سلم يشهد مع المشركين مشاهدهم قال فسمع ملكين خلفه وأحدهما يقول لصاحبه اذهب بنا حتى نقوم خلف رسول الله صلى الله عليه و سلم قال كيف نقوم خلفه وإنما عهده باستلام الأصنام قال فلم يعد بعد ذلك أن يشهد مع المشركين مشاهدهم فهو حديث أنكره غير واحد من الأئمة على عثمان بن أبي شيبة حتى قال الإمام أحمد فيه لم يكن أخوه يتلفظ بشيء من هذا وقد حكى البيهقي عن بعضهم أن معناه أنه شهد مع من يستلم الأصنام وذلك قبل أن يوحى إليه والله أعلم وقد تقدم في حديث زيد بن حارثة أنه اعتزل شهود مشاهد المشركين حتى أكرمه الله برسالته وثبت في الحديث أنه كان لا يقف بالمزدلفة ليلة عرفة بل كان يقف مع الناس بعرفات كما قال يونس بن بكير عن محمد بن اسحاق حدثني عبدالله بن أبي بكر (2/288)
عن عثمان بن أبي سليمان عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه جبير قال لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو على دين قومه وهو يقف على بعير له بعرفات من بين قومه حتى يدفع معهم توفيقا من الله عز و جل له
قال البيهقي معنى قوله على دين قومه ما كان بقي من ارث ابراهيم واسماعيل عليهما السلام ولم يشرك بالله قط صلوات الله وسلامه عليه دائما
قلت ويفهم من قوله هذا أيضا أنه كان يقف بعرفات قبل أن يوحى إليه وهذا توفيق من الله له ورواه الإمام أحمد عن يعقوب عن محمد بن اسحاق به ولفظه رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل أن ينزل عليه وإنه لواقف على بعير له مع الناس بعرفات حتى يدفع معهم توفيقا من الله وقال الإمام أحمد حدثنا سفيان عن عمرو عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال أضللت بعيرا لي بعرفة فذهبت أطلبه فإذا النبي صلى الله عليه و سلم واقف فقلت إن هذا من الحمس ( 1 ) ما شأنه ههنا وأخرجاه من حديث سفيان بن عيينة به
شهوده عليه الصلاة و السلام حرب الفجار
قال ابن اسحاق هاجت حرب الفجار ورسول الله صلى الله عليه و سلم ابن عشرين سنة وإنما سمي يوم الفجار بما استحل فيه هذان الحيان كنانة وقيس عيلان من المحارم بينهم وكان قائد قريش وكنانة حرب بن أمية بن عبد شمس وكان الظفر في أول النهار لقيس على كنانة حتى إذا كان وسط النهار كان الظفر لكنانة على قيس
وقال ابن هشام فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم أربع عشرة سنة أو خمس عشرة سنة فيما حدثني به أبو عبيدة النحوي عن أبي عمرو بن العلاء هاجت حرب الفجار بين قريش ومن معها من كنانة وبين قيس عيلان وكان الذي هاجها أن عروة الرحال بن عتبة بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن أجاز لطيمة أي تجارة للنعمان بن المنذر فقال البراض بن قيس أحد بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة أتجيزها على كنانة قال نعم وعلى الخلق فخرج فيها عروة الرحال وخرج البراض يطلب غفلته حتى إذا كان بتيمن ذي طلال بالعالية غفل عروة فوثب عليه البراض فقتله في الشهر الحرام فلذلك سمي الفجار وقال البراض في ذلك ... وداهية تهم الناس قبلي ... شددت لها بني بكر ضلوعي ... هدمت بها بيوت بني كلاب ... وأرضعت الموالي بالضروع (2/289)
رفعت له بذي طلال كفي ... فخر يميد كالجذع الصريع ...
وقال لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب ... وأبلغ إن عرضت بني كلاب ... وعامر والخطوب لها موالي ... وأبلغ إن عرضت بني نمير ... وأخوال القتيل بني هلال ... بأن الوافد الرحال أمسى ... مقيما عند تيمن ذي طلال ...
قال ابن هشام فأتى آت قريشا فقال إن البراض قد قتل عروة وهو في الشهر الحرام بعكاظ فارتحلوا وهوازن لا تشعر بهم ثم بلغهم الخبر فاتبعوهم فأدركوهم قبل أن يدخلوا الحرم فاقتتلوا حتى جاء الليل فدخلوا الحرم فأمسكت هوازن عنهم ثم التقوا بعد هذا اليوم أياما والقوم متساندون على كل قبيل من قريش وكنانة رئيس منهم وعلى كل قبيل من قيس رئيس منهم قال وشهد رسول الله صلى الله عليه و سلم بعض أيامهم أخرجه أعمامه معهم وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم كنت أنبل على أعمامي أي أرد عليهم نبل عدوهم إذا رموهم بها
قال ابن هشام وحديث الفجار طويل هو أطول مما ذكرت وإنما منعني من استقصائه قطعه حديث سيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم
وقال السهيلي والفجار بكسر الفاء على وزن قتال وكانت الفجارات في العرب أربعة ذكرهن المسعودي وآخرهن فجار البرض هذا وكان القتال فيه في أربعة أيام يوم شمطة ويوم العبلاء وهما عند عكاظ ويوم الشرب وهو أعظمها يوما وهو الذي حضره رسول الله صلى الله عليه و سلم وفيه قيدا رئيس قريش وبني كنانة وهما حرب بن أمية وأخوه سفيان أنفسهما لئلا يفروا وانهزمت يومئذ قيس إلا بني نضر فإنهم ثبتوا ويوم الحريرة عند نخلة ثم تواعدوا من العام المقبل إلى عكاظ فلما توافوا الموعد ركب عتبة بن ربيعة جمله ونادى يا معشر مضر علام تقاتلون فقالت له هوازن ما تدعو إليه قال الصلح قالوا وكيف قال ندى قتلاكم ونرهنكم رهائن عليها ونعفو عن دياتنا قالوا ومن لنا بذلك قال أنا قالوا ومن أنت قال عتبة بن ربيعة فوقع الصلح على ذلك وبعثوا إليهم أربعين رجلا فيهم حكيم بن حزام فلما رأت بنو عامر بن صعصعة الرهن في أيديهم عفوا عن دياتهم وانقضت حرب الفجار وقد ذكر الأموي حروب الفجار وأيامها واستقصاها مطولا فيما رواه عن الأثرم وهو المغيرة بن علي عن أبي عبيدة معمر بن المثنى فذكر ذلك فصل
قال الحافظ البيهقي أخبرنا أبو سعد الماليني أنبأنا أبو أحمد بن عدي الحافظ حدثنا يحيى بن علي (2/290)
ابن هاشم الخفاف حدثنا أبو عبدالرحمن الأزدي حدثنا اسماعيل بن علية عن عبدالرحمن بن اسحاق عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم شهدت مع عمومتي حلف المطيبين فما أحب أن أنكثه أو كلمة نحوها وإن لي حمر النعم قال وكذلك رواه بشر بن المفضل عن عبدالرحمن قال وأخبرنا أبو نصر بن قتادة حدثنا أبو عمرو بن مطر حدثنا أبو بكر بن أحمد بن داود السمناني حدثنا معلى بن مهدي حدثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما شهدت حلفا لقريش إلا حلف المطيبين وما أحب أن لي حمر النعم وأني كنت نقضته قال والمطيبون هاشم وأمية وزهرة ومخزوم قال البيهقي كذا روى هذا التفسير مدرجا في الحديث ولا أدري قائله وزعم بعض أهل السير أنه أراد حلف الفضول فإن النبي صلى الله عليه و سلم لم يدرك حلف المطيبين
قلت هذا لا شك فيه وذلك أن قريشا تحالفوا بعد موت قصي وتنازعوا في الذي كان جعله قصي لابنه عبد الدار من السقاية والرفادة واللواء والندوة والحجابة ونازعهم فيه بنو عبد مناف وقامت مع كل طائفة قبائل من قريش وتحالفوا على النصرة لحزبهم فأحضر أصحاب بني عبد مناف جفنة فيها طيب فوضعوا أيديهم فيها وتحالفوا فلما قاموا مسحوا أيديهم بأركان البيت فسموا المطيبين كما تقدم وكان هذا قديما ولكن المراد بهذا الحلف حلف الفضول وكان في دار عبدالله بن جدعان كما رواه الحميدي عن سفيان بن عيينة عن عبدالله عن محمد وعبدالرحمن ابني أبي بكر قالا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفا لو دعيت به في الإسلام لأجبت تحالفوا أن يردوا الفضول على أهلها وألا يعد ( 1 ) ظالم مظلوما قالوا وكان حلف الفضول قبل المبعث بعشرين سنة في شهر ذي القعدة وكان بعد حرب الفجار بأربعة أشهر وذلك لأن الفجار كان في شعبان من هذه السنة وكان حلف الفضول أكرم حلف سمع به وأشرفه في العرب وكان أول من تكلم به ودعا إليه الزبير بن عبدالمطلب وكان سببه أن رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل فحبس عنه حقه فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف عبد الدار ومخزوما وجمحا وسهما وعدي بن كعب فأتوا أن يعينوا على العاص بن وائل وزبروه أي انتهروه فلما رأى الزبيدي الشر أوفى على أبي قبيس عند طلوع الشمس وقريش في أنديتهم حول الكعبة فنادى بأعلى صوته ... يا آل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائي الدار والنفر ... ومحرم أشعث لم يقض عمرته ... يا للرجال وبين الحجر والحجر ... إن الحرام لمن أثت كرامته ... ولا حرام لثوب الفاجر الغدر (2/291)
فقام في ذلك الزبير بن عبدالمطلب وقال ما لهذا متروك فاجتمعت هاشم وزهرة وتيم بن مرة في دار عبدالله بن جدعان فصنع لهم طعاما وتحالفوا في ذي القعدة في شهر حرام فتعاقدوا وتعاهدوا بالله ليكونن يدا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدي إليه حقه ما بل بحر صوفة وما رسى ثبير وحراء مكنهما وعلى التأسي في المعاش فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول وقالوا لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر ثم مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه وقال الزبير بن عبدالمطلب في ذلك ... حلفت لنعقدن حلفا عليهم ... وإن كنا جميعا أهل دار ... نسميه الفضول إذا عقدنا ... يعزبه الغريب لذي الجوار ... ويعلم من حوالي البيت أنا ... أباة الضيم نمنع كل عار ...
وقال الزبير أيضا إن الفضول تعاقدوا وتحالفوا ... ألا يقيم ببطن مكة ظالم ... أمر عليه تعاقدوا وتواثقوا ... فالجار والمعتر فيهم سالم ...
وذكر قاسم بن ثابت في غريب الحديث أن رجلا من خثعم قدم مكة حاجا أو معتمرا ومعه ابنة له يقال لها القتول من أوضأ نساء العالمين فاغتصبها منه نبيه بن الحجاج وغيبها عنه فقال الخثعمي من يعديني على هذا الرجل فقيل له عليك بحلف الفضول فوقف عند الكعبة ونادى يال حلف الفضول فإذا هم يعنقون إليه من كل جانب وقد انتضوا أسيافهم يقولون جاءك الغوث فما لك فقال إن نبيها ظلمني في بنتي وانتزعها مني قسرا فساروا معه حتى وقفوا على باب داره فخرج إليهم فقالوا له أخرج الجارية ويحك فقد علمت من نحن وما تعاقدنا عليه فقال افعل ولكن متعوني بها الليلة فقالوا لا والله ولا سخب لقحة فأخرجها إليهم وهو يقول ... راح صحبي ولم أحيي القتولا ... لم أودعهم وداعا جميلا ... إذ أجد الفضول أن يمنعوها ... قد أراني ولا أخاف الفضولا ... لا تخالي أني عشية راح الركب ... هنتم علي أن لا يزولا ...
وذكر أبياتا أخر غير هذه وقد قيل إنما سمي هذا حلف الفضول لأنه أشبه حلفا تحالفته جرهم على مثل هذا من نصر المظلوم على ظالمه وكان الداعي إليه ثلاثة من أشرافهم اسم كل واحد منهم فضل وهم الفضل بن فضالة والفضل بن وداعة والفضل بن الحارث هذا قول ابن قتيبة وقال غيره (2/292)
الفضل بن شراعة والفضل بن بضاعة والفضل بن قضاعة ( 1 ) وقد أورد السهيلي هذا رحمه الله
وقال محمد بن اسحاق بن يسار وتداعت قبائل من قريش إلى حلف فاجتمعوا له في دار عبدالله بن جدعان لشرفه وسنه وكان حلفهم عنده بنو هاشم وبنو عبدالمطلب وبنو أسد بن عبد العزى وزهرة بن كلاب وتيم بن مرة فتعاهدوا وتعاقدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا كانوا معه وكانوا على من ظلمه حتى يرد عليه مظلمته فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول
قال محمد بن اسحاق فحدثني محمد بن زيد بن المهاجر قنفذ التيمي أنه سمع طلحة بن عبدالله بن عوف الزهري يقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو دعى به في الإسلام لأجبت
قال ابن اسحاق وحدثني يزيد بن عبدالله بن أسامة بن الهاد الليثي أن محمد بن ابراهيم بن الحارث التيمي حدثه أنه كان بين الحسين بن علي بن أبي طالب وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان والوليد يومئذ أمير المدنية أمره عليها عمه معاوية بن أبي سفيان منازعة في مال كان بينهما بذي المروة فكان الوليد تحامل على الحسين في حقه لسلطانه فقال له الحسين أحلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم لأدعون بحلف الفضول قال فقال عبدالله بن الزبير وهو عند الوليد حين قال له الحسين ما قال وأنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفي ثم لأقومن معه حتى ينصف من حقه أو نموت جميعا قال وبلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري فقال مثل ذلك وبلغت عبدالرحمن بن عثمان بن عبيدالله التيمي فقال مثل ذلك فلما بلغ ذلك الوليد ابن عتبة أنصف الحسين من حقه حتى رضي
تزويجه عليه الصلاة و السلام خديجة بنت خويلد
قال ابن اسحاق وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال تستأجر الرجال على مالها مضاربة فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ما بلغها من صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج لها في مال تاجرا إلى الشام وتعطيه أفضل ما تعطى غيره من التجار مع غلام لها يقال له ميسرة فقبله رسول الله صلى الله عليه و سلم منها وخرج في مالها ذاك وخرج معه غلامها ميسرة حتى (2/293)
نزل الشام فنزل رسول الله صلى الله عليه و سلم في ظل شجرة قريبا من صومعة راهب من الرهبان فاطلع الراهب إلى ميسرة فقال من هذا الرجل الذي نزل تحت الشجرة فقال ميسرة هذا رجل من قريش من أهل الحرم فقال له الراهب ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي ثم باع رسول الله صلى الله عليه و سلم سلعته يعني تجارته التي خرج بها واشترى ما أراد أن يشتري ثم أقبل قافلا إلى مكة ومعه ميسرة فكان ميسرة فيما يزعمون إذا كانت الهاجرة واشتد الحر يرى ملكين يظلانه من الشمس وهو يسير على بعيره فلما قدم مكة على خديجة بمالها باعت ما جاء به فأضعف أو قريبا وحدثها ميسرة عن قول الراهب وعما كان يرى من اظلال الملائكة إياه وكانت خديجة امرأة حازمة شريفة لبيبة مع ما أراد الله بها من كرامتها فلما أخبرها ميسرة ما أخبرها بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت له فيما يزعمون يا ابن عم أني قد رغبت فيك لقرابتك وسطتك ( 1 ) في قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك ثم عرضت نفسها عليه وكانت أوسط نساء قريش نسبا وأعظمهن شرفا وأكثرهن مالا كل قومها كان حريصا على ذلك منها لو يقدر عليه فلما قالت ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم ذكر ذلك لأعمامه فخرج معه عمه حمزة حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه فتزوجها عليه الصلاة و السلام
قال ابن هشام فأصدقها عشرين بكرة وكانت أول امرأة تزوجها ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت
قال ابن اسحاق فولدت لرسول الله صلى الله عليه و سلم ولده كلهم إلا إبراهيم القاسم وكان به يكنى والطيب والطاهر وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة قال ابن هشام أكبرهم القاسم ثم الطيب ثم الطاهر وأكبر بناته رقية ثم زينب ثم أم كلثوم ثم فاطمة
قال البيهقي عن الحاكم قرأت بخط أبي بكر بن أبي خيثمة حدثنا مصعب بن عبدالله الزبيري قال أكبر ولده عليه الصلاة و السلام القاسم ثم زينب ثم عبدالله ثم أم كلثوم ثم فاطمة ثم رقية وكان أول من مات من ولده القاسم ثم عبدالله وبلغت خديجة خمسا وستين سنة ويقال خمسين وهو أصح وقال غيره بلغ القاسم أن يركب الدابة والنجيبة ثم مات بعد النبوة وقيل مات وهو رضيع فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن له مرضعا في الجنة يستكمل رضاعه والمعروف أن هذا في حق إبراهيم
وقال يونس بن بكير حدثنا إبراهيم بن عثمان عن القاسم عن ابن عباس قال ولدت خديجة لرسول الله صلى الله عليه و سلم غلامين وأربع نسوة القاسم وعبدالله وفاطمة وأم كلثوم وزينب ورقية وقال الزبير بن بكار عبدالله هو الطيب وهو الطاهر سمي بذلك لأنه ولد بعد النبوة فماتوا قبل البعثة (2/294)
وأما بناته فأدركن البعثة ودخلن في الإسلام وهاجرن معه صلى الله عليه و سلم قال ابن هشام وأما إبراهيم فمن مارية القبطية التي أهداها له المقوقي صاحب اسكندرية من كورة انصنا ( 1 ) وسنتكلم على أزواجه وأولاده عليه الصلاة و السلام في باب مفرد لذلك في آخر السيرة إن شاء الله تعالى وبه الثفة
قال ابن هشام وكان عمر رسول الله صلى الله عليه و سلم حين تزوج خديجة خمسا وعشرين سنة فيما حدثني غير واحد من اهل العلم منهم أبو عمرو المدني وقال يعقوب بن سفيان كتبت عن إبراهيم بن المنذر حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي حدثني غير واحد أن عمرو بن أسد زوج خديجة من رسول الله صلى الله عليه و سلم وعمره خمسا وعشرين سنة وقريش تبني الكعبة وهكذا نقل البيهقي عن الحاكم أنه كان عمر رسول الله صلى الله عليه و سلم حين تزوج خديجة خمسا وعشرين سنة وكان عمرها إذ ذاك خمسا وثلاثين وقيل خمسا وعشرين سنة
وقال البيهقي باب ما كان يشتغل به رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل أن يتزوج خديجة
أخبرنا أبو عبدالله الحافظ أخبرنا أبو بكر بن عبدالله اخبرنا الحسن بن سفيان حدثنا سويد بن سعيد حدثنا عمرو بن أبي يحيى بن سعيد القرشي عن جده سعيد عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما بعث الله نبيا إلا راعي غنم فقال له أصحابه وأنت يا رسول الله قال وأنا رعيتها لأهل مكة بالقراريط رواه البخاري عن احمد بن محمد المكي عن عمرو بن يحيى به ثم روى البيهقي من طريق الربيع بن بدر وهو ضعيف عن أبي الزبير عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم آجرت نفسي من خديجة سفرتين بقلوص وروى البيهقي من طريق حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس أن أبا خديجة زوج رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو أظنه قال سكران ثم قال البيهقي اخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان أنا عبدالله بن جعفر حدثنا يعقوب بن سفيان قال حدثني إبراهيم بن المنذر حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي حدثني عبدالله بن أبي عبيد بن محمد بن عمار بن ياسر عن ابيه عن مقسم بن أبي القاسم مولى عبدالله بن الحارث بن نوفل ان عبدالله بن الحارث حدثه أن عمار بن ياسر كان إذا سمع ما يتحدث به الناس عن تزويج رسول الله صلى الله عليه و سلم خديجة وما يكثرون فيه يقول أنا أعلم الناس بتزويجه إياها إني كنت له تربا وكنت له إلفا وخدنا وإني خرجت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم حتى إذا كنا بالحزورة أجزنا على أخت خديجة وهي جالسة على أدم تبيعها فنادتني فانصرفت إليها ووقف لي رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت أما بصاحبك هذا من حاجة في تزويج خديجة قال عمار فرجعت إليه فأخبرته فقال بل لعمرى فذكرت لها قول رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت اغدوا علينا إذا أصبحنا فغدونا عليهم فوجدناهم قد ذبحوا بقرة والبسوا أبا خديجة حلة وصفرت لحيته وكلمت اخاها فكلم أباه وقد (2/295)
سقى خمرا فذكر له رسول الله صلى الله عليه و سلم ومكانه وسألته أن يزوجه فزوجه خديجة وصنعوا من البقرة طعاما فأكلنا منه ونام أبوها ثم استيقظ صاحيا فقال ما هذه الحلة وما هذه الصفرة وهذا الطعام فقلت له ابنته التي كانت قد كلمت عمارا هذه حلة كساكها محمد بن عبدالله ختنك وبقرة أهداها لك فذبحناها حين زوجته خديجة فأنكر ان يكون زوجه وخرج يصيح حتى جاء الحجر وخرج بنو هاشم برسول الله صلى الله عليه و سلم فجاؤه فكلموه فقال أين صاحبكم الذي تزعمون أني زوجته خديجة فبرز له رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما نظر إليه قال إن كنت زوجته فسبيل ذاك وإن لم أكن فعلت فقد زوجته
وقد ذكر الزهري في سيره أن أباها زوجها منه وهو سكران وذكر نحو ما تقدم حكاه السهيلي قال المؤملي المجتمع عليه ان عمها عمرو بن أسد هو الذي زوجها منه وهذا هو الذي رجحه السهيلي وحكاه عن ابن عباس وعائشة قالت وكان خويلد مات قبل الفجار وهو الذي نازع تبعا حين أراد أخذ الحجر الأسود إلى اليمن فقام في ذلك خويلد وقام معه جماعة من قريش ثم رأى تبع في منامه ما روعه فنزع عن ذلك وترك الحجر الأسود مكانه
وذكر ابن إسحاق في آخر السيرة أن أخاها عمرو بن خويلد هو الذي زوجها رسول الله صلى الله عليه و سلم فالله أعلم
فصل قال ابن إسحاق وقد كانت خديجة بنت خويلد ذكرت لورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن قصى وكان ابن عمها وكان نصرانيا قد تتبع الكتب وعلم من علم الناس ما ذكر لها غلامها من قول الراهب وما كان يرى منه إذ كان الملكان يظلانه فقال ورقة لئن كان هذا حقا يا خديجة إن محمدا لنبي هذه الأمة قد عرفت انه كائن لهذه الأمة نبي ينتظر هذا زمانه أو كما قال فجعل ورقة يستبطىء الأمر ويقول حتى متى وقال في ذلك ... لججت وكنت في الذكرى لجوجا ... لهم طالما ما بعث النشيجا ... ووصف من خديجة بعد وصف ... فقد طال انتظاري يا خديجا ... ببطن المكتين على رجائي ... حديثك أن أرى منه خروجا ... بما خبرتنا من قول قس ... من الرهبان أكر أن يعوجا ... بأن محمدا سيسود قوما ... ويخصم من يكون له حجيجا ... ويظهر في البلاد ضياء نور ... يقوم به البرية أن تموجا ... فيلقى من يحاربه خسارا ... ويلقى من يسالمه فلوجا ... فيا ليتني إذا ما كان ذاكم ... شهدت وكنت أولهم ولوجا (2/296)
ولوجا في الذي كرهت قريش ... ولو عجت بمكتها عجيجا ... أرجي بالذي كرهوا جميعا ... إلى ذي العرش إن سفلوا عروجا ... وهل امر السفالة غير كفر ... بمن يختار من سمك البروجا ... فان يبقوا وأبق يكن أمور ... يضج الكافرون لها ضجيجا ... وإن اهلك فكل فتى سيلقى ... من الأقدار متلفة خروجا ...
وقال ورقة أيضا فيما رواه يونس بن بكير عن ابن إسحاق عنه ... أتبكر أم أنت العشية رائح ... وفي الصدر من إضمارك الحزن قادح ... لفرقة قوم لا أحب فراقهم ... كأنك عنهم بعد يومين نازح ... وأخبار صدق خبرت عن محمد ... يخبرها عنه إذا غاب ناصح ... أتاك الذي وجهت يا خير حرة ... بغور وبالنجدين حيث الصحاصح ... إلى سوق بصرى في الركاب التي غدت ... وهن من الأحمال تعص دوالح ( 1 ) ... فيخبرنا عن كل خير بعلمه ... وللحق أبواب لهن مفاتح ... بأن ابن عبدالله أحمد مرسل ... إلى كل من ضمت عليه الأباطح ... وظني به أن سوف يبعث صادقا ... كما أرسل العبدان هود وصالح ... وموسى وإبراهيم حتى يرى له ... بهاء ومنشور من الذكر واصح ... ويتبعه حيا لؤي وغالب ... شبابهم والأشيبون الجحاجح ... فإن أبق حتى يدرك الناس دهره ... فإني به مستبشر الود فارح ... وإلا فإني يا خديجة فاعلمي ... عن أرضك في الأرض العريضة سائح ...
وزاد الأموي ... فمتبع دين الذي أسس البنا ... وكان له فضل على الناس راجح ... وأسس بنيانا بمكة ثابتا ... تلألأ فيه بالظلام المصابح ... مثابا لأفناء القبائل كلها ... تخب إليه اليعملات الطلائح ... حراجيج ( 2 ) أمثال القداح من السرى ... يعلق في أرساغهن السرايح ...
ومن شعره فيما أورده أبو القاسم السهيلي في روضه ... لقد نصحت لأقوام وقلت لهم ... أنا النذير فلا يغرركم أحد (2/297)
لا تعبدن إلها غير خالقكم ... فإن دعوكم فقولوا بيننا حدد ... سبحان ذي العرش سبحانا يدوم له ... وقبلنا سبح الجودي والجمد ... مسخر كل ما تحت السماء له ... لا ينبغي أن يناوي ملكه أحد ... لا شيء مما نرى تبقى بشاشته ... يبقى الاله ويودي المال والولد ... لم تغن عن هرمز يوما خزائنه ... والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا ... ولا سليمان إذ تجري الرياح به ... والجن والإنس فيما بينها مرد ... أين الملوك التي كانت لعزتها ... من كل أوب إليها وافد يفد ... حوض هنالك مورود بلا كذب ... لا بد من ورده يوما كما وردوا ...
ثم قال هكذا نسبه أبو الفرج إلى ورقة قال وفيه أبيات تنسب إلى أمية بن أبي الصلت
قلت وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يستشهد في بعض الأحيان بشيء من هذه الابيات والله أعلم
فصل في تجديد قريش بناء الكعبة قبل المبعث بخمس سنين
ذكر البيهقي في بناء الكعبة قبل تزويجه عليه الصلاة و السلام خديجة والمشهور أن بناء قريش الكعبة بعد تزويج خديجة كما ذكرناه بعشر سنين ثم شرع البيهقي في ذكر بناء الكعبة في زمن إبراهيم كما قدمناه في قصته وأورد حديث ابن عباس المتقدم في صحيح البخاري وذكر ما ورد من الاسرائيليات في بنائه في زمن آدم ولا يصح ذلك فإن ظاهر القرآن يقتضي ان إبراهيم أول من بناه مبتدئا وأول من أسسه وكانت بقعته معظمة قبل ذلك معتنى بها مشرقة في سائر الأعصار والاوقات قال الله تعالى إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا وثبت في الصحيحين عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أول قال المسجد الحرام قلت ثم أي قال المسجد الأقصى قلت كم بينهما قال أربعون سنة وقد تكلمنا على هذا فيما تقدم وإن المسجد الأقصى أسسه إسرائيل وهو يعقوب عليه السلام وفي الصحيحين أن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة وقال البيهقي أخبرنا أبو عبدالله الحافظ حدثنا أبو عبدالله الصفار حدثنا أحمد بن مهران حدثنا عبيدالله حدثنا إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد عن عبدالله بن عمرو قال كان البيت قبل الأرض بألفي سنة وإذا الأرض مدت قال من تحته مدت قال وقد تابعه منصور عن مجاهد (2/298)
قلت وهذا غريب جدا وكأنه من الزاملتين اللتين أصابهما عبدالله بن عمرو يوم اليرموك وكان فيهما إسرائيليات يحدث منها وفيهما منكرات وغرائب
ثم قال البيهقي اخبرنا أبو عبدالله الحافظ أخبرنا أبو جعفر محمد بن محمد بن محمد بن عبدالله البغدادي حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح حدثنا أبو صالح الجهني حدثني ابن لهيعة عن يزيد بن أبي الخير عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث الله جبريل إلى آدم وحواء فقال لهما ابنيا لي بيتا فخط لهما جبريل فجعل آدم يحفر وحواء تنقل حتى أجابه الماء نودي من تحته حسبك يا آدم فلما بنيا أوحى الله تعالى إليه ان يطوف به وقيل له أنت أول الناس وهذا أول بيت ثم تناسخت القرون حتى حجه نوح ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم القواعد منه
قال البيهقي تفرد به ابن لهيعة هكذا مرفوعا
قلت وهو ضعيف ووقفه على عبدالله بن عمرو أقوى وأثبت والله أعلم
وقال الربيع أنبأنا الشافعي أنبأنا سفيان عن ابن أبي لبيد عن محمد بن كعب القرظي أو غيره قال حج آدم فلقيته الملائكة فقالوا بر نسكك يا آدم لقد حججنا قبلك بألفي عام وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق حدثني بقية أو قال ثقة من أهل المدينة عن عروة بن الزبير أنه قال ما من نبي إلا وقد حج البيت إلا ما كان من هود وصالح
قلت وقد قدمنا حجهما إليه والمقصود الحج إلى محله وبقعته وإن لم يكن ثم بناء والله اعلم ثم أورد البيهقي حديث ابن عباس المتقدم في قصة إبراهيم عليه السلام بطوله وتمامه وهو في صحيح البخاري ثم روى البيهقي من حديث سماك بن حرب عن خالد بن عرعرة قال سأل رجل عليا عن قوله تعالى إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين أهو أول بيت بني في الأرض قال لا ولكنه أول بيت وضع فيه البركة للناس والهدى ومقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا وإن شئت نبأتك كيف بناؤه إن الله تعال أوحى إلى إبراهيم أن ابن لي بيتا في الأرض فضاق به ذرعا فأرسل إليه السكينة وهي ريح خجوج لها رأس فاتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت ثم تطوقت في موضع البيت تطوق الحية فبنى إبراهيم حتى بلغ مكان الحجر قال لابنه أبغني حجرا فالتمس حجرا حتى أتاه به فوجد الحجر الأسود قد ركب فقال لأبيه من أين لك هذا قال جاء به من لا يتكل على بنائك جاء به جبريل من السماء فأتمه قال فمر عليه الدهر فانهدم فبنته العمالقة ثم انهدم فبنته جرهم ثم انهدم فبنته قريش ورسول الله صلى الله عليه و سلم يومئذ رجل شاب فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه فقالوا نحكم بيننا أول رجل يخرج من هذه السكة فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم أول من خرج عليهم فقضى بينهم ان يجعلوه في مرط ثم ترفعه جميع القبائل كلهم وقال أبو داود الطيالسي حدثنا حماد بن سلمة وقيس وسلام كلهم عن سماك (2/299)
ابن حرب عن خالد بن عرعرة عن علي بن أبي طالب قال لما انهدم البيت بعد جرهم بنته قريش فلما أرادوا وضع الحجر تشاجروا من يضعه فاتفقوا أن يضعه أول من يدخل من هذا الباب فدخل رسول الله صلى الله عليه و سلم من باب بني شيبة فأمر بثوب فوضع الحجر في وسطه وأمر كل فخذ أن يأخذوا بطائفة من الثوب فرفعوه وأخذه رسول الله صلى الله عليه و سلم فوضعه قال يعقوب بن سفيان أخبرني أصبغ بن فرج أخبرني ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب قال لما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم الحلم جمرت امرأة الكعبة فطارت شرارة من مجمرها في ثياب الكعبة فاحترقت فهدموها حتى إذا بنوها فبلغوا موضع الركن اختصمت قريش في الركن أي القبائل تلي رفعه فقالوا تعالوا نحكم أول من يطلع علينا فطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو غلام عليه وشاح نمرة فحكموه فأمر بالركن فوضع في ثوب ثم أخرج سيد كل قبيلة فأعطاه ناحية من الثوب ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن فكان هو يضعه فكان لا يزداد على السن الأرضي حتى دعوه الأمين قبل أن ينزل عليه الوحي فطفقوا لا ينحرون جزورا إلا التمسوه فيدعو لهم فيها وهذا سياق حسن وهو من سير الزهري وفيه من الغرابة قوله فلما بلغ الحلم والمشهور أن هذا كان ورسول الله صلى الله عليه و سلم عمره خمس وثلاثون سنة وهو الذي نص عليه محمد بن اسحاق بن يسار رحمه الله
وقال موسى بن عقبة كان بناء الكعبة قبل المبعث بخمس عشرة سنة وهكذا قال مجاهد وعروة ومحمد بن جبير بن مطعم وغيرهم فالله أعلم
وقال موسى بن عقبة كان بين الفجار وبين بناء الكعبة خمس عشرة سنة
قلت وكان الفجار وحلف الفضول في سنة واحدة إذ كان عمر رسول الله صلى الله عليه و سلم عشرون سنة وهذا يؤيد ما قال محمد بن اسحاق والله أعلم
قال موسى بن عقبة وإنما حمل قريشا على بنائها أن السيول كانت تأتي من فوقها من فوق الردم الذي صفوه فخر به فخافوا أن يدخلها الماء وكان رجل يقال له مليح سرق طيب الكعبة فأرادوا أن يشيدوا بنيانها وأن يرفعوا بابها حتى لا يدخلها إلا من شاءوا فأعدوا لذلك نفقة وعمالا ثم غدوا إليها ليهدموها على شفق وحذر أن يمنعهم الذي أرادوا فكان أول رجل طلعها وهدم منها شيئا الوليد بن المغيرة فلما رأوا الذي فعل الوليد تتابعوا فوضعوها فأعجبهم ذلك فلما أرادوا أن يأخذوا في بنيانها احضروا عمالهم فلم يقدر رجل منهم أن يمضي أمامه موضع قدم فزعموا أنهم رأوا حية قد أحاطت بالبيت رأسها عند ذنبها فأشفقوا منها شفقة شديدة وخشوا أن يكونوا قد وقعوا مما عملوا في هلكة وكانت الكعبة حرزهم ومنعتهم من الناس وشرفا لهم فلما سقط في أيديهم والتبس عليهم أمرهم قام فيهم المغيرة بن عبدالله بن عمرو بن مخزوم فذكر ما كان من نصحه لهم وأمره إياهم أن لا يتشاجروا ولا يتحاسدوا في بنائها وأن يقتسموها أرباعا وأن لا يدخلوا في بنائها مالا حراما وذكر أنهم لما عزموا على ذلك (2/300)
ذهبت الحية في السماء وتغيبت عنهم ورأوا أن ذلك من الله عز و جل قال ويقول بعض الناس إنه اختطفها طائر وألقاها نحو أجياد
وقال محمد بن اسحاق بن يسار فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم خمسا وثلاثين سنة اجتمعت قريش لبناء الكعبة وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها وإنما كانت رضما فوق القامة فأرادوا رفعها وتسقيفها وذلك أن نفرا سرقوا كنز الكعبة وإنما كان في بئر في جوف الكعبة وكان الذي وجد عنده الكنز دويك مولى لبني مليح بن عمرو بن خزاعة فقطعت قريش يده وتزعم قريش أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم فتحطمت فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها قال الأموي كانت هذه السفينة لقيصر ملك الروم تحمل آلات البناء من الرخام والخشب والحديد سرحها قيصر مع باقوم الرومي إلى الكنيسة التي أحرقها الفرس للحبشة فلما بلغت مرساها من جدة بعث الله عليها ريحا فحطمتها
قال ابن اسحاق وكان بمكة رجل قبطي نجار فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كانت تطرح فيها ما يهدى إليها كل يوم فتشرف على جدار الكعبة وكانت مما يهابون وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزألت ( 1 ) وكشت وفتحت فاها فكانوا يهابونها فبينما هي يوما تشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع بعث الله عليها طائرا فاختطفها فذهب بها فقالت قريش إنا لنرجو أن يكون الله تعالى قد رضي ما أردنا عندنا عامل رقيق وعندنا خشب وقد كفانا الله الحية
وحكى السهيلي عن رزين أن سارقا دخل الكعبة في أيام جرهم ليسرق كنزها فانهار البئر عليه حتى جاءوا فأخرجوه وأخذوا منه ما كان أخذه ثم سكنت هذا البئر حية رأسها كرأس الجدي وبطنها أبيض وظهرها أسود فأقامت فيها خمسمائة عام وهي التي ذكرها محمد بن اسحاق
قال محمد بن اسحاق فلما أجمعوا أمرهم لهدمها وبنيانها قام أبو وهب عمرو بن عايد بن عبد بن عمران بن مخزوم وقال ابن هشام عايد بن عمران بن مخزوم فتناول من الكعبة حجرا فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه فقال يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبا لا يدخل فيها مهر بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد من الناس والناس ينحلون هذا الكلام الوليد بن المغيرة بن عبدالله بن مرو بن مخزوم ثم رجح ابن اسحاق أن قائل ذلك أبو وهب بن عمرو قال وكان خال أبي النبي صلى الله عليه و سلم وكان شريفا ممدحا
وقال ابن اسحاق ثم أن قريشا تجزأت الكعبة فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة وما (2/301)
بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم وكان ظهر الكعبة لبني جمح وسهم وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن قصي ولبني أسد بن عبد العزى ولبني عدي بن كعب وهو الحطيم ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه فقال الوليد بن المغيرة أنا أبدؤكم في هدمها فأخذ المعول ثم قام عليها وهو يقول أللهم لم ترع أللهم إنا لا نريد إلا الخير ثم هدم من ناحية الركنين فتربص الناس تلك الليلة وقالوا ننظر فإن أصيب لم تهدم منها شيئا ورددناها كما كانت وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله ما صنعنا من هدمها فأصبح الوليد غديا على عمله فهدم وهدم الناس معه حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس أساس إبراهيم عليه السلام أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة أخذ بعضها بعضا ووقع في صحيح البخاري عن يزيد بن رومان كأسنمة الإبل قال السهيلي وأرى رواية السيرة كالألسنة وهما والله أعلم
قال ابن اسحاق فحدثني بعض من يروي الحديث أن رجلا من قريش ممن كان يهدمها ادخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما فلما تحرك الحجر انتفضت مكة بأسرها فانتهوا عن ذلك الأساس
وقال موسى بن عقبة وزعم عبدالله بن عباس أن أولية قريش كانوا يحدثون أن رجلا من قريش لما اجتمعوا لينزعوا الحجارة إلى تأسيس إبراهيم واسماعيل عليهما السلام عمد رجل منهم إلى حجر من الأساس الأول فرفعه وهو لا يدري أنه من الأساس الأول فأبصر القوم برقة تحت الحجر كادت تلتمع بصر الرجل ونزا الحجر من يده فوقع في موضعه وفزع الرجل والبناة فلما ستر الحجر عنهم ما تحته إلى مكانه عادوا إلى بنيانهم وقالوا لا تحركوا هذا الحجر ولا شيئا بحذائه
قال ابن اسحاق وحدثت أن قريشا وجدوا في الركن كتابا بالسريانية فلم يعرفوا ما هو حتى قرأه لهم رجل من يهود فإذا هوا أنا الله ذوبكة خلقتها يوم خلقت السماوات والأرض وصورت الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك حنفاء لا تزول حتى يزول أخشباها قال ابن هشام يعني جبلاها مبارك لأهلها في الماء واللبن
قال ابن اسحاق وحدثت أنهم وجدوا في المقام كتابا فيه مكة الله الحرام يأتيها رزقها من ثلاثة سبل لا يحلها أول من أهلها قال وزعم ليث بن أبي سليم أنهم وجدوا في الكعبة قبل مبعث النبي صلى الله عليه و سلم بأربعين سنة إن كان ما ذكر حقا مكتوبا فيه من يزرع خيرا يحصد غبطة ومن يزرع شرا يحصد ندامة يعملون السيئات ويجزون الحسنات أجل كما يجتني من الشوك العنب
وقال سعيد بن يحيى الأموي حدثنا المعتمر بن سليمان الرقي عن عبدالله بن بشر الزهري يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه و سلم قال وجد في المقام ثلاثة أصفح في الصفح الأول إني أنا الله (2/302)
ذوبكة صنعتها يوم صنعت الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك حنفاء وباركت لأهلها في اللحم واللبن وفي الصفح الثاني إني أنا الله ذوبكة خلقت الرحم وشققت لها من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته وفي الصفح الثالث إني أنا الله ذوبكة خلقت الخير والشر وقدرته فطوبى لمن أجريت الخير على يديه وويل لمن أجريت الشر على يديه
قال ابن اسحاق ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها كل قبيلة تجمع على حدة ثم بنوها حتى بلغ البناء موضع الركن فاختصموا فيه كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى حتى تحارروا أو تحالفوا وأعدوا للقتال فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة فسموا لعقة الدم فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا ثم أنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمرو بن مخزوم وكان عامئذ أسن قريش كلها قال يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه ففعلوا فكان أول داخل دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما رأوه قالوا هذا الأمين رضينا هذا محمد فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال رسول الله صلى الله عليه و سلم هلموا إلي ثوبا فأتى به وأخذ الركن فوضعه فيه بيده ثم قال لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعا ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده صلى الله عليه و سلم ثم بنى عليه وكانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه و سلم الأمين
وقال الإمام أحمد حدثنا عبدالصمد حدثنا ثابت يعني أبا يزيد حدثنا هلال يعني ابن حبان عن مجاهد عن مولاه وهو السائب بن عبدالله انه حدثه أنه كان فيمن بنى الكعبة في الجاهلية قال وكان لي حجر أنا نحته أعبده من دون الله قال وكنت أجيء باللبن الخاثر الذي آنفه على نفسي فأصبه عليه فيجيء الكلب فيلحسه ثم يشغر فيبول عليه قال فبنينا حتى بلغا موضع الحجر ولا يرى الحجر أحد فإذا هو وسط أحجارنا مثل رأس الرجل يكاد يترايا منه وجه الرجل فقال بطن من قريش نحن نضعه وقال آخرون نحن نضعه فقالوا اجعلوا بينكم حكما فقالوا أول رجل يطلع من الفج فجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا أتاكم الأمين فقالوا له فوضعه في ثوب ثم دعا بطونهم فرفعوا نواحيه فوضعه هو صلى الله عليه و سلم
قال ابن اسحاق وكانت الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه و سلم ثماني عشرة ذراعا وكانت تكسى القباطي ثم كسيت بعد البرور وأول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف
قلت وقد كانوا أخرجوا منها الحجر وهو ستة أذرع أو سبعة أذرع من ناحية الشام قصرت بهم النفقة أي لم يتمكنوا أن يبنوه على قواعد إبراهيم وجعلوا للكعبة بابا واحدا من ناحية الشرق وجعلوه (2/303)
مرتفعا لئلا يدخل إليها كل أحد فيدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ألم ترى أن قومك قصرت بهم النفقة ولولا حدثان قومك بكفر لنقضت الكعبة وجعلت لها بابا شرقيا وبابا غربيا وأدخلت فيها الحجر ولهذا لما تمكن ابن الزبير بناها على ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم وجاءت في غاية البهاء والحسن والسناء كاملة على قواعد الخليل لها بابان ملتصقان بالأرض شرقيا وغربيا يدخل الناس من هذا ويخرجون من الآخر فلما قتل الحجاج بن الزبير كتب إلى عبدالملك بن مروان وهو الخليفة يومئذ فيما صنعه ابن الزبير واعتقدوا أنه فعل ذلك من تلقاء نفسه فأمر بإعادتها إلى ما كانت عليه فعمدوا إلى الحائط الشامي فحصوه وأخرجوا منه الحجر ورصوا حجارته في أرض الكعبة فارتفع باباها وسدوا الغربي واستمر الشرقي على ما كان عليه فلما كان في زمن المهدي أو ابنه المنصور استشار مالكا في إعادتها على ما كان صنعه ابن الزبير فقال مالك رحمه الله إني أكره أن يتخذها الملوك ملعبة فتركها على ما هي عليه فهي إلى الآن كذلك
وأما المسجد الحرام فأول من أخر البيوت من حول الكعبة عمر بن الخطاب رضي الله عنه اشتراها من أهلها وهدمها فلما كان عثمان اشترى دورا وزادها فيه فلما ولي ابن الزبير أحكم بنيانه وحسن جدرانه وأكثر أبوابه ولم يوسعه شيئا آخر فلما استبد بالأمر عبدالملك بن مروان زاد في ارتفاع جدرانه وأمر بالكعبة فكسيت الديباج وكان الذي تولى ذلك بأمره الحجاج بن يوسف وقد ذكرنا قصة بناء البيت والأحاديث الواردة في ذلك في تفسير سورة البقرة عند قوله وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت واسماعيل وذكرنا ذلك مطولا مستقصى فمن شاء كتبه هاهنا ولله الحمد والمنة
قال ابن اسحاق فلما فرغوا من البنيان وبنوها على ما أرادوا قال الزبير بن عبدالمطلب فيما كان من أمر الحية التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها ... عجبت لما تصوبت العقاب ... إلى الثعبان وهي لها اضطراب ... وقد كانت تكون لها كشيش ... وأحيانا يكون لها وثاب ... إذا قمنا إلى التأسيس شدت ... تهيبنا البناء وقد نهاب ... فلما أن خشينا الزجر جاءت ... عقاب تتلئب لها انصباب ... فضمتها إليها ثم خلت ... لنا البنيان ليس لها حجاب ... فقمنا حاشدين إلى بناء ... لنا منه القواعد والتراب ... غداة يرفع التأسيس منه ... وليس على مساوينا ثياب ... أعز به المليك بني لؤي ... فليس لأصله منهم ذهاب ... وقد حشدت هناك بنو عدي ... ومرة قد تقدمها كلاب (2/304)
فبوأنا المليك بذاك عزا ... وعند الله يلتمس الثواب ...
وقد قدمنا في فصل ما كان الله يحوط به رسول الله صلى الله عليه و سلم من أقذار الجاهلية أنه كان هو والعباس عمه ينقلان الحجارة وأنه عليه الصلاة و السلام لما وضع إزاره تحت الحجارة على كتفه نهى عن خلع إزاره فأعاده إلى سيرته الأولى فصل
وذكر ابن اسحاق ما كانت قريش ابتدعوه في تسميتهم الحمس وهو الشدة في الدين والصلابة وذلك لأنهم عظموا الحرم تعظيما زائدا بحيث التزموا بسببه أن لا يخرجوا منه ليلة عرفة وكانوا يقولون نحن أبناء الحرم وقطان بيت الله فكانوا لا يقفون بعرفات مع علمهم أنها من مشاعر إبراهيم عليه السلام حتى لا يخرجوا عن نظام ما كانوا قرروه من البدعة الفاسدة وكانوا لا يدخرون من اللبن أقطا ولا سمنا ولا يسلون شحما وهم حرم ولا يدخلون بيتا من شعر ولا يستظلون ان استظلوا إلا ببيت من أدم وكانوا يمنعون الحجيج والعمار ما داموا محرمين أن يأكلوا إلا من طعام قريش ولا يطوفوا إلا في ثياب قريش فإن لم يجد أحد منهم ثوب أحد من الحمس وهم قريش وما ولدوا ومن دخل معهم من كنانة وخزاعة طاف عريانا ولو كانت امرأة ولهذا كانت المرأة إذا اتفق طوافها لذلك وضعت يدها على فرجها وتقول ... اليوم يبدو بعضه أو كله ... وبعد هذا اليوم لا أحله ( 1 ) ...
فإن تكرم أحد ممن يجد ثوب أحمسي فطاف في ثياب نفسه فعليه إذا فرغ من الطواف أن يلقيها فلا ينتفع بها بعد ذلك وليس له ولا لغيره أن يمسها وكانت العرب تسمى تلك الثياب اللقي قال بعض الشعراء ... كفى حزنا كرى عليه كأنه ... لقي بين أيدي الطائفين حريم ...
قال ابن اسحاق فكانوا كذلك حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه و سلم وأنزل عليه القرآن ردا عليهم فيما ابتدعوه فقال ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس أي جمهور العرب من عرفات واستغفروا الله إن الله غفور رحيم وقد قدمنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقف بعرفات قبل أن ينزل عليه توفيقا من الله له وأنزل الله عليه ردا عليهم فيما كانوا حرموا من اللباس والطعام على الناس يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق الآية وقال زياد البكائي عن ابن اسحاق ولا أدري أكان ابتداعهم لذلك قبل الفيل أو بعده (2/305)
مبعب رسول الله صلى الله عليه و سلم
تسليما كثيرا وذكر شيء من البشارات بذلك
قال محمد بن اسحاق رحمه الله وكانت الأحبار من اليهود والكهان من النصارى ومن العرب قد تحدثوا بأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل مبعثه لما تقارب زمانه أما الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى فعما وجدوا في كتبهم من صفته وصفة زمانه وما كان من عهد أنبيائهم إليهم فيه قال الله تعالى الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل الآية وقال الله تعالى وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد وقال الله تعالى محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الانجيل الآية وقال الله تعالى وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ على امته الميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه وليتبعنه يعلم من هذا أن جميع الأنبياء بشروا وأمروا باتباعه
وقد قال إبراهيم عليه السلام فيما دعا به لأهل مكة ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا آياتك الآية وقال الإمام أحمد حدثنا أبو النضر حدثنا الفرج بن فضالة حدثنا لقمان بن عامر سمعت أبا أمامة قال قلت يا رسول الله ما كان بدء أمرك قال دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام وقد روى محمد بن اسحاق عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم عنه مثله ومعنى هذا أنه أراد بدء أمره بين الناس واشتهار ذكره وانتشاره فذكر دعوة إبراهيم الذي تنسب إليه العرب ثم بشرى عيسى الذي هو خاتم أنبياء بني إسرائيل كما تقدم يدل هذا على أن من بينهما من الأنبياء بشروا به أيضا
أما في الملأ الأعلى فقد كان أمره مشهورا مذكورا معلوما من قبل خلق آدم عليه الصلاة و السلام كما قال الإمام أحمد حدثنا عبدالرحمن بن مهدي حدثنا معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد الكلبي (2/306)
عن عبدالأعلى بن هلال السلمي عن العرباض بن سارية قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إني عبدالله خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته وسأنبئكم بأول ذلك دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى بي ورؤيا أمي التي رأت وكذلك أمهات المؤمنين وقد رواه الليث عن معاوية بن صالح وقال إن أمه رأت حين وضعته نورا أضاءت منه قصور الشام وقال الإمام أحمد أيضا حدثنا عبدالرحمن حدثنا منصور بن سعد عن بديل بن ميسرة عن عبدالله بن شقيق عن ميسرة الفجر قال قلت يا رسول الله متى كنت نبيا قال وآدم بين الروح والجسد تفرد بهن أحمد
وقد رواه عمر بن أحمد بن شاهين في كتاب دلائل النبوة من حديث أبي هريرة فقال حدثنا عبدالله بن محمد بن عبدالعزيز يعني أبا القاسم البغوي حدثنا أبو همام الوليد بن مسلم عن الأوزاعي حدثني يحيى عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم متى وجبت لك النبوة قال بين خلق آدم ونفخ الروح فيه ورواه من وجه آخر عن الأوزاعي به وقال وآدم منجدل في طينته وروى عن البغوي أيضا عن أحمد بن المقدام عن بقية بن سعيد بن بشير عن قتادة عن أبي هريرة مرفوعا في قول الله تعالى وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث ومن حديث أبي مزاحم عن قيس بن الربيع عن جابر عن الشعبي عن ابن عباس قيل يا رسول الله متى كنت نبيا قال وآدم بين الروح والجسد
وأما الكهان من العرب فأتتهم به الشياطين من الجن مما تسترق من السمع إذ كانت وهي لا تحجب عن ذلك بالقذف بالنجوم وكان الكاهن والكاهنة لا يزال يقع منهما بعض ذكر أموره ولا يلقي العرب لذلك فيه بالا حتى بعثه الله تعالى ووقعت تلك الأمور التي كانوا يذكرون فعرفوها فلما تقارب أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم وحضر زمان مبعثه حجبت الشياطين عن السمع وحيل بينها وبين المقاعد التي كانت تعقد لاستراق السمع فيها فرموا بالنجوم فعرفت الشياطين أن ذلك لأمر حدث من أمر الله عز و جل قال وفي ذلك أنزل الله على رسوله صلى الله عليه و سلم قل أوحى إلى أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا إلى آخر السورة وقد ذكرنا تفسير ذلك كله في كتابنا التفسير وكذا قوله تعالى وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم الآيات ذكرنا تفسير ذلك كله هناك
قال محمد بن اسحاق حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدث أن أول العرب فزع للرمي بالنجوم حين رمى بها هذا الحي من ثقيف وإنهم جاءوا إلى رجل منهم يقال له عمرو بن أمية (2/307)
أحد بني علاج وكان أدهى العرب وأمكرها فقالوا له يا عمرو ألم تر ما حدث في السماء من القذف بهذه النجوم قال بلى فانظروا فأن كانت معالم النجوم التي يهتدي بها في البر والبحر ويعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء لما يصلح الناس في معايشهم هي التي يرمي بها فهو والله طي الدنيا وهلاك هذا الخلق وإن كانت نجوما غيرها وهي ثابتة على حالها فهذا لأمر أراد الله به هذا الخلق فما هو
قال ابن اسحاق وحدثني بعض أهل العلم أن امرأة من بني سهم يقال لها الغيطلة كانت كاهنة في الجاهلية جاءها صاحبها ليلة من الليالي فانقض تحتها ثم قال أدر ما أدر يوم عقر ونحر قالت قريش حين بلغها ذلك ما يريد ثم جاءها ليلة أخرى فانقض تحتها ثم قال شعوب ما شعوب تصرع فيه كعب الجنوب فلما بلغ ذلك قريشا قالوا ماذا يريد إن هذا لأمر هو كائن فانظروا ما هو فما عرفوه حتى كانت وقعة بدر وأحد بالشعب فعرفوا أنه كان الذي جاء به إلى صاحبته
قال ابن اسحاق وحدثني علي بن نافع الجرشي أن جنبا بطنا من اليمن كان لهم كاهن في الجاهلية فلما ذكر أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم وانتشر في العرب قالت له جنب انظر لنا في أمر هذا الرجل واجتمعوا له في أسفل جبله فنزل إليهم حين طلعت الشمس فوقف لهم قائما متكئا على قوس له فرفع رأسه إلى السماء طويلا ثم جعل ينزو ثم قال أيها الناس إن الله أكرم محمدا واصطفاه وطهر قلبه وحشاه ومكثه فيكم أيها الناس قليل ثم اشتد في جبله راجعا من حيث جاء ثم ذكر ابن اسحاق قصة سواد بن قارب وقد أخرناها إلى هواتف الجان فصل
قال ابن اسحاق وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن رجال من قومه قالوا إن مما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله تعالى وهداه لنا أن كنا نسمع من رجل من يهود وكنا أهل شرك أصحاب أوثان وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا وكانت لا يزال بيننا وبينهم شرور فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم فلما بعث الله رسول الله صلى الله عليه و سلم أجبناه حين دعانا إلى الله وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا به ففينا وفيهم نزلت هذه الآية ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين
وقال ورقاء عن ابن أبي نجيح عن علي الأزدي كانت اليهود تقول اللهم ابعث لنا هذا النبي يحكم بيننا وبين الناس يستفتحون به أي يستنصرون به رواه البيهقي ثم روى من طريق عبدالملك بن هارون بن عنبرة عن أبيه عن جده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كانت اليهود بخيبر (2/308)
تقاتل غطفان فكلما التقوا هزمت يهود خيبر فعاذت اليهود بهذا الدعاء فقالوا اللهم نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم قال فكانوا إذا التقوا دعو بهذا الدعاء فهزموا غطفان فلما بعث النبي صلى الله عليه و سلم كفروا به فأنزل الله عز و جل وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا الآية وروى عطية عن ابن عباس نحوه وروى عن عكرمة من قوله نحو ذلك أيضا
وقال ابن اسحاق وحدثني صالح بن ابراهيم بن عبدالرحمن بن عوف عن محمود بن لبيد عن سلمة بن سلام بن وقش وكان من أهل بدر قال كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل قال فخرج علينا يوما من بيته حتى وقف على بني عبد الأشهل قال سلمة وأنا يومئذ أحدث من فيه سنا على فروة لي مضطجع فيها بفناء أهلي فذكر القيامة والبعث والحساب والميزان والجنة والنار قال فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان لا يرون أن بعثا كائن بعد الموت فقالوا له ويحك يا فلان أو ترى هذا كائنا إن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يجزون فيها بأعمالهم قال نعم والذي يحلف به ويود أن له تحطة من تلك النار أعظم تنور في الدار يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبقونه عليه وأن ينجون من تلك النار غدا قالوا له ويحك يا فلان فما آية ذلك قال نبي مبعوث من نحو هذه البلاد وأشار بيده إلى نحو مكة واليمن قالوا ومتى نراه قال فنظر إلي وأنا من أحدثهم سنا فقال أن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه قال سلمة فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله صلى الله عليه و سلم وهو حي بين أظهرنا فآمنا به وكفر به بغيا وحسدا قال فقلنا له ويحك يا فلان ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت قال بلى ولكن ليس به رواه أحمد عن يعقوب عن أبيه عن ابن عباس ورواه البيهقي عن الحاكم بإسناده من طريق يونس بن بكير
وروى أبو نعيم في الدلائل عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن محمد بن سلمة قال لم يكن في بني عبد الأشهل إلا يهودي واحد يقال له يوشع فسمعته يقول وإني لغلام في إزار قد أظلكم خروج نبي يبعث من نحو هذا البيت ثم أشار بيده إلى بيت الله فمن أدركه فليصدقه فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم فأسلمنا وهو بين أظهرنا لم يسلم حسدا وبغيا وقد قدمنا حديث أبي سعيد عن أبيه في أخبار يوشع هذا عن خروج رسول الله صلى الله عليه و سلم وصفته ونعته وإخبار الزبير بن باطا عن ظهور كوكب مولد رسول الله صلى الله عليه و سلم ورواه الحاكم عن البيهقي بإسناده من طريق يونس بن بكير عنه
قال ابن اسحاق حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن شيخ من بني قريظة قال قال لي هل تدري عم كان إسلام ثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية وأسد بن عبيد نفر من بني هدل إخوة بني قريظة كانوا معهم في جاهليتهم ثم كانوا سادتهم في الإسلام قال قلت لا قال فإن رجلا من اليهود من أرض (2/309)
الشام يقال له ابن الهيبان قدم علينا قبل الإسلام بسنين فحل بين أظهرنا لا والله ما رأينا رجلا قط لا يصلي الخمس أفضل منه فأقام عندنا فكنا إذا قحط عنا المطر قلنا له اخرج يا ابن الهيبان فاستسق لنا فيقول لا والله حتى تقدموا بين يدي مخرجكم صدقة فنقول له كم فيقول صاعا من تمر أو مدين من شعير قال فنخرجها ثم يخرج بنا إلى ظاهر حرثنا فيستسقي لنا فوالله ما يبرح مجلسه حتى يمر السحاب ويسقي قد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاثا قال ثم حضرته الوفاة عندنا فلما عرف أنه ميت قال يا معشر يهود ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع قال قلنا أنت أعلم قال فإني إنما قدمت هذه البلدة أتوكف خروج نبي قد أظل زمانه هذه البلدة مهاجرة فكنت أرجو أن يبعث فاتبعه وقد أظلكم زمانه فلا تسبقن إليه يا معشر يهود فإنه يبعث بسفك الدماء وسبي الذراري فيمن خالفه فلا يمنعنكم ذلك منه فلما بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم وحاصر بني قريظة قال هؤلاء الفتية وكانوا شبابا أحداثا يا بني قريظة والله إنه للنبي الذي عهد إليكم فيه ابن الهيبان قالوا ليس به قالوا بلى والله إنه لهو بصفته فنزلوا فأسلموا فأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهليهم
قال ابن اسحاق فهذا ما بلغنا عن أحبار يهود
قلت وقد قدمنا في قدوم بيع اليماني وهو أبو كرب تبان أسعد إلى المدينة ومحاصرته إياها وإنه خرج إليه ذانك الحبران من اليهود فقالا له إنه لا سبيل لك عليها أنها مهاجر نبي يكون في آخر الزمان فثناه ذلك عنها وقد روى أبو نعيم في الدلائل من طريق الوليد بن مسلم حدثنا محمد بن حمزة بن يوسف بن عبدالله بن سلام عن أبيه عن جده قال قال عبدالله بن سلام أن الله لما أراد هدي زيد بن سعية قال زيد لم يبق شيء من علامات النبوة إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه و سلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه يسبق حلمه جهله ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما قال فكنت أتلطف له لأن أخالطه فأعرف حلمه وجهله فذكر قصة إسلافه للنبي صلى الله عليه و سلم مالا في ثمرة قال فلما حل الأجل أتيته فأخذت بمجامع قميصه وردائه وهو في جنازة مع أصحابه ونظرت إليه بوجه غليظ وقلت يا محمد ألا تقضيني حقي فوالله ما علمتكم بني عبدالمطلب لمطل قال فنظر إلى عمر وعيناه يدوران في وجهه كالفلك المستدير ثم قال يا عدو الله أتقول لرسول الله صلى الله عليه و سلم ما أسمع وتفعل ما أرى فوالذي بعثه بالحق لولا ما أحاذر لومه لصربت بسيفي رأسك ورسول الله صلى الله عليه و سلم ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة وتبسم ثم قال أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن التباعة اذهب به يا عمر فاقضه حقه وزد عشرين صاعا من تمر فأسلم زيد بن سعية رضي الله عنه وشهد بقية المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وتوفي عام تبوك رحمه الله
ثم ذكر ابن اسحاق رحمه الله إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه فقال حدثني عاصم بن (2/310)
عمر بن قتادة الأنصاري عن محمود بن لبيد عن عبدالله بن عباس قال حدثني سلمان الفارسي من فيه قال كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان من أهل قرية يقال لها جي وكان أبي دهقان قرينه وكنت أحب خلق الله إليه فلم يزل حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية واجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار التي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة قال وكانت لأبي ضيعة عظيمة قال فشغل في بنيان له يوما فقال لي يا بني إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي فاذهب إليها فاطلعها وأمرني فيها ببعض ما يريد ثم قال لي ولا تحتبس عني فإنك إن احتبست عني كنت أهم إلى من ضيعتي وشغلتني عن كل شيء من أمري قال فخرجت أريد ضيعته التي بعثني إليها فمررت بكنيسة من كنائس النصارى فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم وقلت هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه فوالله ما برحتهم حتى غربت الشمس وتركت ضيعة أبي فلم آتها ثم قلت لهم أين أصل هذا الدين قالوا بالشام فرجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي وشغلته عن أمره كله فلما جئت قال أي بني أين كنت ألم أكن أعهد إليك ما عهدته قال قلت يا أبة مررت بأناس يصلون في كنيسة لهم فأعجبني ما رأيت من دينهم فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس قال أي بني ليس في ذلك الدين خير دينك ودين آبائك خير منه قال قلت كلا والله إنه لخير من ديننا قال فخافني فجعل في رجلي قيدا ثم حبسني في بيتي قال وبعثت إلى النصارى فقلت لهم إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني بهم قال فقدم عليهم ركب من الشام فجاؤني النصارى فأخبروني بهم فقلت إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني قال فلما أرادوا الرجعة إلا بلادهم أخبروني بهم فألقيت الحديد من رجلي ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام فلما قدمتها قلت من أفضل أهل هذا الدين علما قالوا الأسقف في الكنيسة قال فجئته فقلت له إني قد رغبت في هذا الدين وأحببت أن أكون معك وأخدمك في كنيستك وأتعلم منك فأصلي معك قال ادخل فدخلت معه فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها فإذا جمعوا له شيئا كنزه لنفسه ولم يعطه المساكين حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق قال وأبغضته بغضا شديدا لما رأيته يصنع ثم مات واجتمعت له النصارى ليدفنوه فقلت لهم إن هذا كان رجل سوء يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها فإذا جئتموه بها كنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئا قال فقالوا لي وما علمك بذلك قال فقلت لهم أنا أدلكم على كنزه قالوا فدلنا قال فأريتهم موضعه فاستخرجوا سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا فلما رأوها قالوا لا ندفنه أبدا قال فصلبوه ورجموه بالحجارة وجاؤا برجل آخر فوضعوه مكانه قال سلمان فما رأيت رجلا لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة ولا أدأب ليلا ونهارا قال فأحببته حبا (2/311)
لم أحب شيئا قبله مثله قال فأقمت معه زمانا ثم حضرته الوفاة فقلت له إني قد كنت معك وأحببتك حبا لم أحبه شيئا قبلك وقد حضرك ما ترى من أمر الله تعالى فإلى من توصى بي وبم تأمرني به قال أي بني والله ما أعلم اليوم أحدا على ما كنت عليه لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلا بالموصل وهو فلان وهو على ما كنت عليه فالحق به قال فلما مات وغيب لحقت بصاحب الموصل فقلت يا فلان إن فلانا أوصاني عند موته أن ألحق بك وأخبرني أنك على أمره فقال لي أقم عندي فأقمت عنده فوجدته خير رجل على أمر صاحبه فلم يلبث أن مات فلما حضرته الوفاة قلت له يا فلان إن فلانا أوصى بي إليك وأمرني باللحوق بك وقد حضرك من أمر الله ما ترى فإلى من توصى بي وبم تأمرني قال يا بني والله ما أعلم رجلا على مثل ما كنا عليه إلا رجلا بنصيبين وهو فلان فالحق به فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين فأخبرته خبري وما أمرني به صاحباي فقال أقم عندي فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبيه فأقمت مع خير رجل فوالله ما لبث أن نزل به الموت فلما حضر قلت له يا فلان إن فلانا كان أوصى بي إلى فلان ثم أوصى بي فلان إلى فلان ثم أوصى بي فلان إليك فإلى من توصى بي وبم تأمرني قال يا بني والله ما أعلمه بقي أحد على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجل بعمورية من أرض الروم فإنه على مثل ما نحن عليه فإن أحببت فائته فانه على أمرنا فلما مات وغيب لحقت بصاحب عمورية فأخبرته خبري فقال أقم عندي فأقمت عند خير رجل على هدى أصحابه وأمرهم قال واكتسبت حتى كانت لي بقرات وغنيمة قال ثم نزل به أمر الله فلما حضر قلت له يا فلان إني كنت مع فلان فأوصي بي إلى فلان ثم أوصى بي فلان إلى فلان ثم أوصى بي فلان إلى فلان ثم أوصى بي فلان إليك فإلى من توصى بي وبم تأمرني قال أي بني والله ما أعلم أصبح أحد على مثل ما كنا عليه من الناس آمرك أن تأتيه ولكنه قد أظل زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب مهاجره إلى الأرض بين حرتين بينهما نخل به علامات لا تخفى يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة بين كتفيه خاتم النبوة فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل قال ثم مات وغيب ومكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث ثم مر بي نفر من كلب تجار فقلت لهم احملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه قالوا نعم فأعطيتهموها وحملوني معهم حتى إذا بلغوا وادي القرى ظلموني فباعوني من رجل يهودي عبدا فكنت عنده ورأيت النخل فرجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي ولم يحق في نفسي فبينا أنا عنده إذ قدم عليه ابن عم له من بني قريظة من المدينة فابتاعني منه فاحتملني إلى المدينة فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي لها فأقمت بها وبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم فأقام بمكة ما أقام ولا أسمع له بذكر مما أنا فيه من شغل الرق ثم هاجر إلى المدينة فوالله إني لفي رأس عذق لسيدي أعمل فيه بعض العمل وسيد جالس تحتي إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه فقال يا فلان قاتل الله بني قيلة والله إنهم لمجتمعون الآن بقباء على (2/312)
رجل قدم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي قال سلمان فلما سمعتها أخذتني الرعده حتى ظننت أني ساقط على سيدي فنزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه ماذا تقول ماذا تقول قال فغضب سيدي فلكمني لكمة شديدة ثم قال ما لك ولهذا أقبل على عملك قال فقلت لا شيء إنما أردت أن أستثبته عما قال قال وقد كان عندي شيء قد جمعته فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو بقباء فدخلت عليه فقلت له إنه قد بلغني أنك رجل صالح ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة وهذا شيء كان عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم قال فقربته إليه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأصحابه كلوا وأمسك يده فلم يأكل فقلت في نفسي هذه واحدة ثم انصرفت عنه فجمعت شيئا وتحول رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة ثم جئته فقلت له إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية أكرمتك بها قال فأكل رسول الله صلى الله عليه و سلم منها وأمر أصحابه فأكلوا معه قال فقلت في نفسي هاتان ثنتان قال ثم جئت رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو ببقيع الغرقد قد تبع جنازة رجل من أصحابه وعليه شملتان وهو جالس في أصحابه فسلمت عليه ثم استدبرته أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي فلما رآني رسول الله صلى الله عليه و سلم استدبرته عرف أني أستثبت في شيء وصف لي فألقى رداءه عن ظهره فنظرت إلى الخاتم فعرفته فأكببت عليه أقبله وأبكي فقال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم تحول فتحولت بين يديه فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس فأعجب رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يسمع ذاك أصحابه ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بدر وأحد قال سلمان ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم كاتب يا سلمان فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها له بالفقير ( 1 ) وأربعين أوقية فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأصحابه أعينوا أخاكم فأعانوني في النخل الرجل بثلاثين ودية والرجل بعشرين ودية والرجل بخمس عشرة ودية والرجل بعشرة يعين الرجل بقدر ما عنده حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية فقال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم اذهب يا سلمان ففقر لها فإذا فرغت فائتني أكن أنا أضعها بيدي قال ففقرت وأعانني أصحابي حتى إذا فرغت جئته فأخبرته فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم معي إليها فجعلنا نقرب إليه الودي ويضعه رسول الله صلى الله عليه و سلم بيده حتى إذا فرغنا فوالذي نفس سلمان بيده ما ماتت منها ودية واحدة فأديت النخل وبقي على المال فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المعادن فقال ما فعل الفارسي المكاتب قال فدعيت له قال خذ هذه فادها مما عليك يا سلمان قال قلت وأين تقع هذه مما علي يا رسول الله قال خذها فإن الله سيؤدي بها عنك قال فأخذتها فوزنت لهم منها والذي نفس سلمان بيده أربعين أوقية فأوفيتهم حقهم وعتق سلمان فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم الخندق حرا ثم لم يفتني معه مشهد (2/313)
قال ابن اسحاق وحدثني يزيد بن أبي حبيب عن رجل من عبد القيس عن سلمان أنه قال لما قلت وأين تقع هذه من الذي علي يا رسول الله أخذها رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلبها على لسانه ثم قال خذها فأوفهم منها فأخذتها فأوفيتهم منها حقهم كله أربعين أوقية
وقال محمد بن اسحاق حدثني عاصم بن عمر بن قتادة حدثني من لا أتهم عن عمر بن عبدالعزيز بن مروان قال حدثت عن سلمان أنه قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم حين أخبره أن صاحب عمورية قال له إيت كذا وكذا من أرض الشام فإن بها رجلا بين غيضتين يخرج كل سنة من هذه الغيضة مستجيزا يعترضه ذوو الاسقام فلا يدعو لأحد منهم إلا شفي فاسأله عن هذا الدين الذي تبتغي فهو يخبرك عنه قال سلمان فخرجت حتى جئت حيث وصف لي فوجدت الناس قد اجتمعوا بمرضاهم هناك حتى يخرج لهم تلك الليلة مستجيزا من إحدى الغيضتين إلى الأخرى فغشيه الناس بمرضاهم لا يدعو لمريض إلا شفي وغلبوني عليه فلم أخلص إليه حتى دخل الغيضة التي يريد أن يدخل إلا منكبه قال فتناولته فقال من هذا والتفت إلي قال قلت يرحمك الله أخبرني عن الحنيفية دين إبراهيم قال إنك لتسأل عن شيء ما يسأل عنه الناس اليوم قد أظلك زمان نبي يبعث بهذا الدين من أهل الحرم فأته فهو يحملك عليه ثم دخل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لسلمان لئن كنت صدقتني يا سلمان لقد لقيت عيسى بن مريم هكذا وقع في هذه الرواية وفيها رجل مبهم وهو شيخ عاصم بن عمر بن قتادة وقد قيل إنه الحسن بن عمارة ثم هو منقطع بل معضل بين عمر بن عبدالعزيز وسلمان رضي الله عنه قوله لئن كنت صدقتني يا سلمان لقد لقيت عيسى بن مريم غريب جدا بل منكر فإن الفترة أقل ما قيل فيها أنها أربعمائة سنة وقيل ستمائة سنة بالشمسية وسلمان أكثر ما قيل انه عاش ثلاثمائة سنة وخمسين سنة وحكى العباس بن يزيد البحراني اجماع مشايخه على أنه عاش مائتين وخمسين سنة واختلفوا فيما زاد إلى ثلاثمائة وخمسين سنة والله اعلم والظاهر أنه قال لقد لقيت وصي عيسى بن مريم فهذا ممكن بالصواب
وقال السهيلي الرجل المبهم هو الحسن بن عمارة وهو ضعيف وإن صح لم يكن فيه نكارة لأن ابن جرير ذكر أن المسيح نزل من السماء بعد ما رفع فوجد أمه وامرأة أخرى يبكيان عند جذع المصلوب فأخبرهما أنه لم يقتل وبعث الحواريين بعد ذلك قال وإذا جاز نزوله مرة جاز نزوله مرارا ثم يكون نزوله الظاهر حين يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويتزوج حينئذ امرأة من بني جذام وإذا مات دفن في حجرة روضة رسول الله صلى الله عليه و سلم
وقد روى البيهقي في كتاب دلائل النبوة قصة سلمان هذه من طريق يونس بن بكير عن محمد بن اسحاق كما تقدم ورواها أيضا عن الحاكم عن الأصم عن يحيى بن أبي طالب حدثنا علي بن عاصم حدثنا حاتم بن أبي صفرة عن سماك بن حرب عن يزيد بن صوحان أنه سمع سلمان يحدث كيف كان أول (2/314)
إسلامه فذكر قصة طويلة وذكر أنه كان من رامهرمز وكان له أخ أكبر منه غني وكان سلمان فقيرا في كنف أخيه وأن ابن دهقانها كان صاحبا له وكان يختلف معه إلى معلم لهم وأنه كان يختلف ذلك الغلام إلى عباد من النصارى في كهف لهم فسأله سلمان أن يذهب به معه إليهم فقال له إنك غلام وأخشى أن تنم عليهم فيقتلهم أبي فالتزم له أن لا يكون منه شيء يكرهه فذهب به معه فإذا هم ستة أو سبعة كأن الروح قد خرجت منهم من العبادة يصومون النهار ويقومون الليل يأكلون الشجر وما وجدوا فذكر عنهم أنهم يؤمنون بالرسل المتقدمين وأن عيسى عبدالله ورسوله وابن أمته أيده بالمعجزات وقالوا له يا غلام إن لك ربا وإن لك معادا وإن بين يديك جنة ونارا وإن هؤلاء القوم الذين يعبدون النيران أهل كفر وضلالة لا يرضى الله بما يصنعون وليسوا على دينه ثم جعل يتردد مع ذلك الغلام إليهم ثم لزمهم سلمان بالكلية ثم أجلاهم ملك تلك البلاد وهو أبو ذلك الغلام الذي صحبه سلمان إليهم عن أرضه واحتبس الملك ابنه عنده وعرض سلمان دينهم على أخيه الذي هو أكبر منه فقال إني مشتغل بنفسي في طلب المعيشة فارتحل معهم سلمان حتى دخلوا كنيسة الموصل فسلم عليهم أهلها ثم أرادوا أن يتركوني عندهم فأبيت إلا صحبتهم فخرجوا حتى أتوا واديا بين جبال فتحدر إليهم رهبان تلك الناحية يسلمون عليهم واجتمعوا إليهم وجعلوا يسألونهم عن غيبتهم عنهم ويسألونهم عني فيثنون علي خيرا وجاء رجل معظم فيهم فخطبهم فأثنى على الله بما هو اهله وذكر الرسل وما أيدوا به وذكر عيسى بن مريم وأنه كان عبدالله ورسوله وأمرهم بالخير ونهاهم عن الشر ثم لما أرادوا الانصراف تبعه سلمان ولزمه قال فكان يصوم النهار ويقوم الليل من الأحد إلى الأحد فيخرج إليهم ويعظهم ويأمرهم وينهاهم فمكث على ذلك مدة طويلة ثم أراد أن يزور بيت المقدس فصحبه سلمان إليه قال فكان فيما يمشي يلتفت إلي ويقبل علي فيعظني ويخبرني أن لي ربا وأن بين يدي جنة ونارا وحسابا ويعلمني ويذكرني نحو ما كان يذكر القوم يوم الأحد قال فيما يقول لي يا سلمان إن الله سوف يبعث رسولا اسمه أحمد يخرج من تهامة يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة بين كتفيه خاتم النبوة وهذا زمانه الذي يخرج فيه قد تقارب فأما أنا فإني شيخ كبير ولا أحسبني ادركه فإن أدركته أنت فصدقه واتبعه قلت له وإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه قال وإن أمرك فإن الحق فيما يجيء به ورضى الرحمن فيما قال ثم ذكر قدومهما إلى بيت المقدس وأن صاحبه صلى فيه هاهنا وهاهنا ثم نام وقد أوصاه أنه إذا بلغ الظل مكان كذا ان يوقظه فتركه سلمان حينا آخر أزيد مما قال ليستريح فلما استيقظ ذكر الله ولام سلمان على ترك ما أمره من ذلك ثم خرجا من بيت المقدس فسأله مقعد فقال يا عبدالله سألتك حين وصلت فلم تعطني شيئا وها أنا أسألك فنظر فلم يجد أحدا فأخذ بيده وقال قم بسم الله فقام وليس به بأس ولا قلبة ( 1 ) كأنما نشط من عقال فقال لي يا عبدالله (2/315)
احمل علي متاعي حتى أذهب إلى أهلي فأبشرهم فاشتغلت به ثم أدركت الرجل فلم ألحقه ولم أدر أين ذهب وكلما سألت عنه قوما قالوا أمامك حتى لقيني ركب من العرب من بني كلب فسألتهم فلما سمعوا لغتي أناخ رجل منهم بعيره فحملني خلفه حتى أتوا بي بلادهم فباعوني فاشترتني امرأة من الأنصار فجعلتني في حائط لها وقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم ذكر ذهابه إليه بالصدقة والهدية ليستعلم ما قال صاحبه ثم تطلب النظر إلى خاتم النبوة فلما رآه آمن من ساعته وأخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم خبره الذي جرى له قال فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا بكر الصديق فاشتراه من سيده فأعتقه ثم قال سألته يوما عن دين النصارى فقال لا خير فيهم قال فوقع في نفسي من أولئك الذين صحبتهم ومن ذلك الرجل الصالح الذي كان معي ببيت المقدس فدخلني من ذلك أمر عظيم حتى أنزل الله على رسول الله صلى الله عليه و سلم لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون فدعاني رسول الله صلى الله عليه و سلم فجئت وأنا خائف فجلست بين يديه فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون الآيات ثم قال يا سلمان أولئك الذين كنت معهم وصاحبك لم يكونوا نصارى كانوا مسلمين فقلت يا رسول الله والذي بعثك بالحق لهو أمرني باتباعك فقلت له فإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه قال نعم فاتركه فإن الحق وما يرضي الله فيما يأمرك وفي هذا السياق غرابة كثيرة وفيه بعض المخالفة لسياق محمد بن إسحاق وطريق محمد بن إسحاق اقوى إسنادا وأحسن اقتصاصا وأقرب إلى ما رواه البخاري في صحيحه من حديث معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي عن أبيه عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي انه تداوله بضعة عشر من رب إلى رب أي من معلم إلى معلم ومرب إلى مثله والله أعلم
قال السهيلي تداوله ثلاثون سيدا من سيد إلى سيد فالله أعلم وكألك استقصى قصة إسلامه الحافظ أبو نعيم في الدلائل وأورد لها أسانيد وألفاظا كثيرة وفي بعضها أن اسم سيدته التي كاتبته حلبسة فالله أعلم
ذكر أخبار غريبة في ذلك
قال أبو نعيم في الدلائل حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا محمد بن زكرياء الغلابي حدثنا العلاء بن الفضل بن عبد الملك بن أبي السوية المنقري حدثنا عباد بن كسيب عن أبيه عن أبي عتوارة الخزاعي عن سعير بن سوادة العامري ( 1 ) قال كنت عشيقا لعقيلة من عقائل الحي أركب لها الصعب والذلول لا أبقي من البلاد مسرحا أرجو ربحا في متجر إلا أتيته فانصرفت من الشام بحرث وأثاث أريد به كبة الموسم (2/316)
ودهماء العرب فدخلت مكة بليل مسدف فأقمت حتى تعرى عني قميص الليل فرفعت رأسي فإذا قباب مسامته شعف الجبال مضروبة بأنطاع الطائف وإذا جزر تنحر وأخرى تساق وإذا أكلة وحثثة على الطهاة يقولون إلا عجلوا إلا عجلوا وإذا رجل يجهر على نشز من الأرض ينادي يا وفد الله ميلوا إلى الغداء وأنيسان على مدرجة يقول يا وفد الله من طعم فليرح إلى العشاء فجهرني ما رأيت فأقبلت أريد عميد القوم فعرف رجل الذي بي فقال أمامك وإذا شيخ كأن في خديه الأساريع وكأن الشعرى توقد من جبينه قد لاث على رأسه عمامة سوداء قد أبرز من ملائها جمة فينانة كأنها سماسم قال في بعض الروايات تحته كرسي سماسم ( 1 ) ومن دونها نمرقة بيده قضيب متخصر به حوله مشايخ جلس نواكس الأذقان ما منهم أحد يفيض بكلمة وقد كان نمى إلى خبر من أخبار الشام أن النبي الأمي هذا أوان نجومه فلما رأيته ظننته ذلك فقلت السلام عليك يا رسول الله فقال مه مه كلا وكأن قد وليتني إياه فقلت من هذا الشيخ فقالوا هذا أبو نضلة هذا هاشم بن عبد مناف فوليت وأنا أقول هذا والله المجد لا مجد آل جفنة يعني ملوك عرب الشام من غسان كان يقال لهم آل جفنة وهذه الوظيفة التي حكاها عن هاشم هي الرفادة يعني إطعام الحجيج زمن الموسم
وقال أبو نعيم حدثنا عبدالله بن محمد بن جعفر حدثنا محمد بن أحمد بن أبي يحيى حدثنا سعيد بن عثمان حدثنا علي بن قتيبة الخراساني حدثنا خالد بن الياس عن أبي بكر بن عبدالله بن أبي الجهم عن أبيه عن جده قال سمعت أبا طالب يحدث عن عبد المطلب قال بينا أنا نائم في الحجر إذ رأيت رؤيا هالتني ففزعت منها فزعا شديدا فأتيت كاهنة قريش وعلى مطرف خز وجمتي تضرب منكبي فلما نظرت إلي عرفت في وجهي التغيير وأنا يومئذ سيد قومي فقالت ما بال سيدنا قد أتانا متغير اللون هل رابه من حدثان الدهر شيء فقلت لها بلى وكان لا يكلمها أحد من الناس حتى يقبل يدها اليمنى ثم يضع يده على أم رأسها ثم يذكر حاجته ولم أفعل لأني كبير قومي فجلست فقلت إني رأيت الليلة وأنا نائم في الحجر كأن شجرة تنبت قد نال رأسها السماء وضربت بأغصانها المشرق والمغرب وما رأيت نورا أزهر منها أعظم من نور الشمس سبعين ضعفا ورأيت العرب والعجم ساجدين لها وهي تزداد كل ساعة عظما ونورا وارتفاعا ساعة تخفى وساعة تزهر ورأيت رهطا من قريش قد تعلقوا بأغصانها ورأيت قوما من قريش يريدون قطعها فإذا دنوا منها أخرهم شاب لم أر قط أحسن منه وجها ولا أطيب منه ريحا فيكسر أظهرهم ويقلع أعينهم فرفعت يدي لأتناول منها نصيبا فمنعني الشاب فقلت لمن النصيب فقال النصيب لهؤلاء الذين تعلقوا بها وسبقوك إليها فانتبهت مذعورا فزعا فرأيت وجه الكاهنة قد تغير ثم قالت لئن صدقت رؤياك ليخرجن من صلبك رجل يملك المشرق والمغرب ويدين له الناس (2/317)
ثم قال يعني عبد المطلب لأبي طالب لعلك تكون هذا المولود قال فكان أبو طالب يحدث بهذا الحديث بعد ما ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم وبعد ما بعث ثم قال كانت الشجرة والله أعلم أبا القاسم الأمين فيقال لأبي طالب ألا تؤمن فيقول السبة والعار
وقال أبو نعيم حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا محمد بن زكرياء الغلابي حدثنا العباس بن بكار الضبي حدثنا أبو بكر الهذلي عن عكرمة عن ابن عباس قال قال العباس خرجت في تجارة إلى اليمن في ركب منهم أبو سفيان بن حرب فقدمت اليمن فكنت أصنع يوما طعاما وأنصرف بأبي سفيان وبالنفر ويصنع أبو سفيان يوما ويفعل مثلى ذلك فقال لي في يومي الذي كنت أصنع فيه هل لك يا أبا الفضل أن تنصرف إلى بيتي وترسل إلي غداءك فقلت نعم فانصرفت أنا والنفر إلى بيته وأرسلت إلى الغداء فلما تغدى القوم قاموا واحتبسني فقال هل علمت يا أبا الفضل إن ابن اخيك يزعم أنه رسول الله فقلت أي بني أخي فقال أبو سفيان إياي تكتم وأي بني اخيك ينبغي أن يقول هذا إلا رجل واحد قلت وأيهم على ذلك قال هو محمد بن عبدالله فقلت قد فعل قال بلى قد فعل وأخرج كتابا باسمه من ابنه حنظلة بن أبي سفيان فيه أخبرك أن محمدا قام بالأبطح فقال أنا رسول أدعوكم إلى الله عز و جل فقال العباس قلت أجده يا أبا حنظلة صادق فقال مهلا يا أبا الفضل فوالله ما أحب أن يقول مثل هذا إني لا أخشى أن يكون على ضير من هذا الحديث يا بني عبد المطلب إنه والله ما برحت قريش تزعم أن لكم هنة وهنة كل واحدة منهما غاية لنشدتك يا أبا الفضل هل سمعت ذلك قلت نعم قد سمعت قال فهذه والله شؤمتكم قلت فلعلها يمنتنا قال فما كان بعد ذلك الاليال حتى قدم عبدالله بن حذافة بالخبر وهو مؤمن ففشا ذلك في مجالس اليمن وكان أبو سفيان يجلس مجلسا باليمن يتحدث فيه حبر من أحبار اليهود فقال له اليهودي ما هذا الخبر بلغني ان فيكم عم هذا الرجل الذي قال ما قال قال أبو سفيان صدقوا وأنا عمه فقال اليهودي أخو أبيه قال نعم قال فحدثني عنه قال لا تسألني ما أحب أن يدعي هذا الأمر أبدا وما أحب أن أعيبه وغيره خير منه فرأى اليهودي أنه لا يغمس عليه ولا يحب أن يعيبه فقال اليهودي ليس به بأس على اليهود وتوراة موسى قال العباس فناداني الحبر فجئت فخرجت حتى جلست ذلك المجلس من الغد وفيه أبو سفيان بن حرب والحبر فقلت للحبر بلغني أنك سألت ابن عمي عن رجل منا زعم أنه رسول الله صلى الله عليه و سلم وأخبرك أنه عمه وليس بعمه ولكن ابن عمه وأنا عمه وأخو أبيه قال أخو أبيه قلت أخو أبيه فأقبل على أبي سفيان فقال صدق قال نعم صدق فقلت سلني فإن كذبت فليرد علي فأقبل علي فقال نشدتك هل كان لابن أخيك صبوة أو سفهة قلت لا وإله عبد المطلب ولا كذب ولا خان وإنه كان اسمه عند قريش الأمين قال فهل كتب بيده قال العباس فظننت أنه خير له أن يكتب بيده فأردت ان أقولها ثم ذكرت مكان ابي سفيان يكذبني ويرد علي (2/318)
فقلت لا يكتب فوثب الحبر ونزل رداؤه وقال ذبحت يهود وقتلت يهود قال العباس فلما رجعنا إلى منزلنا قال أبو سفيان يا أبا الفضل إن اليهود تفزع من ابن أخيك قلت قد رأيت ما رأيت فهل لك يا أبا سفيان أن تؤمن به فإن كان حقا كنت قد سبقت وإن كان باطلا فمعك غيرك من أكفائك قال لا أؤمن به حتى أرى الخيل في كداء قلت ما تقول قال كلمة جاءت على فمي إلا أني أعلم أن الله لا يترك خيلا تطلع من كداء قال العباس فلما استفتح رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة ونظرنا إلى الخيل وقد طلعت من كداء قلت يا أبا سفيان تذكر الكلمة قال أي والله إني لذاكرها فالحمد لله الذي هداني للإسلام وهذا سياق حسن عليه البهاء والنور وضياء الصدق وإن كان في رجاله من هو متكلم فيه والله أعلم
وقد تقدم ما ذكرناه في قصة أبي سفيان مع أمية بن أبي الصلت وهو شبيه بهذا الباب وهو من أغرب الأخبار وأحسن السياقات وعليه النور وسيأتي أيضا قصة أبي سفيان مع هرقل ملك الروم حين سأله عن صفات رسول الله صلى الله عليه و سلم وأحواله واستدلاله بذلك على صدقه ونبوته ورسالته وقال له كنت أعلم أنه خارج ولكن لم أكن أظن أنه فيكم ولو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقيه ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه ولئن كن ماتقول حقا ليملكن موضع قدمي هاتين وكذلك وقع ولله الحمد والمنة
وقد أكثر الحافظ أبو نعيم من إيراد الآثار والأخبار عن الرهبان والأحبار والعرب فأكثر وأطنب وأحسن وأطيب رحمه الله ورضي عنه
قصة عمرو بن مرة الجهني
قال الطبراني حدثنا علي بن إبراهيم الخزاعي الأهوازي حدثنا عبدالله بن داود بن دلهاث بن اسماعيل بن عبدالله بن شريح بن ياسر بن سويد صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم حدثنا أبي عن أبيه دلهاث عن أبيه اسماعيل أن أباه عبدالله حدثه عن أبيه أن أباه ياسر بن سويد حدثه عن عمرو بن مرة الجهني قال خرجت حاجا في جماعة من قومي في الجاهلية فرأيت في نومي وأنا بمكة نورا ساطعا من الكعبة حتى وصل إلى جبل يثرب وأشعر جهينة فسمعت صوتا بين النور وهو يقول انقشعت الظلماء وسطع الضياء وبعث خاتم الأنبياء ثم أضاء إضاءة أخرى حتى نظرت إلى قصور الحيرة وأبيض المدائن وسمعت صوتا من النور وهو يقول ظهر الإسلام وكسرت الأصنام ووصلت الأرحام فانتبهت فزعا فقلت لقومي والله ليحدثن لهذا الحي من قريش حدث وأخبرتهم بما رأيت فلما انتهينا إلى بلادنا جاءني رجل يقال له أحمد قد بعث فأتيته فأخبرته بما رأيت فقال يا عمرو بن مرة أنا النبي المرسل إلى العباد كافة أدعوهم إلى الإسلام وآمرهم بحقن الدماء وصلة الأرحام وعبادة الله (2/319)
ورفض الأصنام وحج البيت وصيام شهر رمضان من اثنى عشر شهرا فمن أجاب فله الجنة ومن عصى فله النار فآمن يا عمرو يؤمنك الله من هول جهنم فقلت أشهد أن لا إله إلا الله وإنك رسول الله آمنت بما جئت من حلال وحرام وأن رغم ذلك كثيرا من الأقوام ثم أنشدته أبياتا قلتها حين سمعت به وكان لنا صنم وكان أبي سادنا له فقمت إليه فكسرته ثم لحقت بالنبي صلى الله عليه و سلم وأنا أقول ... شهدت بأن الله حق وإنني ... لآلهة الأحجار أول تارك ... وشمرت عن ساق الإزار مهاجرا ... إليك أجوب القفر بعد الدكادك ... لأصحب خير الناس نفسا ووالدا ... رسول مليك الناس فوق الحبائك ...
فقال النبي صلى الله عليه و سلم مرحبا بك يا عمرو بن مرة فقلت يا رسول الله ابعثني إلى قومي لعل الله يمن عليهم بي كما من علي بك فبعثني إليهم وقال عليك بالرفق والقول السديد ولا تكن فظا ولا متكبرا ولا حسودا فذكر أنه أتى قومه فدعاهم إلى ما دعاه إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فأسلموا كلهم إلا رجلا واحدا منهم وأنه وفد بهم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فرحب بهم وحياهم وكتب لهم كتابا هذه نسخته بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله على لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم بكتاب صادق وحق ناطق مع عمرو بن مرة الجهني لجهينة بن زيد أن لكم بطون الأرض وسهولها وتلاع الأودية وظهورها تزرعون نباته وتشربون صافيه على أن تقروا بالخمس وتصلوا صلاة الخمس وفي التبيعة والصريمة أن اجتمعتا وان تفرقتا شاة شاة ليس على أهل الميرة صدقة ليس الوردة اللبقة ( 1 ) وشهد على نبينا صلى الله عليه و سلم من حضر من المسلمين بكتاب قيس بن شماس وذكر شعرا قاله عمرو بن مرة في ذلك كما هو مبسوط في المسند الكبير وبالله الثقة وعليه التكلان
وقال الله تعالى وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا قال كثيرون من السلف لما أخذ الله ميثاق بني آدم يوم ألست بربكم أخذ من النبيين ميثاقا خاصا وأكد مع هؤلاء الخمسة أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار الذين أولهم نوح وآخرهم محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين
وقد روى الحافظ أبو نعيم في كتاب دلائل النبوة من طرق عن الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي حدثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة سئل النبي صلى الله عليه و سلم متى وجبت لك النبوة قال بين خلق آدم ونفخ الروح فيه وهكذا رواه الترمذي من طريق الوليد بن مسلم وقال حسن غريب من حديث أبي هريرة لا نعرفه إلا من هذا الوجه
وقال أبو نعيم حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا يعقوب بن اسحاق بن الزبير الحلبي حدثنا أبو جعفر (2/320)
النفيلي حدثنا عمرو بن واقد عن عروة بن رويم عن الصنابحي قال قال عمر يا رسول الله متى جعلت نبيا قال وآدم منجدل في الطين ثم رواه من حديث نصر بن مزاحم عن قيس بن الربيع عن جابر الجعفي عن الشعبي عن ابن عباس قال قيل يا رسول الله متى كنت نبيا قال وآدم بين الروح والجسد وفي الحديث الذي أوردناه في قصة آدم حين استخرج الله من صلبه ذريته خص الأنبياء بنور بين أعينهم والظاهر والله أعلم أنه كان على قدر منازلهم ورتبهم عند الله وإذا كان الأمر كذلك فنور محمد صلى الله عليه و سلم كان أظهر وأكبر وأعظم منهم كلهم وهذا تنويه عظيم وتنبيه ظاهر على شرفه وعلو قدره وفي هذا المعنى الحديث الذي قال الإمام أحمد حدثنا عبدالرحمن بن مهدي حدثنا معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد الكلبي عن عبدالأعلى بن هلال السلمي عن العرباض بن سارية قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته وسأنبئكم بأول ذلك دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى بي ورؤيا أمي التي رأت وكذلك أمهات المؤمنين يرين ورواه الليث وابن وهب عن عبدالرحمن بن مهدي وعبدالله بن صالح عن معاوية بن صالح وزاد إن أمه رأت حين وضعته نورا أضاءت منه قصور الشام وقال الإمام أحمد حدثنا عبدالرحمن حدثما منصور بن سعيد عن بديل عن عبدالله بن شقيق عن ميسرة الفجر قال قلت يا رسول الله متى كنت نبيا قال وآدم بين الروح والجسد وإسناده جيد أيضا وهكذا رواه إبراهيم بن طهمان وحماد بن زيد وخالد الحذاء عن بديل بن ميسرة به ورواه أبو نعيم عن محمد بن عمر بن أسلم عن محمد بن بكر بن عمرو الباهلي عن شيبان عن الحسن بن دينار عن عبدالله بن سفيان عن ميسرة الفجر قال قلت يا رسول الله متى كنت نبيا قال وآدم بين الروح والجسد
وقال الحافظ أبو نعيم في كتابه دلائل النبوة حدثنا أبو عمرو بن حمدان حدثنا الحسن بن سفيان حدثنا هشام بن عمار حدثنا الوليد بن مسلم عن خليد بن دعلج وسعيد عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم قال كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث ثم رواه من طريق هشام بن عمار عن بقية عن سعيد بن نسير عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة مرفوعا مثله وقد رواه من طريق سعيد بن أبي عروبة وشيبان عن قتادة قال ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال مثله وهذا أثبت وأصح والله أعلم
وهذا إخبار عن التنويه بذكره في الملأ الأعلى وأنه معروف بذلك بينهم بأنه خاتم النبيين وآدم لم ينفخ فيه الروح لأن علم الله تعالى بذلك سابق قبل خلق السموات والأرض لا محالة فلم يبق إلا هذا الذي ذكرناه من الأعلام به في الملأ الأعلى والله أعلم
وقد أورد أبو نعيم من حديث عبدالرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة الحديث المتفق عليه (2/321)
نحن الآخرون السابقون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم وزاد أبو نعيم في آخره فكان صلى الله عليه و سلم آخرهم في البعث وبه ختمت النبوة وهو السابق يوم القيامة لأنه أول مكتوب في النبوة والعهد ثم قال ففي هذا الحديث الفضيلة لرسول الله صلى الله عليه و سلم لما أوجب الله له النبوة قبل تمام خلق آدم ويحتمل أن يكون هذا الإيجاب هو ما أعلم الله ملائكته ما سبق في علمه وقضاءه من بعثته له في آخر الزمان وهذا الكلام يوافق ما ذكرناه ولله الحمد
وروى الحاكم في مستدركه من حديث عبدالرحمن بن زيد بن أسلم وفيه كلام عن أبيه عن جده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لما اقترف آدم الخطيئة قال يا رب أسألك بحق محمد إلا غفرت لي فقال الله يا آدم كيف عرفت محمدا ولم أخلقه بعد فقال يا رب لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت علي قوائم العرش مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنك لم تضف إلي اسمك إلا أحب الخلق إليك فقال الله صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إلي وإذ قد سألتني بحقه فقد غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك قال البيهقي تفرد به عبدالرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف والله أعلم
وقد قال الله تعالى وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولي بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون قال علي بن أبي طالب وعبدالله بن عباس رضي الله عنهما ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد صلى الله عليه و سلم وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ( 1 ) وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه وهذا تنويه وتنبيه على شرفه وعظمته في سائر الملل وعلى ألسنة الأنبياء وإعلام لهم ومنهم برسالته في آخر الزمان وإنه أكرم المرسلين وخاتم النبيين وقد أوضح أمره وكشف خبره وبين سره وجلى مجده ومولده وبلده إبراهيم الخليل في قوله عليه السلام حين فرغ من بناء البيت ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم فكان أول بيان أمره على الجلية والوضوح بين أهل الأرض على لسان إبراهيم الخليل أكرم الأنبياء على الله بعد محمد صلوات الله عليه وسلامه عليهما وعلى سائر الأنبياء ولهذا قال الإمام أحمد حدثنا أبو النضر حدثنا الفرج يعني ابن فضالة حدثنا لقمان بن عامر سمعت أبا أمامة قال قلت يا نبي الله ما كان بدء أمرك قال دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت منه قصور الشام تفرد به الإمام أحمد ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة وروى الحافظ أبو بكر بن أبي عاصم في كتاب (2/322)
المولد من طريق بقية عن صفوان بن عمرو بن حجر عن حجر عن أبي مريق أن أعرابيا قال يا رسول الله أي شيء كان أول أمر نبوتك فقال أخذ الله مني الميثاق كما أخذ من النبيين ميثاقهم ورأت أم رسول الله صلى الله عليه و سلم في منامها أنه خرج من بين رجليها سراج أضاءت له قصور الشام ( 1 ) وقال الإمام محمد بن اسحاق بن يسار حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أنهم قالوا يا رسول الله أخبرنا عن نفسك قال دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورأت أمي حين حبلت كأنه خرج منها نور أضاءت له بصرى من أرض الشام إسناده جيد أيضا وفيه بشارة لأهل محلتنا أرض بصرى وإنها أول بقعة من أرض الشام خلص إليها نور النبوة ولله الحمد والمنة ولهذا كانت أول مدينة فتحت من أرض الشام وكان فتحها صلحا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه كما سيأتي بيانه وقد قدمها رسول الله صلى الله عليه و سلم مرتين في صحبة عمه أبي طالب وهو ابن اثنتي عشرة سنة وكانت عندها قصة بحيرى الراهب كما بيناه والثانية ومعه ميسرة مولى خديجة في تجارة لها وبها مبرك الناقة التي يقال لها ناقة رسول الله صلى الله عليه و سلم بركت عليه فأثر ذلك فيها فيما يذكر ثم نقل وبنى عليه مسجد مشهور اليوم وهي المدينة التي أضاءت أعناق الإبل عندها من نور النار التي خرجت من أرض الحجاز سنة أربع وخمسين وستمائة وفق ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى وسيأتي الكلام على ذلك في موضعه إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان وقال الله تعالى الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون الآية قال الإمام أحمد حدثنا اسماعيل عن الجريري عن أبي صخر العقيلي حدثني رجل من الأعراب قال جلبت جلوبة إلى المدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما فرغت من بيعي قلت لألقين هذا الرجل فلأسمعن منه قال فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون فتبعتهم حتى أتوا على رجل من اليهود ناشر التوراة يقرؤها يعزي بها نفسه عن ابن له في الموت كأحسن الفتيان وأجملهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أنشدك بالذي أنزل التوراة هل تجدني في كتابك ذا صفتي ومخرجي فقال برأسه هكذا أي لا فقال ابنه إي والذي أنزل التوراة إنا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك وأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال أقيموا اليهودي عن أخيكم ثم ولى كفنه والصلاة عليه هذا إسناد جيد وله شواهد في الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه وقال أبو القاسم البغوي حدثنا عبدالواحد بن غياث أبو بحر حدثنا عبدالعزيز بن مسلم حدثنا عاصم بن كليب عن أبيه عن الصلتان بن عاصم (2/323)
وذكر أن خاله قال كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه و سلم إذ شخص بصره إلى رجل فإذا يهودي عليه قميص وسراويل ونعلان قال فجعل النبي صلى الله عليه و سلم يكلمه وهو يقول يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أتشهد أني رسول الله قال لا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أتقرأ التوراة قال نعم قال أتقرأ الإنجيل قال نعم قال والقرآن قال لا ولو تشاء قرأته فقال النبي صلى الله عليه و سلم فبم تقرأ التوراة والإنجيل أتجدني نبيا قال إنا نجد نعتك ومخرجك فلما خرجت رجونا أن تكون فينا فلما رأيناك عرفناك أنك لست به قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يا يهودي قال إنا نجده مكتوبا يدخل من أمته الجنة سبعون ألفا بغير حساب ولا نرى معك إلا نفرا يسيرا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن أمتي لأكثر من سبعين ألفا وسبعين ألفا هذا حديث غريب من هذا الوجه ولم يخرجوه وقال محمد بن اسحاق عن سالم مولى عبدالله بن مطيع عن أبي هريرة قال أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم يهود فقال أخرجوا أعلمكم فقالوا عبدالله بن صوريا فخلا به رسول الله صلى الله عليه و سلم فناشده بدينه وما أنعم الله به عليهم وأطعمهم من المن والسلوى وظللهم به من الغمام أتعلمني رسول الله قال اللهم نعم وإن القوم ليعرفون ما أعرف وأن صفتك ونعتك لمبين في التوراة ولكنهم حسدوك قال فما يمنعك أنت قال أكره خلاف قومي وعسى أن يتبعوك ويسلموا فأسلم وقال سلمة بن الفضل عن محمد بن اسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة عن ابن عباس أنه كان يقول كتب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى يهود خيبر بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله صاحب موسى وأخيه والمصدق بما جاء به موسى ألا إن الله قال لكم يا معشر يهود وأهل التوراة إنكم تجدون ذلك في كتابكم إن محمدا رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهك ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما وإني أنشدكم بالله وبالذي أنزل عليكم وأنشدكم بالذي أطعم من كان قبلكم من أسلافكم وأسباطكم المن والسلوى وأنشدكم بالذي أيبس البحر لآبائكم حتى أنجاكم من فرعون وعمله إلا أخبرتمونا هل تجدون فيما أنزل الله عليكم أن تؤمنوا بمحمد فإن كنتم لا تجدون ذلك في كتابكم فلا كره عليكم قد تبين الرشد من الغي وأدعوكم إلى الله وإلى نبيه صلى الله عليه و سلم وقد ذكر محمد بن اسحاق بن يسار في كتاب المبتدأ عن سعيد بن بشير عن قتادة عن كعب الأحبار وروى غيره عن وهب بن منبه أن بختنصر بعد أن خرب بيت المقدس واستذل بني إسرائيل بسبع سنين رأى في المنام رؤيا عظيمة هالته فجمع الكهنة والحزار وسألهم عن رؤياه تلك فقالوا ليقصها الملك حتى نخبره بتأويلها فقال إني نسيتها وإن لم تخبروني بها إلى ثلاثة أيام قتلتكم عن آخركم فذهبوا (2/324)
خائفين وجلين من وعيده فسمع بذلك دانيال عليه السلام وهو في سجنه فقال للسجان اذهب اليه فقل له إن هاهنا رجلاعنده علم رؤياك وتأويلها فذهب إليه فأعلمه فطلبه فلما دخل عليه لم يسجد له فقال له ما منعك من السجود لي فقال إن الله آتاني علما وعلمني وأمرني أن لا أسجد لغيره فقال له بختنصر إني أحب الذين يوفون لأربابهم بالعهود فأخبرني عن رؤياي قال له دانيال رأيت صنما عظيما رجلاه في الأرض ورأسه في السماء أعلاه من ذهب ووسطه من فضة وأسفله من نحاس وساقاه من حديد ورجلاه من فخار فبينا أنت تنظر إليه قد أعجبك حسنه وإحكان صنعته قذفه الله بحجر من السماء فوقع على قمة رأسه حتى طحنه واختلط ذهبه وفضته ونحاسه وحديده وفخاره حتى تخيل لك أنه لو اجتمع الإنس والجن على أن يميزوا بعضه من بعض لم يقدروا على ذلك ونظرت إلى الحجر الذي قذف به يربو ويعظم وينتشر حتى ملأ الأرض كلها فصرت لا ترى إلا الحجر والسماء فقال له بختنصر صدقت هذه الرؤيا التي رأيتها فما تأويلها فقال دانيال أما الصنم فأمم مختلفة في أول الزمان وفي وسطه وفي آخره وأما الحجر الذي قذف به الصنم فدين يقذف الله به هذه الأمم في آخر الزمان فيظهره عليها فيبعث الله نبيا أميا من العرب فيدوخ به الأمم والأديان كما رأيت الحجر دوخ أصناف الصنم ويظهر على الأديان والأمم كما رأيت الحجر ظهر على الأرض كلها فيمحص الله به الحق ويزهق به الباطل ويهدي به أهل الضلالة ويعلم به الأميين ويقوي به الضعفة ويعزبه الأذلة وينصر به المستضعفين وذكر تمام القصة في اطلاق بختنصر بني إسرائيل على يدي دانيال عليه السلام وذكر الواقدي بأسانيده عن المغيرة بن شعبة في قصة وفوده على المقوقس ملك الاسكندرية وسؤاله له عن صفات رسول الله صلى الله عليه و سلم قريبا من سؤال هرقل لأبي سفيان صخر بن حرب وذكر أنه سأل اساقفة النصارى في الكنائس عن صفة رسول الله صلى الله عليه و سلم وأخبروه عن ذلك وهي قصة طويلة ذكرها الحافظ أبو نعيم في الدلائل وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مر بمدارس اليهود فقال لهم يا معشر اليهود أسلموا فوالذي نفسي بيده إنكم لتجدون صفتي في كتبكم الحديث وقال الإمام أحمد حدثنا موسى بن داود حدثنا فليح بن سليمان عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار قال لقيت عبدالله بن عمرو بن العاص فقلت أخبرني عن صفات رسول الله صلى الله عليه و سلم في التوراة فقال أجل والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه الله حتى يقيموا الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله يفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا ورواه البخاري عن محمد بن سنان العوفي عن فليح به ورواه أيضا عن عبدالله قيل ابن رجاء وقيل ابن صالح عن عبدالعزيز بن أبي سلمة عن هلال بن علوية ولفظه قريب (2/325)
من هذا وفيه زيادة ورواه ابن جرير من حديث فليح عن هلال عن عطاء وزاد قال عطاء فلقيت كعبا فسألته عن ذلك فما اختلف حرفا وقال في البيوع وقال سعيد عن هلال عن عطاء عن عبدالله بن سلام قال الحافظ أبو بكر البيهقي أخبرناه أبو الحسين بن المفضل القطان حدثنا عبدالله بن جعفر حدثنا يعقوب بن سفيان حدثنا أبو صالح حدثنا الليث حدثني خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال بن أسامة عن عطاء بن يسار عن ابن سلام أنه كان يقول إنا لنجد صفة رسول الله صلى الله عليه و سلم إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميته المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزىء السيئة بمثلها ولكن يعفو ويتجاوز ولن يقبضه حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يشهدوا أن لا إله إلا الله يفتح به أعينا عميا وأذانا صما وقلوبا غلفا وقال عطاء بن يسار وأخبرني الليثي أنه سمع كعب الأحبار يقول مثل ما قال ابن سلام
قلت وهذا عن عبدالله بن سلام أشبه ولكن الرواية عن عبدالله بن عمرو أكثر مع أنه كان قد وجد يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب وكان يحدث عنهما كثيرا وليعلم أن كثيرا من السلف كانوا يطلقون التوراة على كتب أهل الكتاب فهي عندهم أعم من التي أنزلها الله على موسى وقد ثبت شاهد ذلك من الحديث وقال يونس عن محمد بن اسحاق حدثني محمد بن ثابت بن شرحبيل عن ابن أبي أوفى عن أم الدرداء قالت قلت لكعب الأحبار كيف تجدون صفة رسول الله صلى الله عليه و سلم في التوراة قال نجده محمد رسول الله اسمه المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق وأعطى المفاتيح فيبصر الله به أعينا عورا ويسمع آذانا وقرا ويقيم به ألسنا معوجة حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله واحد لا شريك له يعين به المظلوم ويمنعه وقد روى عن كعب من غير هذا الوجه وروى البيهقي عن الحاكم عن أبي الوليد الفقيه عن الحسن بن سفيان حدثنا عتبة بن مكرم حدثنا أبو قطن عمرو بن الهيثم حدثنا حمزة بن الزيات عن سليمان الأعمش عن علي بن مدرك عن أبي زرعة عن أبي هريرة وما كنت بجانب الطور إذ نادينا قال نودوا يا أمة محمد استجبت لكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني وذكر وهب بن منبه أن الله تعالى أوحى إلى داود في الزبور يا داود إنه سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد صادقا سيدا لا أغضب عليه أبدا ولا يغضبني أبدا وقد غفرت له قبل أن يعصيني ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأمته مرحومة أعطيتهم من النوافل مثل ما أعطيت الأنبياء وفرضت عليهم الفرائض التي افترضت على الأنبياء والرسل حتى يأتوني يوم القيامة ونورهم مثل نور الأنبياء إلى أن قال يا داود إني فضلت محمدا وأمته على الأمم كلها والعلم بأنه موجود في كتب أهل الكتاب معلوم من الدين ضرورة وقد دل على ذلك آيات كثيرة في الكتاب العزيز تكلمنا عليها في مواضعها ولله الحمد فمن ذلك قوله الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من (2/326)
ربنا إنا كنا من قبله مسلمين وقال تعالى الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وأن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون وقال تعالى إن الذين أتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا أي إن كان وعدنا ربنا بوجود محمد وإرساله لكائن لا محالة فسبحان القدير على ما يشاء لا يعجزه شيء وقال تعالى اخبارا عن القسيسين والرهبان وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين وفي قصة النجاشي وسلمان وعبدالله بن سلام وغيرهم كما سيأتي شواهد كثيرة لهذا المعنى ولله الحمد والمنة
وذكرنا في تضاعيف قصص الأنبياء ما تقدم الإشارة إليه من وصفهم لبعثة رسول الله صلى الله عليه و سلم ونعته وبلد مولده ودار مهاجره ونعت أمته في قصة موسى وشعيا وأرمياء ودانيال وغيرهم وقد أخبر الله تعالى عن آخر أنبياء بني إسرائيل وخاتمهم عيسى بن مريم أنه قام في بني إسرائيل خطيبا قائلا لهم إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد وفي الإنجيل البشارة بالفار قليط والمراد محمد صلى الله عليه و سلم وروى البيهقي عن الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبدالجبار عن يونس بن بكير عن يونس بن عمرو عن العيزار بن حرب عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال مكتوب في الإنجيل لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزى بالسيئة مثلها بل يعفو ويصفح وقال يعقوب بن سفيان حدثنا فيض البجلي حدثنا سلام بن مسكين عن مقاتل بن حيان قال أوحى الله عز و جل إلى عيسى بن مريم جد في أمري واسمع وأطع يا ابن الطاهرة البكر البتول أنا خلقتك من غير فحل فجعلتك آية للعالمين فإياي فاعبد فبين لأهل سوران بالسريانية بلغ من بين يديك أني أنا الحق القائم الذي لا أزول صدقوا بالنبي الأمي العربي صاحب الجمل والمدرعة والعمامة وهي التاج والنعلين والهراوة وهي القضيب الجعد الرأس الصلت الجبين المقرون الحاجبين الأنجل العينين الأهدب الأشفار الأدعج العينين الأقنى الأنف الواضح الخدين الكث اللحية عرقه في وجهه كاللؤلؤ ريح المسك ينضح منه كأن عنقه ابريق فضة وكان الذهب يجري في تراقيه له شعرات من لبته إلى سرته تجري كالقضيب ليس في بطنه شعر غير شثن الكف والقدم إذا جاء مع الناس غمرهم وإذا مشى كأنما ينقلع من الصخر ويتحدر من صبب ذو النسل القليل وكأنه أراد الذكور من صلبه هكذا رواه البيهقي في دلائل النبوة من طريق يعقوب بن سفيان وروى البيهقي عن عثمان بن الحكم بن رافع بن سنان حدثني بعض عمومتي وآبائي أنهم كانت عندهم ورقة يتوارثونها في الجاهلية حتى جاء الله بالإسلام وبقيت عندهم فلما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة ذكر وهاله وأتوه بها مكتوب فيها بسم الله وقوله الحق وقول الظالمين في تباب هذا الذكر لأمة تأتي في آخر الزمان ليبلون أطرافهم ويوترون على (2/327)
أوساطهم ويخوضون البحور إلى أعدائهم فيهم صلاة لو كانت في قوم نوح ما أهلكوا بالطوفان وفي عاد ما أهلكوا بالريح وفي ثمود ما أهلكوا بالصيحة بسم الله وقوله الحق وقول الظالمين في تباب ثم ذكر قصة أخرى قال فعجب رسول الله صلى الله عليه و سلم لما قرأت عليه فيها
وذكرنا عند قوله تعالى في سورة الأعراف الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل قصة هشام بن العاص الأموي حين بعثه الصديق في سرية إلى هرقل يدعوه إلى الله عز و جل فذكر أنه أخرج لهم صور الأنبياء في رقعة من آدم إلى محمد صلوات الله عليه وسلامه عليهم أجمعين على النعت والشكل الذي كانوا عليه ثم ذكر أنه لما أخرج صورة رسول الله صلى الله عليه و سلم قام قائما إكراما له ثم جلس وجعل ينظر إليها ويتأملها قال فقلنا له من أين لك هذه الصورة فقال إن آدم سأل ربه أن يريه جميع الأنبياء من ذلك فأنزل عليه صورهم فكان في خزانة آدم عليه السلام عند مغرب الشمس فاستخرجها ذو القرنين فدفعها إلى دانيال ثم قال أما والله إن نفسي قد طابت بالخروج من ملكي وأني كنت عبدا لاشركم ملكة حتى أموت ثم أجازنا فأحسن جائزتنا وسرحنا فلما أتينا أبا بكر الصديق فحدثناه بما رأينا وما أجازنا وما قال لنا قال فبكى وقال مسكين لو أراد الله به خيرا لفعل ثم قال أخبرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أنهم واليهود يجدون نعت محمد عندهم رواه الحاكم بطوله فليكتب هاهنا من التفسير ورواه البيهقي في دلائل النبوة
وقال الأموي حدثنا عبدالله بن زياد عن ابن اسحاق قال وحدثني يعقوب بن عبدالله بن جعفر بن عمرو بن أمية عن أبيه عن جده عمرو بن أمية قال قدمت برقيق من عند النجاشي أعطانيهم فقالوا لي ياعمرو لو رأينا رسول الله لعرفناه من غير أن تخبرنا فمر أبو بكر فقلت أهو هذا قالوا لا فمر عمر فقلت أهو هذا قالوا لا فدخلنا الدار فمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فنادوني يا عمرو هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم فنظرت فإذا هو هو من غير أن يخبرهم به أحد عرفوه بما كانوا يجدونه مكتوبا عندهم وقد تقدم انذار سبأ لقومه وبشارته لهم بوجود رسول الله صلى الله عليه و سلم في شعر أسلفناه في ترجمته فأغنى عن إعادته وتقدم قول الحبرين من اليهود لتبع اليماني حين حاصر أهل المدينة إنها مهاجر نبي يكون في آخر الزمان فرجع عنها ونظم شعرا يتضمن السلام على النبي صلى الله عليه و سلم
قصة سيف بن ذي يزن وبشارته بالنبي
وقال الحافظ أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتابه هواتف الجان حدثنا علي بن حرب حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيم حدثنا عمرو بن بكر هو ابن بكار القعنبي عن أحمد بن القاسم عن محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح عن عبدالله بن عباس قال لما ظهر سيف بن ذي يزن قال ابن المنذر واسمه النعمان بن قيس على الحبشة وذلك بعد مولد رسول الله صلى الله عليه و سلم بسنتين أتته وفود (2/328)
العرب وشعراؤها تهنئه وتمدحه وتذكر ما كان من حسن بلائه وأتاه فيمن أتاه وفود قريش فيهم عبدالمطلب بن هاشم وأمية بن عبد شمس أبي عبدالله ( 1 ) وعبدالله بن جدعان وخويلد بن أسد في أناس من وجوه قريش فقدموا عليه صنعاء فإذا هو في رأس غمدان الذي ذكره أمية أبي الصلت ... واشرب هنيئا عليك التاج مرتفعا ... في رأس غمدان دارا منك محلالا ...
فدخل عليه الآذن فأخبره بمكانهم فأذن لهم فدنا عبدالمطلب فاستأذنه في الكلام فقال له إن كنت ممن يتكلم بين يدي فقد أذنا لك فقال له عبدالمطلب إن الله قد أحلك أيها الملك محلا رفيعا صعبا منيعا شامخا باذخا وأنبتك منبتا طابت أرومته وعذيت جرثومته وثبت أصله وبسق فرعه في أكرم موطن وأطيب معدن فأنت أبيت اللعن ملك العرب وربيعها الذي تخصب به البلاد ورأس العرب الذي له تنقاد وعمودها الذي عليه العماد ومعقلها الذي يلجأ إليه العباد وسلفك خير سلف وأنت لنا منهم خير خلف فلن يخمد من هم سلفه ولن يهلك من أنت خلفه ونحن أيها الملك أهل حرم الله وسدنة بيته اشخصنا إليك الذي أبهجك من كشف الكرب الذي قد فدحنا وفد التهنئة لا وفد المرزئة قال وايهم أنت أيها المتكلم قال أنا عبدالمطلب بن هاشم قال ابن أختنا قال نعم قال ادن فأدناه ثم أقبل عليه وعلى القوم فقال مرحبا وأهلا وناقة ورحلا ومستناخا سهلا وملكا ربحلا ( 2 ) يعطي عطاء جزلا قد سمع الملك مقالتكم وعرف قرابتكم وقبل وسيلتكم فأنتم أهل الليل والنهار ولكم الكرامة ما أقمتم والحباء إذا ظعنتم ثم نهضوا إلى دار الكرامة والوفود فأقاموا شهرا لا يصلون إليه ولا يأذن لهم بالانصراف ثم انتبه لهم انتباهة فأرسل إلى عبدالمطلب فأدنى مجلسه وأخلاه ثم قال يا عبدالمطلب إني مفض إليك من سر علمي ما لو يكون غيرك لم أبح به ولكني رأيتك معدنه فاطلعتك طليعه فليكن عندك مطويا حتى يأذن الله فيه فإن الله بالغ أمره إني أجد في الكتاب المكنون والعلم المخزون الذي اخترناه لأنفسنا واجتجناه دون غيرنا خبرا عظيما وخطرا جسيما فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاة للناس عامة ولرهطك كافة ولك خاصة فقال عبدالمطلب أيها الملك مثلك سر وبر فما هو فداؤك أهل الوبر زمرا بعد زمر قال إذا ولد بتهامة غلام به علامة بين كتفيه شامة كانت له الإمامة ولكم به الزعامة إلى يوم القيامة قال عبدالمطلب أبيت اللعن لقد أبت بخير ما آب به وافد ولولا هيبة الملك وإجلاله واعظامه لسألته من بشارته إياي ما ازداد به سرورا قال ابن ذي يزن هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد واسمه محمد يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه ولدناه مرارا والله باعثه جهارا وجاعل له منا أنصارا يعزبهم أولياءه ويذل بهم أعداءه ويضرب بهم الناس عن عرض ويستبيح بهم كرائم الأرض يكسر الأوثان ويخمد النيران يعبد الرحمن ويدحر (2/329)
الشيطان قوله فصل وحكمه عدل يأمر بالمعروف ويفعله وينهى عن المنكر ويبطله فقال عبدالمطلب أيها الملك عز جدك وعلا كعبك ودام ملكك وطال عمرك فهذا نجاري فهل الملك سار لي بافصاح فقد أوضح لي بعض الإيضاح فقال ابن ذي يزن والبيت ذي الحجب والعلامات على النقب انك يا عبدالمطلب لجده غير كذب فخر عبدالمطلب ساجدا فقال ارفع رأسك ثلج صدرك وعلا أمرك فهل أحسست شيئا مما ذكرت لك فقال أيها الملك كان لي ابن وكنت به معجبا وعليه رفيقا فزوجته كريمة من كرائم قومه آمنة بنت وهب فجاءت بغلام سميته محمدا فمات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه قال ابن ذي يزن إن الذي قلت لك كما قلت فاحتفظ بابنك واحذر عليه اليهود فإنهم له أعداء ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا واطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك فإني لست آمن أن تدخل لهم النفاسة من أن تكون لكم الرياسة فيطلبون له الغوائل وينصبون له الحبائل فهم فاعلون أو أبناؤهم ولولا أني أعلم أن الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير بيثرب دار مملكته فإني أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق أن بيثرب استحكام أمره وأهل نصرته وموضع قبره ولولا أني أقيه الآفات وأحذر عليه العاهات لأعلنت على جداثة سنه أمره ولأوطأت أسنان العرب عقبه ولكني صارف ذلك إليك عن غير تقصير بمن معك قال ثم أمر لكل رجل منهم بعشرة أعبد وعشرة إماء وبمائة من الإبل وحلتين من البرود وبخمسة أرطال من الذهب وعشرة أرطال فضة وكرش مملوء عنبرا وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك وقال له إذا حال الحول فأتني فمات ابن ذي يزن قبل أن يحول الحول فكان عبدالمطلب كثيرا ما يقول لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك فإنه إلى نفاد ولكن ليبغبطني بما يبقى لي ولعقبي ومن بعدي ذكره وفخره وشرفه فإذا قيل له متى ذلك قال سيعلم ولو بعد حين قال وفي ذلك يقول أمية بن عبد شمس ... جلبنا النصح تحقبه المطايا ... على أكوار أجمال ونوق ... مقلفة مراتعها تعالى ... إلى صنعاء من فج عميق ( 1 ) ... تؤم بنا ابن ذي يزن وتغري ... بذات بطونها ذم الطريق ... وترعى من مخائله بروقا ... مواصلة الوميض إلى بروق ... فلما واصلت صنعاء حلت ... بدار الملك والحسب العريق ...
وهكذا رواه الحافظ أبو نعيم في الدلائل من طريق عمرو بن بكير بن بكار القعنبي ثم قال أبو نعيم أخبرت عن أبي الحسن علي بن إبراهيم بن عبد ربه بن محمد بن عبدالعزيز بن عفير بن عبدالعزيز بن السفر بن عفير بن زرعة بن سيف بن ذي يزن حدثني أبي أبو يزن إبراهيم حدثنا عمي أحمد بن محمد أبو (2/330)
رجاء به حدثنا عمي محمد بن عبدالعزيز حدثني عبدالعزيز بن عفير عن أبيه عن زرعة بن سيف بن ذي يزن الحميري قال لما ظهر جدي سيف بن ذي يزن على الحبشة وذكره بطوله وقال أبو بكر الخرائطي حدثنا أبو يوسف يعقوب بن اسحاق القلوسي حدثنا العلاء بن الفضل بن أبي سوية أخبرني أبي عن أبيه عبدالملك بن أبي سوية عن جده أبي سوية عن أبيه خليفة قال سألت محمد بن عثمان بن ربيعة بن سواة ابن خثعم بن سعد فقلت كيف سماك أبوك محمدا فقال سألت أبي عما سألتني عنه فقال خرجت رابع أربعة من بني تميم أنا منهم وسفيان بن مجاشع بن دارم وأسامة بن مالك بن جندب بن العقيد ويزيد بن ربيعة بن كنانة بن حربوص بن مازن ونحن نريد ابن جفنة ملك غسان فلما شارفنا الشام نزلنا على غدير عليه شجرات فتحدثنا فسمع كلامنا راهب فأشرف علينا فقال إن هذه لغة ما هي بلغة هذه البلاد فقلنا نعم نحن قوم من مضر قال من أي المضرين قلنا من خندف قال أما إنه سيبعث وشيكا نبي خاتم النبيين فسارعوا إليه وخذوا بحظكم منه ترشدوا فقلنا له ما اسمه قال اسمه محمد قال فرجعنا من عند ابن جفنة فولد لكل واحد منا ابن فسماه محمدا يعني أن كل واحد منهم طمع في أن يكون هذا النبي المبشر به ولده
وقال الحافظ أبو بكر الخرائطي حدثنا عبدالله بن أبي سعد حدثنا حازم بن عقال بن الزهر بن حبيب بن المنذر بن أبي الحصين بن السموأل بن عاديا حدثني جابر بن جدان بن جميع بن عثمان بن سماك بن الحصين بن السموأل بن عاديا قال لما حضرت الأوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر الوفاة اجتمع إليه قومه من غسان فقالوا إنه قد حضرك من أمر الله ما ترى وكنا نأمرك بالتزوج في شبابك فتأبى وهذا أخوك الخزرج له خمسة بنين وليس لك ولد غير مالك فقال لن يهلك هالك ترك مثل مالك إن الذي يخرج النار من الوثيمة ( 1 ) قادر أن يجعل لمالك نسلا ورجالا بسلا وكل إلى الموت ثم أقبل على مالك وقال أي بني المنية ولا الدنيةالعقاب ولا العتاب التجلد ولا التلدد ( 2 ) القبر خير من الفقر إنه من قل ذل ومن كر فر من كرم الكريم الدفع عن الحريم ولدهر يومان فيوم لك ويوم عليك فإذا كان لك فلا تبطر وإذا كان عليك فاصطبر وكلاهما سينحسر ليس يثبت منهما الملك المتوج ولا اللئيم المعلهج سلم ليومك حياك ربك ثم أنشأ يقول ... شهدت السبايا يوم آل محرق ... وأدرك أمري صيحة الله في الحجر ... فلم أر ذا ملك من الناس واحدا ... ولا سواقة إلا إلى الموت والقبر ... فعل الذي أردى ثمودا وجرهما ... سيعقب لي نسلا على آخر الدهر (2/331)
تقربهم من آل عمرو بن عامر ... عيون لدى الداعي إلى طلب الوتر ... فإن لم تك الأيام أبلين جدتي ... وشيبن رأسي والمشيب مع العمر ... فإن لنا ربا علا فوق عرشه ... عليما بما يأتي من الخير والشر ... ألم يأت قومي أن لله دعوة ... يفوز بها أهل السعادة والبر ... إذا بعث المبعوث من آل غالب ... بمكة فيما بين مكة والحجر ... هنالك فابغوا نصره ببلادكم ... بني عامر إن السعادة في النصر ...
قال ثم قضى من ساعته
باب في هواتف الجان
وقد تقدم كلام شق وسطيح لربيعة بن نصر ملك اليمن في البشارة بوجود رسول الله صلى الله عليه و سلم رسول ذكي يأتي إليه الوحي من قبل العلي وسيأتي في المولد قول سطيح لعبد المسيح إذا كثرت التلاوة وغاضت بحيرة ساوة وجاء صاحب الهراوة يعني بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم كما سيأتي بيانه مفصلا ( 1 )
وقال البخاري حدثنا يحيى بن سليمان الجعفي حدثني ابن وهب حدثني عمرو هو محمد بن زيد أن سالما حدثه عن عبدالله بن عمر قال ما سمعت عمر يقول لشيء قط إني لأظنه إلا كان كما يظن بينما عمر بن الخطاب جالس إذ مر به رجل جميل فقال لقد أخطأ ظني أو إن هذا على دينه في الجاهلية أو لقد كان كاهنهم علي الرجل فدعى به فقال له ذلك فنال ما رأيت كاليوم استقبل به رجلا مسلما قال فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني قال كنت كاهنهم في الجاهلية قال فما أعجب ما جاءتك به جنيتك قال بينما أنا في السوق يوما جاءتني أعرف فيها الفزع فقالت ... ألم تر الجن وإبلاسها ... ويلسها من بعد أنكاسها ... ولحوقها بالقلاص وأحلاسها ...
قال عمر صدق بينا أنا نائم عند آلهتهم جاء رجل بعجل فذبحه فصرخ به صارخ لم أسمع صارخا قط أشد صوتا منه يقول يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول لا إله إلا الله فوثب القوم فقلت لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا ثم نادى يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول لا إله إلا الله فقمت فما نشبنا أن قيل هذا نبي تفرد به البخاري
وهذا الرجل هو سواد بن قارب الأردي ويقال السدوسي من أهل السراة من جبال البلقاء (2/332)
له صحبة ووفادة قال أبو حاتم وابن منده روى عنه سعيد بن جبير وأبو جعفر محمد بن علي وقال البخاري له صحبة وهكذا ذكره في أسماء الصحابة أحمد بن روح البرذعي الحافظ والدارقطني وغيرهما وقال الحافظ عبدالغني بن سعيد المصري سواد بن قارب بالتخفيف وقال عثمان الوقاصي عن محمد بن كعب القرظي كان من أشراف أهل اليمن ذكره أبو نعيم في الدلائل وقد روى حديثه من وجوه أخر مطولة بالبسط من رواية البخاري
وقال محمد بن اسحاق حدثني من لا اتهم عن عبدالله بن كعب مولى عثمان بن عفان أنه حدث أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بينما هو جالس في الناس في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ أقبل رجل من العرب داخل المسجد يريد عمر بن الخطاب فلما نظر إليه عمر قال إن الرجل لعلى شركه ما فارقه بعد أو لقد كان كاهنا في الجاهلية فسلم عليه الرجل ثم جلس فقال له عمر هل أسلمت قال نعم يا أمير المؤمنين قال فهل كنت كاهنا في الجاهلية فقال الرجل سبحان الله يا أمير المؤمنين لقد خلت في واستقبلتني بأمر ما أراك قلته لأحد من رعيتك منذ وليت ما وليت فقال عمر اللهم غفرا قد كنا في الجاهلية على شر من هذا نعبد الأصنام ونعتنق الأوثان حتى أكرمنا الله برسوله وبالإسلام قال نعم والله يا أمير المؤمنين لقد كنت كاهنا في الجاهلية قال فأخبرني ما جاء به صاحبك قال جاءني قبل الإسلام بشهر أو شيعه ( 1 ) فقال ألم تر إلى الجن وابلاسها واياسها من دينها ولحوقها بالقلاص واحلاسها
قال ابن اسحاق هذا الكلام سجع ليس بشعر قال عبدالله بن كعب
فقال عمر عند ذلك يحدث الناس والله إني لعند وثن من أوثان الجاهلية في نفر من قريش قد ذبح له رجل من العرب عجلا فنحن ننتظر قسمه أن يقسم لنا منه إذ سمعت من جوف العجل صوتا ما سمعت صوتا قط أشد منه وذلك قبل الإسلام بشهر أو شيعه يقول يا ذريح أمر نجيح رجل يصيح يقول لا إله إلا الله قال ابن هشام ويقال رجل يصيح بلسان فصيح يقول لا إله إلا الله قال وأنشدني بعض أهل العلم بالشعر ... عجبت للجن وابلاسها ... وشدها العيس بأحلاسها ... تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمنو الجن كأنجاسها ...
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي حدثنا يحيى بن حجر بن النعمان الشامي حدثنا علي بن منصور الأنباري عن محمد بن عبدالرحمن الوقاصي عن محمد بن كعب القرظي قال بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات يوم جالس إذ مر به رجل فقيل يا أمير المؤمنين أتعرف هذا المار قال ومن هذا قالوا هذا سواد بن قارب الذي أتاه رئيه بظهور رسول الله صلى الله عليه و سلم قال فأرسل إليه عمر فقال له أنت سواد (2/333)
بن قارب قال نعم قال فأنت على ما كنت عليه من كهانتك قال فغضب وقال ما استقبلني بهذا أحد منذ أسلمت يا أمير المؤمنين فقال عمر يا سبحان الله ما كنا عليه من الشرك أعظم مما كنت عليه من كهانتك فأخبرني ما أنبأك رئيك بظهور رسول الله صلى الله عليه و سلم قال نعم يا أمير المؤمنين بينما أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان إذ أتاني رئي فضربني برجله وقال قم يا سواد بن قارب واسمع مقالتي واعقل إن كنت تعقل إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وإلى عبادته ثم أنشأ يقول ... عجبت للجن وتطلابها ... وشدها العيس بأقتابها ... تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما صادق الجن ككذابها ... فارحل إلى الصفوة من هاشم ... ليس قداماها كأذنابها ...
قال قلت دعني أنام فأني أمسيت ناعسا قال فلما كانت الليلة الثانية أتاني فضربني برجله وقال قم يا سواد بن قارب واسمع مقالتي واعقل إن كنت تعقل إنه بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وإلى عبادته ثم أنشأ يقول ... عجبت للجن وتحيارها ... وشدها العيس بأكوارها ... تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمنو الجن ككفارها ... فارحل إلى الصفوة من هاشم ... بين روابيها وأحجارها ...
قال قل دعني أنام فإني أمسيت ناعسا فلما كانت الليلة الثالثة أتاني فضربني برجله وقال قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي واعقل إن كنت تعقل إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وإلى عبادته ثم أنشأ يقول ... عجبت للجن وتحساسها ... وشدها العيس بأحلاسها ... تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما خير الجن كأنجاسها ... فارحل إلى الصفوة من هاشم ... وآسم بعينيك إلى راسها ...
قال فقمت وقلت قد امتحن الله قلبي فرحلت ناقتي ثم أتيت المدينة يعني مكة فإذا رسول الله صلى الله عليه و سلم في أصحابه فدنوت فقلت اسمع مقالتي يا رسول الله قال هات فأنشأت ... أتاني نجيي بعد هدء ورقدة ... ولم يك فيما قد تلوت بكاذب ... ثلاث ليال قوله كل ليلة ... أتاك رسول من لؤي بن غالب ... فشمرت عن ذيلي الأزار ووسطت ... بي الدعلب الوجناء غبر السباسب ... فأشهد أن الله لا شيء غيره ... وأنك مأمون على كل غالب ... وأنك أدنى المرسلين وسيلة ... إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب (2/334)
فمرنا بما يأتيك يا خير من مشى ... وإن كان فيما جاء شيب الذوائب ... وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... سواك بمغن عن سواد بن قارب ...
قال ففرح رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه بمقالتي فرحا شديدا حتى رؤى الفرح في وجوههم قال فوثب إليه عمر بن الخطاب فالتزمه وقال قد كنت أشتهي أن أسمع هذا الحديث منك فهل يأتيك رئيك اليوم قال أما منذ قرأت القرآن فلا ونعم العوض كتاب الله من الجن ثم قال عمر كنا يوما في حي من قريش يقال لهم آل ذريح وقد ذبحوا عجلا لهم والجزار يعالجه إذ سمعنا صوتا من جوف العجل ولا نرى شيئا قال يا آل ذريح أمر نجيح صائح يصيح بلسان فصيح يشهد أن لاإله إلا الله وهذا منقطع من هذا الوجه ويشهد له رواية البخاري وقد تساعدوا على أن السامع الصوت من العجل هو عمر بن الخطاب والله أعلم
وقال الحافظ أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتابه الذي جمعه في هواتف الجان حدثنا أبو موسى عمران بن موسى المؤدب حدثنا محمد بن عمران بن محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى حدثنا سعيد بن عبيدالله الوصابي عن أبيه عن أبي جعفر محمد بن علي قال دخل سواد بن قارب السدوسي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال نشدتك بالله يا سواد بن قارب هل تحسن اليوم من كهانتك شيئا فقال سبحان الله يا أمير المؤمنين ما استقبلت أحدا من جلسائك بمثل ما استقبلتني به قال سبحان الله يا سواد ما كنا عليه من شركنا أعظم مما كنت عليه من كهانتك والله يا سواد لقد بلغني عنك حديث إنه لعجيب من العجب قال إي والله يا أمير المؤمنين إنه لعجب من العجب قال فحدثنيه قال كنت كاهنا في الجاهلية فبينا أنا ذات ليلة نائم إذ أتاني نجي فضربني برجله ثم قال يا سواد اسمع أقل لك قلت هات قال ... عجبت للجن وأنجاسها ( 1 ) ... ورحلها العيس بأحلاسها ... تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمنوها مثل أرجاسها ... فارحل إلى الصفوة من هاشم ... واسم بعينيك إلى رأسها ...
قال فنمت ولم أحفل بقوله شيئا فلما كانت الليلة الثانية أتاني فضربني برجله ثم قال لي قم يا سواد بن قارب اسمع أقل لك قلت هات قال ... عجبت للجن وتطلابها ... وشدها العيس بأقتابها ... تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما صادق الجن ككذابها ... فارحل إلى الصفوة من هاشم ... ليس المقاديم كأذنابها (2/335)
قال فحرك قوله مني شيئا ونمت فلما كانت الليلة الثالثة أتاني فضربني برجله ثم قال يا سواد بن قارب أتعقل أم لا تعقل قلت وما ذاك قال ظهر بمكة نبي يدعو إلى عبادة ربه فالحق به اسمع أقل لك قلت هات قال ... عجبت للجن وتنفارها ... ورحلها العيس بأكوارها ... تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمنو الجن ككفارها ... فارحل إلى الصفوة من هاشم ... بين روابيها وأحجارها ...
قال فعلمت أن الله قد أراد بي خيرا فقمت إلى بردة لي ففتقتها ولبستها ووضعت رجلي في غرز ركاب الناقة وأقبلت حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه و سلم فعرض علي الإسلام فأسلمت وأخبرته الخبر فقال إذا اجتمع المسلمون فأخبرهم فلما اجتمع المسلمو قمت فقلت ... أتاني نجي بعد هدء ورقدة ... ولم يك فيما قد بلوت بكاذب ... ثلاث ليال قوله كل ليلة ... أتاك رسول من لؤي بن غالب ... فشمرت عن ذيلي الأزار ووسطت ... بي الدعلب الوجناء غبر السباسب ... وأعلم أن الله لا رب غيره ... وأنك مأمون على كل غائب ... وأنك أدنى المرسلين وسيلة ... إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب ... فمرنا بما يأتيك يا خير مرسل ... وإن كان فيما جاء شيب الذوائب ( 2 ) ...
قال فسر المسلمون بذلك فقال عمر هل تحس اليوم منها بشيء قال أما إذ علمني الله القرآن فلا وقد رواه محمد بن السائب الكلبي عن أبيه عن عمر بن حفص قال لما ورد سواد بن قارب على عمر قال يا سواد بن قارب ما بقي من كهانتك فغضب وقال ما أظنك يا أمير المؤمنين استقبلت أحدا من العرب بمثل هذا فلما رأى ما في وجهه من الغضب قال أنظر سواد للذي كنا عليه قبل اليوم من الشرك أعظم ثم قال يا سواد حدثني حديثا كنت أشتهي أسمعه منك قال نعم بين أنا في ابل لي بالسراة ليلا وأنا نائم وكان لي نجي من الجن أتاني فضربني برجله فقال لي قم يا سواد بن قارب فقد ظهر بتهامة نبي يدعو إلى الحق وإلى طريق مستقيم فذكر القصة كما تقدم وزاد في آخر الشعر ... وكن لي شفيعا يوم لا ذو قرابة ... سواك بمغن عن سواد بن قارب ( 3 ) (2/336)
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم سر في قومك وقل هذا الشعر فيهم
ورواه الحافظ ابن عساكر من طريق سليمان بن عبدالرحمن عن الحكم بن يعلى بن عطاء المحاربي عن عباد بن عبدالصمد عن سعيد بن جبير قال أخبرني سواد بن قارب الأزدي قال كنت نائما على جبل من جبال السراة فأتاني آت فضربني برجله وذكر القصة أيضا
ورواه أيضا من طريق محمد بن البراء عن أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن البراء قال قال سواد بن قارب كنت نازلا بالهند فجاءني رئي ذات ليلة فذكر القصة وقال بعد انشاد الشعر الأخير فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى بدت نواجذه وقال أفلحت يا سواد
وقال أبو نعيم في كتاب دلائل النبوة ( 1 ) حدثنا عبدالله بن محمد بن جعفر حدثنا عبدالرحمن بن الحسن علي بن حرب حدثنا أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب عن أبيه عن عبدالله العماني قال كان منا رجل يقال له مازن بن العضوب يسدن صنما بقرية يقال لها سمايا من عمان وكانت تعظمه بنو الصامت وبنو حطامة ومهرة وهم أخوال مازن أمه زينب بنت عبدالله بن ربيعة بن خويص ( 2 ) أحد بني نمران قال مازن فعترنا يوما عند الصنم عتيرة وهي الذبيحة ( 3 ) فسمعت صوتا من الصنم يقول يا مازن اسمع تسر ظهر خير وبطن شر بعث نبي من مضر بدين الله الأكبر فدع نحيتا من حجر تسلم من حر سقر قال ففزعت لذلك فزعا شديدا ثم عترنا بعد أيام عتيرة أخرى فسمعت صوتا من الصنم يقول أقبل إلي أقبل تسمع ما لا تجهل هذا نبي مرسل جاء بحق منزل فآمن به كي تعدل عن حر نار تشعل وقودها الجندل قال مازن فقلت إن هذا لعجب وإن هذا لخير يراد بي وقدم علينا رجل من الحجاز فقلت ما الخبر وراءك فقال ظهر رجل يقال له أحمد يقول لمن أتاه أجيبوا داعي الله فقلت هذا نبأ ما سمعت فثرت إلى الصنم فكسرته جذاذا وركبت راحلتي حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه و سلم فشرح الله صدري للإسلام فأسلمت وقلت ... كسرت باجرا ( 4 ) أجذاذا وكان لنا ... ربا نطيف به ضلا بتضلال ... فالهاشمي هدانا من ضلالتنا ... ولم يكن دينه مني على بال ... يا راكبا بلغن عمرا وإخوتها ... إني لمن قال ربي باجر قالي ...
يعني يعمرو الصامت واخوتها حطامة فقلت يا رسول الله إني امرؤ مولع بالطرب وبالهلوك من النساء وشرب الخمر وألحت علينا السنون فاذهبن الأموال واهزلن السراري وليس لي ولد فادعو (2/337)
الله أن يذهب عني ما أجد ويأتينا بالحيا ويهب لي ولدا فقال النبي صلى الله عليه و سلم اللهم أبدله بالطرب قراءة القرآن وبالحرام الحلال وبالاثم وبالعهر عفة وآته بالحيا وهب له ولدا قال فاذهب الله عني ما أجد واخصبت عمان وتزوجت أربع حرائر وحفظت شطر القرآن ووهب لي حيان بن مازن وأنشأ يقول ... إليك رسول الله خبت مطيتي ... تجوب الفيافي من عمان إلى العرج ... لتشفع لي يا خير من وطىء الحصى ... فيغفر لي ربي فأرجع بالفلج ... إلى معشر خالفت في الله دينهم ... فلا رأيهم رأيي ولا شرجهم شرجي ... وكنت امرءا بالخمر والعهر مولعا ... شبابي حتى آذن الجسم بالنهج ... فبدلني بالخمر خوفا وخشية ... وبالعهر إحصانا فحصن لي فرجي ... فأصبحت همي في الجهاد ونيتي ... فلله ما صومي ولله ما حجي ...
قال فلما أتيت قومي أنبوني وشتموني وأمروا شاعرا لهم فهجاني فقلت إن رددت عليه فإنما أهجو نفسي فرحلت عنهم فأتتني منهم زلفة عظيمة وكنت القيم بأمورهم فقالوا يا ابن عم عبنا عليك أمرا وكرهنا ذلك فإن أبيت ذلك فارجع وقم بأمورنا وشأنك وما تدين فرجعت معهم وقلت ... لبغضكم عندنا مر مذاقته ... وبغضنا عندكم يا قومنا لبن ... لا يفطن الدهر إن بثت معائبكم ... وكلكم حين يثني عيبنا فطن ... شاعرنا مفحم عنكم وشاعركم ... في حدبنا مبلغ في شتمنا لسن ... ما في القلوب عليكم فاعلموا وغر ... وفي قلوبكم البغضاء والإحن ...
قال مازن فهداهم الله بعد إلى الاسلام جميعا
وروى الحافظ أبو نعيم من حديث عبدالله بن محمد بن عقيل عن جابر بن عبدالله قال إن أول خبر كان بالمدينة بمبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم أن امرأة بالمدينة كان لها تابع من الجن فجاء في صورة طائر أبيض فوقع على حائط لهم فقالت له لم لا تنزل إلينا فتحدثنا ونحدثك وتخبرنا ونخبرك فقال لها إنه قد بعث نبي بمكة حرم الزنا ومنع منا القرار
وقال الواقدي حدثني عبدالرحمن بن عبدالعزيز عن الزهري عن علي بن الحسين قال إن أول خبر قدم المدينة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ان امرأة تدعى فاطمة كان لها تابع فجاءها ذات يوم فقام على الجدار فقالت ألا تنزل فقال لا إنه قد بعث الرسول الذي حرم الزنا
وأرسله بعض التابعين أيضا وسماه بابن لوذان وذكر أنه كان قد غاب عنها مدة ثم لما قدم عاتبته فقال إني جئت الرسول فسمعته يحرم الزنا فعليك السلام
وقال الواقدي حدثني محمد بن صالح عن عاصم بن عمر بن قتادة قال قال عثمان بن عفان (2/338)
خرجنا في عسير إلى الشام قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما كنا بأفواه الشام وبها كاهنة فتعرضتنا فقالت أتاني صاحبي فوقف على بابي فقلت ألا تدخل فقال لا سبيل إلى ذلك خرج أحمد وجاء أمر لا يطاق ثم انصرفت فرجعت إلى مكة فوجدت رسول الله صلى الله عليه و سلم قد خرج بمكة يدعو إلى الله عز و جل و
قال الواقدي حدثني محمد بن عبدالله الزهري قال كان الوحي يسمع فلما كان الإسلام منعوا وكانت امرأة من بني أسد يقال لها سعيرة لها تابع من الجن فلما رأى الوحي لا يستطاع أتاها فدخل في صدرها فضج في صدرها فذهب عقلها فجعل يقول من صدرها وضع العناق ومنع الرفاق وجاء أمر لا يطاق وأحمد حرم الزنا
وقال الحافظ أبو بكر الخرائطي حدثنا عبدالله بن محمد البلوي بمصر حدثنا عمارة بن زيد حدثنا عيسى بن يزيد عن صالح بن كيسان عمن حدثه عن مرداس بن قيس السدوسي قال حضرت النبي صلى الله عليه و سلم وقد ذكرت عنده الكهانة وما كان من تغييرها عند مخرجه فقلت يا رسول الله قد كان عندنا في ذلك شيء أخبرك أن جارية منا يقال لها الخلصة لم يعلم عليها إلا خيرا إذا جاءتنا فقالت يا معشر دوس العجب العجب لما أصابني هل علمتم إلا خيرا قلنا وما ذاك قالت إني لفي غنمي إذ غشيتني ظلمة ووجدت كحس الرجل مع المرأة فقد خشيت أن أكون قد حبلت حتى إذا دنت ولادتها وضعت غلاما أغضف له أذنان كأذني الكلب فمكث فينا حتى أنه ليلعب مع الغلمان إذ وثب وثبة وألقى إزاره وصاح بأعلى صوته وجعل يقول يا ويلة يا ويلة يا عولة يا عولة يا ويل غنم يا ويل فهم من قابس النار الخيل والله وراء العقبة فيهن فتيان حسان نجبة قال فركبنا وأخذنا للأداة وقلنا يا ويلك ما ترى فقال هل من جارية طامث فقلنا ومن لنا بها فقال شيخ منا هي والله عندي عفيفة الأم فقلنا فعجلها فأتى بالجارية وطلع الجبل وقال للجارية اطرحي ثوبك واخرجي في وجوههم وقال للقوم اتبعوا أثرها وقال لرجل منا يقال له أحمد بن حابس يا أحمد بن حابس عليك أول فارس فحمل أحمد فطعن أول فارس فصرعه وانهزموا فغنمناهم قال فابتنينا عليهم بيتا وسميناه ذا الخلصة وكان لا يقول لنا شيئا إلا كان كما يقول حتى إذا كان مبعثك يا رسول الله قال لنا يوما يا معشر دوس نزلت بنوا الحارث بن كعب فركبنا فقال لنا أكدسوا الخيل كدسا أحشوا القوم رمسا أنفوهم غدية واشربوا الخمر عشية قال فلقيناهم فهزمونا وغلبونا فرجعنا إليه فقلنا ما حالك وما الذي صنعت بنا فنظرنا إليه وقد احمرت عيناه وانتصبت أذناه وانبرم غضبانا حتى كاد أن ينفطر وقام فركبنا واغتفرنا هذه له ومكثنا بعد ذلك حينا ثم دعانا فقال هل لكم في غزوة تهب لكم عزا وتجعل لكم حرزا ويكون في أيديكم كنزا فقلنا ما أحوجنا إلى ذلك فقال اركبوا فركبنا فقلنا ما تقول فقال بنو الحارث بن مسلمة ثم قال قفوا فوقفنا (2/339)
ثم قال عليكم بفهم ثم قال ليس لكم فيهم دم عليكم بمضرهم أرباب خيل ونعم ثم قال لا رهط دريد بن الصمة قليل العدد وفي الذمة ثم قال لا ولكن عليكم بكعب بن ربيعة وأسكنوها ضيعة عامر بن صعصعة فليكن بهم الوقيعة قال فلقيناهم فهزمونا وفضحونا فرجعنا وقلنا ويلك ماذا تصنع بنا قال ما أدري كذبني الذي كان يصدقني أسجنوني في بيتي ثلاثا ثم ائتوني ففعلنا به ذلك ثم أتيناه بعد ثالثة ففتحنا عنه فإذا هو كأنه حجرة نار فقال يا معشر دوس حرست السماء وخرج خير الأنبياء قلنا أين قال بمكة وأنا ميت فادفنوني في رأس جبل فإني سوف أضطرم نارا وإن تركتموني كنت عليكم عارا فإذا رأيتم اضطرامي وتلهبي فاقذفوني بثلاثة أحجار ثم قولوا مع كل حجر بسمك اللهم فإني أهدى وأطفى قال وإنه مات فاشتعل نار ففعلنا به ما أمر وقد قذفناه بثلاثة أحجار نقول مع كل حجر بسمك اللهم فخمد وطفى وأقمنا حتى قدم علينا الحاج فأخبرونا بمبعثك يا رسول الله غريب جدا وروى الواقدي عن أبيه عن ابن أبي ذئب عن مسلم بن جندب عن النضر بن سفيان الهذلي عن أبيه قال خرجنا في عير لنا إلى الشام فلما كنا بين الزرقا ومعان قد عرسنا من الليل فإذا بفارس يقول وهو بين السماء والأرض أيها النيام هبوا فليس هذا بحين رقاد قد خرج أحمد فطردت الجن كل مطرد ففزعنا ونحن رفقة حزورة كلهم قد سمع بهذا فرجعنا إلى أهلنا فإذا هم يذكرون اختلافا بمكة بين قريش في نبي قد خرج فيهم من بني عبدالمطلب اسمه أحمد ذكره أبو نعيم وقال الخرائطي حدثنا عبدالله بن محمد البلوي بمصر حدثنا عمارة بن زيد حدثني عبدالله بن العلاء حدثني يحيى بن عروة عن أبيه أن نفرا من قريش منهم ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي وزيد بن عمرو بن نفيل وعبدالله بن جحش بن رئاب وعثمان بن الحويرث كانوا عند صنم لهم يجتمعون إليه قد اتخذوا ذلك اليوم من كل سنة عيدا كانوا يعظمونه وينحرون له الجزور ثم يأكلون ويشربون الخمر ويعكفون عليه فدخلوا عليه في الليل فرأوه مكبوبا على وجهه فأنكروا ذلك فأخذوه فردوه إلى حاله فلم يلبث أن انقلب انقلابا عنيفا فأخذوه فردوه إلى حاله فانقلب الثالثة فلما رأوا ذلك اغتموا له وأعظموا ذلك فقال عثمان بن الحويرث ماله قد أكثر التنكس إن هذا لأمر قد حدث وذلك في الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم فجعل عثمان يقول ... أيا صنم العيد الذي صف حوله ... صناديد وفد من بعيد ومن قرب ... تنكست مغلوبا فما ذاك قل لنا ... أذاك سفيه أم تنكست للعتب ... ف كان من ذنب أتينا فإننا ... نبوء بأقرار ونلوي عن الذنب ... وإن كنت مغلوبا ونكست صاغرا ... فما أنت في الأوثان بالسيد الرب ...
قال فأخذوا الصنم فردوه إلى حاله فلما استوى هتف بهم هاتف من الصنم بصوت جهير وهو يقول (2/340)
تردى لمولود أنارت بنوره ... جميع فجاج الأرض في الشرق والغرب ... وخرت له الأوثان طرا وأرعدت ... قلوب ملوك الأرض طرا من الرعب ... ونار جميع الفرس باخت وأظلمت ... وقد بات شاه الفرس في أعظم الكرب ... وصدت عن الكهان بالغيب جنها ... فلا مخبر عنهم بحق ولا كذب ... فيا لقصي ارجعوا عن ضلالكم ... وهبوا إلى الإسلام والمنزل الرحب ...
قال فلما سمعوا ذلك خلصوا نجيا فقال بعضهم لبعض تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض فقالوا أجل فقال لهم ورقة بن نوفل تعلمون والله ما قومكم على دين ولقد اخطئوا الحجة وتركوا دين ابراهيم ما حجر تطيفون به لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضر يا قوم التمسوا لأنفسكم الدين قال فخرجوا عند ذلك يضربون في الأرض ويسألون عن الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام فأما ورقة بن نوفل فتنصر وقرأ الكتب حتى علم علما وأما عثمان بن الحويرث فسار إلى قيصر فتنصر وحسنت منزلته عنده وأما زيد بن عمرو بن نفيل فأراد الخروج فحبس ثم إنه خرج بعد ذلك فضرب في الأرض حتى بلغ الرقة من أرض الجزيرة فلقي بها راهبا عالما فأخبره بالذي يطلب فقال له الراهب إنك لتطلب دينا ما تجد من يحملك عليه ولكن قد أظلك زمان نبي يخرج من بلدك يبعث بدين الحنيفية فلما قال له ذلك رجع يريد مكة فغارت عليه لخم فقتلوه وأما عبدالله بن جحش فأقام بمكة حتى بعث النبي صلى الله عليه و سلم ثم خرج مع من خرج إلى أرض الحبشة فلما صار بها تنصر وفارق الإسلام فكان بها حتى هلك هنالك نصرانيا تقدم في ترجمة زيد بن عمر بن نفيل له شاهد
وقد قال الخرائطي حدثنا أحمد بن اسحاق بن صالح أبو بكر الوراق حدثنا عمرو بن عثمان حدثني أبي حدثنا عبدالله بن عبدالعزيز حدثني محمد بن عبد العزيز عن الزهري عن عبدالرحمن بن أنس السلمي عن العباس بن مرداس أنه كان يعر في لقاح له نصف النهار إذ طلعت عليه نعامة بيضاء عليها راكب عليه ثياب بياض مثل اللبن فقال يا عباس بن مرداس ألم تر أن السماء قد كفت أحراسها وأن الحرب تجرعت أنفاسها وأن الخيل وضعت أحلاسها وأن الذي نزل بالبر والتقوى يوم الإثنين ليلة الثلاثاء صاحب الناقة القصوى قال فرجعت مرعوبا قد راعني ما رأيت وسمعت حتى جئت وثنا لنا يدعى الضماد وكنا نعبده ونكلم من جوفه فكنست ما حوله ثم تمسحت به وقبلته فإذا صائح من جوفه يقول ... قل للقبائل من سليم كلها ... هلك الضماد وفاز أهل المسجد ... هلك الضماد وكان يعبد مرة ... قبل الصلاة مع النبي محمد ... إن الذي ورث النبوة والهدى ... بعد ابن مريم من قريش مهتد ...
قال فخرجت مرعوبا حتى أتيت قومي فقصصت عليهم القصة وأخبرتهم الخبر وخرجت في ثلاثمائة (2/341)
من قومي بني حارثة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو بالمدينة فدخلنا المسجد فلما رآني رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لي يا عباس كيف كان اسلامك فقصصت عليه القصة قال فسر بذلك وأسلمت أنا وقومي ورواه الحافظ أبو نعيم في الدلائل من حديث أبي بكر بن أبي عاصم عن عمرو بن عثمان به ثم رواه أيضا من طريق الأصمعي حدثني الوصافي عن منصور بن المعتمر عن قبيصة بن عمرو بن اسحاق الخزاعي عن العباس بن مرداس السلمي قال أول اسلامي أن مرداسا أبى لما حضرته الوفاة أوصاني بصنم له يقال ضماذ فجعلته في بيت وجعلت آتيه كل يوم مرة فلما ظهر النبي صلى الله عليه و سلم سمعت صوتا مرسلا في جوف الليل راعني فوثبت إلى ضماد مستغيثا وإذا بالصوت من جوفه وهو يقول ... قل للقبيلة من سليم كلها ... هلك الأنيس وعاش أهل المسجد ... أودى ضماد وكان يعبد مرة ... قبل الكتاب إلى النبي محمد ... إن الذي ورث النبوة والهدى ... بعد ابن مريم من قريش مهتد ...
قال فكتمته الناس فلما رجع الناس من الأحزاب بينا أنا في ابلي بطرف العقيق من ذات عرق راقدا سمعت صوتا وإذا برجل على جناح نعامة وهو يقول النور الذي وقع ليلة الثلاثاء مع صاحب الناقة العضباء في ديار اخوان بني العنقاء فأجابه هاتف من شماله وهو يقول ... بشر الجن وابلاسها ... إن وضعت المطي أحلاسها ... وكلأت السماء أحراسها ...
قال فوثبت مذعورا وعلمت أن محمدا مرسل فركبت فرسي واحتثثت السير حتى انتهيت إليه فبايعته ثم انصرفت إلى ضماد فأحرقته بالنار ثم رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأنشدته شعرا أقول فيه ... لعمرك أني يوم أجعل جاهلا ... ضمادا لرب العالمين مشاركا ... وتركي رسول الله والأوس حوله ... أولئك أنصار له ما أولئكا ... كتارك سهل الأرض والحزن يبتغي ... ليسلك في وعث الأمور المسالكا ... فآمنت بالله الذي أنا عبده ... وخالفت من أمسى يريد المهالكا ... ووجهت وجهي نحو مكة قاصدا ... أبايع نبي الأكرمين المباركا ... نبي أتانا بعد عيسى بناطق ... من الحق فيه الفصل فيه كذلكا ... أمين على القرآن أول شافع ... وأول مبعوث يجيب الملائكا ... تلافى عرى الإسلام بعد انتقاضها ... فأحكمها حتى أقام المناسكا ... عنيتك يا خير البرية كلها ... توسطت في الفرعين والمجد مالكا ... وأنت المصفى من قريش إذا سمت ... على ضمرها تبقى القرون المباركا (2/342)
إذا انتسب الحيان كعب ومالك ... وجدناك محضا والنساء العواركا ...
قال الخرائطي وحدثنا عبدالله بن محمد البلوي بمصر حدثنا عمارة بن زيد حدثنا اسحاق بن بشر وسلمة بن الفضل عن محمد بن اسحاق حدثني شيخ من الأنصار يقال له عبدالله بن محمود من آل محمد بن مسلمة قال بلغني أن رجالا من خثعم كانوا يقولون ان مما دعانا إلى الإسلام انا كنا قوما نعبد الأوثان فبينا نحن ذات يوم عند وثن لنا إذ أقبل نفر يتقاضون إليه يرجون الفرج من عنده لشيء شجر بينهم إذ هتف بهم هاتف يقول ... يا أيها الناس ذوو الأجسام ... من بين أشياخ إلى غلام ... ما أنتم وطائش الأحلام ... ومسند الحكم إلى الأصنام ... أكلكم في حيرة نيام ... أم لا ترون ما الذي أمامي ... من ساطع يجلو دجى الظلام ... قد لاح للناظر من تهام ... ذاك نبي سيد الأنام ... قد جاء بعد الكفر بالإسلام ... أكرمه الرحمن من إمام ... ومن رسول صادق الكلام ... أعدل ذي حكم من الأحكام ... يأمر بالصلاة والصيام ... والبر والصلات للأرحام ... ويزجر الناس عن الآثام ... والرجس والأوثان والحرام ... من هاشم في ذروة السنام ... مستعلنا في البلد الحرام ...
قال فلما سمعنا ذلك تفرقنا عنه وآتينا النبي صلى الله عليه و سلم فأسلمنا
وقال الخرائطي حدثنا عبدالله البلوي حدثنا عمارة حدثني عبيدالله بن العلاء حدثنا محمد بن عكبر عن سعيد بن جبير أن رجلا من بني تميم يقال له رافع بن عمير وكان أهدى الناس للطريق وأسراهم بليل وأهجمهم على هول وكانت العرب تسميه لذلك دعموص العرب لهدايته وجراوته على السير فذكر عن بدء إسلامه قال إني لأسير برمل عالج ذات ليلة إذ غلبني النوم فنزلت عن راحلتي ونختها وتوسدت ذراعها ونمت وقد تعوذت قبل نومي فقلت أعوذ بعظيم هذا الوادي من الجن من أن أوذى أو أهاج فرأيت في منامي رجلا شابا يرصد ناقتي وبيده حربة يريد أن يضعها في نحرها فانتبهت لذلك فزعا فنظرت يمينا وشمالا فلم أر شيئا فقلت هذا حلم ثم عدت فغفوت فرأيت في منامي مثل رؤياي الأولى فانتبهت فدرت حول ناقتي فلم أر شيئا وإذا ناقتي ترعد ثم غفوت فرأيت مثل ذلك فانتبهت فرأيت ناقتي تضطرب والتفت فإذا أنا برجل شاب كالذي رأيت في المنام بيده حربة ورجل شيخ ممسك بيده يرده عنها وهو يقول (2/343)
يا مالك بن مهلهل بن دثار ... مهلا فدى لك مئزري وإزاري ... عن ناقة الأنسي لا تعرض لها ... واختر بها ما شئت من أثواري ... ولقد بدا لي منك ما لم أحتسب ... ألا رعيت قرابتي وذماري ... تسمو إليه بحربة مسمومة ... تبا لفعلك يا أبا الغفار ... لولا الحياء وأن أهلك جيرة ... لعلمت ما كشفت من أخباري ...
قال فأجابه الشاب وهو يقول ... أأردت أن تعلو وتخفض ذكرنا ... في غير مزرية أبا العيزار ... ما كان فيهم سيد فيما مضى ... إن الخيار همو بنو الأخيار ... فاقصد لقصدك يا معكبر إنما ... كان المجير مهلهل بن دثار ...
قال فبينما هما يتنازعان إذ طلعت ثلاثة أثوار من الوحش فقال الشيخ للفتى قم يا ابن أخت فخذ أيها شئت فداء لناقة جاري الأنسي فقام الفتى فأخذ منها ثورا وانصرف ثم التفت إلى الشيخ فقال يا هذا إذا نزلت واديا من الأودية فخفت هوله فقل أعوذ بالله رب محمد من هول هذا الوادي ولا تعذ بأحد من الجن فقد بطل أمرها قال فقلت له ومن محمد هذا قال نبي عرب لا شرقي ولا غربي بعث يوم الإثنين قلت وأين مسكنه قال يثرب ذات النخل قال فركبت راحلتي حين برق لي الصبح وجددت السير حتى تقحمت المدينة فرآني رسول الله صلى الله عليه و سلم فحدثني بحديث قبل أن أذكر له منه شيئا ودعاني إلى الاسلام فأسلمت قال سعيد بن جبير وكنا نرى أنه هو الذي أنزل الله فيه وإنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا وروى الخرائطي من طريق ابراهيم بن اسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة عن داود بن الحسين عن عكرمة عن ابن عباس عن علي قال إذا كنت بواد تخاف السبع فقل أعوذ بدانيال والجب من شر الأسد وروى البلوى عن عمارة بن زيد عن ابراهيم بن سعد عن محمد بن اسحاق حدثني يحيى بن عبدالله بن الحارث عن أبيه عن ابن عباس قصة قتال علي الجن بالبئر ذات العلم التي بالجحفة حين بعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم يستقي لهم الماء فأرادوا منعه وقطعوا الدلو فنزل إليهم وهي قصة مطولة منكرة جدا والله أعلم
وقال الخرائطي حدثني أبو الحارث محمد بن مصعب الدمشقي وغيره حدثنا سليمان بن بنت شرحبيل الدمشقي حدثنا عبدالقدوس بن الحجاج حدثنا خالد بن سعيد عن الشعبي عن رجل قال كنت في مجلس عمر بن الخطاب وعنده جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم يتذاكرون فضائل القرآن فقال بعضهم خواتيم سورة النحل وقال بعضهم سورة يس وقال علي فأين أنتم عن فضيلة آية الكرسي أما إنها سبعون كلمة في كل كلمة بركة قال وفي القوم عمرو بن معدي كرب لا يحير جوابا فقال أين أنتم عن (2/344)
بسم الله الرحمن الرحيم فقال عمر حدثنا يا أبا ثور قال بينا أنا في الجاهلية إذ جهدني الجوع فأقحمت فرسي في البرية فما أصبت الا بيض النعام فبينا أنا أسير إذا أنا بشيخ عربي في خيمة وإلى جانبه جارية كأنها شمس طالعة ومعه غنيمات له فقلت له استأسر ثكلتك أمك فرفع رأسه إلي وقال يا فتى إن أردت قرى فانزل وإن أردت معونة اعناك فقلت له أستأسر فقال ... عرضنا عليك النزل منا تكرما ... فلم ترعوي جهلا كفعل الأشائم ... وجئت ببهتان وزور ودون ما ... تمنيته بالبيض حز الغلاصم ...
قال ووثب إلي وثبة وهو يقول بسم الرحمن الرحمن الرحيم فكأني مثلت تحته ثم قال اقتلك أم أخلي عنك قلت بل خل عني قال فخلى عني ثم إن نفسي جاذبتني بالمعاودة فقلت استأسر ثكلتك أمك فقال ... ببسم الله والرحمن فزنا ... هنالك والرحيم به قهرنا ... وما تغني جلادة ذي حفاظ ... إذا يوما لمعركة برزنا ...
ثم وثب لي وثبة كأني مثلت تحته فقال أقتلك أم أخلي عنك قال قلت بل خل عني فخلى عني فانطلقت غير بعيد ثم قلت في نفسي يا عمرو أيقهرك هذا الشيخ والله للموت خير لك من الحياة فرجعت إليه فقلت له استأسر ثكلتك أمك فوثب إلي وثبة وهو يقول بسم الله الرحمن الرحيم فكأني مثلت تحته فقال أقتلك أم أخلي عنك قلت بل خل عني فقال هيهات يا جارية إئتني بالمدية فأتته بالمدية فجز ناصيتي وكانت العرب إذا ظفرت برجل فجزت ناصيته استعبدته فكنت معه أخدمه مدة ثم إنه قال يا عمرو أريد أن تركب معي البرية وليس بي منك وجل فإني ببسم الله الرحمن الرحيم لواثق قال فسرنا حتى أتينا واديا أشبا مهولا مغولا فنادى بأعلى صوته بسم الله الرحمن الرحيم فلم يبق طير في وكره إلا طار ثم أعاد القول فلم يبق سبع في مربضه إلا هرب ثم أعاد الصوت فإذا نحن بحبشي قد خرج علينا من الوادي كالنخلة السحوق فقال لي ياعمرو إذ رأيتنا قد اتحدنا فقل غلبه صاحبي بسم الله الرحمن الرحيم قال فلما رأيتهما قد اتحدا قلت غلبه صاحبي باللات والعزى فلم يصنع الشيخ شيئا فرجع إلي وقال قد علمت أنك قد خالفت قولي قلت أجل ولست بعائد فقال إذا رأيتنا قد اتحدنا فقل غلبه صاحبي ببسم الله الرحمن الرحيم فقلت أجل فلما رأيتهما قد اتحدا قلت غلبه صاحبي ببسم الله الرحمن الرحيم فاتكأ عليه الشيخ فبعجه بسيفه فاشتق بطنه فاستخرج منه شيئا كهيئة القنديل الأسود ثم قال يا عمرو هذا غشه وغله ثم قال أتدري من تلك الجارية قلت لا قال تلك الفارعة بنت السليل الجرهمي من خيار الجن وهؤلاء أهلها بنو عمها يغزونني منهم كل عام رجل ينصرني الله عليه ببسم الله الرحمن الرحيم ثم قال قد رأيت ما كان مني إلى الحبشي وقد غلب علي الجوع فائتني بشيء آكله (2/345)
فأقحمت بفرسي البرية فما أصبت الا بيض النعام فأتيته به فوجدته نائما وإذا تحت رأسه شيء كهيئة الحشبة فاستللته فإذا هو سيف عرضه شبر في سبعةأشبار فضربت ساقيه ضربة أبنت الساقين مع القدمين فاستوى على قفا ظهره وهو يقول قاتلك الله ما أغدرك يا غدار قال عمر ثم ماذا صنعت قلت فلم أزل أضربه بسيفي حتى قطعته إربا إربا قال فوجم لذلك ثم أنشأ يقول ... بالغدر نلت أخا الإسلام عن كثب ... ما إن سمعت كذا في سالف العرب ... والعجم تأنف مما جئته كرما ... تبا لما جئته في السيد الأرب ... إني لأعجب أني نلت قتلته ... أم كيف جازاك عند الذنب لم تنب ... قرم عفا عنك مرات وقد علقت ... بالجسم منك يداه موضع العطب ... لو كنت آخذ في الإسلام ما فعلوا ... في الجاهلية أهل الشرك والصلب ... إذا لنالتك من عدلي مشطبة ... تدعو لذائقها بالويل والحرب ...
قال ثم ما كان من حال الجارية قلت ثم إني أتيت الجارية فلما رأتني قالت ما فعل الشيخ قلت قتله الحبشي فقالت كذبت بل قتلته أنت بغدرك ثم أنشأت تقول ... يا عين جودي للفارس المغوار ... ثم جودي بواكفات غزار ... لا تملي البكاء إذ خانك الدهر ... بواف حقيقة صبار ... وتقي وذي وقار وحلم ... وعديل الفخار يوم الفخار ... لهف نفسي على بقائك عمرو ... أسلمتك الأعمار للأقدار ... ولعمري لو لم ترمه بغدر ... رمت ليثا كصارم بتار ...
قال فأحفظني قولها فاستللت سيفي ودخلت الخيمة لأقتلها فلم أر في الخيمة أحدا فاستقت الماشية وجئت إلى أهلي وهذا أثر عجيب والظاهر أن الشيخ كان من الجان وكان ممن أسلم وتعلم القرآن وفيما تعلمه بسم الله الرحمن الرحيم وكان يتعوذ بها
وقال الخرائطي حدثنا عبدالله بن محمد البلوى حدثنا عمارة بن زيد قال حدثني عبدالله بن العلاء عن هشام بن عروة عن أبيه عن جدته أسماء بنت أبي بكر قالت كان زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل يذكران أنهما أتيا النجاشي بعد رجوع أبرهة من مكة قالا فلما دخلنا عليه قال لنا أصدقاني أيها القرشيان هل ولد فيكم مولود أراد أبوه ذبحه فضرب عليه بالقداح فسلم ونحرت عنه ابل كثيرة قلنا نعم قال فهل لكما علم به ما فعل قلنا تزوج امرأة يقال لها آمنة بنت وهب تركها حاملا وخرج قال فهل تعلمان ولد أم لا قال ورقة بن نوفل أخبرك أيها الملك أني ليلة قد بت عند وثن لنا كنا نطيف به ونعبده إذ سمعت من جوفه هاتفا يقول (2/346)
ولد النبي فذلت الأملاك ... ونأى الضلال وأدبر الإشراك ...
ثم انتكس الصنم على وجهه فقال زيد بن عمرو بن نفيل عندي كخبره أيها الملك قال هات قال أنا في مثل هذه الليلة التي ذكر فيها حديثه خرجت من عند أهلي وهم يذكرون حمل آمنة حتى أتيت جبل أبي قبيس أريد الخلو فيه لأمر رابني إذ رأيت رجلا نزل من السماء له جناحان أخضران فوقف على أبي قبيس ثم أشرف على مكة فقال ذل الشيطان وبطلت الأوثان ولد الأمين ثم نشر ثوبا معه وأهوى به نحو المشرق والمغرب فرأيته قد جلل ما تحت السماء وسطع نور كاد أن يختطف بصري وهالني ما رأيت وخفق الهاتف بجناحيه حتى سقط على الكعبة فسطع له نور أشرقت له تهامة وقال ذكت الأرض وأدت ربيعها وأومأ إلى الأصنام التي كانت على الكعبة فسقطت كلها قال النجاشي ويحكما أخبركما عما أصابني إني لنائم في الليلة التي ذكرتما في قبة وقت خلوتي إذ خرج علي من الأرض عنق ورأس وهو يقول حل الويل بأصحاب الفيل رمتهم طير أبابيل بحجارة من سجيل هلك الأشرم المعتدي المجرم وولد النبي الأمي المكي الحرمي من أجابه سعد ومن أباه عتد ثم دخل الأرض فغاب فذهبت أصيح فلم أطق الكلام ورمت القيام فلم أطق القيام فصرعت القبة بيدي فسمع بذلك أهلي فجاؤني فقلت أحجبوا عني الحبشة فحجبوهم عني ثم أطلق عن لساني ورجلي
وسيأتي إن شاء الله تعالى في قصة المولد رؤيا كسرى في سقوط أربع عشرة شرافة من إيوانه وخمود نيرانه ورؤيا موئذانه وتفسير سطيح لذلك على يدي عبد المسيح وروى الحافظ أبو القاسم بن عساكر في تاريخه في ترجمة الحارث بن هانىء بن المدلج بن المقداد بن زمل بن عمرو العذري عن أبيه عن جده عن أبيه عن زمل بن عمرو العذري قال كان لبني عذرة صنم يقال له حمام وكانوا يعظمونه وكان في بني هند بن حرام بن ضبة بن عبد بن كثير بن عذرة وكان سادنه رجلا يقال له طارق وكانوا يعترون عنده فلما ظهر رسول الله صلى الله عليه و سلم سمعنا صوتا يقول يا بني هند بن حرام ظهر الحق وأودى صمام ودفع الشرك الإسلام قال ففزعنا لذلك وهالنا فمكثنا أياما ثم سمعنا صوتا وهو يقول يا طارق يا طارق بعث النبي الصادق بوحي ناطق صدع صادع بأرض تهامة لناصريه السلامة ولخاذليه الندامة هذا الوداع مني إلى يوم القيامة قال زمل فوقع الصنم لوجهه قال فابتعت راحلة ورحلت حتى أتيت النبي صلى الله عليه و سلم مع نفر من قومي وأنشدته شعرا قلته ... إليك رسول الله أعملت نصها ... وكلفتها حزنا وغورا من الرمل ... لأنصر خير الناس نصرا مؤزرا ... وأعقد حبلا من حبالك في حبلي ... وأشهد أن الله لا شيء غيره ... أدين به ما أثقلت قدمي نعلي (2/347)
قال فأسلمت وبايعته وأخبرناه بما سمعنا فقال ذاك من كلام الجن ثم قال يا معشر العرب إني رسول الله إليكم وإلى الأنام كافة أدعوهم إلى عبادة الله وحده وإني رسوله وعبده وأن تحجوا البيت وتصوموا شهرا من إثني عشر شهرا وهو شهر رمضان فمن أجابني فله الجنة نزلا ومن عصاني كانت النار له منقلبا قال فأسلمنا وعقد لنا لواء وكتب لنا كتابا نسخته بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله لزمل بن عمرو ومن أسلم معه خاصة إني بعثته إلى قومه عامدا فمن أسلم ففي حزب الله ورسوله ومن أبى فله أمان شهرين شهد علي بن أبي طالب ومحمد بن مسلمة الأنصاري ثم قال ابن عساكر غريب جدا وقال سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في مغازيه حدثني محمد بن سعيد يعني عمه قال قال محمد بن المنكدر إنه ذكر لي عن ابن عباس قال هتف هاتف من الجن على أبي قبيس فقال ... قبح الله رأيكم آل فهر ... ما أدق العقول والأفهام ... حين تعصى لمن يعيب عليها ... دين آبائها الحماة الكرام ... حالف الجن جن بصرى عليكم ... ورجال النخيل والآطام ... توشك الخيل أن تردها تهادى ... تقتل القوم في حرام بهام ... هل كريم منكم له نفس حر ... ماجذ الوالدين والأعمام ... ضارب ضربة تكون نكالا ... ورواحا من كربة واغتمام ...
قال ابن عباس فأصبح هذا الشعر حديثا لأهل مكة يتناشدونه بينهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا شيطان يكلم الناس في الأوثان يقال له مسعر والله مخزيه فمكثوا ثلاثة أيام فإذا هاتف يهتف على الجبل يقول
... نحن قتلنا في ثلاث مسعرا ... إذ سفه الجن وسن المنكرا ... قنعته سيفا حساما مشهرا ... بشتمه نبينا المطهرا ...
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا عفريت من الجن اسمه سمج آمن بي سميته عبدالله أخبرني أنه في طلبه ثلاثة أيام فقال علي جزاه الله خيرا يا رسول الله
وقد روى الحافظ أبو نعيم في الدلائل قال حدثنا عبدالله بن محمد بن بن جعفر حدثنا أبو الفضل محمد بن عبدالرحمن بن موسى بن أبي حرب الصفار حدثنا عباس بن الفرج الرياشي حدثنا سليمان بن عبدالعزيز بن أبي ثابت عن أبيه عن عبدالحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن ابن عباس عن سعد بن عبادة قال بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى حضرموت في حاجة قبل الهجرة حتى إذا كنت في بعض الطريق ساعة من الليل فسمعت هاتفا يقول (2/348)
أبا عمرو ناوبني السهود ... وراح النوم وامتنع الهجود ... لذكر عصابة سلفوا وبادوا ... وكل الخلق قصرهم يبيد ... تولوا واردين إلى المنايا ... حياضا ليس منهلها الورود ... مضوا لسبيلهم وبقيت خلفا ... وحيدا ليس يسعفني وحيد ... سدى لا أستطيع علاج أمر ... إذا ما عالج الطفل الوليد ... فلأيا ما بقيت إلى أناس ... وقد باتت بمهلكها ثمود ... وعاد والقرون بذي شعوب ... سواء كلهم إرم حصيد ...
قال ثم صاح به آخر يا خرعب ذهب بك العجب إن العجب كل العجب بين زهرة ويثرب قال وما ذاك يا شاحب قال نبي السلام بعث بخير الكلام إلى جميع الأنام فاخرج من البلد الحرام إلى نخيل وآطام قال ما هذا النبي المرسل والكتاب المنزل والأمي المفضل قال رجل من ولد لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة قال هيهات فات عن هذا سني وذهب عنه زمني لقد رأيتني والنضر بن كنانة نرمي غرضا واحدا ونشرب حلبا باردا ولقد خرجت به من دوحة في غداة شبمة وطلع مع الشمس وغرب معها يروي ما يسمع ويثبت ما يبصر ولئن كان هذا من ولده لقد سل السيف وذهب الخوف ودحض الزنا وهلك الربا قال فأخبرني ما يكون قال ذهبت الضراء والبؤس والمجاعة والشدة والشجاعة الا بقية في خزاعة وذهبت الضراء والبؤس والخلق المنفوس إلا بقية من الخزرج والأوس وذهبت الخيلاء والفخر والنميمة والغدر إلا بقية في بني بكر يعني ابن هوازن وذهب الفعل المندم والعمل المؤتم إلا بقية في خثعم قال أخبرني ما يكون قال إذا غلبت البرة وكظمت الحرة فاخرج من بلاد الهجرة وإذا كف السلام وقطعت الأرحام فاخرج من البلد الحرام قال أخبرني ما يكون قال لولا أذن تسمع وعين تلمع لأخبرتك بما تفزع ثم قال ... لا منام هدأته بنعيم ... يا ابن غوط ولا صباح أتانا ...
قال ثم صرصر صرصرة كأنها صرصرة حبلى فذهب الفجر فذهبت لأنظر فإذا عظاية وثعبان ميتان قال فما علمت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم هاجر إلى المدينة إلا بهذا الحديث ثم رواه عن محمد بن جعفر عن إبراهيم بن علي عن النضر بن سلمة عن حسان بن عبادة بن موسى عن عبدالحميد بن بهرام عن شهر عن ابن عباس عن سعد بن عبادة قال لما بايعنا رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة العقبة خرجت إلى حضر موت لبعض الحاج قال فقضيت حاجتي ثم أقبلت حتى إذا كنت ببعض الطريق نمت ففزعت من الليل بصائح يقول ... أبا عمرو ناوبني السهود ... وراح النوم وانقطع الهجود (2/349)
وذكر مثله بطوله
وقال أبو نعيم حدثنا محمد بن جعفر حدثنا ابراهيم بن علي حدثنا النضر بن سلمة حدثنا أبو غزية محمد بن موسى عن العطاف بن خالد الوصابي عن خالد بن سعيد عن أبيه قال سمعت تميما الداري يقول كنت بالشام حين بعث النبي صلى الله عليه و سلم فخرجت لبعض حاجتي فأدركني الليل فقلت أنا في جوار عظيم هذا الوادي الليلة قال فلما أخذت مضجعي إذا أنا بمناد ينادي لا أراه عذبا لله فإن الجن لا تجير أحدا على الله فقلت أيم الله تقول فقال قد خرج رسول الأميين رسول الله وصلينا خلفه بالحجون فأسلمنا واتبعناه وذهب كيد الجن ورميت بالشهب فانطلق إلى محمد رسول رب العالمين فأسلم قال تميم فلما أصبحت ذهبت إلى دير أيوب فسألت راهبا وأخبرته الخبر فقال الراهب قد صدقوك يخرج من الحرم ومهاجره الحرم وهو خير الأنبياء فلا تسبق إليه قال تميم فتكلفت الشخوص حتى جئت رسول الله صلى الله عليه و سلم فأسلمت
وقال حاتم بن اسماعيل عن عبدالله بن يزيد الهذلي عن عبدالله بن ساعدة الهذلي عن أبيه قال كنا عند صنمنا سواع وقد جلبنا إليه غنما لنا مائتي شاة قد أصابها جرب فأدنيناها منه لنطلب بركته فسمعت مناديا من جوف الصنم ينادي قد ذهب كيد الجن ورمينا بالشهب لنبي اسمه أحمد قال فقلت غويت والله فصدقت وجه غنمي منجدا إلى أهلي فرأيت رجلا فخبرني بظهور النبي صلى الله عليه و سلم ذكره أبو نعيم هكذا معلقا ثم قال حدثنا عمر بن محمد بن جعفر حدثنا إبراهيم بن السندي حدثنا النضر بن سلمة حدثنا محمد بن مسلمة المخزومي حدثنا يحيى بن سليمان عن حكيم بن عطاء الظفري من بني سليم من ولد راشد بن عبد ربه عن أبيه عن جده عن راشد بن عبد ربه قال كان الصنم الذي يقال له سواع بالمعلاة من رهط تدين له هذيل وبنو ظفر بن سليم فأرسلت بنو ظفر راشد بن عبد ربه بهدية من سليم إلى سواع قال راشد فألقيت مع الفجر إلى صنم قبل صنم سواع فإذا صارخ يصرخ من جوفه العجب كل العجب من خروج نبي من بني عبدالمطلب يحرم الزنا والربا والذبح للأصنام وحرست السماء ورمينا بالشهب العجب كل العجب ثم هتف صنم آخر من جوفه ترك الضمار وكان يعبد خرج النبي أحمد يصلي الصلاة ويأمر بالزكاة والصيام والبر والصلاة للأرحام ثم هتف من جوف صنم آخر هاتف يقول ... إن الذي ورث النبوة والهدى ... بعد ابن مريم من قريش مهتد ... نبي أتى يخبر بما سبق ... وبما يكون اليوم حقا أو غد ( 1 ) (2/350)
قال راشد فألفيت سواعا مع الفجر وثعلبان يلحسان ما حوله ويأكلان ما يهدى له ثم يعوجان عليه ببولهما فعند ذلك يقول راشد بن عبد ربه ... أرب يبول الثعلبان برأسه ... لقد ذل من بالت عليه الثعالب ...
وذلك عند مخرج النبي صلى الله عليه و سلم ومهاجره إلى المدينة وتسامع الناس به فخرج راشد حتى أتى النبي صلى الله عليه و سلم المدينة ومعه كلب له واسم راشد يومئذ ظالم واسم كلبه راشد فقال النبي صلى الله عليه و سلم ما اسمك قال ظالم قال فما اسم كلبك قال راشد قال اسمك راشد واسم كلبك ظالم وضحك النبي صلى الله عليه و سلم وبايع النبي صلى الله عليه و سلم وأقام بمكة معه ثم طلب من رسول الله صلى الله عليه و سلم قطيعة بوهاط ووصفها له فاقطعه رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمعلاة من وهاط شأو الفرس ورميته ثلاث مرات بحجر وأعطاه إداوة مملوءة من ماء وتفل فيها وقال له فرغها في أعلى القطيعة ولا تمنع الناس فضلها ففعل فجعل الماء معينا يجري إلى اليوم فغرس عليها النخل ويقال أن وهاط كلها تشرب منه فسماها الناس ماء الرسول صلى الله عليه و سلم وأهل وهاط يغتسلون بها وبلغت رمية راشد الركب الذي يقال له ركب الحجر وغدا راشد على سواع فكسره
وقال أبو نعيم حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا علي بن إبراهيم الخزاعي الأهوازي حدثنا أبو محمد عبدالله بن داود بن دلهاث بن اسماعيل بن مسرع بن ياسر بن سويد صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم حدثنا أبي عن أبيه دلهاث عن أبيه اسماعيل أن أباه عبدالله حدثه عن أبيه مسرع بن ياسر أن أباه ياسر حدثه عن عمرو بن مرة الجهني أنه كان يحدث قال خرجت حاجا في جماعة من قومي في الجاهلية فرأيت في المنام وأنا بمكة نورا ساطعا من الكعبة حتى أضاء في جبل يثرب وأشعر جهينة فسمعت صوتا في النور وهو يقول انقشعت الظلماء وسطع الضياء وبعث خاتم الأنبياء ثم أضاء إضاءة أخرى حتى نظرت إلى قصور الحيرة وابيض المدائن فسمعت صوتا في النور وهو يقول ظهر الإسلام وكسرت الأصنام ووصلت الأرحام فانتبهت فزعا فقلت لقومي والله ليحدثن في هذا الحي من قريش حدث وأخبرتهم بما رأيت فلما انتهينا إلى بلادنا جاءنا رجل فأخبرنا أن رجلا يقال له أحمد قد بعث فأتيته فأخبرته بما رأيت فقال يا عمرو بن مرة إني المرسل إلى العباد كافة أدعوهم إلى الإسلام وآمرهم بحقن الدماء وصلة الأرحام وعبادة الله ورفض الأصنام وحج البيت وصيام شهر من اثنى عشر شهرا وهو شهر رمضان فمن أجاب فله الجنة ومن عصى فله النار فآمن يا عمرو بن مرة يؤمنك الله من نار جهنم فقلت أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله آمنت بكل ما جئت به من حلال وحرام وإن أرغم ذلك كثيرا من الأقوام ثم أنشدته أبياتا قلتها حين سمعت به وكان لنا صنم وكان أبي سادنا له فقمت إليه فكسرته ثم لحقت النبي صلى الله عليه و سلم وأنا أقول (2/351)
شهدت بأن الله حق وأنني ... لآلهة الأحجار أول تارك ... فشمرت عن ساقي إزار مهاجر ... إليك أدب الغور بعد الدكادك ... لأصحب خير الناس نفسا ووالدا ... رسول مليك الناس فوق الحبائك ...
فقال النبي صلى الله عليه و سلم مرحبا بك يا عمرو بن مرة فقلت يا رسول الله بأبي وأنت وأمي ابعث بي إلى قومي لعل الله أن يمن بي عليهم كما من بك علي فبعثني إليه وقال عليك بالقول السديد ولا تكن فظا ولا متكبرا ولا حسودا فأتيت قومي فقلت لهم يا بني رفاعة ثم يا بني جهينة إني رسول من رسول الله إليكم أدعوكم إلى الجنة وأحذركم النار وآمركم بحقن الدماء وصلة الأرحام وعبادة الله ورفض الأصنام وحج البيت وصيام شهر رمضان شهر من إثني عشر شهرا فمن أجاب فله الجنة ومن عصى فله النار يا معشر جهينة إن الله وله الحمد جعلكم خيار من أنتم منه وبغض إليكم في جاهليتكم ما حبب إلى غيركم من الرفث لأنهم كانوا يجمعون بين الأختين ويخلف الرجل على امرأة أبيه والتراث في الشهر الحرام فأجيبوا هذا النبي المرسل صلى الله عليه و سلم من بني لؤي بن غالب تنالوا شرف الدنيا وكرامة الآخرة سارعوا سارعوا في ذلك يكون لكم فضيلة عند الله فأجابوا إلا رجلا منهم قام فقال يا عمرو بن مرة أمر الله عليك عيشك أتأمرنا أن نرفض آلهتنا ونفرق جماعتنا بمخالفة دين آبائنا إلى ما يدعو هذا القرشي من أهل تهامة لا ولا مرحبا ولا كرامة ثم أنشأ يقول ... إن ابن مرة قد أتى بمقالة ... ليست مقالة من يريد صلاحا ... إني لأحسب قوله وفعاله ... يوما وإن طال الزمان رياحا ... أتسفه الأشياخ ممن قد مضى ... من رام ذلك لا أصاب فلاحا ...
فقال عمرو بن مرة الكاذب مني ومنك أمر الله عيشه وأبكم لسانه وأكمه بصره قال عمرو بن مرة والله ما مات حتى سقط فوه وكان لا يجد طعام الطعام وعمى وخرس وخرج عمرو بن مرة ومن أسلم من قومه حتى أتوا النبي صلى الله عليه و سلم فرحب بهم وحباهم وكتب لهم كتابا هذه نسخته بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله على لسان رسول الله بكتاب صادق وحق ناطق مع عمرو بن مرة الجهني لجهينة بن زيد إن لكم بطون الأرض وسهولها وتلاع الاودية وظهورها ترعون نباته وتشربون صافيه على أن تقروا بالخمس وتصلوا الصلوات الخمس وفي التبعة والصريمة شاتان ان اجتمعتا وان تفرقتا فشاة شاة ليس على أهل الميرة صدقة ليس الوردة اللبقة وشهد من حضرنا من المسلمين بكتاب قيس بن شماس رضي الله عنهم وذلك حين يقول عمرو بن مرة
... ألم تر أن الله أظهر دينه ... وبين برهان القران لعامر ... كتاب من الرحمن نور لجمعنا ... وأحلافنا في كل باد وحاضر (2/352)
إلى خير من يمشي على الأرض كلها ... وأفضلها عند اعتكار الصرائر ... أطعنا رسول الله لما تقطعت ... بطون الأعادي بالظبي والخواطر ... فنحن قبيل قد بنى المجد حولنا ... إذا اجتلبت في الحرب هام الأكابر ... بنو الحرب نفريها بأيد طويلة ... وبيض تلالا في أكف المغاور ... ترى حوله الأنصار تحمي أميرهم ... بسمر العوالي والصفاح البواتر ... إذا الحرب دارت عند كل عظيمة ... ودارت رحاها بالليوث الهواصر ... تبلج منه اللون وازداد وجهه ... كمثل ضياء البدر بين الزواهر ...
وقال أبو عثمان سعيد بن يحيى الأموي في مغازيه حدثنا عبدالله حدثنا أبو عبدالله حدثنا المجالد بن سعيد والأجلح عن الشعبي حدثني شيخ من جهينة قال مرض منا رجل مرضا شديدا فنقل حتى حفرنا له قبره وهيأنا أمره فأغمي عليه ثم فتح عينيه وأفاق فقال أحفرتم لي قالوا نعم قال فما فعل الفصل وهو ابن عم له قلنا صالح مر آنفا يسأل عنك قال أما إنه يوشك أن يجعل في حفرتي إنه أتاني آت حين أغمى علي فقال ابك هبل أما ترى حفرتك تنتثل وأمك قد كادت تثكل أرأيتك أن حولناها عنك بالمحول ثم ملأناها بالجندل وقدفنا فيها الفصل الذي مضى فأجزأك وظن أن لن يفعل أتشكر لربك وتصل وتدع دين من أشرك وضل قال قلت نعم قال قم قد برئت قال فبرىء الرجل ومات الفصل فجعل في حقرته قال الجهيني فرأيت الجهيني بعد ذلك يصلي ويسب الأوثان ويقع فيها
وقال الأموي حدثنا عبدالله قال بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مجلس يتحدثون عن الجن فقال خريم بن فاتك الأسدي ألا أحدثك كيف كان إسلامي قال بلى قال إني يوما في طلب ذود لي أنا منها على أثر تنصب وتصعد حتى إذا كنت بابرق العراق انخت راحلتي وقلت أعوذ بعظيم هذه البلدة أعوذ برئيس هذا الوادي فإذا بهاتف يهتف بي ... ويحك عذ بالله ذي الجلال ... والمجد والعلياء والإفضال ... ثم اتل آيات من الأنفال ... ووحد الله ولا تبالي ...
قال فذعرت ذعرا شديدا ثم رجعت إلى نفسي فقلت ... يا أيها الهاتف ما تقول ... أرشد عندك أم تضليل ... بين هداك الله ما الحويل ...
قال فقال ... هذا رسول الله ذو الخيرات ... بيثرب يدعو إلى النجاة ... يأمر بالبر وبالصلاة ... وبزغ الناس عن الهنات (2/353)
قال قلت له والله لا أبرح حتى أتيه وأومن به فنصبت رجلي في غرز راحلتي وقلت ... أرشدني أرشدني هديتا ... لا جعت ما عشت ولا عريتا ... ولا برحت سيدا مقيتا ... لا تؤثر الخير الذي أتيتا ... على جميع الجن ما بقيتا ...
فقال ... صاحبك الله وأدى رحلكا ... وعظم الأجر وعافا نفسكا ... آمن به أفلج ربي حقكا ... وانصره نصرا عزيزا نصركا ...
قال قلت من أنت عافاك الله حتى أخبره إذا قدمت عليه فقال أنا ملك بن ملك وأنا نقيبه على جن نصيبين وكفيت ابلك حتى أضمها إلى أهلك إن شاء الله قال فخرجت حتى أتيت المدينة يوم الجمعة والناس ارسال إلى المسجد والنبي صلى الله عليه و سلم على المنبر كأنه البدر يخطب الناس فقلت انيخ على باب المسجد حتى يصلي وادخل عليه فاسلم واخبره عن إسلامي فلما انخت خرج إلى أبو ذر فقال مرحبا وأهلا وسهلا قد بلغنا إسلامك فادخل فصل ففعلت ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبرني بإسلامي فقلت الحمد لله قال أما إن صاحبك قد وفى لك وهو أهل ذلك وادي ابلك إلى أهلك ( 1 )
وقد رواه الطبراني في ترجمة خريم بن فاتك من معجمه الكبير قائلا حدثنا الحسين بن اسحاق اليسيري حدثنا محمد بن إبراهيم الشامي حدثنا عبدالله بن موسى الاسكندري حدثنا محمد بن اسحاق عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال قال خريم بن فاتك لعمر بن الخطاب يا أمير المؤمنين ألا أخبرك كيف كان بدء إسلامي قال بلى فذكره غير أنه قال فخرج إلى أبو بكر الصديق فقال أدخل فقد بلغنا اسلامك فقلت لا أحسن الطهور فعلمني فدخلت المسجد فرأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم كأنه البدر وهو يقول ما من مسلم توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى صلاة يحفظها ويعقلها إلا دخل الجنة فقال لي عمر لتأتيني على هذا ببينة أو لأنكلن بك فشهد لي شيخ قريش عثمان بن عفان فأجاز شهادته ثم رواه عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة عن محمد بن تيم عن محمد بن خليفة عن محمد بن الحسن عن أبيه قال قال عمر بن الخطاب لخريم بن فاتك حدثني بحديث يعجبني فذكر مثل السياق الأول سواء
وقال أبو نعيم حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا أبو عبدالملك أحمد بن إبراهيم بالقرشي الدمشقي حدثنا سليمان بن عبدالرحمن ابن بنت شرحبيل حدثنا اسماعيل بن عياش عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني عن عبدالله بن الديلمي قال أتى رجل ابن عباس فقال بلغنا أنك تذكر سطيحا تزعم أن الله خلقه لم يخلق من بني آدم شيئا يشبهه قال قال نعم إن الله خلق سطيحا الغساني لحما على وضم ( 2 ) ولم يكن فيه عظم ولا (2/354)
عصب إلى الجمجمة والكفان وكان يطوي من رجليه إلى ترقوته كما يطوى الثوب ولم يكن فيه شيء يتحرك إلا لسانه فلما أراد الخروج إلى مكة حمل على وضمة فأتى به مكة فخرج إليه أربعة من قريش عبد شمس وهاشم ابنا عبد مناف بن قصي والأحوص بن فهر وعقيل بن أبي وقاص فانتموا إلى غير نسبهم وقالوا نحن أناس من جمح أتيناك بلغنا قدومك فرأينا أن إتياننا إياك حق لك واجب علينا وأهدى إليه عقيل صفيحة هندية وصعدة ردينية فوضعت على باب البيت الحرام لينظروا أهل يراها سطيح أم لا فقال يا عقيل ناولني يدك فناوله يده فقال يا عقيل والعالم الخفية والغافر الخطية والذمة الوفية والكعبة المبنية إنك للجائي بالهدية الصفيحة الهندية والصعدة الردينية قالوا صدقت يا سطيح فقال والآتي بالفرح وقوس قزح وسائر الفرح واللطيم المنبطح والنخل والرطب والبلح إن الغراب حيث مر سنح فأخبر أن القوم ليسوا من جمح وإن نسبهم من قريش ذي البطح قالوا صدقت يا سطيح نحن أهل البيت الحرام أتيناك لنزورك لما بلغنا من علمك فأخبرنا عما يكون في زماننا هذا وما يكون بعده فلعل أن يكون عندك في ذلك علم قال الآن صدقتم خذوا مني ومن إلهام الله إياي أنتم يا معشر العرب في زمان الهرم سواء بصائركم وبصائر العجم لا علم عندكم ولا فهم وينشو من عقبكم ذوو فهم يطلبون أنواع العلم فيكسرون الصنم ويبلغون الردم ويقتلون العجم يطلبون الغنم قالوا يا سطيح فمن يكون أولئك فقال لهم والبيت ذي الأركان والأمن والسكان لينشؤن من عقبكم ولدان يكسرون الأوثان وينكرون عبادة الشيطان ويوحدون الرحمن وينشرون دين الديان يشرفون البنيان ويستفتون الفتيان قالوا يا سطيح من نسل من يكون أولئك قال وأشرف الأشراف والمفضي للأشراف والمزعزع الأحقاف والمضعف لاضعاف لينشؤن الألاف من عبد شمس وعبد مناف نشوءا يكون فيه اختلاف قالوا يا سوءتاه يا سطيح مما تخبرنا من العلم بأمرهم ومن أي بلد يخرج أولئك فقال والباقي الأبد والبالغ الأمد ليخرجن من ذا البلد فتى يهدي إلى الرشد يرفض يغوث والفند يبرأ من عبادة الضدد يعبد ربا انفرد ثم يتوفاه الله محمودا من الأرض مفقودا وفي السماء مشهودا ثم يلي أمره الصديق إذا قضى صدق في رد الحقوق لا خرق ولا نزق ثم يلي أمره الحنيف مجرب غطريف ويترك قول العنيف قد ضاف المضيف وأحكم التحنيف ثم يلي أمره داعيا لأمره مجربا فتجتمع له جموعا وعصبا فيقتلونه نقمة عليه وغضبا فيؤخذ الشيخ فيذبح أربا فيقوم به رجال خطباء ثم يلي أمره الناصر يخلط الرأي برأي المناكر يظهر في الأرض العساكر ثم يلي بعده ابنه يأخذ جمعه ويقل حمده ويأخذ المال ويأكل وحده ويكثر المال بعقبه من بعده ثم يلي من بعده عدة ملوك لا شك الدم فيهم مسفوك ثم بعدهم الصعلوك يطويهم كطي الدرنوك ثم يلي من بعده عظهور يقصي الحق ويدني مصر يفتتح الأرض افتتاحا منكرا ثم يلي قصير القامة بظهره علامة (2/355)
يموت موتا وسلامة ثم يلي قليلا باكر يترك الملك بائر يلي أخوه بسنته سابر يختص بالأموال والمنابر ثم يلي من بعده أهوج صاحب دنيا ونعيم مخلج يتشاوره معاشر وذووه ينهوضون إليه يخلعونه بأخذ الملك ويقتلونه ثم يلي أمره من بعده السابع يترك الملك محلا ضائع بنوه في ملكه كالمشوه جامع عند ذلك يطمع في الملك كل عريان ويلي أمره اللهفان يرضي نزارا جمع قحطان إذا التقيا بدمشق جمعان بين بنيان ولبنان يصنف اليمن يومئذ صنفان صنف المشورة وصنف المخذول لا ترى الأحباء محلول وأسيرا مغلول بين القراب والخيول عند ذلك تخرب المنازل وتسلب الأرامل وتسقط الحوامل وتظهر الزلازل وتطلب الخلافة وائل فتغضب نزار فتدنى العبيد والأشرار وتقصي الأمثال والأخيار وتغلو الأسعار في صفر الأصفار يقتل كل حيا منه ثم يسيرون إلى خنادق وإنها ذات أشعار وأشجار تصد له الأنهار وبهزمهم أول النهار تظهر الأخيار فلا ينفعهم نوم ولا قرار حتى يدخل مصرا من الأمصار فيدركه القضاء والأقدار ثم يجيء الرماة تلف مشاة لقتل الكماة وأسر الحماة وتهلك الغواة هنالك يدرك في أعلى المياه ثم يبور الدين وتقلب الأمور وتكفر الزبور وتقطع الجسور فلا يفلت إلا من كان في جزائر البحور ثم تبور الحبوب وتظهر الأعاريب ليس فيهم معيب على أهل الفسوق والريب في زمان عصيب لو كان للقوم حيا وما تغني المنى قالوا ثم ماذا يا سطيح قال ثم يظهر رجل من أهل اليمن كالشطن يذهب الله على رأسه الفتن وهذا أثر غريب كتباه لغرابته وما تضمن من الفتن والملاحم وقد تقدم قصة شق وسطيح مع ربيعة بن نصر ملك اليمن وكيف بشر بوجود رسول الله صلى الله عليه و سلم وكذلك تقدم قصة سطيح مع ابن أخته عبد المسيح حين أرسله ملك بني ساسان لارتجاس الإيوان وخمود النيران ورؤيا الموبذان وذلك ليلة مولد الذي نسخ بشريعته سائر الأديان
ثم الجزء الثاني من البداية والنهاية ويليه الجزء الثالث وأوله
باب كيفية بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم (2/356)
بسم الله الرحمن الرحيم
باب كيف بدأ الوحي
إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وذكر أول شيء أنزل عليه من القرآن العظيم كان ذلك وله صلى الله عليه و سلم من العمر أربعون سنة وحكى ابن جرير عن ابن عباس وسعيد بن المسيب أنه كان عمره إذ ذاك ثلاثا وأربعين سنة
قال البخاري حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه و سلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال اقرأ فقال ما أنا بقارئ قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال [ اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم ] فرجع بها رسول الله صلى الله عليه و سلم يرجف (3/2)
فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد فقال زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة وأخبرها الخبر لقد خشيت على نفسي فقالت خديجة كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة وكان أمرأ قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمي فقالت له خديجة يا ابن عم اسمع من ابن أخيك فقال له ورقة يا ابن أخي ماذا ترى فأخبره رسول الله صلى الله عليه و سلم خبر ما رأى فقال له ورقة هذا الناموس الذي كان ينزل على موسى يا ليتني فيها جذعا ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أو مخرجي هم فقال نعم لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي فترة حتى حزن رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤس شواهق الجبال فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه تبدى له جبريل فقال يا محمد إنك رسول الله حقا فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه فيرجع فاذا طالت عليه فترة الوحي غدا كمثل ذلك قال فاذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك هكذا وقع مطولا في باب التعبير من البخاري قال ابن شهاب وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصاري قال وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فاذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت زملوني زملوني فأنزل الله يا أيها المدثر قم فانذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر فحمى الوحي وتتابع ثم قال البخاري تابعه عبد الله بن يوسف وأبو صالح يعني عن الليث وتابعه هلال بن داود عن الزهري وقال يونس ومعمر بوادره وهذا الحديث قد رواه الإمام البخاري رحمه الله في كتابه في مواضع منه وتكلمنا عليه مطولا في أول شرح البخاري في كتاب بدء الوحي اسنادا ومتنا ولله الحمد والمنة
وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث الليث به ومن طريق يونس ومعمر عن الزهري كما علقه البخاري عنهما وقد رمزنا في الحواشي على زيادات مسلم ورواياته ولله الحمد وانتهى سياقه الى قول ورقة أنصرك نصرا مؤزرا (3/3)
فقول أم المؤمنين عائشة أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح يقوى ما ذكره محمد بن اسحاق بن يسار عن عبيد بن عمر الليثي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال فجاءني جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال اقرأ فقلت ما أقرأ فغتني حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني وذكر نحو حديث عائشة سواء فكان هذا كالتوطئة لما يأتي بعده من اليقظة وقد جاء مصرحا بهذا في مغازي موسى بن عقبة عن الزهري أنه رأى ذلك في المنام ثم جاءه الملك في اليقظة
وقد قال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتاب دلائل النبوة حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة حدثنا جناب بن الحارث حدثنا عبد الله بن الأجلح عن إبراهيم عن علقمة بن قيس قال إن أول ما يؤتى به الأنبياء في المنام حتى تهدأ قلوبهم ثم ينزل الوحي بعد وهذا من قبل علقمة بن قيس نفسه وهو كلام حسن يؤيده ما قبله ويؤيده ما بعده
عمره صلى الله عليه و سلم وقت بعثته وتاريخها
قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن أبي عدي عن داود بن أبي هند عن عامر الشعبي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة فقرن بنبوته اسرافيل ثلاث سنين فكان يعلمه الكلمة والشيء ولم ينزل القرآن فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة عشرا بمكة وعشرا بالمدينة فمات وهو ابن ثلاث وستين سنة فهذا اسناد صحيح إلى الشعبي وهو يقتضي أن إسرافيل قرن معه بعد الأربعين ثلاث سنين ثم جاءه جبريل
وأما الشيخ شهاب الدين أبو شامة فانه قد قال وحديث عائشة لا ينافي هذا فإنه يجوز أن يكون أول أمره الرؤيا ثم وكل به اسرافيل في تلك المدة التي كان يخلو فيها بحراء فكان يلقي إليه الكلمة بسرعة ولا يقيم معه تدريجا له وتمرينا إلى أن جاءه جبريل فعلمه بعدما غطه ثلاث مرات فحكت عائشة ما جرى له مع جبريل ولم تحك ما جرى له مع اسرافيل اختصارا للحديث أو لم تكن وقفت على قصة اسرافيل
وقال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن هشام عن عكرمة عن ابن عباس أنزل على النبي صلى الله عليه و سلم وهو ابن ثلاث وأربعين فمكث بمكة عشرا وبالمدينة عشرا ومات وهو ابن ثلاث وستين وهكذا روى يحيى بن سعيد وسعيد بن المسيب ثم روى أحمد عن غندر ويزيد بن هارون كلاهما عن هشام عن عكرمة عن ابن عباس قال بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنزل عليه القرآن وهو ابن أربعين سنة فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة وبالمدينة عشر سنين ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة وقال الإمام (3/4)
أحمد حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أنبأنا عمار بن أبي عمار عن ابن عباس قال أقام النبي صلى الله عليه و سلم بمكة خمس عشرة سنة سبع سنين يرى الضوء ويسمع الصوت وثماني سنين يوحى إليه وأقام بالمدينة عشر سنين
قال أبو شامة وقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يرى عجائب قبل بعثته فمن ذلك ما في صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن انتهى كلامه
وإنما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحب الخلاء والانفراد عن قومه لما يراهم عليه من الضلال المبين من عبادة الأوثان والسجود للأصنام وقويت محبته للخلوة عند مقاربة إيحاء الله إليه صلوات الله وسلامه عليه وقد ذكر محمد بن اسحاق عن عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان بن العلاء بن حارثة قال وكان واعية عن بعض أهل العلم قال وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يخرج إلى حراء في كل عام شهرا من السنة يتنسك فيه وكان من نسك قريش في الجاهلية يطعم من جاءه من المساكين حتى إذا انصرف من ممجاورته لم يدخل بيته حتى يطوف بالكعبة وهكذا روى عن وهب بن كيسان أنه سمع عبيد بن عمير يحدث عبد الله بن الزبير مثل ذلك وهذا يدل على أن هذا كان من عادة المتعبدين في قريش أنهم يجاورون في حراء للعبادة ولهذا قال أبو طالب في قصيدته المشهورة ... وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه ... وراق ليرقى في حراء ونازل ...
هكذا صوبه على رواية هذا البيت كما ذكره السهيلي وأبو شامة وشيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي رحمهم الله وقد تصحف على بعض الرواة فقال فيه وراق ليرقى في حر ونازل وهذا ركيك ومخالف للصواب والله أعلم
وحراء يقصر ويمد ويصرف ويمنع وهو جبل بأعلى مكة على ثلاثة أميال منها عن يسار المار إلى منى له قلة مشرفة على الكعبة منحنية والغار في تلك الحنية وما أحسن ما قال رؤية بن العجاج ... فلا ورب الآمنات القطن ... ورب ركن من حراء منحني ... وقوله في الحديث والتحنث التعبد تفسير بالمعنى وإلا فحقيقة التحنث من حنث البنية فيما قاله السهيلي الدخول في الحنث ولكن سمعت ألفاظ قليلة في اللغة معناها الخروج من ذلك الشيء كحنث أي خرج من الحنث وتحوب وتحرج وتأثم وتهجد هو ترك الهجود وهو النوم للصلاة وتنجس وتقذر أوردها أبو شامة وقد سئل ابن الاعرابي عن قوله يتحنث أي يتعبد فقال لا أعرف هذا إنما هو يتحنف من الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام قال ابن هشام والعرب تقول التحنث (3/5)
والتحنف يبدلون الفاء من الثاء كما قالوا جدف وجذف كما قال رؤبة * لو كان أحجاري مع الأحذاف * يريد الأجداث قال وحدثني ابو عبيدة أن العرب تقول فم في موضع ثم قلت ومن ذلك قول بعض المفسرين وفومها أن المراد ثومها
وقد اختلف العلماء في تعبده عليه السلام قبل البعثة هل كان على شرع أم لا وما ذلك الشرع فقيل شرع نوح وقيل شرع إبراهيم وهو الأشبه الأقوى وقيل موسى وقيل عيسى وقيل كل ما ثبت أنه شرع عنده اتبعه وعمل به ولبسط هذه الأقوال ومناسباتها مواضع أخر في أصول الفقه والله أعلم
وقوله حتى فجئه الحق وهو بغار حراء أي جاء بغتة على غير موعد كما قال تعالى وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك الآية وقد كان نزول صدر هذه السورة الكريمة وهي اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم وهي أول ما نزل من القرآن كما قررنا ذلك في التفسير وكما سيأتي أيضا في يوم الاثنين كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن صوم يوم الاثنين فقال ذاك يوم ولدت فيه ويوم أنزل علي فيه وقال ابن عباس ولد نبيكم محمد صلى الله عليه و سلم يوم الاثنين ونبئ يوم الاثنين وهكذا قال عبيد بن عمير وأبو جعفر الباقر وغير واحد من العلماء أنه عليه الصلاة و السلام أوحي إليه يوم الاثنين وهذا ما لا خلاف فيه بينهم
ثم قيل كان ذلك في شهر ربيع الأول كما تقدم عن ابن عباس وجابر أنه ولد عليه السلام في الثاني عشرمن ربيع الأول يوم الاثنين وفيه بعث وفيه عرج به إلى السماء والمشهور أنه بعث عليه الصلاة و السلام في شهر رمضان كما نص على ذلك عبيد بن عمير ومحمد بن اسحاق وغيرهما
قال ابن اسحاق مستدلا على ذلك بما قال الله تعالى شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس فقيل في عشره وروى الواقدي بسنده عن أبي جعفر الباقر أنه قال كان ابتداء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الاثنين لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان وقيل في الرابع والعشرين منه
قال الإمام أحمد حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا عمران أبو العوام عن قتادة عن أبي المليح عن واثلة بن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان والإنجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان وروى ابن مردويه في تفسيره عن جابر بن عبد الله مرفوعا نحوه ولهذا ذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن ليلة القدر ليلة أربع وعشرين (3/6)
وأما قول جبريل ( اقرأ ) فقال ما أنا بقارئ فالصحيح أن قوله ما أنا بقارئ نفي أي لست ممن يحسن القراءة وممن رجحه النووي وقبله الشيخ أبو شامة ومن قال إنها استفهامية فقوله بعيد لأن الباء لا تزاد في الاثبات ويؤيد الأول رواية أبي نعيم من حديث المعتمر بن سليمان عن أبيه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو خائف يرعد ما قرأت كتابا قط ولا أحسنه وما أكتب وما أقرأ فأخذه جبريل فغته غتا شديدا ثم تركه فقال له اقرأ فقال محمد صلى الله عليه و سلم ما أرى شيئا أقرأه وما أكتب يروى فغطني كما في الصحيحين وغتني ويروى قد غتني أي خنقني حتى بلغ مني الجهد يروى بضم الجيم وفتحها وبالنصب وبالرفع وفعل به ذلك ثلاثا
قال أبو سليمان الخطابي وإنما فعل ذلك به ليبلو صبره ويحسن تأديبه فيرتاض لاحتمال ما كلفه به من أعباء النبوة ولذلك كان يعتريه مثل حال المحموم وتأخذه الرخصاء أي البهر والعرق وقال غيره إنما فعل ذلك لأمور منها أن يستيقظ لعظمة ما يلقى اليه بعد هذا الصنيع المشق على النفوس كما قال تعالى إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ولهذا كان عليه الصلاة و السلام إذا جاءه الوحي يحمر وجهه ويغط كما يغط البكر من الإبل ويتفصد جبينه عرقا في اليوم الشديد البرد
وقوله فرجع بها رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى خديجة يرجف فؤاده وفي رواية بوادره جمع بادرة قال أبو عبيدة وهي لحمة بين المنكب والعنق وقال غيره هو عروق تضطرب عند الفزع وفي بعض الروايات ترجف بآدله واحدتها بادلة وقيل بادل وهو ما بين العنق والترقوة وقيل أصل الثدي وقيل لحم الثديين وقيل غير ذلك
فقال زملوني زملوني فلما ذهب عنه الروع قال لخديجة مالي أي شيء عرض لي وأخبرها ما كان من الأمر ثم قال لقد خشيت على نفسي وذلك لأنه شاهد أمرا لم يعهده قبل ذلك ولا كان في خلده ولهذا قالت خديجة أبشر كلا والله لا يخزيك الله أبدا قيل من الخزي وقيل من الحزن وهذا لعلمها بما أجرى الله به جميل العوائد في خلقه أن من كان متصفا بصفات الخير لا يخزى في الدنيا ولا في الآخرة ثم ذكرت له من صفاته الجليلة ما كان من سجاياه الحسنة فقالت إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وقد كان مشهورا بذلك صلوات الله وسلامه عليه عند الموافق والمفارق وتحمل الكل أي عن غيرك تعطي صاحب العيلة ما يريحه من ثقل مؤنة عياله وتكسب المعدوم أي تسبق إلى فعل الخير فتبادر إلى إعطاء الفقير فتكسب حسنته قبل غيرك ويسمى الفقير معدوما لأن حياته ناقصة فوجوده وعدمه سواء كما قال بعضهم ... ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء (3/7)
وقال أبو الحسن التهامي فيما نقله عنه القاضي عياض في شرح مسلم ... عد ذا الفقر ميتا وكساه ... كفنا باليا ومأواه قبرا ...
وقال الخطابي الصواب ( وتكسب المعدم ) أي تبذل إليه أو يكون تلبس العدم بعطية مالا يعيش به واختار شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي أن المراد بالمعدوم ههنا المال المعطى أي يعطى المال لمن هو عادمه ومن قال ان المراد أنك تكسب باتجارك المال المعدوم أو النفيس القليل النظير فقد أبعد النجعة وأغرق في النزع وتكلف ما ليس له به علم فان مثل هذا لا يمدح به غالبا وقد ضعف هذا القول عياض والنووي وغيرهما والله أعلم
وتقري الضيف أي تكرمه في تقديم قراه واحسان مأواه وتعين على نوائب الحق ويروى الخير أي إذا وقعت نائبة لأحد في خير أعنت فيها وقمت مع صاحبها حتى يجد سدادا من عيش أو قواما من عيش وقوله ثم أخذته فانطلقت به الى ابن عمها ورقة ابن نوفل وكان شيخا كبيرا قد عمي وقد قدمنا طرفا من خبره مع ذكر زيد بن عمرو بن نفيل رحمه الله وانه كان ممن تنصر في الجاهلية ففارقهم وارتحل إلى الشام هو وزيد بن عمرو وعثمان بن الحويرث وعبيد الله بن جحش فتنصروا كلهم لأنهم وجدوه أقرب الأديان إذ ذاك إلى الحق إلا زيد بن عمرو بن نفيل فانه رأى فيه دخلا وتخبيطا وتبديلا وتحريفا وتأويلا فأبت فطرته الدخول فيه أيضا وبشروه الأحبار والرهبان بوجود نبي قد أزف زمانه واقترب أوانه فرجع يتطلب ذلك واستمر على فطرته وتوحيده لكن اخترمته المنية قبل البعثة المحمدية وأدركها ورقة بن نوفل وكان يتوسمها في رسول الله صلى الله عليه و سلم كما قدمنا بما كانت خديجة تنعته له وتصفه له وما هو منطو عليه من الصفات الطاهرة الجميلة وما ظهر عليه من الدلائل والآيات ولهذا لما وقع ما وقع أخذت بيد رسول الله صلى الله عليه و سلم وجاءت به إليه فوقفت به عليه وقالت ابن عم اسمع من ابن أخيك فلما قص عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم خبر ما رأى قال ورقة سبوح سبوح هذا الناموس الذي أنزل على موسى ولم يذكر عيسى وإن كان متأخرا بعد موسى لأنه كانت شريعته متممة ومكملة لشريعة موسى عليهما السلام ونسخت بعضها في الصحيح من قول العلماء كما قال ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وقول ورقة هذا كما قالت الجن [ يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق إلى طريق مستقيم ثم قال ورقة يا ليتني فيها جذعا أي يا ليتني أكون اليوم شابا متمكنا من الايمان والعلم النافع والعمل الصالح يا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك يعني حتى أخرج معك وأنصرك فعندها قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أو مخرجي هم قال السهيلي وإنما قال ذلك لأن فراق الوطن شديد على النفوس فقال نعم إنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي وإن (3/8)
يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا أي أنصرك نصرا عزيزا أبدا وقوله ثم لم ينشب ورقة أن توفي أي توفي بعد هذه القصة بقليل رحمه الله ورضي عنه فان مثل هذا الذي صدر عنه تصديق بما وجد وإيمان بما حصل من الوحي ونية صالحة للمستقبل
وقد قال الإمام أحمد حدثنا حسن عن ابن لهيعة حدثني أبو الأسود عن عروة عن عائشة أن خديجة سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ورقة بن نوفل فقال قد رأيته فرأيت عليه ثياب بياض فأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بياض وهذا إسناد حسن لكن رواه الزهري وهشام عن عروة مرسلا فالله أعلم وروى الحافظ أبو يعلى عن شريح بن يونس عن إسماعيل عن مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن ورقة بن نوفل فقال قد رأيته فرأيت عليه ثياب بياض أبصرته في بطنان الجنة وعليه السندس وسئل عن زيد بن عمرو بن نفيل فقال يبعث يوم القيامة أمة وحده وسئل عن أبي طالب فقال أخرجته من غمرة من جهنم إلى ضحضاح منها وسئل عن خديجة لأنها ماتت قبل الفرائض وأحكام القرآن فقال أبصرتها على نهر في الجنة في بيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب اسناد حسن ولبعضه شواهد في الصحيح والله أعلم
وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا عبيد بن إسماعيل حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تسبوا ورقة فإني رأيت له جنة أو جنتين وكذا رواه ابن عساكر من حديث أبي سعيد الأشج عن أبي معاوية عن هشام عن أبيه عن عائشة وهذا اسناد جيد وروى مرسلا وهو أشبه
وروى الحافظان البيهقي وأبو نعيم في كتابيهما دلائل النبوة من حديث يونس بن بكير عن يونس بن عمرو عن أبيه عن عمرو بن شرحبيل أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لخديجة إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء وقد خشيت والله أن يكون لهذا أمر قالت معاذ الله ما كان ليفعل ذلك بك فوالله إنك لتؤدي الأمانة وتصل الرحم وتصدق الحديث فلما دخل أبو بكر وليس رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم ذكرت له خديجة فقالت يا عتيق اذهب مع محمد إلى ورقة فلما دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم أخذ بيده أبو بكر فقال انطلق بنا إلى ورقة قال ومن اخبرك قال خديجة فانطلقا إليه فقصا عليه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي يا محمد يا محمد فانطلق هاربا في الأرض فقال له لا تفعل إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول لك ثم ائتني فأخبرني فلما خلا ناداه يا محمد قل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين حتى بلغ ولا الضالين قل لا إله إلا الله فأتى ورقة فذكر له ذلك فقال له ورقة ابشر ثم ابشر فأنا أشهد (3/9)
أنك الذي بشر بك ابن مريم وإنك على مثل ناموس موسى وانك نبي مرسل وانك ستؤمر بالجهاد بعد يومك هذا ولئن ادركني ذلك لأجاهدن معك فلما توفي قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدقني يعني ورقة هذا لفظ البيهقي وهو مرسل وفيه غرابة وهو كون الفاتحة أول ما نزل وقد قدمنا من شعره ما يدل على اضماره الايمان وعقده عليه وتأكده عنده وذلك حين أخبرته خديجة ما كان من أمره مع غلامها ميسرة وكيف كانت الغمامة تظلله في هجير القيظ فقال ورقة في ذلك أشعارا قدمناها قبل هذا منها قوله ... لججت وكنت في الذكرى لجوجا ... لأمر طالما بعث النشيجا ... ووصف من خديجة بعد وصف ... فقد طال انتظاري يا خديجا ... ببطن المكتين على رجائي ... حديثك أن أرى منه خروجا ... بما أخبرتنا من قول قس ... من الرهبان أكره أن يعوجا ... بأن محمدا سيسود قوما ... ويخصم من يكون له حجيجا ... ويظهر في البلاد ضياء نور ... يقيم به البرية أن تعوجا ... فيلقي من يحاربه خسارا ... ويلقى من يسالمه فلوجا ... فياليتني إذا ما كان ذاكم ... شهدت وكنت أولهم ولوجا ... ولو كان الذي كرهت قريش ... ولو عجت بمكتها عجيجا ... أرتجي بالذي كرهوا جميعا ... إلى ذي العرش إذ سلفوا عروجا ... فإن يبقوا وأبق يكن أمورا ... يضج الكافرون لها ضجيجا ...
وقال أيضا في قصيدته الأخرى
... وأخبار صدق خبرت عن محمد ... يخبرها عنه إذا غاب ناصح ... بأن ابن عبد الله أحمد مرسل ... إلى كل من ضمت عليه الأباطح ... وظني به أن سوف يبعث صادقا ... كما أرسل العبدان هود وصالح ... وموسى وإبراهيم حتى يرى له ... بهاء ومنشور من الحق واضح ... ويتبعه حيا لؤي بن غالب ... شبابهم والأشيبون الجحاجح ... فإن ابق حتى يدرك الناس دهره ... فإني به مستبشر الود فارح ... وإلا فإني يا خديجة فاعلمي ... عن أرضك في الأرض العريضة سائح (3/10)
وقال يونس عن بكير عن ابن اسحاق قال ورقة ... فان يك حقا يا خديجة فاعلمي ... حديثك إيانا فأحمد مرسل ... وجبريل يأتيه وميكال معهما ... من الله وحي يشرح الصدر منزل ... يفوز به من فاز فيها بتوبة ... ويشقى به العاني الغرير المضلل ... فريقان منهم فرقة في جنانه ... وأخرى بأحواز الجحيم تعلل ... اذا ما دعوا بالويل فيها تتابعت ... مقامع في هاماتهم ثم تشعل ... فسبحان من يهوي الرياح بأمره ... ومن هو في الأيام ما شاء يفعل ... ومن عرشه فوق السموات كلها ... واقضاؤه في خلقه لا تبدل ...
وقال ورقة أيضا
... يا للرجال وصرف الدهر والقدر ... وما لشيء قضاه الله من غير ... حتى خديجة تدعوني لأخبرها ... أمرا أراه سيأتي الناس من أخر ... وخبرتني بأمر قد سمعت به ... فيما مضى من قديم الدهر والعصر ... بأن أحمد يأتيه فيخبره ... جبريل أنك مبعوث إلى البشر ... فقلت عل الذي ترجين ينجزه ... لك الإله فرجي الخير وانتظري ... وأرسليه إلينا كي نسائله ... عن أمره ما يرى في النوم والسهر ... فقال حين أتانا منطقا عجبا ... يقف منه اعالي الجلد والشعر ... إني رأيت امين الله واجهني ... في صورة أكملت من أعظم الصور ... ثم استمر فكاد الخوف يذعرني ... مما يسلم من حولي من الشجر ... فقلت ظني وما أدري أيصدقني ... ان سوف يبعث يتلو منزل السور ... وسوف يبليك ان اعلنت دعوتهم ... من الجهاد بلا من ولا كدر ...
هكذا أورد ذلك الحافظ البيهقي من الدلائل وعندي في صحتها عن ورقة نظر والله أعلم
وقال ابن اسحاق حدثني عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان بن العلاء بن جارية الثقفي وكان داعية عن بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حين أراد الله كرامته وابتدأه بالنبوة كان اذا خرج لحاجة أبعد حتى يحسر الثوب عنه ويفضي الى شعاب مكة وبطون أوديتها فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال السلام عليك يا رسول الله قال فيلتفت حوله عن يمينه وعن شماله وخلفه فلا يرى إلا الشجر والحجارة فمكث كذلك يرى ويسمع ما شاء الله أن يمكث ثم جاءه جبريل عليه السلام بما جاء من كرامة الله وهو بحراء في رمضان قال ابن اسحاق وحدثني وهب بن كيسان مولى آل الزبير قال (3/11)
سمعت عبد الله بن الزبير وهو يقول لعبيد بن عمير بن قتادة الليثي حدثنا يا عبيد كيف كان بدو ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه و سلم من النبوة حين جاءه جبريل قال فقال عبيد وأنا حاضر يحدث عبد الله ابن الزبير ومن عنده من الناس كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يجاور في حراء في كل سنة شهرا يتحنث قال وكان ذلك مما يحبب به قريش في الجاهلية والتحنث التبرر فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يجاور ذلك الشهر من كل سنة يطعم من جاءه من المساكين فاذا قضى جواره من شهره ذلك كان أول ما يبدأ به إذا انصرف من جواره الكعبة قبل أن يدخل بيته فيطوف بها سبعا أو ما شاء الله من ذلك ثم يرجع إلى بيته حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله به فيه ما أراد من كرامته من السنة التي بعثه فيها وذلك الشهر رمضان خرج إلى حراء كما كان يخرج لجواره ومعه أهله حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته ورحم العباد به جاءه جبريل بأمر الله تعالى قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فجاءني وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال اقرأ قلت ما أقرأ قال فغتني حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال اقرأ قلت ما أقرأ قال فغتني حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال اقرأ قلت ما أقرأ قال فغتني حتى ظننت به الموت ثم أرسلني فقال اقرأ قلت ماذا أقرأ ما أقول ذلك إلا اقتدا منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي فقال اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم قال فقرأتها ثم انتهى وانصرف عني وهببت من نومي فكأنما كتب في قلبي كتابا قال فخرجت حتى اذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل قال فرفعت رأسي إلى السماء فأنظر فاذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء فما أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك فما زلت واقفا ما أتقدم وما أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي فبلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك ثم انصرف عني وانصرفت راجعا إلى أهلي حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفا اليها فقالت يا أبا القاسم أين كنت فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا إلي ثم حدثتها بالذي رأيت فقالت أبشر يا ابن العم واثبت فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة ثم قامت فجمعت عليها ثيابها ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل فاخبرته بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال ورقة قدوس قدوس والذي نفس ورقة بيده لئن كنت صدقتني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى وإنه لنبي هذه الأمة وقولي له فليثبت فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبرته بقول ورقة فلما قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم جواره وانصرف صنع كما كان يصنع بدأ بالكعبة فطاف بها فلقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف (3/12)
بالكعبة فقال يا ابن أخي أخبرني بما رأيت وسمعت فاخبره فقال له ورقة والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى ولتكذبنه ولتؤذينه ولتخرجنه ولتقاتلنه ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه ثم أدنى رأسه منه فقبل يافوخه ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى منزله وهذا الذي ذكره عبيد بن عمير كما ذكرناه كالتوطئة لما جاء بعده من اليقظة كما تقدم من قول عائشة رضي الله عنها فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ويحتمل أن هذا المنام كان بعد ما رآه في اليقظة صبيحة ليلتئذ ويحتمل أنه كان بعده بمدة والله أعلم
وقال موسى بن عقبة عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال وكان فيما بلغنا أول ما رأى يعني رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الله تعالى أراه رؤيا في المنام فشق ذلك عليه فذكرها لامرأته خديجة فعصمها الله عن التكذيب وشرح صدرها للتصديق فقالت أبشر فإن الله لم يصنع بك إلا خيرا ثم إنه خرج من عندها ثم رجع إليها فأخبرها أنه رأى بطنه شق ثم غسل وطهر ثم أعيد كما كان قالت هذا والله خير فأبشر ثم استعلن له جبريل وهو بأعلى مكة فاجلسه على مجلس كريم معجب كان النبي صلى الله عليه و سلم يقول أجلسني على بساط كهيئة الدرنوك فيه الياقوت واللؤلؤ فبشره برسالة الله عز و جل حتى اطمأن رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له جبريل اقرأ فقال كيف اقرأ فقال اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق اقرأ وربك الاكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم قال ويزعم ناس أن يا أيها المدثر أول سورة نزلت عليه والله أعلم قال فقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم رسالة ربه واتبع ما جاءه به جبريل من عند الله فلما انصرف منقلبا إلى بيته جعل لا يمر على شجر ولا حجر إلا سلم عليه فرجع إلى أهله مسرورا موقنا أنه قد رأى أمرا عظيما فلما دخل على خديجة قال أرأيتك التي كنت حدثتك أني رأيته في المنام فانه جبريل استعلن إلي أرسله إلي ربي عز و جل وأخبرها بالذي جاءه من الله وما سمع منه فقالت أبشر فوالله لا يفعل الله بك إلا خيرا واقبل الذي جاءك من أمر الله فانه حق وأبشر فانك رسول الله حقا ثم انطلقت من مكانها فأتت غلاما لعتبة بن ربيعة بن عبد شمس نصرانيا من أهل نينوى يقال له عداس فقالت له يا عداس أذكرك بالله إلا ما أخبرتني هل عندك علم من جبريل فقال قدوس قدوس ما شأن جبريل يذكر بهذه الأرض التي أهلها أهل الأوثان فقالت أخبرني بعلمك فيه قال فانه أمين الله بينه وبين النبيين وهو صاحب موسى وعيسى عليهما السلام فرجعت خديجة من عنده فجاءت ورقة بن نوفل فذكرت له ما كان من أمر النبي صلى الله عليه و سلم وما ألقاه إليه جبريل فقال لها ورقة يا بنية أخي ما أدري لعل صاحبك النبي الذي ينتظر أهل الكتاب الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل وأقسم بالله لإن كان إياه ثم (3/13)
أظهر دعواه وأنا حي لأبلين الله في طاعة رسوله وحسن مؤازرته للصبر والنصر فمات ورقة رحمه الله قال الزهري فكانت خديجة أول من آمن بالله وصدق رسوله صلى الله عليه و سلم قال الحافظ البيهقي بعد إيراده ما ذكرناه والذي ذكر فيه من شق بطنه يحتمل أن يكون حكاية منه لما صنع به في صباه يعني شق بطنه عند حليمة ويحتمل أن يكون شق مرة أخرى ثم ثالثة حين عرج به إلى السماء والله أعلم
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة ورقة باسناده إلى سليمان بن طرخان التيمي قال بلغنا أن الله تعالى بعث محمدا رسولا على رأس خمسين سنة من بناء الكعبة وكان أول شيء اختصه به من النبوة والكرامة رؤيا كان يراها فقص ذلك على زوجته خديجة بنت خويلد فقالت له ابشر فوالله لا يفعل الله بك إلا خيرا فبينما هو ذات يوم في حراء وكان يفر إليه من قومه إذ نزل عليه جبريل فدنا منه فخافه رسول الله صلى الله عليه و سلم مخافة شديدة فوضع جبريل يده على صدره ومن خلفه بين كتفيه فقال اللهم احطط وزره واشرح صدره وطهر قلبه يا محمد ابشر فانك نبي هذه الأمة اقرأ فقال له نبي الله وهو خائف يرعد ما قرأت كتابا قط ولا أحسنه وما أكتب وما أقرأ فأخذه جبريل فغته غتا شديدا ثم تركه ثم قال له اقرأ فأعاد عليه مثله فأجلسه على بساط كهيئة الدرنوك فرأى فيه من صفاته وحسنه كهيئة اللؤلؤ والياقوت وقال له اقرأ باسم ربك الذي خلق الآيات ثم قال له لا تخف يا محمد إنك رسول الله ثم انصرف وأقبل على رسول الله صلى الله عليه و سلم همه فقال كيف أصنع وكيف أقول لقومي ثم قام رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو خائف فأتاه جبريل من أمامه وهو في صعرته فرأى رسول الله صلى الله عليه و سلم أمرا عظيما ملأ صدره فقال له جبريل لا تخف يا محمد جبريل رسول الله جبريل رسول الله إلى أنبيائه ورسله فأيقن بكرامة الله فانك رسول الله فرجع رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يمر على شجر ولا حجر الا هو ساجد يقول السلام عليك يا رسول الله فاطمأنت نفسه وعرف كرامة الله إياه فلما انتهى إلى زوجته خديجة ابصرت ما بوجهه من تغير لونه فأفزعها ذلك فقامت اليه فلما دنت منه جعلت تمسح عن وجهه وتقول لعلك لبعض ما كنت ترى وتسمع قبل اليوم فقال يا خديجة أرأيت الذي كنت أرى في المنام والصوت الذي كنت اسمع في اليقظة واهال منه فانه جبريل قد استعلن لي وكلمني واقرأني كلاما فزعت منه ثم عاد إلى فأخبرني اني نبي هذه الأمة فأقبلت راجعا فأقبلت على شجر وحجارة فقلن السلام عليك يا رسول الله فقالت خديجة ابشر فوالله لقد كنت اعلم ان الله لن يفعل بك إلا خيرا واشهد أنك نبي هذه الأمة الذي تنظره اليهود قد اخبرني به ناصح غلامي وبحيري الراهب وامرني ان أتزوجك منذ أكثر من عشرين سنة فلم تزل برسول الله صلى الله عليه و سلم حتى طعم وشرب وضحك ثم خرجت إلى الراهب وكان قريبا من مكة فلما دنت منه وعرفها (3/14)
قال مالك يا سيدة نساء قريش فقالت أقبلت اليك لتخبرني عن جبريل فقال سبحان الله ربنا القدوس ما بال جبريل يذكر في هذه البلاد التي يعبد أهلها الأوثان جبريل أمين الله ورسوله إلى أنبيائه ورسله وهو صاحب موسى وعيسى فعرفت كرامة الله لمحمد ثم أتت عبدا لعتبة بن ربيعة يقال له عداس فسألته فاخبرها بمثل ما أخبرها الراهب وأزيد قال جبريل كان مع موسى حين أغرق الله فرعون وقومه وكان معه حين كلمه الله على الطور وهو صاحب عيسى بن مريم الذي أيده الله به ثم قامت من عنده فاتت ورقة بن نوفل فسألته عن جبريل فقال لها مثل ذلك ثم سألها ما الخبر فاحلفته أن يكتم ما تقول له فحلف لها فقالت له إن ابن عبد الله ذكر لي وهو صادق أحلف بالله ما كذب ولا كذب أنه نزل عليه جبريل بحراء وأنه أخبره أنه نبي هذه الأمة وأقرأه آيات أرسل بها قال فذعر ورقة لذلك وقال لئن كان جبريل قد استقرت قدماه على الأرض لقد نزل على خير أهل الأرض وما نزل إلا على نبي وهو صاحب الأنبياء والرسل يرسله الله إليهم وقد صدقتك عنه فارسلي إلي ابن عبد الله أسأله وأسمع من قوله وأحدثه فاني أخاف أن يكون غير جبريل فان بعض الشياطين يتشبه به ليضل به بعض بني آدم ويفسدهم حتى يصير الرجل بعد العقل الرضي مدلها مجنونا فقامت من عنده وهي واثقة بالله أن لا يفعل بصاحبها إلا خيرا فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبرته بما قال ورقة فأنزل الله تعالى ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون الآيات فقال لها كلا والله إنه لجبريل فقالت له أحب أن تأتيه فتخبره لعل الله أن يهديه فجاءه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له ورقة هذا الذي جاءك جاءك في نور أو ظلمة فاخبره رسول الله صلى الله عليه و سلم عن صفة جبريل وما رآه من عظمته وما أوحاه إليه فقال ورقة أشهد أن هذا جبريل وأن هذا كلام الله فقد أمرك بشيء تبلغه قومك وانه لأمر نبوة فان أدرك زمانك أتبعك ثم قال أبشر ابن عبد المطلب بما بشرك الله به قال وذاع قول ورقة وتصديقه لرسول الله صلى الله عليه و سلم فشق ذلك على الملأ من قومه قال وفتر الوحي فقالوا لو كان من عند الله لتتابع ولكن الله قلاه فانزل الله والضحى وألم نشرح بكمالهما
وقال البيهقي حدثنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو العباس حدثنا احمد بن عبد الجبار حدثنا يونس عن ابن اسحاق حدثني اسماعيل بن أبي حكيم مولى آل الزبير أنه حدثه عن خديجة بنت خويلد أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه و سلم فيما بينه مما أكرمه الله به من نبوته يا ابن عم تستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك فقال نعم فقالت إذا جاءك فاخبرني فبينا رسول الله صلى الله عليه و سلم عندها إذ جاء جبريل فرآه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا خديجة هذا جبريل فقالت أتراه الآن قال نعم قالت فاجلس إلى شقي الايمن فتحول فجلس فقالت أتراه الآن قال نعم قالت فتحول فاجلس في حجري فتحول فجلس في حجرها فقالت هل تراه الآن قال نعم فتحسرت رأسها فشالت (3/15)
خمارها ورسول الله صلى الله عليه و سلم جالس في حجرها فقالت هل تراه الآن قال لا قالت ما هذا بشيطان ان هذا لملك يا ابن عم فاثبت وأبشر ثم آمنت به وشهدت أن ما جاء به هو الحق
قال ابن اسحاق فحدثت عبد الله بن حسن هذا الحديث فقال قد سمعت أمي فاطمة بنت الحسين تحدث بهذا الحديث عن خديجة إلا أني سمعتها تقول أدخلت رسول الله صلى الله عليه و سلم بينها وبين درعها فذهب عندك ذلك جبريل عليه السلام قال البيهقي وهذا شيء كان من خديجة تصنعه تستثبت به الأمر احتياطا لدينها وتصديقا فاما النبي صلى الله عليه و سلم فقد كان واثق بما قال له جبريل وأراه من الآيات التي ذكرناها مرة بعد أخرى وما كان من تسليم الشجر والحجر عليه صلى الله عليه و سلم تسليما
وقد قال مسلم في صحيحه حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن بكير حدثنا ابراهيم بن طهمان حدثني سماك بن حرب عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن بعث إني لأعرفه الآن وقال أبو داود الطيالسي حدثنا سليمان بن معاذ عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن بمكة لحجرا كان يسلم على ليالي بعثت إني لأعرفه إذا مررت عليه وروى البيهقي من حديث اسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبيرعن عباد بن عبد الله عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة فخرج في بعض نواحيها فما استقبله شجر ولا جبل إلا قال السلام عليك يا رسول الله وفي رواية لقد رأيتني أدخل معه الوادي فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال السلام عليكم يا رسول الله وأنا أسمعه فصل
قال البخاري في روايته المتقدمة ثم فتر الوحي حتى حزن النبي صلى الله عليه و سلم فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤس شواهق الجبال فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه تبدى له جبريل فقال يا محمد انك رسول الله حقا فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه فيرجع فاذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك فاذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك وفي الصحيحين من حديث عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال سمعت أبا سلمة عبد الرحمن يحدث عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يحدث عن فترة الوحي قال فبينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري قبل السماء فاذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء فجثيت منه فرقا حتى هويت إلى الأرض فجئت أهلي فقلت زملوني زملوني فانزل الله يا أيها المدثر قم فانذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر قال ثم حمى الوحي وتتابع فهذا كان أول ما نزل من القرآن (3/16)
بعد فترة الوحي لا مطلقا ذاك قوله اقرأ باسم ربك الذي خلق وقد ثبت عن جابر أن أول ما نزل يا أيها المدثر واللائق حمل كلامه ما أمكن على ما قلناه فان في سياق كلامه ما يدل على تقدم مجيء الملك الذي عرفه ثانيا بما عرفه به أولا اليه ثم قوله يحدث عن فترة الوحي دليل على تقدم الوحي على هذا الايحاء والله أعلم وقد ثبت في الصحيحين من حديث علي بن المبارك وعند مسلم والأوزاعي كلاهما عن يحيى بن أبي كثير قال سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن أي القرآن أنزل قبل فقال ( يا أيها المدثر ) فقلت ( واقرأ باسم ربك ) فقال سألت جابر بن عبد الله أي القرآن نزل قبل فقال ( يا أيها المدثر ) فقلت ( واقرأ باسم ربك فقال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إني جاورت بحراء شهرا فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي فنوديت فنظرت بين يدي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فلم أر شيئا ثم نظرت إلى السماء فاذا هو على العرش في الهواء فاخذتني رعدة أو قال وحشة فاتيت خديجة فامرتهم فدثروني فانزل الله ( يا أيها المدثر ) حتى بلغ ( وثيابك فطهر ) وقال في رواية فاذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجثيت منه وهذا صريح في تقدم اتيانه اليه وانزاله الوحي من الله عليه كما ذكرناه والله أعلم ومنهم زعم أن أول ما نزل بعد فترة الوحي سورة والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى إلى آخرها قاله محمد بن اسحاق وقال بعض القراء ولهذا كبر رسول الله صلى الله عليه و سلم في أولها فرحا وهو قول بعيد يرده ما تقدم من رواية صاحبي الصحيح من أول القرآن نزولا بعد فترة الوحي يا أيها المدثر قم فانذر ولكن نزلت سورة والضحى بعد فترة أخرى كانت ليالي يسيرة كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث الاسود بن قيس عن جندب بن عبد الله البجلي قال اشتكى رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يقم ليلة أو ليلتين أو ثلاثا فقالت امرأة ما أرى شيطانك الا تركك فانزل الله والضحى والليل اذا سجى ما ودعك ربك وما قلى وبهذا الأمر حصل الارسال إلى الناس وبالأول حصلت النبوة وقد قال بعضهم كانت مدة الفترة قريبا من سنتين أو سنتين ونصفا والظاهر والله أعلم أنها المدة التي اقترن معه ميكائيل كما قال الشعبي وغيره ولا ينفي هذا تقدم ايحاء جبريل اليه أولا اقرأ باسم ربك الذي خلق ثم اقترن به جبريل بعد نزول يا أيها المدثر قم فانذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر وثم حمى الوحي بعد هذا وتتابع أي تدارك شيئا بعد شيء وقام حينئذ رسول الله صلى الله عليه و سلم في الرسالة أتم القيام وشمر عن ساق العزم ودعا إلى الله القريب والبعيد والأحرار والعبيد فآمن به حينئذ كل لبيب نجيب سعيد واستمر على مخالفته وعصيانه كل جبار عنيد فكان أول من بادر إلى التصديق من الرجال الأحرار أبو بكر الصديق ومن الغلمان علي بن أبي طالب ومن النساء خديجة بنت خويلد زوجته عليه السلام ومن الموالي مولاه زيد بن حارثة الكلبي رضي (3/17)
الله عنهم وأرضاهم وتقدم الكلام على ايمان ورقة بن نوفل بما وجد من الوحي ومات في الفترة رضي الله عنه فصل
( في منع الجان ومردة الشياطين من استراق السمع حين أنزل القرآن لئلا يختطف أحدهم منه ولو حرفا واحدا فيلقيه على لسان وليه فيلتبس الأمر ويختلط الحق )
فكان من رحمةالله وفضله ولطفه بخلقه أن حجبهم عن السماء كما قال الله تعالى إخبارا عنهم في قوله وإنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا وانا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا وقال تعالى وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون قال الحافظ أبو نعيم حدثنا سليمان بن أحمد وهو الطبراني حدثنا عبد الله بن محمد ابن سعيد بن أبي مريم حدثنا محمد بن يوسف الفريابي حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال كان الجن يصعدون إلى السماء يستمعون الوحي فاذا حفظوا الكلمة زادوا فيها تسعا فاما الكلمة فتكون حقا وأما ما زادوا فتكون باطلا فلما بعث النبي صلى الله عليه و سلم منعوا مقاعدهم فذكروا ذلك لإبليس ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك فقال لهم إبليس هذا لأمر قد حدث في الأرض فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلى الله عليه و سلم قائما يصلي بين جبلين فاتوه فاخبروه فقال هذا الأمر الذي قد حدث في الأرض وقال أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال انطلق رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه عامدين الى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا ما لكم قالوا حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب فقالوا ما ذاك إلا من شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة وهو بنخل عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء فرجعوا إلى قومهم فقالوا ( يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا ) فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه و سلم قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن الآية أخرجاه في الصحيحين وقال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا محمد بن فضيل عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال إنه لم تكن قبيلة من الجن إلا ولهم مقاعد للسمع فاذا نزل الوحي سمعت الملائكة صوتا كصوت الحديدة القيتها على الصفا قال فاذا سمعت الملائكة خروا سجدا فلم يرفعوا رؤسهم (3/18)
حتى ينزل فاذا نزل قال بعضهم لبعض ماذا قال ربكم فان كان مما يكون في السماء قالوا الحق وهو العلي الكبير وإن كان مما يكون في الأرض من أمر الغيب أو موت أو شيء مما يكون في الأرض تكلموا به فقالوا يكون كذا وكذا فتسمعه الشياطين فينزلونه على أوليائهم فلما بعث النبي محمد صلى الله عليه و سلم دحروا بالنجوم فكان أول من علم بها ثقيف فكان ذو الغنم منهم ينطلق إلى غنمه فيذبح كل يوم شاة وذا الإبل فينحر كل يوم بعيرا فاسرع الناس في أموالهم فقال بعضهم لبعض لا تفعلوا فان كانت النجوم التي يهتدون بها وإلا فانه لأمر حدث فنظروا فاذا النجوم التي يهتدى بها كما هي لم يزل منها شيء فكفوا وصرف الله الجن فسمعوا القرآن فلما حضروه قالوا انصتوا وانطلقت الشياطين إلى إبليس فاخبروه فقال هذا حدث حدث في الأرض فأتوني من كل أرض بتربة فأتوه بتربة تهامة فقال ههنا الحدث ورواه البيهقي والحاكم من طريق حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب وقال الواقدي حدثني أسامة بن زيد بن أسلم عن عمر بن عبدان العبسي عن كعب قال لم يرم بنجم منذ رفع عيسى حتى تنبأ رسول الله صلى الله عليه و سلم فرمى بها فرأت قريش أمرا لم تكن تراه فجعلوا يسيبون أنعامهم ويعتقون أرقاءهم يظنون أنه الفناء فبلغ ذلك من فعلهم أهل الطائف ففعلت ثقيف مثل ذلك فبلغ عبد ياليل بن عمرو ما صنعت ثقيف قال ما فعلتم ما أرى قالوا رمى بالنجوم فرأيناها تهافت من السماء فقال إن افادة المال بعد ذهابه شديد فلا تعجلوا وانظروا فان تكن نجوما تعرف فهو عندنا من فناء الناس وإن كانت نجوما لا تعرف فهو لأمر قد حدث فانظروا فاذا هي لا تعرف فاخبروه فقال الأمر فيه مهلة بعد هذا عند ظهور نبي فما مكثوا إلا يسيرا حتى قدم عليهم أبو سفيان بن حرب إلى أمواله فجاء عبد ياليل فذاكره أمر النجوم فقال أبو سفيان ظهر محمد بن عبد الله يدعي أنه نبي مرسل فقال عبد ياليل فعند ذلك رمى بها وقال سعيد بن منصور عن خالد بن حصين عن عامر الشعبي قال كانت النجوم لا يرمى بها حتى بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم فسيبوا أنعامهم وأعتقوا رقيقهم فقال عبد ياليل أنظروا فان كانت النجوم التي تعرف فهو عند فناء الناس وإن كانت لا تعرف فهو لأمر قد حدث فنظروا فاذا هي لا تعرف قال فامسكوا فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى جاءهم خروج النبي صلى الله عليه و سلم وروى البيهقي والحاكم من طريق العوفي عن ابن عباس قال لم تكن سماء الدنيا تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما وسلامه فلعل مراد من نفى ذلك أنها لم تكن تحرس حراسة شديدة ويجب حمل ذلك على هذا لما ثبت في الحديث من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس رضي الله عنهما بينا رسول الله صلى الله عليه و سلم جالس إذ رمى بنجم فاستدار فقال ما كنتم تقولون إذا رمي بهذا قال كنا نقول مات عظيم وولد عظيم فقال لا ولكن فذكر الحديث كما تقدم عند خلق (3/19)
السماء وما فيها من الكواكب في أول بدء الخلق ولله الحمد
وقد ذكر ابن اسحاق في السيرة قصة رمي النجوم وذكر عن كبير ثقيف أنه قال لهم في النظر في النجوم إن كانت أعلام السماء أو غيرها ولكن سماه عمرو بن أمية فالله أعلم وقال السدي لم تكن السماء تحرس إلا أن يكون في الأرض نبي أو دين لله ظاهر وكانت الشياطين قبل محمد صلى الله عليه و سلم قد اتخذت المقاعد في سماء الدنيا يستمعون ما يحدث في السماء من أمر فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه و سلم نبيا رجموا ليلة من الليالي ففزع لذلك أهل الطائف فقالوا هلك أهل السماء لما رأوا من شدة النار في السماء واختلاف الشهب فجعلوا يعتقون أرقاءهم ويسيبون مواشيهم فقال لهم عبد ياليل بن عمرو ابن عمير ويحكم يا معشر أهل الطائف امسكوا عن أموالكم وانظروا الى معالم النجوم فان رأيتموها مستقرة في أمكنتها فلم يهلك اهل السماء وإنما هو من ابن أبي كبشة وإن أنتم لم تروها فقد أهلك أهل السماء فنظروا فرأوها فكفوا عن أموالهم وفزعت الشياطين في تلك الليلة فاتوا ابليس فقال ائتوني من كل أرض بقبضة من تراب فاتوه فشم فقال صاحبكم بمكة فبعث سبعة نفر من جن نصيبين فقدموا مكة فوجدوا رسول الله صلى الله عليه و سلم في المسجد الحرام يقرأ القرآن فدنوا منه حرصا على القرآن حتى كادت كلاكلهم تصيبه ثم أسلموا فانزل الله أمرهم على نبيه صلى الله عليه و سلم وقال الواقدي حدثني محمد بن صالح عن ابن أبي حكيم يعني اسحاق عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال لما بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم أصبح كل صنم منكسا فاتت الشياطين فقالوا له ما على الأرض من صنم إلا وقد أصبح منكسا قال هذا نبي قد بعث فالتمسوه في قرى الأرياف فالتمسوه فقالوا لم نجده فقال أنا صاحبه فخرج يلتمسه فنودي عليك بجنبة الباب يعني مكة فالتمسه بها فوجده بها عند قرن الثعالب فخرج إلى الشياطين فقال إني قد وجدته معه جبريل فما عندكم قالوا نزين الشهوات في عين أصحابه ونحببها إليهم قال فلا آسى اذا وقال الواقدي حدثني طلحة بن عمرو عن ابن أبي مليكة عن عبد الله بن عمرو قال لما كان اليوم الذي تنبأ فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم منعت الشياطين من السماء ورموا بالشهب فجاؤا إلى ابليس فذكروا ذلك له فقال أمر قد حدث هذا نبي قد خرج عليكم بالأرض المقدسة مخرج نبي اسرائيل قال فذهبوا إلى الشام ثم رجعوا اليه فقالوا ليس بها أحد فقال ابليس أنا صاحبه فخرج في طلبه بمكة فاذا رسول الله صلى الله عليه و سلم بحراء منحدرا معه جبريل فرجع إلى أصحابه فقال قد بعث احمد ومعه جبريل فما عندكم قالوا الدنيا نحببها الى الناس قال فذاك اذا قال الواقدي وحدثني طلحة ابن عمرو عن عطاء عن ابن عباس قال كانت الشياطين يستمعون الوحي فلما بعث محمد صلى الله عليه و سلم منعوا فشكوا ذلك إلى إبليس فقال لقد حدث أمر فرقي فوق أبي قبيس وهو أول جبل وضع على وجه الأرض فرأى رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي خلف المقام فقال اذهب فاكسر عنقه فجاء يخطر (3/20)
وجبريل عنده فركضه جبريل ركضة طرحه في كذا وكذا فولى الشيطان هاربا ثم رواه الواقدي وأبو أحمد الزبيري كلاهما عن رباح بن أبي معروف عن قيس بن سعد عن مجاهد فذكر مثل هذا وقال فركضه برجله فرماه بعدن فصل
في كيفية اتيان الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم
قد تقدم كيفية ما جاءه جبريل في أول مرة وثاني مرة أيضا وقال مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها إن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يا رسول الله كيف يأتيك الوحي فقال أحيانا يأتيني مثل صلصة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا يكلمني فاعي ما يقول قالت عائشة رضي الله عنها ولقد رأيته صلى الله عليه و سلم ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وأن جبينه ليتفصد عرقا أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك به ورواه الامام أحمد عن عامر بن صالح عن هشام بن عروة به نحوه وكذا رواه عبدة بن سليمان وأنس بن عياض عن هشام بن عروة وقد رواه أيوب السختياني عن هشام عن أبيه عن الحارث بن هشام أنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت كيف يأتيك الوحي فذكره ولم يذكر عائشة وفي حديث الافك قالت عائشة فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه فاخذه ما كان يأخذه من البرجاء حتى أنه كان يتحدر منه مثل الجمان من العرق وهو في يوم شات من ثقل الوحي الذي نزل عليه
وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق أخبرني يونس بن سليم قال املى علي يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن عروة بن عبد الرحمن بن عبد القاري سمعت عمر بن الخطاب يقول كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه و سلم الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل وذكر تمام الحديث في نزول قد افلح المؤمنون وكذا رواه الترمذي والنسائي من حديث عبد الرزاق ثم قال النسائي منكر لا نعرف أحدا رواه غير يونس بن سليم ولا نعرفه وفي صحيح مسلم وغيره من حديث الحسن عن حطان ابن عبد الله الرقاشي عن عبادة بن الصامت قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا نزل عليه الوحي كربه ذلك وتربد وجهه وفي رواية وغمض عينيه وكنا نعرف ذلك منه وفي الصحيحين حديث زيد ابن ثابت حين نزلت لا يستوي القاعدون من المؤمنين فلما شكى ابن أم مكتوم ضرارته نزلت غير أولى الضرر قال وكانت فخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم على فخذي وأنا أكتب فلما نزل الوحي كادت فخذه ترض فخذي وفي صحيح مسلم من حديث همام بن يحيى عن عطاء عن يعلى بن أمية قال قال (3/21)
لي عمر أيسرك أن تنظر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يوحى إليه فرفع طرف الثوب عن وجهه وهو يوحى إليه بالجعرانة فإذا هو محمر الوجه وهو يغط كما يغط البكر وثبت في الصحيحين من حديث عائشة لما نزل الحجاب وأن سودة خرجت بعد ذلك إلى المناصع ليلا فقال عمر قد عرفناك يا سودة فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فسألته وهو جالس يتعشى والعرق في يده فاوحى الله اليه والعرق في يده ثم رفع رأسه فقال إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن فدل هذا على أنه لم يكن الوحي يغيب عنه احساسه بالكلية بدليل أنه جالس ولم يسقط العرق أيضا من يده صلوات الله وسلامه دائما عليه وقال أبو داود الطيالسي حدثنا عباد بن منصور حدثنا عكرمة عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أنزل عليه الوحي تربد لذلك جسده ووجهه وأمسك عن أصحابه ولم يكلمه أحد منهم وفي مسند أحمد وغيره من حديث ابن لهيعة حدثني يزيد ابن أبي حبيب عن عمرو بن الوليد عن ابن عبد الله بن عمرو قلت يا رسول الله هل تحس بالوحي قال نعم اسمع صلاصل ثم أثبت عند ذلك وما من مرة يوحى إلي إلا ظننت أن نفسي تفيظ منه وقال أبو يعلى الموصلي حدثنا إبراهيم بن الحجاج حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا عاصم بن كليب حدثنا أبي عن خاله العليان بن عاصم قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنزل عليه وكان إذا أنزل عليه دام بصره وعيناه مفتوحة وفرغ سمعه وقلبه لما يأتيه من الله عز و جل وروى أبو نعيم من حديث قتيبة حدثنا علي بن غراب عن الأحوص بن حكيم عن أبي عوانة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم اذا نزل عليه الوحي صدع وغلف رأسه بالحناء هذا حديث غريب جدا وقال الامام احمد حدثنا أبو النضر حدثنا أبو معاوية سنان عن ليث عن شهر بن حوشب عن اسماء بنت يزيد قالت إني لآخذه بزمام العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ نزلت عليه المائدة كلها وكادت من ثقلها تدق عضد الناقة وقد رواه أبو نعيم من حديث الثوري عن ليث بن أبي سليم به وقال الامام أحمد ايضا حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثني جبر بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو قال أنزلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها وروى ابن مردويه من حديث صباح ابن سهل عن عاصم الاحول حدثتني أم عمرو عن عمها انه كان في مسير مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت عليه سورة المائدة فاندق عنق الراحلة من ثقلها وهذا غريب من هذا الوجه ثم قد ثبت في الصحيحين نزول سورة الفتح على رسول الله صلى الله عليه و سلم مرجعه من الحديبية وهو على راحلته فكان يكون تارة وتارة بحسب الحال والله أعلم وقد ذكرنا انواع الوحي اليه صلى الله عليه و سلم في أول شرح البخاري وما ذكره الحليمي وغيره من الأئمة رضي الله عنهم (3/22)
فصل
قال الله تعالى لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فاذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه وقال تعالى ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي اليك وحيه وقل رب زدني علما وكان هذا في الابتداء كان عليه السلام من شدة حرصه على اخذه من الملك ما يوحى إليه عن الله عز و جل ليساوقه في التلاوة فامره الله تعالى أن ينصت لذلك حتى يفرغ من الوحي وتكفل له ان يجمعه في صدره وان ييسر عليه تلاوته وتبليغه وان يبينه له ويفسره ويوضحه ويوقفه على المراد منه ولهذا قال ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي اليك وحيه وقل رب زدني علما وقال لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه أي في صدرك وقرآنه أي وأن تقرأه فاذا قرأناه أي تلاه عليك الملك فاتبع قرآنه أي فاستمع له وتدبره ثم إن علينا بيانه وهو نظير قوله وقل رب زدني علما وفي الصحيحين من حديث موسى بن أبي عائشة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعالج من التنزيل شدة فكان يحرك شفتيه فانزل الله لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه قال جمعه في صدرك ثم تقرأه فاذا قرأناه فاتبع قرآنه فاستمع له وأنصت ثم إن علينا بيانه قال فكان إذا أتاه جبريل أطرق فاذا ذهب قرأه كما وعده الله عز و جل فصل
قال ابن اسحاق ثم تتابع الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو مصدق بما جاءه منه قد قبله بقبوله وتحمل منه ما حمله على رضا العباد وسخطهم وللنبوة أثقال ومؤنة لا يحملها ولا يستضلع بها إلا أهل القوة والعزم من الرسل بعون الله وتوفيقه لما يلقون من الناس وما يرد عليهم مما جاؤا به عن الله عز و جل فمضى رسول الله صلى الله عليه و سلم على ما أمر الله على ما يلقى من قومه من الخلاف والأذى
قال ابن اسحاق وآمنت خديجة بنت خويلد وصدقت بما جاءه من الله ووازرته على أمره وكانت أول من آمن بالله ورسوله وصدقت بما جاء منه فخفف الله بذلك عن رسوله لا يسمع شيئا يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بها إذا رجع اليها تثبته وتخفف عنه وتصدقه وتهون عليه أمر الناس رضي الله عنها وارضاها
قال ابن اسحاق وحدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن جعفر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أمرت أن أبشر خديجة ببيت من قصب لا صخب فيه ولا نضب وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث هشام قال ابن هشام القصب هاهنا اللؤلؤ المجوف (3/23)
قال ابن اسحاق وجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يذكر جميع ما أنعم الله بع عليه وعلى العباد من النبوة سرا إلى من يطمئن اليه من أهله وقال موسى بن عقبة عن الزهري كانت خديجة أول من آمن بالله وصدق رسوله قبل أن تفرض الصلاة
قلت يعني الصلوات الخمس ليلة الاسراء فأما أصل الصلاة فقد وجب في حياة خديجة رضي الله عنها كما سنبينه
وقال ابن اسحاق وكانت خديجة أول من آمن بالله ورسوله وصدق بما جاء به ثم أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم حين افترضت عليه الصلاة فهمز له بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت له عين من ماء زمزم فتوضأ جبريل ومحمد عليهما السلام ثم صلى ركعتين وسجد أربع سجدات ثم رجع النبي صلى الله عليه و سلم وقد أقر الله عينه وطابت نفسه وجاءه ما يحب من الله فأخذ يد خديجة حتى أتى بها الى العين فتوضأ كما توضأ جبريل ثم ركع ركعتين وأربع سجدات ثم كان هو وخديجة يصليان سرا
قلت صلاة جبريل هذه غير الصلاة التي صلاها به عند البيت مرتين فبين له أوقات الصلوات الخمس أولها وآخرها فان ذلك كان بعد فرضيتها ليلة الاسراء وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان فصل
أول من أسلم من متقدمي الاسلام والصحابة وغيرهم
قال ابن اسحاق ثم إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه جاء بعد ذلك بيوم وهما يصليان فقال علي يا محمد ما هذا قال دين الله الذي اصطفى لنفسه وبعث به رسله فادعوك إلى الله وحده لا شريك له وإلى عبادته وأن تكفر باللات والعزى فقال علي هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم فلست بقاض أمرا حتى أحدث به أبا طالب فكره رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يفشي عليه سره قبل أن يستعلن أمره فقال له يا علي إذ لم تسلم فاكتم فمكث علي تلك الليلة ثم أن الله اوقع في قلب علي الاسلام فاصبح غاديا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى جاءه فقال ماذا عرضت علي يا محمد فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وتكفر باللات والعزى وتبرأ من الأنداد ففعل علي وأسلم ومكث يأتيه على خوف من أبي طالب وكتم علي اسلامه ولم يظهره وأسلم ابن حارثة يعني زيدا فمكثا قريبا من شهر يختلف علي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان (3/24)
مما أنعم الله به على علي أنه كان في حجر رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل الإسلام
قال ابن اسحاق حدثني ابن أبي نجيح عن مجاهد قال وكان مما أنعم الله به على علي أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لعمه العباس وكان من أيسر بني هاشم يا عباس إن أخاك ابا طالب كثير العيال وقد اصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة فانطلق حتى تخفف عنه من عياله فاخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم عليا فضمه اليه فلم يزل مع رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى بعثه الله نبيا فاتبعه علي وآمن به وصدقه وقال يونس بن بكير عن محمد ابن اسحاق حدثني يحيى بن أبي الاشعث الكندي من أهل الكوفة حدثني اسماعيل بن أبي إياس بن عفيف عن ابيه عن جده عفيف وكان عفيف أخا الاشعث بن قيس لأمه أنه قال كنت امرءا تاجرا فقدمت منى أيام الحج وكان العباس بن عبد المطلب امرءا تاجرا فاتيته ابتاع منه وابيعه قال فبينا نحن إذ خرج رجل من خباء فقام يصلي تجاه الكعبة ثم خرجت امرأة فقامت تصلي وخرج غلام فقام يصلي معه فقلت يا عباس ما هذا الدين إن هذا الدين ما ندري ما هو فقال هذا محمد بن عبد الله يزعم أن الله أرسله وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه وهذه امرأته خديجة بنت خويلد آمنت به وهذا الغلام ابن عمه علي بن أبي طالب آمن به قال عفيف فليتني كنت آمنت يومئذ فكنت أكون ثانيا وتابعه ابراهيم بن سعد عن ابن اسحاق وقال في الحديث إذ خرج رجل من خباء قريب منه فنظر إلى السماء فلما رآها قد مالت قام يصلي ثم ذكر قيام خديجة وراءه وقال ابن جرير حدثني محمد بن عبيد المحاربي حدثنا سعيد بن خثيم عن أسد ابن عبدة البجلي عن يحيى بن عفيف قال جئت زمن الجاهلية إلى مكة فنزلت على العباس بن عبد المطلب فلما طلعت الشمس وحلقت في السماء وأنا أنظر إلى الكعبة أقبل شاب فرمى ببصره إلى السماء ثم استقبل الكعبة فقام مستقبلها فلم يلبث حتى جاء غلام فقام عن يمينه فلم يلبث حتى جاءت امرأة فقامت خلفهما فركع الشاب فركع الغلام والمرأة فرفع الشاب فرفع الغلام والمرأة فخر الشاب ساجدا فسجدا معه فقلت يا عباس أمر عظيم فقال أمر عظيم فقال أتدري من هذا فقلت لا فقال هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي أتدري من الغلام قلت لا قال هذا علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أتدري من هذه المرأة التي خلفهما قلت لا قال هذه خديجة بنت خويلد زوجة ابن أخي وهذا حدثني أن ربك رب السماء والأرض أمره بهذا الذي تراهم عليه وايم الله ما أعلم على ظهر الأرض كلها أحدا على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة وقال ابن جرير حدثني ابن حميد حدثنا عيسى بن سوادة بن أبي الجعد حدثنا محمد بن المنكدر وربيعة بن أبي عبد الرحمن وأبو حازم والكلبي قالوا علي أول من أسلم قال الكلبي اسلم وهو ابن تسع سنين وحدثنا (3/25)
ابن حميد حدثنا سلمة عن ابن اسحاق قال أول ذكر آمن برسول الله صلى الله عليه و سلم وصلى معه وصدقه علي بن ابي طالب وهو ابن عشر سنين وكان في حجر رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل الاسلام قال الواقدي أخبرنا إبراهيم عن نافع عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال اسلم علي وهو ابن عشر سنين قال الواقدي واجمع أصحابنا على أن عليا أسلم بعد ما تنبأ رسول الله بسنة وقال محمد بن كعب أول من أسلم من هذه الأمة خديجة وأول رجلين أسلما أبو بكر وعلي وأسلم علي قبل أبي بكر وكان علي يكتم إيمانه خوفا من أبيه حتى لقيه أبوه قال أسلمت قال نعم قال وازر ابن عمك وانصره قال وكان أبو بكر الصديق أول من أظهر الاسلام وروى ابن جرير في تاريخه من حديث شعبة عن أبي بلج عن عمرو بن ميمون عن ابن عباس قال أول من صلى علي وحدثنا عبد الحميد بن يحيى حدثنا شريك عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال بعث النبي صلى الله عليه و سلم يوم الاثنين وصلى علي يوم الثلاثاء وروى من حديث شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي حمزة رجل من الأنصار سمعت زيد بن أرقم يقول أول من أسلم مع رسول الله صلى الله عليه و سلم علي بن أبي طالب قال فذكرته للنخعي فانكره وقال أبو بكر أول من أسلم ثم قال حدثنا عبيد الله بن موسى حدثنا العلاء عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله سمعت عليا يقول أنا عبد الله وأخو رسوله وأنا الصديق الاكبر لا يقولها بعدي إلا كاذب مفتر صليت قبل الناس بسبع سنين وهكذا رواه ابن ماجه عن محمد بن اسماعيل الرازي عن عبيد الله بن موسى الفهمي وهو شيعي من رجال الصحيح عن العلاء بن صالح الازدي الكوفي وثقوه ولكن قال أبو حاتم كان من عتق الشيعة وقال علي بن المديني روى أحاديث مناكير والمنهال بن عمرو ثقة وأما شيخه عباد بن عبد الله وهو الاسدي الكوفي فقد قال فيه علي بن المديني هو ضعيف الحديث وقال البخاري فيه نظر وذكره ابن حبان في الثقات وهذا الحديث منكر بكل حال ولا يقوله علي رضي الله عنه وكيف يمكن أن يصلي قبل الناس بسبع سنين هذا لا يتصور أصلا والله أعلم وقال آخرون أول من أسلم من هذه الأمة أبو بكر الصديق والجمع بين الاقوال كلها أن خديجة أول من أسلم من النساء وظاهر السباقات وقيل الرجال أيضا وأول من أسلم من الموالي زيد بن حارثة وأول من أسلم من الغلمان علي بن ابي طالب فانه كان صغيرا دون البلوغ على المشهور وهؤلاء كانوا إذ ذاك أهل البيت
وأول من اسلم من الرجال الأحرار أبو بكر الصديق وإسلامه كان أنفع من اسلام من تقدم ذكرهم إذ كان صدرا معظما ورئيسا في قريش مكرما وصاحب مال وداعية إلى الاسلام وكان محببا متألفا يبذل المال في طاعة الله ورسوله كما سيأتي تفصيله قال يونس عن ابن اسحاق ثم أن أبا بكر الصديق لقي رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أحق ما تقول قريش يا محمد من تركك آلهتنا وتسفهك (3/26)
عقولنا وتكفيرك آبائنا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم بلى إني رسول الله ونبيه بعثني لابلغ رسالته وأدعوك إلى الله بالحق فوالله إنه للحق أدعوك يا ابا بكر إلى الله وحده لا شريك له ولا تعبد غيره والموالاة على طاعته وقرأ عليه القرآن فلم يقر ولم ينكر فاسلم وكفر بالاصنام وخلع الانداد وأقر بحق الاسلام ورجع أبو بكر وهو مؤمن مصدق
قال ابن اسحاق حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة وتردد ونظر إلا أبا بكر ما عكم عنه حين ذكرته ولا تردد فيه عكم أي تلبث وهذا الذي ذكره ابن اسحاق في قوله فلم يقر ولم ينكر منكر فان ابن اسحاق وغيره ذكروا أنه كان صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل البعثة وكان يعلم من صدقه وأمانته وحسن سجيته وكرم أخلاقه ما يمنعه من الكذب على الخلق فكيف يكذب على الله ولهذا بمجرد ما ذكر له إن الله أرسله بادر إلى تصديقه ولم يتلعثم ولا عكم وقد ذكرنا كيفية اسلامه في كتابنا الذي افردناه في سيرته وأوردنا فضائله وشمائله واتبعنا ذلك بسيرة الفاروق أيضا وأوردنا ما رواه كل منهما عن النبي صلى الله عليه و سلم من الاحاديث وما روى عنه من الآثار والاحكام والفتاوى فبلغ ذلك ثلاث مجلدات والله الحمد والمنة وقد ثبت في صحيح البخاري عن أبي الدرداء في حديث ما كان بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من الخصومة وفيه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله بعثني اليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدق وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركوا لي صاحبي مرتين فما أوذي بعدها وهذا كالنص على أنه أول من أسلم رضي الله عنه وقد روى الترمذي وابن حبان من حديث شعبة عن سعيد الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ألست أحق الناس بها ألست أول من اسلم الست صاحب كذا وروى ابن عساكر من طريق بهلول بن عبيد حدثنا أبو اسحاق السبيعي عن الحارث سمعت عليا يقول أول من اسلم من الرجال أبو بكر الصديق وأول من صلى مع النبي صلى الله عليه و سلم من الرجال علي بن أبي طالب وقال شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي حمزة عن زيد بن أرقم قال أول من صلى مع النبي صلى الله عليه و سلم أبو بكر الصديق رواه أحمد والترمذي والنسائي من حديث شعبة وقال الترمذي حسن صحيح وقد تقدم رواية ابن جرير لهذا الحديث من طريق شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي حمزة عن زيد بن أرقم قال أول من أسلم علي بن ابي طالب قال عمرو بن مرة فذكرته لابراهيم النخعي فانكره وقال أول من اسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وروى الواقدي باسانيده عن أبي أروى الدوسي وأبي مسلم بن عبد الرحمن في جماعة من السلف أول من اسلم أبو بكر الصديق وقال يعقوب بن سفيان حدثنا أبو بكر الحميدي حدثنا سفيان بن عيينة عن مالك بن مغول (3/27)
عن رجل قال سئل ابن عباس من أول من آمن فقال أبو بكر الصديق أما سمعت قول حسان ... إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة ... فاذكر أخاك ابا بكر بما فعلا ... خير البرية أوفاها وأعدلها ... بعد النبي وأولاها بما حملا ... والتالي الثاني المحمود مشهده ... وأول الناس منهم صدق الرسلا ... عاش حميدا لأمر الله متبعا ... بأمر صاحبه الماضي وما انتقلا ...
وقد رواه أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا شيخ لنا عن مجالد عن عامر قال سألت ابن عباس او سئل ابن عباس أي الناس أول إسلاما قال أما سمعت قول حسان بن ثابت فذكره وهكذا رواه الهيثم بن عدي عن مجالد عن عامر الشعبي سألت ابن عباس فذكره وقال أبو القاسم البغوي حدثني سريج بن يونس حدثنا يوسف بن الماجشون قال أدركت مشيختنا منهم محمد بن المنكدر وربيعة بن ابي عبد الرحمن وصالح بن كيسان وعثمان بن محمد لا يشكون أن أول القوم اسلاما أبو بكر الصديق رضي الله عنه
قلت وهكذا قال ابراهيم النخعي ومحمد بن كعب ومحمد بن سيرين وسعد بن ابراهيم وهو المشهور عن جمهور أهل السنة وروى ابن عساكر عن سعد بن أبي وقاص ومحمد بن الحنفية أنهما قالا لم يكن أولهم اسلاما ولكن كان أفضلهم اسلاما قال سعد وقد آمن قبله خمسة وثبت في صحيح البخاري من حديث همام بن الحارث عن عمار بن ياسر قال رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم وما معه إلا خمسة أعبد وامرأتان وأبو بكر وروى الامام أحمد وابن ماجه من حديث عاصم بن أبي النجود عن زر عن ابن مسعود قال أول من أظهر الاسلام سبعة رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو بكر وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد فاما رسول الله صلى الله عليه و سلم فمنعه الله بعمه وأما أبو بكر منعه الله بقومه وأما سائرهم فاخذهم المشركون فالبسوهم أدرع الحديد وصهروهم في الشمس فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلالا فانه هانت عليه نفسه في الله وهان على قومه فاخذوه فاعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول أحد أحد وهكذا رواه الثوري عن منصور عن مجاهد مرسلا فاما ما رواه ابن جرير قائلا أخبرنا ابن حميد حدثنا كنانة بن حبلة عن ابراهيم بن طهمان عن حجاج عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن محمد بن سعد بن أبي وقاص قال قلت لأبي أكان أبو بكر أولكم اسلاما قال لا ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين ولكن كان افضلنا اسلاما فانه حديث منكر اسنادا ومتنا قال ابن جرير وقال آخرون كان أول من أسلم زيد ابن حارثة ثم روى من طريق الواقدي عن ابن أبي ذئب سألت الزهري من أول من اسلم من النساء قال خديجة قلت فمن الرجال قال زيد بن حارثة وكذا قال عروة وسليمان بن يسار وغير (3/28)
واحد أول من أسلم من الرجال زيد بن حارثة وقد أجاب أبو حنيفة رضي الله عنه بالجمع بين هذه الاقوال بان أول من أسلم من الرجال الاحرار أبو بكر ومن النساء خديجة ومن الموالي زيد بن حارثة ومن الغلمان علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين
قال محمد بن اسحاق فلما أسلم أبو بكر وأظهر اسلامه دعا إلى الله عز و جل وكان أبو بكر رجلا مألفا لقومه محبا سهلا وكان أنسب قريش لقريش وأعلم قريش بما كان فيها من خير وشر وكان رجلا تاجرا ذا خلق معروف وكان رجال قومه يأتونه ويالفونه لغير واحد من الأمر لعلمه وتجارته وحسن مجالسته فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس اليه فاسلم على يديه فيما بلغني الزبير بن العوام وعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم فانطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ومعهم أبو بكر فعرض عليهم الاسلام وقرأ عليهم القرآن وأنبأهم بحق الاسلام فآمنوا وكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا في الاسلام صدقوا رسول الله صلى الله عليه و سلم وآمنوا بما جاء من عند الله وقال محمد بن عمر الواقدي حدثني الضحاك ابن عثمان عن مخرمة بن سليمان الوالبي عن ابراهيم بن محمد بن أبي طلحة قال قال طلحة بن عبيد الله حضرت سوق بصرى فاذا راهب في صومعته يقول سلوا أهل الموسم أفيهم رجل من أهل الحرم قال طلحة قلت نعم أنا فقال هل ظهر أحمد بعد قلت ومن أحمد قال ابن عبد الله بن عبد المطلب هذا شهره الذي يخرج فيه وهو آخر الأنبياء مخرجه من الحرم ومهاجرا إلى نخل وحرة وسباخ فإياك أن تسبق إليه قال طلحة فوقع في قلبي ما قال فخرجت سريعا حتى قدمت مكة فقلت هل كان من حديث قالوا نعم محمد بن عبد الله الأمين قد تنبأ وقد اتبعه أبو بكر بن أبي قحافة قال فخرجت حتى قدمت على أبي بكر فقلت اتبعت هذا الرجل قال نعم فانطلق اليه فادخل عليه فاتبعه فانه يدعو إلى الحق فأخبره طلحة بما قال الراهب فخرج أبو بكر بطلحة فدخل به على رسول الله صلى الله عليه و سلم فاسلم طلحة وأخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم بما قال الراهب فسر بذلك فلما أسلم أبو بكر وطلحة أخذهما نوفل بن خويلد بن العدوية وكان يدعى أسد قريش فشدهما في حبل واحد ولم يمنعهما بنو تيم فلذلك سمي أبو بكر وطلحة القرينين وقال النبي صلى الله عليه و سلم اللهم اكفنا شر ابن العدوية رواه البيهقي وقال الحافظ أبو الحسن خيثمة بن سليمان الاطرابلسي حدثنا عبيد الله بن محمد بن عبد العزيز العمري قاضي المصيصة حدثنا أبو بكر عبد الله بن عبيد الله بن اسحاق بن محمد بن عمران بن موسى بن طلحة بن عبيد الله حدثني أبي عبيد الله حدثني عبد الله [ بن محمد ] بن عمران ابن ابراهيم بن محمد بن طلحة قال حدثني أبي محمد بن عمران عن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن عائشة رضي الله عنها قالت خرج أبو بكر يريد رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان له صديقا في الجاهلية فلقيه فقال (3/29)
يا أبا القاسم فقدت من مجالس قومك واتهموك بالعيب لآبائها وأمهاتها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إني رسول الله أدعوك إلى الله فلما فرغ كلامه اسلم ابو بكر فانطلق عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم وما بين الاخشبين أحد أكثر سرورا منه باسلام أبي بكر ومضى أبو بكر فراح لعثمان بن عفان وطلحة ابن عبيد الله والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص فاسلموا ثم جاء الغد بعثمان بن مظعون وأبي عبيدة بن الجراح وعبد الرحمن بن عوف وأبي سلمة بن عبد الاسد والأرقم بن ابي الأرقم فاسلموا رضي الله عنهم قال عبد الله بن محمد فحدثني أبي محمد بن عمران عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت لما اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم وكانوا ثمانية وثلاثين رجلا ألح أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه و سلم في الظهور فقال يا ابا بكر إنا قليل فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر رسول الله صلى الله عليه و سلم وتفرق المسلمون في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته وقام أبو بكر في الناس خطيبا ورسول الله صلى الله عليه و سلم جالس فكان أول خطيب دعا إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه و سلم وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين فضربوا في نواحي المسجد ضربا شديدا ووطئ أبو بكر وضرب ضربا شديدا ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين ويحرفهما لوجهه ونزا على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه وجاء بنو تيم يتعادون فاجلت المشركين عن أبي بكر وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله ولا يشكون في موته ثم رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد وقالوا والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة فرجعوا إلى أبي بكر فجعل أبو قحافة وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب فتكلم آخر النهار فقال ما فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم فمسوا منه بالسنتهم وعذلوه ثم قاموا وقالوا لامه أم الخير أنظري أن تطعميه شيئا أو تسقيه إياه فلما خلت به الحت عليه وجعل يقول ما فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت والله مالي علم بصاحبك فقال اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه فخرجت حتى جاءت أم جميل فقالت إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله فقالت ما أعرف ابا بكر ولا محمد بن عبد الله وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك قالت نعم فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعا دنفا فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح وقالت والله إن قوما نالوا هذا منك لاهل فسق وكفر وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم قال فما فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم قالت هذه أمك تسمع قال فلا شيء عليك منها قالت سالم صالح قال أين هو قالت في دار ابن الأرقم قال فان لله علي أن لا أذوق طعاما ولا أشرب شرابا أو آتي رسول الله صلى الله عليه و سلم فامهلتا حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس خرجتا به يتكئ عليهما حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه و سلم قال فأكب عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقبله وأكب عليه المسلمون ورق له رسول الله صلى الله عليه و سلم رقة شديدة فقال أبو بكر بأبي وأمي يا رسول الله ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي وهذه أمي برة بوالدها وأنت مبارك (3/30)
فادعها إلى الله وادع الله لها عسى الله أن يستنقذها بك من النار قال فدعا لها رسول الله صلى الله عليه و سلم ودعاها إلى الله فاسلمت واقاموا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في الدار شهرا وهم تسعة وثلاثون رجلا وقد كان حمزة بن عبد المطلب أسلم يوم ضرب أبو بكر ودعا رسول الله صلى الله عليه و سلم لعمر بن الخطاب أو لأبي جهل بن هشام فاصبح عمر وكانت الدعوة يوم الاربعاء فاسلم عمر يوم الخميس فكبر رسول الله صلى الله عليه و سلم وأهل البيت تكبيرة سمعت بأعلا مكة وخرج أبو الأرقم وهو أعمى كافر وهو يقول اللهم اغفر لبني عبيد الارقم فانه كفر فقام عمر فقال يا رسول الله على ما نخفي ديننا ونحن على الحق ويظهر دينهم وهم على الباطل قال يا عمر إنا قليل قد رأيت ما لقينا فقال عمر فوالذي بعثك بالحق لا يبقى مجلس جلست فيه بالكفر إلا أظهرت فيه الايمان ثم خرج فطاف بالبيت ثم مر بقريش وهي تنتظره فقال أبو جهل بن هشام يزعم فلان أنك صبوت فقال عمر أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله فوثب المشركون إليه ووثب على عتبة فبرك عليه وجعل يضربه وأدخل اصبعه في عينيه فجعل عتبة يصيح فتنحى الناس فقام عمر فجعل لا يدنو منه أحد إلا أخذ بشريف ممن دنا منه حتى أعجز الناس واتبع المجالس التي كان يجالس فيها فيظهر الايمان ثم انصرف إلى النبي صلى الله عليه و سلم وهو ظاهر عليهم قال ما عليك بابي وأمي والله ما بقي مجلس كنت أجلس فيه بالكفر إلا أظهرت فيه الايمان غير هائب ولا خائف فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم وخرج عمر أمامه وحمزة بن عبد المطلب حتى طاف بالبيت وصلى الظهر مؤمنا ثم انصرف إلى دار الأرقم ومعه عمر ثم انصرف عمر وحده ثم انصرف النبي صلى الله عليه و سلم والصحيح أن عمر إنما أسلم بعد خروج المهاجرين إلى أرض الحبشة وذلك في السنة السادسة من البعثة كما سيأتي في موضعه إن شاء الله وقد استقصينا كيفية اسلام أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في كتاب سيرتهما على انفرادها وبسطنا القول هنالك ولله الحمد وثبت في صحيح مسلم من حديث أبي أمامة عن عمرو ابن عبسة السلمي رضي الله عنه قال أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم في أول ما بعث وهو بمكة وهو حينئذ مستخفي فقلت ما أنت قال أنا نبي فقلت وما النبي قال رسول الله قلت الله أرسلك قال نعم قلت بما أرسلك قال بأن تعبد الله وحده لا شريك له وتكسر الاصنام وتوصل الارحام قال قلت نعم ما أرسلك به فمن تبعك على هذا قال حر وعبد يعني أبا بكر وبلالا قال فكان عمرو يقول لقد رأيتني وانا ربع الاسلام قال فاسلمت قلت فاتبعك يا رسول الله قال لا ولكن الحق بقومك فاذا أخبرت أني قد خرجت فاتبعني ويقال إن معنى قوله عليه السلام حر وعبد اسم جنس وتفسير ذلك بابي بكر وبلال فقط فيه نظر فانه قد كان جماعة قد أسلموا قبل عمرو بن عبسة وقد كان زيد بن حارثة أسلم قبل بلال أيضا فلعله أخبر أنه ربع الاسلام بحسب علمه فان (3/31)
المؤمنين كانوا إذ ذاك يستسرون باسلامهم لا يطلع على أمرهم كثير أحد من قراباتهم دع الاجانب دع أهل البادية من الاعراب والله أعلم وفي صحيح البخاري من طريق أبي أسامة عن هاشم بن هاشم عن سعيد بن المسيب قال سمعت سعد بن أبي وقاص يقول ما أسلم أحد في اليوم الذي أسلمت فيه ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الاسلام أما قوله ما أسلم أحد في اليوم الذي أسلمت فيه فسهل ويروى إلا في اليوم الذي أسلمت فيه وهو مشكل إذ يقتضي أنه لم يسبقه أحد بالاسلام وقد علم أن الصديق وعليا وخديجة وزيد بن حارثة أسلموا قبله كما قد حكى الاجماع على تقدم اسلام هؤلاء غير واحد منهم ابن الاثير ونص أبو حنيفة رضي الله عنه على أن كلا من هؤلاء أسلم قبل ابناء جنسه والله أعلم وأما قوله ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الاسلام فمشكل وما أدري على ماذا يوضع عليه إلا أن يكون أخبر بحسب ما علمه والله أعلم وقال ابو داود الطيالسي حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله وهو ابن مسعود قال كنت غلاما يافعا ارعى غنما لعقبة بن أبي معيط بمكة فاتى علي رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو بكر وقد فرا من المشركين فقال أو فقالا عندك يا غلام لبن تسقينا قلت إني مؤتمن ولست بساقيكما فقال هل عندك من جذعة لم ينز عليها الفحل بعد قلت نعم فاتيتهما بها فاعتقلها أبو بكر وأخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم الضرع ودعا فحفل الضرع وأتاه أبو بكر بصخرة متقعرة فحلب فيها ثم شرب هو وأبو بكر ثم سقياني ثم قال للضرع اقلص فقلص فلما كان بعد أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت علمني من هذا القول الطيب يعني القرآن فقال إنك غلام معلم فاخذت من فيه سبعين سورة ما ينازعني فيها أحد وهكذا رواه الامام أحمد عن عفان عن حماد بن سلمة به ورواه الحسن بن عرفة عن أبي بكر بن عياش عن عاصم بن أبي النجود به وقال البيهقي أخبرنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو عبد الله بن بطة الاصبهاني حدثنا الحسن بن الجهم حدثنا الحسين بن الفرج حدثنا محمد بن عمر حدثني جعفر ابن محمد بن خالد بن الزبير عن أبيه أو عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان قال كان اسلام خالد بن سعيد بن العاص قديما وكان أول اخوته اسلم وكان بدء اسلامه أنه رأى في المنام أنه وقف به على شفير النار فذكر من سعتها ما الله أعلم به ويرى في النوم كأن آت أتاه يدفعه فيها ويرى رسول الله صلى الله عليه و سلم آخذا بحقويه لا يقع ففزع من نومه فقال احلف بالله أن هذه لرؤيا حق فلقي ابا بكر بن أبي قحافة فذكر ذلك له فقال أريد بك خير هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم فاتبعه فانك ستتبعه وتدخل معه في الاسلام والاسلام يحجزك ان تدخل فيها وابوك واقع فيها فلقي رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو باجياد فقال يا رسول الله يا محمد إلى ما تدعو قال أدعوك إلى الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وتخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع ولا يضر ولا يبصر ولا ينفع ولا (3/32)
يدري من عبده ممن لا يعبده قال خالد فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله فسر رسول الله صلى الله عليه و سلم باسلامه وتغيب خالد وعلم أبوه باسلامه فارسل في طلبه فأتي به فأنبه وضربه بمقرعة في يده حتى كسرها على رأسه وقال والله لأمنعنك القوت فقال خالد وإن منعتني فان الله يرزقني ما أعيش به وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فكان يكرمه ويكون معه
اسلام حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه و سلم
قال يونس بن بكير عن محمد بن اسحاق حدثني رجل ممن اسلم وكان واعية أن أبا جهل اعترض رسول الله صلى الله عليه و سلم عند الصفا فآذاه وشتمه ونال منه ما يكره من العيب لدينه فذكر ذلك لحمزة بن عبد المطلب فاقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها ضربة شجه منها شجة منكرة وقامت رجال من قريش من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل منه وقالوا ما نراك يا حمزة إلا قد صبوت قال حمزة ومن منعني وقد استبان لي منه ما أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه و سلم وأن الذي يقول حق فوالله لا أنزع فامنعوني إن كنتم صادقين فقال أبو جهل دعوا أبا عمارة فاني والله لقد سببت ابن أخيه سبا قبيحا فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد عز وامتنع فكفوا عما كانوا يتناولون منه وقال حمزة في ذلك شعرا
قال ابن اسحاق ثم رجع حمزة إلى بيته فاتاه الشيطان فقال أنت سيد قريش اتبعت هذا الصابئ وتركت دين آبائك للموت خير لك مما صنعت فاقبل حمزة على نفسه وقال ما صنعت اللهم إن كان رشدا فاجعل تصديقه في قلبي وإلا فاجعل لي مما وقعت فيه مخرجا فبات بليلة لم يبت بمثلها من وسوسة الشيطان حتى أصبح فغدا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا ابن أخي إني قد وقعت في أمر ولا أعرف المخرج منه واقامة مثلي على مالا أدري ما هو أرشد أم هو غي شديد فحدثني حديثا فقد اشتهيت يا ابن أخي أن تحدثني فاقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكره ووعظه وخوفه وبشره فالقى الله في قلبه الايمان بما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أشهد أنك الصادق شهادة الصدق فاظهر يا ابن أخي دينك فوالله ما أحب أن لي ما أظلته السماء وأني على ديني الاول فكان حمزة ممن أعز الله به الدين وهكذا رواه البيهقي عن الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير به (3/33)
ذكر اسلام أبي ذر رضي الله عنه
قال الحافظ البيهقي أخبرنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ حدثنا الحسين بن محمد بن زياد حدثنا عبد الله بن الرومي حدثنا النضر بن محمد حدثنا عكرمة بن عمار عن أبي زميل سماك بن الوليد عن مالك بن مرثد عن أبيه عن أبي ذر قال كنت ربع الإسلام أسلم قبلي ثلاثة نفر وأنا الرابع أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت السلام عليك يا رسول الله أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فرأيت الاستبشار في وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا سياق مختصر وقال البخاري اسلام أبي ذر حدثنا عمرو بن عباس حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن المثنى عن أبي حمزة عن ابن عباس قال لما بلغ أبا ذر مبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لأخيه اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء فاسمع من قوله ثم ائتني فانطلق الآخر حتى قدمه وسمع من كلامه ثم رجع إلى أبي ذر فقال له رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلاما ما هو بالشعر فقال ما شفيتني مما أردت فتزود وحمل شنة فيها ماء حتى قدم مكة فاتى المسجد فالتمس رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا يعرفه وكره أن يسأل عنه حتى أدركه بعض الليل اضطجع فرآه علي فعرف أنه غريب فلما رآه تبعه ولم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد وظل ذلك اليوم ولا يراه النبي صلى الله عليه و سلم حتى أمسى فعاد إلى مضجعه فمر به علي فقال أما آن للرجل يعلم منزله فاقامه فذهب به معه لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى إذا كان يوم الثالث فعاد علي مثل ذلك فاقام معه فقال ألا تحدثني بالذي أقدمك قال إن أعطيتني عهدا وميثاقا لترشدني فعلت ففعل فأخبره قال فانه حق وأنه رسول الله صلى الله عليه و سلم فاذا أصبحت فاتبعني فاني إن رأيت شيئا أخاف عليك قمت كأني أريق الماء وإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي ففعل فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى الله عليه و سلم ودخل معه فسمع من قوله وأسلم مكانه فقال له النبي صلى الله عليه و سلم ارجع إلى قومك فاخبرهم حتى يأتيك أمري فقال والذي بعثك بالحق لاصرخن بها بين ظهرانيهم فخرج حتى أتى المسجد فنادى باعلا صوته اشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ثم قام فضربوه حتى اضجعوه فاتى العباس فاكب عليه فقال ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار وأن طريق تجارتكم إلى الشام فانقذه منهم ثم عاد من الغد بمثلها فضربوه وثاروا اليه فاكب العباس عليه هذا لفظ البخاري وقد جاء اسلامه مبسوطا في صحيح مسلم وغيره فقال الامام أحمد حدثنا يزيد بن هارون حدثنا سليمان بن المغيرة حدثنا حميد بن هلال عن عبد الله ابن الصامت قال أبو ذر خرجنا من قومنا غفار وكان يحلون الشهر الحرام أنا وأخي أنيس وأمنا (3/34)
فانطلقنا حتى نزلنا على خال لنا ذي مال وهيئة فأكرمنا خالنا وأحسن إلينا فحسدنا قومه فقالوا له إنك إذا خرجت عن أهلك خلفك اليهم أنيس فجاء خالنا فثنى ما قيل له فقلت له أما ما مضى من معروفك فقد كدرته ولا جماع لنا فيما بعد قال فقربنا صرمتنا فاحتملنا عليها وتغطى خالنا بثوبه وجعل يبكي قال فانطلقنا حتى نزلنا حضرةمكة قال فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثليها فأتيا الكاهن فخير أنيسا فاتانا بصرمتنا ومثلها وقد صليت يابن أخي قبل أن القى رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاث سنين قال قلت لمن قال لله قلت فأين توجه قال حيث وجهني الله قال واصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل الفيت كأني خفاء حتى تعلوني الشمس قال فقال أنيس إن لي حاجة بمكة فألقني حتى آتيك قال فانطلق فراث علي ثم أتاني فقلت ما حسبك قال لقيت رجلا يزعم أن الله أرسله على دينك قال فقلت ما يقول الناس له قال يقولوا إنه شاعر وساحر وكان أنيس شاعرا قال فقال لقد سمعت الكهان فما يقول بقولهم وقد وضعت قوله على إقراء الشعر فوالله ما يلتئم لسان أحد أنه شعر ووالله إنه لصادق وإنهم لكاذبون قال فقلت له هل أنت كافي حتى انطلق قال نعم وكن من أهل مكة على حذر فانهم قد شنعوا له وتجهموا له قال فانطلقت حتى قدمت مكة فتضعفت رجلا منهم فقلت أين هذا الرجل الذي يدعونه الصابئ قال فاشار إلي فمال أهل الوادي علي بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشيا علي ثم ارتفعت حين ارتفعت كأني نصب أحمر فاتيت زمزم فشربت من مائها وغسلت عني الدم ودخلت بين الكعبة وأستارها فلبثت به يابن أخي ثلاثين من يوم وليلة مالي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني وما وجدت على كبدي سخفة جوع قال فبينا أهل مكة في ليلة قمراء أضحيان وضرب الله على أشحمة أهل مكة فما يطوف بالبيت غير امرأتين فاتتا علي وهما يدعوان اساف ونائلة فقلت انكحوا أحدهما الآخر فما ثناهما ذلك فقلت وهن مثل الخشبة غير أني لم أركن قال فانطلقتا يولولان ويقولان لو كان ههنا أحد من أنفارنا قال فاستقبلهما رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو بكر وهما هابطان من الجبل فقال ما لكما فقالتا الصابئ بين الكعبة واستارها قالا ما قال لكما قالتا قال لنا كلمة تملأ الفم قال وجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم هو وصاحبه حتى استلم الحجر وطاف بالبيت ثم صلى قال فاتيته فكنت أول من حياه بتحية أهل الاسلام فقال عليك السلام ورحمة الله من أنت قال قلت من غفار قال فاهوى بيده فوضعها على جبهته قال فقلت في نفسي كره أن انتميت إلى غفار قال فاردت أن آخذ بيده فقذفني صاحبه وكان أعلم به مني قال متى كنت ههنا قال قلت (3/35)
كنت ههنا منذ ثلاثين من بين ليلة ويوم قال فمن كان يطعمك قلت ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني وما وجدت على كبدي سخفة جوع قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إنها مباركة إنها طعام طعم قال فقال أبو بكر ائذن لي يا رسول الله في طعامه الليلة قال ففعل قال فانطلق النبي صلى الله عليه و سلم وانطلقت معهما حتى فتح أبو بكر بابا فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف قال فكان ذلك أول طعام أكلته بها فلبثت ما لبثت فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إني قد وجهت إلى أرض ذات نخل ولا أحبسها إلا يثرب فهل أنت مبلغ عني قومك لعل الله ينفعهم بك ويأجرك فيهم قال فانطلقت حتى أتيت أخي أنيسا قال فقال لي ما صنعت قال قلت صنعت إني أسلمت وصدقت قال فما بي رغبة عن دينك فاني قد اسلمت وصدقت ثم أتينا أمنا فقالت ما بي رغبة عن دينكما فاني قد اسلمت وصدقت فتحملنا حتى أتينا قومنا غفار قال فاسلم بعضهم قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة وكان يؤمهم خفاف بن إيما بن رخصة الغفاري وكان سيدهم يومئذ وقال بقيتهم إذا قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم أسلمناقال فقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم فاسلم بقيتهم قال وجاءت أسلم فقالوا يا رسول الله اخواننا نسلم على الذي اسلموا عليه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم غفار غفر الله لها وأسلم سالمها الله ورواه مسلم عن هدبة بن خالد عن سليمان بن المغيرة به نحوه وقد روى قصة اسلامه على وجه آخر وفيه زيادات غريبة فالله أعلم وتقدم ذكر اسلام سلمان الفارسي في كتاب البشارات بمبعثه عليه الصلاة و السلام
ذكر اسلام ضماد
روى مسلم والبيهقي من حديث داود بن أبي هند عن عمرو بن سعيد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قدم ضماد مكة وهو رجل من أزدشنوءة وكان يرقى من هذه الرياح فسمع سفهاء من سفه مكة يقولون إن محمدا مجنون فقال أين هذا الرجل لعل الله أن يشفيه على يدي فلقيت محمدا فقلت إني أرقى من هذه الرياح وأن الله يشفي على يدي من شاء فهلم فقال محمد إن الحمد لله نحمده ونستعينه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثلاث مرات فقال والله لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات فهلم يدك أبايعك على الاسلام فبايعه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له وعلى قومك فقال وعلى قومي فبعث النبي صلى الله عليه و سلم جيشا فمروا بقوم ضماد فقال صاحب الجيش للسرية هل أصبتم من هؤلاء القوم شيئا فقال رجل منهم أصبت منهم مطهرة فقال ردها عليهم فانهم قوم ضماد وفي رواية فقال له ضماد أعد علي كلماتك هؤلاء فلقد بلغن قاموس البحر (3/36)
وقد ذكر أبو نعيم في دلائل النبوةاسلام من أسلم من الاعيان فصلا طويلا واستقصى ذلك استقصاء حسنا رحمه الله وأثابه وقد سرد ابن اسحاق أسماء من أسلم قديما من الصحابة رضي الله عنهم قال ثم أسلم أبو عبيدة وأبو سلمة والأرقم بن أبي الأرقم وعثمان بن مظعون وعبيدة بن الحارث وسعيد بن زيد وامرأته فاطمة بنت الخطاب وأسماء بنت أبي بكر وعائشة بنت أبي بكر وهي صغيرة وقدامة بن مظعون وعبد الله بن مظعون وخباب بن الأرت وعمير بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود ومسعود بن القاري وسليط بن عمرو وعياش بن أبي ربيعة وامرأته أسماء بنت سلمة بن مخرمة التيمي وخنيس بن حذافة وعامر بن ربيعة وعبد الله بن جحش وأبو أحمد بن جحش وجعفر بن أبي طالب وامرأته اسماء بنت عميس وحاطب بن الحارث وامرأته فكيهة ابنة يسار ومعمر بن الحارث بن معمر الجمحي والسائب بن عثمان بن مظعون والمطلب بن أزهر بن عبد مناف وامرأته رملة بنت أبي عوف بن صييرة بن سعيد بن سهم والنحام واسمه نعيم بن عبد الله بن اسيد وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر وخالد بن سعيد وأمينة ابنة خلف بن سعد بن عامر بن بياضة بن خزاعة وحاطب بن عمرو بن عبد شمس وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وواقد بن عبد الله بن عرين بن ثعلبة التميمي حليف بني عدي وخالد ابن البكير وعامر بن البكير وعاقل بن البكير وإياس بن البكير بن عبد ياليل بن ناشب بن غيرة من بني سعد بن ليث وكان اسم عاقل غافلا فسماه رسول الله صلى الله عليه و سلم عاقلا وهم حلفاء بني عدي ابن كعب وعمار بن ياسر وصهيب بن سنان ثم دخل الناس أرسالا من الرجال والنساء حتى فشا أمر الاسلام بمكة وتحدث به
قال ابن اسحاق ثم امر الله رسوله صلى الله عليه و سلم بعد ثلاث سنين من البعثة بان يصدع بما أمر وأن يصبر على أذى المشركين قال وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا صلوا ذهبوا في الشعاب واستخفوا بصلاتهم من قومهم فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر يصلون بشعاب مكة إذ ظهر عليهم بعض المشركين فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم فضرب سعد رجلا من المشركين بلحى جمل فشجه فكان أول دم أهريق في الاسلام وروى الاموي في مغازيه من طريق الوقاصي عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه فذكر القصة بطولها وفيه أن المشجوج هو عبد الله بن خطل لعنه الله (3/37)
باب
الامر بابلاغ الرسالة
إلى الخاص والعام وأمره له بالصبر والاحتمال والاعراض عن الجاهلين المعاندين المكذبين بعد قيام الحجة عليهم وارسال الرسول الاعظم اليهم وذكر ما لقي من الاذية منهم هو وأصحابه رضي الله عنهم قال الله تعالى وأنذر عشيرتك الاقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين فان عصوك فقل إني بريء مما تعملون وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين إنه هو السميع العليم وقال تعالى وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون وقال تعالى إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد أي أن الذي فرض عليك وأوجب عليك بتبليغ القرآن لرادك الى دار الآخرة وهي المعاد فيسألك عن ذلك كما قال تعالى فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون والآيات والاحاديث في هذا كثيرة جدا وقد تقصينا الكلام على ذلك في كتابنا التفسير وبسطنا من القول في ذلك عند قوله تعالى في سورة الشعراء وأنذر عشيرتك الاقربين وأوردنا أحاديث جمة في ذلك فمن ذلك قال الامام احمد حدثنا عبد الله ابن نمير عن الاعمش عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما أنزل الله وأنذر عشيرتك الأقربين أتى النبي صلى الله عليه و سلم الصفا فصعد عليه ثم نادى يا صباحاه فاجتمع الناس اليه بين رجل يجيء اليه وبين رجل يبعث رسوله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم يا بني عبد المطلب يا بني فهر يا بني كعب أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني قالوا نعم قال فاني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب لعنه الله تبا لك سائر اليوم أما دعوتنا إلا لهذا وأنزل الله عز و جل تبت يدا أبي لهب وتب وأخرجاه من حديث الاعمش به نحوه وقال احمد حدثنا معاوية بن عمرو وحدثنا زائدة حدثنا عبد الملك بن عمير عن موسى بن طلحة عن أبي هريرة قال لما نزلت هذه الآية وأنذر عشيرتك الاقربين دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم قريشا فعم وخص فقال يا معشر قريش انقذوا أنفسكم من النار يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار يا معشر بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار فاني والله لا أملك لكم من الله شيئا إلا أن لكم رحما سأبلها ببلائها ورواه مسلم من حديث عبد الملك بن عمير وأخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة له طرق أخر عن أبي هريرة في مسند أحمد وغيره وقال احمد ايضا حدثنا وكيع بن هشام عن أبيه عن عائشة (3/38)
رضي الله عنها قالت لما نزل وانذر عشيرتك الاقربين قام رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا فاطمة بنت محمد يا صفية بنت عبد المطلب يا بني عبد المطلب لا أملك لكم من الله شيئا سلوني من مالي ما شئتم ورواه مسلم ايضا وقال الحافظ أبو بكر البيهقي في الدلائل أخبرنا محمد بن عبد الحافظ حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا احمد بن عبد الجبار حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن اسحاق قال فحدثني من سمع عبد الله بن الحارث بن نوفل واستكتمني اسمه عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب قال لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنذر عشيرتك الاقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ] قال رسول الله صلى الله عليه و سلم عرفت اني إن بادأت بها قومي رأيت منهم ما أكره فصمت فجاءني جبريل عليه السلام فقال يا محمد إن لم تفعل ما أمرك به ربك عذبك بالنار قال فدعاني فقال يا علي إن الله قد أمرني أن أنذر عشيرتي الاقربين فاصنع لنا يا علي شاة على صاع من طعام وأعد لنا عسل ولبن ثم اجمع لي بني عبد المطلب ففعلت فاجتمعوا له يومئذ وهم أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصون فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب الكافر الخبيث فقدمت اليهم تلك الجفنة فاخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم منها حذية فشقها باسنانه ثم رمى بها في نواحيها وقال كلوا بسم الله فاكل القوم حتى نهلوا عنه ما نرى إلا آثار أصابعهم والله إن كان الرجل ليأكل مثلها ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اسقهم يا علي فجئت بذلك القعب فشربوا منه حتى نهلوا منه جميعا وايم الله إن كان الرجل ليشرب مثله فلما أراد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يكلمهم بدره أبو لهب لعنه الله فقال لهد ما سحركم صاحبكم فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما كان من الغد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم عد لنا مثل الذي كنت صنعت لنا بالامس من الطعام والشراب فان هذا الرجل قد بدر الى ما سمعت قبل أن أكلم القوم ففعلت ثم جمعتهم له وصنع رسول الله صلى الله عليه و سلم كما صنع بالامس فاكلوا حتى نهلوا عنه وايم الله إن كان الرجل ليأكل مثلها ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أسقهم يا علي فجئت بذلك القعب فشربوا منه حتى نهلوا جميعا وايم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله فلما أراد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يكلمهم بدره أبو لهب لعنه الله الى الكلام فقال لهد ما سحركم صاحبكم فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما كان من الغد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يا علي عد لنا بمثل الذي كنت صنعت بالامس من الطعام والشراب فان هذا الرجل قد بدرني إلى ما سمعت قبل أن أكلم القوم ففعلت ثم جمعتهم له فصنع رسول الله صلى الله عليه و سلم كما صنع بالامس فاكلوا حتى نهلوا عنه ثم سقيتهم من ذلك القعب حتى نهلوا وأيم الله إن كان الرجل ليأكل مثلها وليشرب مثلها ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شابا من العرب جاء قومه بافضل من ما جئتكم به إني قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة هكذا (3/39)
رواه البيهقي من طريق يونس بن بكير عن ابن اسحاق عن شيخ أبهم اسمه عن عبد الله بن الحارث به وقد رواه أبو جعفر بن جرير عن محمد بن حميد الرازي عن سلمة بن الفضل الابرش عن محمد بن اسحاق عن عبد الغفار أبو مريم بن القاسم عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث عن ابن عباس عن علي فذكر مثله وزاد بعد قوله وإني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله أن أدعوكم اليه فايكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي وكذا وكذا قال فاحجم القوم عنها جميعا وقلت ولأني لأحدثهم سنا وأرمصهم عينا وأعظمهم بطنا وأخمشهم ساقا أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه فاخذ برقبتي فقال إن هذا أخي وكذا وكذا فاسمعوا له وأطيعوا قال فقام القوم يضحكون ويقولون لابي طالب قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع تفرد به عبد الغفار ابن القاسم أبو مريم وهو كذاب شيعي اتهمه علي بن المديني وغيره بوضع الحديث وضعفه الباقون ولكن روى ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبيه عن الحسين بن عيسى بن ميسرة الحارثي عن عبد الله ابن عبد القدوس عن الاعمش عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث قال قال علي لما نزلت هذه الآية وأنذر عشيرتك الأقربين قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم اصنع لي رجل شاة بصاع من طعام وإناء لبنا وادع لي بني هاشم فدعوتهم وإنهم يومئذ لاربعون غير رجل أو أربعون ورجل فذكر القصة نحو ما تقدم إلى أن قال وبدرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم الكلام فقال أيكم يقضي عني ديني ويكون خليفتي في أهلي قال فسكتوا وسكت العباس خشية أن يحيط ذلك بماله قال وسكت أنا لسن العباس ثم قالها مرة أخرى فسكت العباس فلما رأيت ذلك قلت أنا يا رسول الله قال أنت قال وإني يومئذ لاسوأهم هيئة وإني لاعمش العينين ضخم البطن خمش الساقين وهذه الطريق فيها شاهد لما تقدم إلا أنه لم يذكر ابن عباس فيها فالله أعلم وقد روى الامام أحمد في مسنده من حديث عباد بن عبد الله الاسدي وربيعة بن ناجذ عن علي نحو ما تقدم أو كالشاهد له والله أعلم ومعنى قوله في هذا الحديث من يقضي عني ديني ويكون خليفتي في أهلي يعني إذا مت وكأنه صلى الله عليه و سلم خشي إذا قام بابلاغ الرسالة إلى مشركي العرب أن يقتلوه فاستوثق من يقوم بعده بما يصلح أهله ويقضي عنه وقد أمنه الله من ذلك في قوله تعالى يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس الآية والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه و سلم استمر يدعو الى الله تعالى ليلا ونهارا وسرا وجهارا لا يصرفه عن ذلك صارف ولا يرده عن ذلك راد ولا يصده عنه ذلك صاد يتبع الناس في أنديتهم ومجامعهم ومحافلهم وفي المواسم ومواقف الحج يدعو من لقيه من حر وعبد وضعيف وقوي وغني وفقير (3/40)
جميع الخلق في ذلك عنده شرع سواء وتسلط عليه وعلى من اتبعه من آحاد الناس من ضعفائهم الأشداء الاقوياء من مشركي قريش بالأذية القولية والفعلية وكان من أشد الناس عليه عمه أبو لهب واسمه عبد العزى بن عبد المطلب وامرأته أم جميل أروى بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان وخالفه في ذلك عمه أبو طالب بن عبد المطلب وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم أحب خلق الله اليه طبعا وكان يحنو عليه ويحسن اليه ويدافع عنه ويحامي ويخالف قومه في ذلك مع أنه على دينهم وعلى خلتهم إلا أن الله تعالى قد امتحن قلبه بحبه حبا طبعيا لا شرعيا وكان استمراره على دين قومه من حكمة الله تعالى ومما صنعه لرسوله من الحماية إذ لو كان أسلم أبو طالب لما كان له عند مشركي قريش وجاهة ولا كلمة ولا كانوا يهابونه ويحترمونه ولاجترؤا عليه ولمدوا أيديهم وألسنتهم بالسوء اليه وربك يخلق ما يشاء ويختار وقد قسم خلقه أنواعا وأجناسا فهذان العمان كافران أبو طالب وأبو لهب ولكن هذا يكون في القيامة في ضحضاح من نار وذلك في الدرك الأسفل من النار وأنزل الله فيه سورة في كتابه تتلى على المنابر وتقرأ في المواعظ والخطب تتضمن أنه سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب قال الامام أحمد حدثنا ابراهيم بن أبي العباس حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال أخبر رجل يقال له ربيعة بن عباد من بني الديل وكان جاهليا فاسلم قال رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا والناس مجتمعون عليه ووراءه رجل وضيء الوجه أحول ذو غديرتين يقول إنه صابئ كاذب يتبعه حيث ذهب فسألت عنه فقالوا هذا عمه أبو لهب ثم رواه هو والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد بنحوه وقال البيهقي أيضا حدثنا أبو طاهر الفقيه حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن القطان حدثنا أبو الأزهر حدثنا محمد بن عبد الله الانصاري حدثنا محمد بن عمر عن محمد بن المنكدر عن ربيعة الديلي قال رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم بذي المجاز يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله ووراءه رجل أحول تقد وجنتاه وهو يقول أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم ودين آبائكم قلت من هذا قيل هذا أبو لهب ثم رواه من طريق شعبة عن الاشعث بن سليم عن رجل من كنانة قال رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم بسوق ذي المجاز وهو يقول يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا واذا رجل خلفه يسفي عليه التراب واذا هو أبو جهل واذا هو يقول يا أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم فانما يريد أن تتركوا عبادة اللات والعزى كذا قال أبو جهل والظاهر أنه أبو لهب وسنذكر بقية ترجمته عند ذكر وفاته وذلك بعد وقعة بدر إن شاء الله تعالى
وأما أبو طالب فكان في غاية الشفقة والحنو الطبيعي كما سيظهر من صنائعه وسجاياه واعتماده (3/41)
فيما يحامي به عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه رضي الله عنهم قال يونس بن بكير عن طلحة بن يحيى عن عبد الله بن موسى بن طلحة أخبرني عقيل بن أبي طالب قال جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا إن ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومسجدنا فانهه عنا فقال يا عقيل انطلق فأتني بمحمد فانطلقت اليه فاستخرجته من كنس أو قال خنس يقول بيت صغير فجاء به في الظهيرة في شدة الحر فلما أتاهم قال إن بني عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم فانته عن أذاهم فحلق رسول الله صلى الله عليه و سلم ببصره الى السماء فقال ترون هذه الشمس قالوا نعم قال فما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم على أن تشتعلوا منه بشعلة فقال أبو طالب والله ما كذب ابن أخي قط فارجعوا رواه البخاري في التاريخ عن محمد بن العلاء عن يونس بن بكير ورواه البيهقي عن الحاكم عن الأصم عن احمد بن عبد الجبار عنه به وهذا لفظه ثم روى البيهقي من طريق يونس عن ابن اسحاق حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدث أن قريشا حين قالت لابي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له يا ابن أخي إن قومك قد جاءوني وقالوا كذا وكذا فابق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر مالا أطيق أنا ولا أنت فاكفف عن قومك ما يكرهون من قولك فظن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن قد بدا لعمه فيه وانه خاذله ومسلمه وضعف عن القيام معه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم يا عم لو وضعت الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه و سلم فبكى فلما ولى قال له حين رأى ما بلغ الأمر برسول الله صلى الله عليه و سلم يا ابن أخي فاقبل عليه فقال امض على أمرك وافعل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء أبدا قال ابن اسحاق ثم قال أبو طالب في ذلك ... والله لن يصلوا اليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا ... فامضي لأمرك ما عليك غضاضة ... أبشر وقر بذاك منك عيونا ... ودعوتني وعلمت أنك ناصحي ... فلقد صدقت وكنت قدم أمينا ... وعرضت دينا قد عرفت بأنه ... من خير أديان البرية دينا ... لولا الملامة أو حذاري سبة ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا ...
ثم قال البيهقي وذكر ابن اسحاق لأبي طالب في ذلك أشعارا وفي ذلك دلالة على أن الله تعالى عصمه بعمه مع خلافه إياه في دينه وقد كان يعصمه حيث لا يكون عمه بما شاء لا معقب لحكمه وقال يونس بن بكير حدثني محمد بن اسحاق حدثني رجل من أهل مصر قديما منذ بضعا وأربعين سنة عن عكرمة عن ابن عباس في قصة طويلة جرت بين مشركي مكة وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما قام رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أبو جهل بن هشام يا معشر قريش إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا (3/42)
وشتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وسب آلهتنا وإني أعاهد الله لأجلس له غدا بحجر فاذا سجد في صلاته فضخت به رأسه فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم فلما أصبح أبو جهل لعنه الله أخذ حجرا ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه و سلم ينتظره وغدا رسول الله صلى الله عليه و سلم كما كان يغدو وكان قبلته الشام فكان إذا صلى صلى بين الركنين الأسود واليماني وجعل الكعبة بينه وبين الشام فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي وقد غدت قريش فجلسوا في أنديتهم ينتظرون فلما سجد رسول الله صلى الله عليه و سلم احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه حتى اذا دنا منه رجع منبهتا ممتقعا لونه مرعوبا قد يبست يداه على حجره حتى قذف الحجر من يده وقامت اليه رجال من قريش فقالوا له ما بك يا أبا الحكم فقال قمت اليه لافعل ما قلت لكم البارحة فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الابل والله ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قط فهم أن يأكلني قال ابن اسحاق فذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ذلك جبريل ولو دنا منه لأخذه وقال البيهقي أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرني أبو النضر الفقيه حدثنا عثمان الدارمي حدثنا عبد الله بن صالح حدثنا الليث بن سعد عن اسحاق بن عبد الله ابن أبي فروة عن أبان بن صالح عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن عباس بن عبد المطلب قال كنت يوما في المسجد فاقبل أبو جهل لعنه الله فقال إن لله على إن رأيت محمدا ساجدا أن أطأ على رقبته فخرجت على رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى دخلت عليه فاخبرته بقول أبي جهل فخرج غضبانا حتى جاء المسجد فعجل أن يدخل من الباب فاقتحم الحائط فقلت هذا يوم شر فاتزرت ثم اتبعته فدخل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقرأ اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق فلما بلغ شأن أبي جهل كلا إن الانسان ليطغى أن رآه استغنى فقال إنسان لابي جهل يا أبا الحكم هذا محمد فقال أبو جهل ألا ترون ما أرى والله لقد سد أفق السماء علي فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم آخر السورة سجد وقال الامام احمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن عبد الكريم عن عكرمة قال قال ابن عباس قال أبو جهل لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لو فعل لأخذته الملائكة عيانا ورواه البخاري عن يحيى عن عبد الرزاق به قال داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال مر أبو جهل بالنبي صلى الله عليه و سلم وهو يصلي فقال ألم أنهك أن تصلي يا محمد لقد علمت ما بها أحد أكثر ناديا مني فانتهره النبي صلى الله عليه و سلم فقال جبريل فليدع ناديه سندع الزبانية والله لو دعا ناديه لأخذته زبانية العذاب رواه احمد والترمذي وصححه النسائي من طريق داود به وقال الامام احمد حدثنا اسماعيل بن يزيد أبو زيد حدثنا فرات عن عبد الكريم عن (3/43)
عكرمة عن ابن عباس قال قال أبو جهل لئن رأيت محمدا عند الكعبة يصلي لاتيته حتى أطأ عنقه قال فقال لو فعل لاخذته الزبانية عيانا وقال أبو جعفر بن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح حدثنا يونس بن أبي اسحاق عن الوليد بن العيزار عن ابن عباس قال قال أبو جهل لئن عاد محمد يصلي عند المقام لأقتلنه فانزل الله تعالى اقرأ باسم ربك الذي خلق حتى بلغ من الآية لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة فليدع ناديه سندع الزبانية فجاء النبي صلى الله عليه و سلم يصلي فقيل ما يمنعك قال قد اسود ما بيني وبينه من الكتائب قال ابن عباس والله لو تحرك لاخذته الملائكة والناس ينظرون اليه وقال ابن جرير حدثنا ابن عبد الاعلى حدثنا المعتمر عن أبيه عن نعيم بن أبي هند عن أبي حازم عن أبي هريرة قال قال أبو جهل هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم قالوا نعم قال فقال واللات والعزى لئن رأيته يصلي كذلك لأطأن على رقبته ولأعفرن وجهه بالتراب فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يصلي ليطأ على رقبته قال فما فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه قال فقيل له مالك قال ان بيني وبينه خندقا من نار وهولا وأجنحة قال فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا قال وأنزل الله تعالى لا أدري في حديث أبي هريرة أم لا كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إلى آخر السورة وقد رواه احمد ومسلم والنسائي وابن أبي حاتم والبيهقي من حديث معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي به وقال الامام احمد حدثنا وهب بن جرير حدثنا شعبة عن أبي اسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله قال ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم دعا على قريش غير يوم واحد فانه كان يصلي ورهط من قريش جلوس وسلا جزور قريب منه فقالوا من يأخذ هذا السلا فيلقيه على ظهره فقال عقبة ابن أبي معيط أنا فاخذه فالقاه على ظهره فلم يزل ساجدا حتى جاءت فاطمة فاخذته عن ظهره فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم اللهم عليك بهذا الملأ من قريش اللهم عليك بعتبة بن ربيعة اللهم عليك بشيبة بن ربيعة اللهم عليك بأبي جهل بن هشام اللهم عليك بعقبة بن أبي معيط اللهم عليك بأبي بن خلف أو أمية بن خلف شعبة الشاك قال عبد الله فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر جميعا ثم سحبوا إلى القليب غير أبي أو أمية بن خلف فانه كان رجلا ضخما فتقطع وقد رواه البخاري في مواضع متعددة من صحيحه ومسلم من طرق عن ابن اسحاق به والصواب أمية بن خلف فانه الذي قتل يوم بدر وأخوه أبي إنما قتل يوم أحد كما سيأتي بيانه والسلا هو الذي يخرج مع ولد الناقة كالمشيمة لولد المرأة وفي بعض الفاظ الصحيح أنهم لما فعلوا ذلك استضحكوا حتى جعل بعضهم يميل على بعض أي يميل هذا على هذا من شدة الضحك لعنهم الله وفيه أن فاطمة لما القته عنه أقبلت عليهم فسبتهم وأنه صلى الله عليه و سلم لما فرغ من صلاته رفع يديه يدعو عليهم فلما (3/44)
رأوا ذلك سكن عنهم الضحك وخافوا دعوته وأنه صلى الله عليه و سلم دعا على الملأ منهم جملة وعين في دعائه سبعة وقع في أكثر الروايات تسمية ستة منهم وهم عتبة وأخوه شيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة وأبو جهل بن هشام وعقبة بن أبي معيط وأمية بن خلف قال ابن اسحاق ونسيت السابع قلت هو عمارة بن الوليد وقع تسميته في صحيح البخاري
قصة الأراشي
قال يونس بن بكير عن محمد بن اسحاق حدثنا عبد الملك بن أبي سفيان الثقفي قال قدم رجل من إراش بإبل له الى مكة فابتاعها منه أبو جهل بن هشام فمطله باثمانها فاقبل الاراشي حتى وقف على نادي قريش ورسول الله صلى الله عليه و سلم جالس في ناحية المسجد فقال يا معشر قريش من رجل يعديني على أبي الحكم بن هشام فاني غريب وابن سبيل وقد غلبني على حقي فقال أهل المجلس ترى ذلك يهزون به إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم لما يعلمون ما بينه وبين أبي جهل من العداوة اذهب اليه فهو يعديك عليه فاقبل الاراشي حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر ذلك له فقام معه فلما رأوه قام معه قالوا لرجل ممن معهم اتبعه فانظر ما يصنع فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى جاءه فضرب عليه بابه فقال من هذا قال محمد فاخرج فخرج اليه وما في وجهه قطرة دم وقد انتقع لونه فقال أعط هذا الرجل حقه قال لا تبرح حتى أعطيه الذي له قال فدخل فخرج اليه بحقه فدفعه اليه ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال للاراشي الحق لشأنك فاقبل الاراشي حتى وقف على ذلك المجلس فقال جزاه الله خيرا فقد اخذت الذي لي وجاء الرجل الذي بعثوا معه فقالوا ويحك ماذا رأيت قال عجبا من العجب والله ما هو إلا أن ضرب عليه بابه فخرج وما معه روحه فقال اعط هذا الرجل حقه فقال نعم لا تبرح حتى أخرج اليه حقه فدخل فاخرج اليه حقه فاعطاه ثم لم يلبث أن جاء أبو جهل فقالوا له ويلك مالك فوالله ما رأينا مثل ما صنعت فقال ويحكم والله ما هو إلا أن ضرب علي بابي وسمعت صوته فملئت رعبا ثم خرجت اليه وإن فوق رأسه لفحلا من الابل ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قط فوالله لو أبيت لاكلني فصل
وقال البخاري حدثنا عياش بن الوليد حدثنا الوليد بن مسلم حدثني الاوزاعي عن يحيى بن أبي (3/45)
كثير عن محمد بن ابراهيم التيمي حدثني عروة بن الزبير سألت ابن العاص فقلت أخبرني باشد شيء صنعه المشركون برسول الله قال بينما النبي صلى الله عليه و سلم يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عليه عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه على عنقه فخنقه خنقا شديدا فاقبل أبو بكر رضي الله عنه حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صلى الله عليه و سلم وقال ( أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم ) الآية تابعه ابن اسحاق قال أخبرني يحيى بن عروة عن أبيه قال قلت لعبد الله بن عمرو وقال عبدة عن هشام عن أبيه قال قيل لعمرو بن العاص وقال محمد بن عمرو عن أبي سلمة حدثني عمرو ابن العاص قال البيهقي وكذلك رواه سليمان بن بلال عن هشام بن عروة كما رواه عبدة انفرد به البخاري وقد رواه في أماكن من صحيحه وصرح في بعضها بعبد الله بن عمرو بن العاص وهو أشبه لرواية عروة عنه وكونه عن عمرو أشبه لتقدم هذه القصة وقد روى البيهقي عن الحاكم عن الاصم عن احمد بن عبد الجبار عن يونس عن محمد بن اسحاق حدثني يحيى بن عروة عن أبيه عروة قال قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص ما أكثر ما رأيت قريشا أصابت من رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما كانت تظهره من عداوته فقال لقد رأيتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر فذكروا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط سفه أحلامنا وشتم آباءنا وعاب ديننا وفرق جماعتنا وسب آلهتنا وصرنا منه على أمر عظيم أو كما قال قال فبينما هم في ذلك طلع رسول الله صلى الله عليه و سلم فاقبل يمشي حتى استلم الركن ثم مر بهم طائفا بالبيت فغمزوه ببعض القول فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم فمضى فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها فعرفتها في وجهه فمضى فمر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها فقال أتسمعون يا معشر قريش أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح فاخذت القوم كلمته حتى ما منهم من رجل إلا وكأنما على رأسه طائر وقع حتى أن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفؤه حتى إنه ليقول انصرف أبا القاسم راشدا فما كنت بجهول فانصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم فقال بعضهم لبعض ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه فبينما هم على ذلك طلع رسول الله صلى الله عليه و سلم فوثبوا اليه وثبة رجل واحد فاحاطوا به يقولون أنت الذي تقول كذا وكذا لما كان يبلغهم من عيب آلهتهم ودينهم فيقول رسول الله صلى الله عليه و سلم نعم أنا الذي أقول ذلك ولقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجامع ردائه وقام أبو بكر ينكى دونه ويقول ويلكم ( أتقتلون رجلا يقول ربي الله ) ثم انصرفوا عنه فان ذلك لأكبر ما رأيت قريشا بلغت منه قط (3/46)
فصل
في تأليب الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه واجتماعهم بعمه أبي طالب القائم في منعه ونصرته وحرصهم عليه ان يسلمه اليهم فأبى عليهم ذلك بحول الله وقوته
قال الامام احمد حدثنا وكيع عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد وأخفت في الله وما يخاف أحد ولقد أتت على ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال ما يأكله ذو كبد إلا ما يواري إبط بلال وأخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث حماد بن سلمة به وقال الترمذي حسن صحيح وقال محمد بن اسحاق وحدب على رسول الله صلى الله عليه و سلم عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه ومضى رسول الله صلى الله عليه و سلم على أمر الله مظهرا لدينه لا يرده عنه شيء فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم ورأوا أن عمه أبو طالب قد حدب عليه وقام دونه فلم يسلمه لهم مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب عتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس شمس بن عبد مناف بن قصي وأبو سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس وأبو البختري واسمه العاص بن هشام بن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن قصي والاسود بن المطب بن أسد بن عبد العزى وأبو جهل واسمه عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم والوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي ونبيه ومنبه ابنا الحجاج بن عامر بن حذيفة ابن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي والعاص بن وائل بن سعيد بن سهم قال ابن اسحاق أو من مشى منهم فقالوا يا ابا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا فاما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه فانك على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا وردهم ردا جميلا فانصرفوا عنه ومضى رسول الله صلى الله عليه و سلم على ما هو عليه يظهر دين الله ويدعو اليه ثم سرى الامر بينهم وبينه حتى تباعد الرجال وتضاغنوا وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم بينها فتذامروا فيه وحض بعضهم بعضا عليه ثم أنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا يا أبا طالب ان لك سنا وشرفا ومنزلة فينا وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا وانا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله واياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين أو كما قالوا ثم انصرفوا عنه فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ولم يطب نفسا باسلام رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا خذلانه (3/47)
قال ابن اسحاق وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدث أن قريشا حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له يا ابن أخي إن قومك قد جاءوني فقالوا كذا وكذا الذي قالوا له فابق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر مالا أطيق قال فظن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قد بدا لعمه فيه بدو وانه خاذله ومسلمه وانه قد ضعف عن نصرته والقيام معه قال فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمرحتى يظهره الله او أهلك فيه ما تركته قال ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه و سلم فبكى ثم قام فلما ولى ناداه أبو طالب فقال أقبل يابن أخي فاقبل عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال اذهب يابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمتك لشيء أبدا قال ابن اسحاق ثم أن قريشا حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله صلى الله عليه و سلم واسلامه واجماعه لفراقهم في ذلك وعداوته مشوا اليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له فيما بلغني يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله فخذه فلك عقله ونصره واتخذه ولدا فهو لك وأسلم الينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك وفرق جماعة قومك وسفه أحلامنا فنقتله فإنما هو رجل برجل قال والله لبئس ما تسومونني أتعطونني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني فتقتلونه هذا والله مالا يكون أبدا قال فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما تكره فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا فقال أبو طالب للمطعم والله ما أنصفوني ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي فاصنع ما بدا لك أو كما قال فحقب الأمر وحميت الحرب وتنابذ القوم ونادى بعضهم بعضا فقال أبو طالب عند ذلك يعرض بالمطعم بن عدي ويعم من خذله من بني عبد مناف ومن عاداه من قبائل قريش ويذكر ما سألوه وما تباعد من أمرهم ... ألا قل لعمرو والوليد ومطعم ... ألا ليت حظي من حياطتكم بكر ... من الخور حبحاب كثير رغاؤه ... يرش على الساقين من بوله قطر ... تخلف خلف الورد ليس بلاحق ... إذ ما علا الفيفاء قيل له وبر ... أرى أخوينا من أبينا وأمنا ... إذا سئلا قالا إلى غيرنا الأمر ... بلى لهما أمر ولكن تحرجما ... كما حرجمت من رأس ذي علق الصخر ... أخص خصوصا عبد شمس ونوفلا ... هما نبذانا مثل ما نبذ الجمر ... هما أغمزا للقوم في أخويهما ... فقد أصبحا منهم أكفهما صفر ... هما أشركا في المجد من لا أباله ... من الناس إلا أن يرس له ذكر (3/48)
وتيم ومخزوم وزهرة منهم ... وكانوا لنا مولى إذا بغي النصر ... فوالله لا تنفك منا عداوة ... ولا منكم ما دام من نسلنا شفر ...
قال ابن هشام وتركنا منها بيتين أقذع فيهما
فصل في مبالغتهم في الأذية لآحاد المسلمين المستضعفين
قال ابن اسحاق ثم إن قريشا تذامروا بينهم على من في القبائل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم الذين أسلموا معه فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم ومنع الله منهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بعمه أبي طالب وقد قام أبو طالب حين رأى قريشا يصنعون ما يصنعون في بني هاشم وبني عبد المطلب فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى الله عليه و سلم والقيام دونه فاجتمعوا اليه وقاموا معه وأجابوه إلى ما دعاهم اليه إلا ما كان من أبي لهب عدو الله فقال في ذلك يمدحهم ويحرضهم على ما وافقوه عليه من الحدب والنصرة لرسول الله صلى الله عليه و سلم ... إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر ... فعبد مناف سرها وصميمها ... وإن حصلت اشراف عبد منافها ... ففي هاشم اشرافها وقديمها ... وإن فخرت يوما فان محمدا ... هو المصطفى من سرها وكريمها ... تداعت قريش غثها وسمينها ... علينا فلم تظفر وطاشت حلومها ... وكنا قديما لا نقر ظلامة ... اذ ما ثنوا صغر الرقاب نقيمها ... ونحمي حماها كل يوم كريهة ... ونضرب عن أحجارها من يرومها ... بنا انتعش العود الزواء وإنما ... بأكنافنا تندى وتنمى أرومها ... فصل
فيما اعترض به المشركون على رسول الله صلى الله عليه و سلم وما تعنتوا له في أسئلتهم إياه أنواعا من الآيات وخرق العادات على وجه العناد لا على وجه طلب الهدى والرشاد فلهذا لم يجابوا إلى كثير مما طلبوا ولا ما اليه رغبوا لعلم الحق سبحانه أنهم لو عاينوا وشاهدوا ما أرادوا لاستمروا في طغيانهم (3/49)
يعمهون ولظلوا في غيهم وضلالهم يتردون قال الله تعالى واقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون وقال تعالى إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم وقال تعالى وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا وقال تعالى وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الانهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا وقد تكلمنا على هذه الآيات وما يشابهها في أماكنها في التفسير ولله الحمد وقد روى يونس وزياد عن ابن اسحاق عن بعض أهل العلم وهو شيخ من أهل مصر يقال له محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس قال اجتمع عليه من أشراف قريش وعدد أسماءهم بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة فقال بعضهم لبعض ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه فبعثوا إليه أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فجاءهم رسول الله صلى الله عليه و سلم سريعا وهو يظن أنه قد بدا لهم في أمره بدء وكان حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم حتى جلس إليهم فقالوا يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك وإنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء وعبت الدين وسفهت الاحلام وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة وما بقي من قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك فان كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سودناك علينا وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك وكان يسمون التابع من الجن الرئي فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه أو نعذر فيك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما بي ما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني اليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا نذيرا فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فان تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم من الدنيا والآخرة وإن تردوه على أصبر لامر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم أو كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا يا محمد فان كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك (3/50)
فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادا ولا أقل مالا ولا أشد عيشا منا فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن فيما يبعث لنا منهم قصي بن كلاب فانه كان شيخا صدوقا فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل فان فعلت ما سألناك وصدقوك صدقناك وعرفنا به منزلتك عند الله وأنه بعثك رسولا كما تقول فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ما بهذا بعثت إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به فقد بلغتكم ما أرسلت به اليكم فان تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوا علي أصبر لامر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم قالوا فان لم تفعل لنا هذا فخذ لنفسك فسل ربك أن يبعث لنا ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك وتسأله فيجعل لنا جنانا وكنوزا وقصورا من ذهب وفضة ويغنيك عما نراك تبتغي فانك تقوم في الاسواق وتلتمس المعايش كما نلتمسه حتى نعرف فضل منزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم فقال لهم ما أنا بفاعل ما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما بعثت اليكم بهذا ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا فان تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لامر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم قالوا فاسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل فانا لن نؤمن لك إلاان تفعل فقال ذلك إلى الله إن شاء فعل بكم ذلك فقالوا يا محمد ما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب فيتقدم اليك ويعلمك ما تراجعنا به ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا فقد أعذرنا اليك يا محمد أما والله لا نتركك وما فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا وقال قائلهم نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله وقال قائلهم لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا فلما قالوا ذلك قام رسول الله صلى الله عليه و سلم عنهم وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم وهو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب فقال يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله ثم سألوك لانفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله فلم تفعل ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب فوالله لا أؤمن لك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى منه وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي معك بنسخة منشورة ومعك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول وأيم الله لو فعلت ذلك لظننت أني لا أصدقك ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وانصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أهله حزينا أسفا لما فاته بما طمع فيه من قومه حين دعوه ولما رأى من مباعدتهم إياه وهذا المجلس الذي اجتمع عليه هؤلاء الملأ مجلس ظلم وعدوان وعناد ولهذا اقتضت الحكمة الالهية والرحمة الربانية الا يجابوا لي ما سألوا لأن الله علم أنهم لا يؤمنون (3/51)
بذلك فيعاجلهم بالعذاب كما قال الامام أحمد حدثنا عثمان بن محمد حدثنا جرير عن الاعمش عن جعفر بن إياس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال سأل أهل مكة رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن ينحي عنهم الجبال فيزدرعوا فقيل له إن شئت أن تستأتي بهم وإن شئت أن تؤتيهم الذي سألوا فان كفروا هلكوا كما أهلكت من قبلهم الامم قال لا بل أستأتي بهم فانزل الله تعالى وما منعنا أن نرسل الآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها الآية وهكذا رواه النسائي من حديث جرير وقال أحمد حدثنا عبد الرحن حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن عمران بن حكيم عن ابن عباس قال قالت قريش للنبي صلى الله عليه و سلم ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا ونؤمن بك قال وتفعلوا قالوا نعم قال فدعا فاتاه جبريل فقال إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك إن شئت أصبح الصفا لهم ذهبا فمن كفر منهم بعد ذلك أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين وإن شئت فتحت لهم باب الرحمة والتوبة قال بل التوبة والرحمة وهذان اسنادان جيدان وقد جاء مرسلا عن جماعة من التابعين منهم سعيد بن جبير وقتادة وابن جريج وغير واحد وروى الامام أحمد والترمذي من حديث عبد الله بن المبارك حدثنا يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال عرض على ربي عز و جل أن يجعل لي بطحاء مكة ذهبا فقلت لا يا رب أشبع يوما وأجوع يوما أو نحو ذلك فاذا جعت تضرعت اليك وذكرتك وإذا شبعت حمدتك وشكرتك لفظ أحمد وقال الترمذي هذا حديث حسن وعلي بن يزيد يضعف في الحديث وقال محمد بن اسحاق حدثني شيخ من أهل مصر قدم علينا منذ بضع وأربعين سنة عن عكرمة عن ابن عباس قال بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة فقالوا لهما سلوهم عن محمد وصفا لهم صفته وأخبراهم بقوله فانهم أهل الكتاب الاول وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الانبياء فخرجا حتى قدما المدينة فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ووصفا لهم أمره وبعض قوله وقالا إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا قال فقالت لهم أحبار يهود سلوه عن ثلاث نأمركم بهن فان أخبركم بهن فهو نبي مرسل وإن لم يفعل فهو رجل متقول فروا فيه رأيكم سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم فانه قد كان لهم حديث عجيب وسلوه عن رجل طواف طاف مشارق الأرض ومغاربها ما كان [ نبؤه ] وسلوه عن الروح ما هي فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه وإن لم يخبركم فانه رجل متقول فاصنعوا في (3/52)
أمره ما بدا لكم فاقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش فقالا يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور فاخبراهم بها فجاؤا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا يا محمد أخبرنا فسألوه عما أمروهم به فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أخبركم غدا بما سألتم عنه ولم يستثن فانصرفوا عنه ومكث رسول الله صلى الله عليه و سلم خمس عشرة ليلة لا يحدث له في ذلك وحيا ولا يأتيه جبريل حتى أرجف أهل مكة وقالوا وعدنا محمد غدا واليوم خمس عشرة ليلة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه و سلم مكث الوحي عنه وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة ثم جاءه جبريل عليه السلام من الله عز و جل بسورة الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم [ وخبر ] ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف وقال الله تعالى ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا وقد تكلمنا على ذلك كله في التفسير مطولا فمن أراده فعليه بكشفه من هناك ونزل قوله أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ثم شرع في تفصيل أمرهم واعترض في الوسط بتعليمه الاستثناء تحقيقا لا تعليقا في قوله ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت ثم ذكر قصة موسى لتعلقها بقصة الخضر ثم ذي القرنين ثم قال ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا ثم شرح أمره وحكى خبره وقال في سورة سبحان ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي أي خلق عجيب من خلقه وأمر من أمره قال لها كوني فكانت وليس لكم الاطلاع على كل ما خلقه وتصوير حقيقته في نفس الأمر يصعب عليكم بالنسبة إلى قدرة الله تعالى وحكمته ولهذا قال وما أوتيتم من العلم إلا قليلا وقد ثبت في الصحيحين أن اليهود سألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة فتلا عليهم هذه الآية فاما أنها نزلت مرة ثانية أو ذكرها جوابا وإن كان نزولها متقدما ومن قال إنها إنما نزلت بالمدينة واستثناها من سورة سبحان ففي قوله نظر والله أعلم
قال ابن اسحاق ولما خشي أبو طالب دهم العرب أن يركبوه مع قومه قال قصيدته التي تعوذ فيها بحرم مكة وبمكانها منها وتودد فيها اشراف قومه وهو على ذلك يخبرهم وغيرهم في شعره أنه غير مسلم لرسول الله صلى الله عليه و سلم ولا تاركه لشيء أبدا حتى يهلك دونه فقال ... ولما رأيت القوم لاود فيهم ... وقد قطعوا كل العري والوسائل ... وقد صارحونا بالعداوة والأذى ... وقد طاوعوا أمر العدو المزايل ... وقد حالفوا قوما علينا أظنة ... يعضون غيظا خلفنا بالأنامل ... صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة ... وأبيض غضب من تراث المقاول ... وأحضرت عند البيت رهطي وأخوتي ... وأمسكت من أثوابه بالوصائل (3/53)
قياما معا مستقبلين رتاجه ... لدى حيث يقضي حلفه كل ناقل ... وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم ... بمفضى السيول من إساف ونائل ... موسمة الاعضاد أو بأعناقها قصراتها ... مخيمة بين السديس وبازل ... ترى الودع فيها والرخام وزينة ... بأعناقها معقودة كالعثاكل ... أعوذ برب الناس من كل طاعن ... علينا بسوء أو ملح بباطل ... ومن كاشح يسعى لنا بمعيبة ... ومن ملحق في الدين مالم نحاول ... وثور ومن أرسي ثبيرا مكانه ... وراق ليرقى في حراء ونازل ... وبالبيت حق البيت من بطن مكة ... وبالله إن الله ليس بغافل ... وبالحجر المسود إذ يمسحونه ... إذا اكتنفوه بالضحى والأصائل ... وموطئ ابراهيم في الصخر رطبة ... على قدميه حافيا غير ناعل ... وأشواط بين المروتين إلى الصفا ... وما فيهما من صورة وتماثل ... ومن حج بيت الله من كل راكب ... ومن كل ذي نذر ومن كل راجل ... وبالمشعر الاقصى إذا عمدوا له ... إلال إلى مفضي الشراج القوابل ... وتوقافهم فوق الجبال عشية ... يقيمون بالايدي صدور الرواحل ... وليلة جمع والمنازل من منى ... وهل فوقها من حرمة ومنازل ... وجمع إذا ما المقربات أجزنه ... سراعا كما يخرجن من وقع وابل ... وبالجمرة الكبرى إذا صمدوا لها ... يؤمون قذفا رأسها بالجنادل ... وكندة إذ هم بالحصاب عشية ... تجيز بهم حجاج بكر بن وائل ... حليفان شدا عقد ما احتلفا له ... وردا عليه عاطفات الوسائل ... وحطمهم سمر الرماح وسرحه ... وشبرقه وخد النعام الجوافل ... فهل بعد هذا من معاذ لعائذ ... وهل من معيذ يتقي الله عادل ... يطاع بنا أمر العدا ود أننا ... يسد بنا أبواب ترك وكابل ... كذبتم وبيت الله نترك مكة ... ونظعن الا أمركم في بلابل ... كذبتم وبيت الله نبذي محمدا ... ولما نطاعن دونه ونناضل ... ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل ... وينهض قوم بالحديد اليكم ... نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل (3/54)
وحتى نرى ذا الظعن يركب ردعه ... من الطعن فعل الأنكب المتحامل ... وإنا لعمر الله إن جد ما أرى ... لتلتبسا أسيافنا بالاماثل ... بكفي فتى مثل الشهاب سميدع ... أخي ثقة حامي الحقيقة باسل ... شهورا وأياما وحولا محرما ... علينا وتأتي حجة بعد قابل ... وما ترك قوم لا أبالك سيدا ... يحوط الذمار غير ذرب مواكل ... وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل ... يلوذ به الهلاك من آل هاشم ... فهم عنده في رحمة وفواضل ... لعمري لقد أجرى أسيد وبكره ... إلى بغضنا وجزآنا لآكل ... وعثمان لم يربع علينا وقنفذ ... ولكن أطاعا أمر تلك القبائل ... أطاعا أبيا وابن عبد يغوثهم ... ولم يرقبا فينا مقالة قائل ... كما قد لقينا من سبيع ونوفل ... وكل تولى معرضا لم يجامل ... فان يلفيا أو يمكن الله منهما ... نكل لهما صاعا بصاع المكايل ... وذاك أبو عمرو أبي غير بغضنا ... ليظعننا في أهل شاء وجامل ... يناجي بنا في كل ممسى ومصبح ... فناج أبا عمرو بنا ثم خاتل ... ويؤلي لنا بالله ما أن يغشنا ... بلى قد تراه جهرة غير خائل ... أضاق عليه بغضنا كل تلعة ... من الأرض بين أخشب فمجادل ... وسائل أبا الوليد ماذا حبوتنا ... بسعيك فينا معرضا كالمخاتل ... وكنت امرءا ممن يعاش برأيه ... ورحمته فينا ولست بجاهل ... فعتبة لا تسمع بنا قول كاشح ... حسود كذوب مبغض ذي دغاول ... ومر أبو سفيان عني معرضا ... كما مر قيل من عظام المقاول ... يفر إلى نجد وبرد مياهه ... ويزعم أني لست عنكم بغافل ... ويخبرنا فعل المناصح أنه ... شفيق ويخفي عارمات الدواخل ... أمطعم لم أخذلك في يوم نجدة ... ولا معظم عند الأمور الجلائل ... ولا يوم خصم إذ أتوك ألدة ... أولى جدل من الخصوم المساجل ... أمطعم إن القوم ساموك خطة ... وإني متى أوكل فلست بوائل ... جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا ... عقوبة شر عاجلا غير آجل ... بميزان قسط لا يخيس شعيرة ... له شاهد من نفسه غير عائل (3/55)
لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا ... بني خلف قيضا بنا والغياطل ... ونحن الصميم من ذؤابة هاشم ... وآل قصي في الخطوب الاوائل ... وسهم ومخزوم تمالوا وألبوا ... علينا العدى من كل طمل وخامل ... فعبد مناف أنتم خير قومكم ... فلا تشركوا في أمركم كل واغل ... لعمري لقد وهنتم وعجزتم ... وجئتم بأمر مخطئ للمفاصل ... وكنتم حديثا حطب قدر وأنتم ... الآن أحطاب أقدر ومراجل ... ليهن بني عبد مناف عقوقنا ... وخذلاننا وتركنا في المعاقل ... فان نك قوما نتئر ما صنعتم ... وتحتلبوها لقحة غير باهل ... وسائط كانت في لؤي بن غالب ... نفاهم إلينا كل صقر حلاحل ... ورهط نفيل شر من وطئ الحصى ... والأم حاف من معد وناعل ... فأبلغ قصيا أن سينشر أمرنا ... وبشر قصيا بعدنا بالتخاذل ... ولو طرقت ليلا قصيا عظيمة ... إذا ما لجأنا دونهم في المداخل ... ولو صدقوا ضربا خلال بيوتهم ... لكنا أسى عند النساء المطافل ... فكل صديق وابن أخت نعده ... لعمري وجدنا غبه غير طائل ... سوى أن رهطا من كلاب بن مرة ... براء الينا من معقة خاذل ... وهنالهم حتى تبدد جمعهم ... ويحسر عنا كل باغ وجاهل ... وكان لنا حوض السقاية فيهم ... ونحن الكدى من غالب والكواهل ... شباب من المطيبين وهاشم ... كبيض السيوف بين أيدي الصياقل ... فما أدركوا ذحلا ولا سفكوا دما ... ولا حالفوا إلا شرار القبائل ... بضرب ترى الفتيان فيه كأنهم ... ضواري أسود فوق لحم خرادل ... بني أمة محبوبة هند كية ... بني جمح عبيد قيس بن عاقل ... ولكننا نسل كرام لسادة ... بهم نعي الاقوام عند البواطل ... ونعم ابن أخت القوم غير مكذب ... زهير حساما مفردا من حمائل ... اشم من الشم البهاليل ينتمي ... إلى حسب في حومة المجد فاضل ... لعمري لقد كلفت وجدا باحمد ... وإخوته دأب المحب المواصل (3/56)
فمن مثله في الناس أي مؤمل ... إذا قاسه الحكام عند التفاضل ... حليم رشيد عادل غير طائش ... يوالي إلها ليس عنه بغافل ... كريم المساعي ماجد وابن ماجد ... له إرث مجد ثابت غير ناصل ... وأيده رب العباد بنصره ... وأظهر دينا حقه غير زائل ... فوالله لولا أن أجيء بسبة ... تجر على أشياخنا في المحافل ... لكنا تبعناه على كل حالة ... من الدهر جدا غير قول التهازل ... لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... لدينا ولا يعني بقول الأباطل ... فاصبح فينا أحمد في أرومة ... يقصر عنها سورة المتطاول ... حدبت بنفسي دونه وحميته ... ودافعت عنه بالذرى والكلاكل ...
قال ابن هشام هذا ما صح لي من هذه القصيدة وبعض أهل العلم بالشعر ينكر أكثرها
قلت هذه قصيدة عظيمة بليغة جدا لا يستطيع يقولها إلا من نسبت إليه وهي أفحل من المعلقات السبع وابلغ في تأدية المعنى فيها جميعها وقد أوردها الاموي في مغازيه مطولة بزيادات أخر والله أعلم فصل
قال ابن اسحاق ثم إنهم عدوا على من اسلم واتبع رسول الله صلى الله عليه و سلم من اصحابه فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش وبرمضاء مكة اذا اشتد الحر من استضعفوه منهم يفتنونهم عن دينهم فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذي يصيبهم ومنهم من يصلب لهم ويعصمه الله منهم فكان بلال مولى أبي بكر لبعض بني جمح مولدا من مولديهم وهو بلال بن رباح واسم امه حمامة وكان صادق الاسلام طاهر القلب وكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول له لا والله لا (3/57)
تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد صلى الله عليه و سلم وتعبد اللات والعزى فيقول وهو في ذلك أحد احد قال ابن اسحاق فحدثني هشام بن عروة عن أبيه قال كان ورقة بن نوفل يمر به وهو يعذب لذلك وهو يقول أحد أحد فيقول احد أحد والله يا بلال ثم يقبل على أمية بن خلف ومن يصنع ذلك به من بني جمح فيقول أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لاتخذنه حنانا
قلت قد استشكل بعضهم هذا من جهة أن ورقة توفي بعد البعثة في فترة الوحي واسلام من أسلم إنما كان بعد نزول يا أيها المدثر فكيف يمر ورقة ببلال وهو يعذب وفيه نظر ثم ذكر ابن اسحاق مرور أبي بكر ببلال وهو يعذب فاشتراه من أمية بعبد له أسود فاعتقه وأراحه من العذاب وذكر مشتراه لجماعة ممن أسلم من العبيد والاماء منهم بلال وعامر بن فهيرة وأم عميس التي أصيب بصرها ثم رده الله تعالى لها والنهدية وابنتها اشتراها من بني عبد الدار بعثتهما سيدتهما تطحنان لها فسمعها وهي تقول لهما والله لا أعتقكما أبدا فقال أبو بكر حل يا أم فلان فقالت حل أنت أفسدتهما فاعتقهما قال فبكم هما قالت بكذا وكذا قال قد أخذتهما وهما حرتان أرجعا إليها طحينها قالتا أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده اليها قال ذلك إن شئتما واشترى جارية بني مؤمل حي من بني عدي كان عمر يضربها علىالاسلام قال ابن اسحاق فحدثني محمد بن عبد الله بن أبي عتيق عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن بعض أهله قال قال أبو قحافة لابنه أبي بكر يا بني إني أراك تعتق ضعافا فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلداء يمنعونك ويقومون دونك قال فقال أبو بكر يا أبة إني إنما أريد ما أريد قال فتحدث أنه ما أنزل هؤلاء الآيات إلا فيه وفيما قال أبوه فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى إلى آخر السورة وقد تقدم ما رواه الامام احمد وابن ماجه من حديث عاصم بن بهدلة عن زر عن ابن مسعود قال أول من أظهر الاسلام سبعة رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو بكر وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد فاما رسول الله صلى الله عليه و سلم فمنعه الله بعمه وأبو بكر منعه الله بقومه وأما سائرهم فاخذهم المشركون فالبسوهم أدرع الحديد وصهروهم في الشمس فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلالا فانه هانت عليه نفسه في الله تعالى وهان على قومه فاخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول أحد أحد ورواه الثوري عن منصور عن مجاهد مرسلا
قال ابن اسحاق وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه وكانوا أهل بيت اسلام إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء مكة فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فيقول فيما بلغني (3/58)
صبرا آل ياسر موعدكم الجنة وقد روى البيهقي عن الحاكم عن ابراهيم بن عصمة العدل حدثنا السري بن خزيمة حدثنا مسلم بن ابراهيم حدثنا هشام بن أبي عبيد الله عن أبي الزبير عن جابر ان رسول الله صلى الله عليه و سلم مر بعمار وأهله وهم يعذبون فقال ابشروا آل عمار وآل ياسر فان موعدكم الجنة فاما أمه فقتلوها فتأبى إلا الاسلام وقال الامام أحمد حدثنا وكيع عن سفيان عن منصور عن مجاهد قال أول شهيد كان في الإسلام استشهد أم عمار طعنها أبو جهل بحربة في قلبها وهذا مرسل
قال محمد بن اسحاق وكان أبو جهل الفاسق الذي يغري بهم في رجال من قريش إن سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وخزاه وقال تركت دين أبيك وهو خير منك لنسفهن حلمك ولنفلين رأيك ولنضعن شرفك وإن كان تاجرا قال والله لنكسدن تجارتك ولنهلكن مالك وإن كان ضعيفا ضر به وأغرى به لعنه الله وقبحه قال ابن اسحاق وحدثني حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير قال قلت لعبد الله بن عباس أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم قال نعم والله إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي به حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة حتى يقولوا له اللات والعزى إلهآن من دون الله فيقول نعم افتداء منهم بما يبلغون من جهدهم
قلت وفي مثل هذا أنزل الله تعالى من كفر بالله من بعد ايمانه إلا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدره فعليهم غضب من الله ولهم عذاب اليم الآية فهؤلاء كانوا معذورين بما حصل لهم من الاهانة والعذاب البليغ أجارنا الله من ذلك بحوله وقوته وقال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن مسلم عن مسروق عن خباب بن الأرت قال كنت رجلا قينا وكان لي على العاص بن وائل دين فاتيته اتقاضاه فقال لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد فقلت لا والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث قال فاني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد فاعطيك فانزل الله تعالى أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا إلى قوله ويأتينا فردا أخرجاه في الصحيحين وغيرهما من طرق عن الاعمش به وفي لفظ البخاري كنت قينا بمكة فعملت للعاص بن وائل سيفا فجئت أتقاضاه فذكر الحديث وقال البخاري حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا بنان واسماعيل قالا سمعنا قيسا يقول سمعت خبابا يقول أتيت النبي صلى الله عليه و سلم وهو متوسد ببردة وهو في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة فقلت ألا تدعو الله فقعد وهو محمر الوجه فقال قد كان من كان قبلكم ليمشط بامشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنتين ما (3/59)
يصرفه ذلك عن دينه وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله عز و جل زاد بنان والذئب على غنمه وفي رواية ولكنكم تستعجلون انفرد به البخاري دون مسلم وقد روى من وجه آخر عن خباب وهو مختصر من هذا والله أعلم
وقال الامام احمد حدثنا عبد الرحمن عن سفيان وابن جعفر حدثنا شعبة عن أبي اسحاق عن سعيد ابن وهب عن خباب قال شكونا إلى النبي صلى الله عليه و سلم شدة الرمضاء فما أشكانا يعني في الصلاة وقال ابن جعفر فلم يشكنا وقال أيضا حدثنا سليمان بن داود حدثنا شعبة عن أبي اسحاق عن سعيد ابن وهب عن خباب قال شكونا إلى النبي صلى الله عليه و سلم شدة الرمضاء فما أشكانا يعني في الصلاة وقال ابن جعفر فلم يشكنا وقال أيضا حدثنا سليمان بن داود حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال سمعت سعيد بن وهب يقول سمعت خبابا يقول شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم الرمضاء فلم يشكنا قال شعبة يعني في الظهيرة ورواه مسلم والنسائي والبيهقي من حديث أبي اسحاق السبيعي عن سعيد بن وهب عن خباب قال شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حر الرمضاء زاد البيهقي في وجوهنا واكفنا فلم يشكنا وفي رواية شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم الصلاة في الرمضاء فلم يشكنا وروا ابن ماجه عن علي بن محمد الطنافسي عن وكيع عن الاعمش عن أبي اسحاق عن حارثة بن مضرب العبدي عن خباب قال شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حر الرمضاء فلم يشكنا والذي يقع لي والله أعلم أن هذا الحديث مختصر من الأول وهو أنهم شكوا اليه صلى الله عليه و سلم ما يلقون من المشركين من التعذيب بحر الرمضاء وأنهم يسحبونهم على وجوههم فيتقون بأكفهم وغير ذلك من أنواع العذاب كما تقدم عن ابن اسحاق وغيره وسألوا منه صلى الله عليه و سلم أن يدعو الله لهم على المشركين أو يستنصر عليهم فوعدهم ذلك ولم ينجزه لهم في الحالة الراهنة وأخبرهم عمن كان قبلهم أنهم كانوا يلقون من العذاب ما هو أشد مما أصابهم ولا يصرفهم ذلك عن دينهم ويبشرهم أن الله سيتم هذا الأمر ويظهره ويعلنه وينشره وينصره في الاقاليم والآفاق حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله عز و جل والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون ولهذا قال شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حر الرمضاء في وجوهنا وأكفنا فلم يشكنا أي لم يدع لنا في الساعة الراهنة فمن استدل بهذا الحديث على عدم الابراد أو على وجوب مباشرة المصلى بالكف كما هو أحد قولي الشافعي ففيه نظر والله أعلم باب
مجادلة المشركين رسول الله صلى الله عليه و سلم وإقامة الحجة الدامغة عليهم واعترافهم في أنفسهم بالحق وإن أظهروا المخالفة عنادا وحسدا وبغيا وجحودا
قال اسحاق بن راهوايه حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني عن عكرمة عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقرأ عليه القرآن فكأنه رق له فبلغ (3/60)
ذلك أبا جهل فاتاه فقال يا عم ان قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا قال لم قال ليعطوكه فانك أتيت محمدا لتعرض ما قبله قال قد علمت قريش أني أكثرها مالا قال فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له قال وماذا أقول فوالله ما منكم رجل أعرف بالاشعار مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني ولا باشعار الجن والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا ووالله أن لقوله الذي يقوله حلاوة وإن عليه لطلاوة وانه لمثمر اعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلو ولا يعلى وإنه ليحطم ما تحته قال لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه قال قف عني حتى أفكر فيه فلما فكر قال إن هذا الا سحر يؤثر يأثره عن غيره فنزلت ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا الآيات هكذا رواه البيهقي عن الحاكم عن عبد الله بن محمد الصنعاني بمكة عن اسحاق به وقد رواه حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة مرسلا فيه أنه قرأ عليه إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون وقال البيهقي عن الحاكم عن الاصم عن احمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير عن محمد بن اسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة اجتمع ونفر من قريش وكان ذا سن فيهم وقد حضر المواسم فقال ان وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فاجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ويرد قول بعضكم بعضا فقيل يا أبا عبد شمس فقل واقم لنا رأيا نقوم به فقال بل أنتم فقولوا وأنا أسمع فقالوا نقول كاهن فقال ما هو بكاهن رأيت الكهان فما هو بزمزمة الكهان فقالوا نقول مجنون فقال ما هو بمجنون ولقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بحنقه ولا تخالجه ولا وسوسته فقال نقول شاعر فقال ما هو بشاعر قد عرفنا الشعر برجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر قالوا فنقول هو ساحر قال ما هو بساحر قد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثه ولا بعقده قالوا فما نقول يا أبا عبد شمس قال والله ان لقوله لحلاوة وان أصله لمغدق وان فرعه لجني فما أنتم بقائلين من هذا شيئا الا عرف أنه باطل وان اقرب القول لأن تقولوا هذا ساحر فتقولوا هو ساحر يفرق بين المرء ودينه وبين المرء وأبيه وبين المرء وزوجته وبين المرء واخيه وبين المرء وعشيرته فتفرقوا عنه بذلك فجعلوا يجلسون للناس حتى قدموا الموسم لا يمر بهم أحد لا حذروه اياه وذكروا لهم أمره وأنزل الله في الوليد ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا الآيات وفي أولئك النفر الذين جعلوا القرآن عضين فوربك لنسألنهم اجمعين عما كانوا يعملون
قلت وفي ذلك قال الله تعالى اخبارا عن جهلهم وقلة عقلهم بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليئتنا بآية كما أرسل الاولون فحاروا ماذا يقولون فيه فكل شيء يقولونه باطل لأن (3/61)
من خرج عن الحق مهما قاله أخطأ قال الله تعالى انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا وقال الامام عبد بن حميد في مسنده حدثني أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا علي ابن مسهر عن الاجلح هو ابن عبد الله الكندي عن الذيال بن حرملة الاسدي عن جابر بن عبد الله قال اجتمع قريش يوما فقالوا أنظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه فقالوا ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة فقالوا أنت يا أباالوليد فاتاه عتبة فقال يا محمد أنت خير أم عبد الله فسكت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أنت خير أم عبد المطلب فسكت رسول الله صلى الله عليه و سلم قال فان كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومه منك فرقت جماعتنا وشتت أمرنا وعبت ديننا وفضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا وان في قريش كاهنا والله ما ننتظر الا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا وإن كان إنما بك الباه فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم فرغت قال نعم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون إلى أن بلغ فان أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فقال عتبة حسبك ما عندك غير هذا قال لا فرجع الى قريش فقالوا ما وراءك قال ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه الا كلمته قالوا فهل أجابك فقال نعم ثم قال لا والذي نصبها بنية ما فهمت شيئا مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود قالوا ويلك يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ما قال قال لا والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة وقد رواه البيهقي وغيره عن الحاكم عن الاصم عن عباس الدوري عن يحيى بن معين عن محمد بن فضيل عن الاجلح به وفيه كلام وزاد وان كنت إنما بك الرياسة عقدنا ألويتنا لك فكنت رأسا ما بقيت وعنده أنه لما قال فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود أمسك عقبة على فيه وناشده الرحم أن يكف عنه ولم يخرج الى أهله واحتبس عنهم فقال أبو جهل والله يا معشر قريش ما نرى عتبة الا صبأ الى محمد واعجبه طعامه وما ذاك الا من حاجة اصابته انطلقوا بنا اليه فاتوه فقال أبو جهل والله يا عتبة ما جئنا الا أنك صبوت الى محمد وأعجبك أمره فان كان بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد فغضب واقسم بالله لا يكلم محمدا ابدا وقال لقد علمتم أني (3/62)
من أكثر قريش مالا ولكني أتيته وقص عليهم القصة فاجابني بشيء والله ما هو بسحر ولا بشعر ولا كهانة قرأ بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم حتى بلغ فان اعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فامسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف وقد علمتم أن محمدا اذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل عليكم العذاب ثم قال البيهقي عن الحاكم عن الاصم عن احمد بن عبد الجبار عن يونس عن محمد بن اسحاق حدثني يزيد بن أبي زياد مولى بني هاشم عن محمد بن كعب قال حدثت أن عتبة بن ربيعة وكان سيدا حليما قال ذات يوم وهو جالس في نادي قريش ورسول الله صلى الله عليه و سلم جالس وحده في المسجد يا معشر قريش الا أقوم الى هذا فاعرض عليه امورا لعله يقبل بعضها ويكف عنا قالوا بلى يا أبا الوليد فقام عتبة حتى جلس الى رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر الحديث فيما له عتبة وفيما عرض على رسول الله صلى الله عليه و سلم من المال والملك وغير ذلك وقال زياد بن إسحاق فقال عتبة يا معشر قريش ألا أقوم الى محمد فاكمله واعرض عليه أمور لعله يقبل بعضها فنعطيه اياها ويكف عنا وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يزيدون ويكثرون فقالوا بلى يا أبا الوليد فقم اليه وكلمه فقام عتبة حتى جلس الى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من الشطر في العشيرة والمكان في النسب وأنك قد أتيت قومك بامر عظيم فرقت جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم فاسمع مني حتى أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها قال فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم يا أبا الوليد اسمع قال يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وان كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك وان كنت تريد به ملكا ملكناك علينا وان كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فانه ربما غلب التابع على الرجل حتى يتداوى منه أو كما قال له حتى اذا فرغ عتبة قال له النبي صلى الله عليه و سلم افرغت يا أبا الوليد قال نعم قال اسمع مني قال افعل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون فمضى رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأها فلما سمع بها عتبة انصت لها وألقى بيديه خلفه أو خلف ظهره معتمدا عليها ليسمع منه حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه و سلم الى السجدة فسجدها ثم قال سمعت يا أبا الوليد قال سمعت قال فانت وذاك ثم قام عتبة الى أصحابه فقال بعضهم لبعض تحلف بالله لقد جاءكم أبوالوليد بغير الوجه الذي ذهب به فلما جلسوا اليه قالوا ما وراءك يا أبا الوليد قال ورائي أني والله قد سمعت قولا ما سمعت مثله قط والله ما هو بالشعر ولا الكهانة يا معشر قريش (3/63)
أطيعوني واجعلوها بي خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ فان تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وان يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به قالوا سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه قال هذا رأيي لكم فاصنعوا ما بدا لكم ثم ذكر يونس عن ابن اسحاق شعرا قاله أبو طالب يمدح فيه عتبة
وقال البيهقي أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهاني أخبرنا أبو قتيبة سلمة بن الفضل الادمي بمكة حدثنا أبو أيوب احمد بن بشر الطيالسي حدثنا داود بن عمرو الضبي حدثنا المثنى بن زرعة عن محمد بن اسحاق عن نافع عن ابن عمر قال لما قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم على عتبة بن ربيعة حم تنزيل من الرحمن الرحيم أتى اصحابه فقال لهم يا قوم أطيعوني في هذا الأمر اليوم واعصوني فيما بعده فوالله لقد سمعت من هذا الرجل كلاما ما سمعت أذناي كلاما مثله وما دريت ما أرد عليه وهذا حديث غريب جدا من هذا الوجه ثم روى البيهقي عن الحاكم عن الاصم عن احمد بن عبد الجبار عن يونس عن ابن اسحاق حدثني الزهري قال حدثت أن أبا جهل وابا سفيان والاخنس بن شريق خرجوا ليلة ليسمعوا من رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يصلي بالليل في بيته فاخذ كل رجل منهم مجلسا ليستمع منه وكل لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون له حتى اذا أصبحوا وطلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقال بعضهم لبعض لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لاوقعتم في نفسه شيئا ثم انصرفوا حتى اذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم الى مجلسه فباتوا يستمعون له حتى طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق قال بعضهم لبعض مثل ما قالوا اول مرة ثم انصرفوا فلما كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتى اذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقالوا لا نبرح حتى نتعاهد أن لا نعود فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا فلما أصبح الاخنس بن شريق اخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته فقال أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد فقال يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء اعرفها واعرف ما يراد بها فقال الاخنس وأنا والذي حلفت به ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد فقال ماذا سمعت تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا واعطوا فاعطينا حتى اذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذه والله لا نسمع به أبدا ولا نصدقه فقام عنه الاخنس بن شريق ثم قال البيهقي أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا أبو العباس حدثنا احمد حدثنا يونس عن هشام بن سعد عن زيد بن اسلم عن المغيرة بن شعبة قال إن أول يوم عرفت رسول الله صلى الله عليه و سلم أني أمشي أنا وأبو جهل بن هشام في بعض أزقة مكة إذ لقينا رسول الله صلى الله عليه و سلم (3/64)
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأبي جهل يا أبا الحكم هلم إلى الله والى رسوله أدعوك إلى الله فقال أبو جهل يا محمد هل أنت منته عن سب آلهتنا هل تريد إلا أن نشهد أنك قد بلغت فنحن نشهد أن قد بلغت فوالله لو أني أعلم أن ما تقول حق لاتبعتك فانصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم وأقبل علي فقال والله اني لأعلم أن ما يقول حق ولكن [ يمنعني ] شيء إن بني قصي قالوا فينا الحجابة فقلنا نعم ثم قالوا فينا السقاية فقلنا نعم ثم قالوا فينا الندوة فقلنا نعم ثم قالوا فينا اللواء فقلنا نعم ثم أطعموا وأطعمنا حتى إذا تحاكت الركب قالوا منا نبي والله لا أفعل
وقال البيهقي أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال اخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب الاصم حدثنا محمد ابن خالد حدثنا احمد بن خلف حدثنا اسرائيل عن أبي اسحاق قال مر النبي صلى الله عليه و سلم على أبي جهل وأبي سفيان وهما جالسان فقال أبو جهل هذا نبيكم يا بني عبد شمس قال أبو سفيان وتعجب أن يكون منا نبي فالنبي يكون فيمن أقل منا وأذل فقال أبو جهل أعجب أن يخرج غلام من بين شيوخ نبيا ورسول الله صلى الله عليه و سلم يسمع فأتاهما فقال أما أنت يا أبا سفيان فما لله ورسوله غضبت ولكنك حميت للاصل وأما أنت يا أبا الحكم فوالله لتضحكن قليلا ولتبكين كثيرا فقال بئسما تعدني يا ابن أخي من نبوتك هذا مرسل من هذا الوجه وفيه غرابة
وقول أبي جهل لعنه الله كما قال الله تعالى مخبرا عنه وعن أضرابه وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا
وقال الامام أحمد حدثنا هشيم حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه و سلم متوار بمكة ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها قال كان اذا صلى باصحابه رفع صوته بالقرآن فلما سمع المشركون سبوا القرآن وسبوا من أنزله ومن جاء به قال فقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه و سلم ولا تجهر بصلاتك أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن ولا تخافت بها عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك وابتغ بين ذلك سبيلا وهكذا رواه صاحبا الصحيح من حديث أبي بشر جعفر بن أبي حية به
وقال محمد بن اسحاق حدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا جهر بالقرآن وهو يصلي تفرقوا عنه وأبوا أن يستمعوا منه وكان الرجل إذا أراد أن يسمع من رسول الله صلى الله عليه و سلم بعض ما يتلو وهو يصلي استرق السمع دونهم فرقا منهم فان رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ذهب خشية اذاهم فلم يستمع فان خفض رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يسمع الذين يستمعون من قراءته شيئا فانزل الله تعالى ولا تجهر بصلاتك فيتفرقوا عنك ولا تخافت بها فلا يسمع من أراد أن يسمعها ممن يسترق ذلك لعله يرعوى إلى بعض ما يسمع فينتفع به وابتغ بين ذلك سبيلا (3/65)
باب
هجرة أصحاب رسول الله من مكة إلى أرض الحبشة
قد تقدم ذكر أذية المشركين للمستضعفين من المؤمنين وما كانوا يعاملونهم به من الضرب الشديد والاهانة البالغة وكان الله عز و جل قد حجرهم عن رسوله صلى الله عليه و سلم ومنعه بعمه أبي طالب كما تقدم تفصيله ولله الحمد والمنة وروى الواقدي أن خروجهم اليها في رجب سنة خمس من البعثة وأن أول من هاجر منهم أحد عشر رجلا وأربع نسوة وأنهم انتهوا إلى البحر ما بين ماش وراكب فاستأجروا سفينة بنصف دينار الى الحبشة وهم عثمان بن عفان وامرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو حذيفة بن عتبة وامرأته سهلة بنت سهيل والزبير بن العوام ومصعب بن عمير وعبد الرحمن بن عوف وأبو سلمة بن عبد الاسد وامرأته أم سلمة بنت أبي أمية وعثمان بن مظعون وعامر بن ربيعة العنزي وامرأته ليلى بنت أبي حثمة وأبو سبرة بن أبي رهم و [ يقال بل أبو ] حاطب بن عمرو وسهيل بن بيضاء وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين قال ابن جرير وقال آخرون بل كانوا اثنين وثمانين رجلا سوى نسائهم وابنائهم وعمار بن ياسر نشك فان كان فيهم كانوا ثلاثة وثمانين رجلا
وقال محمد بن اسحاق فلما رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم ما يصيب أصحابه من البلاء وما هو فيه من العافية بمكانه من الله عز و جل ومن عمه أبي طالب وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء قال لهم لو خرجتم إلى أرض الحبشة فان بها ملكا لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارا الى الله بدينهم فكانت أول هجرة كانت في الاسلام فكان أول من خرج من المسلمين عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم وكذا روى البيهقي من حديث يعقوب بن سفيان عن عباس العنبري عن بشر بن موسى عن الحسن ابن زياد البرجمي حدثنا قتادة قال أول من هاجر الى الله تعالى بأهله عثمان بن عفان رضي الله عنه سمعت النضر بن أنس يقول سمعت أبا حمزة يعني أنس بن مالك يقول خرج عثمان بن عفان ومعه امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم الى أرض الحبشة فابطأ على رسول الله صلى الله عليه و سلم خبرهما فقدمت امرأة من قريش فقالت يا محمد قد رأيت ختنك ومعه امرأته قال على أي حال رأيتهما (3/66)
قالت رأيته قد حمل امرأته على حمار من هذا الدبابة وهو يسوقها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم صحبهما الله ان عثمان أول من هاجر بأهله بعد لوط عليه السلام
قال ابن اسحاق وأبو حذيفة بن عتبة وزوجته سهلة بنت سهيل بن عمرو وولدت له بالحبشة محمد بن أبي حذيفة والزبير بن العوام ومصعب بن عمير وعبد الرحمن بن عوف وأبو سلمة بن عبد الاسد وامرأته أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة وولدت له بها زينب وعثمان بن مظعون وعامر بن ربيعة حليف آل الخطاب وهو من بني عنز بن وائل وامرأته ليلى بنت أبي حثمة وأبو سبرة بن أبي رهم العامري وامرأته أم كلثوم بنت سهيل بن عمرو ويقال أبو حاطب ابن عمرو بن عبد شمس بن عبدود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر وهو أول من قدمها فيما قيل وسهيل بن بيضاء فهؤلاء العشرة أول من خرج من المسلمين الى أرض الحبشة فيما بلغني قال ابن هشام وكان عليهم عثمان بن مظعون فيما ذكر بعض أهل العلم
قال ابن اسحاق ثم خرج جعفر بن أبي طالب ومعه امرأته أسماء بنت عميس وولدت له بها عبد الله بن جعفر وتتابع المسلمون حتى اجتمعوا بأرض الحبشة
وقد زعم موسى بن عقبة أن الهجرة الاولى إلى أرض الحبشة كانت حين دخل أبو طالب ومن حالفه مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الشعب وفي هذا نظر والله أعلم وزعم أن خروج جعفر بن أبي طالب إنما كان في الهجرة الثانية اليها وذلك بعد عود بعض من كان خرج أولا حين بلغهم أن المشركين أسلموا وصلوا فلما قدموا مكة وكان فيمن قدم عثمان بن مظعون فلم يجدوا ما أخبروا به من إسلام المشركين صحيحا فرجع من رجع منهم ومكث آخرون بمكة وخرج آخرون من المسلمين إلى أرض الحبشة وهي الهجرة الثانية كما سيأتي بيانه قال موسى بن عقبة وكان جعفر بن أبي طالب فيمن خرج ثانيا وما ذكره ابن اسحاق من خروجه في الرعيل الاول أظهر كما سيأتي بيانه والله أعلم لكنه كان في زمرة ثانية من المهاجرين أولا وهو المقدم عليهم والمترجم عنهم عند النجاشي وغيره كما سنورده مبسوطا ثم إن ابن اسحاق سرد الخارجين صحبة جعفر رضي الله عنهم وهم عمرو بن سعيد بن العاص وامرأته فاطمة بنت صفوان بن أمية بن محرث بن شق الكناني وأخوه خالد وامرأته أمينة بنت خلف بن أسعد الخزاعي وولدت له بها سعيدا وأمه التي تزوجها بعد ذلك الزبير فولدت له عمرا وخالدا قال وعبد الله بن جحش بن رئاب وأخوه عبيد الله ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان وقيس بن عبد الله من بني أسد بن خزيمة وامرأته بركة بنت يسار مولاة أبي سفيان ومعيقيب بن أبي فاطمة وهو من موالي سعيد بن العاص قال ابن هشام وهو من دوس قال وأبو موسى [ الأشعري ] عبد الله بن قيس حليف آل عتبة بن (3/67)
ربيعة وسنتكلم معه في هذا وعتبة بن غزوان ويزيد بن زمعة بن الاسود وعمرو بن أمية بن الحارث بن أسد وطليب بن عمير بن وهب بن أبي كثير بن عبد وسويبط بن سعد بن حريملة وجهم بن قيس العبدوي ومعه امرأته أم حرملة بنت عبد الاسود بن خزيمة وولداه عمرو بن جهم وخزيمة بن جهم وأبو الروم بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار وفراس بن النضر ابن الحارث بن كلدة وعامر بن أبي وقاص أخو سعد والمطلب بن أزهر بن عبد عوف الزهري وامرأته رملة بنت أبي عوف بن ضبيرة وولدت بها عبد الله وعبد الله بن مسعود وأخوه عتبة والمقداد بن الاسود والحارث بن خالد بن صخر التيمي وامرأته ريطة بنت الحارث بن جبيلة وولدت له بها موسى وعائشة وزينب وفاطمة وعمرو بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد ابن تيم بن مرة وشماس بن عثمان بن الشريد المخزومي قال وإنما سمي شماسا لحسنه وأصل اسمه عثمان بن عثمان وهبار بن سفيان بن عبد الاسد المخزومي وأخوه عبد الله وهشام بن أبي حذيفة ابن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم وسلمة بن هشام بن المغيرة وعياش بن أبي ربيعة ابن المغيرة ومعتب بن عوف بن عامر ويقال له عيهامة وهو من حلفاء بني مخزوم قال وقدامة وعبد الله أخوا عثمان بن مظعون والسائب بن عثمان بن مظعون وحاطب بن الحارث بن معمر ومعه امرأته فاطمة بنت المجلل وابناه منها محمد والحارث وأخوه خطاب وامرأته فكيهه بنت يسار وسفيان بن معمر بن حبيب وامرأته حسنة وابناه منها جابر وجنادة وابنها من غيره وهو شرحبيل بن عبد الله أحد الغوث بن مزاحم بن تميم وهو الذي يقال له شرحبيل ابن حسنة وعثمان بن ربيعة بن أهبان بن وهب بن حذافة بن جمح وخنيس بن حذافة بن قيس ابن عدي وعبد الله بن الحارث بن قيس بن عدي بن سعيد بن سهم وهشام بن العاص بن وائل ابن سعيد وقيس بن حذافة بن قيس بن عدي واخوه عبد الله وأبو قيس بن الحارث بن قيس ابن عدي وإخوته الحارث ومعمر والسائب وبشر وسيد ابناء الحارث وسعيد بن قيس ابن عدي لامه وهو سعيد بن عمرو التميمي وعمير بن رئاب بن حذيفة بن مهشم سعيد بن سهم وحليف لبني سهم وهو محمية بن جزء الزبيدي ومعمر بن عبد الله العدوي وعروة بن عبد العزى وعدي بن نضلة بن عبد العزى وابنه النعمان وعبد الله بن مخرمة العامري وعبد الله ابن سهيل بن عمرو وسليط بن عمرو وأخوه السكران ومعه زوجته سؤدة بنت زمعة ومالك بن ربيعة وامرأته عمرة بنت السعدي وأبو حاطب بن عمرو العامري وحليفهم سعد بن خولة وهو من اليمن وأبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح الفهري وسهيل بن بيضاء وهي أمه واسمها دعد بنت جحدم بن أمية بن ظرب بن الحارث بن فهر وهو سهيل بن وهب بن ربيعة بن هلال (3/68)
ابن ضبة بن الحارث وعمرو بن أبي سرح بن ربيعة بن هلال بن مالك بن ضبة بن الحارث وعياض بن زهير بن أبي شداد بن ربيعة بن هلال بن مالك بن ضبة وعمرو بن الحارث بن زهير ابن أبي شداد بن ربيعة وعثمان بن عبد غنم بن زهير اخوات وسعيد بن عبد قيس بن لقيط وأخوه الحارث الفهريون
قال ابن اسحاق فكان جميع من لحق بأرض الحبشة وهاجر اليها من المسلمين سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغارا وولدوا بها ثلاثة وثمانون رجلا إن كان عمار بن ياسر فيهم وهو يشك فيه
قلت وذكر ابن اسحاق أبا موسى الأشعري فيمن هاجر من مكة الى أرض الحبشة غريب جدا وقد قال الامام أحمد حدثنا حسن بن موسى سمعت خديجا أخا زهير بن معاوية عن أبي اسحاق عن عبد الله بن عتبة عن ابن مسعود قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم الى النجاشي ونحن نحوا من ثمانين رجلا فيهم عبد الله بن مسعود وجعفر وعبد الله بن عرفطة وعثمان بن مظعون وأبو موسى فاتوا النجاشي وبعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدية فلما دخلا على النجاشي سجدا له ثم ابتدراه عن يمينه وعن شماله ثم قالا له إن نفرا من بني عمنا نزلوا أرضك ورغبوا عنا وعن ملتنا قال فأين هم قالا في أرضك فابعث اليهم فبعث اليهم فقال جعفر أنا خطيبكم اليوم فاتبعوه فسلم ولم يسجد فقالوا له مالك لا تسجد للملك قال إنا لا نسجد إلا لله عز و جل قال وما ذاك قال إن الله بعث الينا رسولا ثم أمرنا أن لا نسجد لاحد إلا لله عز و جل وأمرنا بالصلاة والزكاة قال عمرو فانهم يخالفونك في عيسى بن مريم قال فما تقولون في عيسى بن مريم وأمه قال نقول كما قال الله هو كلمته وروحه ألقاها إلى العذراء البتول التي لم يمسها بشر ولم يفرضها ولد قال فرفع عودا من الأرض ثم قال يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان والله ما يزيدون على الذي نقول فيه ما سوى هذا مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنه الذي نجد في الانجيل وأنه الرسول الذي بشر به عيسى بن مريم انزلوا حيث شئتم والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا الذي أحمل نعليه وأمر بهدية الآخرين فردت اليهما ثم تعجل عبد الله ابن مسعود حتى أدرك بدرا وزعم أن النبي صلى الله عليه و سلم استغفر له حين بلغه موته وهذا إسناد جيد قوي وسياق حسن وفيه ما يقتضي أن أبا موسى كان ممن هاجر من مكة إلى أرض الحبشة إن لم يكن ذكره مدرجا من بعض الرواة والله أعلم وقد روى عن أبي اسحاق السبيعي من وجه آخر (3/69)
فقال الحافظ أبو نعيم في الدلائل حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا محمد بن زكريا الغلابي حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا إسرائيل وحدثنا سليمان بن أحمد حدثنا محمد بن زكريا حدثنا الحسن بن علوية القطان حدثنا عباد بن موسى الختلي حدثنا اسماعيل بن جعفر حدثنا اسرائيل وحدثنا أبو احمد حدثنا عبد الله بن محمد بن شيرويه حدثنا اسحاق بن ابراهيم هو ابن راهويه حدثنا عبيد الله بن موسى حدثنا إسرائيل عن أبي اسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ننطلق مع جعفر بن أبي طالب إلى أرض النجاشي فبلغ ذلك قريشا فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد وجمعوا للنجاشي هدية وقدما علىالنجاشي فاتياه بالهدية فقبلها وسجدا له ثم قال عمرو بن العاص إن ناسا من أرضنا رغبوا عن ديننا وهم في أرضك قال لهم النجاشي في أرضي قالا نعم فبعث الينا فقال لنا جعفر لا يتكلم منكم أحد أنا خطيبكم اليوم فانتهينا الى النجاشي وهو جالس في مجلسه وعمرو بن العاص عن يمينه وعمارة عن يساره والقسيسون جلوس سماطين وقد قال له عمرو وعمارة إنهم لا يسجدون لك فلما انتهينا بدرنا من عنده من القسيسين والرهبان اسجدوا للملك فقال جعفر لا نسجد إلا لله عز و جل فلما انتهينا الى النجاشي قال ما منعك أن تسجد قال لا نسجد إلا لله فقال له النجاشي وما ذاك قال إن الله بعث فينا رسولا وهو الرسول الذي بشر به عيسى بن مريم عليه الصلاة و السلام من بعده اسمه احمد فأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا ونقيم الصلاة ونؤتي الزكاة وأمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر فاعجب النجاشي قوله فلما رأى ذلك عمرو بن العاص قال أصلح الله الملك إنهم يخالفونك في عيسى بن مريم فقال النجاشي لجعفر ما يقول صاحبكم في ابن مريم قال يقول فيه قول الله هو روح الله وكلمته أخرجه من العذراء البتول التي لم يقربها بشر ولم يفرضها ولد فتناول النجاشي عودا من الأرض فرفعه فقال يا معشر القسيسين والرهبان ما يزيدون هؤلاء على ما نقول في ابن مريم ولا وزن هذه مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده فانا أشهد أنه رسول الله وأنه الذي بشر به عيسى ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أقبل نعليه امكثوا في أرضي ما شئتم وأمر لنا بطعام وكسوة وقال ردوا على هذين هديتهما وكان عمرو بن العاص رجلا قصيرا وكان عمارة رجلا جميلا وكانا أقبلا في البحر فشربا ومع عمرو امرأته فلما شربا قال عمارة لعمرو مر امرأتك فلتقبلني فقال له عمرو ألا تستحي فاخذ عمارة عمرا فرمى به في البحر فجعل عمرو يناشد عمارة حتى أدخله السفينة فحقد عليه عمرو في ذلك فقال عمرو للنجاشي إنك إذا خرجت خلفك عمارة في أهلك فدعا النجاشي بعمارة فنفخ في إحليله فطار مع الوحش وهكذا رواه الحافظ البيهقي في الدلائل من طريق أبي علي الحسن بن سلام السواق عن عبيد الله بن موسى فذكر باسناده مثله إلى (3/70)
قوله فامر لنا بطعام وكسوة قال وهذا اسناد صحيح وظاهره يدل على أن أبا موسى كان بمكة وأنه خرج مع جعفر بن أبي طالب إلى أرض الحبشة والصحيح عن يزيد بن عبد الله بن أبي بردة عن جده أبي بردة عن أبي موسى أنهم بلغهم مخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم وهم باليمن فخرجوا مهاجرين في بضع وخمسين رجلا في سفينة فالقتهم سفينتهم إلى النجاشي بارض الحبشة فوافقوا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عندهم فامره جعفر بالاقامة فاقاموا عنده حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم زمن خيبر قال وأبو موسى شهد ما جرى بين جعفر وبين النجاشي فاخبر عنه قال ولعل الراوي وهم في قوله أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ننطلق والله أعلم
وهكذا رواه البخاري في باب هجرة الحبشة حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو اسامة حدثنا يزيد بن عبد الله عن أبي بردة عن أبي موسى قال بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه و سلم ونحن باليمن فركبنا سفينة فالقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة فوافقنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فاقمنا معه حتى قدمنا فوافينا النبي صلى الله عليه و سلم حين افتتح خيبر فقال النبي صلى الله عليه و سلم لكم أنتم أهل السفينة هجرتان وهكذا رواه مسلم عن أبي كريب وأبي عامر عبد الله بن براد [ بن يوسف بن أبي بردة بن أبي موسى ] كلاهما عن أبي أسامة به وروياه في مواضع أخر مطولا والله أعلم
وأما قصة جعفر مع النجاشي فان الحافظ ابن عساكر رواها في ترجمة جعفر بن ابي طالب من تاريخه من رواية نفسه ومن رواية عمرو بن العاص وعلى يديهما جرى الحديث ومن رواية ابن مسعود كما تقدم وأم سلمة كما سيأتي فاما رواية جعفر فانها عزيزة جدا رواها ابن عساكر عن أبي القاسم السمرقندي عن أبي الحسين بن النقور عن أبي طاهر المخلص عن أبي القاسم البغوي قال حدثنا أبو عبد الرحمن الجعفي عن عبد الله بن عمر بن أبان حدثنا أسد بن عمرو البجلي عن مجالد بن سعيد عن الشعبي عن عبد الله بن جعفر عن أبيه قال بعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدية من أبي سفيان إلى النجاشي فقالوا له ونحن عنده قد صار اليك ناس من سفلتنا وسفهائنا فادفعهم الينا قال لا حتى اسمع كلامهم قال فبعث الينا فقال ما يقول هؤلاء قال قلنا هؤلاء قوم يعبدون الاوثان وإن الله بعث الينا رسولا فآمنا به وصدقناه فقال لهم النجاشي أعبيد هم لكم قالوا لا فقال فلكم عليهم دين قالوا لا قال فخلوا سبيلهم قال فخرجنا من عنده فقال عمرو بن العاص إن هؤلاء يقولون في عيسى غير ما تقول قال إن لم يقولوا في عيسى مثل قولي لم أدعهم في أرضي ساعة من نهار فارسل الينا فكانت الدعوة الثانية أشد علينا من الأولى قال ما يقول صاحبكم في عيسى بن مريم قلنا يقول هو روح الله وكلمته القاها إلى عذراء بتول قال فارسل فقال ادعوا لي فلان القس وفلان الراهب فاتاه ناس منهم فقال ما تقولون في عيسى بن مريم (3/71)
فقالوا أنت أعلمنا فما تقول قال النجاشي وأخذ شيئا من الأرض قال ما عدا عيسى ما قال هؤلاءمثل هذا ثم قال أيؤذيكم احدا قالوا نعم فنادى مناد من آذى أحدا منهم فاغرموه أربعة دراهم ثم قال أيكفيكم قلنا لا فأضعفها قال فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة وظهر بها قلنا له إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد ظهر وهاجر إلى المدينة وقتل الذين كنا حدثناك عنهم وقد أردنا الرحيل إليه فردنا قال نعم فحملنا وزودنا ثم قال أخبر صاحبك بما صنعت اليكم وهذا صاحبي معكم أشهد أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله وقل له يستغفر لي قال جعفر فخرجنا حتى أتينا المدينة فتلقاني رسول الله صلى الله عليه و سلم واعتنقني ثم قال ما أدري أنا بفتح خيبر أفرح أم بقدوم جعفر ووافق ذلك فتح خيبر ثم جلس فقال رسول النجاشي هذا جعفر فسله ما صنع به صاحبنا فقال نعم فعل بنا كذا وكذا وحملنا وزودنا وشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وقال لي قل له يستغفر لي فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فتوضأ ثم دعا ثلاث مرات اللهم اغفر للنجاشي فقال المسلمون آمين ثم قال جعفر للرسول انطلق فأخبر صاحبك بما رأيت من رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال ابن عساكر حسن غريب
وأما رواية أم سلمة فقد قال يونس بن بكير عن محمد بن اسحاق حدثني الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن حارث بن هشام عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت لما ضاقت مكة وأوذي أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وفتنوا ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم وأن رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم في منعة من قومه ومن عمه لا يصل اليه شيء مما يكره ومما ينال أصحابه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم أحد عنده فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه فخرجنا اليها ارسالا حتى اجتمعنا بها فنزلنا بخير دار إلى خير جار آمنين على ديننا ولم نخش فيها ظلما فلما رأت قريش أنا قد أصبنا دارا وأمنا غاروا منا فاجتمعوا على أن يبعثوا إلى النجاشي فينا ليخرجونا من بلاده وليردنا عليهم فبعثوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة فجمعوا له هدايا ولبطارقته فلم يدعوا منهم رجلا إلا هيئوا له هدية على حدة وقالوا لهما ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تتكلموا فيهم ثم ادفعوا اليه هداياه فان استطعتم أن يردهم عليكم قبل أن يكلمهم فافعلوا فقدما عليه فلم يبق بطريق من بطارقته إلا قدموا اليه هديته فكلموه فقالوا له إنما قدمنا على هذا الملك في سفهائنا فارقوا أقوامهم في دينهم ولم يدخلوا في دينكم فبعثنا قومهم ليردهم الملك عليهم فاذا نحن كلمناه فاشيروا عليه بأن يفعل فقالوا نفعل ثم قدموا إلى النجاشي هداياه وكان من أحب ما يهدون اليه من مكة الأدم وذكر موسى بن عقبة أنهم أهدوا اليه فرسا وجبة ديباج فلما أدخلوا عليه هداياه قالوا له إيها (3/72)
الملك إن فتية منا سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك وجاؤا بدين مبتدع لا نعرفه وقد لجئوا إلى بلادك وقد بعثنا اليك فيهم عشائرهم آباؤهم وأعمامهم وقومهم لتردهم عليهم فانهم أعلا بهم عينا فانهم لن يدخلوا في دينك فتمنعهم لذلك فغضب ثم قال لا لعمر الله لا أردهم عليهم حتى أدعوهم فأكلمهم وأنظر ما أمرهم قوم لجئوا إلى بلادي واختاروا جواري على جوار غيري فان كانوا كما يقولون رددتهم عليهم وان كانوا على غير ذلك منعتهم ولم أدخل بينهم وبينهم ولم انعم عينا [ وذكر موسى بن عقبة أن أمراءه أشاروا عليه بان يردهم اليهم فقال لا والله حتى اسمع كلامهم واعلم على أي شيء هم عليه فلما دخلوا عليه سلموا ولم يسجدوا له فقال أيها الرهط ألا تحدثوني ما لكم لا تحيوني كما يحييني من أتانا من قومكم فاخبروني ماذا تقولون في عيسى وما دينكم أنصارى أنتم قالوا لا قال افيهود أنتم قالوا لا قال فعلى دين قومكم قالوا لا قال فما دينكم قالوا الاسلام قال وما الاسلام قالوا نعبد الله لا نشرك به شيئا قال من جاءكم بهذا قالوا جاءنا به رجل من أنفسنا قد عرفنا وجهه ونسبه بعثه الله الينا كما بعث الرسل الى من قبلنا فأمرنا بالبر والصدقة والوفاء وأداء الأمانة ونهانا أن نعبد الأوثان وأمرنا بعبادة الله وحده لا شريك له فصدقناه وعرفنا كلام الله وعلمنا أن الذي جاء به من عند الله فلما فعلنا ذلك عادانا قومنا وعادوا النبي الصادق وكذبوه وأرادوا قتله وأرادونا على عبادة الأوثان ففررنا اليك بديننا ودمائنا من قومنا قال والله إن هذا لمن المشكاة التي خرج منها أمر موسى قال جعفر وأما التحية فان رسول الله صلى الله عليه و سلم أخبرنا أن تحية أهل الجنة السلام وأمرنا بذلك فحييناك بالذي يحيي بعضنا بعضا وأما عيسى بن مريم فعبد الله ورسوله وكلمته ألقاها الى مريم وروح منه وابن العذراء البتول فاخذ عودا وقال والله ما زاد ابن مريم على هذا وزن هذا العود فقال عظماء الحبشة والله لئن سمعت الحبشة لتخلعنك فقال والله لا أقول في عيسى غير هذا أبدا وما أطاع الله الناس في حين رد علي ملكي فاطع الناس في دين الله معاذ الله من ذلك وقال يونس عن ابن اسحاق فارسل اليهم النجاشي فجمعهم ولم يكن شيء أبغض لعمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة من أن يسمع كلامهم فلما جاءهم رسول النجاشي اجتمع القوم فقالوا ماذا تقولون فقالوا وماذا نقول نقول والله ما نعرف وما نحن عليه من أمر ديننا وما جاء به نبينا صلى الله عليه و سلم كائن من ذلك ما كان فلما دخلوا عليه كان الذي يكلمه منهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له النجاشي ما هذا الدين الذي أنتم عليه فارقتم دين قومكم ولم تدخلوا في يهودية ولا نصرانية فقال له جعفر أيها الملك كنا قوما على الشرك ونعبد الأوثان ونأكل الميتة ونسيء الجوار يستحل المحارم بعضنا من (3/73)
بعض في سفك الدماء وغيرها لا نحل شيئا ولا نحرمه فبعث الله الينا نبيا من أنفسنا نعرف وفاءه وصدقه وأمانته فدعانا الى أن نعبد الله وحده لا شريك له ونصل الارحام ونحمى الجوار ونصلي لله عز و جل ونصوم له ولا نعبد غيره
وقال زياد عن ابن اسحاق فدعانا الى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الارحام وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام قال فعدوا عليه أمور الاسلام فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من عند الله فعبدنا الله وحده لا شريك له ولم نشرك به شيئا وحرمنا ما حرم علينا واحللنا ما أحل لنا فعدا علينا قومنا فعذبونا ليفتنونا عن ديننا ويردونا الى عبادة الاوثان من عبادة الله وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا الى بلادك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك قالت فقال النجاشي هل معك شي مما جاء به وقد دعا اساقفته فأمرهم فنشروا المصاحف حوله فقال له جعفر نعم قال هلم فاتل على مما جاء به فقرأ عليه صدرا من كهيعص فبكى والله النجاشي حتى أخضلت لحيته وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم ثم قال إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة التي جاء بها موسى انطلقوا راشدين لا والله لا أردهم عليكم ولا أنعمكم عينا فخرجنا من عنده وكان أبقى الرجلين فينا عبد الله بن ربيعة فقال عمرو بن العاص والله لآتينه غدا بما استأصل به خضراءهم ولأخبرنه أنهم يزعمون أن ألهه الذي يعبد عيسى بن مريم عبد فقال له عبد الله بن أبي ربيعة لا تفعل فانهم وان كانوا خالفونا فان له رحما ولهم حقا فقال والله لافعلن فلما كان الغد دخل عليه فقال أيها الملك إنهم يقولون في عيسى قولا عظيما فارسل اليهم فسلهم عنه فبعث والله اليهم ولم ينزل بنا مثلها فقال بعضنا لبعض ماذا تقولون له في عيسى ان هو يسألكم عنه فقالوا نقول والله الذي قاله الله فيه والذي أمرنا نبينا أن نقوله فيه فدخلوا عليه وعنده بطارقته فقال ما تقولون في عيسى بن مريم فقال له جعفر نقول هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته القاها الى مريم العذراء البتول فدلى النجاشي يده الى الأرض فأخذ عودا بين أصبعيه فقال ما عدا عيسى بن مريم مما قلت هذا العويد فتناخرت بطراقته فقال وان تناخرتم والله اذهبوا فانتم سيوم في الأرض السيوم الآمنون في الأرض من سبكم غرم من سبكم غرم من سبكم غرم ثلاثا ما أحب أن لي دبرا وإني آذيت رجلا منكم والدبر بلسانهم الذهب وقال زياد عن ابن اسحاق ما أحب أن لي دبرا من ذهب قال (3/74)
ابن هشام ويقال زبرا وهو الجبل بلغتهم ثم قال النجاشي فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي ولا أطاع الناس في فاطيع الناس فيه ردوا عليهما هداياهم فلا حاجة لي بها واخرجا من بلادي فخرجا مقبوحين مردودا عليهما ماجآ به قالت فاقمنا مع خير جار في خير دار فلم نشب أن خرج عليه رجل من الحبشة ينازعه في ملكه فوالله ما علمنا حزنا حزنا قط هو أشد منه فرقا من أن يظهر ذلك الملك عليه فيأتي ملك لا يعرف من حقنا ما كان يعرفه فجعلنا ندعوا الله ونستنصره للنجاشي فخرج اليه سائرا فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم بعضهم لبعض من يخرج فيحضر الوقعة حتى ينظر على من تكون وقال الزبير وكان من أحدثهم سنا أنا فنفخوا له قربة فجعلها في صدره فجعل يسبح عليها في النيل حتى خرج من شقه الآخر الى حيث التقى الناس فحضر الوقعة فهزم الله ذلك الملك وقتله وظهر النجاشي عليه فجائا الزبير فجعل يليح لنا بردائه ويقول ألا فابشروا فقد اظهر الله النجاشي قلت فوالله ما علمنا [ أننا ] فرحنا بشيء قط فرحنا بظهور النجاشي ثم أقمنا عنده حتى خرج من خرج منا إلى مكة وأقام من أقام
قال الزهري فحدثت هذا الحديث عروة بن الزبير عن أم سلمة فقال عروة أتدري ما قوله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه ولا أطاع الناس في فاطيع الناس فيه فقلت لا ما حدثني ذلك أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أم سلمة فقال عروة فان عائشة حدثتني أن أباه كان ملك قومه وكان له أخ له من صلبه اثنا عشر رجلا ولم يكن لاب النجاشي ولد غير النجاشي فادارت الحبشة رأيها بينها فقالوا لو انا قتلنا ابا النجاشي وملكنا أخاه فان له اثنا عشر رجلا من صلبه فتوارثوا الملك لبقيت الحبشة عليهم دهرا طويلا لا يكون بينهم اختلاف فعدوا عليه فقتلوه وملكوا أخاه فدخل النجاشي بعمه حتى غلب عليه فلا يدبر أمره غيره وكان لبيبا حازما من الرجال فلما رأت الحبشة مكانه من عمه قالوا قد غلب هذا الغلام على أمر عمه فما نأمن أن يملكه علينا وقد عرف أنا قتلنا أباه فلئن فعل لم يدع منا شريفا الا قتله فكلموه فيه فليقتله أو ليخرجنه من بلادنا فمشوا الى عمه فقالوا قد رأينا مكان هذا الفتى منك وقد عرفت أنا قتلنا أباه وجعلناك مكانه وانا لا نأمن أن يملك علينا فيقتلنا فأما أن تقتله واما أن تخرجه من بلادنا قال ويحكم قتلتم أباه بالأمس واقتله اليوم بل أخرجه من بلادكم فخرجوا به فوقفوه في السوق وباعوه من التجار قذفه في سفينة بستمائة درهم أو بسبعمائة فانطلق به فلما كان العشي هاجت سحابة من سحائب الخريف فخرج عمه يتمطر تحتها فاصابته صاعقة فقتلته ففزعوا الى ولده فاذا هم محمقون ليس في أحد منهم خير فمرج على الحبشة أمرهم فقال بعضهم لبعض تعلمون والله أن ملككم الذي لا يصلح أمركم غيره للذي بعتم الغداة فان كان لكم بأمر الحبشة (3/75)
حاجة فادركوه قبل أن يذهب فخرجوا في طلبه فادركوه فردوه فعقدوا عليه تاجه وأجلسوه على سريره وملكوه فقال التاجر ردوا علي مالي كما أخذتم مني غلامي فقالوا لا نعطيك فقال اذا والله لاكلمنه فمشى اليه فكلمه فقال أيها الملك اني ابتعت غلاما فقبض مني الذي باعوه ثمنه ثم عدوا على غلامي فنزعوه من يدي ولم يردوا علي مالي فكان أول ما خبر به من صلابة حكمه وعدله أن قال لتردن عليه ماله أو لتجعلن يد غلامه في يده فليذهبن به حيث شاء فقالوا بل نعطيه ماله فاعطوه إياه فلذلك يقول ما أخذ الله مني الرشوة فآخذ الرشوة حين رد علي ملكي وما أطاع الناس في فاطيع الناس فيه
وقال موسى بن عقبة كان أبو النجاشي ملك الحبشة فمات والنجاشي غلام صغير فاوصى الى أخيه أن اليك ملك قومك حتى يبلغ ابني فاذا بلغ فله الملك فرغب أخوه في الملك فباع النجاشي من بعض التجار فمات عمه من ليلته وقضى فردت الحبشة النجاشي حتى وضعوا التاج على رأسه هكذا ذكره مختصرا وسياق ابن اسحاق أحسن وأبسط فالله أعلم والذي وقع في سياق ابن اسحاق انما هو ذكر عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة والذي ذكره موسى بن عقبة والاموي وغير واحد أنهما عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بن المغيرة وهو أحد السبعة الذين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم حين تضاحكوا يوم وضع سلا الجزور على ظهره صلى الله عليه و سلم وهو ساجد عند الكعبة وهكذا تقدم في حديث ابن مسعود وأبي موسى الأشعري والمقصود انهما حين خرجا من مكة كانت زوجة عمرو معه وعمارة كان شابا حسنا فاصطحبا في السفينة وكان عمارة طمع في امرأة عمرو ابن العاص فألقى عمرا في البحر ليهلكه فسبح حتى رجع اليها فقال له عمارة لو أعلم أنك تحسن السباحة لما ألقيتك فحقد عمرو عليه فلما لم يقض لهما حاجة في المهاجرين من النجاشي وكان عمارة قد توصل إلى بعض أهل النجاشي فوشى به عمرو فأمر به النجاشي فسحر حتى ذهب عقله وساح في البرية مع الوحوش وقد ذكر الاموي قصة مطولة جدا وأنه عاش إلى زمن أمارة عمر بن الخطاب وأنه تقصده بعض الصحابة ومسكه فجعل يقول أرسلني أرسلني والامت فلما لم يرسله مات من ساعته فالله أعلم وقد قيل أن قريشا بعثت إلى النجاشي في أمر المهاجرين مرتين الاول مع عمرو بن العاص وعمارة والثانية مع عمرو وعبد الله بن أبي ربيعة نص عليه أبو نعيم في الدلائل والله أعلم وقد قيل إن البعثة الثانية كانت بعد وقعة بدر قاله الزهري لينالوا ممن هناك ثأرا فلم يجبهم النجاشي رضي الله عنه وأرضاه إلى شيء مما سألوا فالله أعلم
وقد ذكر زياد عن ابن اسحاق أن أبا طالب لما رأى ذلك من صنيع قريش كتب إلى النجاشي أبياتا يحضه فيها على العدل وعلى الاحسان إلى من نزل عنده من قومه (3/76)
ألا ليت شعري كيف في النأي جعفر ... وعمرو وأعداء العدو الاقارب ... وما نالت افعال النجاشي جعفرا ... وأصحابه أو عاق ذلك شاغب ... ونعلم ابيت اللعن أنك ماجد ... كريم فلا يشقى اليك المجانب ... ونعلم بأن الله زادك بسطة ... وأسباب خير كلها بك لازب ...
وقال يونس عن ابن اسحاق حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قال إنما كان يكلم النجاشي عثمان بن عفان رضي الله عنه والمشهور أن جعفرا هو المترجم رضي الله عنهم وقال زياد البكائي عن ابن اسحاق حدثني يزيد بن رومان عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت لما مات النجاشي كان يتحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور ورواه أبو داود عن محمد بن عمرو الرازي عن سلمة بن الفضل عن محمد بن اسحاق به لما مات النجاشي رضي الله عنه كنا نتحدث أنه لا يزال يرى على قبره نوروقال زياد عن محمد بن اسحاق حدثني جعفر بن محمد عن أبيه قال اجتمعت الحبشة فقالوا للنجاشي إنك فارقت ديننا وخرجوا عليه فارسل إلى جعفر وأصحابه فهيأ لهم سفنا وقال اركبوا فيها وكونوا كما أنتم فان هزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم وان ظفرت فاثبتوا ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه هو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ويشهد أن عيسى عبده ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم ثم جعله في قبائه عند المنكب الايمن وخرج إلى الحبشة وصفوا له فقال يا معشر الحبشة الست أحق الناس بكم قالوا بلى قال فكيف أنتم بسيرتي فيكم قالوا خير سيرة قال فما بكم قالوا فارقت ديننا وزعمت أن عيسى عبده ورسوله قال فما تقولون أنتم في عيسى قالوا نقول هو ابن الله فقال النجاشي ووضع يده على صدره على قبائه وهو يشهد أن عيسى بن مريم لم يزد على هذا وإنما يعني على ما كتب فرضوا وأنصرفوا فبلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما مات النجاشي صلى عليه واستغفر له وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر أربع تكبيرات وقال البخاري موت النجاشي حدثنا أبو الربيع حدثنا ابن عيينة عن ابن جريج عن عطاء عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم حين مات النجاشي مات اليوم رجل صالح فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة وروى ذلك من حديث أنس بن مالك وابن مسعود وغير واحد وفي بعض الروايات تسميته أصحمة وفي رواية مصحمة وهو أصحمة بن بحر وكان عبدا صالحا لبيبا زكيا وكان عادلا عالما رضي الله عنه وأرضاه وقال يونس عن ابن اسحاق اسم النجاشي مصحمة وفي نسخة صححها البيهقي اصحم وهو بالعربية عطية (3/77)
قال وإنما النجاشي اسم الملك كقولك كسرى هرقل
قلت كذا ولعله يريد به قيصر فانه علم لكل من ملك الشام مع الجزيرة من بلاد الروم وكسرى علم على من ملك الفرس وفرعون علم لمن ملك مصر كافة والمقوقس لمن ملك الاسكندرية وتبع لمن ملك اليمن والشحر والنجاشي لمن ملك الحبشة وبطليموس لمن ملك اليونان وقيل الهند وخاقان لمن ملك الترك وقال بعض العلماء إنما صلى عليه لانه كان يكتم إيمانه من قومه فلم يكن عنده يوم مات من يصلي عليه فلهذا صلى عليه صلى الله عليه و سلم قالوا فالغايب ان كان قد صلى عليه ببلده لا تشرع الصلاة عليه ببلد أخرى ولهذا لم يصل النبي صلى الله عليه و سلم في غير المدينة لا أهل مكة ولا غيرهم وهكذا أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة لم ينقل أنه صلى على أحد منهم في غير البلدة التي صلى عليه فيها فالله أعلم
قلت وشهود أبي هريرة رضي الله عنه الصلاة على النجاشي دليل على أنه إنما مات بعد فتح خيبر التي قدم بقية المهاجرين إلى الحبشة مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يوم فتح خيبر ولهذا روى أن النبي صلى الله عليه و سلم قال والله ما أدري بايهما أنا أسر بفتح خيبر أم بقدوم جعفر بن أبي طالب وقدموا معهم بهدايا وتحف من عند النجاشي رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه و سلم وصحبتهم أهل السفينة اليمنية أصحاب أبي موسى الأشعري وقومه من الاشعريين رضي الله عنهم ومع جعفر وهدايا النجاشي ابن أخي النجاشي ذونخترا أو ذومخمرا أرسله ليخدم النبي صلى الله عليه و سلم عوضا عن عمه رضي الله عنهما وأرضاهما وقال السهيلي توفي النجاشي في رجب سنة تسع من الهجرة وفي هذا نظر والله أعلم وقال البيهقي أنبأنا الفقيه أبو اسحاق ابراهيم بن محمد بن ابراهيم الطوسي حدثنا أبو العباس محمد ابن يعقوب حدثنا هلال بن العلاء الرقي حدثنا أبي العلاء بن مدرك حدثنا أبو هلال بن العلاء عن أبيه عن أبي غالب عن أبي أمامة قال قدم وفد النجاشي على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقام يخدمهم فقال أصحابه نحن نكفيك يا رسول الله فقال إنهم كانوا لأصحابي مكرمين وإني أحب أن أكافيهم ثم قال وأخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الاصبهاني أنبأنا أبو سعيد بن الاعرابي حدثنا هلال بن العلاء حدثنا أبي حدثنا طلحة بن زيد عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي قتادة قال قدم وفد النجاشي على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم يخدمهم فقال أصحابه نحن نكفيك يا رسول الله فقال انهم كانوا لأصحابنا مكرمين وإني أحب أن أكافيهم تفرد به طلحة بن زيد عن الأوزاعي وقال البيهقي حدثنا أبو الحسين بن بشران حدثنا أبو عمرو بن السماك حدثنا حنبل بن اسحاق حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو (3/78)
قال لما قدم عمرو بن العاص من أرض الحبشة جلس في بيته فلم يخرج اليهم فقالوا ما شأنه ماله لا يخرج فقال عمرو ان اصحمة يزعم أن صاحبكم نبي
قال ابن اسحاق ولما قدم عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة على قريش ولم يدركوا ما طلبوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وردهم النجاشي بما يكرهون وأسلم عمر بن الخطاب وكان رجلا ذا شكيمة لا يرام ما وراء ظهره امتنع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وبحمزة حتى غاظوا قريشا فكان عبد الله بن مسعود يقول ما كنا نقدر على أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر فلما اسلم عمر قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه قلت وثبت في صحيح البخاري عن ابن مسعود أنه قال ما زلنا أعزة منذ اسلم عمر بن الخطاب وقال زياد البكائي حدثني مسعر بن كدام عن سعد بن ابراهيم قال قال ابن مسعود إن اسلام عمر كان فتحا وإن هجرته كانت نصرا وإن إمارته كانت رحمة ولقد كنا وما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر فلما أسلم عمر قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه
قال ابن اسحاق وكان اسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الحبشة حدثني عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة عن عبد العزيز بن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أمه أم عبد الله بنت أبي حثمة قالت والله إنا لنترحل إلى أرض الحبشة وقد ذهب عامر في بعض حاجتنا إذ أقبل عمر فوقف على وهو على شركه فقالت وكنا نلقى منه أذى لنا وشدة علينا قالت فقال إنه الانطلاق يا أم عبد الله قلت نعم والله لنخرجن في أرض من أرض الله إذ آذيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله لنا مخرجا قالت فقال صحبكم الله ورأيت له رقة لم أكن أراها ثم انصرف وقد أحزنه فيما ارى خروجنا قالت فجاء عامر بحاجتنا تلك فقلت له يا أبا عبد الله لو رأيت عمر آنفا ورقته وحزنه علينا قال أطمعت في اسلامه قالت قلت نعم قال لا يسلم الذي رأيت حتى يسلم حمار الخطاب قالت يأسا منه لما كان يرى من غلظته وقسوته على الاسلام
قلت هذا يرد قول من زعم أنه كان تمام الاربعين من المسلمين فان المهاجرين إلى الحبشة كانوا فوق الثمانين اللهم إلا أن يقال إنه كان تمام الاربعين بعد خروج المهاجرين ويؤيد هذا ما ذكره ابن اسحاق ههنا في قصة اسلام عمر وحده رضي الله عنه وسياقها فانه قال وكان اسلام عمر فيما بلغني أن أخته فاطمة بنت الخطاب وكانت عند سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل كانت قد اسلمت واسلم زوجها سعيد بن زيد وهم مستخفون باسلامهم من عمر وكان نعيم بن عبد الله النحام رجل من بني عدي قد أسلم أيضا مستخفيا باسلامه من قومه وكان خباب بن الأرت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يقرئها القرآن فخرج عمر يوما متوشحا سيفه يريد رسول الله صلى الله عليه و سلم ورهطا من أصحابه (3/79)
فذكروا له أنهم قد اجتمعوا في بيت عند الصفا وهم قريب من أربعين من بين رجال ونساء ومع رسول الله صلى الله عليه و سلم عمه حمزة وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم في رجال من المسلمين ممن كان أقام مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة فلقيه نعيم بن عبد الله فقال أين تريد يا عمر قال أريد محمدا هذا الصابي الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها وعاب دينها وسب آلهتها فاقتله فقال له نعيم والله لقد غرتك نفسك يا عمر أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم قال وأي أهل بيتي قال ختنك وابن عمك سعيد بن زيد وأختك فاطمة فقد والله أسلما وتابعا محمدا صلى الله عليه و سلم على دينه فعليك بهما فرجع عمر عائدا إلى أخته فاطمة وعندها خباب بن الأرت معه صحيفة فيها طه يقريها إياها فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب في مخدع لهم أو في بعض البيت وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها وقد سمع عمر حين دنا إلى الباب قراءة خباب عليها فلما دخل قال ما هذه الهينمة التي سمعت قالا له ما سمعت شيئا قال بلى والله لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا على دينه وبطش بختنه سعيد بن زيد فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها فضربها فشجها فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما بدا لك فلما رأى عمر ما باخته من الدم ندم على ما صنع وأرعوى وقال لاخته أعطيني هذه الصحيفة التي كنتم تقرؤن آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمدا وكان عمر كاتبا فلما قال ذلك قالت له اخته إنا نخشاك عليها قال لا تخافي وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها اليها فلما قال ذلك طمعت في إسلامه فقالت يا أخي إنك نجس على شركك وإنه لا يمسه إلا المطهرون فقام عمر فاغتسل فأعطته الصحيفة وفيها طه فقرأها فلما قرأ منها صدرا قال ما أحسن هذا الكلام وأكرمه فلما سمع ذلك خباب بن الأرت خرج إليه فقال له والله يا عمر إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه صلى الله عليه و سلم فإني سمعته أمس وهو يقول اللهم أيد الاسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب فالله الله يا عمر فقال عند ذلك فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فاسلم فقال له خباب هو في بيت عند الصفا معه نفر من أصحابه فاخذ عمر سيفه فتوشحه ثم عمد إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه فضرب عليهم الباب فلما سمعوا صوته قام رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فنظر من خلل الباب فاذا هو بعمر متوشح بالسيف فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو فزع فقال يا رسول الله هذا عمر بن الخطاب متوشحا بالسيف فقال حمزة فاذن له فان كان جاء يريد خيرا بذلناه وإن كان يريد شرا قتلناه بسيفه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ايذن له فاذن له الرجل ونهض اليه رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى لقيه في الحجرة فاخذ بحجزته أو بمجمع ردائه ثم جذبه جذبة شديدة (3/80)
فقال ما جاء بك يا ابن الخطاب فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة فقال عمر يا رسول الله جئتك لأومن بالله ورسوله وبما جاء من عند الله قال فكبر رسول الله صلى الله عليه و سلم تكبيرة فعرف أهل البيت أن عمر قد أسلم فتفرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم من مكانهم وقد عزوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع اسلام حمزة وعلموا أنهما سيمنعان رسول الله صلى الله عليه و سلم وينتصفون بهما من عدوهم قال ابن اسحاق فهذا حديث الرواة من أهل المدينة عن اسلام عمر حين أسلم رضي الله عنه
قال ابن اسحاق وحدثني عبد الله بن أبي نجيح المكي عن أصحابه عطاء ومجاهد وعمن روى ذلك أن اسلام عمر فيما تحدثوا به عنه أنه كان يقول كنت للاسلام مباعدا وكنت صاحب خمر في الجاهلية أحبها وأشربها وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش بالحزورة فخرجت ليلة أريد جلسائي أولئك فلم أجد فيه منهم أحدا فقلت لو أني جئت فلانا الخمار لعلي أجد عنده خمرا فاشرب منها فخرجت فجئته فلم أجده قال فقلت لو اني جئت الكعبة فطفت سبعا أو سبعين قال فجئت المسجد فاذا رسول الله صلى الله عليه و سلم قائم يصلي وكان إذا صلى استقبل الشام وجعل الكعبة بينه وبين الشام وكان مصلاه بين الركنين الاسود واليماني قال فقلت حين رأيته والله لو أني استمعت لمحمد الليلة حتى اسمع ما يقول فقلت لئن دنوت منه لاستمع منه لاروعنه فجئت من قبل الحجر فدخلت تحت ثيابها فجعلت أمشي رويدا ورسول الله صلى الله عليه و سلم قائم يصلي يقرأ القرآن حتى قمت في قبلته مستقبله ما بيني وبينه إلا ثياب الكعبة قال فلما سمعت القرآن رق له قلبي وبكيت ودخلني الاسلام فلم أزل في مكاني قائما حتى قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم صلاته ثم انصرف وكان إذا انصرف خرج على دار ابن أبي حسين وكان مسكنه في الدار الرقطاء التي كانت بيد معاوية قال عمر فتبعته حتى اذا دخل بين دار عباس ودار ابن أزهر أدركته فلما سمع حسي عرفني فظن أني إنما اتبعته لاوذيه فنهمني ثم قال ما جاء بك يا ابن الخطاب هذه الساعة قال قلت جئت لأومن بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله قال فحمد الله رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال قد هداك الله يا عمر ثم مسح صدري ودعا لي بالثبات ثم انصرفت ودخل رسول الله صلى الله عليه و سلم بيته قال ابن اسحاق فالله أعلم أي ذلك كان
قلت وقد استقصيت كيفية اسلام عمر رضي الله عنه وما ورد في ذلك من الاحاديث والآثار مطولا في أول سيرته التي أفردتها على حدة ولله الحمد والمنة
قال ابن اسحاق وحدثني نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر قال لما أسلم عمر قال أي قريش انقل للحديث فقيل له جميل بن معمر الجمحي فغدا عليه قال عبد الله وغدوت أتبع أثره وأنظر ما يفعل وأنا غلام أعقل كلما رأيت حتى جاءه فقال له اعلمت يا جميل اني أسلمت ودخلت في دين (3/81)
محمد صلى الله عليه و سلم قال فوالله ما راجعه حتى قام يجر رداءه واتبعه عمر واتبعته أنا حتى قام على باب المسجد صرخ باعلا صوته يا معشر قريش وهم في انديتهم حول الكعبة ألا إن ابن الخطاب قد صبا قال يقول عمر من خلفه كذب ولكني قد اسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله وثاروا اليه فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤسهم قال وطلح فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول افعلوا ما بدا لكم فاحلف بالله ان لو قد كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا قال فبينما هم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حبرة وقميص موشى حتى وقف عليهم فقال ما شأنكم فقالوا صبأ عمر قال فمه رجل اختار لنفسه امرا فماذا تريدون أترون بني عدي يسلمون لكم صاحبهم هكذا خلوا عن الرجل قال فوالله لكأنما كانوا ثوبا كشط عنه قال فقلت لأبي بعد أن هاجر الى المدينة يا ابة من الرجل الذي زجر القوم عنك بمكة يوم اسلمت وهم يقاتلونك قال ذاك أي بني العاص بن وائل السهمي وهذا اسناد جيد قوي وهو يدل على تأخر اسلام عمر لأن ابن عمر عرض يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة وكانت احد في سنة ثلاث من الهجرة وقد كان مميزا يوم أسلم أبوه فيكون اسلامه قبل الهجرة بنحو من أربع سنين وذلك بعد البعثة بنحو تسع سنين والله أعلم
وقال البيهقي حدثنا الحاكم أخبرنا الأصم أخبرنا احمد بن عبد الجبار حدثنا يونس عن ابن اسحاق قال ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم عشرون رجلا وهو بمكة أو قريب من ذلك من النصارى حين ظهر خبره من أرض الحبشة فوجدوه في المجلس فكلموه وسألوه ورجال من قريش في انديتهم حول الكعبة فلما فرغوا من مساءلتهم رسول الله صلى الله عليه و سلم عما أرادوا دعاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم الى الله عز و جل وتلا عليهم القرآن فلما سمعوا فاضت أعينهم من الدمع ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره فلما قاموا من عنده اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش فقال خيبكم الله من ركب بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم فتأتونهم بخبر الرجل فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال لكم ما نعلم ركبا أحمق منكم أو كما قال قالوا لهم لا نجاهلكم سلام عليكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا نألون أنفسنا خيرا فيقال إن النفر من نصارى نجران والله أعلم أي ذلك كان ويقال والله أعلم أن فيهم نزلت هذه الآيات الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤن بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين (3/82)
فصل
قال البيهقي في الدلائل باب ما جاء في كتاب النبي صلى الله عليه و سلم الى النجاشي ثم روى عن الحاكم عن الاصم عن احمد بن عبد الجبار عن يونس عن ابن اسحاق قال هذا كتاب من رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى النجاشي الاصحم عظيم الحبشة سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأن محمدا عبده ورسوله وأدعوك بدعاية الله فاني أنا رسوله فاسلم تسلم يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فان تولوا فقولوا اشهدوا بانا مسلمون فان أبيت فعليك إثم النصارى من قومك
هكذا ذكره البيهقي بعد قصة هجرة الحبشة وفي ذكره ههنا نظر فان الظاهر أن هذا الكتاب انما هو إلى النجاشي الذي كان بعد المسلم صاحب جعفر وأصحابه وذلك حين كتب الى ملوك الأرض يدعوهم إلى الله عز و جل قبيل الفتح كما كتب الى هرقل عظيم الروم قيصر الشام وإلى كسرى ملك الفرس والى صاحب مصر وإلى النجاشي قال الزهري كانت كتب النبي صلى الله عليه و سلم اليهم واحدة يعني نسخة واحدة وكلها فيها هذه الآية وهي من سورة آل عمران وهي مدنية بلا خلاف فانه من صدر السورة وقد نزل ثلاث وثمانون آية من أولها في وفد نجران كما قررنا ذلك في التفسير ولله الحمد والمنة فهذا الكتاب إلى الثاني لا إلى الأول وقوله فيه الى النجاشي الأصحم لعل الأصحم مقحم من الراوي بحسب ما فهم والله أعلم
وأنسب من هذا ههنا ما ذكره البيهقي عن الحاكم عن أبي الحسن محمد بن عبد الله الفقيه بمرو حدثنا حماد بن احمد حدثنا محمد بن حميد حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن اسحاق قال بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي في شأن جعفر بن أبي طالب وأصحابه وكتب معه كتابا بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى النجاشي الاصحم ملك الحبشة سلام عليك فاني احمد اليك الله الملك القدوس المؤمن المهيمن وأشهد أن عيسى روح الله وكلمته القاها إلى مريم البتول الطاهرة الطيبة الحصينة فحملت بعيسى فخلقه من روحه ونفخته كما خلق آدم بيده ونفخه وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته وأن تتبعني فتؤمن بي وبالذي جاءني فاني رسول الله وقد بعثت اليك ابن عمي جعفرا ومعه نفر من المسلمين فاذا جاؤوك فاقرهم ودع التجبر فاني أدعوك وجنودك إلى الله عز و جل وقد بلغت ونصحت فاقبلوا نصيحتي (3/83)
والسلام على من اتبع الهدى فكتب النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بسم الله الرحمن الرحيم إلى محمد رسول الله من النجاشي الاصحم بن أبجر سلام عليك يا نبي الله من الله ورحمة الله وبركاته لا إله إلا هو الذي هداني إلى الاسلام فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى فورب السماء والارض إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت وقد عرفنا ما بعثت به الينا وقرينا ابن عمك وأصحابه فاشهد أنك رسول الله صادقا ومصدقا وقد بايعتك وبايعت ابن عمك واسلمت على يديه لله رب العالمين وقد بعثت اليك يا نبي الله باربحا بن الاصحم بن أبجر فاني لا أملك إلا نفسي وإن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله فاني أشهد أن ما تقول حق فصل
في ذكر مخالفة قبائل قريش بني هاشم وبني عبد المطلب في نصر رسول الله صلى الله عليه و سلم وتحالفهم فيما بينهم عليهم على أن لا يبايعوهم ولا يناكحوهم حتى يسلموا اليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم وحصرهم إياهم في شعب أبي طالب مدة طويلة وكتابتهم بذلك صحيفة ظالمة فاجرة وما ظهر في ذلك كله من آيات النبوة ودلائل الصدق
قال موسى بن عقبة عن الزهري ثم إن المشركين اشتدوا على المسلمين كأشد ما كانوا حتى بلغ المسلمين الجهد واشتد عليهم البلاء وجمعت قريش في مكرها أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه و سلم علانية فلما رأى أبو طالب عمل القوم جمع بني عبد المطلب وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه و سلم شعبهم وأمرهم أن يمنعوه ممن أرادوا قتله فاجتمع على ذلك مسلمهم وكافرهم فمنهم من فعله حمية ومنهم من فعله إيمانا ويقينا فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوا رسول الله صلى الله عليه و سلم وأجمعوا على ذلك اجتمع المشركون من قريش فاجمعوا أمرهم أن لا يجالسوهم ولا يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه و سلم للقتل وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهودا ومواثيق لا يقبلوا من بني هاشم صلحا أبدا ولا يأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين واشتد عليهم البلاء والجهد وقطعوا عنهم الاسواق فلا يتركوا لهم طعاما يقدم مكة ولا بيعا إلا بادروهم اليه فاشتروه يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله صلى الله عليه و سلم فكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فاضطجع على فراشه حتى يرى ذلك من أراد به مكرا واغتيالا له فاذا نام الناس أمرا أحد بنيه أو أخوته أو بني عمه فاضطجعوا على فراش رسول الله صلى الله عليه و سلم وأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يأتي بعض فرشهم فينام عليه فلما كان رأس ثلاث سنين تلاوم رجال من بني عبد مناف ومن قصي ورجال من سواهم من قريش قد ولدتهم نساء من بني هاشم ورأوا أنهم قد قطعوا الرحم واستخفوا (3/84)
بالحق واجتمع أمرهم من ليلتهم على نقض ما تعاهدوا عليه من الغدر والبراءة منه وبعث الله على صحيفتهم الارضة فلحست كلما كان فيها من عهد وميثاق ويقال كانت معلقة في سقف البيت فلم تترك اسما لله فيها إلا لحسته وبقي ما كان فيها من شرك وظلم وقطيعة رحم وأطلع الله عز و جل رسوله على الذي صنع بصحيفتهم فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم لابي طالب فقال أبو طالب لا والثواقب ما كذبني فانطلق يمشي بعصابته من بني عبد المطلب حتى أتى المسجد وهو حافل من قريش فلما رأوهم عامدين لجماعتهم أنكروا ذلك وظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء فاتوهم ليعطوهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فتكلم أبو طالب فقال قد حدثت أمور بينكم لم نذكرها لكم فاتوا بصحيفتكم التي تعاهدتم عليها فعله أن يكون بيننا وبينكم صلح وإنما قال ذلك خشية أن ينظروا في الصحيفة قبل أن يأتوا بها فاتوا بصحيفتهم معجبين بها لا يشكون أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مدفوعا اليهم فوضعوها بينهم وقالوا قد آن لكم أن تقبلوا وترجعوا إلى أمر يجمع قومكم فانما قطع بيننا وبينكم رجل واحد جعلتموه خطرا لهلكة قومكم وعشيرتكم وفسادهم فقالوا أبو طالب إنما أتيتكم لاعطيكم أمرا لكم فيه نصف إن ابن أخي أخبرني ولم يكذبني إن الله بريء من هذه الصحيفة التي في أيديكم ومحا كل اسم هو له فيها وترك فيها غدركم وقطيعتكم إيانا وتظاهركم علينا بالظلم فان كان الحديث الذي قال ابن أخي كما قال فافيقوا فوالله لا نسلمه أبدا حتى يموت من عندنا آخرنا وإن كان الذي قال باطلا دفعناه اليكم فقتلتموه أو استحييتم قالوا قد رضينا بالذي تقول ففتحوا الصحيفة فوجدوا الصادق المصدوق صلى الله عليه و سلم قد أخبر خبرها فلما رأتها قريش كالذي قال أبو طالب قالوا والله إن كان هذا قط الا سحر من صاحبكم فارتكسوا وعادوا بشر ما كانوا عليه من كفرهم والشدة على رسول الله صلى الله عليه و سلم والقيام على رهطه بما تعاهدوا عليه فقال أولئك النفر من بني عبد المطلب إن أولى بالكذب والسحر غيرنا فكيف ترون فانا نعلم إن الذي اجتمعتم عليه من قطيعتنا أقرب إلى الجبت والسحر من أمرنا ولولا إنكم اجتمعتم على السحر لم تفسد صحيفتكم وهي في أيديكم طمس ما كان فيها من اسمه وما كان فيها من بغي تركه أفنحن السحرة أم أنتم فقال عند ذلك النفر من بني عبد مناف وبني قصي ورجال من قريش ولدتهم نساء من بني هاشم منهم أبو البختري والمطعم بن عدي وزهير بن أبي أمية بن المغيرة وزمعة بن الاسود وهشام بن عمرو وكانت الصحيفة عنده وهو من بني عامر بن لؤي في رجال من اشرافهم ووجوههم نحن برءاء مما في هذه الصحيفة فقال أبو جهل لعنه الله هذا أمر قضى بليل وأنشأ أبو طالب يقول الشعر في شأن صحيفتهم ويمدح النفر الذين تبرؤا منها ونقضوا ما كان فيها من عهد ويمتدح النجاشي
قال البيهقي وهكذا روى شيخنا أبو عبد الله الحافظ يعني من طريق ابن لهيعة عن أبي (3/85)
الاسود عن عروة بن الزبير يعني كسياق موسى بن عقبة رحمه الله وقد تقدم عن موسى بن عقبة أنه قال إنما كانت هجرة الحبشة بعد دخولهم إلى الشعب عن أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم لهم في ذلك فالله أعلم
قلت والأشبه أن أبا طالب إنما قال قصيدته اللامية التي قدمنا ذكرها بعد دخولهم الشعب أيضا فذكرها ههنا أنسب والله أعلم ثم روى البيهقي من طريق يونس عن محمد بن اسحاق قال لما مضى رسول الله صلى الله عليه و سلم على الذي بعث به وقامت بنو هاشم وبنو عبد المطلب دونه وأبو أن يسلموه وهم من خلافه على مثل ما قومهم عليه إلا أنهم اتقوا أن يستذلوا ويسلموا أخاهم لما قارفه من قومه فلما فعلت ذلك بنو هاشم وبنو المطلب وعرفت قريش أن لا سبيل إلى محمد اجتمعوا على أن يكتبوا فيما بينهم على بني هاشم وبني عبد المطلب أن لا يناكحوهم ولا ينكحوا اليهم ولا يبايعوهم ولا يبتاعوا منهم وكتبوا صحيفة في ذلك وعلقوها بالكعبة ثم عدوا على من أسلم فاوثقوهم وآذوهم واشتد عليهم البلاء وعظمت الفتنة وزلزلوا زلزالا شديدا ثم ذكر القصة بطولها في دخولهم شعب أبي طالب وما بلغوا فيه من فتنة الجهد الشديد حتى كان يسمع أصوات صبيانهم يتضاغون من وراء الشعب من الجوع حتى كره عامة قريش ما أصابهم وأظهروا كراهيتهم لصحيفتهم الظالمة وذكروا أن الله برحمته أرسل على صحيفة قريش الارضة فلم تدع فيها اسما هو لله إلا أكلته وبقي فيها الظلم والقطيعة والبهتان فاخبر الله تعالى بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فاخبر بذلك عمه أبو طالب ثم ذكر بقية القصة كرواية موسى بن عقبة وأتم
وقال ابن هشام عن زياد عن محمد بن اسحاق فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قد نزلوا بلدا أصابوا منه أمنا وقرارا وأن النجاشي قد منع من لجأ اليه منهم وأن عمر قد أسلم فكان هو وحمزة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه وجعل الاسلام يفشو في القبائل فاجتمعوا وائتمروا على أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني عبد المطلب على أن لا ينكحوا اليهم ولا ينكحوهم ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم فلما اجتمعوا لذلك كتبوا في صحيفة ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم وكان كاتب الصحيفة منصور ابن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي قال ابن هاشم ويقال النضر ابن الحارث فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فشل بعض أصابعه وقال الواقدي كان الذي كتب الصحيفة طلحة بن أبي طلحة العبدوي
قلت والمشهور أنه منصور بن عكرمة كما ذكره ابن اسحاق وهو الذي شلت يده فما كان ينتفع بها وكانت قريش تقول بينها أنظروا إلى منصور بن عكرمة قال الواقدي وكانت الصحيفة (3/86)
معلقة في جوف الكعبة قال ابن اسحاق فلما فعلت ذلك قريش انحازت بنو هاشم وبنو عبد المطلب إلى أبي طالب فدخلوا معه في شعبه واجتمعوا اليه وخرج من بني هاشم أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب إلى قريش فظاهرهم وحدثني حسين بن عبد الله أن أبا لهب لقي هند بنت عتبة ابن ربيعة حين فارق قومه وظاهر عليهم قريشا فقال يا ابنة عتبة نصرت اللات والعزى وفارقت من فارقها وظاهر عليها قالت نعم فجزاك الله خيرا يا أبا عتبة
قال ابن اسحاق وحدثت أنه كان يقول في بعض ما يقول يعدني محمد اشياء لا أراها يزعم أنها كائنة بعد الموت فماذا وضع في يدي بعد ذلك ثم ينفخ في يديه فيقول تبا لكما لا أرى فيكما شيئا مما يقول محمد فانزل الله تعالى تبت يدا أبي لهب وتب قال ابن اسحاق فلما اجتمعت على ذلك قريش وصنعوا فيه الذي صنعوا قال أبو طالب ... ألا أبلغا عني على ذات بيننا ... لؤيا وخصا من لؤي بني كعب ... ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا ... نبيا كموسى خط في أول الكتب ... وأن عليه في العباد محبة ... ولا خير ممن خصه الله بالحب ... وأن الذي الصقتموا من كتابكم ... لكم كائن نحسا كراغية السقب ... أفيقوا أفيقوا قبل أن يحفر الثرى ... ويصبح من لم يجن ذنبا كذي الذنب ... ولا تتبعوا أمر الوشاة وتقطعوا ... أواصرنا بعد المودة والقرب ... وتستجلبوا حربا عوانا وربما ... أمر على من ذاقه حلب الحرب ... فلسنا ورب البيت نسلم أحمدا ... لعزاء من عض الزمان ولا كرب ... ولما تبن منا ومنكم سوالف ... وأيد أترت بالقساسية الشهب ... بمعترك ضيق ترى كسر القنا ... به والنسور الطخم يعكفن كالشرب ... كأن ضحال الخيل في حجراته ... ومعمعة الابطال معركة الحرب ... أليس أبونا هاشم شد أزره ... وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب ... ولسنا نمل الحرب حتى تملنا ... ولا نشتكي ما قد ينوب من النكب ... ولكننا أهل الحفائظ والنهى ... إذا طار أرواح الكماة من الرعب ...
قال ابن اسحاق فاقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا حتى جهدوا ولم يصل اليهم شيء الا سرا مستخفيا به من أراد صلتهم من قريش وقد كان أبو أجهل بن هشام فيما يذكرون لقي حكيم بن (3/87)
حزام بن خويلد بن أسد معه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة بنت خويلد وهي عند رسول الله صلى الله عليه و سلم في الشعب فتعلق به وقال أتذهب بالطعام إلى بني هاشم والله لا تذهب أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة فجاءه أبو البختري بن هشام بن الحارث بن أسد فقال مالك وله فقال يحمل الطعام إلى بني هاشم فقال له أبو البختري طعام كان لعمته عنده بعثت به اليه أتمنعه أن يأتيها بطعامها خل سبيل الرجل قال فابى أبو جهل لعنه الله حتى نال أحدهما من صاحبه فاخذ أبو البختري لحى بعير فضربه فشجه ووطئه وطئا شديدا وحمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه فيشمتون بهم ورسول الله صلى الله عليه و سلم على ذلك يدعو قومه ليلا ونهارا سرا وجهارا مناديا بامر الله تعالى لا يتقى فيه أحدا من الناس فجعلت قريش حين منعه الله منها وقام عمه وقومه من بني هاشم وبني عبد المطلب دونه وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من البطش به يهمزونه ويستهزؤن به ويخاصمونه وجعل القرآن ينزل في قريش باحداثهم وفيمن نصب لعداوته منهم من سمى لنا ومنهم من نزل القرآن في عامة من ذكر الله من الكفار فذكر ابن اسحاق أبا لهب ونزول السورة فيه وأمية بن خلف ونزول قوله تعالى ويل لكل همزة لمزة السورة بكاملها فيه والعاص بن وائل ونزول قوله أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لاوتين مالا وولدا فيه وقد تقدم شيء من ذلك وأبا جهل بن هشام وقوله للنبي صلى الله عليه و سلم لتتركن سب آلهتنا أو لنسبن آلهتك ونزول قول الله فيه ولا تسبوا الذن يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم الآية والنضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة ومنهم من يقول علقمة بن كلدة قاله السهيلي وجلوسه بعد النبي صلى الله عليه و سلم في مجالسه حيث يتلو القرآن ويدعو إلى الله فيتلو عليهم النضر شيئا من أخبار رستم واسفنديار وما جرى بينهما من الحروب في زمن الفرس ثم يقول والله ما محمد باحسن حديثا مني وما حديثه إلا أساطير الأولين اكتتبها كما اكتتبها فانزل الله تعال وقالوا أساطير الاولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا وقوله ويل لكل أفاك أثيم
قال ابن اسحاق وجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما بلغنا يوما مع الوليد بن المغيرة في المسجد فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم وفي المجلس غير واحد من رجال قريش فتكلم رسول الله صلى الله عليه و سلم فعرض له النضر فكلمه رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أفحمه ثم تلا عليه وعليهم إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون ثم قام رسول الله صلى الله عليه و سلم وأقبل عبد الله بن الزبعري السهمي حتى جلس فقال الوليد بن المغيرة له والله ما قام والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا وما قعد وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم فقال عبد الله بن الزبعري أما (3/88)
والله لو وجدته لخصمته فسلوا محمدا أكل ما نعبد من دون الله حصب جهنم مع من عبده فنحن نعبد الملائكة واليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد عيسى فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول ابن الزبعري ورأوا أنه قد احتج وخاصم فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده في النار انهم إنما يعبدون الشياطين ومن أمرتهم بعبادته فانزل الله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون أي عيسى وعزير ومن عبد من الاحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله تعالى ونزل فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة وأنها بنات الله وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون والآيات بعدها ونزل في إعجاب المشركين بقول ابن الزبعري ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون وقالوا آلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون وهذا الجدل الذي سلكوه باطل وهم يعلمون ذلك لأنهم قوم عرب ومن لغتهم أن ما لما لا يعقل فقوله إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون إنما أريد بذلك ما كانوا يعبدونه من الاحجار التي كانت صور أصنام ولا يتناول ذلك الملائكة الذين زعموا أنهم يعبدونهم في هذه الصور ولا المسيح ولا عزيرا ولا أحدا من الصالحين لأن اللفظ لا يتناولهم لا لفظا ولا معنى فهم يعلمون أن ما ضربوه بعيسى ابن مريم من المثل جدل باطل كما قال الله تعالى ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون ثم قال إن هو أي عيسى إلا عبد أنعمنا عليه أي بنبوتنا وجعلناه مثلا لبني اسرائيل أي دليلا على تمام قدرتنا على ما نشاء حيث خلقناه من أنثى بلا ذكر وقد خلقنا حواء من ذكر بلا أنثى وخلقنا آدم لا من هذا ولا من هذا وخلقنا سائر بني آدم من ذكر وأنثى كما قال في الآية الأخرى ولنجعله آية للناس أي أمارة ودليلا على قدرتنا الباهرة ورحمة منا نرحم بها من نشاء
وذكر ابن اسحاق الاخنس بن شريق ونزول قوله تعالى فيه ولا تطع كل حلاف مهين الآيات وذكر الوليد بن المغيرة حيث قال أينزل على محمد وأترك وأنا كبير قريش وسيدها ويترك أبو مسعود عمرو بن عمرو الثقفي سيد ثقيف فنحن عظيما القريتين ونزول قوله فيه وقال لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم والتي بعدها وذكر أبي بن خلف حين قال لعقبة بن أبي معيط ألم يبلغني أنك جالست محمدا وسمعت منه وجهي من وجهك حرام إلا أن تتفل في وجهه ففعل ذلك عدو الله عقبة لعنه الله فانزل الله ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني (3/89)
اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا والتي بعدها قال ومشى أبي بن خلف بعظم بال قد أرم فقال يا محمد أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعد ما أرم ثم فته بيده ثم نفخه في الريح نحو رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال نعم أنا أقول ذلك يبعثه الله وإياك بعد ما تكونان هكذا ثم يدخلك النار وأنزل الله تعالى وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشاها أول مرة وهو بكل خلق عليم إلى آخر السورة قال واعترض رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما بلغني وهو يطوف عند باب الكعبة الاسود بن المطلب والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف والعاص بن وائل فقالوا يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد فنشترك نحن وأنت في الأمر فانزل الله فيهم قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون إلى آخرها ولما سمع أبو جهل بشجرة الزقوم قال أتدرون ما الزقوم هو تمر يضرب بالزبد ثم قال هلموا فلنتزقم فانزل الله تعالى إن شجرة الزقوم طعام الاثيم قال ووقف الوليد بن المغيرة فكلم رسول الله صلى الله عليه و سلم ورسول الله صلى الله عليه و سلم يكلمه وقد طمع في اسلامه فمر به ابن أم مكتوم عاتكة بنت عبد الله بن عنكثة الاعمى فكلم رسول الله صلى الله عليه و سلم وجعل يستقريه القرآن فشق ذلك عليه حتى أضجره وذلك أنه شغله عما كان فيه من أمر الوليد وما طمع فيه من اسلامه فلما أكثر عليه انصرف عنه عابسا وتركه فانزل الله تعالى عبس وتولى أن جاءه الأعمى الى قوله مرفوعة مطهرة وقد قيل إن الذي كان يحدث رسول الله صلى الله عليه و سلم حين جاءه ابن أم مكتوم أمية بن خلف فالله أعلم
ثم ذكر ابن اسحاق من عاد من مهاجرة الحبشة إلى مكة وذلك حين بلغهم اسلام أهل مكة وكان النقل ليس بصحيح ولكن كان له سبب وهو ما ثبت في الصحيح وغيره أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جلس يوما مع المشركين وأنزل الله عليه والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم يقرؤها عليهم حتى ختمها وسجد فسجد من هناك من المسلمين والمشركين والجن والانس وكان لذلك سبب ذكره كثير من المفسرين عند قوله تعالى وما أرسلنا قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنىالقنى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم وذكروا قصة الغرانيق وقد أحببنا الاضراب عن ذكرها صفحا لئلا يسمعها من لا يضعها على مواضيعها إلا أن أصل القصة في الصحيح قال البخاري حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال سجد النبي صلى الله عليه و سلم بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والانس انفرد به البخاري دون مسلم وقال البخاري حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن أبي اسحاق سمعت الاسود عن عبد الله قال قرأ النبي صلى الله عليه و سلم والنجم بمكة فسجد فيها وسجد من معه غير شيخ أخذ كفا من حصا أو تراب فرفعه إلى جبهته وقال يكفيني هذا فرأيته بعد قتل كافرا (3/90)
ورواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث شعبة وقال الامام احمد حدثنا ابراهيم حدثنا رباح عن معمر عن ابن طاووس عن عكرمة بن خالد عن جعفر بن المطلب بن أبي وداعة عن أبيه قال قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة سورة النجم فسجد وسجد من عنده فرفعت رأسي وأبيت أن أسجد ولم يكن أسلم يومئذ المطلب فكان بعد ذلك لا يسمع أحدا يقرأها إلا سجد معه وقد رواه النسائي عن عبد الملك بن عبد الحميد عن احمد بن حنبل به وقد يجمع بين هذا والذي قبله بأن هذا سجد ولكنه رفع رأسه استكبارا وذلك الشيخ الذي استثناه ابن مسعود لم يسجد بالكلية والله أعلم والمقصود أن الناقل لما رأى المشركين قد سجدوا متابعة لرسول الله صلى الله عليه و سلم أعتقد أنهم قد أسلموا واصطلحوا معه ولم يبق نزاع بينهم فطار الخبر بذلك وانتشر حتى بلغ مهاجرة الحبشة بها فظنوا صحة ذلك فأقبل منهم طائفة طامعين بذلك وثبتت جماعة وكلاهما محسن مصيب فيما فعل فذكر ابن اسحاق اسماء من رجع منهم عثمان بن عفان وامرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وامرأته سهلة بنت سهيل وعبد الله بن جحش بن رئاب وعتبة بن غزوان والزبير بن العوام ومصعب بن عمير وسويبط بن سعد وطليب بن عمير وعبد الرحمن بن عوف والمقداد بن عمرو وعبد الله بن مسعود وأبو سلمة بن عبد الاسد وامرأته أم سلمة بنت أبي أمية ابن المغيرة وشماس بن عثمان وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة وقد حبسا بمكة حتى مضت بدرا وأحدا والخندق وعمار بن ياسر وهو ممن شك فيه أخرج إلى الحبشة أم لا ومعتب ابن عوف وعثمان بن مظعون وابنه السائب وأخواه قدامة وعبد الله ابنا مظعون وخنيس بن حذافة وهشام بن العاص بن وائل وقد حبس بمكة إلى بعد الخندق وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت أبي حثمة وعبد الله بن مخرمة وعبد الله بن سهيل بن عمرو وقد حبس حتى كان يوم بدر فانحاز إلى المسلمين فشهد معهم بدرا وأبو سبرة بن أبي رهم وامرأته أم كلثوم بنت سهيل والسكران بن عمرو بن عبد شمس وامرأته سودة بنت زمعة وقد مات بمكة قبل الهجرة وخلف على امرأته رسول الله صلى الله عليه و سلم وسعد بن خولة وأبو عبيدة بن الجراح وعمرو بن الحارث بن زهير وسهيل بن بيضاء وعمرو بن أبي سرح فجميعهم ثلاثة وثلاثون رجلا رضي الله عنهم وقال البخاري وقالت عائشة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين فهاجر من هاجر قبل المدينة ورجع عامة من كان هاجر إلى الحبشة إلى المدينة فيه عن أبي موسى واسماء رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم وقد تقدم حديث أبي موسى وهو في الصحيحين وسيأتي حديث اسماء بنت عميس بعد فتح خيبر حين قدم من كان تأخر من مهاجرة الحبشة إن شاء الله وبه الثقة وقال البخاري حدثنا يحيى بن حماد حدثنا أبو عوانة عن سليمان عن ابراهيم عن علقمة عن عبد الله قال (3/91)
كنا نسلم على النبي صلى الله عليه و سلم وهو يصلي فيرد علينا فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا فقلنا يا رسول الله إنا كنا نسلم عليك فترد علينا فلما رجعنا من عند النجاشي لم ترد علينا قال إن في الصلاة شغلا وقد روى البخاري أيضا ومسلم وأبو داود والنسائي من طرق أخر عن سليمان بن مهران عن الاعمش به وهو يقوي تأويل من تأول حديث زيد بن أرقم الثابت في الصحيحين كنا نتكلم في الصلاة حتى نزل قوله وقوموا لله قانتين فامرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام على أن المراد جنس الصحابة فان زيدا أنصاري مدني وتحريم الكلام في الصلاة ثبت بمكة فتعين الحمل على ما تقدم وأما ذكره الآية وهي مدنية فمشكل ولعله اعتقد أنها المحرمة لذلك وانما كان المحرم له غيرها معها والله أعلم
قال ابن اسحاق وكان ممن دخل معهم بجوار عثمان بن مظعون في جوار الوليد بن المغيرة وأبو سلمة بن عبد الاسد في جوار خاله أبي طالب فان أمه برة بنت عبد المطلب فاما عثمان بن مظعون فان صالح بن ابراهيم بن عبد الرحمن بن عوف حدثني عمن حدثه عن عثمان قال لما رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم من البلاء وهو يروح ويغدو في أمان من الوليد ابن المغيرة قال والله ان غدوي ورواحي في جوار رجل من أهل الشرك وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والاذى في الله ما لا يصيبني لنقص كثير في نفسي فمشى الى الوليد بن المغيرة فقال له يا أبا عبد شمس وفت ذمتك وقد رددت اليك جوارك قال لم يا ابن أخي لعله آذاك أحد من قومي فقال لا ولكني أرضى بجوار الله عز و جل ولا أريد أن أستجير بغيره قال فانطلق الى المسجد فاردد على جوازي علانية كما أجرتك علانية قال فانطلقنا فخرجا حتى أتيا المسجد فقال الوليد بن المغيرة هذا عثمان قد جاء يرد علي جواري قال صدق قد وجدته وفيا كريم الجوار ولكني قد أحببت أن لا أستجير بغير الله فقد رددت عليه جواره ثم انصرف عثمان رضي الله عنه ولبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر في مجلس من قريش ينشدهم فجلس معهم عثمان فقال لبيد ... ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... فقال عثمان صدقت فقال لبيد ... وكل نعيم لا محالة زائل ... فقال عثمان كذبت نعيم الجنة لا يزول فقال لبيد يا معشر قريش والله ما كان يؤذى جليسكم فمتى حدث هذا فيكم فقال رجل من القوم إن هذا سفيه في سفهاء معه قد فارقوا ديننا فلا تجدن في نفسك من قوله فرد عليه عثمان حتى شرى أمرهما فقام اليه ذلك الرجل ولطم عينه فخضرها والوليد ابن المغيرة قريب يرى ما بلغ عثمان فقال والله يا ابن أخي ان كانت عينك عما أصابها لغنية ولقد (3/92)
كنت في ذمة منيعة قال يقول عثمان بل والله ان عيني الصحيحة لفقيرة الى مثل ما أصاب اختها في الله واني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس فقال له الوليد هلم يا ابن اخي الى جوارك فعد قال لا
قال ابن اسحاق وأما أبو سلمة بن عبد الاسد فحدثني أبي اسحاق بن يسار عن سلمة بن عبد الله بن أبي سلمة أنه حدثه أن أبا سلمة لما استجار بابي طالب مشى اليه رجال من بني مخزوم فقالوا له يا أبا طالب هذا منعت منا ابن اخيك محمدا فما لك ولصاحبنا تمنعه منا قال إنه استجار بي وهو ابن اختي وإن أنا لم أمنع ابن أختي لم أمنع ابن أخي فقام أبو لهب فقال يا معشر قريش والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ ما تزالون تتواثبون عليه في جواره من بين قومه والله لتنتهن أو لنقومن معه في كل ما قام فيه حتى يبلغ ما أراد قالوا بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة وكان لهم وليا وناصرا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فابقوا على ذلك فطمع فيه أبو طالب حين سمعه يقول ما يقول ورجا أن يقوم معه في شأن رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أبو طالب يحرض أبا لهب على نصرته ونصرة رسول الله صلى الله عليه و سلم ... إن امرءا ابو عتيبة عمه ... لفي روضة ما أن يسام المظالما ... أقول له وأين منه نصيحتي ... أبا معتب ثبت سوادك قائما ... ولا تقبلن الدهر ما عشت خطة ... تسب بها إما هبطت المواسما ... وول سبيل العجز غيرك منهم ... فإنك لم تخلق على العجز لازما ... وحارب فان الحرب نصف ولن ترى ... أخا الحرب يعطى الخسف حتى يسالما ... وكيف ولم يجنوا عليك عظيمة ... ولم يخذلوك غانما أو مغارما ... جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا ... وتيما ومخزوما عقوقا ومأثما ... بتفريقهم من بعد ود وألفة ... جماعتنا كيما ينالوا المحارما ... كذبتم وبيت الله نبزى محمدا ... ولما تروا يوما لدى الشعب قائما ...
قال ابن هشام وبقي منها بيت تركناه
عزم الصديق على الهجرة الى الحبشة
قال ابن اسحاق وقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه كما حدثني محمد بن مسلم الزهري عن (3/93)
عروة عن عائشة حين ضاقت عليه مكة وأصابه فيها الاذى ورأى من تظاهر قريش على رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه ما رأى استأذن رسول الله صلى الله عليه و سلم في الهجرة فاذن له فخرج أبو بكر رضي الله عنه مهاجرا حتى إذا سار من مكة يوما أو يومين لقيه ابن الدغنة أخو بني الحارث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة وهو يومئذ سيد الاحابيش قال الواقدي اسمه الحارث بن يزيد أحد بني بكر من عبد مناة بن كنانة وقال السهيلي اسمه مالك فقال إلى أين يا أبا بكر قال أخرجني قومي وآذوني وضيقوا علي قال ولم فوالله إنك لتزين العشيرة وتعين على النوائب وتفعل المعروف وتكسب المعدوم أرجع فانك في جواري فرجع معه حتى إذا دخل مكة قام معه ابن الدغنة فقال يا معشر قريش إني قد أجرت ابن أبي قحافة فلا يعرض له أحد الا بخير قال فكفوا عنه قالت وكان لابي بكر مسجد عند باب داره في بني جمح فكان يصلي فيه وكان رجلا رقيقا إذا قرأ القرآن استبكى قالت فيقف عليه الصبيان والعبيد والنساء يعجبون لما يرون من هيئته قال فمشى رجال من قريش إلى ابن الدغنة فقالوا يا ابن الدغنة إنك لم تجر هذا الرجل ليؤذينا إنه رجل إذا صلى وقرأ ما جاء به محمد يرق وكانت له هيئة ونحن نتخوف على صبياننا ونسائنا وضعفائنا أن يفتنهم فاته فمره بان يدخل بيته فليصنع فيه ما شاء قالت فمشى ابن الدغنة اليه فقال يا أبا بكر إني لم أجرك لتؤذي قومك وقد كرهوا مكانك الذي أنت به وتأذوا بذلك منك فادخل بيتك فاصنع فيه ما أحببت قال أو أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله قال فأردد علي جواري قال قد رددته عليك قال فقام ابن الدغنة فقال يا معشر قريش إن ابن أبي قحافة قد رد علي جواري فشأنكم بصاحبكم وقد روى الامام البخاري هذا الحديث متفردا به وفيه زيادة حسنة فقال حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل قال ابن هشام فاخبرني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه و سلم قالت لم أعقل ابواي قط إلا وهما يدينان الدين ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم طرفي النهار بكرة وعشية فلما ابتلى المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة حتى اذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة فقال أين تريد يا أبا بكر فقال أبو بكر أخرجني قومي فاريد أن أسيح في الارض فاعبد ربي فقال ابن الدغنة فان مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج مثله إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق وأنا لك جار فارجع فاعبد ربك ببلدك فرجع وارتحل معه ابن الدغنة وطاف ابن الدغنة عشية في اشراف قريش فقال لهم إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق فلم يكذب قريش بجوار ابن الدغنة وقالوا لابن الدغنة مر أبا بكر فليعبد ربه في داره ويصل فيها ويقرأ (3/94)
ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به فانا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا فقال ابن الدغنة ذلك لابي بكر فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره ثم بدا لابي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وكان يصلي فيه ويقرأن القرآن فكان نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه وينظرون اليه وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن فافزع ذلك اشراف قريش من المشركين فارسلوا الى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره فاعلن في الصلاة والقراءة فيه وإنا قد خشينا أن يفتتن أبناؤنا ونساؤنا فانهه فان أحب على أن يقتصر ان يعبد ربه في داره فعل وإن أبى إلا أن يعلن ذلك فسله أن يرد عليك ذمتك فانا قد كرهنا نخفرك ولسنا مقرين لابي بكر الاستعلان قالت عائشة فاتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال قد علمت الذي قد عاقدت عليه قريش فاما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترد إلى ذمتي فاني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له فقال أبو بكر فإني أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله عز و جل ثم ذكر تمام الحديث في هجرة أبي بكر رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه و سلم كما سيأتي مبسوطا
قال ابن اسحاق وحدثني عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق قال لقيه يعني أبا بكر الصديق حين خرج من جوار ابن الدغنة سفيه من سفهاء قريش وهو عامد إلى الكعبة فحثا على رأسه ترابا فمر بأبي بكر الوليد بن المغيرة أو العاص بن وائل فقال له أبو بكر رضي الله عنه ألا ترى ما يصنع هذا السفيه فقال أنت فعلت ذلك بنفسك وهو يقول أي رب ما أحلمك أي رب ما أحلمك أي رب ما أحلمك فصل
كل هذه القصص ذكرها ابن اسحاق معترضا بها بين تعاقد قريش على بني هاشم وبني المطلب وكتابتهم عليهم الصحيفة وحصرهم إياهم في الشعب وبين
نقض الصحيفة
وما كان من أمرها وهي أمور مناسبة لهذا الوقت ولهذا قال الشافعي رحمه الله من أراد المغازي فهو عيال على ابن اسحاق نقض الصحيفة
قال ابن اسحاق هذا وبنو هاشم وبنو المطلب في منزلهم الذي تعاقدت فيه قريش عليهم (3/95)
في الصحيفة التي كتبوها ثم أنه قام في نقض الصحيفة نفر من قريش ولم يبل فيها أحدا أحسن من بلاء هشام بن عمرو بن الحارث بن حبيب بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي وذلك أنه كان ابن اخي نضلة بن هشام بن عبد مناف لامه وكان هشام لبني هاشم واصلا وكان ذا شرف في قومه فكان فيما بلغني يأتي بالبعير وبنو هاشم وبنو المطلب في الشعب ليلا قد أوقره طعاما حتى إذا بلغ فم الشعب خلع خطامه من رأسه ثم ضرب على جبينه فدخل الشعب عليهم ثم يأتي به قد أوقره برا فيفعل به مثل ذلك ثم أنه مشى إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله ابن عمرو بن مخزوم وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب فقال يا زهير أقد رضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء وأخوالك حيث علمت لا يباعون ولا يبتاع منهم ولا ينكحون ولا ينكح اليهم أما إني أحلف بالله لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام ثم دعوته إلى مثل ما دعاك اليه منهم ما أجابك إليه أبدا قال ويحك يا هشام فماذا أصنع إنما أنا رجل واحد والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها قال قد وجدت رجلا قال من هو قال أنا قال له زهير أبغنا ثالثا فذهب إلى المطعم بن عدي فقال له يا مطعم أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنهم اليها منكم سراعا قال ويحك فماذا أصنع إنما أنا رجل واحد قال قد وجدت لك ثانيا قال من قال أنا قال أبغنا ثالثا قال قد فعلت قال من هو قال زهير بن أبي أمية قال أبغنا رابعا فذهب الى أبي البختري بن هشام فقال نحو ما قال للمطعم بن عدي فقال وهل تجد أحدا يعين على هذا قال نعم قال من هو قال زهير بن أبي أمية والمطعم بن عدي وأنا معك قال ابغنا خامسا فذهب إلى زمعة بن الاسود بن المطلب بن أسد فكلمه وذكر له قرابتهم وحقهم فقال له وهل على هذا الأمر الذي تدعوني اليه من أحد قال نعم ثم سمى القوم فاتعدوا حطم الحجون ليلا باعلا مكة فاجتمعوا هنالك وأجمعوا أمرهم وتعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها وقال زهير أنا أبدؤكم فاكون أول من يتكلم فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم وغدا زهير بن أبي أمية عليه حلة فطاف بالبيت سبعا ثم أقبل على الناس فقال يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون ولا يبتاع منهم والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة قال أبو جهل وكان في ناحية المسجد والله لا تشق قال زمعة بن الأسود أنت والله أكذب ما رضينا كتابها حين كتبت قال أبو البختري صدق زمعة لا نرضى ما كتب فيها ولا نقر به قال المطعم بن عدي صدقتما وكذب من قال غير ذلك نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها قال هشام بن عمرو نحوا من ذلك قال أبو جهل هذا أمر قد قضى بليل تشور فيه بغير هذا المكان وأبو طالب جالس في ناحية المسجد (3/96)
وقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة ليشقها فوجد الارضة قد أكلتها إلا باسمك اللهم وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة فشلت يده فيما يزعمون
قال ابن هشام وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لأبي طالب يا عم إن الله قد سلط الأرضة على صحيفة قريش فلم تدع فيها اسما هو لله إلا أثبتته فيها ونفت منها الظلم والقطيعة والبهتان فقال أربك أخبرك بهذا قال نعم قال فوالله ما يدخل عليك أحد ثم خرج إلى قريش فقال يا معشر قريش إن ابن أخي قد أخبرني بكذا وكذا فهلم صحيفتكم فإن كانت كما قال فانتهوا عن قطيعتنا وانزلوا عنها وإن كان كاذبا دفعت اليكم ابن اخي فقال القوم قد رضينا فتعاقدوا على ذلك ثم نظروا فاذا هي كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فزادهم ذلك شرا فعند ذلك صنع الرهط من قريش في نقض الصحيفة ما صنعوا
قال ابن اسحاق فلما مزقت وبطل ما فيها قال أبو طالب فيما كان من أمر أولئك القوم الذين قاموا في نقض الصحيفة يمدحهم ... ألا هل أتى بحرينا صنع ربنا ... على نأيهم والله بالناس أرود ... فيخبرهم أن الصحيفة مزقت ... وأن كل ما لم يرضه الله مفسد ... تراوحها إفك وسحر مجمع ... ولم يلف سحرا آخر الدهر يصعد ... تداعى لها من ليس فيها بقرقر ... فطائرها في رأسها يتردد ... وكانت كفاء وقعة باثيمة ... ليقطع منها ساعد ومقلد ... ويظعن أهل المكتين فيهربوا ... فرائصهم من خشية الشر ترعد ... ويترك حراث يقلب أمره ... أيتهم فيها عند ذلك وينجد ... [ وتصعد بين الأخشبين كتيبة ... لها حدج سهم وقوس ومرهد ] ... فمن ينش من ضار مكة عزة ... فعزتنا في بطن مكة أتلد ... نشأنا بها والناس فيها قلائل ... فلم ننفكك نزداد خيرا ونحمد ... ونطعم حتى يترك الناس فضلهم ... إذا جعلت أيدي المفيضين ترعد ... جزى الله رهطا بالحجون تجمعوا ... على ملاء يهدي لحزم ويرشد ... قعودا لذي حطم الحجون كأنهم ... مقاولة بل هم أعز وأمجد ... أعان عليها كل صقر كأنه ... إذا ما مشى في رفرف الدرع أحرد (3/97)
جريء على جل الخطوب كأنه ... شهاب بكفي قابس يتوقد ... من الأكرمين من لؤي بن غالب ... اذا سيم خسفا وجهه يتربد ... طويل النجاد خارج نصف ساقه ... على وجهه يسقي الغمام ويسعد ... عظيم الرماد سيد وابن سيد ... يحض على مقري الضيوف ويحشد ... ويبني لأبناء العشيرة صالحا ... اذا نحن طفنا في البلاد ويمهد ... ألظ بهذا الصلح كل مبرأ ... عظيم اللواء أمره ثم يحمد ... قضوا ما قضوا في ليلهم ثم أصبحوا ... على مهل وسائر الناس رقد ... هم رجعوا سهل بن بيضاء راضيا ... وسر أبو بكر بها ومحمد ... متى شرك الاقوام في حل أمرنا ... وكنا قديما قبلها نتودد ... وكنا قديما لا نقر ظلامة ... وندرك ما شئنا ولا نتشدد ... فيال قصي هل لكم في نفوسكم ... وهل لكم فيما يجيء به غد ... فإني وإياكم كما قال قائل ... لديك البيان لو تكلمت أسود ...
[ قال السهيلي أسود اسم جبل قتل به قتيل ولم يعرف قاتله فقال أولياء المقتول لديك البيان لو تكلمت أسود أي يا أسود لو تكلمت لابنت لنا عمن قتله ]
ثم ذكر ابن اسحاق شعر حسان يمدح المطعم بن عدي وهشام بن عمرو لقيامهما في نقض الصحيفة الظالمة الفاجرة الغاشمة وقد ذكر الاموي ههنا أشعارا كثيرة اكتفينا بما أورده ابن اسحاق
وقال الواقدي سألت محمد بن صالح وعبد الرحمن بن عبد العزيز متى خرج بنو هاشم من الشعب قالا في السنة العاشرة يعني من البعثة قبل الهجرة بثلاث سنين
قلت وفي هذه السنة بعد خروجهم توفي أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه و سلم وزوجته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى فصل
وقد ذكر محمد بن اسحاق رحمه الله بعد إبطال الصحيفة قصصا كثيرة تتضمن نصب عداوة قريش لرسول الله صلى الله عليه و سلم وتنفير أحياء العرب والقادمين إلى مكة لحج أو عمرة أو غير ذلك منه وإظهار الله المعجزات على يديه دلالة على صدقه فيما جاءهم به من البينات والهدى وتكذيبنا لهم فيما يرمونه من البغي والعدوان والمكر والخداع ويرمونه من الجنون والسحر والكهانة والتقول والله (3/98)
غالب على أمره فذكر قصة الطفيل بن عمرو الدوسي مرسلة وكان سيدا مطاعا شريفا في دوس وكان قد قدم مكة فاجتمع به اشراف قريش وحذروه من رسول الله ونهوه أن يجتمع به أو يسمع كلامه قال فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئا ولا أكلمه حتى حشوت أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا فرقا من أن يبلغني شيء من قوله وأنا لا أريد أن اسمعه قال فغدوت الى المسجد فاذا رسول الله صلى الله عليه و سلم قائم يصلي عند الكعبة قال فقمت منه قريبا فابى الله إلا أن يسمعني بعض قوله قال فسمعت كلاما حسنا قال فقلت في نفسي واتكل امي والله إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى علي الحسن من القبيح فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول فان كان الذي يأتي به حسنا قبلته وإن كان قبيحا تركته قال فمكثت حتى انصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بيته دخلت عليه فقلت يا محمد إن قومك قالوا لي كذا وكذا الذي قالوا قال فوالله ما برحوا بي يخوفونني أمرك حتى سددت أذني بكرسف لئلا اسمع قولك ثم ابى الله إلا أن يسمعني قولك فسمعت قولا حسنا فاعرض علي أمرك قال فعرض علي رسول الله صلى الله عليه و سلم الاسلام وتلا علي القرآن فلا والله ما سمعت قولا قط احسن منه ولا أمرا أعدل منه قال فاسلمت وشهدت شهادة الحق وقلت يا نبي الله إني امرؤ مطاع في قومي وإني راجع اليهم وداعيهم إلى الاسلام فادع الله أن يجعل لي آية تكون لي عونا عليهم فيما أدعوهم اليه قال فقال اللهم اجعل له آية قال فخرجت الى قومي حتى إذا كنت بثنية تطلعني على الحاضر وقع بين عيني نور مثل المصباح قال فقلت اللهم في غير وجهي فاني اخشى أن يظنوا بها مثلة وقعت في وجهي لفراقي دينهم قال فتحول فوقع في رأس سوطي قال فجعل الحاضرون يتراؤن ذلك النور في رأس سوطي كالقنديل المعلق وأنا أتهبط عليهم من الثنية حتى جئتهم فأصبحت فيهم فلما نزلت أتاني أبي وكان شيخا كبيرا فقلت اليك عني يا ابة فلست منك ولست مني قال ولم يا بني قال قلت أسلمت وتابعت دين محمد صلى الله عليه و سلم قال أي بني فدينك ديني فقلت فاذهب فاغتسل وطهر ثيابك ثم ائتني حتى أعلمك مما علمت قال فذهب فاغتسل وطهر ثيابه ثم جاء فعرضت عليه الاسلام فاسلم قال ثم أتتني صاحبتي فقلت اليك عني فلست منك ولست مني قالت ولم بأبي أنت وأمي قال قلت فرق بيني وبينك الاسلام وتابعت دين محمد صلى الله عليه و سلم قالت فديني دينك قال فقلت فاذهبي إلى حمى ذي الشرى فتطهري منه وكان ذو الشرى صنما لدوس وكان الحمى حمى حموه حوله به وشل من ماء يهبط من جبل قالت بأبي أنت وأمي أتخشى على الصبية من ذي الشرى شيئا قلت لا أنا ضامن لذلك قال فذهبت فاغتسلت ثم جاءت فعرضت عليها الاسلام فاسلمت ثم دعوت دوسا إلى الاسلام فابطؤا علي ثم جئت رسول (3/99)
الله صلى الله عليه و سلم بمكة فقلت يا رسول الله إنه قد غلبني على دوس الزنا فادع الله عليهم قال اللهم اهد دوسا ارجع إلى قومك فادعهم وارفق بهم قال فلم أزل بارض دوس أدعوهم إلى الاسلام حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق ثم قدمت على رسول الله صلى الله عليه و سلم بمن أسلم معي من قومي ورسول الله صلى الله عليه و سلم بخيبر حتى نزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتا من دوس فلحقنا برسول الله صلى الله عليه و سلم بخيبر فاسهم لنا مع المسلمين ثم لم أزل مع رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى فتح الله عليه مكة فقلت يا رسول الله ابعثني إلى ذي الكفين صنم عمرو بن حممة حتى أحرقه قال ابن اسحاق فخرج اليه فجعل الطفيل وهو يوقد عليه النار يقول ... ياذا الكفين لست من عبادكا ... ميلادنا أقدم من ميلادكا ... إني حشوت النار في فؤادكا ...
قال ثم رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم فكان معه بالمدينة حتى قبض رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما أرتدت العرب خرج الطفيل مع المسلمين فسار معهم حتى فرغوا من طليحة ومن أرض نجد كلها ثم سار مع المسلمين إلى اليمامة ومعه ابنه عمرو بن الطفيل فرأى رؤيا وهو متوجه إلى اليمامة فقال لاصحابه إني قد رأيت رؤيا فاعبروها لي رأيت أن رأسي حلق وأنه خرج من فمي طائر وأنه لقيتني امرأة فادخلتني في فرجها وأرى ابني يطلبني طلبا حثيثا ثم رأيته حبس عني قالوا خيرا قال أما أنا والله فقد أولتها قالوا ماذا قال اما حلق رأسي فوضعه وأما الطائر الذي خرج منه فروحي واما المرأة التي أدخلتني في فرجها فالارض تحفر لي فأغيب فيها وأما طلب ابني إياي ثم حبسه عني فإني أراه سيجتهد أن يصيبه ما أصابني فقتل رحمه الله تعالى شهيدا باليمامة وجرح ابنه جراحة شديدة ثم استبل منها ثم قتل عام اليرموك زمن عمر شهيدا رحمه الله هكذا ذكر محمد بن اسحاق قصة الطفيل بن عمرو مرسلة بلا اسناد ولخبره شاهد في الحديث الصحيح قال الامام احمد حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الاعرج عن أبي هريرة قال لما قدم الطفيل وأصحابه على رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن دوسا قد استعصت قال اللهم اهد دوسا وائت بهم رواه البخاري عن أبي نعيم عن سفيان الثوري وقال الامام أحمد حدثنا يزيد أنبأنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قدم الطفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه فقالوا يا رسول الله إن دوسا قد عصمت وابت فادع الله عليها قال أبو هريرة فرفع رسول الله صلى الله عليه و سلم يديه فقلت هلكت دوس فقال اللهم اهد دوسا وائت بهم اسناد جيد ولم يخرجوه وقال الامام احمد حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن حجاج الصواف عن أبي الزبير عن جابر أن الطفيل بن عمرو الدوسي أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله هل لك في حصن حصين ومنعة قال حصن كان لدوس في الجاهلية فأبى ذلك (3/100)
رسول الله صلى الله عليه و سلم للذي ذخر الله للأنصار فلما هاجر النبي صلى الله عليه و سلم إلى المدينة هاجر اليه الطفيل بن عمرو وهاجر معه رجل من قومه فاجتووا المدينة فمرض فجزع فأخذ مشاقص فقطع بها براجمه فشخبت يداه فما رقأ الدم حتى مات فرآه الطفيل بن عمرو في منامه في هيئة حسنة ورآه مغطيا يديه فقال له ما صنع ربك بك فقال غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه و سلم قال فما لي أراك مغطيا يديك قال قيل لي لن يصلح منك ما أفسدت قال فقصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم اللهم وليديه فاغفر رواه مسلم عن أبي بكر بن ابي شيبة واسحاق بن ابراهيم كلاهما عن سليمان ابن حرب به فإن قيل فما الجمع بين هذا الحديث وبين ما ثبت في الصحيحين من طريق الحسن عن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكينا فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات فقال الله عز و جل عبدي بادرني بنفسه فحرمت عليه الجنة فالجواب من وجوه أحدها أنه قد يكون ذاك مشركا وهذا مؤمن ويكون قد جعل هذا الصنيع سببا مستقلا في دخوله النار وإن كان شركه مستقلا إلا أنه نبه على هذا لتعتبر أمته الثاني قد يكون هذاك عالما بالتحريم وهذا غير عالم لحداثة عهده بالإسلام الثالث قد يكون ذاك فعله مستحلا له وهذا لم يكن مستحلا بل مخطئا الرابع قد يكون أراد ذاك بصنيعه المذكور أن يقتل نفسه بخلاف هذا فإنه يجوز أنه لم يقصد قتل نفسه وإنما أراد غير ذلك الخامس قد يكون هذاك قليل الحسنات فلم تقاوم كبر ذنبه المذكور فدخل النار وهذا قد يكون كثير الحسنات فقاومت الذنب فلم يلج النار بل غفر له بالهجرة إلى نبيه صلى الله عليه و سلم ولكن بقي الشين في يده فقط وحسنت هيئة سائره فغطى الشين منه فلما رآه الطفيل بن عمرو مغطيا يديه قال له مالك قال قيل لي لن يصلح منك ما أفسدت فلما قصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه و سلم دعا له فقال اللهم وليديه فاغفر أي فأصلح منها ما كان فاسدا والمحقق أن الله استجاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم في صاحب الطفيل بن عمرو
قصة أعشى بن قيس
قال ابن هشام حدثني خلاد بن قرة بن خالد السدوسي وغيره من مشايخ بكر بن وائل عن أهل العلم أن أعشى بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل خرج إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يريد الاسلام فقال يمدح النبي صلى الله عليه و سلم ... ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا ... وبت كما بات السليم مسهدا ... وما ذاك من عشق النساء وإنما ... تناسيت قبل اليوم خلة مهددا ... ولكن أرى الدهر الذي هو خائن ... اذا أصلحت كفاي عاد فأفسدا (3/101)
كهولا وشبانا فقدت وثروة ... فلله هذا الدهر كي ترددا ... وما زلت أبغي المال مذأنا يافع ... وليدا وكهلا حين شبت وأمردا ... وأبتذل العيس المراقيل تعتلي ... مسافة ما بين النجير فصرخدا ... ألا أيهذا السائلي أين يممت ... فإن لها في أهل يثرب موعدا ... فإن تسألي عني فيا رب سائل ... حفي عن الأعشى به حيث أصعدا ... أجدت برجليها النجاد وراجعت ... يداها خناقا لينا غير أحردا ... وفيها إذا ما هجرت عجرفية ... إذا خلت حرباء الظهيرة أصيدا ... وآليت لا آوي لها من كلالة ... ولا من حفي حتى تلاقي محمدا ... متى ما تناخي عند باب ابن هاشم ... تراحي وتلقي من فواضله ندى ... نبي يرى مالا ترون وذكره ... أغار لعمري في البلاد وأنجدا ... له صدقات ما تغب ونائل ... فليس عطاء اليوم مانعه غدا ... أجدك لم تسمع وصاة محمد ... نبي الآله حيث أوصى وأشهدا ... اذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ... ولاقيت بعد الموت من قد تزودا ... ندمت على أن لا تكون كمثله ... فترصد للأمر الذي كان أرصدا ... فإياك والميتات لا تقربنها ... ولا تأخذن سهما حديدا لتقصدا ... وذا النصب المنصوب لا تنسكنه ... ولا تعبد الاوثان والله فاعبدا ... ولا تقربن جارة كان سرها ... عليك حراما فانكحن أو تأبدا ... وذا الرحم القربى فلا تقطعنه ... لعاقبة ولا الأسير المقيدا ... وسبح على حين العشية والضحى ... ولا تحمد الشيطان والله فاحمدا ... ولا تسخرن من بائس ذي ضرارة ... ولا تحسبن المال للمرء مخلدا ...
قال ابن هشام فلما كان بمكة أو قريب منها اعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره فاخبره أنه جاء يريد رسول الله صلى الله عليه و سلم ليسلم فقال له يا أبا بصير إنه يحرم الزنا فقال الاعشى والله إن ذلك لأمر مالي فيه من أرب فقال يا ابا بصير إنه يحرم الخمر فقال الاعشى أما هذه فوالله إن في نفسي منها العلالات ولكني منصرف فاتروى منها عامي هذا ثم آته فاسلم فانصرف فمات في عامه ذلك ولم يعد إلى النبي صلى الله عليه و سلم هكذا أورد ابن هشام هذه القصة ههنا وهو كثير المؤاخذات لمحمد بن اسحاق رحمه الله وهذا مما يؤاخذ به ابن هشام رحمه الله فان الخمر (3/102)
إنما حرمت بالمدينة بعد وقعة بني النضير كما سيأتي بيانه فالظاهر أن عزم الاعشى على القدوم للاسلام إنما كان بعد الهجرة وفي شعره ما يدل على ذلك وهو قوله ... ألا أيها ذا السائلي أين يممت ... فان لها في أهل يثرب موعدا ...
وكان الانسب والاليق بابن هشام أن يؤخر ذكر هذه القصة الى ما بعد الهجرة ولا يوردها هاهنا والله أعلم قال السهيلي وهذه غفلة من ابن هشام ومن تابعه فإن الناس مجمعون على أن الخمر لم ينزل تحريمها إلا في المدينة بعد أحد وقد قال وقيل إن القائل للاعشى هو أبو جهل بن هشام في دار عتبة بن ربيعة وذكر أبو عبيدة أن القائل له ذلك هو عامر بن الطفيل في بلاد قيس وهو مقبل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال وقوله ثم آته فأسلم لا يخرجه عن كفره بلا خلاف والله أعلم
ثم ذكر ابن اسحاق هاهنا قصة الاراشي وكيف استعدى إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من أبي جهل في ثمن الجمل الذي ابتاعه منه وكيف أذل الله أبا جهل وأرغم أنفه حتى أعطاه ثمنه في الساعة الراهنة وقد قدمنا ذلك في ابتداء الوحي وما كان من أذية المشركين عند ذلك
قصة مصارعة ركانة
وكيف أراه الشجرة التي دعاها فأقبلت صلى الله عليه و سلم
قال ابن اسحاق وحدثني أبي اسحاق بن يسار قال وكان ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف أشد قريشا فخلا يوما برسول الله صلى الله عليه و سلم في بعض شعاب مكة فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم يا ركانة ألا تتقي الله وتقبل ما أدعوك اليه قال إني لو أعلم أن الذي تقول حق لاتبعتك فقال له رسول الله أفرأيت إن صرعتك أتعلم أن ما أقول حق قال نعم قال فقم حتى أصارعك قال فقام ركانة اليه فصارعه فلما بطش به رسول الله صلى الله عليه و سلم أضجعه لا يملك من نفسه شيئا ثم قال عد يا محمد فعاد فصرعه فقال يا محمد والله إن هذا للعجب أتصرعني قال وأعجب من ذلك ان شئت أريكه إن اتقيت الله واتبعت أمري قال وما هو قال أدعو لك هذه الشجرة التي ترى فتأتيني قال فادعها فدعاها فأقبلت حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لها ارجعي الى مكانك فرجعت الى مكانها قال فذهب ركانة الى قومه فقال يا بني عبد مناف ساحروا صاحبكم أهل الأرض فوالله ما رأيت أسحر منه قط ثم أخبرهم بالذي رأى والذي صنع
هكذا روى ابن اسحاق هذه القصة مرسلة بهذا البيان وقد روى أبو داود والترمذي من حديث أبي الحسن العسقلاني عن أبي جعفر بن محمد بن ركانة عن أبيه أن ركانة صارع النبي صلى الله عليه و سلم فصرعه النبي صلى الله عليه و سلم ثم قال الترمذي غريب ولا نعرف أبا الحسن ولا ابن ركانة (3/103)
قلت وقد روى أبو بكر الشافعي بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن يزيد بن ركانة صارع النبي صلى الله عليه و سلم فصرعه النبي صلى الله عليه و سلم ثلاث مرات كل مرة على مائة من الغنم فلما كان في الثالثة قال يا محمد ما وضع ظهري الى الارض أحد قبلك وما كان أحد ابغض إلي منك وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقام عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم ورد عليه غنمه
وأما قصة دعائه الشجرة فأقبلت فسيأتي في كتاب دلائل النبوة بعد السيرة من طرق جيدة صحيحة في مرات متعددة ان شاء الله وبه الثقة وقد تقدم ذلك عن أبي الاشدين أنه صارع النبي صلى الله عليه و سلم فصرعه رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم ذكر ابن اسحاق قصة قدوم النصارى من أهل الحبشة نحوا من عشرين راكبا الى مكة فأسلموا عن آخرهم وقد تقدم ذلك بعد قصة النجاشي ولله الحمد والمنة
قال ابن اسحاق وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم اذا جلس في المسجد يجلس اليه المستضعفون من أصحابه خباب وعمار وأبو فكيهة ويسار مولى صفوان بن أمية وصهيب وأشباههم من المسلمين هزئت بهم قريش وقال بعضهم لبعض هؤلاء أصحابه كما ترون أهؤلاء من الله عليهم من بيننا بالهدى ودين الحق لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقنا هؤلاء اليه وما خصهم الله به دوننا فأنزل الله عز و جل فيهم ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله باعلم بالشاكرين وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة إنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم قال وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم كثيرا ما يجلس عند المروة إلى مبيعة غلام نصراني يقال له جبر عبد لبنى الحضرمي وكانوا يقولون والله ما يعلم محمدا كثيرا مما يأتي به الاجبر فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون اليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ثم ذكر نزول سورة الكوثر في العاص بن وائل حين قال عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إنه أبتر أي لا عقب له فاذا مات انقطع ذكره فقال الله تعالى إن شانئك هو الأبتر أي المقطوع الذكر بعده ولو خلف الوفا من النسل والذرية وليس الذكر والصيت ولسان صدق بكثرة الاولاد والانسال والعقب وقد تكلمنا على هذه السورة في التفسير ولله الحمد وقد روى عن أبي جعفر الباقر أن العاص بن وائل انما قال ذلك حين مات القاسم بن النبي صلى الله عليه و سلم وكان قد بلغ أن يركب الدابة ويسير على النجيبة ثم ذكر نزول قوله وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا (3/104)
ملكا لقضي الأمر وذلك بسبب قول أبي بن خلف وزمعة بن الاسود والعاص بن وائل والنضر ابن الحارث لولا أنزل عليك ملك يكلم الناس عنك
قال ابن اسحاق ومر رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما بلغنا بالوليد بن المغيرة وأمية بن خلف وأبي جهل ابن هشام فهمزوه واستهزؤا به فغاظه ذلك فأنزل الله تعالى في ذلك من أمرهم ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤن
قلت وقال الله تعالى ولقد استهزئ برسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين وقال تعالى إنا كفيناك المستهزئين قال سفيان عن جعفر بن اياس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال المستهزؤن الوليد بن المغيرة والاسود بن عبد يغوث الزهري والاسود بن المطلب أبو زمعة والحارث بن عيطل والعاص بن وائل السهمي فأتاه جبريل فشكاهم اليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فأراه الوليد فأشار جبريل الى انمله وقال كفيته ثم أراه الاسود بن المطلب فأومأ الىعنقه وقال كفيته ثم أراه الاسود بن عبد يغوث فأومأ الى رأسه وقال كفيته ثم أراه الحارث بن عيطل فأومأ الى بطنه وقال كفيته ومر به العاص بن وائل فاومأ الى اخمصه وقال كفيته فأما الوليد فمر برجل من خزاعة وهو يريش نبلا له فأصاب أنمله فقطعها وأما الاسود بن عبد يغوث فخرج في رأسه قروح فمات منها وأما الاسود ابن المطلب فعمى وكان سبب ذلك أنه نزل تحت سمرة فجعل يقول يا بني ألا تدفعون عني قد قتلت فجعلوا يقولون ما نرى شيئا وجعل يقول يا بني ألا تمنعون عني قد هلكت ها هو ذا الطعن بالشوك في عيني فجعلوا يقولون ما نرى شيئا فلم يزل كذلك حتى عميت عيناه وأما الحارث بن عيطل فأخذه الماء الاصفر في بطنه حتى خرج خرؤه من فيه فمات منها وأما العاص بن وائل فبينما هو كذلك يوما إذ دخل في رأسه شبرقة حتى امتلأت منها فمات منها وقال غيره في هذا الحديث فركب الى الطائف على حمار فربض به على شبرقة يعني شوكة فدخلت في أخمص قدمه شوكة فقتلته رواه البيهقي بنحو من هذا السياق
وقال ابن اسحاق وكان عظماء المستهزئين كما حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير خمسة نفر وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم الاسود بن المطلب أبو زمعة دعا عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال اللهم أعم بصره وأثكله ولده والاسود بن عبد يغوث والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والحارث بن الطلاطلة وذكر أن الله تعالى أنزل فيهم فاصدع بما تؤمر وأعرض (3/105)
عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلهآ آخر فسوف يعلمون وذكر أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهم يطوفون بالبيت فقام وقام رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى جنبه فمر به الاسود ابن المطلب فرمى في وجهه بورقة خضراء فعمي ومر به الاسود بن عبد يغوث فأشار الى بطنه فاستسقى باطنه فمات منه حبنا ومر به الوليد بن المغيرة فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعبه كان أصابه قبل ذلك بسنين من مروره برجل يريش نبلا له من خزاعة فتعلق سهم بازاره فخدشه خدشا يسيرا فانتقض بعد ذلك فمات ومر به العاص بن وائل فأشار إلى أخمص رجله فخرج على حمار له يريد الطائف فربض به على شبرقة فدخلت في اخمص رجله شوكة فقتلته ومر به الحارث بن الطلاطل فاشار الى رأسه فامتحض قيحا فقتله
ثم ذكر ابن اسحاق أن الوليد بن المغيرة لما حضره الموت أوصى بنيه الثلاثة وهم خالد وهشام والوليد فقال لهم أي بني أوصيكم بثلاث دمي في خزاعة فلا تطلوه والله إني لأعلم أنهم منه براء ولكني اخشى أن تسبوا به بعد اليوم ورباي في ثقيف فلا تدعوه حتى تأخذوه وعقري عند أبي أزيهر الدوسي فلا يفوتنكم به وكان أبو أزيهر قد زوج الوليد بنتا له ثم امسكها عنه فلم يدخلها عليه حتى مات وكان قد قبض عقرها منه وهو صداقها فلما مات الوليد وثبت بنو مخزوم على خزاعة يلتمسون منهم عقل الوليد وقالوا انما قتله سهم صاحبكم فأبت عليهم خزاعة ذلك حتى تقاولوا أشعارا وغلظ بينهم الأمر ثم أعطتهم خزاعة بعض العقل واصطلحوا وتحاجزوا
قال ابن اسحاق ثم عدا هشام بن الوليد على أبي أزيهر وهو بسوق ذي المجاز فقتله وكان شريفا في قومه وكانت ابنته تحت أبي سفيان وذلك بعد بدر فعمد يزيد بن أبي سفيان فجمع الناس لبني مخزوم وكان أبوه غائبا فلما جاء أبو سفيان غاظه ما صنع ابنه يزيد فلامه على ذلك وضربه وودى أبا أزيهر وقال لابنه أعمدت إلى أن تقتل قريش بعضها بعضا في رجل من دوس وكتب حسان بن ثابت قصيدة له يحض أبا سفيان في دم أبي أزيهر فقال بئس ما ظن حسان أن يقتل بعضنا بعضا وقد ذهب أشرافنا يوم بدر ولما أسلم خالد بن الوليد وشهد الطائف مع رسول الله صلى الله عليه و سلم سأله في ربا أبيه من أهل الطائف
قال ابن اسحاق فذكر لي بعض أهل العلم إن هؤلاء الآيات نزلن في ذلك يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين وما بعدها
قال ابن اسحاق ولم يكن في بني أزيهر ثأر نعلمه حتى حجر الاسلام بين الناس إلا أن ضرار ابن الخطاب بن مرداس الاسلمي خرج في نفر من قريش إلى أرض دوس فنزلوا على امرأة يقال لها أم غيلان مولاة لدوس وكانت تمشط النساء وتجهز العرائس فأرادت دوس قتلهم بأبي (3/106)
أزيهر فقامت دونه أم غيلان ونسوة كن معها حتى منعتهم قال السهيلي يقال إنها أدخلته بين درعها وبدنها
قال ابن هشام فلما كانت أيام عمر بن الخطاب أتته أم غيلان وهي ترى أن ضرارا أخوه فقال لها عمر لست بأخيه الا في الاسلام وقد عرفت منتك عليه فاعطاها على أنها بنت سبيل
قال ابن هشام وكان ضرار بن الخطاب لحق عمر بن الخطاب يوم أحد فجعل يضربه بعرض الرمح ويقول انج يا ابن الخطاب لا أقتلك فكان عمر يعرفها له بعد الاسلام رضي الله عنهما فصل
وذكر البيهقي ها هنا دعاء النبي صلى الله عليه و سلم على قريش حين استعصت عليه بسبع مثل سبع يوسف وأورد ما أخرجاه في الصحيحين من طريق الاعمش عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن ابن مسعود قال خمس مضين اللزام والروم والدخان والبطشة والقمر وفي رواية عن ابن مسعود قال إن قريشا لما استعصت على رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبطئوا عن الاسلام قال اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف قال فاصابتهم سنة حتى فحصت كل شيء حتى أكلوا الجيف والميتة وحتى أن أحدهم كان يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع ثم دعا فكشف الله عنهم ثم قرأ عبد الله هذه الآية إنا كاشفوا العذاب قليلا انكم عائدون قال فعادوا فكفروا فأخروا إلى يوم القيامة أو قال فأخروا إلى يوم بدر قال عبد الله إن ذلك لو كان يوم القيامة كان لا يكشف عنهم يوم نبطش البطشة الكبرى انا منتقمون قال يوم بدر وفي رواية عنه قال لما رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم من الناس ادبارا قال اللهم سبع كسبع يوسف فاخذتهم سنة حتى أكلوا الميتة والجلود والعظام فجاءه أبو سفيان وناس من أهل مكة فقالوا يا محمد إنك تزعم أنك بعثت رحمة وأن قومك قد هلكوا فادع الله لهم فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم فسقوا الغيث فأطبقت عليهم سبعا فشكا الناس كثرة المطر فقال اللهم حوالينا ولا علينا فانجذب السحاب عن رأسه فسقى الناس حولهم قال لقد مضت آية الدخان وهو الجوع الذي أصابهم وذلك قوله إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون وآية الروم والبطشة الكبرى وانشقاق القمر وذلك كله يوم بدر قال البيهقي يريد والله أعلم البطشة الكبرى والدخان وآية اللزام كلها حصلت ببدر قال وقد اشار البخاري إلى هذه الرواية ثم أورد من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يستغيث من الجوع لأنهم لم (3/107)
يجدوا شيئا حتى أكلوا العهن فأنزل الله تعالى ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون قال فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى فرج الله عنهم ثم قال الحافظ البيهقي وقد روى في قصة أبي سفيان ما دل على أن ذلك بعد الهجرة ولعله كان مرتين والله أعلم فصل
ثم أورد البيهقي قصة فارس والروم ونزول قوله تعالى آلم غلبت الروم في أدنى الارض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم ثم روى من طريق سفيان الثوري عن حبيب بن أبي عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كان المسلمون يحبون ان يظهر الروم على فارس لانهم أهل كتاب وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لانهم أهل أوثان فذكر ذلك المسلمون لابي بكر فذكره أبو بكر للنبي صلى الله عليه و سلم فقال أما أنهم سيظهرون فذكر أبو بكر ذلك للمشركين فقالوا إجعل بيننا وبينك أجلا إن ظهروا كان لك كذا وكذا وإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا فذكر ذلك أبو بكر للنبي صلى الله عليه و سلم فقال ألا جعلته أداة قال دون العشر فظهرت الروم بعد ذلك
وقد أوردنا طرق هذا الحديث في التفسير وذكرنا أن المباحث أي المراهن لابي بكر أمية ابن خلف وأن الرهن كان على خمس قلايص وأنه كان إلى مدة فزاد فيها الصديق عن أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم وفي الرهن وأن غلبة الروم على فارس كان يوم بدر أو كان يوم الحديبية فالله أعلم
ثم روى من طريق الوليد بن مسلم حدثنا أسيد الكلابي أنه سمع العلاء بن الزبير الكلابي يحدث عن أبيه قال رأيت غلبة فارس الروم ثم رأيت غلبة الروم فارس ثم رأيت غلبة المسلمين فارس والروم وظهورهم على الشام والعراق كل ذلك في خمس عشرة سنة فصل
الاسراء برسول الله صلى الله عليه و سلم من مكة الى بيت المقدس
ذكر ابن عساكر أحاديث الاسراء في أوائل البعثة وأما ابن اسحاق فذكرها في هذا الموطن بعد البعثة بنحو من عشر سنين وروى البيهقي من طريق موسى بن عقبة عن الزهري أنه قال أسري برسول الله صلى الله عليه و سلم قبل خروجه إلى المدينة بسنة قال وكذلك ذكره ابن لهيعة عن أبي الاسود عن عروة ثم روى الحاكم عن الاصم عن احمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير عن أسباط بن نصر عن اسماعيل السدي أنه قال فرض على رسول الله صلى الله عليه و سلم الخمس ببيت المقدس (3/108)
ليلة أسري به قبل مهاجره بستة عشر شهرا فعلى قول السدي يكون الاسراء في شهر ذي القعدة وعلى قول الزهري وعروة يكون في ربيع الاول وقال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عثمان عن سعيد ابن مينا عن جابر وابن عباس قالا ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم عام الفيل يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الاول وفيه بعث وفيه عرج به إلى السماء وفيه هاجر وفيه مات فيه انقطاع وقد اختاره الحافظ عبد الغني بن سرور المقدسي في سيرته وقد أورد حديثا لا يصح سنده ذكرناه في فضائل شهر رجب أن الاسراء كان ليلة السابع والعشرين من رجب والله أعلم ومن الناس من يزعم أن الاسراء كان أول ليلة جمعة من شهر رجب وهي ليلة الرغائب التي أحدثت فيها الصلاة المشهورة ولا أصل لذلك والله أعلم وينشد بعضهم في ذلك ... ليلة الجمعة عرج بالنبي ... ليلة الجمعة أول رجب ...
وهذا الشعر عليه ركاكة وانما ذكرناه استشهادا لمن يقول به وقد ذكرنا الاحاديث الواردة في ذلك مستقصاة عند قوله تعالى سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير فلتكتب من هناك على ما هي عليه من الاسانيد والعزو والكلام عليها ومعها ففيها مقنع وكفاية ولله الحمد والمنة
ولنذكر ملخص كلام ابن اسحاق رحمه الله فانه قال بعد ذكر ما تقدم من الفصول ثم أسري برسول الله صلى الله عليه و سلم من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى وهو بيت المقدس من ايلياء وقد فشا الاسلام بمكة في قريش وفي القبائل كلها قال وكان من الحديث فيما بلغني عن مسراه صلى الله عليه و سلم عن ابن مسعود وأبي سعيد وعائشة ومعاوية وأم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنهم والحسن بن أبي الحسن وابن شهاب الزهري وقتادة وغيرهم من أهل العلم ما اجتمع في هذا الحديث كل يحدث عنه بعض ما ذكر لي من أمره وكان في مسراه صلى الله عليه و سلم وما ذكر لي منه بلاء وتمحيص وأمر من أمر الله وقدرته وسلطانه فيه عبرة لأولي الألباب وهدى ورحمة وثبات لمن آمن وصدق وكان من أمر الله على يقين فأسري به كيف شاء وكما شاء ليريه من آياته ما أراد حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم وقدرته التي يصنع بها ما يريد وكان عبد الله بن مسعود فيما بلغني يقول أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم بالبراق وهي الدابة التي كانت تحمل عليها الانبياء قبله تضع حافرها في موضع منتهي طرفها فحمل عليها ثم خرج به صاحبه يرى الآيات فيما بين السماء والأرض حتى انتهى إلى بيت المقدس فوجد فيه ابراهيم وموسى وعيسى في نفر من الانبياء قد جمعوا له فصلى بهم ثم أتى بثلاثة آنية من لبن وخمر وماء فذكر أنه شرب اناء اللبن فقال لي جبريل هديت وهديت أمتك وذكر ابن اسحاق في سياق الحسن البصري مرسلا أن جبريل أيقظه ثم خرج به إلى باب المسجد الحرام فأركبه (3/109)
البراق وهو دابة أبيض بين البغل والحمار وفي فخذيه جناحان يحفز بهما رجليه يضع حافره في منتهى طرفه ثم حملني عليه ثم خرج معي لا يفوتني ولا أفوته
قلت وفي الحديث وهو عن قتادة فيما ذكره ابن اسحاق أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما أراد ركوب البراق شمس به فوضع جبريل يده على معرفته ثم قال ألا تستحي يا براق مما تصنع فوالله ما ركبك عبد لله قبل محمد أكرم عليه منه قال فاستحى حتى أرفض عرقا ثم قرحتى ركبته قال الحسن في حديثه فمضى رسول الله صلى الله عليه و سلم ومضى معه جبريل حتى انتهى به الى بيت المقدس فوجد فيه ابراهيم وموسى وعيسى في نفر من الانبياء فأمهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فصلى بهم ثم ذكر اختياره إناء اللبن على إناء الخمر وقول جبريل له هديت وهديت أمتك وحرمت عليكم الخمر قال ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى مكة فأصبح يخبر قريشا بذلك فذكر أنه كذبه أكثر الناس وارتدت طائفة بعد اسلامها وبادر الصديق إلى التصديق وقال إني لأصدقه في خبر السماء بكرة وعشية أفلا أصدقه في بيت المقدس وذكر أن الصديق سأله عن صفة بيت المقدس فذكرها له رسول الله صلى الله عليه و سلم قال فيومئذ سمي أبو بكر الصديق قال الحسن وأنزل الله في ذلك وماجعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس الآية وذكر ابن اسحاق فيما بلغه عن أم هانئ أنها قالت ما أسري برسول الله صلى الله عليه و سلم إلا من بيتي نام عندي تلك الليلة بعد ما صلى العشاء الآخرة فلما كان قبيل الفجر أهبنا فلما كان الصبح وصلينا معه قال يا أم هانئ لقد صليت معكم العشاء الآخرة في هذا الوادي ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ثم قد صليت الغداة معكم الآن كما ترين ثم قام ليخرج فأخذت بطرف ردائه فقلت يا نبي الله لا تحدث بهذا الحديث الناس فيكذبونك ويؤذونك قال والله لأحدثنهموه فأخبرهم فكذبوه فقال وآية ذلك أني مررت بعير بني فلان بوادي كذا وكذا فانفرهم حس الدابة فندلهم بعير فدللتهم عليه وأنا متوجه إلى الشام ثم أقبلت حتى إذا كنت بصحنان مررت بعير بني فلان فوجدت القوم نياما ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشيء فكشفت غطاءه وشربت ما فيه ثم غطيت عليه كما كان وآية ذلك أن عيرهم تصوب الآن من ثنية التنعيم البيضاء يقدمها جمل أورق عليه غرارتان إحداهما سوداء والأخرى برقاء قال فابتدر القوم الثنية فلم يلقهم أول من الجمل الذي وصف لهم وسألوهم عن الاناء وعن البعير فأخبروهم كما ذكر صلوات الله وسلامه عليه
وذكر يونس بن بكير عن اسباط عن اسماعيل السدي أن الشمس كادت أن تغرب قبل أن يقدم ذلك العير فدعا الله عز و جل فحبسها حتى قدموا كما وصف لهم قال فلم تحتبس الشمس على أحد إلا عليه ذلك اليوم وعلى يوشع بن نون رواه البيهقي
قال ابن اسحاق وأخبرني من لا أتهم عن أبي سعيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لما (3/110)
فرغت مما كان في بيت المقدس أتى بالمعراج ولم أر شيئا قط أحسن منه وهو الذي يمد اليه ميتكم عينيه اذا حضر فاصعدني فيه صاحبي حتى انتهى بي الى باب من أبواب السماء يقال له باب الحفظة عليه بريد من الملائكة يقال له اسماعيل تحت يده اثنا عشر ألف ملك تحت يد كل ملك منهم اثنا عشر ألف ملك قال يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم اذا حدث بهذا الحديث وما يعلم جنود ربك إلا هو ثم ذكر بقية الحديث وهو مطول جدا وقد سقناه بإسناده ولفظه بكماله في التفسير وتكلمنا عليه فإنه من غرائب الاحاديث وفي اسناده ضعف وكذا في سياق حديث أم هانئ فان الثابت في الصحيحين من رواية شريك بن أبي نمر عن أنس أن الاسراء كان من المسجد من عند الحجر وفي سياقه غرابة ايضا من وجوه قد تكلمنا عليها هناك ومنها قوله وذلك قبل أن يوحى اليه والجواب أن مجيئهم أول مرة كان قبل أن يوحى اليه فكانت تلك الليلة ولم يكن فيها شيء ثم جاءه الملائكة ليلة أخرى ولم يقل في ذلك وذلك قبل أن يوحى اليه بل جاءه بعد ما أوحي اليه فكان الاسراء قطعا بعد الايحاء إما بقليل كما زعمه طائفة أو بكثير نحو من عشر سنين كما زعمه آخرون وهو الاظهر وغسل صدره تلك الليلة قبل الاسراء غسلا ثانيا أو ثالثا على قول أنه مطلوب إلى الملأ الاعلى والحضرة الالهية ثم ركب البراق رفعة له وتعظيما وتكريما فلما جاء بيت المقدس ربطه بالحلقة التي كانت تربط بها الانبياء ثم دخل بيت المقدس فصلى في قبلته تحية المسجد وأنكر حذيفة رضي الله عنه دخوله إلى بيت المقدس وربطه الدابة وصلاته فيه وهذا غريب والنص المثبت مقدم على النافي ثم اختلفوا في اجتماعه بالانبياء وصلاته بهم أكان قبل عروجه إلى السماء كما دل عليه ما تقدم أو بعد نزوله منها كما دل عليه بعض السياقات وهو أنسب كما سنذكره على قولين فالله أعلم
وقيل أن صلاته بالانبياء كانت في السماء وهكذا تخيره من الآنية اللبن والخمر والماء هل كانت ببيت المقدس كما تقدم أو في السماء كما ثبت في الحديث الصحيح والمقصود أنه صلى الله عليه و سلم لما فرغ من أمر بيت المقدس نصب له المعراج وهو السلم فصعد فيه الى السماء ولم يكن الصعود على البراق كما قد يتوهمه بعض الناس بل كان البراق مربوطا على باب مسجد بيت المقدس ليرجع عليه إلى مكة فصعد من سماء إلى سماء في المعراج حتى جاوز السابعة وكلما جاء سماء تلقته منها مقربوها ومن فيها من أكابر الملائكة والأنبياء وذكر أعيان من رآه من المرسلين كآدم في سماء الدنيا ويحيى وعيسى في الثانية وإدريس في الرابعة وموسى في السادسة على الصحيح وابراهيم في السابعة مسندا ظهره إلى البيت المعمور الذي يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة يتعبدون فيه صلاة وطوافا ثم لا (3/111)
يعودون إليه إلى يوم القيامة ثم جاوز مراتبهم كلهم حتى ظهر لمستوى يسمع فيه صريف الاقلام ورفعت لرسول الله صلى الله عليه و سلم سدرة المنتهى واذا ورقها كآذان الفيلة ونبقها كقلال هجر وغشيها عند ذلك أمور عظيمة الوان متعددة باهرة وركبتها الملائكة مثل الغربان على الشجرة كثرة وفراش من ذهب وغشيها من نور الرب جل جلاله ورأى هناك جبريل عليه السلام له ستمائة جناح ما بين كل جناحين كما بين السماء والأرض وهو الذي يقول الله تعالى ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى أي ما زاغ يمينا ولا شمالا ولا ارتفع عن المكان الذي حد له النظر اليه وهذا هو الثبات العظيم والادب الكريم وهذه الرؤيا الثانية لجبريل عليه السلام على الصفة التي خلقه الله تعالى عليها كما نقله ابن مسعود وأبو هريرة وأبو ذر وعائشة رضي الله عنهم أجمعين والاولى هي قوله تعالى علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالافق الاعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فاوحى إلى عبده ما أوحى وكان ذلك بالابطح تدلى جبريل على رسول الله صلى الله عليه و سلم سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض حتى كان بينه وبينه قاب قوسين أو أدنى هذا هو الصحيح في التفسير كما دل عليه كلام أكابر الصحابة المتقدم ذكرهم رضي الله عنهم فأما قول شريك عن أنس في حديث الاسراء ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فقد يكون من فهم الراوي فأقحمه في الحديث والله أعلم وإن كان محفوظا فليس بتفسير للآية الكريمة بل هو شيء آخر غير ما دلت عليه الآية الكريمة والله أعلم
وفرض الله سبحانه وتعالى على عبده محمد صلى الله عليه و سلم وعلى أمته الصلوات ليلتئذ خمسين صلاة في كل يوم وليلة ثم لم يزل يختلف بين موسى وبين ربه عز و جل حتى وضعها الرب جل جلاله وله الحمد والمنة إلى خمس وقال هي خمس وهي خمسون الحسنة بعشر أمثالها فحصل له التكليم من الرب عز و جل ليلتئذ وأئمة السنة كالمطبقين على هذا واختلفوا في الرؤية فقال بعضهم رآه بفؤاده مرتين قاله ابن عباس وطائفة وأطلق ابن عباس وغيره الرؤية وهو محمول على التقييد وممن أطلق الرؤية أبو هريرة واحمد بن حنبل رضي الله عنهما وصرح بعضهم بالرؤية بالعينين وأختاره ابن جرير وبالغ فيه وتبعه على ذلك آخرون من المتأخرين وممن نص على الرؤية بعيني رأسه الشيخ أبو الحسن الاشعري فيما نقله السهيلي عنه واختاره الشيخ أبو زكريا النووي في فتاويه وقالت طائفة لم يقع ذلك لحديث أبي ذر في صحيح مسلم قلت يا رسول الله هل رأيت ربك فقال نوراني أراه وفي رواية رأيت نورا قالوا ولم يكن رؤية الباقي بالعين الفانية ولهذا قال الله تعالى لموسى فيما روى في بعض الكتب الآلهية يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده والخلاف في هذه المسئلة مشهور بين السلف والخلف والله أعلم ثم هبط رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بيت المقدس (3/112)
والظاهر أن الانبياء هبطوا معه تكريما له وتعظيما عند رجوعه من الحضرة الآلهية العظيمة كما هي عادة الوافدين لا يجتمعون بأحد قبل الذي طلبوا اليه ولهذا كان كلما مر على واحد منهم يقول له جبريل عندما يتقدم ذاك للسلام عليه هذا فلان فسلم عليه فلو كان قد اجتمع بهم قبل صعوده لما احتاج إلى تعرف بهم مرة ثانية ومما يدل على ذلك أنه قال فلما حانت الصلاة أممتهم ولم يحن وقت إذ ذاك إلا صلاة الفجر فتقدمهم إماما بهم عن أمر جبريل فيما يرويه عن ربه عز و جل فاستفاد بعضهم من هذا أن الامام الاعظم يقدم في الامامة على رب المنزل حيث كان بيت المقدس محلتهم ودار اقامتهم ثم خرج منه فركب البراق وعاد إلى مكة فأصبح بها وهو في غاية الثبات والسكينة والوقار وقد عاين في تلك الليلة من الآيات والامور التي لو رآها أو بعضها غيره لاصبح مندهشا أو طائش العقل ولكنه صلى الله عليه و سلم أصبح واجما أي ساكنا يخشى إن بدأ فأخبر قومه بما رأى أن يبادروا الى تكذيبه فتلطف باخبارهم أولا بانه جاء بيت المقدس في تلك الليلة وذلك أن أبا جهل لعنه الله رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم في المسجد الحرام وهو جالس واجم فقال له هل من خبر فقال نعم فقال ما هو فقال اني اسري بي الليلة الى بيت المقدس قال الى بيت المقدس قال نعم قال أرأيت إن دعوت قومك لك لتخبرهم اتخبرهم بما اخبرتني به قال نعم فاراد أبو جهل جمع قريش ليسمعوا منه ذلك وأراد رسول الله صلى الله عليه و سلم جمعهم ليخبرهم ذلك ويبلغهم فقال أبو جهل هيا معشر قريش وقد اجتمعوا من أنديتهم فقال أخبر قومك بما أخبرتني به فقص عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم خبر ما رأى وأنه جاء بيت المقدس هذه الليلة وصلى فيه فمن بين مصفق وبين مصفر تكذيبا له واستبعادا لخبره وطار الخبر بمكة وجاء الناس الى أبي بكر رضي الله عنه فأخبروه أن محمدا صلى الله عليه و سلم يقول كذا وكذا فقال انكم تكذبون عليه فقالوا والله إنه ليقوله فقال ان كان قاله فلقد صدق ثم جاء الى رسول الله صلى الله عليه و سلم وحوله مشركي قريش فسأله عن ذلك فاخبره فاستعلمه عن صفات بيت المقدس ليسمع المشركون ويعلموا صدقه فيما أخبرهم به وفي الصحيح أن المشركين هم الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك قال فجعلت أخبرهم عن آياته فالتبس علي بعض الشيء فجلى الله لي بيت المقدس حتى جعلت أنظر اليه دون دار عقيل وأنعته لهم فقال أما الصفة فقد أصاب
وذكر ابن اسحاق ما تقدم من إخباره لهم بمروره بعيرهم وما كان من شربه مائهم فأقام الله عليهم الحجة واستنارت لهم المحجة فآمن من آمن على يقين من ربه وكفر من كفر بعد قيام الحجة عليه كما قال الله تعالى وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس أي اختبارا لهم وامتحانا
قال ابن عباس هي رؤيا عين اريها رسول الله صلى الله عليه و سلم وهذا مذهب جمهور السلف والخلف من أن الاسراء كان ببدنه وروحه صلوات الله وسلامه عليه كما دل على ذلك ظاهرالسياقات من ركوبه (3/113)
وصعوده في المعراج وغير ذلك ولهذا قال فقال سبحان الذي اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذي باركنا حوله لنريه والتسبيح إنما يكون عند الآيات العظيمة الخارقة فدل على أنه بالروح والجسد والعبد عبارة عنهما وأيضا فلو كان مناما لما بادر كفار قريش إلى التكذيب به والاستبعاد له إذ ليس في ذلك كبير أمر فدل على أنه أخبرهم بأنه أسري به يقظة لا مناما وقوله في حديث شريك عن أنس ثم استيقظت فاذا أنا في الحجر معدود في غلطات شريك أو محمول على أن الانتقال من حال إلى حال يسمى يقظة كما سيأتي في حديث عائشة رضي الله عنها حين ذهب رسول الله صلى الله عليه و سلم الطائف فكذبوه قال فرجعت مهموما فلم استفق إلا بقرن الثعالب وفي حديث أبي أسيد حين جاء بابنه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ليحنكه فوضعه على فخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم واشتغل رسول الله صلى الله عليه و سلم بالحديث مع الناس فرفع أبو أسيد ابنه ثم استيقظ رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يجد الصبي فسأل عنه فقالوا رفع فسماه المنذر وهذا الحمل أحسن من التغليط والله أعلم وقد حكى ابن اسحاق فقال حدثني بعض آل أبي بكر عن عائشة أم المؤمنين أنها كانت تقول ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه و سلم ولكن الله أسرى بروحه قال وحدثني يعقوب بن عتبة أن معاوية كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال كانت رؤيا من الله صادقة
قال ابن اسحاق فلم ينكر ذلك من قولهما لقول الحسن إن هذه الآية نزلت في ذلك وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس وكما قال ابراهيم عليه السلام يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك وفي الحديث تنام عين وقلبي يقظان
قال ابن اسحاق فالله أعلم أي ذلك كان قد جاءه وعاين فيه ما عاين من أمر الله تعالى على أي حاله كان نائما أو يقظانا كل ذلك حق وصدق
قلت وقد توقف ابن اسحاق في ذلك وجوز كلا من الأمرين من حيث الجملة ولكن الذي لا يشك فيه ولا يتمارى أنه كان يقظانا لا محالة لما تقدم وليس مقتضى كلام عائشة رضي الله عنها أن جسده صلى الله عليه و سلم ما فقد وإنما كان الاسراء بروحه أن يكون مناما كما فهمه ابن اسحاق بل قد يكون وقع الاسراء بروحه حقيقة وهو يقظان لا نائم وركب البراق وجاء بيت المقدس وصعد السموات وعاين ما عاين حقيقة ويقظة لا مناما لعل هذا مراد عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ومراد من تابعها على ذلك لا ما فهمه ابن اسحاق من أنهم أرادوا بذلك المنام والله أعلم
تنبيه ونحن لا ننكر وقوع منام قبل الاسراء طبق ما وقع بعد ذلك فانه صلى الله عليه و سلم كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح وقد تقدم مثل ذلك في حديث بدء الوحي أنه رأى مثل ما وقع له يقظة مناما قبله ليكون ذلك من باب الارهاص والتوطئة والتثبت والايناس والله أعلم (3/114)
ثم قد اختلف العلماء في أن الاسراء والمعراج هل كانا في ليلة واحدة أو كل في ليلة على حدة فمنهم من يزعم أن الاسراء في اليقظة والمعراج في المنام وقد حكى المهلب بن أبي صفرة في شرحه البخاري عن طائفة أنهم ذهبوا إلى أن الاسراء مرتين مرة بروحه مناما ومرة ببدنه وروحه يقظة وقد حكاه الحافظ أبو القاسم السهيلي عن شيخه أبي بكر بن العربي الفقيه قال السهيلي وهذا القول يجمع الاحاديث فإن في حديث شريك عن أنس وذلك فيما يرى قلبه وتنام عيناه ولا ينام قلبه وقال في آخره ثم استيقظت فاذا أنا في الحجر وهذا منام ودل غيره على اليقظة ومنهم من يدعي تعدد الاسراء في اليقظة أيضا حتى قال بعضهم إنها أربع اسراءات وزعم بعضهم أن بعضها كان بالمدينة وقد حاول الشيخ شهاب الدين أبو شامة رحمه الله أن يوفق بين اختلاف ما وقع في روايات حديث الاسراء بالجمع المتعدد فجعل ثلاث اسراءات مرة من مكة إلى بيت المقدس فقط على البراق ومرة من مكة الى السماء على البراق أيضا لحديث حذيفة ومرة من مكة الى بيت المقدس ثم الى السموات
فنقول ان كان انما حمله على القول بهذه الثلاث اختلاف الروايات فقد اختلف لفظ الحديث في ذلك على أكثر من هذه الثلاث صفات ومن أراد الوقوف على ذلك فلينظر فيما جمعناه مستقصيا في كتابنا التفسير عند قوله تعالى سبحان الذي اسرى بعبده ليلا وان كان انما حمله أن التقسيم انحصر في ثلاث صفات بالنسبة الى بيت المقدس والى السموات فلا يلزم من الحصر العقلي والوقوع كذلك في الخارج إلا بدليل والله أعلم والعجب أن الامام أبا عبد الله البخاري رحمه الله ذكر الاسراء بعد ذكره موت أبي طالب فوافق ابن اسحاق في ذكره المعراج في أواخر الأمر وخالفه في ذكره بعد موت أبي طالب وابن اسحاق أخر ذكر موت أبي طالب على الاسراء فالله أعلم أي ذلك كان والمقصود أن البخاري فرق بين الاسراء وبين المعراج فبوب لكل واحد منهما بابا على حدة فقال باب حديث الاسراء وقول الله سبحانه وتعالى سبحان الذي اسرى بعبده ليلا حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن قال سمعت جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لما كذبتني قريش كنت في الحجر فجلى الله لي بيت المقدس فطفقت أحدثهم عن آياته وأنا أنظر اليه وقد رواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث الزهري عن أبي سلمة عن جابر به ورواه مسلم والنسائي والترمذي من حديث عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم بنحوه ثم قال البخاري باب حديث المعراج حدثنا هدبة بن خالد حدثنا همام حدثنا قتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة أن النبي صلى الله عليه و سلم حدثهم عن ليلة أسري به قال بينما أنا في الحطيم وربما قال في الحجر مضجعا (3/115)
اذ أتاني آت فقال وسمعته يقول فشق ما بين هذه الى هذه فقلت للجارود وهو الى جنبي ما يعني به قال من نقرة نحره الى شعرته وسمعته يقول من قصه الى شعرته فاستخرج قلبي ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة ايمانا فغسل قلبي ثم حشى ثم أعيد ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض فقال الجارود وهو البراق يا أبا حمزة قال أنس نعم يضع حظوه عند أقصى طرفه فحملت عليه فانطلق بي جبرائيل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح قيل من هذا قال جبرائيل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد أرسل اليه قال نعم قيل مرحبا به فنعم المجيء جاء ففتح فلما خلصت فإذا فيها آدم فقال هذا أبوك آدم فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام ثم قال مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح ثم صعد بي الى السماء الثانية فاستفتح قيل من هذا قال جبرائيل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد أرسل اليه قال نعم قيل مرحبا به فنعم المجيء جاء ففتح فلما خلصت اذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة قال هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما فسلمت عليهما فردا ثم قالا مرحبا بالاخ الصالح والنبي الصالح ثم صعد بي الى السماء الثالثة فاستفتح جبرائيل قيل من هذا قال جبرائيل قال ومن معك قال محمد قيل وقد أرسل اليه قال نعم قيل مرحبا به فنعم المجيء جاء ففتح فلما خلصت اذا يوسف قال هذا يوسف فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال مرحبا بالاخ الصالح والنبي الصالح ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح قيل من هذا قال جبرائيل قال ومن معك قال محمد قيل وقد ارسل اليه قال نعم قيل مرحبا به فنعم المجيء جاء فلما خلصت اذا ادريس قال هذا ادريس فسلم عليه فسلمت فرد ثم قال مرحبا بالاخ الصالح والنبي الصالح ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح قيل من هذا قال جبرائيل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد أرسل اليه قال نعم قيل مرحبا به فنعم المجيء جاء فلما خلصت اذا هارون قال هذا هارون فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال مرحبا بالاخ الصالح والنبي الصالح ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح فقيل من هذا قال جبرائيل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد ارسل اليه قال نعم قيل مرحبا به فنعم المجيء جاء فلما خلصت اذا موسى قال هذا موسى فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال مرحبا بالاخ الصالح والنبي الصالح فلما تجاوزت بكى فقيل له ما يبكيك قال أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر من يدخلها من أمتي ثم صعد بي الى السماء السابعة فاستفتح جبرائيل قيل من هذا قال جبرائيل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد بعث اليه قال نعم قيل مرحبا به فنعم المجيء جاء فلما خلصت اذا ابراهيم قال هذا أبوك ابراهيم فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام ثم قال مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح ثم رفعت الى سدرة المنتهى وإذا أربعة أنهار نهران ظاهران ونهران باطنان فقلت ما هذا يا جبرائيل (3/116)
قال اما الباطنان فنهران في الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات ثم رفع لي البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم أتيت باناء من خمؤ وإناء من لبن وإناء من عسل فأخذت اللبن قال هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك ثم فرض علي الصلوات خمسون صلاة كل يوم فرجعت فمررت على موسى فقال بما أمرت قال أمرت بخمسين صلاة كل يوم قال إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم وإني والله قد جربت الناس قبلك وعالجت بني اسرائيل أشد المعالجة فارجع الى ربك فسله التخفيف لأمتك فرجعت فوضع عني عشرا فرجعت الى موسى فقال مثله فرجعت فوضع عني عشرا فرجعت الى موسى فقال مثله فرجعت فوضع عني عشرا فرجعت الى موسى فقال مثله فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم فقال مثله فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم فرجعت الى موسى فقال بم أمرت فقلت بخمس صلوات كل يوم قال إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني اسرائيل أشد المعالجة فارجع الى ربك فسله التخفيف لأمتك قال سألت ربي حتى استحييت ولكن أرضى وأسلم قال فلما جاوزت ناداني مناد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي هكذا روى البخاري هذا الحديث ههنا وقد رواه في مواضع أخر من صحيحه ومسلم والترمذي والنسائي من طرق عن قتادة عن أنس بن مالك بن صعصعة ورويناه من حديث أنس بن مالك عن أبي بن كعب ومن حديث أنس عن أبي ذر ومن طرق كثيرة عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم وقد وقد ذكرنا ذلك مستقصى بطرقه وألفاظه في التفسير ولم يقع في هذا السياق ذكر بيت المقدس وكان بعض الرواة يحذف بعض الخبر للعلم به أو ينساه أو يذكر ما هو الأهم عنده أو يبسط تارة فيسوقه كله وتارة يحذف عن مخاطبه بما هو الانفع عنده ومن جعل كل رواية اسراد على حدة كما تقدم عن بعضهم فقد أبعد جدا وذلك أن كل السياقات فيها السلام على الأنبياء وفي كل منها يعرفه بهم وفي كلها يفرض عليه الصلوات فكيف يمكن أن يدعي تعدد ذلك هذا في غاية البعد والاستحالة والله أعلم ثم قال البخاري حدثنا الحميدي حدثنا سفيان عن عمرو عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى وما جعلنا الرؤيا التي أريناك الا فتنة للناس قال هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة أسري به الى بيت المقدس والشجرة الملعونة في القرآن قال هي شجرة الزقوم فصل
ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه و سلم من صبيحة ليلة الاسرى جاءه جبرائيل عند الزوال فبين له كيفية الصلاة وأوقاتها وأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أصحابه فاجتمعوا وصلى به جبرائيل في ذلك اليوم الى الغد (3/117)
والمسلمون يأتمون بالنبي صلى الله عليه و سلم وهو يقتدي بجبرائيل كما جاء في الحديث عن ابن عباس وجابر أمني جبرائيل عند البيت مرتين فبين له الوقتين الأول والآخر فهما وما بينهما الوقت الموسع ولم يذكر توسعة في وقت المغرب وقد ثبت ذلك في حديث أبي موسى وبريدة وعبد الله بن عمرو وكلها في صحيح مسلم وموضع بسط ذلك في كتابنا الاحكام ولله الحمد فأما ما ثبت في صحيح البخاري عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت فرضت الصلاة أول ما فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر وكذا رواه الاوزاعي عن الزهري ورواه الشعبي عن مسروق عنها وهذا مشكل من جهة أن عائشة كانت تتم الصلاة في السفر وكذا عثمان بن عفان وقد تكلمنا على ذلك عند قوله تعالى وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا قال البيهقي وقد ذهب الحسن البصري الى أن صلاة الحضر أول ما فرضت أربعا كما ذكره مرسلا من صلاته عليه السلام صبيحة الاسراء الظهر اربعا والعصر اربعا والمغرب ثلاثا يجهر في الاوليين والعشاء أربعا يجهر في الاوليين والصبح ركعتين يجهر فيهما
قلت فلعل عائشة أرادت أن الصلاة كانت قبل الاسراء تكون ركعتين ركعتين ثم لما فرضت الخمس فرضت حضرا على ما هي عليه ورخص في السفر أن يصلى ركعتين كما كان الأمر عليه قديما وعلى هذا لا يبقى اشكال بالكلية والله أعلم فصل
انشقاق القمر في زمان النبي صلى الله عليه و سلم
وجعل الله له آية على صدق رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما جاء به من الهدى ودين الحق حيث كان ذلك وقت اشارته الكريمة قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر وقد أجمع المسلمون على وقوع ذلك في زمنه عليه الصلاة و السلام وجاءت بذلك الأحاديث المتواترة من طرق متعددة تفيد القطع عند من أحاط بها ونظر فيها ونحن نذكر من ذلك ما تيسر إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان وقد تقصينا ذلك في كتابنا التفسير فذكرنا الطرق والألفاظ محررة ونحن نشير ههنا إلى أطراف من طرقها ونعزوها إلى الكتب المشهورة بحول الله وقوته وذلك مروي عن أنس بن مالك وجبير بن مطعم وحذيفة وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجميعن
أما أنس فقال الامام أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن قتادة عن أنس بن مالك قال (3/118)
سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه و سلم آية فانشق القمر بمكة مرتين فقال اقتربت الساعة وانشق القمر ورواه مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق به وهذا من مرسلات الصحابة والظاهر أنه تلقاه عن الجم الغفير من الصحابة أو عن النبي صلى الله عليه و سلم أو عن الجميع وقد روى البخاري ومسلم هذا الحديث من طريق شيبان زاد البخاري وسعيد بن أبي عروبة وزاد مسلم وشعبة ثلاثتهم عن قتادة عن أنس أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يريهم آية فاراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما لفظ البخاري
وأما جبير بن مطعم فقال الامام أحمد حدثنا محمد بن كثير حدثنا سليمان بن كثير عن حصين ابن عبد الرحمن عن محمد بن جبير بن مطعم [ عن أبيه ] قال انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فصار فرقتين فرقة على هذا الجبل وفرقة على هذا الجبل فقالوا سحرنا محمد فقالوا إن كان سحرنا فانه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم تفرد به احمد وهكذا رواه ابن جرير من حديث محمد بن فضيل وغيره عن حصين به وقد رواه البيهقي من طريق ابراهيم بن طهمان وهشيم كلاهما عن حصين بن عبد الرحمن عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده به فزاد رجلا في الاسناد
وأما حذيفة بن اليمان فروى أبو نعيم في الدلائل من طريق عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي قال خطبنا حذيفة بن اليمان بالمدائن فحمد الله واثنى عليه ثم قال اقتربت الساعة وانشق القمر ألا وإن الساعة قد اقتربت ألا وإن القمر قد انشق ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق فلما كانت الجمعة الثانية انطلقت مع أبي إلى الجمعة فحمد الله وقال مثله وزاد ألا وإن السابق من سبق إلى الجمعة فلما كنا في الطريق قلت لأبي ما يعني بقوله غدا السباق قال من سبق إلى الجنة
وأما ابن عباس فقال البخاري حدثنا يحيى بن كثير حدثنا بكر بن جعفر عن عراك بن مالك عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال إن القمر انشق في زمان النبي صلى الله عليه و سلم ورواه البخاري أيضا ومسلم من حديث بكر وهو ابن نصر عن جعفر قوله اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر قال قد مضى ذلك كان قبل الهجرة انشق القمر حتى رأوا شقيه وهكذا رواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنه وهو من مرسلاته وقال الحافظ أبو نعيم حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا بكر بن سهيل حدثنا عبد الغني بن سعيد حدثنا موسى بن عبد الرحمن عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس وعن مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس في قوله اقتربت الساعة وانشق القمر قال ابن عباس اجتمع المشركون إلى رسول الله (3/119)
صلى الله عليه و سلم منهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام والعاص بن وائل والعاص بن هشام والاسود ابن عبد يغوث والاسود بن المطلب وزمعة بن الاسود والنضر بن الحارث ونظراؤهم فقالوا للنبي صلى الله عليه و سلم إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين نصفا على أبي قبيس ونصفا على قعيقعان فقال لهم النبي صلى الله عليه و سلم إن فعلت تؤمنوا قالوا نعم وكانت ليلة بدر فسأل الله عز و جل أن يعطيه ما سألوا فامسى القمر وقد سلب نصفا على أبي قبيس ونصفا على قعيقعان ورسول الله صلى الله عليه و سلم ينادي يا أبا سلمة بن عبد الاسد والارقم بن الارقم اشهدوا ثم قال أبو نعيم وحدثنا سليمان بن أحمد حدثنا الحسن بن العباس الرازي عن الهيثم بن العمان حدثنا اسماعيل بن زياد عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال انتهى أهل مكة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا هل من آية نعرف بها أنك رسول الله فهبط جبرائيل فقال يا محمد قل لأهل مكة أن يحتفلوا هذه الليلة فسيروا آية إن انتفعوا بها فاخبرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بمقالة جبرائيل فخرجوا ليلة الشق ليلة أربع عشرة فانشق القمر نصفين نصفا على الصفا ونصفا على المروة فنظروا ثم قالوا بأبصارهم فمسحوها ثم اعادوا النظر فنظروا ثم مسحوا أعينهم ثم نظروا فقالوا يا محمد ما هذا إلا سحر واهب فانزل الله اقتربت الساعة وانشق القمر ثم روى الضحاك عن ابن عباس قال جاءت أحبار اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا أرنا آية حتى نؤمن بها فسأل ربه فأراهم القمر قد انشق بجزئين أحدهما على الصفا والآخر على المروة قدر ما بين العصر إلى الليل ينظرون إليه ثم غاب فقالوا هذا سحر مفترى وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا أحمد بن عمرو الرزاز حدثنا محمد بن يحيى القطعي حدثنا محمد ابن بكر حدثنا ابن جريج عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال كسف القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا سحر القمر فنزلت اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا هذا سحر مستمر وهذا اسناد جيد وفيه أنه كسف تلك الليلة فلعله حصل له انشقاق في ليلة كسوفه ولهذا خفي أمره على كثير من أهل الأرض ومع هذا قد شوهد ذلك في كثير من بقاع الأرض ويقال إنه أرخ ذلك في بعض بلاد الهند وبنى بناء تلك الليلة وأرخ بليلة انشقاق القمر
وأما ابن عمر فقال الحافظ البيهقي أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر احمد بن الحسن القاضي قالا حدثنا أبو العباس الاصم حدثنا العباس بن محمد الدوري حدثنا وهب بن جرير عن شعبة عن الاعمش عن مجاهد به قال مسلم كرواية مجاهد عن أبي معمر عن ابن مسعود وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح
وأما عبد الله بن مسعود فقال الامام احمد حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر عن ابن مسعود قال انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم شقتين حتى نظروا اليه فقال (3/120)
رسول الله صلى الله عليه و سلم اشهدوا وهكذا أخرجاه من حديث سفيان وهو بن عيينة به ومن حديث الاعمش عن ابراهيم عن أبي معمر عن عبد الله بن سمرة عن ابن مسعود قال انشق القمر ونحن مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بمنى فقال النبي صلى الله عليه و سلم إشهدوا وذهبت فرقة نحو الجبل لفظ البخاري ثم قال البخاري وقال أبو الضحاك عن مسروق عن عبد الله بمكة وتابعه محمد بن مسلم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله رضي الله عنه وقد أسند أبو داود الطيالسي حديث أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت قريش هذا سحر ابن أبي كبشة فقالوا أنظروا ما يأتيكم به السفار فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم قال فجاء السفار فقالوا ذلك وقال البيهقي أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ثنا أبو العباس حدثنا العباس بن محمد الدوري حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا هشيم حدثنا مغيرة عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله قال انشق القمر بمكة حتى صار فرقتين فقال كفار قريش لأهل مكة هذا سحر سحركم به ابن أبي كبشة أنظروا السفارة فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق وإن كانوا لم يروا مثل ما رأيتم فهو سحر سحركم به قال فسئل السفار قال وقدموا من كل وجهة فقالوا رأينا وهكذا رواه أبو نعيم من حديث جابر عن الاعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله به وقال الامام احمد حدثنا مؤمل حدثنا اسرائيل عن سماك عن ابراهيم عن الاسود عن عبد الله وهو ابن مسعود قال انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى رأيت الجبل بين فرجتي القمر وهكذا رواه ابن جرير من حديث أسباط عن سماك به وقال الحافظ أبو نعيم حدثنا أبو بكر الطلحي حدثنا أبو حصين محمد بن الحسين الوادعي حدثنا يحيىالحماني حدثنا يزيد عن عطاء عن سماك عن ابراهيم عن علقمة عن عبد الله قال كنا مع النبي صلى الله عليه و سلم بمنى وانشق القمر حتى صار فرقتين فرقة خلف الجبل فقال النبي صلى الله عليه و سلم إشهدوا إشهدوا وقال أبو نعيم حدثنا سليمان بن احمد حدثنا جعفر بن محمد القلانسي حدثنا آدم بن أبي إياس ثنا الليث بن سعد حدثنا هشام بن سعد عن عتبة عن عبدالله بن عتبة عن ابن مسعود قال انشق القمر ونحن بمكة فلقد رأيت أحد شقيه على الجبل الذي بمنى ونحن بمكة وحدثنا احمد بن اسحاق حدثنا أبو بكر بن أبي عاصم حدثنا محمد بن حاتم حدثنا معاوية بن عمرو عن زائدة عن عاصم عن زر عن عبد الله قال انشق القمر بمكة فرأيته فرقتين ثم روى من حديث علي بن سعيد بن مسروق حدثنا موسى بن عمير عن منصور بن المعتمر عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود قال رأيت القمر والله منشقا باثنتين بينهما حراء وروى أبو نعيم من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال انشق القمر فلقتين فلقة ذهبت وفلقة بقيت قال ابن مسعود لقد رأيت (3/121)
جبل حراء بين فلقتي القمر فذهب فلقة فتعجب أهل مكة من ذلك وقالوا هذا سحر مصنوع سيذهب وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد قال انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فصار فرقتين فقال النبي صلى الله عليه و سلم لأبي بكر فاشهد يا أبا بكر وقال المشركون سحر القمر حتى انشق فهذه طرق متعددة قوية الاسانيد تفيد القطع لمن تأملها وعرف عدالة رجالها وما يذكره بعض القصاص من أن القمر سقط إلى الأرض حتى دخل في كم النبي صلى الله عليه و سلم وخرج من الكم الآخر فلا أصل له وهو كذب مفترى ليس بصحيح والقمر حين انشق لم يزايل السماء غير أنه حين أشار اليه النبي صلى الله عليه و سلم انشق عن اشارته فصار فرقتين فسارت واحدة حتى صارت من وراء حراء ونظروا إلى الجبل بين هذه وهذه كما أخبر بذلك ابن مسعود أنه شاهد ذلك وما وقع في رواية أنس في مسند احمد فانشق القمر بمكة مرتين فيه نظر والظاهر أنه أراد فرقتين والله أعلم فصل
وفاة أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه و سلم
ثم من بعده خديجة بنت خويلد زوجة رسول الله صلى الله عليه و سلم وBها وقيل بل هي توفيت قبله والمشهور الاول وهذان المشفقان هذا في الظاهر وهذه في الباطن هذاك كافر وهذه مؤمنة صديقة رضي الله عنها وأرضاها
قال ابن اسحاق ثم أن خديجة وأبا طالب هلكا في عام واحد فتتابعت على رسول الله صلى الله عليه و سلم المصائب بهلك خديجة وكانت له وزير صدق على الابتلاء يسكن اليها ويهلك عمه أبي طالب وكان عضدا وحرزا في أمره ومنعة وناصرا على قومه وذلك قبل مهاجره إلى المدينة بثلاث سنين فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه و سلم من الاذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ترابا فحدثني هشام بن عروة عن أبيه قال فدخل رسول الله صلى الله عليه و سلم بيته والتراب على رأسه فقامت اليه إحدى بناته تغسله وتبكي ورسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لا تبكي يا بنية فان الله مانع أباك ويقول بين ذلك ما نالتني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب
وذكر ابن اسحاق قبل ذلك أن أحدهم ربما طرح الاذى في برمته إذا نصبت له قال فكان إذا فعلوا ذلك كما حدثني عمر بن عبد الله عن عروة يخرج بذلك الشيء على العود فيقذفه على بابه ثم يقول يا بني عبد مناف أي جوار هذا ثم يلقيه في الطريق (3/122)
قال ابن اسحاق ولما اشتكى أبو طالب وبلغ قريشا ثقله قالت قريش بعضها لبعض إن حمزة وعمر قد أسلما وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها فانطلقوا بنا الى أبي طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه وليعطه منا فانا والله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا قال ابن اسحاق وحدثني العباس بن عبد الله بن معبد عن بعض أهله عن ابن عباس قال لما مشوا إلى أبي طالب وكلموه وهم أشراف قومه عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف وأبو سفيان بن حرب في رجال من اشرافهم فقالوا يا أبا طالب إنك منا حيث قد علمت وقد حضرك ما ترى وتخوفنا عليك وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك فادعه فخذ لنا منه وخذ له منا ليكف عنا ولنكف عنه وليدعنا وديننا ولندعه ودينه فبعث اليه أبو طالب فجاءه فقال يا ابن أخي هؤلاء اشراف قومك قد اجتمعوا اليك ليعطوك وليأخذوا منك قال فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم يا عم كلمة واحدة تعطونها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم فقال أبو جهل نعم وأبيك وعشر كلمات قال تقولون لا إله إلا الله وتخلعون ما تعبدون من دونه فصفقوا بأيديهم ثم قالوا يا محمد أتريد أن تجعل الآلهة إلها واحدا إن أمرك لعجب قال ثم قال بعضهم لبعض إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه ثم تفرقوا قال فقال أبو طالب والله يا ابن أخي ما رأيتك سألتهم شططا قال فطمع رسول الله صلى الله عليه و سلم فيه فجعل يقول له أي عم فانت فقلها استحل لك بها الشفاعة يوم القيامة فلما رأى حرص رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يا ابن أخي والله لولا مخافة السبة عليك وعلى بني أبيك من بعدي وأن تظن قريش أني إنما قلتها جزعا من الموت لقلتها لا أقولها إلا لأسرك بها قال فلما تقارب من أبي طالب الموت نظر العباس اليه يحرك شفتيه فاصغى اليه باذنه قال فقال يا ابن أخي والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها قال فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لم اسمع قال وأنزل الله تعالى في أولئك الرهط ص والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق الآيات وقد تكلمنا على ذلك في التفسير ولله الحمد والمنة
وقد استدل بعض من ذهب من الشيعة وغيرهم من الغلاة إلى أن أبا طالب مات مسلما بقول العباس هذا الحديث يا ابن أخي لقد قال الكلمة التي أمرته أن يقولها يعني لا إله إلا الله والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن في السند مبهما لا يعرف حاله وهو قوله عن بعض أهله وهذا ابهام في الاسم والحال ومثله يتوقف فيه لو انفرد وقد روى الامام احمد والنسائي وابن جرير نحوا من هذا السياق من طريق أبي أسامة عن الاعمش حدثنا عباد عن سعيد بن جبير فذكره ولم يذكر قول العباس ورواه الثوري أيضا عن الاعمش عن يحيى بن عمارة الكوفي عن سعيد بن (3/123)
جبير عن ابن عباس فذكره بغير زيادة قول العباس ورواه الترمذي وحسنه والنسائي وابن جرير أيضا ولفظ الحديث من سياق البيهقي فيما رواه من طريق الثوري عن الاعمش عن يحيى بن عمارة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال مرض أبو طالب فجاءت قريش وجاء النبي صلى الله عليه و سلم عند رأس أبي طالب فجلس رجل فقام أبو جهل كي يمنعه ذاك وشكوه إلى أبي طالب فقال يا ابن أخي ما تريد من قومك فقال يا عم إنما أريد منهم كلمة تذل لهم بها العرب وتؤدي اليهم بها الجزية العجم كلمة واحدة قال ما هي قال لا إله إلا الله قال فقالوا اجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب قال ونزل فيهم ص والقرآن ذي الذكر الآيات إلى قوله إلا اختلاق ثم قد عارضه أعني سياق ابن اسحاق ما هو أصح منه وهو ما رواه البخاري قائلا حدثنا محمود حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبيه رضي الله عنه أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه و سلم وعنده أبو جهل فقال أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزالا يكلماه حتى قال آخر ما كلمهم به على ملة عبد المطلب فقال النبي صلى الله عليه و سلم لأستغفر لك مالم أنه عنك فنزلت ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ونزلت إنك لا تهدي من أحببت ورواه مسلم عن اسحاق بن ابراهيم وعبد الله عن عبد الرزاق وأخرجاه أيضا من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه بنحوه وقال فيه فلم يزل رسول الله صلى الله عليه و سلم يعرضها عليه ويعودان له بتلك المقالة حتى قال آخر ما قال على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال النبي صلى الله عليه و سلم أما لاستغفرن لك مالم أنه عنك فانزل الله يعني بعد ذلك ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى ونزل في أبي طالب إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين وهكذا روى الامام احمد ومسلم والترمذي والنسائي من حديث يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا عماه قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة فقال لولا أن تعيرني قريش يقولون ما حمله عليه الا فزع الموت لاقررت بها عينك ولا أقولها الا لاقر بها عينك فانزل الله عز و جل إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين وهكذا قال عبد الله بن عباس وابن عمر ومجاهد والشعبي وقتادة إنها نزلت في أبي طالب حين عرض عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقول لا إله إلا الله فأبى أن يقولها وقال هو على ملة الاشياخ وكان آخر ما قال هو على ملة عبد المطلب ويؤكد هذا كله ما قال البخاري حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن (3/124)
سفيان عن عبد الملك بن عمير حدثني عبد الله بن الحارث قال حدثنا العباس بن عبد المطلب أنه قال قلت للنبي صلى الله عليه و سلم ما أغنيت عن عمك فانه كان يحوطك ويغضب لك قال [ هو ] في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الاسفل ورواه مسلم في صحيحه من طرق عن عبد الملك ابن عمير به أخرجاه في الصحيحين من حديث الليث حدثني ابن الهاد عن عبد الله بن خباب عن أبي سعيد أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم ذكر عنده عمه فقال لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه لفظ البخاري وفي رواية تغلي منه أم دماغه وروى مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عفان عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أبي عثمان عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أهون أهل النار عذابا أبو طالب منتعل بنعلين من نار يغلي منهما دماغه وفي مغازي يونس بن بكير يغلي منهما دماغه حتى يسيل على قدميه ذكره السهيلي وقال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده حدثنا عمرو هو ابن اسماعيل بن مجالد حدثنا أبي عن مجالد عن الشعبي عن جابر قال سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم أو قيل له هل نفعت أبا طالب قال أخرجته من النار الى ضحضاح منها تفرد به البزار قال السهيلي وانما لم يقبل النبي صلى الله عليه و سلم شهادة العباس أخيه أنه قال الكلمة وقال لم اسمع لأن العباس كان اذ ذاك كافرا غير مقبول الشهادة
قلت وعندي أن الخبر بذلك ما صح لضعف سنده كما تقدم ومما يدل على ذلك أنه سأل النبي صلى الله عليه و سلم بعد ذلك عن أبي طالب فذكر له ما تقدم وبتعليل صحته لعله قال ذلك عند معاينة الملك بعد الغرغرة حين لا ينفع إيمانها والله أعلم
وقال أبو داود الطيالسي حدثنا شعبة عن أبي اسحاق سمعت ناجية بن كعب يقول سمعت عليا يقول لما توفي أبي أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت إن عمك قد توفي فقال اذهب فواره فقلت إنه مات مشركا فقال اذهب فواره ولا تحدثن شيئا حتى تأتي ففعلت فأتيته فامرني أن أغتسل ورواه النسائي عن محمد بن المثنى عن غندر عن شعبة ورواه أبو داود والنسائي من حديث سفيان عن أبي اسحاق عن ناجية عن علي لما مات أبو طالب قلت يا رسول الله إن عمك الشيخ الضال قد مات فمن يواريه قال اذهب فوار أباك ولا تحدثن شيئا حتى تأتيني فاتيته فامرني فاغتسلت ثم دعا لي بدعوات ما يسرني أن لي بهن ما على الأرض من شيء وقال الحافظ البيهقي أخبرنا أبو سعد الماليني حدثنا أبو أحمد بن عدي حدثنا محمد بن هارون بن حميد حدثنا محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة حدثنا الفضل عن ابراهيم بن عبد الرحمن عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم عاد من جنازة أبي طالب فقال وصلتك رحم وجزيت خيرا يا عم قال وروى عن أبي اليمان الهوزني عن النبي صلى الله عليه و سلم مرسلا وزاد ولم يقم على قبره قال وابراهيم بن (3/125)
عبد الرحمن هذا هو الخوارزمي تكلموا فيه
قلت قد روى عنه غير واحد منهم الفضل بن موسى السيناني ومحمد بن سلام البيكندي ومع هذا قال ابن عدي ليس بمعروف وأحاديثه عن كل من روى عنه ليست بمستقيمة وقد قدمنا ما كان يتعاطاه أبو طالب من المحاماة والمحاجة والممانعة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم والدفع عنه وعن أصحابه وما قاله فيه من الممادح والثناء وما أظهره له ولأصحابه من المودة والمحبة والشفقة في اشعاره التي اسلفناها وما تضمنته من العيب والتنقيص لمن خالفه وكذبه بتلك العبارة الفصيحة البليغة الهاشمية المطلبية التي لا تدانى ولا تسامى ولا يمكن عربيا مقاربتها ولا معارضتها وهو في ذلك كله يعلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم صادق بار راشد ولكن مع هذا لم يؤمن قلبه وفرق بين علم القلب وتصديقه كما قررنا ذلك في شرح كتاب الايمان من صحيح البخاري وشاهد ذلك قوله تعالى الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون وقال تعالى في قوم فرعون وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم وقال موسى لفرعون لقد علمت ما أنزل هؤلاء الا رب السموات والارض بصائر واني لأظنك يا فرعون مثبورا وقول بعض السلف في قوله تعالى وهم ينهون عنه وينأون عنه أنها نزلت في أبي طالب حيث كان ينهى الناس عن أذية رسول الله صلى الله عليه و سلم وينأى هو عما جاء به الرسول من الهدى ودين الحق فقد روى عن ابن عباس والقاسم بن مخيمرة وحبيب ابن أبي ثابت وعطاء بن دينار ومحمد بن كعب وغيرهم ففيه نظر والله أعلم والأظهر والله أعلم الرواية الاخرى عن ابن عباس وهم ينهون الناس عن محمد أن يؤمنوا به وبهذا قال مجاهد وقتادة والضحاك وغير واحد 0 وهو اختيار ابن جرير وتوجيهه أن هذا الكلام سيق لتمام ذم المشركين حيث كانوا يصدون الناس عن اتباعه ولا ينتفعون هم أيضا به ولهذا قال ومنهم من يستمع اليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاؤك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الاولين وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون وهذا اللفظ وهو قوله وهم يدل على أن المراد بهذا جماعة وهم المذكورون في سياق الكلام وقوله وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون يدل على تمام الذم وأبو طالب لم يكن بهذه المثابة بل كان يصد الناس عن أذية رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه بكل ما يقدر عليه من فعال ومقال ونفس ومال ولكن مع هذا لم يقدر الله له الايمان لما له تعالى في ذلك من الحكمة العظيمة والحجة القاطعة البالغة الدامغة التي يجب الايمان بها والتسليم لها ولولا ما نهانا الله عنه من الاستغفار للمشركين لاستغفرنا لابي طالب وترحمنا عليه (3/126)
فصل
موت خديجة بنت خويلد
وذكر شيء من فضائلها ومناقبها رضي الله عنها وأرضاها وجعل جنات الفردوس منقلبها ومثواها وقد فعل ذلك لا محالة بخبر الصادق المصدوق حيث بشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب
قال يعقوب بن سفيان حدثنا أبو صالح حدثنا الليث حدثني عقيل عن ابن شهاب قال قال عروة بن الزبير وقد كانت خديجة توفيت قبل أن تفرض الصلاة ثم روى من وجه آخر عن الزهري أنه قال توفيت خديجة بمكة قبل خروج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة وقبل أن تفرض الصلاة وقال محمد بن اسحاق ماتت خديجة وأبو طالب في عام واحد وقال البيهقي بلغني أن خديجة توفيت بعد موت أبي طالب بثلاثة أيام ذكره عبد الله بن منده في كتاب المعرفة وشيخنا أبو عبد الله الحافظ قال البيهقي وزعم الواقدي أن خديجة وأبا طالب ماتا قبل الهجرة بثلاث سنين عام خرجوا من الشعب وأن خديجة توفيت قبل أبي طالب بخمس وثلاثين ليلة
قلت مرادهم قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الاسراء وكان الانسب بنا أن نذكر وفاة أبي طالب وخديجة قبل الاسراء كما ذكره البيهقي وغير واحد ولكن أخرنا ذلك عن الاسراء لمقصد ستطلع عليه بعد ذلك فان الكلام به ينتظم ويتسق الباب كما تقف على ذلك إن شاء الله وقال البخاري حدثنا قتيبة حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان عن عمارة عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال أتى جبرائيل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب فاذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب وقد رواه مسلم من حديث محمد بن فضيل به وقال البخاري حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن اسماعيل قال قلت لعبد الله بن أبي أوفى بشر النبي صلى الله عليه و سلم خديجة قال نعم ببيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب ورواه البخاري أيضا ومسلم من طرق عن اسماعيل بن أبي خالد به
قال السهيلي وإنما بشرها ببيت في الجنة من قصب يعني قصب اللؤلؤ لانها حازت قصب السبق الى الايمان لا صخب فيه ولا نصب لانها لم ترفع صوتها على النبي صلى الله عليه و سلم ولم تتعبه يوما من الدهر فلم تصخب عليه يوما ولا آذته أبدا وأخرجاه في الصحيحين من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت ما غرت على امرأة للنبي صلى الله عليه و سلم ما غرت على خديجة (3/127)
وهلكت قبل أن يتزوجني لما كنت اسمعه يذكرها وأمره الله أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها منها ما يسعهن لفظ البخاري وفي لفظ عن عائشة ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة من كثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم اياها وتزوجني بعدها بثلاث سنين وأمره ربه أو جبرائيل أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب وفي لفظ له قالت ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه و سلم ما غرت على خديجة وما رأيتها ولكن كان يكثر ذكرها وربما ذبح الشاة فيقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة فربما قلت كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة فيقول إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد ثم قال البخاري حدثنا اسماعيل بن خليل أخبرنا علي بن مسهر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه و سلم فعرف استئذان خديجة فارتاع فقال اللهم هالة فغرت فقلت ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر ابدلك الله خيرا منها وهكذا روا مسلم عن سويد بن سعيد عن علي بن مسهر به وهذا ظاهر في التقرير على أن عائشة خير من خديجة إما فضلا وإما عشرة إذا لم ينكر عليها ولا يرد عليها ذلك كما هو ظاهر سياق البخاري رحمه الله ولكن قال الامام احمد حدثنا مؤمل أبو عبد الرحمن حدثنا حماد بن سلمة عن عبد الملك هو ابن عمير عن موسى بن طلحة عن عائشة قالت ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما خديجة فاطنب في الثناء عليها فادركني ما يدرك النساء من الغيرة فقلت لقد أعقبك الله يا رسول الله من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين قال فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم تغير لم أره تغير عند شيء قط إلا عند نزول الوحي أو عند المخيلة حتى يعلم رحمة أو عذابا وكذا رواه عن بهز بن أسد وعثمان بن مسلم كلاهما عن حماد بن سلمة عن عبد الملك بن عمير به وزاد بعد قوله حمراء الشدقين هلكت في الدهر الاول قال قال فتمعر وجهه تمعرا ما كنت أراه إلا عند نزول الوحي أو عند المخيلة حتى ينظر رحمة أو عذابا تفرد به احمد وهذا اسناد جيد وقال الامام احمد ايضا عن ابن اسحاق أخبرنا مجالد عن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا ذكر خديجة أثنى عليها بأحسن الثناء قالت فغرت يوما فقلت ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدقين قد أبدلك الله خيرا منها قال ما أبدلني الله خيرا منها وقد آمنت بي إذ كفر بي الناس وصدقتني إذ كذبنني وآستني بمالها إذ حرمني الناس ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء تفرد به احمد أيضا وإسناده لا بأس به ومجالد روى له مسلم متابعة وفيه كلام مشهور والله أعلم ولعل هذا أعني قوله ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء كان قبل أن يولد ابراهيم بن النبي صلى الله عليه و سلم من مارية وقبل مقدمها بالكلية وهذا معين فان جميع أولاد النبي صلى الله عليه و سلم كما تقدم وكما سيأتي من خديجة إلا ابراهيم فمن مارية القبطية (3/128)
المصرية رضي الله عنها وقد استدل بهذا الحديث جماعة من أهل العلم على تفضيل خديجة على عائشة رضي الله عنها وأرضاها وتكلم آخرون في إسناده وتأوله آخرون على أنها كانت خيرا عشرة وهو محتمل أو ظاهر وسببه أن عائشة تمت بشبابها وحسنها وجميل عشرتها وليس مرادها بقولها قد أبدلك الله خيرا منها أنها تزكي نفسها وتفضلها على خديجة فإن هذا أمر مرجعه إلى الله عز و جل كما قال فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى وقال تعالى ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء الآية وهذه مسألة وقع النزاع فيها بين العلماء قديما وحديثا وبجانبها طرقا يقتصر عليها أهل الشيع وغيرهم ولا يعدلون بخديجة أحدا من النساء لسلام الرب عليها وكون ولد النبي صلى الله عليه و سلم جميعهم إلا ابراهيم منها وكونه لم يتزوج عليها حتى ماتت إكراما لها وتقدير إسلامها وكونها من الصديقات ولها مقام صدق في أول البعثة وبذلت نفسها ومالها لرسول الله صلى الله عليه و سلم وأما أهل السنة فمنهم من يغلو أيضا ويثبت لكل واحدة منهما من الفضائل ما هو معروف ولكن تحملهم قوة التسنن على تفضيل عائشة لكونها ابنة الصديق ولكونها أعلم من خديجة فانه لم يكن في الامم مثل عائشة في حفظها وعلمها وفصاحتها وعقلها ولم يكن الرسول يحب أحدا من نسائه كمحبته إياها ونزلت براءتها من فوق سبع سموات وروت بعده عنه عليه السلام علما جما كثيرا طيبا مباركا فيه حتى قد ذكر كثير من الناس الحديث المشهور خذوا شطر دينكم عن الحميراء والحق أن كلا منهما لها من الفضائل ما لو نظر الناظر فيه لبهره وحيره والاحسن التوقف في ذلك إلى الله عز و جل ومن ظهر له دليل يقطع به أو يغلب على ظنه في هذه الباب فذاك الذي يجب عليه أن يقول بما عنده من العلم ومن حصل له توقف في هذه المسألة أو في غيرها فالطريق الاقوم والمسلك الاسلم أن يقول الله أعلم
وقد روى الامام احمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن جعفر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد أي خير زمانهما وروى شعبة عن معاوية بن قرة عن أبيه قرة بن اياس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا ثلاث مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام رواه ابن مردويه في تفسيره وهذا اسناد صحيح إلى شعبة وبعده قالوا والقدر المشترك بين الثلاث نسوة آسية ومريم وخديجة أن كلا منهن كفلت نبيا مرسلا وأحسنت الصحبة في كفالتها وصدقته فآسية ربت موسى وأحسنت اليه وصدقته حين بعث ومريم كفلت ولدها أتم كفالة وأعظمها وصدقته حين أرسل وخديجة رغبت في تزويج رسول الله صلى الله عليه و سلم بها وبذلت في ذلك أموالها كما تقدم وصدقته حين نزل عليه الوحي من الله عز و جل وقوله (3/129)
وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام هو ثابت في الصحيحين من طريق شعبة أيضا عن عمرو بن مرة عن مرة الطيب الهمداني عن أبي موسى الاشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران وان فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام والثريد هو الخبز واللحم جميعا وهو أفخر طعام العرب كما قال بعض الشعراء ... إذا ما الخبز تأدمه بلحم ... فذاك أمانة الله الثريد ...
ويحمل قوله وفضل عائشة على النساء أن يكون محفوظا فيعم النساء المذكورات وغيرهن ويحتمل أن يكون عاما فيما عداهن ويبقى الكلام فيها وفيهن موقوف يحتمل التسوية بينهن فيحتاج من رجح واحدة منهن على غيرها إلى دليل من خارج والله أعلم فصل
في تزويجه صلى الله عليه و سلم بعد خديجة
والصحيح أن عائشة تزوجها أولا كما سيأتي قال البخاري في باب تزويج عائشة * حدثنا معلى ابن أسد حدثنا وهيب عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لها أريتك في المنام مرتين أرى أنك في سرقة من حرير ويقول هذه امرأتك فاكشف عنها فإذا هي أنت فاقول إن كان هذا من عند الله يمضه قال البخاري باب نكاح الابكار وقال ابن أبي مليكة قال ابن عباس لعائشة لم ينكح النبي صلى الله عليه و سلم بكرا غيرك * حدثنا اسماعيل بن عبد الله حدثني أخي عن سليمان بن بلال عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت قلت يا رسول الله أرأيت لو نزلت واديا وفيه شجرة قد أكل منها ووجدت شجرة لم يؤكل منها في أيها كنت ترتع بعيرك قال في التي لم يرتع منها يعني أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يتزوج بكرا غيرها انفرد به البخاري ثم قال حدثنا عبيد ابن اسماعيل حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم أريتك في المنام فيجيء بك الملك في سرقة من حرير فقال لي هذه امرأتك فكشفت عن وجهك الثوب فاذا هي أنت فقلت إن يكن هذا من عند الله يمضه وفي رواية أريتك في المنام ثلاث ليال وعند الترمذي أن جبريل جاءه بصورتها في خرقة من حرير خضراء فقال هذه زوجتك في الدنيا والآخرة وقال البخاري تزويج الصغار من الكبار حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا الليث (3/130)
بن يزيد عن عراك عن عروة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خطب عائشة إلى أبي بكر فقال له أبو بكر إنما أنا أخوك فقال انت أخي في دين الله وكتابه وهي لي حلال هذا الحديث ظاهر سياقه كانه مرسل وهو عند البخاري والمحققين متصل لانه من حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها وهذا من افراد البخاري رحمه الله وقال يونس بن بكير عن هشام بن عروة عن أبيه قال تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم عائشة بعد خديجة بثلاث سنين وعائشة يومئذ ابنة ست سنين وبنى بها وهي ابنة تسع ومات رسول الله صلى الله عليه و سلم وعائشة ابنة ثمانية عشرة سنة وهذا غريب وقد روى البخاري عن عبيد ابن اسماعيل عن أبي أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه قال توفيت خديجة قبل مخرج النبي صلى الله عليه و سلم بثلاث سنين فلبت سنتين أو قريبا من ذلك ونكح عائشة وهي بنت ست سنين ثم بنى بها وهي بنت تسع سنين وهذا الذي قاله عروة مرسل في ظاهر السياق كما قدمنا ولكنه في حكم المتصل في نفس الامر وقوله تزوجها وهي ابنة ست سنين وبنى بها وهي ابنة تسع مالا خلاف فيه بين الناس وقد ثبت في الصحاح وغيرها وكان بناؤه بها عليه السلام في السنة الثانية من الهجرة إلى المدينة وأما كون تزويجها كان بعد موت خديجة بنحو ثلاث سنين ففيه نظر فان يعقوب بن سفيان الحافظ قال حدثنا الحجاج حدثنا حماد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت تزوجني رسول الله صلى الله عليه و سلم متوفى خديجة قبل مخرجه من مكة وأنا ابنة سبع أو ست سنين فلما قدمنا المدينة جاءني نسوة وأنا ألعب في ارجوحة وأنا مجممة فهيآنني وصنعنني ثم أتين بي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا ابنة تسع سنين فقوله في هذا الحديث متوفى خديجة يقتضي أنه على أثر ذلك قريبا اللهم إلا أن يكون قد سقط من النسخة بعد متوفى خديجة فلا ينفي ما ذكره يونس بن بكير وأبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه والله أعلم وقال البخاري حدثنا فروة بن أبي المغراء حدثنا علي بن مسهر عن هشام بن عروة عن ابيه عن عائشة قالت تزوجني النبي صلى الله عليه و سلم وأنا بنت ست سنين فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج فوعكت فتمزق شعري وقد وفت لي جميمة فاتتني أمي أم رومان وإني لفي أرجوحة ومعي صواحب لي فصرخت بي فاتيتها ما أدري ما تريد مني فاخذت بيدي حتى أوقفتني على باب الدار وإني لأنهج حتى سكن بعض نفسي ثم أخذت شيئا من ماء فمست به وجهي ورأسي ثم أدخلتني الدار قال فاذا نسوة من الانصار في البيت فقلن على الخير والبركة وعلى خير طائر فاسلمتني اليهن فاصلحن من شأني فلم يرعني إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم ضحى فاسلمننى اليه وأنا يومئذ بنت تسع سنين وقال الامام احمد في مسند عائشة أم المؤمنين حدثنا محمد بن بشر حدثنا بشر حدثنا محمد بن عمرو أبو سلمة ويحيى قالا لما هلكت خديجة جاءت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون فقالت يا رسول الله ألا تزوج قال من قالت إن شئت بكرا وإن (3/131)
شئت ثيبا قال فمن البكر قالت أحب خلق الله اليك عائشة ابنة أبي بكر قال ومن الثيب قالت سودة بنت زمعة قد آمنت بك واتبعتك قال فاذهبي فاذكريهما علي فدخلت بيت أبي بكر فقالت يا أم رومان ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة قالت وما ذاك قالت أرسلني رسول الله صلى الله عليه و سلم أخطب عليه عائشة قالت انظري أبا بكر حتى يأتي فجاء أبو بكر فقلت يا أبا بكر ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة قال وما ذاك قالت أرسلني رسول الله صلى الله عليه و سلم أخطب عليه عائشة قال وهل تصلح له إنما هي ابنة أخيه فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكرت ذلك له قال ارجعي اليه فقولي له أنا أخوك وأنت أخي في الاسلام وابنتك تصلح لي فرجعت فذكرت ذلك له قال انتظري وخرج قالت أم رومان إن مطعم بن عدي قد ذكرها على ابنه ووالله ما وعد أبو بكر وعدا قط فاخلفه فدخل أبو بكر على مطعم بن عدي وعنده امرأته أم الصبي فقالت يا ابن أبي قحافة لعلك مصبي صاحبنا تدخله في دينك الذي أنت عليه إن تزوج اليك فقال أبو بكر للمطعم ابن عدي أقول هذه يقول إنها تقول ذلك فخرج من عنده وقد أذهب الله ما كان في نفسه من عدته التي وعده فرجع فقال لخولة ادعي لي رسول الله صلى الله عليه و سلم فدعته فزوجها إياه وعائشة يومئذ بنت ست سنين ثم خرجت فدخلت على سودة بنت زمعة فقالت ما أدخل الله عليك من الخير والبركة قالت وما ذاك قالت ارسلني رسول الله صلى الله عليه و سلم أخطبك اليه قالت وددت ادخلي الى أبي بكر فاذكري ذلك له وكان شيخا كبيرا قد أدركه السن قد تخلف عن الحج فدخلت عليه فحييته بتحية الجاهلية فقال من هذه قالت خولة بنت حكيم قال فما شأنك قالت أرسلني محمد بن عبد الله أخطب عليه سودة فقال كفؤ كريم ماذا تقول صاحبتك قال تحب ذلك قال ادعيها إلي فدعتها قال أي بنية إن هذه تزعم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب قد أرسل يخطبتك وهو كفؤ كريم أتحبين أن أزوجك به قالت نعم قال ادعيه لي فجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم فزوجها اياه فجاء أخوها عبد بن زمعة من الحج فجاء يحثى على رأسه التراب فقال بعد أن اسلم لعمرك إني لسفيه يوم أحثى في رأسي التراب أن تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم سودة بنت زمعة قالت عائشة فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج في السنح قالت فجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم فدخل بيتنا واجتمع اليه رجال من الانصار ونساء فجاءتني أمي وأنا لفي أرجوحة بين عذقين يرجح بي فانزلتني من الارجوحة ولي جميمة ففرقتها ومسحت وجهي بشيء من الماء ثم أقبلت تقودني حتى وقفت بي عند الباب واني لانهج حتى سكن من نفسي ثم دخلت بي فاذا رسول الله صلى الله عليه و سلم جالس على سرير في بيتنا وعنده رجال ونساء من الانصار فاجلستني في حجرة ثم قالت هؤلاء أهلك فبارك الله لك فيهم وبارك لهم فيك فوثب الرجال والنساء فخرجوا وبنى بي رسول الله صلى الله عليه و سلم في بيتنا ما نحرت على جزور ولا (3/132)
ذبحت على شاة حتى أرسل الينا سعد بن عبادة بجفنة كان يرسل بها الى رسول الله صلى الله عليه و سلم اذا دار الى نسائه وأنا يومئذ ابنة تسع سنين وهذا السياق كأنه مرسل وهو متصل لما رواه البيهقي من طريق احمد بن عبد الجبار حدثنا عبد الله بن ادريس الازدي عن محمد بن عمرو عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال قالت عائشة لما ماتت خديجة جاءت خولة بنت حكيم فقالت يا رسول الله ألا تزوج قال ومن قالت إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا قال من البكر ومن الثيب قالت أما البكر فابنة أحب خلق الله اليك وأما الثيب فسودة بنت زمعة قد آمنت بك واتبعتك قال فاذكريهما علي وذكر تمام الحديث نحو ما تقدم وهذا يقتضي أن عقده على عائشة كان متقدما على تزويجه بسودة بنت زمعة ولكن دخوله على سودة كان بمكة وأما دخوله على عائشة فتأخر الى المدينة في السنة الثانية كما تقدم وكما سيأتي وقال الامام احمد حدثنا أسود حدثنا شريك عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت لما كبرت سودة وهبت يومها لي فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقسم لي بيومها مع نسائه قالت وكانت أول امرأة تزوجها بعدي وقال الامام احمد حدثنا أبو النضر حدثنا عبد الحميد حدثني شهر حدثني عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خطب امرأة من قومه يقال لها سودة وكانت مصبية كان لها خمس صبية أو ست من بعلها مات فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما يمنعك مني قالت والله يا نبي الله ما يمنعني منك أن لا تكون أحب البرية إلي ولكني أكرمك أن يمنعوا هؤلاء الصبية عند رأسك بكرة وعشية قال فهل منعك مني غير ذلك قالت لا والله قال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم يرحمك الله ان خير نساء ركبن اعجاز الابل صالح نساء قريش احناه على ولد في صغره وأرعاه على بعل بذات يده قلت وكان زوجها قبله عليه السلام السكران بن عمرو أخو سهيل بن عمرو وكان ممن أسلم وهاجر إلى الحبشة كما تقدم ثم رجع إلى مكة فمات بها قبل الهجرة رضي الله عنه هذه السياقات كلها دالة على أن العقد على عائشة كان متقدما علىالعقد بسودة وهو قول عبد الله بن محمد بن عقيل ورواه يونس عن الزهري واختار ابن عبد البر أن العقد على سودة قبل عائشة وحكاه عن قتادة وأبي عبيد قال ورواه عقيل عن الزهري فصل
قد تقدم ذكر موت أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنه كان ناصرا له وقائما في صفه ومدافعا عنه بكل ما يقدر عليه من نفس ومال ومقال وفعال فلما مات اجترأ سفهاء قريش على رسول الله صلى الله عليه و سلم ونالوا منه ما لم يكونوا يصلون اليه ولا يقدرون عليه كما قد رواه البيهقي عن الحاكم عن الاصم حدثنا محمد بن اسحاق الصنعاني حدثنا يوسف بن بهلول حدثنا عبد الله بن إدريس حدثنا محمد بن (3/133)
اسحاق عمن حدثه عن عروة بن الزبير عن عبد الله بن جعفر قال لما مات أبو طالب عرض لرسول الله صلى الله عليه و سلم سفيه من سفهاء قريش فالقى عليه ترابا فرجع إلى بيته فاتت امرأة من بناته تمسح عن وجهه التراب وتبكي فجعل يقول أي بنية لا تبكين فان الله مانع أباك ويقول ما بين ذلك ما نالت قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب ثم شرعوا قد رواه زياد البكائي عن محمد ابن اسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه مرسلا والله أعلم وروى البيهقي أيضا عن الحاكم وغيره عن الاصم عن احمد بن عبد الجبارعن يونس بن بكير عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ما زالت قريش كاعين حتى مات أبو طالب ثم رواه عن الحاكم عن الأصم عن عباس الدوري عن يحيى بن معين حدثنا عقبة المجدر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ما زالت قريش كاعة حتى توفي أبو طالب وقد روى الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي بسنده عن ثعلبة بن صغير وحكيم بن حزام أنهما قالا لما توفي أبو طالب وخديجة وكان بينهما خمسة ايام اجتمع على رسول الله صلى الله عليه و سلم مصيبتان ولزم بيته وأقل الخروج ونالت منه قريش ما لم تكن تنال ولا تطمع فيه فبلغ ذلك أبا لهب فجاءه فقال يا محمد امض لما أردت وما كنت صانعا إذ كان أبو طالب حيا فاصنعه لا واللات لا يوصل اليك حتى أموت وسب ابن الغيطلة رسول الله صلى الله عليه و سلم فاقبل اليه أبو لهب فنال منه فولى يصيح يا معشر قريش صبا أبو عتبة فاقبلت قريش حتى وقفوا على أبي لهب فقال ما فارقت دين عبد المطلب ولكني أمنع ابن أخي أن يضام حتى يمضي لما يريد فقالوا لقد أحسنت وأجملت ووصلت الرحم فمكث رسول الله صلى الله عليه و سلم كذلك أياما يأتي ويذهب لا يعرض له أحد من قريش وهابوا أبا لهب إذ جاء عقبة بن أبي معيط وأبو جهل إلى أبي لهب فقالا له أخبرك ابن أخيك أين مدخل أبيك فقال له أبو لهب يا محمد أين مدخل عبد المطلب قال مع قومه فخرج اليهما فقال قد سألته فقال مع قومه فقالا يزعم أنه في النار فقال يا محمد أيدخل عبد المطلب النار فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن مات على ما مات عليه عبد المطلب دخل النار فقال أبو لهب لعنه الله والله لا برحت لك إلا عدوا أبدا وأنت تزعم أن عبد المطلب في النار واشتد عند ذلك أبو لهب وسائر قريش عليه
قال ابن اسحاق وكان النفر الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه و سلم في بيته أبو لهب والحكم بن أبي العاص بن أمية وعقبة بن أبي معيط وعدي بن الحمراء وابن الاصداء الهذلي وكانوا جيرانه لم يسلم منهم أحد إلا الحكم بن أبي العاص وكان أحدهم فيما ذكر لي يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلي وكان أحدهم يطرحها في برمته إذا نصبت له حتى اتخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم حجرا يستتر (3/134)
به منهم إذا صلى فكان إذا طرحوا شيئا من ذلك يحمله على عود ثم يقف به على بابه ثم يقول يا بني عبد مناف أي جوار هذا ثم يلقيه في الطريق
قلت وعندي أن غالب ما روى مما تقدم من طرحهم سلا الجزور بين كتفيه وهو يصلي كما رواه ابن مسعود وفيه أن فاطمة جاءت فطرحته عنه وأقبلت عليهم فشتمتهم ثم لما انصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم دعا على سبعة منهم كما تقدم وكذلك ما أخبر به عبد الله بن عمرو بن العاص من خنقهم له عليه السلام خنقا شديدا حتى حال دونه أبو بكر الصديق قائلا أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وكذلك عزم أبي جهل لعنه الله على أن يطأ على عنقه وهو يصلي فحيل بينه وبين ذلك وما أشبه ذلك كان بعد وفاة أبي طالب والله أعلم فذكرها ههنا أنسب وأشبه فصل
في ذهابه صلى الله عليه و سلم إلى أهل الطائف يدعوهم إلى دين الله
قال ابن اسحاق فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه و سلم من الأذى ما لم تكن نالته منه في حياة عمه أبي طالب فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة والمنعة بهم من قومه ورجا أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله تعالى فخرج اليهم وحده فحدثني يزيد بن أبي زياد عن محمد بن كعب القرظي قال انتهى رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الطائف وعمد إلى نفر من ثقيف هم سادة ثقيف وأشرافهم وهم أخوة ثلاثة عبد ياليل ومسعود وحبيب بنو عمرو ابن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة بن عوف بن ثقيف وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح فجلس اليهم فدعاهم إلى الله وكلمهم لما جاءهم له من نصرته على الاسلام والقيام معه على من خالفه من قومه فقال أحدهم هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك وقال الآخر أما وجد الله أحدا أرسله غيرك وقال الثالث والله لا أكلمك أبدا لئن كنت رسولا من الله كما تقول لانت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف وقد قال لهم فيما ذكر لي إن فعلتم ما فعلتم فاكتموا علي وكره رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يبلغ قومه عنه فيذئرهم ذلك عليه فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وألجؤه إلى حائط لعتبة ابن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما فيه ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه فعمد الى ظل (3/135)
حبلة من عنب فجلس فيه وابنا ربيعة ينظران اليه ويريان ما يلقى من سفهاء أهل الطائف وقد لقي رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما ذكر لي المرأة التي من بني جمح فقال لها ماذا لقينا من أحمائك فلما اطمأن قال فيما ذكر اللهم اليك أشكو ضعف قوتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي الى من تكلني الى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي اشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو تحل علي سخطك لك العتبى حتى ترضى لا حول ولا قوة الا بك قال فلما رآه ابنا ربيعة عتبة وشيبة وما لقي تحركت له رحمهما فدعوا غلاما نصرانيا يقال له عداس [ وقالا له ] خذ قطفا من هذا العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب به الى ذلك الرجل فقل له يأكل منه ففعل عداس ثم ذهب به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال له كل فلما وضع رسول الله صلى الله عليه و سلم يده فيه قال بسم الله ثم أكل ثم نظر عداس في وجهه ثم قال والله ان هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن أهل أي بلاد أنت يا عداس وما دينك قال نصراني وأنا رجل من أهل نينوى فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم من قرية الرجل الصالح يونس بن متى فقال له عداس وما يدريك ما يونس بن متى فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ذلك أخي كان نبيا وأنا نبي فاكب عداس على رسول الله صلى الله عليه و سلم يقبل رأسه ويديه وقدميه قال يقول أبناء ربيعة احدهما لصاحبه اما غلامك فقد افسده عليك فلما جاء عداس قالا له ويلك يا عداس مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه قال يا سيدي ما في الارض شيء خير من هذا لقد اخبرني بأمر ما يعلمه الا نبي قالا له ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك فإن دينك خير من دينه
وقد ذكر موسى بن عقبة نحوا من هذا السياق الا انه لم يذكر الدعاء وزاد وقعد له أهل الطائف صفين على طريقه فلما مر جعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعهما الا رضخوهما بالحجارة حتى ادموه فخلص منهم وهما يسيلان الدماء فعمد إلى ظل نخلة وهو مكروب وفي ذلك الحائط عتبة وشيبة ابنا ربيعة فكره مكانهما لعداوتهما الله ورسوله ثم ذكر قصة عداس النصراني كنحو ما تقدم وقد روى الامام احمد عن أبي بكر بن أبي شيبة حدثنا مروان بن معاوية الفزاري عن عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي عن عبد الرحمن بن خالد بن أبي جبل العدواني عن أبيه أنه أبصر رس 4 ول الله صلى الله عليه و سلم في مشرق ثقيف وهو قائم على قوس أو عصى حين أتاهم يبتغي عندهم النصر فسمعته يقول والسماء والطارق حتى ختمها قال فوعيتها في الجاهلية وأنا مشرك ثم قرأتها في الاسلام (3/136)
قال فدعتني ثقيف فقالوا ماذا سمعت من هذا الرجل فقرأتها عليهم فقال من معهم من قريش نحن أعلم بصاحبنا لو كنا نعلم ما يقول حقا لاتبعناه وثبت في الصحيحين من طريق عبد الله بن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال أخبرني عروة بن الزبير إن عائشة حدثته أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه و سلم هل أتى عليك يوم اشد عليك من يوم أحد قال ما لقيت من قومك كان أشد منه يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث لك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم ثم ناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال يا محمد قد بعثني الله إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال قد بعثني اليك ربك لتأمرني ما شئت إن شئت تطبق عليهم الاخشبين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا فصل
وقد ذكر محمد بن اسحاق سماع الجن لقراءة رسول الله صلى الله عليه و سلم وذلك مرجعه من الطائف حين بات بنخلة وصلى بأصحابه الصبح فاستمع الجن الذين صرفوا اليه قراءته هنالك قال ابن اسحاق وكانوا سبعة نفر وأنزل الله تعالى فيهم قوله وإذ صرفنا اليك نفرا من الجن
قلت وقد تكلمنا على ذلك مستقصى في التفسير وتقدم قطعة من ذلك والله أعلم ثم دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة مرجعه من الطائف في جوار المطعم بن عدي وازداد قومه عليه حنقا وغيظا وجرأة وتكذيبا وعنادا والله المستعان وعليه التكلان
وقد ذكر الاموي في مغازيه ان رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث أريقط إلى الاخنس بن شريق فطلب منه أن يجيره بمكة فقال إن حليف قريش لا يجير على صميمها ثم بعثه إلى سهيل بن عمرو ليجيره فقال إن بني عامر بن لؤي لا تجير على بني كعب بن لؤي فبعثه إلى المطعم بن عدي ليجيره فقال نعم قل له فليأت فذهب اليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فبات عنده تلك الليلة فلما أصبح خرج معه هو وبنوه ستة أو سبعة متقلدي السيوف جميعا فدخلوا المسجد وقال لرسول الله صلى الله عليه و سلم طف واحتبوا بحمائل سيوفهم في المطاف فاقبل أبو سفيان إلى مطعم فقال أمجير أو تابع قال لا بل مجير قال إذا لا تخفر فجلس معه حتى قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم طوافه فلما انصرف انصرفوا معه وذهب أبو (3/137)
سفيان إلى مجلسه قال فمكث أياما ثم أذن له في الهجرة فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه و سلم الى المدينة توفي مطعم بن عدي بعده بيسير فقال حسان بن ثابت والله لأرثينه فقال فيما قال ... فلو كان مجد مخلد اليوم واحد ... من الناس نحي مجده اليوم مطعما ... أجرت رسول الله منهم فأصبحوا ... عبادك ما لبى محل وأحرما ... فلو سئلت عنه معد بأسرها ... وقحطان أو باقي بقية جرهما ... لقالوا هو الموفي بخفرة جاره ... وذمته يوما إذا ما تجشما ... وما تطلع الشمس المنيرة فوقهم ... على مثله فيهم أعز وأكرما ... إباء إذا يأبى وألين شيمة ... وأنوم عن جار اذا الليل أظلما ...
قلت ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم يوم أسارني بدر لو كان المطعم بن عدي حيا ثم سألني في هؤلاء النقباء لوهبتهم له فصل
في عرض رسول الله صلى الله عليه و سلم نفسه الكريمة على احياء العرب
قال ابن اسحاق ثم قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه إلا قليلا مستضعفين ممن آمن به فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعرض نفسه في المواسم اذا كانت على قبائل العرب يدعوهم الى الله عز و جل ويخبرهم أنه نبي مرسل ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين عن الله ما بعثه به
قال ابن اسحاق فحدثني من أصحابنا من لا أتهم عن زيد بن اسلم عن ربيعة بن عباد الدؤلي ومن حدثه أبو الزناد عنه وحدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس قال سمعت ربيعة ابن عباد يحدثه أبي قال إني لغلام شاب مع أبي بمنى ورسول الله صلى الله عليه و سلم يقف على منازل القبائل من العرب فيقول يا بني فلان إني رسول الله اليكم آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الانداد وأن تؤمنوا بي وتصدقوا بي وتمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به قال وخلفه رجل أحول وضيء له غديرتان عليه حلة عدنية فاذا فرغ رسول الله صلى الله عليه و سلم من قوله وما دعا اليه قال ذلك الرجل يا بني فلان إن هذا أنما يدعوكم الى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقيش الى ما جاء به من البدعة والضلالة (3/138)
فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه قال فقلت لابي يا أبت من هذا الرجل الذي يتبعه ويرد عليه ما يقول قال هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب أبو لهب وقد روى الامام احمد هذا الحديث عن ابراهيم بن أبي العباس حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه أخبرني رجل يقال له ربيعة بن عباد من بني الدئل وكان جاهليا فاسلم قال رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا والناس مجتمعون عليه ووراءه رجل وضيء الوجه أحول ذو غديرتين يقول إنه صابئ كاذب يتبعه حيث ذهب فسألت عنه فقالوا هذا عمه أبو لهب ورواه البيهقي من طريق محمد بن عبد الله الانصاري عن محمد بن عمرو عن محمد بن المنكدر عن ربيعة الدئلي رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم بسوق ذي المجاز يتبع الناس في منازلهم يدعوهم الى الله ووراءه رجل أحول تقد وجنتاه وهو يقول أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم ودين آبائكم قلت من هذا قالوا هذا أبو لهب وكذا رواه أبو نعيم في الدلائل من طريق ابن أبي ذئب وسعيد ابن سلمة بن أبي الحسام كلاهما عن محمد بن المنكدر به نحوه ثم رواه البيهقي من طريق شعبة عن الأشعث بن سليم عن رجل من كنانة قال رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم بسوق ذي المجاز وهو يقول يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا واذا رجل خلفه يسفي عليه التراب فاذا هو أبو جهل وهو يقول يا أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم فإنما يريد أن تتركوا عبادة اللات والعزى كذا قال في هذا السياق أبو جهل وقد يكون وهما ويحتمل أن يكون تارة يكون ذا وتارة يكون ذا وأنهما كانا يتناوبان على اذائه صلى الله عليه و سلم
قال ابن اسحاق وحدثني ابن شهاب الزهري أنه عليه السلام أتى كندة في منازلهم وفيهم سيد لهم يقال له مليح فدعاهم الى الله عز و جل وعرض عليهم نفسه فأبوا عليه قال ابن اسحاق وحدثني محمد بن عبد الرحمن بن حصين أنه أتى كلبا في منازلهم الى بطن منهم يقال لهم بنو عبد الله فدعاهم الى الله وعرض عليهم نفسه حتى إنه ليقول يا بني عبد الله إن الله قد أحسن اسم أبيكم فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم وحدثني بعض أصحابنا عن عبد الله بن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أتى بني حنيفة في منازلهم فدعاهم الى الله وعرض عليهم نفسه فلم يك أحد من العرب اقبح ردا عليه منهم وحدثني الزهري أنه أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه فقال له رجل منهم يقال له بحيرة بن فراس والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب ثم قال له أرأيت إن نحن تابعناك في أمرك ثم أظهرك الله على من يخالفك أيكون لنا الأمر من بعدك قال الامر لله يضعه حيث يشاء قال فقال له أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا (3/139)
أظهرك الله كان الأمر لغيرنا لا حاجة لنا بأمرك فابوا عليه فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم كان أدركه السن حتى لا يقدر أن يوافي معهم المواسم فكانوا إذا رجعوا اليه حدثوه بما يكون في ذلك الموسم فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان في موسمهم فقالوا جاءنا فتى من قريش ثم أحد بني عبد المطلب يزعم أنه نبي يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا قال فوضع الشيخ يده على رأسه ثم قال يا بني عامر هل لها من تلاف هل لذناباها من مطلب والذي نفس فلان بيده ما تقولها اسماعيلي قط وإنها لحق فأين رأيكم كان عنكم
وقال موسى بن عقبة عن الزهري فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم في تلك السنين يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم ويكلم كل شريف قوم لا يسألهم مع ذلك إلا أن يؤوه ويمنعوه ويقول لا أكره أحدا منكم على شيء من رضي منكم بالذي أدعوه اليه فذلك ومن كره لم أكرهه إنما أريد ان تحرزوني فيما يراد لي من القتل حتى أبلغ رسالة ربي وحتى يقضي الله لي ولمن صحبني بما شاء فلم يقبله أحد منهم وما يأت أحدا من تلك القبائل إلا قال قوم الرجل أعلم به أترون أن رجلا يصلحنا وقد أفسد قومه ولفظوه وكان ذلك مما ذخره الله للأنصار وأكرمهم به
وقد روى الحافظ أبو نعيم من طريق عبد الله بن الاجلح ويحيى بن سعيد الاموي كلاهما عن محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن العباس قال قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم لا أرى لي عندك ولا عند أخيك منعة فهل أنت مخرجي إلى السوق غدا حتى نقر في منازل قبائل الناس وكانت مجمع العرب قال فقلت هذه كندة ولفها وهي أفضل من يحج البيت من اليمن وهذه منازل بكر بن وائل وهذه منازل بني عامر بن صعصعة فاختر لنفسك قال فبدأ بكندة فأتاهم فقال ممن القوم قالوا من أهل اليمن قال من أي اليمن قالوا من كندة قال من أي كندة قالوا من بني عمرو بن معاوية قال فهل لكم إلى خير قالوا وما هو قال تشهدون أن لا إله إلا الله وتقيمون الصلاة وتؤمنون بما جاء من عند الله قال عبد الله بن الاجلح وحدثني أبي عن اشياخ قومه أن كندة قالت له إن ظفرت تجعل لنا الملك من بعدك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الملك لله يجعله حيث يشاء فقالوا لا حاجة لنا فيما جئتنا به وقال الكلبي فقالوا أجئتنا لتصدنا عن آلهتنا وننابذ العرب الحق بقومك فلا حاجة لنا بك فانصرف من عندهم فأتى بكر بن وائل فقال ممن القوم قالوا من بكر بن وائل فقال من أي بكر بن وائل قالوا من بني قيس بن ثعلبة قال كيف العدد قالوا كثير مثل الثرى قال فكيف المنعة قالوا لا منعة جاورنا فارس فنحن لا نمتنع منهم ولا نجير عليهم قال فتجعلون لله عليكم إن هو أبقاكم حتى تنزلوا منازلهم وتستنكحوا نساءهم وتستعبدوا أبناءهم أن تسبحوا الله ثلاثا وثلاثين وتحمدوه ثلاثا وثلاثين وتكبروه أربعا (3/140)
وثلاثين قالوا ومن أنت قال أنا رسول الله ثم انطلق فلما ولى عنهم قال الكلبي وكان عمه أبو لهب يتبعه فيقول للناس لا تقبلوا قوله ثم مر أبو لهب فقالوا هل تعرف هذا الرجل قال نعم هذا في الذروة منا فعن أي شأنه تسألون فأخبروه بما دعاهم اليه وقالوا زعم أنه رسول الله قال ألا لا ترفعوا برأسه قولا فانه مجنون يهذي من أم رأسه قالوا قد رأينا ذلك حين ذكر من أمر فارس ما ذكر
قال الكلبي فاخبرني عبد الرحمن المعايري عن اشياخ من قومه قالوا اتانا رسول الله صلى الله عليه و سلم ونحن بسوق عكاظ فقال ممن القوم قلنا من بني عامر بن صعصعة قال من أي بني عامر بن صعصعة قالوا بنو كعب بن ربيعة قال كيف المنعة قلنا لا يرام ما قبلنا ولايسطلى بنارنا قال فقال لهم إني رسول الله وآتيكم لتمنعوني حتى أبلغ رسالة ربي ولا اكره أحدا منكم على شيء قالوا ومن أي قريش أنت قال من بني عبد المطلب قالوا فأين أنت من عبد مناف قال هم أول من كذبني وطردني قالوا ولكنا لا نطردك ولا نؤمن بك وسنمنعك حتى تبلغ رسالة ربك قال فنزل اليهم والقوم يتسوقون اذ أتاهم بحيرة بن فراس القشيري فقال من هذا الرجل أراه عندكم أنكره قالوا محمد بن عبد الله القرشي قال فما لكم وله قالوا زعم لنا أنه رسول الله صلى الله عليه و سلم فطلب الينا أن نمنعه حتى يبلغ رسالة ربه قال ماذا رددتم عليه قالوا بالترحيب والسعة نخرجك الى بلادنا ونمنعك ما نمنع به أنفسنا قال بحيرة ما أعلم أحدا من أهل هذه السوق يرجع بشيء أشد من شيء ترجعون به بدءا ثم لتنابذوا الناس وترميكم العرب عن قوس واحدة قومه أعلم به لو آنسوا منه خيرا لكانوا أسعد الناس به أتعمدون الى زهيق قد طرده قومه وكذبوه فتؤوونه وتنصرونه فبئس الرأي رأيتم ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال قم فالحق بقومك فوالله لولا أنك عند قومي لضربت عنقك قال فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم الى ناقته فركبها فغمر الخبيث بحيرة شاكلتها فقمصت برسول الله صلى الله عليه و سلم فالقته وعند بني عامر يومئذ ضباعة ابنة عامر بن قرط كانت من النسوة اللاتي أسلمن مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة جاءت زائرة الى بني عمها فقالت يا آل عامر ولا عامر لي أيصنع هذا برسول الله بين أظهركم لا يمنعه أحد منكم فقام ثلاثة من بني عمها الى بحيرة واثنين اعاناه فاخذ كل رجل منهم رجلا فجلد به الارض ثم جلس على صدره ثم علوا وجوههم لطما فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم اللهم بارك على هؤلاء والعن هؤلاء قال فأسلم الثلاثة الذين نصروه وقتلوا شهداء وهم غطيف وغطفان ابنا سهل وعروة أو عذرة بن عبد الله بن سلمة رضي الله عنهم وقد روى هذا الحديث بتمامه الحافظ سعيد بن يحيى بن سعيد الاموي في مغازيه عن أبيه به وهلك الآخرون وهم بحيرة بن فراس وحزن بن عبد الله بن سلمة بن قشير ومعاوية بن عبادة أحد بني عقيل (3/141)
لعنهم الله لعنا كثيرا وهذا أثر غريب كتبناه لغرابته والله أعلم
وقد روى أبو نعيم له شاهدا من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة عامر بن صعصعة وقبيح ردهم عليه وأغرب من ذلك وأطول ما رواه ابو نعيم والحاكم والبيهقي والسياق لابي نعيم رحمهم الله من حديث ابان بن عبد الله البجلي عن ابان بن تغلب عن عكرمة عن ابن عباس حدثني علي بن أبي طالب قال لما أمر الله رسوله أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه وأبو بكر إلى منى حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب فتقدم أبو بكر رضي الله عنه فسلم وكان أبو بكر مقدما في كل خير وكان رجلا نسابة فقال ممن القوم قالوا من ربيعة قال وأي ربيعة أنتم أمن هامها أم من لهازمها قالوا بل من هامها العظمى قال أبو بكر فمن أي هامتها العظمى فقال ذهل الاكبر قال لهم أبو بكر منكم عوف الذي كان يقال لاحر بوادي عوف قالوا لا قال فمنكم بسطام بن قيس أبو اللواء ومنتهى الاحياء قالوا لا قال فمنكم الحوفزان بن شريك قاتل الملوك وسالبها أنفسها قالوا لا قال فمنكم جساس بن مرة بن ذهل حامي الذمار ومانع الجار قالوا لا قال فمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة قالوا لا قال فانتم اخوال الملوك من كندة قالوا لا قال فأنتم اصهار الملوك من لخم قالوا لا قال لهم أبو بكر رضي الله عنه فلستم بذهل الاكبر بل أنتم ذهل الاصغر قال فوثب اليه منهم غلام يدعى دغفل بن حنظلة الذهلي حين بقل وجهه فأخذ بزمام ناقة أبي بكر وهو يقول ... إن على سائلنا أن نسأله ... والعبء لا نعرفه أو نحمله ...
يا هذا إنك سألتنا فأخبرناك ولم نكتمك شيئا ونحن نريد أن نسألك فمن أنت قال رجل من قريش فقال الغلام بخ بخ أهل السؤدد والرئاسة قادمة العرب وهاديها فمن أنت من قريش فقال له رجل من بني تيم بن مرة فقال له الغلام أمكنت والله الرامي من سواء الثغرة أفمنكم قصي بن كلاب الذي قتل بمكة المتغلبين عليها واجلى بقيتهم وجمع قومه من كل أوب حتى أوطنهم مكة ثم استولى على الدار وأنزل قريشا منازلها فسمته العرب بذلك مجمعا وفيه يقول الشاعر ... أليس أبوكم كان يدعى مجمعا ... به جمع الله القبائل من فهر ...
فقال أبو بكر لا قال فمنكم عبد مناف الذي انتهت اليه الوصايا وابو الغطاريف السادة فقال أبو بكر لا قال فمنكم عمرو بن عبد مناف هاشم الذي هشم الثريد لقومه ولأهل مكة ففيه يقول الشاعر
... عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف ... سنوا اليه الرحلتين كليهما ... عند الشتاء ورحلة الأصياف (3/142)
كانت قريش بيضة فتفلقت ... فالمح خالصة لعبد مناف ... الرايشين وليس يعرف رايش ... والقائلين هلم للأضياف ... والضاربين الكبش يبرق بيضه ... والمانعين البيض بالأسياف ... لله درك لو نزلت بدارهم ... منعوك من أزل ومن إقراف ...
فقال أبو بكر لا قال فمنكم عبد المطلب شيبة الحمد وصاحب عير مكة ومطعم طير السماء والوحوش والسباع في الفلا الذي كأن وجهه قمر يتلألأ في الليلة الظلماء قال لا قال أفمن أهل الافاضة أنت قال لا قال أفمن أهل الحجابة أنت قال لا قال أفمن أهل الندوة أنت قال لا قال أفمن أهل السقاية أنت قال لا قال أفمن أهل الرفادة أنت قال لا قال فمن المفيضين أنت قال لا ثم جذب أبو بكر رضي الله عنه زمام ناقته من يده فقال له الغلام
... صادف در السيل در يدفعه ... يهيضه حينا وحينا يرفعه ... ثم قال أما والله يا أخا قريش لو ثبت لخبرتك أنك من زمعات قريش ولست من الذوائب قال فأقبل الينا رسول الله صلى الله عليه و سلم يتبسم قال علي فقلت له يا أبا بكر لقد وقعت من الاعرابي على باقعة فقال أجل يا أبا الحسن إنه ليس من طامة إلا وفوقها طامة والبلاء موكل بالقول قال ثم انتهينا إلى مجلس عليه السكينة والوقار واذا مشايخ لهم اقدار وهيئات فتقدم أبو بكر فسلم قال علي وكان أبو بكر مقدما في كل خير فقال لهم أبو بكر ممن القوم قالوا من بني شيبان بن ثعلبة فالتفت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال بأبي أنت وأمي ليس بعد هؤلاء من عز في قومهم وفي رواية ليس وراء هؤلاء عذر من قومهم وهؤلاء غرر في قومهم وهؤلاء غرر الناس وكان في القوم مفروق ابن عمرو وهانئ بن قبيصة والمثنى بن حارثة والنعمان بن شريك وكان أقرب القوم إلى أبي بكر مفروق بن عمرو وكان مفروق بن عمرو قد غلب عليهم بيانا ولسانا وكانت له غديرتان تسقطان على صدره فكان أدنى القوم مجلسا من أبي بكر فقال له أبو بكر كيف العدد فيكم فقال له إنا لنزيد على الف ولن تغلب الف من قلة فقال له فكيف المنعة فيكم فقال علينا الجهد ولكل قوم جد فقال أبو بكر فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم فقال مفروق إنا أشد ما نكون لقاء حين نغضب وإنا لنؤثر الجياد على الاولاد والسلاح على اللقاح والنصر من عند الله يديلنا مرة ويديل علينا لعلك أخو قريش فقال أبو بكر إن كان بلغكم أنه رسول الله فها هو هذا فقال مفروق قد بلغنا أنه يذكر ذلك ثم التفت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فجلس وقام أبو بكر يظله بثوبه (3/143)
فقال صلى الله عليه و سلم أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأني رسول الله وأن تؤووني وتنصروني حتى أؤدي عن الله الذي أمرني به فان قريشا قد تظاهرت على أمر الله وكذبت رسوله واستغنت بالباطل عن الحق والله هو الغني الحميد قال له وإلى ما تدعو أيضا يا أخا قريش فتلا رسول الله صلى الله عليه و سلم قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين احسانا إلى قوله وذلك وصاكم به لعلكم تتقون فقال له مفروق وإلى ما تدعو أيضا يا أخا قريش فوالله ما هذا من كلام أهل الارض ولو كان من كلامهم لعرفناه فتلا رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون فقال له مفروق دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الاعمال ولقد افك قوم كذبوك وظاهروا عليك وكأنه أحب أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة فقال وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا فقال له هانئ قد سمعت مقالتك يا أخا قريش وصدقت قولك وإني أرى أن تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك لمجلس جلسته الينا ليس له اول ولا آخر لم نتفكر في أمرك وننظر في عاقبة ما تدعو اليه زلة في الرأي وطيشة في العقل وقلة نظر في العاقبة وإنما تكون الزلة مع العجلة وإن من ورائنا قوما نكره أن نعقد عليهم عقدا ولكن ترجع ونرجع وتنظر وننظر وكأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثة فقال وهذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا فقال المثنى قد سمعت مقالتك واستحسنت قولك يا أخا قريش وأعجبني ما تكلمت به والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة وتركنا ديننا واتباعنا إياك لمجلس جلسته الينا وإنا إنما نزلنا بين صريين أحدهما اليمامة والآخر السماوة فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم وما هذان الصريان فقال له أما أحدهما فطفوف البر وأرض العرب واما الآخر فارض فارس وأنهار كسرى وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن لا نحدث حدثا ولا نؤوى محدثا ولعل هذا الأمر الذي تدعونا اليه مما تكرهه الملوك فاما ما كان مما يلي بلاد العرب فذنب صاحبه مغفور وعذره مقبول وأما ما كان يلي بلاد فارس فذنب صاحبه غير مغفور وعذره غير مقبول فان أردت أن ننصرك ونمنعك مما يلي العرب فعلنا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما أسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق إنه لا يقوم بدين الله الا من حاطه من جميع جوانبه ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أرأيتم ان لم تلبثوا الا يسيرا حتى يمنحكم الله بلادهم وأموالهم ويفرشكم بناتهم أتسبحون الله وتقدسونه فقال له النعمان ابن شريك اللهم وإن ذلك لك يا أخا قريش فتلا رسول الله صلى الله عليه و سلم إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا الى الله بإذنه وسراجا منيرا ثم نهض رسول الله صلى الله عليه و سلم قابضا على يدي أبي بكر قال (3/144)
علي ثم التفت الينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا علي أية أخلاق للعرب كانت في الجاهلية ما أشرفها بها يتحاجزون في الحياة الدنيا قال ثم دفعنا الى مجلس الأوس والخزرج فما نهضنا حتى بايعوا النبي صلى الله عليه و سلم قال علي وكانوا صدقاء صبراء فسر رسول الله صلى الله عليه و سلم من معرفة أبي بكر رضي الله عنه بانسابهم قال فلم يلبث رسول الله صلى الله عليه و سلم الا يسيرا حتى خرج الى أصحابه فقال لهم احمدوا الله كثيرا فقد ظفرت اليوم أبناء ربيعة بأهل فارس قتلوا ملوكهم واستباحوا عسكرهم وبي نصروا قال وكانت الوقعة بقراقر الى جنب ذي قار وفيها يقول الاعشى ... فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي ... وراكبها عند اللقاء وقلت ... هموا ضربوا بالحنو حنو قراقر ... مقدمة الهامرز حتى تولت ... فلله عينا من رأى من فوارس ... كذهل بن شيبان بها حين ولت ... فثاروا وثرنا والمودة بيننا ... وكانت علينا غمرة فتجلت ...
هذا حديث غريب جدا كتبناه لما فيه من دلائل النبوة ومحاسن الاخلاق ومكارم الشيم وفصاحة العرب وقد ورد هذا من طريق أخرى وفيه أنهم لما تحاربوا هم وفارس والتقوا معهم بقراقر مكان قريب من الفرات جعلوا شعارهم اسم محمد صلى الله عليه و سلم فنصروا على فارس بذلك وقد دخلوا بعد ذلك في الاسلام
وقال الواقدي أخبرنا عبد الله بن وابصة العبسي عن أبيه عن جده قال جاءنا رسول الله صلى الله عليه و سلم في منازلنا بمنى ونحن نازلون بازاء الجمرة الاولى التي تلي مسجد الخيف وهو على راحلته مردفا خلفه زيد بن حارثة فدعانا فوالله ما استجبنا له ولا خير لنا قال وقد كنا سمعنا به وبدعائه في المواسم فوقف علينا يدعونا فلم نستجب له وكان معنا ميسرة بن مسروق العبسي فقال لنا أحلف بالله لو قد صدقنا هذا الرجل وحملناه حتى نحل به وسط بلادنا لكان الرأي فأحلف بالله ليظهرن أمره حتى يبلغ كل مبلغ فقال القوم دعنا منك لا تعرضنا لما لا قبل لنا به وطمع رسول الله صلى الله عليه و سلم في ميسرة فكلمه فقال ميسرة ما أحسن كلامك وأنوره ولكن قومي يخالفونني وإنما الرجل بقومه فإذا لم يعضدوه فالعدى أبعد فانصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم وخرج القوم صادرين الى أهليهم (3/145)
فقال لهم ميسرة ميلوا نأتي فدك فان بها يهودا نسائلهم عن هذا الرجل فمالوا إلى يهود فاخرجوا سفرا لهم فوضعوه ثم درسوا ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم النبي الأمي العربي يركب الحمار ويجتزي بالكسرة ليس بالطويل ولا بالقصير ولا بالجعد ولا بالسبط في عينيه حمرة مشرق اللون فان كان هو الذي دعاكم فاجيبوه وادخلوا في دينه فانا نحسده ولا نتبعه وإنا [ منه ] في مواطن بلاء عظيم ولا يبقى أحد من العرب الا اتبعه والا قاتله فكونوا ممن يتبعه فقال ميسرة يا قوم ألا [ إن ] هذا الأمر بين فقال القوم نرجع الى الموسم ونلقاه فرجعوا الى بلادهم وأبى ذلك عليهم رجالهم فلم يتبعه أحد منهم فلما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة مهاجرا وحج حجة الوداع لقاه ميسرة فعرفه فقال يا رسول الله والله ما زلت حريصا على اتباعك من يوم أنخت بنا حتى كان ما كان وأبىالله الا ما ترى من تأخر اسلامي وقد مات عامة النفر الذين كانوا معي فأين مدخلهم يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم كل من مات على غير دين الاسلام فهو في النار فقال الحمد لله الذي أنقذني فأسلم وحسن إسلامه وكان له عند أبي بكر مكان وقد استقصى الامام محمد بن عمر الواقدي فقص [ خبر ] القبائل واحدة واحدة فذكر عرضه عليه السلام نفسه على بني عامر وغسان وبني فزارة وبني مرة وبني حنيفة وبني سليم وبني عبس وبني نضر بن هوازن وبني ثعلبة بن عكابة وكندة وكلب وبني الحارث بن كعب وبني عذرة وقيس بن الحطيم وغيرهم وسياق أخبارها مطولة وقد ذكرنا من ذلك طرفا صالحا ولله الحمد والمنة
وقال الامام احمد حدثنا أسود بن عامر أنا اسرائيل عن عثمان يعني ابن المغيرة عن سالم ابن أبي الجعد عن جابر بن عبد الله قال كان النبي صلى الله عليه و سلم يعرض نفسه على الناس بالموقف فيقول هل من رجل يحملني الى قومه فان قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي عز و جل فأتاه رجل من همدان فقال ممن أنت قال الرجل من همدان قال فهل عند قومك من منعة قال نعم ثم إن الرجل خشي أن يخفره قومه فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال آتيهم فأخبرهم ثم آتيك من عام قابل قال نعم فانطلق وجاء وفد الانصار في رجب وقد رواه أهل السنن الأربعة من طرق عن اسرائيل به وقال الترمذي حسن صحيح (3/146)
فصل
قدوم وفد الانصار عاما بعد عام حتى بايعو رسول الله صلى الله عليه و سلم بيعة بعد بيعة ثم بعد ذلك تحول اليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم الى المدينة
حديث سويد بن صامت الانصاري
وهو سويد بن الصامت بن عطية بن حوط بن حبيب بن عمرو بن عوف بن مالك بن الاوس وأمه ليلى بنت عمرو النجارية أخت سلمى بنت عمرو أم عبد المطلب بن هاشم فسويد هذا ابن خالة عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال محمد بن اسحاق بن يسار وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم على ذلك من أمره كلما اجتمع الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى الله وإلى الاسلام ويعرض عليهم نفسه وما جاء به من الهدى والرحمة ولا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب له اسم وشرف إلا تصدى له ودعاه إلى الله تعالى وعرض عليه ما عنده قال ابن اسحاق حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ من قومه قالوا قدم سويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجا أو معتمرا وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل لجلده وشعره وشرفه ونسبه وهو الذي يقول ... ألا رب من تدعو صديقا ولو ترى ... مقالته بالغيب ساءك ما يفري ... مقالته كالشهد ما كان شاهدا ... وبالغيب مأثور على ثغرة النحر ... يسرك باديه وتحت أديمه ... تميمة غش تبتري عقب الظهر ... تبين لك العينان ما هو كاتم ... من الغل والبغضاء بالنظر الشزر ... فرشي بخير طالما قد بريتني ... وخير الموالي من يريش ولا يبري ...
قال فتصدى له رسول الله صلى الله عليه و سلم حين سمع به فدعاه إلى الله والاسلام فقال له سويد فلعل الذي معك مثل الذي معي فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم وما الذي معك قال مجلة لقمان يعني حكمة لقمان فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أعرضها علي فعرضها عليه فقال إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل من هذا قرآن أنزله الله علي هو هدى ونور فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم القرآن ودعاه إلى الاسلام فلم يبعد منه وقال إن هذا القول حسن ثم انصرف عنه فقدم المدينة على قومه فلم يلبث أن قتله الخزرج فان كان رجال من قومه ليقولون إنا لنراه قتل وهو مسلم وكان قتله قبل (3/147)
بعاث وقد رواه البيهقي عن الحاكم عن الاصم عن احمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير عن ابن اسحاق بأخصر من هذا
اسلام إياس بن معاذ
قال ابن اسحاق وحدثني الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ عن محمود بن لبيد قال لما قدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج سمع بهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فأتاهم فجلس اليهم فقال هل لكم في خير مما جئتم له قال قالوا وما ذاك قال انا رسول الله الى العباد أدعوهم الى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا وأنزل علي الكتاب ثم ذكر لهم الاسلام وتلا عليهم القرآن قال فقال اياس بن معاذ وكان غلاما حدثا يا قوم هذا والله خير مما جئتم له فأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع حفنة من تراب البطحاء فضرب بها وجه اياس بن معاذ وقال دعنا منك فلعمري لقد جئنا لغير هذا قال فصمت اياس وقام رسول الله صلى الله عليه و سلم عنهم وانصرفوا الى المدينة وكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج قال ثم لم يلبث اياس بن معاذ أن هلك قال محمود بن لبيد فاخبرني من حضرني من قومه أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات فما كانوا يشكون أنه قد مات مسلما لقد كان استشعر الاسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول الله صلى الله عليه و سلم ما سمع
قلت كان يوم بعاث وبعاث موضع بالمدينة كانت فيه وقعة عظيمة قتل فيها خلق من أشراف الاوس والخزرج وكبرائهم ولم يبق من شيوخهم إلا القليل وقد روى البخاري في صحيحه عن عبيد بن اسماعيل عن أبي أمامة عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت كان يوم بعاث يوما قدمه الله لرسوله قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة وقد افترق ملاؤهم وقتل سراتهم باب بدء اسلام الانصار رضي الله عنهم
قال ابن اسحاق فلما أراد الله اظهار دينه واعزاز نبيه وانجاز موعده له خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الانصار فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم فبينا هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ من قومه قالوا لما لقيهم رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لهم من أنتم قالوا نفر من الخزرج قال أمن موالي يهود قالوا نعم قال افلا تجلسون أكلمكم قالوا بلى فجلسوا معه فدعاهم (3/148)
إلى الله وعرض عليهم الاسلام وتلا عليهم القرآن قال وكان مما صنع الله بهم في الاسلام أن يهود كانوا معهم في بلادهم وكانوا أهل كتاب وعلم وكانوا هم أهل شرك اصحاب أوثان وكانوا قد غزوهم ببلادهم فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا إن نبيا مبعوث الآن قد أظل زمانه نتبعه نقتلكم معه قتل عاد وإرم فلما كلم رسول الله صلى الله عليه و سلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض يا قوم تعلمون والله إنه النبي الذي توعدكم به يهود فلا يسبقنكم اليه فاجابوه فيما دعاهم اليه بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الاسلام وقالوا له إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم وعسى أن يجمعهم الله بك فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ونعرض عليم الذي أجبناك إليه من هذا الدين فان يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم قد آمنوا وصدقوا
قال ابن اسحاق وهم فيما ذكر لي ستة نفر كلهم من الخزرج وهم أبو امامة أسعد بن زرارة بن عدس بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار قال أبو نعيم وقد قيل إنه أول من أسلم من الانصار من الخزرج ومن الأوس أبو الهيثم بن التيهان وقيل إن أول من اسلم رافع بن مالك ومعاذ بن عفراء والله أعلم وعوف بن الحارث بن رفاعة بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار وهو ابن عفراء النجاريان ورافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن زريق الزرقي وقطبة ابن عامر بن حديدة بن عمرو بن غنم بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي بن أسد ابن ساردة بن تزيد بن جشم بن الخزرج السلمي ثم من بني سواد وعقبة بن عامر بن نابي بن زيد ابن حرام بن كعب بن سلمة السلمي أيضا ثم من بني حرام وجابر بن عبد الله بن رئاب بن النعمان ابن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة السلمي أيضا ثم من بني عبيد رضي الله عنهم وهكذا روي عن الشعبي والزهري وغيرهما أنهم كانوا ليلتئذ ستة نفر من الخزرج
وذكر موسى بن عقبة فيما رواه عن الزهري وعروة بن الزبير أن أول اجتماعه عليه السلام بهم كانوا ثمانية وهم معاذ بن عفراء وأسعد بن زرارة ورافع بن مالك وذكوان وهو ابن عبد قيس وعبادة بن الصامت وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة وأبو الهيثم بن التيهان وعويم بن ساعدة فأسلموا وواعدوه الى قابل فرجعوا إلى قومهم فدعوهم إلى الاسلام وأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم معاذ بن عفراء ورافع بن مالك أن ابعث الينا رجلا يفقهنا فبعث اليهم مصعب بن عمير فنزل على أسعد بن زرارة وذكر تمام القصة كما سيوردها ابن اسحاق أتم من سياق موسى بن عقبة والله أعلم (3/149)
قال ابن اسحاق فلما قدموا المدينة الى قومهم ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ودعوهم الى الاسلام حتى فشا فيهم فلم يبق دار من دور الانصار الا وفيها ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى اذا كان العام المقبل وافى الموسم من الانصار اثنى عشر رجلا وهم أبو امامة أسعد بن زرارة المتقدم ذكره وعوف بن الحارث المتقدم وأخوه معاذ وهما ابنا عفراء ورافع بن مالك المتقدم ايضا وذكوان ابن عبد قيس بن خلدة بن مخلد بن عامر بن زريق الزرقي قال ابن هشام وهو انصاري مهاجري وعبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهر بن ثعلبة بن غنم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج وحليفهم أبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم البلوى والعباس بن عبادة بن نضلة بن مالك بن العجلان بن يزيد بن غنم بن سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج العجلاني وعقبة بن عامر بن نابي المتقدم وقطبة بن عامر بن حديدة المتقدم فهؤلاء عشرة من الخزرج ومن الاوس اثنان وهما عويم بن ساعدة وأبو الهيثم مالك بن التيهان قال ابن هشام التيهان يخفف ويثقل كميت وميت
قال السهيلي أبو الهيثم بن التيهان اسمه مالك بن مالك بن عتيك بن عمرو بن عبد الاعلم بن عامر بن زعون بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الاوس قال وقيل إنه أراشي وقيل بلوي وهذا لم ينسبه ابن اسحاق ولا ابن هشام قال والهيثم فرخ العقاب وضرب من النبات والمقصود أن هؤلاء الاثني عشر رجلا شهدوا الموسم عامئذ وعزموا على الاجتماع برسول الله صلى الله عليه و سلم فلقوه بالعقبة فبايعوه عندها بيعة النساء وهي العقبة الاولى وروى أبو نعيم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأ عليهم من قوله في سورة ابراهيم وإذ قال ابراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا إلى آخرها وقال ابن اسحاق حدثني يزيد بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله اليزني عن عبد الرحمن ابن عسيلة الصنابحي عن عبادة وهو ابن الصامت قال كنت ممن حضر العقبة الاولى وكنا اثني عشر رجلا فبايعنا رسول الله صلى الله عليه و سلم على بيعة النساء وذلك قبل أن يفترض الحرب على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف فان وفيتم فلكم الجنة وإن غشيتم من ذلك شيئا فأمركم إلى الله إن شاء عذب وإن شاء غفر وقد روى البخاري ومسلم هذا الحديث من طريق الليث بن سعد عن يزيد ابن أبي حبيب به نحوه
قال ابن اسحاق وذكر ابن شهاب الزهري عن عائذ الله أبي إدريس الخولاني أن عبادة بن الصامت حدثه قال بايعنا رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة العقبة الأولى أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف فإن (3/150)
وفيتم فلكم الجنة وإن غشيتم من ذلك شيئا فأخذتم بحده في الدنيا فهو كفارة له وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله إن شاء عذب وإن شاء غفر وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وغيرهما من طرق عن الزهري به نحوه وقوله على بيعة النساء يعني وفق على ما نزلت عليه بيعة النساء بعد ذلك عام الحديبية وكان هذا مما نزل على وفق ما بايع عليه أصحابه ليلة العقبة وليس هذا عجيب فان القرآن نزل بموافقة عمر بن الخطاب في غير ما موطن كما بيناه في سيرته وفي التفسير وإن كانت هذه البيعة وقعت عن وحي غير متلو فهو أظهر والله أعلم
قال ابن اسحاق فلما انصرف عنه القوم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الاسلام ويفقههم في الدين وقد روى البيهقي عن ابن اسحاق قال فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما بعث مصعبا حين كتبوا اليه أن يبعثه اليهم وهو الذي ذكره موسى بن عقبة كما تقدم إلا أنه جعل المرة الثانية هي الاولى
قال البيهقي وسياق ابن اسحاق أتم وقال ابن اسحاق فكان عبد الله بن أبي بكر يقول لا أدري ما العقبة الاولى ثم يقول ابن اسحاق بلى لعمري قد كانت عقبة وعقبة قالوا كلهم فنزل مصعب على أسعد بن زرارة فكان يسمى بالمدينة المقرئ قال ابن اسحاق فحدثني عاصم ابن عمر بن قتادة أنه كان يصلي بهم وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض رضي الله عنهم أجمعين
قال ابن اسحاق وحدثني محمد بن أبي امامة بن سهل بن حنيف عن أبيه عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال كنت قائد أبي حين ذهب بصره فكنت إذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الاذان بها صلى على أبي أمامة أسعد بن زرارة قال فمكث حينا على ذلك لا يسمع لأذان الجمعة إلا صلى عليه واستغفر له قال فقلت في نفسي والله إن هذا بي لعجز ألا أسأله فقلت يا أبت مالك إذا سمعت الاذان للجمعة صليت على أبي أمامة فقال أي بني كان أول من جمع بنا بالمدينة في هزم النبيت من حرة بني بياضة في بقيع يقال له بقيع الخضمات قال قلت وكم أنتم يومئذ قال أربعون رجلا وقد روى هذا الحديث أبو داود وابن ماجه من طريق محمد بن اسحاق رحمه الله وقد روى الدارقطني عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كتب إلى مصعب بن عمير يأمره باقامة الجمعة وفي اسناده غرابة والله أعلم (3/151)
قال ابن اسحاق وحدثني عبيد الله بن المغيرة بن معيقيب وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير يريد به دار بني عبد الاشهل ودار بني ظفر وكان سعد بن معاذ ابن خالة اسعد بن زرارة فدخل به حائطا من حوائط بني ظفر على بئر يقال له بئر مرق فجلسا في الحائط واجتمع اليهما رجال ممن أسلم وسعد بن معاذ وأسيد بن الحضير يومئذ سيدا قومهما من بني عبد الاشهل وكلاهما مشرك على دين قومه فلما سمعا به قال سعد لأسيد لا أبالك انطلق الى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما وانههما أن يأتيا دارينا فانه لولا أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدما قال فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل اليهما فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب هذا سيد قومه وقد جاءك فاصدق الله فيه قال مصعب إن يجلس أكلمه قال فوقف عليهما متشتما فقال ما جاء بكما الينا تسفهان ضعفاءنا اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة وقال موسى بن عقبة فقال له غلام أتيتنا في دارنا بهذا الرعيد الغريب الطريد ليتسفه ضعفاءنا بالباطل ويدعوهم اليه
قال ابن اسحاق فقال له مصعب أو تجلس فتسمع فان رضيت أمرا قبلته وإن كرهته كف عنك ما تكره قال أنصفت قال ثم ركز حربته وجلس اليهما فكلمه مصعب بالاسلام وقرأ عليه القرآن فقالا فيما يذكر عنهما والله لعرفنا في وجهه الاسلام قبل أن يتكلم في اشراقه وتسهله ثم قال ما أحسن هذا وأجمله كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين قالا له تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وتشهد شهادة الحق ثم قام فركع ركعتين ثم قال لهما إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله اليكما الآن سعد بن معاذ ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم فلما نظر اليه سعد بن معاذ مقبلا قال أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم فلما وقف على النادي قال له سعد ما فعلت قال كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأسا وقد نهيتهما فقالا نفعل ما أحببت وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليحقروك قال فقام سعد بن معاذ مغضبا مبادرا مخوفا للذي ذكر له من بني حارثة وأخذ الحربة في يده ثم قال والله ما أراك أغنيت شيئا ثم خرج اليهما سعد فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدا إنما أراد أن يسمع منهما فوقف متشتما ثم قال لاسعد بن زرارة والله يا ابا أمامة والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني أتغشانا في دارنا بما نكره قال وقد قال أسعد لمصعب جاءك والله سيد من ورائه قومه إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان قال فقال (3/152)
له مصعب أو تقعد فتسمع فإن رضيت أمرا رغبت فيه قبلته وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره قال سعد أنصفت ثم ركز الحربة وجلس فعرض عليه الاسلام وقرأ عليه القرآن وذكر موسى بن عقبة أنه قرأ عليه أول الزخرف قال فعرفنا والله في وجهه الاسلام قبل أن يتكلم في اشراقه وتسهله ثم قال لهما كيف تصنعون إذا أنتم اسلمتم ودخلتم في هذا الدين قالا تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين قال فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وشهد شهادة الحق ثم ركع ركعتين ثم أخذ حربته فاقبل عائدا إلى نادي قومه ومعه أسيد بن الحضير فلما رآه قومه مقبلا قالوا نحلف بالله لقد رجع اليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم فلما وقف عليهم قال يا بني عبد الاشهل كيف تعلمون أمري فيكم قالوا سيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة قال فان كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله قال فوالله ما أمسى في دار بني عبد الاشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما أو مسلمة ورجع سعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة فأقاما عنده يدعوان الناس إلى الاسلام حتى لم تبق دار من دور الانصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف وتلك أوس وهم من الاوس بن حارثة وذلك أنهم كان فيهم أبو قيس بن الاسلت واسمه صيفي وقال الزبير بن بكار اسمه الحارث وقيل عبيد الله واسم أبيه الاسلت عامر بن جشم بن وائل بن زيد بن قيس بن عامر بن مرة بن مالك بن الاوس وكذا نسبه الكلبي ايضا وكان شاعرا لهم قائدا يستمعون منه ويطيعونه فوقف بهم عن الاسلام حتى كان بعد الخندق
قلت وأبو قيس بن الاسلت هذا ذكر له ابن اسحاق أشعارا بائية حسنة تقرب من أشعار أمية بن الصلت الثقفي
قال ابن اسحاق فيما تقدم ولما انتشر أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم في العرب وبلغ البلدان ذكر بالمدينة ولم يكن حي من العرب أعلم بأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم حين ذكر وقبل أن يذكر من هذا الحي من الاوس والخزرج وذلك لما كان يسمعون من أحبار يهود فلما وقع أمره بالمدينة وتحدثوا بما بين قريش فيه من الاختلاف قال أبو قيس بن الاسلت أخو بني واقف قال السهيلي هو أبو قيس صرمة بن أبي أنس واسم أبي أنس قيس بن صرمة بن مالك بن عدي بن عمرو بن غنم بن عدي ابن النجار قال وهو الذي أنزل فيه وفي عمر أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم الآية قال ابن اسحاق وكان يحب قريشا وكان لهم صهرا كانت تحته أرنب بنت أسد بن عبد العزى بن قصي وكان يقيم عندهم السنين بامرأته قال قصيدة يعظم فيها الحرمة وينهى قريشا فيها عن الحرب ويذكر فضلهم وأحلامهم ويذكرهم بلاء الله عندهم ودفعه عنهم الفيل وكيده ويأمرهم بالكف (3/153)
عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ... أيا راكبا إما عرضت فبلغن ... مغلغلة عني لؤي بن غالب ... رسول امرئ قد راعه ذات بينكم ... على النأي محزون بذلك ناصب ... وقد كان عندي للهموم معرس ... ولم اقض منها حاجتي ومآربي ... نبيتكم شرجين كل قبيلة ... لها أزمل من بين مذك وحاطب ... أعيذكم بالله من شر صنعكم ... وشر تباغيكم ودس العقارب ... وإظهار أخلاق ونجوى سقيمة ... كوخز الأشافي وقعها حق صائب ... فذكرهم بالله أول وهلة ... واحلال إحرام الظباء الشوازب ... وقل لهم والله يحكم حكمه ... ذروا الحرب تذهب عنكم في المراجب ... متى تبعثوها تبعثوها ذميمة ... هي الغول للأقصين أو للأقارب ... تقطع أرحاما وتهلك أمة ... وتبري السديف من سنام وغارب ... وتستبدلوا بالأتحمية بعدها ... شليلا وأصداء ثياب المحارب ... وبالمسك والكافور غبرا سوابغا ... كأن قتيريها عيون الجنادب ... فإياكم والحرب لاتعلقنكم ... وحوضا وخيم الماء مر المشارب ... تزين للأقوام ثم يرونها ... بعاقبة إذ بيتت أم صاحب ... تحرق لا تشوي ضعيفا وتنتحي ... ذوي العز منكم بالحتوف الصوائب ... ألم تعلموا ما كان في حرب داحس ... فتعتبروا أو كان في حرب حاطب ... وكم ذا أصابت من شريف مسود ... طويل العماد ضيفه غير خائب ... عظيم رماد النار يحمد أمره ... وذي شيمة محض كريم المضارب ... وماء هريق في الضلال كأنما ... أذاعت به ريح الصبا والجنائب ... يخبركم عنها امرؤ حق عالم ... بأيامها والعلم علم التجارب ... فبيعوا الحراب ملمحارب واذكروا ... حسابكم والله خير محاسب ... ولي امرئ فاختار دينا فلا يكن ... عليكم رقيب غير رب الثواقب ... أقيموا لنادينا حنيفا فأنتموا ... لنا غاية قد يهتدى بالذوائب ... وأنتم لهذا الناس نور وعصمة ... تؤمون والاحلام غير عوازب (3/154)
وأنتم إذا ما حصل الناس جوهر ... لكم سرة البطحاء شم الارانب ... تصونون أنسابا كراما عتيقة ... مهذبة الأنساب غير أشائب ... يرى طالب الحاجات نحو بيوتكم ... عصائب هلكى تهتدي بعصائب ... لقد علم الاقوام أن سراتكم ... على كل حال خير أهل الجباجب ... وأفضله رأيا وأعلاه سنة ... وأقوله للحق وسط المواكب ... فقوموا فضلوا ربكم وتمسحوا ... بأركان هذا البيت بين الأخاشب ... فعندكم منه بلاء ومصدق ... غداة أبي يكسوم هادي الكتائب ... كتيبته بالسهل تمشي ورجله ... على القاذفات في رءوس المناقب ... فلما أتاكم نصر ذي العرش ردهم ... جنود المليك بين ساف وحاصب ... فولوا سراعا هاربين ولم يؤب ... إلى أهله ملحبش غير عصائب ... فان تهلكوا نهلك وتهلك مواسم ... يعاش بها قول امرئ غير كاذب ...
وحرب داحس الذي ذكرها أبو قيس في شعره كانت في زمن الجاهلية مشهورة وكان سببها فيما ذكره أبو عبيد معمر بن المثنى وغيره أن فرسا يقال لها داحس كانت لقيس بن زهير بن جذيمة ابن رواحة الغطفاني أجراه مع فرس لحذيفة بن بدر بن عمرو بن جؤبة الغطفاني أيضا يقال لها الغبراء فجاءت داحس سابقا فأمر حذيفة من ضرب وجهه فوثب مالك بن زهير فلطم وجه الغبراء فقام حمل بن بدر فلطم مالكا ثم أن أبا جنيدب العبسي لقي عوف بن حذيفة فقتله ثم لقي رجل من بني فزارة مالكا فقتله فشبت الحرب بين بني عبس وفزارة فقتل حذيفة بن بدر وأخوه حمل ابن بدر وجماعات آخرون وقالوا في ذلك أشعارا كثيرة يطول بسطها وذكرها
قال ابن هشام وأرسل قيس داحسا والغبراء وأرسل حذيفة الخطار والحنفاء والاول أصح قال وأما حرب حاطب بن الحارث بن قيس بن هيشة بن الحارث بن أمية بن معاوية بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الاوس كان قتل يهوديا جارا للخزرج فخرج اليه زيد بن الحارث بن قيس بن مالك بن أحمر بن حارثة بن ثعلبة بن كعب بن مالك بن كعب بن الخزرج ابن الحارث بن الخزرج وهو الذي يقال له ابن قسحم في نفر من بني الحارث بن الخزرج فقتلوه فوقعت الحرب بين الاوس والخزرج فاقتتلوا قتالا شديدا وكان الظفر للخزرج وقتل يومئذ الأسود بن الصامت الاوسي قتله المجذر بن ذياد حليف بني عوف بن الخزرج ثم كانت بينهم حروب (3/155)
يطول ذكرها أيضا والمقصود أن أبا قيس بن الاسلت مع علمه وفهمه لم ينتفع بذلك حين قدم مصعب بن عمير المدينة ودعا أهلها إلى الاسلام فاسلم من أهلها بشر كثير ولم يبق دار أي محلة من دور المدينة إلا وفيها مسلم ومسلمات غير دار بني واقف قبيلة أبي قيس ثبطهم عن الاسلام وهو القائل أيضا ... ارب الناس أشياء ألمت ... يلف الصعب منها بالذلول ... أرب الناس إما أن ضللنا ... فيسرنا لمعروف السبيل ... فلولا ربنا كنا يهودا ... وما دين اليهود بذي شكول ... ولولا ربنا كنا نصارى ... مع الرهبان في جبل الجليل ... ولكنا خلقنا إذ خلقنا ... حنيفا ديننا عن كل جيل ... نسوق الهدي ترسف مذعنات ... مكشفة المناكب في الجلول ...
وحاصل ما يقول أنه حائر فيما وقع من الأمر الذي قد سمعه من بعثة رسول الله صلى الله عليه و سلم فتوقف الواقفي في ذلك مع علمه ومعرفته وكان الذي ثبطه عن الاسلام أولا عبد الله بن ابي بن سلول بعدما أخبره أبو قيس أنه الذي بشر يهود فمنعه عن الاسلام
قال ابن اسحاق ولم يسلم إلى يوم الفتح هو وأخوه وخرج وأنكر الزبير بن بكار أن يكون أبو قيس أسلم وكذا الواقدي قال كان عزم على الاسلام أول ما دعاه رسول الله صلى الله عليه و سلم فلامه عبد الله بن ابي فحلف لا يسلم إلى حول فمات في ذي القعدة وقد ذكر غيره فيما حكاه ابن الاثير في كتابه [ اسد ] الغابة أنه لما حضره الموت دعاه النبي صلى الله عليه و سلم إلى الاسلام فسمع يقول لا إله إلا الله وقال الامام احمد حدثنا حسن بن موسى حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم عاد رجلا من الانصار فقال يا خال قل لا إله إلا الله فقال أخال أم عم قال بل خال قال فخير لي أن أقول لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم نعم تفرد به احمد رحمه الله وذكر عكرمة وغيره أنه لما توفي أراد ابنه أن يتزوج امرأته كبيشة بنت معن بن عاصم فسألت رسول الله صلى الله عليه و سلم في ذلك فأنزل الله ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء الآية
وقال ابن اسحاق وسعيد بن يحيى الاموي في مغازيه كان أبو قيس هذا قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح وفارق الاوثان واغتسل من الجنابة وتطهر من الحائض من النساء وهم بالنصرانية ثم أمسك عنها ودخل بيتا له فاتخذه مسجدا لا يدخل عليه فيه حائض ولا جنب وقال أعبد إله ابراهيم حين فارق الاوثان وكرهها حتى قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم فاسلم فحسن اسلامه وكان شيخا كبيرا وكان قوالا بالحق معظما لله في جاهليته يقول في ذلك أشعارا حسانا وهو الذي يقول (3/156)
يقول أبو قيس وأصبح عاديا ... ألا ما استطعتم من وصاتي فافعلوا ... فأوصيكم بالله والبر والتقى ... وأعراضكم والبر بالله أول ... وإن قومكم سادوا فلا تحسدنهم ... وإن كنتم أهل الرئاسة فاعدلوا ... وإن نزلت إحدى الدواهي بقومكم ... فأنفسكم دون العشيرة فاجعلوا ... وإن ناب غرم فادح فارفقوهم ... وما حملوكم في الملمات فاحملوا ... وإن أنتم أمعزتم فتعففوا ... وإن كان فضل الخير فيكم فأفضلوا ...
وقال أبو قيس أيضا
... سبحوا الله شرق كل صباح ... طلعت شمسه وكل هلال ... عالم السر والبيان جميعا ... ليس ما قال ربنا بضلال ... وله الطير تستزيد وتأوي ... في وكور من آمنات الجبال ... وله الوحش بالفلاة تراها ... في حقاف وفي ظلال الرمال ... وله هودت يهود ودانت ... كل دين مخافة من عضال ... وله شمس النصارى وقاموا ... كل عيد لربهم واحتفال ... وله الراهب الحبيس تراه ... رهن بؤس وكان أنعم بال ... يا بني الارحام لا تقطعوها ... وصلوها قصيرة من طوال ... واتقوا الله في ضعاف اليتامى ... وبما يستحل غير الحلال ... واعلموا أن لليتيم وليا ... عالما يهتدي بغير سؤال ... ثم مال اليتيم لا تأكلوه ... إن مال اليتيم يرعاه والي ... يا بني التخوم لا تجزلوها ... إن جزل التخوم ذو عقال ... يا بني الأيام لا تأمنوها ... واحذروا مكرها ومر الليالي ... واعلموا أن أمرها لنفاد ... الخلق ما كان من جديد وبالي ... واجمعوا أمركم على البر والتق ... وى وترك الخنا وأخذ الحلال ...
قال ابن اسحاق وقال أبو قيس صرمة أيضا يذكر ما أكرمهم الله به من الاسلام وما خصهم به من نزول رسول الله صلى الله عليه و سلم عندهم ... ثوى في قريش بضع عشرة حجة ... يذكر لو يلقى صديقا مواتيا ...
وسيأتي ذكرها بتمامها فيما بعد إن شاء الله وبه الثقة (3/157)
قصة بيعة العقبة الثانية
قال ابن اسحاق ثم أن مصعب بن عمير رجع إلى مكة وخرج من خرج من الانصار من المسلمين مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة فواعدوا رسول الله صلى الله عليه و سلم العقبة من أواسط أيام التشريق حين أراد الله بهم من كرامته والنصر لنبيه واعزاز الاسلام وأهله فحدثني معبد بن كعب بن مالك أن أخاه عبد الله بن كعب وكان من أعلم الأنصار حدثه أن أباه كعبا حدثه وكان ممن شهد العقبة وبايع رسول الله صلى الله عليه و سلم بها قال خرجنا في حجاج قومنا من المشركين وقد صلينا وفقهنا ومعنا البراء بن معرور سيدنا وكبيرنا فلما وجهنا لسفرنا وخرجنا من المدينة قال البراء يا هؤلاء إني قد رأيت رأيا والله ما أدري أتوافقونني عليه أم لا قلنا وما ذاك قال قد رأيت أن لا أدع هذه البنية مني بظهر يعني الكعبة وأن أصلي اليها قال فقلنا والله ما بلغنا أن نبينا صلى الله عليه و سلم يصلي إلا إلى الشام وما نريد أن نخالفه فقال إني لمصلي إليها قال فقلنا له لكنا لا نفعل قال فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام وصلى هو إلى الكعبة حتى قدمنا مكة قال لي يا ابن أخي انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أسأله عما صنعت في سفري هذا فانه قد وقع في نفسي منه شيء لما رأيت من خلافكم اياي فيه قال فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وكنا لا نعرفه ولم نره قبل ذلك فلقينا رجلا من أهل مكة فسألناه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال هل تعرفانه فقلنا لا فقال هل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه قال قلنا نعم وقد كنا نعرف العباس كان لا يزال يقدم علينا تاجرا قال فاذا دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس قال فدخلنا المسجد وإذا العباس جالس ورسول الله صلى الله عليه و سلم جالس معه فسلمنا ثم جلسنا اليه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم للعباس هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل قال نعم هذا البراء بن معرور سيد قومه وهذا كعب بن مالك قال فوالله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه و سلم الشاعر قال نعم فقال له البراء بن معرور يا نبي الله إني خرجت في سفري هذا قد هداني الله تعالى للاسلام فرأيت أن لا أجعل هذه البنية مني بظهر فصليت اليها وقد خالفني أصحابي في ذلك حتى وقع في نفسي من ذلك شيء فماذا ترى قال قد كنت على قبلة لو صبرت عليها قال فرجع البراء إلى قبلة رسول الله صلى الله عليه و سلم فصلى معنا إلى الشام قال وأهله يزعمون أنه صلى إلى الكعبة حتى مات وليس في ذلك كما قالوا نحن أعلم به منهم
قال كعب بن مالك ثم خرجنا إلى الحج وواعدنا رسول الله صلى الله عليه و سلم العقبة من أوسط أيام التشريق فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فيها ومعنا عبد الله بن عمرو (3/158)
ابن حرام أبو جابر سيد من سادتنا أخذناه وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا فكلمناه وقلنا له يا أبا جابر إنك سيد من سادتنا وشريف من أشرافنا وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا ثم دعوناه إلى الاسلام وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه و سلم إيانا العقبة قال فأسلم وشهد معنا العقبة وكان نقيبا
وقد روى البخاري حدثني ابراهيم حدثنا هشام أن ابن جريج أخبرهم قال عطاء قال جابر أنا وأبي وخالي من أصحاب العقبة قال عبد الله بن محمد قال ابن عيينة أحدهم البراء بن معرور حدثنا علي بن المديني حدثنا سفيان قال كان عمرو يقول سمعت جابر بن عبد الله يقول شهد بي خالاي العقبة
وقال الامام احمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن ابن خثيم عن أبي الزبير عن جابر قال مكث رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم عكاظ ومجنة وفي المواسم يقول من يؤويني من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة فلا يجد أحدا يؤويه ولا ينصره حتى أن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر كذا قال فيه فيأتيه قومه وذوو رحمه فيقولون احذر غلام قريش لا يفتنك ويمضي بين رحالهم وهم يشيرون اليه بالاصابع حتى بعثنا الله اليه من يثرب فآويناه وصدقناه فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون باسلامه حتى لم تبق دار من دور الانصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الاسلام ثم ائتمروا جميعا فقلنا حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه و سلم يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف فرحل اليه منا سبعون رجلا حتى قدموا عليه في الموسم فواعدناه شعب العقبة فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين حتى توافينا فقلنا يا رسول الله علام نبايعك قال تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل والنفقة في العسر واليسر وعلى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة فقمنا اليه وأخذ بيده أسعد بن زرارة وهو من أصغرهم وفي رواية البيهقي وهو أصغر السبعين إلا أنا فقال رويدا يا أهل يثرب فانا لم نضرب اليه أكباد الابل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله وإن اخراجه اليوم مناوأة للعرب كافة وقتل خياركم وتعضكم السيوف فاما أنتم قوم تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله وأما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه فبينوا ذلك فهو أعذر لكم عند الله قالوا أبط عنا يا أسعد فوالله لا ندع هذه البيعة ولا نسلبها أبدا قال فقمنا اليه فبايعناه وأخذ علينا وشرط ويعطينا على ذلك الجنة وقد رواه الامام احمد أيضا والبيهقي من طريق داود بن عبد الرحمن العطار زاد البيهقي عن الحاكم بسنده إلى يحيى بن سليم كلاهما (3/159)
عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن أبي ادريس به نحوه وهذا اسناد جيد على شرط مسلم ولم يخرجوه وقال البزار وروى غير واحد عن ابن خثيم ولا نعلمه يروى عن جابر إلا من هذا الوجه
وقال الامام احمد حدثنا سليمان بن داود حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن موسى بن عبد الله عن أبي الزبير عن جابر قال كان العباس آخذا بيد رسول الله صلى الله عليه و سلم ورسول الله يواثقنا فلما فرغنا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أخذت وأعطيت وقال البزار حدثنا محمد بن معمر حدثنا قبيصة حدثنا سفيان هو الثوري عن جابر يعني الجعفي عن داود وهو ابن أبي هند عن الشعبي عن جابر يعني أبن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم للنقباء من الانصار تؤووني وتمنعوني قالوا نعم قالوا فما لنا قال الجنة ثم قال لا نعلمه يروي الا بهذا الاسناد عن جابر ثم قال ابن اسحاق عن معبد عن عبد الله عن أبيه كعب بن مالك قال فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه و سلم نتسلل تسلل القطا مستخفين حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن ثلاثة وسبعون رجلا ومعنا امرأتان من نسائنا نسيبة بنت كعب أم عمارة إحدى نساء بني مازن بن النجار واسماء ابنة عمرو بن عدي بن نابي إحدى نساء بني سلمة وهي أم منيع وقد صرح ابن اسحاق في رواية يونس بن بكير عنه بأسمائهم وأنسابهم وما ورد في بعض الاحاديث أنهم كانوا سبعين والعرب كثيرا ما تحذف الكسر وقال عروة بن الزبير وموسى بن عقبة كانوا سبعين رجلا وامرأة واحدة قال منهم أربعون من ذوي أسنانهم وثلاثون من شبابهم قال وأصغرهم أبو مسعود وجابر بن عبد الله قال كعب بن مالك فلما اجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له فلما جلس كان أول متكلم العباس بن عبد المطلب فقال يا معشر الخزرج قال وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج خزرجها وأوسها إن محمدا منا حيث علمتم وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه فهو في عزة من قومه ومنعة في بلده وإنه قد أبى إلا الانحياز اليكم واللحوق بكم فان كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه اليه ومانعوه ممن خالفه فانتم وما تحملتم من ذلك وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج اليكم فمن الآن فدعوه فإنه في عزة ومنعة من قومه وبلده قال فقلنا له قد سمعنا ما قلت فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت قال فتكلم رسول الله صلى الله عليه و سلم فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الاسلام قال ابايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم قال فأخذ البراء بن معرور بيده [ و ] قال نعم فوالذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحروب ورثناها كابرا عن كابر قال فاعترض القول والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه و سلم (3/160)
أبو الهيثم بن التيهان فقال يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالا وإنا قاطعوها يعني اليهود فهل عسيت إن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا قال فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال بل الدم الدم والهدم الهدم أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم قال كعب وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أخرجوا إلى منكم اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم بما فيهم فاخرجوا منهم اثني عشر نقيبا تسعة من الخزرج وثلاثة من الاوس
قال ابن اسحاق وهم أبو أمامة أسعد بن زرارة المتقدم وسعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زهير بن مالك بن امرئ القيس بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج وعبد الله بن رواحة بن امرئ القيس [ بن عمرو بن امرئ القيس ] بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج ورافع بن مالك بن العجلان المتقدم والبراء بن معرور بن صخر بن خنساء بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي ابن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن الخزرج وعبد الله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة وعبادة بن الصامت المتقدم وسعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن خزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج والمنذر بن عمرو بن خنيس بن حارثة بن لوذان بن عبد ود بن زيد بن ثعلبة بن الخزرج بن ساعدة بن كعب ابن الخزرج فهؤلاء تسعة من الخزرج ومن الاوس ثلاثة وهم أسيد بن حضير بن سماك بن عتيك بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الاشهل بن جشم بن الخزرج بن عمرو بن مالك ابن الاوس وسعد بن خيثمة بن الحارث بن مالك بن كعب بن النحاط بن كعب بن حارثة بن غنم بن السلم بن امرئ القيس بن مالك بن الاوس ورفاعة بن عبد المنذر بن زنير بن زيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الاوس
قال ابن هشام وأهل العلم يعدون فيهم أبا الهيثم بن التيهان بدل رفاعة هذا وهو كذلك في رواية يونس عن ابن اسحاق واختاره السهيلي وابن الاثير في الغابة ثم استشهد ابن هشام على ذلك بما رواه عن أبي زيد الانصاري فيما ذكره من شعر كعب بن مالك في ذكر النقباء الاثني عشر هذه الليلة ليلة العقبة الثانية حين قال ... أبلغ أبيا أنه قال رأيه ... وحان غداة الشعب والحين واقع ... أبى الله ما منتك نفسك إنه ... بمرصاد أمر الناس راء وسامع (3/161)
وابلغ أبا سفيان أن قد بدالنا ... بأحمد نور من هدى الله ساطع ... فلا ترغبن في حشد أمر تريده ... وألب وجمع كل ما أنت جامع ... ودونك فاعلم أن نقض عهودنا ... اباه عليك الرهط حين تبايعوا ... اباه البراء وابن عمرو كلاهما ... وأسعد يأباه عليك ورافع ... وسعد أباه الساعدي ومنذر ... لأنفك إن حاولت ذلك جادع ... وما ابن ربيع إن تناولت عهده ... بمسلمه لا يطمعن ثم طامع ... وأيضا فلا يعطيكه ابن رواحة ... وإخفاره من دونه السم ناقع ... وفاء به والقوقلي بن صامت ... بمندوحة عما تحاول يافع ... أبو هيثم أيضا وفي بمثلها ... وفاء بما أعطى من العهد خانع ... وما ابن حضير إن أردت بمطمع ... فهل أنت عن أحموقة الغي نازع ... وسعد أخو عمرو بن عوف فإنه ... ضروح لما حاولت ملأمر مانع ... أولاك نجوم لا يغبك منهم ... عليك بنحس في دجى الليل طالع ...
قال ابن هشام فذكر فيهم أبا الهيثم بن التيهان ولم يذكر رفاعة
قلت وذكر سعد بن معاذ وليس من النقباء بالكلية في هذه الليلة وروى يعقوب بن سفيان عن يونس بن عبد الاعلى عن ابن وهب عن مالك قال كان الانصار ليلة العقبة سبعون رجلا وكان نقباؤهم اثني عشر نقيبا تسعة من الخزرج وثلاثة من الاوس وحدثني شيخ من الانصار أن جبرائيل كان يشير الى رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى من يجعله نقيبا ليلة العقبة وكان أسيد بن حضير أحد النقباء تلك الليلة رواه البيهقي وقال ابن اسحاق فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال للنقباء أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم وأنا كفيل على قومي قالوا نعم وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه و سلم قال العباس بن عبادة بن نضلة الانصاري أخو بني سالم بن عوف يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل قالوا نعم قال إنكم تبايعونه على حرب الاحمر والاسود من الناس فان كنتم ترون أنكم إذا أنهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتموه فمن الآن فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه اليه على نهكة الاموال وقتل الاشراف فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة قالوا فإنا نأخذه على مصيبة الاموال وقتل الأشراف فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا قال الجنة قالوا ابسط يدك فبسط يده فبايعوه قال عاصم ابن عمر بن قتادة وإنما قال العباس بن عبادة ذلك ليشد العقد في أعناقهم وزعم عبد الله بن أبي (3/162)
بكر أنه إنما قال ذلك ليؤخر البيعة تلك الليلة رجاء أن يحضرها عبد الله بن أبي بن سلول سيد الخزرج ليكون أقوى لأمر القوم فالله أعلم أي ذلك كان
قال ابن اسحاق فبنو النجار يزعمون أن أبا أمامة أسعد بن زرارة كان أول من ضرب على يده وبنو عبد الاشهل يقولون بل أبو الهيثم بن التيهان
قال ابن اسحاق وحدثني معبد بن كعب عن أخيه عبد الله عن أبيه كعب بن مالك قال فكان أول من ضرب على يد رسول الله صلى الله عليه و سلم البراء بن معرور ثم بايع القوم وقال ابن الاثير في [ اسد ] الغابة وبنو سلمة يزعمون أن أول من بايعه ليلتئذ كعب بن مالك وقد ثبت في صحيح البخاري ومسلم من حديث الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب عن أبيه عن كعب بن مالك في حديثه حين تخلف عن غزوة تبوك قال ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الاسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدرا كثير في الناس منها وقال البيهقي أخبرنا أبو الحسين بن بشران أخبرنا عمرو بن السماك حدثنا حنبل بن اسحاق حدثنا أبو نعيم حدثنا زكريا بن ابي زائدة عن عامر الشعبي قال انطلق رسول الله صلى الله عليه و سلم مع العباس عمه إلى السبعين من الانصار عند العقبة تحت الشجرة فقال ليتكلم متكلمكم ولا يطل الخطبة فان عليكم من المشركين عينا وإن يعلموا بكم يفضحوكم فقال قائلهم وهو أبو امامة سل يا محمد لربك ما شئت ثم سل لنفسك بعد ذلك ما شئت ثم أخبرنا ما لنا من الثواب على الله وعليكم إذا فعلنا ذلك قال أسألكم لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأسألكم لنفسي وأصحابي أن تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم قالوا فما لنا اذا فعلنا ذلك قال لكم الجنة قالوا فلك ذلك ثم رواه حنبل عن الامام احمد عن يحيى بن زكريا عن مجالد عن الشعبي عن أبي مسعود الانصاري فذكره قال وكان أبو مسعود أصغرهم وقال احمد عن يحيى عن اسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال فما سمع الشيب والشبان خطبة مثلها وقال البيهقي أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمد بن محمش أخبرنا محمد بن ابراهيم بن الفضل الفحام أخبرنا محمد بن يحيى الذهلي أخبرنا عمرو بن عثمان الرقي حدثنا زهير ثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم عن اسماعيل بن عبيد الله بن رفاعة عن أبيه قال قدمت روايا خمر فاتاها عبادة بن الصامت فخرقها وقال إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه و سلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل والنفقة في العسر واليسر وعلى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى أن نقول في الله لا تأخذنا فيه لومة لائم وعلى أن ننصر رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا قدم علينا يثرب مما نمنع به أنفسنا وأرواحنا وأبناءنا ولنا الجنة فهذه بيعة رسول الله صلى الله عليه و سلم التي بايعناه عليها وهذا اسناد جيد قوي ولم يخرجوه وقد روى يونس عن ابن اسحاق حدثني عبادة بن (3/163)
الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده عبادة بن الصامت قال بايعنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بيعة الحرب على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا ومنشطنا ومكرهنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله وأن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم
قال ابن اسحاق في حديثه عن معبد بن كعب عن أخيه عبد الله بن كعب بن مالك قال فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه و سلم صرخ الشيطان من رأس العقبة بانفذ صوت سمعته قط يا أهل الجباجب والجباجب المنازل هل لكم في مذمم والصباء معه قد اجتمعوا على حربكم قال فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا أزب العقبة هذا ابن أزبب قال ابن هشام ويقال ابن أزبب أتسمع أي عدو الله أما والله لا تفرغن لك ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ارفضوا الى رحالكم قال فقال العباس بن عبادة بن نضلة يا رسول الله والذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا قال فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لم نؤمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم قال فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا فيها حتى أصبحنا فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتى جاؤنا في منازلنا فقالوا يا معشر الخزرج إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم الى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا من أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم قال فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون ما كان من هذا شيء وما عملناه قال وصدقوا لم يعلموا قال وبعضنا ينظر الى بعض قال ثم قام القوم وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي وعليه نعلان له جديدان قال فقلت له كلمة كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا يا أبا جابر أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من سادتنا مثل نعلي هذا الفتى من قريش قال فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه ثم رمى بهما الي قال والله لتنتعلنهما قال يقول أبو جابر مه أحفظت والله الفتى فأردد اليه نعليه قال قلت والله لا أردهما فأل والله صالح لئن صدق الفأل لاسلبنه
قال ابن اسحاق وحدثني عبد الله بن أبي بكر أنهم أتوا عبد الله بن أبي سلول فقالوا مثل ما ذكر كعب من القول فقال لهم إن هذا الامر جسيم ما كان قومي ليتفرقوا على مثل هذا وما علمته كان قال فانصرفوا عنه قال ونفر الناس من منى فتنطس القوم الخبر فوجدوه قد كان فخرجوا في طلب القوم فادركوا سعد بن عبادة باذاخر والمنذر بن عمرو أخا بني ساعدة بن كعب بن الخزرج وكلاهما كان نقيبا فأما المنذر فأعجز القوم وأما سعد بن عبادة فأخذوه فربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه ويجذبونه بجمته وكان ذا شعر كثير قال سعد (3/164)
فوالله إني لفي أيديهم إذ طلع علي نفر من قريش فيهم رجل وضيء أبيض شعشاع حلو من الرجال فقلت في نفسي إن يك عند أحد من القوم خير فعند هذا فلما دنا مني رفع يده فلكمني لكمة شديدة فقلت في نفسي لا والله ما عندهم بعد هذا من خير فوالله إني لفي أيديهم يسحبونني إذ أوى لي رجل ممن معهم قال ويحك أما بينك وبين أحد من قريش جوار ولا عهد قال قلت بلى والله لقد كنت أجير لجبير بن مطعم تجارة وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي وللحارث بن حرب بن أمية بن عبد شمس فقال ويحك فاهتف باسم الرجلين واذكر ما بينك وبينهما قال ففعلت وخرج ذلك الرجل اليهما فوجدهما في المسجد عند الكعبة فقال لهما إن رجلا من الخزرج الآن ليضرب بالابطح ليهتف بكما قالا ومن هو قال سعد بن عبادة قالا صدق والله إن كان ليجير لنا تجارنا ويمنعهم أن يظلموا ببلده قال فجاء فخلصا سعدا من أيديهم فانطلق وكان الذي لكم سعدا سهيل بن عمرو قال ابن هشام وكان الذي أوى له أبو البختري بن هشام وروى البيهقي بسنده عن عيسى بن أبي عيسى بن جبير قال سمعت قريش قائلا يقول في الليل على أبي قبيس ... فإن يسلم السعدان يصبح محمد ... بمكة لا يخشى خلاف المخالف ...
فلما أصبحوا قال أبو سفيان من السعدان أسعد بن بكر أم سعد بن هذيم فلما كانت الليلة الثانية سمعوا قائلا يقول
... أيا سعد الاوس كن أنت ناصرا ... ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف ... أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا ... على الله في الفردوس منية عارف ... فإن ثواب الله للطالب الهدى ... جنان من الفردوس ذات رفارف ...
فلما أصبحوا قال أبو سفيان هو والله سعد بن معاذ وسعد بن عبادة
فصل
قال ابن اسحاق فلما رجع الانصار الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة العقبة الثانية إلى المدينة أظهروا الاسلام بها وفي قومهم بقايا من شيوخ لهم على دينهم من الشرك منهم عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة وكان ابنه معاذ بن عمرو ممن شهد العقبة وكان عمرو بن الجموح من سادات بني سلمة وأشرافهم وكان قد اتخذ صنما من خشب في داره يقال له مناة كما كانت الاشراف يصنعون يتخذه إلهآ يعظمه ويظهره فلما اسلم فتيان بني سلمة ابنه معاذ ومعاذ بن جبل كانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو ذلك فيحملونه فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة وفيها عذر الناس منكسا على رأسه فاذا أصبح عمرو قال ويلكم من عدا على إلهنا هذه (3/165)
الليلة ثم يغدو يلتمسه حتى إذا وجده غسله وطيبه وطهره ثم قال أما والله لو أعلم من فعل بك هذا لأخزينه فاذا أمسى ونام عمرو عدوا عليه ففعلوا مثل ذلك فيغدوا فيجده في مثل ما كان فيه من الأذى فيغسله ويطيبه ويطهره ثم يعدون عليه إذا أمسى فيفعلون به مثل ذلك فلما أكثروا عليه استخرجه من حيث ألقوه يوما فغسله وطهره وطيبه ثم جاء بسيفه فعلقه عليه ثم قال له إني والله ما أعلم من يصنع بك ما أرى فان كان فيك خير فامتنع هذا السيف معك فلما أمسى ونام عمرو عدوا عليه فأخذوا السيف من عنقه ثم أخذوا كلبا ميتا فقرنوه به بحبل ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة فيها عذر من عذر الناس وغدا عمرو بن الجموح فلم يجده في مكانه الذي كان به فخرج يتبعه حتى إذا وجده في تلك البئر منكسا مقرونا بكلب ميت فلما رآه أبصر شأنه وكلمه من أسلم من قومه فأسلم برحمة الله وحسن إسلامه فقال حين اسلم وعرف من الله ما عرف وهو يذكر صنمه ذلك وما أبصر من أمره ويشكر الله الذي أنقذه مما كان فيه من العمى والضلالة ويقول ... والله لو كنت إلهآ لم تكن ... أنت وكلب وسط بئر في قرن ... اف لملقاك إلها مستدن ... الآن فتشناك عن سوء الغبن ... الحمد لله العلي ذي المنن ... الواهب الرزاق ديان الدين ... هو الذي أنقذني من قبل أن ... أكون في ظلمة قبر مرتهن ... فصل يتضمن أسماء من شهد بيعة العقبة الثانية ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان
فمن الاوس أحد عشر رجلا أسيد بن حضير أحد النقباء وأبو الهيثم بن التيهان بدري أيضا وسلمة بن سلامة بن وقش بدري وظهير بن رافع وأبو بردة بن دينار بدري ونهير بن الهيثم بن نابي بن مجدعة بن حارثة وسعد بن خيثمة أحد النقباء بدري وقتل بها شهيدا ورفاعة ابن عبد المنذر بن زنير نقيب بدري وعبد الله بن جبير بن النعمان بن أمية بن البرك بدري وقتل يوم أحد شهيدا أميرا على الرماة ومعن بن عدي بن الجد بن عجلان بن الحارث بن ضبيعة البلوي حليف للأوس شهد بدرا وما بعدها وقتل باليمامة شهيدا وعويم بن ساعدة شهد بدرا وما بعدها ومن الخزرج اثنان وستون رجلا أبو ايوب خالد بن زيد وشهد بدرا وما بعدها ومات بأرض الروم زمن معاوية شهيدا ومعاذ بن الحارث وأخواه عوف ومعوذ وهم بنو عفراء بدريون وعمارة بن حزم شهد بدرا وما بعدها وقتل باليمامة وأسعد بن زرارة أبو أمامة أحد النقباء مات قبل بدر وسهل بن عتيك بدري وأوس بن ثابت بن المنذر بدري وأبو طلحة زيد بن سهل بدري وقيس بن أبي صعصعة عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن كان أميرا على (3/166)
الساقة يوم بدر وعمرو بن غزية وسعد بن الربيع أحد النقباء شهد بدرا وقتل يوم أحد وخارجة ابن زيد شهد بدرا وقتل يوم أحد وعبد الله بن رواحة أحد النقباء شهد بدرا وأحد والخندق وقتل يوم مؤتة أميرا وبشير بن سعد بدري وعبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه الذي أرى النداء وهو بدري وخلاد بن سويد بدري أحدي خندقي وقتل يوم بني قريظة شهيدا طرحت عليه رحى فشدخته فيقال إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن له لأجر شهيدين وأبو مسعود عقبة بن عمرو البدري قال ابن اسحاق وهو أحدث من شهد العقبة سنا ولم يشهد بدرا وزياد بن لبيد بدري وفروة بن عمرو بن ودفة وخالد بن قيس بن مالك بدري ورافع بن مالك أحد النقباء وذكوان بن عبد قيس بن خلدة بن مخلد بن عامر بن رزيق وهو الذي يقال له مهاجري أنصاري لانه أقام عند رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة حتى هاجر منها وهو بدري قتل يوم أحد وعباد بن قيس بن عامر بن خالد ابن عامر بن رزيق بدري وأخوه الحارث بن قيس بن عامر بدري أيضا والبراء بن معرور أحد النقباء وأول من بايع فيما تزعم بنو سلمة وقد مات قبل مقدم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة وأوصى له بثلث ماله فرده رسول الله صلى الله عليه و سلم على ورثته وابنه بشر بن البراء وقد شهد بدرا وأحدا والخندق ومات بخيبر شهيدا من أكله مع رسول الله صلى الله عليه و سلم من تلك الشاة المسمومة رضي الله عنه وسنان بن صيفي بن صخر بدري والطفيل بن النعمان بن خنساء بدري قتل يوم الخندق ومعقل بن المنذر بن سرح بدري وأخوه يزيد بن المنذر بدري ومسعود بن زيد بن سبيع والضحاك بن حارثة بن زيد بن ثعلبة بدري ويزيد بن خذام بن سبيع وجبار بن صخر [ بن أمية ] بن خنساء بن سنان بن عبيد بدري والطفيل بن مالك بن خنساء بدري وكعب بن مالك وسليم بن عامر بن حديدة بذري وقطبة بن عامر بن حديدة بدري وأخوه أبو المنذر يزيد بدري أيضا وأبو اليسر كعب بن عمرو بدري وصيفي بن سواد بن عباد وثعلبة بن غنمة بن عدي بن نابي بدري واستشهد بالخندق وأخوه عمرو بن غنمة بن عدي وعبس بن عامر بن عدي بدري وخالد بن عمرو بن عدي بن نابي وعبد الله بن أنيس حليف لهم من قضاعة وعبد الله بن عمرو بن حرام أحد النقباء بدري واستشهد يوم أحد وابنه جابر بن عبد الله ومعاذ بن عمرو بن الجموح بدري وثابت بن الجذع بدري وقتل شهيدا بالطائف وعمير بن الحارث بن ثعلبة بدري وخديج بن سلامة حليف لهم من بلي ومعاذ بن جبل شهد بدرا وما بعدها ومات بطاعون عمواس في خلافة عمر بن الخطاب وعبادة ابن الصامت أحد النقباء شهد بدرا وما بعدها والعباس بن عبادة بن نضلة وقد أقام بمكة حتى هاجر منها فكان يقال له مهاجري أنصاري أيضا وقتل يوم أحد شهيدا وأبو عبد الرحمن يزيد ابن ثعلبة بن خزمة بن أصرم حليف لهم من بلي وعمرو بن الحارث بن كندة ورفاعة بن عمرو بن (3/167)
زيد بدري وعقبة بن وهب بن كلدة حليف لهم بدري وكان ممن خرج إلى مكة فاقام بها حتى هاجر منها فهو ممن يقال له مهاجري أنصاري أيضا وسعد بن عبادة بن دليم أحد النقباء والمنذر بن عمرو نقيب بدري احدي وقتل يوم بئر معونة أميرا وهو الذي يقال له أعتق ليموت وأما المرأتان فام عمارة نسيبة بنت كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار المازنية النجارية قال ابن اسحاق وقد كانت شهدت الحرب مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وشهدت معها أختها وزوجها زيد بن عاصم بن كعب وابناها خبيب وعبد الله وابنها خبيب هذا هو الذي قتله مسيلمة الكذاب حين جعل يقول له أتشهد ان محمدا رسول الله فيقول نعم فيقول أتشهد أني رسول الله فيقول لا أسمع فجعل يقطعه عضوا عضوا حتى مات في يديه لا يزيده على ذلك فكانت أم عمارة ممن خرج إلى اليمامة مع المسملين حين قتل مسيلمة ورجعت وبها اثني عشر جرحا من بين طعنة وضربة رضي الله عنها والاخرى أم منيع أسماء ابنة عمرو بن عدي بن نابي بن عمرو بن سواد ابن غنم بن كعب بن سلمة رضي الله عنها باب
الهجرة من مكة الى المدينة
قال الزهري عن عروة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يومئذ بمكة للمسلمين قد اريت دار هجرتكم أريت سبخة ذات نخل بين لابتين فهاجر من هاجر قبل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم ورجع إلى المدينة من كان هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين رواه البخاري وقال أبو موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر فإذا هي المدينة يثرب وهذا الحديث قد أسنده البخاري في مواضع أخر بطوله ورواه مسلم كلاهما عن أبي كريب زاد مسلم وعبد الله بن مراد كلاهما عن أبي أسامة عن يزيد بن عبد الله بن أبي بردة عن جده أبي بردة عن أبي موسى عبد الله بن قيس الاشعري عن النبي صلى الله عليه و سلم الحديث بطوله
قال الحافظ أبو بكر البيهقي أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا أبو العباس القاسم بن القاسم السياري بمرو حدثنا ابراهيم بن هلال حدثنا علي بن الحسن بن شقيق حدثنا عيسى بن عبيد الكندي عن غيلان بن عبد الله العامري عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن جرير أن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن الله أوحى إلي أي هؤلاء البلاد الثلاثة نزلت فهي دار هجرتك المدينة أو البحرين أو قنسرين قال أهل العلم ثم عزم له على المدينة فأمر أصحابه بالهجرة اليها (3/168)
هذا حديث غريب جدا وقد رواه الترمذي في المناقب من جامعه منفردا به عن أبي عمار الحسين بن حريث عن الفضل بن موسى عن عيسى بن عبيد عن غيلان بن عبد الله العامري عن أبي زرعة بن عمر بن جرير عن جرير قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله أوحى إلى أي هؤلاء الثلاثة نزلت فهي دار هجرتك المدينة أو البحرين أو قنسرين ثم قال غريب لا نعرفه إلا من حديث الفضل تفرد به أبو عمار
قلت وغيلان بن عبد الله العامري هذا ذكره ابن حبان في الثقات إلا أنه قال روى عن أبي زرعة حديثا منكرا في الهجرة والله أعلم
قال ابن اسحاق لما أذن الله تعالى في الحرب بقوله أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله الآية فلما أذن الله في الحرب وتابعه هذا الحي من الانصار على الاسلام والنصرة له ولمن اتبعه وأوى اليهم من المسلمين أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أصحابه من المهاجرين من قومه ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة اليها واللحوق باخوانهم من الانصار وقال إن الله قد جعل لكم اخوانا ودارا تأمنون بها فخرجوا اليها أرسالا وأقام رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة والهجرة إلى المدينة فكان أول من هاجر الى المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم من المهاجرين من قريش من بني مخزوم أبو سلمة عبدالله بن عبد الاسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وكانت هجرته اليها قبل بيعة العقبة بسنة حين آذته قريش مرجعه من الحبشة فعزم على الرجوع اليها ثم بلغه أن بالمدينة لهم اخوانا فعزم اليها
قال ابن اسحاق فحدثني أبي عن سلمة بن عبد الله بن عمر بن ابي سلمة عن جدته أم سلمة قالت لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيره ثم حملني عليه وجعل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري ثم حرج يقود بي بعيره فلما رأته رجال بني المغيرة قاموا اليه فقالوا هذه نفسك غلبتنا عليها أرأيت صاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها في البلاد قالت فنزعوا خطام البعير من يده وأخذوني منه قالت وغضب عند ذلك بنو عبد الاسد رهط أبي سلمة وقالوا والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا قالت فتجاذبوا ابني سلمة بينهم حتى خلعوا يده وانطلق به بنو عبد الاسد وحبسني بنو المغيرة عندهم وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة قالت ففرق بيني وبين ابني وبين زوجي قالت فكنت أخرج كل غداة فاجلس في الابطح فما أزال أبكي حتى أمسي سنة أو قريبا منها حتى مر بي رجل من بني عمي أحد بني المغيرة فرأى ما بي فرحمني فقال لبني المغيرة ألا تخرجون من هذه المسكينة فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها قالت فقالوا لي الحقي (3/169)
بزوجك إن شئت قالت فرد بنو عبد الاسد الي عند ذلك ابني قالت فارتحلت بعيري ثم أخذت ابني فوضعته في حجري ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة قالت وما معي أحد من خلق الله حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار فقال الى أين يا ابنة أبي أمية قلت أريد زوجي بالمدينة قال أوما معك أحد قلت ما معي أحد إلا الله بني هذا فقال والله مالك من مترك فاخذ بخطام البعير فانطلق معي يهوي بي فوالله ما صحبت رجلا من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه كان إذا بلغ المنزل أناخ بي ثم استأخر عني حتى إذا نزلت استأخر ببعيري فحط عنه ثم قيده في الشجر ثم تنحى الى الشجرة فاضطجع تحتها فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله ثم استأخر عني وقال اركبي فاذا ركبت فاستويت على بعيري أتى فاخذ بخطامه فقادني حتى ينزل بي فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة فلما نظر إلى قرية بني عمرو ابن عوف بقباء قال زوجك في هذه القرية وكان أبو سلمة بها نازلا فادخليها على بركة الله ثم انصرف راجعا إلى مكة فكانت تقول ما أعلم أهل بيت في الاسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة وما رأيت صاحبا قط كان أكرم من عثمان بن طلحة أسلم عثمان بن طلحة بن ابي طلحة العبدري هذا بعد الحديبية وهاجر هو وخالد بن الوليد معا وقتل يوم أحد أبوه وأخوته الحارث وكلاب ومسافع وعمه عثمان بن ابي طلحة ودفع اليه رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الفتح وإلى ابن عمه شيبة والد بني شيبة مفاتيح الكعبة أقرها عليهم في الاسلام كما كانت في الجاهلية ونزل في ذلك قوله تعالى إن الله يأمركم ان تؤدوا الأمانات إلى أهلها الآية
قال ابن اسحاق ثم كان أول من قدمها من المهاجرين بعد أبي سلمة عامر بن ربيعة حليف بني عدي معه امرأته ليلى بنت أبي حسنة العدوية ثم عبد الله بن جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة ابن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة حليف بني أمية بن عبد شمس احتمل بأهله وبأخيه عبد أبي احمد اسمه عبد كما ذكره ابن اسحاق وقيل ثمامة قال السهيلي والاول أصح وكان أبو احمد رجلا ضرير البصر وكان يطوف مكة أعلاها وأسفلها بغير قائد وكان شاعرا وكانت عنده الفارعة بنت أبي سفيان بن حرب وكانت أمه أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم فغلقت دار بني جحش هجرة فمر بها عتبة بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب وأبو جهل بن هشام وهم مصعدون إلى أعلى مكة فنظر اليها عتبة تخفق أبوابها يبابا ليس بها ساكن فلما رآها كذلك تنفس الصعداء وقال ... وكل دار وإن طالت سلامتها ... يوما ستدركها النكباء والحوب ...
قال ابن هشام وهذا البيت لابي داود الايادي في قصيدة له قال السهيلي واسم أبي داود (3/170)
حنظلة بن شرقي وقيل حارثة ثم قال عتبة أصبحت دار بني جحش خلاء من أهلها فقال أبو جهل وما تبكي عليه من فل بن فل ثم قال يعني للعباس هذا من عمل ابن أخيك هذا فرق جماعتنا وشتت أمرنا وقطع بيننا
قال ابن اسحاق فنزل ابو سلمة وعامر بن ربيعة وبنو جحش بقباء على مبشر بن عبد المنذر ثم قدم المهاجرون ارسالا قال وكان بنو غنم بن دودان أهل اسلام قد أوعبوا إلى المدينة هجرة رجالهم ونساؤهم وهم عبد الله بن جحش وأخوه أبو أحمد وعكاشة بن محصن وشجاع وعقبة ابنا وهب وأربد بن جميرة ومنقذ بن نباتة وسعيد بن رقيش ومحرز بن نضلة وزيد بن رقيش وقيس بن جابر وعمرو بن محصن ومالك بن عمرو وصفوان بن عمرو وثقف بن عمرو وربيعة بن أكثم والزبير بن عبيدة وتمام بن عبيدة وسخبرة بن عبيدة ومحمد بن عبد الله بن جحش ومن نسائهم زينب بنت جحش وحمنة بنت جحش وأم حبيب بنت جحش وجدامة بنت جندل وأم قيس بنت محصن وأم حبيب بنت ثمامة وآمنة بنت رقيش وسخبرة بنت تميم قال أبو أحمد بن جحش في هجرتهم إلى المدينة ... ولما رأتني أم أحمد غاديا ... بذمة من أخشى بغيب وأرهب ... تقول فإما كنت لا بد فاعلا ... فيمم بنا البلدان ولننأ يثرب ... فقلت لها ما يثرب بمظنة ... وما يشأ الرحمن فالعبد يركب ... إلى الله وجهي والرسول ومن يقم ... إلى الله يوما وجهه لا يخيب ... فكم قد تركنا من حميم مناصح ... وناصحة تبكي بدمع وتندب ... ترى أن وترا نائيا عن بلادنا ... ونحن نرى أن الرغائب نطلب ... دعوت بني غنم لحقن دمائهم ... وللحق لما لاح للناس ملحب ... أجابوا بحمد الله لما دعاهم ... إلى الحق داع والنجاح فأوعبوا ... وكنا وأصحابا لنا فارقوا الهدى ... أعانوا علينا بالسلاح وأجلبوا ... كفوجين إما منهما فموفق ... على الحق مهدي وفوج معذب ... طغوا وتمنوا كذبة وأزلهم ... عن الحق ابليس فخابوا وخيبوا ... ورعنا إلى قول النبي محمد ... فطاب ولاة الحق منا وطيبوا (3/171)
نمت بارحام اليهم قريبة ... ولا قرب بالأرحام إذ لا تقرب ... فأي ابن أخت بعدنا يأمننكم ... وأية صهر بعد صهري يرقب ... ستعلم يوما أينا إذ تزايلوا ... وزيل أمر الناس للحق اصوب ...
قال ابن اسحاق ثم خرج عمر بن الخطاب وعياش بن أبي ربيعة حتى قدما المدينة فحدثني نافع عن عبد الله بن عمر عن أبيه قال اتعدنا لما أردت الهجرة الى المدينة أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص التناضب من إضاة بني غفار فوق سرف وقلنا أينا لم يصبح عندها فقد حبس فليمض صاحباه قال فأصبحت أنا وعياش عند التناضب وحبس هشام وفتن فافتتن فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو بن عوف بقباء وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام الى عياش وكان ابن عمهما وأخاهما لامهما حتى قدما المدينة ورسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة فكلماه وقالا له إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط حتى تراك ولا تستظل من شمس حتى تراك فرق لها فقلت له إنه والله إن يريدك القوم الا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت قال فقال أبر قسم أمي ولي هنالك مال فآخذه قال قلت والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالا فلك نصف مالي ولا تذهب معهما قال فأبى علي إلا أن يخرج معهما فلما أبى إلا ذلك قلت أما إذ فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول فالزم ظهرها فان رابك من أمر القوم ريب فانج عليها فخرج عليها معهما حتى اذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل يا أخي والله لقد استغلظت بعيري هذا أفلا تعقبني على ناقتك هذه قال بلى فأناخ وأناخا ليتحول عليها فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه رباطا ثم دخلا به مكة وفتناه فافتتن قال عمر فكنا نقول لا يقبل الله ممن افتتن توبة وكانوا يقولون ذلك لانفسهم حتى قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة وأنزل الله قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل اليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون قال عمر وكتبتها وبعثت بها الى هشام بن العاص قال هشام فلما أتتني جعلت أقرأها بذي طوى أصعد بها وأصوب ولا أفهمها حتى قلت اللهم فهمنيها فألقى الله في قلبي أنها إنما أنزلت فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا ويقال فينا قال فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة وذكر ابن هشام أن الذي قدم بهشام بن العاص وعياش ابن أبي ربيعة إلى المدينة الوليد بن المغيرة سرقهما من مكة وقدم فيها يحملهما على بعيره وهو ماش معهما فعثر فدميت أصبعه فقال (3/172)
هل أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت ...
وقال البخاري حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة أنبأنا أبو اسحاق سمع البراء قال أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم ثم قدم علينا عمار وبلال وحدثني محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن أبي اسحاق سمعت البراء بن عازب قال أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم وكانا يقرئان الناس فقد بلال وسعد وعمار بن ياسر ثم قدم عمر بن الخطاب في عشرين نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم ثم قدم النبي صلى الله عليه و سلم فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله صلى الله عليه و سلم حتى جعل الاماء يقلن قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم فما قدم حتى قرأت سبح اسم ربك الأعلى في سور من المفصل ورواه مسلم في صحيحه من حديث اسرائيل عن أبي اسحاق عن البراء ابن عازب بنحوه وفيه التصريح بأن سعد بن ابي وقاص هاجر قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة وقد زعم موسى بن عقبة عن الزهري أنه إنما هاجر بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم والصواب ما تقدم
قال ابن اسحاق ولما قدم عمر بن الخطاب المدينة هو ومن لحق به من أهله وقومه وأخوه زيد ابن الخطاب وعمرو وعبد الله ابنا سراقة بن المعتمر وخنيس بن حذافة السهمي زوج ابنته حفصة وابن عمه سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وواقد بن عبد الله التميمي حليف لهم وخولى بن أبي خولى ومالك بن أبي خولى حليفان لهم من بني عجل وبنو البكير إياس وخالد وعاقل وعامر وحلفاؤهم من بني سعد بن ليث فنزلوا على رفاعة بن عبد المنذر بن زنير في بني عمرو بن عوف بقباء
قال ابن اسحاق ثم تتابع المهاجرون رضي الله عنهم فنزل طلحة بن عبيد الله وصهيب بن سنان على خبيب بن إساف أخي بلحارث بن الخزرج بالسنح ويقال بل نزل طلحة على أسعد ابن زرارة
قال ابن هشام وذكر لي عن أبي عثمان النهدي أنه قال بلغني أن صهيبا حين أراد الهجرة قال له كفار قريش أتيتنا صعلوكا حقيرا فكثر مالك عندنا وبلغت الذي بلغت ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك والله لا يكون ذلك فقال لهم صهيب أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي قالا نعم قال فاني قد جعلت لكم مالي فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال ربح صهيب ربح صهيب وقد قال البيهقي حدثنا الحافظ أبو عبد الله إملاء أخبرنا أبو العباس اسماعيل بن عبد الله بن محمد بن ميكال أخبرنا عبدان الاهوازي حدثنا زيد بن الجريش حدثنا يعقوب بن محمد الزهري حدثنا حصين بن حذيفة بن صيفي بن صهيب حدثني أبي وعمومتي عن سعيد بن المسيب عن صهيب قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أرأيت دار هجرتكم سبخة بين ظهراني حرتين فإما أن تكون هجر أو تكون يثرب قال وخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة وخرج معه أبو بكر وكنت (3/173)
قد هممت معه بالخروج فصدني فتيان من قريش فجعلت ليلتي تلك أقوم لا أقعد فقالوا قد شغله الله عنكم ببطنه ولم أكن شاكيا فناموا فخرجت ولحقني منهم ناس بعد ما سرت يريدوا ليردوني فقلت لهم إن أعطيتكم أواقي من ذهب وتخلوا سبيلي وتوفون لي ففعلوا فتبعتهم إلى مكة فقلت احفروا تحت أسكفة الباب فإن بها أواقي واذهبوا إلى فلانة فخذوا الحلتين وخرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه و سلم بقباء قبل أن يتحول منها فلما رآني قال يا أبى يحيى ربح البيع فقلت يا رسول الله ما سبقني إليك أحد وما أخبرك إلا جبرائيل عليه السلام
قال ابن اسحاق ونزل حمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة وأبو مرثد كناز بن الحصين وابنه مرثد الغنويان حليفا حمزة وأنسة وأبو كبشة موليا رسول الله صلى الله عليه و سلم على كلثوم بن الهدم أخي بني عمرو بن عوف بقباء وقيل على سعد بن خيثمة وقيل بل نزل حمزة على أسعد بن زرارة والله أعلم قال ونزل عبيدة بن الحارث وأخواه الطفيل وحصين ومسطح بن أثاثة وسويبط بن سعد ابن حريملة أخو بني عبد الدار وطليب بن عمير أخو بني عبد بن قصي وخباب مولى عتبة بن غزوان على عبد الله بن سلمة أخي بلعجلان بقباء ونزل عبد الرحمن بن عوف في رجال من المهاجرين على سعد بن الربيع ونزل الزبير بن العوام وأبو سبرة بن أبي رهم على منذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح بالعصبة دار بني جحجبي ونزل مصعب بن عمير على سعد بن معاذ ونزل أبو حذيفة بن عتبة وسالم مولاه 4 على سلمة قال ابن اسحاق وقال الاموي على خبيب بن اساف أخى بني حارثة ونزل عتبة بن غزوان على عباد بن بشر بن وقش في بني عبد الاشهل ونزل عثمان بن عفان على أوس بن ثابت بن المنذر أخي حسان بن ثابت في دار بني النجار قال ابن اسحاق ونزل العزاب من المهاجرين على سعد بن خيثمة وذلك أنه كان عزبا والله أعلم في أي ذلك كان
وقال يعقوب بن سفيان حدثني احمد بن أبي بكر بن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف حدثنا عبد العزيز بن محمد عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه قال قدمنا مكة فنزلنا العصبة عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة فكان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة لانه كان أكثرهم قرآنا فصل
في سبب هجرة رسول الله صلى الله عليه و سلم بنفسه الكريمة
قال الله تعالى وقل ربي أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك (3/174)
سلطانا نصيرا أرشده الله وألهمه أن يدعو بهذا الدعاء [ و ] أن يجعل له مما هو فيه فرجا قريبا ومخرجا عاجلا فاذن له تعالى في الهجرة إلى المدينة النبوية حيث الانصار والاحباب فصارت له دارا وقرارا وأهلها له انصارا
قال احمد بن حنبل وعثمان بن أبي شيبة عن جرير عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة فأمر بالهجرة وأنزل عليه وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا وقال قتادة أدخلني مدخل صدق المدينة وأخرجني مخرج صدق الهجرة من مكة واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا كتاب الله وفرائضه وحدوده
قال ابن اسحاق وأقام رسول الله بمكة بعد أصحابه من المهاجرين ينتظر أن يؤذن له في الهجرة ولم يتخلف معه بمكة إلا من حبس أو فتن إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر بن أبي قحافة رضي الله عنهما وكان أبو بكر كثيرا ما يستأذن رسول الله صلى الله عليه و سلم في الهجرة فيقول له لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا فيطمع أبو بكر أن يكونه فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد صار له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين اليهم عرفوا أنهم قد نزلوا دارا وأصابوا منهم منعة فحذروا خروج رسول الله صلى الله عليه و سلم اليهم وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم فاجتمعوا له في دار الندوة وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمرا إلا فيها يتشاورون فيما يصنعون في أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم حين خافوه قال ابن اسحاق فحدثني من لا أتهم من أصحابنا عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد بن جبر عن عبد الله بن عباس وغيره مما لا أتهم عن عبد الله بن عباس قال لما اجتمعوا لذلك واتعدوا أن يدخلوا في دار الندوة ليتشاوروا فيها في أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم غدوا في اليوم الذي اتعدوا له وكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة فاعترضهم ابليس لعنه الله في صورة شيخ جليل عليه بتلة فوقف على باب الدار فلما رأوه واقفا على بابها قالوا من الشيخ قال شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون وعسى أن لا يعدمكم منه رأيا ونصحا قالوا أجل فادخل فدخل معهم وقد اجتمع فيها اشراف قريش عتبة وشيبة وأبو سفيان وطعيمة بن عدي وجبير بن مطعم بن عدي والحارث بن عامر بن نوفل والنضر بن الحارث وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الاسود وحكيم بن حزام وأبو جهل بن هشام ونبيه ومنبه ابنا الحجاج (3/175)
وأمية بن خلف ومن كان منهم وغيرهم ممن لا يعد من قريش فقال بعضهم لبعض إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم وإننا والله ما نأمنه على الوثوب علينا بمن قد اتبعه من غيرنا فاجمعوا فيه رأيا قال فتشاوروا ثم قال قائل منهم قيل إنه أبو البختري بن هشام احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا ثم تربصوا به ما أصاب اشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله زهيرا والنابغة ومن مضى منهم من هذا الموت حتى يصيبه ما أصابهم فقال الشيخ النجدي لا والله ما هذا لكم برأي والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب هذا الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم ما هذا لكم برأي فتشاوروا ثم قال قائل منهم نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا فاذا خرج عنا فوالله ما نبالي أين ذهب ولا حيث وقع إذا غاب عنا وفرغنا منه فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت قال الشيخ النجدي لا والله ما هذا لكم برأي ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به والله لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل على حي من العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه ثم يسير بهم اليكم حتى يطأكم بهم فيأخذ أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد أديروا فيه رأيا غير هذا فقال أبو جهل بن هشام والله إن لي فيه رأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد قالوا وما هو يا أبا الحكم قال أرى ان نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسيبا وسيطا وفينا ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما ثم يعمدوا اليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه فانهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعها فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا فرضوا منا بالعقل فعقلناه لهم قال يقول الشيخ النجدي القول ما قال الرجل هذا الرأي ولا رأي غيره فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له فأتى جبرائيل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه قال فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه فلما رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم مكانهم قال لعلي بن أبي طالب نم على فراشي وتسج ببردي هذا الحضرمي الاخضر فنم فيه فانه لن يخلص اليك شيء تكرهه منهم وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم ينام في برده ذلك إذا نام
وهذه القصة التي ذكرها ابن اسحاق قد رواها الواقدي بأسانيده عن عائشة وابن عباس وعلي وسراقة بن مالك بن جعشم وغيرهم دخل حديث بعضهم في بعض فذكر نحو ما تقدم
قال ابن اسحاق فحدثني يزيد بن أبي زياد عن محمد بن كعب القرظي قال لما اجتمعوا له وفيهم أبو جهل قال وهم على بابه إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم جنان كجنان الاردن وإن لم تفعلوا كان فيكم ذبح (3/176)
ثم بعثتم بعد موتكم ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها قال فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخذ حفنة من تراب في يده ثم قال نعم أنا أقول ذلك أنت أحدهم وأخذ الله على أبصارهم عنه فلا يرونه فجعل ينثر ذلك التراب على رؤسهم وهو يتلو هذه الآيات يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم الى قوله وجعلنا من بين أيديهم سدا من خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون ولم يبق منهم رجل الا وقد وضع على رأسه ترابا ثم انصرف الى حيث أراد أن يذهب فأتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال ما تنتظرون ههنا قالوا محمدا فقال خيبكم الله قد والله خرج عليكم محمد ثم ما ترك منكم رجلا الا وقد وضع على رأسه ترابا وانطلق لحاجته أفما ترون ما بكم قال فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فاذا عليه تراب ثم جعلوا يتطلعون فيرون عليا على الفراش متسجيا ببرد رسول الله صلى الله عليه و سلم فيقولون والله إن هذا لمحمد نائما عليه برده فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا فقام علي عن الفراش فقالوا والله لقد كان صدقنا الذي كان حدثنا
قال ابن اسحاق فكان مما أنزل الله في ذلك اليوم وما كانوا أجمعوا له قوله تعالى وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين وقوله أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قل تربصوا فاني معكم من المتربصين قال ابن اسحاق فأذن الله لنبيه صلى الله عليه و سلم عند ذلك بالهجرة باب
هجرة رسول الله صلى الله عليه و سلم بنفسه الكريمة من مكة الى المدينة ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه
وذلك أول التاريخ الاسلامي كما اتفق عليه الصحابة في الدولة العمرية كما بيناه في سيرة عمر رضي الله عنه وعنهم أجمعين قال البخاري حدثنا مطر بن الفضل ثنا روح ثنا هشام ثنا عكرمة عن ابن عباس قال بعث النبي صلى الله عليه و سلم لأربعين سنة فمكث فيها ثلاث عشرة يوحى اليه ثم مر بالهجرة فهاجر عشر سنين ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة وقد كانت هجرته عليه السلام في شهر ربيع الأول سنة ثلاث عشرة من بعثته عليه السلام وذلك في يوم الاثنين كما رواه الامام حمد عن ابن عباس أنه قال ولد نبيكم يوم الاثنين وخرج من مكة يوم الاثنين ونبئ يوم الاثنين ودخل المدينة يوم الاثنين وتوفي يوم الاثنين
قال محمد بن اسحاق وكان أبو بكر حين استأذن رسول الله صلى الله عليه و سلم في الهجرة فقال له لا تعجل لعل الله أن يجعل لك صاحبا قد طمع بأن يكون رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما يعني نفسه فابتاع راحلتين حبسهما في داره يعلفهما اعدادا لذلك قال الواقدي اشتراهما بثمانمائة درهم (3/177)
قال ابن اسحاق فحدثني من لا أتهم عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت كان لا يخطئ رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار إما بكرة وإما عشية حتى إذا كان اليوم الذي أذن الله فيه رسوله صلى الله عليه و سلم في الهجرة والخروج من مكة من بين ظهري قومه أتانا رسول الله صلى الله عليه و سلم بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها قالت فلما رآه أبو بكر قال ما جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم في هذه الساعة إلا لأمر حدث قالت فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره فجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم وليس عند رسول الله صلى الله عليه و سلم أحد إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم اخرج عني من عندك قال يا رسول الله إنما هما ابنتاي وما ذاك فداك أبي وأمي قال إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة قالت فقال أبو بكر الصحبة يا رسول الله قال الصحبة قالت فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يومئذ يبكي ثم قال يا نبي الله إن هاتين راحلتين كنت أعددتهما لهذا فاستأجرا عبد الله بن أرقد قال ابن هشام ويقال عبد الله بن أريقط رجلا من بني الدئل بن بكر وكانت أمه من بني سهم بن عمرو وكان مشركا يدلهما على الطريق ودفعا اليه راحلتيهما فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما قال ابن اسحاق ولم يعلم فيما بلغني بخروج رسول الله صلى الله عليه و سلم أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب وابو بكر الصديق وآل أبي بكر أما علي فان رسول الله صلى الله عليه و سلم أمره أن يتخلف حتى يؤدي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم الودائع التي كانت عنده للناس وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم وليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده لما يعلم من صدقه وأمانته قال ابن اسحاق فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه و سلم [ الخروج ] أتى أبا بكر بن أبي قحافة فخرجا من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته وقد روى أبو نعيم من طريق ابراهيم بن سعد عن محمد بن اسحاق قال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما خرج من مكة مهاجرا الى الله يريد المدينة قال الحمد لله الذي خلقني ولم أك شيئا اللهم أعني على هول الدنيا وبوائق الدهر ومصائب الليالي والأيام اللهم اصحبني في سفري واخلفني في أهلي وبارك لي فيما رزقتني ولك فذللني وعلى صالح خلقي فقومني واليك رب فحببني وإلى الناس فلا تكلني رب المستضعفين وأنت ربي أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت له السموات والأرض وكشفت به الظلمات وصلح عليه أمر الأولين والآخرين أن تحل على غضبك وتنزل بي سخطك أعوذ بك من زوال نعمتك وفجأة نقمتك وتحول عافيتك وجميع سخطك لك العقبى عندي خير ما استطعت لا حول ولا قوة إلا بك (3/178)
قال ابن اسحاق ثم عمدا إلى غار بثور جبل بأسفل مكة فدخلاه وامر أبو بكر الصديق ابنه عبد الله ان يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره ثم يأتيهما اذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره ثم يريحها عليهما إذا أمسى في الغار فكان عبد الله بن أبي بكر يكون في قريش نهاره معهم يسمع ما يأتمرون به وما يقولون في شأن رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبي بكر ثم يأتيهما إذا أمسى فيخبرهما الخبر وكان عامر بن فهيرة يرعى في رعيان أهل مكة فاذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر فاحتلبا وذبحا فاذا غدا عبد الله بن أبي بكر من عندهما إلى مكة أتبع عامر بن فهيرة اثره بالغنم يعفى عليه وسيأتي في سياق البخاري ما يشهد لهذا وقد حكى ابن جرير عن بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سبق الصديق في الذهاب الى غار ثور وأمر عليا أن يدله على مسيره ليلحقه فلحقه في أثناء الطريق وهذا غريب جدا وخلاف المشهور من أنهما خرجا معا
قال ابن اسحاق وكانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما قالت أسماء ولما خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو بكر أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام فوقفوا على باب أبي بكر فخرجت اليهم فقالوا أين أبوك ياابنة أبي بكر قالت قلت لا أدري والله أين أبي قالت فرفع أبو جهل يده وكان فاحشا خبيثا فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي ثم انصرفوا قال ابن اسحاق وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير أن أباه حدثه عن جدته أسماء قالت لما خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم وخرج أبو بكر معه احتمل أبو بكر ماله كله معه خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف درهم فانطلق بها معه قالت فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره فقال والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه قالت قلت كلا يا أبة إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا قالت وأخذت أحجارا فوضعتها في كوة في البيت الذي كان أبي يضع ماله فيها ثم وضعت عليها ثوبا ثم أخذت بيده فقلت يا أبة ضع يدك على هذا المال قالت فوضع يده عليه فقال لا بأس إذ كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن وفي هذا بلاغ لكم ولا والله ما ترك لنا شيئا ولكن أردت أن اسكن الشيخ بذلك
وقال ابن هشام وحدثني بعض أهل العلم أن الحسن بن أبي الحسن البصري قال انتهى رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو بكر إلى الغار ليلا فدخل أبو بكر قبل رسول الله صلى الله عليه و سلم فلمس الغار لينظر افيه سبع أو حية يقي رسول الله صلى الله عليه و سلم بنفسه وهذا فيه انقطاع من طرفيه وقد قال أبو القاسم البغوي حدثنا داود بن عمرو الضبي ثنا نافع بن عمر الجمحي عن ابن أبي مليكة أن النبي صلى الله عليه و سلم لما خرج هو وأبو بكر إلى ثور فجعل أبو بكر يكون أمام النبي صلى الله عليه و سلم مرة وخلفه مرة فسأله النبي صلى الله عليه و سلم عن (3/179)
ذلك فقال إذا كنت خلفك خشيت أن تؤتى من امامك وإذا كنت امامك خشيت أن تؤتى من خلفك حتى إذا انتهى إلى الغار من ثور قال أبو بكر كما أنت حتى أدخل يدي فاحسه وأقصه فان كانت فيه دابة اصابتني قبلك قال نافع فبلغني أنه كان في الغار جحر فألقم أبو بكر رجله ذلك الجحر تخوفا أن يخرج منه دابة أو شيء يؤذي رسول الله صلى الله عليه و سلم وهذا مرسل وقد ذكرنا له شواهد أخر في سيرة الصديق رضي الله عنه
وقال البيهقي أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا أبو بكر احمد بن اسحاق أنا موسى بن الحسن ثنا عباد ثنا عفان بن مسلم ثنا السري بن يحيى ثنا محمد بن سيرين قال ذكر رجال على عهد عمر فكأنهم فضلوا عمر على أبي بكر فبلغ ذلك عمر فقال والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر وليوم من أبي بكر خير من آل عمر لقد خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة انطلق إلى الغار ومعه أبو بكر فجعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه حتى فطن رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا أبا بكر مالك تمشي ساعة خلفي وساعة بين يدي فقال يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك ثم اذكر الرصد فأمشي بين يديك فقال يا أبا بكر لو كان شيء لأحببت أن يكون بك دوني قال نعم والذي بعثك بالحق فلما انتهينا إلى الغار قال أبو بكر مكانك يا رسول الله حتى استبرئ لك الغار فدخل فاستبرأه حتى إذا كان ذكر أنه لم يستبرئ الجحرة فقال مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ فدخل فاستبرأ ثم قال انزل يا رسول الله فنزل ثم قال عمر والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر وقد رواه البيهقي من وجه آخر عن عمر وفيه أن أبا بكر جعل يمشي بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم تارة وخلفه أخرى وعن يمينه وعن شماله وفيه أنه لما حفيت رجلا رسول الله صلى الله عليه و سلم حمله الصديق على كاهله وأنه لما دخل الغار سدد تلك الأجحرة كلها وبقي منها جحر واحد فألقمه كعبه فجعلت الافاعي تنهشه ودموعه تسيل فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تحزن إن الله معنا وفي هذا السياق غرابة ونكارة وقال البيهقي أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وابو سعيد بن أبي عمرو قالا ثنا أبو العباس الاصم ثنا عباس الدوري ثنا اسود بن عامر شاذان ثنا اسرائيل عن الاسود عن جندب بن عبد الله قال كان أبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في الغار فأصاب يده حجر فقال ... إن أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت ...
وقال الامام احمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر أخبرني عثمان الجزري أن مقسما مولى ابن عباس أخبره عن ابن عباس في قوله تعالى وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك قال تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي صلى الله عليه و سلم وقال بعضهم بل اقتلوه وقال بعضهم بل أخرجوه فأطلع الله نبيه صلى الله عليه و سلم على ذلك فبات علي على فراش (3/180)
النبي صلى الله عليه و سلم تلك الليلة وخرج النبي صلى الله عليه و سلم حتى لحق بالغار وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي صلى الله عليه و سلم فلما أصبحوا ثاروا عليه فلما رأوا عليا رد الله عليهم مكرهم فقالوا أين صاحبك هذا فقال لاأدري فاقتفوا أثره فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا لو دخل هاهنا أحد لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاث ليال وهذا اسناد حسن وهو من أجود ما وري في قصة نسج العنكبوت على فم الغار وذلك من حماية الله رسوله صلى الله عليه و سلم
[ وقال الحافظ أبو بكر احمد بن علي بن سعيد القاضي في مسند أبي بكر حدثنا بشار الخفاف ثنا جعفر وسليمان ثنا ابو عمران الجوني حدثنا المعلى بن زياد عن الحسن البصري قال انطلق النبي صلى الله عليه و سلم وابو بكر الى الغار وجاءت قريش يطلبون النبي صلى الله عليه و سلم وكانوا اذا رأوا على باب الغار نسج العنكبوت قالوا لم يدخل احد وكان النبي صلى الله عليه و سلم قائما يصلي وأبو بكر يرتقب فقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه و سلم هؤلاء قومك يطلبونك أما الله ما على نفسي أثل ولكن مخافة أن أرى فيك ما أكره فقال له النبي صلى الله عليه و سلم يا ابا بكر لا تخف إن الله معنا وهذا مرسل عن الحسن وهو حسن بحاله من الشاهد وفيه زيادة صلاة النبي صلى الله عليه و سلم في الغار وقد كان عليه السلام إذا أحزنه أمر صلى وروى هذا الرجل اعني أبو بكر احمد بن علي القاضي [ عن ] عمرو الناقد عن خلف بن تميم عن موسى بن مطر عن أبيه عن ابي هريرة أن أبا بكر قال لابنه يا بني اذا حدث في الناس حدث فأت الغار الذي اختبأت فيه أنا ورسول الله صلى الله عليه و سلم فكن فيه فانه سيأتيك رزقك فيه بكرة وعشيا ] وقد نظم بعضهم هذا في شعره حيث يقول ... نسج داود ما حمى صاحب الغا ... ر وكان الفخار للعنكبوت ...
وقد ورد أن حمامتين عششتا على بابه أيضا وقد نظم ذلك الصرصري في شعره حيث يقول ... فغمى عليه العنكبوت بنسجه ... وظل على الباب الحمام يبيض ...
والحديث بذلك رواه الحافظ ابن عساكر من طريق يحيى بن محمد بن صاعد حدثنا عمرو بن علي ثنا عون بن عمرو ابو عمرو القيسي ويلقب عوين حدثني أبو مصعب المكي قال أدركت زيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة وأنس بن مالك يذكرون أن النبي صلى الله عليه و سلم ليلة الغار أمر الله شجرة (3/181)
فخرجت في وجه النبي صلى الله عليه و سلم تستره وأن الله بعث العنكبوت فنسجت ما بينهما فسترت وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم وأمر الله حمامتين وحشيتين فأقبلتا يدفان حتى وقعتا بين العنكبوت وبين الشجرة وأقبلت فتيان قريش من كل بطن منهم رجل معهم عصيهم وقسيهم وهراواتهم حتى اذا كانوا من رسول الله صلى الله عليه و سلم قدر مائتي ذراع قال الدليل وهو سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي هذا الحجر ثم لا أدري أين وضع رجله فقال الفتيان أنت لم تخطئ منذ الليلة حتى اذا أصبحن قال انظروا في الغار فاستبقه القوم حتى اذا كانوا من النبي صلى الله عليه و سلم قدر خمسين ذراعا فاذا الحمامتان ترجع فقالوا ما ردك أن تنظر في الغار قال رأيت حمامتين وحشيتين بفم الغار فعرفت أن ليس فيه أحد فسمعها النبي صلى الله عليه و سلم فعرف ان الله قد درأ عنهما بهما فسمت عليهما أي برك عليهما وأحدرهما الله إلى الحرم فأفرخا كما ترى وهذا حديث غريب جدا من هذا الوجه قد رواه الحافظ أبو نعيم من حديث مسلم بن ابراهيم وغيره عن عون بن عمرو وهو الملقب بعوين باسناده مثله وفيه أن جميع حمام مكة من نسل تيك الحمامتين وفي هذا الحديث أن القائف الذي اقتفى لهم الاثر سراقة بن مالك المدلجي وقد روى الواقدي عن موسى بن محمد بن ابراهيم عن أبيه أن الذي اقتفى لهم الاثر كرز بن علقمة
قلت ويحتمل أن يكونا جميعا اقتفيا الاثر والله أعلم وقد قال الله تعالى إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم يقول تعالى مؤنبا لمن تخلف عن الجهاد مع الرسول إلا تنصروه أنتم فان الله ناصره ومؤيده ومظفره كما نصره إذ أخرجه الذين كفروا من أهل مكة هاربا ليس معه غير صاحبه وصديقه أبي بكر ليس غيره ولهذا قال ثاني اثنين اذ هما في الغار أي وقد لجآ إلى الغار فأقاما فيه ثلاثة أيام ليسكن الطلب عنهما وذلك لأن المشركين حين فقدوهما كما تقدم ذهبوا في طلبهما كل مذهب من سائر الجهات وجعلوا لمن ردهما أو أحدهما مائة من الابل واقتصوا آثارهما حتى اختلط عليهم وكان الذي يقتص الاثر لقريش سراقة بن مالك بن جعشم كما تقدم فصعدوا الجبل الذي هما فيه وجعلوا يمرون على باب الغار فتحاذى أرجلهم لباب الغار ولا يرونهما حفظا من الله لهما كما قال الامام احمد حدثنا عفان ثنا همام أنا ثابت عن أنس بن مالك أن أبا بكر حدثه قال قلت للنبي صلى الله عليه و سلم ونحن في الغار لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لابصرنا تحت قدميه فقال يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث همام به وقد ذكر (3/182)
بعض أهل السير أن أبا بكر لما قال ذلك قال النبي صلى الله عليه و سلم لو جاؤنا من ههنا لذهبنا من هنا فنظر الصديق إلى الغار قد انفرج من الجانب الآخر وإذا البحر قد اتصل به وسفينة مشدودة إلى جانبه وهذا ليس بمنكر من حيث القدرة العظيمة ولكن لم يرد ذلك باسناد قوي ولا ضعيف ولسنا نثبت شيئا من تلقاء أنفسنا ولكن ما صح أو حسن سنده قلنا به والله أعلم
وقد قال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا الفضل بن سهل ثنا خلف بن تميم ثنا موسى بن مطير القرشي عن أبيه عن أبي هريرة أن أبا بكر قال لابنه يا بني إن حدث في الناس حدث فأت الغار الذي رأيتني اختبأت فيه أنا ورسول الله صلى الله عليه و سلم فكن فيه فانه سيأتيك فيه رزقك غدوة وعشية ثم قال البزار لا نعلم يرويه غير خلف بن تميم
قلت وموسى بن مطير هذا ضعيف متروك وكذبه يحيى بن معين فلا يقبل حديثه وقد ذكر يونس بن بكير عن محمد بن اسحاق أن الصديق قال في دخولهما الغار وسيرهما بعد ذلك وما كان من قصة سراقة كما سيأتي شعرا فمنه قوله ... قال النبي ولم أجزع يوقرني ... ونحن في سدف من ظلمة الغار ... لا تخش شيئا فإن الله ثالثنا ... وقد توكل لي منه بإظهار ...
وقد روى أبو نعيم هذه القصيدة من طريق زياد عن محمد بن اسحاق فذكرها مطولة جدا وذكر معها قصيدة أخرى والله أعلم وقد روى ابن لهيعة عن أبي الاسود عن عروة بن الزبير قال فمكث رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد الحج يعني الذي بايع فيه الانصار بقية ذي الحجة والمحرم وصفر ثم إن مشركي قريش أجمعوا أمرهم ومكرهم على أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه و سلم أو يحبسوه أو يخرجوه فأطلعه الله على ذلك فأنزل عليه وإذ يمكر بك الذين كفروا الآية فأمر عليا فنام على فراشه وذهب هو وأبو بكر فلما أصبحوا ذهبوا في طلبهما في كل وجه يطلبونهما وهكذا ذكر موسى بن عقبة في مغازيه وان خروجه هو وابو بكر الى الغار كان ليلا وقد تقدم عن الحسن البصري فيما ذكره ابن هشام التصريح بذلك ايضا وقال البخاري حدثنا يحيى بن بكير ثنا الليث عن عقيل قال ابن شهاب فأخبرني عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه و سلم قالت لم أعقل أبوى قط إلا وهما يدينان الدين ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم طرفي النهار بكرة وعشية فلما ابتلى المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة حتى اذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة فذكرت ما كان من رده لأبي بكر إلى مكة وجواره له كما قدمناه عند هجرة الحبشة إلى قوله فقال أبو بكر فاني أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله قالت والنبي صلى الله عليه و سلم (3/183)
يومئذ بمكة فقال النبي صلى الله عليه و سلم للمسلمين إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان فهاجر من هاجر قبل المدينة ورجع بعض من كان هاجر قبل الحبشة الى المدينة وتجهز أبو بكر مهاجرا قبل المدينة فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم على رسلك فاني أرجو أن يؤذن لي فقال أبو بكر وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي قال نعم فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه و سلم ليصحبه وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر وهو الخبط أربعة أشهر وذكر بعضهم أنه علفهما ستة أشهر قال ابن شهاب قال عروة قالت عائشة فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في حر الظهيرة فقال قائل لابي بكر هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها فقال أبو بكر فداء له أبي وأمي والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر قالت فجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستأذن فأذن له فدخل فقال النبي صلى الله عليه و سلم أخرج من عندك فقال أبو بكر إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله قال فانه قد أذن لي في الخروج فقال ابو بكر الصحبة بأبي أنت وأمي قال النبي صلى الله عليه و سلم نعم قال أبو بكر فخذ انت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم بالثمن قالت عائشة فجهزناهما أحث الجهاز فصنعنا لهما سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب فلذلك سميت ذات النطاقين قالت ثم لحق رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو بكر بغار في جبل ثور فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت لا يسمع أمرا يكاد ان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حين يذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل وهو لبن منحتهما ورضيعهما حتى [ ينعق بها ] عامر بن فهيرة بغلس يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث واستأجر رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو بكر رجلا من بني الدئل وهو من بني عبد ابن عدي هاديا خريتا والخريت الماهر بالهداية قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي وهو على دين كفار قريش فأمناه فدفعا اليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث ليال وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم طريق السواحل قال ابن شهاب فأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي وهو ابن أخي سراقة أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن مالك (3/184)
ابن جعشم يقول جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس فقال يا سراقة إني رأيت آنفا أسودة بالساحل أراها محمدا وأصحابه قال سراقة فعرفت أنهم هم فقلت له إنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا ثم لبثت في المجلس ساعة ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة فتحبسها علي وأخذت رمحي فخرجت من ظهر البيت فخططت بزجه الأرض وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها فدفعتها ففرت بي حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي فخررت عنها فقمت فأهويت يدي الى كنانتي فاستخرجت منها الازلام فاستقسمت بها أضرهم أم لا فخرج الذي أكره فركبت فرسي وعصبت الازلام فجعل فرسي يقرب بي حتى اذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الارض حتى بلغتا الركبتين فخررت عنها فأهويت ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان فاستقسمت الازلام فخرج الذي اكره فناديتهم بالأمان فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت له إن قومك قد جعلوا فيك الدية وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرداني ولم يسألاني إلا أن قالا اخف عنا فسألته أن يكتب لي كتاب أمن فأمر عامر ابن فهيرة فكتب لي رقعة من أدم ثم مضى رسول الله صلى الله عليه و سلم
وقد روى محمد بن اسحاق عن الزهري عن عبد الرحمن بن مالك بن جعشم عن أبيه عن عمه سراقة فذكر هذه القصة إلا أنه ذكر أنه استقسم بالازلام أول ما خرج من منزله فخرج السهم الذي يكره لا يضره وذكر أنه عثر به فرسه أربع مرات وكل ذلك يستقسم بالازلام ويخرج الذي يكره لا يضره حتى ناداهم بالامان وسأل أن يكتب له كتابا يكون أمارة ما بينه وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم قال فكتب لي كتابا في عظم أو رقعة أو خرقة وذكر أنه جاء به الى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو بالجعرانة مرجعه من الطائف فقال له يوم وفاء وبر أدنه فدنوت منه وأسلمت قال ابن هشام هو عبد الرحمن بن الحارث بن مالك بن جعشم وهذا الذي قاله جيد
ولما رجع سراقة جعل لا يلقى أحدا من الطلب إلا رده وقال كفيتم هذا الوجه فلما ظهر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد وصل الى المدينة جعل سراقة يقص على الناس ما رأى وما شاهد من أمر النبي صلى الله عليه و سلم وما كان من قضية جواده واشتهر هذا عنه فخاف رؤساء قريش معرته وخشوا أن يكون ذلك سببا (3/185)
لاسلام كثير منهم وكان سراقة أمير بني مدلج ورئيسهم فكتب أبو جهل لعنه الله إليهم ... بني مدلج إني أخاف سفيهكم ... سراقة مستغو لنصر محمد ... عليكم به ألا يفرق جمعكم ... فيصبح شتى بعد عز وسؤدد ...
قال فقال سراقة بن مالك يجيب أبا جهل في قوله هذا
... ابا حكم والله لو كنت شاهدا ... لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه ... عجيب ولم تشكك بأن محمدا ... رسول وبرهان فمن ذا يقاومه ... عليك فكف القوم عنه فإنني ... أخال لنا يوما ستبدو معالمه ... بأمر تود النصر فيه فإنهم ... وإن جميع الناس طرا مسالمه ...
[ وذكر هذا الشعر الاموي في مغازيه بسنده عن أبي اسحاق وقد رواه أبو نعيم بسنده من طريق زياد عن ابن اسحاق وزاد في شعر أبي جهل أبياتا تتضمن كفرا بليغا ]
وقال البخاري بسنده إلى ابن شهاب فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام فكسى الزبير رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبا بكر ثياب بياض وسمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم من مكة فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم فلما أووا إلى بيوتهم اوفى رجل من اليهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر اليه فبصر برسول الله صلى الله عليه و سلم واصحابه مبيضين يزول بهم السراب فلم يملك اليهودي أن قال بأعلا صوته يا معشرالعرب هذا جدكم الذي تنتظرون فثار المسلمون الى السلاح فتلقوا رسول الله صلى الله عليه و سلم بظهر الحرة فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الاول فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم صامتا فطفق من جاء من الانصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه و سلم يحيي أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه و سلم فأقبل ابو بكر حتى ظلل عليه بردائه فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه و سلم عند ذلك فلبث رسول الله صلى الله عليه و سلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة وأسس المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم ركب راحلته وسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين وكان مربدا للتمر لسهيل وسهل غلامين يتيمين في حجر اسعد بن زرارة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم حين بركت به راحلته هذا إن شاء الله المنزل ثم دعا صلى الله عليه و سلم الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا فقالا بل نهبه لك (3/186)
يا رسول الله فأبى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما ثم بناه مسجدا فطفق رسول الله صلى الله عليه و سلم ينقل معهم اللبن في بنيانه وهو يقول حين ينقل اللبن ... هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر ... ويقول ... لاهم إن الأجر أجر الآخرة ... فارحم الأنصار والمهاجره ...
فتمثل بشعر رجل من المسلمين لم يسم لي قال ابن شهاب ولم يبلغنا في الاحاديث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم تمثل ببيت شعر تام غير هذه الابيات هذا لفظ البخري وقد تفرد بروايته دون مسلم وله شواهد من وجوه أخر وليس فيه قصة أم معبد الخزاعية ولنذكر هنا ما يناسب ذلك مرتبا أولا فأولا
قال الامام احمد حدثنا عمرو بن محمد ابو سعيد العنقزي ثنا اسرائيل عن أبي اسحاق عن البراء بن عازب قال اشترى أبو بكر من عازب سرجا بثلاثة عشر درهما فقال أبو بكر لعازب مر البراء فيلحمله إلى منزلي فقال لا حتى تحدثنا كيف صنعت حين خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنت معه فقال أبو بكر خرجنا فأدلجنا فأحثثنا يومنا وليلتنا حتى أظهرنا وقام قائم الظهيرة فضربت بصري هل أرى ظلا نأوي اليه فاذا أنا بصخرة فأهويت اليها فإذا هي بقية ظلها فسويته لرسول الله صلى الله عليه و سلم وفرشت له فروة وقلت اضطجع يا رسول الله فاضطجع ثم خرجت أنظر هل أرى أحدا من الطلب فاذا أنا براعي غنم فقلت لمن أنت يا غلام فقال لرجل من قريش فسماه فعرفته فقلت هل في غنمك من لبن قال نعم قلت هل أنت حالب لي قال نعم فأمرته فاعتقل شاة منها ثم أمرته فنفض ضرعها من الغبار ثم أمرته فنفض كفيه من الغبار ومعي أداوة على فمها خرقة فحلب لي كثبة من اللبن فصببت على القدح حتى برد أسفله ثم اتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فوافيته وقد استيقظ فقلت اشرب يا رسول الله فشرب حتى رضيت ثم قلت هل آن الرحيل فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحد منهم إلا سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له فقلت يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا قال لا تحزن إن الله معنا حتى إذا دنا منا فكان بيننا وبينه قدر رمح أو (3/187)
رمحين أو قال رمحين أو ثلاثة قلت يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا وبكيت قال لم تبكي [ قلت ] اما والله ما على نفسي أبكي ولكن ابكي عليك فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال اللهم اكفناه بما شئت فساخت قوائم فرسه إلى بطنها في أرض صلد ووثب عنها وقال يا محمد قد علمت أن هذا عملك فادع الله ان ينجيني مما أنا فيه فوالله لاعمين على من ورائي من الطلب وهذه كنانتي فخذ منها سهما فانك ستمر بابلي وغنمي بموضع كذا وكذا فخذ منها حاجتك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا حاجة لي فيها ودعا له رسول الله صلى الله عليه و سلم فأطلق ورجع إلى اصحابه ومضى رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا معه حتى قدمنا المدينة وتلقاه الناس فخرجوا في الطرق على الاناجير واشتد الخدم والصبيان في الطريق يقولون الله أكبر جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم جاء محمد قال وتنازع القوم أيهم ينزل عليه قال فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أنزل الليلة على بني النجار أخوال عبد المطلب لاكرمهم بذلك فلما أصبح غدا حيث أمر قال البراء أول من قدم علينا من المهاجرين مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار ثم قدم علينا ابن أم مكتوم الأعمى أحد بني فهر ثم قدم علينا عمر بن الخطاب في عشرين راكبا فقلنا ما فعل رسول الله قال هو على أثري ثم قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو بكر معه قال البراء ولم يقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى قرأت سورا من المفصل أخرجاه في الصحيحين من حديث اسرائيل بدون قول البراء أول من قدم علينا الخ فقد انفرد به مسلم فرواه من طريق اسرائيل به
وقال ابن اسحاق فاقام رسول الله صلى الله عليه و سلم في الغار ثلاثا ومعه أبو بكر وجعلت قريش فيه حين فقدوه مائة ناقة لمن رده عليهم فلما مضت الثلاث وسكن عنهما الناس أتاهما صاحبهما الذي استأجراه ببعيريهما وبعير له وأتتهما أسماء بنت أبي بكر بسفرتهما ونسيت أن تجعل لها عصاما فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فاذا ليس فيها عصام فتحل نطاقها فتجعله عصاما ثم علقتها به فكان يقال لها ذات النطاقين لذلك
قال ابن اسحاق فلما قرب أبو بكر الراحلتين إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قدم له افضلهما ثم قال اركب فداك أبي وأمي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إني لا أركب بعيرا ليس لي قال فهي لك يا رسول الله بأبي أنت وأمي قال لا ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به قال كذا وكذا قال أخذتها بذلك قال هي لك يا رسول الله
وروى الواقدي بأسانيده أنه عليه السلام أخذ القصواء قال وكان أبو بكر اشتراهما بثمانمائة درهم وروى ابن عساكر من طريق أبي أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت وهي الجدعاء (3/188)
وهكذا حكى السهيلي عن ابن اسحاق أنها الجدعاء والله أعلم
قال ابن اسحاق فركبا وانطلقا وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة مولاه خلفه ليخدمهما في الطريق فحدثت عن اسماء أنها قالت لما خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو بكر أتانا نفر من قريش منهم أبو جهل فذكر ضربه لها على خدها لطمة طرح منها قرطها من اذنها كما تقدم قالت فمكثنا ثلاث ليال ما ندري أين وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أقبل رجل من الجن من اسفل مكة يتغنى بأبيات من شعر غناء العرب وإن الناس ليتبعونه يسمعون صوته وما يرونه حتى خرج من أعلا مكة وهو يقول ... جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلا خيمتي أم معبد ... هما نزلا بالبر ثم تروحا ... فأفلح من أمسى رفيق محمد ... ليهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد ...
قالت أسماء فلما سمعنا قوله عرفنا حيث وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم وأن وجهه إلى المدينة
قال ابن اسحاق وكانوا أربعة رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو بكر وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر وعبد الله بن أرقد كذا يقول ابن اسحاق والمشهور عبد الله بن أريقط الدئلي وكان إذ ذاك مشركا
قال ابن اسحاق ولما خرج بهما دليلهما عبد الله بن ارقد سلك بهما أسفل مكة ثم مضى بهما على الساحل حتى عارض الطريق أسفل من عسفان ثم سلك بهما على اسفل أمج ثم استجاز بهما حتى عارض الطريق بعد أن أجاز قديدا ثم أجاز بهما من مكانه ذلك فسلك بهما الخرار ثم أجاز بهما ثنية المرة ثم سلك بهما لقفا ثم اجاز بهما مدلجة لقف ثم استبطن بهما مدلجة مجاج ثم سلك بهما مرجح مجاج ثم تبطن بهما مرجح من ذي العضوين ثم بطن ذي كشد ثم أخذ بهما على الجداجد ثم على الاجرد ثم سلك بهما ذا سلم من بطن أعداء مدلجة تعهن ثم على العبابيد ثم أجاز بهما القاحة ثم هبط بهما العرج وقد ابطأ عليهم بعض ظهرهم فحمل رسول الله صلى الله عليه و سلم رجل من أسلم يقال له أوس بن حجر على جمل يقال له ابن الرداء إلى المدينة وبعث معه غلاما يقال له مسعود بن هنيدة خرج بهما [ دليلهما من العرج فسلك بها ثنية العائر عن يمين ركوبة (3/189)
ويقال ثنية الغائر فيما قال ابن هشام حتى هبط بهما بطن ريم ثم قدم بهما ] قباء على بني عمرو بن عوف لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الاول يوم الاثنين حين اشتد الضحاء وكادت الشمس تعتدل
وقد روى أبو نعيم من طريق الواقدي نحوا من ذكر هذه المنازل وخالفه في بعضها والله أعلم قال أبو نعيم حدثنا أبو حامد بن جبلة حدثنا محمد بن اسحاق عن السراج حدثنا محمد بن عبادة ابن موسى العجلي حدثني أخي موسى بن عبادة حدثني عبد الله بن سيار حدثني إياس بن مالك بن الاوس الاسلمي عن أبيه قال لما هاجر رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو بكر مروا بابل لنا بالجحفة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لمن هذه الابل فقال لرجل من أسلم فالتفت إلى ابي بكر فقال سلمت إن شاء الله فقال ما اسمك قال مسعود فالتفت إلى ابي بكر فقال سعدت إن شاء الله قال فاتاه أبي فحمله على جمل يقال له ابن الرداء
قلت وقد تقدم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج من مكة يوم الاثنين ودخل المدينة يوم الاثنين والظاهر أن بين خروجه عليه السلام من مكة ودخوله المدينة خمسة عشر يوما لانه أقام بغار ثور ثلاثة أيام ثم سلك طريق الساحل وهي أبعد من الطريق الجادة واجتاز في مروره على أم معبد بنت كعب من بني كعب بن خزاعة قال ابن هشام وقال يونس عن ابن اسحاق اسمها عاتكة بنت خلف بن معبد بن ربيعة بن أصرم وقال الاموي هي عاتكة بنت تبيع حليف بني منقذ بن ربيعة بن اصرم بن صنبيس بن حرام بن خيسة بن كعب بن عمرو ولهذه المرأة من الولد معبد ونضرة وحنيدة بنو أبي معبد واسمه أكتم بن عبد العزى بن معبد بن ربيعة بن اصرم ابن صنبيس وقصتها مشهورة مروية من طرق يشد بعضها بعضا
وهذه قصة أم معبد الخزاعية قال يونس عن ابن اسحاق فنزل رسول الله صلى الله عليه و سلم بخيمة أم معبد واسمها عاتكة بنت خلف بن معبد بن ربيعة بن أصرم فأرادوا القرى فقالت والله ما عندنا طعام ولا لنا منحة ولا لنا شاة إلا حائل فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم ببعض غنمها فمسح ضرعها بيده ودعا الله وحلب في العس حتى أرغى وقال اشربي يا أم معبد فقالت اشرب فانت أحق به فرده (3/190)
عليها فشربت ثم دعا بحائل أخرى ففعل مثل ذلك بها فشربه ثم دعا بحائل أخرى ففعل بها مثل ذلك فسقى دليله ثم دعا بحائل أخرى ففعل بها مثل ذلك فسقى عامرا ثم تروح وطلبت قريش رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى بلغوا أم معبد فسألوا عنه فقالوا أرأيت محمدا من حليته كذا وكذا فوصفوه لها فقالت ما أدري ما تقولون قدمنا فتى حالب الحائل قالت قريش فذاك الذي نريد
وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا محمد بن معمر حدثنا يعقوب بن محمد حدثنا عبد الرحمن بن عقبة ابن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله ثنا أبي عن أبيه عن جابر قال لما خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو بكر مهاجرين فدخلا الغار إذا في الغار جحر فالقمه أبو بكر عقبه حتى أصبح مخافة أن يخرج على رسول الله صلى الله عليه و سلم منه شيء فأقاما في الغار ثلاث ليال ثم خرجا حتى نزلا بخيمات أم معبد فارسلت اليه أم معبد أني أرى وجوها حسانا وإن الحي أقوى على كرامتكم مني فلما أمسوا عندها بعثت مع ابن لها صغير بشفرة وشاة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أردد الشفرة وهات لنا فرقا يعنى القدح فارسلت إليه أن لا لبن فيها ولا ولد قال هات لنا فرقا فجاءت بفرق فضرب ظهرها فاجترت ودرت فحلب فملأ القدح فشرب وسقى أبا بكر ثم حلب فبعث فيه الى أم معبد ثم قال البزار لا نعلمه يروى إلا بهذا الاسناد وعبد الرحمن بن عقبة لا نعلم أحدا حدث عنه إلا يعقوب بن محمد وان كان معروفا في النسب
وروى الحافظ البيهقي من حديث يحيى بن زكريا بن ابي زائدة حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ثنا عبد الرحمن بن الاصبهاني سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي بكر الصديق قال خرجت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم من مكة فانتهينا إلى حي من أحياء العرب فنظر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بيت منتحيا فقصد اليه فلما نزلنا لم يكن فيه إلا امرأة فقالت يا عبد الله إنما أنا امرأة وليس معي أحد فعليكما بعظيم الحي إن أردتم القرى قال فلم يجبها وذلك عند المساء فجاء ابن لها باعنز يسوقها فقالت يا بني انطلق بهذه العنز والشفرة إلى هذين الرجلين فقل لهما تقول لكما أمي اذبحا هذه وكلا وأطعمانا فلما جاء قال له النبي صلى الله عليه و سلم انطلق بالشفرة وجئني بالقدح قال إنها قد عزبت وليس بها لبن قال انطلق فجاء بقدح فمسح النبي صلى الله عليه و سلم ضرعها ثم حلب حتى ملأ القدح ثم قال انطلق به إلى أمك فشربت حتى رويت ثم جاء به فقال انطلق بهذه وجئني بأخرى ففعل بها كذلك ثم سقى أبا بكر ثم جاء باخرى ففعل بها كذلك ثم شرب النبي صلى الله عليه و سلم فبتنا ليلتنا ثم انطلقنا فكانت تسميه المبارك وكثرت غنمها حتى جلبت جلبا إلى المدينة فمر أبو بكر فرأى ابنها فعرفه فقال يا أمه هذا الرجل الذي كان مع المبارك فقامت اليه فقالت يا عبد الله من الرجل الذي كان معك قال أو ما تدرين من هو قالت لا قال هو نبي الله قالت فأدخلني عليه قال فأدخلها (3/191)
فأطعمها رسول الله صلى الله عليه و سلم وأعطاها زاد ابن عبدان في روايته قالت فدلني عليه فانطلقت معي وأهدت لرسول الله صلى الله عليه و سلم شيئا من أقط ومتاع الاعراب قال فكساها وأعطاها قال ولا أعلمه إلا قال وأسلمت اسناد حسن
وقال البيهقي هذه القصة شبيهة بقصة أم معبد والظاهر أنها هي والله أعلم وقال البيهقي أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر احمد بن الحسن القاضي قالا ثنا أبو العباس الاصم ثنا الحسن بن مكرم حدثني أبو احمد بشر بن محمد السكري ثنا عبد الملك بن وهب المذحجي ثنا أبجر بن الصباح عن أبي معبد الخزاعي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج ليلة هاجر من مكة الى المدينة هو وأبو بكر وعامر ابن فهيرة مولى أبي بكر ودليلهم عبد الله بن أريقط الليثي فمروا بخيمتي أم معبد الخزاعية وكانت أم معبد امرأة برزة جلدة تحتبي وتجلس بفناء الخيمة فتطعم وتسقي فسألوها هل عندها لحم أو لبن يشترونه منها فلم يجدوا عندها شيء من ذلك وقالت لو كان عندنا شيء ما أعوذكم القرى وإذا القوم مرملون مسنتون فنظر رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا شاة في كسر خيمتها فقال ما هذه الشاة يا أم معبد فقالت شاة خلفها الجهد عن الغنم قال فهل بها من لبن قالت هي أجهد من ذلك قال تأذنين لي أن أحلبها قالت إن كان بها حلب فاحلبها فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم بالشاة فمسحها وذكر اسم الله ومسح ضرعها وذكر اسم الله ودعا بإناء لها يربض الرهط فتفاجت واجترت فحلب فيها تجا حتى ملأه [ وأرسله اليها ] فسقاها وسقى أصحابه فشربوا عللا بعد نهل حتى إذا رووا شرب آخرهم وقال ساقي القوم آخرهم ثم حلب فيه ثانيا عودا على بدء فغادره عندها ثم ارتحلوا قال فقلما لبث أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزلى لا نقي بهن مخهن قليل فلما رأى اللبن عجب وقال من اين هذا اللبن يا أم معبد ولا حلوبة في البيت والشاة عازب فقالت لا والله إنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت فقال صفيه لي فوالله إني لأراه صاحب قريش الذي تطلب فقالت رأيت رجلا ظاهر الوضاءة حسن الخلق مليح الوجه لم تعبه ثجلة ولم تزر به صعلة قسيم وسيم في عينيه دعج وفي اشفاره وطف وفي صوته صحل أحول أكحل أزج أقرن في عنقه سطع وفي لحيته كثاثة اذا صمت فعليه الوقار واذا تكلم سما وعلاه البهاء حلو المنطق فصل لا نزر ولا هذر كأن منطقه خرزات نظم ينحدرن أبهى الناس وأجمله من بعيد وأحسنه من قريب ربعة لا تنساه عين من طول ولا تقتحمه عين من قصر غصن بين غصنين فهو أنضر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدا له رفقاء يحفون به إن قال استمعوا لقوله وإن أمر تبادروا (3/192)
لأمره محفود محشود لا عابس ولا معتد فقال يعني بعلها هذا والله صاحب قريش الذي تطلب ولو صادفته لالتمست أن أصحبه ولاجهدن إن وجدت إلى ذلك سبيلا قال وأصبح صوت بمكة عال بين السماء والارض يسمعونه ولا يرون من يقول وهو يقول ... جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلا خيمتي أم معبد ... هما نزلا بالبر وارتحلا به ... فافلح من أمسى رفيق محمد ... فيال قصي ما روى الله عنكم ... به من فعال لا تجارى وسؤدد ... سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ... فانكم إن تسألوا الشاة تشهد ... دعاها بشاة حائل فتحلبت ... له بصريح ضرة الشاة مزبد ... فغادره رهنا لديها لحالب ... يدر لها في مصدر ثم مورد ...
قال وأصبح الناس يعني بمكة وقد فقدوا نبيهم فاخذوا على خيمتي أم معبد حتى لحقوا برسول الله صلى الله عليه و سلم قال وأجابه حسان بن ثابت ... لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم ... وقد سر من يسري اليهم ويغتدي ... ترحل عن قوم فزالت عقولهم ... وحل على قوم بنور مجدد ... [ هداهم به بعد الضلالة ربهم ... وأرشدهم من يتبع الحق يرشد ] ... وهل يستوي ضلال قوم تسفهوا ... عمي وهداة يهتدون بمهتد ... نبي يرى مالا يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب الله في كل مشهد ... وإن قال في يوم مقالة غائب ... فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد ... ليهن أبا بكر سعادة جده ... بصحبته من يسعد الله يسعد ... ويهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمسلمين بمرصد ...
قال يعني عبد الملك بن وهب فبلغني أن أبا معبد أسلم وهاجر إلى النبي صلى الله عليه و سلم وهكذا (3/193)
روى الحافظ أبو نعيم من طريق عبد الملك بن وهب المذحجي فذكر مثله سواء وزاد في آخره قال عبد الملك بلغني أن أم معبد هاجرت وأسلمت ولحقت برسول الله صلى الله عليه و سلم ثم رواه أبو نعيم من طرق عن بكر بن محرز الكلبي الخزاعي عن أبيه محرز بن مهدي عن حرام بن هشام بن حبيش بن خالد عن أبيه عن جده حبيش بن خالد صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حين أخرج من مكة منها مهاجرا هو وأبو بكر وعامر بن فهيرة ودليلهما عبد الله بن أريقط الليثي فمروا بخيمة أم معبد وكانت امرأة برزة جلدة تحتبي بفناء القبة وذكر مثل ما تقدم سواء قال وحدثناه فيما أظن محمد بن أحمد بن علي بن مخلد ثنا محمد بن يونس بن موسى يعني الكديمي ثنا عبد العزيز ابن يحيى بن عبد العزيز مولى العباس بن عبد المطلب ثنا محمد بن سليمان بن سليط الانصاري حدثني أبي عن أبيه سليط البدري قال لما خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم في الهجرة ومعه أبو بكر وعامر بن فهيرة وابن أريقط يدلهم على الطريق مر بأم معبد الخزاعية وهي لا تعرفه فقال لها يا أم معبد هل عندك من لبن قالت لا والله إن الغنم لعازبة قال فما هذه الشاة قالت خلفها الجهد عن الغنم ثم ذكر تمام الحديث كنحو ما تقدم
ثم قال البيهقي يحتمل أن هذه القصص كلها واحدة ثم ذكر قصة شبيهة بقصة شاة أم معبد الخزاعية فقال حدثنا أبو عبد الله الحافظ إملاء حدثنا أبو بكر احمد بن اسحاق بن أيوب أخبرنا محمد بن غالب ثنا أبو الوليد ثنا عبد الله بن إياد بن لقيط ثنا إياد بن لقيط عن قيس بن النعمان قال لما انطلق النبي صلى الله عليه و سلم وأبو بكر مستخفين مروا بعبد يرعى غنما فاستسقياه اللبن فقال ما عندي شاة تحلب غير أن ههنا عناقا حملت أول الشتاء وقد أخدجت وما بقي لها من لبن فقال ادع بها فدعا بها فاعتقلها النبي صلى الله عليه و سلم ومسح ضرعها ودعا حتى أنزلت وجاء أبو بكر بمجن فحلب فسقى أبا بكر ثم حلب فسقى الراعي ثم حلب فشرب فقال الراعي بالله من أنت فوالله ما رأيت مثلك قط قال أوتراك تكتم علي حتى أخبرك قال نعم قال فإني محمد رسول الله فقال أنت الذي تزعم قريش أنه صابئ قال إنهم ليقولون ذلك قال فإني أشهد أنك نبي واشهد أن ما جئت به حق وأنه لا يفعل ما فعلت إلا نبي وأنا متبعك قال إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا فإذا بلغك أني قد ظهرت فأتنا ورواه أبو يعلى الموصلي عن جعفر بن حميد الكوفي عن عبد الله بن إياد بن لقيط به وقد ذكر أبو نعيم ههنا قصة عبد الله بن مسعود فقال حدثنا عبد الله بن جعفر ثنا يونس بن حبيب ثنا أبو داود ثنا حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود قال (3/194)
كنت غلاما يافعا أرعى غنما لعتبة بن أبي معيط بمكة فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو بكر وقد فرا من المشركين فقال يا غلام عندك لبن تسقينا فقلت إني مؤتمن ولست بساقيكما فقالا هل عندك من جذعة لم ينز عليها الفحل بعد قلت نعم فأتيتهما بها فاعتقلها أبو بكر وأخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم الضرع فدعا فحفل الضرع وجاء أبو بكر بصخرة متقعرة فحلب فيها ثم شرب هو وأبو بكر وسقياني ثم قال للضرع اقلص فقلص فلما كان بعد أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت علمني من هذا القول الطيب يعني القرآن فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إنك غلام معلم فأخذت من فيه سبعين سورة ما ينازعني فيها أحد فقوله في هذا السياق وقد فرا من المشركين ليس المراد منه وقت الهجرة إنما ذلك في بعض الاحوال قبل الهجرة فإن ابن مسعود ممن أسلم قديما وهاجر إلى الحبشة ورجع إلى مكة كما تقدم وقصته هذه صحيحة ثابتة في الصحاح وغيرها والله أعلم
[ وقال الامام أحمد حدثنا عبد الله بن مصعب بن عبد الله هو الزبيري حدثني أبي عن فائد مولى عبادل قال خرجت مع ابراهيم بن عبد الرحمن بن سعد حتى إذا كنا بالعرج أتى ابن سعد وسعد هو الذي دل رسول الله صلى الله عليه و سلم على طريق ركوبة فقال ابراهيم [ أخبرني ] ما حدثك أبوك قال ابن سعد حدثني أبي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أتاهم ومعه أبو بكر وكانت لابي بكر عندنا بنت مسترضعة وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم أراد الاختصار في الطريق إلى المدينة فقال له سعد هذا الغامر من ركوبة وبه لصان من اسلم يقال لهما المهانان فان شئت أخذنا عليهما فقال النبي صلى الله عليه و سلم خذ بنا عليهما قال سعد فخرجنا حتى إذا أشرفنا إذا أحدهما يقول لصاحبه هذا اليماني فدعاهما رسول الله صلى الله عليه و سلم فعرض عليهما الاسلام فأسلما ثم سألهما عن أسمائهما فقالا نحن المهانان فقال بل أنتما المكرمان وأمرهما أن يقدما عليه المدينة فخرجنا حتى إذا أتينا ظاهر قباء فتلقاه بنو عمرو بن عوف فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم اين أبو امامة أسعد بن زرارة فقال سعد ابن خيثمة إنه أصاب قبلي يا رسول الله أفلا أخبره ذلك ثم مضى رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى إذا طلع (3/195)
على النخل فاذا الشرب مملوء فالتفت رسول الله إلى أبي بكر فقال يا أبا بكر هذا المنزل رأيتني أنزل إلى حياض كحياض بني مدلج انفرد به احمد فصل
في دخوله عليه السلام المدينة واين استقر منزله
قد تقدم فيما رواه البخاري عن الزهري عن عروة أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل المدينة عند الظهيرة قلت ولعل ذلك كان بعد الزوال لما ثبت في الصحيحين من حديث اسرائيل عن أبي إسحاق البراء بن عازب عن أبي بكر في حديث الهجرة قال فقدمنا ليلا فتنازعه القوم أيهم ينزل عليه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أنزل على بني النجار أخوال عبد المطلب أكرمهم بذلك وهذا والله أعلم إما أن يكون يوم قدومه إلى قباء فيكون حال وصوله إلى قرب المدينة كان في حر الظهيرة وأقام تحت تلك النخلة ثم سار بالمسلمين فنزل قباء وذلك ليلا وأنه أطلق على ما بعد الزوال ليلا فان العشى من الزوال وإما أن يكون المراد بذلك لما رحل من قباء كما سيأتي فسار فما انتهى إلى بني النجار الاعشاء كما سيأتي بيانه والله أعلم
وذكر البخاري عن الزهري عن عروة أنه نزل في بني عمرو بن عوف بقباء وأقام فيهم بضع عشرة ليلة وأسس مسجد قباء في تلك الايام ثم ركب ومعه الناس حتى بركت به راحلته في مكان مسجده وكان مربدا لغلامين يتيمين وهما سهل وسهيل فابتاعه منهما واتخذه مسجدا وذلك في دار بني النجار رضي الله عنهم
وقال محمد بن اسحاق حدثني محمد بن جعفر بن الزبير [ عن عروة بن الزبير ] عن عبد الرحمن ابن عويم بن ساعدة قال حدثني رجال من قومي من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم قالوا لما بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه و سلم من مكة وتوكفنا قدومه كنا نخرج إذا صلينا الصبح إلى ظاهر حرتنا ننتظر النبي صلى الله عليه و سلم فوالله ما نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظلال فإذا لم نجد ظلا دخلنا وذلك في أيام حارة حتى إذا كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله جلسنا كما كنا نجلس حتى إذ لم يبق ظل دخلنا بيوتنا وقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم حين دخلنا البيوت فكان أول من رآه رجل من اليهود فصرخ بأعلا صوته يا بني قيلة هذا جدكم قد جاء فخرجنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو في ظل نخلة ومعه أبو بكر في مثل سنه وأكثرنا لم يكن رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل ذلك وركبه الناس وما يعرفونه من أبي بكر حتى زال الظل عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فقام أبو بكر فأظله بردائه فعرفناه عند ذلك وقد تقدم مثل ذلك في سياق البخاري وكذا ذكر موسى بن عقبة في مغازيه وقال الامام احمد حدثنا هاشم ثنا سليمان عن (3/196)
ثابت عن أنس بن مالك قال إني لاسعى في الغلمان يقولون جاء محمد فاسعى ولا أرى شيئا ثم يقولون جاء محمد فاسعى ولا أرى شيئا قال حتى جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم وصاحبه أبو بكر فكمنا في بعض خراب المدينة ثم بعثا رجلا من أهل البادية يؤذن بهما الانصار فاستقبلهما زهاء خمسمائة من الانصار حتى انتهوا اليهما فقالت الانصار انطلقنا آمنين مطاعين فأقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم وصاحبه بين أظهرهم فخرج اهل المدينة حتى أن العواتق لفوق البيوت يتراءينه يقلن أيهم هو أيهم هو فما رأينا منظرا شبيها به قال أنس فلقد رأيته يوم دخل علينا ويوم قبض فلم أر يومين شبيها بهما ورواه البيهقي عن الحاكم عن الاصم عن محمد بن اسحاق الصنعاني عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس بنحوه أو مثله وفي الصحيحين من طريق اسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء عن أبي بكر في حديث الهجرة قال وخرج الناس حين قدمنا المدينة في الطرق وعلى البيوت والغلمان والخدم يقولون الله أكبر جاء رسول الله الله أكبر جاء محمد الله أكبر جاء محمد الله أكبر جاء رسول الله فلما أصبح انطلق وذهب حيث أمر وقال البيهقي أخبرنا أبو عمرو والاديب أخبرنا الاسماعيلي سمعت أبا خليفة يقول سمعت ابن عائشة يقول لما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة جعل النساء والصبيان يقلن ... طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع ... وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع ...
قال محمد بن اسحاق فنزل رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما يذكرون يعني حين نزل بقباء على كلثوم ابن الهدم أخي بني عمرو بن عوف ثم أحد بني عبيد ويقال بل نزل على سعد بن خيثمة ويقول من يذكر أنه نزل على كلثوم بن الهدم إنما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا خرج من منزل كلثوم بن الهدم جلس للناس في بيت سعد بن خيثمة وذلك أنه كان عزبا لا أهل له وكان يقال لبيته بيت العزاب والله أعلم ونزل أبو بكر رضي الله عنه على خبيب بن إساف أحد بني الحارث بن الخزرج بالسنح وقيل على خارجة بن زيد بن ابي زهير أخي بني الحارث بن الخزرج
قال ابن اسحاق وأقام علي بن أبي طالب بمكة ثلاث ليال وأيامها حتى أدى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم الودائع التي كانت عنده ثم لحق برسول الله صلى الله عليه و سلم فنزل معه على كلثوم بن الهدم فكان علي بن ابي طالب إنما كانت اقامته بقباء ليلة أو ليلتين يقول كانت بقباء امرأة لا زوج لها مسلمة فرأيت انسانا يأتيها من جوف الليل فيضرب عليها بابها فتخرج اليه فيعطيها شيئا معه فتأخذه فاستربت بشأنه فقلت لها يا أمة الله من هذا الذي يضرب عليك بابك كل ليلة فتخرجين اليه فيعطيك شيئا لا أدري ما هو وأنت امرأة مسلمة لا زوج لك قالت هذا سهل بن حنيف (3/197)
وقد عرف أني امرأة لا أحد لي فاذا امسى عدا على أوثان قومه فكسرها ثم جاءني بها فقال احتطبي بهذا فكان علي رضي الله عنه يأثر ذلك من شأن سهل بن حنيف حين هلك عنده بالعراق
قال ابن اسحاق فأقام رسول الله صلى الله عليه و سلم بقباء في بني عمرو بن عوف يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الاربعاء ويوم الخميس وأسس مسجده ثم أخرجه الله من بين أظهرهم يوم الجمعة وبنو عمرو ابن عوف يزعمون أنه مكث فيهم أكثر من ذلك وقال عبد الله بن إدريس عن محمد بن اسحاق قال وبنو عمرو بن عوف يزعمون أنه عليه السلام أقام فيهم ثماني عشر ليلة
قلت وقد تقدم فيما رواه البخاري من طريق الزهري عن عروة أنه عليه السلام أقام فيهم بضع عشرة ليلة وحكى موسى بن عقبة عن مجمع بن يزيد بن حارثة أنه قال أقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فينا يعني في بني عمرو بن عوف بقباء اثنتين وعشرين ليلة وقال الواقدي ويقال اقام فيهم أربع عشرة ليلة
قال ابن اسحاق فادركت رسول الله صلى الله عليه و سلم الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي وادي رانوناء فكان أول جمعة صلاها بالمدينة فأتاه عتبان بن مالك وعباس بن عبادة بن نضلة في رجال من بني سالم فقالوا يا رسول الله أقم عندنا في العدد والعدة والمنعة قال خلوا سبيلها فإنها مأمورة لناقته فخلوا سبيلها فانطلقت حتى إذا وازت دار بني بياضة تلقاه زياد بن لبيد وفروة بن عمرو في رجال من بني بياضة فقالوا يا رسول الله هلم الينا إلى العدد والعدة والمنعة قال خلوا سبيلها فانها مأمورة فخلوا سبيلها فانطلقت حتى إذا مرت بدار بني ساعدة اعترضه سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو في رجال من بني ساعدة فقالوا يا رسول الله هلم الينا في العدد والمنعة قال خلوا سبيلها فانها مأمورة فخلوا سبيلها فانطلقت حتى إذا وازت دار بني الحارث بن الخزرج اعترضه سعد بن الربيع وخارجة بن زيد وعبد الله بن رواحة في رجال من بني الحارث بن الخزرج فقالوا يا رسول الله هلم الينا إلى العدد والعدة والمنعة قال خلوا سبيلها فانها مأمورة فخلوا سبيلها فانطلقت حتى اذا مرت بدار عدي بن النجار وهم أخواله دنيا أم عبد المطلب سلمى بنت عمرو إحدى نسائهم اعترضه سليط بن قيس وأبو سليط اسيرة بن خارجة في رجال من بني عدي بن النجار فقالوا يا رسول الله هلم إلى أخوالك إلى العدد والعدة والمنعة قال خلوا سبيلها فإنها مأمورة فخلوا سبيلها فانطلقت حتى إذا أتت دار بني مالك بن (3/198)
النجار بركت على باب مسجده عليه السلام اليوم وكان يومئذ مربدا لغلامين يتيمين من بني مالك ابن النجار وهما سهل وسهيل ابنا عمرو وكانا في حجر معاذ بن عفراء
قلت وقد تقدم في رواية البخاري من طريق الزهري عن عروة أنهما كانا في حجر أسعد بن زرارة والله أعلم
وذكر موسى بن عقبة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مر في طريقه بعبد الله بن ابي سلول وهو في بيت فوقف رسول الله صلى الله عليه و سلم ينتظر أن يدعوه إلى المنزل وهو يومئذ سيد الخزرج في أنفسهم فقال عبد الله أنظرالذين دعوك فانزل عليهم فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم لنفر من الانصار فقال سعد بن عبادة يعتذر عنه لقد من الله علينا بك يا رسول الله وإنا نريد أن نعقد على رأسه التاج ونملكه علينا
قال موسى بن عقبة وكانت الانصار قد اجتمعوا قبل أن يركب رسول الله صلى الله عليه و سلم من بني عمرو بن عوف فمشوا حول ناقته لا يزال أحدهم ينازع صاحبه زمام الناقة شحا على كرامة رسول الله صلى الله عليه و سلم وتعظيما له وكلما مر بدار من دور الانصار دعوه إلى المنزل فيقول صلى الله عليه و سلم دعوها فانها مأمورة فإنما أنزل حيث أنزلني الله فلما انتهت إلى دار أبي أيوب بركت به على الباب فنزل فدخل بيت أبي أيوب حتى ابتنى مسجده ومساكنه
قال ابن اسحاق لما بركت الناقة برسول الله صلى الله عليه و سلم لم ينزل عنها حتى وثبت فسارت غير بعيد ورسول الله صلى الله عليه و سلم واضع لها زمامها لا يثنيها به ثم التفتت خلفها فرجعت إلى مبركها أول مرة فبركت فيه ثم تحلحلت ورزمت ووضعت جرانها فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم فأحتمل أبو ايوب خالد بن زيد رحله فوضعه في بيته ونزل عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم وسأل عن المربد لمن هو فقال له معاذ بن عفراء هو يا رسول الله لسهل وسهيل ابني عمرو وهما يتيمان لي وسأرضيهما منه فاتخذه مسجدا فأمر به رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يبنى ونزل رسول الله صلى الله عليه و سلم في دار أبي أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم والمسلمون من المهاجرين والانصار
وستأتي قصة بناء المسجد قريبا إن شاء الله وقال البيهقي في الدلائل وقال أبو عبد الله أخبرنا أبو الحسن علي بن عمرو الحافظ ثنا أبو عبد الله محمد بن مخلد الدوري ثنا محمد بن سليمان بن اسماعيل ابن أبي الورد ثنا ابراهيم بن صرمة ثنا يحيى بن سعيد عن اسحاق بن عبد الله بن ابي طلحة عن أنس قال قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة فلما دخلنا جاء الانصار برجالها ونسائها فقالوا الينا يا رسول الله فقال دعوا الناقة فإنها مأمورة فبركت على باب أبي أيوب فخرجت جوار من بني النجار يضربن بالدفوف وهن يقلن (3/199)
نحن جوار من بني النجار ... يا حبذا محمد من جار ...
فخرج اليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أتحبونني فقالوا أي والله يا رسول الله فقال وإنا والله أحبكم وانا والله أحبكم وأنا والله أحبكم هذا حديث غريب من هذا الوجه لم يروه أحد من أصحاب السنن وقد خرجه الحاكم في مستدركه كما يروى ثم قال البيهقي أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن سليمان النحاس المقرئ ببغداد ثنا عمر بن الحسن الحلبي حدثنا أبو خيثمة المصيصي ثنا عيسى بن يونس عن عوف الأعرابي عن ثمامة عن أنس قال مر النبي صلى الله عليه و سلم بحي من بني النجار وإذا جوار يضربن بالدفوف يقلن ... نحن جوار من بني النجار ... يا حبذا محمد من جار ...
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم يعلم الله أن قلبي يحبكم ورواه ابن ماجه عن هشام بن عمار عن عيسى بن يونس به وفي صحيح البخاري عن معمر عن عبد الوارث عن عبد العزيز عن أنس قال رأى النبي صلى الله عليه و سلم النساء والصبيان مقبلين حسبت أنه قال من عرس فقام النبي صلى الله عليه و سلم ممثلا فقال اللهم أنتم من أحب الناس إلي قالها ثلاث مرات وقال الامام احمد حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثني أبي حدثني عبد العزيز بن صهيب ثنا أنس بن مالك قال اقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم الى المدينة وهو مردف ابا بكر وأبو بكر شيخ يعرف ورسول الله صلى الله عليه و سلم شاب لا يعرف قال فيلقى الرجل أبا بكر فيقول يا أبا بكر من هذا الرجل الذي بين يديك فيقول هذا الرجل يهديني السبيل فيحسب الحاسب إنما يهديه الطريق وإنما يعني سبيل الخير فالتفت أبو بكر فإذا هو بفارس قد لحقهم فقال يا نبي الله هذا فارس قد لحق بنا فالتفت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال اللهم اصرعه فصرعته فرسه ثم قامت تحمحم ثم قال مرني يا نبي الله بما شئت فقال قف مكانك ولا تتركن أحدا يلحق بنا قال فكان أول النهار جاهدا على رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان آخر النهار مسلحة له قال فنزل رسول الله صلى الله عليه و سلم جانب الحرة ثم بعث الى الانصار فجاؤا فسلموا عليهما وقالوا اركبا آمنين مطاعين فركب رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو بكر وحفوا حولهما بالسلاح وقيل في المدينة جاء نبي الله صلى الله عليه و سلم فاستشرفوا نبي الله ينظرون اليه ويقولون جاء نبي الله قال فاقبل يسير حتى نزل إلى جانب دار أبي أيوب قال فانه ليحدث أهله اذ سمع به عبد الله بن سلام وهو في نخل لاهله يحترف لهم فعجل أن يضع الذي يحترف فيها فجاء وهي معه وسمع من نبي الله صلى الله عليه و سلم ورجع إلى أهله وقال نبي الله أي بيوت أهلنا أقرب فقال أبو ايوب أنا يا نبي الله هذه داري وهذا بابي قال فانطلق فهيء لنا مقيلا فذهب فهيأ ثم جاء فقال يا رسول الله قد هيأت مقيلا قوما على بركة الله فقيلا فلما جاء نبي الله صلى الله عليه و سلم جاء عبد الله بن سلام فقال اشهد انك نبي الله حقا وإنك جئت (3/200)
بحق ولقد علمت يهود أني سيدهم وابن سيدهم وأعلمهم وابن أعلمهم فادعهم فسلهم فدخلوا عليه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم يا معشر اليهود ويلكم اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا وأني جئت بحق أسلموا فقالوا ما نعلمه ثلاثا وكذا رواه البخاري منفردا به عن محمد غير منسوب عن عبد الصمد به
قال ابن اسحاق وحدثني يزيد بن ابي حبيب عن مرثد بن عبد الله اليزني عن أبي رهم السماعي حدثني أبو أيوب قال لما نزل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم في بيتي نزل في السفل وأنا وأم أيوب في العلو فقلت له بأبي أنت وأمي يا رسول الله إني أكره وأعظم أن أكون فوقك وتكون تحتي فاظهر انت فكن في العلو وننزل نحن فنكون في السفل فقال يا ابا أيوب أن ارفق بنا وبمن يغشانا أن أكون في سفل البيت فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفله وكنا فوقه في المسكن فلقد انكسر حب لنا فيه ماء فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا مالنا لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفا أن يقطر على رسول الله صلى الله عليه و سلم منه شيء فيؤذيه قال وكنا نصنع له العشاء ثم نبعث اليه فإذا رد علينا فضلة تيممت أنا وأم أيوب موضع يده فأكلنا منه نبتغي بذلك البركة حتى بعثنا اليه ليلة بعشائه وقد جعلنا له فيه بصلا أو ثوما فرده رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم أر ليده فيه أثرا قال فجئته فزعا فقلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي رددت عشاءك ولم أر فيه موضع يدك فقال إني وجدت فيه ريح هذه الشجرة وأنا رجل أناجي فاما أنتم فكلوه قال فأكلناه ولم نصنع له تلك الشجرة بعد وكذلك رواه البيهقي من طريق الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الحسن أو أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني عن أبي رهم عن أبي أيوب فذكره ورواه أبو بكر بن أبي شيبة عن يونس بن محمد المؤدب عن الليث وقال البيهقي أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا أبو عمرو الحيري ثنا عبد الله بن محمد ثنا احمد بن سعيد الدارمي ثنا أبو النعمان ثنا ثابت بن يزيد ثنا عاصم الاحول عن عبد الله بن الحارث عن افلح مولى أبي أيوب عن أبي أيوب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نزل عليه فنزل في السفل وأبو أيوب في العلو فانتبه أبو أيوب فقال نمشي فوق رأس رسول الله صلى الله عليه و سلم فتنحوا فباتوا في جانب ثم قال للنبي صلى الله عليه و سلم يعني في ذلك فقال السفل أرفق بنا فقال لا أعلو سقيفة أنت تحتها فتحول رسول الله صلى الله عليه و سلم في العلو وأبو أيوب في السفل فكان يصنع لرسول الله صلى الله عليه و سلم طعاما فإذا جيء به سأل عن موضع أصابعه فيتتبع موضع أصابع رسول الله صلى الله عليه و سلم فصنع له طعاما فيه ثوم فلما رد اليه سأل عن موضع اصابع رسول الله صلى الله عليه و سلم فقيل له لم يأكل ففزع وصعد اليه فقال أحرام فقال النبي صلى الله عليه و سلم لا ولكني أكرهه قال فاني اكره ما تكره أو ما كرهت قال وكان النبي صلى الله عليه و سلم يأتيه الملك رواه مسلم عن احمد بن سعيد به وثبت في (3/201)
الصحيحين عن أنس بن مالك قال جيء رسول الله صلى الله عليه و سلم ببدر وفي رواية بقدر فيه خضروات من بقول قال فسأل فأخبر بما فيها فلما رآها كره أكلها قال كل فإني أناجي من لا تناجي وقد روى الواقدي أن أسعد بن زرارة لما نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم في دار أبي أيوب اخذ بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه و سلم فكانت عنده وروى عن زيد بن ثابت أنه قال أول هدية أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حين نزل دار أبي أيوب أنا جئت بها قصعة فيها خبز مثرود بلبن وسمن فقلت ارسلت بهذه القصعة أمي فقال بارك الله فيك ودعا أصحابه فأكلوا ثم جاءت قصعة سعد بن عبادة ثريد وعراق لحم وما كانت من ليلة إلا وعلى باب رسول الله صلى الله عليه و سلم الثلاث والاربعة يحملون الطعام يتناوبون وكان مقامه في دار أبي أيوب سبعة أشهر قال وبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو نازل في دار أبي أيوب مولاه زيد بن حارثة وأبا رافع ومعهما بعيران وخمسمائة درهم ليجئا بفاطمة وأم كلثوم ابنتي رسول الله صلى الله عليه و سلم وسودة بنت زمعة زوجته وأسامة بن زيد وكانت رقية قد هاجرت مع زوجها عثمان وزينب عند زوجها بمكة أبي العاص بن الربيع وجاءت معهم أم أيمن امرأة زيد بن حارثة وخرج معهم عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر وفيهم عائشة أم المؤمنين ولم يدخل بها رسول الله صلى الله عليه و سلم
وقال البيهقي أخبرنا علي بن احمد بن عبدان أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار حدثنا خلف بن عمرو العكبري ثنا سعيد بن منصور ثنا عطاف بن خالد ثنا صديق بن موسى عن عبد الله بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قدم المدينة فاستناخت به راحلته بين دار جعفر بن محمد بن علي وبين دار الحسن بن زيد فأتاه الناس فقالوا يا رسول الله المنزل فانبعثت به راحلته فقال دعوها فانها مأمورة ثم خرجت به حتى جاءت موضع المنبر فاستناخت ثم تحللت وثم عريش كانوا يعرشونه ويعمرونه ويتبردون فيه فنزل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن راحلته فيه فآوى إلى الظل فأتاه أبو أيوب فقال يا رسول الله إن منزلي أقرب المنازل اليك فأنقل رحلك إلي قال نعم فذهب برحله إلى المنزل ثم أتاه رجل فقال يا رسول الله أين تحل قال إن الرجل مع رحله حيث كان وثبت رسول الله صلى الله عليه و سلم في العريش اثنتي عشرة ليلة حتى بنى المسجد وهذه منقبة عظيمة لابي أيوب خالد بن زيد رضي الله عنه حيث نزل في داره رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد روينا من طريق يزيد بن أبي حبيب عن محمد ابن علي بن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنه لما قدم أبو أيوب البصرة وكان ابن عباس نائبا عليها من جهة علي بن أبي طالب رضي الله عنه فخرج له ابن عباس عن داره حتى أنزله فيها كما أنزل رسول الله صلى الله عليه و سلم في داره وملكه كل ما أغلق عليها بابها ولما أراد الإنصراف أعطاه ابن (3/202)
عباس عشرين ألفا وأربعين عبدا وقد صارت دار أبي أيوب بعده إلى مولاه أفلح فاشتراها منه المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بألف دينار وصلح ما وهى من بنيانها ووهبها لاهل بيت فقراء من أهل المدينة وكذلك نزوله عليه السلام في دار بني النجار واختيار الله له ذلك منقبة عظيمة وقد كان في المدينة دور كثيرة تبلغ تسعا كل دار محلة مستقلة بمساكنها ونخيلها وزروعها وأهلها كل قبيلة من قبائلهم قد اجتمعوا في محلتهم وهي كالقرى المتلاصقة فاختار الله لرسول الله دار بني مالك بن النجار
وقد ثبت في الصحيحين من حديث شعبة سمعت قتادة عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم خير دور الانصار بنو النجار ثم بنو عبد الاشهل ثم بنو الحارث بن الخزرج ثم بنو ساعدة وفي كل دور الأنصار خير فقال 4 سعد بن عبادة ما أرى النبي صلى الله عليه و سلم إلا قد فضل علينا فقيل قد فضلكم على كثير هذا لفظ البخاري وكذلك رواه البخاري ومسلم من حديث أنس وأبي سلمة عن أبي أسيد مالك بن ربيعة ومن حديث عبادة بن سهل عن أبي حميد عن النبي صلى الله عليه و سلم بمثله سواء زاد في حديث أبي حميد فقال أبو اسيد لسعد بن عبادة ألم تر أن النبي صلى الله عليه و سلم خير الأنصار فجعلنا آخرا فأدرك سعد النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله خيرت دور الأنصار فجعلتنا آخرا قال أو ليس بحسبكم أن تكونوا من الأخيار قد ثبت لجميع من أسلم من أهل المدينة وهم الانصار الشرف والرفعة في الدنيا والآخرة قال الله تعالى والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم باحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم وقال تعالى والذين تبوؤا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر اليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لولا الهجرة لكنت امرءا من الانصار ولو سلك الناس واديا وشعبا لسلكت وادي الانصار وشعبهم والانصار شعار والناس دثار وقال الانصار كرشي وعيبتي وقال أنا سلم لمن سالمهم وحرب لمن حاربهم وقال البخاري حدثنا حجاج بن منهال ثنا شعبة حدثني عدي بن ثابت قال سمعت البراء بن عازب يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم أو قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم الانصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق فمن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله وقد أخرجه بقية الجماعة إلا أبا داود من حديث شعبة به وقال البخاري أيضا حدثنا مسلم بن ابراهيم ثنا شعبة عن عبد الرحمن بن عبد الله بن جبير عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم قال آية الايمان حب الانصار وآية النفاق بغض الانصار ورواه البخاري أيضا عن أبي الوليد والطيالسي ومسلم من حديث خالد بن الحارث وعبد الرحمن بن مهدي أربعتهم (3/203)
عن شعبة به والآيات والاحاديث في فضائل الانصار كثيرة جدا وما أحسن ما قال أبو قيس صرمة بن أبي أنس المتقدم ذكره أحد شعراء الانصار في قدوم رسول الله صلى الله عليه و سلم اليهم ونصرهم إياه ومواساتهم له ولاصحابه رضي الله عنهم أجمعين
قال ابن اسحاق وقال أبو قيس صرمة بن ابي أنس أيضا يذكر ما أكرمهم الله به من الاسلام وما خصهم به من رسوله عليه السلام ... ثوى في قريش بضع عشرة حجة ... يذكر لو يلقى صديقا مواتيا ... ويعرض في أهل المواسم نفسه ... فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا ... فلما أتانا واطمأنت به النوى ... وأصبح مسرورا بطيبة راضيا ... والفى صديقا واطمأنت به النوى ... وكان له عونا من الله باديا ... يقص لنا ما قال نوح لقومه ... وما قال موسى إذ أجاب المناديا ... فأصبح لا يخشى من الناس واحدا ... قريبا ولا يخشى من الناس نائيا ... بذلنا له الاموال من جل مالنا ... وأنفسنا عند الوغى والتآسيا ... نعادي الذي عادى من الناس كلهم ... جميعا ولو كان الحبيب المواسيا ... ونعلم أن الله لا شيء غيره ... وان كتاب الله أصبح هاديا ... اقول اذا صليت في كل بيعة ... حنانيك لا تظهر علينا الأعاديا ... أقول اذا جاوزت أرضا مخيفة ... تباركت اسم الله أنت المواليا ... فطأ معرضا ان الحتوف كثيرة ... وانك لا تبقي لنفسك باقيا ... فوالله ما يدري الفتى كيف سعيه ... اذا هو لم يجعل له الله واقيا ... ولا تحفل النخل المعيمة ربها ... اذا أصبحت ريا وأصبح ثاويا ...
ذكرها ابن اسحاق وغيره ورواها عبد الله بن الزبير الحميدي وغيره عن سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد الانصاري عن عجوز من الانصار قالت رأيت عبد الله بن عباس يختلف الى صرمة بن قيس يروي هذه الابيات رواه البيهقي (3/204)
فصل
وقد شرفت المدينة أيضا بهجرته عليه السلام اليها وصارت كهفا لاولياء الله وعباده الصالحين ومعقلا وحصنا منيعا للمسلمين ودار هدى للعالمين والاحاديث في فضلها كثيرة جدا لها موضع آخر نوردها فيه إن شاء الله وقد ثبت في الصحيحين من طريق حبيب بن يساف عن جعفر بن عاصم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الايمان ليأرز الى المدينة كما تأرز الحية الى جحرها ورواه مسلم أيضا عن محمد بن رافع عن شبابة عن عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم نحوه وفي الصحيحين أيضا من حديث مالك عن يحيى ابن سعيد أنه سمع أبا الحباب سعيد بن يسار سمعت أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أمرت بقرية تأكل القرى يقولون يثرب وهي المدينة تنقى الناس كما ينقى الكير خبث الحديد وقد انفرد الامام مالك عن بقية الائمة الاربعة بتفضيلها على مكة وقد قال البيهقي أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرني أبو الوليد وأبو بكر بن عبد الله قالا ثنا الحسن بن سفيان ثنا أبو موسى الانصاري ثنا سعيد بن سعيد حدثني أخي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال اللهم انك أخرجتني من أحب البلاد إلي فاسكني أحب البلاد اليك فأسكنه الله المدينة وهذا حديث غريب جدا والمشهور عن الجمهور أن مكة أفضل من المدينة إلا المكان الذى ضم جسد رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد استدل الجمهور على ذلك بأدلة يطول ذكرها ههنا ومحلها ذكرناها في كتاب المناسك من الاحكام إن شاء الله تعالى وأشهر دليل لهم في ذلك ما قال الامام احمد حدثنا أبو اليمان ثنا شعيب عن الزهري أخبرنا أبو سلمة بن عبد الرحمن أن عبد الله بن عدي بن الحمراء أخبره أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم وهو واقف بالحزورة في سوق مكة يقول والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلي ولولا أني أخرجت منك ما خرجت وكذا رواه احمد عن يعقوب بن ابراهيم عن أبيه عن صالح بن كيسان عن الزهري به وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث الليث عن عقيل عن الزهري به وقال الترمذي حسن صحيح وقد رواه يونس عن الزهري به ورواه محمد بن عمرو عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة وحديث الزهري عندي أصح قال الامام احمد حدثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال وقف رسول الله صلى الله عليه و سلم على الحزورة فقال علمت أنك خير أرض أرض الله وأحب الارض الى الله ولولا (3/205)
أن أهلك اخرجوني منك ما خرجت وكذا رواه النسائي من حديث معمر به قال الحافظ البيهقي وهذا وهم من معمر وقد رواه بعضهم عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة وهو أيضا وهم والصحيح رواية الجماعة وقال احمد أيضا حدثنا ابراهيم بن خالد ثنا رباح عن معمر عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن أبي سلمة عن بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال وهو في سوق الحزورة والله إنك لخير ارض الله وأحب الارض الى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت ورواه الطبراني عن احمد بن خليد الحلبي عن الحميدي عن الدراوردي عن ابن أخي الزهري عن محمد ابن جبير بن مطعم عن عبد الله بن عدي بن الحمراء به فهذه طرق هذا الحديث وأصحها ما تقدم والله أعلم
وقائع السنة الأولى من الهجرة
اتفق الصحابة رضي الله عنهم في سنة ست عشرة وقيل سنة سبع عشرة أو ثماني عشرة في الدولة العمرية على جعل ابتداء التاريخ الاسلامي من سنة الهجرة وذلك أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه رفع اليه صك أي حجة لرجل على آخر وفيه إنه يحل عليه في شعبان فقال عمر أي شعبان أشعبان هذه السنة التي نحن فيها أو السنة الماضية أو الآتية ثم جمع الصحابة فاستشارهم في وضع تاريخ يتعرفون به حلول الديون وغير ذلك فقال قائل أرخوا كتاريخ الفرس فكره ذلك وكانت الفرس يؤرخون بملكوهم واحدا بعد واحد وقال قائل أرخوا بتاريخ الروم وكانوا يؤرخون بملك اسكندر بن فلبس المقدوني فكره ذلك وقال آخرون أرخوا بمولد رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال آخرون بل بمبعثه وقال آخرون بل بهجرته وقال آخرون بل بوفاته عليه السلام فمال عمر رضي الله عنه إلى التاريخ بالهجرة لظهوره واشتهاره واتفقوا معه على ذلك
وقال البخاري في صحيحه التاريخ ومتى أرخوا التاريخ حدثنا عبد الله بن مسلم ثنا عبد العزيز عن أبيه عن سهل بن سعد قال ما عدوا من مبعث النبي صلى الله عليه و سلم ولا من وفاته ما عدوا إلا من مقدمه المدينة
وقال الواقدي حدثنا ابن أبي الزناد عن أبيه قال استشار عمر في التاريخ فاجمعوا على الهجرة وقال أبو داود الطيالسي عن قرة بن خالد السدوسي عن محمد بن سيرين قال قام رجل إلى عمر فقال أرخوا فقال ما أرخوا فقال شيء تفعله الاعاجم يكتبون في شهر كذا من سنة كذا فقال (3/206)
عمر حسن فأرخوا فقالوا من أي السنين نبدأ فقالوا من مبعثه وقالوا من وفاته ثم أجمعوا على الهجرة ثم قالوا وأي الشهور نبدأ قالوا رمضان ثم قالوا المحرم فهو مصرف الناس من حجهم وهو شهر حرام فاجتمعوا على المحرم
وقال ابن جرير حدثنا قتيبة ثنا نوح بن قيس الطائي عن عثمان بن محصن أن ابن عباس كان يقول في قوله تعالى والفجر وليال عشر هو المحرم فجر السنة وروى عن عبيد بن عمير قال إن المحرم شهر الله وهو رأس السنة يكسى البيت ويؤرخ به الناس ويضرب فيه الورق
وقال احمد حدثنا روح بن عبادة ثنا زكريا بن اسحاق عن عمرو بن دينار قال إن أول من ورخ الكتب يعلى بن أمية باليمن وأن رسول الله صلى الله عليه و سلم قدم المدينة في ربيع لاول وأن الناس أرخوا الاول السنة
وروى محمد بن اسحاق عن الزهري وعن محمد بن صالح عن الشعبي أنهما قالا ارخ بنو اسماعيل من نار ابراهيم ثم أرخوا من بنيان ابراهيم واسماعيل البيت ثم أرخوا من موت كعب بن لؤي ثم أرخوا من الفيل ثم أرخ عمر بن الخطاب من الهجرة وذلك سنة سبع عشرة أو ثماني عشرة وقد ذكرنا هذا الفصل محررا باسانيده وطرقه في السيرة العمرية ولله الحمد والمقصود أنهم جعلوا ابتداء التاريخ الاسلامي من سنة الهجرة وجعلوا أولها من المحرم فيما اشتهر عنهم وهذا هو قول جمهور الأئمة
وحكى السهيلي وغيره عن الامام مالك أنه قال اول السنة الاسلامية ربيع الاول لأنه الشهر الذي هاجر فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم
[ وقد استدل السهيلي على ذلك في موضع آخر بقوله تعالى لمسجد اسس على التقوى من أول يوم أي من أول يوم حلول النبي صلى الله عليه و سلم المدينة وهو أول يوم من التاريخ كما اتفق الصحابة على أول سني التاريخ عام الهجرة ] ولا شك أن هذا الذي قاله الامام مالك رحمه الله مناسب ولكن العمل على خلافه وذلك لأن أول شهور العرب المحرم فجعلوا السنة الاولى سنة الهجرة وجعلوا أولها المحرم كما هو المعروف لئلا يختلط النظام والله أعلم
فنقول وبالله المستعان استهلت سنة الهجرة المباركة ورسول الله صلى الله عليه و سلم مقيم بمكة وقد بايع الانصار بيعة العقبة الثانية كما قدمنا في أوسط أيام التشريق وهي ليلة الثاني عشر من ذي الحجة قبل سنة الهجرة ثم رجع الانصار وأذن رسول الله صلى الله عليه و سلم للمسلمين في الهجرة إلى المدينة فهاجر من هاجر من أصحابه الى المدينة حتى لم يبق بمكة من يمكنه الخروج إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم وحبس أبو بكر (3/207)
نفسه على رسول الله صلى الله عليه و سلم ليصحبه في الطريق كما قدمنا ثم خرجا على الوجه الذي تقدم بسطه وتأخر علي بن أبي طالب بعد النبي صلى الله عليه و سلم بأمره ليؤدي ما كان عنده عليه السلام من الودائع ثم لحقهم بقباء فقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الاثنين قريبا من الزوال وقد اشتد الضحاء
قال الواقدي وغيره وذلك لليلتين خلتا من شهر ربيع الاول وحكاه ابن اسحاق إلا أنه لم يعرج عليه ورجح أنه لثنتي عشرة ليلة خلت منه وهذا هو المشهور الذي عليه الجمهور وقد كانت مدة اقامته عليه السلام بمكة بعد البعثة ثلاث عشرة سنة في أصح الاقوال وهو رواية حماد بن سلمة عن أبي حمزة الضبي عن ابن عباس قال بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم لاربعين سنة وأقام بمكة ثلاث عشرة سنة وهكذا روى ابن جرير عن محمد بن معمر عن روح بن عبادة عن زكريا بن اسحاق عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قال مكث رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة ثلاث عشرة وتقدم أن ابن عباس كتب ابيات صرمة بن أبي أنس بن قيس ... ثوى في قريش بضع عشرة حجة ... يذكر لو يلقى صديقا مواتيا ...
وقال الواقدي عن ابراهيم بن اسماعيل عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أنه استشهد بقول صرمة ... ثوى في قريش بضع عشرة حجة ... يذكر لو يلقى صديقا مواتيا ...
وهكذا رواه ابن جرير عن الحارث عن محمد بن سعد عن الواقدي خمس عشرة حجة وهو قول غريب جدا وأغرب منه ما قال ابن جرير حدثت عن روح بن عبادة ثنا سعيد عن قتادة قال نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه و سلم ثماني سنين بمكة وعشرا بالمدينة وكان الحسن يقول عشرا بمكة وعشرا بالمدينة وهذا القول الآخر الذي ذهب اليه الحسن البصري من أنه أقام بمكة عشر سنين ذهب اليه أنس بن مالك وعائشة وسعيد بن المسيب وعمرو بن دينار فيما رواه ابن جرير عنهم وهو رواية عن ابن عباس رواها احمد بن حنبل عن يحيى بن سعيد عن هشام عن عكرمة عن ابن عباس قال أنزل على النبي صلى الله عليه و سلم وهو ابن ثلاث وأربعين فمكث بمكة عشرا وقد قدمنا عن الشعبي أنه قال قرن اسرافيل برسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاث سنين يلقي اليه الكلمة والشيء وفي رواية يسمع حسسه ولا يرى شخصه ثم كان بعد ذلك جبريل وقد حكى الواقدي عن بعض مشايخه أنه أنكر قول الشعبي هذا وحاول ابن جرير أن يجمع بين قول من قال إنه عليه السلام أقام بمكة عشرا وقول من قال ثلاث عشرة بهذا الذي ذكره الشعبي والله أعلم (3/208)
فصل
ولما حل الركاب النبوي بالمدينة وكان أول نزوله بها في دار بني عمرو بن عوف وهي قباء كما تقدم فاقام بها أكثر ما قيل ثنتين وعشرين ليلة وقيل ثماني عشرة ليلة وقيل بضع عشرة ليلة وقال موسى بن عقبة ثلاث ليال والاشهر ما ذكره ابن اسحاق وغيره أنه عليه السلام أقام فيهم بقباء من يوم الاثنين إلى يوم الجمعة وقد أسس في هذه المدة المختلف على مقدارها على ما ذكرناه مسجد قباء وقد ادعى السهيلي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أسسه في أول يوم قدم الى قباء وحمل على ذلك قوله تعالى لمسجد أسس على التقوى من أول يوم ورد قول من أعربها من تأسيس أول يوم وهو مسجد شريف فاضل نزل فيه قوله تعالى لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المتطهرين كما تكلمنا على تقرير ذلك في التفسير وذكرنا الحديث الذي في صحيح مسلم أنه مسجد المدينة والجواب عنه وذكرنا الحديث الذي رواه الامام احمد حدثنا حسن بن محمد ثنا أبو إدريس ثنا شرحبيل عن عويم بن ساعدة أنه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أتاهم في مسجد قباء فقال إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم فما هذا الطهور الذي تطهرون به قالوا والله يا رسول الله ما نعلم شيئا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه وله شواهد أخر وروى عن خزيمة بن ثابت ومحمد بن عبد الله بن سلام وابن عباس وقد روى أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث يونس بن الحارث عن ابراهيم بن ابي ميمونة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال نزلت هذه الآية في أهل قباء فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المتطهرين قال كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية ثم قال الترمذي غريب من هذا الوجه
قلت ويونس بن الحارث هذا ضعيف والله أعلم وممن قال بانه المسجد الذي أسس على التقوى ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير ورواه علي بن ابي طلحة عن ابن عباس وحكى عن الشعبي والحسن البصري وقتادة وسعيد بن جبير وعطية العوفي وعبد الرحمن بن زيد بن اسلم وغيرهم وقد كان النبي صلى الله عليه و سلم يزوره فيما بعد ويصلي فيه وكان يأتي قباء كل سبت تارة راكبا وتارة ماشيا وفي الحديث صلاة في مسجد قباء كعمرة وقد ورد في حديث أن جبرائيل عليه السلام هو الذي أشار للنبي صلى الله عليه و سلم إلى موضع قبلة مسجد قباء فكان هذا المسجد أول مسجد بني في الاسلام بالمدينة بل أول مسجد جعل لعموم الناس في هذه الملة واحترزنا بهذا (3/209)
عن المسجد الذي بناه الصديق بمكة عند باب داره يتعبد فيه ويصلي لأن ذاك كان لخاصة نفسه لم يكن للناس عامة والله أعلم وقد تقدم اسلام سلمان في البشارات أن سلمان الفارسي لما سمع بقدوم رسول الله صلى الله عليه و سلم الى المدينة ذهب اليه وأخذ معه شيئا فوضعه بين يديه وهو بقباء قال هذا صدقة فكف رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يأكله وأمر أصحابه فأكلوا منه ثم جاء مرة أخرى ومعه شيء فوضعه وقال هذه هدية فأكل منه وأمر أصحابه فاكلوا تقدم الحديث بطوله فصل
في اسلام عبد الله بن سلام
قال الامام احمد حدثنا محمد بن جعفر ثنا عوف عن زرارة عن عبد الله بن سلام قال لما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة انجفل الناس فكنت فيمن انجفل فلما تبينت وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب فكان أول شيء سمعته يقول افشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام ورواه الترمذي وابن ماجه من طرق عن عوف الاعرابي عن زرارة ابن أبي أوفى به عنه وقال الترمذي صحيح ومقتضى هذا السياق يقتضي أنه سمع بالنبي صلى الله عليه و سلم ورآه أول قدومه حين اناخ بقباء في بني عمرو بن عوف وتقدم في رواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس أنه اجتمع به حين أناخ عند دار أبي أيوب عند ارتحاله من قباء إلى دار بني النجار كما تقدم فلعله رآه أول ما رآه بقباء واجتمع به بعد ما صار إلى دار بني النجار والله أعلم وفي سياق البخاري من طريق عبد العزيز عن أنس قال فلما جاء النبي صلى الله عليه و سلم جاء عبد الله بن سلام فقال أشهد أنك رسول الله وأنك جئت بحق وقد علمت يهود اني سيدهم وابن سيدهم وأعلمهم وابن اعلمهم فادعهم فسلهم عني قبل أن يعلموا أني قد اسلمت فانهم إن يعلموا أني قد اسلمت قالوا في ما ليس في فارسل نبي الله صلى الله عليه و سلم إلى اليهود فدخلوا عليه فقال لهم يا معشر اليهود ويلكم اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا وأني جئتكم بحق فاسلموا قالوا ما نعلمه قالوا [ ذلك ] للنبي صلى الله عليه و سلم قالها ثلاث مرات قال فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام قالو ذاك سيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا قال أفرأيتم إن أسلم قالوا حاش لله ما كان ليسلم قال يا ابن سلام اخرج عليهم فخرج فقال يا معشر يهود اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله وأنه جاء بالحق فقالوا كذبت فاخرجهم رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا لفظه وفي رواية فلما خرج عليهم شهد شهادة (3/210)
الحق قالوا شرنا وابن شرنا وتنقصوه فقال يا رسول الله هذا الذي كنت أخاف وقال البيهقي أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا الاصم حدثنا محمد بن اسحاق الصنعاني ثنا عبد الله بن ابي بكر ثنا حميد عن أنس قال سمع عبد الله بن سلام بقدوم النبي صلى الله عليه و سلم وهو في أرض له فاتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال إني أسائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي ما أول أشراط الساعة وما أول طعام يأكله أهل الجنة وما بال الولد إلى أبيه أو إلى أمه قال أخبرني بهن جبريل آنفا قال جبريل قال نعم قال عدو اليهود من الملائكة ثم قرأ من كان عدوا لجبريل فانه نزله على قلبك باذن الله قال أما أول أشراط الساعة فنار تخرج على الناس من المشرق تسوقهم إلى المغرب وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت وأما الولد فاذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله يا رسول الله إن اليهود قوم بهت وأنهم إن يعلموا باسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني فجاءت اليهود فقال أي رجل عبد الله فيكم قالوا خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا قال ارأيتم إن أسلم قالوا أعاذه الله من ذلك فخرج عبد الله فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله قالوا شرنا وابن شرنا وانتقصوه قال هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله ورواه البخاري عن عبد بن منير عن عبد الله بن ابي بكر به ورواه عن حامد بن عمر عن بشر بن المفضل عن حميد به
قال محمد بن اسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر عن يحيى بن عبد الله عن رجل من آل عبد الله بن اسلام قال كان من حديث عبد الله بن سلام حين أسلم وكان حبرا عالما قال لما سمعت برسول الله وعرفت صفته واسمه وهيئته و [ زمانه ] الذي كنا نتوكف له فكنت بقباء مسرا بذلك صامتا عليه حتى قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة فلما قدم نزل بقباء في بني عمرو بن عوف فاقبل رجل حتى أخبر بقدومه وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله صلى الله عليه و سلم كبرت فقالت عمتى حين سمعت تكبيرى و كنت سمعت بموسى بن عمران مازدت قال قلت لها أي عمه والله هو أخو موسى بن عمران وعلى دينه بعث بما بعث به قال فقالت له يا ابن أخي أهو الذي كنا نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة قال قلت لها نعم قالت فذاك إذا قال فخرجت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأسلمت ثم رجعت إلى أهل (3/211)
بيتي فأمرتهم فاسلموا وكتمت اسلامي من اليهود وقلت يا رسول الله إن اليهود قوم بهت وإني أحب أن تدخلني في بعض بيوتك فتغيبني عنهم ثم تسألهم عني فيخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا باسلامي فانهم إن يعلموا بذلك بهتوني وعابوني وذكر نحو ما تقدم قال فاظهرت اسلامي واسلام أهل بيتي وأسلمت عمتي خالدة بنت الحارث وقال يونس بن بكير عن محمد بن اسحاق حدثني عبد الله ابن أبي بكر حدثني محدث عن صفية بنت حيي قالت لم يكن أحد من ولد أبي وعمي أحب إليهما مني لم ألقهما في ولد قط اهش اليهما الا أخذاني ودنه فلما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم قباء قرية بني عمرو بن عوف غدا اليه أبي وعمي أبو ياسر بن أخطب مغلسين فوالله ما جاآنا إلا مع مغيب الشمس فجاآنا فاترين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينا فهششت اليهما كما كنت أصنع فوالله ما نظر إلى واحد منهما فسمعت عمي أبا ياسر يقول لابي أهو هو قال نعم والله قال تعرفه بنعته وصفته قال نعم والله قال فماذا في نفسك منه قال عداوته والله ما بقيت وذكر موسى بن عقبة عن الزهري أن أبا ياسر بن أخطب حين قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة ذهب اليه وسمع منه وحادثه ثم رجع إلى قومه فقال يا قوم أطيعون فان الله قد جاءكم بالذي تنتظرون فاتبعوه ولا تخالفوه فانطلق أخوه حيي بن أخطب وهو يومئذ سيد اليهود وهما من بني النضير فجلس إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وسمع منه ثم رجع إلى قومه وكان فيهم مطاعا فقال أتيت من عند رجل والله لا أزال له عدوا أبدا فقال له أخوه أبو ياسر يا ابن أم أطعني في هذا الامر واعصني فيما شئت بعده لا تهلك قال لا والله لا أطيعك أبدا واستحوذ عليه الشيطان واتبعه قومه على رأيه
قلت أما أبو ياسر واسمه حيي بن أخطب فلا أدري ما آل اليه أمره وأما حيي بن أخطب والد صفية بنت حيي فشرب عداوة النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه ولم يزل ذلك دأبه لعنه الله حتى قتل صبرا بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم قتل مقاتلة بني قريظة كما سيأتي إن شاء الله فصل
ولما ارتحل عليه السلام من قباء وهو راكب على ناقته القصواء وذلك يوم الجمعة أدركه وقت الزوال وهو في دار بني سالم بن عوف فصلى بالمسلمين الجمعة هنالك في واد يقال له وادي رانواناء فكانت أول جمعة صلاها رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمسلمين بالمدينة أو مطلقا لانه والله أعلم لم يكن يتمكن هو (3/212)
وأصحابه بمكة من الاجتماع حتى يقيموا بها جمعة ذات خطبة واعلان بموعظة وما ذاك إلا لشدة مخالفة المشركين له وأذيتهم إياه
ذكر خطبة رسول الله صلى الله عليه و سلم يومئذ
قال ابن جرير حدثني يونس بن عبد الاعلى أخبرنا ابن وهب عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي أنه بلغه عن خطبة النبي صلى الله عليه و سلم في أول جمعة صلاها بالمدينة في بني سالم بن عمرو بن عوف رضي الله عنهم الحمد لله أحمده وأستعينه واستغفره وأستهديه وأومن به ولا أكفره وأعادي من يكفره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق والنور والموعظة على فترة من الرسل وقلة من العلم وضلالة من الناس وانقطاع من الزمان ودنو من الساعة وقرب من الاجل من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى وفرط وضل ضلالا بعيدا وأوصيكم بتقوى الله فانه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة وأن يأمره بتقوى الله فاحذروا ما حذركم الله من نفسه ولا أفضل من ذلك نصيحة ولا أفضل من ذلك ذكرى وإنه تقوى لمن عمل به على وجل ومخافة وعون صدق ما تتبغون من أمر الآخرة ومن يصلح الذى بينه وبين الله من أمر السر والعلانية لا ينوي بذلك إلا وجه الله يكن له ذكرا في عاجل أمره وذخرا فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدم وما كان من سوى ذلك يود لو ان بينه وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رؤف بالعباد والذي صدق قوله وأنجز وعده لا خلف لذلك فانه يقول تعالى ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد واتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السر والعلانية فانه من يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا ومن يتق الله فق فاز فوزا عظيما وإن تقوى الله توقي مقته وتوقي عقوبته وتوقي سخطه وإن تقوى الله تبيض الوجه وترضي الرب وترفع الدرجة خذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله قد علمكم الله كتابه ونهج لكم سبيله ليعلم الذين صدقوا وليعلم الكاذبين فاحسنوا كما أحسن الله اليكم وعادوا أعداءه وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وسماكم المسلمين ليهلك من هلك عن بينة ويحي من حي عن بينة ولا قوة إلا بالله فاكثروا ذكر الله واعملوا لما بعد الموت فانه من أصلح ما بينه وبين الله يكفه ما بينه وبين الناس وذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه ويملك من الناس ولا يملكون منه الله أكبر ولا قوة إلا بالله العلي العظيم هكذا أوردها ابن جرير وفي السند ارسال
وقال البيهقي باب أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه و سلم حين قدم المدينة
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا أبو العباس الاصم حدثنا احمد بن عبد الجبار ثنا يونس بن (3/213)
بكير عن ابن اسحاق حدثني المغيرة بن عثمان بن محمد بن عثمان والاخنس بن شريق عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال كانت أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة أن قام فيها فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال أما بعد أيها الناس فقدموا لانفسكم تعلمن والله ليصعقن احدكم ثم ليدعن غنمه ليس لها راع ثم ليقولن له ربه ليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه ألم يأتك رسولي فبلغك وآتيتك مالا وأفضلت عليك فما قدمت لنفسك فينظر يمينا وشمالا فلا يرى شيئا ثم ينظر قدامه فلا يرى غير جهنم فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل ومن لم يجد فبكلمة طيبة فان بها تجزي الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف والسلام على رسول الله ورحمة الله وبركاته ثم خطب رسول الله صلى الله عليه و سلم مرة أخرى فقال إن الحمد لله أحمده واستعينه نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله [ وحده لا شريك له ] إن أحسن الحديث كتاب الله قد أفلح من زينه الله في قلبه وأدخله في الاسلام بعد الكفر واختاره على ما سواه من أحاديث الناس إنه أحسن الحديث وأبلغه أحبوا من أحب الله أحبوا الله من كل قلوبكم [ ولا تملوا كلام الله وذكره ولا تقسى عنه قلوبكم ] فإنه من يختار الله ويصطفي فقد سماه خيرته من الاعمال وخيرته من العباد والصالح من الحديث ومن كل ما أوتي الناس من الحلال والحرام فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا واتقوه حق تقاته واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم وتحابوا بروح الله بينكم إن الله يغضب أن ينكث عهده والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وهذه الطريق أيضا مرسلة إلا أنها مقوية لما قبلها وإن اختلفت الالفاظ فصل
في بناء مسجده الشريف ومقامه بدار أبي أيوب
وقد اختلف في مدة مقامه بهاف قال الواقدي سبعة اشهر وقال غيره أقل من شهر والله أعلم قال البخاري حدثنا اسحاق بن منصور أخبرنا عبد الصمد قال سمعت أبي يحدث فقال حدثنا أبو التياح يزيد بن حميد الضبي حدثنا أنس بن مالك قال لما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة نزل في علو المدينة في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف فاقام فيهم أربع عشرة ليلة ثم أرسل إلى ملأ بني النجار فجاؤا (3/214)
متقلدي سيوفهم قال وكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم على راحلته وأبو بكر ردفه وملأ بني النجارى حوله حتى ألقى بفناء أبي أيوب قال فكان يصلي حيث أدركته الصلاة ويصلي في مرابض الغنم قال ثم أمر ببناء المسجد فارسل إلى ملأ بني النجار فجاؤا فقال يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا فقالوا لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله عز و جل قال فكان فيه ما أقول لكم كانت فيه قبور المشركين وكانت فيه خرب وكان فيه نخل فامر رسول الله صلى الله عليه و سلم بقبور المشركين فنبشت وبالخرب فسويت وبالنخل فقطع قال فصفوا النخل قبلة المسجد وجعلوا عضادتيه حجارة قال فجعلوا ينقلون ذلك الصخر وهم يرتجزون ورسول الله صلى الله عليه و سلم معهم يقول اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة فانصر الانصار والمهاجرة وقد رواه البخاري في مواضع أخر ومسلم من حديث أبي عبد الصمد وعبد الوارث بن سعيد وقد تقدم في صحيح البخاري عن الزهري عن عروة أن المسجد الذي كان مربدا وهو بيدر التمر ليتيمين كانا في حجر أسعد بن زرارة وهما سهل وسهيل فساومهما فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالا بل نهبه لك يا رسول الله فأبى حتى ابتاعه منهما وبناه مسجدا قال وجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول وهو ينقل معهم التراب ... هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر ... ويقول ... لا هم إن الاجر أجر الآخره ... فارحم الانصار والمهاجرة ...
وذكر موسى بن عقبة أن أسعد بن زرارة عوضهما منه نخلا له في بياضة قال وقيل ابتاعه منهما رسول الله صلى الله عليه و سلم
قلت وذكر محمد ابن اسحاق أن المربد كان لغلامين يتيمين في حجر معاذ بن عفراء وهما سهل وسهيل ابنا عمرو فالله أعلم
وروى البيهقي من طريق أبي بكر بن أبي الدنيا حدثنا الحسن بن حماد الضبي ثنا عبد الرحيم ابن سليمان عن اسماعيل بن مسلم عن الحسن قال لما بنى رسول الله صلى الله عليه و سلم المسجد أعانه عليه أصحابه وهو معهم يتناول اللبن حتى أغبر صدره فقال ابنوه عريشا كعريش موسى فقلت للحسن ما عريش موسى قال إذا رفع يديه بلغ العريش يعني السقف وهذا مرسل وروى من حديث حماد بن سلمة عن أبي سنان عن يعلى بن شداد بن أوس عن عبادة أن الانصار جمعوا مالا فأتوا به النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا يا رسول الله ابن هذا المسجد وزينه إلى متى نصلي تحت هذا الجريد فقال ما بي رغبة عن أخي موسى عريش كعريش موسى وهذا حديث غريب من هذا الوجه وقال (3/215)
أبو داود حدثنا محمد بن حاتم حدثنا عبد الله بن موسى عن سنان عن فراس عن عطية العوفي عن ابن عمر أن مسجد النبي صلى الله عليه و سلم كانت سواريه على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم من جذوع النخل أعلاه مظلل بجريد النخل ثم إنها تخربت في خلافة أبي بكر فبناها بجذوع جريد النخل ثم انها تخربت في خلافة عثمان فبناها بالآجر فما زالت ثابتة حتى الآن وهذا غريب وقد قال أبو داود أيضا حدثنا مجاهد بن موسى حدثني يعقوب بن ابراهيم حدثني أبي عن أبي صالح ثنا نافع عن ابن عمر أخبره أن المسجد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم مبنيا باللبن وسقفه الجريد وعمده خشب النخل فلم يزد فيه ابو بكر شيئا وزاد فيه عمر وبناه على بنائه في عهد النبي صلى الله عليه و سلم باللبن والجريد وأعاد عمده خشبا وغيره عثمان رضي الله عنه وزاد فيه زيادة كثيرة وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصة وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج وهكذا رواه البخاري عن علي بن المديني عن يعقوب بن ابراهيم به
قلت زاده عثمان بن عفان رضي الله عنه متأولا قوله صلى الله عليه و سلم من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة ووافقه الصحابة الموجودون على ذلك ولم يغيروه بعده فيستدل بذلك على الراجح من قول العلماء أن حكم الزيادة حكم المزيد فتدخل الزيادة في حكم سائر المسجد من تضعيف الصلاة فيه وشد الرحال اليه وقد زيد في زمان الوليد بن عبد الملك باني جامع دمشق زاده له بأمره عمر بن عبد العزيز حين كان نائبه على المدينة وأدخل الحجرة النبوية فيه كما سيأتي بيانه في وقته ثم زيد زيادة كثيرة فيما بعد وزيد من جهة القبلة حتى صارت الروضة والمنبر بعد الصفوف المقدمة كما هو المشاهد اليوم
قال ابن اسحاق ونزل رسول الله على أبي أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه وعمل فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم ليرغب المسلمين في العمل فيه فعمل فيه المهاجرون والانصار ودأبوا فيه فقال قائل من المسلمين ... لئن قعدنا والنبي يعمل ... لذاك منا العمل المضلل ...
وارتجز المسلمون وهم يبنونه يقولون
... لا عيش إلا عيش الآخره ... اللهم ارحم الانصار والمهاجرة ...
فيقول رسول الله صلى الله عليه و سلم لا عيش إلا عيش الآخرة اللهم ارحم المهاجرين والانصار قال فيدخل (3/216)
عمار بن ياسر وقد اثقلوه باللبن فقال يا رسول الله قتلوني يحملون علي ما لا يحملون قالت أم سلمة فرأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم ينفض وفرته بيده وكان رجلا جعدا وهو يقول ويح ابن سمية ليسوا بالذين يقتلونك إنما يقتلك الفئة الباغية وهذا منقطع من هذا الوجه بل هو معضل بين محمد بن اسحاق وبين أم سلمة وقد وصله مسلم في صحيحه من حديث شعبة عن خالد الحذاء عن سعيد والحسن يعني ابني أبي الحسن البصري عن أمهما خيرة مولاة أم سلمة عن أم سلمة قالت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم تقتل عمار الفئة الباغية ورواه من حديث ابن علية عن ابن عون عن الحسن عن أمه عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعمار وهو ينقل الحجارة ويح لك يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الحسن يحدث عن أمه عن أم سلمة قالت لما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه يبنون المسجد جعل أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم يحمل كل واحد لبنة لبنة وعمار يحمل لبنتين لبنة عنه ولبنة عن النبي صلى الله عليه و سلم فمسح ظهره وقال ابن سمية للناس أجر ولك أجران وآخر زادك شربة من لبن وتقتلك الفئة الباغية وهذا اسناد على شرط الصحيحين وقد أورد البيهقي وغيره من طريق جماعة عن خالد الحذاء عن عكرمة عن أبي سعيد الخدري قال كنا نحمل في بناء المسجد لبنة لبنة وعمار يحمل لبنتين لبنتين فرآه النبي صلى الله عليه و سلم فجعل ينفض التراب عنه ويقول ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار قال يقول عمار أعوذ بالله من الفتن لكن روى هذا الحديث الامام البخاري عن مسدد عن عبد العزيز بن المختار عن خالد الحذاء وعن ابراهيم بن موسى عن عبد الوهاب الثقفي عن خالد الحذاء به إلا أنه لم يذكر قوله تقتلك الفئة الباغية
قال البيهقي وكأنه إنما تركها لما رواه مسلم من طريق عن أبي نضرة عن أبي سعيد [ قال أخبرني من هو خير مني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعمار حين جعل يحفر الخندق جعل يمسح رأسه ويقول بؤس ابن سمية تقتله فئة باغية وقد رواه مسلم أيضا من حديث شعبة عن أبي مسلم عن ابي نضرة عن أبي سعيد ] قال حدثني من هو خير مني أبو قتادة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعمار بن ياسر بؤسا لك يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية وقال أبو داود الطيالسي حدثنا وهيب عن داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما حفر الخندق كان الناس يحملون لبنة لبنة وعمار ناقه من وجع كان به فجعل يحمل لبنتين لبنتين قال أبو سعيد فحدثني بعض أصحابي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان ينفض التراب عن رأسه ويقول ويحك ابن سمية تقتلك الفئة الباغية قال البيهقي فقد فرق بين ما سمعه بنفسه وما سمعه من أصحابه قال ويشبه أن (3/217)
يكون قوله الخندق وهما أو أنه قال له ذلك في بناء المسجد وفي حفر الخندق والله أعلم
قلت حمل اللبن في حفر الخندق لا معنى له والظاهر أنه اشتبه على الناقل والله أعلم وهذا الحديث من دلائل النبوة حيث أخبر صلوات الله وسلامه عليه عن عمار أنه تقتله الفئة الباغية وقد قتله أهل الشام في وقعة صفين وعمار مع علي وأهل العراق كما سيأتي بيانه وتفصيله في موضعه وقد كان علي أحق بالأمر من معاوية ولا يلزم من تسمية أصحاب معاوية بغاة تكفيرهم كما يحاوله جهلة الفرقة الضالة من الشعية وغيرهم لانهم وإن كانوا بغاة في نفس الامر الامر فانهم كانوا مجتهدين فيما تعاطوه من القتال وليس كل مجتهد مصيبا بل المصيب له أجران والمخطئ له أجر ومن زاد في هذا الحديث بعد تقتلك الفئة الباغية لا أنالها الله شفاعتي يوم القيامة فقد افترى في هذه الزيادة على رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه لم يقلها إذ لم تنقل من طريق تقبل والله أعلم وأما قوله يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار فإن عمارا وأصحابه يدعون أهل الشام إلى الالفة واجتماع الكلمة وأهل الشام يريدون أن يستأثروا بالأمر دون من هو أحق به وأن يكون الناس أوزاعا على كل قطر امام برأسه وهذا يؤدي الى افتراق الكلمة واختلاف الامة فهو لازم مذهبهم وناشئ عن مسلكهم وإن كانوا لا يقصدونه والله أعلم وسيأتي تقرير هذه المباحث إذا انتهينا الى وقعة صفين من كتابنا هذا بحول الله وقوته وحسن تأييده وتوفيقه والمقصود ههنا إنما هو قصة بناء المسجد النبوي على بانيه أفضل الصلاة والتسليم
وقد قال الحافظ البيهقي في الدلائل حدثنا أبو عبد الله الحافظ املاء ثنا أبو بكر بن اسحاق أخبرنا عبيد بن شريك ثنا نعيم بن حماد ثنا عبد الله بن المبارك أخبرنا حشرج بن نباتة عن سعيد ابن جمهان عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال جاء أبو بكر بحجر فوضعه ثم جاء عمر بحجر فوضعه ثم جاء عثمان بحجر فوضعه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم هؤلاء ولاة الامر بعدي ثم رواه من حديث يحيى بن عبد الحميد الحماني عن حشرج عن سعيد عن سفينة قال لما بنى رسول الله صلى الله عليه و سلم المسجد وضع حجرا ثم قال ليضع أبو بكر حجرا إلى جنب حجري ثم ليضع عمر حجره إلى جنب حجر أبي بكر ثم ليضع عثمان حجره إلى جنب حجر عمر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم هؤلاء الخلفاء من بعدي وهذا الحديث بهذا السياق غريب جدا والمعروف ما رواه الامام احمد عن أبي النضر عن حشرج بن نباتة العبسي وعن بهز وزيد بن الحباب وعبد الصمد وحماد بن سلمة كلاهما عن سعيد بن جمهان عن سفينة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول الخلافة ثلاثون عاما ثم يكون من بعد ذلك الملك ثم قال سفينة أمسك خلافة أبي بكر سنتين وخلافة عمر عشر سنين وخلافة (3/218)