ثم انصرف الأحنف إلى عسكره ولا يعلم بذلك أحد منهم حتى دخله واستعد وكان من شيمة الترك أنهم لا يخرجون حتى يخرج ثلاثة من فرسانهم كهؤلاء كلهم يضرب بطبله ثم يخرجوا بعد خروج الثالث فخرجت الترك ليلتئذ بعد الثالث فأتوا على فرسانهم مقتلين فتشائم خاقان وتطير وقال قد طال مقامنا وقد أصيب هؤلاء بمكان لم يصب بمثله قط أحد منا فما لنا في قتال هؤلاء القوم من خير فانصرفوا بنا فكان وجههم راجعين وارتفع النهار للمسلمين ولا يرون شيئا فأتاهم الخبر بانصراف خاقان إلى بلخ فقال المسلمون للأحنف ما ترى في إتباعهم فقال أقيموا بمكانكم ودعوهم
وكان يزدجرد لما نزل خاقان بمرو الروذ خرج إلى مرو الشاهجان فتحصن منه حارثة بن النعمان ومن معه فحاصرهم واستخرج خزائنه من مواضعها وخاقان ببلخ مقيم له فلما جمع يزدجرد ما كان في يده مما وضع بمرو فأعجل عنه وأراد أن يستقل منها إذا أمر عظيم من خزائن أهل فارس فقال له أهل فارس أي شيء تريد أن تصنع فقال أريد اللحاق بخاقان فأكون معه أو بالصين فقالوا له مهلا فإن هذا رأي سوء إنك إنما تأتي قوما في مملكتهم وتدع أرضك وقومك ولكن أرجع إلى هؤلاء القوم يعنون المسلمين فنصالحهم فإنهم أوفياء وأهل دين وهم يلون بلادنا وإن عدوا يلينا في بلادنا أحب إلينا ملكه من عدو يلينا في بلاده لا دين لهم ولا ندري ما وفاؤهم فأبا عليهم وأبوا عليه فقالوا فدع خزائننا نردها إلى بلادنا ومن يليها ولا تخرجها من بلادنا إلى غيرها فأبى فقالوا إنا لاندعك فاعتزلوه وتركوه في حاشيتة فاقتتلوا فهزموه وأخذوا الخزائن واستولوا عليها وكتبوا إلى الأحنف
(4/344)
بالخبر فاعترضهم المسلمون والمشركون يثفنونه فقاتلوه وأصابوا في آخر القوم وأعجلوه عن الأثقال ومضى مزايلا حتى يقطع النهر إلى فرغانة والترك فلم يزل مقيما بقية زمان عمر رضي الله عنه يكاتبهم ويكاتبونه أو من شاء الله منهم إلى أن كان زمن عثمان رضي الله عنه فكفر أهل خراسان فأقبل حتى نزل مرو فكان من أمره إلى حين مقتله ما نذكره بعد في موضعه إن شاء الله
وأقبل أهل فارس على الأحنف فصالحوه ودفعوا إليه تلك الخزائن والأموال وتراجعوا إلى بلدانهم وأموالهم على أفضل ما كانوا في زمان الأكاسرة فكانوا كأنهم في ملكهم إلا أن المسلمين أوفى لهم وأعدل عليهم فاغتبطوا وأصاب الفارس يوم يزدجرد كسهم الفارس يوم القادسية
ولما سمع خاقان وهو والترك ببلخ ما لقي يزدجرد وأن الأحنف خرج من المسلمين من مرو الروذ نحوه ترك بلخ وعبر النهر وأقبل الأحنف حتى نزل بلخ ونزل أهل الكوفة في كورها الأربع ثم رجع إلى مرو الروذ فنزل بها وكتب بالفتح الذي صنع الله في خاقان ويزدجرد إلى عمر رحمه الله وبعث إليه بالأخماس ووفد الوفود
ولما عبر خاقان النهر وعبرت معه حاشية آل كسرى أو من أخذ نحو بلخ منهم مع يزدجرد لقوا رسول يزدجرد الذي كان بعثه إلى ملك الصين وأهدى إليه معه ومعه جواب كتاب يزدجرد من ملك الصين فسألوه عما وراءوه فقال لما قدمت عليه بالكتاب والهدايا كافأنا بما ترون وأراهم هديته وأجاب يزدجرد بهذا الكتاب بعد أن كان قال لي قد عرفت أن حقا على الملوك إنجاد الملوك على من غلبهم فصف لي صفة هؤلاء القوم الذين أخرجوكم من بلادكم فإني أراك تذكر منهم قلة وكثرة منكم ولا يبلغ أمثال هؤلاء القليل
(4/345)
الذي تصف منكم فيما أسمع من كثرتكم إلا لخير عندهم وشر فيكم فقلت أسألني عما أحببت فقال أيوفون بالعهد قلت نعم قال وما يقولون لكم قبل أن يقاتلوكم قلت يدعوننا إلى واحدة من ثلاث إما دينهم فإن أحبناهم أجرونا مجراهم أو الجزية والمنعة أو المنابذة قال فكيف طاعتهم أمراءهم قلت أطوع قوم لمرشدهم قال فيما يحلون وما يحرمون فأخبرته فقال أيحرمون ما حلل لهم أو يحلون ما حرم عليهم قلت لا قال فإن هؤلاء القوم لا يهلكون ابدا حتى يحلوا حرامهم ويحرموا حلالهم ثم قال أخبرني عن لباسهم فأخبرته وعن مطاياهم فقلت الخيل العراب ووصفتها فقال نعمت الحصون هذه ووصفت له الإبل بركها وانبعاثها بحملها فقال هذه صفة دواب طوال الأعناق
وكتب معه إلى يزدجرد أنه لم يمنعني أن أبعث إليك بجيش أوله بمرو وآخره بالصين الجهالة بما يحق علي ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لي رسولك لو يحاولون الجبال لهدوها ولو خلى لهم سربهم أزالوني ما داموا على ما وصف فسالمهم وأرض منهم بالسلامة ولا تهيجهم ما لم يهيجوك
فأقام يزدجرد وآل كسرى بفرغانة على عهد من خاقان ولما وقع الرسول بالفتح والوفد بالخبر ومعهم الغنائم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه من قبل الأحنف جمع الناس وخطبهم وأمر بكتاب الفتح فقرى ء عليهم وقال في خطبته إن الله تبارك وتعالى ذكر رسوله وما بعثه به من الهدى ووعد على اتباعه من عاجل الثواب وآجله خير الدنيا والآخرة فقال عز وجل هو الذي ارسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ( 33 التوبة ) فالحمد لله الذي انجز وعده ونصر جنده ألا وإن الله قد اورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم لينظر كيف تعملون ألا أن المصرين اليوم من مسالحها كأنتم والمصرين فيما مضى من البعد وقد وغلوا في
(4/346)
البلاد والله بالغ أمره ومنجز وعده ومتبع آخر ذلك أوله فقوموا في أمره على رجل يوف لكم بعهده ويؤتكم وعده ولا تغيروا فيستبدل الله بكم قوما غيركم فإني لا أخاف على هذه الأمة أن يؤتوا إلا من قبلكم
وسيأتي بعد إن شاء الله ما كان من انتقاض خراسان وغيرها في خلافة عثمان رضي الله عنه
ونذكر الآن بقية فتوح أهل البصرة الذين عقد لهم عمر رضي الله عنه عند الإذن لهم في الإنسياح على ما تقدم
فتح توج
قالوا وخرج أهل البصرة الذين وجهوا أمراء على فارس ومعهم سارية ابن زنيم ومن بعث معهم الى ما وراء ذلك وأهل فارس مجتمعون بتوج فلم يصمدوا بجمعهم ولكن قصد كل أمير منهم قصد إمارته وكورته التي أمر بها وبلغ ذلك أهل فارس فتفرقوا إلى بلدانهم ليمنعوها كما تفرق المسلمون في القصد إليها فكانت تلك هزيمة أهل فارس تشتت أمورهم وتفرقت جموعهم فتطيروا من ذلك كأنما كانوا ينظرون إلى ما صاروا إليه فقصد مجاشع بن مسعود فيمن معه من المسلمين لسابور وأردشير خره فالتقوا بتوج مع أهل فارس فاقتتلوا ما شاء الله عز وجل ثم إن شاء الله عز وجل سلط المسلمين على أهل توج فهزموهم وقتلوهم كل قتلة وبلغوا منهم ماشاءوا وغنمهم ما في عسكرهم فحووه
وهذه توج الآخرة لم يكن لها بعدها شوكة والأولى التي تنقذ فيها جنود العلاء بن الحضرمي أيام طاووس والوقعتان متساجلتان
ثم دعوا بعد هزيمتهم هذه الآخرة إلى الجزية والذمة فتراجعوا وأقروا وخمس مجاشع الغنائم وبعث بخمسها ووفد وفدا وقد كانت البشرى والوفود يجازون وتقضي لهم حوائجهم لسنة جرت بذلك من رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وحدث عاصم بن كليب عن أبيه قال خرجنا مع مجاشع غازين توج
(4/347)
فحاصرناها وقاتلناهم ما شاء الله فلما افتتحناها حوينا نهبا كثيرا وقتلنا قتلى عظيمة فكان علي قميص قد تخرق فأخذت إبرة وسلكا فجعلت أخيط قميصي بها ثم إني نظرت إلى رجل من القتلى عليه قميص فنزعته فأتيت به الماء فجعلت أضربه بين حجرين حتى ذهب ما فيه فلبسته فلما جمعت الرثة قام مجاشع خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس لا تغلوا فإنه من غل جاء بما غل يوم القيامة ردوا ولو المخيط فلما سمعت ذلك نزعت القميص فألقيته في الأخماس
وفي ذلك يقول مجاشع
ونحن ولينا مرة بعد مرة
بتوج أبناء الملوك الأكابر
لقينا جنود الماهيان بسحرة
على ساعة تلوي بأيدي الخطائر
فما فتئت خيلي تكر عليهم
ويلحق منها لاحق غير جائر
لدن غدوة حتى أتى الليل دونهم
وقد عولجوا بالمرهفات البواتر
وكان كذاك الدأب في كل كورة
أجابت لإحدى المنكرات الكبائر
الطويل
حديث اصطخر
قالوا وقصد عثمان بن أبي العاص لاصطخر فالتقى هو وأهلها بجور فاقتتلوا ما شاء الله ثم فتح الله على المسلمين جور واصطخر فقتلوا ما شاء الله وتفرق من تفرق ثم إن عثمان دعا الناس إلى الجزاء والذمة فراسلوه وراسلهم فأحابه الهربذ وكل من هرب أو تنحى فتراجعوا وباحوا بالجزاء وجمع عثمان حين هزمهم ما أفاء الله عليهم فخمسه وبعث بالخمس إلى عمر رحمه الله وقسم الباقي في الناس وعف الجند عن النهاب وأدوا الأمانة واستدقوا الدنيا فجمعهم عثمان ثم قام فيهم وقال إن هذا الأمر لا يزال مقبلا وأهله معافون مما يكرهون ما لم يغلوا فإذا غلوا رأوا ما ينكرون ولم يسد الكثير مسد القليل اليوم
وعن الحسن قال قال عثمان بن أبي العاص يوم اصطخر إن الله عز وجل إذا أراد بقوم خيرا كفهم ووفر أمانتهم فاحفظوها فإن أول ما تفقدون من دينكم الأمانة فإذا فقدتموها جدد لكم في كل يوم فقدان شيء من أموركم
(4/348)
ثم إن شهرك خلع في آخر إمارة عمر أو أول إمارة عثمان رحمهما الله ونشط أهل فارس ودعاهم إلى النقض فوجه إليه عثمان بن أبي العاص
ثانية وبعث معه جنودا أمد بهم عليهم عبيد الله بن معمر وشبل بن معبد فالتقوا بفارس فقال شهرك لابنه وهو في المعركة وبينهم وبين قرية لهم تدعى ريشهر ثلاثة فراسخ وكان بينهم وبين قرارهم اثنا عشر فرسخا يا بني أين ترى أن يكون غداؤنا هنا أو بريشهر فقال يا أبت إن تركونا فلا يكون غداؤنا هنا ولا بريشهر ولا يكون إلا في المنزل ولكن والله ما أراهم يتركوننا فما فرغا من كلامهما حتى أنشب المسلمون القتال فاقتتلوا قتالا شديدا فقتل فيه شهرك وابنه وقتل من المشركين مقتله عظيمة وولي قتل شهرك الحكم بن أبي العاص أخو عثمان بن أبي العاص
وذكر الطبري عن أبي معشر أن اصطخر الآخرة كانت سنة ثمان وعشرين وذلك وسط إمارة عثمان بن عفان رضي الله عنه
وذكر ايضا بسنده إلى عبيد الله بن سليمان قال كان عثمان بن أبي العاص أرسل إلى البحرين فأرسل أخاه الحكم في ألفين إلى توج وكان كسرى قد فر عن المدائن ولحق بجور من أرض فارس
قال الحكم فقصد إلى شهرك وكان كسرى أرسله فهبطوا من عقبة عليهم الحديد فخشيت ان تغشى أبصار الناس فأمرت مناديا فنادى أن من كانت له عمامة فليلقها على عينيه ومن لم يكن له عمامة فليغمض بصره وناديت أن حطوا عن دوابكم فلما رأى شهرك ذلك حط أيضا ثم ناديت أن اركبوا وصففنا لهم وركبوا فجعلت الجارود العبدي على الميمنة وأبا صفرة يعني أبا المهلب على الميسرة فحملوا على المسلمين فهزموهم حتى ما أسمع لهم صوتا فقال لي الجارود أيها الأمير الجند فقلت إنك سترى أمرك فما لبثنا أن رجعت خيلهم ليس عليها فرسانهم والمسلمون يتبعونهم يقتلونهم فنثرت الرءوس بين يدي وأتيت برأس ضخم وكان معي
(4/349)
بعض ملوكهم فارق كسرى ولحق بي فقال هذا رأس الأزدهاق يعنون شهرك فحوصروا في مدينة سابور فصالحهم الحكم وكان ملكهم آذربيان فاستعان به الحكم على قتال أهل اصطخر
وقال يزيد بن الحكم بن أبي العاص يذكر اصطخر الآخرة
أنا ابن عظيم القريتين كليهما
نتمني إلى العليا الفروع الفوارع
لنا مجد بطحاوي ثقيف وغالب
إذا عد بطحاواهما والد سائع
لنا الحسب العود الذي لا تناله
عيون العدى والحاسدات الدواسع
أبي سلب الجبار بيضة ملكه
فخر وأطراف الرماح شوارع
بمعترك ضنك به قصد القنى
وهام وأيد تختليها القواطع
بأيدي سراة كلهم باع نفسه
فأوفوا بما باعوا وأوفى المبايع
هم المؤمنون الواردو الموت في الوغى
كما ترد الماء العطاش النوائع
نجاهد في نصر لخير شريعة
إذا ذكرت يوم الحساب الشرائع
سمونا لزحف المشركين بوقعة
بها در مال الجزية المتتابع
تركنا من القتلى نثارا تعودها
نسور تراماها الضباع الجوامع
جثى من عظام المشركين كأنها
تلوح من الرأي البعيد صوامع
تركنا سباع الأرض والطير منهم
شباعا وما فيها إلى الحول جائع
الطويل
حديث فساودار ابجرد
(4/350)
وقالوا وقصد سارية بن زنيم لفساودارابجرد حتى أفضى إلى عسكرهم فنزل عليهم وحاصرهم ما شاء الله ثم إنهم استمدوا فتجمعوا وتجمعت اليهم أكراد فارس فدهم المسلمين أمر عظيم وجمع كثير فرأى عمر رضي الله عنه في تلك الليلة معركتهم وعددهم في ساعة من النهار فنادى من الغد الصلاة جامعة حتى إذا كان في الساعة التي رأى فيها ما رأى خرج إليهم وكان أريهم والمسلمين بصحراء إن أقاموا فيها أحيط بهم وإن أرزوا إلى جبل من خلفهم لم يؤتوا إلا من وجه واحد ثم قام فقال أيها الناس إني رأيت هذين الجمعين وأخبر بحالهما ثم قال يا سارية الجبل الجبل ثم أقبل عليهم فقال إن لله عز وجل جنودا ولعل بعضها أن يبلغهم ولما كان تلك الساعة من ذلك اليوم أجمع سارية والمسلمون على الإسناد إلى الجبل ففعلوا وقاتلوا القوم من وجه واحد فهزمهم الله لهم وكتبوا بذلك إلى عمر رحمه الله وباستيلائهم على البلد ودعاء أهله وتسكينهم
وعن رجل من بني مازن قال كان عمر رحمه الله قد بعث سارية بن زنيم الدؤلي إلى فساودارابجرد فحاصرهم ثم إنهم تداعوا فأصحروا له وكثروه وأتوه من كل جانب فقال عمر رضي الله عنه وهو يخطب في يوم جمعة يا سارية بن زنيم الجبل الجبل
وفي غير هذا الحديث ثم عاد عمر في خطبته فعجب الناس لندائه سارية على بعده فقضى الله سبحانه أن كان سارية وأصحابه في ذلك الوقت موافقين للمشركين وقدضايقهم المشركون من كل جانب وإلى جانب المسلمين جبل إن لجأوا إليه لم يؤتوا إلا من وجه واحد فسمعوا صوتا يقول يا سارية بن زنيم الجبل الجبل كما قال عمر رضي الله عنه وفي ذلك الوقت بعينه فلجأوا إلى الجبل فنجوا وهزموا عدوهم وأصابوا مغانم كثيرة
(4/351)
قال المازني في حديثه إن سارية أصاب في المغانم سفطا فيه جوهر فاستوهبه المسلمون لعمر فوهبوه له فبعث به وبالفتح رجلا وقال له استقرض ما تبلغ به وما تخلفه في أهلك على جائزتك وكان الرسل والوفد يجازون فقدم الرجل البصرة ففعل ثم خرج فقدم على عمر رحمه الله فوجده يطعم الناس ومعه عصاه التي يزجر بها بعيره فقصده فأقبل عليه بها فقال اجلس فجلس حتى إذا أكل انصرف عمر وقام الرجل فأتبعه فظن عمر أنه رجل لم يشبع فقال حين انتهى إلى باب داره أدخل فلما جلس في البيت أتى بغذائه خبز وزيت وملح وجريش فوضع له ثم قال للرجل أدن فكل فأكلا حتى إذا فرغ قال له الرجل رسول سارية بن زنيم يا أمير المؤمنين فقال مرحبا وأهلا ثم أدناه حتى مست ركبته ركبته ثم سأله عن المسلمين ثم سأله عن سارية فأخبره بقصة الدرج فنظر إليه ثم صاح به وقال لا ولا كرامة حتى تقدم على ذلك الجيش فتقسمه بينهم وطرده فقال يا أمير المؤمنين إني قد أنضيت إبلي واستقرضت على جائزتي فأعطني ما أتبلغ به فما زال عنه حتى أبدله بعيرا ببعيره من إبل الصدقة وأخذ بعيره فأدخله في إبل الصدقة ورجع الرجل مغضوبا عليه محروما حتى قدم البصرة فنفذ لما أمره به عمر رحمه الله وقد كان أهل المدينة سألوه عن سارية وعن الفتح وهل سمعوا شيئا يوم الوقعة فقال نعم سمعنا يا سارية الجبل الجبل وقد كدنا نهلك فلجأنا إليه ففتح الله علينا
حديث فتح كرمان
(4/352)
قالوا وقصد سهيل بن عدي إلى كرمان ولحقه عبد الله بن عبد الله ابن عتبان وعلى مقدمته سهيل بن عدي النسير بن عمرو العجلي وقد حشد له أهل كرمان واستعانوا بالقفس فاقتتلوا في أدنى أرضهم ففضهم الله تعالى فأخذوا عليهم بالطريق وقتل النسير مرزبانها ودخل سهيل من قبل طريق القرى إلى جيرفت وعبد الله بن عبد الله من مفازة شير فأصابوا ما شاءوا من بعير أو شاة فقدموا الإبل والغنم فتحاصوها وأخروا البخت لعظم البخت على العرب وكرهوا أن يزيدوا وكتبوا إلى عمر فأجابهم إن البعير العربي إنما قوم ببعير اللحم وذلك مثله فإذا رأيتم أن للبخت فضلا فزيدوا
وذكر المدائني أن الذي فتح كرمان عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي في خلافة عمر بن الخطاب ثم أتى الطبسين من كرمان ثم قدم على عمر رضي الله عنه فقال يا أمير المؤمنين إني افتتحت الطبسين فأقطعنيهما فأراد أن يفعل فقيل لعمر إنهما رستاقان عظيمان فلم يقطعه إياهما وهما بابا خراسان
فتح سجستان
(4/353)
قالوا وقصد عاصم بن عمرو لسجستان ولحقه عبد الله بن عمير فالتقوا هم وأهل سجستان في أدنى أرضهم فهزموهم ثم أتبعوهم حتى حصروهم بزرنج ومخر المسلمون أرض سجستان ما شاء الله ثم إنهم طلبوا الصلح على زرنج وما احتازوا من الأرضين فأعطاهم ذلك المسلمون وكان فيما اشترطوا من صلحهم أن فدافدها حمى فكان المسلمون إذا خرجوا تناذروها خشية أن يصيبوا منها فيخفروا فتم أهل سجستان على الخراج فكانت سجستان على الخراج فكانت سجستان أعظم من خراسان شأنا وأبعد فروجا يقاتلون القندهار والترك وأمما كثيرة وكانت فيما بين السند إلى نهر بلخ فلم تزل أعظم البلدين وأصعب الفرجين وأكثرها عددا وجندا حتى كان زمن معاوية فهرب الشاه من أخيه رتبيل إلى بلد فيها يدعى آمل ودانوا لسلم بن زياد وهو يومئذ على سجستان ففرح بذلك وعقد لهم وأنزلهم تلك البلاد وكتب إلى معاوية بذلك يرى أنه قد فتح عليه فقال معاوية إن ابن أخي ليفرح بأمر إنه ليحزنني وينبغي له ان يحزنه قالوا ولم يا أمير المؤمنين قال لأن آمل بلدة بينها وبين زرنج صعوبة وتضايق وهؤلاء قوم غدر نكر فيضطرب الجبل غدا فأهون ما يجيء منهم أن يغلبوا على بلاد آمل بأسرها
وتم لهم على عهد ابن زياد فلما وقعت الفتنة بعد معاوية كفر معاوية الشاه وخلت آمل وخافه أخوه فاعتصم منه بمكانه الذي هو به ولم يرضه ذلك حين تشاغل
الناس عنه حتى طمع في زرنج فغزاها فحصرهم حتى أتتهم الأمداد من البصرة
قالوا وسار رتبيل والذين جاءوا معه فنزلوا تلك البلاد شجا لم ينتزع إلى اليوم وقد كانت البلاد مذللة إلى ان مات معاوية رحمه الله
فتح مكران
(4/354)
قالوا وقصد الحكم بن عمرو التغلبي لمكران حتى انتهى إليها ولحق به شهاب بن مخارق بن شهاب فانضم إليه وأمده سهيل بن عدي وعبد الله بن عتبان بأنفسهما فانتهوا إلى دوين النهر وقد انفض أهل كرمان إليه حتى نزلوا على شاطئه فعسكروا وعبر إليهم راسل ملكهم ملك السند فازدلف بهم يستقبل المسلمين فالتقوا فاقتتلوا بمكان من مكران من النهر على أيام فهزم الله راسلا وسلبه وأباح المسلمين عسكره وقتلوا في المعركة من المشركين مقتلة عظيمة وأتبعوهم يقتلونهم أياما حتى انتهوا إلى النهر
ثم رجعوا فأقاموا بمكران وكتب الحكم إلى عمر بالفتح وبعث بالأخماس مع صحار العبدي واستأمره في الفيله فقدم صحار على عمر رحمه الله فسأله عن مكران وكان لايأتيه أحد إلا سأله عن الوجه الذي يجيء منه فقال يا أمير المؤمنين أرض سهلها جبل وماؤها وشل وتمرها دقل وعدوها بطل وخيرها قليل وشرها طويل والكثير بها قليل والقليل بها ضائع وما وراءها شر منها فقال عمر رحمه الله أسجاع أنت أم خير فقال بل مخبر فقال لا والله لايغزوها لي جيش ما أطعت وكتب إلى الحكم وإلى سهيل أن لا يجوزن مكران أحد من جنودكما واقتصرا على ما دون النهر وأمره ببيع الفيلة بأرض الإسلام وقسم أثمانها على من أفاءها الله عليه
حديث بيروذ
(4/355)
قالوا لما فصلت الجنود إلى الكور اجتمع ببيروذ جمع عظيم من الأكراد وغيرهم وكان عمر رحمه الله قد عهد إلى أبي موسى حين سارت الجنود إلى الكور أن يسير حتى ينتهي إلى حد ذمة البصرة كي لا يؤتى المسلمون من خلفهم وخشي أن يستلحم بعض جنوده أو ينقطع منهم طرف أو يخلف في أعقابهم فكان الذي حذر من اجتماع أهل بيروذ وقد أبطأ أبو موسى حتى تجمعوا فخرج أبو موسى حتى ينزل ببيروذ على الجمع الذي تجمع بها وذلك في رمضان فنزل على جمع لهم منعه فالتقوا بين نهر تيري ومناذر وقد توافى إليها أهل النجدات من أهل فارس والأكراد ليكيدوا المسلمين أو ليصيبوا منهم عورة ولم يشكوا في واحدة من اثنتين فقام المهاجر بن زياد وقد تحنط واستقتل فقال لأبي موسى أقسم على كل صائم الإرجع فأفطر فرجع أخوه فيمن رجع لإبرار القسم وذلك الذي أراد المهاجر أن يرجع أخوه لئلا يمنعه من الاستقتال وتقدم فقاتل حتى قتل رحمه الله وفرق الله عز وجل المشركين حتى تحصنوا في قلة وذلة وأقبل الربيع بن زياد أخو المهاجر فاشتد حزنه عليه ورق له أبو موسى للذي رآه دخله من مصاب أخيه فخلفه عليهم وخرج أبو موسى حتى بلغ أصبهان فلقي بها جنود أهل الكوفه محاصرين جي ثم أنصرف إلى البصرة وقد فتح الله على الربيع بن زياد أهل بيروذ من نهر تيري فهزمهم وجمع السبي والأموال فتنقى أبو موسى ستين غلاما من أبناء الدهاقين وعزلهم وبعث بالفتح إلى عمر رحمه الله ووفد وفدا فجاءه رجل من عنزة
(4/356)
يقال له ضبة بن محصن فقال اكتبني في الوفد فقال قد كتبنا من هو أحق منك فانطلق مغاضبا مراغما وكتب أبو موسى إلى عمر بقصة الرجل فلما قدم الكتاب بالفتح والوفد على عمر قدم العنزي فأتى عمر فسلم عليه فقال من أنت فأخبره فقال لا مرحبا ولا أهلا فقال أما المرحب فمن الله وأما الأهل فلا أهل فاختلف إليه ثلاثا يقول هذا ويرد عليه هذا حتى إذا كان اليوم الرابع فدخل عليه فقال له مانقمت على أميرك فقال تنقي ستين غلاما من أبناء الدهاقين لنفسه وله جارية تدعى عقيلة تغذى جفنة وتعشى جفنة وليس منا رجل يقدر على ذلك وله قفيزان وله خانان وفوض إلى زياد وكان زياد هو ابن أبي سفيان يلي أمور البصرة وأجاز الحطيئة بألف
فكتب عمر رحمه الله كل ما قال وبعث إلى أبي موسى فلما قدم حجبه أياما ثم دعى به ودعا ضبة بن محصن ودفع إليه الكتاب فقال إقرأ ما كتبت فقرأ أخذ ستين غلاما لنفسه فقال أبو موسى دللت عليهم وكان لهم فداء ففديتهم فأخذته فقسمته بين المسلمين فقال ضبة والله ما كذب ولا كذبت وقرأ له قفيزان فقال أبو موسى قفيز لأهلي أقوتهم به وقفيز في أيديهم للمسلمين يأخذون به أرزاقهم فقال ضبة والله ما كذب ولا كذبت فلما ذكر عقيلة سكت أبو موسى ولم يعتذر وعلم أن ضبة قد صدقه قال وزياد يلي أمور الناس ولا يعرف هذا ما يلي فقال أبو موسى وجدت له نبلا ورأيا فأسندت إليه عملي قال وأجاز الحطيئة بألف قال سددت فمه بمالي أن يشتمني فقال قد فعلت ما فعلت فرده عمر رحمه الله وقال إذا قدمت فأرسل إلي زيادا وعقيلة ففعل فقدمت عقيلة قبل زياد وقدم زياد فأقام بالباب فخرج عمر وزياد بالباب قائم وعليه ثياب بيض كتان فقال ما هذه الثياب فأخبره فقال كم أثمانها فأخبره بشيء يسير وصدقه فقال له
(4/357)
كم عطاؤك قال ألفان قال ما صنعت بأول عطاء خرج لك فقال اشتريت به والدتي فأعتقتها واشتريت في الثاني ربيبي عبيدا فأعتقته فقال وفقت وسأله عن الفرائض والسنن والقرآن فوجده فقيها فرده وأمر أمراء البصرة أن يستعينوا برأيه وحبس عقيلة بالمدينة
وقال عمر رضي الله عنه ألا إن ضبة بن محصن غضب على أبي موسى في الحق أن أصابه وفارقه مراغما أن فاته أمر من أمور الدنيا فصدق عليه وكذب فأفسد كذبه صدقه فأياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى النار
وكان الحطيئة قد لقيه في غزاة يبروذ وكان أبو موسى ابتدأها فحاصرهم حتى فلهم ثم جازاهم ووكل بهم الربيع ثم رجع إليهم بعد الفتح فولى القسم
ومن مدح الحطيئة في أبي موسى
وغارة كشعاع الشمس مشعلة
تهوى بكل صبيح الوجه بسام
قب البطون من التعداء قد علمت
أن كل عام عليها عام الجام
مستحقبات رواياها جحافلها
يسمو بها أشعري طرفه سامي
لايزجر الطير أن مرت به سنحا
ولا يفاض له قسم بأزلام
جمعت من عامر فيها ومن أسد
ومن تميم وذبيان ومن حام
وما رضيت لهم حتى رفدتهم
من وائل رهط بسطام بإصرام
في متلف طائعا لله محتسبا
يرجو ثواب كريم العفو رحام
البسيط
غزوة سلمة بن قيس الأشجعي الأكراد
(4/358)
ذكر الطبري من طريقين كلاهما ينمى إلى سليمان بن بريدة واللفظ في الحديثين متقارب وربما كان في أحدهما زيادة على الآخر وأحدهما عن سيف ابن عمر وفيه أن سليمان بن بريدة قال لقيت رسول سلمة بن قيس الأشجعي فقال كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا اجتمع له جيش من العرب بعث عليهم رجلا من أهل العلم والفقه فاجتمع إليه جيش فبعث عليهم سلمة بن قيس فقال سر باسم الله قاتل في سبيل الله من كفر بالله فإذا لقيتم عدوكم من المشركين فادعوهم إلى ثلاث خصال ادعوهم إلى الإسلام فإن أسلموا واختاروا دارهم فعليهم في أموالهم الزكاة وليس لهم في فيء المسلمين نصيب وإن اختاروا أن يكونوا معكم فلهم مثل الذي لكم وعليهم مثل الذي عليكم وإن أبوا فسلوهم الخراج فإن أعطوكموه فقاتلوا عدوكم من ورائهم وفرغوهم لخراجهم ولا تكلفوهم فوق طاقتهم فإن أبوا فقاتلوهم فإن الله ناصركم عليهم وإن تحصنوا منكم في حصن فسألوكم أن ينزلوا على حكم الله ورسوله فلا تعطوهم على حكم الله ورسوله فإنكم لا تدرون ما حكم الله ورسوله فيهم وإن سألوكم أن ينزلوا على ذمة الله ورسوله فلا تعطوهم ذمة الله وذمة رسوله وأعطوهم ذمم أنفسكم فإن قاتلوكم فلا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا قال فلقينا عدونا من المشركين
(4/359)
من الأكراد فدعوناهم إلى ما امر به أمير المؤمنين من الإسلام فأبوا فدعوناهم إلى الخراج فأبوا فقاتلناهم فنصرنا عليهم فقتلنا المقاتلة وسبينا الذرية وجمعنا الرثة فوجد فيها سلمة حقي جوهر فجعلهما في سفط ثم قال إن هذا لا يبلغ فيكم شيئا فإن طابت أنفسكم به لأمير المؤمنين بعثت به إليه فإن له بردا ومؤونة فقالوا نعم قد طابت أنفسنا فبعثني سلمة يعني بالخبر والسفط إلى أمير المؤمنين قال فدفعت إليه ضحى والناس يتغدون وهو متكى ء على عصا كهيئة الراعي في غنمه يطوف في تلك القصاع يقول يا يرفاء زد هؤلاء لحما زد هؤلاء خبزا زد هؤلاء مرقة فلما دفعت إليه قال إجلس فجلست في أداني الناس فإذا طعام فيه خشونه وغلظ طعامي الذي معي أطيب منه فلما فرغ الناس قال يا يرفاء إرفع قصاعك ثم أدبر واتبعته فدخل داره ثم دخل حجرته فاستأذنت وسلمت فأذن لي فإذا هو جالس على مسح متكى ء على وسادتين من أدم محشوتين ليفا فنبذ إلي إحداهما فجلست عليها فقال يا أم كلثوم غداءنا فجاؤا إليه بقصعة فيها خبز وزيت في عرضها ملح لم يدق فقال لي كل فأكلت قليلا وأكل حتى فرغ ما رأيت رجلا أحسن أكلا منه ما يتليس طعامه بيده ولا فمه ثم قال اسقونا فجاؤا بفس فقال اشرب فشربت قليلا شرابي الذي معي أطيب منه فأخذه فشربه حتى قرع القدح جبهته وقال إنك لضعيف الأكل والشرب ثم قال الحمد لله الذي أطعمنا فأشبعنا وسقانا فأروانا قال قلت قد أكل أمير المؤمنين فشبع وشرب فروي حاجتي يا أمير المؤمنين قال وما حاجتك قلت أنا رسول سلمة بن قيس فقال مرحبا بسلمة وبرسوله وكأنما خرجت من صلبه قال حدثني عن المهاجرين كيف هم قلت كما تحب من السلامة والظفر على العدو قال كيف أسعارهم قلت أرخص أسعار قال كيف اللحم فيهم فإنه شجرة العرب ولا تصلح العرب إلا بشجرتها قلت البقرة
(4/360)
بكذا والشاه بكذا ثم قلت يا أمير المؤمنين سرنا حتى لقينا عدونا من المشركين فدعوناهم إلى ما أمرتنا به من الإسلام فأبوا فدعوناهم إلى الخراج فأبوا فقاتلناهم فنصرنا الله عليهم فقتلنا المقاتلة وسبينا الذرية وجمعنا الرثة وخرج له عن الحديث كله حتى انتهى إلى السفط وأخرجه إليه قال فلما نظر إلى تلك الفصوص من بين أحمر وأصفر وأخضر وثب وجعل يديه في خاصرتيه وقال لا أشبع الله إذن بطن عمر وظن النساء أني قد إغتلته فكشفن الستر فقال يا يرفاء جأ عنقه فوجأ عنقي وأنا أصيح فقال النجاء وأظنك ستبطى ء أما والذي لا إله غيره لإن تفرق الناس إلى مشاتيهم قبل أن يقسم هذا فيهم لأفعلن بك وبصاحبك فاقرة قلت يا امير المؤمنين ابدع بي فاحملني قال يا يرفاء أعطه راحلتين من الصدقة فإذا لقيت أفقر إليهما منك فادفعهما إليه قلت نعم وارتحلت حتى أتيت سلمة فقلت ما بارك الله لي فيما إختصصتني به اقسم هذا في الناس قبل أن أفضح والله وتفضح قال فقسمه فيهم قبل التفرق إلى مشاتيهم والفص يباع بخمسة دراهم وستة دراهم وهو خير من عشرين ألفا
وقد تقدم قبل في فتح فساودرابجرد خبر لرسول سارية بن زنيم شبيه بهذا الخبر فالله تعالى أعلم
وذكر الطبري غزوة سلمة بن قيس هذه في سنة ثلاث وعشرين وهي السنة التي قتل عمر رضي الله عنه في آخرها على ما نذكره إن شاء الله تعالى
ذكر الخبر عن إحرام عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى حين مقتله
(4/361)
لم يزل عمر رضي الله عنه قائما على امر الله مجتهدا فيه مجاهدا لأعدائه متعرفا منه سبحانه من المعونة والتأييد وجميل الكفاية والعناية والصنع ما وطأ له البلاد ودوخ الممالك وألقى إليه مقاليد الأمم من الفرس والروم والترك والأكراد وغيرهم من الأمم والأجيال الذين تقدم ذكرهم وأنجز الله في مدة خلافته معظم ما وعد به رسوله {صلى الله عليه وسلم} من الفتوح وجمع إليه أكثر ما زواه له من الأرض وتغلغلت جنوده في الآفاق عندما أذن لها في الإنسياح حتى أمرهم آخر إمارته بالإقصار والكف احتياطا على المسلمين ونظرا للإسلام وأقبل عندما أذن لهم في ذلك على الدعاء وتتبع آثار العمال بالعيون والنصحاء في السر والعلانية وتفقد الناس في الشرق والغرب إلى ان أتته منيته المحتومة بالشهادة المقدرة له في مصلاه على ما يأتي الذكر له إن شاء الله تعالى
وقد ورد في غير موضع من الآثار ذكر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لاستشهاده مخبرا وداعيا وهو الداعي المجاب والصادق المصدوق صلوات الله وبركاته عليه
وروي عن عوف بن مالك الأشجعي انه رأى في المنام على عهد أبي بكر رحمه الله تعالى كأن الناس جمعوا فإذا فيهم رجل قد علاهم فهو فوقهم بثلاثة أذرع قال فقلت من هذا قالوا عمر قلت ولم قالوا لأن فيه ثلاث خصال لا يخاف في الله لومة لائم وإنه خليفة مستخلف وشهيد مستشهد قال فأتى أبا بكر فقصها عليه فأرسل أبو بكر إلى عمر ليبشره قال فجاء فقال لي أبو بكر أقصص رؤياك فلما بلغت خليفة مستخلف
زبرني عمر وانتهرني وقال اسكت تقول هذا وأبو بكر حي قال فلما كان بعد وولي عمر مررت بالشام وهو على المنبر فدعاني فقال أقصص رؤياك فقصصتها فلما قالت إنه لا يخاف في الله لومة لائم قال إني لأرجوا أن يجعلني الله منهم فلما قلت خليفة مستخلف قال قد استخلفني فأسأله ان يعينني على ما ولاني فلما ذكرت شهيد مستشهد قال أنى لي الشهادة وانا بين أظهركم تغزون ولا أغزو ثم قال بلى يأتي الله بها أنى شاء يأتي الله بها أنى شاء
(4/362)
وكان عمر رحمه الله ملازما للحج في سني خلافته كلها وكان من سيرته أن يأخذ عماله بموافاته كل سنة في موسم الحج ليحجزهم بذلك عن الرعية ويحجر عليهم الظلم ويتعرف أحوالهم في قرب وليكون للرعية وقت معلوم ينهون إليه شكاويهم فيه فلما كانت السنة التي قتل منسلخها رضي الله عنه خرج إلى الحج على عادته وأذن لأزواج النبي {صلى الله عليه وسلم} فخرجن معه فلما وقف عمر رحمه الله يرمي الجمرة أتاه حجر فوقع على صلعته فأدماه وثم رجل من بني لهب قبيلة من الأزد تعرف فيها العيافة والزجر وإياها عنى القائل
تيممت لهبا أبتغي العلم عندهم
وقد رد علم العالمين إلي لهب
فقال اللهبي عندما أدمى عمر رحمه الله أشعر أمير المؤمنين لا يحج بعدهم
ويروى عن عائشة رضي الله عنها وحجت مع عمر تلك الحجة انه لما ارتحل من الحصبة أقبل رجل متلثم قلت فقال وأنا أسمع أين كان منزل أمير المؤمنين فقال قائل هذا كان منزله فأناخ في منزل عمر ثم رفع عقيرته يتغنى
عليك سلام من أمير وباركت
يد الله في ذلك الأديم الممزق
فمن يسع أو يركب جناحي نعامة
ليدرك ما قدمت بالأمس يسبق
قضيت أمورا ثم غادرت بعدها
بوائق في أكمامها لم تفتق
الطويل
قالت عائشة فقلت لبعض أهلي إعلموا لي من هذا الرجل فذهبوا فلم يجدوا في مناخه أحد قالت عائشة فو الله إني لأحسبه من الجن فلما قتل عمر نحل الناس هذه الأبيات للشماخ بن ضرار أو لأخيه مزرد
وقال سعيد بن المسيب لما صدر عمر بن الخطاب رضي الله عنه من منى أناخ بالأبطح ثم كوم كومة بطحاء ثم طرح عليها رداءه واستلقى ثم مد يديه إلى السماء فقال اللهم كبرت سني وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط ثم قدم المدينة فخطب الناس فقال أيها الناس قد سنت لكم السنن وفرضت لكم الفرائض وتركتم على الواضحة إلا أن تضلوا بالناس يمينا وشمالا وضرب بإحدى يديه على الأخرى
قال سعيد فما انسلخ ذو الحجة حتى قتل رحمه الله
(4/363)
وروى عن عمر رحمه الله أنه لما انصرف من حجته هذه التي لم يحج بعدها وانتهى إلى ضجنان وقف فقال الحمد الله ولا إله إلا الله يعطي من يشاء ما يشاء لقد كنت بهذا الوادي أرعى أبلا للخطاب وكان فظا غليظا يتعبني إذا عملت ويضربني إذا قصرت وقد أصبحت وأمسيت وليس بيني وبين الله أحد أخشاه ثم تمثل
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته
يبقى الإله ويودي المال والولد
لم تغن عن هرمز يوما خزائنه
والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح له
والإنس والجن فيما بينها برد
أين الملوك التي كانت نوافلها
من كل أوب إليها وافد يفد
حوض هنالك مورود بلا كذب
لابد من ورده يوما كما وردوا
الطويل
(4/364)
ثم إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد أن قدم المدينة من حجه خرج يوما يطوف بالسوق فلقيه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة وكان نصرانيا فقال يا أمير المؤمنين أعدني على المغيرة فأن علي خراجا كثيرا قال وكم خراجك قال درهمان في كل يوم قال وإيش صناعتك قال نجار نقاش حداد قال فما أرى خراجك كثيرا على ما تصنع من الأعمال قال وبلغني أنك تقول لو أردت أن أعمل رحا تطحن بالريح لفعلت قال نعم قال فاعمل لي رحا قال لئن سلمت لأعملن لك رحا يتحدث بها من بالمشرق والمغرب ثم انصرف عنه فقال عمر لقد توعدني العلج آنفا ثم انصرف عمر إلى منزله فلما كان من الغد جاءه كعب الأحبار فقال يا أمير المؤمنين اعهد فأنك ميت في ثلاثة أيام قال وما يدريك قال أجده في كتاب الله التوراة فقال عمر آلله إنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة قال اللهم لا ولكن أجد صفتك وحليتك بأنه قد فنى أجلك وعمر لايحس وجعا ولا ألما فلما كان من الغد جاءه كعب فقال يا أمير المؤمنين ذهب يوم وبقي يومان ثم جاء من بعد الغد فقال ذهب يومان وبقي يوم وليلة وهي لك إلى صبحها فلما كان الصبح خرج عمر إلى الصلاة وكان يوكل بالصفوف رجالا فإذا استوت أخبروه فكبر ودخل أبو لؤلؤة في الناس في يده خنجر له رأسان نصابه في وسطه وضرب به عمر ست ضربات
إحداهن تحت سرته هي التي قتلته فلما وجد عمر حر السلاح سقط وقال دونكم الكلب فإنه قتلني وماج الناس وأسرعوا إليه فجرح منهم ثلاثة عشر رجلا حتى جاء رجل منهم فاحتضنه من خلفه وقيل ألقي عليه برنسا فقيل أنه لما أخذ قتل نفسه
(4/365)
وقال عمر رضي الله عنه عندما سقط أفي الناس عبد الرحمن بن عوف قالوا نعم يا أمير المؤمنين هو ذا قال تقدم فصل بالناس قال فصلى عبد الرحمن بن عوف وحمل عمر إلى منزله فدعا عبد الرحمن بن عوف فقال إني أريد أن أعهد إليك قال أنشدك الله يا أمير المؤمنين أتشير على بذلك قال اللهم لا قال والله لا أدخل فيه أبدا قال فهبني صمتا حتى أعهد إلى النفر الذين توفي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو عنهم راض ادعو لي عليا وعثمان والزبير وسعدا قال وانتظروا أخاكم طلحه ثلاثا فإن جاء وإلا فاقضوا أمركم أنشدك الله يا علي إن وليت من أمر الناس شيئا أن تحمل بني هاشم على رقاب الناس وأنشدك الله يا عثمان إن وليت من أمور الناس شيئا أن تحمل بني أبي معيط على رقاب الناس أنشدك الله يا سعد إن وليت من أمور الناس شيئا أن تحمل أقاربك على رقاب الناس قوموا فتشاوروا ثم اقضوا أمركم وليصل بالناس صهيب وأمرهم أن يحضر معهم عبد الله بن عمر على أن لا يكون له في الأمر شيء ثم دعا أبا طلحة الأنصاري فقال قم على بابهم لا تدع أحدا يدخل إليهم وأوصى الخليفة من بعدي بالأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان أن يحسن إلى محسنهم وأن يتجاوز عن مسيئهم وأوصي الخليفة من بعدي بالعرب فإنها مادة الإسلام أن تؤخذ صدقات أغنيائهم فتوضع في فقرائهم وأوصي الخليفة من بعدي بذمة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يوفي لهم بعهدهم اللهم هل بلغت تركت الخليفة من بعدي على أنقى من الراحة يا عبد الله بن عمر اخرج فانظر من قتلني فقال يا أمير المؤمنين قتلك أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة قال الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل سجد لله سجدة
(4/366)
واحدة يحاجني بلا إله إلا الله يا عبد الله إن اختلف القوم فكن مع الأكثر وإن كانوا ثلاثة وثلاثة فاتبع الحزب الذي فيه عبد الرحمن بن عوف يا عبد الله أئذن للناس فجعل يدخل عليه المهاجرون والأنصار فيسلمون عليه ويقول لهم أعن ملأ منكم كان هذا فيقولون معاذ الله ودخل في الناس كعب فلما نظر إليه عمر أنشأ يقول
وأوعدني كعب ثلاثا أعدها
ولا شك أن القول ما قاله كعب
وما بي حذار الموت إني لميت
ولكن حذار الذنب يتبعه الذنب
الطويل فقيل له لو دعوت الطبيب فدعى له طبيب من بني الحارث بن كعب فسقاه نبيذا فخرج مشكلا فقال اسقوه لبنا فخرج اللبن أبيض فقال له الطبيب لا أرى أن تمسي فما كنت فاعلا فافعل وفي رواية أنه قيل له عند ذلك يا أمير المؤمنين اعهد قال قد فرغت وقال لعبد الله أبنه يا عبد الله أذهب إلى عائشة فاسألها أن تأذن لي أن أدفن مع النبي {صلى الله عليه وسلم} وأبي بكر وفي رواية أنه قال له أذهب إلى عائشة فقل لها أن عمر يستأذن أن يدفن مع صاحبيه ولا تقل أمير المؤمنين فأني لست اليوم بأمير المؤمنين فذهب إليها عبد الله فوجدها تبكي فذكر لها ذلك فقالت نعم قد كنت أردته لنفسي ولأوثرنه اليوم على نفسي فرجع إليه عبد الله وهو متطلع إليه فقال ما قالت لك قال أذنت قال الحمد لله ما كان علي أمر أهم من هذا فإذا أنا مت فاغسلني ثم احملني وأعد عليها الاستئذان فأن أذنت وإلا فاصرفني إلى مقابر المسلمين
فلما توفي رحمه الله ورضي عنه خرجوا به فصلى عليه صهييب ودفن في بيت عائشة رضي الله عنه وعنها ويروى أنه لما أحتضر قال ورأسه في حجر ابنه عبد الله رضي الله عنهما
ظلوم لنفسي غير إني مسلم
أصلي الصلاة كلها وأصوم
الطويل
وكان مقتله لأربع بقين من ذي الحجة من سنة ثلاث وعشرين وقيل لثلاث بقين منه وقيل إن وفاته كانت غرة المحرم من سنة أربع وعشرين
(4/367)
ونزل في قبره عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد بن أبي وقاص وقيل صهيب وابنه عبد الله بن عمر عوضا من الزبير وسعد
واختلف في مبلغ سنه يوم توفي وأشهر ما في ذلك أنه توفي ابن ثلاث وستين سنة وإنه استوفى عدة خلافة سن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} التي توفي لها وسن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما
ويروى عن عامر الشعبي أنه لما طعن عمر رضي الله عنه دخل عليه عبد الله بن عباس فقال يا أمير المؤمنين أبشر بالجنة فقال ما تقول قال اللهم نعم أسلمت حين كفر الناس وقاتلت مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين خذله الناس ومات نبي الله {صلى الله عليه وسلم} وهو عنك راض ولم يختلف في خلافتك رجلان ثم قتلت شهيدا فقال عمر والله إن من تغرونه لمغرور والله لو أن لي ما طلعت عليه الشمس من صفراء وبيضاء لأفتديت به من هول المطلع
وعن ابن عباس أيضا قال لما وضع عمر في أكفانه إكتنفه الناس يصلون عليه ويدعون فإذا أنا برجل قد زحمني من خلفي فنظرت فإذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقام فدعا له وترحم عليه ثم قال والله ما أصبح أحد أحب إلي من أن ألقى الله بمثل صحيفته منك وإني لأرجوا أن يجعلك الله مع صاحبيك لأني كثيرا ما سمعت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول خرجت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وفعلت أنا وأبو بكر وعمر فإني أرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك
وذكر عبد الله بن مسعود يوما عمر رضي الله عنه فهملت عيناه وهو قائم حتى بل الحصى ثم قال إن عمر كان حائطا كثيفا يدخله المسلمون ولا يخرجون منه فلما مات عمر إنثلم الحائط فهم يخرجون ولا يدخلون وما من أهل بيت من المسلمين لم تدخل عليهم مصيبة من موت عمر إلا أهل بيت سوء فإذا ذكر الصالحون فحي هلا بعمر
وروى انس بن أبي طلحة أنه قال والله ما أهل بيت من المسلمين إلا وقد دخل عليهم لموت عمر رضي الله عنه نقص في دينهم وفي دنياهم
وعن أبي وائل قال خرج حذيفة إلى المدائن وهم يذكرون الدجال فأخبرنا مسروق أنه سأله عن ذلك فقال نجب تجيء من ها هنا تنعي عمر
(4/368)
وعن حذيفة أيضا قال كان الإسلام كالرجل المقبل لا يزداد إلا
قربا فلما قتل عمر رضي الله عنه كان كالرجل المدبر لايزداد إلا بعدا
وقالت عاتكة إبنة زيد بن عمرو بن نفيل إمرأة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ترثيه
وفجعني فيروز لا در دره
بأبيض تال للكتاب منيب
رءوف على الأدنى غلظ على العدا
أخى ثقة في النائبات نجيب
متى ما يقل لا يكذب القول فعله
سريع إلى الخيرات غير قطوب
الطويل
ومما ينسب إلى الشماخ بن ضراروإلى اخيه مزرد بن ضرار أنه قاله في عمر ابن الخطاب ويروى عن عائشة أن الجن بكت به على عمر رحمه الله قبل أن يقتل بثلاث وقد تقدم ذكر بعض هذا الشعر
أبعد قتيل بالمدينة أظلمت
له الأرض تهتز العضاة بأسوق
جزى الله خيرا من إمام وباركت
يد الله في ذاك الأديم الممزق
وما كنت أخشى أن تكون وفاته
بكفي سبنتى أزرق العين مطرق
الطويل
وقبل هذا البيت ببيتان قد تقدما قبل فلذلك حذفناهما الآن هنا اختصارا
ذكر خلافة ذي النورين أبي عمرو عثمان بن عفان أمير المؤمنين رضي الله عنه ومبايعة أهل الشورى له بعد وفاة عمر رضي الله عنه
ولما مضى عمر رحمه الله لسبيله تفاوض أهل الشورى فيما بينهم ثلاثا بعد وفاته وانصرف أمر جميعهم إلى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فبايع لعثمان رحمه الله فبايعه بقيه أهل الشورى وكافة الصحابة رضي الله عن جميعهم وذلك يوم السبت غرة المحرم من سنة أربع وعشرين
(4/369)
وذكر سيف بإسناد له أنه لما بايع أهل الشورى عثمان رحمه الله خرج وهو أشدهم كآبة فآنى منبر النبي {صلى الله عليه وسلم} فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه {صلى الله عليه وسلم} ثم قال إنكم في دار قلعة وفي بقية أعمار فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه فلقد أتيتم صبحتم أو مسيتم ألا وإن الدنيا طويت على الغرور فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ( 33 لقمان ) اعتبروا بمن مضى ثم جدوا ولا تغفلوا فإنه لا يغفل عنكم أين أبناء الدنيا وإخوانها الذين آثروها وعمروها ومتعوا بها طويلا ألم تلفظهم ارموا بالدنيا حيث رمى الله بها واطلبوا الآخرة فإن الله ضرب لها مثلها والذي هو خير فقال واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على
كل شيء مقتدرا المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا ) ( 44 - 45 الكهف )
وذكر سيف أن أول كتاب كتبه عثمان رضي الله عنه إلى عماله
أما بعد فإن الله عز وجل أمر الأئمة أن يكونوا رعاة ولم يتقدم إليهم في أن يكونوا جباة وإن صدر هذه الأمة خلقوا رعاة ولم يخلقوا جباة وليوشكن أئمتكم أن يصيروا جباة ولا يكونوا رعاة فإذا عادوا كذلك أنقطع الحياء والأمانة والوفاء إلا وإن أعدل السيرة أن تنظروا في أمور الناس وفيما عليهم فتعطوهم مالهم وتأخذوهم بما عليهم ثم تثنوا بالذمة فتعطوهم الذي لهم وتأخذوهم بالذي عليهم ثم العدو الذي تنتابون فاستفتحوا عليهم بالوفاء
قال وأول كتاب كتبه إلى أمراء الجنود في الفروج
أما بعد فإنكم حماة المسلمين وذادتهم وقد وضع لكم عمر رحمه الله مالم يغب عنا بل كان عن ملأ منا فلا يبلغني عن أحد منكم تغيير ولا تبديل فيغير الله بكم ويستبدل بكم غيركم فانظروا كيف تكونون فإني أنظر فيما ألزمني الله النظر فيه والقيام عليه
(4/370)
وكتب رحمه الله إلى عمال الخراج أما بعد فإن الله تعالى خلق الخلق بالحق ولا يقبل إلا الحق خذوا الحق وأعطوا الحق به والأمانة الأمانة قوموا عليها ولا تكونوا أول من سلبها فتكونوا شركاء من بعدكم إلى ما اكتسبتم والوفاء الوفاء لا تظلموا اليتيم ولا المعاهد فإن الله ورسوله خصم لمن ظلمهم
وكان كتابه إلى العامة
أما بعد فإنكم بلغتم ما بلغتم بالإقتداء والإتباع فلا تلفتنكم الدنيا عن
أمركم فإن أمر هذه الأمة صائر إلى الإبتداع بعد اجتماع ثلاث فيكم تكامل النعم وبلوغ أولادكم من السبايا وقراءة الأعراب والأعاجم القرآن فان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال الكفر في العجمة فاذا استعجم عليهم أمر تكلفوا وابتدعوا
وزاد عثمان رضي الله عنه الناس في أعطياتهم مائة مائة وهو أول خليفة زاد الناس في العطاء وكان عمر رحمه الله يجعل لكل نفس منفوسة من أهل الفيء في رمضان درهما في كل يوم وفرض لأزواج النبي {صلى الله عليه وسلم} درهمين درهمين فقيل له لو وضعت لهم طعاما فجمعتهم عليه فقال أشبع الناس في بيوتهم فأقر عثمان الذي صنع عمر وزاد فوضع طعام رمضان للمتعبد الذي يبيت في المسجد ولابن السبيل وللمثوبين بالناس في رمضان
وكان في مدة خلافته رحمه الله فتوح عظام في البر والبحر وهو أول من أغزى فيه وقد تقدم ذكر كثير من ذلك كأفريقية وغزوة ذات الصواري في البحر على يدي عبد الله بن سعد وغزوة قبرس على يدي معاوية بن أبي سفيان وغير ذلك مما سلف في هذا الكتاب
ونذكر الآن من ذلك ما تيسر ذكره إن شاء الله تعالى مما لم نذكر قبل وأكثر من ذلك مما كان قد افتتح على عهد عمر رحمه الله وانتقض بعد وفاته فوجه اليه عثمان رحمه الله فاسترده حتى استوثق الأمر وانتظمت الفتوح
ذكر غزوة الوليد بن عقبة أذربيجان وأرمينية لمنع أهلها ما صالحوا عليه أهل الإسلام أيام عمر بن الخطاب
ويقال إنها كانت في السنة التي بويع فيها عثمان وقيل في سنة خمس وعشرين بعدها وقيل في سنة ست ذكر ذلك كله الطبري
(4/371)
وحكى أيضا عن أبي مخنف عن قرة بن لقيط الأزدي ثم العامري أن مغازي أهل الكوفة كانت الري وأذربيجان وكان بالبحرين عشرة الآف مقاتل من أهل الكوفة ستة آلاف بأذربيجان وأربعة آلاف بالري وكان بالكوفة إذ ذاك أربعون ألف مقاتل وكان يغزو هذين المصرين منهم عشرة آلاف كل سنة فكان الرجل تصيبه في كل أربع سنين غزوة فغزا الوليد بن عقبة في أزمانه على الكوفة في سلطان عثمان أذربيجان وأرمينية فدعى سلمان بن ربيعة الباهلي فبعثه أمامه مقدمة له وخرج الوليد في جماعة الناس يريد أن يمعن في أرض أرمينية فمضى حتى دخل أذربيجان فبعث عبد الله بن شبل بن عوف الأحمسي في أربعة آلاف فأغار على أهل موقان والببر والطيلسان فأصاب من أموالهم وغنم وسبى سبيا يسيرا وتحرز القوم منه فأقبل بذلك إلى الوليد
ثم أن الوليد صالح أهل أذربيجان على ثمانمائة ألف درهم وذلك هو الصلح الذي كانوا صالحوا عليه حذيفة بن اليمان أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم حبسوها بعد وفاته فلما وطئهم الوليد بالجيش انقادوا وطلبوا إليه أن يتم لهم على ذلك الصلح ففعل وقبض منهم المال وبث الغارات فيمن حولهم من أعداء الإسلام فبعث سلمان بن ربيعة إلى أرمينية في اثني عشر ألفا فسار في أرضها فقتل وسبى وغنم وانصرف مملوء اليدين إلى الوليد فانصرف الوليد وقد ظفر وأصاب حاجته فلما دخل الموصل راجعا أتاه كتاب من عثمان رحمه الله
أما بعد فإن معاوية بن أبي سفيان كتب إلي يخبرني أن الروم قد أجلبت على المسلمين بجموع كثيرة عظيمة وقد رأيت أن يمدهم إخوانهم من أهل الكوفة فإذا أتاك كتابي هذا فابعث رجلا ممن ترضى نجدته وبأسه وشجاعته وسخاءه وإسلامه في ثمانية آلاف أو تسعة آلاف أو عشرة آلاف إليهم من المكان الذي يأتيك فيه رسولي والسلام
(4/372)
فقام الوليد في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد أيها الناس فإن الله قد أبلى المسلمين في هذا الوجه بلاء حسنا فرد عليهم بلادهم التي كفرت وفتح بلادا لم تكن افتتحت وردهم سالمين غانمين مأجورين والحمد الله رب العالمين وقد كتب إلي أمير المؤمنين أن أندب منكم ما بين العشرة الآلاف إلى ثمانية آلاف تمدون إخوانكم من أهل الشام فإنهم قد جاشت عليهم الروم وفي ذلك الأجر العظيم والفضل المبين فانتدبوا رحمكم الله مع سلمان بن ربيعة فانتدب الناس فلم يمض ثلاثة أيام حتى خرج في ثمانية آلاف من أهل الكوفة فمضوا حتى دخلوا مع أهل الشام إلى أرض الروم فشنوا عليهم الغارات وأصابوا ما شاءوا من سبي وملأوا أيديهم من المغانم وافتتحوا بها حصونا كثيرة
وكان على أهل الشام حبيب بن مسلمة وسلمان على أهل الكوفة وزعم
الواقدي ان سعيد بن العاص هو الذي أمد حبيبا بسلمان وإن سبب ذلك أن عثمان رضي الله عنه أمر معاوية بإغزاء حبيب في أهل الشام أرمينية فوجهه إليها معاوية فبلغ حبيبا أن الموريان الرومي قد توجه نحوه في ثمانين ألفا من الروم والترك فأعلم بذلك معاوية فكتب معاوية إلى عثمان فكتب عثمان إلى سعيد بإمداد حبيب فأمده بسلمان في ستة آلاف وكان حبيب صاحب كيد فأجمع على أن يبيت الموريان فسمعته امرأته أم عبد الله بنت يزيد الكلبية يذكر ذلك فقالت له فأين موعدك قال سرادق الموريان أو الجنة ثم بيتهم فقتل من إشرأب له وأتى السرادق فوجد امرأته قد سبقت فكانت أول امرأة من العرب ضرب عليها سرادق ثم مات عنها حبيب فخلف عليها الضحاك بن قيس الفهري فهي أم ولد
ذكر انتقاض فارس ومسير عبد الله بن عامر إليها وفتحه إياها
(4/373)
ولما ولي عثمان رحمه الله أقر أبا موسى الأشعري على البصرة ثلاث سنين وعزله في الرابعة وأمر على خراسان عمير بن عثمان بن سعد وعلى سجستان عبيد الله بن عمير الليثي من بني ثعلبة فأثخن فيها إلى كابل وأثخن عمير في خراسان حتى بلغ فرغانة فلم يدع دونها كورة إلا أصلحها وبعث إلى مكران عبيد الله بن معمر التيمي فأثخن فيها حتى بلغ النهر وبعث على كرمان عبيد الله بن عنيس وبعث إلى فارس والأهواز نفرا وأبو موسى في كل ذلك على البصرة فلما كان في السنة الثالثة كفر أهل ايذج والأكراد فنادى أبو موسى في الناس وحضهم وذكر من فضل الجهاد في الرجلة حتى حمل نفر على دوابهم وأجمعوا على ألا يخرجوا إلا رجالة ثم نشأ بينه وبين أهل البصرة في هذا الإستنفار ما نفرهم عنه وطلبوا إلى عثمان أن يديلهم عنه فدعا عثمان عند ذلك عبد الله بن عامر فأمره على البصرة وصرف عبيد الله بن معمر إلى فارس واستعمل مكانه عمير بن عثمان بن سعد واستعمل على خراسان أمين بن أحمر اليشكري وعلى سجستان عمران بن الفضل البرجمي وعلى كرمان عاصم ابن عمرو فمات بها فجاشت فارس فانتقضت بعبيد الله بن معمر واجتمعوا له باصطخر فالتقوا على بابها فقتل عبيد الله وبلغ الخبر عبد الله بن عامر فاستنفر أهل البصرة إليهم وخرج في الناس وعلى مقدمته عثمان بن أبي العاص فالتقى هو وأهل فارس باصطخر فقتل منهم مقتلة عظيمة لم يزالوا منها في ذل
وكتب بذلك إلى عثمان بن عفان فكتب إليه يأمره أن يولي على كور فارس نفرا سماهم له وفرق خراسان بين ستة نفر منهم الأحنف بن قيس على المورين
ذكر انتقاض خراسان وخروج سعيد بن العاص وعبد الله بن عامر إليها وذكر طبرستان واستيلاء سعيد عليها
(4/374)
ذكر الطبري أن أداني أهل خراسان وأقاصيهم اعترضوا زمان عثمان رضي الله عنه لسنتين خلتا من إمارته فبدأ بنو كناري وهم أخوال كسرى فأنثروا في نيسابور وألجأوا عبد الرحمن بن سمرة وعماله إلى مرو الروذ وثنى أهل مرو الشاهجان وثلث بنيزل فاستولى على بلخ وأرز من بها إلى مروالروز وعلها بن سمرة فكتب إلى عثمان بخلع أهل خراسان فأرسل إلى ابن عامر أن يسير في جند البصرة فخرج ابن عامر في الجنود حتى يدخل خراسان على الطبسين من قبل يزدجرد وبث الجنود في كورها وأمرهم أن يطأوا فيهم ووطأ هو في أهل هراة بعدما وهنهم الجزاء وصالحوه ثم ثنى بنيسابور ففعلت فعل هراة ولقيت الكور من الجنود مثل ذلك فذلوا لهم واكتتب منهم أهل مرو الشاهجان وسائر خراسان وسار ابن عامر إلى نيزل فقتل تركه قتل الكلاب ولحق هو بترك بلاد الشام وستأتي بعد هذه المجملات مفصلة بعد
وذكر الطبري بإسناد له قال غزا سعيد بن العاص وهو على الكوفة سنة ثلاثين يريد خراسان ومعه حذيفة بن اليمان وناس من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ومعه الحسن والحسين وعبد الله بن عباس وابن عمر وعبد الله بن عمرو وابن الزبير وخرج عبد الله بن عامر من البصرة يريد خراسان فسبق سعيدا ونزل ابرشهر وبلغ ذلك سعيدا فنزل قرمس وهي صلح صالحهم حذيفة بعد
نهاوند فأتى جرجان فصالحوه على مائتي ألف ثم أتى طميسة وهي كلها من طبرستان متاخمة لجرجان وهي مدينة على ساحل البحر فقاتله أهلها حتى صلى يومئذ صلاة الخوف وهم يقتتلون بعد أن سأل حذيفة فأخبره كيف صلاة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وضرب يومئذ سعيد رجل من المشركين على حبل عاتقه فخرج السيف من مرفقه وحاصرهم فطلبوا الأمان فأعطاهم على أن لا يقتل منهم رجلا واحدا ففتحوا الحصن فقتلهم جميعا إلا رجلا واحدا وحوى ما كان في الحصن
(4/375)
وذكر الطبري من طريق آخر أن سعيد بن العاص صالح أهل جرجان ثم امتنعوا وكفروا فلم يأتي جرجان بعد سعيد أحد ومنعوا ذلك الطريق فلم يكن يسلك طريق خراسان من ناحية قومس إلا على وجل وخوف من أهل جرجان وكان الطريق إلى خراسان من فارس إلى كرمان فأول من صير الطريق من قومس قتيبة بن مسلم حين ولي خراسان
وعن بشر بن حنظلة العمي أن سعيد بن العاص صالح أهل جرجان فكانوا يجبون أحيانا مائة ألف ويقولون صلحنا وأحيانا مائتي ألف وأحيانا ثلاثمائة ألف وكانوا ربما أعطوا ذلك وربما منعوه ثم امتنعوا وكثروا فلم يعطوا خراجا حتى أتاهم يزيد بن المهلب فلما صالح صولا وفتح البحيرة ودهستان صالح أهل جرجان على صلح سعيد بن العاص
ذكر مقتل يزدجرد
قال الطبري اختلف في سبب قتله كيف كان فذكر عن ابن إسحاق أن يزدجرد هرب من كرمان في جماعة ليسير إلى مرو فسأل مرزبانها مالا فمنعه فخافوا على أنفسهم فأرسلوا إلى الترك يستنصرون بهم عليه فأتوه فبيتوه وقتلوا أصحابه وقيل بل أهل مرو هم الذين بيتوه لما خافوه ولم يستجيشوا عليه الترك فقتلوا أصحابه وخرج هاربا على رجليه معه منطقته وسيفه وتاجه حتى أتى إلى منزل نقار على شط المرغاب فلما غفل يزدجرد وقيل لما نام قتله النقار وأخذ متاعه وألقى جسده في المرغاب فأصبح أهل مرو فاتبعوا أثره حتى خفي عليهم عند منزل النقار فأخذوه فأقر لهم بقتله وأخرج متاعه فقتلوا النقار وأهل بيته وأخذوا متاعه ومتاع يزدجرد وأخرجوه من المرغاب فجعلوه في تابوت خشب فزعم بعضهم أنه حمل إلى اصطخرفدفن بها في أول سنة إحدى وثلاثين
وكان يزدجرد قد وطيء امرأة بمرو فولدت منه بعد مقتله غلاما ذاهب الشق فسمي المخدج وعاش حتى ولد له أولاد بخراسان فوجد قتيبة حين افتتح الصغد أو غيرها جاريتين فقيل له إنهما من ولد المخدج فبعث بهما أو بإحداهما إلى الحجاج بن يوسف فبعث بها إلى الوليد بن عبد الملك فولدت له يزيد بن الوليد بن عبد الملك الناقص
(4/376)
وذكر عن المدائني أن يزدجرد أتى خراسان ومعه خرزادمهر أخو رستم فقال لمرزبان مرو واسمه ما هويه إني قد أسلمت إليك الملك ثم أقام بمرو وهم بعزل ما هويه فكتب ماهوية إلى الترك يخبرهم بمكانه وعاهدهم على المؤازرة عليه وخلى لهم الطريق فأقبلوا إلى مرو وخرج إليهم يزدجرد في أصحابه فقاتلهم ومعه ماهوية في أساورة مرو فأثخن يزدجرد في الترك حتى خشي ماهوية أن ينهزموا فتحول إليهم في أساوره مرو فانهزم جند يزدجرد وقتلوا وعقر عند المساء فرس يزدجرد فمضى ماشيا هاربا حتى انتهى إلى بيت فيه رحى على شط المرغاب فمكث فيه ليلتين فطلبه ماهوية فلم يقدر عليه إلى أن دخل صاحب الرحى بيته في اليوم الثاني فرأى يزدجرد فقال ما أنت إنسي أم جني قال انسي فهل عندك طعام قال نعم فأتاه به فقال إني مزمزم فأتني بما أزمزم به فذهب الطحان إلى بعض الأساورة فطلب منه ما يزمزم به قال وما تصنع به فقال عندي رجل لم أرى مثله قط وقد طلب هذا مني فجاء الأسوار بالطحان إلى ما هويه فأخبره فقال هذا يزدجرد اذهبوا فجيئوني برأسه فقال له الموبذ ليس ذلك إليك قد علمت أن الدين والملك مقترنان لا يستقيم أحدهما إلا بالآخر ومتى فعلت انتهكت الحرمة العظيمة وتكلم الناس فأعظموا ذلك فشتمهم ماهويه وقال للأساورة من تكلم فاقتلوه وأمر عدة فذهبوا مع الطحان ليقتلوا يزدجرد فانطلقوا فلما رأوه كرهوا قتله وتدافعوا ذلك وقالوا للطحان ادخل فاقتله فدخل عليه وهو نائم ومعه حجر فشدخ به رأسه ثم اجتزه فدفعه إليهم والقى جسده في المرغاب فخرج قوم من أهل مرو فقتلوا الطحان وهدموا أرحاءه
وذكر الطبري حديثين مختلفين مطولين وأحدهما أطول من الآخر يتضمن ضروبا من الإضطرابات تقلب فيها وأنواعا من الدوائر دارت عليه حتى كانت منيته آخرها وفيه أن رجال ما هويه الذين وجههم لطلب يزدجرد وأمرهم بقتله لما انتهوا إلى الطحان فسألوه عنه فأنكره فضربوه ليدل عليه فلم يفعل
(4/377)
فلما أرادوا الإنصراف قال أحدهم إني أجد ريح المسك ونظر إلى طرف ثوب من ديباج في الماء فاجتذبه فإذا هو يزدجرد فسأله ألا يقتله ولا يدل عليه وجعل له سواره وخاتمه ومنطقته فأبى عليه إلا أن يعطيه أربعة دراهم ويخلي عنه ولم يكن ذلك عند يزدجرد فقال قد كنت أخبر أني سأحتاج إلى أربعة دراهم وقال للرجل ويحك خاتمي لك وثمنه لا يحصى فأبى وأنذر أصحابه فآتوه فطلب إليهم يزدجرد ألا يقتلوه وقال ويحكم إنا نجد في كتبنا أن من إجترأ على قتل الملوك عاقبه الله بالحريق في الدنيا مع ما هو قادم عليه فلا تقتلوني وأتوا بي إلى الدهقان أو سرحوني إلى العرب فإنهم يستحيون مثلي من الملوك فأخذوا ما كان عليه من الحلي فجعلوه في جراب وختموا عليه ثم خنقوه بوتر وطرحوه في نهر مرو
وفي آخر الحديث أنه لما بلغ مقتله رجلا من أهل الأهواز كان مطرانا على مرو جمع من كان قبله من النصارى وقال لهم إنا ملك الفرس قد قتل وهو ابن شهريار بن كسرى ولهذا الملك عنصر في النصرانية وإنما شهريار ولد شيرين التي قد عرفتم حقها وإحسانها إلى أهل ملتها في غير وجه مع ما نال النصارى في مملكة جده كسرى من الشرق وقبل ذلك في مملكة ملوك من أسلافه حتى بنى لهم بعضهم البيع وسدد لهم بعضهم يعني للنصارى ملتهم فينبغي لنا أن نحزن لقتل هذا الملك ونظهر من كرامته بقدر ما كان من احسان سلفه وجدته إلى النصارى وقد رأيت أن ابني له ناووسا واحمل جثته في كرامه حتى أواريها فقال له النصارى أمرنا لأمرك تبع ونحن لك على رأيك هذا مواطئون فأمر المطران ببناء ناووس في حرف بستان المطارنه بمرو ومضى بنفسه ومعه نصارى مرو حتى استخرج جثة يزدجرد من النهر وكفنها وجعلها في تابوت وحملها هو وأولئك النصارى على عواتقهم حتى أتوا به الناووس الذي بنى له وواروه فيه وردموا بابه فكان ملك يزدجرد عشرين سنة منها
أربع سنين في دعة وست عشرة في تعب من محاربة العرب إياه
(4/378)
وكان آخر ملك من آل أردشير بن بابك وصفا الملك بعده للعرب فسبحان ذي العظمة والملكوت والملك الحق الحي الدائم الذي لا يموت لاإله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون
ذكر فتح أبرشهر وطوس وبيورد ونسا وسرخس وصلح مرو
ذكر الطبري أن ابن عامر لما فتح فارس قام إليه اوس بن حبيب التميمي فقال أصلح الله الأمير إن الأرض بين يديك ولم تفتح من ذلك إلا القليل فسر فإن الله ناصرك قال أولم نأمرك بالمسير وكره أن يظهر له انه قبل رأيه
وذكر في بعض ما ذكره عن المدائني أن ابن عامر لما فتح فارس رجع إلى البصرة واستعمل على اصطخر شريك بن الأعور الحارثي فدخل على ابن عامر رجل من بني تميم يقال له الأحنف وقيل غيره فقال له إن عدوك منك هارب ولك هائب والبلاد واسعة فسر فإن الله ناصرك ومعز دينه
فتجهز ابن عامر وأمر الناس بالتجهز للمسير واستخلف على البصرة زيادا وسار إلى كرمان ثم أخذ إلى خراسان
قال وأشياخ كرمان يذكرون أنه نزل العسكر بالسيرجان وسار إلى خراسان واستعمل على كرمان مجاشع بن مسعود واخذ ابن عامر على مفازة رابر وهي ثمانون فرسخا ثم سار إلى الطبسين يريد أبرشهر وهي مدينة نيسابور وعلى مقدمته الأحنف بن قيس فأخذ إلى قهستان وخرج إلى ابرشهر فلقيته الهياطلة فقاتلهم الأحنف فهزمهم ثم أتى ابن عامر نيسابور
وافتتح ابن عامر مدينة أبر شهر قيل صلحا وقيل عنوة وفتح ما حولها طوس وبيورد ونسى وحمران وسرخس
ويقال إنه بعث إلى سرخس عبد الله بن خازم ففتحها وأصاب جاريتين من آل كسرى
ويروى أن أهل أبرشهر لما فتحها ابن عامر صلحا في قول من قال ذلك أعطوه جاريتين من آل كسرى
(4/379)
وعن أشياخ من أهل خراسان أن ابن عامر سرح الأسود بن كلثوم من عدي الرباب إلى بيهق وهي من أبر شهر بينهما ستة عشر فرسخا ففتحها وقتل الأسود وكان فاضلا في دينه ومن أصحاب عامر بن عبد قيس وكان عامر يقول بعدما خرج من البصرى ما آسى من العراق على شيء إلا على ظماء الهواجر وتجاوب المؤذنين وإخوان مثل الأسود بن كلثوم
ويروى أن ابن عامر لما غلب على من بنيسابور أرسل إليه أهل مرو يطلبون الصلح فبعث إليهم حاتم بن النعمان الباهلي فصالح مرزبان مرو على ألفي ألف ومائتي ألف
وقال مقاتل بن حيان على ستة آلاف ألف ومائتي ألف
قال الطبري وفي سنة اثنتين وثلاثين كانت غزوة معاوية بن أبي سفيان مضيق القسطنطينية ومعه زوجته عاتكة بنت قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف وقيل فاختة
واستعمل سعيد بن العاص سلمان بن ربيعة على فرج بلنجر وأمد الجيش الذي كان به مقيما مع حذيفة بأهل الشام عليهم حبيب بن مسلمة
وكان عثمان رحمه الله قد أمر سعيدا بإغزاء سلمان فيما ذكره سيف عن بعض رجاله وكتب إلى عبد الرحمن بن ربيعة الذي يقال له ذو النور وهو على الباب أن الرعية قد أبطر كثيرا منها البطنة فقصر ولا تقتحم بالمسلمين فإني خاش أن يبتلوا فلم يزجر ذلك عبد الرحمن عن غايته فغزا في السنة التاسعة من إمارة عثمان حتى إذا بلغ بلنجر حصرها ونصب عليها المجانيق والعرادات فجعل لا يدنوا منها أحد إلا اعنتوه أو قتلوه وأسرعوا في الناس
ثم أن الترك اتعدوا يوما فخرج اهل بلنجر وتوافى إليهم الترك فاقتتلوا فأصيب عبد الرحمن ذو النور فانهزم المسلمون وتفرقوا
وقد تقدم ذكر مقتله قبل وإن المشركين احتازوه إليهم فجعلوه في سفط فكانوا يستسقون به بعد ويستنصرون به
(4/380)
وذكر سيف من بعض طرقه انه لما تتابعت الغزوات على الخزر تذامروا وتعايروا وقالوا كنا أمة لا يقوم لها أحد حتى جاءت هذه الأمة القليلة فصرنا لا نقوم لها فقال بعضهم إنهم لا يموتون ولو كانوا يموتون لما افتتحوا علينا ثم كمنوا في الغياض ليجربوا فرموا بعض من مر بهم في ذلك الكمين من جند المسلمين فقتلوهم فعند ذلك تداعوا إلى الحرب وتواعدوا يوما فاقتتلوا فقتل عبد الرحمن وتفرق الناس فرقتين فرقة نحو الباب فحماهم سلمان الفارسي حتى أخرجهم وفرقة نحو الخزر فطلعوا على جيلان وجرجان فيهم سلمان الفارسي وأبو هريرة
وقال بعضهم غزا أهل الكوفة ثمان سنين من إمارة عثمان رضي الله عنه لم تئم فيهن امرأة ولم ييتم فيهن صبي من قتل حتى كان يعني في السنة التاسعة فكان ما ذكر من قتل عبد الرحمن بن ربيعة ومن أصيب معه
ذكر فتح مرو الروذ والطالقان والفارياب والجوزجان وطخارستان
(4/381)
ذكر الطبري بإسناده عن ابن سيرين قال بعث ابن عامر الأحنف بن قيس إلى مرو الروذ مخصر أهلها فخرجوا إليهم فقاتلوهم فهزمهم المسلمون حتى اضطروهم إلى حصونهم فأشرفوا عليهم فقالوا يا معشر العرب ما كنتم عندنا كما نرى لو علمنا أنكم كما نرى لكانت لنا ولكم حال غير هذه فأمهلونا ننظر في يومنا وارجعوا إلى عسكركم فرجع الأحنف فلما أصبح غاداهم وقد أعدوا له فخرج من المدينة رجل من العجم معه كتاب فقال أني رسول فأمنوني فأمنوه فإذا هو ابن أخي مرزبان مرو ومعه كتابه إلى الأحنف وإذا فيه إلى أمير الجيش إنا نحمد الله الذي بيده الدول يغير ما يشاء من الملك ويرفع من شاء بعد الذلة ويضع من شاء بعد الرفعة إني دعاني إلى مصالحتك وموادعتك ما كان من إسلام جدي وما كان رأي من صاحبكم من الكرامة والمنزلة فمرحبا بكم فأبشروا وأنا أدعوكم إلى الصلح على أن أؤدي إليكم خراجنا ستين ألف درهم وأن تقروا بيدي ما كان ملك الملوك كسرى أقطع جد أبي حيث قتل الحية التي أكلت الناس وقطعت السبيل من الأرض والقرى بما فيها من الرجال ولا تأخذوا من أحد من أهل بيتي شيئا من الخراج ولا تخرجوا المرزبة من أهل بيتي إلى غيرهم فإن جعلت ذلك لي خرجت إليك وقد بعثت إليك ابن أخي ماهك ليستوثق منك بما سألت
(4/382)
فكتب إليه الأحنف بسم الله الرحمن الرحيم من صخر بن قيس أمير الجيش إلى باذان مرزبان مرو الروذ ومن معه من الأساورة والأعاجم سلام على من اتبع الهدى وآمن واتقى أما بعد فإن ابن أخيك ماهك قدم علي فنصح لك جهده وأبلغ عنك وقد عرضت ذلك على من معي من المسلمين وأنا وهم فيما عليك سواء وقد أجبناك إلى ما سألت وعرضت على أن تؤدي عن كورتك وفلاحيك والأرضين ستين ألف درهم إلى وإلى الوالي بعدي من أمراء المسلمين إلا ما كان من الأرضين التي ذكرت أن كسرى الظالم لنفسه أقطعها جد أبيك والأرض لله يورثها من يشاء من عباده وأن عليك نصرة المسلمين وقتال عدوهم بمن معك من الأساورة إن أحب المسلمون ذلك وإن لك على ذلك نصر المسلمين على من يقاتل من ورائك من أهل ملتك جار لك بذلك مني كتاب يكون لك بعدي ولا خراج عليك ولا على أحد من أهل بيتك من ذوي الأرحام وإن أنت أسلمت واتبعت الرسول كان لك ما للمسلمين من العطاء والمنزلة والرزق وأنت أخوهم ولك بذلك ذمتي وذمة أبي وذمة المسلمين وذمم آبائهم
وعن مقاتل بن حيان أن ابن عامر صالح أهل مرو وبعث الأحنف في اربعة آلاف إلى طخارستان فأقبل حتى نزل موضع قصر الأحنف من مرو الروذ وجمع له أهل طخارستان وأهل الجوزجان والطالقان والفارياب وكانوا ثلاثة زحوف ثلاثين ألفا وأتى الأحنف خبرهم فاستشار الناس فاختلفوا فمن قائل نرجع إلى مرو وقائل نرجع إلى ابرشهر وقائل نقيم ونستمد وقائل نلقاهم فنناجزهم
قال فلما أمسى الأحنف خرج يمشي في العسكر ويسمع حديث الناس فمر بأهل خباء ورجل يوقد تحت خزيرة أو يعجن وهم يتحدثون ويذكرون العدو فقال بعضهم الرأي للأمير إذا أصبح أن يسير حتى يلقى القوم حيث لقيناهم
(4/383)
فإنه ارعب لهم فنناجزهم فقال صاحب الخزيرة أو العجين إن فعل ذلك فقد أخطأ أتأمرونه أن يلقى حد العدو مصحرا في بلاده فيلقى جمعا كثيرا بعدد قليل فإن جالوا جولة اصطلموا ولكن الرأي له أن ينزل بين المرغاب والجبل فيجعل المرغاب عن يمينه والجبل عن يساره فلا يلقاه من عدوه وإن كثروا إلا عدد أصحابه فرجع الأحنف وقد اعتقد ما قال فضرب عسكره وأقام فأرسل إليه أهل مرو يعرضون عليه أن يقاتلوا معه فقال إني أكره أن أستنصر بالمشركين فأقيموا على ما أعطيناكم فإن ظفرنا فنحن على ما جعلنا لكم وإن ظفروا بنا وقاتلوكم فقاتلوا عن أنفسكم
قال فوافوا المسلمين صلاة العصر فعاجلهم المشركون فناهضوهم وقاتلوهم فصبر الفريقان حتى أمسوا والأحنف يتمثل
أحق من لم يكره المنيه
حزور ليست له ذرية
الرجز وفي غير حديث مقاتل أن الأحنف لقيهم في المسلمين ليلا فقاتلوهم حتى ذهب عامة الليل ثم هزمهم الله فقتلهم المسلمون حتى أنتهو إلى رسكن وهي على اثني عشر فرسخا من قصر الأحنف وكان مرزبان مرو الروذ قد تربص بحمل ما كان صالح عليه لينظر ما يكون من أمرهم فلما ظفر الأحنف سرح رجلين إلى المرزبان وأمرهما أن لايكلماه حتى يقبضاه ففعلا فعلم أنهما لم يصنعا ذلك به إلا وقد ظفروا فحمل ما كان عليه
وبعث الأحنف إلى الجوزجان الأقرع بن حابس في جريدة خيل إلى بقية كانت بقيت من الزحوف التي هزمهم الأحنف فقاتلهم الأقرع بخيله فجال المسلمون جولة فقتل بعض فرسانهم ثم أظفر الله المسلمين بهم فهزموهم وقتلوهم وأولئك القتلى من فرسان المسلمين عنى أبو كثير النهشلي إذ قال
سقى مزن السحاب إذا استهلت
مصارع فتية بالجوزجان
إلى القصرين من رستاق خوط
أقادهم هناك الأقرعان
الوافر
وهي طويلة
ذكر جري الصلح بين الأحنف وبين أهل بلخ
(4/384)
قال المدائني بإسناده عن إياس بن المهلب سار الأحنف من مرو الروز إلى بلخ فحاصرهم فصالحه أهلها على أربعمائة ألف فرضي بذلك منهم واستعمل ابن عمه أسيد بن المتشمس على أخذها منهم ومضى إلى خوارزم فأقام حتى هجم عليه الشتاء فقال لأصحابه ما ترون فقال له حصين قد قال عمرو بن معدي كرب
إذا لم تستطع شيئا فدعه
وجاوزه إلى ما تستطيع
الوافر
فأمر الأحنف بالرحيل ثم انصرف إلى بلخ وقد قبض ابن عمه ما صالحهم عليه ووافق مهرجانهم وهو يجيبهم فأهدوا إليه هدايا من آنية الذهب والفضة ودنانير ودراهم ومتاع ودواب فقال أسيد هذا لم نصالحكم عليه قالوا لا ولكن هذا شيء نصنعه في هذا اليوم لمن ولينا نستعطفه به قال ما أدري ما هذا وإني لأكره أن أرده ولعله من حقي ولكني أقبضه وأعزله حتى أنظر وقدم الأحنف فأخبره فسألهم عنه فقالوا مثل ما قالوا له فقال الأحنف أتى به الأمير فحمله إلى ابن عامر وأخبره عنه فقال أقبضه يا أبجر فهو لك قال لا حاجة لي فيه فقال ابن عامر ضمه إليك يا مسمار قال فضمه القرشي وكان مضما
وذكر المدائني بإسناد آخر أن ابن عامر حين صالح أهل مرو وصالح
الأحنف أهل بلخ بعث خليد بن عبد الله الحنفي إلى هراة وإلى باذغيس فافتتحهما ثم كفر العدو بعد ذلك فكان مع قارن
وقال ولما رجع الأحنف قال الناس لابن عامر ما فتح على أحد ما فتح عليك فارس وكرمان وسجستان وعامة خراسان فقال لا جرم لأجعلن شكري لله على ذلك أن أخرج معتمرا من موقفي فأحرم بعمرة من نيسابور فلما قدم على عثمان رضي الله عنه لامه على إحرامه من خراسان وقال له ليتك تضبط الميقات الذي يحرم منه الناس
(4/385)
قال استخلف ابن عامر على خراسان حين خرج منها سنة اثنتين وثلاثين قيس بن الهيثم فجمع قارن جمعا كثيرا من ناحية الطبسين وأهل باذغيس وهراة وقهستان فأقبل في أربعين ألفا فقال قيس لعبد الله بن خازم ما ترى قال أرى أن تخلي البلاد فإني أميرها ومعي عهد من ابن عامر إذا كانت حرب بخراسان فأنا أميرها وأخرج كتابا قد افتعله فكره قيس مشاغبته فخلاه والبلاد وأقبل إلى ابن عامر فلامه ابن عامر وقال تركت البلاد حربا وأقبلت قال جاءني بعهد منك
قال وسار ابن خازم إلى قارن في أربعة آلاف وأمر الناس فحملوا الودك فلما قرب من عسكره أمر الناس أن يدرج كل واحد منهم على زج رمحه ما كان من خرقة أو قطن أو صوف ثم يوسعوه ودكا من سمن أو زيت أو دهن أو اهالة وقدم مقدمته ستمائة ثم أتبعهم وأمر الناس فأشعلوا النيران في أطراف الرماح وجعل بعضهم يقتبس من بعض وانتهت مقدمته إلى عسكر قارن نصف الليل ولهم حرس فناوشوهم وهاج المشركون على دهش وكانوا آمنين على أنفسهم من البيات ودنا ابن خازم منهم فرأوا النيران يمنة ويسرة وتتقدم وتتأخر وتنخفض وترتفع ولا يرون أحدا فهالهم ذلك ثم غشيهم ابن
خازم بالمسلمين ومقدمته تقاتلهم فقتل قارن وانهزم العدو فأتبعوهم يقتلونهم كيف شاءوا وأصابوا سبيا كثيرا وأخذ ابن خازم عسكر قارن بما كان فيه وكتب بالفتح إلى ابن عامر فرضي وأقره على خراسان فلبث عليها حتى انقضى أمر الجمل
(4/386)
وقد روي انه لما جمع قارن هذا الجمع للمسلمين ضاق المسلمون بأمرهم واستشار قيس عبد الله بن خازم في ذلك فقال له إنك لا تطيق كثرة من أتانا فاخرج بنفسك إلى ابن عامر فتخبره بكثرة من جمعوا لنا ونقيم نحن في هذه الحصون نطاولهم حتى تقدم ويأتينا مددكم فخرج قيس فلما أمعن أظهر ابن خازم عهدا وقال قد ولاني ابن عامر على خراسان فسار إلى قارن وظفر به وكتب بالفتح إلى ابن عامر فأقره على خراسان فلم يزل أهل البصرة يغزون من لم يكن صالح من أهل خراسان فإذا رجعوا خلفوا أربعة آلاف للعقبة فكانوا كذلك حتى كانت الفتنة فالله أعلم أي ذلك كان
فتح عمورية وانتقاضها
وعن سعيد بن عبد العزيز أن عثمان رضي الله عنه إئتم بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما في أثره المجاهدين وتقويتهم بالأموال ولقد زاد عثمان أهل العطاء مائة مائة وتابع إغزاءهم أرض الروم حتى ذلت عمورية وما دونها من مدائن ضاحية الروم على أداء الجزية وعلى إنزال جماعة من المسلمين مدينة عمورية يقاتلون من خلفها فلم يزل المسلمون بها حتى بلغ أهل عمورية قتل عثمان رضي الله عنه قبل أن يبلغ ذلك من كان بها من المسلمين فقتلوهم على فرشهم وانتقض ذلك الصلح
وتمت الفتوح بعثمان رضي الله عنه ورحمه فلم تفتح بعده بلدة إلا صلحا كان كفر أهلها أو أرض مما افتتح عيال على ما افتتح عمر لا يقوى عليها الجنود إلا بالفيء الذي أفاء الله عز وجل على عمر رضي عنه
مقتل عثمان رضي الله عنه
وقتل عثمان رضي الله عنه بالمدينة في الثامن عشر لذي الحجة سنة خمس وثلاثين وقيل في وسط أيام التشريق وقيل يوم التروية وقيل غير ذلك ولا خلاف بينهم في أنه قتل في ذي الحجة إنما الخلاف في أي يوم منه قتل وكانت خلافته إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهرا وأياما وسنه يوم قتل مختلف فيها أيضا على ما قيل في ذلك أنه كان ابن تسعين سنة وقيل ابن ثمان وثمانين سنة وقيل ابن ست وثمانين سنة وقيل ابن اثنتين وثمانين وقيل ابن ثمانين
(4/387)
وقتل رحمه الله ورضي عنه ظلما وتعديا بمقدمات فتن نشأت على عهده قد كان رسول {صلى الله عليه وسلم} أنذر بها وأخبر أن الحق مع عثمان رحمه الله ورضي عنه فيها
وروى مرة البهزي أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال إنها ستكون فتن كأنها صياصي فمر علينا رجل متقنع فقال هذا وأصحابه على الحق فذهبت فنظرت إليه فإذا هو عثمان بن عفان رضي الله عنه
وحديث عائشة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول له إن الله ملبسك قميصا تريدك أمتي على خلعه فلا تخلعه قال فلم أدر ما هو حتى رأيت عثمان قد أعطى كل شيء سئله إلا الخلع فعلمت أنه على عهد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الذي سمع منه
وفي حديث آخر عنها أنها رأت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يسار عثمان ولون عثمان يتغير فلما حصر قيل له ألا تقاتل قال لا إن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عهد إلي عهدا فأنا صابر نفسي عليه
وضايق الناس عثمان رضي الله عنه وتبسطوا عليه وآذوه وهو صابر على عهد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} راض بقضاء الله فيه آمر بكف الأسلحة والأيدي كل من انبعث لنصره واق للمؤمنين بنفسه
حدث عبد الله بن ربيعة أنهم كانوا معه في الدار فلما سمع أنهم يريدون قتله قال ما أعلم أنه يحل دم المؤمن إلا الكفر بعد الإيمان والزنا بعد الإحصان أو قتل نفس بغير حق وأيم الله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام وما ازددت للإسلام إلا حبا ولا قتلت نفسا بغير حق فعلام تقتلونني ثم عزم علينا أن نكف أيدينا وأسلحتنا وقال إن أعظمكم غناء أكفكم ليده وسلاحه
وقال أبو هريرة لأهل الدار وهو معهم فيها أشهد لسمعت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول تكون بعدي فتن وأمور قلنا فأين الملتجأ منها يا رسول الله قال إلى الأمين وحزبه وأشار إلى عثمان فقام الناس فقالوا قد أمكنتنا البصائر فأذن لنا في الجهاد فقال عثمان أعزم على من كانت لي عليه طاعة أن لا يقاتل
ومما ينسب إلى كعب بن مالك يذكر هذه الحال من عثمان بعد قتله رضي الله عنه وقال مصعب هي لحسان وقال ابن أبي شيبة هي للوليد بن عقبة
فكف يديه ثم أغلق بابه
وأيقن أن الله ليس بغافل
(4/388)
وقال لأهل الدار لا تقتلونهم
عفا عن ذنب امرى ء لم يقاتل
فكيف رأيت الله ألقى عليهم العداوة
والبغضاء بعد التواصل
وكيف رأيت الخير أدبر بعده
عن الناس إدبار السحاب الحوامل
الطويل
وقال ابن عمر لبعض من وقع عنده في عثمان أما والله ما نعلم عثمان قتل نفسا بغير حق ولا جاء من الكبائر شيئا ولكن هو هذا المال إن أعطاكموه رضيتم وإن أعطاه ذوي قرابته سخطتم إنما تريدون أن تكونوا كفارس والروم لا يتركون أميرا إلا قتلوه وفاضت عيناه من الدمع وقال اللهم إنا لا نريد ذلك
وحسب عثمان رضي الله عنه من الفضل العظيم والحظ الجسيم إلى ما له في الإسلام من الآثار الكرام والنفقات التي بيضت وجه النبي عليه السلام قوله {صلى الله عليه وسلم} أنت وليي في الدنيا والآخرة
ويروى أنه لما قتل سقطت من دمه قطرة أو قطرات على المصحف فصادفت قول الله تعالى فسيكفيكهم الله ( 137 البقرة ) ويقال إن الذي تولى قتله من الذين دخلوا عليه رجل من أهل مصر يقال له جبلة بن الأيهم وكذلك كان جمهور الداخلين عليه من أهل مصر فيروى عن يزيد بن أبي حبيب وهو من جملة المصريين أنه قال بلغني أن عامة النفر الذين ساروا إلى عثمان بن عفان جنوا
وعن أبي قلابة قال كنت في فندق بالشام فسمعت مناديا ينادي يا ويلة النار النار فقمت فإذا أنا برجل مقطوع اليدين من المنكبين مقطوع الرجلين من الحقوين أعمى منكب لوجهه ينادي يا ويلة النار النار فقلت
(4/389)
ما لك قال كنت فيمن دخل على عثمان يوم الدار وكنت في سرعان الناس أو من أول الناس وصل إليه فلما دنوت منه صاحت امرأته فلطمتها فنظر إلي عثمان فتغرغرت عيناه بالدموع وقال ما لك سلب الله يدك ورجليك وأعمى بصرك وأدخلك جهنم قال فأخذتني رعدة شديدة ولا والله ما أحدثت شيئا غير هذا فخرجت وركبت راحلتي حتى إذا صرت بموضعي هذا ليلا أتاني آت والله ما أدري إنسي هو أم جني ففعل بي الذي ترى وقد استجاب الله دعوته في يدي ورجلي وبصري فوالله إن بقي إلا النار قال أبو قلابة فهممت أن أطأه برجلي ثم قلت بعدا وسحقا
وكان مع عثمان رحمه الله ورضي عنه في الدار جماعة من الصحابة وأبناء الصحابة يدرءون عنه وقاتلوا عنه يوم الدار حتى أخرج منهم يومئذ أربعة من شباب قريش محمولين مضرجين بالدم وهم الحسن بن علي وعبد الله ابن الزبير ومحمد بن حاطب ومروان بن الحكم ولما أخبر علي بقتله قال للذين أخبروه تبا لكم آخر الدهر وسمع يومئذ ضجة فسأل عنها فقيل عائشة تلعن قتله عثمان والناس يؤمنون فقال علي اللهم العن قتله عثمان اللهم العن قتله عثمان
وقال سعيد بن زيد لو أن أحدا انقض لما فعل بعثمان لكان حقيقا أن ينقض
وقال ابن عباس لو اجتمع الناس على قتل عثمان لرموا بالحجارة كما رمي قوم لوط
وقال عبد الله بن سلام لقد فتح الناس على أنفسهم بقتل عثمان باب فتنة لا ينغلق عنهم إلى يوم القيامة
وفي ذلك يقول بعضهم
لعمر أبيك ولا تكذبين
لقد ذهب الخير إلا قليلا
لقد سفة الناس في دينهم
وخلى ابن عفان شرا طويلا
المتقارب
وذكرت عائشة رضي الله عنها قتله وقتلته فقالت اقتحم عليه النفر الثلاثة حرمة البلد الحرام والشهر الحرام وحرمة الخلافة ولقد قتلوه وإنه لمن أوصلهم للرحم وأتقاهم لربه
وقال أيمن بن خريم
ضحوا بعثمان في الشهر الحرام ضحى
فأي ذبح حرام ويلهم ذبحوا
وأي سنة كفر سن أولهم
وباب شر على سلطانهم فتحوا
ماذا أرادوا أضل الله سعيهم
بسفك ذاك الدم الذاكي الذي سفحوا
(4/390)
البسيط
وقال علي بن حاتم سمعت يوم قتل عثمان صوتا يقول
أبشر يا ابن عفان بروح وريحان
أبشر يا ابن عفان برب غير غضبان
أبشر يا ابن عفان بغفران ورضوان
الهزج وأحباب التفعيلة الأولى الخرم
قال فالتفت فلم أر أحدا
والأخبار والأشعار في هذا المعنى كثيرة أعجلتنا عن الإكثار منها محاولة الخاتمة فنسأل الله أن يجعلها جميلة ويتقبلها قربة إليه وإلى رسوله ووسيلة
الخاتمة
وقد انتهى والحمد لله ما عملنا عليه في هذا الكتاب من قصد الإستيفاء لمغازي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ومغازي الثلاثة الخلفاء ولم يقع في خلافة رابعهم في تقلدها المحتوم بأيام إمارته محتوم أمدها أبي الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعنهم من أمثال هذه الفتوح ما نثبته معها ونجري في إيراده على الطريقة التي سلكنا مهيعها لاستقباله بخلافته رضي الله عنه من مكابدة الفتن المارجة ومحاربته الفئة الباغية والفرقة الخارجة ما اشتهر عند أهل الإسلام وأغنى العلم به عن الإعلام ولو كان لاغتنمنا به زيادة الإمتاع وإفادة القلوب والأسماع لأن هؤلاء الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم هم بعد نبيهم صلوات الله عليه خير الأمة والراشدون من الأئمة وأولى من صرف إلى تقييد أخبارهم وتخليد آثارهم عنان الهمة وأحق من اعتلق من حبهم والإيواء إلى شعبهم والثناء عليهم والإنضواء إلى حزبهم بأوثق أسباب العصمة وأمتن ذرائع الحرمة والرحمة وكل صحابة المصطفى أهل منا لذلك والموفق من سلك في حبهم هذه المسالك
وما فضل أصحاب النبي وقومه
لمن رام إحصاء له بمحسب
ولكنه أجر وزخر أعده
وأجعله أمني وحصني ومهربي
سأقطع عمري بالصلاة عليهم
وأدأب في حبي لهم كل مدأب
إليك رسول الله منها وسيلة
تناجيك عن قلب بحبك مشرب
يزورك عن شحط الديار مسلما
ويلقاك بالإخلاص لم يتنكب
الطويل
(4/391)
تم كتاب الإكتفاء من مغازي سيدنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ومغازي الثلاثة الخلفاء رضي الله عنهم وحشرنا معهم وربنا المحمود لا إله غيره ولا مرجو إلا بركته وخيره برسم الفقير إلى الله تعالى جمال الدين محمد ابن ناصر الدين محمد بن السابق الحنفي الحموي لطف الله تعالى به على يد الفقير لعفو ربه القدير محمد بن خليل بن إبراهيم الحنفي عامله الله بلطفه الخفي وفرغ من كتابته في اليوم المبارك نهار الأربعاء السادس من صفر سنة ستين وثمانمائة أحسن الله عاقبتها آمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم(4/392)