بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب / الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء المؤلف / أبو الربيع سليمان بن موسى الكلاعي الأندلسي
دار النشر / عالم الكتب - بيروت - 1417هـ
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 4
تحقيق : د . محمد كمال الدين عز الدين علي(1/1)
مقدمة المؤلف
قال الشيخ الفقيه الخطيب المحدث الثبت الشهيد أبو الربيع سليمان بن موسى بن سالم الكلاعي البلنسي كرم الله مثواه وجعل الجنة مستقره ومأواه
الحمد لله الذي من علينا بالإسلام وأكرمنا بنبيه محمد عليه أفضل الصلوات والسلام وجعل آثاره الكريمة ضالتنا المنشودة والاقتداء بهديه الأهدى ونوره الأوضح الأبدي غايتنا المقصودة وأمنيتنا المودودة وأنعم على قلوبنا بالارتياح لذكراه والاهتزاز عند سماع خبر عنه مصدره أو إليه منتماه
وإنه لأثر رجاء في هذه القلوب البطالة وأثاره خير يرجى أن يذودها عن مشارع الجهالة ومنازع الضلالة فإن الارتياح للذكر شهادة الحب وأمارة المحب
وقد روى عنه صلوات الله عليه نقلة السنة أن من أحبه كان معه في الجنة
فنسأل الله أن يكتبنا في محبيه حقيقة ويسلك بنا من الوقوف عند مقتضيات أوامره ونواهيه طريقة بالسعادة خليقة
فما نزال طالبين ذلك من أكرم مطلوب لديه راغبين فيه إلى خير مرغوب إليه وإن لم نكن أهلا للإسعاف بتقصيرنا في الأعمال فإنه جل جلاله أهل الجود والإفضال
ونصلي قبل وبعد على هذا النبي المبارك الكريم صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتخبين خير صحب وخير آل
وهذا كتاب ذهبت فيه إلى إيقاع الإقناع وإمتاع النفوس والأسماع باتساق الخبر عن سيرة رسول {صلى الله عليه وسلم} وذكر نسبه ومولده وصفته ومبعثه وكثير من خصائصه وأعلام نبوته ومغازيه وأيامه من لدن مولده إلى أن استأثر الله به وقبض روحه الطيبة إليه صلوات الله وبركاته عليه
مقدما لذلك ما يجب تقديمه ومتمما من ذكر أوليته المباركة بلدا ومحتدا بما يحسن علمه وتعليمه ملخصا جميعه من كتب أئمة هذا الشأن الذين صرفوا إليه اعتناءهم واستنفذوا في آناءهم ككتاب محمد بن إسحاق الذي تولى عبد الملك بن هشام تهذيبه واختصاره وكتاب موسى بن عقبة الذي استحسن الأئمة اقتصاده واقتصاره وغيرهما من المجموعات التي لا يديم الإنصاف قصد جامعها ولا يذم الاختبار اختياره(1/2)
ولكن عظم المعول بحكم الخاطر الأول على كتاب ابن إسحاق إياه أردت وتجريده من اللغات وكثير من الأنساب والأشعار قصدت و على ترتيبه غالبا جريت ومنزعه في أكثر ما يخص المغازي تحريت
فإنه الذي شرب ماء هذا الشأن فأنقع ووقع كتابه من نفوس الخاص والعام أجل موقع
إلا أنه يتخلله كما أشرنا إليه قبل أشياء من غير المغازي تقدح عند الجمهور في إمتاعه و تقطع بالخواطر المستجمعة لسماعه
وإن كانت تلك القواطع عريقة في نسب العلم وحقيقة بالتقييد والنظم فعسى أن يكون لها مكان هو بإيرادها أخص إذ لكل مقام مقال لا يحسن في غيره الإيراد له والنص
ولذلك نويت فيه أن أحذف ما تخلله من مشبع الأنساب التي ليس احتياج كل الناس إليها بالضروري الحثيث ونفيس اللغات المعوق اعتراضها اتصال الأحاديث حتى لا يبقى إلا الأخبار المجردة و خلاصة المغازي التي هي في هذا المجموع المقصودة المعتمدة
ظنا منى أنه إذا أذن الله في تمامه وتكفل تعالى بتيسير محاولته وفق المأمول وتقريب مرامه استأنفت النفوس له قبولا و عليه إقبالا و لم يزده هذا النقص لدى جمهورهم إلا كمالا
ثم بدا لي أن أزيد على هذا المقدار ما يحسن في هذا المضمار وأعوض مما حذفت منه من اللغات والأنساب والأشعار بما يكون له إن شاء الله مزية الاختيار ويروق عليه رونق الإيثار منتقيا ذلك من الدواوين التي طار بها في الناس طائر الاشتهار ومتخيرا له من الأماكن التي لا يستقل بحصر فوائدها و انتقاء فرائدها كل مختار
ككتاب ابن عقبة وقد سميته فإنه وإن اختصره جدا فقد أحسن العبارة وأتى مواضع من المغازي حذاها بسطه و حماها اختصاره
وسأضع على كثير منها ميسمه وأرسمها في هذا المختصر على نحو ما رسمه
وقد وقفت على كتاب محمد بن عمر الواقدي في المغازي ولم يحضرني الآن لكني رأيته كثيرا ما يجري مع ابن إسحاق فاستغنيت عنه به لفضل فصاحة ابن إسحاق في الإيراد وحسن بيانه الذي لا يفقد معه استحسان الحديث المعاد(1/3)
وللواقدي أيضا كتاب المبعث وهو مشبع في بابه ممتع باستيفائه واستيعابه قد نقلت هنا منه جملا تناسب الغرض المسطور وتصد المعترض أن يجور
وكذلك كتاب الزبير بن أبي بكر القاضي رحمه الله في أنساب قريش وهو كما سمعت شيخنا الخطيب أبا القاسم ابن حبيش رحمه الله يحكى عن شيخه أبي الحسن ابن مغيث أنه كان يقول فيه هو كتاب عجب لا كتاب نسب
التقطت أيضا من درره نفائس معجبة وتخيرت من فوائده نخبا لمتخيرها موجبة
ومثله التاريخ الكبير لأبي بكر ابن أبي خيثمة وناهيك به من بحر لا تكدره الدلاء وغمر لا ينفذه الأخذ الدراك ولا يستنزفه الورد الولاء
وكم شيء أستحسنه من غير هذه الكتب المسماة فأنظمه في هذا النظام وأضطر إلى الإفادة به مساق الكلام إما متمما لحديث سابق وإما مفيدا بغرض لما تقدمه مطابق
فإن لم يكن بينهم في الأحاديث اختلاف يشعر بنقض فكثيرا ما أدخل حديث بعضهم في حديث بعض ليكون المساق أبين والاتساق أحسن
وإن عرض عارض خلاف فالفصل حينئذ أرفع للإشكال وأدفع للمقال
وربما فصلت بين بعض أحاديثهم وإن اشتبهت معانيها بحسب ما تدعو إليه ضرورة الموضع أو تحمل على إعادته حلاوة الموقع
وكل ذلك يشهد الله أن المراد فيه بالقصد الأول وجهه الكريم وإحسانه العميم ورحمته التي منها شق لنفسه أنه الرحمن الرحيم
ثم القصد الثاني متوفر على إيثار الرغبة في إيناس الناس بأخبار نبيهم {صلى الله عليه وسلم} وعمارة خواطرهم بما يكون لهم في العاجل والآجل أنفع وأسلم
وقد عم عليه الصلاة والسلام ببركة دعائه سامع حديثه ومبلغه وقال {صلى الله عليه وسلم} ما أفاد المسلم أخاه المسلم أفضل من حديث حسن بلغه فبلغه
ولا أحسن بعد كتاب الله الذي هو أحسن القصص وأصدق القصص وأفضل الحصص وأجلى الأشياء للغصص من أخبار رسول الله {صلى الله عليه وسلم} التي بالوقوف عليها توجد حلاوة الإسلام ويعرف كيف تمهدت السبل إلى دار السلام(1/4)
فإنه لا يخلو الحاضرون لهذا الكتاب من أن يسمعوا ما صنع الله لرسوله في أعداء تنزيله فيستجزلوا ثواب الفرح بنصر الله أو يستمعوا ما امتحنه الله به من المحن التي لا يطيق احتمالها إلا نفوس أنبياء الله بتأييد الله فيعتبروا بعظيم ما لقيه من شدائد الخطوب ويصطبروا لعوارض الكروب تأدبا بآدابه وجريا في الصبر على ما يصيبهم والاحتساب لما ينوبهم على طريقه صبره واحتسابه
وتلك غايات لن نبلغ عفوها بجهدنا ولن نصل أدانيها بنهاية ركضنا وشدنا وإنما علينا بذل الجهد في قصد الاهتداء وعلى الله سبحانه المعونة في الغاية والابتداء
وإذا استوفيت بفضل الله طلق هذا المعنى كما نويت وبلغت حاجة نفسي منه وقضيت فلى نية إن ساعدت المشيئة عليها في أن أصل هذا الغرض المتقدم من ذكر مغازي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بذكر مغازي الخلفاء الثلاثة الأول رضي الله عنهم منتحلا على رجاء معونة الله أسبابها ومنتخلا من كتاب شيخنا الخطيب أبي القاسم رحمه الله ومن غيره مما هو في نحو معناه صفوها ولبابها لتنتظم الفائدتان معا ويكون الخبر عن مغازي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ومغازي خلفائه الذين بهديهم الائتمام في مكان واحد مجتمعا
وأرجو بحول الله الذي له الطول وبيده القوة والحول أن يكون هذا المجموع كافيا في البابين وافيا بالغرضين المنتابين ولذلك ترجمته بكتاب الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ومغازي الخلفاء
وفضله جل جلاله نعم الكفيل أن يجزي به خير الجزاء ويجعله من عددنا النافعة يوم اللقاء فهو عز وجهه الملجأ والمعول وبه أستعين وعليه أتوكل لا إله إلا هو سبحانه هو حسبي وإليه أنيب
ذكر نسب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} تسليما وكيف طهره الله نفسا وخيما وشرفه حديثا وقديما وألقى إلى آبائه الأقدمين من الدلائل على اصطفائه إياه في الآخرين و ابتعاثه له رحمة للعالمين ما صيره لديهم قبل وجوده بطوائل السنين معلوما(1/5)
في الصحيح من حديث و اثلة بن الأسقع قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة واصطفى من بني كنانة قريشا واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم
وفي حديث عن عبد الله بن عباس أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال لم يزل الله عز وجل ينقلني من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة صفيا مهذبا لا تتشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما
وخرج أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي من حديث المطلب بن أبي وداعة أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قام على المنبر فقال من أنا فقالوا أنت رسول الله عليك السلام قال أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب إن الله خلق الخلق فجعلني في خيرهم فرقة ثم جعلهم فرقتين فجعلني في خيرهم فرقة ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة ثم جعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا وخيرهم نفسا
وفي رواية فأنا خيرهم نفسا من خيرهم بيتا
وصدق {صلى الله عليه وسلم} والصدق شيمته وفوق العالمين طرا قدره الرفيع وقيمته هو أشرفهم حسبا وأفضلهم نسبا وأكرمهم أما وأبا
هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم واسمه عمرو بن عبد مناف واسمه المغيرة بن قصى واسمه زيد بن كلاب بن مرة بن كعب ابن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان
هذا الصحيح المجتمع عليه في نسبه وما فوق ذلك مختلف فيه
ولا خلاف في أن عدنان من ولد إسماعيل نبي الله ابن إبراهيم خليل الله عليهما السلام وإنما الاختلاف في عدد من بين عدنان وإسماعيل من الآباء فمقلل ومكثر
وكذلك من إبراهيم إلى آدم عليهما السلام لا يعلم ذلك على حقيقته إلا الله
روي عن ابن عباس قال كان النبي {صلى الله عليه وسلم} إذا انتهى إلى عدنان أمسك ثم يقول كذب النسابون قال الله تعالى وقرونا بين ذلك كثيرا 38 الفرقان
ومن عدنان تفرقت القبائل من ولد إسماعيل
فولد عدنان رجلين معد بن عدنان وعك بن عدنان(1/6)
فصارت عك في دار اليمن لأن عكا تزوج في الأشعريين منهم وأقام فيهم فصارت الدار واللغة واحدة
والأشعريون هم بنو أشعر بن نبت بن أدد بن زيد بن هميسع بن عمرو بن عريب بن يشجب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان
وقحطان هو عند جمهور العلماء بالنسب أبو اليمن كلها وإليه يجتمع نسبها والعرب كلها عندهم من ولد إسماعيل وقحطان
وبعض اليمن يقول قحطان من ولد إسماعيل وإسماعيل أبو العرب كلها والله أعلم
وأما معد فذكر الزبير بن أبي بكر رحمه الله أن بختنصر لما أمر بغزو بلاد العرب وإدخال الجنود عليهم فيها وقتل مقاتلتهم لانتهاكهم معاصي الله واستحلالهم محارمه وقتلهم أنبياءه وردهم رسالاته أمر أرميا بن حلقيا وكان فيما ذكر نبي بني إسرائيل في ذلك الزمان أن ائت معد بن عدنان الذي من ولده محمد خاتم النبيين فأخرجه عن بلاده واحمله معك إلى الشام وتول أمره قبلك
ويقال بل المحمول عدنان والأول أكثر
وفي حديث عن ابن عباس أن الله بعث ملكين فاحتملا معدا فلما أدبر الأمر رداه فرجع إلى موضعه من تهامة بعدما دفع الله بأسه عن العرب فكان بمكة وناحيتها مع أخواله من جرهم وبها منهم بقية هم ولاة البيت يومئذ فاختلط بهم وناكحهم
فولد معد بن عدنان نفرا منهم قضاعة وكان بكره الذي به يكنى فيما يزعمون وقنص ونزار وإياد
فأما قضاعة فتيامنت إلى حمير بن سبأ وانتمت إلى ابنه مالك بن حمير حتى قال قائل منهم يفخر بذلك
نحن بنو الشيخ الهجان الأزهر
قضاعة بن مالك بن حمير
النسب المعروف غير المنكر
في الحجر المنقوش تحت المنبر
وأنكر كثير من الناس منتماهم هذا وجرت بينهم وبين من قال به من القضاعيين في ذلك أقاويل معروفة وأشعار محفوظة
قال الزبير ولم يجتمع رأي قضاعة على الانتساب في اليمن بل أهل العلم منهم والدين مقيمون على نسبهم في معد
وأما قنص بن معد فهلكت بقيتهم فيما زعموا وكان منهم النعمان بن المنذر ملك الحيرة(1/7)
واحتج من قال ذلك بأن عمر رضي الله عنه حين أتى بسيف النعمان بن المنذر دعا جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي فسلحه إياه ثم قال ممن كان يا جبير النعمان بن المنذر
فقال كان من أشلاء قنص بن معد
وكان جبير أنسب قريش لقريش والعرب قاطبة وكان يقول إنما أخذت النسب من أبي بكر الصديق
وكان أبو بكر رضي الله عنه أنسب العرب
وقد قيل في نسب النعمان غير ذلك مما سيأتي ذكره عند تأدية الحديث إليه إن شاء الله تعالى
وقد ذكر أيضا في بني معد الضحاك بن معد
ذكر الزبير بإسناد له إلى مكحول قال أغار الضحاك بن معد على بني إسرائيل في أربعين رجلا من بني معد عليهم دراريع الصوف خاطمي خيلهم
بحبال الليف فقتلوا وسبوا وظفروا فقالت بنو إسرائيل يا موسى إن بني معد أغاروا علينا وهم قليل فكيف لو كانوا كثيرا وأغاروا علينا وأنت نبينا فادع الله عليهم
فتوضأ موسى وصلى وكان إذا أراد حاجة من الله صلى ثم قال يا رب إن بني معد أغاروا على بني إسرائيل فقتلوا وسبوا وظفروا وسألوني أن أدعوك عليهم
فقال الله تعالى يا موسى لا تدع عليهم فإنهم عبادي وإنهم ينتهون عند أول أمري وإن فيهم نبيا أحبه وأحب أمته
قال يا رب ما بلغ من محبتك له
قال أغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر
قال يا رب ما بلغ من محبتك لأمته
قال يستغفرني مستغفرهم فأغفر له ويدعوني داعيهم فأستجيب له
قال يا رب فاجعلهم من أمتي
قال نبيهم منهم
قال يا رب فاجعلني منهم
قال تقدمت واستأخروا
قال الزبير وحدثني علي بن المغيرة قال لما بلغ بنو معد عشرين رجلا أغاروا على عسكر موسى عليه السلام فدعا عليهم فلم يجب فيهم ثم أغاروا فدعا عليهم فلم يجب فيهم ثلاث مرات
فقال يا رب دعوتك على قوم فلم تجبني فيهم بشيء
فقال يا موسى دعوتني على قوم منهم خيرتي في آخر الزمان(1/8)
وأما نزار بن معد واسمه مشتق من النزر وهو القليل فيقال إن أباه معدا لما ولد له نظر إلى نور بين عينيه ففرح لذلك فرحا شديدا ونحر وأطعم وقال إن هذا كله لنزر في حق هذا المولود
وما كان الذي رآه إلا نور النبوة الذي لم يزل ينتقل في الأصلاب حتى انتهى إلى نبينا محمد {صلى الله عليه وسلم} فطبق الأرض نورا وهدى الله به من أراد سعادته من عباده صراطا مستقيما
وكل هذه الأنوار والآثار شاهدة له عليه السلام بعظيم عناية الله وكريم المكانة عنده فلم تزل بركته {صلى الله عليه وسلم} متعرفة في آبائه الماضين وظاهرة على أسلافه الأكرمين تشير المخايل اللائحة فيهم إليه وتدل الدلائل الواضحة في أوليتهم عليه صلوات الله وبركاته عليه
فولد نزار بن معد مضر وربيعة وأنمارا وإيادا وإليه دفع أبوه حجابة الكعبة فيما ذكر الزبير
وأمهم سودة بنت عك بن عدنان
وقيل هي أم مضر خاصة وأم إخوته الثلاثة أختها شقيقة ابنة عك بن عدنان
وقد قيل إن إيادا شقيق لمضر أمهما معا سودة
فأنمار هو أبو بجيلة وخثعم وقد تيامنت بجيلة إلا من كان منهم بالشام والمغرب فإنهم على نسبهم إلى أنمار بن نزار
وجرير بن عبد الله صاحب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من سادات بجيلة وله يقول القائل
لولا جرير هلكت بجيله
نعم الفتى وبئست القبيلة
وكذلك تيامنت الدار أيضا بخثعم وهم بنو أقيل بن أنمار وإنما خثعم جبل تحالفوا عنده فسموا به وهم بالسراة على نسبهم إلى أنمار
وإذا كان بين مضر واليمن فيما هنالك حرب كانت خثعم مع اليمن على مضر
ويروى أن نزارا لما حضرته الوفاة قسم ماله بين بنيه الأربع مضر وربيعة وإياد وأنمار
فقال هذه القبة لقبة كانت له حمراء من أدم وما أشبهها من المال لمضر وهذا الخباء الأسود وما أشبهه لربيعة وهذه الخادم وكانت شمطاء وما أشبهها لإياد وهذه البدرة والمجلس لأنمار يجلس فيه
وقال لهم إن أشكل عليكم الأمر في ذلك واختلفتم في القسمة فعليكم بالأفعى الجرهمي وكان بنجران(1/9)
فاختلفوا بعده وأشكل أمر القسمة عليهم فتوجهوا إلى الأفعى فبينا هم في مسيرهم إليه إذ رأى مضر كلأ قد رعي فقال إن البعير الذي رعي هذا لأعور
فقال ربيعة وهو أزور وقال إياد وهو أبتر وقال أنمار وهو شرود
فلم يسيروا إلا قليلا حتى لقيهم رجل توضع به راحلته فسألهم عن البعير فقال له مضر أهو أعور قال نعم قال ربيعة أهو أزور قال نعم قال إياد أهو أبتر قال نعم قال أنمار وهو شرود قال نعم هذه والله صفة بعيري دلوني عليه فحلفوا له ما رأوه فلزمهم وقال كيف أصدقكم وأنتم تصفون بعيري بصفته
فساروا حتى قدموا نجران فنزلوا بالأفعى الجرهمي فنادى صاحب البعير بعيري وصفوا لي صفته ثم قالوا لم نره
فقال لهم الأفعى كيف وصفتموه ولم تروه
فقال له مضر رأيته يرعى جانبا ويدع جانبا فعرفت أنه أعور
وقال ربيعة رأيت إحدى يديه ثابتة الأثر والأخرى فاسدة الأثر فعلمت أنه أفسدها لشدة وطئه لازوراره
وقال إياد عرفت بتره باجتماع بعره ولو كان ذيالا لمصع به
وقال أنمار عرفت أنه شرود أنه كان يرعى في المكان المتلف نبته ثم يجوزه إلى مكان أرق منه وأخبث
قال الشيخ ليسوا بأصحاب بعيرك فاطلبه
ثم سألهم من هم
فأخبروه فرحب بهم وقال تحتاجون إلي وأنتم كما أرى فدعا لهم بطعام فأكل وأكلوا وشرب وشربوا
فقال مضر لم أر كاليوم خمرا أجود لولا أنها نبتت على قبر
وقال ربيعة لم أر كاليوم لحما أطيب لولا أنه ربي بلبن كلبة
وقال إياد لم أر كاليوم رجلا سرني لولا أنه ليس لأبيه الذي يدعى له
وقال أنمار لم أر كاليوم كلاما أنفع في حاجتنا
وسمع صاحبهم كلامهم فقال ما هؤلاء إنهم لشياطين
ثم أتى أمه فسألها فأخبرته أنها كانت تحت ملك لا يولد له فكرهت أن يذهب الملك فأمكنت رجلا نزل بهم من نفسها فوطئها فجاءت به
وقال للقهرمان الخمر التي شربناها ما أمرها قال من حبلة غرستها على قبر أبيك
وسأل الراعي عن اللحم فقال شاة أرضعناها من لبن كلبة ولم يكن ولد في الغنم غيرها(1/10)
فأتاهم فقال قصوا علي قصتكم
فقصوا عليه ما أوصى به أبوهم وما كان من اختلافهم
فقال ما أشبه القبة الحمراء من مال فهو لمضر
فصارت إليه الدنانير والإبل وهي حمر فسميت مضر الحمراء
قال وما أشبه الخباء الأسود من دابة ومال فهو لربيعة
فصارت له الخيل وهي دهم فسمي ربيعة الفرس
قال وما أشبه الخادم وكانت شمطاء من مال فيه بلق فهو لإياد
فصارت له الماشية البلق
وقضى لأنمار بالدراهم والأرض
فساروا من عنده على ذلك
وكان يقال مضر وربيعة هما الصريحان من ولد إسماعيل
وروي ميمون بن مهران عن عبد الله بن العباس أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال لا تسبوا مضر وربيعة فإنهما كانا مسلمين
وقال {صلى الله عليه وسلم} فيما روى عنه إذا اختلف الناس فالحق مع مضر
وسمع عليه السلام قائلا يقول
إني امرؤ حميري حين تنسبني
لا من ربيعة آبائي ولا مضرا
فقال {صلى الله عليه وسلم} ذلك أبعد لك من الله ومن رسوله
ومما يؤثر من حكم مضر بن نزار ووصاياه من يزرع شرا يحصد ندامة وخير الخير أعجله فاحملوا أنفسكم على مكروهها فيما أصلحكم واصرفوها عن هواها فيما أفسدها فليس بين الصلاح والفساد إلا صبر فواق
فولد مضر بن نزار رجلين إلياس بن مضر وعيلان بن مضر
قال الزبير وأمهما الحنفاء بنت إياد بن معد
وقال ابن هشام أمهما جرهمة
ولما أدرك إلياس بن مضر أنكر على بني إسماعيل ما غيروا من سنن آبائهم وسيرهم وبان فضله عليهم ولان جانبه لهم حتى جمعهم رأيه ورضوا به رضا لم يرضوه بأحد من ولد إسماعيل بعد أدد
فردهم إلى سنن آبائهم حتى رجعت سنتهم تامة على أولها
وهو أول من أهدى البدن إلى البيت أو في زمانه
وأول من وضع الركن للناس بعد هلاكه حين غرق البيت وانهدم زمن نوح عليه السلام
فكان أول من سقط عليه إلياس أو في زمانه فوضعه في زاوية البيت للناس
ومن الناس من يقول إنما هلك الركن بعد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وهو الأشبه إن شاء الله
ولم تبرح العرب تعظم إلياس بن مضر تعظيم أهل الحكمة كلقمان وأشباهه(1/11)
فولد إلياس بن مضر ثلاثة نفر مدركة وطابخة وقمعة
وأمهم خندف بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة واسمها ليلى واسم مدركة عامر واسم طابخة عمرو واسم قمعة عمير
وإنما حالت أسماؤهم إلى الذي ذكرنا أولا عنهم فيما ذكروا أن أرنبا أنفرت إبل إلياس بن مضر فصاح ببنيه هؤلاء أن يطلبوا الإبل والأرنب
فأما عمير فاطلع من المظلة ثم قمع فسمى قمعة
وخرج عامر وعمرو في آثار الإبل وخرجت أمهم ليلى تسعى خلفهم
فقال لها زوجها إلياس أين تخندفين أي أين تسعين فسميت خندف
ومر عامر وعمرو بظبي فرماه عمرو فقتله ويقال بل رمى الأرنب التي أنفرت الإبل فقال له عامر اطبخ صيدك وأنا أكفيك الإبل فطبخ عمرو فسمى طابخة
وأدرك الإبل عامر فسمى مدركة
واشتهر بنو خندف هؤلاء بأمهم خندف للذي سار من فعلها في الناس
وذلك أنه لما مرض زوجها إلياس وجدت لذلك وجدا شديدا ونذرت إن هلك ألا تقيم في بلد مات فيه ولا يظلها بيت بعده وأن تسيح في الأرض
وحرمت الرجال والطيب
فلما هلك إلياس خرجت سائحة في الأرض حتى هلكت حزنا
وكانت وفاته يوم الخميس فكانت كلما طلعت الشمس من ذلك اليوم تبكيه حتى تغيب فصارت خندف وما صنعت عجبا في الناس يتحدثون به ويذكرونه في أشعارهم
فقيل لرجل من إياد أو همدان وقد هلكت امرأته ألا تبكي عليها
فقال لو كان ذلك يردها لفعلت كما فعلت خندف على إلياس
ثم اندفع يقول
لو أنه يغني بكيت كخندف
على إلياس حتى ملها الشر تندب
إذا مونس لاحت خراطيم شمسه
بكت غدوة حتى ترى الشمس تغرب
ولم تر عيناها سوى الدفن قبره
فساحت وما تدري إلى أين تذهب
فلم يغن شيئا طول ما بلغت به
وما طلها دهر وعيش معذب
وفقدت امرأة من غسان أخاها ثم أباها فمكثت دهرا تبكي عليهما فنهاها قومها فقالت
تلحون سلمى أن بكت أباها
وقبل ما قد ثكلت أخاها
فحولوا العذل إلى سواها
عصتكم سلمى إلى هواها
كما عصت خندف من نهاها
خلت بنيها أسفا وراها
تبكي على ألياس فما أتاها(1/12)
فولد مدركة بن ألياس نفرا منهم خزيمة بن مدركة وهذيل بن مدركة
وأمهما امرأة من قضاعة قيل هي سلمى بنت سويد بن أسلم بن الحاف بن قضاعة و قيل غير ذلك
فولد خزيمة بن مدركة كنانة و أسدا و أسدة والهون
وأم كنانة منهم عوانة بنت سعد بن قيس بن عيلان بن مضر وقيل هند بنت عمرو بن قيس بن عيلان قرأته بخط أحمد بن يحيى بن جابر
وأم سائر بنيه برة بنت مر أخت تميم بن مر بن أد بن طابخة
فولد كنانة بن خزيمة جماعة منهم النضر وبه كان يكنى ونضير ومالك وملكان وعمرو وعامر و أمهم برة بنت مر خلف عليها كنانة بعد أبيه خزيمة على ما كانت الجاهلية تفعله إذا مات الرجل خلف على زوجته بعده أكبر بنيه من غيرها فنهى الله عن ذلك بقوله ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف
ويقال إن برة هذه لما أهديت أولا إلى خزيمة بن مدركة قالت له إني رأيت في المنام كأني ولدت غلامين من خلاف بينهما سابياء فبينا أنا أتأملهما إذا أحدهما أسد يزأر وإذا الآخر قمر ينير
فأتى خزيمة كاهنة بتهامة فقص عليها الرؤيا فقالت لئن صدقت رؤياها لتلدن منك غلاما يكون لولده قلوب باسلة ثم لتموتن عنها فيخلف عليها ابن لك فتلد منه غلاما يكون لولده عدل وعدد و قروم مجد وعز إلى آخر الأبد
ثم توفي خزيمة فخلف عليها كنانة بعد أبيه فولدت له النضر و إخوته
وإنما سمى النضر لنضارة وجهه وجماله
وأتي أبوه كنانة بن خزيمة وهو نائم في الحجر فقيل له تخير يا أبا النضر بين الصهيل والهدر وعمارة الجدر وعز الدهر
فقال كل يا رب
فصار هذا كله في قريش
والنضر هو جماع قريش في قول طائفة من أهل العلم بالنسب والأكثر على أن فهر بن مالك بن النضر هو قريش
فمن كان من ولده فهو قرشي ومن لم يكن من ولده فليس بقرشي
وذكر الزبير أن هذا هو رأي كل من أدرك من نساب قريش
فولد النضر بن كنانة مالكا ويخلد والصلت(1/13)
فولد مالك فهر بن مالك وأمه جندلة بنت الحارث بن جندل بن عامر بن سعيد بن الحارث بن مضاض الجرهمي وهو جماع قريش عند الأكثر
قال الزبير قد اجتمع النساب من قريش وغيرهم أن قريشا إنما تفرقت عن فهر ويقال إن قريشا هو اسمه الذي سمته به أمه ولقبته فهرا
فولد فهر بن مالك غالبا ومحاربا والحارث وأسدا وأختهم جندلة وأم جميعهم ليلى بنت سعد بن هذيل بن مدركة
ولما حضرت الوفاة فهر بن مالك قال لابنه غالب يا بني إن في الحزن إقلاق النفوس قبل المصائب فإذا وقعت المصيبة برد حرها وإنما القلق في غليانها فإذا أنا مت فبرد حر مصيبتك بما ترى من وقع المنية أمامك وخلفك وعن يمينك وعن شمالك وبما ترى من آثارها في محيي الحياة ثم اقتصر على قليلك وإن قلت منفعته فقليل ما في يدك أغنى لك من كثير ما أخلق وجهك وإن صار إليك
فولد غالب بن فهر لؤيا وتيما وهو الأدرم كان منقوص الذقن
ويقال لقومه بنو الأدرم
وأمهما في قول ابن إسحاق سلمى بنت عمرو الخزاعي
وفي قول الزبير عاتكة بنت يخلد بن النضر
وروي أن لؤي بن غالب قال لأبيه وهو غلام حديث يا أبت من رب معروفة قل إخلاقه و نضر ماؤه ومن أخلقه أخمله وإذا أخلق الشيء لم يذكر وعلى المولى تكبير صغيره ونشره وعلى المولى تصغير كبيره وستره
فقال له أبوه غالب إني لأستدل بما أسمع من قولك على فضلك وأستدعى لك به الطول على قومك فإن ظفرت بطول فعد على قومك بفضلك وكف غرب جهلهم بحلمك ولم شعثهم برفقك فإنما تفضل الرجال الرجال بأفعالها ومن قايسها على أوزانها أسقط الفضل ولم تعل به درجة على أحد وللعليا فضل أبدا على السفلى
فولد لؤي بن غالب كعبا وعامرا وسامة وعوفا وسعدا وخزيمة
فدخل بنو خزيمة في شيبان ويسمون فيهم بعائذة وهي امرأة من اليمن كانت أم بني عبيد بن خزيمة فنسبوا إليها
وكذلك دخل بنو سعد أيضا في شببان ويسمون فيهم ببنانة حاضنة كانت لهم من قضاعة وقيل من النمر بن قاسط فنسبوا إليها(1/14)
وأما سامة بن لؤي فخرج إلى عمان ويزعمون أن عامر بن لؤي أخرجه
وذلك أنه كان بينهما شيء ففقأ سامة عين عامر فأخافه عامر فخرج إلى عمان
فيزعمون أن سامة بن لؤي بينا هو يسير على ناقته إذ وضعت رأسها ترتع فأخذت حية بمشفرها فهصرتها حتى وقعت الناقة لشقها ثم نهشت ساقه فقتلته
فقال سامة حين أحس بالموت فيما يزعمون
عين فابكى لسامة بن لؤي
علقت ما بسامة العلاقة
لا أرى مثل سامة بن لؤي
يوم حلوا به قتيلا لناقة
بلغا عامرا وكعبا رسولا
أن نفسي إليهما مشتاقة
إن تكن في عمان داري فإني
غالبي خرجت من غير فاقة
رب كأس هرقت يا بن لؤي
حذر الموت لم تكن مهراقة
رمت دفع الحتوف يا بن لؤي
ما لمن رام ذاك بالحتف طاقة
وخروس السري تركت رديا
بعد جد وحدة ورشاقة
قال ابن هشام وبلغني أن بعض ولده أتى رسول {صلى الله عليه وسلم} فانتسب إلى سامة ابن لؤي فقال رسول {صلى الله عليه وسلم} الشاعر فقال له بعض أصحابه كأنك يا رسول الله أردت قوله
رب كأس هرقت يابن لؤي
حذر الموت لم تكن مهراقة
قال أجل
قال ابن اسحاق وأما عوف بن لؤي فإنه خرج فيما يزعمون في ركب من قريش حتى إذا كان بأرض غطفان بن سعد بن قيس بن غيلان أبطئ به فانطلق من كان معه من قومه فأتاه ثعلبة بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان فحبسه والتاطه وآخاه وزوجه فانتسب بتلك المؤاخاة إلى سعد ابن ذبيان أبي ثعلبة
وثعلبة يزعمون هو القائل له
احبس على ابن لؤي جملك
تركتك القوم ولا مترك لك
ويروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لو كنت مدعيا حيا من العرب أو ملحقهم بنا لادعيت بني مرة بن عوف إنا لنعرف منهم الأشباه مع ما نعرف من موقع ذلك الرجل حيث وقع يعني عوف بن لؤي
وهم في نسب غطفان مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان وهم يقولون إذا ذكر لهم هذا النسب ما ننكره ولا نجحده وإنه لأحب النسب إلينا(1/15)
وقيل إن عمر بن الخطاب قال لرجال من بني مرة إن شئتم أن ترجعوا إلى نسبكم فارجعوا إليه وكان القوم أشرافا في غطفان هم سادتهم وقادتهم منهم هرم بن سنان بن أبي حارثة وأخوه خارجة بن سنان والحارث بن عوف والحصين بن الحمام وهشام بن حرملة قوم لهم صيت وذكر في غطفان وقيس كلها فأقاموا على نسبهم
على أن الحصين بن الحمام قد تحير في هذا واختلف رأيه فلما سمع قول الحارث بن ظالم أحد بني مرة بن عوف حين هرب من النعمان بن المنذر ولحق بقريش
وما قومي بثعلبة بن سعد
ولا بفزارة الشعر الرقابا
فقومي إن سألت بنو لؤي
بمكة علموا مضر الضرابا
سفهنا باتباع بني بغيض
وترك الأقربين لنا انتسابا
سفاهة مخلف لما تروى
هراق الماء واتبع السرابا
فلو طوعت عمرك كنت منهم
وما ألفيت انتجع السحابا
قال الحصين بن الحمام يرد عليه وينتمي إلى غطفان
ألا لستم منا ولسنا إليكم
برئنا إليكم من لؤي بن غالب
أقمنا على عز الحجاز وأنتم
بمعتلج البطحاء بين الأخاشب
يعني قريشا
ثم ندم الحصين على ما قال وعرف صدق الحارث فأكذب نفسه وقال
ندمت على قول مضي كنت قلته
تبينت فيه أنه جد كاذب
فليت لساني كان نصفين منهما
بكيم ونصف عند مجرى الكواكب
أبونا كناني بمكة قبره
بمعتلج البطحاء بين الأخاشب
لنا الربع من بيت الحرام وراثة
وربع البطاح عند دار ابن حاطب
يعني أن بني لؤي كانوا أربعة كعبا وعامرا وسامة وعوفا
وفي بني مرة بن عوف كان البسل وذلك ثمانية أشهر حرم لهم من كل سنة من بين العرب يسيرون به إلى أي بلاد العرب شاءوا ولا يخافون منهم شيئا قد عرفوا ذلك لهم لا يدفعونه ولا ينكرونه
وكان سائر العرب إنما يأمنون في الأشهر الحرم الأربعة فقط(1/16)
وذكر الزبير عن أبي عبيدة أنه كانت لقريش في هذا مزية على سائر العرب قاطبة وذلك أن العربي لم يكن ليخرج من داره في غير الأشهر الحرم إلا في جماعة وكان القرشي يخرج حيث شاء وأني شاء فيقال رجل من أهل الله فلا يعرض له عارض ولا يريبه أحد بمكروه ويعظمه من لقيه أو ورد عليه ولذلك قال من قال منهم القرشي بكل بلد حرام
وأما كعب بن لؤي وعامر بن لؤي فهما أهل الحرم وصريح ولد لؤي
وكان كعب منهما عظيم القدر في العرب وأرخوا بموته إعظاما له إلى أن كان عام الفيل فأرخوا به
وكان بين موته والفيل فيما ذكروا خمسمائة سنة وعشرون سنة وكان يوم الجمعة يسمى العروبة فسماه كعب الجمعة لاجتماع قومه فيه يخطبهم ويذكرهم فيقول فيما يقول
أيها الناس اسمعوا وعوا وافهموا وتعلموا ليل ساج ونهار ضاح والسماء بناء والأرض مهاد والنجوم أعلام لم تخلق عبثا فتضربوا عن أمرها صفحا الآخرون كالأولين والدار أمامكم واليقين غير ظنكم صلوا أرحامكم واحفظوا أصهاركم وأوفوا بعهدكم وثمروا أموالكم فإنها قوام مروءاتكم ولا تصونوها عما يجب عليكم وعظموا هذا الحرم وتمسكوا به فسيكون له نبأ عظيم وسيخرج به بني كريم
ثم ينشد أبياتا منها
صروف وأنباء تقلب أهلها
لها عقدة ما يستحيل مريرها
على غفلة يأتي النبي محمد
فيخبر أخبارا صدوقا خبيرها
ثم يقول
يا ليتني شاهد فحواء دعوته
حين العشيرة تبغي الحق خذلانا
أما والله لو كنت ذا سمع وبصر ويد ورجل لتنصبت فيها تنصب الفحل ولأرقلت فيها إرقال الجمل فرحا بدعوته جذلا بصرخته
فولد كعب بن لؤي مرة وهصيصا وعديا
وأمهم وحشية بنت شيبان بن محارب بن فهر بن مالك
وقيل إن أم عدي وحده امرأة من فهر وهي حبيبة بنت بجالة بن سعد بن فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار
فولد مرة بن كعب كلابا وتيما ويقظة(1/17)
فولد كلاب رجلين قصيا وزهرة وأمهما فاطمة بنت سعد بن سيل أحد الجدرة من خثعمة الأسد من اليمن حلفاء في بني الديل بن بكر بن عبد مناة ابن كنانة ويقال خثعمة الأسد
واسم سيل خير وإنما سمي سيلا لطوله وسيل اسم جبل
وهو خير بن حمالة بن عوف بن غنم بن عامر الجادر بن عمرو بن خثعمة ابن يشكر بن مبشر بن صعب بن دهمان بن نصر بن الأزد
وسمي عامر الجادر لأنه بني جدارا للكعبة كان وهي من سيل أتى أيام ولاية جرهم البيت
وكان عامر تزوج منهم بنت الحارث بن مضاض وقيل لولده الجدرة لذلك
وذكر الشرفي بن القطامي أن الحاج كانوا يتمسحون بالكعبة ويأخذون من طينها وحجارتها تبركا بذلك وأن عامرا هذا كان موكلا بإصلاح ما شعث من جدرها فسمي الجادر والله أعلم
وسعد بن سيل جد قصي بن كلاب هو أول من حلى السيوف بالفضة والذهب وأهدى إلى كلاب بن مرة مع ابنته فاطمة سيفين محليين فجعلا في خزانة الكعبة
وقصى هو الذي جمع الله به قريشا وكان اسمه زيدا فسمي مجمعا لما جمع من أمرها وسمي قصيا لتقصيه عن بلاد قومه مع أمه فاطمة بعد وفاة أبيه كلاب بن مرة
وحديثه في ذلك طويل وسنذكره إن شاء الله عند ذكر ولايته البيت وهناك نذكر مآثره وعظيم غنائه في إقامة أمر قومه إن شاء الله فإن القصد هنا الإيجاز ما أمكن في إيراد هذا النسب المبارك لتحصل لسامعه الفائدة بانتظامه واتصاله ولا يضل ذلك عليه بما تخلل أثناءه من القواطع التي تباعد بين أطرافه
فولد قصي بن كلاب أربعة نفر وامرأتين
عبد مناف وعبد الدار وعبدالعزي وعبدا وتخمر وبرة
وأمهم جميعا حبى بنت حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعي
وساد عبد مناف في حياة أبيه وكان مطاعا في قريش وهو الذي يدعى القمر لجماله واسمه المغيرة
ذكر الزبير عن موسى بن عقبة أنه وجد كتابا في حجر فيه أنا المغيرة ابن قصي آمر بتقوى الله وصلة الرحم
وإياه عني القائل بقوله
كانت قريش بيضة فتفلقت
فالمح خالصه لعبد مناف(1/18)
فولد عبد مناف أربعة نفر هاشما وعبد شمس والمطلب ونوفلا
وكلهم لعاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر
إلا نوفلا منهم فإنه لوافدة بنت عمرو المازنية مازن بن منصور بن عكرمة
فولد هاشم بن عبد مناف أربعة نفر و خمس نسوة
عبد المطلب و أسدا و أبا صيفي و نضلة والشفاء و خالدة وضعيفة و رقية و حية
وأم عبد المطلب منهم سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار
فولد عبد المطلب عشرة نفر و ست نسوة
العباس وحمزة و عبد الله وأبا طالب واسمه عبد مناف والزبير والحارث وهو أكبرهم والحجل والمقوم وضرارا وعبد العزي أبا لهب وصفية وأم حكيم البيضاء وعاتكة وأميمة وأروى وبرة
فأم عبد الله وأبي طالب وجميع النساء غير صفية فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي
فولد عبد الله بن عبد المطلب محمدا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خاتم النبيين وسيد الأولين والآخرين ونخبة الخلق أجمعين فنسبه {صلى الله عليه وسلم} أشرف الأنساب وسببه إلى الله سبحانه باصطفائه إياه واختياره له أفضل الأسباب وبيته في قريش أوسط بيوتها الحرمية وأعرق معادنها الكرمية لم تخل قط مكة من سيد منهم أو سادات يكونون خير جيلهم ورؤساء قبيلهم حتى إذا درجوا سما قسماؤهم في المجد الصميم وشركاؤهم في النسب الكريم إلى ذلك المقام فعرجوا فصحبوا على ذلك الزمان
لواؤهم على من ناوأهم منصور وسؤدد البطحاء عليهم مقصور والعيون إليهم أية سلكوا صور
ثم أتى الوادي فطم على القرى وشد الله أركان مجدهم العريق العتيق بهذا النبي الأمي فاحتازوا المجد عن آخره وفازوا من شرف الدين والدنيا بما تعجز ألسنة البلغاء عن أدنى مفاخره
وأمه {صلى الله عليه وسلم} هي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب قسيمة أبيه من هذا الأب وكريمة قومها أولى المكان النبيه والحسب(1/19)
وحسبها من الشرف المتين والكرم المبين والفخر الممكن غاية التمكين أن كانت أما لخاتم النبيين {صلى الله عليه وسلم} وعلى آله أجمعين
فكيف ولها من نصاعة الحسب المحسب وعتاقة المنسب والمنصب ما يقف عند البطاح وتعترف له قريش البطاح
فرسول الله صلوات الله وبركاته عليه خيرة الخير من كلا طرفيه
وقد اعتنى الناس بنسبه الكريم نثرا ونظما ونقبوا عن آبائه الأمجاد وأمهاته الطاهرات الميلاد أبا فأبا وأما فأما
فرادوا من ذلك الفخار حدائق غلبا وسادوا من شرف تلك الآثار مراقي شما
وقد تقدمت من ذلك نبذ منثورة أثناء الكلام وستأتي إن شاء الله منظومة مع أشكالها تفوق العقد في النظام في قصيدة فريدة مفيدة لأبي عبد الله ابن أبي الخصال خاتمة رؤساء الآداب والعلماء المبرزين في هذا الباب سماها معراج المناقب ومنهاج الحسب الثاقب في ذكر نسب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ومعجزاته ومناقب أصحابه قرأتها على شيخنا الخطيب أبي القاسم ابن حبيش عنه فقد رأيت أن أورد منها هنا ما يختص بهذا النسب الكريم على اختصار يفي إن شاء الله بالغرض المروم إذ الكلام المنظوم أعذب جريا على الألسن وأهذب رأيا في الإفادة بالمستحسن
وأولها
إليك فهمي والفؤاد بيثرب
وإن عاقني عن مطلع الوحي مغربي
أعلل بالآمال نفسا أغرها
بتقديم غاياتي وتأخير مذهبي
وديني على الأيام زورة أحمد
فهل ينقضي ديني ويقرب مطلبي
وهل أردن فضل الرسول بطيبة
فيا برد أحشائي ويا طيب مشربي
وهل فضلت من مركب العمر فضلة
تبلغني أم لا بلاغ لمركب
ألا ليت زادي شربة من مياهها
وهل مثلها ريا لغلة مذنب
ويا ليتني فيها إلى الله صائر
وقلبي عن الإيمان غير مقلب
وإن امرأ وارى البقيع عظامه
لفي زمرة تلقى بسهل ومرحب
وفي ذمة من خير من وطئ الثرى
ومن يعتلقه حبله لا يعذب
ومالي لا أشري الجنان بعزمة
يهون عليها كل طام وسبسب
وماذا الذي يثني عناني وإنني
لجواب آفاق كثير التقلب
أفقر ففي كفي لله نعمة
وبين فقد فارقت قبل بني أبي
وقد مرنت نفسي على البعد وانطوت(1/20)
على مثل حد السمهري المدرب
وكم غربة في غير حق قطعتها
فهلا لذات الله كان تغربي
وكم فاز دوني بالذي رمت فائز
وأخطأني ما ناله من تغرب
أراه وأهوى فعله البر قاعدا
فيا قعدي البر قم وتلبب
أماني قد أفنى الشباب انتظارها
وكيف بما أعيي الشباب لأشيب
وقد كنت أسري في الظلام بأدهم
فهأنا أغدو في الصباح بأشهب
فمن لي وأنى لي بريح تحطني
إلى ذروة البيت الرفيع المطنب
إلى الهاشمي الأبطحي محمد
إلى خاتم الرسل المكين المقرب
إلى صفوة الله الأمين لوحيه
أبي القاسم الهادي إلى خيرمشعب
إلى ابن الذبيحين الذي صيغ مجده
ولما تصغ شمس ولا بدر غيهب
إلى المنتقي من عهد آدم في الذرى
يردد في سر الصريح المهذب
إلى من تولى الله تطهير بيته
وعصمته من كل عيص مؤشب
فجاء بريء العرض من كل وصمة
فما شئت من أم حصان ومن أب
كروض الربا كالشمس في رونق الضحى
كنا شيء ماء المزن قبل التصوب
عليه من الرحمن عين كلاءة
تجنبه إلمام كل مجنب
إذا أعرضت أعراقه عن قبيلة
فما أعرضت إلا لأمر مغيب
وما عبرت إلا على مسلك الهدى
ولا عثرت إلا على كل طيب
فمن مثل عبد الله خير لداته
وآمنة في خير ضنء ومنصب
إذا اتصلت جاءتك أفلاذ زهرة
كأسد الشري من كل أشوس أغلب
ولا خال إلا دون سعد بن مالك
ولو كان في عليا معد ويعرب
ومن ذا له جد كشيبة ذي الندى
وساقى الحجيج بين شرق ومغرب
له سؤدد البطحاء غير مدافع
وحومة ما بين الصفا والمحصب
أبو الحارث السامي إلى كل ذروة
يقصر عن إدراكها كل كوكب
به وبما في برده من أمانة
حمى الله ذاك البيت من كل مرهب
وأهلك بالطير الأبابيل جمعهم
فيا لهم من عارض غير خلب
وفيما رآه شيبة الحمد آية
تلوح لعين الناظر المتعجب
وفي ضربه عنه القداح مروعا
ومن يرم بين العين والأنف يرهب
وما زال يرمي والسهام تصيبه
إلى أن وقبه الكوم من نسل أرحب
وكانوا أناسا كلما أمهم أذى
تكشف عن صنع من الله معجب
وعاش بنو الحاجات فيهم وأخصبوا
وإن أصبحوا في منزل غير مخصب(1/21)
وعمرو المعالي هاشم وتريده
بمكة يدعو كل أغبر مجدب
بمثنى جفان كالجواب منيخة
ملئن عبيطات السنام المرعب
هو السيد المتبوع والقمر الذي
على صفحته في الرضا ماء مذهب
بني الله للإسلام عزا بصهره
إلى منتهى الأحياء من آل يثرب
وعبد مناف دوحة الشرف الذي
تفرع منها كل أروع محرب
مطاع قريش والكفيل بعزها
ومانعها من كل ضيم ومنهب
وزيد ومن زيد قصي مجمع
سمعت وبلغنا وحسبك فاذهب
به اجتمعت أحياء فهر وأحرزت
تراث أبيها دون كل مذبذب
وأصبح حكم الله في آل بيته
فهم حوله من سادنين وحجب
وما أسلمته عن تراخ خزاعة
ولكن كما عض الهناء بأجرب
ولاذت قريش من كلاب بن مرة
بجذل حكاك أو بعذق مرحب
ومرة ذو نفس لدى الحرب مرة
وفي السلم نفس الصرخدي المذوب
وكعب عقيد الجود والحكم والنهي
وذو الحكم الغر المبشر بالنبي
خطيب لؤي واللواء بكفه
لخطبة ناد أو لخطة مقنب
وأول من سمي العروبة جمعة
وصدر أما بعد يلحي ويطبي
وأرخ آل الله دهرا بموته
سنين سدى يتعبن كف المحسب
وأضحى لؤي غالبا كل ماجد
ومن غالب يمنيه للمجد يغلب
وفهر أبو الأحياء جامع شملها
وكاسبها من فخره خير مكسب
تقرش فامتازت قريش بفضله
وسد فسدوا خلة المتأوب
وغادره اسما في الكتاب منزلا
يمر به في آية كل معرب
ومالك المربي على كل مالك
فتى النضر حابته السيادة بل حبي
هو الليث في الهيجاء والغيث في الندى
وبدر الدياجي حين يسري ويحتبي
تردى بفضفاض على المجد نسجه
وليس عليه فليجر ويسحب
وللنضر يا للنضر من كل مشهد
هو الشمس صعد في سناها وصوب
وأعرض بحر من كنانة زاخر
يساق إلى أمواجه كل مذنب
وخير حكما في الصهيل أو الرغا
أو البيت أوعز على الدهر مصحب
فلم يقتصر واختار كلا فحازه
إلى غاية العز المديد المعقب
له البيت محجوبا وعز مخلد
وأجرد يعبوب إلى جنب أصهب
وخزم آناف العتاة خزيمة
فلاذوا بأخلاق الذلول المغرب
عظيم لسلمى بنت سود بن أسلم
لكل قضاعي كريم معصب
ومدركة ذو اليمن والنجح عامر
وخير مسمى في العلا وملقب(1/22)
تراءى مطلا إذ تقمع صنوه
ففاز بقدح ظافر لم يخيب
لأم الجبال الشم والقطر والحصى
لخندف إن تستركب الأرض تركب
وإلياس مأوى الناس في كل أزمة
ومهربهم في كل خوف ومرهب
وزاجرهم إذ بدلوا الدين ضيلة
وأضحوا بلا هاد ولا متحوب
وجاءهم بالركن بعد هلاكه
وقد كان في صدع من الأرض أنكب
وما هو إلا معجز لنبوة
وبشرى وعقبي للبشير المعقب
وحج وأهدى البدن أول مشعر
لها وفروض الحج لم تترتب
وكم حكمة لم تسمع الأذن مثلها
له إن تلح في ناظر العين تكتب
إلى قنص تنميه سوداء نبته
كلا طرفيه من معد لمنسب
وفي مضر تاه الكلام وأقبلت
مآثر سدت كل وجه ومذهب
وحينا وكاثرنا النجوم بجمعها
بأكثر منها في العديد وأثقب
هنالك آتى الله من شاء فضله
وقيل لهذا سر وللآخر اركب
وكانا شقيقي نبعة فتفاوتا
لعلم وحكم ماله من معقب
وما منهما إلا حنيف ومسلم
على نهج إسماعيل غير منكب
وقد سلم الأفعى بنجران حكمه
إليهم ولم ينظر إلى متعقب
رأى فطنا أبدت له عن نجاره
وكان لنبع فاستحال لأثأب
وتلك علامات النبوة كلها
تشير إلى منظورها المترقب
وقال رسول الله مهما اختلفتم
ولم تعرفوا قصد السبيل الملحب
ففي مضر جرثومة الحق فاعمدوا
إلى مضر تلفوه لم يتنقب
وما سيد إلا نزار يفوته
ومن فاته بدر الدجى لم يؤنب
قريع معد والذي سد نقده
متى يأتهم شعب من الدهر يرأب
أبو أبحر الدنيا وأطوادها التي
بها ثبتت طرا فلم تتقلب
ولم يكفه حتى أعانت معانة
بكل عتيق جرهمي مهذب
وجاء معد والسماء شموسها
وأقمارها في ذيله المتسحب
وبين يديه الأنجم الزهر بثها
على الأرض حتى لا مساغ لأجنبي
وقدما تحفى الله من بختنصر
به والورى من هالك ومعذب
وجنبه أرض البوار وحازه
إلى معقل من حرزه متأشب
وحل بأرمينية تحت حفظه
لدى ملك عن جانبيه مذبب
فلما تجلى الروع أسرى بعبده
إلى حرم أمن لأبنائه اجتبي
وقد كان رد الله عنهم كليمه
ليالي يدعو دعوة المتغضب
وجاء بنو يعقوب يشكون منهم
ينادونه هذا قتيل وذا سبي(1/23)
فقال له لا تدع موسى عليهم
فمنهم نبي اصطفيه وأجتبي
أحبهم فيه رضا وأحبه
كذلك من أحببه يكرم ويحبب
وأغفر إن يستغفروني ذنوبهم
ومهما دعا داع أجبه وأقرب
فقال إذن فاجعلهم رب أمتي
فمن ترضه يا رب يرض ويرغب
فقال هم في آخر الدهر صفوتي
يقضون أعدائي ويستنصرون بي
دعائم إيمان وأركان سؤدد
مضت بعلاها مهدد بنت جلحب
ومصعد عدنان إلى جذم آدم
بأبين من قصد الصباح وألحب
ونهي رسول الله صد وجوهها
وكان لنا في نظمها شد ملهب
وإلا فأد بن الهميسع ماثل
ونبت بن قيدار سلالة أشجب
وواجه أعراق الثري كل من ترى
وأسمع إسماعيل دعوة مكثب
وقام خليل الله يتلوه آزر
أغر صباحي لأدهم غيهب
إلى الناحر ابن الشارع الغمر يرتقي
وللداع ثم القاسم الشامخ الأب
ويعبر ينميه إلى المجد شالخ
إلى الرافد الوهاب برك وطيب
لسام أبي السامين طرا سما بهم
لنوح للمكان العلي لمثوب
لإدريس ثم الرائد بن مهلهل
لقينن ثم الطاهر المتطيب
إلى هبة الرحمن شيث بن آدم
أبي البشر الأعلى لطين لأثلب
فمنه خلقنا ثم فيه معادنا
ومنه إلى عدن فسدد وقارب
وهنا انتهى ما يخص المنتمى العلي من هذه الكلمة التي فرى ناظمها في الإحسان الفري المحمود فاقتصرت منها على ما وفى بالغرض المقصود واستوفى رجال النسب المجيد والحسب التليد تعجيلا لقرى المستفيد واكتفاء من القلادة بالقدر المحيط بالجيد وإنها إن شاء الله لكافية في الباب ومقدمة الكلام اللباب وتحفة إنما يعرف قدرها أولو الألباب
والله يجزي قائلها الحسني وينفعه بمقصده الأسنى
وإذ قد انتهينا إلى ما حسن لدينا إيراده في هذا المعنى وصفا وذكرا وخدمنا النسب الأشرف نظما ونثرا فلنعرج على ذكر البقعة التي اختارها الله لرسوله الكريم منشأ وجعلها لقومه قرارا ومتبوأ وأولية البيت العتيق الذي جعله الله مثابة وأمنا للناس ورفعه على أفضل القواعد وأكرم الأساس ثم دحا الأرض من تحته رفعا للشبهة في شرفه والإلتباس(1/24)
ثم نذكر من وليه من آبائه الكرام إذ هم أهله الأعلون وأولياؤه الأحقاء به الأولون وهو مأثرتهم التي لم يزالوا إياها يراعون ومن جرائها يراعون وتراث المجد الذي إليهم يعزى وإليه يعزون وبسيما شرفه يعرفون وباسمه يدعون
ونشير إلى حرمته العظيمة في الحرمات وما أنزل الله تعالى بمن بغاه بسوء أو أتى فيه بأمر مذموم مشنوء من أليم العقوبات وعظيم النقمات
لنخدم البلد كما خدمنا المحتد ونقضي حق المكان الشريف كما قضينا حق الحسب التليد والطريف
حتى نخلص إلى ذكر المولد المبارك الذي منه نتدرج إلى المقصود الذي نحن عليه عاملون ولتمامه آملون رجاء أن نجد ذلك مذخورا عند المولى الذي يضاعف لعبيده الحسنات ويعفو عن السيئات ويعلم ما يفعلون
ذكر أولية بيت الله المحرم وركنه المستلم ومن تولى بناءه من ملائكته وأنبيائه صلى الله على جميعهم وسلم
قال الله العظيم إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم 96 آل عمرا
وفي الصحيح من حديث أبي ذر الغفاري أنه سأل رسول {صلى الله عليه وسلم} أي مسجد وضع في الأرض أول فقال له المسجد الحرام قال قلت ثم أي قال ثم المسجد الأقصى قلت كم بينهما قال أربعون عاما
وذكر الزبير بن أبي بكر بإسناده إلى جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه قال كنت مع أبي محمد بن علي بمكة في ليالي العشر قبل التروية بيوم أو يومين وأبي قائم يصلي في الحجر وأنا جالس وراءه فجاء رجل أبيض الرأس واللحية جليل العظام بعيد ما بين المنكبين عريض الصدر عليه ثوبان غليظان في هيئة محرم فجلس إلى جنبه فخفف أبي الصلاة فسلم ثم أقبل عليه فقال له الرجل يا أبا جعفر أخبرني عن بدء خلق هذا البيت كيف كان
فقال له أبو جعفر محمد بن علي ممن أنت يرحمك الله قال رجل من أهل الشام فقال له محمد بن علي إن أحاديثنا إذا سقطت إلى الشام جاءتنا صحاحا وإذا سقطت إلى العراق جاءتنا وقد زيد فيها ونقص(1/25)
ثم قال بدء خلق هذا البيت أن الله تبارك وتعالى قال للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة فردوا عليه أتجعل فيها من يفسد فيها الاية
وغضب عليهم فعاذوا بالعرش وطافوا حوله سبعة أطواف يسترضون ربهم فرضي عنهم وقال لهم ابنوا لي في الأرض بيتا فيعوذ به من سخطت عليه من بني آدم ويطوفون حوله كما فعلتم بعرشي فأرضى عنهم
فبنوا له هذا البيت
فهذا يا عبد الله بدء خلق هذا البيت
فقال الرجل يا أبا جعفر فما بدء خلق هذا الركن
فقال إن الله تبارك وتعالى لما خلق الخلق قال لبني آدم ألست بربكم قالوا بلى وأقروا وأجرى نهرا أحلى من العسل وألذ من الزبد ثم أمر القلم فاستمد من ذلك النهر فكتب إقرارهم وما هو كائن إلى يوم القيامة ثم ألقم ذلك الكتاب هذا الحجر فهذا الاستلام الذي ترى إنما هو بيعة على إقرارهم بالذي كانوا أقروا به
وقال جعفر بن محمد كان أبي إذا استلم الركن قال اللهم أمانتي أديتها وميثاقي وفيت به ليشهد لي عندك بالوفاء
قال وقام الرجل فذهب
قال جعفر بن محمد فأمرني أبي أن أرده عليه فخرجت في أثره وأنا أراه يحول بيني وبينه الزحام حتى دخل نحو الصفا فتبصرته على الصفا فلم أراه ثم ذهبت إلى المروة فلم أره عليها فجئت إلى أبي فأخبرته فقال لي أبي لم تكن لتجده وذلك الخضر عليه السلام
وخرج الترمذي من حديث عبد الله بن عباس وصححه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني آدم
ومن حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا وموقوفا قال إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما ولو لم يطمس نورهما لأضاءا ما بين المشرق والمغرب
ومن حديث ابن عباس أيضا قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قي الحجر والله ليبعثنه الله يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق يشهد على من استلمه بحق(1/26)
وذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري من حديث عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول إن آدم عليه السلام لما هبط إلى الأرض فرأى سعتها ولم ير فيها أحدا غيره قال يا رب أما لأرضك هذه عامر يسبح بحمدك ويقدسك غيري
قال الله تعالى أني سأجعل فيها من ولدك من يسبح بحمدي ويقدسني وسأجعل فيها بيوتا ترفع لذكري ويسبح فيها خلقي ويذكر فيها اسمي وسأجعل من تلك البيوت بيتا أخصه بكرامتي وأوثره باسمي فأسميه بيتي وعليه وضعت جلالي ثم أنا مع ذلك في كل شيء ومع كل شيء أجعل ذلك البيت حرما آمنا يتحرم بحرمته من حوله ومن تحته ومن فوقه فمن حرمه بحرمتي استوجب بذلك كرامتي ومن أخاف أهله فقد أخفر ذمتي وأباح حرمتي أجعله أول بيت وضع للناس ببطن مكة مباركا يأتونه شعثا غبرا على كل ضامر يأتين من كل فج عميق يزجون بالتلبية زجيجا ويثجون بالبكاء ثجيجا ويعجون بالتكبير عجيجا
فمن اعتمده لا يريد غيره فقد وفد إلى وزارني وضافني وحق على الكريم أن يكرم وفده وأضيافه وأن يسعف كلا بحاجته
تعمره يا آدم ما كنت حي ثم تعمره الأمم والقرون والأنبياء من ولدك أمة بعد أمة وقرنا بعد قرن
وفي حديث غير هذا عن عطاء وقتادة أن آدم عليه السلام لما أهبطه الله من الجنة وفقد ما كان يسمعه ويأنس إليه من أصوات الملائكة وتسبيحهم استوحش حتى شكا ذلك إلى الله تعالى في دعائه وصلاته فوجهه إلى مكة وأنزل الله تعالى ياقوتة من ياقوت الجنة فكانت على موضع البيت الآن
وقال الله يا آدم إني قد أهبطت لك بيتا تطوف به كما يطاف حول عرشي وتصلي عنده كما يصلي عند عرشي
فانطلق إليه آدم فطاف به هو ومن بعده من الأنبياء إلى أن كان الطوفان فرفعت تلك الياقوتة حتى أمر الله إبراهيم عليه السلام ببناء البيت فبناه فذلك قوله تعالى وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت(1/27)
وعن ابن عباس أن الله أوحى إلى آدم أن لي حرما بحيال عرشي فانطلق فابن لي بيتا فيه ثم حف به كما رأيت ملائكتي يحفون بعرشي فهنالك أستجيب لك ولولدك من كان منهم في طاعتي
فقال آدم أي رب وكيف لي بذلك لست أقوى عليه ولا أهتدي لمكانه
فقيض الله له ملكا فانطلق به نحو مكة فكان آدم عليه السلام إذا مر بروضة ومكان يعجبه قال للملك انزل بنا هاهنا فيقول له الملك أمامك
حتى قدم مكة فبني البيت من خمسة أجبل من طور سيناء وطور زيتا ومن لبنان والجودي وبني قواعده من حراء
فلما فرغ من بنائه خرج به الملك إلى عرفات فأراه المناسك كلها التي يفعلها الناس اليوم ثم قدم به مكة فطاف بالبيت أسبوعا ثم رجع إلى أرض الهند فمات بها
وفي رواية أنه حج من الهند أربعين حجة على رجليه
وذكر الواقدي عن أبي بكر بن سليمان بن أبي خيثمة العدوى قال قلت لأبي جهم ابن حذيفة يا عم حدثني عن بناء البيت ونزول إسماعيل عليه السلام الحرم
قال يابن أخي سلني عنه على نشاط مني فإني أعلم من ذلك ما لا يعلمه غيري
قال فمكثت شهرا أذكره المرة بعد المرة فيقول مثل قوله الأول وكان قد كبر ورق وضعف فدخلت عليه يوما وهو مسرور فقال لي اسمع حديثك الذي سألتني عنه
إن البيت بناؤه حرم في السماء السابعة وفي الأرض السابعة يعني أن ما يقابله حرم
وإن آدم عليه السلام أمر بأساسه فبناه هو وحواء أسساه بصخر أمثال الخلفات يعني النوق التي في بطونها أجنة واحدتها خلفة أذن الله عز وجل للصخر أن يطيعهما
ثم نزل البيت من السماء من ذهب أحمر وكل به من الملائكة سبعون ألف ملك فوضعوه على أس آدم عليه السلام ونزل الركن وهو يومئذ درة بيضاء فوضع موضعه اليوم من البيت وطاف به آدم وصلى فيه
فلما مات آدم عليه السلام وليه بعده ابنه شيث فكان كذلك حتى حجه نوح عليه السلام(1/28)
فلما كان الغرق يعني الطوفان بعث الله جل ثناؤه سبعين ألف ملك فرفعوه إلى السماء كي لا يصيبه الماء النجس وبقيت قواعده وجاءت السفينة فدارت به سبعا ثم دثر البيت فلم يحجه من بين نوح وبين إبراهيم أحد من الأنبياء على جميعهم السلام
وعن غير الواقدي في غير حديث أبي الجهم أن شيث بن آدم عليهما السلام هو أول من بنى الكعبة وأنها كانت قبل أن يبنيها خيمة من ياقوتة حمراء يطوف بها آدم ويأنس بها لأنها أنزلت إليه من الجنة وكان قد حج إلى موضعها من الهند
وفي الخبر أن موضعها كان غثاء على الماء قبل أن يخلق الله السموات والأرض فلما بدأ الله خلق الأشياء خلق التربة قبل السماء فلما خلق السماء وقضاهن سبع سماوات دحا الأرض أي بسطها وإنما دحاها من تحت الكعبة فلذلك سميت مكة أم القرى
وذكر ابن هشام أن الماء لم يصل الكعبة حين الطوفان ولكنه قام حولها وبقيت هي في هواء إلى السماء وأن نوحا قال لأهل السفينة وهي تطوف بالبيت إنكم في حرم الله عز وجل وحول بيته فأحرموا لله ولا يمس أحد امرأة وجعل بينهم وبين النساء حاجزا فتعدى حام فدعا عليه نوح بأن يسود الله لون بنيه فأجابه الله على وفق ما دعاه واسود كوش بن حام وولده إلى يوم القيامة
وقد قيل في سبب دعوته غير هذا فالله أعلم
ويروى أنه لما نضب ماء الطوفان بقي مكان البيت ربوة من مدرة فحج إليه بعد ذلك هود وصالح ومن آمن معهما وأن يعرب قال لهود عليه السلام ألا تبنيه قال إنما يبنيه نبي كريم يأتي من بعدي يتخذه الرحمن خليلا(1/29)
قال أبو الجهم من حديث الواقدي حتى أراد الله بإبراهيم ما أراد فولد له إسماعيل وهو ابن تسعين سنة فكان بكر أبيه فلما أراد الله عز وجل أن يبوئ لإبراهيم مكان البيت وأعلامه أوحى الله إليه يأمره بالمسير إلى بلده الحرام فركب إبراهيم البراق وحمل إسماعيل أمامه وهو ابن سنتين وهاجر خلفه ومعه جبريل يدله على موضع البيت ومعالم الحرم فكان لا يمر بقرية إلا قال له إبراهيم بهذه أمرت يا جبريل فيقول جبريل لا حتى قدم به مكة وهي إذ ذاك عضاة وسلم وسمر والعماليق يومئذ حول الحرم وهم أول من نزل مكة ويكونون بعرفة وكانت المياه يومئذ قليلة وكان موضع البيت قد دثر وهو ربوة حمراء مدرة وهو يشرف على ما حوله فقال جبريل حين دخل من كداء وهو الجبل الذي يطلعك على الحجون والمقبرة بهذا أمرت قال إبراهيم بهذا أمرت قال نعم
فانتهى إلى موضع البيت فعمد إبراهيم إلى موضع الحجر فآوى فيه هاجر وإسماعيل وأمر هاجر أن تتخذ فيه عريشا فلما أراد إبراهيم أن يخرج ورأت أم إسماعيل أنه ليس بحضرتها أحد من الناس ولا ماء ظاهر تركت ابنها في مكانه وتبعت إبراهيم فقالت يا إبراهيم إلى من تدعنا فسكت عنها حتى إذا دنا من كداء قال إلى الله عز وجل أدعكم فقالت فالله عز وجل أمرك بهذا قال نعم قالت فحسبي تركتنا إلى كاف
وانصرفت هاجر إلى ابنها وخرج إبراهيم حتى وقف على كداء ولا بناء ولا ظل ولا شيء يحول دون ابنه فنظر إليه فأدركه ما يدرك الوالد من الرحمة لولده فقال ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفي على الله من شيء في الأرض ولا في السماء(1/30)
ثم انصرف إبراهيم راجعا إلى الشام وعمدت هاجر فجعلت عريشا في موضع الحجر من سمر وثمام ألقته عليه ومعها شن فيه شيء من ماء فلما نفد الماء عطش إسماعيل وعطشت أمه فانقطع لبنها فأخذ إسماعيل كهيئة الموت فظنت أنه ميت فجزعت وخرجت جزعا أن تراه على تلك الحال وقالت يموت وأنا غائبة عنه أهون علي وعسى الله أن يجعل لي في ممشاي خيرا
فانطلقت فنظرت إلى جبل الصفا فأشرفت عليه تستغيث ربها عز وجل وتدعوه ثم انحدرت إلى المروة فلما كانت في الوادي خبت حتى انتهت إلى المروة فعلت ذلك سبع مرار كلما أشرفت على الصفا نظرت إلى ابنها فتراه على حاله وإذا أشرفت على المروة فمثل ذلك
فكان ذلك أول ما سعى بين الصفا والمروة وكان من قبلها يطوفون بالبيت ولا يسعون بين الصفا والمروة ولا يقفون المواقف حتى كان إبراهيم
فلما كان الشوط السابع ويئست سمعت صوتا فاستمعت فلم تسمع إلا الأول فظنت أنه شيء عرض لسمعها من الظمأ والجهد
فنظرت إلى ابنها فإذا هو يتحرك فأقامت على المروة مليا ثم سمعت الصوت الأول فقالت إني سمعت صوتك فأعجبني فإن كان عندك خير فأغثني فإني قد هلكت وهلك ما عندي
فخرج الصوت يصوت بين يديها وخرجت تتلوه قد قويت له نفسها حتى انتهى الصوت عند رأس إسماعيل ثم بدا لها جبريل فانطلق بها حتى وقف على موضع زمزم فضرب بعقبة مكان البئر فظهر الماء فوق الأرض حين فحص بعقبه وفارت بالرواء وجعلت أم إسماعيل تحظر الماء بالتراب خشية أن يفوتها قبل أن تأتي بشنتها فاستقت وبادرت إلى ابنها فسقته وشربت فجعل ثدياها يتقطران لبنا فكان ذلك اللبن طعاما وشرابا لإسماعيل وكانت تجتزئ بماء زمزم فقال لها الملك لا تخافي أن ينفد هذا الماء وأبشرى فإن ابنك سيشب ويأتي أبوه من الشام فتبنون ها هنا بيتا يأتيه عباد الله من أقطار الأرضين ملبين لله جل ثناؤه شعثا غبرا فيطوفون به ويكون هذا الماء شرابا لضيفان الله عز وجل الذين يزورون بيته(1/31)
فقالت بشرك الله بخير وطابت نفسها وحمدت الله عز وجل
ويقبل غلامان من العماليق يريدان بعيرا لهما أخطأهما فقد عطشا وأهلهما بعرفة فنظرا إلى طير يهوي قبل الكعبة فاستنكرا ذلك وقالا أنى يكون الطير على غير ماء فقال أحدهما لصاحبه أمهل حتى نبرد ثم نسلك في مهوى الطير
فأبردا ثم تروحا فإذا الطير ترد وتصدر فاتبعا الواردة منها حتى وقفا على أبي قبيس فنظرا إلى الماء وإلى العريش فنزلا وكلما هاجر وسألاها متى نزلت فأخبرتهما وقالا لمن هذا الماء فقالت لي ولابني فقالا من حفره فقالت سقيا الله جل ثناؤه
فعرفا أن أحدا لا يقدر على أن يحفر هناك ماء وعهدهما بما هناك قريب وليس به ماء
فرجعا إلى أهلهما من ليلتهما فأخبراهم فتحولوا حتى نزلوا معها على الماء فأنست بهم ومعهم الذرية فنشأ إسماعيل مع ولدانهم
وكان إبراهيم يزور هاجر في كل شهر على البراق يغدو غدوة فيأتي مكة ثم يرجع فيقيل في منزله بالشام
فزارها بعد ونظر إلى من هناك من العماليق وإلى كثرتهم وغمارة الماء فسر بذلك
ولما بلغ إسماعيل عليه السلام تزوج امرأة من العماليق فجاء إبراهيم زائرا لإسماعيل وإسماعيل في ماشية يرعاها ويخرج متنكبا قوسه فيرمى الصيد مع رعيته فجاء إبراهيم عليه السلام إلى منزله فقال السلام عليكم يا أهل البيت
قال فسكتت فلم ترد إلا أن تكون ردت في نفسها فقال هل من منزل فقالت لا هيم الله إذن قال فكيف طعامكم وشرابكم وشاؤكم فذكرت جهدا فقالت أما الطعام فلا طعام وأما الشاء فإنما نحلب الشاة بعد الشاة المصر وأما الماء فعلى ما ترى من الغلظ قال فأين رب البيت قالت في حاجته
قال فإذا جاء فأقرئيه السلام وقولي له غير عتبة بيتك
ورجع إبراهيم إلى منزله وأقبل إسماعيل راجعا إلى منزله بعد ذلك بما شاء الله عز وجل فلما انتهى إلى منزله سأل امرأته هل جاءك أحد فأخبرته بإبراهيم وقوله وما قالت له ففارقها وأقام ما شاء الله أن يقيم(1/32)
وكانت العماليق هم ولاة الحكم بمكة فضيعوا حرمة الحرم واستحلوا منه أمورا عظاما ونالوا ما لم يكونوا ينالون فقام فيهم رجل منهم يقال له عموق فقال يا قوم أبقوا على أنفسكم فقد رأيتم وسمعتم من أهلك من هذه الأمم فلا تفعلوا تواصلوا ولا تستخفوا بحرم الله عز وجل وموضع بيته
فلم يقبلوا ذلك منه وتمادوا في هلكة أنفسهم
ثم إن جرهما وقطوراء وهما أبناء عم خرجوا سيارة من اليمن أجدبت البلاد عليهم فساروا بذراريهم وأموالهم فلما قدموا مكة رأوا فيها ماء معينا وشجرا ملتفا ونباتا كثيرا وسعة من البلاد ودفئا في الشتاء
فقالوا إن هذا الموضوع يجمع لنا ما نريد
فأعجبهم ونزلوا به وكان لا يخرج من اليمن قوم إلا ولهم ملك يقيم أمرهم سنة فيهم جروا عليها واعتادوها ولو كانوا نفرا يسيرا
فكان مضاض بن عمرو على قومه من جرهم وكان على قطوراء السميدع رجل منهم
فنزل مضاض بمن معه من جرهم أعلى مكة بقعيقعان فما حاز
ونزل السميدع بقطوراء أسفل مكة بأجياد فما حاز
وذهبت العماليق إلى أن ينازعوهم أمرهم فعلت أيديهم على العماليق وأخرجوهم من الحرم كله فصاروا في أطرافه لا يدخلونه
وجعل مضاض والسميدع يقطعان المنازل لمن ورد عليهما من قومهما فكثروا وأثروا فكان مضاض يعشر كل من دخل مكة من أعلاها وكان السميدع يعشر كل من دخل من أسفلها وكل على قومه لا يدخل أحدهما على صاحبه وكانوا قوما عربا وكان اللسان عربيا
وكان إبراهيم يزور إسماعيل فلما نظر إلى جرهم نظر إلى لسان عجيب وسمع كلاما حسنا ونظر إسماعيل إلى رعلة بنت مضاض بن عمرو فأعجبته فخطبها إلى أبيها فتزوجها
فجاء إبراهيم زائرا لإسماعيل فجاء إلى بيت إسماعيل فقال السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله فقامت إليه المرأة فردت عليه ورحبت به فقال كيف عيشكم ولبنكم وماشيتكم فقالت خير عيش بحمد الله عز وجل نحن في لبن كثير ولحم كثير وماؤنا طيب قال هل من حب قالت يكون إن شاء الله ونحن في نعم قال بارك الله لكم(1/33)
قال أبو جهم فكان أبي يقول ليس أحد يخلى عن اللحم والماء بغير مكة إلا اشتكى بطنه ولعمري لو وجد عندنا حبا لدعا فيه بالبركة فكانت أرض زرع
ويقال إن إبراهيم قال لها ما طعامكم قالت اللحم واللبن قال فما شرابكم قالت اللبن والماء قال بارك الله لكم في طعامكم وشرابكم فاللبن طعام وشراب
قالت فانزل رحمك الله فاطعم واشرب قال إني لا أستطيع النزول قالت فإني أراك شعثا أفلا أغسل رأسك وأدهنه قال بلى إن شئت فجاءته بالمقام وهو يومئذ حجر رطب أبيض مثل المهاة ملقى في بيت إسماعيل فوضع عليه قدمه اليمنى وقدم إليها رأسه وهو على دابته فغسلت شق رأسه الأيمن فلما فرغت حولت له المقام حتى وضع قدمه اليسرى وقدم إليها رأسه فغسلت شق رأسه الأيسر فالأثر الذي في المقام من ذلك قال أبو الجهم فقد رأيت موضع العقب والإصبع
وعن الواقدي من غير حديث أبي الجهم أن أبا سعيد الخدري سأل عبدالله بن سلام عن الأثر الذي في المقام فقال كانت الحجارة على ما هي عليه اليوم إلا أن الله جل ثناؤه أراد أن يجعل المقام آية من آياته
قال أبو الجهم فلما فرغت يعني المرأة من غسل رأس إبراهيم عليه السلام قال لها إذا جاء إسماعيل فقولي له أثبت عتبة بابك فإن صلاح المنزل العتبة
فلما جاء إسماعيل قال هل جاءك أحد بعدي فأخبرته بإبراهيم وما صنعت به ثم قال لها هل قال لك أن تقولي لي شيئا قالت قال لي أثبت عتبة بابك فإن صلاح المنزل العتبة
ففرح إسماعيل وقال أتدرين من هو قالت لا قال هذا خليل الله إبراهيم أبي وأما قوله أثبت عتبة بابك فقد أمرني أن أقرك وقد كنت علي كريمة وقد ازددت علي كرامة فصاحت وبكت فقال مالك قالت ألا أكون علمت بمن هو فأكرمه وأصنع به غير الذي صنعت فقال لها إسماعيل لا تبكي ولا تجزعي فقد أحسنت ولم تكوني تقدرين أن تفعلي فوق الذي فعلت ولم يكن ليزيدك على الذي صنع بك
فولدت لإسماعيل عشرة ذكور أحدهم نابت(1/34)
فلما بلغ إسماعيل ثلاثين سنة وإبراهيم يومئذ ابن مائة سنة أوحى الله جل ثناؤه إلى إبراهيم أن ابن لي بيتا قال إبراهيم أي رب أين أبنيه فأوحى الله إليه أن اتبع السكينة وهي ريح لها وجه وجناحان ومع إبراهيم الملك والصرد
فانتهوا بإبراهيم إلى مكة فنزل إسماعيل إلى الموضع الذي بوأه الله جل وعز لإبراهيم وموضع البيت ربوة حمراء مدرة مشرفة على ما حولها
فحفر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وليس معهما غيرهما أساس البيت يريدان أساس آدم الأول
فحفرا عن ربض البيت يعني حوله فوجدا صخرة لا يطيقها إلا ثلاثون رجلا وحفرا حتى بلغا أساس آدم ثم بنى عليه وحلقت السكينة كأنها سحابة على موضع البيت فقالت ابن علي
فلذلك لا يطوف بالبيت أحد أبدا كافر ولا جبار إلا رأيت عليه السكينة
فبنى إبراهيم وإسماعيل البيت فجعل طوله في السماء تسع أذرع وعرضه ثلاثين ذراعا وطوله في الأرض اثنين وعشرين ذراعا وأدخل الحجر وهو سبعة أذرع في البيت وكان قبل ذلك زربا لغنم إسماعيل
وإنما بناه بحجارة بعضها على بعض ولم يجعل له سقفا وجعل له بابا وحفر له بئرا عند بابه خزانة للبيت يلقى فيها ما أهدي للبيت وجعل الركن علما للناس
فذهب إسماعيل إلى الوادي يطلب حجرا ونزل جبريل بالحجر الأسود وكان قد رفع إلى السماء حين غرقت الأرض كما رفع البيت فنزل به جبريل فوضعه إبراهيم موضع الركن وجاء إسماعيل بالحجر من الوادي فوجد إبراهيم قد وضع الحجر فقال من أين هذا من جاءك به قال إبراهيم من لم يكلني إليك ولا إلى حجرك
وعن الواقدي أيضا من غير حديث أبي الجهم أن يزيد بن رومان قال سمعت ابن الزبير يقول إن إبراهيم عليه السلام ابتغى الحجر فناداه من فوق أبي قبيس ألا أنا هذا فرقى إليه إبراهيم فأخذه فوضعه الذي هو فيه اليوم
وكان الله جل ثناؤه لما غرقت الأرض استودع أبا قبيس الركن وقال إذا رأيت خليلي يبني لي بيتا فأعطه الركن فأعطاه الركن(1/35)
وعن غير ابن الزبير أن أبا قبيس لذلك كان يسمى في الجاهلية الأمين لوفائه بما استودعه الله إياه
قال أبو جهم ولما فرغ إبراهيم من بناء البيت وأدخل الحجر في البيت جعل المقام لاصقا بالبيت عن يمين الداخل فلما كانت قريش قصر الخشب عليهم فأخرجوا الحجر وكان ما أخرجوا منه سبعة أذرع
وأمر إبراهيم بعد فراغه من البناء أن يؤذن في الناس بالحج فقال يا رب وما يبلغ صوتي
قال الله جل ثناؤه أذن وعلي البلاغ
فارتفع على المقام وهو يومئذ ملصق بالبيت فارتفع به المقام حتى كان أطول الجبال فنادى وأدخل إصبعيه في أذنيه وأقبل بوجهه شرقا وغربا يقول أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فأجيبوا ربكم عز وجل
فأجابه من تحت البحور السبعة ومن بين المشرق والمغرب إلى منقطع التراب من أطراف الأرض كلها لبيك اللهم لبيك أفلا تراهم يأتون يلبون
فمن حج من يومئذ إلى يوم القيامة فهو ممن استجاب لله عز وجل
وذلك قول الله جل ثناؤه فيه آيات بينات مقام إبراهيم ( 97 آل عمران ) يعني نداء إبراهيم على المقام بالحج فهي الآية
قال الواقدي وقد روى أن الآية هي أثر إبراهيم على المقام
قال أبو الجهم فلما فرغ إبراهيم من الأذان ذهب به جبريل فأراه الصفا والمروة وأقامه على حدود الحرم وأمره أن ينصب عليها الحجارة ففعل إبراهيم ذلك وكان أول من أقام أنصاب الحرم ويريه إياها جبريل
فلما كان اليوم السابع من ذي الحجة خطب إبراهيم عليه السلام بمكة حين زاغت الشمس قائما وإسماعيل جالس ثم خرجا من الغد يمشيان على أقدامهما يلبيان محرمين مع كل واحد منهما إداوة يحملها وعصا يتوكأ عليها فسمى ذلك اليوم يوم التروية(1/36)
فأتيا مني فصليا بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح وكانا نزلا في الجانب الأيمن ثم أقام حتى طلعت الشمس على ثبير ثم خرج يمشي هو وإسماعيل حتى أتيا عرفة وجبريل معهما يريهما الأعلام حتى نزلا بنمرة وجعل يريه أعلام عرفات وكان إبراهيم قد عرفها قبل ذلك فقال إبراهيم قد عرفت فسميت عرفات
فلما زاغت الشمس خرج بهما جبريل عليه السلام حتى انتهى بهما إلى موضع المسجد اليوم فقام إبراهيم فتكلم بكلمات وإسماعيل جالس ثم جمع بين الظهر والعصر ثم ارتفع بهما إلى الهضاب فقاما على أرجلهما يدعوان إلى أن غابت الشمس وذهب الشعاع ثم دفعا من عرفة على أقدامهما حتى انتهيا إلى جمع فنزلا فصلى إبراهيم المغرب والعشاء في ذلك الموضع الذي يصلى فيه اليوم ثم باتا حتى إذا طلع الفجر وقفا على قزح فلما أسفر قبل طلوع الشمس دفعا على أرجلهما حتى انتهيا إلى محسر فأسرعا حتى قطعاه ثم عادا إلى مشيهما الأول ثم رميا جمرة العقبة بسبع حصيات حملاها من جمع ثم نزلا من منى في الجانب الأيمن ثم ذبحا في المنحر اليوم وحلقا رءوسهما ثم أقاما أيام منى يرميان الجمار حين تزيغ الشمس ماشيين ذاهبين وراجعين وصدرا يوم الصدر فصليا الظهر بالأبطح وكل هذا يريه جبريل عليه السلام
قال أبو الجهم فلما فرغ إبراهيم من الحج انطلق إلى منزله بالشام فكان يحج البيت كل عام وحجته سارة وحجه إسحاق ويعقوب والأسباط والأنبياء هلم جرا
وحجه موسى بن عمران عليه السلام
روي الواقدي بإسناد له عن ابن عباس قال مر موسى عليه السلام بصفاح الروحاء يلبي تجاوبه الجبال عليه عباءتان قطوانيتان من عباء الشام
وعن جابر بن عبد الله قال حج هارون نبي الله البيت فمر بالمدينة يريد الشام فمرض بالمدينة فأوصى أن يدفن بأصل أحد ولا تعلم به يهود مخافة أن ينبشوه فدفنوه فقبره هناك
وعن ابن عباس أن الحواريين كانوا إذا بلغوا الحرم نزلوا يمشون حتى يأتوا البيت(1/37)
وعن ابن الزبير أن الحواريين خلعوا نعالهم حين دخلوا الحرم إعظاما أن ينتعلوا فيه
ثم توفى الله خليله إبراهيم {صلى الله عليه وسلم} بعد أن وجه إليه ملك الموت فاستنظره إبراهيم ثم أعاده إليه لما أراد الله قبضه فأخبره بما أمر به فسلم إبراهيم لأمر ربه عز وجل فقال له ملك الموت يا خليل الله على أي حال تحب أن أقبضك
قال تقبضني وأنا ساجد فقبضه وهو ساجد وصعد بروحه إلى الله عز وجل ودفن إبراهيم عليه السلام بالشام
وعاش إسماعيل عليه السلام بعد أبيه ما عاش وتوفي بمكة فدفن داخل الحجر مما يلي باب الكعبة وهنالك قبر أمه هاجر دفن معها وكانت توفيت قبله
ولما توفي إسماعيل عليه السلام ولي البيت بعده ابنه نابت ولم يله أحد من ولد غيره
ثم مات فدفن في الحجر مع أمه رعلة بنت مضاض
فولى البيت بعده جده مضاض بن عمرو ثم أخواله من جرهم وقاموا عليه فكانوا هم ولاته وحجابه وولاة الأحكام بمكة
وكان البيت قد دخله السيل من أعلى مكة فانهدم فأعادته جرهم على بناء إبراهيم وجعلت له مصراعين وقفلا
قال ابن إسحاق ثم إن جرهما وقطوراء بغى بعضهم على بعض وتنافسوا الملك بها ومع مضاض يومئذ بنو إسماعيل وبنو نابت وإليه ولاية البيت دون السميدع
فسار بعضهم إلى بعض فخرج مضاض من قعيقعان في كتيبته سائرا إلى السميدع ومع كتيبته عدتها من الرماح والدرق والسيوف والجعاب يقعقع بذلك معه
فيقال ما سمي قعيقعان قعيقعان إلا لذلك
وخرج السميدع من أجياد ومعه الخيل والرجال
فيقال ما سمي أجياد أجيادا إلا لخروج الجياد من الخيل مع السميدع منه
وغير ابن إسحاق يقول إنما سمي أجيادا لأن مضاضا ضرب في ذلك الموضع أجياد مائة رجل من العمالقة وقيل بل أمر بعض الملوك غير مسمى بضرب رقاب فيه فكان يقول لسيافه توسط الأجياد وهذا ونحوه أصح في تسمية الموضع بأجياد مما قال ابن إسحاق
قال فالتقوا بفاضح فاقتتلوا قتالا شديدا فقتل السميدع وفضحت قطوراء فيقال ما سمي فاضح فاضحا إلا بذلك(1/38)
ثم إن القوم تداعوا إلى الصلح فساروا حتى نزلوا المطابخ شعبا بأعلى مكة فاصطلحوا به وأسلموا الأمر إلى مضاض
فلما رجع إليه أمر مكة فصار ملكها له نحر للناس وأطعمهم فاطبخ الناس وأكلوا فيقال ما سميت المطابخ المطابخ إلا لذلك وبعض أهل العلم يزعم أنها إنما سميت بذلك لما كان تبع نحر بها وأطعم وكانت منزله
فكان الذي كان بين مضاض والسميدع أول بغي كان بمكة فيما يزعمون
ثم نشر الله ولد إسماعيل بمكة وأخوالهم من جرهم ولاة البيت والحكام بمكة لا ينازعهم ولد إسماعيل في ذلك لخئولتهم وقرابتهم وإعظاما للحرمة أن يكون بها بغي أو قتال
فلما ضاقت مكة على ولد إسماعيل انتشروا في البلاد فلا يناوئون قوما إلا أظهرهم الله عليهم بدينهم فوطئوهم
ثم إن جرهم بغوا بمكة واستحلوا حلالا من الحرمة وظلموا من دخلها من غير أهلها وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى لها فرق أمرهم
فلما رأت ذلك بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة وغبشان من خزاعة أجمعوا لحربهم وإخراجهم من مكة فآذنوهم بالحرب
فاقتتلوا فغلبتهم بنو بكر وغبشان فنفوهم من مكة
وكانت مكة في الجاهلية لا تقر فيها ظلما ولا بغيا ولا يبغي فيها أحد إلا أخرجته فكانت تسمى الناسة ولا يريدها ملك يستحل حرمتها إلا هلك مكانه فيقال ما سميت ببكة إلا أنها كانت تبك أعناق الجبابرة إذا أحدثوا فيها شيئا
فلم يزل أهلها على وجه الدهر يصونون جنابها ويحافظون على حرمتها(1/39)
يقال إنه اجتمع رأى بني إسماعيل وخيارهم على أن لا يدعوا أحدا أحدث في حرم الله حدثا إلا غربوه منه ثم لم يرجع فيه ويقال بل كان ذلك مما سن لهم أولوهم فصارت سنة فيهم يدينون بها ثم خلف من خلف بعدهم على ذلك يرون فيه رأيهم وتكبر مواقعة الظلم في حرم الله والتعدي به في نفوسهم ويعتقدون أن الباغي فيه معاقب في دنياه في نفسه وماله وأن الحالف عند البيت حانثا مخوف عليه مما أصاب قبله ممن فعل فعله وأن دعاء المظلوم عنده وخصوصا في الشهر الحرام مجاب في ظالمه ويؤثرون في ذلك أشياء أراها الله إياهم صونا لحرمه الكريم وتنزيها لبيت خليله إبراهيم
ذكر الواقدي من حديث عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث قال عدا رجل من بني كنانة بن هذيل على ابن عم له وظلمه واضطهده فناشده بالرحم وعظم عليه فأبى إلا ظلمه فقال والله لألحقن بحرم الله في هذا الشهر ولأدعون الله عليك فقال له ابن عمه مستهزئا به هذه ناقتي فلانة فأنا أفقرك ظهرها فاذهب فاجتهد
فأعطاه ناقة وخرج حتى جاء الحرم في الشهر الحرام فقال اللهم إني أدعوك جاهدا مضطرا على ابن عمي فلان ترميه بداء لا دواء له
ثم انصرف فيجد ابن عمه قد رمى في بطنه فصار مثل الزق فما زال ينتفخ حتى انشق
قال عبد المطلب لحدثت بهذا الحديث ابن عباس فقال أنا رأيت رجلا دعا على ابن عم له بالعمى يعني في الحرم فرأيته يقاد أكمة العميان
وعن ابن عباس قال سمعت عمر بن الخطاب يسأل رجلا من بني سليم عن ذهاب بصره فقال الرجل يا أمير المؤمنين كنا في بني ضبعاء عشرة وكان لنا ابن عم فكنا نظلمه ونضطهده فكان يذكرنا بالله والرحم وكنا أهل بيت نرتكب كل الأمور فلما رأى ابن عمنا أنا لا نكف عنه ولا نرد إليه ظلامته أمهل حتى دخلت الأشهر الحرم انتهى إلى الحرم فجعل يرفع يديه إلى الله جل ثناؤه ويقول
لا هم أدعوك دعاء جاهدا
اقتل بني الضبعاء إلا واحدا
ثم اضرب الرجل ودعه قاعدا
أعمى إذا قيد يعنى القائدا(1/40)
قال فمات إخوتي تسعة في تسعة أشهر في كل شهر واحد وبقيت أنا فعميت ورماني الله عز وجل في رجلي وكمهت فليس يلائمني قائد
قال ابن عباس فسمعت عمر يقول سبحان الله إن هذا لهو العجب
قال وسمعت عمر يسأل ابن عمهم الذي دعا عليهم فقال دعوت عليهم كل ليلة في ليالي رجب الشهر كله بهذا الدعاء فأهلكوا في تسعة أشهر وأصاب الباقي ما أصابه
قال ابن عباس وعدا رجل على ابن عم له فاستاق ذودا له فخرج يطلبه حتى أصابه في الحرم فقال ذودي فقال اللص كذبت ليس لك قال فاحلف قال إذا أحلف فحلف عند المقام بالله الخالق رب هذا البيت ما هن لك
فقيل له لا سبيل لك عليه
فقام رب الذود بين الركن والمقام باسطا يديه يدعو على صاحبه فما برح مقامه يدعو عليه حتى فذهب عقله فجعل يصيح بمكة مالي وللذود مالي ولفلان رب الذود
فبلغ ذلك عبد المطلب فجمع الذود فدفعها إلى المظلوم فخرج بها وبقي الآخر مدلها حتى تردى من جبل فمات فأكلته السباع
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لو وجدت قاتل الخطاب في الحرم ما هجته
وكان يقول لأن أذنب بركبة سبعين ذنبا أحب إلى من أن أذنب ذنبا واحدا في الحرم
وركبة خارج الحرم محاذية لذات عرق
وذكر رضي الله عنه يوما وهو خليفة ما كان يعاقب به من حلف ظلما يعني في الحرم زمن الجاهلية فقال إن الناس ليرتكبون ما هو أعظم منها ثم لا يعجل لهم من العقوبة مثل ما كان يعجل لأولئك فما ترون ذلك
فقالوا أنت أعلم يا أمير المؤمنين
قال إن الله جل ثناؤه جعل في الجاهلية إذ لا دين حرمة حرمها وعظمها وشرفها وجعل العقوبة لمن استحل شيئا مما حرم ليتنكب عن انتهاك ما حرم مخافة تعجيل العقوبة فلما بعث الله رسوله {صلى الله عليه وسلم} أوعدهم فيما انتهكوا مما حرم الساعة فقال والساعة أدهى وأمر ( 46 البقرة )
فأخر العقاب إلى يوم القيامة وأراهم الله الاستجابة بعضهم لبعض ليتناهوا عن الظلم وأخر أهل الإسلام ليوم الجمع ويستجيب الله لمن يشاء فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين(1/41)
ومن المشهور في هذا الباب أمر إساف ونائلة وهما صنما قريش اللذان أقاموهما على زمزم ينحرون عندهما ذكروا أنهما كانا رجلا وامرأة من جرهم إساف بن بغي ونائلة بنت ديك فوقع إساف على نائلة في الكعبة فمسخهما الله حجرين ويقال أحدثا فيها فمسخهما الله فالله أعلم
وأمرهما معدود فيما بلغت إليه جرهم من الاستخفاف بحرمة الحرم وقلة مبالاتهم بالبغي فيه مع ما أراهم الله من عظيم الآية بمسخهما حجرين فما نهاهم ذلك عن قبيح ما كانوا عليه حتى أخرجهم الله عن جوار بيته بأيدي آخرين من عباده فكان من أمرهم مع خزاعة ما كان
فخرج عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي بغزالي الكعبة وبحجر الركن فدفنها في زمزم وانطلق هو ومن معه من جرهم إلى اليمن وحزنوا على ما فارقوا من أمر مكة وملكها حزنا شديدا
فقال عمرو بن الحارث بن مضاض في ذلك وليس بمضاض الأكبر
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا
صروف الليالي والجدود العواثر
وكنا ولاة البيت من بعد نابت
نطوف بذاك البيت والخير ظاهر
ونحن ولينا البيت من بعد نابت
بعز فما يحظى لدينا المكاثر
ملكنا فعززنا فأعظم بملكنا
فليس لحي غيرنا ثم فاخر
ألم تنكحوا من خير شخص علمته
فأبناؤه منا ونحن الأصاهر
فإن تنثني الدنيا علينا بحالها
فإن لها حالا وفيها التشاجر
فأخرجنا منها المليك بقدرة
كذلك يا للناس تجري المقادر
أقول إذا نام الخلي ولم أنم
أذا العرش لا يبعد سهيل وعامر
وبدلت منها أوجها لا أحبها
قبائل منها حمير ويحابر
وصرنا أحاديثا وكنا بغبطة
بذلك عضتنا السنون الغوابر
فسحت دموع العين تبكي لبلدة
بها حرم أمن وفيها المشاعر
وتبكي لبيت ليس يؤذى حمامه
يظل به أمنا وفيه العصافر
وفيه وحوش لا ترام أنيسة
إذا خرجت منه فليست تغادر
وقال عمرو بن الحارث أيضا يذكر بكر بكرا او غبشان وساكني مكة الذين خلفوا فيما بعدهم
يا أيها الناس سيروا إن قصركم
أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا(1/42)
حثوا المطي وأرخوا من أزمتها
قبل الممات وقضوا ما تقضونا
كنا أناسا كما كنتم فغيرنا
دهر فأنتم كما كنا تكونونا
قال ابن هشام هذا ما صح له منها وحدثني بعض أهل العلم بالشعر أن هذه الأبيات أول شعر قيل في العرب وأنها وجدت مكتوبة في حجر باليمن ولم يسم لنا قائلها
ثم إن غبشان من خزاعة وليت البيت دون بني بكر بن عبد مناة
وغبشان لقب واسمه الحارث وخزاعة يقال إنهم من ولد قمعة بن إلياس بن مضر وأن أباهم عمرو بن لحي هو عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف وخزاعة يأبون هذا النسب ويقولون إنهم من ولد كعب بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن غسان
وقد روى أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال أريت عمرو بن لحي بن قمعة بن بن خندف يجر قصبة في النار فسألته عمن بيني وبينه من الأمم فقال هلكوا
فقيل له ومن عمرو بن لحي قال أبو هؤلاء الحي من خزاعة وهو أول من غير الحنيفية دين إبراهيم وأول من من نصب الأوثان حول الكعبة
فإن كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال هذا فرسول الله أعلم وما قال فهو الحق
وعمرو بن ربيعة الذي تنتسب إليه خزاعة يقال هو عمرو بن لحي وإن حارثة بن ثعلبة بن عمرو خلف على أم لحي ولحي هو ربيعة بعد أن تأيمت من قمعة ولحي صغير فتبناه حارثة وانتسب إليه
فيكون النسب على هذا صحيحا بالوجهين إلى قمعة بالولادة وفق ما روى أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قاله وإلى حارثة بن ثعلبة بالتبني والانتساب به موجود كثيرا في العرب
فلما وليت خزاعة البيت حفظوه مما كانت جرهم استباحته وتوافروا على تعظيمه والذب عنه وكان الذي يليه منهم عمرو بن الحارث الغبشاني ثم قومه من بعده وقريش إذ ذاك حلول وصرم متقطعون و بيوتات متفرقون في قومهم من بني كنانة
فأقامت خزاعة على ولاية البيت يتوارثون ذلك كابرا عن كابر حتى كان آخرهم حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعي
وبعده انتقلت ولاية البيت إلى قصي بن كلاب(1/43)
وكان من حديث قصي أنه لما هلك أبوه كلاب بن مرة خلف ولديه زهرة وقصيا مع أمها فاطمة بنت سعد بن سيل من عذرة وزهرة يومئذ رجل وقصي فطيم فقدم مكة بعد مهلك كلاب حاج من قضاعة فيهم ربيعة بن حرام بن ضنة بن عبد كبير بن عذرة فتزوج فاطمة بنت سعد فاحتملها إلى بلاده فاحتملت ابنها قصيا لصغره وأقام زهرة في قومه
فولدت فاطمة لربيعة رزاحا فكان أخا قصي لأمه وكان لربيعة بنون ثلاثة من امرأة أخرى وهم حن ومحمود وجلهمة بنو ربيعة
وأقام قصي بأرض قضاعة لا ينسب إلا إلى ربيعة بن حرام
فناضل يوما رجلا من قضاعة يدعى رفيعا فنضله قصي وهو يومئذ شاب فغضب المنضول فوقع بينهما حتى تقاولا وتنازعا فقال رفيع ألا تلحق ببلدك وبقومك فإنك لست منا
فرجع قصي إلى أمه وقد وجد في نفسه مما قال فسألها عن ذلك فقالت أوقد قال هذا أنت والله يا بني أكرم منه نفسا ووالدا ونسبا وأشرف منزلا أنت ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة القرشي وقومك بمكة عند البيت الحرام وفيما حوله تفد
العرب إلى ذلك البيت وقد قالت لي كاهنة رأتك هذا يلي أمرا جليلا فطب نفسا
فأجمع قصي الخروج إلى قومه و اللحوق بهم وكره الغربة بأرض قضاعة وضاق ذرعا بالمقام فيهم فقالت له أمه لا تعجل حتى يدخل عليك الشهر الحرام فتخرج في حاج العرب فإني أخشى عليك أن يصيبك بعض الناس
فأقام قصي حتى إذا دخل الشهر الحرام وخرج حاج قضاعة خرج معهم وهم يظنون أنه إنما يريد الحج ثم يرجع إلى بلاده حتى قدم مكة فلما فرغ من الحج أقام بها وعالجه القضاعيون على الخروج معهم فأبى
وكان رجلا جلدا نهدا نسيبا فلم ينشب أن خطب إلى حليل بن حبشية ابنته حبي فعرف حليل النسب ورغب في الرحل فزوجه وحليل يومئذ يلي أمر مكة والحكم فيها وحجابة البيت
فأقام قصي معه بمكة وولدت له حبي بنيه عبد الدار وعبد مناف وعبد العزى وعبدا(1/44)
فلما انتشر ولد قصي وكثر ماله وعظم شرفه هلك حليل فرأى قصي أنه أولى بالكعبة وبأمر مكة من خزاعة وبني بكر وأن قريشا قرعة إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وصريح ولده
فكلم رجالا من قريش وبني كنانة ودعاهم إلى إخراج خزاعة وبني بكر من مكة فأجابوه إلى ذلك فكتب عند ذلك قصي إلى أخيه من أمه رزاح بن ربيعة يدعوه إلى نصرته والقيام معه فخرج رزاح ومعه إخوته لأبيه حن ومحمود وجلهمة فيمن تبعهم من قضاعة في حاج العرب وهم مجمعون لنصر قصي والقيام معه
فلما إجتمع الناس بمكة وفرغوا من الحج ولم يبق إلا أن يصدر الناس كان أول ما تعرض له قصي من المناسك أمر الإجازة للناس بالحج
وكانت صوفة هي التي تلي ذلك مع الدفع بهم من عرفة ورمى الجمار وهم ولد الغوث بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر
والغوث هو أول من ولي ذلك منهم
وذلك أن أمه كانت امرأة من جرهم وكانت لا تلد فنذرت لله إن هي ولدت ولدا أن تصدق به على الكعبة عبدا لها يخدمها ويقوم عليها فولدت الغوث وكان يقوم على الكعبة في الدهر الأول مع أخواله من جرهم فولى الإجازة بالناس من عرفة لمكانه الذي كان به من الكعبة وولده من بعده حتى انقرضوا
فقال مر بن أد أبو الغوث لوفاء نذر أمه
إني جعلت رب من بنيه
ربطه بمكة العلية
فباركن لي بها إليه
واجعله لي من صالح البرية
وكان الغوث بن مر زعموا إذا دفع بالناس قال
لا هم إني تابع تباعه
إن كان إثم فعلى قضاعه(1/45)
وذلك أن قضاعة كان منهم أحياء يستحلون الحرمة في الجاهلية فكانت صوفة تدفع بالناس من عرفة وتجيز بهم إذا نفروا من منى إذا كان يوم النفر أتوا لرمي الجمار ورجل من صوفة يرمي للناس لا يرمون حتى يرمي فكان ذوو الحاجات المتعجلون يأتونه فيقولون له قم فارم حتى نرمي معك فيقول لا والله حتى تميل الشمس فيظل ذوو الحاجات الذين يحبون التعجيل يرمونه بالحجارة ويستعجلونه بذلك ويقولون له ويلك قم فارم بنا فيأبي عليهم حتى إذا مالت الشمس قام فرمى ورمى الناس معه
فإذا فرغوا من رمى الجمار وأرادوا النفر من منى أخذت صوفة بجانبي العقبة فحبسوا الناس وقالوا أجيزي صوفة فلم يجز أحد من الناس حتى
يمروا فإذا نفذت صوفة ومضت خلى سبيل الناس فانطلقوا بعدهم فكانوا كذلك حتى انقرضوا
فورثهم ذلك من بعدهم بالقعدد بنو سعد بن زيد مناة بن تميم وكانت من بني سعد في آل صفوان بن الحارث بن شجنة بن عطارد بن عوف بن كعب بن سعد
فكان صفوان هو الذي يجيز للناس بالحج من عرفة ثم بنوه من بعده حتى كان آخرهم الذي قام عليه الإسلام كرب بن صفوان
وفي ذلك يقول ابن مغراء السعدي
لا يبرح الناس ما حجوا معرفهم
حتى يقال أجيزوا آل صفوانا
فأما قول ذي الإصبع العدواني واسمه حرثان بن عمرو وقيل له ذو الإصبع لحية لذعته في إصبعه فقطعها
عذير الحي من عدوان
كانوا حية الأرض
بغي بعضهم ظلما
فلم يرع على بعض
ومنهم كانت السادات
والموفون بالقرض
ومنهم من يجيز الناس
بالسنة والفرض
ومنهم حكم يقضي
فلا ينقض ما يقضي
وإنما قال ذلك لأن الإفاضة من المزدلفة كانت في عدوان وهو عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان يتوارثون ذلك كابرا عن كابر حتى كان آخرهم الذي قام عليه الإسلام أبو سيارة عميلة بن الأعزل
قال حويطب بن عبد العزي رأيت أبا سيارة يدفع بالناس من جمع على أتان له عقوق وذكروا أنه أجاز عليها أربعين سنة(1/46)
قالوا وكان إذا وقف بالناس قال اتقوا الله ربكم وأصلحوا أموالكم واحفظوا جيرانكم وقاتلوا أعداءكم اللهم حبب بين نسائنا وبغض بين رعائنا واجعل أمر الناس بأيدي صلحائنا ثم يقول أفيضوا على بركة الله
وفيه يقول شاعر من العرب
نحن دفعنا عن أبي سياره
وعن مواليه بني فزاره
حتى أجاز سالما حماره
مستقبل القبلة يدعو جاره
قوله حكم يقضي يعني عامر بن ظرب العدواني وكانت العرب لا يكون بينها ثائرة ولا عضلة في قضاء إلا أسندوا ذلك إليه ثم رضوا بما قضى فيه
فاختصم إليه في بعض ما كانوا يختلفون فيه في رجل خنثي له ما للرجل وله ما للمرأة أيجعله رجلا أو امرأة ولم يأتوه بأمر كان أعضل منه
فقال حتى أنظر في أمركم فو الله ما نزل بي مثل هذه منكم يا معشر العرب
فاستأخروا عنه فبات ليلته ساهرا يقلب أمره وينظر في شأنه فلا يتوجه له منه وجه وكانت له جارية يقال لها سخيلة ترعى عليه غنمه فكان يعاتبها إذا سرحت فيقول صبحت والله يا سخيل وإذا راحت عليه يقول مسيت والله يا سخيل وذلك أنها كانت تؤخر السرح حتى يسبقها بعض الناس وتؤخر الإراحة حتى يسبقها بعض الناس
فلما رأت سهره وقلة قراره على فراشه قالت مالك لا أبا لك ما عراك في ليلتك هذه قال ويلك دعيني أمر ليس من شأنك ثم عادت له بمثل قولها فقال في نفسه عسى أن تأتي مما أنا فيه بفرج فقال ويحك اختصم إلي في ميراث خنثي أأجعله رجلا أو امرأة فو الله ما أدري ما أصنع وما يتوجه لي فيه وجه
فقالت سبحان الله لا أبالك أتبع القضاء المبال أقعده فإن بال من حيث يبول الرجل فهو رجل وإن بال من حيث تبول المرأة فهو امرأة
قال مسي سخيل بعدها أو ضحي فرجتها والله
ثم خرج على الناس حين أصبح فقضى بالذي أشارت إليه
وهذا كله من الخبر معترض قطع اتصال حديث صوفة وقصي فنرجع الآن إليه ونصله بموضع انقطاعه(1/47)
حيث ذكر أن صوفة هي التي كانت تلي الإجازة بالناس من منى والدفع بهم من عرفة وأن قصيا عزم على انتزاع ذلك من أيديهم والقيام به دونهم واستدعى لمظاهرته على ذلك أخاه رزاحا فوصله مع من ذكر وصوله معه
فلما كان ذلك العام فعلت صوفة مثل ما كانت تفعل قد عرفت ذلك لها العرب وهو دين في أنفسهم من عهد جرهم وخزاعة
فأتاهم قصي بمن معه من قومه من قريش وكنانة وقضاعة عند العقبة فقال لنحن أولى بهذا الأمر منكم
فقاتلوه فاقتتل الناس قتالا شديدا ثم انهزمت صوفة وغلبهم قصي على ما كان بأيديهم من ذلك
وانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصي وعرفوا أنه سيمنعهم كما منع صوفة وأنه سيحول بينهم وبين الكعبة وأمر مكة فلما انحازوا عنه بادأهم وأجمع لحربهم وخرجت له خزاعة وبنو بكر فالتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا بالأبطح حتى كثرت القتلى في الفريقين جميعا وفشت الجراح فيهم وأكثر ذلك في خزاعة
ثم إنهم تداعوا إلى الصلح وإلى أن يحكموا بينهم رجلا من العرب فحكموا يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن قصي
فقضي بينهم أن قصيا أولى بالكعبة وأمر مكة من خزاعة وأن كل دم أصابه قصي من خزاعة وبني بكر موضوع يشدخه تحت قدميه وأن ما أصابت خزاعة وبنو بكر من قريش وكنانة وقضاعة ففيه الدية مؤداة وأن يخلى بين قصي وبين الكعبة ومكة
فسمي يعمر بن عوف يومئذ الشداخ لما شدخ من الدماء ووضع منها ويقال الشداح أيضا
فولى قصي البيت وأمر مكة وجمع قومه من منازلهم إلى مكة وتملك على قومه وأهل مكة فملكوه إلا أنه قد أقر العرب على ما كانوا عليه وذلك أنه كان يراه دينا في نفسه لا ينبغي تغييره
فأقر آل صفوان وعدوان والنسأة ومرة بن عوف على ما كانوا عليه حتى جاء الإسلام فهدم الله به ذلك كله
وبنو مرة بن عوف هم أهل البسل وقد تقدم ذكرهم
وأما النسأة فهم بنو فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر(1/48)
وهم الذين كانوا ينسأون الشهور على العرب في الجاهلية فيحلون الشهر من أشهر الحرم ويحرمون مكانه الشهر من أشهر الحل ويؤخرون ذلك الشهر ففيه أنزل الله سبحانه إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين 37 التوبة
وكان أول من نسأ الشهور منهم على العرب فأحلت منها ما أحل وحرمت منها ما حرم القلمس وهو حذيفة بن عبد بن فقيم بن عدي وتوارث ذلك بنوه من بعده حتى كان آخرهم الذي قام عليه الإسلام أبو ثمامة جنادة بن عوف بن أمية بن قلع بن عباد بن حذيفة وهو القلمس
قال الزبير وكان أبعدهم ذكرا وأطولهم أمرا يقال إنه نسأ أربعين سنة
وكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه فحرم الأشهر الحرم الأربعة رجبا وذا القعدة وذا الحجة والمحرم فإذا أراد أن يحل منها شيئا أحل المحرم فأحلوه وحرم مكانه صفرا فحرموه ليواطئوا عدة الأربعة الأشهر الحرم
فإذا أرادوا الصدر قام فيهم فقال اللهم إني قد أحللت أحد الصفرين الصفر الأول ونسأت الآخر للعام المقبل
وفي ذلك يقول عمير بن قيس جذل الطعان أحد بني فراس بن غنم بن مالك بن كنانة يفخر بالنسأة على العرب
لقد علمت معد أن قومي
كرام الناس إن لهم كراما
فأي الناس فاتونا بوتر
وأي الناس لم نعلك لجاما
ألسنا الناسئين على معد
شهور الحل نجعلها حراما
فهذا كان شأن النسأة في الجاهلية فأقره قصي على ما كان عليه مع سائر ما ذكر إقراره العرب عليه حتى جاء الإسلام فهدم الله به ذلك كله
فكان قصي أول بني كعب بن لؤي أصاب ملكا أطاع له به قومه فكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء فحاز شرف مكة كله وقطع مكة رباعا بين قومه فأنزل كل قوم من قريش منازلهم من مكة التي أصبحوا عليها(1/49)
ويزعم الناس أن قريشا هابوا قطع الشجر من الحرم في منازلهم فقطعها قصي بيده وأعوانه فسمته قريش مجمعا لما جمع من أمرها وتيمنت بأمره فما تنكح امرأة ولا يزوج رجل من قريش ولا يشاورون في أمر نزل بهم ولا يعقدون لواء لحرب قوم غيرهم إلا في داره يعقده لهم بعض ولده ولا يعذر غلام إلا في داره ولا تدرع جارية من قريش إلا في داره يشق عليها فيها درعها إذا بلغت ذلك ثم تدرعه ثم ينطلق بها إلى أهلها
ولا تخرج عير من قريش فيرحلون إلا من داره ولا يقدمون إلا نزلوا في داره
فكان أمره في قريش في حياته ومن بعد موته كالدين المتبع لا يعمل بغيره
واتخذ لنفسه دار الندوة وجعل بابها إلى مسجد الكعبة ففيها كانت قريش تقضي أمورها
ولما فرغ قصي من حربه انصرف أخوه رزاح إلى بلاده بمن معه من قومه فلما استقر في بلاده نشره الله ونشر حبا فهما قبيلا عذرة اليوم
فهذا حديث قصي في ولاية البيت بعد حليل بن حبشية وإخراج خزاعة عنه
وخزاعة تزعم أن حليلا أوصى بذلك قصيا وأمره به حين انتشر له من ابنته من الولد ما انتشر وقال أنت أولى بالكعبة وبالقيام عليها وبأمر مكة من خزاعة فعند ذلك طلب قصي ما طلب
قال ابن إسحاق ولم يسمع ذلك من غيرهم فالله أعلم
وقد ذكر الواقدي الأمرين على نحو ما ذكر ابن إسحاق
قال وقد سمعنا في ذلك وجها آخر ذكر أن أبا غبشان رجلا من خزاعة كان ولي الكعبة فباع حجابتها من قصي بن كلاب بيعا وذكر غيره أنه باع منه مفتاح الكعبة بزق خمر فلذلك قيل أخسر صفقة من أبي غبشان(1/50)
وذكر الواقدي أيضا بإسناد له أن رجلا من قضاعة يقال له أبو الشموس حدث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو خليفة حديث قصي بن كلاب وكيف استعان بإخوته على خزاعة فاستمع له عمر وتعجب لأول الحديث وقال ذكرتنا أمرا كان دثر منا فالحمد لله رب العالمين إن الله عز وجل ليصنع لهذا الحي من قريش وهم أولى الناس أن يتقوا الله وتحسن سيرة من ولي منهم بصنع الله لهم جعل فيهم الإمامة وقبل ذلك النبوة
قالوا فلما كبر قصي ورق وكان عبد الدار بكره وكان عبد مناف قد شرف في زمان أبيه وذهب كل مذهب وعبد العزي وعبد قال قصي لعبد الدار أما والله يا بني لألحقنك بالقوم وإن كانوا قد شرفوا عليك
لا يدخل رجل منهم الكعبة حتى تكون أنت تفتحها له ولا يعقد لقريش لواء إلا أنت بيدك ولا يشرب رجل بمكة إلا من سقايتك ولا يأكل أحد من أهل الحرم طعاما إلا من طعامك ولا تقطع قريش أمرا من أمورها إلا في دارك
فأعطاه دار الندوة التي لا تقضي قريش أمرا من أمورها إلا فيها وأعطاه الحجابة واللواء والسقاية والرفادة
وكانت الرفادة خرجا تخرجه قريش في كل موسم من أموالها إلى قصي بن كلاب فيصنع به طعاما للحاج فيأكله من لم يكن له سعة ولا زاد
وذلك أن قصيا فرضها على قريش فقال لهم حين أمرهم به يا معشر قريش إنكم جيران الله وأهل بيته وأهل الحرم وإن الحجاج ضيف الله وزوار بيته وهم أحق الضيف بالكرامة فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحج حتى يصدروا عنكم
ففعلوا فكانوا يخرجون لذلك كل عام من أموالهم خرجا فيدفعونه إليه فيصنعه طعاما للناس أيام منى فجرى ذلك من أمره في الجاهلية على قومه حتى قام الإسلام ثم جرى في الإسلام إلى يومنا هذا فهو الطعام الذي يصنعه السلطان كل عام بمنى للناس حتى ينقضي الحج
فمضى أمر قصي في عبد الدار ابنه وجعل إليه كل ما كان بيده من أمر قومه وكان قصي لا يخالف ولا يرد عليه شيء صنعه
ثم إن قصيا هلك فأقام أمره في قومه وفي غيرهم بنوه من بعده(1/51)
فاختطوا مكة رباعا بعد الذي كان قصي قطع لقومه بها فكانوا يقطعونها في قومهم وفي غيرهم من حلفائهم ويبيعونها
فأقامت قريش على ذلك معهم ليس بينهم اختلاف ولا تنازع
ثم إن بني عبد مناف بن قصي عبد شمس وهاشما والمطلب ونوفلا أجمعوا أن يأخذوا ما في يدي بني عبد الدار بن قصي مما كان قصي جعل إلى عبد الدار من الحجابة واللواء والسقاية والرفادة ورأوا أنهم أولى بذلك منهم لشرفهم عليهم وفضلهم في قومهم فتفرقت عند ذلك قريش فكانت طائفة منهم مع بني عبد مناف على رأيهم يرون أنهم أحق به من بني عبد الدار لمكانهم في قومهم وكانت طائفة مع بني عبد الدار يرون ألا ينزع منهم ما كان قصي جعل إليهم
فكان صاحب أمر بني عبد مناف عبد شمس بن عبد مناف وذلك أنه كان أسنهم
وكان صاحب أمر بني عبد الدار عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار
وكانت بنو أسد بن عبد العزي بن قصي وبنو زهرة بن كلاب وبنو تيم ابن مرة بن كعب وبنو الحارث بن فهر مع بني عبد مناف
وكان بنو مخزوم بن يقظة بن مرة وبنو سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب وبنو جمح بن عمرو بن هصيص وبنو عدي بن كعب مع بني عبد الدار وخرجت عامر بن لؤي ومحارب بن فهر فلم يكونوا مع واحد من الفريقين
فعقد كل قوم على أمرهم حلفا مؤكدا على أن لا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا ما بل بحر صوفة
فأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبا فوضعوها لأحلافهم في المسجد عند الكعبة ثم غمس القوم أيديهم فيها فتعاقدوا وتعاهدوا هم وحلفاؤهم ثم مسحوا الكعبة بأيديهم توكيدا على أنفسهم فسموا المطيبين
وتعاقد بنو عبد الدار وتعاهدوا هم وحلفاؤهم عند الكعبة حلفا مؤكدا على أن يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا فسموا الأحلاف
ثم سوند بين القبائل ولز بعضها ببعض فعبئت عبد مناف لبني سهم وعبئت بنو أسد لبني عبد الدار وعبئت زهرة لبني جمح وعبئت تيم لبني مخزوم وعبئت بنو الحارث بن فهر لبني عدي ثم قالوا لتغن كل قبيلة من أسند إليها(1/52)
فبينما الناس على ذلك قد أجمعوا للحرب إذ تداعوا إلى الصلح على أن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة وأن تكون الحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار كما كانت ففعلوا ورضي كل واحد من الفريقين بذلك وتحاجز الناس عن الحرب وثبت كل قوم مع من حالفوا حتى جاء الله بالإسلام فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدة
فهذا حلف المطيبين
وقد كان في قريش حلف أخر بعده وهو حلف الفضول تداعت إليه قبائل من قريش فاجتمعوا إليه في دار عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب ابن سعد بن تيم بن مرة لشرفه وسنه فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه وكانوا
على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول
واختلف في السبب الذي دعا قريشا إلى هذا الحلف ولم سمي بهذا الاسم
فأما ما دعاهم إليه فذكر الزبير وغيره أن رجلا من أهل اليمن من بني زبيد قدم مكة معتمرا ومعه بضاعة له فاشتراها رجل من بني سهم ويقال أنه العاص بن وائل فلوى الرجل بحقه فسأله ماله فأبي عليه وسأله متاعه فأبى فجاء إلى بني سهم يستعديهم عليه فأغلظوا له فعرف أن لا سبيل إلى ماله فطوف في قبائل قريش يستعين بهم فتخاذلت القبائل عنه فلما رأى ذلك قام على الحجر ويقال بل أشرف على أبي قبيس حين أخذت قريش مجالسها ثم نادى بأعلى صوته ثم قال
يا آل فهر لمظلوم بضاعته
ببطن مكة نائي الدار والنفر
وأشعث محرم لم يقض حرمته
بين الإله وبين الحجر والحجر
أقائم من بني سهم بذمتهم
أم ذاهب في ضلال مال معتمر
فلما سمعت ذلك قريش أعظموه وتكلموا فيه فقال المطيبون والله لئن تكلمنا في هذا ليغضبن الأحلاف وقال الأحلاف والله لئن قمنا في هذا لتغضبن المطيبون فقال ناس من قريش تعالوا فلنكن حلفا فضولا دون المطيبين ودون الأحلاف
فلذلك قيل له حلف الفضول(1/53)
فاجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان وصنع لهم طعاما كثيرا وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يومئذ معهم قبل أن يوحى إليه فاجتمعت بنو هاشم وبنو المطلب وزهرة وأسد وتيم فتحالفوا على أن لا يظلم بمكة قريب ولا غريب ولا حر ولا عبد إلا كانوا معه حتى يأخذوا له بحقه ويردوا إليه مظلمته من أنفسهم ومن غيرهم ثم عمدوا إلى ماء من ماء زمزم فجعلوه في جفنة ثم بعثوا به إلى البيت فغسلت فيه أركانه ثم أتوا به فشربوه ثم انطلقوا إلى الرجل الذي تعدى على
الرجل المستصرخ العاص بن وائل أو غيره فقالوا والله لا نفارقك حتى تؤدي إليه حقه
فأعطى الرجل حقه فمكثوا كذلك لا يظلم أحد حقه بمكة إلا أخذوه له
وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أدعى به في الإسلام لأجبت
وحكى الزبير أيضا أنه إنما سمي حلف الفضول لأنهم تحالفوا على أن لا يتركوا لأحد عند أحد فضلا إلا أخذوه
وقيل إنما سمي بذلك لأنه لما تداعى له من ذكر من قبائل قريش كره ذلك سائر المطيبين والأحلاف بأسرهم وسموه حلف الفضول عيبا له وقالوا هذا من فضول القوم
وقيل بل كان هذا الحلف على مثل حلف تقدم إليه نفر من جرهم يقال لهم الفضل و فضال و الفضيل فسمي لذلك هذا الآخر حلف الفضول
وأيا ما كان من ذلك فهي مأثرة لقريش من مآثرها الكرام وآثارها العظام نالتهم فيه بركة حضور رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فهو وإن كان فعلا جاهليا دعتهم السياسة إليه فقد صار لحضور رسول الله {صلى الله عليه وسلم} له وما قاله بعد النبوة فيه وأكده من أمره حكما شرعيا وفعلا نبويا
وقد نشأ بين حسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما و بين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان زمن معاوية والوليد يومئذ أمير المدينة من قبله منازعة في مال كان بينهما بذي المروة فكأن الوليد تحامل على حسين في حقه لسلطانه فقال له حسين أحلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم لأدعون بحلف الفضول(1/54)
فقال عبد الله بن الزبير وهو عند الوليد وأنا أحلف بالله لئن دعا به لأخذن سيفي ثم لأقومن معه حتى ينصف من حقه أو نموت جميعا
وبلغت المسور بن مخرمة الزهري فقال مثل ذلك
وبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي فقال مثل ذلك
فلما بلغ ذلك الوليد أنصف الحسين من حقه حتى رضي
ولم تكن بنو عبد شمس دخلت في هذا الحلف
وقد سأل عبد الملك بن مروان عن ذلك محمد بن جبير ين مطعم إذ قدم عليه حين قتل ابن الزبير واجتمع الناس على عبد الملك بن مروان وكان محمد ابن جبير أعلم قريش فلما دخل عليه قال يا أبا سعيد ألم نكن نحن وأنتم يعني بني عبد شمس وبني نوفل ابني عبد مناف في حلف الفضول قال أنت أعلم قال عبد الملك لتخبرني يا أبا سعيد بالحق من ذلك فقال لا والله لقد خرجنا منه نحن وأنتم قال صدقت
فكان عتبة بن ربيعة بن عبد شمس يقول لو أن رجلا وحده خرج من قومه لخرجت من عبد شمس حتى أدخل في حلف الفضول
وكانت لقريش أحلام عظام كانوا منها في جاهليتهم على مثل السلطان الضابط عناية من الله بهم ومنا منه سبحانه عليهم هم سكان الحرم وأهل الله وحجاب بيته وأهل السقاية والرفادة والرياسة واللواء والندوة ومكارم مكة وكانوا على إرث من دين أبويهم إبراهيم وإسماعيل صلى الله عليهما من قرى الضيف ورفد الحاج وتعظيم الحرم ومنعه من البغي فيه والإلحاد وقمع الظالم ومنع المظلوم
إلا أنه دخلت على أوليتهم أحداث غيرت أصول الحنيفية عندهم وطال الزمان حتى أفضى ذلك بهم إلى جهالات بشرائع الدين وضلالات عن سنن
التوحيد فتدارك الله ذلك كله بنبيه {صلى الله عليه وسلم} فهدى من الضلالة وعلم من الجهالة
فيقال أنه كان أول من غير الحنيفية دين إبراهيم ونصب الأوثان حول الكعبة ودعا إلى عبادتها عمرو بن لحي بن قمعة بن إلياس بن مضر(1/55)
روي أبو هريرة أنه سمع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول لأكثم بن الجون الخزاعي يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبة في النار فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا بك منه
فقال أكثم عسى أن يضرني بشبهه يا نبي الله قال لا لأنك مؤمن وهو كافر إنه كان أول من غير دين إسماعيل فنصب الأوثان وبحر البحيرة وسيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي
فالبحيرة عند العرب الناقة تشق أذنها ولا يركب ظهرها ولا يجز وبرها ولا يشرب لبنها إلا ضيف أو يتصدق به وتمهل لآلهتهم
والسائبة التي ينذر الرجل إن بريء من مرضه أو أصاب أمرا يطلبه أن يسيبها ترعى لا ينتفع بها
والوصيلة التي تلد أمها إثنين في كل بطن فيجعل صاحبها لآلهته الإناث منها ولنفسه الذكور فتلدها أمها ومعها ذكر في بطن فيقولون وصلت أخاها فيسيب أخوها معها فلا ينتفع به
والحامي الفحل إذا نتج له عشر إناث متتابعات ليس بينهن ذكر حمى
ظهره فلم يركب ولم يجز وبره وخلي في إبله يضرب فيها لا ينتفع منه بغير ذلك
فلما بعث الله رسوله {صلى الله عليه وسلم} أنزل عليه ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون 103 المائدة
وذكر بعض أهل العلم أن عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره فلما قدم مآب من أرض البلقاء وبها يومئذ العماليق وهم من ولد عملاق ويقال عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح رآهم يعبدون الأصنام فقال لهم ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون قالوا هذه أصنام نعبدها ونستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا
فقال لهم أفلا تعطونني منها صنما فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه
فأعطوه صنما يقال له هبل فقدم به مكة فنصبه وأمر الناس بعبادته وتعظيمه(1/56)
قال ابن إسحاق ويزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن منهم حين ضاقت عليهم والتمسوا الفسيح في البلاد إلا حمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم فحيثما نزلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة
حتى سلخ ذلك بهم إلا أن كانوا يعبدون ما استحسنوه من الحجارة وأعجبهم حتى خلفت الخلوف ونسوا ما كانوا عليه واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم قبلهم من الضلالات
وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم يتمسكون بها من تعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة والوقوف على عرفة والمزدلفة وهدى البدن والإهلال بالحج والعمرة مع إدخالهم فيه ما ليس منه
فكانت كنانة وقريش إذا أهلوا قالوا لبيك اللهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك
فيوحدونه بالتلبية ثم يدخلون معه أصنامهم ويجعلون ملكها بيده يقول الله تبارك وتعالى لنبيه محمد {صلى الله عليه وسلم} وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون 106 يوسف أي ما يوحدونني بمعرفة حقي إلا جعلوا معي شريكا من خلقي
وقد كانت لقوم نوح أصنام عكفوا عليها قص الله تبارك وتعالى خبرها على رسوله {صلى الله عليه وسلم} فقال وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا 23 نوح
وذكر الواقدي بإسناد له عن أبي هريرة أن أول ما عبدت الأصنام في زمن نوح عليه السلام وأن ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا كانوا رجالا صالحين من قوم نوح أهل عبادة وفضل فماتوا فوجد عليهم أهلوهم وتوحش الناس لفقدهم فقال لهم رجل ألا أصورهم لكم صورا من خشب فتنظرون إليهم وتسكنون إلى رؤيتهم قالوا بلى إن قدرت قال أنا أقدر على تصويرهم ولا أقدر أن أنفخ الروح فيهم
فجاء بالصور كهيئتهم أحياء فأخذ أهل كل بيت صورة صاحبهم فوضعوها في منزلهم ينظرون إليها فأذهب ذلك بعض حزنهم(1/57)
فكانوا على ذلك ما شاء الله حتى هلك ذلك القرن ثم خلف قرن آخر ثم ثالث بعده فكانوا على ما كان عليه القرن الأول حتى هلكوا
ثم خلف القرن الرابع فقالوا لو أنا عبدنا هؤلاء لقربونا إلى الله وشفعوا لنا
عنده ولا يزيدوننا إلا خيرا إنما نريد ما يقربنا منه فعبدوها حتى هلكوا وعبدها من بعدهم
فلما غرقت الأرض زمن نوح عليه السلام غرقت تلك الأصنام فمكثت ما شاء الله أن تمكث ثم استخرجها عمرو بن لحي ففرقها في القبائل فالله تعالى أعلم
وقد خرج البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عباس موقوفا عليه في التفسير نحو ما ذكره الواقدي مختصرا أن ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا أسماء رجال صالحين من قوم نوح عليه السلام فلما هلكوا أوحى الشياطين إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون إليها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت
قال ابن إسحاق واتخذ أهل كل دار في دارهم صنما يعبدونه فإذا أراد الرجل منهم سفرا تمسح به حين يركب فكان ذلك آخر ما يصنع حين يتوجه إلى سفره وإذا قدم من سفره تمسح به وكان أول ما يبدأ به قبل أن يدخل على أهله
فلما بعث الله رسوله محمد {صلى الله عليه وسلم} بالتوحيد قالت قريش أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب 5 ص
وكانت العرب قد اتخذت مع الكعبة طواغيت وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة لها سدنة وحجاب وتهدي إليها كما تهدي للكعبة وتطوف بها كطوافها وتنحر عندها وهي تعرف فضل الكعبة عليها لأنها قد عرفت أنها بيت إبراهيم عليه السلام ومسجده
وسيمر في تضاعيف هذا الكتاب بعض أخبار هذه الطواغيت وكيف جعل الله عاقبة أمرها خسرا فأزهق الحق باطلها وعفي الإسلام أثارها وأكمل الله تعالى دينه وتمم نوره ونعمته ونصر دين الهدى والحق فأظهره على الدين كله(1/58)
ومع إصفاق العرب مضرها ويمنها على هذا الضلال فقد كان وقع إلى بعضهم باليمن دين اليهودية فدانوا به ووقع أيضا دين النصرانية بنجران من أرض العرب على ما نذكره
فأما موقع اليهودية باليمن فمن جهة تبع الآخر وهو تبان أسعد أبو كرب بن كلكي كرب بن زيد وهو تبع الأول بن عمرو ذي الأذعار بن أبرهة ذي المنار
وتبان أسعد هو الذي قدم المدينة وساق الحبرين من يهود إلى اليمن وعمر البيت الحرام وكساه
وكان قد جعل طريقه حين أقبل من المشرق على المدينة وكان قد مر بها في بدأته فلم يهج أهلها وخلف بين أظهرهم ابنا له فقتل غيلة فقدمها وهو مجمع لإخرابها واستئصال أهلها وقطع نخلها
فجمع له هذا الحي من الأنصار ورئيسهم عمرو بن ظلة أخو بني النجار
وقد كان رجل من بني عدي بن النجار يقال له أحمر عدا على رجل من أصحاب تبع حين نزل بهم فقتله وذلك أنه وجده في عذق له يجده فضربه بمنجله فقتله وقال إنما التمر لمن أبره فزاد ذلك تبعا حنقا عليهم
فاقتتلوا فتزعم الأنصار أنهم كانوا يقاتلونه بالنهار ويقرونه بالليل فيعجبه ذلك منهم ويقول والله إن قومنا لكرام
فبينا تبع على ذلك من حربهم إذ جاءه حبران من أحبار يهود من بني قريظة عالمان راسخان حين سمعا بما يريد من إهلاك المدينة وأهلها فقالا له أيها الملك لا تفعل فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها ولم نأمن عليك عاجل العقوبة فقال لهما ولم ذلك قالا هي مهاجر نبي يخرج من هذا الحرم من قريش في آخر الزمان تكون داره وقراره
فتناهى ورأى أن لهما علما وأعجبه ما سمع منهما فانصرف عن المدينة واتبعهما على دينهما
وهذا الحي من الأنصار يزعمون أنه إنما كان حنق تبع على هذا الحي من يهود الذين كانوا بين أظهرهم وإنما أراد هلاكهم فمنعوهم منه ثم انصرف عنهم ولذلك قال في شعره
حنقا على سبطين حلا يثربا
أولى لهم بعقاب يوم مفسد
وذكر ابن هشام أن الشعر الذي فيه هذا البيت مصنوع(1/59)
وكان تبع وقومه أصحاب أوثان يعبدونها فوجه إلى مكة وهي طريقه إلى اليمن حتى إذا كان بين غسفان وأمج أتاه نفر من هذيل بن مدركة فقالوا له أيها الملك ألا ندلك على بيت مال داثر أغفلته الملوك قبلك فيه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والذهب والفضة قال بلى قالوا بيت بمكة يعبده أهله ويصلون عنده
وإنما أراد الهذليون هلاكه بذلك لما عرفوا من هلاك من أراده من الملوك وبغى عنده
فلما أجمع لما قالوا أرسل إلى الحبرين فسألهما عن ذلك فقالا ما أراد القوم إلا هلاكك وهلاك جندك وما نعلم بيتا لله اتخذه في الأرض لنفسه غيره ولئن فعلت ما دعوك إليه لتهلكن وليهلكن من معك جميعا
قال فماذا تأمراني أن أصنع إذا قدمت عليه قالا تصنع عنده ما يصنع أهله تطوف به وتعظمه وتكرمه وتحلق رأسك عنده وتذلل له حتى تخرج من عنده
قال فما يمنعكما أنتما من ذلك قالا أما والله إنه لبيت أبينا إبراهيم وإنه لكما أخبرناك ولكن أهله حالوا بيننا وبينه بالأوثان التي نصبوها حوله وبالدماء التي يهريقون عنده وهم نجس أهل شرك أو كما قالا له
فعرف نصحهما وصدق حديثهما فقرب النفر من هذيل فقطع أيديهم وأرجلهم
ثم مضى حتى قدم مكة فطاف بالبيت ونحر عنده وحلق رأسه وأقام بمكة ستة أيام فيما يذكرون ينحر بها للناس ويطعم أهلها ويسقيهم العسل
وأري في المنام أن يكسو البيت فكساه الخصف ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه المعافر ثم أرى أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه الملاء والوصائل
فكان تبع فيما يزعمون أول من كسا البيت
وأوصى به ولاته من جرهم وأمرهم بتطهيره وأن لا يقربوه دما ولا ميتة ولا مئلاة وهي المحائض وجعل له بابا ومفتاحا
ثم خرج موجها إلى اليمن بمن معه من جنوده وبالحبرين حتى إذا دخل اليمن دعا قومه إلى الدخول فيما دخل فيه فأبوا عليه حتى يحاكموه إلى النار التي كانت باليمن
ويقال إنه لما دنا من اليمن ليدخلها حالت حمير بينه وبين ذلك وقالوا لا تدخلها علينا وقد فارقت ديننا(1/60)
فدعاهم إلى دينه وقال إنه خير من دينكم
قالوا فحاكمنا إلى النار
قال نعم وكانت باليمن فيما يزعم أهل اليمن نار تحكم بينهم فيما يختلفون فيه تأكل الظالم ولا تضر المظلوم
فخرج قومه بأوثانهم وما يتقربون به في دينهم وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما متقلديها حتى قعدوا للنار عند مخرجها الذي تخرج منه فخرجت النار عليهم فلما أقبلت نحوهم حادوا عنها وهابوها فذمرهم من حضرهم من الناس وأمروهم بالصبر لها فصبروا حتى غشيتهم فأكلت الأوثان وما قربوا معها ومن حمل ذلك من رجال حمير
وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما تعرق جباههما لم تضرهما
فأصفقت عند ذلك حمير على دينه
من هنالك وعن ذلك كان أصل اليهودية باليمن
قال ابن إسحاق وقد حدثني محدث أن الحبرين ومن خرج من حمير إنما اتبعوا النار ليردوها وقالوا من ردها فهو أولى بالحق فدنا منها رجال حمير بأوثانهم ليردوها فدنت منهم لتأكلهم وحادوا عنها ولم يستطيعوا ردها ودنا منها الحبران بعد ذلك وجعلا يتلوان التوراة وتنكص عنهما حتى رداها إلى مخرجها الذي خرجت منه
فأصفقت عند ذلك حمير على دينهما فالله أعلم أي ذلك كان
وكان رئام بيتا لهم يعظمونه وينحرون عنده ويكلمون منه إذ كانوا على شركهم فقال الحبران لتبع إنما هو شيطان يفتنهم فخل بيننا وبينه قال فشأنكما به فاستخرجا منه فيما يزعم أهل اليمن كلبا أسود فذبحاه ثم هدما ذلك البيت
قال ابن إسحاق فبقاياه اليوم كما ذكر لي بها آثار الدماء التي كانت تهراق عليه وتبع هذا هو أحد الملوك الذين وطئوا البلاد ودوخوا الأرض ودانت لهم الممالك
ويقال إنه المسمى في قوله تعالى أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم 37 الدخان
وذلك لأنه لما آمن في أخر عمره ووحد خالفته حمير فتفرقوا عنه فانتقم الله منهم
وحكى الحسن بن أحمد الهمداني أنه أول ملك بشر برسول الله {صلى الله عليه وسلم} وآمن به وهو رتب الملوك وأبناء الملوك من قومه في قبائل العرب والعجم ومدائنها(1/61)
و أمصارها وكان لكل قبيلة من العرب ولكل حي من العجم ملك من قومه إما حميري وإما كهلاني يسمع له ويطاع
ويذكر انه جمع الملوك وأبناء الملوك والأقاول وأبناء الأقاول من قومه وقال لهم
أيها الناس إن الدهر نفد أكثره ولم يبقى إلا أقله وإن الكثير إذا قل إلى النقصان أجرى منه إلى الزيادة سارعوا إلى المكارم فإنها تقربكم إلى الفلاح واعملوا على أنه من سلم من يومه لم يسلم من غده ومن سلم من الغد لا يسلم مما بعده وإنكم لتؤوبون مآب الآباء والأجداد وتصيرون إلى ما صاروا إليه والموت كل يوم أقرب إلى المرء من حياته منه ولكل زمان أهل ولكل دائرة سبب وسبب عطلان هذه الفترة التي من عز فيها بز من هو دونه ظهور نبي يعز الله به دينه ويخصه بالكتاب المبين على يأس من المرسلين رحمة للمؤمنين وحجة على الكافرين فليكن ذلك عندكم وعند أبنائكم بعدكم وأبناء أبنائكم قرنا فقرنا وجيلا فجيلا ليتوقعوا ظهوره وليؤمنوا به وليجتهدوا في نصره على كافة الأحياء حتى يفيء الناس له إلى أمر الله
وأنشد له
شهدت على أحمد أنه
رسول من الله باري النسم
فلو مد دهري إلى دهره
لكنت وزيرا له وابن عم
وألزمت طاعته كل من
على الأرض من عرب أوعجم
ولكن قولي له دائما
سلام على أحمد في الأمم )
في أبيات ذكرها وأشعار غير هذا أثبت في إكليله كثيرا منها
قال وذكروا أن الملوك وأبناء الملوك من حمير وكهلان لم تزل تتوقع ظهور النبي {صلى الله عليه وسلم} وتبشر به وتوصي بالطاعة له والإيمان به والجهاد معه والقيام بنصره منذ ذلك العصر إلى أن ظهر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فكانوا بذلك حين بعث من أحرص الناس على نصره وطاعته
فمنهم من سمع له وأطاع وآمن به قبل أن يراه ومنهم من وصل إليه كتابه فسمع وأطاع وآمن وصدق ومنهم من آواه ونصره وأيده وجاهد في سبيل الله دونه(1/62)
نطق بذلك الكتاب المنير في قوله والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة 9 الحشر
وقوله تبارك وتعالى يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم إلى أخر الآية 54 - 55 المائدة
قال الهمداني عن أبي الحسن الخزاعي يقال إنهم همدان
ثم أشار إلى ذكر سيف بن ذي يزن للنبي {صلى الله عليه وسلم} وما ألقاه من أمره إلى جده عبد المطلب عند وفادته عليه
قال وذكروا أنه لم يكن لسيف بن ذي يزن ذلك العلم في قصة النبي {صلى الله عليه وسلم} إلا من جهة تبع وما تناهي إليه مما كان ألقاه إليهم وعرفهم به من خبر النبي {صلى الله عليه وسلم}
وسنذكر خبر سيف هذا في موضعه إن شاء الله
وأما موقع النصرانية بأرض العرب فقد كان بنجران بقايا من أهل دين عيسى ابن مريم على الإنجيل أهل فضل واستقامة من أهل دينهم لهم رأس يقال له عبد الله بن الثامر وكان موقع أصل ذلك الدين بنجران وهي بأوسط أرض العرب في ذلك الزمان وأهلها وسائر العرب كلها أهل أوثان يعبدونها أن رجلا من بقايا أهل ذلك الدين يقال له فيميون وقع بين أظهرهم فحملهم عليه فدانوا به
فحدث وهب بن منبه أن فيميون كان رجلا صالحا مجتهدا زاهدا في الدنيا مجاب الدعوة وكان سائحا ينزل القرى لا يعرف في قرية إلا خرج منها إلى قرية لا يعرف بها وكان لا يأكل إلا من كسب يده وكان بناء يعمل الطين وكان يعظم الأحد فإذا كان يوم الأحد لم يعمل فيه شيئا وخرج إلى فلاة من الأرض فصلى فيها حتى يمسي(1/63)
قال وكان في قرية من قرى الشام يعمل عمله ذلك مستخفيا ففطن لشأنه رجل من أهلها يقال له صالح فأحبه صالح حبا لم يحب شيئا كان قبله مثله فكان يتبعه حيث ذهب ولا يفطن له فيميون حتى خرج مرة في يوم الأحد إلى فلاة من الأرض كما كان يصنع وقد أتبعه صالح وفيميون لا يدري فجلس صالح منه منظر العين مستخفيا منه لا يحب أن يعلم بمكانه وقام فيميون يصلي فبينا هو يصلي إذ أقبل نحوه التنين الحية ذات الرءوس السبعة فلما رآها فيميون دعا عليها فماتت ورآها صالح ولم يدر ما أصابها فخاف عليه فعيل عوله فصرخ يا فيميون التنين قد أقبل نحوك
فلم يلتفت إليه وأقبل على صلاته حتى فرغ منها
وأمسى فانصرف وعرف أنه قد عرف وعرف صالح أنه قد رأى مكانه فقال له يا فيميون تعلم والله أني ما أحببت شيئا قط حبك وقد أردت صحبتك والكينونة معك حيثما كنت
قال ما شئت أمري كما ترى فإن علمت أنك تقوى عليه فنعم
فلزمه صالح وقد كاد أهل القرية يفطنون لشأنه وكان إذا ما جاءه العبد به الضر دعا له فشفي وإذا دعي إلى أحد به ضر لم يأته وكان لرجل من أهل القرية ابن ضرير فسأل عن شأن فيميون فقيل له أنه لا يأتي أحدا دعاه ولكنه رجل يعمل للناس البنيان بالأجر فعمد الرجل إلى ابنه ذلك فوضعه في حجرته وألقى عليه ثوبا ثم جاءه فقال يا فيميون
إني قد أردت أن أعمل في بيتي عملا فانطلق معي حتى تنظر إليه فأشارطك عليه
فانطلق معه حتى دخل حجرته ثم قال له ما تريد أن تعمل في بيتك هذا قال كذا وكذا ثم انتشط الثوب عن الصبي وقال يا فيميون عبد من عباد الله أصابه ما ترى فادع الله له
فدعا له فيميون فقام الصبي ليس به بأس
وعرف فيميون أنه قد عرف فخرج من القرية واتبعه صالح فبينا هو يمشي في بعض الشام إذ مر بشجرة عظيمة فناداه منها رجل فقال يا فيميون ما زلت أنتظرك وأقول متى هو جاء حتى سمعت صوتك فعرفت أنك هو لا تبرح حتى تقوم علي فإني ميت الآن
قال فمات وقام عليه حتى واراه(1/64)
ثم انصرف ومعه صالح حتى وطئا بعض أرض العرب فاحتفظتهما سيارة من بعض العرب فخرجوا بهما حتى باعوهما بنجران وأهل نجران يومئذ على دين العرب يعبدون نخلة طويلة بين أظهرهم لها عيد في كل سنة إذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب حسن وجدوه وحلى النساء ثم خرجوا إليها فعكفوا عليها يوما
فابتاع فيميون رجل من أشرافهم وابتاع صالحا أخر فكان فيميون إذا قام من الليل يصلي في بيت أسكنه إياه سيده استسرج له البيت نورا حتى يصبح من غير مصباح فرأى ذلك سيده فأعجبه ما يرى منه فساله عن دينه فأخبره به وقال له فيميون إنما أنتم في باطل إن هذه النخلة لا تضر ولا تنفع لو دعوت عليها إلهي الذي أعبد أهلكها وهو الله وحده لا شريك له فقال له سيده فافعل فإنك إن فعلت دخلنا في دينك وتركنا ما نحن عليه
فقام فيميون فتطهر وصلى ركعتين ثم دعا الله عليها فأرسل الله ريحا فجعفتها من أصلها فألقتها
فاتبعه عند ذلك أهل نجران على دينه فحملهم على الشريعة من دين عيسى ابن مريم عليه السلام ثم دخلت عليهم الأحداث التي دخلت على أهل دينهم بكل أرض فمن هنالك كانت النصرانية بنجران فيما ذكر وهب بن منبه في حديثه هذا
وأما محمد بن كعب القرظي وبعض أهل نجران فذكروا أن أهل نجران كانوا أهل شرك يعبدون الأوثان وكان في قرية من قراها ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر فلما نزلها فيميون ولم يسمه محمد بن كعب ولا شركاؤه في الحديث قالوا رجل نزلها ابتنى خيمة بين نجران وبين تلك القرية التي بها الساحر فجعل أهل نجران يرسلون غلمانهم إلى ذلك الساحر فبعث الثامر ابنه عبد الله مع غلمان أهل نجران فكان إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من صلاته وعبادته فجعل يجلس إليه ويسمع منه حتى أسلم فوحد الله وعبده وجعل يسأله عن شرائع الإسلام حتى إذا فقه فيه جعل يسأله عن الاسم الأعظم وكان يعلمه فكتمه إياه فقال يا بن أخي إنك لن تحمله أخشى عليك ضعفك عنه(1/65)
والثامر أبو عبد الله بن الثامر لا يظن إلا أن ابنه يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمان
فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضن به عنه وتخوف ضعفه فيه عمد إلى قداح فجمعها ثم لم يبق لله اسما يعلمه إلا كتبه في قدح لكل اسم قدح حتى إذا أحصاها أوقد لها نارا ثم جعل يقذفها فيها قدحا قدحا حتى إذا مر بذلك الاسم الأعظم قذف فيها بقدحه فوثب القدح حتى خرج منها لم تضره شيئا فأخذه ثم أتى صاحبه فأخبره أنه قد علم الاسم الذي كتمه فقال وما هو
قال هو كذا وكذا قال وكيف علمته فأخبره بما صنع قال أي ابن أخي قد أصبته فأمسك على نفسك وما أظن أن تفعل
فجعل عبد الله بن الثامر إذا دخل نجران لم يلق أحدا به ضر إلا قال له يا عبد الله أتوحد الله وتدخل في ديني فأدعو الله فيعافيك مما أنت فيه من البلاء فيقول نعم فيوحد الله ويسلم ويدعو له فيشفي
حتى لم يبق بنجران أحد به ضر إلا أتاه فاتبعه على أمره ودعا له فعوفي
حتى رفع شأنه إلى ملك نجران فدعاه فقال أفسدت علي أهل قريتي وخالفت ديني ودين آبائي لأمثلن بك
قال لا تقدر على ذلك
فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح على رأسه فيقع إلى الأرض ليس به بأس وجعل يبعث به إلى مياه بنجران بحور لا يقع فيها أحد فيها إلا هلك فيلقى فيها فيخرج ليس به بأس
فلما غلبه قال له عبد الله بن الثامر إنك والله لاتقدر على قتلي حتى توحد الله فتؤمن بما آمنت به فإنك إن فعلت سلطك الله علي فقتلتني
فوحد الله ذلك الملك وشهد شهادة عبد الله بن الثامر ثم ضربه بعصا في يده فشجه شجة غير كبيرة فقتله وهلك الملك مكانه
واستجمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر وكان على ما جاء به عيسى من الإنجيل وحكمه ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الأحداث
فمن هنالك كان أصل النصرانية بنجران
قال ابن إسحاق فهذا حديث محمد بن كعب القرظي وبعض أهل نجران عن عبد الله بن الثامر فالله أعلم أي ذلك كان(1/66)
وحديث عبد الله بن الثامر هذا قد ورد في الصحيح مرفوعا إلى النبي {صلى الله عليه وسلم} من طرق ثابتة خرجه مسلم بن الحجاج من حديث صهيب وبينه وبين حديث ابن إسحاق اختلاف وفيه مع ذلك زوائد تحسن لأجلها إعادة الحديث
فروى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر فلما كبر قال للملك إني قد كبرت فابعث إلي غلاما أعلمه السحر
فبعث إليه غلاما يعلمه فكان في طريقه إذا سلك راهب فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه فشكا ذلك إلى الراهب فقال إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر
فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب افضل
فأخذ حجرا فقال اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس
فرماها وقتلها ومضى الناس
فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدل علي
وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس سائر الأدواء فسمع به جليس للملك وكان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال ما ها هنا لك أجمع إن أنت شفيتني
قال إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله فإن أمنت بالله دعوت الله فشفاك فآمن بالله فشفاه الله
فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك من رد عليك بصرك قال ربي قال ولك رب غيري قال ربي وربك الله
فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام فجيء بالغلام فقال له الملك أي بني قد بلغ من سحرك ما يبرئ الأكمه والأبرص وتفعل و تفعل فقال إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله
فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب
فجيء بالراهب فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار فوضع في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه(1/67)
ثم جيء بجليس الملك فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار فوضع في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه
ثم جيء بالغلام فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه فذهبوا به وصعدوا به الجبل فقال اللهم اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا
وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك ما فعل أصحابك قال كفانيهم الله
فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال اذهبوا به فاحملوه في قرقورة فتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه فذهبوا به فقال اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك
فقال له الملك ما فعل أصحابك قال كفانيهم الله
فقال للملك إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به
قال وما هو قال تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهما من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل باسم الله رب الغلام ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني
فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهما من كنانته ثم
وضع السهم في كبد القوس ثم قال باسم الله رب الغلام ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات
فقال الناس آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام
فأتي الملك فقيل له أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك حذرك قد آمن الناس
فأمر بالأخدود بأفواه السكك فخدت وأضرم النيران وقال من لم يرجع عن دينه يعني فأقحموه فيها أو قيل له اقتحم
ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام يا أمه اصبري فإنك على الحق
فهذا حديث مسلم عن عبد الله بن الثامر وأهل نجران وإن وقعت الأسماء فيه مبهمة فقد فسرها العلماء بما ورد من ذلك مبينا في حديث ابن إسحاق وغيره وجعلوا ذلك كله حديثا واحدا(1/68)
وذكر ابن إسحاق أنه لما كان من اجتماع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر ما تقدم الحديث به سار إليهم ذو نواس بجنوده فدعاهم إلى اليهودية وخيرهم بينها وبين القتل فاختاروا القتل فخد لهم الأخدود فحرق بالنار وقتل بالسيف ومثل بهم حتى قتل منهم قريبا من عشرين ألفا ففي ذي نواس وجنده ذلك أنزل الله على نبيه محمد {صلى الله عليه وسلم} قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد إلى أخر الآيات
والأخدود هنا هو الحفر المستطيل في الأرض كالخندق والجدول ويقال أيضا لأثر السيف والسوط والسكين ونحوه في الجلد أخدود
قال ابن إسحاق ويقال كان فيمن قتل ذو نواس عبد الله بن الثامر رأسهم وإمامهم
وحدث عن عبد الله بن أبي بكر أنه حدث أن رجلا من أهل نجران حفر خربة من خرب نجران في زمن عمر بن الخطاب فوجدوا عبد الله بن الثامر تحت دفن منها قاعدا واضعا يده على ضربة في رأسه ممسكا عليها بيده فإذا أخرت يده عنها تثعبت دما وإذا أرسلت يده ردها عليها فأمسك دمها في يده خاتم مكتوب فيه ربي الله فكتب فيه إلى عمر فكتب إليهم أن أقروه على حاله وردوا عليه الدفن الذي كان عليه ففعلوا
وذو نواس هذا هو زرعة بن تبان أسعد أبي كرب وهو تبع الآخر وقد تقدم خبره وابنه زرعة ذو نواس هذا كان من صغار بنيه وصار إليه ملك اليمن وأمر حمير بعد أبيه بزمان
وذلك أنه ملك اليمن بين أضعاف ملوك التبابعة ربيعة بن نضر بن أبي حارثة ابن عمرو بن عامر وكان من سادات اليمن وأهل الشرف منها
وهو صاحب الرؤيا التي يعرف من تأويلها استيلاء الحبشة على اليمن والشارة بظهور النبي {صلى الله عليه وسلم} (1/69)
وذلك أنه رأى رؤيا هالته وفظع بها فلم يدع كاهنا ولا ساحرا ولا عائفا ولا منجما من أهل مملكته إلا جمعه إليه فقال لهم إني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها فأخبروني بها وبتأويلها قالوا اقصصها علينا نخبرك بتأويلها قال إني إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم عن تأويلها إنه لا يعرف تأويلها إلا من عرفها قبل أن أخبره بها
فقال له رجل منهم فإن كان الملك يريد هذا فلبيعث إلى سطيح وشق فإنه ليس أحد أعلم منهما فهما يخبرانه بما سأل عنه
فبعث إليهما فقدم عليه سطيح قبل شق فقال إني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها فأخبرني بها فإنك إن أصبتها أصبت تأويلها
فقال أفعل رأيت حممة خرجت من ظلمة فوقعت بأرض تهمة فأكلت منها كل ذات جمجمة فقال له الملك ما أخطأت منها شيئا يا سطيح فما عندك في تأويلها
فقال أحلف ما بين الحرتين من حنش ليهبطن أرضكم الحبش فليملكن ما بين أبين إلى جرش
فقال الملك وأبيك يا سطيح إن هذا لنا لغائظ موجع فمتى هو كائن أفي زماني أم بعده قال لا بل بعده بحين أكثر من ستين أو سبعين يمضين من السنين
قال أفيدوم ذلك من ملكهم أم ينقطع قال بل ينقطع لبضع وسبعين من السنين ثم يقاتلون ويخرجون منها هاربين
قال ومن يلي ذلك من قتلهم وإخراجهم قال يليه إرم بن ذي يزن يخرج عليهم من عدن فلا يترك منهم أحدا باليمن
قال أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع قال بل ينقطع
قال ومن يقطعه قال نبي زكي يأتيه الوحي من قبل العلي
قال ومن هو هذا النبي
قال رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر
قال وهل للدهر من آخر قال نعم يوم يجمع فيه الأولون والآخرون يسعد فيه المحسنون ويشقى فيها المسيئون
قال أحق ما تخبرني قال نعم والشفق والغسق والقمر إذا اتسق إن ما أنبأتك لحق
ثم قدم عليه شق فقال له كقوله لسطيح وكتمه ما قال سطيح لينظر أيتفقان أم يختلفان
قال نعم رأيت حممة خرجت من ظلمة فوقعت بين روضة وأكمة فأكلت منها كل ذات نسمة(1/70)
فلما قال له ذلك عرف أن قد اتفقا وأن قولهما واحد إلا أن سطحيا قال بأرض تهمة فأكلت منها كل ذات جمجمة وقال شق وقعت بين روضة وأكمة فأكلت منها كل ذات نسمة
فقال الملك ما أخطأت يا شق منها شيئا فما عندك في تأويلها قال أحلف بما بين الحرتين من إنسان ليهبطن أرضكم السودان فليغلبن على كل طفلة البنان وليملكن ما بين أبين إلى نجران
فقال له الملك وأبيك يا شق إن هذا لغائظ موجع فمتى هو كائن أفي زماني أم بعده فقال لا بل بعده بزمان ثم يستنقذكم منهم عظيم ذو شان ويذيقهم أشد الهوان
قال ومن هذا العظيم الشأن قال غلام ليس بدني ولا مدن يخرج من بيت ذي يزن
قال أفيدوم سلطانه أم ينقطع
قال بل ينقطع برسول مرسل يأتي بالحق والعدل بين أهل الدين والفضل يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل
قال وما يوم الفصل قال يوم يجزى فيه الولاة يدعى فيه من السماء بدعوات يسمع منها الأحياء والأموات ويجمع فيه الناس للميقات يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات
قال أحق ما تقول قال إي ورب السماء والأرض وما بينهما من رفع وخفض إن ما أنبأتك لحق ما فيه أمض
فوقع في نفس ربيعة بن نضر ما قالا فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق ما يصلحهم وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خرزاد فأسكنهم الحيرة
فمن بقية ولد ربيعة بن نضر فيما يزعمون النعمان بن المنذر فهو في نسب اليمن وعلمهم النعمان بن المنذر بن النعمان بن المنذر بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نضر ذلك الملك
وقد تقدم قول من قال من العلماء أن النعمان من ولد قنص بن معد وقد قيل أيضا إن النعمان من ولد الساطرون صاحب الحضر وهو حصن عظيم كالمدينة على شاطئ الفرات وهو الذي ذكره عدي بن زيد في قوله
وأخو الحضر إذا بناه وإذ دجلة
تجبي إليه والخابور
شاده مرمرا وجلله كلسا
فللطير في ذراه وكور
لم يهبه ريب المنون فباد الملك
عنه فبابه مهجور
وأما شق وسطيح فإن شقا هو ابن صعب بن يشكر من بني أنمار بن نزار أبي بجيلة وخثعم(1/71)
وكان شق إنسان فيما زعموا إنما له يد واحدة ورجل واحدة وعين واحد ولذلك سمي بشق
وسطيح هو ربيع بن ربيعة من بني ذبيان بن عدي بن مازن بن غسان وكانت العرب تسميه الذيبي وإياه عني ميمون بن قيس الأعشى بقوله
ما نظرت ذات أشفار كنظرتها
حقا كما نطق الذيبي إذ سجعا
وإنما قيل له سطيح لانه كان جسدا ملقى له رأس وليس له جوارح فيما ذكروا
وكان لا يقدر على الجلوس فإذا غضب انتفخ وجلس
وذكر أنه قيل له أني لك هذا العلم فقال لي صاحب من الجن استمع أخبار السماء من طور سيناء حين كلم الله منه موسى عليه السلام فهو يؤدي إلي من ذلك ما يؤديه وعاش سطيح بعد هذا الحديث زمانا طويل حتى أدرك مولد رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فذكر الخطابي وغيره من حديث هانئ بن هانئ المخزومي وأتت عليه مائة وخمسون سنة أنه لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ارتجس إيواء كسرى فسقط منه أربع عشر شرفة وغاضت بحيرة ساوة وفاض وادي السماوة وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك ألف عام وأري الموبذان إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها
فلما أصبح كسرى أفزعه ذلك فصبر عليه تشجعا حتى إذا عيل صبره رأى ألا يدخر ذلك عن قومه ومرازبته فلبس تاجه وقعد على سريره ثم بعث إليهم فلما اجتمعوا عنده قال أتدرون فيم بعثت فيكم قالوا لا إلا أن يخبرنا الملك
فبينا هم كذلك إذ ورد عليه كتاب بخمود النار فازداد غما إلى غمه
ثم أخبر بما رأى وما هاله من ذلك فقال الموبذان وأنا أصلح الله الملك قد رأيت في هذه الليلة رؤيا ثم قص عليه رؤياه في الإبل فقال أي شيء يكون هذا يا موبذان قال حدث يكون من ناحية العرب وكان أعلمهم في أنفسهم
فكتب عند ذلك كسرى إلى النعمان بن المنذر أن يوجه إليه برجل عالم بما يريد أن يسأله عنه فوجه إليه بعبد المسيح بن عمرو بن حيان بن بقيلة الغساني(1/72)
فلما قدم عليه قال له الملك ألك علم بما أريد أن أسألك عنه قال ليخبرني الملك عما أحب فإن كان عندي منه علم وإلا أخبرته بمن يعلمه
فأخبره بالذي وجه إليه فيه فقال له علم ذلك عند خال لي يسكن مشارف الشام يقال له سطيح قال فائته فسله عما سألتك عنه ثم أئتني بتفسيره
فخرج عبد المسيح حتى أتى إلى سطيح وقد أشفى على الموت فسلم عليه وكلمه فلم يرد عليه سطيح جوابا فأنشأ عبد المسيح يقول
أصم أم يسمع غطريف اليمن
أم فاد فازلم به شأو العنن
يا فاصل الخطة أعيت من ومن
اتاك شيخ الحي من آل سنن
وأمه من آل ذئب بن حجن
أبيض فضفاض الرداء والبدن
رسول قيل العجم ينمى للوسن
لا يرهب الوغد ولا ريب الزمن
تجوب بي الأرض علنداة شزن
ترفعني وجنا وتهوى فيه وجن
حتى أتى عاري الجآحي والقطن
تلفه في الريح بوغاء الدمن
فلما سمع سطيح شعره رفع رأسه يقول عبد المسيح أتى إلى سطيح على جمل مشيح وقد أوفى على الضريح بعثك ملك بني ساسان لارتجاس الإيوان وخمود النيران ورؤيا الموبذان رأى إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها
عبد المسيح إذا كثرت التلاوة وظهر صاحب الهراوة وفاض وادي السماوة وغاضت بحيرة ساوة وخمدت نار فارس فليس الشام لسطيح شاما يملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرفات وكل ما هو آت آت
ثم قضى سطيح مكانه فلما قدم عبد المسيح على كسرى أخبره بمقالة سطيح فقال إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكا قد كانت أمور
فملك منهم عشرة إلى أربع سنين وملك الباقون إلى خلافة عثمان رضي الله عنه
فلما هلك ربيعة بن نصر رجع ملك اليمن كله إلى حسان بن تبان أسعد أبي كرب فسار بأهل اليمن يريد أن يطأ بهم أرض العرب وأرض الأعاجم حتى إذا كان بأرض العراق كرهت حمير وقبائل اليمن المسير معه وأرادوا الرجعة إلى بلادهم وأهلهم فكلموا أخا له يقال له عمرو وكان معه في جيشه فقالوا له أقتل أخاك حسان ونملكك علينا وترجع بنا إلى بلادنا فأجابهم(1/73)
فاجتمعوا على ذلك إلا ذورعين الحميري فإنه نهاه عن ذلك ولم يقبل منه فقال ذورعين الحميري
ألا من يشتري سهرا بنوم
سعيد من يبيت قرير عين
فإما حمير غدرت وخانت
فمعذرة الإله لذي رعين
ثم كتبهما في رقعة وختم عليها ثم أتى بها عمرا فقال له ضع لي هذا الكتاب عندك ففعل
ثم قتل عمرو أخاه حسان ورجع بمن معه إلى اليمن
فلما نزل اليمن منع منه النوم وسلط عليه السهر فلما جهده ذلك سأل الأطباء والحزاة من الكهان والعرافين عما به فقال له قائل منهم إنه والله ما قتل رجل أخاه أو ذا رحمة بغيا على مثل ما قتلت أخاك عليه إلا ذهب نومه وسلط عليه السهر
فلما قيل له ذلك جعل يقتل كل من أمره بقتل أخيه حسان من أشراف اليمن حتى خلص إلى ذي رعين
فقال له ذو رعين إن لي عندك براءة قال وما هي قال الكتاب الذي دفعت إليك
فأخرجه فإذا فيه البيتان فتركه ورأى أنه قد نصحه
وهلك عمرو فمرج أمر حمير عند ذلك وتفرقوا فوثب عليهم رجل من حمير لم يكن من بيوت المملكة يقال له لخنيعة ينوف ذو شناتر فقتل خيارهم وعبث ببيوت أهل المملكة منهم فقال قائل من حمير
تقتل أبناها وتنفي سراتها
وتبني بأيديها لها الذل حمير
تدمر دنياها بطيش حلومها
وما ضيعت من دينها فهو أكثر
كذاك القرون قبل ذاك بظلمها
وإسرافها تأتي الشرور فتخسر
وكان لخنيعة امرءا فاسقا يعمل عمل قوم لوط فكان يرسل إلى الغلام من أبناء الملوك فيقع عليه في مشربة له قد صنعها لذلك لئلا يملك بعد ذلك ثم يطلع من مشربته تلك إلى حرسه وجنده قد أخذ مسواكا فجعله في فيه علامة للفراغ من خبيث فعله(1/74)
حتى بعث إلى زرعة ذي نواس بن تبان أسعد أخي حسان وكان صبيا صغيرا حين قتل حسان ثم شب غلاما جميلا وسيما ذات هيئة وعقل فلما أتاه رسوله عرف ما يريد به فأخذ سكينا حديدا لطيفا فخبأه بين قدمه ونعله ثم أتاه فلما خلا معه وثب إليه فواثبه ذو نواس فوجأه حتى قتله ثم حز رأسه فوضعه في الكوة التي كان يشرف منها ووضع مسواكه في فيه ثم خرج على الناس فسألوه فأشار لهم إلى الرأس فنظروا فإذا رأس لخنيعة مقطوع فخرجوا في أثر ذي نواس حتى أدركوه فقالوا ما ينبغي أن يملكنا غيرك إذ أرحتنا من هذا الخبيث
فملكوه واجتمعت عليه حمير وقبائل اليمن فكان آخر ملوك حمير ويسمى يوسف فأقام في ملكه سنين
قال ابن قتيبة ثمانيا وستين سنة
إلى أن كان منه في أهل نجران ما تقدم ذكره فكان ذلك سببا لاستئصال ملكه واستيلاء الحبشة على اليمن
ذكر دخول الحبشة أرض اليمن واستيلائهم على ملكها وذكر السبب في ذلك مع ما يتصل به من أمر الفيل
ولما انتهى زرعة ذو نواس إلى ما انتهى إليه بأهل نجران من التحريق والقتل أفلت منهم رجل من سبأ يقال له دوس ذو ثعلبان على فرس له فسلك الرمل فأعجزهم فمضى على وجهه ذلك حتى أتى قيصر صاحب الروم فاستنصره على ذي نواس وجنوده وأخبره بما بلغ منهم فقال له بعدت بلادك منا ولكني سأكتب لك إلى ملك الحبشة فإنه على هذا الدين وهو أقرب إلى بلادك
فكتب إليه يأمره بنصره والطلب بثأره
فقدم دوس على النجاشي بكتاب قيصر فبعث معه سبعين ألفا من الحبشة وأمر عليهم رجلا منهم يقال له أرياط ومعه في جنده أبرهة الأشرم فركب أرياط البحر حتى نزل بساحل اليمن ومعه دوس فسار إليه ذو نواس في حمير ومن أطاعه من قبائل اليمن فلما التقوا انهزم ذو نواس وأصحابه فلما رأى ذو نواس ما نزل به وبقومه وجه فرسه إلى البحر ثم ضربه فدخل به فخاض به ضحضاح البحر حتى أفضى به إلى غمره فأدخله فيه فكان آخر العهد به
ودخل أرياط اليمن فملكها(1/75)
فأقام بها سنين في سلطانه ذلك ثم نازعه في أمر الحبشة باليمن أبرهة الحبشي حتى تفرقت الحبشة عليهما فانحاز إلى كل واحد منهما طائفة منهم ثم سار أحدهما إلى الآخر فلما تقارب الناس أرسل أبرهة إلى أرياط أنك لا تصنع بأن تلقي الحبشة بعضها ببعض حتى تفنيها شيئا فأبرز لي وأبرز لك فأينا أصاب صاحبه انصرف إليه جنده فأرسل إليه أرياط أنصفت
فخرج إليه أبرهة وكان رجلا قصيرا لحيما وكان ذا دين في النصرانية وخرج إليه أرياط وكان رجلا عظيما جميلا طويلا وفي يده حربة له وخلف أبرهة غلام له يقال له عتودة يمنع ظهره فرفع أرياط الحربة فضرب أبرهة يريد يافوخه فوقعت الحربة على جبهة أبرهة فشرمت حاجبه وأنفه وعينه وشفته فبذلك سمى أبرهة الأشرم
وحمل عتودة على أرياط من خلف أبرهة فقتله
فانصرف جند أرياط إلى أبرهة فاجتمعت عليه الحبشة باليمن وودى أبرهة أرياط
فلما بلغ ذلك النجاشي غضب غضبا شديدا وقال عدا على أميري فقتله بغير أمري ثم حلف لا يدع أبرهة حتى يطأ بلاده ويجز ناصيته
فحلق ابرهة رأسه وملأ جرابا من تراب اليمن ثم بعث به إلى النجاشي وكتب إليه أيها الملك إنما كان أرياط عبدك وأنا عبدك اختلفنا في أمرك وكل طاعته لك إلا أني كنت أقوى على أمر الحبشة واضبط لها وأسوس منه وقد حلقت رأسي كله حين بلغني قسم الملك وبعثت إليه بجراب من تراب أرضي ليضعه تحت قدميه فيبر قسمه في
فلما انتهى ذلك إلى النجاشي رضي عنه وكتب إليه أن أثبت بأرض اليمن حتى يأتيك أمري
فأقام بها ثم إن أبرهة بني القليس بصنعاء فبني كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض ثم كتب إلى النجاشي إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب(1/76)
فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشي غضب رجل من النسأة أحد بني فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة فخرج حتى أتى القليس فأحدث فيها ثم لحق بأرضه فأخبر بذلك أبرهة فقال من صنع هذا فقيل له رجل من أهل هذا البيت الذي تحج العرب إليه بمكة لما سمع قولك أصرف إليها حج العرب غضب فجاء فقعد فيها أي أنها ليست لذلك بأهل
فغضب عند ذلك أبرهة وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه
ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت ثم ساروا وخرج معه بالفيل
وسمعت بذلك العرب فأعظموه و فظعوا به ورأوا جهاده حقا عليهم حين سمعوا بأنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام
فخرج إليه رجل كان من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت الله وما يريد من هدمه و إخرابه
فأجابه من أجابه إلى ذلك ثم عرض له فقاتله فهزم ذو نفر وأصحابه وأخذ له ذو نفر فأتي به أسيرا فلما أراد قتله قال له ذو نفر أيها الملك لا تقتلني فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من قتلى
وكان أبرهة رجلا حليما فتركه من القتل وحبسه عنده في وثاق
ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج له حتى إذا كان بأرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي في قبيلي خثعم شهران وناهس ومن تبعه من قبائل العرب فقاتله فهزمه أبرهة وأخذ له نفيل أسيرا فأتى به فلما هم بقتله قال له نفيل أيها الملك لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب وهاتان يداي لك على قبيلي خثعم شهران وناهس بالسمع والطاعة
فخلى سبيله وخرج به معه يدله
حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب بن مالك الثقفي في رجال ثقيف فقالوا له أيها الملك إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون ليس عندنا لك خلاف وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد يعنون اللات إنما تريد البيت الذي بمكة ونحن نبعث معك من يدلك عليه(1/77)
فجاوز عنهم واللات بيت لهم بالطائف كانوا يعظمونه نحو تعظيم الكعبة فبعثوا معه أبا رغال يدل على الطريق إلى مكة
فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله المغمس فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك فرجمت قبره العرب فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس
فلما نزل ابرهة المغمس بعث رجلا من الحبشة يقال له الأسود بن مقصود على خيل له حتى انتهى إلى مكة فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم وهو يومئذ كبير قريش وسيدها
فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله ثم عرفوا أنه لا طاقة لهم به فتركوا ذلك
وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة وقال له سل عن سيد أهل هذا البلد و شريفهم ثم قل له إن الملك يقول لك إني لم آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت فإن لم تعرضوا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم فإن هو لم يرض حربي فائتني به
فلما دخل حناطة مكة سأل عن سيد قريش وشريفها فقيل له عبد المطلب بن هاشم
فجأه فقال له ما أمر به أبرهة فقال له عبد المطلب والله ما نريد حربه وما لنا بذلك منه طاقة هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم أو كما قال فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمته وإن يخل بينه وبينه فوا لله ما عندنا دفع عنه فقال حناطة فانطلق إليه فإنه قد أمرني أن آتيه بك
فانطلق معه عبد المطلب ومعه بعض بنيه حتى أتى المعسكر فسأل عن ذي نفر وكان له صديقا حتى دخل عليه في محبسه فقال له يا ذا نفر هل عندك من غناء فيما نزل بنا فقال له ذو نفر وما غناء رجل أسير في يدي ملك ينتظر أن يقتله غدوا أو عشيا ما عندي غناء في شيء مما نزل بك إلا أن أنيسا سائس الفيل صديق لي فسأرسل إليه فأوصيه بك وأعظم عليه حقك وأسأله أن يستأذن لك على الملك فتكلمه بما بدا لك ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك قال حسبي(1/78)
فبعث ذو نفر إلى أنيس فقال له إن عبد المطلب سيد قريش وصاحب عير مكة يطعم الناس بالسهل والوحوش في رءوس الجبال وقد أصاب له الملك مائتي بعير فاستأذن له عليه وانفعه عنده بما استطعت قال أفعل
فكلم أنيس أبرهة قال له أيها الملك هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك فأذن له فليكلمك في حاجته
ووصفه له بما وصفه ذو نفر لأنيس
فأذن له أبرهة وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجمله وأعظمه فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه عن أن يجلسه تحته وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه ثم قال لترجمانه قل له حاجتك فقال له ذلك الترجمان فقال حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي فلما قال له ذلك قال أبرهة لترجمانه قل
له لقد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم قد زهدت فيك حين كلمتني أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه
قال عبد المطلب أنا رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه قال ما كان ليمتنع مني قال أنت وذاك
ويزعم بعض أهل العلم أنه كان ذهب مع عبد المطلب إلى أبرهة يعمر بن نفاثة بن عدي بن الدئل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة وهو يومئذ سيد بني بكر وخويلد بن واثلة الهذلي وهو يومئذ سيد هذيل فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم ولا يهدم البيت فأبى عليهم فالله أعلم أكان ذلك أم لا
فرد أبرهة على عبد المطلب الإبل التي أصاب له فلما انصرفوا عنه انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعف الجبال والشعاب تخوفا عليهم من معرة الجيش
ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده
فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة
لا هم إن العبد يمنع
رحله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم
و محالهم غدوا محالك(1/79)
ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال فتحرزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها
فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة وهيأ فيله وعبي جيشه وكان اسم الفيل محمودا وأبرهة مجمع لهدم البيت والانصراف إلى اليمن فلما وجهوا الفيل إلى مكة قام نفيل بن حبيب إلى جنب الفيل ثم أخذ بأذنه فقال له ابرك محمود وارجع
راشدا من حيث جئت فإنك في بلد الله الحرام ثم أرسل أذنه فبرك الفيل وخرج نفيل يشتد حتى أصعد في الجبل
وضربوا الفيل ليقوم فأبي وضربوه في رأسه بالطبرزين ليقوم فأبى فأدخلوا محاجن لهم في مراقه فبزغوه بها ليقوم فأبى فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك ووجهوه إلى مكة فبرك
وأرسل الله عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها حجر في منقاره وحجران في رجليه أمثال الحمص والعدس لا تصيب منهم أحدا إلا هلك وليس كلهم أصابت
وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاءوا ويسألون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن فقال نفيل حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته
أين المفر والإله الطالب
والأشرم المغلوب ليس الغالب
وقال نفيل أيضا
ألا حييت عنا يا ردينا
نعمناكم مع الإصباح عينا
ردينة لو رأيت ولا تريه
لدى جنب المحصب ما رأينا
إذا لعذرتني وحمدت أمري
ولم تأسي على ما فات بينا
حمدت الله إذ أبصرت طيرا
وخفت حجارة تلقى علينا
فكل القوم يسأل عن نفيل
كأن علي للحبشان دينا
فخرجوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون بكل مهلك على كل منهل وأصيب أبرهة في جسده وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة كلما سقطت أنملة منها أتبعتها مدة تمث قيحا ودما حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه فيما يزعمون(1/80)
ويقال أنه أول ما رئيت الحصبة و الجدرى بأرض العرب ذلك العام وإنه أول ما رئي بها مرائر الشجر الحرمل والحنظل والعشر ذلك العام
فلما بعث الله محمدا {صلى الله عليه وسلم} كان مما يعد الله على قريش من نعمته عليهم وفضله ما رد عنهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم ومدتهم فقال تبارك وتعالى ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل الم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول
وقالت عائشة رضي الله عنها لقد رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان
قال ابن إسحاق فلما رد الله الحبشة عن مكة وأصابهم ما أصابهم به من النقمة أعظمت العرب قريشا وقالوا هم أهل الله قاتل الله عنهم وكفاهم مؤنة عدوهم فقالوا في ذلك أشعارا يذكرون فيها ما صنع الله بالحبشة وما رد عن قريش من كيدهم فقال عبد الله بن الزبعري السهمي
تنكلوا عن بطن مكة إنها
كانت قديما لا يرام حريمها
لم تخلق الشعري ليالي حرمت
إذ لا عزيز من الأنام يرومها
سائل أمير الحبش عنها ما رأى
ولسوف ينبي الجاهلين عليمها
ستون ألفا لم يؤوبوا أرضهم
بل لم يعش بعد الإياب سقيمها
كانت بها عادوجرهم قبلهم
والله من فوق العباد يقيمها
وقال أبو قيس بن الأسلت الأنصاري ثم الخطمي من قصيدة سيأتي ذكرها بجملتها
فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا
بأركان هذا البيت بين الأخاشب
فعندكم منه بلاء مصدق
غداة أبي يكسوم هادي الكتائب
كتيبته بالسهل تمشي ورجله
على القاذفات في رءوس المناقب
فلما أتاكم نصر ذي العرش ردهم
جنود المليك بين ساف وحاصب
فولوا سراعا هاربين ولم يؤب
إلى قومه ملحبش غير عصائب
وقالت سبيعة بنت الأحب بن زبينة من بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن ابن منصور لابنها خارجة بن عبد مناف بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة تعظم عليه حرمة مكة وتنهاه عن البغي فيها وتذكر تبعا وتذلله لها والفيل وهلاك جيشه عندها
أبني لا تظلم بمكة
لا الصغير ولا الكبير
واحفظ محارمها بني
ولا يغرنك الغرور(1/81)
أبني من يظلم بمكة
يلق أطراف الشرور
أبني يضرب وجهه
ويلح بخديه السعير
أبني قد جربتها
فوجدت ظالمها يبور
الله آمنها وما
بنيت بعرصتها قصور
والله آمن طيرها
و العصم تأمن في ثبير
ولقد غزاها تبع
فكسا بنيتها الحبير
وأذل ربي ملكه
فيها فأوفى بالنذور
يمشي إليها حافيا
بفنائها ألفا بعير
ويظل يطعم أهلها
لحم المهارى والجزور
يسقيهم العسل المصفي
والرحيض من الشعير
والفيل أهلك جيشه
يرمون فيهابالصخور
والملك في أقصى البلاد
وفي الأعاجم و الجزير
فاسمع إذا حدثت وافهم
كيف عاقبة الأمور
ولم يزل شعراء أهل الجاهلية يذكرون ذلك في أشعارهم معتدين بصنع الله فيه وقد جرى على ذلك شعراء الإسلام فقال الفرزدق بن غالب التميمي يمدح سليمان بن عبد الملك بن مروان ويعرض للحجاج بن يوسف ويذكر الفيل وجيشه
فلما طغى الحجاج حين طغى به
غنى قال إني مرتق في السلالم
فقال كما قال ابن نوح سأرتقى
إلى جبل من خشية الماء عاصم
رمى الله في جثمانه مثل ما رمى
عن القبلة البيضاء ذات المحارم
جنودا تسوق الفيل حتى أعادهم
هباء وكانوا مطرخمي الطراخم
نصرت كنصر البيت إذ ساق فيله
إليه عظيم المشركين الأعاجم
قال ابن إسحاق فلما هلك أبرهة ملك الحبشة ابنه يكسوم بن أبرهة وبه كان يكنى فلما هلك يكسوم ملك اليمن في الحبشة أخوه مسروق بن أبرهة
فلما طال البلاء على أهل اليمن خرج سيف بن ذي يزن الحميري حتى قدم على قيصر ملك الروم فشكا إليه ما هم فيه وسأله أن يخرجهم عنه ويليهم هو ويبعث إليهم من شاء من الروم فلم يشكه
فخرج حتى أتى النعمان بن المنذر وهو عامل كسرى على الحيرة وما يليها من أرض العراق فشكا إليه أمر الحبشة فقال له النعمان إن لي على كسرى وفادة في كل عام فأقم حين يكون ذلك ففعل(1/82)
ثم خرج معه فأدخله على كسرى وكان كسرى يجلس في إيوان مجلسه الذي فيه تاجه وكان تاجه مثل القلنقل العظيم فيما يزعمون يضرب فيه الياقوت والزبرجد واللؤلؤ بالذهب والفضة معلقا بسلسلة من ذهب في رأس طاقة في مجلسه ذلك وكانت عنقه لا تحمل تاجه إنما يستر بالثياب حتى يجلس في مجلسه ذلك ثم يدخل رأسه في تاجه فإذا استوى في مجلسه كشفت عنه الثياب فلا يراه رجل لم يره قبل ذلك إلا برك هيبة له
فلما دخل عليه سيف بن ذي يزن برك وقيل إنه لما دخل عليه طأطأ رأسه فقال الملك إن هذا لأحمق يدخل علي من هذا الباب الطويل ثم يطأطئ رأسه
فقيل ذلك لسيف فقال إنما فعلت هذا لهمي لأنه يضيق عنه كل شيء
ثم قال أيها الملك غلبنا على بلادنا الأغربة
فقال كسرى أي الأغربة الحبشة أم السند
قال بل الحبشة فجئتك لتنصرني ويكون ملك بلادي لك
قال بعدت بلادك مع قلة خيرها فلم أكن لأورط جيشا من فارس بأرض العرب لا حاجة لي بذلك
ثم أجازه بعشرة آلاف درهم واف وكساه كسوة حسنة
فلما قبض ذلك سيف خرج فجعل ينثر تلك الورق للناس
فبلغ ذلك الملك فقال إن لهذا لشأنا
ثم بعث إليه فقال عمدت إلى حباء الملك تنثره للناس فقال وما أصنع بهذا ما جبال أرضي التي جئت منها إلا ذهب وفضة يرغبه فيها
فجمع كسرى مرازبته فقال ماذا ترون في أمر هذا الرجل وما جاء له فقال قائل أيها الملك إن في سجونك رجالا حبستهم للقتل فلو أنك بعثتهم معه فإن يهلكوا كان ذلك الذي أردت وإن ظفروا كان ملكا ازددته
فبعث معه كسرى من كان في سجونه وكانوا ثمانمائة رجل واستعمل عليهم رجلا منهم يقال له وهرز وكان ذا سن فيهم وأفضلهم حسبا وبيتا فخرجوا في ثمان سفائن فغرقت سفينتان ووصلت إلى ساحل عدن ست سفائن
فجمع سيف إلى وهرز من استطاع من قومه وقال له رجلي مع رجلك حتى نموت جميعا أو نظفر جميعا قال وهرز أنصفت
وخرج إليه مسروق بن أبرهة ملك اليمن وجمع إليه جنوده فأرسل إليهم(1/83)
وهرز ابنا له ليقاتلهم فيختبر قتالهم فقتل ابن وهرز فزاده ذلك حنقا عليهم
فلم تواقف الناس على مصافهم قال وهرز أروني ملكهم قالوا له أترى رجلا على الفيل عاقدا تاجه على رأسه بين عينيه ياقوتة حمراء قال نعم قالوا ذلك ملكهم قال اتركوه
فوقفوا طويلا ثم قال علام هو قالوا قد تحول على الفرس قال أتركوه
فوقفوا طويلا ثم قال علام هو قالوا على البغلة قال وهرز بنت الحمار ذل وذل ملكه إني سأرميه فإن رأيتم أصحابه لم يتحركوا فاثبتوا حتى أوذنكم فإني قد أخطأت الرجل وإن رأيتم القوم قد استداروا ولاثوا به فقد أصبت الرجل فاحملوا عليهم
ثم أوتر قوسه وكانت فيما يزعمون لا يوترها غيره من شدتها وأمر بحاجبيه فعصبا له ثم رمى فصك الياقوتة التي بين عينيه فتغلغلت النشابة في رأسه حتى خرجت من قفاه ونكس عن دابته واستدارت الحبشة ولاثت به وحملت عليهم الفرس وانهزموا فقتلوا وهربوا في كل وجه
وأقبل وهرز ليدخل صنعاء حتى إذا أتى بابها قال لا تدخل رايتي منكسة أبدا اهدموا الباب فهدم ثم دخلها ناصبا رايته
وقال في ذلك أبو الصلت بن أبي ربيعة الثقفي وتروى لابنه أمية بن أبي الصلت
ليطلب الوتر أمثال ابن ذي يزن
مذيم في البحر للأعداء أحوالا
يهم قيصر لما حاز رحلته
فلم يجد عنده بعض الذي سالا
حتى أتى ببني الأحرار يحملهم
إنك عمري لقد اسرعت قلقالا
لله درهم من عصبة خرجوا
ما إن أرى لهم في الناس أمثالا
بيضا مرازبة غلبا أساورة
أسدا تربب في الغيضات أشبالا
أرسلت أسدا على سود الكلاب فقد
أضحى شريدهم في الأرض فلالا
فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفعا
في رأس غمدان دارا منك محلالا
واشرب هنيئا فقد شالت نعامتهم
وأسبل اليوم في برديك إسبالا
تلك المكارم لا قعبان من لبن
شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
وأقام وهرز والفرس باليمن فمن بقية ذلك الجيش من الفرس الأبناء الذين باليمن اليوم(1/84)
وكان ملك الحبشة باليمن منذ دخلها أرياط إلا أن أخرجتهم الفرس عنها اثنتين وسبعين سنة وفق ما ذكره سطيح وشق في تأويل رؤيا ربيعة بن نصر
ثم مات وهرز فأمر كسرى ابنه المرزبان بن وهرز على اليمن ثم مات المرزبان فأمر كسرى ابنه التينجان بن المرزبان ثم مات فأمر كسرى ابن التينجان ثم عزله وولى باذان فلم يزل عليها حتى بعث الله محمدا {صلى الله عليه وسلم}
فلما بلغ مبعثه كسرى كتب إلى باذان إنه بلغني أن رجلا من قريش خرج بمكة يزعم أنه نبي فسر إليه فاستتبه فإن تاب وإلا فابعث إلي برأسه
فبعث باذان بكتاب كسرى إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فكتب إليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن الله قد وعدني أن يقتل كسرى في يوم كذا من شهر كذا
فلما أتى باذان الكتاب توقف لينظر وقال إن كان نبيا فسيكون ما قال
فقتل الله كسرى على يد ابنه شيرويه في اليوم الذي قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فلما بلغ ذلك باذان بعث بإسلامه وإسلام من معه إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فقالت الرسل من الفرس إلى من نحن يا رسول الله قال أنتم منا وإلينا أهل البيت
قال الزهري فمن ثم قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سلمان منا أهل البيت
وكل هذه الأخبار وإن قطعت بعض ما كنا بسبيله من أمر بني قصي فلها أيضا من الإفادة بنحو ما قصدناه وحسن الإمتاع بالشأن المناسب لما اعتمدناه ما يحسن اعتراضها وينظم في سلك واحد مع ما مر من ذلك أو يأتي أغراضها
وعلينا بمعونة الله في تجويد الترتيب لذلك كله تطبيق المنفصل ورد هذه الأحاديث المتفرقة في حكم الحديث المتصل فنطيل ولا نمل ونقصر فلا نخل كل ذلك ببركة المختار الذي يممنا تخليد أوليته وتيمنا بخدمة آثاره وسيرته صلى الله عليه وعلى آله الأكرمين وصحابته
وكنا انتهينا من شأن بني قصي بعده إلى ما تراضوا به بينهم من الصلح على أن تكون السقاية والرفادة لبني عبد مناف وتكون حجابة البيت واللواء والندوة لبني عبد الدار على نحو ما جعله قصي إلى أبيهم
فولى السقاية والرفادة هاشم بن عبد مناف(1/85)
وذلك أن عبد شمس كان رجلا سفارا قلما يقيم بمكة وكان مقلا ذا ولد كثير وكان هاشم موسرا وكان فيما يزعمون إذا حضر الحج قام صبيحة هلال ذي الحجة فيسند طهره إلى الكعبة من تلقاء بابها فيحض قومه على رفادة الحاج التي سنها لهم قصي و يقول لهم في خطبته يا معشر قريش أنتم سادة العرب أحسنها وجوها وأعظمها أحلاما وأوسط العرب أنسابا وأقرب العرب بالعرب أرحاما
يا معشر قريش إنكم جيران بيت الله أكرمكم الله بولايته وخصكم بجواره دون بني إسماعيل حفظ منكم أحسن ما حفظ جار من جاره وإنه يأتيكم في هذا الموسم زوار الله يعظمون حرمة بيته فهم ضيف الله وأحق الضيف بالكرامة ضيفه فأكرموا ضيفه وزواره فإنهم يأتون شعثا غبرا من كل بلد على ضوامر كالقداح وقد أزحفوا وأرملوا فأقروهم وأعينوهم فورب هذه البنية لو كان لي مال يحمل ذلك لكفيتكموه وأنا مخرج من طيب مالي وحلاله ما لم تقطع فيه رحم ولم يؤخذ بظلم ولم يدخل فيه حرام فواضعه
فمن شاء منكم أن يفعل مثل ذلك فعله وأسألكم بحرمة هذا البيت ألا يخرج رجل منكم من ماله لكرامة زوار بيت الله ومعونتهم إلا طيبا لم تقطع فيه رحم ولم يؤخذ غصبا
فكانت بنو كعب بن لؤي وسائر قريش يجتهدون في ذلك ويترافدون عليه ويخرجون ذلك من أموالهم حتى يأتوا به هاشم بن عبد مناف فيضعوه في داره حتى إن كان أهل البيت ليرسلون بالشيء اليسير على قدرهم وكان هاشم يخرج في كل سنة مالا كثيرا وكان قوم من قريش أهل يسار ربما أرسل كل إنسان منهم بمائة مثقال هرقلية
وكان هاشم يأمر بحياض من أدم فتجعل في موضع زمزم من قبل أن تحفر ثم يستقي فيها من البيار التي بمكة فيشرب الحاج
وكان يطعمهم أول ما يطعمهم بمكة قبل التروية بيوم ثم بمنى وبجمع وعرفة يثرد لهم الخبز واللحم والخبز والسمن والسويق والتمر ويحمل لهم الماء فيطعمهم ويسقيهم حتى يصدروا(1/86)
وكان اسم هاشم عمرا ويقال له عمرو العلا وإنما سمي هاشما لهشمه الخبز بمكة لقومه وهو فيما يذكرون أول من سن الرحلتين لقريش رحلة الشتاء والصيف وفي ذلك يقول بعض شعرائهم
عمرو العلا هشم الثريد لقومه
قوم بمكة مسنتين عجاف
سنت إليه الرحلتان كلاهما
سفر الشتاء ورحلة الإصياف
وذلك أن قريشا كانوا قوما تجارا وكانت تجارتهم لا تعدو مكة إنما يقدم الأعاجم بالسلع فيشترون منهم ويتبايعون فيما بينهم ويبيعون ممن حولهم من العرب
فلم يزالوا كذلك حتى ذهب هاشم إلى الشام فكان يذبح كل يوم شاة فيصنع جفنة ثريد ويدعو من حوله فيأكلون
وكان هاشم من أحسن الناس وأجملهم إلى شرف نفسه وكرم فعاله فذكر لقيصر فدعا به فلما رآه وكلمه أعجب به وأدناه
فلما رأى هاشم مكانه منه طلب منه أمانا لقومه ليقدموا بلاده بتجاراتهم فأجابه إلى ذلك وكتب لهم قيصر كتاب أمان لمن أتى منهم
فأقبل هاشم بذلك الكتاب فكلما مر بحي من أحياء العرب أخذ من أشرافهم إيلافا لقومه يأمنون به عندهم وفي أرضهم من غير حلف وإنما هو أمان الطريق
واستوفى أخذ ذلك ممن بين مكة والشام فأتى قومه بأعظم شيء أتوا به قط بركة فخرجوا بتجارة عظيمة وخرج هاشم معهم ليوفيهم إيلافهم الذي أخذ لهم من العرب فلم يزل يوفيهم إياه ويجمع بينهم وبين العرب حتى قدم بهم الشام
فهلك هاشم في سفره ذلك بغزة من أرض الشام
وكان أول بني عبد مناف هلكا
وخرج المطلب بن عبد مناف وهو يسمى الفيض لسماحته وفضله إلى اليمن فأخذ من ملوكهم أمانا لمن تجر من قومه إلى بلادهم ثم أقبل يأخذ لهم الإيلاف ممن كان على طريقه من العرب كما فعل أخوه هاشم حتى أتى مكة ثم رجع إلى اليمن فمات بردمان
وخرج عبد شمس بن عبد مناف إلى ملك الحبشة فأخذ منه أمانا كذلك لمن تجرمن قريش إلى بلاده ثم أخذ الإيلاف من العرب الذين على الطريق إليها حتى بلغ مكة وتوفي بها فقبره بالحجون(1/87)
وخرج نوفل بن عبد مناف وكان أصغر ولد أبيه إلى العراق فأخذ عهدا من كسرى لتجار قريش ثم أقبل يأخذ الإيلاف ممن مر به من العرب حتى قدم مكة ثم رجع إلى العراق فمات بسلمان من ناحية العراق
فجبر الله قريشا بهؤلاء النفر الأربعة من بني عبد مناف فنمت أموالهم واتسعت تجارتهم فكان بنو عبد مناف يسمون لأجل ذلك المجيزين والعرب تسميهم أقداح النضار لطيب أحسابهم وكرم فعالهم
وقال مطرود بن كعب الخزاعي يبكيهم جميعا حين أتاه نعي نوفل منهم وكان آخرهم هلكا
يا ليلة هيجت ليلاتي
إحدى ليالي القسيات
وما أقاسي من هموم وما
عالجت من رزء المنيات
إذا تذكرت أخي نوفلا
ذكرني بالأوليات
ذكرني بالأرز الحمر والأردية
الصفر القشييبات
أربعة كلهم سيد
أبناء سادات لسادات
ميت بردمان وميت بسلمان
وميت بين غزات
وميت أسكن لحدا لدى الحجون
شرقي البنيات
أخلصهم عبد مناف فهم
من لوم من لام بمنجاة
إن المغيرات وأبناءها
من خير أحياء وأموات
وإنما سماهم المغيرات لأن عبد مناف أباهم كان اسمه المغيرة
فقيل لمطرود فيما يزعمون لقد قلت فأحسنت ولو كان أفحل مما هو كان أحسن
فقال أنظروني ليالي فمكث أياما ثم قال
ياعين جودي وأذري الدمع وانهمرى
وابكي على السر من كعب المغيرات
يا عين واستحنفري بالدمع واحتفلي
وابكي خبيئة نفسي في الملمات
وابكي على كل فياض أخي ثقة
ضخم الدسيعة وهاب الجزيلات
محض الضريبة عالي الهم مختلق
جلد النحيزة ناء بالعظيمات
صعب البديهة لا نكس ولا وكل
ماضي العزيمة متلاف الكريمات
صقر توسط من كعب إذا نسبوا
بحبوحة المجد والشم الرفيعات
ثم اندبي الفيض والفياض مطلبا
واستخرطي بعد فياض بجمات
أمسى بردمان عنا اليوم مغتربا
يا لهف نفسي عليه بين أموات
وابكي لك الويل إما كنت باكية
لعبد شمس بشرقي البنيات
وهاشم في ضريح وسط بلقعة
تسفي الرياح عليه بين غزات
ونوفل كان دون القوم خالصتي
أمسى بسلمان في رمس بمومات
لم ألق مثلهم عجما ولا عربا(1/88)
إذا استقلت بهم أدم المطيات
أمست ديارهم منهم معطلة
وقد يكونون زينا في السريات
أفناهم الدهر أم كلت سيوفهم
أم كل من عاش أزواد المنيات
أصبحت أرضي من الأقوام بعدهم
بسط الوجوه وإلقاء التحيات
يا عين وابكي أبا الشعث الشجيات
يبكينه حسرا مثل البليات
يبكين أكرم من يمشي على قدم
يعولنه بدموع بعد عبرات
يبكين شخصا طويل الباع ذا فخر
آبي الهضيمة فراج الجليلات
يبكين عمرو العلا إذ حان مصرعه
سمح السجية بسام العشيات
يبكينه مستكينات على حزن
يا طول ذلك من حزن وعولات
يبكين لما جلاهن الزمان له
خضر الخدود كأمثال الحميات
محتزمات على أوساطهن لما
جر الزمان من احداث المصيبات
أبيت ليلى أراعي النجم من ألم
أبكي وتبكي معي شجوي بنياتي
ما في القروم لهم عدل ولا خطر
ولا لمن تركوا شروى بقيات
أبناؤهم خير أبناء وأنفسهم
خير النفوس لدى جهد الأليات
كم وهبوا من طمر سابح أرن
ومن طمرة نهب في طمرات
ومن سيوف من الهندي مخلصة
ومن رماح كأشطان الركيات
ومن توابع مما يفضلون بها
عند المسائل من بذل العطيات
فلو حسبت وأحصى الحاسبون معي
لم أحص أفعالهم تلك الهنيات
هم المدلون إما معشر فخروا
عند الفخار بأنساب نقيات
زين البيوت التي خلوا مساكنها
فأصبحت منهم وحشا خليات
أقول والعين لا ترقا مدامعها
لا يبعد الله أصحاب الرزيات
وكان هاشم بن عبد مناف قد قدم المدينة فتزوج بها سلمى بنت عمرو أحد بني عدي بن النجار وكانت قبله عند أحيحة بن الجلاح فيما ذكر ابن إسحاق
قال وكانت لا تنكح الرجال لشرفها حتى يشترطوا لها أن أمرها بيدها إن كرهت رجلا فارقته
فولدت لهاشم عبد المطلب فسمته شيبة فتركه هاشم عندها حتى كان وصيفا أو فوق ذلك
ثم خرج إليه عمه المطلب ليقبضه فيلحقه ببلده وقومه فقالت له سلمى لست بمرسلته معك(1/89)
فقال لها المطلب إني غير منصرف حتى أخرج به معي إن ابن أخي قد بلغ وهو غريب في غير قومه ونحن أهل بيت شرف في قومنا نلي كثيرا من أمرهم ورهطه وعشيرته وبلده خير له من الإقامة في غيرهم أو كما قال
وقال شيبة لعمه المطلب فيما يزعمون لست بمفارقها إلا أن تأذن لي
فأذنت له ودفعته إليه فاحتمله فدخل به مكة مردفة على بعيره فقالت قريش عبد المطلب ابتاعه
فبها سمي شيبة عبد المطلب
فقال المطلب ويحكم إنما هو ابن أخي هاشم قدمت به من المدينة
وذكر الزبير أن شيبة إنما سمي عبد المطلب لأن عمه المطلب لما قدم به من يثرب ودخل به مكة ضحوة مردفه خلفه والناس في أسواقهم ومجالسهم قاموا يرحبون به ويقولون من هذا معك فيقول عبد لي ابتعته بيثرب فلما كان العشية ألبسه حلة ابتاعها له ثم أجلسه في مجلس بني عبد مناف وأخبرهم خبره
فجعل بعد ذلك يخرج في تلك الحلة فيطوف في سكك مكة وكان أحسن الناس فيقولون هذا عبد المطلب لقول المطلب فيه ذلك فلج اسمه عبد المطلب وترك شيبة
وكان يقال لعبد المطلب شيبة الحمد وإنما سمي شيبة لأنه كان في ذؤابته شعرة بيضاء
ثم ولى عبد المطلب بن هاشم السقاية والرفادة بعد عمه المطلب فأقامها للناس وأقام لقومه ما كان آباؤه يقيمون لقومهم من أمرهم قبله وشرف في قومه شرفا لم يبلغه أحد من آبائه وأحبه قومه وعظم خطره فيهم
ويقال كان يعرف في عبد المطلب نور النبوة وهيبة الملك
قال الزبير ومكارم عبد المطلب أكثر من أن أحيط بها كان سيد قريش غير مدافع نفسا وأبا وبيتا وجمالا وبهاء وفعالا وكمالا
فصلي الله على المنتخب من ذريته المخصوص بأولية الفخر وآخريته وعلى آلة الأكرمين وعترته وسلم تسليما
ذكر حفر عبد المطلب زمزم
وما يتصل بذلك من حديث مولد رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
قد تقدم الخبر عن زمزم أنها بئر إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام التي سقاه الله حين ظمأ وهو صغير(1/90)
وكانت جرهم دفنتها حين ظعنوا من مكة بين صنمي قريش إساف ونائلة عند منحر قريش فبقي أمرها كذلك إلى أن أمر عبد المطلب بن هاشم بحفرها
فذكر ابن إسحاق وغيره من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال عبد المطلب إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت فقال احفر طيبة قلت وما طيبة ثم ذهب عني
فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال احفر برة فقلت وما برة ثم ذهب عني
فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال احفر المضنونة قلت وما المضنونة ثم ذهب عني
فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال احفر زمزم قلت وما زمزم
قال لا تنزف أبدا ولا تذم تسقي الحجيج الأعظم وهي بين الفرث والدم عند نقرة الغراب الأعصم عند قرية النمل
فلما بين له شأنها ودل على موضعها وعرف أنه قد صدق غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث ليس له يومئذ ولد غيره فحفر
فلما بدا لعبد المطلب الطي كبر
فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته فقاموا إليه فقالوا يا عبد المطلب إنها بئر أبينا إسماعيل وإن لنا فيها حقا فأشركنا معك فيها
قال ما أنا بفاعل إن هذا الأمر خصصت به دونكم وأعطيته من بينكم
قالوا له فأنصفنا فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها
قال اجعلوا بيني وبينكم من شئتم نحاكمكم إليه
قالوا كاهنة بني سعد بن هذيم قال نعم وكانت بأشراف الشام
فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني أبيه من بني عبد مناف وركب من كل قبيلة من قريش نفر قال والأرض إذ ذاك مفاوز
قال فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز والشام فني ماء عبد المطلب وأصحابه فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة فاستسقوا من معهم من قبائل قريش فأبوا عليهم وقالوا إنا بمفازة ونحن نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم
فلما رأى عبد المطلب ما صنع القوم وما يتخوف على نفسه وأصحابه قال ماذا ترون قالوا ما رأينا إلا تبع لرأيك فمرنا بما شئت(1/91)
قال فإني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما بكم الآن من القوة فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته ثم واروه حتى يكون آخركم رجلا واحدا فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعا
قالوا نعم ما أمرت به فقام كل رجل منهم فحفر حفرته ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشا
ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضرب في الأرض ولا نبتغي لأنفسنا لعجز فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد ارتحلوا
فارتحلوا حتى إذا فرغوا ومن معهم من قبائل قريش ينظرون إليهم ما هم فاعلون تقدم عبد المطلب إلى راحلته فركبها فلما انبعثت به انفجرت من تحت خفها عين من ماء عذب فكبر عبد المطلب وكبر أصحابه ثم نزل فشرب وشرب أصحابه واستقوا حتى ملأوا أسقيتهم
ثم دعا القبائل من قريش فقال هلم إلي الماء فقد سقانا الله فاشربوا واستقوا
فجاءوا فشربوا واستقوا ثم قالوا قد والله قضي لك علينا يا عبد المطلب والله لا نخاصمك في زمزم أبدا إن الذي سقاك الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم فارجع إلى سقايتك راشدا
فرجع ورجعوا معه ولم يصلوا إلى الكاهنة وخلوا بينه وبينها
وفي غير حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن عبد المطلب قيل له حين أمر بحفر زمزم
ثم ادع بالماء الروي غير الكدر
يسقي حجيج الله في كل مبر
ليس يخاف منه شيء ما عمر
فخرج عبد المطلب حين قيل له ذلك إلى قريش فقال تعلموا أني قد أمرت أن أحفر زمزم قالوا فهل بين لك أين هي قال لا قالوا فارجع إلى مضجعك الذي رأيت فيه ما رأيت فإن يك حقا من الله يبين لك وإن يك من الشيطان فلن يعود إليك
فرجع عبد المطلب إلى مضجعه فنام فيه فأتي فقيل له أحفر زمزم إنك إن حفرتها لم تندم وهي تراث من أبيك الأعظم لا
تنزف أبدا ولا تذم تستقي الحجيج الأعظم مثل نعام حافل لم يقسم ينذر فيها ناذر لمنعم تكون ميراثا وعقدا محكم ليست كبعض ما قد تعلم وهي بين الفرث والدم(1/92)
فزعموا أنه حين قيل له ذلك قال وأين هي قيل له عند قرية النمل حيث ينقر الغراب غدا
فغدا عبد المطلب ومعه ابنه الحارث وليس له يومئذ ولد غيره فوجد قرية النمل ووجد الغراب ينقر عندها بين الوثنين إساف ونائلة اللذين كانت قريش تنحر عندهما ذبائحهم
فجاء بالمعول وقام ليحفر حيث أمر فقامت إليه قريش حين رأوا جده فقالوا والله لا نتركنك تحفر بين وثنينا هذين اللذين ننحر عندهما
فقال عبد المطلب لابنه الحارث ذب عني فو الله لأمضين لما أمرت به
فلما عرفوا أن غير نازع خلوا بينه وبين الحفر وكفوا عنه فلم يحفر إلا يسيرا حتى بدا له الطي فكبر وعرف أنه قد صدق فلما تمادى به الحفر وجد فيها غزالين من ذهب وهما الغزالان اللذان دفنت جرهم فيها حين خرجت من مكة ووجد فيها أسيافا قلعية وأدراعا
فقالت له قريش يا عبد المطلب لنا معك في هذا شرك وحق قال لا ولكن هلموا إلى أمر نصف بيني وبينكم فضرب عليها بالقداح قالوا وكيف نصنع قال أجعل للكعبة قدحين ولي قدحين ولكم قدحين فمن خرج قدحاه على شيء فهو له ومن تخلف قدحاه فلا شيء له قالوا أنصفت
فجعل قدحين أصفرين للكعبة وقدحين أسودين لعبد المطلب وقدحين أبيضين لقريش
ثم أعطوا القداح الذي يضرب بها عند هبل وهبل صنم في جوف الكعبة وهو
أعظم أصنامهم وهو الذي عنى أبو سفيان بن حرب لما نادى يوم أحد اعل هبل أي ظهر دينك
وقام عبد المطلب يدعوا الله وضرب صاحب القداح فخرج الأصفران على الغزالين وخرج الأسودان على الأسياف والأدراع لعبد المطلب وتخلف قدحا قريش
فضرب عبد المطلب الأسياف بابا للكعبة وضرب في الباب الغزالين من ذهب فكان أول ذهب حليته الكعبة فيما يزعمون
وذكر الزبير أن عبد المطلب لما أنبط الماء في زمزم حفرها في القرار ثم بحرها حتى لا تنزف ثم بنى عليها حوضا فطفق هو وابنه ينزعان عليها فيملآن ذلك الحوض فيشرب منه الحاج(1/93)
وكان قوم حسدة من قريش لا يزالون يكسرون حوضه ذلك بالليل ويغتسلون فيه فيصلحه عبد المطلب حين يصبح
فلما أكثروا فساده دعا عبد المطلب ربه فقيل له في المنام قل اللهم إني لا أحلها لمغتسل وهي لشارب حل وبل
فقام عبد المطلب في المسجد فنادى بالذي أرى ثم انصرف فلم يكن يفسد حوضه ذلك عليه أحد من قريش أو يغتسل فيه إلا رمي في جسده بداء حتى تركوا حوضه ذلك وسقايته فرقا
وذكر الزبير أيضا أن عبد المطلب لما حفر زمزم وأدرك منها ما أدرك وجدت قريش في أنفسها مما أعطي فلقيه خويلد بن أسد بن عبد العزى فقال يا ابن سلمى لقد سقيت ماء رغدا ونثلت عادية حتدا قال يا ابن أسد أما أنك تشرك في فضلها والله لا يساعفني أحد عليها ببر ولا يقوم معي بأزر إلا بذلت له خيرا لصهر فقال خويلد بن أسد
أقول وما قولي عليهم بسنة
إليك ابن سلمى أنت حافر زمزم
حفيرة إبراهيم يوم ابن آجر
وركضة جبريل على عهد آدم
فقال عبد المطلب ما وجدت أحدا ورث العلم الأقدم غير خويلد بن أسد
ثم إن عبد المطلب أقام سقاية زمزم للحجاج وكانت قريش قبل حفر زمزم قد احتفرت بئارا بمكة وكانت خارجا من مكة آبار حفائر قديمة من عهد مرة بن كعب وكلاب بن مرة وكبراء قريش الأول منها يشربون فعفت زمزم على تلك البئار التي كانت قبلها يسقى عليها الحاج
وانصرف الناس إليها لمكانها من المسجد الحرام ولفضلها على ما سواها من المياه ولأنها بئر اسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وافتخرت بها بنو عبد مناف على قريش كلها وعلى سائر العرب
وكان عبد المطلب فيما يزعمون والله أعلم قد نذر حين لقي من قريش ما لقي عند حفر زمزم لئن ولد له عشرة نفر ثم بلغوا معه حتى يمنعوه لينحرن أحدهم لله عز وجل عند الكعبة(1/94)
فلما توافى بنوه عشرة وعرف أنهم سيمنعونه جمعهم ثم أخبرهم بنذره ودعاهم إلى الوفاء به فأطاعوه وقالوا وكيف نصنع قال ليأخذ كل رجل منكم قدحا ثم يكتب اسمه فيه ثم ائتوني ففعلوا ثم اتوه فدخل بهم على هبل في جوف الكعبة وكان على بئر في جوف الكعبة فيها يجمع ما يهدى للكعبة وكان عند هبل قداح سبعة بها يضربون على ما يريدون وإلى ما تخرج به القداح ينتهون في أمورهم
فقال عبد المطلب لصاحب القداح اضرب على بني هؤلاء بقداحهم هذه
وأخبره بنذره الذي نذر وأعطاه كل رجل منهم قدحه الذي فيه اسمه وكان عبد الله بن عبد المطلب أحب بني أبيه إليه فيما زعموا فكان عبد المطلب يرى أن السهم إذا أخطأه فقد أشوى
فلما أخذ صاحب القداح القداح ليضرب بها قام عبد المطلب عند هبل يدعو الله ثم ضرب صاحب القداح فخرج القدح على عبد الله فأخذ عبد المطلب بيده وأخذ الشفرة ثم أقبل به إلى إساف ونائلة ليذبحه فقامت إليه قريش من أنديتها وقالوا ماذا تريد يا عبد المطلب قال أذبحه فقالت له قريش وبنوه والله لا تذبحه أبدا حتى تعذرفيه لئن فعلت هذا لا يزال الرجل يأتي بابنه فيذبحه فما بقاء الناس على هذا
وقال له المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم وكان عبد الله ابن أخت القوم أمه وأم أخويه الزبير وأبي طالب فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم والله لا تذبحه أبدا حتى تعذر فيه فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه وقالت له قريش وبنوه لا تفعل وانطلق إلى الحجاز فإن بها عرافة لها تابع فتسألها ثم أنت على رأس أمرك إن أمرتك بذبحه ذبحته وإن أمرتك بأمر لك وله فيه فرج قبلته
فانطلقوا حتى قدموا المدينة فوجدوها فيما يزعمون بخيبر فركبوا حتى جاءوها فسألوها وقص عليها عبد المطلب خبره وخبر ابنه وما أراد به ونذره فيه فقالت لهم ارجعوا عني اليوم حتى يأتيني تابعي فأسأله(1/95)
فرجعوا من عندها فلما خرجوا عنها قام عبد المطلب يدعو الله ثم غدو عليها فقالت لهم قد جاءني الخبر كم الدية فيكم قالوا عشرة من الإبل وكانت كذلك قالت فارجعوا إلى بلادكم ثم قربوا صاحبكم وقربوا عشرة من الإبل ثم اضربوا عليه وعليها بالقداح فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى
يرضى ربكم وإن خرجت على الإبل فانحروها عنه فقد رضي ربكم ونجا صاحبكم
فخرجوا حتى قدموا مكة فلما أجمعوا ذلك من الأمر قام عبد المطلب يدعو الله ثم قربوا عبد الله وعشرا من الإبل وعبد المطلب عند هبل يدعو الله ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله فزادوا عشرا من الإبل فبلغت الإبل عشرين وقام عبد المطلب يدعو الله ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله فزادوا عشرا من الإبل وما زالوا كذلك يزيدون عشر فعشرا من الإبل ويضربون عليها كل ذلك يخرج القدح على عبد الله حتى بلغت الإبل مائة من الابل وقام عبد المطلب يدعو الله ثم ضربوا فخرج القدح على الإبل فقالت قريش قد انتهى رضى ربك يا عبد المطلب
فزعموا أن عبد المطلب قال لا والله حتى أضرب عليها ثلاث مرات فضربوا على عبد الله وعلى الإبل وقام عبد المطلب يدعو الله فخرج القدح على الإبل ثم عادوا الثانية والثالثة وعبد المطلب قائم يدعو الله فخرج القدح في كلتيهما على الإبل
فنحرت ثم تركت لا يصد عنها إنسان ولا يمنع
ثم انصرف عبد المطلب آخذا بيد عبد الله فمر به فيما يزعمون على امرأة من بني أسد بن عبد العزي وهي أخت ورقة بن نوفل بن أسد وهي عند الكعبة
قال الزبير وكان عبد الله أحسن رجل رئي في قريش قط فقالت له حين نظرت إلى وجهه أين تذهب يا عبد الله قال مع أبي قالت لك مثل الإبل التي نحرت عنك وقع علي الآن قال أنا مع أبي ولا أستطيع خلافه ولا فراقه
فخرج به عبد المطلب حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة بن
كلاب بن مرة وهو يومئذ سيد بني زهرة سنا وشرفا فزوجه ابنته آمنة بنت وهب وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسبا وموضعا(1/96)
فزعموا أنه دخل عليها حين أملكها مكانه فوقع عليها فحملت برسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم خرج من عندها فأتى المرأة التي عرضت عليه ما عرضت فقال لها مالك لا تعرضين علي اليوم ما عرضت بالأمس قالت له فارقك النور الذي كان معك بالأمس فليس لي بك اليوم حاجة وقد كانت تسمع من أخيها ورقة بن نوفل وكان تنصر واتبع الكتب أنه كائن في هذه الأمة نبي
ويقال إن عبد الله إنما دخل على امرأة كانت له مع آمنة ابنة وهب وقد عمل في طين له وبه آثار من الطين فدعاها إلى نفسها فأبطأت عليه لما رأت به من آثار الطين فخرج من عندها فتوضأ وغسل ما كان به من ذلك ثم خرج عائدا إلى آمنة فمر بتلك المرأة فدعته إلى نفسها فأبى عليها وعمد إلى آمنة فدخل عليها فأصابها فحملت بمحمد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم مر بامرأته تلك فقال لها هل لك قالت لا مررت بي وبين عينيك غرة فدعوتك فأبيت ودخلت على آمنة فذهبت بها
فزعموا أن امرأته تلك كانت تحدث أنه مر بها وبين عينيه مثل غرة الفرس قالت فدعوته رجاء أن تكون تلك بي فأبى علي ودخل على آمنة فأصابها فحملت برسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أوسط قومه نسبا وأعظمهم شرفا من قبل أبيه وأمه {صلى الله عليه وسلم}
ويزعمون فيما يتحدث الناس والله أعلم أن أمه كانت تحدث أنها أتيت حين حملت به فقيل لها إنك قد حملت بسيد هذه الأمة فإذا وقع إلى الأرض فقولي
أعيذه بالواحد
من شر كل حاسد
ثم سميه محمدا
ثم لم يلبث عبد الله بن عبد المطلب أبو رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن هلك وأمه حامل به
هذا قول ابن إسحاق وخالفه كثير من العلماء فقالوا إن النبي {صلى الله عليه وسلم} كان في المهد حين توفي أبوه ذكره الدولابي وغيره وذكر ابن أبي خيثمة أنه كان ابن شهرين وقيل أكثر من ذلك والله أعلم
وولد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول عام الفيل قيل بعد الفيل بخمسين يوما(1/97)
وحكى الواقدي عن سليمان بن سحيم قال كان بمكة يهودي يقال له يوسف فلما كان اليوم الذي ولد فيه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قبل أن يعلم به أحد من قريش قال يا معشر قريش قد ولد نبي هذه الأمة في بحرتكم هذه اليوم وجعل يطوف في أنديتهم فلا يجد خبرا حتى انتهى إلى مجلس عبد المطلب فسأل فقيل له ولد لابن عبد المطلب غلام فقال هو نبي والتوراة
وقال حسان بن ثابت والله إني لغلام يفعة ابن سبع سنين أو ثمان أعقل كل ما أسمع إذا سمعت يهوديا يصرخ على أطمة بيثرب يا معشر يهود حتى إذا
اجتمعوا قالوا له ويلك مالك قال طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به
وذكر ابن السكن من حديث عثمان بن أبي العاص عن أمه فاطمة بنت عبد الله أنها شهدت ولادة آمنة بنت وهب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ليلا
قالت فما شيء أنظر إليه من البيت إلا نور وإني لأنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول لتقعن علي
وذكر ابن مخلد في تفسيره أن إبليس رن أربع رنات رنة حين لعن ورنة حين أهبط ورنة حين ولد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ورنة حين أنزلت فاتحة الكتاب
قال ابن إسحاق فلما وضعته أمه أرسلت إلى جده عبد المطلب أنه قد ولد لك غلام فائته فانظر إليه فأتاه ونظر إليه وحدثته بما رأت حين حملت به وما قيل لها فيه وما أمرت أن تسميه
فيزعمون أن عبد المطلب أخذه فدخل به الكعبة فقام يدعو الله ويشكر له ما أعطاه ثم خرج به إلى أمه فدفعه إليها
ويروى أن عبد المطلب إنما سماه محمدا لرؤيا رآها
زعموا أنه أري في منامه كأن سلسلة من فضة خرجت من ظهره لها طرف في السماء وطرف في الأرض وطرف في المشرق وطرف في المغرب ثم عادت كأنها شجرة على كل ورقة منها نور وإذا أهل المشرق والمغرب يتعلقون بها
فقصها فعبرت له بمولود يكون من صلبه يتبعه أهل المشرق والمغرب ويحمده أهل السماء والأرض فلذلك سماه محمدا مع ما حدثته أمه(1/98)
ولا يعرف في العرب أحد تسمى بهذا الاسم قبله سوى نفر سموا به من أجله منهم محمد بن سفيان بن مجاشع التميمي ومحمد بن أحيحة بن الجلاح وآخر من ربيعة
وكان آباؤهم قد وفدوا على بعض الملوك ممن كان عنده علم بالكتاب الأول فأخبرهم بمبعث النبي {صلى الله عليه وسلم} وتقارب زمانه وباسمه وكان كل واحد منهم قد خلف امرأته حاملا فنذر كل واحد منهم إن ولد له ذكر أن يسميه محمدا
ففعلوا ذلك رجاء أن يكونه
والله أعلم حيث يجعل رسالاته
وقد وقع في مواضع أخر أن هؤلاء النفر كانوا أربعة ولم يذكر فيهم محمد بن أحيحة وحديثهم مخالف لما ذكرناه خلافا يسيرا
روينا من حديث عبد الملك بن أبي سوية عن أبيه عن جده قال سألت محمد بن عدي بن ربيعة كيف سماك أبوك محمدا فقال سألت أبي عما سألتني عنه فقال خرجت رابع أربعة من بني تميم أنا فيهم وسفيان بن مجاشع بن دارم وأسامة بن مالك بن خندف ويزيد بن ربيعة نريد ابن جفنة ملك غسان فلما شارفنا الشام نزلنا إلى غدير عليه شجرات وقربه شخص نائم فتحدثنا فاستمع كلامنا وأشرف علينا فقال إن هذه لغة ما هي لغة أهل هذه البلاد فقلنا نحن قوم من مضر قال من أي المضريين قلنا من خندف قال أما إنه يبعث فيكم وشيكا نبي خاتم النبيين فسارعوا إليه وخذوا بحظكم منه ترشدوا
فقلت له ما اسمه قال محمد فرجعنا من عند ابن جفنة فولد لكل رجل منا ابن سماه محمدا
والتمس لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} الرضعاء فاسترضع له من امرأة من بني سعد بن بكر يقال لها حليمة بنت أبي ذؤيب
وكانت تحدث أنها خرجت من بلدها مع زوجها وابن لها ترضعه في نسوة من بني سعد بن بكر تلتمس الرضعاء قالت وفي سنة شهباء لم تبق لنا شيئا
قالت فخرجت على أتان لي قمراء معنا شارف لنا والله ما تبض بقطرة ولا ننام ليلتنا أجمع من صبينا الذي معنا من بكائه من الجوع ما في ثديي ما يغنيه وما في شارفنا ما يغذيه ولكنا نرجوا الغيث والفرج
فخرجت على أتاني تلك فلقد أذمت بالركب حتى شق ذلك عليهم ضعفا وعجفا(1/99)
حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فتأباه إذا قيل لها إنه يتيم وذلك أنا إنما كنا نرجو المعروف من أبي الصبي فكنا نقول يتيم ما عسى أن تصنع أمه وجده فكنا نكرهه لذلك
فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعا غيري
فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعا والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه
قال لا عليك أن تفعلي عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة
قالت فذهبت إليه فأخذته وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره
فلما أخذته رجعت به إلى رحلى فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن فشرب حتى روى وشرب معه أخوه حتى روى ثم ناما وما كنا ننام معه قبل ذلك وقام زوجي إلى شارفنا تلك فإذا إنها لحافل فحلب منها ما شرب وشربت حتى انتهينا ريا وشبعا
فبتنا بخير ليلة يقول صاحبي حين أصبحنا تعلمي والله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة قلت والله إني لأرجو ذلك
ثم خرجنا وركبت أتاني وحملته عليها معي فوالله لقطعت بالركب ما يقدر علي شيء من حميرهم حتى إن صواحبي ليقلن يا بنت أبي ذؤيب ويحك اربعي علينا أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها فأقول لهن بلى والله إنها لهي فيقلن والله إن لها لشأنا
قالت ثم قدمنا منازلنا من بني سعد ولا أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها فكانت غنمى تروح علي حين قدمنا به معنا شباعا لبنا فنحلب ونشرب وما يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها في ضرع حتى كان الحاضر من قومنا يقولون لرعيانهم ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب فتروح أغناهم جياعا ما تبض بقطرة لبن وتروح غنمي شباعا لبنا
فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتان وفصلته
وكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما جفرا
فقدمنا به على أمه ونحن أحرص شيء على مكثه فينا لما كنا نرى من بركته(1/100)
فكلمنا أمه وقلت لها لو تركت بني عندي حتى يغلظ فإني أخشى عليه وباء مكة
فلم نزل بها حتى ردته معنا فرجعنا به
فوالله إنه بعد مقدمنا به بأشهر مع أخيه لفي بهم لنا خلف بيوتنا إذ أتانا أخوه يشتد فقال لي ولأبيه ذاك أخي القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه فشقا بطنه فهما يسوطانه
قالت فخرجت أنا وأبوه نحوه فوجدناه قائما منتقعا وجهه
قالت فالتزمته والتزمه أبوه فقلنا ما لك يا بني
قال جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني فشقا بطني فالتمسا فيه شيئا لا أدري ما هو
قالت فرجعنا به إلى خبائنا وقال لي أبوه يا حليمة لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب فألحقيه بأهله قبل أن يظهر ذلك به
قالت فاحتملناه فقدمنا به على أمه فقالت ما أقدمك به يا ظئر ولقد كنت حريصة عليه وعلى مكثه عندك
قلت قد بلغ و الله بابني وقضيت الذي علي وتخوفت الأحداث عليه فأديته عليك كما تحبين
قالت ما هذا شأنك فاصدقيني خبرك
قالت فلم تدعني حتى أخبرتها
قالت أفتخوفت عليه الشيطان قلت نعم
قالت كلا والله ما للشيطان عليه سبيل وإن لبني لشأنا أفلا أخبرك خبره قلت بلى
قالت رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاء لي قصور بصرى من أرض الشام
ثم حملت به فوالله ما رأيت من حمل قط كان أخف ولا أيسر منه ووقع حين ولدته وإنه لواضع يديه بالأرض رافع رأسه إلى السماء
دعيه عنك وانطلقي راشدة
ويروى أن نفرا من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قالوا له يا رسول الله أخبرنا عن نفسك
قال نعم أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى ابن مريم ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام واسترضعت في بني سعد بن بكر
فبينا أنا مع أخ لي خلف بيوتنا نرعى بهما لنا أتاني رجلان عليهما ثياب بيض بطست من ذهب مملوءة ثلجا فأخذاني فشقا بطني ثم استخرجا قلبي فشقاه(1/101)
فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج حتى أنقياه ثم قال أحدهما لصاحبه زنه بعشرة من أمته فوزنني بعشرة فوزنتهم ثم قال زنه بمائة من أمته فوزنني بهم فوزنتهم ثم قال زنه بألف من أمته فوزنني بهم فوزنتهم فقال دعه عنك فلو وزنته بأمته لوزنها
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول ما من نبي إلا وقد رعى الغنم قيل وأنت يا رسول الله قال وأنا
وكان يقول لأصحابه أنا أعربكم أنا قرشي واسترضعت في بني سعد بن بكر
وزعم الناس فيما يتحدثون والله أعلم أن أمه السعدية لما قدمت به مكة أضلها في الناس وهي مقبلة به نحو أهله فالتمسته فلم تجده فأتت عبد المطلب فقالت له إني قدمت بمحمد هذه الليلة فلما كنت بأعلى مكة أضلني فوالله ما أدري أين هو
فقام عبد المطلب عند الكعبة يدعو الله أن يرده فيزعمون أنه وجده ورقة بن نوفل ورجل آخر من قريش فأتيا به عبد المطلب فقالا هذا ابنك وجدناه بأعلى مكة فأخذه عبد المطلب فجعله على عنقه وهو يطوف بالكعبة يعوذه ويدعو له ثم أرسل به إلى أمه آمنة
وذكر بعض أهل العلم أن مما هاج أمه السعدية على رده ما ذكرت لأمه ما أخبرتها عنه أن نفرا من الحبشة نصارى رأوه معها حين رجعت به بعد فطامه فنظروا إليه وسألوها عنه وقلبوه ثم قالوا لها لنأخذن هذا الغلام فلنذهبن به إلى ملكنا وبلدنا فإن هذا غلام كائن له شأن نحن نعرف أمره فلم تكد تنفلت به منهم(1/102)
وذكر الواقدي أن أمه حليمة السعدية بعد أن رجعت به من عند أمه حضرت به سوق ذي المجاز وبها يومئذ عراف من هوازن يؤتى إليه بالصبيان ينظر إليهم فلما نظر إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وإلى الحمرة في عينيه وإلى خاتم النبوة صاح يا معشر العرب فاجتمع إليه أهل الموسم فقال اقتلوا هذا الصبي وانسلت به حليمة فجعل الناس يقولون أي صبي هو فيقول هذا الصبي فلا يرون شيئا قد انطلقت به أمه فيقال له ما هو فيقول رأيت غلاما وآلهته ليغلبن أهل دينكم وليكسرن أصنامكم وليظهرن أمره عليكم فطلب بعكاظ فلم يوجد
ورجعت به حليمة إلى منزلها فكانت بعد هذا لا تعرضه لأحد من الناس
ولقد نزل بهم عراف فأخرج إليه صبيان أهل الحاضر وأبت حليمة أن تخرجه إليه إلى أن غفلت عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فخرج من المظلة فرآه العراف فدعاه فأبى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ودخل الخيمة فجهد بهم العراف أن يخرج إليه فأبت فقال هذا نبي
وقد عرضه عمه أبو طالب على عائف من لهب كان إذا قدم من مكة أتاه رجال قريش بغلمانهم ينظر إليهم ويعتاف لهم فأتاه به أبو طالب وهو غلام مع من يأتيه قال فنظر إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم شغله عنه شيء فقال الغلام علي به
فلما رأى أبو طالب حرصه عليه غيبه فجعل يقول ويلكم ردوا علي الغلام الذي رأيت آنفا فوالله ليكونن له شأن
وانطلق به أبو طالب
وكانت حليمة بعد رجوعها به من مكة لا تدعه أن يذهب مكانا بعيدا
فغفلت عنه يوما في الظهيرة فخرجت تطلبه حتى تجده مع أخته فقالت في هذا الحر فقالت أخته يا أمه ما وجد أخى حرا رأيت غمامة تظل عليه إذا وقف وقفت وإذا سار سارت حتى انتهى إلى هذا الموضع
تقول أمها أحقا يا بنية قالت إي والله قال تقول حليمة أعوذ بالله من شر ما يحذر على ابني
فكان ابن عباس يقول رجع إلى أمه وهو ابن خمس سنين
وكان غيره يقول رجع إليها وهو ابن أربع سنين
هذا كله عن الواقدي(1/103)
قال ابن إسحاق فكان النبي {صلى الله عليه وسلم} مع أمه آمنة وجده عبد المطلب في كلاءة الله وحفظه ينبته الله نباتا حسنا لما يريد به من كرامته
فلما بلغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ست سنين توفيت أمه بالأبواء بين مكة والمدينة
وكانت قد قدمت به إلى أخواله من بني عدي بن النجار تزيره إياهم فماتت وهي راجعة به إلى مكة
فكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مع جده عبد المطلب
وكان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له فكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يأتي وهو غلام جفر حتى يجلس عليه فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم دعوا ابني فوالله إن له لشأنا
ثم يجلسه معه عليه ويمسح ظهره بيده ويسره ما يراه يصنع
قالوا وكانت أم أيمن تحدث تقول كنت أحضن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فغفلت عنه يوما فلم أدر إلا بعبد المطلب قائما على رأسي يقول يا بركة قلت لبيك قال أتدرين أين وجدت ابني قلت لا أدري قال وجدته مع غلمان قريبا من السدرة لا تغفلي عن ابني فإن أهل الكتاب يزعمون أن ابني نبي هذه الأمة وأنا لا آمن عليه منهم
وكان لا يأكل طعاما إلا قال علي بابني فيؤتي به إليه
وحدث كعب بن مالك عن شيوخ من قومه أنهم خرجوا عمارا وعبد المطلب يومئذ حي بمكة ومعهم رجل من يهود تيماء صحبهم للتجارة يريد مكة أو اليمن فنظر إلى عبد المطلب فقال إنا نجد في كتابنا الذي لم يبدل أنه يخرج من ضئضي هذا نبي يقتلنا وقومه قتل عاد
وجلس عبد المطلب يوما في الحجر وعنده أسقف نجران وكان صديقا له وهو يحادثه وهو يقول إنا نجد صفة نبي بقي من ولد إسماعيل هذه مولده من صفته كذا وكذا
وأتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على هذا الحديث فنظر إليه الأسقف وإلى عينيه وإلى ظهره وإلى قدميه فقال هو هذا فقال الأسقف ما هذا منك قال ابني
قال الأسقف لا ما نجد أباه حيا قال عبد المطلب هو ابن ابني مات أبوه وأمه حبلى به قال صدقت قال عبد المطلب تحفظوا بابن أخيكم ألا تسمعون ما يقال فيه(1/104)
وخرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يوما يلعب مع الغلمان حتى بلغ الردم فرآه قوم من بني مدلج فدعوه فنظروا إلى قدميه وإلى أثره ثم خرجوا في طلبه حتى صادفوا عبد المطلب قد لقيه فاعتنقه فقالوا لعبد المطلب ما هذا منك قال ابني قالوا فاحتفظ به فإنا لم نر قدما قط أشبه بالقدم الذي في المقام من قدمه
فقال عبد المطلب لأبي طالب اسمع ما يقول هؤلاء فكان أبو طالب يحتفظ به
وقد روي أبو داود السجستاني من حديث ابن عباس قال أتى نفر من قريش امرأة كاهنة فقالوا أخبرينا بأقربنا شبها بصاحب هذا المقام
قالت إن جررتم على السهلة عباءة ومشيتم عليها أنبأتكم بأقربكم شبها به
فجروا عليها عباءة ثم مشوا عليها فرأت أثر قدم لمحمد {صلى الله عليه وسلم} فقالت هذا والله أقربكم شبها به
قال ابن عباس فمكثوا بعد عشرين سنة ثم بعث محمد {صلى الله عليه وسلم}
ولما ظهر سيف بن ذي يزن على الحبشة وذلك بعد مولد النبي {صلى الله عليه وسلم} أتته وفود العرب وأشرافها وشعراؤها يهنئونه ويمدحونه ويذكرون من حسن بلائه وطلبه بثأر قومه
فأتاه وفد قريش وفيهم عبد المطلب بن هاشم في أناس من وجوه قريش فقدموا عليه صنعاء فأذن لهم فلما دخلوا عليه دنا عبد المطلب منه فاستأذنه في الكلام فقال إن كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك فقد أذنا لك
فقال عبد المطلب إن الله قد أحلك أيها الملك محلا رفيعا صعبا منيعا شامخا باذخا وأنبتك منبتا طابت أرومته وعزت جرثومته وثبت أصله وبسق فرعه في أكرم موطن وأطيب معدن
وأنت أيها الملك رأس العرب الذي به تنقاد وعمودها الذي عليه العماد ومعقلها الذي يلجأ إليه العباد سلفك لك خير سلف وأنت لنا فيه خير خلف فلم يخمل من أنت سلفه ولن يهلك من أنت خلفه نحن أيها الملك أهل حرم الله وسدنة بيته أشخصنا إليك الذي أبهجنا بكشف الكرب الذي فدحنا فنحن وفد التهنئة لا وفد المرزئة
فقال له سيف وأيهم أنت أيها المتكلم فقال أنا عبد المطلب بن هاشم قال ابن أختنا قال نعم قال أدنه فأدناه(1/105)
ثم أقبل عليه وعلى القوم فقال لهم مرحبا وأهلا قد سمع الملك مقالتكم وعرف قرابتكم وقبل وسيلتكم وأنتم أهل الليل والنهار فلكم الكرامة ما أقمتم والحباء إذا ظعنتم
ثم أنهضوا إلى دار الضيافة والوفود فأقاموا شهرا لا يصلون إليه ولا يأذن لهم بالانصراف
ثم انتبه لهم انتباهة فأرسل إلى عبد المطلب فقال له إني مفوض إليك من
سني علمي أمرا لو يكون غيرك لم أبح له به ولكني رأيتك معدنه فأطلعتك عليه فليكن عندك مكنونا حتى يأذن الله فيه فإن الله بالغ أمره
إني أجد في الكتاب المكنون والعلم المخزون الذي اختزناه لأنفسنا واجتبيناه دون غيرنا خبرا عظيما وخطرا جسيما فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاة للناس عامة ولرهطك كافة ولك خاصة
فقال له عبد المطلب مثلك أيها الملك سر وبر فما هو فداك أهل الوبر زمرا بعد زمر
فقال إذا ولد بتهامة غلام بين كتفيه شامة كانت له الإمامة ولكم به الزعامة إلى يوم القيامة
فقال له عبد المطلب لقد أبت بخير ما آب بمثله وافد ولولا هيبة الملك وإجلاله وإعظامه لسألته من ساره إياي ما أزداد به سرورا
فقال له ابن ذي يزن هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد اسمه محمد يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه قد ولدناه مرارا والله باعثه جهارا وجاعل له منا أنصارا يعز بهم أولياءه ويذل بهم أعداءه يضرب بهم الناس عن عرض ويستبيح بهم كرائم الأرض ويكسر الصلبان ويخمد النيران ويعبد الرحمن ويدحر الشيطان قوله فصل وحكمه عدل يأمر بالمعروف ويفعله وينهي عن المنكر ويبطله
فقال له عبد المطلب عز جدك وعلا كعبك ودام ملكك وطال عمرك فهل الملك ساري بإفصاح فقد أوضح لي بعض الإيضاح
فقال له ابن ذي يزن والبيت والحجب والعلامات والنصب إنك يا عبد المطلب لجده غير الكذب
فخر عبد المطلب ساجدا فقال له ارفع رأسك ثلج صدرك وعلا أمرك هل أحسست بشيء مما ذكرت لك(1/106)
فقال عبد المطلب كان لي ابن وكنت عليه رفيقا فزوجته كريمة كرائم قومه فجاء بغلام فسميته محمدا فمات أبوه وأمه وكفلته أنا
فقال له ابن ذي يزن إن الذي قلت لك كما قلت فاحتفظ بابنك واحذر عليه اليهود فإنهم أعداؤه ولن يجعل الله عليه سبيلا واطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك فإني لا آمن أن تدخلهم التعاسة من أن تكون لكم الرياسة فيطلبون له الغوائل وينصبون له الحبائل وهم فاعلون وأبناؤهم ولولا أني أعلم أن الموت مخترمي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير بيثرب دار ملكه فإني أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق أن بيثرب استحكام أمره وأهل النصرة له وموضع قبره ولولا أني أخاف عليه الآفات وأحذر عليه العاهات لأعلنت على حداثة سنه بذكره ولكني صارف ذلك إليك من غير تقصير بمن معك
ثم أمر لكل رجل من القوم بعشرة أعبد وعشر إماء وحلس من البرود ومائة من الإبل وخمسة أرطال ذهب وعشرة أرطال فضة وكرش مملوءة عنبرا
وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك كله وقال له إذا حال الحول فائتني
فمات ابن ذي يزن قبل أن يحول الحول فكان عبد المطلب كثيرا ما يقول يا معشر قريش لا يغبطني أحدكم بجزيل عطاء الملك وإن كثر فإنه إلى نفاد ولكن ليغبطني بما يبقى لي ولعقبي من بعدي ذكره وفخره وشرفه
فإذا قيل له فما ذاك قال ستعلمون نبأه ولو بعد حين
وحديث سيف بن ذي يزن هذا عن غير ابن إسحاق وهو عندنا بالإسناد وقد تقدم ما ألقاه تبع الآخر إلى ملوك حمير وأبنائهم من أمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأن علم سيف بذلك إنما كان من تلك الجهات والله أعلم
ثم إن عبد المطلب بن هاشم هلك عن سن عالية مختلف في حقيقتها
أدناها فيما انتهى إلي ووقفت عليه خمس وتسعون سنة ذكره الزبير وأعلاها فيما ذكر الزبير أيضا عن نوفل بن عمارة قال كان عبيد بن الأبرص ترب عبد المطلب وبلغ مائة وعشرين سنة وبقي عبد المطلب بعده عشرين سنة(1/107)
وقال محمد بن سعيد بن المسيب لما حضرت الوفاة عبد المطلب وعرف أنه ميت جمع بناته وكن ستا صفية وبرة وعاتكة وأم حكيم البيضاء وأميمة وأروى فقال لهن ابكين علي حتى أسمع ما تقلن قبل أن أموت
فقالت كل واحدة منهن شعرا ترثيه به وأنشدته إياه فاشار برأسه وقد أصمت أن هكذا فابكينني
وذكر إبن اسحاق تلك الأشعار
وقال ابن هشام إنه لم ير أحدا من أهل العلم بالشعر يعرفها
قال ابن إسحاق وقال حذيفة بن غانم أخو بني عدي بن كعب يبكي عبد المطلب بن هاشم ويذكر فضله وفضل قصي على قريش وفضل ولده من بعده عليهم
أعيني جودا بالدموع على الصدر
ولا تسأما أسقيتما سبل القطر
وجودا بدمع واشفحا كل شارق
بكاء امرئ لم يشوه نائب الدهر
وسحا وجما واسجما ما بقيتما
على ذي حياء من قريش وذي ستر
على رجل جلد القوى ذي حفيظة
جليل المحيا غير نكس ولا هذر
على المزد البهلول ذي البأس والندى
ربيع لؤي في القحوط وفي العسر
على خير حاف من معد وناعل
كريم المساعي طيب الخيم والنجر
على شيبة الحمد الذي كان وجهه
يضيء سواد الليل كالقمر البدر
وساقي الحجيج ثم للخير هاشم
وعبد مناف ذلك السيد الفهري
طوى زمزما عند المقام فأصبحت
سقايته فخرا على كل ذي فخر
ليبك عليه كل عان بكربة
وآل قصي من مقل وذي وفر
بنوه سراة كهلهم وشبابهم
تفلق عنهم بيضة الطائر الصقر
قصي الذي عادى كنانة كلها
ورابط بيت الله في العسر واليسر
فإن تك غالته المنايا وصرفها
فقد عاش ميمون النقيبة والأمر
وأبقى رجالا سادة غير عزل
مصاليت أمثال الردينية السمر
أبو عتبة الملقي إلي حباءه
أغر هجان اللون من نفر غر
وحمزة مثل البدر يهتز للندى
نقي الثياب والذمام من الغدر
وعبد مناف ماجد ذو حفيظة
وصول لذي القربى رحيم بذي الصهر
كهولهم خير الكهول ونسلهم
كنسل الملوك لا تبور ولا تحري
متى ما تلاقي منهم الدهر منهم ناشئا
تجده بإجريا أوائله يجري
هم ملأوا البطحاء مجدا وسؤددا
إذا استبق الخيرات في سالف العصر(1/108)
وهم حضروا والناس باد فريقهم
وليس بها إلا شيوخ بني عمرو
بنوها ديارا جمة وطووا بها
بئرا تسح الماء من ثبح بحر
لكي يشرب الحجاج منها وغيرهم
إذا ابتدروها صبح تابعة النحر
ثلاثة أيام تظل ركابهم
محبسة بين الأخاشب والحجر
وقدما غنينا قبل ذلك حقبة
ولا نستقي إلا بخم أو الحفر
هم يغفرون الذنب ينقم دونه
ويعفون عن قول السفاهة والهجر
أخارج إما أهلكن فلا تزل
لهم شاكرا حتى تغيب في القبر
ولا تنس ما أسدى ابن لبنى فإنه
قد أسدي يدا محقوقة منك بالشكر
وأنت ابن لبنى من قصي إذا انتموا
بحيث انتهى قصد الفؤاد من الصدر
وأمك سر من خزاعة جوهر
إذا حصل ألأنساب يوما ذوو الخبر
إلى سبأ الأبطال تنمي وتنتمي
وأكرم بها منسوبة في ذري الدهر
ابن لبني هذا أبو لهب عبد العزي بن عبد المطلب وهو أبو عتبة الذي ذكره قبل في هذا الشعر
وكانت أمه امرأة من خزاعة اسمها لبنى بنت هاجر ولذلك قال وأمك سر من خزاعة
ونماها إلى سبأ الأبطال بناء على ما قدمناه من انتماء خزاعة إلى عمرو بن عامر من غسان وانتفائهم من المضرية
واليد التي ذكر هذا الشاعر أنها ترتبت عليه لأبي لهب وذكر ابن إسحاق أنه كان أخذ بغرم أربعة ألف درهم بمكة فوقف بها فمر به أبو لهب فافتكه
ونسب الزبير هذا الشعر لحذافة بن غانم ودليله قوله فيه أخارج إما أهلكن البيت
فإن خارجه هو ابن حذافة وحذيفة الذي نسب ابن إسحاق إليه الشعر هو أخو حذافة ولا يعرف له ابن يسمى خارجة وانما هو والد أبي جهم بن حذيفة واسم أبي جهم عبيدوهو الذي بعث إليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالخميصة ذات الأعلام التي ألهته عن صلاته وأمر أن يؤتي بأنبجانية
ولما هلك عبد المطلب ولي زمزم والسقاية عليها ابنه العباس وهو يومئذ من أحدث إخوته سنا فلم تزل إليه حتى قام الإسلام وهي بيده فأقرها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على ما مضى من ولايته وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يجله إجلال الولد الوالد(1/109)
يقول كريب مولى ابن عباس وما ينبغي لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يجل إلا والدا أوعما فضيلة خص الله بها العباس دون من سواه
وقال {صلى الله عليه وسلم} احفظوني في عمي عباس فإن عم الرجل صنو أبيه
وطلع يوما على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال هذا العباس أجود قريش كفا وأوصلها
ولم يزل العباس سيدا في الجاهلية والإسلام يمنع الجار ويبذل المال ويعطي في النوائب
قال الزبير وكان يقال كان للعباس بن عبد المطلب ثوب لعارى بني هاشم وجفنة لجائعهم ومقطرة لجاهلهم والمقطرة خشبة ذات سلسلة يحبس فيها الناس
وفي ذلك يقول إبراهيم بن علي بن هرمة
وكانت لعباس ثلاث نعدها
إذا ما جناب الحي أصبح أشهبا
فسلسلة تنهي الظلوم وجفنة
تناخ فيكسوها السنام المرغبا
وحلمة عصب ما تزال معدة
لعار ضريك ثوبه قد تهدبا
وقال ابن شهاب لقد جاء الله بالإسلام وإن جفنة العباس لتدور على فقراء بني هاشم وإن قيده وسوطه لمعد لسفهائهم
قال فكان ابن عمر يقول هذا والله الشرف يطعم الجائع ويؤدب السفيه
وكان أبو بكر وعمر في ولايتهما لا يلقي العباس واحد منهما وهو راكب إلا نزل عن دابته وقادها ومشى مع العباس حتى يبلغ منزله أو مجلسه فيفارقه
وبقي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعد مهلك جده عبد المطلب مع عمه أبي طالب
وكان عبد المطلب يوصيه به فيما يزعمون
وذلك أن عبد الله أبا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأبا طالب أخوان لأب وأم فكان أبو طالب هو الذي يلي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعد جده فكان إليه ومعه
وذكر الواقدي أن أبا طالب كان مقلا من المال وكانت له قطعة من الإبل تكون بعرنة فيبدو إليها فيكون فيها ويؤتي بلبنها إذا كان حاضرا بمكة
فكان عيال أبي طالب إذا أكلوا جميعا وفرادى لم يشبعوا وإذا أكل معهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} شبعوا
فكان أبو طالب إذا أراد أن يعشيهم أو يغديهم يقول كما أنتم حتى يأتي ابني(1/110)
فيأتي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيأكل معهم فيفضلون من طعامهم وإن كان لبنا شرب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أولهم ثم يناول العيال القعب فيشربون منه فيروون من عند آخرهم من القعب الواحد وإن كان أحدهم ليشرب قعبا
فيقول أبو طالب إنك لمبارك
وكان الصبيان يصبحون شعثا رمضا ويصبح رسول الله {صلى الله عليه وسلم} دهينا كحيلا
وقالت أم أيمن وكانت تحضنه ما رأيت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} شكا جوعا قط ولا عطشا وكان يغدوا إذا أصبح فيشرب من ماء زمزم شربة فربما عرضنا عليه الغذاء فيقول لا أريده أنا شبعان
قال ابن إسحاق ثم إن أبا طالب خرج في ركب تاجرا إلى الشام فلما تهيأ للرحيل صب به رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما يزعمون فرق له أبو طالب وقال والله لأخرجن به معي ولا يفارقني ولا أفارقه أبدا أو كما قال
فخرج به معه فلما نزل الركب بصري من أرض الشام وبها راهب يقال له بحيري في صومعة له وكان إليه علم أهل النصرانية ولم يزل في تلك الصومعة منذ قط راهب إليه يصير علمهم عن كتاب فيها فيما يزعمون يتوارثونه كابر عن كابر
فلما نزلوا ذلك العام ببحيري وكانوا كثيرا ما يمرون به قبل ذلك فلا يكلمهم ولا يعرض لهم حتى كان ذلك العام فلما نزلوا به قريبا من صومعته صنع لهم طعاما كثيرا وذلك فيما يزعمون عن شيء رآه وهو في صومعته يزعمون أنه رأى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في الركب حين أقبلوا وغمامة تظله من بين القوم ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريبا منه فنظر إلى الغمامة حتى أظلت الشجرة وتهصرت أغصان الشجرة على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى استظل تحتها فلما رأى ذلك بحيرى نزل من صومعته وقد أمر بذلك الطعام فصنع ثم أرسل إليهم فقال إني قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش وأحب أن تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم وعبدكم وحركم
فقال له رجل منهم والله يا بحيري إن لك اليوم لشأنا ما كنت تصنع هذا بنا وقد كنا نمر بك كثيرا فما شأنك اليوم
قال له بحيري صدقت قد كان ما تقول ولكنكم ضيف وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاما فتأكلوا منه كلكم(1/111)
فاجتمعوا إليه وتخلف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من بين القوم لحداثة سنه في رحال القوم فلما نظر بحيري في القوم لم ير الصفة التي يعرف ويجد عنده فقال يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي
قالوا يا بحيري ما تخلف عنك أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام وهو أحدث القوم سنا فتخلف في رحالهم فقال لا تفعلوا ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم فقال رجل من قريش واللات والعزى إن كان للؤما بنا أن يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا ثم قام إليه فاحتضنه وأجلسه مع القوم
فلما رآه بحيري جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته
حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا قام إليه بحيري فقال يا غلام أسألك بحق اللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه وإنما قال له بحيري ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما فزعموا أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال لا تسألني باللات والعزى شيئا فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما فقال له بحيري فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه قال له سلني عما بدا لك
فجعل يسأله عن أشياء من حاله في نومه وهيئته وأموره ويخبره رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيوافق ذلك ما عند بحيري من صفته وأموره ويخبره ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده
فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب فقال ما هذا الغلام منك قال ابني قال ماهو بابنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا قال فإنه ابن أخي قال فما فعل أبوه قال مات وأمه حبلى به
قال صدقت فارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه يهود فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم فأسرع به إلى بلاده
فخرج به عمه أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام
فزعموا أن نفرا من أهل الكتاب قد كانوا رأوا من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مثل ما رأى بحيري في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبي طالب فأرادوه فردهم(1/112)
عنه بحيري وذكرهم الله و ما يجدون في الكتاب من ذكره وصفاته وأنهم إن أجمعوا إلى ما أرادوا لم يخلصوا إليه حتى عرفوا ما قال لهم وصدقوه بما قال فتركوه وانصرفوا عنه
فشب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يكلؤه ويحفظه ويحوطه من أقذار الجاهلية لما يريد به من كرامته ورسالته
حتى بلغ أن رجلا أفضل قومه مروءة وأحسنهم خلقا وأكرمهم حسبا وأحسنهم جوارا وأعظمهم حلما وأصدقهم حديثا وأعظمهم أمانة وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال تنزها وتكرما
حتى ما اسمه في قومه إلا الأمين لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة
وكان {صلى الله عليه وسلم} يحدث عما كان الله يحفظه به في صغره وأمر جاهليته أنه قال لقد رأيتني في غلمان قريش ننقل حجارة لبعض ما يلعب به الغلمان كلنا قد تعرى وأخذ إزاره وجعله على رقبته يحمل عليها الحجارة فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر إذ لكمني لاكم ما أراه لكمة وجيعة ثم قال شد عليك إزارك
قال فأخذته فشددته علي ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي وإزاري علي من بين أصحابي
وذكر البخاري عنه {صلى الله عليه وسلم} أنه قال ما هممت بسوء من أمر الجاهلية إلا مرتين
وروى غيره أن إحدى المرتين كان في غنم يرعاها هو وغلام من قريش فقال لصاحبه اكفني أمر الغنم حتى آتي مكة وكان بها عرس فيها لهو فلما دنا من الدار ليحضر ذلك ألقي عليه النوم فنام حتى ضربته الشمس عصمة من الله له
والمرة الأخرى مثل الأولى سواء
وذكر الواقدي عن أم أيمن قالت كانت بوانة صنما تحضره قريش وتعظمه وتنسك له وتحلق عنده وتعكف عليه يوما إلى الليل في كل سنة فكان أبو طالب يحضره مع قومه ويكلم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يحضر ذلك العيد معهم فيأبى ذلك
(1/113)
قالت حتى رأيت أبا طالب غضب عليه ورأيت عماته غضبن يومئذ أشد الغضب وجعلن يقلن إنا لنخاف عليك مما تصنع من اجتناب آلهتنا ويقلن ما تريد يا محمد أن تحضر لقومك عيدا ولا تكثر لهم جمعا فلم يزالوا به حتى ذهب فغاب عنهم ما شاء الله ثم رجع مرعوبا فزعا فقلن له ما دهاك قال إني أخشى أن يكون بي لمم فقلن ما كان الله عز وجل ليبتليك بالشيطان وفيك من خصال الخير ما فيك فما الذي رأيت قال إني كلما دنوت من صنم منها تمثل لي رجل أبيض طويل يصيح بي وراءك يا محمد لا تمسه
قالت فما عاد إلى عيد لهم حتى نبيء {صلى الله عليه وسلم} وعلى آله
وما بلغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خمسا وعشرين سنة تزوج خديجة بنت خويلد فيما ذكره غير واحد من أهل العلم
وذكر الواقدي بإسناد له إلى نفيسة بنت منية أخت يعلى بن منية وقد رويناه أيضا من طريق أبي علي ابن السكن وحديث أحدهما داخل في حديث الآخر مع تقارب اللفظ وربما زاد أحدهما الشيء اليسير وكلاهما ينمى إلى نفيسه قالت لما بلغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خمسا وعشرين سنة وليس له بمكة اسم إلا الأمين لما تكاملت فيه من خصال الخير قال أبو طالب يا بن أخي أنا رجل لا مال لي وقد اشتد الزمان علينا وألحت علينا سنون منكرة وليست لنا مادة ولا تجارة وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام وخديجة بنت خويلد تبعث رجالا من قومك في عيراتها فيتجرون لها في مالها ويصيبون منافع
فلو جئتها فعرضت نفسك عليها لأسرعت إليك وفضلتك على غيرك لما يبلغها عنك من طهارتك وإن كنت لأكره أن تأتي الشام وأخاف عليك من يهود ولكن لا تجد من ذلك بدا
وكانت خديحة امرأة تاجرة ذات شرف ومال كثير وتجارة تبعث بها إلى الشام فتكون عيرها كعامة عير قريش وكانت تستأجر الرجال وتدفع اليهم المال مضاربة
وكانت قريش قوما تجارا ومن لم يكن تاجرا من قريش فليس عندهم بشيء
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلعلها ترسل إلي في ذلك
(1/114)
فقال أبو طالب إني أخاف أن تولي غيرك فتطلب أمرا مدبرا فافترقا وبلغ خديجة ما كان من محاورة عمه له وقبل ذلك ما قد بلغها من صدق حديثه وعظم أمانته وكريم أخلاقه فقالت ما علمت أنه يريد هذا
ثم أرسلت إليه فقالت إنه دعاني إلى البعث إليك ما بلغني من صدق حديثك وعظم أمانتك وكرم أخلاقك وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلا من قومك
ففعل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ولقى أبا طالب فذكر له ذلك فقال إن هذا لرزق ساقه الله إليك
فخرج مع غلامها ميسرة حتى قدم الشام وجعل عمومته يوصون به أهل العير حتى قدم الشام فنزلا في سوق بصرى في ظل شجرة قريبا من صومعة راهب يقال له نسطورا فاطلع الراهب إلى ميسرة وكان يعرفه فقال يا ميسرة من هذا الذي نزل تحت هذه الشجرة فقال ميسرة رجل من قريش من أهل الحرم فقال له الراهب ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي ثم قال له في عينيه حمرة قال ميسرة نعم لا تفارقه
فقال الراهب هو هو وهو آخر الأنبياء ويا ليت أني أدركه حين يؤمر بالخروج فوعى ذلك ميسرة
ثم حضر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سوق بصرى فباع سلعته التي خرج بها واشترى فكان بينه وبين رجل اختلاف في سلعة فقال الرجل احلف باللات والعزى فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما حلفت بهما قط فقال الرجل القول قولك
ثم قال لميسرة وخلا به يا ميسرة هذا نبي والذي نفسي بيده إنه لهو تجده أحبارنا منعوتا في كتبهم
فوعى ذلك ميسرة
ثم انصرف أهل العير جميعا
وكان ميسرة يرى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إذا كانت الهاجرة واشتد الحر يرى ملكان يظلانه من الشمس وهو على بعيره
قال وكان الله عز وجل قد ألقى على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المحبة من ميسرة
فكان كأنه عبد لرسول الله فلما فلما رجعوا وكانوا بمر الظهران تقدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى دخل مكة في ساعة الظهيرة وخديجة في علية لها معها نساء فيهن نفيسة بنت منية فرأت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين دخل وهو راكب على بعيره وملكان يظلان عليه فأرته نساءها فعجبن لذلك
(1/115)
ودخل عليها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فخبرها بما ربحوا فسرت بذلك فلما دخل عليها ميسرة أخبرته بما رأت فقال لها ميسرة قد رأيت هذا منذ خرجنا من الشام وأخبرها بقول الراهب نسطورا وقول الآخر الذي خالفه في البيع
قالوا وقدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بتجارتها فربحت ضعف ما كانت تربح وأضعفت له ما سمت له
فلما استقر عندها هذا وكانت امرأة حازمة شريفة لبيبة مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير وهي يومئذ أوسط نساء قريش نسبا وأعظمهن شرفا وأكثرهن مالا وكل قومها كان حريصا على نكاحها لو يقدر عليه عرضت عليه نفسها
فقالت له فيما يزعمون يا بن عم إني قد رغبت فيك لقرابتك وصيتك في قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك
فلما قالت له ذلك ذكر ذلك لأعمامه فخرج معه عمه حمزة بن عبد المطلب يرحمه الله حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه فتزوجها
هكذا ذكر ابن إسحاق وذكر الواقدي وغيره من حديث نفيسة أن خديجة أرسلت إليه دسيسا فدعته إلى تزوجها
فلما أجاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أرسلت إلى عمها عمرو بن أسد فحضر ودخل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في عمومته فزوجه أحدهم
وقال عمرو هذا الفحل لا يقدع أنفه
قال ابن هشام وأصدقها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عشرين بكرة
وكانت أول إمرأة تزوجها ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت
قال ابن إسحاق فولدت خديجة لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} ولده كلهم إلا إبراهيم القاسم وبه كان يكنى والطاهر والطيب وزينب ورقية وأم
كلثوم وفاطمة
فأما القاسم والطاهر والطيب فهلكوا في الجاهلية
وأما بناته فكلهن أدركن الإسلام فأسلمن وهاجرن معه
هذا قول ابن إسحاق في ذكور البنين أنهم هلكوا في الجاهلية
وقال الزبير بن بكار وهو من أئمة هذا الشأن ولدت له القاسم وعبد الله وهو الطاهر والطيب ولد بعد النبوة ومات صغيرا
وفي مسند الفريابي ما يدل على أنه مات قبل أن يتم رضاعه وبعد النبوة
(1/116)
وذلك أن خديجة دخل عليها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعد موت القاسم وهي تبكي عليه فقالت يا رسول الله لو كان عاش حتى تكمل رضاعته لهون علي فقال إن له مرضعا في الجنة تستكمل رضاعته فقالت لو أعلم ذلك لهون علي فقال إن شئت أسمعتك صوته في الجنة فقالت بل أصدق الله ورسوله
قال ابن هشام وأما إبراهيم فأمه مارية سرية النبي {صلى الله عليه وسلم} التي أهداها إليه المقوقس من حفن من كورة أنصناء وهي قبطية من قبط مصر وهذا هو الصهر الذي ذكره لهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في قوله الله الله في أهل الذمة أهل المدرة السوداء السحم الجعاد فإن لهم نسبا وصهرا
قال مولى غفرة نسبهم أن أم إسماعيل النبي عليه السلام منهم وصهرهم أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} تسرر فيهم
وفي حديث آخر أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال إذا إفتتحتم معر فاستوصوا بأهلها خيرا فإن لهم ذمة ورحما
قال ابن إسحاق وكانت خديجة بنت خويلد قد ذكرت لورقة بن نوفل بن
أسد بن عبد العزى وكان ابن عمها وكان نصرانيا قد تتبع الكتب وعلم من علم الناس ما ذكر لها غلامها ميسرة من قول الراهب وما كان يرى منه إذ كان الملكان يظلانه
فقال ورقة لئن كان هذا حقا يا خديجة إن محمدا لنبي هذه الأمة قد عرفت أنه كائن لهذه الأمة نبي ينتظر هذا زمانه أو كما قال
فجعل ورقة يستبطى ء الأمر و يقول حتى متى وقال في ذلك
لججت وكنت في الذكرى لجوجا
لهم طالما بعث النشيجا
ووصف من خديجة بعد وصف
فقد طال انتظاري يا خديجا
ببطن المكتين على رجائي
حديثك أن أرى منه خروجا
بما خبرتنا من قول قس
من الرهبان أكره أن يعوجا
بأن محمدا سيسود يوما
ويخصم من يكون له حجيجا
ويظهر في البلاد ضياء نور
يقيم به البرية أن تموجا
فيلقي من يحاربه خسارا
ويلقي من يسالمه فلوجا
فيا ليتي إذا ما كان ذاكم
شهدت فكنت أولهم ولوجا
ولوجا في الذي كرهت قريش
ولو عجت بمكتها عجيجا
أرجي بالذي كرهوا جميعا
إلى ذي العرش إن سفلوا عروجا
وهل أمر السفاهة غير كفر
بمن يختار من سمك البروجا
فإن يبقوا وأبق تكن أمور
(1/117)
يضج الكافرون لها ضجيجا
وإن أهلك فكل فتى سيلقى
من الأقدار متلفة حروجا
الوافر وقال ورقة بن نوفل أيضا في ذلك وهو مما رواه يونس بن بكير عن ابن إسحاق
أتبكر أم أنت العشية رائح
وفي الصدر من إضمارك الحزن قادح
لفرقة قوم لا أحب فراقهم
كأنك عنهم بعد يومين نازح
وأخبار صدق خبرت عن محمد
يخبرها عنه إذا غاب ناصح )
فتاك الذي وجهت يا خير حرة بغدو وبالنجدين حيث الصحاصح
إلى سوق بصرى في الركاب التي غدت وهن من الأحمال قعص دوالح
فخبرنا عن كل حبر بعلمه وللحق أبواب لهن مفاتح
بأن ابن عبد الله أحمد مرسل إلى كل من ضمت عليه الأباطح
وظني به أن سوف يبعث صادقا كما أرسل العبدان هود وصالح
وموسى وإبراهيم حتى يرى له بهاء ومنشور من الذكر واضح
ويتبعه حيا لؤي بن غالب شبابهم والأشيبون الجحاجح
فإن أبق حتى يدرك الناس دهره فإني به مستبشر الود فارح
وإلا فإني يا خديجة فاعلمي عن أرضك في الأرض العريضة سائح
الطويل
ذكر بنيان قريش الكعبة مع ذكر ما أحدثوه في المناسك
ولما بلغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خمسا وثلاثين سنة اجتمعت قريش لبنيان الكعبة
قال موسى بن عقبة وإنما حمل قريشا على ذلك أن السيل كان أتى من فوق الردم الذي صنعوا فأخربه فخافوا أن يدخلها الماء وكان رجل يقال له مليح سرق طيب الكعبة
فأرادوا أن يشدوا بنيانها وأن يرفعوا بابها حتى لايدخلها إلا من شاءوا وأعدوا لذلك نفقة وعمالا ثم عمدوا إليها ليهدموها على شفق وحذر من أن يمنعهم الله الذي أرادوا
قال ابن إسحاق وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها وإنما كانت رضما فوق القامة فأرادوا رفعها وتسقيفها وذلك أن نفرا سرقوا كنز الكعبة وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة
قال وكان الذي وجد عنده الكنز دويك مولى لبني مليح بن عمرو من خزاعة قال إبن هشام فقطعت قريش يده
وتزعم قريش أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك
(1/118)
قال وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم فتحطمت فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها وكان بمكة رجل قبطي نجار فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها
وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كان يطرح فيها ما يهدى لها فتتشرف على جدار الكعبة وكانت مما يهابون وذلك أنه كان لا ما يدخلها أحد إلا احزألت وكشت وفتحت فاها فكانوا يهابونها فبينا هي يوما تتشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع بعث الله إليها طائرا فاختطفها فذهب بها
فقالت قريش إنا لنرجو أن يكون الله قد رضي ما أردنا عندنا عامل رفيق وعندنا خشب وقد كفانا الله الحية
فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنيانها قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم فتناول من الكعبة حجرا فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه فقال يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبا لا تدخلوا فيها معر بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد من الناس
والناس ينحلون هذا الكلام الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم
ثم إن قريشا تجزأت الكعبة فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم وكان ظهر الكعبة لبني جمح وبني سهم وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن قصي ولبني أسد بن عبد العزى بن قصي ولبني عدي بن كعب رهو الحطيم
ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه فقال الوليد بن المغيرة أنا أبدؤكم في هدمها فأخذ المعول ثم قام عليها وهو يقول اللهم لم ترع ويقال لم نزغ اللهم إنا لا نريد إلا الخير
ثم هدم من ناحية الركنين فتربص الناس تلك الليلة وقالوا ننظر فإن أصيب لم نهدم منها شيئا ورددناها كما كانت وإن لم يصبه شيء هدمنا فقد رضي الله ما صنعنا
فأصبح الوليد من ليلته غاديا إلى عمله فهدم وهدم الناس معه حتى إذا
انتهى الهدم بهم إلى الأساس أساس إبراهيم أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة آخذ بعضها بعضا
(1/119)
وقال ابن إسحاق فحدثني بعض من يروي الحديث أن رجلا من قريش ممن كان يهدمها أدخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما فلما تحرك الحجر تنقضت مكة بأسرها فانتهوا عن ذلك الأساس
قال وحدثت أن قريشا وجدوا في الركن كتابا بالسريانية فلم يدروا ما هو حتى قرأه لهم رجل من يهود فإذا هو أنا الله ذو بكة خلقتها يوم خلقت السموات والأرض وصورت الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك حنفاء لا تزول حتى يزول أخشباها مبارك لأهلها في الماء واللبن
وحدثت أنهم وجدوا في المقام كتابا فيه مكة بيت الله الحرام يأتيها رزقها من ثلاثة سبل لا يحلها أول من أهلها
وزعم ليث بن أبي سليم أنهم وجدوا حجرا في الكعبة قبل مبعث النبي {صلى الله عليه وسلم} بأربعين سنة إن كان ما يذكر حقا مكتوبا فيه من يزرع خيرا يحصد غبطة ومن يزرع شرا يحصد ندامة تعملون السيئات وتجزون الحسنات أجل كما لا يجتنى من الشوك العنب
قال ابن إسحاق ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنيانها كل قبيلة تجمع على حدة ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن فاختصموا فيه كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى حتى تجاوزوا وتحالفوا وأعدو للقتال فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما ثم تعاقدوا هم وبنوا عدي على الموت وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة فسموا لعقة الدم
فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله ابن عمر بن مخزوم وكان عامئذ أسن قريش كلها قال يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم ففعلوا
فكان أول داخل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلما رأوه قالوا هذا الأمين رضينا هذا محمد
(1/120)
فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال {صلى الله عليه وسلم} هلم إلي ثوبا فأتي به فأخذ الركن فوضعه فيه بيده ثم قال لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعا ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده {صلى الله عليه وسلم} ثم بني عليه
وكانت الكعبة على عهد النبي {صلى الله عليه وسلم} ثماني عشرة ذراعا كانت تكسي القباطي ثم كسيت البرود
وأول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف هذا قول ابن إسحاق
وقال الزبير أول من كساها الديباج عبد الله بن الزبير
وذكر جماعة سواهما منهم الدار قطني أن نتلة بنت جناب أم العباس بن عبد المطلب كانت قد أضلت العباس يومئذ وهو صغير فنذرت إن هي وجدته أن تكسو الكعبة الديباج ففعلت ذلك حين وجدته
وذكر الزبير أن الذي أضلته نتلة بنت جناب إنما هو ابنها ضرار بن عبد المطلب شقيق العباس ونذرت أن تكسو البيت إن وجدته فكسته حين وجدته ثيابا بيضا فالله تعالى أعلم
قال ابن إسحاق وكانت قريش لا أدري أقبل الفيل أم بعده ابتدعت أمر الحمس رأيا رأوه وأداروه
فقالوا نحن بنو إبراهيم وأهل الحرمة وولاة البيت وقاطن مكة وساكنها فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلتنا ولا تعرف له العرب مثل ما تعرف لنا فلا تعظمون شيئا من الحل كما تعظمون الحرم فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمتكم وقالوا قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم
فتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم ويرون لسائر العرب أن يقفوا عليها وان يفيضوا منها إلا أنهم قالوا نحن أهل الحرم وليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرمة ولا نعظم غيرها كما نعظمها نحن الحمس والحمس أهل الحرم
ثم جعلوا لمن ولدوا من العرب من ساكن الحل والحرم مثل الذي لهم بولادتهم إياهم يحل لهم ما يحل لهم ويحرم عليهم ما يحرم عليهم
وكانت كنانة وخزاعة قد دخلوا معهم في ذلك
(1/121)
ثم ابتدعوا في ذلك أمورا لم تكن لهم حتى قالوا لا ينبغي للحمس أن يأتقطوا الأقط ولا يسألوا السمن وهم حرم ولا يدخلوا بيتا من شعر ولا يستظلوا إن استظلوا إلا في بيوت الأدم ما كانوا حرما
ثم رفعوا في ذلك فقالوا لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الحل إلى الحرم إذا جاءوا حجاجا أو عمارا ولا يطوفوا بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحمس فإن لم يجدوا منها شيئا طافوا بالبيت عراة فإن تكرم منهم متكرم من رجل أو امرأة ولم يجد ثياب أحمس فطاف في ثيابه التي جاء بها من الحل ألقاها إذا فرغ من طوافه ثم لم ينتفع بها ولم
يمسها هو ولا أحد غيره أبدا فكانت العرب تسمي تلك الثياب اللقي
فحملوا على ذلك العرب فدانت به فوقفوا على عرفات وأفاضوا منها وطافوا بالبيت عراة أما الرجال فيطوفون عراة وأما النساء فتضع إحداهن ثيابها كلها إلا ثوبا مفرجا عليها ثم تطوف فيه
فكانوا كذلك حتى بعث الله رسوله محمدا {صلى الله عليه وسلم} فأنزل الله عليه حين أحكم له دينه وشرع له سنن حجة ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس الآية البقرة 199 يعني قريشا والناس والعرب فرفعهم في سنة الحج إلى عرفات والوقوف عليها والإفاضة منها
وأنزل عليهم فيما كانوا حرموا على الناس من طعامهم ولبوسهم عند البيت حين طافوا عند البيت عراة وحرموا ما جاءوا به من الحل من الطعام يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق الآية كلها ( التوبة 374 )
فوضع الله أمر الحمس وما كانت قريش ابتدعت منه عن الناس بالإسلام حيث بعث الله به رسوله
ولم يكن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالموافق قومه على تغيير مشاعر الحج والعدول عن مواقف الناس قال جبير بن مطعم لقد رأيت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قبل أن ينزل عليه الوحي وإنه لواقف على بعيره بعرفات مع الناس من بين قومه حتى يدفع معهم توفيقا من الله له
(1/122)
وقد تقدم ما أحدثوه في النسيء وما أبطل الله من حكمه بقوله سبحانه إنما النسيء زيادة في الكفر ( الأعراف 31 - 32 )
فأغني ذلك عن إعادته
ذكر ما حفظ عن الأخبار والرهبان
والكهان من أمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قبل مبعثه سوى ما تقدم من ذلك مع ذكر شيء مما سمع من ذلك عند الأصنام أو هتفت به الهواتف
قال ابن إسحاق وكانت الأحبار من يهود والرهبان من النصارى والكهان من العرب قد تحدثوا بأمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قبل مبعثه لما تقارب من زمانه
أما الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى فعما وجدوا في كتبهم من صفته وصفة زمانه وما كان من عهد أنبيائهم إليهم فيه
وأما الكهان من العرب فأتتهم به الشياطين فيما تسترق من السمع إذ كانت لا تحجب عن ذلك وكان الكاهن والكاهنة لا يزال يقع منهما ذكر بعض أموره لا تلقي العرب لذلك فيه بالا حتى بعثه الله ووقعت تلك الأمور التي كانوا يذكرون فعرفوها
فلما تقارب أمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وحضر مبعثه حجبت الشياطين عن السمع وحيل بينها وبين المقاعد التي كانت تقعد فيها لاستراقه فرموا بالنجوم فعرفت الجن أن ذلك لأمر حدث من أمر الله في العباد
يقول الله لنبيه {صلى الله عليه وسلم} حين بعثه يقص عليه خبرهم إذ حجبوا قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا
يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبه ولا ولدا وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشبها وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ) ( الجن 1 - 10 )
(1/123)
فلما سمعت الجن القرآن عرفت أنها منعت من السمع قبل ذلك لئلا يشكل الوحي بشيء من خبر السماء فيلتبس على أهل الأرض ما جاءهم من الله فيه لوقوع الحجة وقطع الشبهة فآمنوا به وصدقوا ثم ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ( الأحقاف 29 - 30 )
وقول الجن وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن الآية هو أن الرجل من العرب من قريش وغيرهم كان إذا سافر فنزل بطن واد من الأرض ليبيت فيه قال إني أعوذ بعزيز هذا الوادي من الجن الليلة من شر ما فيه
وذكر أن أول العرب فزع للرمي بالنجوم حين رمي بها ثقيف وأنهم جاءوا إلى رجل منهم يقال له عمرو بن أمية أحد بني علاج وكان أدهى العرب وأنكرها رأيا فقالوا له يا عمرو ألم تر ما حدث في السماء من القذف بهذه النجوم
قال بلى فانظروا فإن كانت معالم النجوم التي يهتدي بها في البر والبحر وتعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء لما يصلح الناس في معايشهم هي التي يرمى بها فهو والله طي الدنيا وهلاك هذا الخلق الذي فيها
وإن كانت نجوما غيرها وهي ثابتة على حالها فهذا لأمر أراد الله به هذا الخلق فما هو
وقد قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لنفر من الأنصار ما كنتم تقولون في هذا النجم الذي يرمى به
قالوا يا نبي الله كنا نقول حين رأيناها يرمى بها مات ملك ملك ملك ولد مولود مات مولود
(1/124)
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ليس ذلك كذلك ولكن الله تبارك وتعالى كان إذا قضى في خلقه أمرا سمعه حملة العرش فسبحوا فسبح من تحتهم لتسبيحهم فسبح من تحت ذلك فلا يزال التسبيح يهبط حتى ينتهي إلى السماء الدنيا فيسبحوا ثم يقول بعضهم لبعض مم سبحتم فيقولون سبح من فوقنا فسبحنا لتسبيحهم فيقولون ألا تسألون من فوقكم مم سبحوا فيقولون مثل ذلك حتى ينتهوا إلى حملة العرش فيقال لهم مم سبحتم فيقولون قضى الله في خلقه كذا وكذا للأمر الذي كان فيهبط به الخبر من سماء إلى سماء حتى ينتهي إلى السماء الدنيا فيتحدثوا به فتسترقه الشياطين بالسمع على توهم واختلاف ثم يأتون به الكهان فيخطئون بعضا ويصيبون بعضا
ثم إن الله حجب الشياطين بهذه النجوم التي يقذفون بها فانقطعت الكهانة اليوم فلا كهانة
وذكر أبو جعفر العقيلي بإسناد له إلى لهيب بن مالك اللهبي قل حضرت عند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فذكرت عنده الكهانة فقلت بأبي أنت وأمي نحن أول من عرف حراسة السماء وزجر الشياطين ومنعهم من استراق السمع عند قذف النجوم وذلك أنا اجتمعنا إلى كاهن لنا يقال له خطر بن مالك وكان شيخا كبيرا قد أتت عليه مائة سنة وثمانون سنة وكان من أعلم كهاننا فقلنا يا خطر هل عندك علم من هذه النجوم التي يرمى بها فإنا قد فزعنا لها وخفنا سوء عاقبتها
فقال ائتوني بسحر أخبركم الخبر ألخير أم ضرر ولأمن أو حذر
قال فانصرفنا عنه يومنا فلما كان من غد في وجه السحر أتيناه فإذا هو قائم على قدميه شاخص في السماء بعينيه فناديناه يا خطر يا خطر فأومأ إلينا أن أمسكوا فأمسكنا
فانقض نجم عظيم من السماء وصرخ الكاهن رافعا صوته أصابه أصابه خامره عقابه عاجله عذابه أحرقه شهابه زايلة جوابه يا ويحه ما حاله بلبله بلباله عاوده خباله تقطعت حباله وغيرت أحواله
(1/125)
ثم أمسك طويلا وقال يا معشر بني قحطان أخبركم بالحق والبيان أقسمت بالكعبة والأركان والبلد المؤتمن السدان لقد منع السمع عتاة الجان بثاقب بكف ذي سلطان من أجل مبعوث عظيم الشأن يبعث بالتنزيل والقرآن وبالهدى وفاصل الفرقان تبطل به عبادة الأوثان
قال فقلنا يا خطر إنك لتذكر أمرا عظيما فماذا ترى لقومك
فقال
أرى لقومي ما أرى لنفسي
أن يتبعوا خير بني الإنس
برهانه مثل شعاع الشمس
يبعث في مكة دار الحمس
بمحكم التنزيل غير اللبس
الرجز
فقلنا له يا خطر وممن هو
فقال والحياة والعيش إنه لمن قريش ما في حلمه طيش ولا في خلقه هيش يكون في جيش وأي جيش من آل قحطان وآل أيش فقلنا بين لنا من أي قريش هو
فقال والبيت ذي الدعائم إنه لمن نجل هاشم من معشر أكارم يبعث بالملاحم وقتل كل ظالم
ثم قال هذا هو البيان أخبرني به رئيس الجان
ثم قال الله أكبر جاء الحق وظهر وانقطع عن الجن الخبر
ثم سكت وأغمى عليه فما أفاق إلا بعد ثالثة فقال لا إله إلا الله
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سبحان الله لقد نطق عن مثل نبوة وإنه ليبعث يوم القيامة أمة وحده
قال ابن إسحاق وحدثني بعض أهل العم أن امرأة من بني سهم يقال لها الغيطلة كانت كاهنة في الجاهلية جاءها صاحبها ليلة من الليالي فانقض تحتها ثم قال بدر ما بدر يوم عقر ونحر
فقالت قريش حين بلغها ذلك ما يريد
ثم جاءها ليلة أخرى فانقض تحتها ثم قال شعوب ما شعوب تصرع فيه كعب لجنوب
فلما بلغ ذلك قريشا قالوا ماذا يريد إن هذا لأمر هو كائن فانظروا ما هو
فما عرفوه حتى كانت وقعة بدر وأحد بالشعب فعرفوا أنه كان الذي جاء به إلى صاحبته
قال وحدثني علي بن نافع الجرشي أن جنبا بطنا من اليمن كان لهم كاهن في الجاهلية فلما ذكر أمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وانتشر في العرب قالت له جنب انظر لنا في أمر هذا الرجل واجتمعوا له في أسفل جبله
(1/126)
فنزل عليهم حين طلعت الشمس فوقف لهم قائما متكئا على قوس له فرفع رأسه إلى السماء طويلا ثم جعل ينزو ثم قال أيها الناس إن الله أكرم محمدا
واصطفاه وطهر قلبه وحشاه ومكثه فيكم أيها الناس قليل ثم أسند في جبله راجعا من حيث جاء
وحدثني من لا أتهم أن عمر بن الخطاب بينا هو جالس في الناس في مسجد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إذ أقبل رجل من العرب يريد عمر فلما نظر إليه عمر قال إن الرجل لعلى شركه ما فارقه أو لقد كان كاهنا في الجاهلية
فسلم عليه الرجل ثم جلس فقال له عمر هل أسلمت قال نعم يا أمير المؤمنين قال فهل كنت كاهنا في الجاهلية فقال الرجل سبحان الله يا أمير المؤمنين لقد خلت في واستقبلتني بأمر ما أراك قلته لأحد من رعيتك منذ وليت
فقال عمر اللهم غفرا قد كنا في الجاهلية على شر من هذا نعبد الأصنام ونعتنق الأوثان حتى أكرمنا الله برسوله وبالإسلام
قال نعم والله يا أمير المؤمنين لقد كنت كاهنا في الجاهلية
قال فأخبرني ما جاء به صاحبك
قال جاءني قبيل الإسلام بشهر أو شيعه فقال ألم تر إلى الجن وإبلاسها وإياسها من دينها و لحوقها بالقلاص وأحلاسها
قال ابن هشام هذا الكلام سجع وليس بشعر وأنشدني بعض أهل العلم بالشعر
عجبت للجن وإبلاسها
وشدها العيس بأحلاسها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى
ما مؤمن الجن كأنجاسها
السريع
فقال عمر رضي الله عنه عند ذلك يحدث الناس والله إني لعند وثن من أوثان الجاهلية في نفر من قريش قد ذبح لهم رجل من العرب عجلا فنحن
ننتظر قسمه ليقسم لنا منه إذ سمعت من جوف العجل صوتا ما سمعت قط أنفذ منه وذلك قبيل الإسلام بشهر أو شيعه يقول يا ذريح أمر نجيح رجل يصيح يقول لا إله إلا الله
قال ابن هشام ويقال رجل يصيح بلسان فصيح يقول لا إله إلا الله
وهذا الرجل الذي ظن به عمر رضي الله عنه ما ظن هو سواد بن قارب الدوسي وكان يتكهن في الجاهلية
(1/127)
وقد ذكر خبره غير ابن إسحاق فساقه سياقة أحسن من هذه وأتم وذكر فيه أنه كان نائما على جبل من جبال السراة ليلة من الليالي فأتاه آت فضربه برجله وقال
قم يا سواد بن قارب أتاك رسول من لؤي بن غالب
قال فرفعت رأسي وجلست فأدبر وهو يقول
عجبت للجن وتطلابها
وشدها العيس بأقتابها
تهوى إلى مكة تبغي الهدى
ما صادق الجن ككذابها
فارحل إلى الصفوة من هاشم
ليس قداماها كأذنابها
السريع
وأتاه في الليلة الثانية فضربه برجله وقال قم يا سواد بن قارب أتاك رسول من لؤي بن غالب قال فرفعت رأسي وجلست فأدبر وهو يقول
عجبت للجن وأخبارها
ورحلها العيس بأكوارها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى
ما مؤمنوها مثل كفارها
فارحل إلى الصفوة من هاشم
ليس قداماها كأدبارها
السريع
وأتاه في الليلة الثالثة بعدما نام فضربه برجله وقال قم يا سواد بن قارب أتاك رسول الله من لؤي بن غالب قال فرفعت رأسي فجلست فأدبر وهو يقول
عجبت للجن وإبلاسها
ورحلها العيس بأحلاسها
تهوى إلى مكة تبغي الهدى
ما مؤمنوها مثل أرجاسها
فارحل إلى الصفوة من هاشم
وارم بعينيك إلى رأسها
السريع
قال فلما أصبحت اقتعدت بعيري فأتيت مكة فإذا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد ظهر فأخبرته الخبر وبايعته
وفي بعض طرق حديثه أنه أنشد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} شعرا منه في معنى ما جاءه به رئيه
أتاني رئيي بعد هدء وهجعة
ولم يك فيما قد بلوت بكاذب
ثلاث ليال قوله كل ليلة
أتاك رسول من لؤي بن غالب
فرفعت أذيال الإزار وشمرت
بي العرمس الوجنا هجول السباسب
فأشهد أن الله لا شيء غيره
وأنك مأمون على كل غائب
وأنك أدني المرسلين وسيلة
إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب
فمرنا بما يأتيك من وحي ربنا
وإن كان فيما جئت شيب الذوائب
وكن لي شفيعا حين لا ذو قرابة
بمغن فتيلا عن سواد بن قارب
الطويل
(1/128)
ولسواد بن قارب هذا مقام حميد في قومه دوس حين بلغهم وفاة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يثبتهم في الدين ويحضهم على التمسك بالإسلام سنذكره إن شاء الله مع نظائره بعد استيفاء الخبر عن وفاة رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وذكر الواقدي بإسناد له قال كان أبو هريرة يحدث أن قوما من خثعم كانوا عند صنم لهم جلوسا وكانوا يتحاكمون إلى أصنامهم فيقال لأبي هريرة هل كنت أنت تفعل ذلك فيقول قد والله فعلت فأكثرت فالحمد لله الذي تنقذني بمحمد {صلى الله عليه وسلم}
قال أبو هريرة فبينا الخثعميون عند صنمهم إذ سمعوا هاتفا يهتف
يا أيها الناس ذوو الأجسام
ومسندو الحكم إلى الأصنام
أكلكم أوره كالكهام
ألا ترون ما أرى أمامي
من ساطع يجلو دجي الظلام
ذاك نبي سيد الأنام
من هاشم في ذروة السنام
مستعلن بالبلد الحرام
جاء بهدم الكفر بالإسلام
أكرمه الرحمن من إمام
السريع
قال أبو هريرة فأمسكوا ساعة حتى حفظوا ذلك ثم تفرقوا فلم تمض بهم ثالثة حتى فجأهم خبر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنه قد ظهر بمكة قال فما أسلم الخثعميون حتى استأخر إسلامهم ورأوا عبرا عند صنمهم
وذكر الواقدي أيضا أن رجلا من الأنصار حدث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال انطلقت أنا وصاحبان لي نريد الشام حتى إذا كنا بقفرة من الأرض نزلنا بها فبينا نحن كذلك لحقنا راكب فكنا أربعة وقد أصابنا سغب شديد والتفت فإذا أنا بظبية عضباء ترتع قريبا مني فوثبت إليها فقال الرجل الذي لحقنا خل سبيلها لا أبا لك والله لقد رأيتنا ونحن نسلك هذا الطريق ونحن عشرة أو أكثر فيختطف بعضنا بعضا فما هو إلا أن كانت هذه الظبية فما يهاج بها أحد
فأبيت وقلت لا لعمر الله لا أخليها فارتحلنا وقد شددتها معي حتى إذا ذهب سدف من الليل إذا هاتف يهتف بنا ويقول
يا أيها الركب السراع الأربعة
خلوا سبيل النافر المفزعة
خلوا عن العضباء في الوادي سعه
لا تذبحن الظبية المروعه
فيها لأيتام صغار منفعه
الرجز
(1/129)
قال فخليت سبيلها ثم انطلقنا حتى أتينا الشام فقضينا حوائجنا ثم أقبلنا حتى إذا كنا بالمكان الذي كنا فيه هتف بنا هاتف من خلفنا
إياك لا تعجل وخذها من ثقه
فإن شر السير سير الحقحقه
قد لاح نجم فأضاء مشرقه
يخرج من ظلما عسوف موبقه
ذاك رسول مفلح من صدقة
الله أعلى أمره وحققه
الرجز
قال الرجل فأتيت مكة فإذا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يدعو إلى الإسلام
فقال عمر الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد {صلى الله عليه وسلم}
وروينا عن أبي المنذر هشام بن محمد الكلبي بإسناد متصل إليه قال لقيت شيوخا من شيوخ طييء المقدمين فسألتهم عن قصة مازن يعني مازن بن الغضوبة الطائي وسبب إسلامه ووفوده على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وإقطاعه أرض عمان وذلك بمن الله وفضله
وكان مازن بأرض عمان بقرية تدعى سنابل قال مازن فعترت ذات يوم عتيرة وهي الذبيحة فسمعت صوتا من الصنم يقول يا مازن أقبل أقبل فاسمع ما لا تجهل هذا نبي مرسل جاء بحق منزل فآمن به كي تعزل عن حر نار تشعل وقودها بالجندل
قال مازن فقلت إن هذا والله لعجب ثم عترت بعد أيام عتيرة أخرى فسمعت صوتا أبين من الأول وهو يقول يا مازن اسمع تسر ظهر خير وبطن شر بعث نبي من مضر بدين الله الأكبر فدع نحيتا من حجر تسلم من حر سقر
قال مازن فقلت إن هذا والله لعجب وإنه لخير يراد بي وقدم علينا رجل من أهل الحجاز فقلنا ما الخبر وراءك قال خرج بتهامة رجل يقول لمن أتاه أجيبوا داعي الله يقال له أحمد
فقلت هذا والله نبأ ما سمعت
فثرت إلى الصنم فكسرته جذاذا وشددت راحلتي ورحلت حتى أتيت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فشرح لي الإسلام فأسلمت فأنشأت أقول
كسرت يا جر أجذاذا وكان لنا
ربا نطيف به ضلا بتضلال
بالهاشمي هدانا من ضلالتنا
ولم يكن دينه منا على بال
يا راكبا بلغن عمرا وإخوتها
أني لمن قال ربي ياجر قالي
البسيط
(1/130)
وقلت يا رسول الله إني امرؤ مولع بالطرب وشرب الخمر وبالهلوك إلى النساء وألحت علي السنون فأذهبن الأموال واهزلن الذراري والرجال وليس لي ولد فادع الله أن يذهب عني ما أجد ويأتيني بالحياء ويهب لي ولدا
فقال النبي {صلى الله عليه وسلم} اللهم أبدله بالطرب قراءة القرآن وبالحرام الحلال واتهم بالحياء وهب له ولدا
قال مازن فأذهب الله عني كل ما أجد وأخصبت عمان وتزوجت أربع حرائر ووهب الله لي حيان بن مازن وأنشأت أقول
إليك رسول الله سقت مطيتي
تجوب الفيافي من عمان إلى العرج
لتشفع لي يا خير من وطيء الحصي
فيغفر لي ربي فأرجع بالفلج
إلى معشر خالفت في الله دينهم
فلا رأيهم رأيي ولا شرجهم شرجي
وكنت امرءا بالزعب والخمر مولعا
شبابي حتى أذن الجسم بالنهج
فأصبحت همي في جهاد ونيتي
فلله ما صومى ولله ما حجي
الطويل
ومما يلحق بهذا الباب من حسان أخبار الكهان وإن كان بعد المبعث بزمان ولكنه يجتمع مع الأحاديث السابقة في الدلالة على صدق الرسول والإعلام بالغيب المجهول والإرشاد إلى سواء السبيل ما ذكره أبو علي إسماعيل بن القاسم في أماليه بإسناد له إلى ابن الكلبي عن أبيه قال
كان خنافر بن التوأم الحميري كاهنا وكان قد أوتى بسطة في الجسم وسعة في المال وكان عاتيا فلما وفدت وفود اليمن على النبي {صلى الله عليه وسلم} وظهر الإسلام أغار على إبل لمراد فاكتسحها وخرج بأهله وماله ولحق بالشحر فحالف جودان بن يحيى الفرضمي وكان سيدا منيعا ونزل بواد من أودية الشحر مخصب كثير الشجر من الأيك والعرين
(1/131)
قال خنافر وكان رئيي في الجاهلية لا يغيب عني فلما شاع الإسلام فقدته مدة طويلة وساءني ذلك فبينا أنا ليلة في ذلك الوادي نائما إذ هوي هوي العقاب فقال خنافر قلت شصار فقال اسمع أقل قلت أسمع فقال عه تغنم لكل مدة نهاية وكل ذي أمد إلى غاية قلت أجل فقال كل دولة إلى أجل ثم يتاح لها حول انتسخت النحل ورجعت إلى حقائقها الملل إنك سجير موصول والنصح لك مبذول إني آنست بأرض الشام نفرا من أهل العزام حكاما على الحكام يذكرون ذا رونق من الكلام ليس بالشعر المؤلف ولا بالسجع المتكلف فأصغيت فزجرت فعاودت فظلفت فقلت بم تهينمون وإلام تعتزون فقالوا خطاب كبار جاء من عند الملك الجبار فاسمع يا شصار عن أصدق الأخبار واسلك أوضح الآثار تنج من أوار النار
قلت وما هذا الكلام قالوا فرقان بين الكفر والإيمان رسول من مضر ابتعث فظهر فجاء بقول قد بهر وأوضح نهجا قد دثر فيه مواعظ لمن اعتبر ومعاذ لمن ازدجر ألف بالآي الكبر
فقلت ومن هذا المبعوث من مضر قالوا أحمد خير البشر فإن آمنت أعطيت الشبر وإن خالفت أصليت سقر
فآمنت يا خنافر وأقبلت إليك أبادر فجانب كل نجس كافر وشايع كل مؤمن طاهر وإلا فهو الفراق عن لا تلاق
قلت من أين أبغي هذا الدين
قال من ذات الإحرين والنفر الميامين أهل الماء والطين
قلت أوضح قال الحق بيثرب ذات النخل والحرة ذات النعل فهنالك أهل الفضل والطول والمواساة والبذل
ثم املس عني فبت مذعورا أراعي الصباح فلما برق لي النور امتطيت راحلتي وآذنت أعبدي واحتملت بأهلي حتى وردت الجوف فرددت الإبل على أربابها بحولها وسقايها وأقبلت أريد صنعاء فأصبت فيها معاذ بن جبل أميرا لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فبايعته على الإسلام وعلمني من القرآن فمن الله علي بالهدى بعد الضلالة والعلم بعد الجهالة وقلت في ذلك
ألم تر أن الله عاد بفضله
فأنقد من لفح الزخيخ خنافرا
وكشف لي عن حجمتي عماهما
وأوضح لي نهجي وقد كان داثرا
دعاني شصار للتي لو رفضتها
(1/132)
لأصليت جمرا من لظى الهوب واهرا
فأصبحت والإسلام حشو جوانحي
وجانبت من أمسى عن الحق نائرا
وكان مضلي من هديت برشده
فلله مغو عاد بالرشد آمرا
نجوت بحمد الله من كل قحمة
تؤرث هلكا يوم شايعت شاصرا
فقد أمنتني بعد ذاك يحابر
بما كنت أغشى المنديات يحابرا
فمن مبلغ فتيان قومي ألوكة
بأني من أقتال من كان كافرا
عليكم سواء القصد لا فل حذكم
فقد أصبح الإسلام للكفر قاهرا
الطويل
وذكر ابن هشام أن بعض أهل العلم حدثه أنه كان لمرداس أبي عباس بن مرداس السلمي وثن يعبده وهو حجر يقال له ضمار فلما حضر مرداسا
الموت قال لعباس أي بني اعبد ضمار فإنه ينفعك ويضرك فبينما العباس يوما عند ضمار إذ سمع من جوف ضمار مناديا يقول
قل للقبائل من سليم كلها
أودى ضمار وعاش أهل المسجد
إن الذي ورث النبوة والهدى
بعد ابن مريم من قريش مهتدي
أودى ضمار وكان يعبد مرة
قبل الكتاب إلى النبي محمد
الكامل
فحرق العباس ضمار ولحق بالنبي {صلى الله عليه وسلم} فأسلم
والأخبار في هذا الباب مما نقل من ذلك عن الكهان أو سمع عند الأصنام أو هتفت به هواتف الجان كثيرة جدا وقد أتينا منها بما استحسناه مما ذكره ابن إسحاق أو ذكره سواه
قال ابن إسحاق وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن رجال من قومه قالوا إن مما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله لنا وهداه لما كنا نسمع من أحبار يهود
كنا أهل شرك أصحاب أوثان وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم
فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم
فلما بعث الله رسوله محمدا {صلى الله عليه وسلم} أجبناه حين دعانا إلى الله وعرفنا ما كانوا يتواعدوننا به فبادرنا إليه فآمنا به وكفروا به
ففينا وفيهم نزلت هذه الآية من البقرة ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ( البقرة 89 )
(1/133)
قال وحدثني صالح بن إبراهيم عن محمود بن لبيد عن سلمة بن سلامة بن
وقش وكان من أصحاب بدر قال كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل فخرج علينا يوما من بيته حتى وقف على بني عبد الأشهل فذكر القيامة والبعث والحساب والميزان والجنة والنار فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان لا يرون أن بعثا كائن بعد الموت
فقالوا له ويحك يا فلان أوتري هذا كائنا أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يجزون فيها بأعمالهم
قال نعم والذي يحلف به ولود أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدار يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطينونه عليه بأن ينجو من تلك النار غدا
فقالوا له ويحك يا فلان وما آية ذلك
قال نبي مبعوث من نحو هذه البلاد وأشار بيده إلى مكة واليمن
قالوا ومتى نراه
قال فنظر إلي وأنا من أحدثهم سنا فقال إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه
قال سلمة فو الله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله محمدا {صلى الله عليه وسلم} وهو حي بين أظهرنا فآمنا به وكفر به بغيا وحسدا
فقلنا له ويحك يا فلان ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت
قال بلى ولكن ليس به
قال وحدثني عاصم بن عمر عن شيخ من بني قريظة قال قال لي هل تدري عم كان إسلام ثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية وأسد بن عبيد نفر من هدل إخوة بني قريظة كانوا معهم في جاهليتهم ثم كانوا ساداتهم في الإسلام قال قلت لا
قال فإن رجلا من يهود من أهل الشام يقال له ابن الهيبان قدم علينا قبل
الإسلام بيسير فحل بين أظهرنا لا والله ما رأينا رجلا قط لا يصلي الخمس أفضل منه
فأقام عندنا فكنا إذا قحط عنا المطر قلنا له اخرج يا ابن الهيبان فاستسق لنا فيقول لا والله حتى تقدموا بين يدي مخرجكم صدقة فنقول له كم فيقول صاعا من تمر أو مدين من شعير
فنخرجهما ثم يخرج بنا إلى ظاهر حرثنا فيستسقي لنا فو الله ما يبرح مجلسه حتى يمر السحاب ونسقى
(1/134)
قد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث ثم حضرته الوفاة عندنا فلما عرف أنه ميت قال يا معشر يهود ما ترون أنه أخرجني من أرض الخمر والحمير إلى أرض البؤس والجوع
قلنا أنت أعلم
قال فإنما قدمت هذه البلدة أتو كف خروج نبي قد أظل زمانه وهذه البلدة مهاجره فكنت أرجو أن يبعث فأتبعه وقد أظلكم زمانه فلا تسبقن إليه يا معشر يهود فإنه يبعث بسفك الدماء وسبي الذراري والنساء ممن خالفه فلا يمنعنكم ذلك منه
فلما بعث الله رسوله {صلى الله عليه وسلم} وحاصر بني قريظة قال هؤلاء الفتية وكنا شبابا أحداثا يا بني قريظة والله إنه للنبي الذي عهد إليكم فيه ابن الهيبان قالوا ليس به قالوا بلى والله إنه لهو بصفته فنزلوا فأسلموا فأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهاليهم
قال ابن إسحاق فهذا ما بلغنا عن أحبار يهود
قال وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري عن محمود عن ابن عباس قال حدثني سلمان الفارسي من فيه قال
كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان من أهل قرية يقال لها جي وكان أبي دهقان قريته وكنت أحب خلق الله إليه لم يزل به حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية واجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار الذي يوقدها ولا يتركها تخبو ساعة
وكانت لأبي ضيعة عظيمة فشغل في بنيان له يوما فقال لي يا بني إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي فاذهب إليها فاطلعها وأمرني فيها ببعض ما يريد ثم قال لي ولا تحتبس عني فإنك إن احتبست عني كنت أهم إلي من ضيعتي وشغلتني عن كل شيء من أمري
فخرجت أريد ضيعته التي بعثني إليها فمررت بكنيسة من كنائس النصارى فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته
فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم وقلت هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه فوالله ما برحتهم حتى غربت الشمس وتركت ضيعة أبي فلم آتها ثم قلت لهم أين أصل هذا الدين قالوا بالشام
(1/135)
فرجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله فلما جئته قال أي بني أين كنت ألم أكن عهدت إليك ما عهدت قلت يا أبت مررت بأناس يصلون في كنيسة لهم فأعجبني ما رأيت في دينهم فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس
قال أي بني ليس في ذلك الدين خير دينك ودين آبائك خير منه
فقلت له كلا والله إنه لخير من ديننا
قال فخافني فجعل في رجلي قيدا ثم حبسني في بيته
وبعثت إلى النصارى فقلت لهم إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني بهم فقدم عليهم تجار من النصارى فأخبروني فقلت لهم إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني بهم
قال فلما أرادوا الرجعة أخبروني بهم فألقيت الحديد من رجلي ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام
فلما قدمتها قلت من أفضل أهل هذا الدين علما قالوا الأسقف في الكنيسة فجئته فقلت له إني قد رغبت في هذا الدين وأحببت أن أكون معك وأخدمك في كنيستك وأتعلم منك وأصلى معك قال ادخل
فدخلت معه فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها فإذا جمعوا إليه شيئا منها اكتنزه لنفسه ولم يعطه المساكين حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق
فأبغضته بغضا شديدا لما رأيته يصنع
ثم مات واجتمعت النصارى ليدفنوه فقلت لهم إن هذا كان رجل سوء يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئا
فقالوا لي وما علمك بذلك فقلت أنا أدلكم على كنزه فأريتهم موضعه فاستخرجوا سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا فلما رأوها قالوا والله لا ندفنه أبدا
فصلبوه ورجموه بالحجارة
وجاءوا برجل آخر فجعلوه مكانه فما رأيت رجلا لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة ولا أدأب ليلا ونهارا منه فأحببته حبا لم أحبه شيئا قبله فأقمت معه زمانا ثم حضرته
الوفاة فقلت له يا فلان إني كنت معك وأحببتك حبا لم أحبه شيئا قبلك وقد حضرك من أمر الله ما ترى فإلى من توصي بي وبم تأمرني
(1/136)
فقال أي بني والله ما أعلم اليوم أحدا على ما كنت عليه لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلا بالموصل وهو فلان وهو على ما كنت عليه
فلما مات وغيب لحقت بصاحب الموصل فقلت له يا فلان إن فلانا أوصاني عند موته أن ألحق بك وأخبرني أنك على أمره فقال لي أقم عندي
فأقمت عنده فوجدته خير رجل على أمر صاحبه
فلم يلبث أن مات فلما حضرته الوفاة قلت له يا فلان إن فلانا أوصى بي إليك وأمرني باللحوق بك وقد حضرك من أمر الله ما ترى فإلى من توصي بي وبم تأمرني فقال يا بني والله ما أعلم رجلا على ما كنا عليه إلا رجلا بنصيبين وهو فلان فالحق به
فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين فأخبرته خبري وما أمرني به صاحبي فقال أقم عندي
فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبيه فأقمت مع خير رجل فو الله ما لبث أن نزل به الموت فلما حضر قلت له يا فلان إن فلانا كان أوصى بي إلى فلان ثم أوصى بي فلان إليك فإلى من توصى بي وبم تأمرني
قال يا بني والله ما أعلمه بقي أحد على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلا بعمورية من أرض الروم فإنه على مثل ما نحن عليه فإن أحببت فأته
فلما مات وغيب لحقت بصاحب عموريه فأخبرته خبري فقال أقم عندي
فأقمت عند خير رجل على هدى أصحابه وأمرهم واكتسبت حتى كانت لي بقرات وغنيمة ثم نزل به أمر الله فلما حضر قلت له يا فلان إني كنت مع
فلان فأوصى بي إلى فلان ثم أوصى بي إلى فلان ثم أوصى بي فلان إليك فإلى من توصي بي وبم تأمرني
قال أي بني والله ما أعلمه أصبح علي مثل ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه ولكنه قد أظل زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب مهاجره إلى أرض بين حرتين بينهما نخل به علامات لا تخفي يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة بين كتفيه خاتم النبوة فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل
ثم مات وغيب
(1/137)
فمكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث ثم مر بي نفر من كلب تجار فقلت لهم احملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه فقالوا نعم فأعطيتهموها وحملوني معهم حتى إذا بلغوا وادي القرى ظلموني فباعوني من رجل يهودي عبدا فكنت عنده فرأيت النخل فرجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي ولم يحق في نفسي
فبينا أنا عنده إذ قدم عليه ابن عم له من بني قريظة من المدينة فابتاعني منه فاحتملني إلى المدينة فو الله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي فأقمت بها
وبعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأقام بمكة ما أقام لا أسمع له به بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق
ثم هاجر إلى المدينة فوالله إني لفي رأس عذق لسيدي أعمل له فيه بعض العمل وسيدي جالس تحتي إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه فقال يا فلان قاتل الله بني قيلة والله إنهم الآن لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي
فلما سمعتها أخذتني العرواء حتى ظننت أني سأسقط على سيدي فنزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه ذلك ماذا تقول فغضب سيدي فلكمني لكمة
شديدة ثم قال مالك ولهذا أقبل على عملك فقلت لا شيء إنما أردت أن أستثبته عما قال
وقد كان عندي شيء جمعته فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو بقباء فدخلت عليه فقلت له إنه قد بلغني أنك رجل صالح ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة وهذا شيء كان عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم فقربته إليه فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لأصحابه كلوا وأمسك يده فلم يأكل
فقلت في نفسي هذه واحدة
ثم انصرفت عنه فجمعت شيئا وتحول رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى المدينة ثم جئته به فقلت إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية أكرمتك بها فأكل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} منها وأمر أصحابه فأكلوا معه
فقلت في نفسي هاتان ثنتان
(1/138)
ثم جئت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو ببقيع الغرقد قد تبع جنازة من أصحابه علي شملتان لي وهو جالس في أصحابه فسلمت عليه ثم استدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي فلما رآني رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أستدير به عرف أني أستثبت في شيء وصف لي فألقى الرداء عن ظهره فنظرت إلى الخاتم فعرفته فأكببت عليه أقبله وأبكي فقال لي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} تحول فتحولت فجلست بين يديه فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس
فأعجب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يسمع ذلك أصحابه ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بدر وأحد
قال سلمان ثم قال لي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كاتب يا سليمان فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها له بالفقير وأربعين أوقية
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أعينوا أخاكم فأعانوني بالنخل الرجل بثلاثين ودية
والرجل بعشرين ودية والرجل بخمس عشرة والرجل بعشر يعين الرجل بقدر ما عنده حتى اجتمعت إلي ثلاثمائة ودية فقال لي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اذهب يا سلمان ففقر لها فإذا فرغت فائتني أكن أنا أضعها بيدي
ففقرت وأعانني أصحابي حتى إذا فرغت جئته فأخبرته فخرج معي إليها فجعلنا نقرب إليه الودي ويضعه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بيده حتى فرغت فو الذي نفس سليمان بيده ما ماتت منها ودية واحدة
فأديت النخل وبقي علي المال فأتي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المعادن فقال ما فعل الفارسي المكاتب فدعيت له فقال خذ هذه فأدها مما عليك يا سلمان قلت وأين تقع هذه يا رسول الله مما علي قال خذها فإن الله سيؤدي بها عنك فأخذتها فوزنت لهم منها والذي نفس سلمان بيده أربعين أوقية فأوفيتهم حقهم فشهدت مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الخندق حرا ثم لم يفتني معه مشهد
وعن سلمان أنه قال لما قلت واين تقع هذه من الذي علي يا رسول الله أخذها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقلبها على لسانه ثم قال خذها فأوفهم منها فأخذتها فأوفيتهم منها حقهم كله أربعين أوقية
(1/139)
وعنه أيضا أنه قال لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين أخبره خبره أن صاحب عمورية قال له أيت كذا وكذا من أرض الشام فإن بها رجلا بين غيضتين يخرج في كل سنة من هذه الغيضة إلى هذه الغيضة مستجيزا يعترضه ذوو الأسقام فلا يدعو لأحد منهم إلا شفي فسله عن هذا الدين الذي تبتغي فهو يخبرك عنه
قال سلمان فخرجت حتى جئت حيث وصف لي فوجدت الناس قد اجتمعوا بمرضاهم هناك حتى خرج لهم تلك الليلة مستجيزا من إحدى
الغيضتين إلى الأخرى فغشيه الناس بمرضاهم لا يدعو لمريض إلا شفي وغلبوني عليه فلم أخلص إليه حتى دخل الغيضة التي يريد أن يدخل إلا منكبه فتناولته فقال من هذا والتفت إلي فقلت يرحمك الله أخبرني عن الحنيفية دين إبراهيم قال إنك لتسأل عن شيء ما يسأل عنه الناس اليوم قد أظلك زمان نبي يبعث بهذا الدين من أهل الحرم فائته فهو يحملك عليه ثم دخل فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لئن كنت صدقتني يا سلمان لقد لقيت عيسى ابن مريم
ومن حديث غير ابن إسحاق عن أبي سفيان بن حرب قال خرجت أنا وأمية بن أبي الصلت وآخر سقط اسمه من كتابي تجارا إلى الشام قال أبو سفيان فكلما نزلنا منزلا أخرج أمية سفرا يقرأه علينا فكنا كذلك حتى نزلنا بقرية من قرى النصارى فرأوه وعرفوه وأهدوا له فذهب معهم إلى بيعتهم ثم رجع في وسط النهار فطرح ثوبيه واستخرج ثوبين أسودين فلبسهما ثم قال يا أبا سفيان هل لك في عالم من علماء النصارى إليه تناهي علم الكتب تسله عما بدا لك قال قلت لا أرب لي فيه والله لئن حدثني ما أحب لا أثق به ولئن حدثني ما أكره لأوجلن منه
(1/140)
قال وذهب يخالفه شيخ من النصارى فدخل علينا فقال يعني له وللأخر الذي كان معه ما منعكما أن تذهبا إلى هذا الشيخ قلنا لسنا على دينه قال وإن فإنكما تسمعان عجبا وتريانه قال قلنا لا أرب لنا في ذلك قال أثقفيان أنتما قلنا لا ولكن من قريش قال فما منعكما من الشيخ فوالله إنه ليحبكم ويوصي بكم وخرج من عندنا ومكث أمية عنا حتى جاءنا بعد هدأة من الليل فطرح ثوبيه ثم انجدل على فراشه فوالله ما قام ولا نام حتى أصبح قال فاصبح كئيبا حزينا ساقطا غبوقه على صبوحه ما يكلمنا ثم قال ألا ترحلان قلنا وهل بك من رحيل قال نعم فارحلا
فرحلنا فسرنا بذلك ليلتين من همه وبثه ثم قال ليلة ألا تحدث يا أبا
سفيان قلت وهل بك من حديث فوالله ما رأيت مثل الذي رجعت به من عند صاحبك قال أما إن ذلك شيء لست فيه إنما ذلك شيء وجلت به من منقلبي قلت وهل لك من منقلب قال إي والله لأموتن ولأحاسبن قلت فهل أنت قابل أماني قال وعلى ماذا قلت على أنك لا تبعث ولا تحاسب فضحك ثم قال بلى والله يا أبا سفيان لنبعثن ولنحاسبن وليدخلن فريق في الجنة وفريق في النار قلت في أيتهما أنت أخبرك صاحبك قال لا علم لصاحبي بذلك ولا في نفسه
فكنا في ذلك ليلتنا يعجب منا ونضحك منه حتى قدمنا غوطة دمشق وإياها كنا نريد فبعنا متاعنا وأقمنا بذلك شهرين ثم ارتحلنا حتى نزلنا بتلك القرية من قرى النصارى فلما رأوه جاءوه فأهدوا له وذهب معهم إلى بيعتهم حتى جاءنا مع نصف النهار فلبس ثوبيه الأسودين فذهب ولم يدعنا إليه كما دعانا أول مرة ثم جاءنا بعد هدأة من الليل فطرح ثوبيه ثم رمى بنفسه على فراشه فوالله ما نام ولا قام فأصبح مبثوثا حزينا لا يكلمنا ولا نكلمه ثم قال لي ألا ترحلان قلت بلى إن شئت قال فارحلا
(1/141)
فرحلنا فسرنا كذلك من بثه وحزنه ليالي ثم قال لي ليلة يا أبا سفيان هل لك في المسير وتخلف هذا الغلام يستأنس بأصحابنا ويستأنسون به قلت له ما شئت قال فسر فسرنا حتى برزنا قال هي يا صخر قلت مالك قال هي عن عتبة بن ربيعة أيجتنب المحارم والمظالم قلت إي والله قال ويصل الرحم ويأمر بصلتها قلت نعم ويصل الرحم ويأمر بصلتها قال وكريم الطرفين واسط في العشيرة قلت كريم الطرفين واسط في العشيرة قال فهل تعلم قرشيا أشرف منه قلت لا والله ما أعلم قال ومحوج هو قلت لابل ذو مال قال فكم أتي له قلت هو ابن سبعين نظر إليها قد قاربها هو لها هو ابنها قال فالسن والشرف أزريا به قلت وما لهما أزريا به لا والله بل هما زاداه خيرا قال هو ذاك هل لك في المبيت قلت هل لك فيه حاجة قال فاضطجعنا حتى مر الثقل فسرنا حتى نزلنا فكنا في المنزل وبتنا
ثم رحلنا فلما كان الليل قال يا أبا سفيان قلت لبيك قال هل لك في البارحة قلت هل لي قال فسرنا على ناقتين ناجيتين حتى إذا برزنا قال يا صخر إيه عن عتبة قلت إيه عنه قال أيجتنب المحارم والمظالم ويأمر بصلة الرحم ويصلها قلت ويفعل قال ومحوج قلت ومحوج
قال هل تعلم قرشيا أسود منه قلت والله ما أعلمه قال اوكم أتى له قلت سبعون هو لها هو ابنها قد واقعها قال فإن السن والشرف أزريا به قلت لا والله ما أزريا به ولكنهما زاداه وأنت قائل شيئا فقله قال والله لا تذكر حديثي حتى يأتي ما هو آت قلت والله لا أذكره قال الذي رأيت أصابني فإني جئت هذا العالم فسألته عن أشياء قلت أخبرني عن هذا النبي الذي ينتظر قال هو رجل من العرب قلت قد علمت فمن أي العرب قال هو من أهل بيت تحجه العرب قلت فينا بيت تحجه العرب قال لا هم إخوتكم وجيرانكم من قريش قال فأصابني والله شيء ما أصابني مثله قط وخرج من يدي فوز الدنيا والآخرة وكنت أرجو أن أكون أنا هو
(1/142)
قلت فإذا كان ما كان فصفه لي قال بلى هو شاب حين دخل في الكهولة بدء أمره أنه يجتنب المحارم والمظالم ويصل الرحم ويأمر بصلتها وهو محوج ليس ينازع شرفا كريم الطرفين متوسط في العشيرة أكثر جنده من الملائكة قلت وما آية ذلك قال قد رجف بالشام منذ هلك عيسى ابن مريم ثمانون رجفة كلها فيهم مصيبة عامة وبقيت رجفة عامة فيها مصيبة يخرج على أثرها
قال أبو سفيان قلت وإن هذا هو الباطل لئن بعث الله رسولا لا يأخذه إلا شريفا مسنا
قال والذي يحلف به إن هذا لهكذا يا أبا سفيان هل لك في المبيت فبتنا حتى مر بنا الثقل فرحلنا حتى إذا كان بيننا وبين مكة ليلتان أدركنا
الخبر من خلفنا أصاب الشام بعدكم رجفة دمر أهلها وأصابتهم فيها مصيبة عظيمة
قال كيف ترى يا أبا سفيان قلت أرى والله ما أظن صاحبك إلا صادقا
وقدمنا مكة فقضيت ما كان معي ثم انطلقت حتى جئت أرض الحبشة تاجرا فمكثت بها خمسة أشهر ثم أقبلت حتى قدمت مكة فبينا أنا في منزلي جاءني الناس يسلمون علي حتى جاءني في آخرهم محمد بن عبد الله {صلى الله عليه وسلم} وعندي هند جالسة تلاعب صبية لها فسلم علي ورحب بي وسألني عن سفري ومقدمي ثم انطلق فقلت والله إن هذا الفتى لعجب ما جاءنا أحد من قريش له معي بضاعة إلا سألني عنها وما بلغت ووالله إن له معي لبضاعة ما هو بأغناهم عنها ثم ما سألني فقالت أو ما علمت بشأنه قلت وفزعت ما شأنه قالت والله إنه ليزعم أنه رسول الله قال فوقذني ذلك وذكرني قول النصراني ووجمت حتى قالت لي مالك فانتبهت وقلت إن هذا والله لهو الباطل لهو أعقل من أن يقول هذا قالت بلى والله إنه ليقوله ويؤتي عليه وإن له لصحابة معه على أمره قلت هو والله باطل
(1/143)
فخرجت فبينا أنا أطوف إذ لقيته فقلت إن بضاعتك قد بلغت وكان فيها خير فأرسل إلي فخذها ولست آخذا فيها ما آخذ من قومك قال فإني غير آخذها حتى تأخذ مني ما تأخذ من قومي قلت ما أنا بفاعل قال فوالله إذا لا آخذها قلت فأرسل إليها فأخذت منها ما كنت آخذ وبعثت إليه ببضاعته
ولم أنشب أن خرجت تاجرا إلى اليمن فقدمت الطائف فنزلنا على أمية فتغديت معه ثم قلت يا أبا عثمان هل تذكر حديث النصراني قال أذكره قلت فقد كان قال ومن قلت محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ثم قصصت عليه خبر هند قال فالله يعلم أنه تصبب عرقا ثم قال يا أبا سفيان لعله وإن
صفته لهيه ولئن ظهر وأنا حي لأبلين الله في نصرته عذرا
ومضيت إلى اليمن فلم أنشب أن جاءني هناك استهلاله وأقبلت حتى قدمت الطائف فنزلنا على أمية بن أبي الصلت قلت قد كان من هذا الرجل ما قد بلغك وسمعت قال قد كان قلت فأين أنت قال ما كنت لأومن برسول ليس من ثقيف قال أبو سفيان فأقبلت إلى مكة ووالله ما أنا منه ببعيد حتى جئت فوجدته هو وأصحابه يضربون ويقهرون فجعلت أقول فأين جنده من الملائكة ودخلني ما دخل الناس من النفاسة
ووقع في هذا الحديث من قول أبي سفيان أن عتبة بن ربيعة ذو مال ووقع بعد ذلك من قول أبي سفيان أيضا أنه محوج ولا يصح أن يجتمع الأمران وأحدهما غلط من الناقل والله أعلم
والمشهور من حال عتبة أنه كان فقيرا وكان يقال لم يسد من قريش مملق إلا عتبة وأبو طالب فإنهما سادا بغير مال
وأما أمية بن أبي الصلت فرجل من ثقيف لم يرض دين أهل الجاهلية ولا وفقه الله للدخول في السمحة الحنيفية
فكان كما روي عن عروة بن الزبير قال سئل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عن أمية بن أبي الصلت فقال أوتي علما فضيعه
وكما روي عن الحسن وقتادة أنهما قالا في قول الله تعالى واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ( الأعراف 175 ) أنه أمية بن أبي الصلت
(1/144)
ولغيرهما من العلماء في المعنى بهذه الآية قول أشهر من هذا وهو أن المراد بها بلعام بن باعوراء فالله تعالى أعلم
قال إبن اسحاق واجتمعت قريش يوما في عيد لهم عند صنم من أصنامهم
كانوا يعظمونه وينحرون له ويعكفون عنده فخلص منهم أربعة نفر نجيا ثم قال بعضهم لبعض تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض
قالوا أجل وهم ورقة بن نوفل وعبيد الله بن جحش وعثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزي وزيد بن عمرو بن نفيل فقال بعضهم لبعض تعلموا والله مل قومكم على شيء لقد أخطأوا دين أبيهم إبراهيم ما حجر نظيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع يا قوم التمسوا لأنفسكم فإنكم والله ما أنتم على شيء
فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم
فأما ورقة بن نوفل فاستحكم في النصرانية واتبع الكتب من أهلها
وذكر الزبير بن أبي بكر بإسناد له إلى عروة بن الزبير قال سئل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عن ورقة بن نوفل فقال لقد رأيته في المنام عليه ثياب بيض فقد أظن أن لو كان من أهل النار لم أر عليه البياض
وكان يذكر الله في شعره في الجاهلية ويسبحه وهو الذي يقول
لقد نصحت لأقوام وقلت لهم
أنا النذير فلا يغرركم أحد
لا تعبدن إلها غير خالقكم
فإن دعوكم فقولوا بيننا حدد
سبحان ذي العرش سبحانا يدوم له
رب البرية فرد واحد صمد
سبحان ذي العرش سبحانا نعود له
وقبل سبحه الجودي والجمد
مسخر كل ما تحت السماء له
لا ينبغي أن ينادي ملكه أحد
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته
يبقى الإله ويودي المال والولد
لم تغن عن هرمز يوما خزائنه
والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح له
والإنس والجن فبما بينها برد
أين الملوك التي كانت لعزتها
من كل أوب إليها وافد يفد
حوض هنالك مورود هناك بلا كذب
لا بد من ورده يوما كما وردوا
الكامل
وفي هذا الشعر ألفاظ عن غير الزبير والبيت الأخير كذلك وفيه أبيات
تروي لأمية بن أبي الصلت
(1/145)
قال ابن إسحاق وأما عبيد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلم ثم هاجر مع المسلمين إلى أرض الحبشة ومعه امرأته ام حبيبة بنت أبي سفيان مسلمة فلما قدماها تنصر وفارق الإسلام حتى هلك هنالك نصرانيا وخلف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعده على امرأته أم حبيبة وكان حين تنصر يمر بأصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيقول فقحنا وصأصأتم أي أبصرنا وأنتم تلتمسون البصر ولم تبصروا بعد
وأما عثمان بن الحويرث فقدم على قيصر ملك الروم فتنصر وحسنت منزلته عنده
وذكر الزبير أن قيصر ملكه على أهل مكة وكتب له إليهم كتابا فأنفت قريش أن يدينوا لأحد وصاح فيه ابن عمه أبو زمعة الأسود بن المطلب بن أسد والناس في الطواف إن قريشا لقاح لا تملك ولا تملك فمضت قريش على كلامه ومنعوا عثمان ما جاء يطلب فرجع إلى قيصر ومات بالشام مسموما يقال سمه عمرو بن حفنة الغساني الملك وكان يقال لعثمان هذا البطريق ولا عقب له
قال ابن إسحاق وأما زيد بن عمرو بن نفيل فوقف فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية وفارق دين قومه فاعتزل الأوثان والميتة والدم والذبائح التي تذبح على الأوثان ونهى عن قتل الموءودة وقال أعبد رب إبراهيم وبادي قومه بعيب ما هم عليه
قالت أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما لقد رأيت زيد بن عمرو ابن نفيل شيخا كبيرا مسندا ظهره إلى الكعبة وهو يقول يا معشر قريش والذي نفس زيد بن عمرو بيده ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري ثم يقول اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك عبدتك به ولكن لا أعلمه ثم يسجد على راحلته
وسأل ابنه سعيد بن زيد وابن عمه عمر بن الخطاب بن نفيل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنستغفر لزيد بن عمرو قال نعم فإنه يبعث أمة وحده
وقال زيد بن عمرو بن نفيل في فراق دين قومه
أربا واحدا أم ألف رب
أدين إذا تقسمت الأمور
عزلت اللات والعزى جميعا
كذلك يفعل الجلد الصبور
فلا عزي أدين ولا ابنتيها
ولا صنمى بني عمرو أزور
ولا غنما أدين وكان ربا
لنا في الدهر إذ حلمي يسير
(1/146)
عجبت وفي الليالي معجبات
وفي الأيام يعرفها البصير
بأن الله قد أفنى رجالا
كثيرا كان شأنهم الفجور
وأبقى آخرين ببر قوم
فيربل منهم الطفل الصغير
وبينا المرء يعثر ثاب يوما
كما يتروح الغصن المطير
ولكن أعبد الرحمن ربي
ليغفر ذنبي الرب الغفور
فتقوى الله ربكم احفظوها
متى ما تحفظوها لا تبوروا
ترى الأبرار دارهم جنان
وللكفار حامية سعير
وخزي في الحياة وإن يموتوا
يلاقوا ما تضيق به الصدور
الوافر
وقال زيد بن عمرو بن نفيل وذكر ابن هشام أن أكثرها لأمية بن أبي الصلت في قصيدة له
إلى الله أهدي مدحتي وثنائيا
وقولا رصينا لا يني الدهر باقيا
إلى الملك الأعلى الذي ليس فوقه
إله ولارب يكون مدانيا
ألا أيها الإنسان إياك والردي
فإنك لا تخفي من الله خافيا
فإياك لا تجعل مع الله غيره
فإن سبيل الرشد أصبح باديا
حنانيك إن الجن كانت رجاؤهم
وأنت إلهي ربنا ورجائيا
رضيت بك اللهم ربا فلن أرى
أدين إلها غيرك الله ثانيا
وأنت الذي من فضل من ورحمة
بعثت إلى موسى رسولا مناديا
فقلت له إذهب وهارون فادعوا
إلى الله فرعون الذي كان طاغيا
وقولا له آآنت سويت هذه
بلا وتد حتى اطمأنت كما هيا
وقولا له آآنت رفعت هذه
بلا عمد أرفق إذا بك بانيا
وقولا له آآنت سويت وسطها
منيرا إذا ما جنه الليل هاديا
وقولا له من يرسل الشمس غدوة
فيصبح ما مست من الأرض ضاحيا
وقولا له من ينبت الحب في الثري
فيصبح منه البقل يهتز رابيا
ويخرج منه حبه في رءوسه
وفي ذاك آيات لمن كان واعيا
وأنت بفضل منك نجيت يونسا
وقد بات في أضعاف حوت لياليا
وإني وإن سبحت باسمك ربنا
لأكثر إلا ما غفرت خطائيا
فرب العباد ألق سيبا ورحمة
علي وبارك في بني وماليا
الطويل
وقال زيد بن عمرو أيضا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت
له الأرض تحمل صخرا ثقالا
دحاها فلما رآها استوت
على الماء أرسى عليها الجبالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت
له المزن تحمل عذبا زلالا
إذا هي سيقت إلى بلدة
أطاعت فصبت عليها سجالا
المتقارب
(1/147)
ويروي أن زيدا كان إذا استقبل الكعبة داخل المسجد قال لبيك حقا حقا تعبدا ورقا عذت بما عاذ به إبراهيم مستقبل القبلة وهو قائم إذ قال إني لك عان راغم مهما تجشمني فإني جاشم البر أبقى لا الخال ليس مهجر كمن قال
ويقال البر أبقى لا الحال
وكان الخطاب بن نفيل قد آذى زيدا حتى أخرجه إلى أعلى مكة فنزل حرا مقابل مكة
وكان الخطاب عمه وأخاه لامه وكل به شبابا من شباب قريش وسفهائهم فقال لهم لا تتركوه يدخل مكة
فكان لا يدخلها إلا سرا منهم فإذا علموا بذلك آذنوا به الخطاب فأخرجوه وآذوه مخافة أن يفسد عليهم دينهم وأن يتابعه أحد منهم على فراقه
وكان زيد قد أجمع الخروج من مكة ليضرب في الأرض يطلب الحنيفية دين إبراهيم فكانت امرأته صفية بنت الحضرمي كلما رأته تهيأ للخروج أو أراده آذنت به الخطاب بن نفيل وكان الخطاب وكلها به وقال إذا رأيته هم بأمر فآذنيني به
ثم خرج يطلب دين إبراهيم ويسأل الرهبان والأحبار حتى بلغ الموصل والجزيرة كلها ثم أقبل فجال الشام كلها حتى انتهى إلى راهب بميفعة من أرض البلقاء كان ينتهي إليه علم النصرانية فيما يزعمون فسأله عن الحنيفية دين إبراهيم فقال إنك لتطلب دينا ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم ولكن قد أظلك زمان نبي يخرج من بلادك التي خرجت منها يبعث بدين إبراهيم الحنيفية فالحق به فإنه مبعوث الآن هذا زمانه
وقد كان زيد شام اليهودية والنصرانية فلم يرض منها شيئا فخرج سريعا حين قال له ذلك الراهب ما قال يريد مكة حتى إذا توسط بلاد لخم عدوا عليه فقتلوه فقال ورقة بن نوفل يبكيه
رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما
تجنبت تنورا من النار حاميا
بدينك ربا ليس رب كمثله
وتركك أوثان الطواغي كما هيا
وإدراكك الدين الذي قد طلبته
ولم تك عن توحيد ربك ساهيا
فأصبحت في دار كريم مقامها
تعلل فيها بالكرامة لاهيا
تلاقي خليل الله فيها ولم تكن
من الناس جبارا إلى النار هاويا
وقد تدرك الإنسان رحمة به
(1/148)
ولو كان تحت الأرض سبعين ودايا
الطويل
قال ابن إسحاق وكان فيما بلغني عما كان وضع عيسى ابن مريم فيما جاءه من الله في الإنجيل لأهل الإنجيل من صفة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مما أثبت لهم يحنس الحواري حين نسخ لهم الإنجيل من عهد عيسى ابن مريم إليهم في رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال من أبغضني فقد أبغض الرب ولولا أني صنعت بحضرتهم صنائع لم يصنعها أحد قبلي ما كانت لهم خطيئة ولكن من الآن بطروا وظنوا أنهم يعزونني وأيضا للرب ولكن لا بد من أن تتم الكلمة التي في الناموس أنهم أبغضوني مجانا أي باطلا فلو قد جاء المنحمنا هذا الذي يرسله الله إليكم من عند الرب روح القسط هو الذي من عند الرب خرج فهو شهيد علي وأنتم أيضا لأنكم قديما كنتم معي هذا قلت لكم لكيلا تشكوا
والمنحمنا بالسريانية هو محمد {صلى الله عليه وسلم} وهو بالرومية البرقليطس
قال ابن هشام وبلغني أن رؤساء نجران كانوا يتوارثون كتبا عندهم فكلما مات رئيس منهم فأفضت الرياسة إلى غيره ختم على تلك الكتب خاتما مع الخواتم التي قبله ولم يكسرها فخرج الرئيس الذي كان على عهد النبي {صلى الله عليه وسلم} يمشي فعثر فقال ابنه تعس الأبعد يريد النبي {صلى الله عليه وسلم} فقال له أبوه لا تفعل فإنه نبي واسمه في الوضائع يعني الكتب فلما مات لم تكن لابنه همة إلا أن شد فكسر الخواتم فوجد ذكر النبي {صلى الله عليه وسلم} فأسلم فحسن إسلامه وحج
وهو الذي يقول
إليك تعدو قلقا وضينها
معترضا في بطنها جنينها
مخالفا دين النصارى دينها
الرجز
وقد جاءت أحاديث حسان بما وقع من صفة النبي {صلى الله عليه وسلم} في التوراة لم يذكر ابن إسحاق منها شيئا
فمن ذلك ما ذكره الواقدي عن عطاء بن يسار قال لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت أخبرني عن صفة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في التوراة
(1/149)
فقال أجل والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في الفرقان يا آيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله يفتح بها أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا
قال عطاء ثم لقيت كعب الأحبار فسألته فما اختلفا في حرف
وذكر الواقدي أيضا عن النعمان السبئي قال وكان من أحبار اليهود باليمن فلما سمع بذكر النبي {صلى الله عليه وسلم} قدم عليه فسأله عن أشياء ثم قال إن أبي كان يختم على سفر يقول لا تقرأه على يهود حتى تسمع بنبي قد خرج بيثرب فإذا سمعت به فافتحه
قال نعمان فلما سمعت بك فتحت السفر فإذا فيه صفتك كما أراك الساعة وإذا فيه ما تحل وما تحرم وإذا فيه أنك خير الأنبياء وأمتك خير الأمم وأسمك أحمد {صلى الله عليه وسلم} وأمتك الحمادون قربانهم دماؤهم وأناجيلهم صدورهم لا يحضرون قتال إلا وجبريل معهم يتحنن الله إليهم كتحنن الطير على أفراخه
ثم قال لي إذا سمعت به فاخرج إليه وآمن به وصدق به
فكان النبي {صلى الله عليه وسلم} يحب أن يسمع أصحابه حديثه فأتاه يوما فقال النبي {صلى الله عليه وسلم} يا نعمان حدثنا
فابتدأ النعمان الحديث من أوله فرأى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يتبسم ثم قال أشهد أني رسول الله
ويقال أن النعمان هذا هو الذي قتله الأسود العنسي وقطعه عضوا عضوا وهو يقول أشهد أن محمدا رسول الله وأنك كذاب مفتر على الله عز وجل ثم حرقه بالنار
ذكر المبعث
قال ابن إسحاق فلما بلغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أربعين سنة بعثه الله رحمة للعالمين وكافة للناس
وكان الله قد أخذ له الميثاق على كل نبي بعثه قبله بالإيمان به والتصديق له والنصر على من خالفه وأخذ عليهم أن يؤدوا ذلك إلى كل من آمن بهم وصدقهم فأدوا من ذلك ما كان عليهم من الحق
(1/150)
فيه يقول الله تعالى لنبيه محمد {صلى الله عليه وسلم} وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري أي ثقل ما حملتكم من عهدي قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ( آل عمران - 81 )
فأخذ الله ميثاق النبيين جميعا بالتصديق له والنصر وأدوا ذلك إلى من آمن بهم وصدقهم من أهل هذين الكتابين
وعن عائشة رضي الله عنها أن أول ما ابتدى ء به رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من النبوة حين أراد الله كرامته ورحمة العباد به الرؤيا الصادقة لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح
وحبب الله إليه الخلوة فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده
وعن بعض أهل العلم أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين أراده الله بكرامته وابتدائه بالنبوة كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى تحسر عنه البيوت ويفضي إلى شعاب مكة وبطون أوديتها فلا يمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بحجر ولا شجرة إلا قال السلام عليك يا رسول الله فيلتفت حوله عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى إلا الشجرو الحجارة
فمكث كذلك يرى ويسمع ما شاء الله أن يمكث
ثم جاءه جبريل بما جاءه من كرامة الله وهو بحراء في رمضان
وعن عبيد بن عمير بن قتادة الليثي يحدث كيف كان بدء ما ابتدى ء به رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من النبوة حين جاءه جبريل قال
كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يجاور في حراء من كل سنة شهرا وكان ذلك مما تحنث به قريش في الجاهلية والتحنث التبرر
فكان يجاور ذلك الشهر من كل سنة يطعم من جاءه من المساكين فإذا قضى جواره من شهره ذلك كان أول ما يبدأ به إذا انصرف قبل أن يدخل بيته الكعبة فيطوف بها سبعا أو ما شاء الله ثم يرجع إلى بيته
حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله به فيه ما أراد من كرامته وذلك الشهر رمضان خرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى حراء كما كان يخرج لجواره ومعه أهله حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته ورحم العباد بها جاءه جبريل بأمر الله
(1/151)
قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فجاءني وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال إقرأ قلت ما أقرأ فغتني به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أقرأ فغتني به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال اقرأ قلت ما أقرأ فغتني به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال اقرأ قلت ماذا أقرأ ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لي بمثل ما صنع
قال اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ( العلق 1 - 5 )
فقرأتها ثم انتهى فانصرف عني وهببت من نومي فكأنما كتبت في قلبي كتابا
فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل
فرفعت رأسي إلى السماء أنظر فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل
فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك
فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي فبلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك ثم انصرف عني وانصرفت عنه راجعا إلى أهلي حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفا إليها
فقالت يا أبا القاسم أين كنت فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك فبلغوا مكة ورجعوا إلي
ثم حدثتها بالذي رأيت فقالت أبشر يا بن عمي واثبت فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة
ثم قامت فجمعت عليها ثيابها ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل وهو ابن عمها وكان قد تنصر وقرأ الكتب وسمع من أهل التوراة والإنجيل فأخبرته بما أخبرها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنه رأى وسمع فقال ورقة قدوس قدوس والذي نفس ورقة بيده لئن كنت صدقتني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى وإنه لنبي هذه الأمة فقولي له فليثبت
فرجعت خديجة إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأخبرته بقول ورقة
(1/152)
فلما قضى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} جواره وانصرف صنع كما كان يصنع بدأ بالكعبة فطاف بها فلقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف بالكعبة فقال له يا بن أخي أخبرني بما رأيت وسمعت
فأخبره رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال له ورقة والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى ولتكذبنه ولتؤذينه ولتخرجنه ولتقاتلنه ولئن أن أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه
ثم أدنى رأسه منه فقبل يا فوخه ثم انصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى منزله
ويروى عن خديجة أنها قالت لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} أي ابن عم أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك قال نعم قالت فإذا جاءك فأخبرني به
فجاءه جبريل كما كان يصنع فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يا خديجة هذا جبريل قد جاءني قالت قم يا بن عم فاجلس على فخذي اليسرى فقام فجلس عليها قالت هل تراه قال نعم قالت فتحول فاقعد على فخذي اليمنى فتحول فقعد على فخذها اليمنى فقالت هل تراه قال نعم قالت فتحول فاجلس في حجري فتحول فجلس في حجرها ثم قالت له هل تراه قال نعم فتحسرت
وألقت خمارها ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} جالس في حجرها ثم قالت هل تراه قال لا
قالت يا ابن عم اثبت وأبشر فو الله إنه لملك ما هذا بشيطان
ويروي أن خديجة أدخلت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بينها وبين درعها فذهب عند ذلك جبريل
وابتدى ء رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالتنزيل في رمضان
يقول الله عز وجل شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ( البقرة )
وقال إنا أنزلناه في ليلة القدر ( القدر 1 - إلى فاتحة السورة )
وقال حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين ( الدخان 1 - 4 )
وقال إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ( الأنفال 42 ) يعني ملتقي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} والمشركين ببدر وذلك يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من شهر رمضان
(1/153)
هكذا أورد ابن إسحاق رحمه الله هذه الآيات كالمستشهد بها على ابتداء التنزيل في شهر رمضان على رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وفي صورة هذا الاستشهاد نظر
فإن ظاهر قوله سبحانه شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن عموم نزول القرآن بجملته فيه وكذلك قوله إنا أنزلناه في ليلة القدر و إنا أنزلناه في ليلة مباركة
ولم يقع الأمر في إنزاله على رسوله {صلى الله عليه وسلم} هكذا بل أنزله الله عليه في رمضان
وفي غيره متفرقا آيات وسورا بحسب سؤال السائلين أو أحداث المحدثين أو ما شاء الله من هداية العالمين
وقد قيل في قوله تعالى شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس أي الذي أنزل في شأنه القرآن أي نزل الأمر من الله عز وجل بصيامه كتابا يتلى وقرآنا لا يدرس ولا يبلى
كما يقال نزل القرآن بالصلاة أي نزل جزء منه بفرضها ونزل القرآن في عائشة رضي الله عنها وإنما نزلت منه آيات ببراءتها من الإفك
ومثل هذا الإطلاق موجود في الأحاديث والآثار كثيرا
ولنسلم أن معنى قوله أنزل فيه القرآن أي ابتدئ فيه إنزاله فقد قيل ذلك وليس ببعيد في المفهوم ولا مما تضيق عنه سعة الكلام ثم نجري ذلك المجرى الآيتين الأخيرتين وهما إنا أنزلناه في ليلة مباركة و إنا أنزلناه في ليلة القدر وإن بعد ذلك فيهما لما ورد من الآثار المصححة لحكم عمومهما حسبما نذكره بعد فما بال الآية الأخرى التي هي وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقي الجمعان تنتظم في هذا النظام وقد أعقبها مفسرا بأن المعني بذلك يوم بدر وهو الحق
وهل كان يوم بدر إلا في السنة الثانية من الهجرة وبعد اثنتي عشرة سنة من البعث ونزول الوحي أو بعد خمس عشرة سنة على ما ورد من الخلاف في مدة مكث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بمكة بعد النبوة وما زال القرآن المكي والمدني ينزل في ماضي تلك السنين
(1/154)
فإن كان ابن إسحاق عني ما ذكرناه عنه ونسبناه إليه فقد بينا وجه رده واستوفينا التنبيه عليه وإن كان عني غير ذلك فقصر عنه تحرير عبارته أو سقط على الناقل من كلامه ما كان يفي لو بقي بإفهامه فالله تعالى أعلم
والرجل أولى منا بأن يصيب ويسلم إلا أنه لا ينكر أن يغلط هذا البشر
ونعوذ بالله أن نقصد بهذا الاعتداد على ذي علم أو الغض من ذي حق فإن العلماء هم آباؤنا الأقدمون وهداتنا المتقدمون بأنوارهم نسري فنبصر ونستبصر وإلى غاياتهم نجري فطورا نصل وأطوارا نقصر فلهم دوننا قصب السبق ولهم علينا في كل الآحوال أعظم الحق إذا أصابوا اعتمدنا وإذا أخطأوا استفدنا وإذا أفادوا استمددنا فجزاهم الله عنا أفضل الجزاء ووفقنا لتوفية حقوق الأئمة والعلماء
وبعد فمن أحسن ما يتقلد في تلك الآيات الثلاث التي صدر بها كلامه مما يحفظ حكم عمومها ويطابق ظاهر مفهومها ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين أن القرآن أنزل جملة واحدة في شهر رمضان إلى سماء الدنيا فجعل في بيت العزة ثم أنزل على النبي {صلى الله عليه وسلم} شيئا فشيئا إلى حين وفاته
وقيل للشعبي شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن أما كان ينزل في سائر السنة
قال بلى ولكن جبريل عليه السلام كان يعارض محمدا {صلى الله عليه وسلم} في شهر رمضان ما أنزل في ماضي السنة فيمحو الله ما يشاء ويثبت
قال ابن إسحاق ثم تتام الوحي إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو مؤمن بالله مصدق لما جاءه منه قد قبله بقبوله وتحمل منه ما حمله على رضا العباد وسخطهم
وللنبوة أثقال ومؤنة لا يحملها ولا يستطيع بها إلا أهل القوة والعزم من الرسل بعون الله وتوفيقه لما يلقون من الناس وما يرد عليهم مما جاءوا به عن الله عز وجل
فمضى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على أمر الله على ما يلقى من قومه من الخلاف والأذى
وآمنت به خديجة بنت خويلد وصدقت بما جاءه من الله وآزرته على أمره
فكانت أول من آمن بالله ورسوله وصدق بما جاء منه
(1/155)
فخفف الله بذلك عن رسوله لا يسمع شيئا يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها تثبته وتخفف عليه وتصدقه وتهون عليه أمر الناس
يرحمها الله
ثم فتر عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الوحي حتى شق عليه وأحزنه
فجاءه جبريل بسورة والضحى يقسم له ربه جل وعلا وهو الذي أكرمه بما أكرمه به ما ودعه ولا قلاة
فقال والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى يقول ما حرمك فتركك وما أبغضك منذ أحبك
وللآخرة خير لك من الأولى أي لما عندي من مرجعك إلي خير لك مما عجلت لك من الكرامة في الدنيا
ولسوف يعطيك ربك فترضى من الفلج في الدنيا والثواب في الآخرة
ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى
يعرفه بما ابتدأه به من كرامته في عاجل أمره ومنه عليه في يتمه وعيلته وضلالته واستنقاذه من ذلك كله برحمته
فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر أي لا تكن جبارا ولا متكبرا ولا فحاشا فظا على الضعفاء من عباد الله
وأما بنعمة ربك فحدث اذكرها وادع إليها
فجعل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يذكر ما أنعم الله به عليه وعلى العباد به من النبوة سرا إلى من يطمئن به إليه من أهله
وافترضت عليه الصلاة فصلى صلوات الله وسلامه عليه ورحمته وبركاته
قالت عائشة رحمها الله افترضت الصلاة على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أول ما افترضت ركعتين ركعتين كل صلاة ثم إن الله أتمها في الحضر أربعا وأقرها في السفر على فرضها الأول ركعتين
وعن بعض أهل العلم أن الصلاة حين افترضت على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أتاه جبريل وهو بأعلى مكة فهمز له بعقبة في ناحية الوادي فانفجرت له منه عين فتوضأ جبريل ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} ينظر ليريه كيف الطهور للصلاة ثم توضأ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كما رأى جبريل توضأ ثم قام به جبريل فصلى به وصلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بصلاته ثم انصرف جبريل فجاء رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خديجة فتوضأ ليريها كيف الطهور للصلاة كما أراه جبريل فتوضأت كما توضأ لها ثم صلى بها كما صلى به جبريل فصلت بصلاته
(1/156)
وعن نافع بن جبير بن مطعم وكان كثير الرواية عن ابن عباس قال لما افترضت الصلاة على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أتاه جبريل فصلى به الظهر حين مالت الشمس ثم صلى به العصر حين كان ظله مثله ثم صلى به المغرب حين غابت الشمس ثم صلى به العشاء الآخرة حين ذهب الشفق ثم صلى به الصبح حين طلع الفجر ثم صلى به الظهر حين كان ظله مثله ثم صلى به العصر حين كان ظله مثليه ثم صلى به المغرب حين غابت الشمس لوقتها بالأمس ثم صلى به العشاء
الآخرة حين ذهب ثلث الليل الأول ثم صلى به الصبح مسفرا غير مشرق
ثم قال يا محمد الصلاة فيما بين صلاتك اليوم وصلاتك بالأمس
قال ابن إسحاق ثم كان أول ذكر من الناس آمن برسول الله {صلى الله عليه وسلم} وصلى وصدق بما جاءه من الله تبارك وتعالى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو ابن عشر سنين يومئذ
وكان مما أنعم الله به عليه أنه كان في حجر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قبل الإسلام
وذلك أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة وكان أبو طالب ذا عيال كثير فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} للعباس عمه وكان من أيسر بني هاشم يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة فانطلق بنا إليه فلنخفف عنه من عياله آخذ من بنيه رجلا وتأخذ أنت رجلا فنكفهما عنه قال العباس نعم
فانطلقا حتى أتيا أبا طالب فقالا إنا نريد نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه فقال لهما أبو طالب إذا تركتما لي عقيلا فاصنعا ما شئتما ويقال عقيلا وطالبا
فأخذ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عليا فضمه إليه وأخذ العباس جعفرا فضمه إليه فلم يزل علي مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى بعثه الله نبيا فاتبعه علي وآمن به وصدقه ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه
وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفيا من أبي طالب ومن جميع أعمامه وسائر قومه فيصليان الصلوات فيها فإذا أمسيا رجعا فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا
(1/157)
ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوما وهما يصليان فقال لرسول الله يابن أخي ما هذا الدين الذي أراك تدين به
قال أي عم هذا دين الله ودين ملائكته ورسله ودين أبينا إبراهيم أو كما قال {صلى الله عليه وسلم} بعثني الله به رسولا إلى العباد وأنت أي عم أحق من بذلت له النصيحة ودعوته إلى الهدى وأحق من أجابني إليه وأعانني عليه أو كما قال
فقال أبو طالب أي ابن أخي إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي وما كانوا عليه ولكن والله لا يخلص إليك بشيء تكرهه ما بقيت
وذكروا أنه قال لعلي أي بني ما هذا الدين الذي أنت عليه
فقال يا أبت آمنت برسول الله وصدقت بما جاء به وصليت معه لله واتبعته
فزعموا أنه قال له أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فالزمه
قال ابن إسحاق ثم أسلم زيد بن حارثة الكلبي مولى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فكان أول ذكر أسلم وصلى بعد علي بن أبي طالب
وعن غير ابن إسحاق أن زيدا أصابه في الجاهلية سباء فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد وقيل بل وهبه لها فوهبته خديجة لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأعتقه وتبناه وذلك قبل أن يوحي إليه وكان حارثة أبوه قد جزع عليه جزعا شديدا وبكى عليه حين فقده فقال
بكيت على زيد ولم أدر ما فعل
أحي فيرجى أم أتى دونه الأجل
فوالله ما أدري وإني لسائل
أغالك بعدي السهل أم غالك الجبل
ويا ليت شعري هل لك الدهر أوبة
فحسبي من الدنيا رجوعك لي بجل
تذكرنيه الشمس عند طلوعها
وتعرض ذكراه إذا غربها أفل
وإن هبت الأرواح هيجن ذكره
فيا طول ما حزني عليه وما وجل
سأعمل نص العيس في الأرض جاهدا
ولا أسأم التطواف أو تسأم الإبل
حياتي أو تأتي علي منيتي
فكل امرئ فان وإن غره الأمل
الطويل
ثم إن أناسا من كلب حجوا فرأوا زيدا فعرفهم وعرفوه فأعلموا أباه ووصفوا له موضعه وعند من هو
فخرج أبوه حارثة وعمه كعب ابنا شراحيل لفدائه
(1/158)
وقدما مكة فسألا عن النبي {صلى الله عليه وسلم} فدخلا عليه فقالا يا بن عبد المطلب بن هاشم يا بن سيد قومه أنتم أهل حرم الله وجيرانه تفكون العاني وتطعمون الأسير جئناك في ابننا عبدك فامنن عليه وأحسن إلينا في فدائه
قال من هو قالوا زيد بن حارثة
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فهلا غير ذلك قالوا ما هو
قال أدعوه فأخيره فإن اختاركم فهو لكم وإن اختارني فو الله ما أنا بالذي أختار على من اختارني أحدا قالا قد زدتنا على النصف وأحسنت
فدعاه فقال هل تعرف هؤلاء قال نعم قال من هذا قال أبي وهذا عمي قال فأنا من قد عملت ورأيت صحبتي لك فاخترني أو اخترهما
قال زيد ما أنا بالذي اختار عليك أحدا أنت مني مكان الأب والعم
فقالا ويحك يا زيد أتختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك
قال نعم قد رأيت من هذا الرجل شيئا ما أنا بالذي أختار عليه أحدا أبدا
فلما رأى ذلك رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أخرجه إلى الحجر فقال يا من حضر اشهدوا أن زيدا ابني يرثني وأرثه فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت نفوسهما فانصرفوا
فدعي زيد بن محمد حتى جاء الله بالإسلام فنزلت ادعوهم لآبائهم فدعى من يومئذ زيد بن حارثة
قال ابن إسحاق ثم أسلم أبو بكر بن أبي قحافة واسمه عتيق وقيل عبد الله وعتيق لقب لحسن وجهه وعتقه فيما قال ابن هشام
واسم أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة ابن كعب بن لؤي
فلما أسلم أظهر إسلامه ودعا إلى الله وإلى رسوله
وكان أبو بكر رجلا مؤلفا لقومه محببا سهلا وكان أنسب قريش لقريش وأعلم قريش بها وبما كان فيها من خير وشر وكان رجلا تاجرا ذا خلق ومعروف وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر لعلمه وتجارته وحسن مجالسته
(1/159)
فجعل يدعوا إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه قال فأسلم بدعائه فيما بلغني عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي والزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزي بن قصي وعبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة بن كلاب وسعد بن أبي وقاص مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة وطلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة
فجاء بهم إلى رسول {صلى الله عليه وسلم} حين استجابوا له فأسلموا وصلوا
فكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول فيما بلغني ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت فيه عنده كبوة ونظر وتردد إلا ما كان من أبي بكر بن أبي قحافة ما عكم عنه حين ذكرته له وما تردد فيه
قال فكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا الناس بالإسلام فصلوا وصدقوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وصدقوا بما جاءه من الله
ثم أسلم أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبة ابن الحارث بن فهر
وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم
والأرقم بن أبي الأرقم بن أسد أبي جندب بن عبد الله بن عمر بن مخزوم
وعثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي
وأخواه قدامة وعبد الله ابنا مظعون
وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصي
وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزي بن عبد الله بن قرط بن رياح بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي
وامرأته فاطمة بنت عمه الخطاب بن نفيل أخت عمر بن الخطاب
وأسماء بنت أبي بكر الصديق
وعائشة بنت أبي بكر الصديق وهي صغيرة
وخباب بن الأرت حليف بني زهرة
وعمير بن أبي وقاص أخو سعد بن أبي وقاص
وعبد الله بن مسعود الهذلي حليف بني زهرة
وجماعة سوى هؤلاء سماهم ابن إسحاق
قال ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدث به
(1/160)
ثم إن الله عز وجل أمر رسوله {صلى الله عليه وسلم} أن يصدع بما جاءه منه وأن يبادي الناس بأمره ويدعوا إليه وكان بين ما أخفي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أمره واستسر به إلى أن أمره الله
بإظهاره ثلاث سنين فيما بلغني من مبعثه ثم قال الله له فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ( الحجر 94 )
ثم قال وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ( الشعراء 114 - 115 ) وفي موضع آخر واخفض جناحك للمؤمنين وقل إني أنا النذير المبين ( الحجر 489 )
قال وكان أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إذا صلوا ذهبوا في الشعاب واستخفوا بصلاتهم من قومهم فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في شعب من شعاب مكة إذ ظهر عليهم ناس من المشركين وهم يصلون فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم فضرب سعد يومئذ رجلا من المشركين بلحي بعير فشجه
فكان أول دم هريق في الإسلام
فلما بادي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قومه بالإسلام وصدع به كما أمره الله لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه حتى ذكر آلهتهم وعابها
فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته إلا من عصم الله منهم بالإسلام وهم قليل مستخفون
وحدب على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه ومضى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على أمر الله مظهرا له لا يرده عنه شيء
فلما رأت قريش أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه وقام دونه فلم
يسلمه لهم مشى رجال من أشرافهم إلى أبي طالب عتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس وأبو سفيان بن حرب وأبو البختري بن هشام والحارث بن أسد بن عبد العزي بن قصي والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزي وأبو جهل بن هشام بن المغيرة ونبيه ومنبه ابنا الحجاج والعاص بن وائل ومن مشى منهم
فقالوا يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكيفه
(1/161)
فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا وردهم ردا جميلا فانصرفوا عنه
ومضى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على ما هو عليه يظهر دين الله ويدعو إليه
ثم شري الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال وتضاعنوا وأكثرت قريش ذكر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بينها فتذامروا فيه وحض بعضهم بعضا عليه
ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا له يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين أو كما قالوا له
ثم انصرفوا عنه فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ولم يطب نفسا بإسلام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ولا خذلانه
وذكر أن أبا طالب حين قالت له قريش هذه المقالة بعث إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فقال له يا بن أخي إن قومك قد جاءوني فقالوا كذا وكذا للذي قالوا له فأبق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق
فظن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنه قد بدا لعمه فيه بداء وأنه خاذله ومسلمه وأنه
قد ضعف عن نصرته والقيام معه فقال له يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته
ثم استعبر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فبكى
ثم قام فلما ولى ناداه أبو طالب فقال أقبل يا بن أخي فأقبل عليه فقال اذهب يا بن أخي فقل ما أحببت فو الله لا أسلمك لشيء أبدا
ثم إن قريشا حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وإسلامه مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله فخذه فلك عقله ونصره واتخذه ولدا وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم فنقلته فإنما هو رجل كرجل
قال والله لبئس ما تسومونني أتعطونني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه هذا والله ما لا يكون أبدا
(1/162)
فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما تكره فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا
فقال له أبو طالب والله ما أنصفوني ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي فاصنع ما بدا لك أو كما قال
فحقب الأمر وحميت الحرب وتنابذ القوم وبادي بعضهم بعضا
قال ثم إن قريشا تذامروا بينهم على من في القبائل منهم من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الذين أسلموا معه
فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم
قد ضعف عن نصرته والقيام معه فقال له يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته
ثم استعبر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فبكى
ثم قام فلما ولى ناداه أبو طالب فقال أقبل يا بن أخي فأقبل عليه فقال اذهب يا بن أخي فقل ما أحببت فو الله لا أسلمك لشيء أبدا
ثم إن قريشا حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وإسلامه مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله فخذه فلك عقله ونصره واتخذه ولدا وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم فنقلته فإنما هو رجل كرجل
قال والله لبئس ما تسومونني أتعطونني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه هذا والله ما لا يكون أبدا
فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما تكره فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا
فقال له أبو طالب والله ما أنصفوني ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي فاصنع ما بدا لك أو كما قال
فحقب الأمر وحميت الحرب وتنابذ القوم وبادي بعضهم بعضا
قال ثم إن قريشا تذامروا بينهم على من في القبائل منهم من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الذين أسلموا معه
فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم
(1/163)
ومنع الله تبارك وتعالى رسوله منهم بعمه أبي طالب وقد قام أبو طالب حين رأى قريشا يصنعون ما يصنعون في بني هاشم وبني المطلب فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} والقيام دونه فاجتمعوا إليه وقاموا معه وأجابوه إلى ما دعاهم إليه إلا ما كان من أبي لهب
فلما رأى أبو طالب من قومه ما سره من جدهم وحدبهم عليه جعل يمدحهم ويذكر قديمهم وفضل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيهم ومكانه منهم ليشد لهم رأيهم وليحدبوا معه على أمره فقال
إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر
فعبد مناف سرها وصميمها
فإن حصلت أشراف عبد منافها
ففي هاشم أشرافها وقديمها
وإن فخرت يوما فإن محمدا
هو المصطفى من سرها وكريمها
تداعت قريش غثها وسمينها
علينا فلم تظفر وطاشت حلومها
وكنا قديما لا نقر ظلامة
إذا ما ثنوا صعر الخدود نقيمها
ونحمي حماها كل يوم كريهة
ونضرب عن أحجارها من يرومها
بنا انتعش العود الذوي وإنما
بأكنافنا تندى وتنمي أرومها
الطويل
ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش وكان ذا سن فيهم وقد حضر الموسم فقال لهم يا معشر قريش إنه قد حضر هذا الموسم وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا
قالوا فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأيا نقول فيه
قال بل أنتم فقولوا أسمع قالوا نقول كاهن
قال والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه قالوا فنقول مجنون قال ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته قالوا فنقول شاعر قال ما هو بشاعر
لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر قالوا فنقول ساحر قال ما هو بساحر قد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثه ولا عقده
(1/164)
قالوا فما نقول يا أبا عبد شمس قال والله إن لقوله لحلاوة وإن أصله لعذق وإن فرعه لجناة وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين المرء وزوجه وبين المرء وعشيرته
فتفرقوا عنه بذلك فجعلوا يجلسون لسبل الناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا لهم أمره وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فانتشر ذكره في بلاد العرب كلها
فلما خشي أبو طالب دهماء العرب أن يركبوه مع قومه قال قصيدته التي يعوذ فيها بحرم مكة وبمكانه منها وتودد فيها أشراف قومه وهو على ذلك يخبرهم وغيرهم في ذلك من شعره أنه غير مسلم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ولا تاركه لشيء أبدا حتى يهلك دونه وأولها
ولما رأيت القوم لاود فيهم
وقد قطعوا كل العرى والوسائل
وقد صارحونا بالعداوة والأذى
وقد طاوعوا أمر العدو المزايل
وقد حالفوا قوما علينا أظنة
يعضون غيظا خلفنا بالأنامل
صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة
وأبيض عضب من تراث المقاول
وأحضرت عند البيت رهطي وإخوتي
وأمسكت من أثوابه بالوصائل
قياما معا مستقبلين رتاجه
لدى حيث يقضي حلفه كل نافل
وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم
بمفضي السيول من إساف ونائل
موسمة الأعضاء أو قصراتها
مخيسة بين السديس وبازل
ترى الودع فيها والرخام وزينة
بأعناقها معقودة كالعثاكل
أعوذ برب الناس من كل طاعن
علينا بسوء أو ملح بباطل
ومن كاشح يسعى لنا بمعيبة
ومن ملحق في الدين ما لم نحاول
وثور ومن أرسي ثبيرا مكانه
وراق ليرقي في حراء ونازل
وبالبيت حق البيت من بطن مكة
وبالله إن الله ليس بغافل
وبالحجر الأسود إذ يمسحونه
إذا اكتنفوه بالضحى والأصائل
وموطئ إبراهيم في الصخر وطأة
على قدميه حافيا غير ناعل
وأشواط بين المروتين إلى الصفا
وما فيهما من صورة وتماثل
ومن حج بيت الله من كل راكب
ومن كل ذي نذر ومن كل راجل
وبالمشعر الأقصى إذا عمدوا له
(1/165)
إلال إلى مفضى الشراج القوابل
وتوقافهم فوق الجبال عشية
يقيمون بالأيدي صدور الرواحل
وليلة جمع والمنازل من منى
وهل فوقها من حرمة ومنازل
وجمع إذا ما المقربات أجزنه
سراعا كما يخرجن من وقع وابل
وبالجمرة الكبرى إذا صمدوا لها
يؤمون قذفا رأسها بالجنادل
وكندة إذ هم بالحصاب عشية
تجيز بهم حجاج بكر من وائل
حليفان شدا عقد ما اختلفا له
وردا عليه عاطفات الوسائل
وحطمهم سمر الصفاح وسرحه
وشبرقه وخد النعام الجوافل
فهل بعد هذا من معاذ لعائذ
وهل من معيذ يتقى الله عاذل
يطاع بنا الأعدا وودوا لو اننا
تسد بنا أبواب ترك وكابل
كذبتم وبيت الله نترك مكة
ونظعن إلا أمركم في بلابل
كذبتم وبيت الله نبزي محمدا
ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله
ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وينهض قوم في الحديد إليكم
نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل
وحتى نرى ذا الضغن يركب ردعه
من الطعن فعل الأنكب المتحامل
وإنا لعمرو الله إن جد ما أرى
لتلتبسن أسيافنا بالأماثل
بكفي فتى مثل الشهاب سميدع
أخي ثقة حامي الحقيقة باسل
وما ترك قوم لا أبالك سيدا
يحوط الذمار غير ذرب مواكل
وأبيض يستسقى الغمام بكفه
ثمال اليتامي عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم
فهم عنده في رحمة وفواضل
جزي الله عنا عبد شمس ونوفلا
عقوبة شر عاجلا غير آجل
بميزان قسط لا يخيس شعيرة
له شاهد من نفسه غير عائل
لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا
بني خلف قيضا بنا والغياطل
ونحن الصميم من ذؤابة هاشم
وآل قصي في الخطوب الأوائل
وسهم ومخزوم تمالوا وألبوا
علينا العدي من كل طمل وخامل
فعبد مناف أنتم خير قومكم
فلا تشركوا في أمركم كل واغل
لعمري لقد وهنتم وعجزتم
وجئتم بأمر مخطئ للمفاصل
فإن يك قوما نتئر ما صنعتم
وتحتلبوها لقحة غير باهل
فأبلغ قصيا أن سينشر أمرنا
وبشر قصيا بعدنا بالتخاذل
ولو طرقت ليلا قصيا عظيمة
إذا ما لجأنا دونهم في المداخل
ولو صدقوا ضربا خلال بيوتهم
لكنا أسى عند النساء المطافل
(1/166)
فإن تك كعب من لوي صميمة
فلا بد يوما مرة من تزايل
فكل صديق وابن أخت نعده
لعمري وجدنا غبه غير طائل
سوى أن رهطا من كلاب بن مرة
براء إلينا من معقة خاذل
ونعم ابن أخت القوم غير مكذب
زهير حساما مفردا من حمائل
أشم من الشم البهاليل ينتمي
إلى حسب في حومة المجد فاضل
لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد
وإخوته دأب المحب المواصل
فلا زال في الدنيا جمالا لأهلها
وزينا لمن والاه رب المشاكل
فمن مثله في الناس أي مؤمل
إذا قاسه الحكام عند التفاضل
حليم رشيد عادل غير طائش
يوالى إلها ليس عنه بغافل
فأيده رب العباد بنصره
وأظهر دينا حقه غير باطل
فوالله لولا أن أجيء بسبة
تجر على أشياخنا في القبائل
لكنا اتبعناه على كل حالة
من الدهر جدا غير قول التهازل
لقد علموا أن ابننا لا مكذب
لدينا ولا يعنى بقول الأباطل
فأصبح فينا أحمد في أرومة
تقصر عنها سورة المتطاول
حدبت بنفسي دونه وحميته
ودافعت عنه بالذري والكلاكل
الطويل
والقصيدة أطول من هذا وإنما تركنا ما تركنا منها اختصارا
وذكر ابن هشام أن بعض أهل العلم بالشعر ينكر أكثرها
قال وحدثني من أثق به قال أقحط أهل المدينة فأتوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فشكوا إليه ذلك فصعد المنبر فاستسقى فما لبث أن جاء من المطر ما أتاه أهل الضواحي يشكون منه الغرق فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اللهم حوالينا ولا علينا
فانجاب السحاب عن المدينة فصار حواليها كالإكليل فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لو أدرك أبو طالب هذا اليوم لسره فقال له بعض أصحابه كأنك يا رسول الله أردت لقوله
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
قال أجل
قال ابن إسحاق فلما انتشر أمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في العرب وبلغ البلدان ذكر بالمدينة ولم يك حي من العرب أعلم بأمر برسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين ذكر وقبل أن يذكر من الأوس والخروج وذلك لما كانوا يسمعون من أخبار يهود وكانوا لهم حلفاء ومعهم في بلادهم
(1/167)
فلما وقع ذكره بالمدينة وتحدثوا بما بين قريش فيه من الاختلاف قال أبو قيس بن الأسلت الأوسي وكان يحب قريشا وكان يقيم فيهم السنين بامرأته
أرنب بنت أسد بن عبد العزي بن قصي قصيدة يعظم فيها الحرمة وينهي قريشا عن الحرب ويذكر فضلهم وأحلامهم ويأمرهم بالكف بعضهم عن بعض وعن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ويذكرهم بلاء الله عندهم ودفعه الفيل عنهم فقال
ويا راكبا إما عرضت فبلغن
مغلغلة عني لؤي بن غالب
رسول امرى ء قد راعه ذات بينكم
على النأي محزون بذلك ناصب
وقد كان عندي للهموم معرس
ولم أقض منها حاجتي ومآربي
أعيذكم بالله من شر صنعكم
وشر تباغيكم ودس العقارب
وإظهار أخلاق ونجوى سقيمة
كوخز الأثافي وقعها حق صائب
فذكرهم بالله أول وهلة
وإحلال إحرام الظباء الشوازب
وقل لهم والله يحكم حكمه
ذروا الحرب تذهب عنكم في المراحب
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة
هي الغول للأقصين أو للأقارب
تقطع أرحاما وتهلك أمة
وتبري السديف من سنام وغارب
فإياكم والحرب لا تغلقنكم
وحوضا وخيم الماء مر المشارب
تزين للأقوام ثم يرونها
بعاقبة إذ بينت أم صاحب
تحرق لا تشوي ضعيفا وتنتحي
ذوي العز منكم بالحتوف الصوائب
ألم تعلموا ما كان في حرب داحس
فتعتبروا أو كان في حرب حاطب
وكم قد أصابت من شريف مسود
طويل العماد ضيفه غير خائب
وماء هريق في الضلال كأنما
أذاعت به ريح الصبا والجنائب
يخبركم عنها امرؤ حق عالم
بأيامها والعلم علم التجارب
فبيعوا الحراب ملمحارب واذكروا
حسابكم والله خير محاسب
ولي امريء فاختار دينا فلا يكن
عليكم رقيبا غير رب الثواقب
أقيموا لنا دينا حنيفا فأنتم
لنا غاية قد يهتدي بالذوائب
وأنتم لهذا الناس نور وعصمة
تؤمنون والأحلام غير عوازب
وأنتم إذا ما حصل الناس جوهم
لكم سره البطماء شم الأرانب
تصونون أجسادا كراما عتيقة
مهذبة الأنساب غير أشائب
ترى طالبي الحاجات نحو بيوتكم
عصائب هلكى تهتدي بعصائب
لقد علم الأقوام أن سراتكم
على كل حال خير أهل الجباجب
(1/168)
فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا
بأركان هذا البيت بين الأخاشب
فعندكم منه بلاء ومصدق
غداة أبي يكسوم هادي الكتائب
كتيبته بالسهل تمسى ورجله
على القاذفات في رءوس المناقب
فلما أتاكم نصر ذي العرش ردهم
جنود إله بين ساف وحاصب
فولوا سراعا هاربين ولم يؤب
إلى قومه ملحبش غير عصائب
فإن تهلكوا نهلك وتهلك عصائب
يعاش بها قول امرى ء غير كاذب
الطويل
ثم إن قريشا اشتد أمرهم للشقاء الذي أصابهم في عداوة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ومن أسلم معه منهم
فأغروا برسول الله {صلى الله عليه وسلم} سفهاءهم فكذبوه وآذوه ورموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون
ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} مظهر لأمر الله لا يستخفي به مباد لهم بما يكرهون من عيب دينهم واعتزال أوثانهم وفراقه إياهم على كفرهم
فحدث عروة بن الزبير أنه قال لعبد الله بن عمرو بن العاص ما أكثر ما رأيت قريشا أصابوا من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما كانوا يظهرون من عداوته
قال حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر فذكروا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقالوا ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط سفه أحلامنا وشتم آباءنا وعاب ديننا وفرق جماعتنا وسب آلهتنا لقد صبرنا منه على أمر عظيم أو كما قالوا
فبينما هم في ذلك طلوع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأقبل يمشي حتى استلم الركن ثم مر بهم طائفا بالبيت فلما مر بهم غمزوه ببعض القول
قال فعرفت ذلك في وجه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم مضى فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها فعرفت ذلك في وجه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها فوقف ثم قال أتسمعون يا معشر قريش والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح قال فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع حتى أن أشدهم وصاة فيه قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول حتى إنه ليقول انصرف يا أبا القاسم فوالله ما كنت جهولا
قال فانصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم فقال بعضهم لبعض ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه حتى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه
(1/169)
فبيناهم في ذلك طلع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فأحاطوا به يقولون أنت الذي تقول كذا وكذا للذي يقول من عيب آلهتهم فيقول رسول الله نعم أنا الذي أقول ذلك
فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع ردائه فقام أبو بكر دونه وهو يبكي ويقول أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله
ثم انصرفوا عنه
فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشا نالوا منه قط
ذكر إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه
قال ابن إسحاق وحدثني رجل من أسلم كان واعية أن أبا جهل مر برسول الله {صلى الله عليه وسلم} عند الصفا فآذاه وشتمه ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينة والتضعيف لأمره فلم يكلمه رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
ومولاة لعبد الله بن جدعان في مسكن لها تسمع ذلك
ثم انصرف عنه فعمد إلى نادي قريش عند الكعبة فجلس معهم
فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل متوشحا قوسه راجعا من قنص له وكان صاحب قنص يرميه ويخرج له وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم وكان أعز فتى في قريش وأشده شكيمة
فلما مر بالمولاة وقد رجع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى بيته قالت له يا أبا عمارة لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفا من أبي الحكم بن هشام وجده هاهنا جالسا فآذاه وسبه منه ما يكره ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد
فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله به من كرامته فخرج يسعى لم يقف على أحد معدا لأبي جهل إذا لقيه أن يقع به
فلما دخل المسجد نظر إليه جالسا في القوم فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجه بها شجة منكرة ثم قال أتشتمه فأنا على دينه أقول ما يقول فرد علي إن استطعت
فقامت رجال بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل فقال أبو جهل دعوا أبا عمارة فإني والله قد سببت ابن أخيه سبا قبيحا
وتم حمزة على إسلامه وعلى ما بايع عليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من قوله
فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد عز وامتنع وأن حمزة سيمنعه فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه
(1/170)
وعن محمد بن كعب القرظي قال حدثت أن عتبة بن ربيعة وكان سيدا قال يوما وهو جالس في نادي قريش والنبي {صلى الله عليه وسلم} جالس في المسجد وحده يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا
وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أن أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يزيدون ويكثرون
فقالوا بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه
فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال يا بن أخي إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة والمكان في النسب وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منا بعضها
فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قل يا أبا الوليد أسمع
قال يا بن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا لا تستطيع رده من نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حنى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوي منه أو كما قال له
حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} يسمع منه قال أقد فرغت يا أبا الوليد قال نعم قال فاسمع مني قال أفعل
قال بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون ( فصلت 1 - 4 )
ومضى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيها يقرؤها عليه فلما سمعها عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليها يستمع منه ثم انتهى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى السجدة منها فسجد ثم قال قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك
فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به
(1/171)
فلما جلس إليهم قالوا ما وراءك يا أبا الوليد قال ورائي أن سمعت قولا ما سمعت مثله قط والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به
قالوا سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه
قال هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم
قال ابن إسحاق ثم إن الإسلام جعل يفشو بمكة في قبائل قريش في الرجال والنساء وقريش تحبس من قدرت على حبسه وتفتن من استطاعت فتنته من المسلمين
ثم إن أشراف قريش من كل قبيله اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ثم قال بعضهم لبعض ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه
فبعثوا إليه فجاءهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سريعا وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بداء وكان عليهم حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم
حتى جلس إليهم فقالوا يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنكلمك وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء وعبت الدين وشتمت الآلهة وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة فما بقي أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك أو كما قالوا له
فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت إنما تريد به الشرف فينا فنحن نسودك علينا وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك وكانوا يسمون التابع من الجن رئيا فربما كان كذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك
(1/172)
فقال لهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما بي ما تقولون ما جئت به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لحكم الله حتى يحكم الله بيني وبينكم أو كما قال {صلى الله عليه وسلم}
قالوا يا محمد فإن كنت غير قابل شيئا مما عرضنا عليك فإنك قد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلدا ولا أقل ماء ولا أشد عيشا منا فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليخرق لنا فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخ صدق فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا به منزلتك من الله وأنه بعثك رسولا إلينا كما تقول
فقال لهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما بهذا بعثت إليكم إنما جئتكم من الله بما بعثني به وقد بلغتكم بما أرسلت به إليكم فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا و الآخرة
وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم
قالوا فإذا لم تفعل هذا لنا فخذ لنفسك سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك وسله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم
فقال لهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما أنا بفاعل وما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما بعثت إليكم بهذا ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا أو كما قال
فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم
قالوا فأسقط علينا كسفا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل فإنا لا نؤمن بك إلا أن تفعل
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ذلك إلى الله إن شاء أن يفعله بكم فعل
(1/173)
قالوا يا محمد فما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب فيتقدم إليك فيعلمك ما تراجعنا به ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذ لم نقبل منك ما جئتنا به إنه بلغنا أنك إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن وإنا والله ما نؤمن بالرحمن أبدا فقد أعذرنا إليك يا محمد وإنا والله لا نتركك وما بلغت بنا حتى نهلكك أوتهلكنا
وقال قائلهم نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله وقال قائلهم لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا
فلما قالوا ذلك لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} قام عنهم وقام معه عبد الله بن أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وهو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب فقال له يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول ويصدقوك ويتبعوك فلم
تفعل ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ومنزلتك من الله فلم تفعل ثم سألوك أن تعجل لهم بعض ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل أو كما قال له فوالله لا أؤمن لك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها ثم تأتي معك بصك معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول وأيم الله لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك
ثم انصرف عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وانصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى أهله حزينا آسفا لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه ولما رأى من مباعدتهم إياه
فلما قام عنهم قال أبو جهل يا معشر قريش إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا وشتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وشتم آلهتنا وإني أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر ما أطيق حمله أو كما قال فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه فأسلموني عند ذلك أو امنعوني فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم
قالوا والله لا نسلمك لشيء أبدا فامض لما تريد
(1/174)
فلما أصبح أبو جهل أخذ حجرا كما وصف ثم جلس لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} ينتظره وغدا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كما كان يغدو وكان بمكة وقبلته إلى الشام فكان إذا صلى صلى بين الركنين الركن اليماني والحجر الأسود وجعل الكعبة بينه وبين الشام
فقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يصلي وقد غدت قريش في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل فلما سجد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه مرعوبا قد يبست يداه على حجره حتى قذف الحجر من يده
وقامت إليه رجال قريش فقالوا ما لك يا أبا الحكم قال قمت إليه لأفعل ما قلت لكم البارحة فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإيل لا والله ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قط فهم بي أن يأكلني
قال ابن إسحاق فذكر لي أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال ذلك جبريل لو دنا لأخذه
فلما قال لهم ذلك أبو جهل قام النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي فقال لهم يا معشر قريش إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد قد كان محمد فيكم غلاما حدثا أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثا وأعظمكم أمانه حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم به قلتم ساحر لا والله ما هو بساحر قد رأينا السحر نفثهم وعقدهم وقلتم كاهن لا والله ما هو بكاهن قد رأينا الكهنة تخالجهم وسمعنا سجعهم وقلتم شاعر لا والله ما هو بشاعر لقد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه وقلتم مجنون لا والله ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه يا معشر قريش انظروا في شأنكم فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم
فلما قال لهم ذلك النضر بن الحارث بعثوه وبعثوا معه عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة وقالوا لهما سلاهم عن محمد وصفا لهم صفته وأخبراهم بقوله فإنهم أ هل الكتاب الاول وعندهم علم ليس عندنا من علم الأنبياء
(1/175)
فخرجا حتى قدما المدينة فسألا أحبار يهود عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ووصفا لهم أمره وأخبراهم ببعض قوله وقالا لهم إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا
فقالت لهما أحبار يهود سلوه عن ثلاث نأمركم بهن فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل وأن لم يفعل فالرجل متقول فروا فيه رأيكم
سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم فإنه كان لهم حديث عجيب
وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبأه وسلوه عن الروح ما هو
فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبي وإن لم يفعل فهو رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم
فأقبل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط حتى قدما مكة فقالا يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد
أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء فإن أخبركم عنها فهو نبي وإن لم يقل فالرجل متقول فروا فيه رأيكم
فجاءوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فسألوه عن تلك الأشياء فقال لهم أخبركم بما سألتم عنه غدا ولم يستثن
فانصرفوا عنه ومكث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما يذكرون خمس عشرة ليلة لا يحدث الله عزوجل إليه في ذلك وحيا ولا يأتيه جبريل حتى أرجف آل مكة وقالوا وعدنا محمد غدا واليوم خمس عشرة ليلة قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه وحتى أحزن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مكث الوحي عنه وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة
ثم جاءه جبريل من الله بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف والروح
فذكر لي أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال لجبريل حين جاءه لقد احتبست عني يا جبريل حتى سؤت ظنا فقال له جبريل وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا ( مريم 64 )
(1/176)
فلما جاءهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بما عرفوا من الحق وعرفوا صدقه فيما حدث وموقع نبوته فيما جاءهم به من علم الغيوب حين سألوه عما سألوه عنه حال الحسد منهم له بينهم وبين اتباعه وتصديقه فعتوا على الله وتركوا أمره عيانا ولجوا فيما هم عليه من الكفر فقال قائلهم لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبونه
أي اجعلوه لغوا وباطلا واتخذوه هزوا لعلكم تغلبون بذلك فإنكم إن ناظر تموه وخاصمتموه غلبكم
فقال أبو جهل بن هشام يوما وهو يهزأ برسول الله {صلى الله عليه وسلم} وما جاء به من الحق يا معشر قريش يزعم محمد أنما جنود الله الذين يعذبونكم في النار ويحبسونكم فيها تسعة عشر وأنتم أعظم الناس عددا وكثرة أفيعجز كل مائة رجل منكم عن رجل منهم
فأنزل الله في ذلك من قوله وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ( المدثر 31 إلى آخر القصة )
فلما قال ذلك بعضهم لبعض جعلوا إذا جهر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالقرآن وهو يصلي يتفرقون عنه ويأبون أن يستمعوا له فكان الرجل منهم إذا أراد أن يستمع من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعض ما يتلو من القرآن وهو يصلي استرق السمع دونهم فرقا منهم فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ذهب خشية أذاهم فلم يستمع وإن خفض رسول الله {صلى الله عليه وسلم} صوته فظن الذي يستمع أنهم لا يسمعون شيئا من قراءته وسمع هو شيئا دونهم أصاخ يستمع له
وقال عبد الله بن عباس إنما نزلت هذه الآية ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ( الإسراء 110 ) من أجل أولئك النفر يقول لا تجهر بصلاتك فيتفرقوا عنك ولا تخافت بها فلا يسمعها من يحب أن يسمعها ممن يسترق ذلك دونهم لعله يرعوي إلى بعض ما يستمع فينتفع بذلك
وكان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بمكة عبد الله بن مسعود فيما حدث به عروة بن الزبير قال
(1/177)
اجتمع يوما أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقالوا والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط فمن رجل يسمعهموه فقال عبد الله بن مسعود أنا قالوا إنا نخشاهم عليك إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه
قال دعوني فإن الله سيمنعني
قال فغدا ابن مسعود حتى أتي المقام في الضحى وقريش في أنديتها حتى قام عند المقام ثم قال بسم الله الرحمن الرحيم رافعا بها صوته الرحمن علم القرآن ثم استقبلها يقرؤها وتأمموه فجعلوا يقولون ما قال ابن أم عبد ثم قالوا إنه ليتلوا بعض ما جاء به محمد
فقاموا إليه فجعلوا يضربون في وجهه وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا بوجهه فقالوا هذا الذي خشينا عليك قال ما كان أعداء الله أهون علي منهم الآن ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها قالوا لا حسبك فقد أسمعتهم ما يكرهون
وذكر الزهري أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو يصلي من الليل في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه وكل لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقال بعضهم لبعض لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا
ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة
ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا
فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتي أبا سفيان في
بيته فقال أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد فقال يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها
(1/178)
قال الأخنس وأنا والذي حلفت به
ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد قال ماذا سمعت تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء
فمن يدرك هذه والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه
فقام عنه الأخنس وتركه
قال ابن إسحاق وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إذا تلا عليهم القرآن ودعاهم إلى الله قالوا يستهزئون به قلوبنا في أكنة لا نفقه ما تقول وفي آذاننا وقر لا نسمع ما تقول ومن بيننا وبينك حجاب قد حال بيننا وبينك فاعمل بما أنت عليه إنا عاملون بما نحن عليه إنا لا نفقه عنك شيئا
فأنزل الله عليه في ذلك من قولهم وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا إلى قوله وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا ( الإسراء 45 - 46 )
أي كيف فهموا توحيدك ربك إن كنت جعلت على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرا وبينك وبينهم حجابا بزعمهم أي أني لم أفعل
نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ( الإسراء 47 )
أي ذلك ما تواصوا به من ترك ما بعثتك به إليهم
انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ( الإسراء 48 )
أي أخطأوا المثل الذي ضربوا لك فلا يصيبون به هدى ولا يعتدل بهم فيه قول
وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا ( الإسراء 49 ) ى
أي قد جئت تخبرنا أنا سنبعث بعد موتنا إذا كنا عظاما ورفاتا وذلك ما لا يكون
قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة ( الإسراء 50 - 51 )
أي الذي خلقكم مما تعرفون فليس خلقكم من تراب بأعز من ذلك عليه
وسئل ابن عباس عن قول الله عز وجل أو خلقا مما يكبر في صدوركم ما الذي أراد الله به فقال الموت
(1/179)
قال ابن إسحاق ثم إنهم عدوا على من أسلم واتبع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من أصحابه فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر من استضعفوا منهم يفتنونهم عن دينهم منهم من يفتتن من شدة البلاء الذي يصيبه ومنهم من يصلب لهم ويعصمه الله منهم
فكان بلال بن رباح وهو ابن حمامة لبعض بني جمح مولدا من مولديهم وكان صادق الإسلام طاهر القلب فكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول له لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات
والعزى فيقول وهو في ذلك البلاء أحد أحد
وكان ورقة بن نوفل يمر به وهو يعذب بذلك وهو يقول أحد أحد فيقول أحد أحد والله يا بلال ثم يقبل على أمية ومن يصنع ذلك به من بني جمح فيقول أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنه حنانا
أي لأتخذن قبره منسكا ومسترحما والحنان الرحمة
حتى مر به أبو بكر الصديق يوما وهم يصنعون ذلك به فقال لأمية ألا تتقي الله في هذا المسكين حتى متى
قال أنت الذي أفسدته فأنقذه فقال أبو بكر أفعل عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى على دينك أعطيكه به قال قد قبلت قال هو لك
فأعطاه أبو بكر غلامه ذلك وأخذ بلالا فأعتقه
وأعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر إلى المدينة ست رقاب بلال سابعهم
عامر بن فهيرة وأم عبيس وزنيرة فأصيب بصرها حين أعتقها فقالت قريش ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى فقالت كذبوا وبيت الله ما تضر اللات والعزى ولا تنفعان فرد الله إليها بصرها
(1/180)
وأعتق النهدية وابنتها وكانتا لامرأة من بني عبد الدار فمر بهما أبو بكر وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها وهي تقول والله لا أعتقكما أبدا فقال أبو بكر حلا يا أم فلان فقالت حل أنت أفسدتهما فأعتقهما قال فبكم هما قالت بكذا وكذا قال قد أخذتهما وهما حرتان ارجعا إليها طحينها قالتا أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها قال أو ذلك إن شئتما
ومر بجارية بني نوفل حي من بني عدي وعمر بن الخطاب يعذبها لتترك الإسلام وهو يومئذ مشرك فابتاعها أبو بكر فأعتقها
وقال له أبوه أبو قحافة يا بني إني أراك تعتق رقابا ضعافا فلو أنك إذ فعلت ما
فعلت أعتقت رجالا جلداء يمنعونك ويقومون دونك فقال أبو بكر يا أبت إني إنما أريد ما أريد
فيتحدث أنه ما نزل هؤلاء الآيات إلا فيه وفيما قال أبوه فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى إلى آخر السورة ( الليل 7 )
وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه وكانوا أهل بيت إسلام إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء مكة فيمر بهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيقول فيما بلغني صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة
فأما أمه فقتلوها وهي تأبى إلا الإسلام
وكان أبو جهل الفاسق الذي يغري بهم في رجال من قريش إذا سمع بالرجل له شرف ومنعة قد أسلم أنبه وأخزاه فقال تركت دين أبيك وهو خير منك لنسفهن حلمك ولنفيلن رأيك ولنضعن شرفك وإن كان تاجرا قال والله لنكسدن تجارتك ولنهلكن مالك وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به
وقال سعيد بن جبير لعبد الله بن عباس أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم
قال نعم والله إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي به حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة حتى يقولوا له اللات والعزى إلهك من دون الله فيقول نعم حتى إن الجعل ليمر بهم فيقولون له أهذا الجعل إلهك من دون الله فيقول نعم افتداء منهم مما يبلغون من جهده
(1/181)
ذكر الهجرة إلى أرض الحبشة
قال ابن إسحاق فلما رأى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما يصيب أصحابه من البلاء وما هو فيه من العافية بمكانه من الله ومن عمه أبي طالب وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء قال لهم لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه
فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارا بدينهم إلى الله
فكانت أول هجرة كانت في الإسلام
وكان أول من خرج من المسلمين عثمان بن عفان مع امرأته رقية بنت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة معه امرأته سهلة بنت سهيل والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف ومصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي معه امرأته أم سلمة وعثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح وعامر بن ربيعة حليف آل الخطاب بن نفيل معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة وسهل بن بيضاء من بني الحارث بن فهر وأبو سبرة بن أبي رهم ويقال بل أبو حاطب بن عمرو ويقال هو كان أول من قدمها
و كان هؤلاء العشرة أول من خرج من المسلمين ثم خرج جعفر بن أبي طالب وتتابع المسلمون حتى اجتمعوا بأرض الحبشة منهم من خرج بأهله ومنهم من خرج بنفسه
فكان جميع من لحق بأرض الحبشة من المسلمين سوى أبنائهم الذين خرجوا
بهم صغارا أو ولدوا بها ثلاثة وثمانين رجلا إن كان عمار بن ياسر فيهم وهو يشك فيه
وكان مما قيل من الشعر في الحبشة أن عبد الله بن الحارث بن قيس بن عدي بن سعيد بن سهم حين أمنوا بأرض الحبشة وحمدوا جوار النجاشي وعبدوا الله لا يخافون على ذلك أحدا قال
يا راكبا بلغن عني مغلغلة
من كان يرجو بلاغ الله والدين
كل امرى ء من عباد الله مضطهد
ببطن مكة مقهور ومفتون
أنا وجدنا بلاد الله واسعة
تنجي من الذل والمخزاة والهون
فلا تقيموا على ذل الحياة وخزي
في الممات وغيب غير مأمون
إنا تبعنا رسول الله واطرحوا
(1/182)
قول النبي وعالوا في الموازين
فاجعل عذابك بالقوم الذين بغوا
وعائذا بك أن يعلوا فيطغوني
البسيط وقال عبد الله بن الحارث أيضا يذكر نفي قريش إياهم من بلادهم ويعاتب بعض قومه في ذلك
أبت كبدي لا أكذبنك قتالهم
علي وتأباه علي أناملي
وكيف قتالي معشرا أدبوكم
على الحق ألا تأشبوه بباطل
نفتهم عباد الجن من حر أرضهم
فأضحوا على أمر شديد البلابل
فإن تك كانت في عدي أمانة
عدي بن سعد عن تقي أو تواصل
فقد كنت أرجو أن ذلك فيهم
بحمد الذي لا يطبى بالجعائل
وبدلت شبلا شبل كل ضعيفة
بذي فجر مأوى الضعاف الأرامل
الطويل
وقال عبدالله بن الحارث أيضا
وتلك قريش تجحد الله حقه
كما جحدت عاد ومدين والحجر
فإن أنا لم أبرق فلا يسعنني
من الأرض بر ذو فضاء ولا بحر
بأرض بها عبد الإله محمد
أبين ما في النفس إذ بلغ النفر
الطويل
فسمي عبد الله يرحمه الله المبرق ببيته الذي قال
وقال عثمان بن مظعون يعاتب أمية بن خلف وهو ابن عمه وكان يؤذيه في إسلامه وكان أمية شريف قومه في زمانه ذلك
أتيم بن عمرو للذي جاء بغضة
ومن دونه الشرمان والبرك أكتع
أأخرجتني من بطن مكة آمنا
وأسكنتني في صرح بيضاء تقذع
تريش نبالا لا يواتيك ريشها
وتبري نبالا ريشها لك أجمع
وحاربت أقواما كراما أعزة
وأهلكت أقواما بهم كنت تقرع
ستعلم إن نابتك يوما ملمة
وأسلمك الأوباش ما كنت تصنع
الطويل
وتيم بن عمرو الذي يدعو عثمان هو جمح بن عمرو كان اسمه تيما
قال ابن إسحاق فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد أمنوا واطمأنوا بأرض الحبشة وأنهم قد أصابوا بها دارا وقرارا ائتمروا بينهم أن يبعثوا فيهم رجلين من قريش جلدين إلى النجاشي فيردهم عليهم ليفتنوهم في دينهم ويخرجوهم من دارهم التي اطمأنوا بها وأمنوا فيها
فبعثوا عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص وجمعوا لهما هدايا للنجاشي ولبطارقته ثم بعثوهما
(1/183)
فقال أبو طالب حين رأى ذلك من رأيهم وما بعثوهما فيه أبياتا يحض النجاشي على حسن جوارهم والدفع عنهم
ألا ليت شعري كيف في النأي جعفر
وعمرو وأعداء العدو الأقارب
وهل نالت افعال النجاشي جعفرا
وأصحابه أم عاق ذلك شاغب
تعلم أبيت اللعن أنك ماجد
كريم فلا يشقى لديك المجانب
تعلم فإن الله زادك بسطة
وأسباب خير كلها بك لازب
وأنك فيض ذو سجال غزيرة
ينال الأعادي نفعها والأقارب
الطويل
وذكر ابن إسحاق من حديث أم سلمة زوج النبي {صلى الله عليه وسلم} قالت لما نزلنا أرض الحبشة تعني مع زوجها الأول أبي سلمة جاورنا بها خير جار النجاشي أمنا على ديننا وعبدنا الله لا نؤذي ولا نسمع شيئا نكرهه
فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهم جليدين وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستظرف من متاع مكة وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم فجمعوا له أدما كثيرا ولم يتركوا من بطارقته إلا أهدوا لهم ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص وأمروهما بأمرهم وقالوا لهما ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم ثم قدما إلى النجاشي هداياه ثم اسألاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم
قالت فخرجا حتى قدما على النجاشي ونحن عنده بخير دار عند خير جار فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلماه وقالا لكل بطريق إنه قد ضوى إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم فإن قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم فقالوا لهما نعم
ثم إنهما قربا هداياهما إلى النجاشي فقبلها ثم قالا له أيها الملك إنه ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك جاءوا بدين
(1/184)
ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم عليهم فهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه
قالت ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن لا يسمع كلامهما النجاشي
فقالت بطارقته صدقا أيها الملك قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم
فغضب النجاشي ثم قال لاها الله إذا لا أسلمهم إليهما ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان من أمرهم فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهم وأحسنت جوارهم ما جاوروني
ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فدعاهم فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض ما تقولون للرجل إذا جئتموه قالوا نقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا كائنا في ذلك ما هو كائن
فلما جاءوا وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله سألهم فقال لهم ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا به في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل
قالت فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب قال أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن
المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئا وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام قالت فعدد عليه أمور الإسلام
(1/185)
فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا وحرمنا ما حرم الله علينا وأحللنا ما أحل لنا فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بينا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك
فقال له النجاشي هل معك مما جاء به عن الله من شيء فقال له جعفر نعم قال فاقرأه علي فقرأ عليه صدرا من كهيعص
فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما يتلى عليهم
ثم قال له النجاشي إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة انطلقا فو الله لا أسلمهم إليكماأبدا ولا يكادون
فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص والله لآتينه عنهم غدا بما أستأصل به خضراءهم
قالت فقال له عبد الله بن أبي ربيعة وكان أبقى الرجلين فينا لا تفعل فإن لهم أرحاما وإن كانوا قد خالفونا
قال والله لأخبرته أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد
ثم غدا عليه فقال أيها الملك إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولا عظيما فسلهم عما يقولون فيه
قالت فأرسل إليهم ليسألهم عنه ولم ينزل بنا مثلها قط
فاجتمع القوم ثم قال بعضهم لبعض ماذا تقولون في عيسى ابن مريم إذا
سألكم عنه فقالوا نقول والله ما قال الله وما جاءنا به نبينا كائنا في ذلك ما هو كائن
قالت فلما دخلوا عليه قال لهم ما تقولون في عيسى ابن مريم قالت فقال جعفر بن أبي طالب نقول فيه الذي جاء به نبينا نقول عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول
قالت فضرب النجاشي بيده إلى الأرض فأخذ منها عودا ثم قال ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود
(1/186)
قالت فتناحرت بطارقته حوله حين قال ما قال فقال وإن نخرتم والله اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي أي آمنون من سبكم غرم من سبكم غرم من سبكم غرم فما أحب أن لي دبرا من ذهب وأني آذيت رجلا منكم ويقال دبرا وهو الجبل بلسان الحبشة فيما قال ابن هشام
ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه
قالت فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار
قالت فوالله إنا لعلى ذلك إذ نزل به رجل من الحبشة ينازعه في ملكه فوالله ما علمتنا حزنا حزنا قط كان أشد من حزن حزناه عند ذلك تخوفا أن يظهر ذلك الرجل على النجاشي فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه
وسار إليه النجاشي وبينهما عرض النيل فقال أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من رجل يخرج حتى يحضر وقيعة القوم ثم يأتينا بالخبر فقال الزبير بن العوام أنا قالوا فأنت وكان من أحدث القوم سنا
فنفخوا له قربة فجعلها في صدره ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم ثم انطلق حتى حضرهم
قالت ودعونا الله للنجاشي بالظهور على عدوه والتمكين له في بلاده فوالله إنا لعلى ذلك متوقعون لما هو كائن إذا طلع الزبير يسعى فلمع بثوبه يقول ألا أبشروا فقد ظهر النجاشي وأهلك الله عدوه فو الله ما علمتنا فرحنا فرحه قط مثلها
ورجع النجاشي وقد أهلك الله عدوه ومكن له في بلاده واستوسق عليه أمر الحبشة فكنا عنده في خير منزل حتى قدمنا على رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
قال الزهري فحدثت عروة بن الزبير هذا الحديث فقال هل تدري ما قوله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه وما أطاع الناس في فأطيع الناس فيه قلت لا والله
(1/187)
قال فإن عائشة أم المؤمنون حدثتني أنا أباه كان ملك قومه ولم يكن له ولد إلا النجاشي وكان للنجاشي عم له من صلبه إثنا عشر رجلا وكان أهل بيت مملكة الحبشة فقالت الحبشة بينها لو أنا قتلنا أبا النجاشي وملكنا أخاه فإنه لا ولد له غير هذا الغلام وإن لأخيه من صلبه إثني عشر رجلا فتوارثوا ملكهم من بعده بقيت الحبشة بعده دهرا
فعدوا على أبي النجاشي فقتلوه وملكوا أخاه فمكثوا على ذلك حينا ونشأ النجاشي مع عمه وكان لبيبا حازما من الرجال فغلب على أمر عمه ونزل منه بكل منزلة فلما رأت الحبشة مكانه منه قالت بينها والله لقد غلب هذا الفتى على أمر عمه وإنا لنتخوف أن يملكه علينا وإن ملكه علينا ليقتلنا أجمعين لقد عرف أنا نحن قتلنا أباه
فمشوا إلى عمه فقالوا إما أن تقتل هذا الفتى أو لتخرجنه من بين أظهرنا فإنا قد خفناه على أنفسنا
قال ويلكم قتلت أباه بالأمس وأقتله اليوم بل أخرجه من بلادكم
فخرجوا به إلى السوق فباعوه من رجل من التجار بستمائة درهم فقذفه في سفينه فانطلق به حتى إذا كان العشي من ذلك اليوم هاجمت سحابة منه سحائب الخريف فخرج عمه يستمطر تحتها فأصابته صاعقة فقتلته
ففزعت الحبشه إلا ولده فإذا هو محمق ليس في ولده خير فمرج على الحبشة أمرهم فلما ضاق عليهم ما هم فيه قال بعضهم لبعض تعلموا والله أن ملككم الذي لا يقيم أمركم غيره الذي بعتموه غدوة فإن كان لكم بأمر الحبشة حاجة فأدركوه قالت فخرجوا في طلبه وطلب الرجل الذي باعوه منه حتى أدركوه فأخذوه منه ثم جاءوا به فعقدوا عليه التاج وأقعدوه على سرير الملك فجائهم التاجر الذي كان باعوه منه فقال إما أن تعطوني مالي إما أن أكلمه في ذلك فقالوا لا نعطيك شيئا قال إذا والله أكلمه قالوا فدونك
فجاءه فجلس بين يديه فقال أيها الملك ابتعت غلاما من قوم بالسوق بستمائة درهم فأسلموا إلي غلامي وأخذوا دراهمي حيث إذا سرت أدركوني فأخذوا غلامي ومنعوني دراهمي
(1/188)
فقال لهم النجاشي لتعطنه دراهمه أو ليضعن غلامه يده في يده فليذهبن به حيث شاء
قالوا بل نعطه دراهمه
وكان ذلك أول ماخبر من صلابته في دينه وعدله في حكمه رحمه الله تعالى
وعن عائشة قالت لما مات النجاشي كان يتحدث أنه لايزال يرى على قبره نور
وذكر ابن أسحاق أيضا عن جعفر بن محمد عن أبيه أن الحبشة اجتمعت فقالوا للنجاشي يعني عندما وافق جعفر بن أبي طالب على قوله في
عيسى ابن مريم إنك فارقت ديننا و خرجوا عليه فأرسل إلى جعفر وأصحابه وهيأ لهم سفنا وقال اركبوا فيها وكونوا كما أنتم فإن هزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم وإن ظفرت فاثبتوا
ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه هو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ويشهد أن عيسى عبده ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم
ثم جعله في قبائه عند المنكب الأيمن وخرج إلى الحبشة وصفوا له فقال يا معشر الحبشة ألست أحق الناس بكم قالوا بلى قال فكيف رأيتم سيرتي فيكم قالوا خير سيرة قال فما لكم قالوا فارقت ديننا وزعمت أن عيسى عبد قال فما تقولون أنتم في عيسى قالوا نقول هو أبن الله قال النجاشي ووضع يده على صدره على قبائه هو يشهد أن عيسى لم يزد على هذا شيئا و إنما يعني علي ما كتب
فرضوا وانصرفوا
فبلغ ذلك النبي {صلى الله عليه وسلم} فلما مات النجاشي صلى عليه واستغفر له
قال ابن إسحاق ولما قدم عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة على قريش ولم يدركوا ما طلبوا من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وردهما النجاشي بما يكرهون وأسلم عمرو بن الخطاب رضي الله عنه وكان رجلا ذا شكيمة لا يرام ما وراء ظهره امتنع به أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وبحمزة حتى عازوا قريشا
فكان عبد الله بن مسعود يقول ما كنا نقدر على أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر فلما أسلم قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه
(1/189)
وقال ابن مسعود في رواية الكبائي عن غير ابن إسحاق إن إسلام عمر كان فتحا وإن هجرته كانت نصرا وإن إمارته كانت رحمة ولقد كنا وما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر وذكر مثل ما تقدم نصا إلى آخره
ذكر الحديث عن إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه
حدث عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أمه أم عبد الله بنت ابي حثمة قالت والله إنا لنترحل إلى أرض الحبشة وقد ذهب عامر في بعض حاجتنا إذ أقبل عمر بن الخطاب حتى وقف علي وهو على شركه قالت وكنا نلقي منه البلاء أذى لنا وشدة علينا فقال إنه للانطلاق يا أم عبد الله
فقلت نعم والله لنخرجن في أرض الله آذيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله لنا مخرجا فقال صحبكم الله
ورأيت له رقة لم يكن أراها ثم انصرف وقد أحزنه فيما أرى خروجنا
قالت فجاء عامر بحاجته تلك فقلت له يا أبا عبد الله لو رأيت عمر آنفا ورقته علينا
قال أطمعت في إسلامه قالت نعم قال لا يسلم الذي رأيت حتى يسلم حمار الخطاب قالت يأسا منه لما كان يرى منه من غلظته وقسوته عن الإسلام
قال ابن إسحاق وكان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول {صلى الله عليه وسلم} إلى الحبشة
قال وكان إسلامه فيما بلغني أن أخته فاطمة بنت الخطاب كانت قد أسلمت وأسلم زوجها سعيد بن زيد وهم مستخفون بإسلامهم من عمر وكان نعيم بن عبد الله النحام من بني عدي قد أسلم وكان يستخفي بإسلامه
فرقا من قومه وكان خباب بن الأرت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يقرئها القرآن
فخرج عمر متوشحا سيفه يريد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ورهطا من أصحابه قد ذكروا له أنهم اجتمعوا في بيت عند الصفا قريبا من أربعين بين رجال ونساء ومع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عمه حمزة وأبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب في رجال من المسلمين
فلقيه نعيم فقال أين تريد يا عمر قال أريد محمدا هذا الصابيء الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها وأعاب دينها وسب آلهتها فأقتله
(1/190)
فقال له نعيم والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم
قال أي أهل بيتي قال ختنك وابن عمك سعيد بن زيد وأختك فاطمة فقد والله أسلما وتابعا محمدا على دينه فعليك بهما
فرجع عمر عائدا إلى أخته وختنه وعندهما خباب معه صحيفة فيها طه يقرؤهما إياها فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب في مخدع لهم أو في بعض البيت وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها وقد سمع عمر قراءة خباب فلما دخل قال ما هذه الهينمة التي سمعت قالا ما سمعت شيئا قال بلى والله لقد أخبرت أنكما تابعتما محمد على دينه
وبطش بختنه سعيد فقامت إليه أخته لتكفه عن زوجها فضربها فشجها فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه نعم أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما بدا لك
ولما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم وارعوى وقال لها أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرأون آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد وكان عمر كاتبا فلما قال ذلك قالت له أخته إنا نخشاك عليها قال لا تخافي وحلف لها بآلهته ليردنها إليها إذا قرأها
فلما قال ذلك طمعت في إسلامه فقالت له يا أخي إنك نجس على شركك و انه لا يمسها إلا الطاهر فقام عمر فاغتسل فأعطته الصحيفة وفيها طه فقرأها فلما قرأ منها صدرا قال ما أحسن هذا الكلام وأكرمه
فلما سمع ذلك خباب خرج إليه فقال يا عمر والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه فإني سمعته أمس وهو يقول اللهم أيد الأسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب فالله الله يا عمر
فقال عند ذلك فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم فقال له خباب هو في بيت عند الصفا معه نفر من أصحابه
فأخذ عمر سيفه فتوشحه ثم عمد إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه فضرب عليهم الباب فلما سمعوا صوته قام رجل منهم فنظر من خلل الباب فرآه متوشحا السيف فرجع وهو فزع فقال يا رسول الله هذا عمر بن الخطاب متوشحا السيف
(1/191)
فقال حمزة بن عبد المطلب فأذن له فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه له وإن كان جاء يريد شرا قتلناه بسيفه
فقال الرسول الله {صلى الله عليه وسلم} ائذن له فأذن له الرجل ونهض إليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى لقيه في الحجرة فأخذ بحجزته أو بمجمع ردائه ثم جبذه جبذة شديدة
وقال ما جاء بك يا أبن الخطاب فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة
فقال عمر يا رسول الله جئت لأومن بالله ورسوله وبما جاء من عنده
قال فكبر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن عمر قد أسلم
فتفرقوا من مكانهم وقد عزوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة
وعرفوا أنهما سيمنعان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وينتصفون بهما من عدوهم
فهذا حديث الرواة من أهل المدينة عن إسلام عمر
وقد روي غيرهم أن إسلام عمر فيما تحدثوا به عنه أنه كان يقول كنت للأسلام مباعدا وكنت صاحب خمر في الجاهلية أحبها وأشربها وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش بالحزورة فخرجت ليلة أريد جلسائي أولئك في مجلسهم ذلك فلم أجد فيه منهم أحد فقلت لو أني جئت فلانا الخمار لعلى أجد عنده خمرا فأشرب منها فجئته فلم أجده
فقلت فلو أني جئت الكعبة فطفت بها سبعا أو سبعين فجئت أريد ذلك فإذا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قائم يصلي وكان إذا صلى استقبل الشام وجعل بينه وبينها الكعبة فكان مصلاه بين الركنين الكن الأسود و الركن اليماني فقلت حين رأيته والله لو أني استمعت لمحمد الليلة حتى أستمع ما يقول
فقلت لئن دنوت منه لأروعنه فجئت من قبل الحجر فدخلت تحت ثيابها فجعلت أمشي رويدا ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} قائم يصلي يقرأ القرآن حتى قمت في قبلته مستقبله ما بيني وبينه إلا ثياب الكعبة
فلما سمعت القرآن رق له قلبي فبكيت ودخلني الإسلام فلم أزل قائما في مكاني ذلك حتى قضى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} صلاته ثم انصرف وكان إذا انصرف خرج على دار ابن أبي حسين وكانت طريقه حتى يخرج المسعى ثم يسلك بين دار عباس بن عبد المطلب وبين دار ابن أزهر
(1/192)
فتبعته حتى إذا دخل بينهما أدركته فلما سمع حسي عرفني فظن أني إنما تبعته لأوذيه فنهمني ثم قال ما جاء بك يابن الخطاب هذه الساعة قلت جئت لأومن بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله
فحمد الله رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم قال قد هداك الله يا عمر ثم مسح صدري ودعا لي بالثبات ثم انصرفت عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ودخل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بيته
قال ابن إسحاق فالله أعلم أي ذلك كان
وذكر محمد بن عبد الله بن سنجر الحافظ في إسلام عمر رضي الله عنه زيادة لم يذكرها ابن إسحاق فروي بإسناد له إلى شريح بن عبيد قال قال عمر بن الخطاب خرجت أتعرض لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} قبل أن أسلم فوجدته قد سبقني إلى المسجد فقمت خلفه فاستفتح سورة الحاقة فجعلت أتعجب من تأليف القرآن فقلت هذا والله شاعر كما قالت قريش فقرأ إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ( الحاقة 40 - 41 ) قال قلت كاهن علم ما في نفسي فقرأ ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون ( الحاقة 42 ) إلى آخر السورة
قال فوقع الأسلام في قلبي كل موقع
قال ابن إسحاق وحدثني نافع عن ابن عمر قال لما أسلم عمر قال أي قريش أنقل للحديث قيل له جميل بن معمر الجمحى فغدا عليه وغدوت أتبع أثره أنظر ما يفعل وأنا غلام أعقل كل ما رأيت حتى جاءه فقال له أعلمت يا جميل أني أسلمت ودخلت في دين محمد
فو الله ما راجعه حتى قام يجر رداءه واتبعه عمر واتبعت أبي حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته يا معشر قريش وهم في أنديتهم حول الكعبة ألا إن ابن الخطاب قد صبأ
قال يقول عمر من خلفه كذب ولكني أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وثاروا إليه فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسهم
قال وطلع فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول افعلوا ما بدا لكم فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا
فبيناهم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حبرة وقميص موشي
(1/193)
حتى وقف عليهم فقال ما شأنكم قالوا صبأ عمر قال فمه رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون أترون بني عدي بن كعب يسلمون لكم صاحبهم
هكذا عن الرجل فوالله لكأنما كانوا ثوبا كشط عنه
فقلت لأبي بعد أن هاجر إلى المدينة يا أبت من الرجل الذي زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت وهم يقاتلونك جزاه الله خيرا قال أي بني ذلك العاص بن وائل السهمي لا جزاه الله خيرا
وهذا الدعاء عليه وله مما زاده ابن هشام عن غير ابن إسحاق
وعن بعض آل عمر قال عمر لما أسلمت تلك الليلة تذكرت أي الناس أشد عداوة لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى آتيه فأخبره أني قد أسلمت قال قلت أبو جهل وكان عمر ابنا لحنتمة بنت هشام بن المغيرة فأقبلت حين أصبحت حتى ضربت عليه بابه فخرج إلي فقال مرحبا وأهلا يا بن أختي ما جاء بك قلت جئتك أخبرك أني قد آمنت بالله وبرسوله محمد وصدقت بما جاء به
فضرب الباب في وجهي وقال قبحك الله وقبح ما جئت به
وفيما رواه يونس بن بكير عن ابن إسحاق أن عمر رضي الله عنه قال حين أسلم
الحمد لله ذي المن الذي وجبت
له علينا أياد كلها عبر
وقد بدأنا فكذبنا فقال لنا
صدق الحديث نبي عنده الخبر
وقد ظلمت ابنة الخطاب ثم هدي
ربي عشيه قالوا قد صبا عمر
وقد ندمت على ما كان من زلل
بظلمها حين تتلى عندها السور
لما دعت ربها ذا العرش جاهدة
والدمع من عينها عجلان يبتذر
أيقنت أن الذي تدعوه خالقها
تكاد تسبقني من عبرة درر
فقلت أشهد أن الله خالقنا
وأن أحمد فينا اليوم مشتهر
نبي صدق أتى بالحق من ثقة
وافى الأمانة ما في عوده خور
البسيط
قال ابن إسحاق فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد نزلوا بلدا أصابوا به أمنا وقرارا وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم وأن عمر قد أسلم فكان هو و حمزة مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه وجعل الإسلام يفشو في القبائل اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب على أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم
(1/194)
فلما اجتمعوا لذلك كتبوا في صحيفة ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم
فلما فعلت قريش ذلك انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب فدخلوا معه في شعبه واجتمعوا إليه وخرج من بني هاشم أبو لهب إلى قريش فظاهرهم ولقي هندا بنت عتبة بن ربيعة حين فارق قومه وظاهر عليهم قريشا فقال لها يا بنت عتبة هل نصرت اللات والعزى وفارقت من فارقهما وظاهر عليهما قالت نعم فجزاك الله خيرا يا أبا عتبة
وقال أبو طالب فيما صنعت قريش من ذلك واجتمعوا عليه
ألا أبلغا عني على ذات بيننا
لؤيا وخصا من لؤي بني كعب
ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا
نبيا كموسى خط في أول الكتب
وأن عليه في العباد محبة
ولا خير ممن خصه الله بالحب
وأن الذي لصقتم من كتابكم
لكم كائن نحسا كراغية السقب
أفيقوا أفيقوا قبل أن يحفر الثرى
ويصبح من لم يجن ذنبا كذي الذنب
ولا تبتغوا أمر الوشاة وتقطعوا
أواصرنا بعد المودة والقرب
وتستجلبوا حربا عوانا وربما
أمر على من ضاقه حلب الحرب
فلسنا ورب البيت نسلم أحمدا
لعزاء من عض الزمان ولا كرب
ولما تبن منا ومنكم سوالف
وأيد أترت بالقساسية الشهب
بمعترك ضنك ترى كسر القنا
به النسور الطخم يعكفن كالشرب
كأن مجال الخيل في حجراته
ومعمعة الأبطال معركة الحرب
أليس أبونا هاشم شد أزره
وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب
ولسنا نمل الحرب حتى تملنا
ولا نتشكى ما قد ينوب من النكب
ولكننا أهل الحفائظ والنهي
إذا طار أرواح الكماة من الرعب
الطويل
فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا حتى جهدوا لا يصل إليهم شيء إلا سرا مستخفيا به من أراد صلتهم من قريش
وقد كان أبو جهل فيما يذكرون لقي حكيم بن حزام معه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة وهي مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في الشعب فتعلق به وقال أتذهب بالطعام إلى بني هاشم فقال له أبو البختري طعام كان لعمته عنده أفتمنعه أن يأتيها بطعامها خل سبيل الرجل
(1/195)
فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه فأخذ أبو البختري لحي بعير فضربه فشجه ووطئه وطأ شديدا وحمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه فيشمتوا بهم
ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} على ذلك يدعو قومه ليلا ونهارا وسرا وجهرا مباديا لأمر الله لا يتقي فيه أحدا من الناس
فجعلت قريش حين منعه الله منها وقام عمه وقومه من بني هاشم وبني المطلب دونه وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من البطش به يهمزونه ويستهزئون به ويخاصمونه وجعل القرآن ينزل في قريش بأحداثهم وفيمن نصب لعداوته منهم من سمي لنا ومنهم من نزل فيه القرآن في عامة من ذكر الله من الكفار
فكان من سمي لنا من قريش ممن نزل فيه القرآن عمه أبو لهب وامرأته أم جميل بنت حرب بن أمية حمالة الحطب وإنما سماها الله عز وجل حمالة الحطب أنها كانت فيما بلغني تحمل الشوك فتطرحه على طريق رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حيث يمر
وكان أبو لهب يقول في بعض ما يقول يعدني محمد أشياء لا أراها يزعم أنها كائنة بعد الموت فماذا وضع في يدي بعد ذلك ثم ينفخ في يديه ويقول تبا لكما ما أرى فيكما شيئا مما يقول محمد
فأنزل الله عز وجل فيهما تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد ( سورة المسد )
قال ابن إسحاق فذكر لي أن أم جميل حين سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن أتت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر الصديق وفي يدها فهر من حجارة فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلا ترى إلا أبا بكر فقالت يا أبا بكر أين صاحبك فقد بلغني أنه يهجوني والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه أما والله إني لشاعرة ثم قالت
( مذمما عصينا
وأمره أبينا ) البسيط
وعن غير ابن إسحاق ودينه قلينا
ثم انصرفت فقال أبو بكر يا رسول الله أما تراها رأتك فقال ما رأتني لقد أخذ الله ببصرها عني
(1/196)
وكانت قريش إنما تسمي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مذمما ثم يسبونه فكان عليه السلام يقول ألا تعجبون لما صرف الله عني من أذى قريش يسبون ويهجون مذمما وأنا محمد
وأمية بن خلف الجمحي كان إذا رأى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} همزه ولمزه فأنزل الله فيه ويل لكل همزة لمزة سورة الهمزة إلى آخر السورة
والعاص بن وائل السهمي كان خباب بن الأرت قد باع منه سيوفا عملها له وكان قينا بمكة فجاءه يتقاضاه فقال له يا خباب أليس يزعم محمد صاحبكم هذا الذي أنت على دينه أن في الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب أو فضة
أو ثياب أو خدم قال بلى قال فأنظرني إلى يوم القيامة يا خباب حتى أرجع إلى تلك الدار فأقضيك هنالك حقك فو الله لا تكون أنت وأصحابك يا خباب آثر عند الله مني ولا أعظم حظا في ذلك
فأنزل الله في ذلك أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا أطلع الغيب أم أتخذ عند الرحمن عهدا كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ونرثه ما يقول ويأتينا فردا ( مريم 77 - 80 )
ولقي أبو جهل بن هشام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما بلغني فقال له والله يا محمد لتتركن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك الذي بعثك
فأنزل الله تعالى ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ( الأنعام 108 )
فذكر لي أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كف عن سب آلهتهم وجعل يدعوهم إلى الله
والنضر بن الحارث بن كلدة من شياطين قريش ممن كان يؤذي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وينصب له العداوة وكان قدم الحيرة وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس فكان إذا جلس رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مجلسا فذكر فيه بالله ودعا فيه إلى الله وحذر قومه ما أصاب الأمم الخالية من نقمة الله خلفه في مجلسه إذا قام ثم قال أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه فهلم فأنا أحدثكم أحسن من حديثه ثم يحدثهم عن رستم الشيذ واسبنديار وملوك فارس ثم يقول بماذا محمد أحسن حديثا مني والله ما محمد بأحسن حديثا مني وما أحاديثه إلا أساطير الأولين اكتتبها كما اكتتبتها
(1/197)
فأنزل الله عز وجل فيه وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إنه كان غفورا رحيما ( الفرقان 5 - 6 ) وكل ما ذكر فيه الأساطير من القرآن
وأنزل أيضا فيه ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم ( الجاثيه 7 - 8 )
وهو القائل سأنزل مثل ما أنزل الله فيما ذكر ابن هشام
قال ابن إسحاق وجلس رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما بلغني يوما مع الوليد بن المغيرة في المسجد فجاء النضر بن الحارث فجلس معهم في المجلس وفيه غير واحد من رجال قريش
فتكلم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فعرض له النضر فكلمه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى أفحمه ثم تلا عليه وعليهم إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون ( الأنبياء 98 - 100 )
ثم قام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأقبل عبد الله بن الزبعرى السهمي حتى جلس فقال له الوليد والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا وما قعد وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم
فقال ابن الزبعري أما والله لو وجدته لخصمته فسلوا محمدا أكل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده فنحن نعبد الملائكة واليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد عيسى ابن مريم
فعجب الوليد ومن كان معه من قول ابن الزبعرى ورأوا أنه قد احتج وخاصم
فذكر ذلك لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال لهم كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده إنهم إنما يعبدون الشياطين ومن أمرتهم بعبادته فأنزل الله عليه إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون
حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون ) ( الأنبياء 101 ) أي عيسى وعزيرا ومن عبدوا من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله
(1/198)
ونزل فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة وأنها بنات الله وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون إلى قوله ومن يقل منهم إني إله من دونه فلذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين ( الأنبياء 26 - 29 )
وأنزل فيما ذكر من أمر عيسى أنه يعبد من دون الله وعجب الوليد ومن حضر من حجته وخصومته ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون ثم قال إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعوني هذا صراط مستقيم ( الزخرف 57 - 61 ) أي ما وضعت على يديه من إحياء الموتى وإبراء الأسقام فكفى به دليلا على علم الساعة يقول فلا تمترن بها واتبعوني هذا صراط مستقيم
والأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة وكان من أشراف القوم وممن يستمع منه فكان يصيب من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ويرد عليه فأنزل الله فيه ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم ( ن 10 - 13 ) إلى قوله زنيم
ولم يقل زنيم لعيب في نسبه إن الله لا يعب أحدا بنسبه ولكنه حقق بذلك نعته ليعرف والزنيم العديد للقوم قال الخطيم التميمي في الجاهلية
( زنيم تداعاه الرجال زيادة
كما زيد في عرض الأديم الأكارع ) الطويل
والوليد بن المغيرة قال أينزل على محمد وأترك وأنا كبير قريش وسيدها ويترك أبو مسعود عمرو بن عمير الثقفي سيد ثقيف ونحن عظيما القريتين
فأنزل الله فيه فيما بلغني وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا إلى قوله ورحمة ربك خير مما يجمعون ( الزخرف 20 - 21 )
(1/199)
وأبي بن خلف الجمحي وعقبة بن أبي معيط وكانا متصافيين حسنا ما بينهما فكان عقبة بن أبي معيط قد جلس إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وسمع منه فبلغ ذلك أبيا فأتى عقبة فقال ألم يبلغني أنك جالست محمدا وسمعت منه ثم قال وجهي من وجهك حرام أن أكلمك واستغلظ من اليمين إن أنت جلست إليه أو سمعت منه أو لم تأته فتتفل في وجهه
ففعل ذلك عدو الله عقبة فأنزل الله فيه ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا ( الفرقان 27 - 29 )
ومشى أبي بن خلف إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعظم بال قد ارفت فقال يا محمد أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعد ما أرى ثم فته بيده ثم نفخه في الريح نحو رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نعم أنا أقول ذلك يبعثه الله وإياك بعد ما تكونان هكذا ثم يدخلك النار
فأنزل الله فيه وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون ( يس 78 - 80 )
واعترض رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما بلغني الأسود بن المطلب والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف والعاص بن وائل وكانوا ذوي أسنان في قومهم فقالوا يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد فنشترك نحن وأنت في الأمر فإن كان الذي تعبد خيرا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه
فأنزل الله فيهم قل يا أيها الكافرون السورة كلها
أي إن كنتم لا تعبدون الله إلا أن أعبد ما تعبدون فلا حاجة لي بذلك منكم لكم دينكم ولي دين
وأبو جهل بن هشام لما ذكر الله شجرة الزقوم تخويفا بها لهم قال يا معشر قريس هل تدرون ما شجرة الزقوم التي يخوفكم بها محمد قالوا لا قال عجوة يثرب بالزبد والله لئن استمكنا منها لنتزقمنها تزقما
(1/200)
فأنزل الله فيه إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم ( الدخان 443 )
وأنزل الله فيه والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا ( الإسراء 60 )
ووقف الوليد بن المغيرة مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ورسول الله يكلمه وقد طمع في إسلامه فبينا هو في ذلك مر به ابن أم مكتوم الأعمى فكلم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وجعل يستقرئه القرآن فشق ذلك منه على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى أضجره وذلك أنه شغله عما كان فيه من أمر الوليد وما طمع فيه من إسلامه فلما أكثر عليه انصرف عنه عابسا وتركه فأنزل الله فيه عبس وتولى أن جاءه الأعمى إلى قوله في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة ( عبس 1 - 14 )
أي إنما بعثتك بشيرا ونذيرا لم أخص بك أحدا دون أحد فلا تمنعه ممن ابتغاه ولا تتصد به لمن لا يريده
قال ابن إسحاق ولما بلغ أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الذين خرجوا إلى أرض الحبشة إسلام أهل مكة فأقبلوا لما بلغهم ذلك حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن ذلك كان باطلا فلم يدخل أحد منهم إلا بجوار أو مستخفيا
وذكر موسى بن عقبة أن رجوع هؤلاء الذين رجعوا كان قبل خروج جعفر
وأصحابه إلى أرض الحبشة وأنهم الذين خرجوا أولا قبله ثم رجعوا حين أنزل الله سورة النجم
قال وكان المشركون يقولون لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر به آلهتنا من الشتم والشر
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذبيهم وأحزنته ضلالتهم وكان يتمنى هداهم فلما أنزل الله تعالى سورة والنجم قال أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ( النجم 19 - 20 ) ألقى الشيطان عندها على لسانه كلمات حين ذكر الطواغيت فقال وإنهم لمن الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى
(1/201)
كان ذلك من سجع الشيطان وفتنته فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة وذلت بها ألسنتهم وتباشروا بها وقالوا إن محمدا قد رجع إلى دينه الأول ودين أبائه فلما بلغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} آخر والنجم سجد وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلا كبيرا فرفع ملء كفه ترابا فسجد عليه
فعجب الفريقان كلاهما من اجتماعهم في السجود لسجود رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان على ألسنة المشركين
وأما المشركون فاطمأنت نفوسهم إلى النبي {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه لما ألقي الشيطان في أمنية النبي {صلى الله عليه وسلم} فسجدوا لتعظيم آلهتهم
وفشت تلك الكلمة في الناس وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين عثمان بن مظعون وأصحابه وحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم وصلوا مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفيه وحدثوا أن المسلمين قد أمنوا بمكة فأقبلوا سراعا وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم الله آياته وقال عز من قائل وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ( الحج 52 - 54 )
فلما بين الله قضاءه فبرأه من سجع الشيطان انقلب المشركون بضلالتهم وعداوتهم للمسلمين فاشتدوا عليهم
فلهذا الذي ذكره ابن عقبة لم يستطع أحد ممن رجع من أرض الحبشة أن يدخل مكة إلا بجوار أو مستخفيا كما ذكر ابن إسحاق
(1/202)
قال فكان جميع من قدم مكة منهم ثلاثة وثلاثين رجلا دخل منهم بجوار فيمن سمى لنا عثمان بن مظعون الجمحي دخل بجوار من الوليد بن المغيرة وأبو سلمة بن عبد الأسد بجوار خاله أبي طالب
فأما عثمان فإنه لما رأى ما فيه أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من البلاء وهو يغدو ويروح في أمان الوليد قال والله إن غدوي ورواحي آمنا بجوار رجل من أهل الشرك وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والأذى في الله ما لا يصيبني لنقص كبير في نفسي
فمشي إلى الوليد بن المغيرة فقال له يا أبا عبد شمس وفت ذمتك وقد رددت إليك جوارك قال لم يا بن أخي لعله آذاك أحد من قومي قال لا ولكني أرضي بجوار الله ولا أريد أن أستجير بغيره قال فانطلق إلى المسجد فرد علي جواري علانية كما أجرتك علانية
فخرجا حتى أتيا المسجد فقال الوليد هذا عثمان جاء يرد علي جواري قال صدق قد وجدته وفيا كريم الجوار ولكني أحببت أن لا أستجير بغير الله
ثم انصرف عثمان ولبيد بن ربيعة في مجلس من قريش ينشدهم فجلس معهم عثمان فقال لبيد
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
قال عثمان صدقت قال
وكل نعيم لا محالة زائل
الطويل
قال عثمان كذبت نعيم الجنة لا يزول
قال لبيد يا معشر قريش والله ما كان يؤذى جليسكم فمتى حدث هذا فيكم فقال رجل من القوم إن هذا سفيه في سفهاء معه فارقوا ديننا فلا تجدن في نفسك منه
فرد عليه عثمان حتى شري أمرهما فقام إليه ذلك الرجل فلطم عينه فحضرها والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان فقال أما والله يا بن أخي إن كانت عينك عما أصابها لغنية لقد كنت في ذمة منيعة
قال بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى ما أصاب أختها في الله وإني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس
فقال له الوليد هلم يا ابن أخي إن شئت إلى جوارك
فقال لا
(1/203)
وأما أبو سلمة بن عبد الأسد فإنه لما استجار بأبي طالب مشي إليه رجال بني مخزوم فقالوا يا أبا طالب هذا منعت منا ابن أخيك محمدا فما لك ولصاحبنا تمنعه منا فقال إنه استجار بي وهو ابن أختي وإن أنا لم أمنع ابن أختي لم أمنع ابن أخي فقام أبو لهب فقال يا معشر قريش والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ ما تزالون توثبون عليه في جواره من بين قومه والله لتنتهن عنه أو
لنقومن معه في كل ما قام فيه حتى يبلغ ما أراد
فقالوا بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة وكان لهم وليا وناصرا على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأبقوا على ذلك
فطمع فيه أبو طالب حين سمعه يقول ما قال ورجا أن يقوم معه في شأن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال يحرضه على ذلك
و إن امرءا أبو عتيبة عمه
لفي روضة ما إن يسام المظالما
أقول له وأين منه نصيحتي
أبا معتب ثبت سوادك قائما
ولا تقبلن الدهر ما عشت خطة
تسب بها إما هبطت المواسما
وول سبيل العجز غيرك منهم
فإنك لم تخلق على العجز لازما
وحارب فإن الحرب نصف ولن ترى
أخا الحرب يعصي الخسف حتى يسالما
وكيف ولم يجنوا عليك عظيمة
ولم يخذلوك غانما أو مغارما
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا
وتيما ومخزوما عقوقا ومأثما
بتفريقهم من بعد ود وألفة
جماعتنا كيما ينالوا المحارما
كذبتم وبيت الله نبزى محمدا
ولما تروا يوما لدى الشعب قائما
الطويل
وكان أبو بكر رضي الله عنه كما حدثت عائشة رضي الله عنها حين ضاقت عليه مكة وأصابه فيها الأذى ورأى من تظاهر قريش على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه ما رأى قد استأذن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في الهجرة فأذن له فخرج مهاجرا حتى إذا سار من مكة يوما أو يومين لقيه ابن الدغنة أخو بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة وهو يومئذ سيد الأحابيش فقال أين يا أبا بكر
قال أخرجني قومي وآذوني وضيقوا علي قال لم فوالله إنك لتزين العشيرة وتعين على النوائب وتفعل المعروف وتكسب المعدوم فارجع فأنت في جواري
(1/204)
فرجع معه حتى إذا دخل مكة قام ابن الدغنة فقال يا معشر قريش إني قد أجرت ابن أبي قحافة فلا يعرضن له أحد إلا بخير
قالت فكفوا عنه وكان لأبي بكر مسجد عند باب داره في بني جمح فكان يصلي فيه وكان رجلا رقيقا إذا قرأ القرآن استبكى فيقف عليه الصبيان والعبيد والنساء يعجبون لما يرون من هيئته
فمشى رجال من قريش إلى ابن الدغنة فقالوا له إنك لم تجر هذا لؤذينا إنه رجل إذا صلى وقرأ ما جاء به محمد يرق وكانت له هيئة ونحو فنحن نتخوف على صبياننا ونسائنا وضعفتنا أن يفتنهم فائته فأمره أن يدخل بيته فليصنع فيه ما شاء
فمشى ابن الدغنة فقال يا أبا بكر إني لم أجرك لتؤذي قومك إنهم قد كرهوا مكانك الذي أنت به وتأذوا بذلك منك فادخل بيتك فاصنع فيه ما أحببت
قال أو أرد عليك جوارك وأرضي بجوار الله
قال فاردد علي جواري قال قد رددته عليك
فقام ابن الدغنة فقال يا معشر قريش إن ابن أبي قحافة قد رد علي جواري فشأنكم بصاحبكم
وعن القاسم بن محمد أن أبا بكر لقيه سفيه من سفهاء قريش وهو عامد إلى الكعبة فحثا على رأسه التراب فمر الوليد بن المغيرة أو العاص بن وائل فقال أبو بكر ألا ترى ما يصنع هذا السفيه قال أنت فعلت هذا بنفسك وهو يقول أي رب ما أحلمك أي رب ما أحلمك
قال ابن إسحاق ثم إنه قام في نقض الصحيفة التي تكاتبت فيها قريش على بني هاشم وبني المطلب نفر من قريش ولم يبل أحد فيها أحسن من بلاء
هشام بن عمرو بن الحارث بن حبيب بن نصر بن مالك بن حسل وذلك أنه كان ابن أخي نضلة بن هاشم بن عبد مناف لأمه فكان هشام لبني هشام واصلا وكان ذا شرف في قومه فكان فيما بلغني يأتي ليلا بالبعير قد أوقره طعاما حتى إذا أقبله في فم الشعب خلع خطامه من رأسه ثم ضرب على جنبه ليدخل الشعب عليهم ويأتي به قد أوقره برا فيفعل به مثل ذلك
(1/205)
ثم إنه مشى إلى زهير بن أمية بن المغيرة وأمه عاتكة بنت عبد المطلب فقال يا زهير أرضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء وأخوالك حيث قد عملت لا يباعون ولا يبتاع منهم ولا ينكحون ولا ينكح إليهم أما إني أحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام ثم عودته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبدا
فقال ويحك يا هشام فماذا أصنع إنما أنا رجل واحد والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها حتى أنقضها قال قد وجدت رجلا قال من هو قال أنا قال له زهير ابغنا ثالثا
فذهب إلي المطعم بن عدي فقال له يا مطعم أرضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم سراعا قال ويحك فماذا أصنع إنما أنا رجل واحد قال قد وجدت ثانيا قال من هو قال أنا قال أبغنا ثالثا قال قد فعلت قال من هو قال زهير بن أبي أمية قال ابغنا رابعا
فذهب إلى أبي البختري بن هشام فقال له نحوا مما قال للمطعم بن عدي فقال وهل من أحد يعين على هذا قال نعم قال من هو قال زهير بن أبي أمية والمطعم بن عدي وأنا معك قال ابغنا خامسا
فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد فكلمه وذكر له قرابتهم ومكانهم فقال وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد قال نعم ثم سمى له القوم
فاتعدوا خطم الحجون ليلا بأعلى مكة فاجتمعوا هنالك فأجمعوا أمرهم وتعاهدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها وقال زهير أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم
فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم وغدا زهير عليه حلة فطاف بالبيت سبعا ثم أقبل على الناس فقال يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يباعون ولا يبتاع منهم والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة
قال أبو جهل وكان في ناحية المسجد كذبت والله لا تشق
(1/206)
قال زمعة بن الأسود أنت والله أكذب ما رضينا كتابتها حين كتبت قال أبو البختري صدق زمعة لا نرضى ما كتب فيها ولا نقر به قال المطعم بن عدي صدقتما وكذب من قال غير ذلك نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك
فقال أبو جهل هذا أمر قضي بليل تشوور فيه بغير هذا المكان
وأبو طالب جالس في ناحية المسجد وقام المطعم إلى الصحيفة ليشقها فوجد الأرضة قد أكلتها إلا باسمك اللهم
وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة فشلت يده فيما يزعمون
وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال لأبي طالب يا عم إن الله قد سلط الأرضة على صحيفة قريش فلم تدع فيها اسما هو الله إلا أثبتته ونفت منها القطيعة والظلم والبهتان قال أربك أخبرك بهذا قال نعم قال فوالله ما يدخل عليك أحد ثم خرج إلى قريش فقال يا معشر قريش إن ابن أخي أخبرني بكذا وكذا فهلم صحيفتكم فإن كانت كما قال فانتهوا عن قطيعتنا
وإن كان كاذبا دفعت إليكم ابن أخي قال القوم رضينا فتعاقدوا على ذلك ثم نظروا فإذا هي كما قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فزادهم ذلك شرا فعند ذلك صنع الرهط من قريش في نقض الصحيفة ما صنعوا
قال ابن إسحاق فلما مزقت الصحيفة وبطل ما فيها قال أبو طالب فيما كان من أمر أولئك الذين قاموا في نقضها يمدحهم
ألا هل أتي بحرينا صنع ربنا
على نأيهم والله بالناس أرود
فنخبرهم أن الصحيفة مزقت
وأن كل ما لم يرضه الله مفسد
تراوحها إفك وسحر مجمع
ولم يلف سحر آخر الدهر يصعد
جزى الله رهطا بالحجون تتابعوا
على ملأ يهدي لحزم ويرشد
قعودا لدى خطم الحجون كأنهم
مقاولة بل هم أعز وأمجد
أعان عليها كل صقر كأنه
إذا ما مشى في رفرف الدرع أحرد
جري على جل الخطوب كأنه
شهاب بكفي قابس يتوقد
من الأكرمين من لؤي بن غالب
إذا سيم خسفا وجهه يتربد
طويل النجاد خارج نصف ساقه
على وجهه نسقى الغمام ونسعد
عظيم الرماد سيد وابن سيد
يحض على مقري الضيوف ويحشد
ويبني لأفياء العشيرة صالحا
(1/207)
إذا نحن طفنا في البلاد ويمهد
ألظ بهذا الصلح كل مبرا
عظيم اللواء أمره ثم يحمد
قضوا ما قضوا في ليلهم ثم أصبحوا
على مهل وسائر الناس رقد
هم رجعوا سهل بن بيضاء راضيا
وسر أبو بكر بها ومحمد
متى شرك الأقوام في جل أمرنا
وكنا قديما قبلها نتودد
كنا قديما لا نقر ظلامة
وندرك ما شئنا ولا نتشدد
فيا لقصي هل لكم في نفوسكم
وهل لكم فيما يجيء به غد
فإني وإياكم كما قال قائل
لديك البيان لو تكلمت أسود
الطويل
أسود هنا اسم جبل كان قتل فيه قتيل لم يعرف قاتله فقال أولياء المقتول هذه المقالة يعنون بها أن هذا الجبل لو تكلم لأبان عن القاتل ولعرف بالجاني ولكنه لا يتكلم فذهبت مقالتهم تلك مثلا
قال ابن إسحاق فكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على ما يرى من قومه يبذل لهم النصيحة ويدعوهم إلى النجاة مما هم فيه وجعلت قريش حين منعه الله منهم يحذرونه الناس ومن قدم عليهم من العرب
فكان طفيل بن عمرو الدوسي وكان رجلا شريفا شاعرا لبيبا يحدث أنه قدم مكة ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} بها فمشى إليه رجال من قريش فقالوا له يا طفيل إنك قدمت بلادنا وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا فرق جماعتنا وشتت أمرنا وإنما قوله كالسحر يفرق به بين الرجل وبين أبيه وبين الرجل وبين أخيه وبين الرجل وبين زوجته وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا فلا تكلمنه ولا تسمعن منه
قال فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئا ولا أكلمه حتى حشوت في أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا فرقا من أن يبلغني شيء من قوله وأنا لا أريد أن أسمعه
قال فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قائم يصلي عند الكعبة فقمت قريبا منه فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله فسمعت كلاما حسنا فقلت في نفسي واثكل أمي والله إني لرجل لبيب شاعر وما يخفى علي الحسن من القبيح فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلته وإن كان قبيحا تركته
(1/208)
فمكثت حتى انصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى بيته فاتبعته حتى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت يا محمد إن قومك قالوا لي كذا وكذا فوالله ما برحوا يخوفونني
أمرك حتى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك ثم أبى الله إلا أن يسمعني فسمعت قولا حسنا فاعرض علي أمرك
فعرض علي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الإسلام وتلا علي القرآن فلا والله ما سمعت قولا قط أحسن منه ولا أمرا أعدل منه فأسلمت وشهدت شهادة الحق وقلت يا نبي الله إني امرؤ مطاع في قومي وإني راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام فادع الله أن يجعل لي آية تكون لي عونا عليهم فيما أدعوهم إليه فقال اللهم اجعل له آية
فخرجت إلى قومي حتى إذا كنت على ثنية تطلعني على الحاضر وقع نور بين عيني مثل المصباح قلت اللهم في غير وجهي إني أخشى أن يظنوا أنها مثلة وقعت في وجهي لفراقي دينهم قال فتحول فوقع في رأس سوطي فجعل أهل الحاضر يتراءون ذلك النور في سوطي كالقنديل المعلق وأنا أهبط إليهم من الثنية حتى جئتهم
فلما نزلت أتاني أبي وكان شيخا كبيرا فقلت إليك عني يا أبه فلست منك ولست مني قال لم يا بني قلت أسلمت وتابعت دين محمد قال أي بني فديني دينك فقلت فاذهب فاغتسل وطهر ثيابك ثم تعال حتى أعلمك ما علمت فذهب فاغتسل وطهر ثيابه ثم جاء فعرضت عليه الإسلام فأسلم
ثم أتتني صاحبتي فقلت لها إليك عني فلست منك ولست مني قالت لم بأبي أنت وأمي قلت فرق بيني وبينك الإسلام وتابعت دين محمد قالت فديني دينك قلت فاذهبي إلى حنا ذي الشري قال ابن هشام ويقال حمى ذي الشرى فتطهري منه وكان ذو الشري صنما لدوس والحنا حمى حموه له به وشل من ماء يهبط من جبل فقالت بأبي أنت وأمي أتخشى على الصبية من ذي الشري شيئا قلت لا أنا ضامن لذلك فذهبت فاغتسلت ثم جاءت فعرضت عليها الإسلام فأسلمت
ثم دعوت دوسا إلى الإسلام فأبطأوا علي ثم جئت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بمكة فقلت
(1/209)
يا نبي الله إنه غلبني على دوس الزنا فادع الله عليهم فقال اللهم اهد دوسا ارجع إلى قومك فادعهم وارفق بهم
فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإسلام حتى هاجر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق ثم قدمت إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بمن أسلم معي من قومي ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} بخيبر حتى نزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتا من دوس ثم لحقنا برسول الله {صلى الله عليه وسلم} بخيبر فأسهم لنا مع المسلمين
ثم لم أزل مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى فتح الله عليه مكة قلت يا رسول الله ابعثني إلى ذي الكفين صنم عمرو بن حممة حتى أحرقه
قال ابن إسحاق فخرج إليه فجعل وهو يوقد عليه النار يقول
يا ذا الكفين لست من عبادكا
ميلادنا أقدم من ميلادكا
إني حشوت النار في فؤادكا
الرجز
ثم رجع فكان بالمدينة حتى قبض الله رسوله فلما ارتدت العرب خرج مع المسلمين فسار معهم حتى فرغوا من طليحة ومن أرض نجد كلها ثم سار مع المسلمين إلى اليمامة ومعه ابنه عمرو بن الطفيل فرأى رؤيا وهو متوجه إلى اليمامة فقال لأصحابه إني قد رأيت رؤيا فاعبروها لي رأيت أن رأسي حلق وأنه خرج من فمي طائر وأنه لقيتني امرأة فأدخلتني في فرجها وأرى ابني يطلبني طلبا حثيثا ثم رأيته حبس عني
قالوا خيرا قال أما أنا والله فقد أولتها قالوا ماذا قال أما حلق رأسي فوضعه وأما الطائر الذي خرج من فمي فروحي وأما المرأة التي أدخلتني في فرجها فالأرض تحفر لي وأغيب فيها وأما طلب ابني إياي ثم حبسه عني فإني أراه سيجهد أن يصيبه ما أصابني
فقتل رحمه الله شهيدا باليمامة وجرح ابنه جراحة شديدة ثم استقل منها ثم قتل
عام اليرموك في زمان عمر شهيدا
وذكر ابن هشام أن أعشى بني قيس بن ثعلبة خرج إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يريد الإسلام وقال قصيدة يمدحه فيها نذكرها بعد
(1/210)
فلما كان بمكة أو قريبا منها اعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره فأخبره أنه جاء يريد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ليسلم فقال له يا أبا بصير إنه يحرم الزنا فقال الأعشى والله إن ذلك لأمر مالي فيه من أرب فقال يا أبا بصير فإنه يحرم الخمر فقال أما هذه فوالله إن في النفس منها لعلالات ولكني منصرف فأتروى منها عامي هذا ثم آتيه فأسلم
فانصرف فمات في عامه ذلك ولم يعد إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
هذا ما ذكر ابن هشام في قصة الأعشى وظاهره يقتضي أن قصده كان إلى مكة وأن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيها حينئذ لم يهاجر بعد
ويعارض هذا الظاهر ما ذكر من تحريم الخمر فإن أهل النقل مجمعون على أن الخمر إنما حرمت بالمدينة بعد أن مضى بدر وأحد ونزل تحريمها في سورة المائدة وهي من آخر ما نزل من القرآن فإن صح أن خروج الأعشى كان قبل الهجرة كما في ظاهر الخبر فلعل المشرك الذي لقيه وأخبره عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بتحريم الخمر أراد بهذا القول تنفيره عن الإسلام وإبعاده عنه مع ما كان من كراهية رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أبدا للخمر وتنزيه الله إياه عنها
ألا تراه ليلة الإسراء لما عرضت عليه آنية الخمر واللبن اختار اللبن فقيل له هديت للفطرة لو أخذت الخمر غوت أمتك والإسراء إنما كان بمكة في صدر الإسلام
وقد يمكن أن يكون قصد الأعشى إلى المدينة بعد الهجرة وبعد تحريم الخمر فتلقاه بعض المشركين من قريش ممن لم يكن أسلم بعد
ولعل هذا هو الأولى بدليل قوله في قصيدته الآتية بعد
ألا أيهذا السائلي أين يممت
فإن لها في أهل يثرب موعدا
والله أعلم بالحقيقة في ذلك كله
والقصيدة التي مدح بها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} هي قوله
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا
وبت كما بات السليم مسهدا
وما ذاك من عشق النساء وإنما
تناسيت قبل اليوم خلة مهددا
ولكن أرى الدهر الذي هو خائن
إذا أصلحت كفاي عاد فأفسدا
كهولا وشبانا فقدت وثروة
فلله هذا الدهر كيف ترددا
وما زلت أبغي المال مذ أنا يافع
وليدا وكهلا حين شبت وأمردا
وأبتذل العيس المراقيل تعتلى
(1/211)
مسافة ما بين النجير فصرخدا
ألا أيهذا السائلي أين يممت
فإن لها في أهل يثرب موعدا
فإن تسألي عني فيا رب سائل
حفي عن الأعشى به حيث أصعدا
أجدت برجليها النجاء وراجعت
يداها خنافا لينا غير أحردا
وفيها إذا ما هجرت عجرفية
إذا خلت حرباء الظهيرة أصيدا
وآليت لا آوي لها من كلالة
ولا من حفى حتى تلاقي محمدا
متى ما تناخي عند باب ابن هاشم
تراحي وتلقى من فواضله ندا
نبيا يرى ما لا ترون وذكره
أغار لعمرى في البلاد وأنجدا
له صدقات ما تغب ونائل
وليس عطاء اليوم مانعه غدا
أجدك لم تسمع وصاة محمد
نبي الإله حين أوصى وأشهدا
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى
ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله
فترصد للموت الذي كان أرصدا
فإياك والميتات لا تقربنها
ولا تأخذن سهما حديدا لتقصدا
وذا النصب المنصوب لا تسكننه
ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا
ولا تقربن حرة كان سرها
عليك حراما فانكحن أو تأبدا
وذا الرحم القربى فلا تقطعنه
لعاقبة ولا الأسير المقيدا
وسبح على حين العشيات والضحى
ولا تحمد الشيطان والله فاحمدا
ولا تسخرن من بائس ذي ضرارة
ولا تحسبن المال للمرء مخلدا
الطويل
قال ابن إسحاق وقد كان عدو الله أبو جهل مع عداوته رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وبغضه إياه يذله الله إذا رآه
حدثني عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان الثقفي وكان واعية قال قدم رجل من إراش بإبل له مكة فابتاعها منه أبو جهل فمطله بأثمانها فأقبل الإراشي حتى وقف على ناد من قريش ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} جالس في ناحية المسجد فقال يا معشر قريش من رجل يؤديني على أبي الحكم بن هشام فإني غريب ابن سبيل وقد غلبني على حقي
فقال له أهل ذلك المجلس أترى ذلك الرجل لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} يهزأون به لما يعلمون بينه وبين أبي جهل من العداوة اذهب إليه فهو يؤديك عليه
(1/212)
فأقبل الإراشي حتى وقف على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال يا عبد الله إن أبا الحكم بن هشام غلبني على حق لي قبله وأنا غريب ابن سبيل وقد سألت هؤلاء القوم عن رجل يؤديني عليه يأخذ لي حقي منه فأشاروا لي إليك فخذ لي حقي منه يرحمك الله
قال انطلق إليه وقام معه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلما رأوه قام معه قالوا لرجل ممن معهم اتبعه فأنظر ما يصنع
قال وخرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى جاءه فضرب عليه بابه فقال من هذا فقال محمد فاخرج إلي فخرج إليه وما في وجهه من رائحة لقد انتقع لونه فقال أعط هذا حقه قال نعم لا يبرح حتى أعطيه الذي له
فدخل فخرج إليه بحقه فدفعه إليه فأقبل الإراشي حتى وقف على ذلك
المجلس فقال جزاه الله خيرا فقد والله أخذ لي حقي
وجاء الرجل الذي بعثوا معه فقالوا ويحك ماذا رأيت
قال عجبا من العجب والله ما هو إلا أن ضرب عليه بابه فخرج إليه وما معه روحه فقال أعط هذا الرجل حقه قال نعم لا يبرح حتى أخرج إليه حقه فدخل فخرج إليه بحقه فأعطاه إياه
ثم لم يلبث أبو جهل أن جاء فقالوا ويلك ما لك والله ما رأينا مثل ما صنعت قط
قال ويحكم والله ما هو إلا أن ضرب علي بابي وسمعت صوته فملئت رعبا ثم خرجت إليه وإن فوق رأسه لفحلا من الإبل ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قط والله لو أبيت لأكلني
وذكر الواقدي عن يزيد بن رومان قال بينا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} جالسا في المسجد معه رجال من أصحابه أقبل رجل من بني زبيد يقول يا معشر قريش كيف تدخل عليكم المادة أو يجلب إليكم جلب أو يحل تاجر بساحتكم وأنتم تظلمون من دخل عليكم في حرمكم يقف على الحلق حلقة حلقة
حتى انتهى إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في أصحابه فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ومن ظلمك فذكر أنه قدم بثلاثة أجمال كانت خيرة إبله فسامه أبو جهل ثلث أثمانها ثم لم يسمه بها لأجله سائم قال فأكسد علي سلعتي وظلمني قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأين أجمالك قال هي هذه بالحزورة
(1/213)
فقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} معه وقام أصحابه فنظر إلى الجمال فرأى جمالا فرها فساوم الزبيدي حتى ألحقه برضاه فأخذها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فباع جملين منها بالثمن وأفضل بعيرا باعه وأعطى أرامل بني عبد المطلب ثمنه وأبو جهل جالس في ناحية من السوق لا يتكلم
ثم أقبل إليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال يا عمرو إياك أن تعود لمثل ما صنعت بهذا الأعرابي فترى مني ما تكره فجعل يقول لا أعود يا محمد لا أعود يا محمد
فانصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأقبل عليه أمية بن خلف ومن حضر من القوم فقالوا ذللت في يدي محمد فإما أن تكون تريد أن تتبعه وإما رعب دخلك منه قال لا أتبعه أبدا إن الذي رأيتم مني لما رأيت معه لقد رأيت رجالا عن يمينه وشماله معهم رماح يشرعونها إلي لو خالفته لكانت إياها أي لأتوا على نفسي
وذكر محمد بن إسحاق عن أبيه قال كان ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب أشد قريش فخلا يوما برسول الله {صلى الله عليه وسلم} في بعض شعاب مكة فقال له يا ركانة ألا تتقي الله وتقبل ما أدعوك إليه قال لو أعلم أن الذي تقول حق لاتبعتك فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أفرأيت إن صرعتك أتعلم أن ما أقول حق قال نعم قال فقم حتى أصارعك فقام إليه ركانة فصارعه فلما بطش به رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أضجعه لا يملك من نفسه شيا
ثم قال عد يا محمد فعاد فصرعه فقال يا محمد إن ذا للعجب أتصرعني قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأعجب من ذلك إن شئت أن أريكه إن اتقيت الله واتبعت أمري
قال ما هو قال أدعو لك هذه الشجرة التي ترى فتأتيني قال ادعها فدعا بها فأقبلت حتى وقفت بين يدي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال لها ارجعي إلى مكانك فرجعت إلى مكانها
فذهب ركانة إلى قومه فقال يا بني عبد مناف ساحروا بصاحبكم أهل الأرض فوالله ما رأيت أسحر منه قط ثم أخبرهم بالذي رأى وصنع
قال ابن إسحاق ثم قدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو بمكة عشرون رجلا أو قريبا من ذلك من النصارى يقال إنهم من أهل نجران حين بلغهم خبره من الحبشة
(1/214)
فوجدوه في المسجد فجلسوا إليه وكلموه وسألوه ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة فلما فرغوا من مسألة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عما أرادوا دعاهم إلى الله وتلا عليهم القرآن فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره
فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش فقالوا لهم خيبكم الله من ركب بعثكم من وراءكم من أهل دينكم لتأتوهم بخبر الرجل فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه ما نعلم ركبا أحمق منكم أو كما قالوا
فقالوا لهم سلام عليكم لا نجاهلكم لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه لم نأل أنفسنا خيرا
فيقال والله أعلم فيهم نزلت هؤلاء الآيات الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين إلى قوله لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين ( القصص 52 - 55 )
فقال وقد سألت الزهري فقال ما زلت أسمع من علمائنا أنهن نزلن في النجاشي وأصحابه والآيات من المائدة قول عز وجل ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ( المائدة 82 - 83 )
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إذا جلس في المسجد فجلس إليه المستضعفون من أصحابه خباب وعمار وأبو فكيهة يسار وصهيب وأشبائهم هزئت بهم قريش وقال بعضهم لبعض هؤلاء أصحابه كما ترون أهؤلاء من الله عليهم من بيننا
بالهدى والحق لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقنا هؤلاء إليه وما خصهم الله به دوننا
(1/215)
فأنزل الله فيهم ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم ( الأنعام 52 - 54 )
وهؤلاء أيضا ومن قال بقولهم هم الذين عنى الله سبحانه بقوله وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم ( الاحقاف 11 )
قال ابن إسحاق وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما بلغني كثيرا ما يجلس عند المروة إلى مبيعة غلام نصراني يقال له جبر عبد لبني الحضرمي وكانوا يقولون والله ما يعلم محمد كثيرا مما يأتي به إلا جبر النصراني فأنزل الله في ذلك من قولهم إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ( النحل 103 )
وكان العاص بن وائل إذا ذكر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال دعوه فإنما هو رجل أبتر لو قد مات لقد انقطع ذكره واسترحتم منه فأنزل الله عز وجل في ذلك من قوله إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شأنئك هو الأبتر ( سورة الكوثر ) أي أعطيناك ما هو خير من الدنيا وما فيها والكوثر العظيم وقيل لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما الكوثر الذي أعطاك الله قال نهر كما بين
صنعاء إلى أيلة آنيته كعدد نجوم السماء ترده طير لها أعناق كأعناق الإبل قال عمر بن الخطاب إنها يا رسول الله لناعمة قال آكلها أنعم منها
(1/216)
ودعا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قوما إلى الإسلام فقال له زمعة بن الأسود والنضر بن الحارث والأسود بن عبد يغوث وأبي بن خلف والعاص بن وائل لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويرى معك فأنزل الله في ذلك وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضى الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ( الأنعام 8 - 49 )
ومر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالوليد بن المغيرة وأمية بن خلف وأبي جهل فهمزوه واستهزأوا به فغاظه ذلك فأنزل الله عليه ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ( الأنعام 10 )
ذكر الحديث عن مسرى رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
قال ابن إسحاق ثم أسري برسول الله {صلى الله عليه وسلم} من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وهو بيت المقدس من إيلياء وقد فشا الإسلام بمكة في قريش وفي القبائل كلها
فكان من الحديث فيما بلغني عن مسراه {صلى الله عليه وسلم} عن عبد الله بن مسعود وأبي سعيد الخدري وعائشة زوج النبي {صلى الله عليه وسلم} ومعاوية بن أبي سفيان وأم هانئ بنت أبي طالب والحسن بن أبي الحسن وابن شهاب الزهري وقتادة وغيرهم من أهل العلم ما اجتمع في هذا الحديث كل يحدث عنه بعض ما ذكر من أمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين أسري به
وكان في مسراه وما ذكر منه بلاء وتمحيص وأمر من الله في قدرته وسلطانه فيه عبرة لأولى الألباب وهدى ورحمة وثبات لمن آمن وصدق
وكان من أمر الله على يقين فأسري به كيف شاء وكما شاء ليريه من آياته ما أراد حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم وقدرته التي يصنع بها ما يريد
فكان عبد الله بن مسعود فيما بلغني عنه يقول أتي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالبراق وهي الدابة التي كانت تحمل عليها الأنبياء قبله تضع حافرها في منتهى طرفها فحمل عليه ثم خرج به صاحبه يرى الآيات فيما بين السموات والأرض حتى انتهى إلى بيت المقدس فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء
(1/217)
عليهم السلام قد جمعوا له فصلى بهم ثم أتي بثلاثة آنية إناء فيه لبن وإناء فيه خمر وإناء فيه ماء قال فسمعت قائلا يقول إن أخذ الماء فغرق وغرقت أمته وإن أخذ الخمر فغوى وغوت أمته وإن أخذ اللبن هدي وهديت أمته
قال فأخذت إناء اللبن فشربت فقال له جبريل هديت وهديت أمتك يا محمد
قال وحدثت عن الحسن أنه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بينا أنا نائم في الحجر جاءني جبريل فهمزني بقدمه فجلست فلم أر شيئا فعدت لمضجعي فجاءني الثانية فهمزني بقدمه فجلست فلم أر شيئا فعدت لمضجعي فجاءني الثالثة فهمزني بقدمه فجلست فأخذ بعضدي فقمت معه فخرج بي إلى باب المسجد فإذا دابة أبيض بين البغل والحمار في فخذيه جناحان يحفز بهما رجليه
يضع يديه في منتهي طرفه فحملني عليه ثم خرج معي لا يفوتني ولا أفوته
وفي حديث قتادة أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال لما دنوت منه لأركبه شمش فوضع جبريل يده على معرفته ثم قال ألا تستحي يا براق مما تصنع فوالله ما ركبك عبد لله قبل محمد أكرم عليه منه فاستحيا حتى ارفض عرقا ثم قر حتى ركبته
وفي حديث الحسن من انتهاء جبريل بالنبي {صلى الله عليه وسلم} إلى بيت المقدس وإمامته فيه بمن وجد عنده من الأنبياء على جميعهم السلام نحو ما تقدم من ذلك في حديث ابن مسعود
قال ثم أتي بإناءين في أحدهما خمر وفي الآخر لبن فأخذ إناء اللبن وترك إناء الخمر فقال له جبريل هديت للفطرة وهديت أمتك وحرمت عليكم الخمر
وذكر تحريم الخمر هنا غريب جدا والذي عليه العلماء أن الخمر إنما حرمت بالمدينة بعد سنين من الهجرة
قال الحسن ثم انصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى مكة فلما أصبح غدا على قريش فأخبرهم الخبر فقال أكثر الناس هذا والله الإمر البين والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة وشهرا مقبلة أفيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة
(1/218)
قال فارتد كثير ممن كان أسلم وذهب الناس إلى أبي بكر فقالوا هل لك يا أبا بكر في صاحبك يزعم أنه جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة فقال لهم أبو بكر إنكم تكذبون عليه فقالوا بلى ها هو ذاك في المسجد يحدث به الناس
فقال أبو بكر والله لئن كان قاله لقد صدق فما يعجبكم من ذلك فوالله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه فهذا أبعد مما تعجبون منه
ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال يا نبي الله أحدثت هؤلاء أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة قال نعم قال يا نبي الله فصفه لي فإني قد جئته
قال الحسن فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فرفع لي حتى نظرت إليه فجعل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يصفه لأبي بكر ويقول أبو بكر صدقت أشهد أنك رسول الله كلما وصف له منه شيئا قال صدقت أشهد أنك رسول الله
حتى إذا انتهى قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لأبي بكر وأنت يا أبا بكر الصديق فيومئذ سماه الصديق
قال الحسن وأنزل الله فيمن ارتد عن إسلامه لذلك وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا ( الاسراء 60 )
فهذا حديث الحسن عن مسرى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وما دخل فيه من حديث قتادة
قال ابن إسحاق وحدثني بعض آل أبي بكر أن عائشة كانت تقول ما فقد جسد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ولكن الله أسري بروحه
وكان معاوية بن أبي سفيان إذا سئل عن مسرى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال كانت رؤيا من الله صادقة
فلم ينكر ذلك من قولهما لقول الحسن إن هذه الآية نزلت في ذلك قول الله وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ولقوله تعالى في الخبر عن إبراهيم إذ قال لابنه يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك ( الصافات 102 9 ثم مضى على ذلك فعرفت أن الوحي من الله يأتي الأنبياء أيقاظا ونياما
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول تنام عيني وقلبي يقظان
(1/219)
فالله أعلم أي ذلك كان قد جاءه وعاين فيه ما عاين من أمر الله على أي حاليه كان نائما أو يقظان كل ذلك حق وصدق
وزعم الزهري عن سعيد بن المسيب أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وصف لأصحابه إبراهيم وموسى وعيسى حين رآهم في تلك الليلة صلوات الله على جميعهم فقال أما إبراهيم فلم أر رجلا أشبه بصاحبكم ولا صاحبكم أشبه به منه وأما موسى فرجل آدم طويل ضرب جعد أقنى كأنه من رجال شنوءة وأما عيسى ابن مريم فرجل أحمر بين القصير والطويل سبط الشعر كثير خيلان الوجه كأنه خرج من ديماس تخال رأسه يقطر ماء وليس فيه ماء أشبه رجالكم به عروة بن مسعود الثقفي
قال ابن هشام وكانت صفة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما ذكر عمر مولى غفرة عن
إبراهيم بن محمد بن علي بن أبي طالب قال كان علي إذا نعت النبي {صلى الله عليه وسلم} يقول لم يكن بالطويل الممغط ولا القصير المتردد كان ربعة من القوم ولم يكن بالجعد القطط ولا بالسبط كان جعدا رجلا ولم يكن بالمطهم ولا بالمكلثم وكان أبيض مشربا أدعج العينين أهدب الأشفار جليل المشاش والكند دقيق المسربة أجرد شثن الكفين والقدمين إذا تمشى تقلع كأنما يمشي في صبب وإذا التفت التفت معا بين كتفيه خاتم النبوة وهو {صلى الله عليه وسلم} خاتم النبيين أجود الناس كفا وأجرأ الناس صدرا وأصدق الناس لهجة وأوفى الناس بذمة وألينهم عريكة وأكرمهم عشرة من رآه بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه يقول ناعته لم أر قبله ولا بعده مثله {صلى الله عليه وسلم}
قال ابن إسحاق وكان فيما بلغني عن أم هانئ بنت أبي طالب أنها كانت تقول ما أسري برسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلا وهو في بيتي نام عندي تلك الليلة فصلى العشاء الآخرة ثم نام ونمنا فلما كان قبيل الفجر أهبنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلما صلى الصبح وصلينا معه قال يا أم هانئ لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ثم قد صليت معكم صلاة الغداة الآن كما ترين
(1/220)
ثم قام ليخرج فأخذت بطرف ردائه فتكشف عن بطنه وكأنه قبطية مطوية فقلت يا نبي الله لا تحدث بهذا الناس فيكذبوك ويؤذوك قال والله لأحدثنهموه فقلت لجارية لي حبشية ويحك اتبعي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى تسمعي ما يقول للناس وما يقولون له
فلما خرج إلى الناس أخبرهم فعجبوا وقالوا ما آية ذلك يا محمد فإنا لم نسمع بمثل هذا قط قال آية ذلك أنى مررت بعير بني فلان بوادي كذا
فأنفرهم حس الدابة فند لهم بعير فدللتهم عليه وأنا موجه إلى الشام ثم أقبلت حتى إذا كنت بضجنان مررت بعير بني فلان فوجدت القوم نياما ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشيء فكشفت غطاءه وشربت ما فيه ثم غطيت عليه كما كان وآية ذلك أن عيرهم الآن تصوب من البيضاء ثنية التنعيم يقدمها جمل أورق عليه غرارتان إحداهما سوداء والأخرى برقاء
فابتدر القوم الثنية فلم يلقهم أول من الجمل كما وصف لهم وسألوهم عن الإناء فأخبروهم أنهم وضعوه مملوء ماء ثم غطوه وأنهم هبوا فوجدوه مغطى كما غطوا ولم يجدوا فيه ماء وسألوا الآخرين وهم بمكة فقالوا صدق والله لقد أنفرنا في الوادي الذي ذكر وند لنا بعير فسمعنا صوت رجل يدعونا إليه حتى أخذناه
قال ابن إسحاق وحدثني من لا أتهم عن أبي سعيد الخدري أنه قال سمعت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول لما فرغت مما كان في بيت المقدس أتي بالمعراج ولم أر شيئا قط أحسن منه وهو الذي يمد إليه ميتكم عينيه إذا حضر
فأصعدني صاحبي فيه حتى انتهى بي إلى باب من أبواب السماء يقال له باب الحفظة عليه ملك من الملائكة يقال له إسماعيل تحت يديه اثنا عشر ألف ملك تحت يدي كل ملك منهم اثنا عشر ألف ملك
يقول رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين حدث بهذا الحديث وما يعلم جنود ربك إلا هو ( المدثر 31 )
فلما دخل بي قال من هذا يا جبريل قال محمد قال أو قد بعث قال نعم فدعا لي بخير وقاله
قال وحدثني بعض أهل العلم عمن حدثه عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنه قال ثم
(1/221)
تلقتني الملائكة حين دخلت السماء الدنيا فلم يلقني ملك إلا ضاحكا مستبشرا يقول خيرا ويدعو به حتى لقيني ملك من الملائكة فقال مثل ما قالوا ودعا بمثل ما دعوا به إلا أنه لم يضحك ولم أر منه من البشر مثل ما رأيت من غيره فقلت لجبريل من هذا الملك الذي قال لي مثل ما قالت الملائكة ولم يضحك ولم أر منه من البشر مثل الذي رأيت منهم فقال جبريل أما إنه لو كان ضحك إلى أحد قبلك أو كان ضاحكا إلى أحد بعدك لضحك إليك ولكنه لا يضحك هذا مالك صاحب النار
قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقلت لجبريل وهو من الله بالمكان الذي وصف لكم مطاع ثم أمين ( التكوير 21 ) ألا تأمره أن يريني النار فقال بلى يا مالك أر محمدا النار فكشف عنها غطاءها ففارت وارتفعت حتى ظننت لتأخذ ما أرى
فقلت لجبريل مره فليردها إلى مكانها فأمره فقال لها اخبي فرجعت إلى مكانها الذي خرجت منه فما شبهت رجوعها إلا وقوع الظل حتى إذا دخلت من حيث خرجت رد عليها غطاءها
قال أبو سعيد الخدري في حديثه عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قل لما دخلت السماء الدنيا رأيت بها رجلا جالسا تعرض عليه أرواح بني آدم فيقول لبعضها إذا عرضت عليه خيرا ويسر به ويقول روح طيبة خرجت من جسد طيب ويقول لبعضها إذا عرضت عليه أف ويعبس بوجهه روح خبيثة خرجت من جسد خبيث
قال قلت من هذا يا جبريل قال هذا أبوك آدم تعرض عليه أرواح ذريته فإذا مرت به روح المؤمن منهم سر بها وإذا مرت به روح الكافر منهم أنف منها وكرهها
قال ثم رأيت رجالا لهم مشافر كمشافر الإبل في أيديهم قطع من نار
كالأفهار يقذفونها في أفواههم فتخرج من أدبارهم قلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء أكلة أموال اليتامى ظلما
ثم رأيت رجلا لهم بطون لم أر مثلها قط بسبيل آل فرعون يمرون عليهم كلإبل المهيومة حتى يعرضوا على النار يطأونهم لا يقدرون على أن يتحولوا من مكانهم ذلك قلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء أكلة الربا
(1/222)
ثم رأيت رجالا بين أيديهم لحم سمين طيب إلى جنبه لحم غث منتن يأكلون من الغث المنتن ويتركون السمين الطيب قلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء الذين يتركون ما أحل الله لهم من النساء ويذهبون إلى ما حرم الله عليهم منهن
ثم رأيت نساء معلقات بثديهن فقلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء اللاتي أدخلن على الرجال من ليس من أولادهم
قال ثم صعد بي إلى السماء الثانية فإذا فيها ابنا الخالة عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا
قال ثم أصعد بي إلى السماء الثالثة فإذا فيها رجل صورته كصورة القمر ليلة البدر قلت من هذا يا جبريل قال هذا أخوك يوسف بن يعقوب ثم أصعد بي إلى السماء الرابعة فإذا فيها رجل فسألته من هو فقال هذا إدريس قال يقول رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ورفعناه مكانا عليا ( مريم 57 )
قال ثم أصعد بي إلى السماء الخامسة فإذا فيها كهل أبيض الرأس واللحية عظيم العثنون لم أر كهلا أجمل منه قلت من هذا يا جبريل قال هذا المحبب في قومه هارون بن عمران
قال ثم أصعد بي إلى السماء السادسة فإذا فيها رجل آدم طويل أقني كأنه من رجال شنوءة فقلت من هذا جبريل قال هذا أخوك موسى بن عمران
ثم أصعد بي إلى السماء السابعة فإذا كهل جالس على كرسي إلى باب البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يرجعون فيه إلى يوم القيامة لم أر
رجلا أشبه بصاحبكم ولا صاحبكم أشبه به منه قلت من هذا يا جبريل قال هذا أبوك إبراهيم
ثم دخل بي الجنة فرأيت فيها جارية لعساء فسألتها لمن أنت وقد أعجبتني فقالت لزيد بن حارثة فبشر بها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} زيدا
ومن حديث عبد الله بن مسعود أن جبريل لم يصعد به إلى سماء من السموات إلا قالوا له حين يستأذن في دخولها من هذا يا جبريل فيقول محمد فيقولون أو قد بعث فيقول نعم فيقولون حياه الله من أخ وصاحب
حتى انتهى به إلى السماء السابعة ثم انتهى به إلى ربه ففرض عليه خمسين صلاة كل يوم
(1/223)
قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأقبلت راجعا فلما مررت بموسى بن عمران ونعم الصاحب كان لكم سألني كم فرض عليك من الصلاة فقلت خمسين صلاة في كل يوم قال إن الصلاة ثقيلة وإن أمتك ضعيفة فارجع إلى ربك فسله أن يخفف عنك وعن أمتك فرجعت فسألت ربي فوضع عني عشرا ثم انصرفت فمررت على موسى فقال لي مثل ذلك فرجعت فسألت ربي فوضع عني عشرا ثم لم يزل يقول لي مثل ذلك كلما رجعت إليه فأرجع فأسأل حتى انتهيت إلى أن وضع عني ذلك إلا خمس صلوات في كل يوم وليلة
ثم رجعت على موسى فقال لي مثل ذلك فقلت قد راجعت ربي وسألته حتى استحييت منه فما أنا بفاعل
فمن أداهن منكم إيمانا واحتسابا لهن كان له أجر خمسين صلاة
قال ابن إسحاق فأقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على أمر الله صابرا محتسبا مؤديا إلى قومه النصيحة على ما يلقي منهم من التكذيب والأذى والاستهزاء وكان عظماء المستهزئين خمسة نفر من قومه وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم
الأسود بن المطلب الأسدي أبو زمعة وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما بلغني قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه به فقال اللهم أعم بصره وأثكله ولده
والأسود بن عبد يغوث الزهري والوليد بن المغيرة المخزومي و العاص بن وائل السهمي والحارث بن الطلاطلة الخزاعي
فلما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله {صلى الله عليه وسلم} الاستهزاء أنزل الله عليه فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون ( الحجر 94 - 96 )
فأتي جبريل عليه السلام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهم يطوفون بالبيت فقام وقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى جنبه فمر به الأسود بن المطلب فرمي في وجهه بورقة خضراء فعمي وسيأتي بعد أنه أصيب له يوم بدر ثلاثة من ولده ابناه زمعة وعقيل وابن ابنه الحارث بن زمعة فاستوفى الله سبحانه بذلك فيه لرسوله {صلى الله عليه وسلم} إجابة دعوته عليه بالعمي والثكل
ثم مر به الأسود بن عبد يغوث فأشار إلى بطنه فاستسقى بطنه فمات منه حبنا
(1/224)
وعن غير ابن إسحاق أنه لما نزل إنا كفيناك المستهزئين ( الحجر 95 ) نزل جبريل عليه السلام فحنا ظهر الأسود بن عبد يغوث الزهري فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خالي خالي فقال له جبريل خله عنك ثم حناه حتى قتله
قال ابن إسحاق ومر به الوليد بن المغيرة فأشار إلى اثر جرح بأسفل كعب رجله أصابه قبل ذلك بسنين وهو يجر سبله فانتقض به فقتله
ومر به العاص بن وائل فأشار إلى أخمص رجله فخرج على حمار له يريد الطائف فربض به على شبرقة فدخلت في أخمص رجله شوكة فقتلته
و مر به الحارث بن الطلاطلة فأشار إلى رأسه فامتخض قيحا فقتله
قال وكان النفر الذين يؤذون رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في بيته أبو لهب والحكم بن أبي العاص بن أمية وعقبة بن أبي معيط وعدي ابن حمراء الثقفي وابن الأصداء الهذلي وكانوا جيرانه لم يسلم أحد منهم إلا الحكم
فكان أحدهم فيما ذكر لي يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلي وكان أحدهم يطرحها في برمته إذا نصبت له حتى اتخذ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حجرا يستتر به منهم إذا صلى
فكان {صلى الله عليه وسلم} إذا طرحوا عليه ذلك الأذى يخرج به على العود فيقف به على بابه ثم يقول يا بني عبد مناف أي جوار هذا ثم يلقيه في الطريق
قال ابن إسحاق ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد فتتابعت على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المصائب بهلك خديجة وكانت له وزير صدق على الإسلام يسكن إليها وبمهلك أبي طالب عمه وكان له عضدا وحرزا في أمره ومنعة وناصرا على قومه وذلك قبل مهاجره إلى المدينة بثلاث سنين
فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ترابا فدخل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بيته والتراب على رأسه فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول لها لا تبكي يا بنية فإن الله مانع أباك ويقول بين ذلك ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب
(1/225)
قال ولما اشتكى أبو طالب وبلغ قريشا ثقله قال بعضها لبعض إن حمزة وعمر قد أسلما وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها فانطلقوا بنا إلى أبي طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه ولنعطه منا فإنا والله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا
فمشوا إلى أبي طالب فكلموه وهم أشراف قومه عتبة وشيبة ابنا ربيعة
وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف وأبو سفيان بن حرب في رجال من أشرافهم فقالوا يا أبا طالب إنك منا حيث قد علمت وقد حضرك ما ترى وتخوفنا عليك وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك فادعه وخذ له منا وخذ لنا منه ليكف عنا ونكف عنه وليدعنا وديننا وندعه ودينه
فبعث إليه أبو طالب فجاءه فقال يا بن أخي هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليعطوك وليأخذوا منك فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نعم كلمة واحدة تعطونيها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم فقال أبو جهل نعم وأبيك وعشر كلمات قال تقولون لا إله إلا الله وتخلعون ما تعبدون من دونه
قال فصفقوا بأيديهم ثم قالوا أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلها واحدا إن أمرك لعجب
ثم قال بعضهم لبعض والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه ثم تفرقوا
فقال أبو طالب لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} والله يا بن أخي ما رأيتك سألتهم شططا فلما قالها طمع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيه فجعل يقول له أي عم فأنت فقلها أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة فلما رأى حرص رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال يا بن أخي والله لولا مخافة السبة عليك وعلي بني أبيك من بعدي وأن تظن قريش أني إنما قلتها جزعا من الموت لقتلها لا أقولها إلا لأسرك بها
فلما تقارب من أبي طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه فأصغى إليه بأذنيه فقال يا بن أخي والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لم أسمع
وخرج مسلم بن الحجاج من صحيحه من حديث المسيب بن حزن قال لما
(1/226)
حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فوجد عنده أبا جهل وعبد الله ابن أبي أمية بن المغيرة فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب
فلم يزل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم هو على ملة عبد المطلب وأبي أن يقول لا إله إلا الله
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فأنزل الله عز وجل ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربي من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ( التوبة 113 ) وأنزل في أبي طالب فقال لرسوله {صلى الله عليه وسلم} إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ( القصص 56 )
وفي الصحيح أيضا أن العباس قال لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ويغضب لك فهل ينفعه ذلك قال نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح
وفيه أيضا من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ذكر عنده عمه أبو طالب فقال لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه
وعن ابن عباس أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال أهون أهل النار عذابا أبو طالب وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه
ويروي أن أبا طالب لما حضرته الوفاة جمع إليه وجوه قريش فأوصاهم فقال يا معشر قريش أنتم صفوة الله من خلقه وقلب العرب فيكم السيد المطاع وفيكم المقدم الشجاع والواسع الباع واعلموا أنكم لم تتركوا للعرب في المآثر نصيبا إلا احتزتموه ولا شرفا إلا أدركتموه فلكم بذلك على الناس الفضيلة
(1/227)
ولهم به إليكم الوسيلة وإني أوصيكم بتعظيم هذه البنية فإن فيها مرضاة للرب وقواما للمعاش وثباتا للوطأة صلوا أرحامكم ولا تقطعوها فإن في صلة الرحم منسأة في الأجل وزيادة في العدد واتركوا البغي والعقوق ففيهما هلكت القرون قبلكم أجيبوا الداعي وأعطوا السائل فإن فيهما شرف الحياة والممات عليكم بصدق الحديث وأداء الأمانة فإن فيها محبة في الخاص ومكرمة في العام وإني أوصيكم بمحمد خيرا فإنه الأمين في قريش والصديق في العرب وهو الجامع لكل ما أوصيتكم به وقد جاء بأمر قبله الجنان وأنكره اللسان مخافة الشنآن وأيم الله لكأني أنظر إلى صعاليك العرب وأهل البر في الأطراف والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته وصدقوا كلمته وعظموا أمره فخاض بهم غمرات الموت فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا ودورها خرابا وضعفاؤها أربابا وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه وأبعدهم منه أخطأهم عنده قد محضته العرب ودادها وأعطته قيادها دونكم يا معشر قريش ابن أبيكم كونوا له ولاة ولحزبه حماة والله لا يسلك أحد منهم سبيله إلا رشد ولا يأخذ أحد بهديه إلا سعد ولو كان لنفسي مدة ولأجلي تأخير لكففت عنه الهزاهز ولدافعت عنه الدواهي
ذكر خروج النبي {صلى الله عليه وسلم} إلى الطائف بعد مهلك عمه أبي طالب
قال ابن إسحاق ولما هلك أبو طالب ونالت قريش من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما لم تكن تنال منه في حياته خرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى الطائف وحده يلتمس النصرة من ثقيف والمنعة بهم من قومه ورجا أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله
فلما انتهى إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم وهم إخوة ثلاثة عبد ياليل ومسعود وخبيب بنو عمرو بن عمير ابن عقدة بن غيرة بن عوف بن ثقيف وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح
فجلس إليهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام والقيام على من خالفه من قومه
(1/228)
فقال له أحدهم هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك وقال الآخر أما وجد الله أحدا يرسله غيرك وقال الثالث والله لا أكلمك أبدا لئن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك
فقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من عندهم وقد يئس من خير ثقيف وقد قال لهم فيما ذكر لي إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا علي وكره رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يبلغ قومه فيذئرهم ذلك عليه
فلم يفعلوا أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس
قال موسى بن عقبة وقعدوا له صفين على طريقه فلما مر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بين صفيهم جعل لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة حتى أدموا رجليه
وزاد سليمان التيمي أنه {صلى الله عليه وسلم} كان إذا أذلقته الحجارة قعد إلى الأرض فيأخذون بعضديه فيقيمونه فإذا مشي رجموه وهم يضحكون
قال ابن عقبة فخلص منهم ورجلاه تسيلان دما فعمد إلى حائط من حوائطهم فاستظل في ظل حبلة منه وهو مكروب موجع وإذا في الحائط عتبة وشيبة ابنا ربيعة فلما رآهما كره مكانهما لما يعلم من عداوتهما لله ورسوله
وذكر ابن إسحاق أن الحائط كان لهما وأن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لما اطمأن يعني في ظل الحبلة قال اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل علي سخطك لك العتبي حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك
(1/229)
قال فلما رآه ابنا ربيعة وما لقي تحركت له رحمهما فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له عداس فقالا له خذ قطفا من هذا العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه ففعل عداس ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم قال له كل فلما وضع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيه يده قال بسم الله ثم أكل فنظر عداس في وجهه ثم قال له والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من أي البلاد أنت يا عداس وما دينك قال نصراني وأنا من أهل نينوي فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أمن قرية الرجل الصالح يونس ابن متى قال له عداس وما يدريك ما يونس ابن متى قال
رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ذاك أخي كان نبيا وأنا نبي فأكب عداس على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقبل رأسه ويديه وقدميه فلما جاءهما عداس قالا له ويلك مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه قال يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا لقد أعلمني بأمر لا يعلمه إلا نبي قالا ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك فإن دينك خير من دينه
وقد خرج البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي {صلى الله عليه وسلم} هل أتي عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد
فقال لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت على وجهي وأنا مهموم فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني وقال إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم
فناداني ملك الجبال فسلم علي فقال يا محمد ذلك لك فما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فقال النبي {صلى الله عليه وسلم} بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا
(1/230)
وذكر ابن هشام أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لما انصرف عن أهل الطائف ولم يجيبوه إلى ما دعاهم إليه من تصديقه ونصرته سار إلى حراء ثم بعث إلى الأخنس ابن شريق ليجيره فقال أنا حليف والحليف لا يجير فبعث إلى سهيل بن عمرو فقال إن بني عامر لا تجير على بني كعب فبعث إلى المطعم بن عدي فأجابه إلى ذلك ثم تسلح المطعم وأهل بيته وخرجوا حتى أتوا المسجد ثم
بعث إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن ادخل فدخل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فطاف بالبيت وصلى عنده ثم انصرف إلى منزله
ولأجل هذه السابقة التي سبقت للمطعم قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في أساري بدر لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتني لتركتهم له
وفي انصراف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من الطائف راجعا إلى مكة حين يئس من خير ثقيف مر به النفر من الجن الذين ذكر الله تعالى في كتابه ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} بنخلة قد قام من جوف الليل يصلي فمر به أولئك النفر من الجن فيما ذكر ابن إسحاق قال وهم فيما ذكر لي سبعة نفر من جن أهل نصيبين فاستمعوا له فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا فقص الله خبرهم عليه {صلى الله عليه وسلم} قال عز من قائل وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ( الاحقاف 29 - 30 )
ذكر عرض رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نفسه على قبائل العرب
قال ابن إسحاق ثم قدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مكة وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه إلا قليلا مستضعفين ممن آمن به
فكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يعرض نفسه في المواسم إذا كانت على قبائل العرب يدعوهم إلى الله ويخبرهم أنه نبي مرسل ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين عن الله ما بعثه به
(1/231)
قال ربيعة بن عباد الدؤلي إني لغلام شاب مع أبي بمنى ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقف على منازل القبائل من العرب فيقول يا بني فلان إني رسول الله إليكم يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد وأن تؤمنوا بي وتصدقوني وتمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به وخلفه رجل أحول وضيء له غديرتان عليه حلة عدنية فإذا فرغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من قوله وما دعا إليه قال ذلك الرجل يا بني فلان إن هذا يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقيش إلى ما جاء به من البدعة والضلالة فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه
قال ربيعة فقلت لأبي من هذا الرجل الذي يتبعه يرد عليه ما قال قال هذا عمه عبد العزي بن عبد المطلب أبو لهب
وعن غير ربيعة أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أتى كندة في منازلهم فدعاهم إلى الله
وعرض عليهم نفسه فأبوا عليه وأتى كلبا في منازلهم إلى بطن منهم يقال لهم بنو عبد الله فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه حتى إنه ليقول لهم يا بني عبد الله إن الله قد أحسن اسم أبيكم فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم وعرض نفسه على بني حنيفة فلم يك أحد من العرب أقبح ردا عليه منهم
ذكر الواقدي بإسناد له عن عامر بن سلمه الحنفي وكان قد أسلم في آخر عمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنه قال نسأل الله عز وجل أن لا يحرمنا الجنة لقد رأيت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} جاءنا ثلاثة أعوام بعكاظ وبمجنة وبذي المجاز يدعونا إلى الله عز وجل وأن نمنع له ظهره حتى يبلغ رسالات ربه ويشرط لنا الجنة فما استجبنا له ولا رددنا جميلا لقد أفحشنا عليه وحلم عنا
قال عامر فرجعت إلى حجر في أول عام فقال لي هوذة بن علي هل كان في موسمكم هذا خبر فقلت رجل من قريش يطوف على القبائل يدعوهم إلى الله وحده وإلى أن يمنعوا ظهره حتى يبلغ رسالة ربه ولهم الجنة فقال هوذة من أي قريش قلت هو من أوسطهم نسبا من بني عبد المطلب
(1/232)
قال هوذة أهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب قلت هو هو قال أما إن أمره سيظهر على ما ها هنا فقلت ها هنا قط من بين البلدان قال وغير ما ها هنا
ثم وافيت السنة الثانية فقدمت حجرا فقال ما فعل الرجل فقلت رأيته على حاله في العام الماضي قال ثم وافيت في السنة الثالثة وهي آخر ما رأيته وإذا بأمره قد أمر وإذا ذكره كثير من الناس وأسمع أن الخزرج تبعته فقدمت حجرا فقال لي هوذة ما فعل الرجل فقلت رأيت أمره قد أمر ورأيت قومه عليه أشداء فقال هوذة هو الذي قلت لك ولو أنا تبعناه كان خيرا لنا ولكنا نضن بملكنا وكان قومه قد توجوه وملكوه
قال عامر فمر بي سليط بن عمرو العامري حين بعثه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى هوذة فضيفته وأكرمته وأخبرني من خبر هوذة أنه لم يسلم وقد رد ردا دون رد
قال فأخبرت سليطا خبري لهوذة فأخبره سليط رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأسلم عامر ابن سلمة ومات هوذة بن علي سنة ثمان من الهجرة كافرا على نصرانيته
ودعا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بني عبس إلى الإسلام فلم يقبلوا
(1/233)
قال أبو وابصة العبسي فيما ذكر الواقدي جاءنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في منزلنا بمنى فدعانا إلى الله فو الله ما استجبنا له وما خير لنا وكان معنا ميسرة بن مسروق العبسي فقال لنا أحلف بالله لو صدقنا هذا الرجل وحملناه حتى نحل به وسط رحالنا لكان الرأي فقال له القوم من بين العرب نفعل هذا قال نعم من بين العرب فأحلف بالله ليظهرن أمره حتى يبلغ كل مبلغ فقال له القوم دعنا منك لا تعرضنا لما لا قبل لنا به وطمع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في ميسرة فكلمه فقال ميسرة ما أحسن كلامك وأنوره ولكن قومي يخالفونني وإنما الرجل بقومه فانصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وخرج القوم صادرين إلى أهليهم فقال لهم ميسرة ميلوا بنا إلى فدك فإن بها يهود نسألهم عن هذا الرجل فمالوا إلى يهود فأخرجوا سفرا لهم فوضعوه ثم درسوا ذكر النبي {صلى الله عليه وسلم} الأمي العربي يركب الحمار ويجتزيء بالكسرة وليس بالطويل ولا بالقصير ولا بالجعد ولا بالسبط في عينيه حمرة مشرب اللون قالوا فإن كان هذا الذي دعاكم فأجيبوه وادخلوا في دينه فإنا نحسده ولا نتبعه ولنا منه في مواطن بلاء عظيم ولا يبقى في العرب أحد إلا تبعه أو قتله فكونوا ممن يتبعه قال ميسرة يا قوم والله ما بقي شيء إن هذا لأمر بين قال القوم نرجع إلى الموسم ونلقاه ورجع القوم إلى بلادهم فأبى ذلك عليهم رجالهم فلم يتبعه أحد منهم فلما قدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المدينة مهاجرا وحج حجة الوداع لقيه ميسرة فعرفه فقال يا رسول الله والله ما زلت حريصا على اتباعك منذ يوم رأيتك أنخت بنا حتى كان ما كان وأبى الله عز وجل إلا ما ترى من تأخر إسلامي وقد مات عامة النفر الذين كانوا معي فأين مدخلهم فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من مات على غير الإسلام فهو في النار فقال ميسرة الحمد لله الذي تنقدني فأسلم فحسن إسلامه وكان له عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه مكان
(1/234)
وعن ابن إسحاق أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم نفسه فقال رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب ثم قال له أرأيت إن تابعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك
قال الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء
قال أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا لا حاجة لنا بأمرك
فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم أدركته السن حتى لا يقدر أن يوافي معهم موسمهم فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون في ذلك الموسم فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان في موسمهم فقالوا جاءنا فتى من قريش ثم أحد بني عبد المطلب يزعم أنه نبي يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا
فوضع الشيخ يديه على رأسه ثم قال يا بني عامر هل لنا من تلاف هل لذباباها من مطلب والذي نفس فلان بيده ما تقولها إسماعيلي قط وإنها لحق فأين رأسكم كان عنكم
وزاد الواقدي أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لما قام عن بني عامر وانصرف إلى راحلته ليركبها أتاه بيجرة ونسبه الواقدي بيجرة بن عبد الله بن سلمة ورجلان معه فنخسوا به راحلته حتى سقط عنها ويقال قطعوا بطان راحلته
قال فقامت امرأة منهم يقال لها ضباعة بنت قرط وكانت قد أسلمت وكانت تحت عبد الله بن جدعان فكرهته ففارقها وخلف عليها بعده هشام بن المغيرة وهي أم ابنه سلمة وصاحت يا بني عامر أيؤذي محمد وأنا شاهدة فقام إليهم غطيف وغطفان ابنا سهيل وعذرة بن عبد الله بن سلمة بن
قشير فضربوهم حتى هزموهم فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين رآهم صنعوا ما صنعوا اللهم بارك على هؤلاء والعن هؤلاء الآخرين فأسلم الذين بارك عليهم جميعا ومات الذين لعن وهم كفار
(1/235)
وذكر الواقدي أيضا من حديث جهم بن أبي جهم أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقف على بني عامر يدعوهم إلى الله فقام رجل منهم فقال له عجبا لك والله أعياك قومك ثم أعياك أحياء العرب كلها حتى تأتينا وتردد علينا مرة بعد مرة والله لأجعلنك حديثا لأهل الموسم
ونهض إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكان جالسا فكسر الله عز وجل ساقه فجعل يصيح من رجله وانصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عنه
قال الواقدي بإسناد ذكره وأتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} غسان في منازلهم بعكاظ وهم جماعة كثيرة فجلس إليهم فدعاهم إلى الله تعالى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا
قال وأن تمنعوا لي ظهري حتى أبلغ رسالات ربي ولكم الجنة
فقال رجل منهم هذا والله يا قوم الذي تذكر النصارى في كتبها والذي يقولون بقي من الأنبياء نبي اسمه أحمد فتعالوا نؤمن به ونتبعه فنكون من أنصاره وأوليائه فإنهم يزعمون أنه يظهر على ما بلغ الخف والحافر فيجتمع لنا شرف الدنيا مع ما يكون بعد الموت
قال القوم فنكون نحن أول العرب دخل في هذا الأمر فتنصب لنا العرب قاطبة ويبلغ ملوك بني الأصفر فيخرجوننا من ديارهم ولكننا نقف عنه وننظر ما تصنع العرب ثم ندخل فيما يدخل فيه الناس
قال الرجل يا محمد تأبي عشيرتي أن يتبعوا قولي فيك ولو أطاعوني رشدوا
قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن هذه القلوب بيد الله عز وجل
فانصرف عنهم ثم عاد بعد ذلك إليهم فدعاهم إلى الإسلام فقالوا نرجع إلى من وراءنا ثم نلقاك قابلا
فرجعوا فوفد منهم نفر إلى الحارث بن أبي شمر فذكروا له أمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال الحارث إياكم أن يتبعه رجل منكم إذا يبيد ملكي من الشام ويتهمني هرقل
قال فأمسكوا عن ذكر رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
(1/236)
قال وأتي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بني محارب بن خصفة بعكاظ فوجدهم في محالهم فيهم شيخ منهم وهو جالس في أصحابه فنزل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عن راحلته ودعا إلى الله وطلب المنعة حتى يبلغ رسالات ربه فرد على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أقبح الرد وقال له عجبا لك يأبى قومك أن يتبعوك وتأتي إلى محارب تدعوهم إلى ترك ما كان عليه آباؤهم اذهب فإنه غير متبعك رجل من محارب آخر الدهر
ويقبل إليه سفيه منهم فقال يا محمد ما في بطن ناقتي هذه إن كنت صادقا فلعمري إنك لتدعي من العلم أعظم مما سألتك عنه تزعم أن الله يوحي إليك ويكلمك
فأسكت عنه رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وأقبل إليه رجل منهم يقال له سلمة بن قيس وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} جالسا قريبا من منزلهم فأراد أن يطرحه في البئر فقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فتنحى عن البئر فجعل سلمة يقول لو وقعت في البئر استراح منك أهل الموسم
وأخذ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بزمام راحلته يقودها وهم يرمونها بالحجارة حتى تواري عنهم وهو يقول اللهم إنك لو شئت لم يكونوا هكذا وإن قلوبهم بيدك وأنت أعلم بهم فإن كان هذا عن سخط بك علي فلك العتبي ولا حول ولا قوة إلا بك
وذكر قاسم بن ثابت بن حزم العوفي من حديث عبد الله بن عباس عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لما أمر الله ورسوله {صلى الله عليه وسلم} أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه وأبو بكر الصديق حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب فتقدم أبو بكر فسلم وكان رجلا نسابة ومقدما في كل خير
فقال ممن القوم قالوا من ربيعة قال ومن أي ربيعة أمن هامتها أم من لهازمها قالوا بل من هامتها العظمى قال وأي هامتها العظمى أنتم قالوا ذهل الأكبر
فذكر الحديث في مناسبة أبي بكر إياهم ومقاولته لهم وانبراء دغفل بن حنظلة النسابة إليهم من بينهم وهو يومئذ غلام حين بقل وجهه وموافقته لأبي بكر حتى اجتذب أبو بكر زمام الناقة ورجع إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو حديث مشهور تركته لشهرته مع أن المقصود فيما بعده
(1/237)
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة والوقار فتقدم أبو بكر فسلم وكان مقدما في كل خير فقال ممن القوم قالوا من شيبان بن ثعلبة فالتفت أبو بكر إلى النبي {صلى الله عليه وسلم} فقال بأبي أنت وأمي هؤلاء غرر في قومهم وفيهم مفروق بن عمرو وهانئ بن قبيصة والمثنى بن حارثة والنعمان بن شريك وكان مفروق بن عمرو قد غلبهم جمالا ولسانا وكانت له غديرتان تسقطان على تربيتيه وكان أدنى القوم مجلسا من أبي بكر
فقال له أبو بكر كيف العدد فيكم قال له مفروق إنا لنزيد على ألف ولن تغلب ألف من قلة فقال أبو بكر فكيف المنعة فيكم قال علينا الجهد ولكل قوم جد قال أبو بكر فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم فقال مفروق إنا لأشد ما نكون غضبا حين نلقى وإنا لأشد ما نكون لقاء حين نغضب وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد والسلاح على اللقاح والنصر من عند الله يديلنا مرة ويديل علينا لعلك أخو قرش
فقال أبو بكر أوقد بلغكم أنه رسول الله فها هو ذا
فقال مفروق قد بلغنا أنه يذكر ذلك فالإم تدعو يا أخا قريش
فتقدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأني رسول الله وإلى أن تؤوني وتنصروني فإن قريشا قد ظاهرت على أمر الله وكذبت رسوله واستغنت بالباطل عن الحق والله هو الغني الحميد
فقال مفروق وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش
فتلا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ( الأنعام 151 9
فقال مفروق وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش فتلا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ( النحل 90 )
(1/238)
فقال مفروق دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك وكأنه أراد أن يشركه في الكلام هانيء بن قبيصة
فقال وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا
فقال هانئ قد سمعت مقالتك يا أخا قريش وإني أرى أن تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر زلة في الرأي وقلة نظر في العاقبة وإنما تكون الزلة مع العجلة ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقدا ولكن ترجع ونرجع وتنظر وننظر وكأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثة فقال وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا
فقال المثنى قد سمعت مقالتك يا أخا قريش والجواب هو جواب هانئ ابن قبيصة في ترك ديننا واتباعنا إياك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر وإنما منزلنا بين صريي اليمامة والسمامة فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما هذان الصريان فقال أنهار كسرى ومياه العرب فأما ما كان من أنهار كسرى فذنب صاحبه غير مغفور وعذره غير مقبول وأما ما كان من مياه العرب فذنب صاحبه مغفور وعذره مقبول وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن لا نحدث حدثا ولا نؤوي محدثا وإني أرى أن هذا الأمر الذي تدعونا إليه
هو مما تكرهه الملوك فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق وإن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم وأموالهم ويفرشكم نساءهم أتسبحون الله وتقدسونه
فقال النعمان اللهم لك ذا
فتلا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ( الأحزاب 45 )
ثم نهض النبي {صلى الله عليه وسلم} فأخذ بيدي فقال يا أبا بكر يا أبا حسن أية أخلاق في الجاهلية ما أشرفها بها يدفع الله بأس بعضهم عن بعض وبها يتحاجزون فيما بينهم
(1/239)
قال ابن إسحاق فكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على ذلك من أمره كلما اجتمع له الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى الله وإلى الإسلام ويعرض عليهم نفسه وما جاء به من الله تعالى من الهدى والرحمة ولا يسمع بقادم قدم مكة من العرب له اسم وشرف إلا تصدى له فدعاه إلى الله وعرض عليه ما عنده
وقدم سويد بن صامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجا أو معتمرا فتصدى له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فدعاه إلى الله وإلى الإسلام فقال له سويد فلعل الذي معك مثل الذي معي
قال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما الذي معك قال مجلة لقمان يعني حكمة لقمان
فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اعرضها علي فعرضها عليه فقال إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل من هذا قرآن أنزله الله علي هو هدى ونور
فتلا عليه القرآن ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد منه وقال إن هذا القول حسن
ثم انصرف عنه فقدم المدينة على قومه فلم يلبث أن قتلته الخزرج قبل بعاث
فإن كان رجال من قومه ليقولون إنا لنراه قد قتل وهو مسلم
وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل لجلده وشعره و شرفه ونسبه وهو القائل
ألا رب من تدعو صديقا ولو ترى
مقالته بالغيب ساءك ما يفري
مقالته كالشهد ما كان شاهدا
وبالغيب مأثور على ثغرة النحر
يسرك باديه وتحت أديمه
نميمة غش تبتري عقب الظهر
تبين لك العينان ما هو كاتم
من الغل والبغضاء بالنظر الشزر
فرشني بخير طال ما قد بريتني
وخير الموالي من يريش ولا يبري
الطويل
ولما قدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج سمع بهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأتاهم فجلس إليهم فقال لهم هل لكم في خير مما جئتم له فقالوا له وما ذاك قال أنا رسول الله بعثني إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا وأنزل علي الكتاب ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن
فقال إياس بن معاذ وكان غلاما حدثا أي قوم هذا والله خير لكم مما جئتم له
(1/240)
فيأخذ أبو الحيسر جفنة من البطحاء فضرب بها وجه إياس وقال دعنا منك فلعمري لقد جئنا لغير هذا
فصمت إياس وقام عنهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وانصرفوا إلى المدينة فكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج
ثم لم يلبث إياس أن هلك فأخبر من حضر من قومه عند موته أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات
فما كانوا يشكون أن قد مات مسلما لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما سمع
بدء إسلام الأنصار وذكر العقبة الأولى
قال ابن إسحاق فلما أراد الله إظهار دينه وإعزاز نبيه وإنجاز موعوده له خرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم فبينما هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا فقال لهم من أنتم قالوا نفر من الخزرج
قال أمن موالي يهود قالوا نعم قال أفلا تجلسون أكلمكم قالوا بلى
فجلسوا معه فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن
وكان مما صنع الله به في الإسلام أن يهود كانوا معهم في بلادهم وكانوا أهل كتاب وعلم وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان وكانوا قد عزوهم ببلادهم فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم إن نبيا مبعوث الآن قد أظل زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم
فلما كلم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أولئك النفر ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض يا قوم تعلموا والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود فلا يسبقنكم إليه
فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام وقالوا له إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم قد آمنوا وصدقوا
(1/241)
وهم فيما ذكر لي ستة نفر من الخزرج منهم من بني النجار أسعد بن زرارة أبو أمامة وعوف بن الحارث بن رفاعة وهو ابن عفراء ومن بني زريق رافع بن مالك بن العجلان ومن بني سلمة قطبة بن عامر بن حديدة وعقبة بن عامر ابن نابي وجابر بن عبد الله بن رئاب
فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم فلم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
حتى إذا كان العام المقبل وافي الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا فيهم من الستة المسمين قبل أبو أمامة وعوف ورافع و قطبة و عقبة ومن غير الستة من الخزرج أيضا ذكوان بن عبد قيس بن خلدة الزرقي وعبادة بن الصامت ويزيد بن ثعلبة من بني غصينة من بلى حليف لهم والعباس بن عبادة بن نضلة العجلاني ومعاذ بن الحارث بن رفاعة وهو ابن عفراء ومن الأوس أبو الهيثم ابن مالك بن التيهان وعويم بن ساعدة فلقوه بالعقبة وهي العقبة الأولى
قال عبادة بن الصامت كنت ممن حضر العقبة الأولى وكنا اثني عشر رجلا بايعنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على بيعة النساء وذلك قبل أن تفترض الحرب على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي بهتانا نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف
قال فإن وفيتم فلكم الجنة وإن غشيتم من ذلك شيئا فأصبتم بحد في الدنيا فهو كفارة له وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله إن شاء عذب وإن شاء غفر
قال ابن إسحاق فلما انصرف عنه القوم بعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} معهم مصعب
ابن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين فكان مصعب يسمى المقرئ بالمدينة وكان منزله على أسعد بن زرارة بن عدس أبي أمامة وكان يصلي بهم وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض
إسلام سعد بن معاذ وأسيد بن حضير علي يدي مصعب بن عمير رضي الله عنه
(1/242)
ذكر ابن إسحاق عمن سمي من شيوخه أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب ابن عمير يريد به دار بني عبد الأشهل ودار بني ظفر فدخل به حائطا من حوائط بني ظفر فجلسا فيه واجتمع إليهما رجال ممن أسلم
فلما سمع بذلك سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وهما يومئذ سيدا قومهما بني عبد الأشهل وكلاهما مشرك على دين قومه قال سعد لأسيد لا أبا لك انطلق إلى هذين الرجلين اللذين أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما وانههما عن أن يأتيا دارينا فإنه لولا أن أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدما
فأخذ أسيد حربته ثم أقبل إليهما فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه
قال فوقف عليهما متشتما فقال ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة
فقال له مصعب أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته كف عنك ما تكره
قال أنصفت ثم ركز حربته وجلس إليهما فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن فقالا فيما ذكر عنهما والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله
ثم قال ما أحسن هذا وأجمله كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين قالا له تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك ثم تتشهد شهادة الحق ثم تصلي
فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وتشهد شهادة الحق ثم قام فركع ركعتين ثم قال لهما إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكما الآن سعد بن معاذ
ثم انصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم فلما نظر إليه سعد مقبلا قال أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به
فلما وقف على النادي قال له سعد ما فعلت قال كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأسا وقد نهيتهما فقالا نفعل ما أحببت وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك
(1/243)
فقام سعد مغضبا مبادرا متخوفا للذي ذكر له من بني حارثة فأخذ الحربة من يده ثم قال والله ما أراك أغنيت شيئا
ثم خرج إليهما فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدا إنما أراد أن يسمع منهما فوقف عليهما متشتما ثم قال يا أبا أمامه والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني أتغشانا في دارينا بما نكره
وقد قال أسعد لمصعب بن عمير أي مصعب جاءك والله سيد من وراءه من قومه إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان
فقال له مصعب أو تقعد فتسمع فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره
قال سعد أنصفت ثم ركز الحربة وجلس فعرض عليه الإسلام وقرأ عليه القرآن
قالا فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم لإشراقه وتسهله ثم قال لهما كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين
قالا تغتسل فتطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين
فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وتشهد شهادة الحق وركع ركعتين ثم أخذ حربته فأقبل عامدا إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير فلما رآه قومه مقبلا قالوا نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به
فلما وقف عليهم قال يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم قالوا سيدنا أفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة قال فإن كلام رجالكم ونسائكم حرام علي حتى تؤمنوا بالله ورسوله
قال فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما أو مسلمة ورجع مصعب إلى منزل أسعد بن زرارة فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف وتلك أوس الله وهم من الأوس بن حارثة
وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت وكان شاعرا لهم قائدا يسمعون منه ويطيعونه فوقف بهم عن الإسلام حتى هاجر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ومضى بدر وأحد والخندق وقال فيما رأى من الإسلام وما اختلف الناس فيه من أمره
أرب الناس أشياء ألمت
يلف الصعب منها بالذلول
(1/244)
أرب الناس إما إن ضللنا
فيسرنا لمعروف السبيل
فلولا ربنا كنا يهودا
وما دين اليهود بذي شكول
ولولا ربنا كنا نصارى
مع الرهبان في جبل الجليل
ولكنا خلقنا إذ خلقنا
حنيفا ديننا عن كل جيل
نسوق الهدي ترسف مذعنات
مكشفة المناكب في الجلول
الوافر
ذكر العقبة الثانية
قال ابن إسحاق ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة فواعدوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} العقبة من أوسط أيام التشريق حين أراد الله ما أراد من كرامته والنصر لنبيه وإعزاز الإسلام وأهله وإذلال الشرك وأهله
حدث كعب بن مالك وكان ممن شهد العقبة وبايع بها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال خرجنا في حجاج قومنا من المشركين وقد صلينا وفقهنا ومعنا البراء بن معرور سيدنا وكبيرنا فلما وجهنا لسفرنا وخرجنا من المدينة قال لنا البراء يا هؤلاء إني قد رأيت رأيا و والله ما أدري أتوافقوني عليه أم لا فقلنا وما ذاك قال رأيت ألا أدع هذه البنية مني بظهر يعني الكعبة وأن أصلي إليها فقلنا والله ما بلغنا أن نبينا يصلي إلا إلى الشام وما نريد أن نخالفه فقال إني لمصل إليها فقلنا له لكنا لا نفعل
فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام وصلى إلى الكعبة حتى قدمنا مكة فلما قدمناها وقد كنا عبنا عليه ما صنع قال لي يا بن أخي انطلق بنا إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى أسأله عما صنعت في سفري هذا فإنه والله لقد وقع في نفسي منه شيء لما رأيت من خلافكم إياي فيه
فخرجنا نسأل عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكنا لا نعرفه لم نره قبل ذلك فلقينا رجلا من أهل مكة فسألناه عنه فقال هل تعرفانه فقلنا لا فقال هل تعرفان العباس عمه قلنا نعم وقد كنا نعرف العباس كان لا يزال يقدم علينا تاجرا قال فإذا دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس
فدخلنا المسجد فإذا العباس جالس ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} جالس معه فسلمنا ثم
(1/245)
جلسنا إليه فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} للعباس هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل قال نعم هذ البراء بن معرور سيد قومه وهذا كعب بن مالك
فوالله ما أنسى قول رسول الله ألشاعر قال نعم فقال له البراء بن معرور {صلى الله عليه وسلم} يا نبي الله إني خرجت في سفري هذا وقد هداني الله للإسلام فرأيت أن لا أجعل هذه البنية مني بظهر إليها وخالفني أصحابي في ذلك حتى وقع في نفسي منه شيء فماذا ترى يا رسول الله
قال قد كنت على قبلة لو صبرت عليها
فرجع البراء إلى قبلة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وصلى معنا إلى الشام
قال وأهله يزعمون أنه صلى إلى الكعبة حتى مات وليس كما قالوا نحن أعلم به منهم
قال كعب ثم خرجنا إلى الحج وواعدنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} العقبة من أوسط أيام التشريق فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لها ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر سيد من ساداتنا أخذناه معنا وكنا نكتم من معنا من المشركين أمرنا فكلمناه وقلنا يا أبا جابر إنك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا وإنا نرغب بك أن تكون حطبا للنار غدا ثم دعوناه إلى الإسلام وأخبرناه بمبعاد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إيانا العقبة فأسلم وشهد معنا وكان نقيبا فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نتسلل تسلل القطا مستخفين حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن ثلاثة وسبعون رجلا ومعنا امرأتان من نسائنا نسيبة بنت كعب أم عمارة إحدى نساء بني مازن بن النجار وأسماء بنت عدي بن عمرو بن نابي أم منيع إحدى نساء بني سلمة فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى جاءنا ومعه عمه العباس وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له
فلما جلس كان أول متكلم العباس فقال يا معشر الخزرج وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج خزرجها وأوسها إن محمدا منا
(1/246)
حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه فهو في عز من قومه ومنعة في بلده وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده
فقلنا له قد سمعنا ما قلت فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت
فتكلم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الإسلام ثم قال أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم
فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أهل الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر
فاعترض القول والبراء يكلم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أبو الهيثم بن التيهان فقال يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالا ونحن قاطعوها يعني اليهود فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا
قال فتبسم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم قال بل الدم الدم والهدم الهدم أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم
قال كعب وقد قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أخرجوا إلى منكم اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم بما فيهم
فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس من الخزرج أبو أمامة أسعد بن زرارة وسعد بن الربيع وعبد الله بن رواحة ورافع بن مالك بن العجلان و البراء بن معرور وعبد الله بن عمرو بن حرام وعبادة بن الصامت وسعد بن عبادة بن دليم والمنذر بن عمرو ومن الأوس أسيد بن حضير وسعد بن خيثمة ورفاعة بن عبد المنذر
قال ابن هشام وأهل العلم يعدون فيهم أبا الهيثم بن التيهان ولا يعدون رفاعة
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} للنقباء أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم وأنا كفيل على قومي قالوا نعم
(1/247)
وحدث عاصم بن عمر بن قتادة أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال العباس بن عبادة بن نضلة أخو بني سالم بن عوف يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل قالوا نعم قال إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتموه فمن الآن فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فهو والله خير الدنيا والآخرة
قالوا فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا قال الجنة
قالوا ابسط يدك فبسط يده فبايعوه
قال عاصم والله ما قال ذلك العباس إلا ليشد العقد لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} في أعناقهم وقال غيره ما قاله إلا ليؤخر القوم تلك الليلة رجاء أن يحضرها عبد الله بن أبي بن سلول فيكون أقوى لأمر القوم فالله أعلم أي ذلك كان
قال ابن إسحاق فبنو النجار يزعمون أن أبا أمامة أسعد بن زرارة كان أول من ضرب على يده وبنو عبد الأشهل يقولون بل أبو الهيثم بن التيهان
وفي حديث معبد بن كعب عن أخيه عبد الله عن أبيه قال كان أول من ضرب على يد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} البراء بن معرور ثم بايع القوم فلما بايعنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} صرح الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط يا أهل الجباجب وهي المنازل هل لكم في مذمم والصباء معه قد اجتمعوا على حربكم
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} هذا أزب العقبة هذا ابن أزيب ويقال ابن أزيب أتسمع أي عدو الله أما والله لأفرغن لك
ثم قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ارفضوا إلى رحالكم فقال له العباس بن عبادة بن نضلة والذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى بأسيافنا فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لم أومر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها
(1/248)
فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتى جاؤونا في منازلنا فقالوا يا معشر الخزرج إنه قد بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم
فانبعث من هنالك من مشركي قومنا يحلفون بالله ما كان من هذا شيء وما علمناه وصدقوا لم يعلموه وبعضنا ينظر إلى بعض
ثم قام القوم وفيهم الحارث بن هشام المخزومي وعليه نعلان له جديدان فقلت له كلمة كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا يا أبا جابر ما تستطيع وأنت سيد من ساداتنا أن تتخذ مثل نعلي هذا الفتى من قريش فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه ثم رمى بهما إلي فقال والله لتنتعلنهما
قال يقول أبو جابر مه أحفظت والله الفتى فاردد إليه نعليه قلت والله لا أردهما فأل والله صالح والله لئن صدق الفأل لأسلبنه
وفي حديث غير كعب أنهم أتوا عبد الله بن أبي بن سلول فقالوا مثل ما ذكر كعب من القول فقال لهم إن هذا لأمر جسيم ما كان قومي ليتفوتوا علي بمثل هذا وما علمته كان فانصرفوا عنه
ونفر الناس من منى فتنطس القوم الخبر فوجدوه قد كان وخرجوا في طلب القوم فأدركوا سعد بن عبادة بأذاخر والمنذر بن عمرو أخا بني ساعدة وكلاهما كان نقيبا فأما المنذر فأعجز القوم وأما سعد فأخذوه فربطوا يديه
إلى عنقه بنسع رحله ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه ويجذبونه بجمته وكان ذا شعر كثير
قال سعد فوالله إني لفي أيديهم إذ طلع علي نفر من قريش فيهم رجل وضيء أبيض شعشاع حلو من الرجال
قال فقلت في نفسي إن يك عند أحد من القوم خير فعند هذا
فلما دنا مني رفع يده فلكمني لكمة شديدة فقلت في نفسي لا والله ما عندهم بعد هذا من خير
(1/249)
فوالله إني لفي أيديهم يسحبونني إذ أوي إلي رجل ممن معهم فقال لي ويحك أما بينك وبين أحد من قريش تجارة ولا عهد فقلت بلى والله لقد كنت أجيز لجبير بن مطعم تجارة وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي وللحارث بن حرب بن أمية قال ويحك فاهتف باسم الرجلين واذكر ما بينك وبينهما
قال ففعلت وخرج ذلك الرجل إليهما فوجدهما عند الكعبة فقال لهما إن رجلا من الخزرج الآن يضرب بالأبطح ليهتف بكما ويذكر أن بينه وبينكما جوارا قالا ومن هو قال سعد بن عبادة قالا صدق والله إن كان ليجيز لنا تجارنا ويمنعهم أن يظلموا ببلده
قال فجاءا فخلصا سعدا من أيديهم وكان الذي لكم سعدا سهيل بن عمرو
قال ابن هشام والذي أوى له أبو البحتري بن هشام
قال ابن إسحاق فكان أول شعر قيل في الهجرة بيتين قالهما ضرار بن الخطاب بن مرداس أخو بني محارب بن فهر قال
تداركت سعدا عنوة فأخذته
وكان شفاء لو تداركت منذرا
ولو نلته ظلت هناك جراحة
وكان حقيقا أن يهان ويهدرا
الطويل
فأجابه حسان بن ثابت فقال
ولست إلى عمرو ولا المرء منذر
إذا ما مطايا القوم أصبحن ضمرا
فلولا أبو وهب لمرت قصائد
على شرف البرقاء يهوين حسرا
أتفخر بالكتان لما لبسته
وقد تلبس الأنباط ريطا مقصرا
فلا تك كالوسنان يحلم أنه
بقرية كسرى أو بقرية قيصرا
ولا تك كالثكلى وكانت بمعزل
عن الثكل لو كان الفؤاد تفكرا
ولا تك كالشاة التي كان حتفها
بحفر ذراعيها فلم ترض محفرا
ولا تك كالعاوي فأقبل نحره
ولم يخشه سهم من النبل مضمرا
فإنا ومن يهدي القصائد نحونا
كمستبضع تمرا إلى أرض خيبرا
الطويل
(1/250)
قال فلما قدموا المدينة أظهروا الإسلام بها وفي قومهم بقايا من شيوخ لهم على دينهم من الشرك منهم عمرو بن الجموح وكان ابنه معاذ شهد العقبة وبايع بها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكان عمرو سيدا من سادات بني سلمة وشريفا من أشرافهم وكان قد اتخذ في داره صنما من خشب يقال له مناة كما كانت الأشراف يصنعون يتخذه إلها يعظمه ويطهره فلما أسلم فتيان بني سلمة ابنه معاذ ومعاذ بن جبل في فتيان منهم ممن أسلم وشهد العقبة كانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو ذلك فيحملونه فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة وفيها عذر الناس منكسا على رأسه فإذا أصبح عمرو قال ويلكم من عدا على آلهتنا هذه الليلة ثم يغدو يلتمسه حتى إذا وجده غسله وطهره وطيبه ثم قال أما والله لو أعلم من فعل بك هذا لأخزيته فإذا أمسي ونام عمرو عدوا عليه ففعلوا به مثل ذلك فيغدو فيجده في مثل ما كان فيه من الأذى فيغسله ويطهره ويطيبه ثم
يعدون عليه إذا أمسي فيفعلون به مثل ذلك فلما أكثروا عليه استخرجه من حيث ألقوه يوما فغسله وطهره وطيبه ثم جاء بسيفه فعلقه عليه ثم قال له إني والله ما أعلم من يصنع بك ما ترى فإن كان فيك خير فامتنع فهذا السيف معك فلما أمسي ونام عمرو عدوا عليه فأخذوا السيف من عنقه ثم أخذوا كلبا ميتا فقرنوه به بحبل ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة فيها عذر من عذر الناس وغدا عمرو بن الجموح فلم يجده في مكانه فخرج يتتبعه حتى وجده في تلك البئر منكسا مقرونا بكلب ميت فلما رآه أبصر شأنه وكلمه من أسلم من قومه فقال حين أسلم وعرف من الله ما عرف يذكر صنمه ذلك وما أبصره من أمره ويشكر الله الذي أنقذه مما كان فيه من العمي والضلالة
والله لو كنت إلها لم تكن
أنت وكلب وسط بئر في قرن
أف لملقاك إلها مستدن
الآن فتشناك من سوء الغبن
الحمد لله العلي ذي المنن
الواهب الرازق ديان الدين
هو الذي أنقذني من قبل أن
أكون في ظلمة قبر مرتهن
الرجز
(1/251)
قال ابن إسحاق وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قبل بيعة العقبة لم يؤذن له في الحرب ولم تحلل له الدماء إنما يؤمر بالدعاء إلى الله تبارك وتعالى والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل فكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من قومه حتى فتنوهم عن دينهم ونفوهم عن بلادهم فهم من بين مفتون في دينه وبين معذب في أيديهم وبين هارب في البلاد منهم بأرض الحبشة ومنهم بالمدينة وفي كل وجه
فلما عتت قريش على الله وردوا عليه ما أرادهم به من الكرامة وكذبوا نبيه وعذبوا ونفوا من عبده ووحده وصدق نبيه واعتصم بدينه أذن الله تبارك وتعالى لرسوله {صلى الله عليه وسلم} في القتال والامتناع والانتصار ممن ظلمهم وبغى عليهم
فكانت أول آية أنزلت في إذنه له في الحرب وإحلاله له الدماء والقتال لمن
بغى عليهم فيما بلغني عن عروة بن الزبير وغيره من العلماء قول الله تبارك وتعالى أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ( الحج 39 - 41 )
ثم أنزل الله عليه وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة أي حتى لا يفتن مؤمن عن دينه ويكون الدين الله ( البقرة 1935 ) أي وحتى يعبد الله لا يعبد غيره
بدء الهجرة إلى المدينة
قال ابن إسحاق فلما أذن الله تبارك وتعالى لرسوله في الحرب وبايعه هذا الحي من الأنصار على الإسلام والنصرة له ولمن اتبعه وأوى إليهم من المسلمين أمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أصحابه من قومه ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها واللحوق بإخوانهم من الأنصار وقال إن الله قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها
(1/252)
فخرجوا أرسالا وأقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة والهجرة إلى المدينة
فكان أول من هاجر إليها من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من قريش من بني مخزوم أبو سلمة بن عبد الأسد هاجر إليها قبل بيعة أصحاب العقبة بسنة وكان قدم مكة من أرض الحبشة فلما آذته قريش وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار خرج إلى المدينة مهاجرا
قالت أم سلمة لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيره ثم حملني عليه وحمل معي ابني سلمة في حجري ثم خرج بي يقود بعيره فلما رأته رجال بني المغيرة قاموا إليه فقالوا هذه نفسك غلبتنا عليها أرأيت صاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها في البلاد
قالت فنزعوا خطام البعير من يده فأخذوني منه وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد رهط أبي سلمة فقالوا لا والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا فتجابذوا بني سلمة بينهم حتى خلعوا يده وانطلق به بنو عبد الأسد
وحبسني بنو المغيرة عندهم وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة ففرق بيني وبين زوجي وبين ابني فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح فما أزال أبكي حتى أمسي سنة أو قريبا منها حتى مر بي رجل من بني عمي فرأى ما بي فرحمني فقال لبني المغيرة ألا تحرجون من هذه المسكينة فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها
فقالوا لي الحقي بزوجك إن شئت ورد بنو عبد الأسد إلي عند ذلك ابني فارتحلت بعيري ثم أخذت بني فوضعته في حجري ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة وما معي أحد من خلق الله قلت أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي
حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار فقال إلى أين يا بنت أبي أمية قلت أريد زوجي بالمدينة قال أو ما معك أحد قلت لا والله إلا الله وبني هذا قال والله مالك من مترك
(1/253)
فأخذ بخطام البعير يقودني معه يهوي بي فوالله ما صحبت رجلا من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه كان إذا بلغ المنزل أناخ بي ثم استأخر عني حتى إذا نزلت استأخر ببعيري فحط عنه ثم قيده في الشجر ثم تنحى إلى شجرة فاضطجع تحتها فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فرحله ثم استأخر عني فقال اركبي فإذا ركبت واستويت علي بعيري أتى فأخذ بخطامه فقادني حتى ينزل بي
فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة فلما نظرنا إلى قرية بني عمرو بن عوف وكان أبو سلمة بها قال زوجك في هذه القرية فادخليها على بركة الله
ثم انصرف راجعا إلى مكة
فكانت أم سلمة تقول ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة وما رأيت صاحبا كان أكرم من عثمان بن طلحة
قال ابن إسحاق ثم كان أول من قدمها من المهاجرين بعد أبي سلمة
عامر بن ربيعة حليف بني عدي بن كعب معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة بن غانم ثم عبد الله بن جحش بن رئاب من بني غنم بن ذودان بن أسد بن خزيمة حليف بني أمية بن عبد شمس احتمل بأهله وبأخيه أبي أحمد عبيد بن جحش وكان أبو أحمد رجلا ضرير البصر يطوف مكة أعلاها وأسفلها بغير قائد وكان شاعرا وكانت عنده الفرعة بنت أبي سفيان بن حرب وكانت أمه أميمة بنت عبد المطلب
فغلقت دار بني جحش هجرة فمر بها عتبة بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب وأبو جهل بن هشام فنظر إليها عتبة تخفق أبوابها يبابا ليس فيها ساكن فتنفس الصعداء ثم قال
وكل دار وإن طالت سلامتها
يوما ستدركها النكباء والحوب
البسيط
ولما خرج بنو جحش من دارهم عدا عليها أبو سفيان بن حرب فباعها من عمرو بن علقمة أخي بني عامر بن لؤي فذكر ذلك عبد الله بن جحش لما بلغه لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ألا ترضى يا عبد الله أن يعطيك الله بها دارا في الجنة خيرا منها قال بلى قال فذلك لك
(1/254)
فلما افتتح رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مكة كلمه أبو أحمد في دارهم فأبطأ عليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال الناس لأبي أحمد يا أبا أحمد إن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يكره أن ترجعوا في شيء أصيب منكم في الله فأمسك عن كلام رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وكان بنو غنم بن ذودان أهل الإسلام قد أوعبوا إلى المدينة مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} هجرة رجالهم ونساءهم فقال أبو أحمد بن جحش يذكر هجرة بني أسد بن خزيمة من قومه إلى الله تبارك وتعالى وإلى رسوله وإيعابهم في ذلك حين دعوا إلى الهجرة
ولو حلفت بين الصفا أم أحمد
ومروتها بالله برت يمينها
لنحن الأولى كنا بها ثم لم نزل
بمكة حتى عاد غثا سمينها
بها خيمت غنم بن ذودان وانبنت
وما أرعدت غنم وخف قطينها
إلى الله تعدو بين مثنى وواحد
ودين رسول الله بالحق دينها
الطويل
وقال أبو أحمد أيضا
ولما رأتني أم أحمد غاديا
بذمة من أخشى بغيب وأرهب
تقول فإما كنت لا بد فاعلا
فيمم بنا البلدان ولتنأ يثرب
فقلت لها ما يثرب بمظنة
وما يشأ الرحمن فالعبد يركب
إلى الله وجهي والرسول ومن يقم
إلى الله يوما وجهه لا يخيب
فكم قد تركنا من حميم مناصح
وناصحة تبكي بدمع وتندب
يرى أن وترا نأينا عن بلادنا
ونحن نرى أن الرغائب نطلب
دعوت بني غنم لحقن دمائهم
وللحق لما لاح للناس ملحب
أجابوا بحمد الله لما دعاهم
إلى الحق داع والنجاح فأوعبوا
وكنا وأصحابا لنا فارقوا الهدى
أعانوا علينا بالسلاح وأجلبوا
كفوجين أما منهما فموفق
على الحق مهدي وفوج معذب
طغوا وتمنوا كذبة وأزلهم
عن الحق إبليس فخابوا وخيبوا
ورغنا إلي قول النبي محمد
فطاب ولاة الحق منا وطيبوا
نمت بأرحام إليهم قريبة
ولا قرب بالأرحام إذ لا تقرب
فأي ابن أخت بعدنا يأمننكم
وأية صهر بعد صهري يرقب
ستعلم يوما أينا إذ تزايلوا
وزيل أمر الناس للحق أصوب
الطويل
ثم خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعياش بن أبي ربيعة المخزومي حتى قدما المدينة
(1/255)
قال عمر رضي الله عنه لما أردنا الهجرة إلى المدينة اتعدت أنا وعياش ابن أبي ربيعة وهشام بن العاص التناضب من أضاة بني غفار فوق سرف وقلنا أينا لم يصبح عندها فقد حبس فليمض صاحباه فأصبحت أنا وعياش عندها وحبس عنا هشام وفتن فاتتن
فلما قدمنا المدينة نزلنا بقباء وخرج أبو جهل والحارث أخوه إلى عياش وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما حتى قدما علينا فقالا له إن أمك نذرت أن لا تمس رأسها بمشط حتى تراك ولا تستظل من شمس حتى تراك
فرق لها فقلت له يا عياش والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت
فقال أبر قسم أمي ولي هنالك مال فآخذه
قلت والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالا فلك نصف مالي ولا تذهب معهما
فأبى علي إلا أن يخرج معهما فلما أبى إلا ذلك قلت أما إذ قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه فإنها نجيبة ذلول فالزم ظهرها فإن رابك من القوم ريب فانج عليها
فخرج عليها معهما حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل والله يا أخي لقد استغلظت بعيري هذا أفلا تعقبني على ناقتك هذه قال بلى قال فأناخ وأناخا ليتحول عليها فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه رباطا ثم دخلا به مكة وفتناه فافتتن
وفي غير حديث عمر أنهما دخلا به مكة نهارا موثقا ثم قالا يا أهل مكة هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفيهنا هذا
قال عمر رضي الله عنه في حديثه فكنا نقول ما الله بقابل ممن افتتن صرفا ولا عدلا ولا توبة عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم فلما قدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المدينة أنزل الله تبارك وتعالى فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم
(1/256)
من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون ) ( الزمر 53 )
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتبتها بيدي في صحيفة وبعثت بها إلى هشام بن العاص
قال فقال هشام لما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى أصعد بها فيه وأصوب ولا أفهمها حتى قلت اللهم فهمنيها فألقى الله في قلبي أنها إنما نزلت فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا ويقال فينا فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالمدينة
هذا ما ذكر ابن إسحاق في شأن هشام
وذكر ابن هشام عمن يثق به أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال وهو بالمدينة من لي بعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص فقال الوليد بن الوليد بن المغيرة أنا لك يا رسول الله بهما فخرج إلى مكة فقدمها مستخفيا فلقي امرأة تحمل طعاما فقال لها أين تريدين يا أمة الله فقالت أريد هذين المسجونين تعنيهما فتبعها حتى عرف موضعيهما وكانا محبوسين في بيت لا سقف له فلما أمسي تسور عليهما ثم أخذ مروة فوضعها تحت قيديهماثم ضربهما بسيفه فقطعهما فكان يقال لسيفه ذو المروة لذلك
ثم حملهما على بعيره وساق بهما فعثر فدميت إصبعه فقال
( هل انت إلا إصبع دميت
وفي سبيل الله ما لقيت ) السريع
ثم قدما بهما المدينة على رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
ثم تتابع المهاجرون أرسالا فنزل طلحة بن عبيد الله وصهيب بن سنان على خبيب بن إساف بالسبخ ويقال بل نزل طلحة على أسعد بن زرارة
قال ابن هشام وذكر لي أن صهيبا حين أراد الهجرة قال له كفار قريش
أتيتنا صعلوكا حقيرا فكثر مالك عندنا وبلغت الذي بلغته ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك والله لا يكون ذلك
فقال لهم صهيب أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي قالوا نعم قال فإني قد جعلت لكم مالي
فبلغ ذلك رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال ربح صهيب ربح صهيب
قال ابن إسحاق وأقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بمكة بعد أصحابه من المهاجرين ينتظر أن يؤذن له في الهجرة ولم يتخلف معه أحد بمكة من المهاجرين إلا من حبس أو فتن إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق
(1/257)
وكان أبو بكر كثيرا ما يستأذن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في الهجرة فيقول له لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا فيطمع أبو بكر أن يكونه
ولما رأت قريش أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد كانت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم عرفوا أنهم قد نزلوا دارا وأصابوا منهم منعة فحذروا خروج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وعرفوا أنه مجمع لحربهم
فاجتمعوا له في دار الندوة وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمرا إلا فيها يتشاورون ما يصنعون في أمره
فاعترض لهم إبليس في هيئة شيخ جليل عليه بت فوقف على باب الدار في اليوم الذي اتعدوا له ويسمى يوم الزحمة فلما رأوه واقفا على بابها قالوا من الشيخ قال شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون وعسى أن لا يعدمكم منه رأيا ونصحا قالوا أجل فادخل فدخل معهم وقد اجتمع فيها أشراف قريش وغيرهم
فقال بعضهم لبعض إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم وإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا بمن اتبعه من غيرنا فأجمعوا فيه رأيا
فتشاوروا ثم قال قائل احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله زهيرا والنابغة ومن مضى منهم من هذا الموت حتى يصيبه ما أصابهم
فقال الشيخ النجدي لا والله ما هذا لكم برأي والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم ما هذا لكم برأي فانظروا في غيره
فتشاوروا ثم قال قائل منهم نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا فإذا خرج عنا فو الله ما نبالي أين ذهب ولا حيث وقع إذا غاب عنا وفرغنا منه فأصلحنا وألفتنا كما كانت
(1/258)
قال الشيخ النجدي لا والله ما هذا لكم برأي ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال لما يأتي به والله لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل على حي من أحياء العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم فيأخذ أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد أديروا فيه رأيا غير هذا
فقال أبو جهل والله إن لي فيه لرأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد
قالوا وما هو يا أبا الحكم
قال أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسبيا وسيطا فينا ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا فرضوا منا بالعقل فعقلناه لهم
فقال الشيخ النجدي القول ما قاله الرجل هو الرأي لا رأي غيره
فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له
فأتي جبريل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه
فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه فلما رأى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مكانهم قال لعلي بن أبي طالب نم على فراشي وتسج بردى هذا الحضرمي الأخضر فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ينام في برده ذلك إذا نام
فاجتمعوا له وفيهم أبو جهل فقال وهو على بابه إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم جنان كجنان الأردن وإن لم تفعلوا كان لكم فيه ذبح ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم نار تحرقون فيها
وخرج عليهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأخذ حفنة من تراب في يده ثم قال نعم أنا الذي أقول ذلك أنت أحدهم
(1/259)
وأخذ الله على أبصارهم عنه فلا يرونه وجعل ينثر ذلك التراب على رءوسهم وهو يتلو هؤلاء الآيات يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين إلى قوله تعالى وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون ( يس 9 )
حتى فرغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من هؤلاء الآيات ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابا ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب
فأتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال ما تنتظرون ها هنا قالوا محمدا قال خيبكم الله قد والله خرج عليكم محمد ثم ما ترك منكم رجلا إلا وضع على رأسه ترابا وانطلق لحاجته أفلا ترون ما بكم
فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب ثم جعلوا يطلعون
فيرون عليا على الفراش متسجيا برد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيقولون والله إن هذا لمحمد نائما عليه برده فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا فقام علي عن الفراش فقالوا والله لقد صدقنا الذي كان حدثنا
فكان مما أنزل الله من القرآن في ذلك اليوم وما كانوا أجمعوا له قول الله سبحانه وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ( الأنفال 30 )
وأذن الله تبارك وتعالى عند ذلك لنبيه في الهجرة
ذكر الحديث عن خروج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأبي بكر الصديق رضي الله عنه مهاجرين إلى المدينة
حدث عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت كان لا يخطئ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار إما بكرة وإما عشية حتى إذا كان اليوم الذي أذن الله فيه لرسوله في الهجرة والخروج من مكة من بين ظهراني قومه أتانا بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها قالت فلما رآه أبو بكر قال ما جاء رسول الله {صلى الله عليه وسلم} هذه الساعة إلا من حدث
فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره فجلس عليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أخرج عني من عندك فقال يا نبي الله إنما هما ابنتاي وما ذاك فداك أبي وأمي
فقال إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة
(1/260)
فقال أبو بكر الصحبة يا رسول الله قال الصحبة
قالت فوالله ما شعرت قط قبل ذلك أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ
ثم قال يا نبي الله إن هاتين الراحلتين قد كنت أعددتهما لهذا
وكان أبو بكر رجلا ذا مال فكان حين استأذن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في الهجرة فقال له لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا قد طمع بأن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إنما يعني نفسه فابتاع راحلتين فحبسهما في داره يعلفهما إعدادا لذلك
واستأجر عبد الله بن أريقط رجلا من بنى الديل بن بكر وكان مشركا يدلهما الطريق ودفعا إليه راحلتيهما فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما
قال ابن إسحاق ولم يعلم بخروج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين خرج أحد إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق وآل أبي بكر
أما علي فإن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أخبره بخروجه وأمر أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الودائع التي كانت عنده للناس ولم يكن بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده لما يعلم من صدقه وأمانته
فلما أجمع عليه السلام الخروج أتى أبا بكر فخرجا من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته ثم عمدا إلى غار بثور جبل بأسفل مكة فدخلاه
وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهارا ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر فكان يفعل ذلك وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره ثم يريحها عليهما إذا أمسى في الغار فكان عامر يرعى في رعيان أهل مكة فإذا أمسى أراح عليهما فاحتلبا وذبحا فإذا غدا عبد الله بن أبي بكر من عندها إلى مكة تبع عامر أثره بالغنم حتى يعفي عليه وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما من الطعام بما يصلحهما
وذكر ابن هشام عن الحسن بن أبي الحسن قال انتهى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأبو بكر إلى الغار ليلا فدخل أبو بكر قبله فلمس الغار لينظر فيه سبع أو حية يقي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بنفسه
(1/261)
ولما فقدت قريش رسول الله {صلى الله عليه وسلم} طلبوه بمكة أعلاها وأسفلها وبعثوا القافة يتبعون أثره في كل وجه فوجد الذي ذهب قبل ثور أثره هناك فلم يزل يتبعه حتى انقطع له لما انتهى إلى ثور وشق على قريش خروج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عنهم وجزعوا لذلك فطفقوا يطلبونه بأنفسهم فيما قرب منهم ويرسلون من يطلبه فيما بعد عنهم وجعلوا مائة ناقة لمن رده عليهم ولما انتهوا إلى فم الغار وقد كانت العنكبوت ضربت على بابه بعشاش بعضها على بعض بعد أن دخله
رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما ذكروا قال قائل منهم ادخلوا الغار فقال أمية بن خلف وما أربكم إلى الغار إن عليه لعنكبوتا أقدم من ميلاد محمد
قالوا فنهى النبي {صلى الله عليه وسلم} يومئذ عن قتل العنكبوت وقال إنها جند من جنود الله
وخرج أبو بكر البزار في مسنده من حديث أبي مصعب المكي قال أدركت زيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة وأنس بن مالك يحدثون أن النبي {صلى الله عليه وسلم} لما كان ليلة بات في الغار أمر الله تبارك وتعالى شجرة فنبتت في وجه الغار فسترت وجه النبي {صلى الله عليه وسلم} وأمر الله العنكبوت فنسجت علي وجه الغار وأمر الله عز وجل حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار وأتى المشركون من كل بطن حتى إذا كانوا من النبي {صلى الله عليه وسلم} على قدر أربعين ذراعا معهم قسيهم وعصيهم تقدم رجل منهم فنظر فرأى الحمامتين فرجع فقال لأصحابه ليس في الغار شيء رأيت حمامتين على فم الغار فعرفت أن ليس فيه أحد
فسمع قوله النبي {صلى الله عليه وسلم} فعرف أن الله قد درأ بهما عنه فشمت عليهما وفرض جزاءهما واتخذت في حرم الله ففرخن أحسبه قال فأصل كل حمام في الحرم من فراخهما
وذكر قاسم بن ثابت فيما تولى شرحه من الحديث أن الله أنبت الراءة على باب الغار لما دخله رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأبو بكر رضي الله عنه قال وهي شجرة معروفة
قال غيره تكون مثل قامة الإنسان ولها زهر أبيض تحشى به المخاد للينه وخفته
وحكى الواقدي أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لما دخل الغار دعا بشجرة كانت أمام الغار فأقبلت حتى وقفت على باب الغار فحجبت أعين الكفار وهم يطوفون في الجبل
(1/262)
وقال أبو بكر لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} يومئذ يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى
قدميه لأبصرنا تحت قدميه فقال يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما
وأقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأبو بكر معه في الغار ثلاثا حتى إذا مضت الثلاث وسكن عنهما الناس أتاهما صاحبهما الذي استأجرا ببعيريهما وأتتهما أسماء بنت أبي بكر بسفرتهما ونسيت أن تجعل لها عصاما فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس فيها عصام فتحل نطاقها فتجعله عصاما ثم تعلقها به فكان يقال لها ذات النطاق لذلك فيما ذكر ابن إسحاق
وأما ابن هشام فذكر أنها إنما يقال لها ذات النطاقين وهو المشهور عنها رضي الله عنها وذكر أنه سمع غير واحد من أهل العلم يفسره بأنها شقت نطاقها باثنين فعلقت السفرة بواحد وانتطقت بالآخر
قال ابن إسحاق فلما قرب أبو بكر الراحلتين إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قدم له أفضلهما ثم قال اركب فداك أبي وأمي فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إني لا أركب بعيرا ليس لي قال فهي لك يا رسول الله بأبي أنت وأمي قال لا ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به قال كذا وكذا قال قد أخذتها بذلك فركبا وانطلقا وأردف أبو بكر خلفه مولاه عامر بن فهيرة ليخدمهما في الطريق
قال فحدثت عن أسماء بنت أبي بكر قالت لما خرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأبو بكر أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل فقالوا أين أبوك يا ابنة أبي بكر قلت لا أدري والله فرفع أبو جهل يده وكان فاحشا خبيثا فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي ثم انصرفوا فمكثنا ثلاث ليال ما ندري أين وجه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى أقبل رجل من الجن من أسفل مكة يتغنى بأبيات من شعر غناء العرب
وإن الناس ليتبعونه يسمعون صوته وما يرونه حتى خرج من أعلى مكة وهو يقول
جزى الله رب الناس خير جزائه
رفيقين حلا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالبر ثم تروحا
فأفلح من أمسى رفيق محمد
ليهن بني كعب مكان فتاتهم
ومقعدها للمؤمنين بمرصد
الطويل
قالت أسماء فلما سمعنا قوله عرفنا حيث وجه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأن وجهه إلى المدينة
(1/263)
وعن غير ابن إسحاق وهو عندنا بالإسناد من طرق أن أم معبد هذه امرأة من بني كعب من خزاعة وأن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين خرج من مكة مهاجرا إلى المدينة هو وأبو بكر ومولاه عامر بن فهيرة ودليلهما الليثي عبد الله بن الأريقط مروا على خيمتي أم معبد الخزاعية وكانت امرأة برزة جلدة تحتبي بفناء القبة ثم تسقي وتطعم فسألوها لحما وتمرا ليشتروه منها فلم يصيبوا عندها شيئا من ذلك وكان القوم مرملين مسنتين فنظر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى شاة في كسر الخيمة فقال ما هذه الشاة يا أم معبد قالت شاة خلفها الجهد عن الغنم قال هل بها من لبن قالت هي أجهد من ذلك قال أتأذنين أن أحلبها قالت نعم بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلبا فاحلبها فدعا بها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فمسح بيده ضرعها وسمى الله ودعا لها في شاتها فتفاجت عليه ودرت واجترت ودعا بإناء يربض الرهط فحلب فيه ثجا حتى علاه البهاء ثم سقاها حتى رويت وسقي أصحابه حتى رووا وشرب آخرهم ثم أراضوا ثم حلب فيه ثانيا بعد بدء حتى ملأ الإناء ثم غادره عندها وبايعها وارتحلوا عنها
فقل ما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزلا ضخامهن قليل فلما رأى أبو معبد اللبن عجب وقال من أين لك هذا اللبن يا أم معبد والشاء عازب حيال ولا حلوب في البيت قالت لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا قال صفيه لي يا أم معبد قالت رأيت
(1/264)
رجلا ظاهر الوضاءة أبلج الوجه حسن الخلق لم يعبه ثجلة ولم تزر به صعلة وسيم قسيم في عينيه دعج وفي أشفاره غطف وفي عنقه سطع وفي صوته صحل وفي لحيته كثافة أزج أقرن إن صمت فعليه الوقار وإن تكلم سما وعلاه البهاء أجمل وأبهاه من بعيد وأحسنه وأجمله من قريب حلو المنطق فصل لا نزر ولا هذر كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن ربعة لا يائس من طول ولا تقتحمه عين من قصر غصن بين غصنين فهو أنضر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدرا له رفقاء يحفون به إن قال أنصتوا لقوله وإن أمر تبادروا لأمره محفود محشود لا عابس ولا مفند
قال أبو معبد هو والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة ولقد هممت أن أصحبه ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا
وأصبح صوت بمكة عال يسمعون الصوت ولا يدرون من صاحبه وهو يقول
جزى الله رب الناس خير جزائه
رفيقين قالا خيمتي أم معبد
هما نزلاها بالهدى فاهتدت به
فقد فاز من أمسى رفيق محمد
فيا لقصي ما زوى الله عنكم
به من فعال لا تجارى وسؤدد
ليهن بني كعب مقام فتاتهم
ومقعدها للمؤمنين بمرصد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها
فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
دعاها بشاة حائل فتحلبت
له بصريح ضرة الشاة مزبد
فغادرها رهنا لديها لحالب
يرددها في مصدر ثم مورد
الطويل
فلما سمع بذلك حسان بن ثابت جعل يجاوب الهاتف ويقول
لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم
وقدس من يسري إليهم ويغتدي
ترحل عن قوم فضلت عقولهم
وحل على قوم بنور مجدد
هداهم به بعد الضلالة ربهم
وأرشدهم من يتبع الحق يرشد
وهل يستوي ضلال قوم تسكعوا
عمى وهداة يهتدون بمهتدي
لقد نزلت منهم على أهل يثرب
ركاب هدى حلت عليهم بأسعد
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله
ويتلو كتاب الله في كل مسجد
وإن قال في يوم مقالة غائب
فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد
ليهن أبا بكر سعادة جده
بصحبته من يسعد الله يسعد
الطويل
(1/265)
وذكر أبو منصور محمد بن سعد الماوردي بإسناد له إلى قيس بن النعمان قال لما انطلق رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأبو بكر معه يستخفيان في الغار فمرا بعبد يرعى غنما فاستسقياه من اللبن فقال والله ما لي شاة تحلب غير أن ها هنا عناقا حملت أول الشاء فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ائتنا بها فدعا لها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالبركة ثم حلب عسا فسقى أبا بكر ثم حلب آخر فسقى الراعي ثم حلب فشرب
فقال العبد من أنت فوالله ما رأيت مثلك قط
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أتراك إن حدثتك تكتم علي قال نعم قال فإني محمد رسول الله قال أنت الذي تزعم قريش أنك صابئ قال إنهم ليقولون ذلك قال العبد فإني أشهد أنك رسول الله وأن ما جئت به الحق وأنه ليس يفعل فعلك إلا نبي ثم قال العبد أتبعك قال لا حتى تسمع بنا أنا قد ظهرنا
وخرج البرقاني في مصافحته من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما وأورده الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديثه قال اشترى أبو بكر رضي الله عنه من عازب رحلا بثلاثة عشر درهما فقال أبو بكر لعازب مر البراء أن يحمله إلى أهلي فقال له عازب حتى تحدثني كيف صنعت أنت ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين خرجتما من مكة والمشركون يطلبونكم قال
ارتحلنا من مكة فأحثثنا يومنا وليلتنا حتى أظهرنا وقام قائم الظهيرة فرميت ببصري هل أرى من ظل نأوى إليه فإذا أنا بصخرة فانتهيت إليها فإذا بقية ظل لها فنظرت بقية ظلها فسويته وفرشت لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فروة وقلت اضطجع يا رسول الله فاضطجع
(1/266)
ثم ذهبت أنظر ما حوله هل أرى من الطلب أحدا فإذا أنا براعي غنم يسوق غنمه إلى الصخرة يريد منها مثل الذي أريد يعني الظل فسألته فقلت لمن أنت يا غلام قال لفلان رجل من قريش سماه فعرفته فقلت هل في غنمك من لبن قال نعم قلت هل أنت حالب لي قال نعم فاعتقل شاة من غنمه فأمرته أن ينفض ضرعها من الغبار ثم أمرته أن ينفض كفيه فقال هكذا فضرب إحدى يديه على الأخرى فحلب لي كثبة من لبن وقد رويت معي لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} إداوة على فمها خرقة فصببت على اللبن حتى برد أسفله فانتهيت إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقد استيقظ قلت يا رسول الله اشرب فشرب حتى رضيت وقلت قد آن الرحيل يا رسول الله
فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له فقلت هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله وبكيت قال لا تحزن إن الله معنا
قال فلما دنا فكان بيننا وبينه قدر رمحين أو ثلاثة قلت هذا الطلب يا رسول الله قد بلغنا وبكيت قال ما يبكيك فقلت أما والله ما على نفسي أبكي ولكني أبكي عليك
فدعا عليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اللهم اكفناه بما شئت فساخت فرسه في الأرض إلى بطنها فوثب عنها وقال يا محمد قد علمت أن هذا عملك فادع الله أن ينجني مما أنا فيه فو الله لأعمين على من ورائي من الطلب وهذه كنانتي فخذ منها سهما فإنك ستمر على إبلي وغنمي بمكان كذا وكذا فخذ منها حاجتك
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لا حاجة لي في إبلك ودعا له فانطلق راجعا إلى أصحابه
وفي حديث البخاري ومسلم فجعل لا يلقى أحدا إلا قال قد كفيتكم ما هنا فلا يلقى أحدا إلا رده قال ووفى لنا
وعن سراقة بن مالك بن جعشم فيما أورده ابن إسحاق قال لما خرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من مكة مهاجرا إلى المدينة جعلت قريش فيه مائة ناقة لمن رده عليهم
قال فبينما أنا جالس في نادي قومي أقبل رجل منا حتى وقف علينا فقال والله لقد رأيت ركبة ثلاثة مروا علي آنفا إني لأراهم محمدا وأصحابه
(1/267)
قال فأومأت إليه يعني أن أسكت ثم قلت إنما هم بنو فلان يتبعون ضالة لهم قال لعله ثم سكت
فمكثت قليلا ثم قمت فدخلت بيتي ثم أمرت بفرسي فقيد لي إلى بطن الوادي وبسلاحي فأخرج لي من دبر حجرتي ثم أخذت قداحي التي أستقسم بها ثم انطلقت فلبست لامتي ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها فخرج السهم الذي أكره لا يضره وكنت أرجو أن أرده على قريش فآخذ المائة
فركبت على أثرة فبينا فرسي يشتد بي عثر بي فسقطت عنه فقلت ما هذا ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها فخرج السهم الذي أكره لا يضره فأبيت إلا أن أتبعه فركبت في أثره فبينما فرسي يشتد بي عثر بي فسقطت عنه فقلت ما هذا ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها فخرج السهم الذي أكره لا يضره فأبيت إلا أن أتبعه فركبت في أثره فلما بدا لي القوم عثر بي فرسي وذهبت يداه في الأرض وسقطت عنه ثم انتزع يديه من الأرض وتبعها دخان كالإعصار فعرفت حين رأيت ذلك أنه قد منع مني وأنه ظاهر
فناديت القوم أنا سراقه بن جعشم انظروني أكلمكم فو الله لا أريبكم ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لأبي بكر رضي الله عنه قل له من تبتغي قال تكتبوا لي كتابا يكون آيه بيني وبينك قال اكتب يا أبا بكر فكتب لي كتابا في عظم أو في رقعة أو في خرقة ثم ألقاه إلي فأخذته فجعلته في كنانتي ثم رجعت فلم أذكر شيئا مما كان حتى إذا كان فتح مكة على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وفرغ من حنين والطائف خرجت ومعي الكتاب لألقاه فلقيته بالجعرانة فدخلت في كتيبة من خيل الأنصار فجعلوا يقرعونني بالرماح ويقولون إليك إليك ماذا تريد
(1/268)
فدنوت من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو على ناقته والله لكأني أنظر إلى ساقه في غرزه كأنها جمارة فرفعت يدي بالكتاب ثم قلت يا رسول الله هذا كتابك لي أنا سراقة بن جعشم فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يوم وفاء وبر ادن فدنوت فأسلمت ثم تذكرت شيئا أسأل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عنه فما أذكره إلا أني قلت يا رسول الله الضالة من الإبل تغشى حياضي وقد ملأتها لأبلي هل لي من أجر في أن أسقيها قال نعم في كل ذات كبد حرى أجر
ثم رجعت إلى قومي فسقت إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} صدقتي
وفي حديث آخر عن غير ابن إسحاق أن سراقة بن مالك بن جعشم هذا كان شاعرا مجيدا وأنه قال يخاطب أبا جهل بن هشام بعد انصرافه عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
أبا حكم والله لو كنت شاهدا
لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه
علمت ولم تشكك بأن محمدا
رسول ببرهان فمن ذا يقاومه
عليك بكف القوم عنه فإنني
أرى أمره يوما ستبدو معالمه
بأمر يود الناس فيه بأسرهم
بأن جميع الناس طرا يسالمه
الطويل
وذكر ابن إسحاق من رواية يونس بن بكير عنه شعرا نسبه إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه يذكر فيه مسيره مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقصة الغار وأمر سراقة وهو
قال النبي ولم يجزع يوقرني
ونحن في سدفة من ظلمة الغار
لا تخش شيئا فإن الله ثالثنا
وقد توكل لي منه بإظهار
وإنما كيد من تخشى بوادره
كيد الشياطين كادته لكفار
والله مهلكهم طرا بما كسبوا
وجاعل المنتهى منهم إلى النار
وأنت مرتحل عنهم وتاركهم
إما غدوا وإما مدلج ساري
وهاجر أرضهم حتى يكون لنا
قوم عليهم ذوو عز وأنصار
حتى إذا الليل وارتنا جوانبه
وسد دون الذي نخشى بأستار
سار الأريقط يهدينا وأنيقه
ينعين بالقرم نعيا تحت أكوار
يعسفن عرض الثتايا بعد أطولها
وكل سهب رقاق الترب موار
حتى إذا قلت قد أنجدن عارضها
من مدلج فارس في منصب وار
يردي به مشرف الأقطار معتزم
كالسيد ذي اللبدة المستأسد الضاري
فقال كروا فقلنا إن كرتنا
من دونها لك نصر الخالق الباري
إن يخسف الأرض بالأحوى وفارسه
فانظر إلى أربع في الأرض غوار
(1/269)
فهيل لما رأى أرساغ مقربه
قد سخن في الأرض لم تحفر بمحفار
فقال هل لكم أن تطلقوا فرسي
وتأخذوا موثقي في نصح أسرار
وأصرف الحي عنكم إن لقيتهم
وأن أعور منهم عين عوار
فادع الذي هو عنكم كف عدوتنا
يطلق جوادي وأنتم خير أبرار
فقال قولا رسول الله مبتهلا
يا رب إن كان منه غير إخفار
فنجه سالما من شر دعوتنا
ومهره مطلقا من كلم آثار
فأظهر الله إذ يدعو حوافره
وفاز فارسه من هول أخطار
البسيط
وسراقة بن مالك هذا الذي أظهر الله فيه هذا العلم العظيم من أعلام نبوة نبينا محمد {صلى الله عليه وسلم} قد أظهر الله فيه أثرا آخر من الأثار الشاهدة له عليه السلام بأن الله أطلعه من الغيب في حياته ما ظهر مصداقه بعد وفاته
روى سفيان بن عيينه عن أبي موسى عن الحسن أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال لسراقة بن مالك كيف بك إذا لبست سواري كسرى
قال فلما أتى عمر رضي الله عنه بسواري كسرى ومنطقته وتاجه دعا سراقة ابن مالك فألبسه إياهما
وكان سراقه رجلا أزب كثير شعر الساعدين وقال له ارفع يديك فقل الله أكبر الحمد لله الذي سلبها كسرى بن هرمز الذي كان يقول أنا رب الناس وألبسهما سراقة بن مالك بن جعشم أعرابيا من بني مدلج
ورفع بها عمر رضي الله عنه صوته
قال ابن إسحاق وذكر إسنادا رفعه إلى أسماء بنت أبي بكر قالت
لما خرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وخرج معه أبو بكر احتمل أبو بكر ماله كله خمسة آلاف أو ستة فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره فقال والله إني لأراه قد فجعلكم بماله مع نفسه فقلت يا أبت إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا
فأخذت أحجارا فوضعتها في كوة كان أبي يضع ماله فيها ثم وضعت عليها ثوبا ثم أخذت بيده فقلت يا أبت ضع يدك على هذا المال قالت فوضع يده عليه ثم قال لا بأس إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن وفي هذا بلاغ لكم
ولا والله ما ترك لنا شيئا ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك
(1/270)
وذكر ابن إسحاق الطريق التي سلك برسول الله {صلى الله عليه وسلم} وبأبي بكر الصديق رضي الله عنه دليلهما عبد الله بن أريقط والمناقل التي سار بهما عليهما إلى أن قدم بهما قباء على بني عمرو بن عوف لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول يوم الاثنين حين اشتد الضحى وكادت الشمس تعتدل
وقال غير ابن إسحاق قدمها لثمان خلون من ربيع الأول
فانطلقت حتى إذا وازنت دار بني بياضة تلقاه زياد بن لبيد وفروة بن عمرو في رجال من بني بياضة فقالوا يا رسول الله هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة قال خلوا سبيلها فإنها مأمورة فخلوا سبيلها
حتى إذا مرت بدار بني ساعدة اعترضه سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو في رجال منهم فقالوا يا رسول الله هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة قال خلوا سبيلها فإنها مأمورة فخلوا سبيلها
فانطلقت حتى إذا وازنت دار بني الحارث بن الخزرج اعترضه سعد بن الربيع وخارجة بن زيد بن أبي زهير وعبد الله بن رواحة في رجال من بلحارث فقالوا يا رسول الله هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة قال خلو سبيلها فإنها مأمورة فخلوا سبيلها
فانطلقت حتى إذا مرت بدار بني عدي بن النجار وهم أخواله دنيا أم عبد المطلب سلمى بنت عمرو إحدى نسائهم اعترضه سليط بن قيس وأبو سليط أسيرة بن أبي خارجة في رجال منهم فقالوا يا رسول الله هلم إلى أخوالك إلى العدد والعدة والنعة قال خلوا سبيلها
حتى إذا أتت دار بني مالك بن النجار بركت على باب مسجده وهو يومئذ مربد لغلامين يتيمين من بني مالك بن النجار في حجر معاذ بن عفراء فلما بركت ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} عليها لم ينزل وثبت فسارت غير بعيد ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} واضع لها زمامها لا يثنيها به ثم التفتت خلفها فرجعت إلى مبركها أول مرة فبركت فيه ثم تحلحلت ورزمت ووضعت جرانها فنزل عتها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فاحتمل أبو أيوب رحله فوضعه في بيته
(1/271)
ونزل عليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى بنى مسجده ومساكنه وسأل عن المربد لمن هو فقال له معاذ بن عفراء هو يا رسول الله لسهل وسهيل ابني عمرو وهما يتيمان له وسأرضيهما منه فاتخذه مسجدا
فأمر به رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يبنى وعمل فيه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ليرغب المسلمين في العمل فيه فعمل فيه المهاجرون و الأنصار ودأبوا فقال قائل من المسلمين
ونزل أبو بكر الصديق رضي الله عنه على خبيب بن إساف أحد بني الحارث بن الخزرج بالسنج ويقال على خارجة بن زيد بن أبي زهير منهم
وأقام علي بن أبي طالب بمكة ثلاث ليال وأيامها حتى أدى عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الودائع التي كانت عنده للناس حتى إذا فرغ منها لحق برسول الله {صلى الله عليه وسلم} فنزل معه
فكان علي رضي الله عنه وإنما كانت إقامته بقباء ليلة أو ليلتين يقول كانت بقباء امرأة مسلمة لا زوج لها فرأيت إنسانا يأتيها من جوف الليل فيضرب عليها بابها فتخرج إليه فيعطيها شيئا معه فتأخذه
قال فاستربت شأنه فقلت لها يا أمة الله من هذا الذي يضرب عليك بابك كل ليلة فتخرجين إليه فيعطيك شيئا لا أدري ما هو وأنت امرأة مسلمة لا زوج لك
قالت هذا سهل بن حنيف قد عرف أني امرأة لا أحد لي فإذا أمسى عدا على أوثان قومه فكسرها ثم جاءني بها فقال احتطبي بهذا
فكان علي رضي الله عنه يأثر ذلك في أمر سهل بن حنيف حين هلك عنده بالعراق
قال ابن إسحاق فأقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بقباء في بني عمرو بن عوف يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وأسس مسجدهم ثم أخرجه الله تعالى من بين أظهرهم يوم الجمعة
وبنو عمرو بن عوف يزعمون أنه مكث فيهم أكثر من ذلك فالله أعلم
فأدركت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي وادي رانوناء فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة
فأتاه عتبان بن مالك وعباس بن عبادة بن نضلة في رجال من بني سالم فقالوا يا رسول الله صلى الله عليك أقم عندنا في العدد والعدة والمنعة قال خلوا سبيلها فإنها مأمورة لناقته فخلوا سبيلها
(1/272)
فانطلقت حتى إذا وازنت دار بني بياضة تلقاه زياد بن لبيد وفروة بن عمرو في رجال من بني بياضة فقالوا يا رسول الله هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة قال خلوا سبيلها فإنها مأمورة فخلوا سبيلها
حتى إذا مرت بدار بني ساعدة اعترضه سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو في رجال منهم فقالوا يا رسول الله هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة قال خلوا سبيلها فإنها مأمورة فخلوا سبيلها
فانطلقت حتى إذا وازنت دار بني الحارث بن الخزرج اعترضه سعد بن الربيع وخارجة بن زيد بن أبي زهير وعبد الله بن رواحة في رجال من بلحارث فقالوا يا رسول الله هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة قال خلو سبيلها فإنها مأمورة فخلوا سبيلها
فانطلقت حتى إذا مرت بدار بني عدي بن النجار وهم أخواله دنيا أم عبد المطلب سلمى بنت عمرو إحدى نسائهم اعترضه سليط بن قيس وأبو سليط أسيرة بن أبي خارجة في رجال منهم فقالوا يا رسول الله هلم إلى أخوالك إلى العدد والعدة والنعة قال خلوا سبيلها
حتى إذا أتت دار بني مالك بن النجار بركت على باب مسجده وهو يومئذ مربد لغلامين يتيمين من بني مالك بن النجار في حجر معاذ بن عفراء فلما بركت ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} عليها لم ينزل وثبت فسارت غير بعيد ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} واضع لها زمامها لا يثنيها به ثم التفتت خلفها فرجعت إلى مبركها أول مرة فبركت فيه ثم تحلحلت ورزمت ووضعت جرانها فنزل عتها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فاحتمل أبو أيوب رحله فوضعه في بيته
ونزل عليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى بنى مسجده ومساكنه وسأل عن المربد لمن هو فقال له معاذ بن عفراء هو يا رسول الله لسهل وسهيل ابني عمرو وهما يتيمان له وسأرضيهما منه فاتخذه مسجدا
فأمر به رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يبنى وعمل فيه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ليرغب المسلمين في العمل فيه فعمل فيه المهاجرون و الأنصار ودأبوا فقال قائل من المسلمين
لئن قعدنا والنبي يعمل
لذلك منا العمل المضلل
الرجز
(1/273)
وحدث أبو أيوب قال لما نزل علي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في بيتي نزل في السفل وأنا وأم أيوب في العلو فقلت له يا نبي الله بأبي أنت وأمي إني لأكره وأعظم أن أكون فوقك وتكون تحتي فاظهر أنت فكن في العلو ونزل نحن فنكون في السفل فقال يا أبا أيوب إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سفل البيت
فلقد انكسر حب لنا فيه ماء فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة ما لنا لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفا أن يقطر على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} منه شيء فيؤذيه
فكنا نصنع له العشاء ثم نبعث به إليه فإذا رد علينا فضله تيممت أنا وأم أيوب موضع يده فأكلنا منه نبتغي بذلك البركة حتى بعثنا إليه بعشائه وقد جعلنا له فيه بصلا وثوما فرده رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ولم أر ليده فيه أثرا فجئته فزعا فقلت يا رسول الله بأبي وأمي رددت عشاءك ولم أر فيه موضع يدك وكنت إذا رددته علينا تيممت أنا وأم أيوب موضع يدك نبتغي بذلك البركة قال إني وجدت فيه ريح هذه الشجرة وأنا رجل أناجي فأما أنتما فكلوه فأكلناه ولم نصنع له تلك الشجرة بعد
قال ابن إسحاق وتلاحق المهاجرون إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلم يبقى بمكة منهم أحد إلا مفتون أو محبوس ولم يوعب أهل هجرة من مكة بأهليهم وأموالهم إلى الله تبارك وتعالى وإلى رسوله {صلى الله عليه وسلم} إلا أهل دور مسمون
بنو مظعون من بني جمح وبنو جحش بن رئاب حلفاء بني أمية وبنو البكير من بني سعد بن ليث حلفاء بني عدي بن كعب فإن دورهم غلقت بمكة هجرة ليس فيها ساكن
فأقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالمدينة إذ قدمها شهر ربيع الأول إلى صفر من السنة الداخلة بني له فيها مسجده ومساكنه
(1/274)
قال وكانت أول خطبة خطبها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما بلغني عن أبي سلمة بن عبد الرحمن نعوذ بالله أن نقول على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما لم يقل أنه قام فيهم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال أما بعد أيها الناس فقدموا لأنفسكم تعلمن والله ليصعقن أحدكم ثم ليدعن غنمه ليس لها راع ثم ليقولن له ربه ليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه ألم يأتك رسولي فبلغك وآتيتك مالا وأفضلت عليك فما قدمت لنفسك
فلينظرن يمينا وشمالا فلا ترى شيئا ثم لينظرن قدامه فلا يرى غير جهنم
فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل ومن لم يجد فبكلمة طيبة فإن بها تجزي الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال ابن إسحاق ثم خطب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الناس مرة أخرى فقال إن الحمد لله أحمده وأستعينه نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إن أحسن الحديث كتاب الله تبارك وتعالى قد أفلح من زينه الله في قلبه وأدخله في الإسلام بعد الكفر فاختاره على ما سواه من أحاديث الناس إنه أحسن الحديث وأبلغه أحبوا ما أحب الله أحبوا الله من كل قلوبكم ولا تملوا كلام الله وذكره ولا تقس عنه قلوبكم فإنه من كل ما يخلق الله يختار ويصطفي فقد سماه الله خيرته من الأعمال ومصطفاه من العباد والصالح من الحديث ومن كل ما أوتي الناس الحلال والحرام فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا واتقوه حق تقاته واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم وتحابوا بروح الله بينكم إن الله يغضب أن ينكث عهده والسلام عليكم
قال ابن إسحاق وكتب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كتابا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم واشترط عليهم وشرط لهم
(1/275)
وآخى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بين أصحابه من المهاجرين والأنصار فقال فيما بلغنا ونعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يقل تآخوا في الله أخوين أخوين ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال هذا أخي فكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سيد المرسلين وإمام المتقين ورسول رب العالمين الذي ليس له خطير ولا نظير من العباد وعلي بن أبي طالب أخوين
ثم سمى ابن إسحاق نفرا ممن آخى بينهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من أصحابه تركنا ذكرهم اختصارا
قال وهلك في تلك الأشهر أبو أمامة أسعد بن زرارة والمسجد يبنى أخذته الذبحة أو الشهقة فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بئس الميت أبو أمامة ليهود ولمنافقي العرب يقولون لو كان نبيا لم يمت صاحبه ولا أملك لنفسي ولا لصاحبي من الله شيئا
ولما مات أبو أمامة اجتمعت بنو النجار إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكان أبو أمامة نقيبهم فقالوا يا رسول الله إن هذا كان منا حيث قد علمت فاجعل منا رجلا مكانه يقيم في أمرنا ما كان يقيم
فقال لهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنتم أخوالي وأنا أولى بكم فأنا نقيبكم وكره رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يخص بها بعضهم دون بعض
فكان من فضل بني النجار الذي يعدون على قومهم أن كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نقيبهم
قال ابن إسحاق فلما اطمأن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالمدينة واجتمع إليه إخوانه من المهاجرين واجتمع أمر الأنصار استحكم أمر الإسلام فقامت الصلاة وفرضت الزكاة والصيام وقامت الحدود وفرض الحلال والحرام وتبوأ الإسلام بين أظهرهم وكان هذا الحي من الأنصار الذين تبوأوا الدار والإيمان
وقد كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين قدمها إنما يجتمع إليه الناس للصلاة في حين مواقيتها بغير دعوة فهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يجعل بوقا كبوق يهود الذي يدعون به لصلاتهم ثم كرهه ثم أمر بالناقوس فنحت ليضرب به المسلمين للصلاة
(1/276)
فبيناهم على ذلك رأى عبد الله بن زيد أخو بلحارث بن الخزرج النداء فأتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال له يا رسول الله إنه طاف في هذه الليلة طائف مر بي رجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوسا في يده فقلت يا عبد الله أتبيع هذا الناقوس قال وما تصنع به قلت ندعوا به إلى الصلاة قال أفلا أدلك على خير من ذلك قلت وما هو قال تقول الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله ألا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله
فلما أخبر بها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال إنها لرؤيا حق إن شاء الله فقم مع بلال فألقها عليه فليؤذن بها فإنه أندى صوتا منك
فلما أذن بها بلال سمعها عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو يجر رداءه وهو يقول يا نبي الله والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي رأى فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلله الحمد
وذكر ابن هشام عن عبيد بن عمير أن عمر بن الخطاب بينا هو يريد أن
يشتري خشبتين للناقوس عندما ائتمر به النبي {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه إذ رأى في المنام أن لا تجعلوا الناقوس بل أذنوا بالصلاة
فذهب عمر إلى النبي {صلى الله عليه وسلم} ليخبره بالذي رأى فما راعه إلا بلال يؤذن وقد جاء النبي {صلى الله عليه وسلم} الوحي بذلك فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين أخبره سبقك بذلك الوحي
قال ابن إسحاق فلما اطمأنت برسول الله {صلى الله عليه وسلم} داره وأظهر الله بها دينه وسره بما جمع من المهاجرين والأنصار من أهل ولايته قال أبو قيس صرمة بن أبي أنس أخو بني عدي بن النجار يذكر ما أكرمهم الله تبارك وتعالى به من الإسلام وما خصهم به من نزول رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عليهم
ثوى في قريش بضع عشرة حجة
يذكر لو يلقي صديقا مواتيا
ويعرض في أهل المواسم نفسه
فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا
فلما أتانا أظهر الله دينه
فأصبح مسرورا بطيبة راضيا
وألفى صديقا واطمأنت به النوى
وكان له عونا من الله هاديا
يقص لنا ما قال نوح لقومه
(1/277)
وما قال موسى إذ أجاب المناديا
فأصبح لا يخشى من الناس واحدا
قريبا ولا يخشى من الناس نائيا
بذلنا له الأموال من جل مالنا
وأنفسنا عند الوغى والتآسيا
ونعلم أن الله لا شيء غيره
ونعلم أن الله أفضل هاديا
نعادي الذي عادى من الناس كلهم
جميعا وإن كان الحبيب المصافيا
أقول إذا أدعوك في كل بيعة
تباركت قد أكثرت لاسمك داعيا
أقول إذا جاوزت أرضا مخوفة
حنانيك لا تظهر علي الأعاديا
فطأ معرضا إن الحتوف كثيرة
وإنك لا تبقى لنفسك باقيا
فوالله ما يدري الفتى كيف يتقي
إذا هو لم يجعل له الله واقيا
ولا تجعل النخل المقيمة ربها
إذا أصبحت ريا وأصبح ثاويا
الطويل
وكان أبو قيس هذا رجلا قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح وفارق الأوثان واغتسل من الجنابة وتطهر من الحائض من النساء وهم بالنصرانية ثم أمسك عنها ودخل بيتا له فاتخذه مسجدا لا يدخل عليه فيه طامث ولا جنب وقال أعبد رب إبراهيم حتى قدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المدينة فأسلم وحسن إسلامه وهو شيخ كبير وكان قوالا بالحق معظما لله في جاهليته يقول في ذلك أشعارا حسانا هو الذي يقول
يقول أبو قيس وأصبح غاديا
ألا ما استطعتم من وصاتي فافعلوا
أوصيكم بالله والبر والتقى
وأعراضكم والبر بالله أول
وإن قومكم سادوا فلا تحسدنهم
وإن كنتم أهل الرياسة فاعدلوا
وإن نزلت إحدى الدواهي بقومكم
فأنفسكم دون العشيرة فاجعلوا
وإن ناب غرم فادح فارفقوهم
وما حملوكم في الملمات فاحلموا
وإن أنتم أمعرتم فتعففوا
وإن كان فضل الخير فيكم فأفضلوا
الطويل
وقال أبو قيس أيضا
سبحوا الله شرق كل صباح
طلعت شمسه وكل هلال
عالم السر والبيان لدينا
ليس ما قال ربنا بضلال
وله الطير تستدير وتأوي
في وكور من آمنات الجبال
وله الوحش بالفلاة تراها
في حقاف وفي ظلال الرمال
وله هودت يهود ودانت
كل دين إذا ذكرت عضال
وله شمس النصارى وقاموا
كل عيد لديهم واحتفال
وله الراهب الحبيس تراه
رهن بؤس وكان ناعم بال
يا بني الأرحام لا تقطعوها
(1/278)
وصلوها قصيرة من طوال
واتقوا الله في ضعاف اليتامي
ربما يستحل غير الحلال
واعلموا أن لليتيم وليا
عالما يهتدي بغير السؤال
ثم مال اليتيم لا تأكلوه
إن مال اليتيم يرعاه والي
يا بني النجوم لا تخزلوها
إن خزل النجوم ذو عقال
يا بني الأيام لا تأمنوها
واحذروا مكرها ومر الليالي
واعلموا أن أمرها لنفاد الخلق
ما كان من جديد وبالي
واجمعوا أمركم على البر والتقوى
وترك الخنا وأخذ الحلال
الخفيف
قال ابن إسحاق ونصب عند ذلك أحبار يهود لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} العداوة بغيا وحسدا وضغنا لما خص الله به العرب من أخذه رسوله منهم
وانضاف إليهم رجال من الأوس والخزرج ممن كان عسى على جاهليته فكانوا أهل نفاق على دين آبائهم من الشرك والتكذيب بالبعث إلا أن الإسلام قهرهم بظهوره واجتماع قومهم عليه فظهروا بالإسلام واتخذوه جنة من القتل ونافقوا في السر فكان هواهم مع يهود لتكذيبهم النبي {صلى الله عليه وسلم} وجحودهم الإسلام
وكانت أحبار يهود هم الذين يسألون رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ويتعنتوته ويأتونه باللبس ليلبسوا الحق بالباطل إلا ما كان من عبد الله بن سلام ومخيريق فكان القرآن ينزل فيما يسألون عنه إلا قليلا من المسائل في الحلال والحرام كان المسلمون يسألون عنها
وكان من حديث عبد الله بن سلام وإسلامه وكان حبرا عالما قال لما سمعت برسول الله {صلى الله عليه وسلم} عرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنا نتوكف له فكنت مسرا لذلك صامتا عليه حتى قدم المدينة
فلما نزل بقباء في بني عمرو بن عوف أقبل رجل حتى أخبر بقدومه وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كبرت فقالت لي عمتي حين سمعت تكبيرتي خيبك الله لو كنت سمعت موسى بن عمران قادما ما زدت
فقلت لها أي عمة هو والله أخو موسى بن عمران وعلى دينه بعث بما بعث به
فقالت أي ابن أخي أهو النبي الذي كنا نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة فقلت لها نعم فقالت فذاك إذا
(1/279)
قال ثم رحت إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأسلمت ثم رجعت إلى أهلي فأمرتهم فأسلموا وكتمت إسلامي من يهود
ثم جئت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقلت يا رسول الله إن يهود قوم بهت وإني أحب أن تدخلني في بعض بيوتك وتغيبني عنهم ثم تسألهم عني حتى يخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامي فإنهم إن علموا به بهتوني وعابوني
قال فأدخلني رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في بعض بيوته ودخلوا عليه فكلموه وسألوه ثم قال لهم أي رجل الحصين بن سلام فيكم فقالوا سيدنا وابن سيدنا وحبرنا وعالمنا
فلما فرغوا من قولهم خرجت عليهم فقلت لهم يا معشر يهود اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة باسمه وصفته فإني أشهد أنه رسول الله وأومن به وأصدقه وأعرفه قالوا كذبت ثم وقعوا بي
فقلت لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} ألم أخبرك يا نبي الله أنهم قوم بهت أهل غدر وكذب وفجور
قال فأظهرت إسلامي وإسلام أهل بيتي وأسلمت عمتي خالدة فحسن إسلامها
قال ابن إسحاق وكان من حديث مخيريق وكان حبرا عالما غنيا كثير الأموال من النخل وكان يعرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بصفته وما يجد في علمه وغلب عليه إلف دينه فلم يزل على ذلك حتى إذا كان يوم أحد وكان يوم السبت قال يا معشر يهود والله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق
قالوا إن اليوم يوم السبت قال لا سبت لكم ثم أخذ سلاحه فخرج حتى أتي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه بأحد وعهد إلى من وراءه من قومه إن قتلت هذا اليوم فأموالي لمحمد يصنع فيها ما أراه الله
فلما اقتتل الناس قاتل حتى قتل وقبض رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أمواله فعامة صدقاته بالمدينة منها
وكان {صلى الله عليه وسلم} فيما بلغني يقول مخيريق خير يهود
(1/280)
قال وحدثني عبد الله بن أبي بكر قال حدثت عن صفية ابنة حيي أنها قالت كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر لم ألقهما مع ولد لهما إلا أخذاني دونه فلما قدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المدينة غدا عليه أبي وعمي مغلسين فلم يرجعا حتى كان مع غروب الشمس فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهويني فهششت إليهما كما كنت أصنع فوالله ما التفت إلي واحد منهما مع ما بهما من الغم وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي أهو هو قال نعم والله قال أتعرفه وتثبته قال نعم قال فما في نفسك منه قال عداوته والله ما بقيت
وكان هذان الأخوان الشقيان من أشد يهود للعرب حسدا لما خصهم الله برسوله {صلى الله عليه وسلم} فكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام بما استطاعا فأنزل الله عز وجل فيهما ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير ( البقرة 109 )
ومر شأس بن قيس وكان شيخا قد عمى عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم على نفر من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية فقال قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار
فأمر شابا من يهود كان معه فقال اعمد إليهم فاجلس معهم ثم اذكر يوم بعاث وما كان فيه وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار وكان يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس وكان عليها يومئذ حضير أبو أسيد بن حضير وعلى الخزرج عمرو بن النعمان البياضي فقتلا جميعا
(1/281)
ففعل الشاب ما أمره به شأس فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب وهما أوس بن قيظي وجبار بن صخر فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه إن شئتم رددناها الآن جذعة وغضب الفريقان جميعا وقالوا قد فعلنا موعدكم الظاهرة وهي الحرة السلاح السلاح
فخرجوا إليها وبلغ ذلك رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم فقال يا معشر المسلمين الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر وألف به بينكم
فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان وكيد من عدوهم فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا ثم انصرفوا مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سامعين مطيعين وقد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شأس بن قيس
فأنزل الله تبارك وتعالى في شأن شأس وما صنع يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن
سبيل الله من آمن تبغونهاعوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون ) ( آل عمران 99 )
وأنزل الله في أوس بن قيظي وجبار بن صخر ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا عما أدخل عليهم شأس من أمر الجاهلية يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقانه ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ( آل عمران 100 - 103 )
(1/282)
قال وحدثت عن سعيد بن جبير أنه قال أتي رهط من يهود رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقالوا له يا محمد هذا الله خلق الخلق فمن خلقه قال فغضب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى انتقع لونه ثم ساورهم غضبا لربه فجاءه جبريل فسكنه فقال خفض عليك يا محمد وجاءه من الله بجواب ما سألوه عنه قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد
فلما تلاها عليهم قالوا فصف لنا يا محمد كيف خلقه كيف ذراعة كيف عضده
فغضب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أشد من غضبه الأول وساورهم فأتاه جبريل فقال له مثل ما قال أول مرة وجاءه من الله تبارك وتعالى بجواب ما سألوه عنه يقول الله جل وعلا وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون ( الزمر 67 )
ودخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه بيت المدارس على يهود فوجد منهم
ناسا كثيرا قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص وكان من علمائهم وأحبارهم ومعه حبر من أحبارهم يقال له أشيع
فقال أبو بكر لفنحاص ويلك يا فنحاص اتق الله وأسلم فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله قد جاءكم بالحق من عنده تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل
فقال فنحاص لأبي بكر والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر وإنه إلينا لفقير وما نتضرع إليه إلينا كما يتضرع وإنا عنه لأغنياء وما هو عنا بغني ولو كان عنا غنيا ما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم ينهاكم عن الربا ويعطيناه ولو كان عنا غنيا ما أعطانا الربا
فغضب أبو بكر فضرب وجه فنحاص ضربا شديدا وقال والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت رأسك أي عدو الله
فذهب فنحاص إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقال يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لأبي بكر ما حملك على ما صنعت فقال أبو بكر يا رسول الله إن عدو الله قال قولا عظيما إنه زعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء فلما قال ذلك غضبت لله مما قال فضربت وجهه
فجحد ذلك فنحاص وقال ما قلت ذلك
(1/283)
فأنزل الله عز وجل فيما قال فنحاص ردا عليه وتصديقا لأبي بكر لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق ( آل عمران 181 )
ونزل في أبي بكر وما بلغه في ذلك من الغضب ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ( آل عمران )
وكان ممن انضاف إلى يهود من المنافقين من الأوس والخزرج فيما ذكروا والله أعلم من الأوس جلاس بن سويد بن الصامت من بني حبيب بن عمرو بن عوف وهو القائل وكان ممن تخلف عن غزوة تبوك لئن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمر
وكان في حجره عمير بن سعد خلف جلاس على أمه بعد أبيه فقال له عمير والله يا جلاس إنك لأحب الناس إلي وأحسنه عندي وأعزه علي أن يصيبه شيء يكرهه ولقد قلت مقالة لئن رفعتها عليك لأفضحنك ولئن صمت عليها ليهلكن ديني ولإحداهما أيسر علي من الأخرى
ثم مشي إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فذكر له ما قال جلاس فحلف جلاس لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالله لقد كذب علي عمير وما قلت ما قال
فأنزل الله فيه يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ( التوبة 74 )
فزعموا أنه تاب فحسنت توبته حتى عرف منه الإسلام والخير
وأخوه الحارث بن سويد قتل المجذر بن زياد البلوي
وذلك أن المجذر فيما ذكر ابن هشام قتل أباه سويد بن الصامت في بعض الحروب إذ كانت بين الأوس والخزرج فلما كان يوم أحد طلب الحارث غرة المجذر ليقتله بأبيه فقتله
وذكر ابن إسحاق أن سويدا إنما قتله معاذ بن عفراء غيلة في غير حرب رماه بسهم فقتله قبل يوم بعاث
قال وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما يذكرون قد أمر عمر بن الخطاب بقتل
(1/284)
الحارث إن هو ظفر به ففاته فكان بمكة ثم بعث إلى أخيه جلاس يطلب التوبة ليرجع إلى قومه فأنزل الله تبارك وتعالى فيه كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين ( آل عمران 86 ) إلى آخر القصة
ونبتل بن الحارث من بني ضبيعة بن زيد بن مالك وهو القائل إنما محمد أذن من حدثه شيئا صدقه
فأنزل الله تعالى ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم ( التوبة 61 )
وفيه قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما ذكر من أحب أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث وكان جسيما أدلم ثائر شعر الرأس أحمر العينين
وذكر أن جبريل أتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال إنه يجلس إليك رجل أدلم ثائر شعر الرأس أسفع الخدين أحمر العينين كأنهما قدران من صفر كبده أغلظ من كبد الحمار ينقل حديثك إلى المنافقين فاحذره
وكانت تلك صفة نبتل بن الحارث فيما يذكرون
وعمرو بن خدام وعبد الله بن نبتل وحارثة بن عامر بن العطاف وابناه زيد ومجمع وهم ممن اتخذ مسجد الضرار
وكان مجمع غلاما حدثا قد جمع من القرآن أكثره وكان يصلي بهم فيه فلما كان زمان عمر بن الخطاب كلم في مجمع ليصلي بقومه بني عمرو بن عوف في مسجدهم فقال لا أو ليس بإمام المنافقين في مسجد الضرار
فقال له مجمع يا أمير المؤمنين والله الذي لا إله إلا هو ما علمت بشيء من أمرهم ولكني كنت غلاما قارئا للقرآن وكانوا لا قرآن معهم فقدموني أصلي بهم وما أرى أمرهم إلا على أحسن ما ذكروا
فزعموا أن عمر رضي الله عنه تركه فصلى بقومه
ومن الخزرج ثم من بني عوف عبد الله بن أبي بن سلول وكان رأس المنافقين وإليه يجتمعون
وهو الذي قال في غزوة بني المصطلق لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل وسيأتي ذكر ذلك مستوفي وبيان سببه عند الانتهاء إلى غزوة بني المصطلق إن شاء الله تعالى
(1/285)
وقدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المدينة وسيد أهلها عبد الله بن أبي هذا لا يختلف عليه في شرفه من قومه اثنان لم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين
حتى جاء الإسلام ومعه في الأوس رجل هو في قومه من الأوس شريف مطاع أبو عامر عبد عمرو بن صيفي بن النعمان أحد بني ضبيعة بن زيد وهو أبو حنظلة الغسيل يوم أحد وكان قد ترهب ولبس المسوح فكان يقال له الراهب فشقيا بشرفهما
أما عبد الله بن أبي فكان قومه قد نظموا له الخرز ليتوجوه ويملكوه عليهم فجاءهم الله تبارك وتعالى برسوله {صلى الله عليه وسلم} وهم على ذلك فلما انصرف عنه قومه إلى الإسلام ضغن ورأى أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد استلبه ملكا فلما رأى قومه قد أبو إلا الإسلام دخل فيه كارها مصرا على نفاق وضغن
وحدث أسامة بن زيد حب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال ركب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى سعد بن عبادة يعوده من شكو أصابه على حمار عليه ألحاف فوقه قطيفة فركبه فخطمه بحبل من ليف وأردفني خلفه فمر بعبد الله بن أبي وحوله رجال من قومه فلما رآه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} تذمم أن يجاوزه حتى ينزل فنزل فسلم ثم جلس فتلا القرآن ودعا إلى الله وذكر به وحذر وبشر وأنذر وعبد الله زام لا يتكلم حتى إذا فرغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال يا هذا إنه لا أحسن من حديثك هذا إن كان حقا فاجلس في بيتك فمن جاءك فحدثه إياه ومن لم يأتك فلا تغشه به ولا تأته في مجلسه بما يكره
فقال عبد الله بن رواحة في رجال كانوا عنده من المسلمين بل فاغشنا به وائتنا في مجالسنا ودورنا وبيوتنا فهو والله ما نحب ومما أكرمنا الله به وهدانا له
فقال عبد الله حين رأى من خلاف قومه ما رأى
متى ما يكن مولاك خصمك لم تزل
تذل ويصرعك الذين تصارع
وهل ينهض البازي بغير جناحه
وإن جد يوما ريشه فهو واقع
الطويل
(1/286)
قال وقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فدخل على سعد بن عبادة وفي وجهه ما قال عدو الله ابن أبي فقال والله يا رسول الله إني لأرى في وجهك شيئا لكأنك سمعت شيئا تكرهه قال أجل ثم أخبره بما قال ابن أبي فقال سعد يا رسول الله ارفق به فوالله لقد جاءنا الله بك وإنا لننظم له الخرز لنتوجه فإنه ليرى أن قد سلبته ملكا
وأما أبو عامر فأبى إلا الكفر والفراق لقومه حين اجتمعوا على الإسلام وأتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين قدم المدينة فقال ما هذا الدين الذي جئت به قال جئت بالحنيفية دين إبراهيم قال فأنا عليها فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إنك لست عليها
قال إنك أدخلت يا محمد في الحنيفية ما ليس منها قال ما فعلت ولكني جئت بها بيضاء نقية قال الكاذب أماته الله طريدا غريبا وحيدا يعرض برسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أجل فمن كذب يفعل الله ذلك به
فكان هو ذلك عدو الله خرج إلى مكة ببضعة عشر رجلا مفارقا للإسلام ولرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لا تقولوا الراهب ولكن قولوا الفاسق
فلما افتتح رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مكة خرج إلى الطائف فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام فمات بها طريدا غريبا وحيدا
قال ابن إسحاق وكان ممن تعوذ بالإسلام ودخل فيه مع المسلمين وأظهره وهو منافق من أحبار يهود من بني قينقاع سعد بن حنيف ونعمان بن أوفى وعثمان بن أوفى وزيد بن اللصيت وهو الذي قال حين ضلت ناقة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ودل على ناقته وجاءه الخبر بما قال عدو الله في رحله إن قائلا قال يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته وإني والله ما أعلم إلا ما علمني الله وقد دلني الله عليها فهي في هذا الشعب قد حبستها شجرة بزمامها
فذهب رجال من المسلمين فوجدوها حيث قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكما وصف
وكان هؤلاء المنافقون المسمون وغيرهم ممن لم يسم يحضرون المسجد فيستمعون أحاديث المسلمين ويسخرون منهم ويستهزئون بدينهم
(1/287)
فاجتمع يوما في المسجد منهم ناس فرآهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يتحدثون بينهم خافضي أصواتهم قد لصق بعضهم ببعض فأمر بهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأخرجوا من المسجد إخراجا عنيفا
فقام أبو أيوب خالد بن زيد إلى عمرو بن قيس أحد بني غنم بن مالك بن النجار وكان صاحب آلهتهم في الجاهلية فأخذ برجله فسحبه حتى أخرجه من المسجد وهو يقول أتخرجني يا أبا أيوب من مربد بني ثعلبة
ثم أقبل أبو أيوب أيضا إلى رافع بن وديعة أحد بني النجار فلببه بردائه ثم نتره نترا شديدا ثم لطم وجهه وأخرجه من المسجد وهو يقول أف لك منافقا خبيثا أدراجك يا منافق من مسجد رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وقام عمارة بن حزم إلى زيد بن عمرو وكان طويل اللحية فأخذ بلحيته فقاده بها قودا عنيفا حتى أخرجه من المسجد ثم جمع عمارة يديه فلدمه بهما في صدره لدمة خر منها قال يقول خدشتني يا عمارة قال أبعدك الله يا
منافق فما أعد الله لك من العذاب أشد من ذلك فلا تقربن مسجد رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وقام أبو محمد رجل من بني النجار وكان بدريا إلى قيس بن عمرو فجعل يدفع في قفاه حتى أخرجه من المسجد وكان قيس غلاما شابا لا يعلم في المنافقين شاب غيره
وقام رجل من بلحارث يقال له عبد الله بن الحارث إلى رجل يقال له الحارث بن عمرو وكان ذا جمة فأخذ بجمته يسحبه سحبا عنيفا على ما مر به من الأرض حتى أخرجه من المسجد
قال يقول المنافق لقد أغلظت يا ابن الحارث فقال له إنك أهل لذلك يا عدو الله لما أنزل الله فيك فلا تقرب مسجد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فإنك نجس
وقام رجل من بني عمرو بن عوف إلى أخيه ذوي بن الحارث فأخرجه من المسجد إخراجا عنيفا وأفف منه وقال غلب عليك الشيطان وأمره
فهؤلاء من حضر المسجد يومئذ من المنافقين فأمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بإخراجهم
ففي هؤلاء من أحبار يهود والمنافقين من الأوس والخزرج نزل صدر سورة البقرة إلى المائة منها فيما بلغني والله أعلم
(1/288)
وقدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المدينة وفد نصارى نجران ستون راكبا فدخلوا عليه المسجد حين صلى العصر عليهم ثياب الحبرات جبب وأردية في جمال رجال بني الحارث بن كعب يقول بعض من رآهم يومئذ من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما رأينا بعدهم وفدا مثلهم
وحانت صلاتهم فقاموا يصلون في المسجد فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} دعوهم فصلوا إلى المشرق وكان فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم في الأربعة عشر منهم ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم العاقب أمير القوم وذو رأيهم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلا عن رأيه واسمه عبد المسيح والسيد ثمالهم
وصاحب رحلهم ومجتمعهم واسمه الأيهم وأبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر ابن وائل أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم وكان أبو حارثة هذا قد شرف فيهم ودرس كتبهم حتى حسن علمه في دينهم فكان ملوكهم قد شرفوه ومولوه وأخدموه وبنوا له الكنائس وبسطوا عليه الكرامات لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم
فلما وجهوا إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من نجران جلس أبو حارثة على بغلة له موجها وإلى جنبه أخ له يقال له كرز بن علقمة ويقال كوز بن علقمة فعثرت بغلة أبي حارثة فقال كوز تعس الأبعد يريد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال له أبو حارثة بل أنت تعست قال ولم يا أخي قال والله إنه للنبي الذي كنا ننتظره فقال له كوز فما يمنعك منه وأنت تعلم هذا قال ما صنع بنا هؤلاء القوم شرفونا ومولونا وأكرمونا وقد أبوا إلا خلافه فلو فعلت نزعوا منا كل ما ترى
فأضمر عليها منه أخوه كوز بن علقمة حتى أسلم بعد ذلك فهو كان يحدث عنه هذا الحديث
(1/289)
وكان أبو حارثة هذا ممن كلم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} هو العاقب والسيد وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف من أمرهم في عيسى عليه السلام يقولون هو الله تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا ويقولون هو ولد الله كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذن لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون ويقولون هو ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد
ففي كل هذا من قولهم قد نزل القرآن مدحضا حججهم ومبطلا دعاويهم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
قال الله العظيم لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال
المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ) ( المائدة 45 ) لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ومن من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون ( المائدة 72 - 75 )
وقال عز من قائل وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ( التوبة 30 - 31 )
ولما كلموا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أمرهم بالإسلام فقال له حبران ممن كلمه منهم قد أسلمنا فقال لهما إنكما لم تسلما فأسلما فقالا بلى قد أسلمنا قبلك
فقال كذبتما يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولدا وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير
قالا فمن أبوه يا محمد
فصمت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلم يجبهما
(1/290)
فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم كله صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها
فافتتح السورة بتنزيه نفسه سبحانه مما قالوا وتوحيده إياها بالخلق والأمر ردا عليهم ما ابتدعوا من الكفر وجعلوا معه من الأنداد ليعرفهم بذلك ضلالتهم فقال جل قوله وتعالى جده آلم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى
للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم ) ( آل عمران 1 - 6 )
ثم استمر سبحانه فيما شاء من التبيان لهم والإعذار إليهم والاحتجاج عليهم وإرشاد عباده المؤمنين إلى سبيل الضراعة إليه بأن لا يزيغ قلوبهم بعد إذ هداهم وأن يهب لهم من لدنه رحمة وما وصل بذلك من قوله الحق وذكره الحكيم
ثم استقبل لهم أمر عيسى وكيف كان بدء ما أراد به فقال إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم
ثم ذكر امرأة عمران ونذرها لله ما في بطنها محررا أي تعبده له سبحانه لا ينتفع به لشيء من الدنيا ثم ما كان من وضعها مريم وتعويذها إياها وذريتها بالله من الشيطان الرجيم
يقول الله تبارك وتعالى فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا أي ضمها وقام عليها بعد أبيها وأمها
ثم قص خبرها وخبر زكريا وما دعا به وما أعطاه إذ وهب له يحيى ثم ذكر مريم وقول الملائكة لها يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين يا مريم اقتنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين يقول الله جل وعز ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم أي يستهمون عليها أيهم يخرج سهمه يكفلها وما كنت لديهم إذ يختصمون أي ما كنت معهم إذ يختصمون فيها
(1/291)
يخبره بخفي ما كتموا منه من العلم تحقيقا لنبوته وإقامة للحجة عليهم بما يأتيهم به مما أخفوا منه
ثم قال تعالى إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه
المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين )
أي هكذا كان أمره لا ما يقولون فيه وإن هذه حالاته التي يتقلب بها في عمره كتقلب بني آدم في أعمارهم صغارا وكبارا إلا أن الله خصه بالكلام في مهده آية لنبوته وتعريفا للعباد مواقع قدرته قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء
أي يصنع ما أراد ويخلق ما يشاء من بشر أو غير بشر ويصور في الأرحام ما يشاء وكيف يشاء بذكر وبغير ذكر
إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون
ثم أخبرها بما يريد به من كرامته وتعليمه الكتاب والحكمة والتوراة المنزلة على موسى قبله والإنجيل المنزل عليه وجعله رسولا إلى بني إسرائيل مؤيدا من الآيات بما هو صادر عن إذنه موقوف على مشيئته تحقيقا لما أراد من نبوته كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله وغير ذلك مما أيده الله به من العجائب المصدقة له وأمره إياهم بتقوى الله وطاعته وقوله لهم إن الله ربي وربكم تبريا من الذي يقولون فيه واحتجاجا لربه عليهم فاعبدوه هذا صراط مستقيم أي هذا الهدي قد حملتكم عليه وجئتكم به فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله إلى آخر قولهم
ثم ذكر رفعه إياه إليه حين اجتمعوا لقتله فقال ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين
ثم أخبرهم ورد عليهم فيما أقروا لليهود بصلبه كيف رفعه وطهره منهم فقال إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم القصة حتى انتهى إلى
(1/292)
قوله ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين
أي قد جاءك الحق من ربك فلا ترتابن به ولا تمترين فيه وإن قالوا كيف خلق عيسى من غير ذكر فقد خلقت آدم من تراب بتلك القدرة من غير أنثى ولا ذكر فكان كما كان عيسى لحما ودما وشعرا وبشرا فليس خلق عيسى من غير ذكر بأعجب من هذا
فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم أي من بعد ما قصصت عليك من خبره وكيفية أمره فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين
نبتهل ندعو باللعنة ونبتهل أيضا نجتهد بالدعاء
إن هذا لهو القصص الحق أي ما أخبرتك به من أمر عيسى وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون
فدعاهم الله إلى النصف وقطع عنهم الحجة
فلما أتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الخبر من الله عز وجل في شأن عيسى وفصل القضاء بينه وبينهم بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه دعاهم إلى ذلك فقالوا يا أبا القاسم دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه
فانصرفوا عنه ثم خلوا بالعاقب وكان ذا رأيهم فقالوا يا عبد المسيح ما ترى فقال والله يا معشر النصارى لقد علمتم أن محمدا لنبي مرسل ولقد جاءكم من خبر صاحبكم بالحق ولقد علمتم ما لاعن قوم نبيا قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم فإن كنتم قد أبيتم إلا ألف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل ثم انصرفوا إلى بلادكم
(1/293)
فأتوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقالوا يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك وأن نتركك على دينك ونرجع إلى ديننا ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالنا فإنكم عندنا رضى
فقال لهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ائتوني العشية أبعث معكم القوي الأمين
فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول ما أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذ رجاء أن أكون صاحبها فرحت إلى الظهر مهجرا فلما صلى بنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الظهر سلم ثم نظر عن يمينه ويساره فجعلت أتطاول له ليراني فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح فدعاه فقال اخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه
قال عمر فذهب بها أبو عبيدة
ولما قدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المدينة قدمها وهي أوبأ أرض الله من الحمى فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم حتى جهدوا فما كانوا يصلون إلا وهم قعود وصرف الله ذلك عن نبيه {صلى الله عليه وسلم} فخرج عليهم صلوات الله عليه وهم يصلون كذلك فقال لهم اعلموا أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم فتجشم المسلمون القيام على ما بهم من الضعف والسقم التماس الفضل
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه ممن أصابته الحمى وكذلك مولياه عامر بن فهيرة وبلال قالت عائشة فدخلت أعودهم قبل أن يضرب علينا الحجاب وهم في بيت واحد وبهم مالا يعلمه إلا الله من الوعك فدنوت من أبي بكر فقلت له كيف تجدك يا أبت فقال
كل امرئ مصبح في أهله
والموت أدنى من شراك نعله
الرجز
فقلت والله ما يدري أبي ما يقول ثم دنوت إلى عامر فقلت كيف تجدك يا عامر فقال
لقد وجدت الموت دون ذوقه
إن الجبان حتفه من فوقه
كل امرئ مجاهد بطوقه
كالثور يحمي جلده بروقه
الرجز
قالت وكان بلال إذا تركته الحمى اضطجع بفناء البيت ثم رفع عقيرته وقال
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة
وهل يبدون لي شامة وطفيل
الطويل
(1/294)
قالت عائشة فذكرت لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما سمعت منهم فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اللهم حبب لنا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد وبارك لنا في مدها وصاعها وانقل وباءها إلى مهيعة وهي الجحفة(1/295)
آمنة الأسعد كتاب الإكتفاء
أبي الربيع سليمان بن موسى الكلاعي الأندلسي _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
شروع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في حرب المشركين وذكر مغازيه التي أعز الله بها الإيمان والمؤمنين
قال ابن إسحاق ثم إن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} تهيأ لحربه وقام فيما أمره الله تبارك الله وتعالى به من جهاد عدوه وقتال من أمره الله بقتاله ممن يليه من مشركي العرب
وخرج غازيا في صفر على رأس اثني عشر شهرا من مقدمه المدينة
حتى بلغ ودان وهي غزوة الأبواء يريد قريشا وبني ضمرة من بكر بن عبد مناة بن كنانة فوادعته فيها بنو ضمرة وكان الذي وادعه منهم عليهم مخشي بن عمرو الضمري وكان سيدهم في زمانه ذلك
ثم رجع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى المدينة ولم يلق كيدا فأقام بها
وبعث في مقامه ذلك عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصي في ستين أو ثمانين راكبا من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد
فسار حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل ثنية المرة فلقي بها جمعا عظيما من قريش فلم يكن بينهم قتال إلا أن سعد بن أبي وقاص قد رمي يومئذ بسهم فكان أول سهم رمي به في سبيل الله
وقال سعد في رميته تلك فيما يذكرون
ألا هل أتى رسول الله أني
حميت صحابتي بصدور نبلي
أذود بها أوائلهم ذيادا
بكل حزونة وبكل سهل
فما يعتد رام في عدو
بسهم يا رسول الله قبلي
الوافر
في أبيات ذكرها ابن إسحاق وذكر ابن هشام أن أكثر أهل العلم بالشعر ينكرها لسعد
ثم انصرف القوم عن القوم وللمسلمين حامية
وفر من المشركين إلى المسلمين المقداد بن عمرو البهراني وعتبة بن غزوان وكانا مسلمين ولكنهما خرجا ليتوصلا بالكفار
ويقال إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال في غزوة عبيدة هذه
أمن طيف سلمى بالبطاح الدمائث
أرقت وأمر في العشيرة حادث
ترى من لؤي فرقة لا يصدها
عن الكفر تذكير ولا بعث باعث
رسول أتاهم صادق فتكذبوا
(2/5)
عليه وقالوا لست فينا بماكث
إذا ما دعوناهم إلى الحق أدبروا
وهروا هرير المحجرات اللواهث
فكم قد متتنا فيهم بقرابة
وترك التقى شيء لهم غير كارث )
فإن يرجعوا عن كفرهم وعقوقهم فما طيبات الحل مثل الخبائث
وإن يركبوا طغيانهم وضلالهم فليس عذاب الله عنهم بلابث
ونحن أناس من ذؤابة غالب لنا العز منها في الفروع الأثائث
فأولي برب الراقصات عشية حراجيج تجري في السريح الرثائث
كأدم ظباء حول مكة عكف بردن حياض البئر ذات النبائث
لئن لم يفيقوا عاجلا من ضلالهم ولست إذا آليت قولا بحانث
لتبتدرنهم غارة ذات مصدق تحرم أطهار النساء الطوامث
الطويل
وكانت راية عبيدة أول راية عقدها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في الإسلام
وبعض العلماء يزعم أنه بعثه حين أقبل من غزوة الأبواء قبل أن يصل إلى المدينة وأنه بعث في مقامه بالمدينة حمزة بن عبد المطلب إلى سيف البحر من ناحية العيص في ثلاثين راكبا من المهاجرين فلقي أبا جهل بذلك الساحل في ثلاثمائة راكب من أهل مكة فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني وكان موادعا للفريقين
فانصرف بعض القوم عن بعض ولم يك بينهم قتال
وبعض الناس يقول كانت راية حمزة أول راية عقدها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لأحد من المسلمين وذلك أن بعثه وبعث عبيدة كانا معا فشبه ذلك على الناس
وقد زعموا أن حمزة قال في ذلك شعرا يذكر فيه أن رايته أول راية عقدها رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فإن كان حمزة قال ذلك فقد صدق إن شاء الله لم يكن يقول إلا حقا فالله أعلم أي ذلك كان
فأما ما سمعنا من أهل العلم عندنا فعبيدة بن الحارث أول من عقد له
والشعر المنسوب لحمزة رضي الله عنه
ألا يا لقومي للتحكم والجهل
وللنقص من رأي الرجال وللعقل
وللراكبينا بالمظالم لم نطأ
لهم حرمات من سوام ولا أهل
كأنا تبلناهم ولا تبل عندنا
لهم غير أمر بالعفاف وبالعدل
وأمر بإسلام فلا يقبلونه
وينزل منهم مثل منزلة الهزل
فما برحوا حتى انتدبت بغارة
لهم حيث حلوا أبتغي راحة الفضل
بأمر رسول الله أول خافق
(2/6)
عليه لواء لم يكن لاح من قبل
لواء لديه النصر من ذي كرامة
إله عزيز فعله أفضل الفعل
عشية ساروا حاشدين وكلنا
مراجله من غيظ أصحابه تغلي
فلما تراءينا أناخوا فعقلوا
مطايا وعقلنا مدى غرض النبل
فعلنا لهم حبل الإله نصيرنا
وليس لكم إلا الضلالة من حبل
فثار أبو جهل هنالك باغيا
فخاب ورد الله كيد أبي جهل
وما نحن إلا في ثلاثين راكبا
وهم مئتان بعد واحدة فضل
فيال لؤي لا تطيعوا غواتكم
وفيئوا إلى الإسلام والمنهج السهل
فإني أخاف أن يصب عليكم
عذاب فتدعوا بالندامة والثكل
الطويل
ثم غزا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في ربيع الأول يريد قريشا حتى بلغ بواط من ناحية رضوى ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا
ثم غزاهم فسلك على نقب بني دينار ثم على فيفاء الحبار فنزل تحت شجرة ببطحاء ابن أزهر يقال لها ذات الساق فصلى عندها فثم مسجده {صلى الله عليه وسلم}
وصنع له عندها طعام فأكل منه وأكل الناس معه فموضع أثافي البرمة معلوم هنالك واستقى له من ماء يقال له المشرب المشترب
ثم ارتحل حتى هبط بليل ثم سلك فرش ملل حتى لقى الطريق بصحيرات اليمام ثم اعتدل به الطريق حتى نزل العشيرة من بطن ينبع فأقام بها جمادي الأولى وليالي من جمادي الآخرة
ووادع فيها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا
وبعث سرية فيما بين ذلك من غزوة سعد بن أبي وقاص في ثمانية رهط من المهاجرين فبلغ الخرار من أرض الحجاز ثم رجع ولم يلق كيدا
ولم يقم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالمدينة حين قدم من غزوة العشيرة إلا ليالي قلائل لا تبلغ العشر حتى أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة
فخرج {صلى الله عليه وسلم} في طلبه حتى بلغ واديا يقال له سفوان من ناحية بدر وفاته كرز فلم يدركه
وهي غزوة بدر الأولى
ثم رجع إلى المدينة
(2/7)
وبعث عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي في رجب مقفلة من تلك الغزاة وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين وهم أبو حذيفة بن عتبة وسعد بن أبي وقاص وعكاشة بن محصن وعتبة بن غزوان وعامر بن ربيعة وواقد بن عبد الله التميمي وخالد بن البكير وسهيل بن بيضاء
وكتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به ولا يستكره من أصحابه أحدا
فلما سار عبد الله يومين فتح الكتاب فإذا فيه إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم
فقال عبد الله سمعا وطاعة
ثم قال لأصحابه قد أمرني رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن أمضي إلى نخلة أرصد فيها قريشا حتى آتيه منهم بخبر وقد نهاني أن أستكره أحدا منكم فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ومن كره ذلك فليرجع فأما أنا فماض لأمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم أحد وسلك على الحجاز حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له بحران أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يتعقبانه فتخلفا في طلبه
ومضى عبد الله في بقية أصحابه حتى نزل بنخلة فمرت به عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة من تجارة قريش فيها عمرو بن الحضرمي وعثمان بن عبد الله بن المغيرة المخزومي وأخوه نوفل والحكم بن كيسان فلما
رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريبا منهم فأشرف لهم عكاشة بن محصن وكان قد حلق رأسه فلما رأوه أمنوا وقالوا عمار لا بأس عليكم منهم وتشاور القوم فيهم وذلك في آخر يوم من رجب
فقالوا والله لئن تركتموهم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمنعن منكم به ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام
فتردد القوم وهابوا ثم شجعوا أنفسهم وأجمعوا قتل من قدروا عليه منهم وأخذ ما معهم
فرمى واقد بن عبد الله عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم وأفلت القوم نوفل فأعجزهم
(2/8)
وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المدينة
وعزل عبد الله بن جحش لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} خمس تلك الغنائم وقسم سائرها بين أصحابه وذلك قبل أن يفرض الله الخمس من المغانم فلما أحل الله الفيء بعد ذلك وأمر بقسمه وفرض الخمس فيه وقع على ما كان عبد الله صنع في تلك العير
فلما قدموا على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال ما أمرتكم بقتال في الشهر الحارم
فوقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا
فلما قال ذلك رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سقط في أيدي القوم وظنوا أنهم قد هلكوا وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا وقالت قريش قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام وسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه الأموال وأسروا فيه الرجال
فقال من يرد عليهم من المسلمين ممن كان بمكة إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان
وقالت يهود تفاءل بذلك على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله عمرو عمرت الحرب والحضرمي حضرت الحرب
وواقد بن عبد الله وقدت الحرب
فجعل الله تبارك وتعالى ذلك عليهم لا لهم
فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله على رسوله يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله البقرة 217
أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به وعن المسجد الحرام وإخراجكم منه وأنتم أهله أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم والفتنة أكبر من القتل أي قد كانوا يفتنون المسلم في دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه فذلك أكبر عند الله من القتل
فلما نزل القران بهذا من الأمر وفرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق قبض رسول الله {صلى الله عليه وسلم} العير والأسيرين وبعثت قريش في فدائهما فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لا حتى يقدم صاحبانا يعني سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان فإنا نخشاكم عليهما فان تقتلوهما نقتل صاحبيكم
فقدم سعد وعتبة فأفدى الأسيرين عند ذلك منهم
(2/9)
فأما الحكم فاسلم فحسن إسلامه وأقام عند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى استشهد يوم بئر معونة واما عثمان فلحق بمكة فمات بها كافرا
فلما تجلى عن عبد الله بن جحش واصحابه ما كانوا فيه حتى نزل القران طمعوا في الأجر فقالوا يا رسول الله أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطى فيها اجر المجاهدين فأنزل الله تبارك وتعالى فيهم إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم البقرة 218
فوضعهم الله من ذلك على أعظم الرجاء
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في تلك الغزوة أبياتا ويقال بل عبد الله بن جحش قالها حين قالت قريش قد أحل محمد وأصحابه الشهر الحرام فسفكوا فيه الدم وأخذوا المال وأسروا الرجال
تعدون قتلا في الحرام عظيمة
وأعظم منه لو يرى الرشد راشد
صدودكم عما يقول محمد
وكفر به والله راء وشاهد
وإخراجكم من مسجد الله أهله
لئلا يرى في البيت لله ساجد
فإنا وإن عيرتمونا بقتله
وأرجف بالإسلام باغ وحاسد
سقينا من ابن الحضرمي رماحنا
بنخلة لما أوقد الحرب واقد
دما وابن عبد الله عثمان بيننا
ينازعه غل من القيد عاقد
الطويل
غزوة بدر الكبرى
قال ابن إسحاق ثم إن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سمع بأبي سفيان بن حرب مقبلا من الشام في عير لقريش عظيمة
فندب المسلمين إليهم وقال هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها
فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يلقي حربا
وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتجسس الأخبار ويسأل من لقي من الركبان تخوفا حتى أصاب من بعضهم خبرا باستنفار رسول الله {صلى الله عليه وسلم} له ولعيره فحذر عند ذلك واستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة ليخبر قريشا بذلك ويستنفرهم إلى أموالهم فخرج ضمضم سريعا
(2/10)
وكانت عاتكة بنت عبد المطلب قد رأت قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث رؤيا أفزعتها فقالت لأخيها العباس يا أخي والله لقد رأيت الليلة رؤيا لقد أفظعتني وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة فاكتم عني ما أحدثك
فقال لها وما رأيت
قالت رأيت راكبا أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح ثم صرخ بأعلى صوته ألا أنفروا يا لغدر لمصارعكم في ثلاث
فأرى الناس اجتمعوا إليه ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فبيناهم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة ثم صرخ بمثلها ألا أنفروا يا لغدر إلى مصارعكم في ثلاث ثم مثل به بعيره على
رأس أبي قبيس فصرخ بمثلها ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار إلا دخلتها منها فلقة
قال العباس والله إن هذه لرؤيا وأنت فاكتميها ولا تذكريها لأحد
ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة وكان له صديقا فذكرها له واستكتمه إياها فذكرها الوليد لأبيه عتبة
ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش
قال العباس فغدوت لأطوف بالبيت وأبو جهل في رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة
فلما رآني قال يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا
فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم فقال لي أبو جهل يا بني عبد المطلب متى حدثت فيكم هذه النبيئة قال قلت وما ذاك قال الرؤيا التي رأت عاتكة فقلت وما رأت
قال بني عبد المطلب أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساءكم قال زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال انفروا في ثلاث
فسنتربص بكم هذه الثلاث فإن يك حقا ما تقول فسيكون وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء نكتب عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت في العرب
قال العباس فوالله ما كان مني إليه كبير إلا أني جحدت ذلك وأنكرت أن تكون رأت شيئا ثم تفرقنا
(2/11)
فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني فقالت أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم ثم قد تناول النساء وأنت تسمع ثم لم يكن عندك غيرة بشيء مما سمعت فقلت قد والله فعلت وما كان مني إليه من كبير وايم الله لأتعرضن له فإن عاد لأكفيكنه
قال فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا حديد مغضب أرى أنه قد فاتني أمر أحب أن أدركه منه فدخلت المسجد فرأيته وكان رجلا خفيفا حديد الوجه حديد اللسان حديد النظر فوالله إني لأمشي نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال فأقع به إذ خرج نحو باب المسجد يشتد فقلت في نفسي ما له لعنه الله أكل هذا فرقا مني أن أشاتمه وإذا هو قد سمع ما لم أسمع صوت ضمضم بن عمرو الغفاري وهو يصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره قد جدعه وحول رحله وشق قميصه وهو يقول يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها الغوث الغوث
قال فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر
فتجهز الناس سراعا وقالوا أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي كلا والله ليعلمن غير ذلك
فكانوا بين رجلين إما خارج وإما باعث مكانه رجلا
وأوعبت قريش فلم يتخلف من أشرافها أحد إلا أن أبا لهب تخلف وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة
وكانت عليه لأبي لهب أربعة آلاف درهم فاستأجره بها على أن يجزيء عنه بعثه
وأجمع أمية بن خلف القعود وكان شيخا جليلا جسيما ثقيلا فأتاه عقبة بن أبي معيط وهو جالس في المسجد بين ظهري قومه بمجمرة فيها نار ومجمر حتى أوضعها بين يديه ثم قال يا أبا علي استجمر فإنما أنت من النساء فقال قبحك الله وقبح ما جئت به
ثم تجهز وخرج مع الناس
ولما فرغوا من جهازهم وأجمعوا السير ذكروا حربا كانت بينهم وبين بني بكر ابن عبد مناة بن كنانة وقالوا إنا نخشى أن يأتونا من خلفنا فكاد ذلك يثبتهم فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن جعشم المدلجي وكان من
(2/12)
أشراف بني كنانة فقال أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه
فخرجوا سراعا
وخرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في ليال مضت من شهر رمضان في أصحابه ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار وكان أبيض وكان أمام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} رايتان سوداوان إحداهما مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه والأخرى مع بعض الأنصار وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة أخا بني مازن بن النجار وكانت راية الأنصار مع سعد بن معاذ فيما قال ابن هشام
فسلك رسول الله {صلى الله عليه وسلم} طريقه من المدينة إلى مكة حتى إذا كان قريبا من الصفراء بعث بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء الجهينيين إلى بدر يتجسسان له الأخبار عن أبي سفيان وغيره
فمضيا حتى نزلا بدرا فأناخا إلى تل قريب من الماء فسمعا جاريتين من جواري الحاضر تتلازمان على الماء والملزومة تقول لصاحبتها إنما ترد العير غدا أو بعده فأعمل لهم ثم أقضيك
فقال مجدي بن عمرو وكان على الماء صدقت ثم خلص بينهما
فلما سمع بذلك عدي وبسبس انطلقا حتى أتيا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأخبراه
ثم تقدم أبو سفيان العير حذرا حتى ورد الماء فقال لمجدي هل أحسست أحدا قال لا إلا أني قد رأيت راكبين أناخا إلى هذا التل ثم استقيا في شن لهما ثم انطلقا
فأتي أبو سفيان مناخهما فأخذ من أبعار بعيريهما ففته فإذا فيه النوى فقال هذه والله علائف يثرب فأسرع إلى أصحابه فضرب وجه عيره عن الطريق فساحل بها وترك بدرا بيساره
ثم ارتحل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى أتى واديا يقال له ذفران فجزع فيه ثم نزل
وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم فأخبر الناس واستشارهم
(2/13)
فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن ثم قام المقداد بن عمرو فقال يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه
فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خيرا ودعا له ثم قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أشيروا علي
وإنما يريد الأنصار وذلك أنهم عدد الناس وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا يا رسول الله إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا
فكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه وأن ليس عليهم أن يسير بهم من بلادهم إلى عدو فلما قال ذلك رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال له سعد بن معاذ والله لكأنك تريدنا يا رسول الله قال أجل قال فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما يتخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا إنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء لعل الله يريك منا ما تقربه عينك فسر بنا على بركة الله
فسر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بقول سعد ونشطه ذلك ثم قال سيروا وأبشروا فإن الله تبارك وتعالى قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم
ثم ارتحل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من ذفران حتى نزل قريبا من بدر فركب هو
ورجل من أصحابه قيل هو أبو بكر الصديق حتى وقف على شيخ من العرب فسأله عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم فقال الشيخ لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إذا أخبرتنا أخبرناك
(2/14)
قال أو ذاك بذاك قال نعم قال الشيخ فإني بلغني أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وبلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به قريش
فلما فرغ من خبره قال ممن أنتما فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نحن من ماء
ثم انصرف عنه رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
قال يقول الشيخ ما من ماء أمن ماء العراق
ثم رجع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى أصحابه فلما أمسى بعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الخبر له عليه فأصابوا راوية لقريش فيها غلامان لبعضهم فأتوا بهما فسألوهما ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} قائم يصلي فقالا نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء فكره القوم خبرهما ورجوا أن يكونا لأبي سفيان فضربوهما فلما أذلقوهما قالا نحن لأبي سفيان فتركوهما
وركع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وسجد سجدتيه ثم سلم وقال إذا صدقاكم ضربتموهما وإذا كذباكم تركتموهما صدقا والله انهما لقريش أخبراني عن قريش
فقالا هم وراء هذا الكثيب الذي ترى قال كم القوم قالا كثير
قال ما عدتهم قالا ما ندري
قال كم ينحرون كل يوم قالا يوما تسعا ويوما عشرا
قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} القوم ما بين التسعمائة والألف
ثم قال لهما من فيهم من أشراف قريش قالا عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو البختري بن هشام وحكيم بن حزام ونوفل بن خويلد والحارث ابن عامر وطعيمة بن عدي والنضر بن الحارث وزمعة بن الأسود وأبو
جهل بن هشام وأمية بن خلف ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وسهيل بن عمرو وعمرو بن عبد ود
فأقبل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على الناس فقال هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها
(2/15)
وأقبلت قريش فلما نزلوا الجحفة رأى جهيم بن الصلت بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف رؤيا فقال إني أرى فيما يرى النائم وإني لبين النائم واليقظان إذ نظرت إلى رجل أقبل على فرس حتى وقف ومعه بعير له ثم قال قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو الحكم بن هشام وأمية بن خلف وفلان وفلان فعدد رجالا ممن قتل يوم بدر من أشراف قريش ثم رأيته ضرب في لبة بعيره ثم أرسله في العسكر فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه نضح من دمه
فبلغت أبا جهل فقال وهذا أيضا نبي آخر من بني المطلب سيعلم غدا من المقتول إن نحن التقينا
قال ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش إنكم خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم فقد نجاها الله فارجعوا
قال أبو جهل والله لا نرجع حتى نرد بدرا وكان موسما للعرب لهم به سوق كل عام فنقيم عليه ثلاثا فننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها فامضوا
وقال الأخنس بن شريق الثقفي يا بني زهرة وكان حليفا لهم قد نجى الله أموالكم وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل وإنما نفرتم لتمنعوه وماله فاجعلوا بي جنبها وارجعوا فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة لا ما يقول هذا
فرجعوا فلم يشهدها زهري واحد أطاعوه وكان فيهم مطاعا
ولم يكن بقي من قريش بطن إلا وقد نفر منهم ناس إلا بنو عدي بن كعب لم يخرج منهم رجل واحد فرجعت بنو زهرة مع الأخنس فلم يشهد بدرا من هذين القبيلين أحد
وكان بين طالب بن أبي طالب وكان في القوم وبين بعض قريش محاورة فقالوا والله لقد عرفنا يا بني هاشم وإن خرجتم معنا أن هواكم لمع محمد
فرجع طالب إلى مكة مع من رجع وقال
لا هم إما يغزون طالب
في عصبة مخالفا محارب
في مقنب من هذه المقانب
فليكن المسلوب غير السالب
وليكن المغلوب غير الغالب
السريع
(2/16)
ومضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي خلف العقنقل والقلب ببدر في العدوة الدنيا إلى المدينة
وبعث الله عز وجل السماء وكان الوادي دهسا فأصاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه منها ما لبد لهم الأرض ولم يمنعهم من المسير وأصاب قريشا منها ما لم يقدروا علي أن يرتحلوا معه
فخرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يبادرهم إلى الماء حتى إذا جاءوا أدنى ماء من بدر نزلوا به
فذكروا أن الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري قال يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة
فقال بل هو الرأي والحرب والمكيدة
قال يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل فانهض بنا حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ما وراءه من القلب ثم نبني عليه حوضا فنملأه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لقد أشرت بالرأي
فنهض رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ومن معه من الناس فساروا حتى إذا أتي أدنى ماء إلى القوم نزل عليه ثم أمر بالقلب فغورت وبني حوضا على القليب الذي نزل عليه فملئ ماء ثم قذفوا فيه الآنية
وقال سعد بن معاذ يا نبي الله ألا نبني لك عريشا تكون فيه ونعد عندك ركائبك ثم نلقى عدونا فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد حبا لك منهم ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك يمنعك الله عز وجل بهم يناصحونك ويجاهدون معك
فأثني رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عليه خيرا ودعا له بخير ثم بني لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} عريش فكان فيه
وارتحلت قريش حين أصبحت فأقبلت فلما رآها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} تصوب من الكثيب الذي جاءوا منه قال اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني به اللهم أحنهم الغداة
(2/17)
وقد كان خفاف بن أيماء بن رحضة الغفاري أو أبوه بعث إلى قريش حين مروا به ابنا له بجزائر أهداها لهم وقال إن أحببتم أن نمدكم بسلاح ورجال فعلنا
فأجابوه أن وصلتك رحم قد قضيت الذي عليك فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس ما بنا ضعف عنهم ولئن كنا إنما نقاتل الله كما يزعم محمد ما لأحد بالله من طاقة
فلما نزل الناس أقبل نفر من قريش فيهم حكيم بن حزام حتى وردوا حوض رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال دعوهم
فما شرب منه يومئذ رجل إلا قتل إلا ما كان من حكيم بن حزام فإنه لم يقتل ثم أسلم بعد فحسن إسلامه فكان إذا اجتهد في يمينه قال لا والذي نجاني من يوم بدر
ولما اطمأن القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحي فقالوا احزر لنا أصحاب محمد
فدار بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم فقال ثلاثمائة رجل يزيدون
قليلا أو ينقصونه ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد وضرب في الوادي حتى أبعد فلم ير شيئا فرجع إليهم فقال ما رأيت شيئا ولكن قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا نواضح يثرب تحمل الموت الناقع قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلا منكم فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك فروا رأيكم
فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس فأتى عتبة بن ربيعة فقال يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها هل لك إلى أن لا تزال تذكر منها بخير إلى آخر الدهر قال وما ذلك يا حكيم قال ترجع بالناس وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي
قال قد فعلت أنت علي بذلك إنما هو حليفي فعلي عقله وما أصيب من ماله فأت ابن الحنظلية يعني أبا جهل فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره
ثم قام عتبة خطيبا فقال
(2/18)
يا معشر قريش إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا والله لئن أصبتموه لا يزال رجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب فإن أصابوه فذلك الذي أردتم وإن كان غير ذلك ألقاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون
وقد كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} رأى عتبة في القوم على جمل له أحمر فقال إن يك عند أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر إن يطيعوه يرشدوا
قال حكيم فانطلقت حتى جئت أبا جهل فوجدته قد نثل درعا له من جرابها فهو يهيئها فقلت له يا أبا الحكم إن عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا للذي قال
فقال انتفخ والله سحره حين رأى محمدا وأصحابه كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد وما بعتبة ما قال ولكنه قد رأى أن محمدا وأصحابه أكلة جزور وفيهم ابنه فقد تخوفكم عليه
ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي فقال هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس وقد رأيت ثأرك بعينيك فقم فانشد خفرتك ومقتل أخيك
فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف ثم صرخ واعمراه واعمراه فحميت الحرب وحقب أمر الناس واستوسقوا علي ما هم عليه من الشر وأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة
فلما بلغ عتبة قول أبي جهل انتفخ والله سحره قال سيعلم مصفر استه من انتفخ سحره أنا أم هو
ثم التمس عتبة بيضة ليدخلها في رأسه فما وجد في الجيش بيضة تسعه من عظم هامته فلما رأى ذلك اعتجر على رأسه ببرد له
وخرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي وكان رجلا شرسا سيئ الخلق فقال أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن دونه
فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب فضربه فأطن قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض فوقع على ظهره تشخب رجله دما ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه يريد زعم أن يبر يمينه وأتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض
(2/19)
ثم خرج بعده عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة وابنه الوليد بن عتبة حتى إذا نصل من الصف دعا إلى المبارزة فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة وهم عوف ومعوذ ابنا الحارث وأمهما عفراء وعبد الله بن رواحة
فقالوا من أنتم قالوا رهط من الأنصار
قالوا ما لنا بكم من حاجة ثم نادى مناديهم يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قم يا عبيدة بن الحارث وقم يا حمزة وقم يا علي
فلما قاموا ودنوا منهم قالوا من أنتم فقال عبيدة عبيدة وقال حمزة حمزة وقال علي علي
قالوا نعم أكفاء كرام
فبارز عبيدة وكان أسن القوم عتبة وبارز حمزة شيبة وبارز علي الوليد
فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله
وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله
واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما أثبت صاحبه وكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فذففا عليه واحتملا صاحبهما فحازاه إلى أصحابه
وذكر ابن عقبة أنه لما طلب القوم المبارزة فقام إليهم ثلاثة نفر من الأنصار استحيا النبي {صلى الله عليه وسلم} من ذلك لأنه كان أول قتال التقى فيه المسلمون والمشركون ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} شاهد معهم فأحب النبي {صلى الله عليه وسلم} أن تكون الشوكة ببني عمه فناداهم أن ارجعوا إلى مصافكم وليقم إليهم بنو عمهم
فعند ذلك قام حمزة وعلي وعبيدة
ثم تزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض وأمر سول الله {صلى الله عليه وسلم} أصحابه أن لا يحملوا حتى يأمرهم وقال إن أكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل
ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} في العريش معه أبو بكر الصديق وكان شعار أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أحد أحد
وعدل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يومئذ صفوف أصحابه وفي يده قدح يعدل به القوم فمر بسواد بن غزية حليف بني عدي بن النجار وهو مستنثل من الصف أي بارز فطعن في بطنه بالقدح وقال استويا سواد
فقال يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني
(2/20)
فكشف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عن بطنه وقال استقد فاعتنقه فقبل بطنه فقال له ما حملك على هذا يا سواد قال يا رسول الله حضر ما ترى فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك فدعا له بخير وقاله له
ثم عدل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الصفوف ورجع إلى العريش فدخله ومعه فيه أبو بكر ليس معه فيه غيره ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} يناشد ربه ما وعده من النصر ويقول فيما يقول اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد
وأبو بكر يقول يا نبي الله بعض مناشدتك ربك فإن الله منجز لك ما وعدك
وخفق رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خفقة وهو في العريش ثم انتبه فقال أبشر يا أبا
بكر أتاك نصر الله هذا جبريل آخذا بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع
يريد الغبار
ورمي مهجع مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتله فكان أول قتيل من المسلمين
ثم رمي حارثة بن سراقة أحد بني عدي بن النجار وهو يشرب من الحوض بسهم فأصاب نحره فقتله
ثم خرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى الناس فحرضهم ثم قال والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة
فقال عمير بن الحمام أخو بني سلمة وفي يده تمرات يأكلهن بخ بخ أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل حتى قتل
وقال يومئذ عوف بن الحارث وهو ابن عفراء يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده فقال غمسه يده في العدو حاسرا فنزع درعا كانت عليه فقذفها ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل
وقاتل عكاشة بن محصن الأسدي حليف بني عبد شمس يوم بدر بسيفه حتى انقطع في يده فأتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأعطاه جذلا من حطب فقال قاتل بهذا يا عكاشة فلما أخذه هزه فعاد في يده سيفا طويل القامة شديد المتن أبيض الحديدة فقاتل به حتى فتح الله على المسلمين وكان ذلك السيف يسمى العون ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى قتل في الردة وهو عنده قتله طليحة الأسدي
(2/21)
ثم إن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشا ثم قال شاهت الوجوه ثم نفحهم بها ثم أمر أصحابه فقال شدوا فكانت الهزيمة عليهم
وجعل الله تلك الحصباء عظيما شأنها لم تترك من المشركين رجلا إلا ملأت عينيه
واستولى عليهم المسلمون معهم الله وملائكته يقتلونهم ويأسرونهم ويجدون النفر كل رجل منهم منكب على وجهه لا يدري أين يتوجه يعالج التراب ينزعه من عينيه
فقتل الله من قتل من صناديد قريش وأسر من أسر من أشرافهم
فلما وضع القوم أيديهم يأسرون وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} متوشح السيف في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خوف كرة العدو عليه رأى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في وجه سعد الكراهية لما يصنع الناس فقال له لكأنك والله يا سعد تكره ما يصنع القوم فقال أجل والله يا رسول الله كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك فكان الإثخان في القتل أحب إلي من استقبال الرجال
وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يومئذ لأصحابه إني قد عرفت أن رجالا من بني هاشم وغيرهم أخرجوا كرها لا حاجة لهم بقتالنا فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله ومن لقي أبا البختري بن هشام فلا يقتله ومن لقي العباس عم رسول الله فلا يقتله فإنه إنما خرج مستكرها
فقال أبو حذيفة أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشيرتنا ونترك العباس والله لئن وجدته لألحمنه السيف
فبلغت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال لعمر بن الخطاب يا أبا حفص
قال عمر والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بأبي حفص
أيضرب وجه عم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالسيف فقال عمر يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه بالسيف فوالله لقد نافق
فكان أبو حذيفة يقول ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ ولا أزال منها خائفا إلا أن تكفرها عني الشهادة فقتل يوم اليمامة شهيدا رحمه الله
وإنما نهى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عن قتل أبي البختري لأنه كان أكف القوم عنه
(2/22)
بمكة وكان لا يؤذيه ولا يبلغه عنه شيء يكرهه وكان ممن قام في نقض الصحيفة التي كتبت قريش على بني هاشم وبني المطلب
فلقيه المجذر بن زياد البلوي حليف الأنصار يوم بدر فقال له إن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد نهانا عن قتلك ومع أبي البختري زميل له خرج معه من مكة قال وزميلي قال المجذر لا والله ما نحن بتاركي زميلك ما أمرنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلا بك وحدك
قال إذا والله لأموتن أنا وهو جميعا لا تحدث عني نساء مكة إني تركت زميلي حرصا على الحياة وقال يرتجز
لن يسلم ابن حرة زميله
حتى يموت أو يرى سبيله
ثم اقتتلا فقتله المجذر ثم أتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال والذي بعثك بالحق لقد جهدت عليه أن يستأسر فآتيك به فأبى إلا أن يقاتلني فقاتلته فقتلته
هذا الذي ذكر ابن إسحاق في قتل أبي البختري
وقال موسى بن عقبة يزعم ناس أن أبا اليسر قتل أبا البختري ويأبى أعظم الناس إلا أن المجذر هو الذي قتله
ثم اضرب ابن عقبة عن القولين وقال بل قتله غير شك أبو داود المازني وسلبه سيفه فكان عند بنيه حتى باعه بعضهم من بعض بني أبي البختري
وكان المجذر قد ناشده أن يستأسر وأخبره بنهي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عن قتله فأبى أبو البختري أن يستأسر وشد عليه المجذر بالسيف وطعنه الأنصاري يعني أبا داود المازني بين ثدييه فأجهز عليه فقتله
ويومئذ قال المجذر فيما ذكروا
أما جهلت أو نسيت نسبي
فاثبت النسبة أني من بلي
الطاعنين برماح اليزنى
والضاربين الكبش حتى ينحني
بشر بيتم من أبوه البختري
أو بشرن بمثلها مني بني
أنا الذي يقال أصلي من بلي
أطعن بالصعدة حتى تنثني
وأعبط القرن بعضب مشرفي
أرزم للموت كإرزام المري
فلا ترى مجذرا يفري فري
الرجز
وقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه كان أمية بن خلف لي صديقا بمكة وكان اسمي عبد عمرو فلما أسلمت تسميت عبد الرحمن فكان يلقاني فيقول يا عبد عمرو أرغبت عن اسم سماكه أبوك فأقول نعم
(2/23)
فيقول فإني لا أعرف الرحمن فاجعل بيني وبينك شيئا أدعوك به أما أنت فلا تجيبني باسمك الأول وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف
فقلت له يا أبا علي اجعل ما شئت
قال فأنت عبد الإله
فقلت نعم
حتى إذا كان يوم بدر مررت به وهو واقف مع ابنه علي آخذ بيده ومعي أدراع لي قد استلبتها فأنا أحملها فلما رآني قال يا عبد عمرو
فلم أجبه فقال يا عبد الإله
فقلت نعم
قال هل لك في فأنا خير لك من هذه الأدراع قلت نعم
فطرحت الأدراع من يدي وأخذت بيده ويد ابنه وهو يقول ما رأيت كاليوم قط أما لكم حاجة في اللبن يريد الفداء
وقال عبد الرحمن قال لي أمية وأنا بينه وبين ابنه آخذ بأيديهما من الرجل منكم المعلم بريشة نعامة في صدره قلت ذلك حمزة بن عبد المطلب
قال ذلك الذي فعل بنا الأفاعيل
قال عبد الرحمن فوالله إني لأقودهما إذ رآه بلال وكان هو الذي يعذبه بمكة على ترك الإسلام فيخرجه إلى رمضاء مكة إذا حميت فيضجعه على ظهره ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول لا تزال هكذا أو
تفارق دين محمد
فيقول بلال أحد أحد
فلما رآه قال رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجوت قال قلت أي بلال أبأسيري
قال لا نجوت إن نجا
قلت أتسمع يا ابن السوداء قال لا نجوت إن نجا
ثم صرخ بأعلى صوته يا أنصار الله رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجا
فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المسكة وأنا أذب عنه فأخلف رجل السيف فضرب رجل ابنه فوقع وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط فقلت انج بنفسك ولا نجاء به فوالله ما أغني عنك شيئا فهبروهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما فكان عبد الرحمن يقول رحم الله بلالا ذهبت أدراعي وفجعني بأسيري
وقاتلت الملائكة يوم بدر
قال ابن عباس ولم تقاتل في يوم سواه وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عددا ومددا لا يضربون وكانت سيماهم يوم بدر عمائم بيضاء قد أرسلوها في ظهورهم ويوم حنين عمائم حمرا
(2/24)
وذكر ابن هشام عن علي رضي الله عنه في سيماهم يوم بدر مثل ما قال ابن عباس إلا جبريل فإن في حديث علي أنه كانت عليه عمامة صفراء
وقال ابن عباس حدثني رجل من غفار قال أقبلت أنا وابن عم لي حتى أصعدنا في جبل يشرف بنا على بدر ونحن مشركان ننتظر لمن تكون الدبرة فننتهب مع من ينتهب فبينا نحن في الجبل إذ دنت منا سحابة فسمعنا فيها حمحمة الخيل فسمعت قائلا يقول أقدم حيزوم
فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه فمات مكانه وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت
وقال أبو أسيد الساعدي بعد أن ذهب بصره وكان شهد بدرا لو كنت
اليوم ببدر ومعي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة لا أشك ولا أتمارى
وقال أبو داود المازني إني لأتبع رجلا من المشركين يوم بدر لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي فعرفت أنه قد قتله غيري
فلما فرغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من عدوه أمر بأبي جهل أن يلتمس في القتلى وقال لهم انظروا إن خفي عليكم في القتلى إلى أثر جرح في ركبته فإني ازدحمت يوما أنا وهو على مأدبة لعبد الله بن جدعان ونحن غلامان وكنت أشف منه بيسير فدفعته فوقع على ركبتيه فجحشت في إحداهما جحشا لم يزل أثره به
وكان من حديث عدو الله يوم بدر أنه لما التقى الناس ودنا بعضهم من بعض قال اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة
فكان هو المستفتح وأقبل يرتجز وهو يقول
ما تنقم الحرب العوان مني
بازل عامين حديث سني
لمثل هذا ولدتني أمي
السريع
وكان أول من لقيه فيما ذكر معاذ بن عمرو بن الجموح أخو بني سلمة قال سمعت القوم وأبو جهل في مثل الحرجة يقولون أبو الحكم لا يخلصن إليه
(2/25)
فلما سمعتها جعلته من شأني فصمدت نحوه فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه فضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي فتعلقت بجلدة من جنبي وأجهضني القتال عنه فلقد قاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي فلما آذتني وضعت عليها قدمي ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها وعاش بعد ذلك معاذ هذا رحمه الله إلى زمان عثمان رضي الله عنه
ثم مر بأبي جهل وهو عقير معوذ بن عفراء فضربه حتى أثبته فتركه وبه رمق وقاتل معوذ حتى قتل
فمر عبد الله بن مسعود بأبي جهل حين أمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالتماسه في القتلى
قال عبد الله وقد كان ضبث بي مرة بمكة فآذاني ولكزني فوجدته بآخر رمق فعرفته فوضعت رجلي على عنقه ثم قلت له أخزاك الله يا عدو الله قال وبماذا أخزاني أعمد من رجل قتلتموه أخبرني لمن الدائرة اليوم قلت لله ولرسوله
ثم احتززت رأسه ثم جئت به رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقلت يا رسول الله هذا رأس عدو الله أبي جهل
فقال آلله الذي لا إله غيره وكانت يمين رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قلت نعم والله الذي لا إله إلا غيره
ثم ألقيت رأسه بين يديه فحمد الله
وخرج مسلم في صحيحه عن عبد الرحمن بن عوف قال بينا أنا واقف في الصف يوم بدر نظرت عن يميني وشمالي فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما فتمنيت لو كنت بين أضلع منهما فغمزني أحدهما فقال يا عم هل تعرف أبا جهل قلت نعم وما حاجتك إليه يا ابن أخي قال أخبرت أنه يسب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا
قال فتعجبت لذلك فغمزني الآخر فقال مثلها
قال فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت ألا تريان هذا صاحبكما الذي تسألان عنه
فابتدراه فضرباه بسيفيهما حتى قتلاه ثم انصرفا إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأخبراه فقال أيكما قتله فقال كل واحد منهما أنا قتلته
فقال هل مسحتما سيفيكما قالا لا فنظر في السيفين فقال كلاكما قتله
وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح
(2/26)
والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء
وذكر ابن عقبة أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقف يوم بدر على القتلى فالتمس أبا جهل فلم يجده حتى عرف ذلك في وجه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال اللهم لا يعجزن فرعون هذه الأمة
فسعى له الرجال حتى وجده عبد الله بن مسعود مصروعا بينه وبين المعركة غير كبير مقنعا في الحديد واضعا سيفه على فخذيه ليس به جرح ولا يستطيع أن يحرك منه عضوا وهو مكب ينظر إلى الأرض فلما رآه ابن مسعود طاف حوله ليقتله وهو خائف أن ينوء إليه فلما دنا منه وأبصره لا يتحرك ظن أنه مثبت جراحا فأراد أن يضربه بسيفه فخاف أن لا يغني شيئا فأتاه من ورائه فتناول قائم سيف أبي جهل فاستله وهو مكب لا يتحرك ثم رفع سابغة البيضة عن قفاه فضربه فوقع رأسه بين يديه ثم سلبه فلما نظر إليه إذا هو ليس به جراح وأبصر في عنقه حدرا وفي يديه وكتفه مثل آثار السياط
فأتى ابن مسعود النبي {صلى الله عليه وسلم} فأخبره بقتله والذي رأى به فقال النبي {صلى الله عليه وسلم} زعموا ذلك ضرب الملائكة
وأمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالقتلى أن يطرحوا في القليب فطرحوا فيه إلا ما كان من أمية بن خلف فإنه انتفخ في درعه فملأها فذهبوا ليحركوه فتزايل فأقروه وألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة
ويقال إنهم لما ألقوا في القليب وقف عليهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال يا أهل القليب بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم كذبتموني وصدقني الناس وأخرجتموني وآواني الناس وقاتلتموني ونصرني الناس
يا أهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا
فقال له أصحابه يا رسول الله أتكلم قوما موتى
فقال لهم لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حق
قالت عائشة والناس يقولون لقد سمعوا ما قلت لهم وإنما قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لقد علموا
وفي حديث أنس أن المسلمين قالوا لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين نادى أصحاب القليب يا رسول الله أتنادي قوما قد جيفوا
فقال ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني
(2/27)
وذكر ابن عقبة نحوا من ذلك عن نافع عن عبد الله بن عمر وقال حسان بن ثابت
عرفت ديار زينب بالكثيب
كخط الوحي في الورق القشيب
تداولها الرياح وكل جون
من الوسمي منهمر سكوب
فأمسى رسمها خلقا وأمست
يبابا بعد ساكنها الحبيب
فدع عنك التذكر كل يوم
ورد حرارة الصدر الكئيب
وخبر بالذي لا عيب فيه
بصدق غير أخبار الكذوب
بما صنع المليك غداة بدر
لنا في المشركين من النصيب
غداة كأن جمعهم حراء
بدت أركانه جنح الغروب
فلاقيناهم منا بجمع
كأسد الغاب مردان وشيب
أمام محمد قد وازروه
على الأعداء في لقح الحروب
بأيديهم صوارم مرهفات
وكل مجرب ماضي الكعوب
بنو الأوس الغطارف آزرتها
بنو النجار في الدين الصليب
فغادرنا أبا جهل صريعا
وعتبة قد تركنا بالحبوب
وشيبة قد تركنا في رجال
ذوي حسب إذا نسبوا حسيب
يناديهم رسول الله لما
قذفناهم كباكب في القليب
ألم تجدوا كلامي كان حقا
وأمر الله يأخذ بالقلوب
فما نطقوا ولو نطقوا لقالوا
صدقت وكنت ذا رأي مصيب
الوافر
ولما أمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يلقوا في القليب أخذ عتبة بن ربيعة فسحب إلى القليب فنظر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما ذكر في وجه أبي حذيفة بن عتبة فإذا هو كئيب قد تغير فقال يا أبا حذيفة لعلك دخلك من شأن أبيك شيء أو كما قال {صلى الله عليه وسلم}
قال لا والله يا رسول الله ما شككت في أبي ولا في مصرعه ولكني كنت
أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا فكنت أرجو أن يهديه ذلك للإسلام فلما رأيت ما أصابه وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له أحزنني ذلك
فدعا له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بخير وقال له خيرا
(2/28)
وكان في قريش فتية أسلموا ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} بمكة فلما هاجر إلى المدينة حبسهم آباؤهم وعشائرهم بمكة وفتنوهم فافتتنوا ثم ساروا مع قومهم إلى بدر فأصيبوا به جميعا فنزل فيهم من القرآن فيما ذكر إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا 97 النساء
وأولئك الفتية الحارث بن زمعة بن الأسود وأبو قيس بن الفاكه وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة وعلي بن أمية بن خلف والعاص بن منبه بن الحجاج
ثم إن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أمر بما في العسكر مما جمع الناس فجمع
فاختلف فيه المسلمون فقال من جمعه هو لنا
وقال الذين كانوا يقاتلون العدو ويطلبونه والله لولا نحن ما أصبتموه لنحن شغلنا عنكم القوم حتى أصبتم ما أصبتم
وقال الذين كانوا يحرسون رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مخافة أن يخالف إليه العدو
والله ما أنتم بأحق به منا لقد رأينا أن نقتل العدو إذ منحنا الله أكتافهم ولقد رأينا أن نأخذ المتاع حين لم يكن دونه من يمنعه ولكنا خفنا على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كرة العدو فقمنا دونه فما أنتم بأحق به منا
فكان عبادة بن الصامت إذا سئل عن الأنفال قال فينا معاشر أصحاب بدر أنزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا فجعله إلى رسوله {صلى الله عليه وسلم} فقسمه بيننا عن بواء
يقول على السواء
فكان في ذلك تقوى الله وطاعته وطاعة رسوله وصلاح ذات البين
ثم بعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عبد الله بن رواحة بشيرا إلى أهل العالية بما فتح الله على رسوله وعلى المسلمين وبعث زيد بن حارثة إلى أهل السافلة قال أسامة بن زيد فأتانا الخبر حين سوينا على رقية بنت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خلفني عليها مع زوجها عثمان أن زيد بن حارثة قد قدم
(2/29)
قال فجئته وهو واقف بالمصلى وقد غشيه الناس وهو يقول قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو جهل بن هشام وزمعة بن الأسود وأبو البختري ابن هشام وأمية بن خلف ونبيه ومنبه ابنا الحجاج
قلت يا أبه أحق هذا قال نعم والله يا بني
ثم أقبل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قافلا إلى المدينة ومعه الأساري من المشركين وفيهم عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث حتى إذا خرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من مضيق الصفراء نزل على كثيب يقال له سير إلى سرحة به فقسم هنالك النفل الذي أفاء الله على المسلمين من المشركين على السواء
ثم ارتحل حتى إذا كان بالروحاء لقيه المسلمون يهنئونه بما فتح الله عليه ومن معه من المسلمين فقال لهم سلمة بن سلامة بن وقش ما الذي تهنئوننا به فوالله إن لقينا إلا عجائز صلعا كالبدن المعلقة فنحرناها فتبسم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم قال أي ابن أخي أولئك الملأ
حتى إذا كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالصفراء قتل النضر بن الحارث قتله علي ابن أبي طالب رضي الله عنه ثم خرج حتى إذا كان بعرق الظبية قتل عقبة بن أبي معيط فقال عقبة حين أمر بقتله فمن للصبية يا محمد قال النار
فقتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح في قول ابن عقبة وابن إسحاق
وقال ابن هشام قتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه
وقالت قتيلة أخت النضر بن الحارث لما بلغها مقتل أخيها
يا راكبا إن الأثيل مظنة
من صبح خامسة وأنت موفق
أبلغ بها ميتا بأن تحية
ما إن تزال بها الركائب تخفق
مني إليك وعبرة مسفوحة
حادت بواكفها وأخرى تخنق
هل يسمعني النضر إن ناديته
أم كيف يسمع ميت لا ينطق
أمحمد يا خير ضئو كريمة
في قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما
من الفتى وهو المغيظ المحنق
فالنضر أقرب من أسرت قرابة
وأحقهم إن كان عتق يعتق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه
لله أرحام هناك تشقق
الكامل
قال ابن هشام فيقال والله أعلم إن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لما بلغه هذا الشعر قال لو بلغني هذا الشعر قبل مقتله لمننت عليه
(2/30)
ثم مضى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى قدم المدينة قبل الأساري بيوم وقد كان فرقهم بين أصحابه وقال استوصوا بالأساري خيرا
وكان أبو عزيز بن عمير أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه في الأساري قال وكنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر وكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر لوصية رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إياهم بنا ما تقع في يد رجل منهم كسرة من الخبز إلا نفحني بها قال فأستحي فأردها عليه فيردها علي ما يمسها
قال ومر بي أخي مصعب ورجل من الأنصار يأسرني فقال له شد يديك به فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك فقال له أبو عزيز فيما ذكر ابن هشام يا أخي هذه وصاتك بي فقال له مصعب إنه أخي دونك فسألت أمه عن أغلى ما فدي به قرشي فقيل لها أربعة آلاف درهم فبعثت ففدته بها
وذكر قاسم بن ثابت في دلائله أن قريشا لما توجهت إلى بدر مر هاتف
من الجن على مكة في اليوم الذي أوقع بهم المسلمون وهو ينشد بأبعد صوت ولا يرى شخصه
أزار الحنيفيون بدرا وقيعة
سينقض منها ركن كسرى وقيصرا
أبادت رجالا من لؤي وأبرزت
خرائد يضربن الترائب حسرا
فيا ويح من أمسى عدو محمد
لقد جار عن قصد الهدى وتحيرا
الطويل
فقال قائلهم من الحنيفيون فقالوا هو محمد وأصحابه يزعمون انهم على دين إبراهيم الحنيف ثم لم يلبثوا أن جاءهم الخبر اليقين
وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش الحيسمان بن عبد الله الخزاعي فقالوا ما وراءك قال قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو الحكم بن هشام وأمية بن خلف وزمعة بن الأسود ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وأبو البختري بن هشام فلما جعل يعدد أشراف قريش قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحجر والله أن يعقل هذا فسلوه عني قالوا ما فعل صفوان بن أمية قال ها هو ذاك جالس في الحجر وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا
(2/31)
وقال أبو رافع مولى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت فأسلم العباس وأم الفضل وأسلمت وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم فكان يكتم إسلامه وكان ذا مال كثير متفرق في قومه وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر فلما جاءه الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش كبته الله وأخزاه ووجدنا في أنفسنا قوة وعزة وكنت أعمل الأقداح في حجرة زمزم فوالله إني لجالس فيها أنحت أقداحي وعندي أم الفضل جالسة وقد سرنا ما جاءنا من الخبر إذ أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر حتى جلس إلى طنب الحجرة ظهره إلى ظهري
فبينا هو جالس إذ قال الناس هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم
فقال أبو لهب هلم إلي فعندك لعمري الخبر فجلس إليه والناس قيام عليه فقال يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس قال والله ما هو إلا أن لقينا القوم منحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاءوا ويأسروننا كيف شاءوا وأيم الله مع ذلك ما لمت الناس لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض والله ما تليق شيئا ولا يقوم لها شيء
قال أبو رافع فرفعت طنب الحجرة بيدي ثم قلت تلك والله الملائكة فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة وثاورته فاحتملني وضرب بي الأرض ثم برك علي يضربني وكنت رجلا ضعيفا فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة فضربته به ضربة فلقت في رأسه شجة منكرة
وقالت أتستضعفه أن غاب عنه سيده فقام موليا ذليلا فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة فقتله
وذكر محمد بن جرير الطبري في تاريخه أن العدسة قرحة كانت العرب تتشاءم بها ويرون أنها تعدي أشد العدوى
فلما أصابت أبا لهب تباعد عنه بنوه وبقي بعد موته ثلاثا لا تقرب جنازته ولا يحاول دفنه فلما خافوا السبة في تركه حفروا له ثم دفعوه بعود في حفرته وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه
(2/32)
وقال ابن إسحاق في رواية يونس بن بكير عنه إنهم لم يحفروا له ولكن أسندوه إلى حائط وقذفوا عليه الحجارة من خلف الحائط حتى واروه
ويروى أن عائشة رضي الله عنها كانت إذا مرت بموضعه ذلك غطت وجهها
وخرج البخاري في صحيحه أن أبا لهب رآه بعض أهله في المنام بشر حيبة أي حالة فقال ما لقيت بعدكم راحة غير أني سقيت في مثل هذه وأشار إلى النقرة بين السبابة والإبهام بعتقي ثويبة
وثويبة هذه أرضعت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأرضعت عمه حمزة وأبا سلمة بن عبد الأسد
وروى غير البخاري أن الذي رأى أبا لهب من أهله هو أخوه العباس وأنه قال مكثت حولا بعد موت أبي لهب لا أراه في نوم ثم رأيته في شر حال فقال ما لقيت بعدكم راحة إلا أن العذاب يخفف عني كل يوم اثنين
وذلك أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ولد يوم الاثنين فبشرت أبا لهب بمولده ثويبة مولاته فقالت له أشعرت أن آمنة ولدت غلاما لأخيك عبد الله فقال لها اذهبي فأنت حرة فنفعه ذلك وهو في النار كما نفع أخاه أبا طالب ذبه عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} واجتهاده في منعه ونصرته فهو أهون أهل النار عذابا
ويفعل الله ما يشاء مما يطابق سابق تقديره وقد قضى الله سبحانه بإحباط عمل الكافرين فمحال أن يقيم لهم يوم القيامة وزنا أو ينالوا عنده بشيء قدموه مما يتصور بصورة الأعمال الصالحة نعيما إلا أنه ربما جعل التفاوت بين جماهيرهم وبين من شاء منهم بمقدار العذاب فيضاعفه على قوم أضعافا ويضع من شدائده عن آخرين تخفيفا
وكل عذاب الله شديد فنعوذ برضا مولانا الكريم من سخطه وبمعافاته من عقوبته
وحدث محمد بن إسحاق بن يسار عن يحيى بن عباد عن أبيه عباد بن عبد الله بن الزبير قال ناحت قريش على قتلاهم ثم قالوا لا تفعلوا فيبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بكم ولا تبعثوا في أسراكم حتى تستأنوا بهم لا يأرب عليكم محمد وأصحابه في الفداء
(2/33)
قال وكان الأسود بن المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده زمعة وعقيل ابناه والحارث بن زمعة وهو ابن ابنه وكان يحب أن يبكي عليهم فسمع نائحة من الليل فقال لغلام له وقد ذهب بصره انظر هل أحل النحب هل
بكت قريش على قتلاها لعلي أبكي على أبي حكيمة يعني زمعة فإن جوفي قد احترق
فلما رجع إليه الغلام قال إنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلته
قال فذاك حين يقول الأسود
أتبكي أن يضل لها بعير
ويمنعها من النوم السهود
فلا تبكي على بكر ولكن
على بدر تقاصرت الجدود
الوافر
في أبيات ذكرها ابن إسحاق
وقد تقدم دعاء رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على الأسود بن عبد المطلب هذا بأن يعمى الله بصره ويثكله ولده فاستجيب له وفق دعائه سبق العمي أولا إلى بصره ثم أصيب يوم بدر بمن سمي آنفا من ولده فتمت إجابة الله سبحانه رسوله فيه
وكان في الأساري أبو وداعة السهمي فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن له بمكة ابنا كيسا تاجرا ذا مال وكأنكم به قد جاءكم في طلب فداء أبيه فلما قالت قريش لا تعجلوا بفداء أسراكم لا يأرب عليكم محمد وأصحابه قال المطلب ابن أبي وداعة وهو الذي كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عني صدقتم لا تعجلوا
وانسل من الليل فقدم المدينة فأخذ أباه بأربعة آلاف درهم
ثم بعثت قريش في فداء الأساري فقدم مكرز بن حفص بن الأخيف في فداء سهيل بن عمرو وكان الذي أسره مالك بن الدخشم أخو بني سالم بن عوف فلما قاولهم فيه مكرز وانتهى إلى رضاهم قالوا هات الذي لنا قال اجعلوا رجلي مكان رجله وخلوا سبيله حتى يبعث إليكم بفدائه
فخلوا سبيل سهيل وحبسوا مكرزا مكانه عندهم فقال مكرز
فديت بأذواد ثمان سبا فتى
ينال الصميم غرمها لا المواليا
رهنت يدي والمال أيسر من يدي
علي ولكني خشيت المخازيا
وقلت سهيل خيرنا فاذهبوا به
لأبنائنا حتى ندير الأمانيا
الطويل
(2/34)
وكان سهيل قد قام في قريش خطيبا عندما استنفرهم أبو سفيان فقال يا لغالب أتاركون أنتم محمدا والصبا من أهل يثرب يأخذون عيرانكم وأموالكم من أراد مالا فهذا مالي ومن أراد قوة فهذه قوة
فيروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} لما أسر سهيل يوم بدر يا رسول الله انزع ثنيتي سهيل بن عمرو يدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبا في موطن أبدا
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبيا إنه عسى أن يقوم مقاما لا تذمه
فصدق الله ورسوله وكان لسهيل بعد وفاته {صلى الله عليه وسلم} في تثبيت أهل مكة على الإيمان مقام سيأتي ذكر حديثه في موضعه إن شاء الله
وكان عمرو بن أبي سفيان بن حرب أسيرا في يدي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من أساري بدر فقيل لأبي سفيان بن حرب أفد عمرا ابنك
فقال أيجمع علي دمي ومالي قتلوا حنظلة وأفدي عمرا دعوه في أيديهم يمسكونه ما بدا لهم
فبينا هو كذلك محبوس بالمدينة عند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إذ خرج سعد بن النعمان بن أكال أخو بني عمرو بن عوف معتمرا ومعه مرية له وكان شيخا مسلما في غنم له بالبقيع فخرج من هنالك معتمرا ولا يخشى الذي صنع به لم يظن أنه يحبس بمكة إنما جاء معتمرا وقد كان عهد قريشا لا يعرضون لأحد جاء حاجا أو معتمرا إلا بخير فعدا عليه أبو سفيان بن حرب بمكة فحبسه بابنه عمرو
ثم قال
أرهط ابن أكال أجيبوا دعاءه
تعاقدتم لا تسلموا السيد الكهلا
فإن بني عمرو لئام أذلة
لئن لم تفكوا عن أسيرهم الكبلا
الطويل
فأجابه حسان بن ثابت فقال
ولو كان سعد يوم مكة مطلقا
لأكثر فيكم قبل أن يؤسر القتلا
بعضب حسام أو بصفراء نبعة
تحن إذا ما أنبضت تحفز النبلا
الطويل
ومشى بنو عمرو بن عوف إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأخبروه خبره وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبي سفيان فيفكوا به صاحبهم ففعل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فبعثوا به إلى أبي سفيان فخلى سبيل سعد
(2/35)
وكان في الأساري أيضا أبو العاص بن الربيع بن عبد العزي بن عبد شمس ختن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} زوج ابنته زينب وكان {صلى الله عليه وسلم} يثني عليه في صهره خيرا وكان من رجال مكة المعدودين مالا وأمانة وتجارة وهو ابن أخت خديجة رضي الله عنها وهي سألت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قبل أن ينزل عليه الوحي أن يزوجه وكان لا يخالفها فزوجه وكانت تعدة بمنزلة ولدها
فلما أكرم الله رسوله {صلى الله عليه وسلم} قبل أن ينزل عليه الوحي أن يزوجه وكان لا يخالفها فزوجه وكانت تعدة بمنزلة ولدها فلما أكرم الله رسوله بنبوته آمنت به خديجة وبناته فصدقنه ودن بدينه وشهدن أن الذي جاء به هو الحق وثبت أبو العاص على شركه
فلما بادى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قريشا بأمر الله تبارك وتعالى وبالعداوة قالوا إنكم فرغتم محمدا من همه فردوا عليه بناته فاشغلوه بهن
فمشوا إلى أبي العاص فقالوا له فارق صاحبتك ونحن نزوجك أي امرأة من قريش شئت
قال لا ها الله إذا لا أفارق صاحبتي وما أحب أن لي بها امرأة من قريش
ثم مشوا إلى عتبة بن أبي لهب وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد زوجه رقية أو أم كلثوم فقالوا له طلق ابنة محمد ونحن ننكحك أي امرأة من قريش شئت فقال إن زوجتموني ابنة أبان بن سعيد بن العاص أو ابنة سعيد بن العاص وفارقها
فزوجوه بنت سعيد بن العاص وفارقا ولم يكن دخل بها فأخرجها الله من يده كرامة لها وهوانا له
وخلف عليها عثمان بن عفان بعده
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لا يحل بمكة ولا يحرم مغلوبا على أمره وكان
الإسلام قد فرق بين زينب ابنته وبين أبي العاص إلا أنه كان لا يقدر أن يفرق بينهما فأقامت معه على إسلامها وهو على شركه حتى هاجر رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
(2/36)
فلما سارت قريش إلى بدر سار فيهم أبو العاص فأصيب في الأساري فكان بالمدينة عند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في فداء أبي العاص بمال وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بني بها فلما رآها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} رق لها رقة شديدة وقال إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها فافعلوا قالوا نعم يا رسول الله
فأطلقوه وردوا عليها مالها
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد أخذ عليه أن يخلي سبيل زينب إليه أو وعده أبو العاص بذلك أو شرطه عليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في إطلاقه ولم يظهر ذلك منه ولا من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيعلم ما هو
إلا أنه لما خرج أبو العاص إلى مكة وخلى سبيله بعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مكانه زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار فقال كونا ببطن يأجح حتى تمر بكما زينب فتصحباها حتى تأتياني بها
فخرجا وذلك بعد بدر بشهر أو سبعة فلما قدم أبو العاص مكة أمرها باللحوق بأبيها فخرجت تتجهز
قالت زينب بينا أنا أتجهز بمكة لقيتني هند ابنة عتبة فقالت يا ابنة محمد ألم يبلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك قالت ما أردت ذلك
قالت أي ابنة عم لا تفعلي إن كانت لك حاجة بمتاع مما يرفق بك في سفرك أو بمال تتبلغين به إلى أبيك فإن عندي حاجتك فلا تضطني مني فإنه لا يدخل بين النساء ما يدخل بين الرجال
قالت زينب فوالله ما أراها قالت ذلك إلا لتفعل ولكني خفتها فأنكرت أن أكون أريد ذلك وتجهزت
ولما فرغت بنت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من جهازها قدم إليها كنانة بن الربيع أخو زوجها بعيرا فركبته وأخذ قوسه وكنانته ثم خرج بها نهارا يقود بها وهي في هودج لها وتحدث بذلك رجال قريش فخرجوا في طلبها حتى أدركوها بذي طوى فكان أول من سبق إليها هبار بن الأسود الفهري فروعها هبار بالرمح
وهي في هودج لها وكانت حاملا فيما يزعمون فلما ريعت طرحت ذا بطنها وبرك حموها كنانة ونثر كنانته ثم قال والله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهما
(2/37)
فتكركر الناس عنه وأتى أبو سفيان بن حرب في جلة من قريش فقال أيها الرجل كف عنا نبلك حتى نكلمك
فكف فأقبل أبو سفيان حتى وقف عليه فقال إنك لم تصب خرجت بالمرأة على رءوس الناس علانية وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا وما دخل علينا من محمد فيظن الناس إذا خرجت إليه ابنته علانية على رءوس الناس من بين أظهرنا أن ذلك عن ذل أصابنا عن مصيبتنا التي كانت وأن ذلك من ضعف ووهن ولعمري ما لنا بحبسها عن أبيها من حاجة وما لنا في ذلك من ثؤرة ولكن أرجع المرأة حتى إذا هدأت الأصوات وتحدث الناس أن قد رددناها فسلها سرا وألحقها بأبيها
ففعل فأقامت ليالي حتى إذا هدأت الأصوات خرج بها ليلا حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه فقدما بها على رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
ولما انصرف الذين خرجوا إلى زينب لقيتهم هند بنت عتبة فقالت لهم
أفي السلم أعيار جفاء وغلظة
وفي الحرب أشباه النساء العوارك
الطويل
وأمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بسرية بعثها بتحريق هبار بن الأسود أو الرجل الذي سبق معه إلى زينب إن ظفروا بهما ثم بعث إليهم فقال إني كنت قد أمرتكم بتحريق هذين الرجلين إن أخذتموهما ثم رأيت أنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا الله عز وجل فإن ظفرتم بهما فاقتلوهما
وأقام أبو العاص بمكة وأقامت زينب عند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين فرق بينهما الإسلام حتى إذا كان قبيل الفتح خرج أبو العاص تاجرا إلى الشام وكان رجلا مأمونا بمال له وأموال لرجال من قريش أبضعوها معه فلما فرغ من
تجارته وأقبل قافلا لقيته سرية لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأصابوا ما معه وأعجزهم هاربا فلما قدمت السرية بما أصابوا من ماله أقبل أبو العاص تحت الليل حتى دخل على زينب بنت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فاستجار بها فأجارته وجاء في طلب ماله فلما خرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى الصبح فكبر وكبر الناس معه صرخت زينب من صفة النساء أيها الناس إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع
(2/38)
فلما سلم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من الصلاة أقبل على الناس فقال أيها الناس هل سمعتم ما سمعت قالوا نعم قال أما والذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء حتى سمعت ما سمعتم إنه يجير على المسلمين أدناهم
ثم انصرف فدخل على ابنته فقال أي بنية أكرمي مثواه ولا يخلصن إليك فإنك لا تحلين له
وبعث إلى السرية الذين أصابوا مال أبي العاص فقال لهم إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم وقد أصبتم له مالا فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له فإنا نحب ذلك وإن أبيتم فهو فيء الله الذي أفاء عليكم فأنتم أحق به
قالوا يا رسول الله بل نرده عليه فردوه عليه حتى إن الرجل ليأتي بالدلو ويأتي الرجل بالشنة والإداوة حتى إن الرجل ليأتي بالشظاظ حتى ردوا عليه ماله بأسره لا يفقد منه شيئا ثم احتمل إلى مكة فأدى إلى كل ذي مال من قريش ماله ثم قال يا معشر قريش هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه قالوا لا فجزاك الله خيرا فقد وجدناك وفيا كريما
قال فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله والله ما منعني من الإسلام عنده إلا تخوف أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم فلما أداها الله إليكم وفرغت منها أسلمت
ثم خرج حتى قدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وحكي ابن هشام عن أبي عبيدة أن أبا العاص لما قدم من الشام ومعه أموال المشركين قيل له هل لك أن تسلم وتأخذ هذه الأموال فإنها للمشركين فقال بئس ما أبدأ به إسلامي أن أخون أمانتي
ومن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على نفر من الأساري من قريش بغير فداء منهم أبو
عزة عمرو بن عبد الله الجمحي كان محتاجا ذا بنات فكلم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال يا رسول الله لقد عرفت مالي من مال وإني لذو حاجة وذو عيال فامنن علي
فمن عليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأخذ عليه أن لا يظاهر عليه أحدا فقال أبو عزة في ذلك يمدح رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ويذكر فضله على قومه
ومن مبلغ عني الرسول محمدا
بأنك حق والمليك حميد
وأنت امرؤ تدعو إلى الحق والهدى
عليك من الله العظيم شهيد
وأنت امرؤ بوئت فينا مباءة
(2/39)
لها درجات سهلة وصعود
فإنك من حاربته لمحارب
شقي ومن سالمته لسعيد
ولكن إذا ذكرت بدرا وأهله
تأوب ما بي حسرة وقعود
الطويل
وذكر موسى بن عقبة أن المسلمين جهدوا على أبي عزة هذا عندما أسر ببدر أن يسلم فقال لا حتى أضرب في الخزرجية يوما إلى الليل
وما وقع في شعره ومحاورته رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مما يقتضي التصريح برسالته فلا أعلم له مخرجا إن صح إلا أن يكون ذلك من جملة ما قصد به أبو عزة أن يخدع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فعاد على عدو الله ما ائتمر ولم يخدع إلا نفسه وما شعر وذلك أنه لما أخذت قريش قبل أحد في الإعداد لحرب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} طلبا بثأرهم في يوم بدر قال صفوان بن أمية لأبي عزة هذا يا أبا عزة إنك امرؤ شاعر فأعنا بلسانك فاخرج معنا
فقال إن محمدا قد من علي فلا أريد أن أظاهر عليه
قال بلى فأعنا بنفسك فلك الله علي إن رجعت أن أعينك وإن أصبت أن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهن ما أصابهن من عز ويسر
فخرج أبو عزة يسير في تهامة ويدعو بني كنانة ويقول
أيا بني عبد مناة الرزام
أنتم حماة وأبوكم حام
لا تعدموني نصركم بعد العام
لا تسلموني لا يحل إسلام
الراجز
ثم كان من الأمر يوم أحد ما كان وخرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعد الوقعة
مرهبا لعدوه حتى انتهى إلى حمراء الأسد فأخذ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في وجهه ذلك أبا عزة الجمحي فقال يا رسول الله أقلني
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} والله لا تمسح عارضيك بمكة تقول خدعت محمدا مرتين اضرب عنقه يا زبير
فضرب عنقه
وذكر ابن هشام فيما بلغه عن سعيد بن المسيب أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال له إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين اضرب عنقه يا عاصم بن ثابت فضرب عنقه
وكان عمير بن وهب شيطانا من شياطين قريش وممن كان يؤذي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه بمكة ويلقون منه عنتا وكان ابنه وهب بن عمير في أساري بدر فجلس عمير مع صفوان بن أمية في الحجر بعد مصاب أهل بدر بيسير فذكر أصحاب القليب ومصابهم فقال له صفوان فوالله إن في العيش خير بعدهم
(2/40)
فقال له عمير صدقت والله أما والله لولا دين علي ليس له عندي قضاء وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي لركبت إلى محمد حتى أقتله فإن لي فيهم علة ابني أسير في أيديهم
فاغتنمها صفوان فقال علي دينك أنا أقضيه عنك وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا لا يسعني شيء ويعجز عنهم قال عمير فاكتم عني شأني وشأنك قال أفعل
ثم أمر عمير بسيفه فشحذ له وسم ثم انطلق حتى قدم المدينة
فبينا عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر ويذكرون ما أكرمهم الله به وما أراهم من عدوهم إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب حين أناخ على باب المسجد متوشحا السيف فقال هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب ما جاء إلا لشر وهذا الذي حرش بيننا وحزرنا للقوم يوم بدر
ثم دخل عمر على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال يا نبي الله هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحا سيفه
قال فأدخله علي
فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه فلببه بها وقال لرجال من الأنصار كانوا معه ادخلوا على رسول
الله {صلى الله عليه وسلم} فاجلسوا عنده واحذروا عليه هذا الخبيث فإنه غير مأمون
ثم دخل به فلما رآه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كذلك قال أرسله يا عمر أدن يا عمير
فدنا ثم قال أنعموا صباحا وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير بالسلام تحية أهل الجنة قال أما والله إن كنت بها يا محمد لحديث عهد
قال فما جاء بك يا عمير قال جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه قال فما بال السيف في عنقك فقال قبحها الله من سيوف وهل أغنت شيئا قال اصدقني ما الذي جئت له قال ما جئت إلا لذلك
قال بلى قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش ثم قلت لولا دين علي وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمدا فتحمل لك صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني له والله حائل بينك وبين ذلك
(2/41)
قال عمير أشهد أنك رسول الله قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله فالحمد لله الذي هداني للإسلام وساقني هذا المساق
ثم شهد بشهادة الحق فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقهوا أخاكم في دينه وأقرئوه القرآن وأطلقوا له أسيره ففعلوا
ثم قال يا رسول الله إني كنت جاهدا على إطفاء نور الله شديد الأذى لمن كان على دين الله وأنا أحب أن تأذن لي فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله والى الإسلام لعل الله يهديهم وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحابك في دينهم
فأذن له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلحق بمكة
وكان صفوان حين خرج عمير يقول أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام تنسيكم وقعة بدر
وكان يسأل عنه الركبان حتى قدم راكب فأخبره عن إسلامه فحلف أن لا يكلمه أبدا ولا ينفعه بنفع أبدا فلما قدم عمير مكة أقام بها يدعو إلى الإسلام ويؤذي من خالفه أذى شديدا فأسلم على يديه ناس كثير
وعمير هذا أو الحارث بن هشام يشك ابن إسحاق هو الذي رأى إبليس حين نكص على عقبيه يوم بدر فقال أين أي سراق ومثل عدو الله فذهب
فأنزل الله تبارك وتعالى فيه وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم 48 الأنفال فذكر استدراج إبليس إياهم بتشبهه بسراقة بن مالك بن جعشم لهم حين ذكروا ما بينهم وبين بني بكر من الحرب يقول الله عز وجل فلما تراءت الفئتان ونظر عدو الله إلى جنود الله من الملائكة قد أيد الله بهم رسوله والمؤمنين على عدوهم نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون وصدق عدو الله الكذوب رأى ما لم يروا وقال إني أخاف الله والله شديد العقاب فذكر أنهم كانوا يرونه في كل منزل في صورة سراقة لا ينكرونه حتى إذا كان يوم بدر والتقى الجمعان نكص على عقبيه فأوردهم ثم أسلمهم
وفي ذلك يقول حسان بن ثابت
قومي الذين هم آووا نبيهم
(2/42)
وصدقوه وأهل الأرض كفار
إلا خصائص أقوام هم سلف
للصالحين مع الأنصار أنصار
مستبشرين بقسم الله قولهم
لما أتاهم كريم الأصل مختار
أهلا وسهلا ففي أمن وفي سعة
نعم النبي ونعم القسم والجار
فأنزلوه بدار لا يخاف بها
من كان جارهم دارا هي الدار
وقاسموهم بها الأموال إذ قدموا
مهاجرين وقسم الجاحد النار
سرنا وساروا إلى بدر لحينهم
لو يعلمون يقين العلم ما ساروا
دلاهم بغرور ثم أسلمهم
إن الخبيث لمن والاه غرار
وقال إني لكم جار فأوردهم
شر الموارد فيه الخزي والعار
ثم التقينا فولوا عن سراتهم
من منجدين ومنهم فرقة غاروا
البسيط
ويروى أن قريشا رأوا سراقة المدلجي بعد وقعة بدر وهو الذي تمثل لهم
إبليس في صورته يوم بدر كما تقدم فقالوا له يا سراقة أخرمت الصف وأوقعت فينا الهزيمة فقال والله ما علمت بشيء من أمركم حتى كانت هزيمتكم وما شهدت معكم
فما صدقوه حتى أسلموا وسمعوا ما أنزل الله في ذلك فعلموا أنه كان إبليس تمثل لهم
ولما انقضى أمر بدر أنزل الله تبارك وتعالى فيه من القرآن الأنفال بأسرها
وكان جميع من شهد بدرا من المسلمين من المهاجرين والأنصار من شهدها ومن ضرب له بسهمه وأجره ثلاثمائة رجل وأربعة عشر رجلا من المهاجرين ثلاثة وثمانون رجلا ثلاثة منهم ضرب لهم بسهامهم وأجورهم ولم يشهدوا وهم عثمان بن عفان تخلف على امرأته رقية بنت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لمرضها الذي توفيت فيه قبل أن يرجع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من بدر فضرب له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بسهمه
قال وأجري يا رسول الله قال وأجرك
وطلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد كانا بالشام فرجعا بعد رجوع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من بدر فضرب لكليهما بسهمه
قال وأجري يا رسول الله قال وأجرك
ومن الأوس واحد وستون اثنان منهم ضرب لهما بسهميهما عاصم بن عدي العجلاني رده رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعد أن خرج معه وضرب له بسهمه وخوات بن جبير ضرب له أيضا بسهمه
ومن الخزرج مائة وسبعون رجلا منهم الحارث بن الصمة كسر به بالروحاء فضرب له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بسهمه
(2/43)
واستشهد يومئذ من المسلمين مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أربعة عشر رجلا ستة من قريش عبيدة بن الحارث بن المطلب وعمير بن أبي وقاص الزهري وذو الشمالين بن عبد عمرو حليف بني زهرة وعاقل بن البكير حليف لبني عدي ومهجع مولى عمر بن الخطاب وصفوان بن بيضاء
ومن الأنصار ثمانية نفر خمسة من الأوس سعد بن خيثمة ومبشر بن عبد
المنذر من بني عمرو بن عوف ويزيد بن الحارث الذي يقال له ابن فسحم من بني الحارث بن الخزرج وعمير بن الحمام من بني سلمة ورافع بن المعلى من بني جشم
وثلاثة من الخزرج من بني النجار حارثة بن سراقة وعوف ومعوذ ابنا الحارث بن رفاعة منهم وهما ابنا عفراء رحمة الله على جميعهم ورضوانه
وكان مع المسلمين يوم بدر من الخيل فرس الزبير بن العوام وفرس مرثد بن أبي مرثد الغنوي وفرس المقداد بن عمرو البهراني
وذكر ابن إسحاق أن جميع من أحصي له من قتلى قريش من المشركين يوم بدر خمسون رجلا
وقال ابن هشام حدثني أبو عبيدة عن أبي عمرو أن قتلى بدر من المشركين كانوا سبعين رجلا و الأسرى كذلك وهو قول ابن عباس وسعيد بن المسيب وفي كتاب الله تبارك وتعالى أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها
يقول لأصحاب أحد وكان من استشهد منه سبعين رجلا يقول قد أصبتم يوم بدر مثلي من استشهد منهم يوم أحد سبعين قتيلا وسبعين أسيرا
وأنشدني أبو زيد الأنصاري لكعب بن مالك من قصيدة له ينعي قتلى بدر
( فأقام بالعطن المعطن منهم سبعون عتبة منهم والأسود والكامل
وكان مما قيل في يوم بدر من الشعر قول حمزة بن عبد المطلب يرحمه الله ومن أهل العلم من ينكرها له
آلم تر أمرا كان من عجب الدهر
و للحين أسباب مبينة الأمر
وما ذاك إلا أن قوما أفادهم
فحانوا تواحي بالعقوق وبالكفر
عشية راحوا نحو بدر بجمعهم
فكانوا رهونا للركية من بدر
وكنا طلبنا العير لم نبغ غيرها
فساروا إلينا فالتقينا على قدر
فلما التقينا لم تكن مثنوية
لنا غير طعن بالمثقفة السمر
وضرب ببيض يختلي الهام حدها
(2/44)
مشهرة الألوان بينة الأثر
ونحن تركنا عتبة الغي ثاويا
وشيبة في قتلي تجرجم في الجفر
وعمرو ثوى فيمن ثوى من حماتهم
فشقت جيوب النائحات على عمرو
جيوب نساء من لؤي بن غالب
كرام تفرعن الذوائب من فهر
أولئك قوم قتلوا في ضلالهم
وخلوا لواء غير محتضر النصر
لواء ضلال قاد إبليس أهله
فخاس بهم إن الخبيث إلى غدر
وقال لهم إذ عاين الأمر واضحا
برئت إليكم ما بي اليوم من صبر
فإني أرى ما لا ترون وإنني
أخاف عقاب الله والله ذو قسر
فقدمهم للحين حتى تورطوا
وكان بما لم يخبر القوم ذا خبر
فكانوا غداة البئر ألفا وجمعنا
ثلاث مئين كالمسدمة الزهر
وفينا جنود الله حين يمدنا
بهم في مقام ثم مستوضح الذكر
فشد بهم جبريل تحت لوائنا
لدى مأزق فيه مناياهم تجري
الطويل
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في يوم بدر ولم ير ابن هشام أحدا يعرفها من أهل العلم بالشعر
ألم تر أن الله أبلي رسوله
بلاء عزيز ذي اقتدار وذي فضل
بما أنزل الكفار دار مذلة
فلاقوا هوانا من إسار ومن قتل
فأمسى رسول الله قد عز نصره
وكان رسول الله أرسل بالعدل
فجاء بفرقان من الله منزل
مبينة آياته لذوي العقل
فآمن أقوام بذاك وأيقنوا
فأمسوا بحمد الله مجتمعي الشمل
وأنكر أقوام فزاغت قلوبهم
فزادهم ذو العرش خبلا على خبل
وأمكن منهم يوم بدر رسوله
وقوما غضابا فعلهم أحسن الفعل
بأيديهم بيض خفاف عصوا بها
وقد حادثوها بالجلاء وبالصقل
فكم تركوا من ناشيء ذي حمية
صريع ومن ذي نجدة منهم كهل
تبيت عيون النائحات عليهم
تجود بإسيال الرشاش وبالوبل
نوائح تنعي عتبة الغي وابنه
وشيبة تنعاه وتنعى أبا جهل
وذا الرجل تنعى وابن جدعان فيهم
مسلبة حري مبينة الثكل
ثوى منهم في بئر بدر عصابة
ذوي نجدات في الحروب وفي المحل
دعا الغي منهم من دعا فأجابه
وللغي أسباب مرمقة الوصل
فأضحوا لدى دار الجحيم بمعزل
عن الشغب والعدوان في أشغل الشغل
الطويل
وقال كعب بن مالك أخو بني سلمة يذكر بدرا
عجبت لأمر الله والله قادر
(2/45)
على ما أراد ليس لله قاهر
قضى يوم بدر أن نلاقي معشرا
بغوا وسبيل الغي في النار جائر
وقد حشدوا واستنفروا من يليهم
من الناس حتى جمعهم متكاثر
وسارت إلينا لا تحاول غيرنا
بأجمعها كعب جميعا وعامر
وفينا رسول الله والأوس حوله
له معقل منهم عزيز وناصر
وجمع بني النجار تحت لوائه
يمشون في الماذي والنقع ثائر
فلما لقيناهم وكل مجاهد
لأصحابه مستبسل النفس صابر
شهدنا بأن الله لا رب غيره
وأن رسول الله بالحق ظاهر
وقد عريت بيض خفاف كأنها
مقاييس يزهيها لعينيك شاهر
بهن أيدنا جمعهم فتبددوا
وكان يلاقي الحين من هو فاجر
فكب أبو جهل صريعا لوجهه
وعتبة قد غادرته وهو عاثر
وشيبة والتيمي غادرن في الوغى
وما منهما إلا بذي العرش كافر
فأمسوا وقود النار في مستقرها
وكل كفور في جهنم صائر
تلظى عليهم وهي قد شب حميها
بزبر الحديد والحجارة ساجر
وكان رسول الله قد قال أقبلوا
فولوا وقالوا إنما أنت ساحر
لأمر أراد الله أن يهلكوا به
وليس لأمر حمه الله زاجر
الطويل
ولضرار بن الخطاب الفهري في هذا الروي شعر ذكر ابن إسحاق أن كعب بن مالك أجابه عنه بهذا الشعر الذي كتبناه آنفا والأظهر من مقتضى الشعر أن ضرارا هو الذي أجاب كعب بن مالك ونقض عليه
وهذا شعر ضرار
عجبت لفخر الأوس والحين دائر
عليهم غدا والدهر فيه بصائر
وفخر بني النجار أن كان معشر
أصيبوا ببدر كلهم ثم صابر
فإن تك قتلى غودرت من رجالنا
فإنا رجال بعدهم سنغادر
وتردي بنا جرد عناجيج وسطكم
بني الأوس حتى يشفي النفس ثائر
ووسط بين النجار سوف نكرها
لها بالقنا والدارعين زوافر
فنترك صرعي تعصب الطير حولهم
وليس لهم إلا الأماني ناصر
وتبكيهم من أهل يثرب نسوة
لهن بهاليل عن النوم ساهر
وذلك أنا لا تزال سيوفنا
بهن دم ممن يحاربن مائر
فإن تظفروا في يوم بدر فإنما
بأحمد أمسى جدكم وهو ظاهر
وبالنفر الأخيار هم أولياؤه
يحامون في اللأواء والموت حاضر
يعد أبو بكر وحمزة منهم
ويدعى علي وسط من أنت ذاكر
(2/46)
أولئك لا من نتجت في ديارها
بنو الأوس والنجار حين تفاخر
ولكن أبوهم من لؤي بن غالب
إذا عدت الأنساب كعب وعامر
هم الطاعنون الخيل في كل معرك
غداة الهياج الأطيبون الأكاثر
الطويل
ومن شعر حسان بن ثابت يعرض بالحارث بن هشام وفراره عن يوم بدر
إن كنت كاذبة الذي حدثتني
فنجوت منجى الحارث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم
ونجا برأس طمرة ولجام
الكامل
فأجابه الحارث بن هشام فيما ذكر فقال
الله أعلم ما تركت قتالهم
حتى علوا فرسي بأشقر مزبد
وعرفت أنى إن أقاتل واحدا
أقتل ولا يضرر عدوي مشهدي
فصددت عنهم والأحبة فيهم
طمعا لهم بعقاب يوم مفسد
وقال حسان بن ثابت أيضا ويقال إنها لعبد الله بن الحارث السهمي يشبه أنها من قصيدة
مستشعري حلق الماذي يقدمهم
جلد النحيزة ماض غير رعديد
أعني رسول الإله الحق فضله
على البرية بالتقوى وبالجود
وقد زعمتم بأن تحموا ذماركم
وماء بدر زعمتم غير مورود
ثم وردنا ولم نسمع لقولكم
حتى شربنا رواء غير تصريد
مستعصمين بحبل غير منجذم
مستحكم من حبال الله ممدود
فينا الرسول وفينا الحق نتبعه
حتى الممات ونصر غير محدود
البسيط
وقال حسان بن ثابت أيضا
ألا ليت شعري هل أتى أهل مكة
إبادتنا الكفار في ساعة العسر
قتلنا سراة القوم عند مجالنا
فلم يرجعوا إلا بقاصمة الظهر
فكم قد قتلنا من كريم مزرء
له حسب في قومه نابه الذكر
تركناهم للعاويات يتبنهم
ويصلون نارا بعد حامية القعر
لعمرك ما حامت فوارس مالك
وأشياعهم يوم التقينا على بدر
الطويل
وقال عبيدة بن الحارث بن المطلب في يوم بدر يذكر مبارزته هو وحمزة وعلي عدوهم وما كان من إصابة رجله يومئذ
قال ابن هشام وبعض أهل العلم بالشعر ينكرها له
ستبلغ عنا أهل مكة وقعة
يهب لها من كان عن ذاك نائيا
بعتبة إذ ولي وشيبة بعده
وما كان فيها بكر عتبة راضيا
فإن تقطعوا رجلي فإني مسلم
أرجي بها عيشا من الله دانيا
مع الحور أمثال التماثيل أخلصت
مع الجنة العليا لمن كان عاليا
(2/47)
وبعت بها عيشا تعرفت صفوه
وعالجته حتى فقدت الأدانيا
وأكرمني الرحمن من فضل منه
بثوب من الإسلام غطى المساويا
وما كان مكروها إلي قتالهم
غداة دعا الأكفاء من كان داعيا
لقيناهم كالأسد تعثر بالقنا
نقاتل في الرحمن من كان عاصيا
فما برحت أقدامنا من مقامنا
ثلاثتنا حتى أزيروا المنانيا
الطويل
قال ابن هشام لما أصيبت رجل عبيدة قال أما والله لو أدرك أبو طالب هذا اليوم لعلم أني أحق منه بما قال حين يقول
كذبتم وبيت الله نبزي محمدا
ولما نطاعن حوله ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله
ونذهل عن أبنائنا والحلائل
الطويل
ولما هلك عبيدة بن الحارث من مصاب رجله قالت هند ابنة أثاثة بن عباد بن المطلب ترثيه وكانت وفاته بالصفراء وبها دفن يرحمه الله تعالى
لقد ضمن الصفراء مجدا وسؤددا
وحلما أصيلا وافر اللب والعقل
عبيدة فابكيه لأضياف غربة
وأرملة تهوي لأشعث كالجذل
وبكيه للأقوام في كل شتوة
إذا احمر آفاق السماء من المحل
وبكيه للأيتام والريح زفزف
وتشتيت قدر طال ما أزبدت تغلي
فإن تصبح النيران قد مات ضوؤها
فقد كان يذكيهن بالحطب الجزل
لطارق ليل أو لملتمس القرى
ومستنبح أضحى لديه على رسل
الطويل
وقال طالب بن أبي طالب يمدح النبي {صلى الله عليه وسلم} ويبكي أصحاب القليب من قريش
ألا إن عيني أنفدت ماءها سكبا
تبكي على كعب وما إن ترى كعبا
ألا إن كعبا في الحروب تخاذلوا
وأرداهم ذا الدهر واجترحوا ذنبا
وعامر تبكي للملمات غدوة
فيا ليت شعري هل أرى لهما قربا
هما أخواي لن يعدا لغية
تعد ولن يستام جارهما غصبا
فيا أخوينا عبد شمس ونوفلا
فدا لكما لا تبعثوا بيننا حربا
ولا تصبحوا من بعد ود وألفه
أحاديث فيها كلكم يشتكي النكبا
ألم تعلموا ما كان في حرب داحس
وجيش أبي يكسوم إذ ملأوا الشعبا
فلولا دفاع الله لا شيء غيره
لأصبحتم لا تمنعون لكم سربا
فما إن جنينا في قريش عظيمة
سوى أن حمينا خير من وطئ التربا
أخا ثقة في النائبات مرزأ
كريما ثناه لا بخيلا ولا ذربا
(2/48)
يطيف به العافون يغشون بابه
يؤمون نهرا لا نزورا ولا صربا
فوالله لا تنفك نفسي حزينة
تململ حتى تصدقوا الخزرج الضربا
الطويل
وكانت وقعة بدر يوم الجمعة لسبع عشرة من شهر رمضان وكان فراغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} منها في عقبه أو في شوال بعده
فلما قدم المدينة لم يقم بها إلا سبع ليال حتى غزا بنفسه يريد بني سليم فبلغ ماء من مياههم يقال له الكدر فأقام عليه ثلاث ليال ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا فأقام بها بقية شوال وذا القعدة وأفدى في إقامته تلك جل الأساري من قريش
وكان أبو سفيان بن حرب حين رجع فل قريش من بدر نذر أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا {صلى الله عليه وسلم} فخرج في مائتي راكب من قريش لتبر يمينه فسلك النجدية حتى نزل بصدر قناة على بريد أو نحوه من المدينة ثم خرج من الليل حتى أتي بني النضير تحت الليل فأتي حيي بن أخطب فضرب عليه بابه فأبى أن يفتح له وخافه فانصرف عنه إلى سلام بن مشكم وكان سيد بني النضير في زمانه ذلك وصاحب كنزهم فاستأذن عليه فأذن له فقراه وسقاه وبطن له من خبر الناس ثم خرج في عقب ليلته حتى أتي أصحابه فبعث رجالا منهم فأتوا ناحية العريض فحرقوا بها أصوار نخل وقتلوا رجلا من الأنصار وحليفا له في حرث لهما ثم انصرفوا راجعين ونذر بهم الناس فخرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في طلبهم حتى بلغ قرقرة الكدر ثم انصرف وقد فاته أبو سفيان بن حرب وأصحابه وطرحوا من أزوادهم يتخففون منها للنجاء وكان أكثر ما طرحوه السويق فهجم المسلمون على سويق كثير فسميت غزوة السويق فقال المسلمون حين رجع بهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يا رسول الله أتطمع لنا أن تكون غزوة قال نعم
ثم غزا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نجدا يريد غطفان وهي غزوة ذي أمر فأقام بنجد ثم رجع ولم يلق كيدا
ثم غزا قريشا حتى بلغ بحران معدنا بالحجاز من ناحية الفرع ثم رجع منه إلى المدينة ولم يلق كيدا وذلك بعد مقامه به نحوا من شهرين ربيع الآخر وجمادى الأولى من سنة ثلاث
أمر بني قينقاع
(2/49)
وكان فيما بين ما ذكر من غزو رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أمر بني قينقاع
وكانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وحاربوا فيما بين بدر وأحد
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} جمعهم في سوقهم ثم قال يا معشر يهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة وأسلموا فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم
قالوا يا محمد إنك ترى أنا قومك لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس
فقال ابن عباس ما أنزل هؤلاء الآيات إلا فيهم قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار آل عمران 12 - 13
وكان منشأ أمرهم أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوق قينقاع وجلست إلى صائغ بها فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها فلما قامت انكشفت سوءتها فضحكوا بها فصاحت فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله وكان
يهوديا فشدت اليهود على المسلم فقتلوه فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود فأغضب المسلمون فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع
فحاصرهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى نزلوا على حكمه فقام إليه عبد الله بن أبي بن سلول حين أمكنه الله منهم فقال يا محمد أحسن في موالي وكانوا حلفاء الخزرج فأبطأ عليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال يا محمد أحسن في موالي فأعرض عنه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأدخل يده في جيب درع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكان يقال لها ذات الفضول فقال له أرسلني وغضب {صلى الله عليه وسلم} حتى رأوا لوجهه ظللا ثم قال ويحك أرسلني
قال لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة إني والله امرؤ أخشى الدوائر فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} هم لك
(2/50)
ولما حاربت بنو قينقاع تشبث عبد الله بن أبي بأمرهم وقام دونهم قال مشى عبادة بن الصامت وكان أحد بني عوف لهم من حلفه مثل الذي لهم من عبد الله بن أبي إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فخلعهم إليه وتبرأ إلى الله والى رسوله من حلفهم وقال يا رسول الله أتولى الله ورسوله والمؤمنين وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم
ففيه وفي عبد الله بن أبي نزلت هذه القصة من المائدة يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين فترى الذين في قلوبهم مرض يريد عبد الله بن أبي يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين
ثم القصة إلى قوله إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون وذلك لتولي عبادة بن الصامت الله ورسوله والذين آمنوا وتبريه من بني قينقاع وحلفهم وولايتهم ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون المائدة 51 - 56
سرية زيد بن حارثة
ولما كان من وقعة بدر ما كان خافت قريش طريقهم التي كانوا يسلكون إلى الشام فسلكوا طريق العراق فخرج منهم تجار فيهم أبو سفيان بن حرب ومعه فضة كثيرة وهي عظم تجارتهم وبعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} زيد بن حارثة فلقيهم على القردة ماء من مياه نجد فأصاب تلك العير وما فيها وأعجزه الرجال فقدم بها على رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فذلك الذي يعني حسان بن ثابت بقوله في غزوة بدر الآخرة يؤنب قريشا في أخذهم تلك الطريق
دعوا فلجات الشام قد حال دونها
جلاد كأفواه المخاض الأوارك
بأيدي رجال هاجروا نحو ربهم
وأنصاره حقا وأيدي الملائك
إذا سلكت للغور من بطن عالج
فقولا لها ليس الطريق هنالك
الطويل
مقتل كعب بن الأشرف
(2/51)
ولما بعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة بشيرين إلى من بالمدينة من المسلمين بفتح الله عليه وقتل من قتل من المشركين ببدر قال كعب بن الأشرف وكان رجلا من طيء ثم أحد بني نبهان وأمه من بني النضير حين بلغه هذا الخبر أحق هذا أترون أن محمدا قتل هؤلاء الذين يسمي هذان الرجلان فهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير لي من ظهرها
فلما تبين عدو الله الخبر خرج حتى قدم مكة فجعل يحرض على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وينشد الأشعار ويبكي أصحاب القليب من قريش ثم رجع إلى المدينة فشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من لي من ابن الأشرف فقال له محمد بن مسلمة الأشهلي أنا لك به يا رسول الله أنا أقتله
قال فافعل إن قدرت على ذلك
فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثا لا يأكل ولا يشرب إلا ما يعلق به نفسه فذكر ذلك لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فدعاه فقال له لم تركت الطعام والشراب فقال يا رسول الله قلت لك قولا لا أدري هل افين لك به أم لا قال إنما عليك الجهد قال يا رسول الله لا بد لنا من أن نقول
قال قولوا ما بدا لكم فأنتم في حل من ذلك
فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة وسلكان بن سلامة أبو نائلة وعباد بن بشر والحارث بن أوس وكلهم من بني عبد الأشهل وأبو عبس بن جبر أخو بني
حارثة ثم قدموا إلى عدو الله ابن الاشرف سلكان بن سلامة وكان أخاه من الرضاعة فجاءه فتحدث معه ساعة ثم قال ويحك يا ابن الاشرف أني قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك فاكتم عني قال افعل قال كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء عادتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة وقطعت عنا السبل حتى ضاع العيال وجهدت الأنفس
فقال كعب أنا ابن الأشرف أما والله لقد كنت أخبرك يا ابن سلامة أن الأمر سيصير إلى ما أقول
فقال له سلكان أني قد أردت أن تبيعنا طعاما ونرهنك ونوثق لك
قال أترهنوني نساءكم قال كيف نرهنك نساءنا وأنت أشب أهل يثرب وأعطرهم
(2/52)
قال أترهنوني أبناءكم قال لقد أردت أن تفضحنا يسب ابن أحدنا فيقال رهن في وسق شعير ثم قال له إن معي أصحابا لي على مثل رأيي وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم وتحسن في ذلك ونرهنك من الحلقة ما فيه وفاء وأراد سلكان أن لا ينكر السلاح إذا جاءوا بها
قال إن في الحلقة لوفاء
فرجع سلكان إلى أصحابه فأخبرهم وأمرهم أن يأخذوا السلاح ويجتمعوا إليه فاجتمعوا عند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فمشى معهم {صلى الله عليه وسلم} إلى بقيع الغرقد في ليلة مقمرة ثم وجههم وقال انطلقوا على اسم الله اللهم أعنهم
ثم رجع إلى بيته
فأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه فهتف به أبو نائلة وكان حديث عهد بعرس فوثب في ملحفته فأخذت امرأته بناحيتها وقالت إنك امرؤ محارب وإن أصحاب الحرب لا ينزلون هذه الساعة
قال إنه أبو نائلة لو وجدني نائما ما أيقظني
فقالت والله إني لأعرف في صوته الشر
فقال لها كعب لو يدعى الفتى لطعنة لأجاب
فنزل فتحدث معهم ساعة وتحدثوا معه فقالوا له هل لك يا ابن الأشرف إلى أن نتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث فيه بقية ليلتنا هذه
قال إن شئتم
فخرجوا يتماشون فمشوا ساعة ثم إن أبا نائلة شام يده في فود رأسه ثم شم
يده فقال ما رأيت كالليلة طيبا أعطر قط ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها حتى اطمأن ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها فأخذ بفود رأسه
ثم قال اضربوا عدو الله فضربوه فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئا
(2/53)
قال محمد بن مسلمة فتذكرت معولا كان في سيفي حين رأيت أسيافنا لا تغنى شيئا فأخذته وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلا أوقدت عليه نار قال فوضعته في ثنيته ثم تحاملت عليه حتى بلغت غايته فوقع عدو الله وقد أصيب الحارث بن أوس بجرح في رجله أو رأسه أصابه بعض أسيافنا فخرجنا حتى أسندنا في حرة العريض وقد أبطأ علينا الحارث بن أوس صاحبنا ونزفه الدم فوقفنا له ساعة ثم أتانا يتبع آثارنا فاحتملناه فجئنا به رسول الله {صلى الله عليه وسلم} آخر الليل وهو قائم يصلي فسلمنا عليه فخرج إلينا فأخبرناه بقتل عدو الله وتفل على جرح صاحبنا ثم رجعنا إلى أهلينا فأصبحنا وقد خافت يهود لوقعتنا بعدو الله فليس بها يهودي إلا وهو يخاف على نفسه
وذكر ابن عقبة أن كعب بن الأشرف لما قدم على قريش يستنفرهم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال له أبو سفيان والمشركون نناشدك الله أديننا أحب إلى الله أم دين محمد وأصحابه وأينا أهدى في رأيك وأقرب إلى الحق فإنا نطعم الجزور الكوماء ونسقي اللبن على الماء ونطعم ما هبت الشمال
فقال ابن الأشرف أنتم أهدى سبيلا فأنزل الله فيه والله أعلم بما ينزل ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا النساء 51
وذكر ابن إسحاق أن هذه الآية إنما نزلت في حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق وجماعة غيرهما من أحبار يهود ليس ابن الأشرف مذكورا فيهم وهم الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلما قدموا
على قريش قالوا هؤلاء أحبار يهود وأهل العلم بالكتاب الأول فسلوهم أدينكم خير أم دين محمد فسألوهم فقالوا بل دينكم خير منا دينه وأنتم أهدى منه وممن اتبعه
فأنزل الله تعالى فيهم الآية المذكورة
فالله تعالى أعلم
قال ابن إسحاق وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه
(2/54)
فوثب محيصة بن مسعود الأوسي على ابن سنينة من تجار يهود وكان يلابسهم ويبايعهم فقتله فلما قتله جعل أخوه حويصة بن مسعود ولم يكن أسلم يومئذ وكان أسن من محيصة يضربه ويقول أي عدو الله أقتلته أما والله لرب شحم في بطنك من ماله فقال محيصة والله لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لضربت عنقك قال فوالله إن كان لأول إسلام حويصة
قال أو الله لو أمرك محمد بقتلي لقتلتني قال نعم والله لو أمرني بضرب عنقك لضربتها قال والله إن دينا بلغ منك هذا لعجب فأسلم حويصة وقال محيصة في ذلك
يلوم ابن أمي لو أمرت بقتله
لطبقت ذفراه بأبيض قاضب
حسام كلون الملح أخلص صقله
متى ما أصوبه فليس بكاذب
وما سرني أني قتلتك طائعا
وأن لنا ما بين بصري ومأرب
الطويل
وذكر ابن هشام أن هذا عرض لمحيصة بعد غزوة بني قريظة وظفر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بهم وأن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} دفع إليه منهم كعب بن يهوذا
قال وكان عظيما فيهم ليقتله فقال له أخوه حويصة وكان كافرا أقتلت كعب بن يهوذا قال نعم
قال أما والله لرب شحم قد نبت في بطنك من ماله إنك للئيم
فقال له محيصة لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لقتلتك
فعجب من قوله ثم ذهب عنه متعجبا فذكروا أنه جعل ينتفض من الليل فيعجب من قول أخيه محيصة حتى أصبح وهو يقول والله إن هذا لدين
ثم أتى النبي {صلى الله عليه وسلم} فأسلم
غزوة أحد
وكان من حديث أحد أنه لما قتل الله من قتل من كفار قريش يوم بدر ورجع فلهم إلى مكة ورجع أبو سفيان بن حرب بعيرهم مشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية في رجال ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في تلك العير تجارة من قريش وقالوا لهم إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم فأعينوا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثأرا بمن أصاب منا
ففعلوا
(2/55)
ففيهم يقال أنزل الله عز وجل إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون 36 الأنفال
فاجتمعت قريش لحرب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين فعل ذلك أبو سفيان وأصحاب العير وحركوا لذلك من أطاعهم من القبائل وحرضوهم عليه وخرجوا بحدهم وجدهم وأحابيشهم ومن تابعهم من بني كنانة وأهل تهامة وخرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة وان لا يفروا فخرج أبو سفيان بن حرب وكان قائد الناس بهند بنت عتبة وكذلك سائر أشراف قريش وكبرائهم خرجوا معهم بنسائهم
وكان جبير بن مطعم قد أمر غلامه وحشيا الحبشي بالخروج مع الناس وقال له إن قتلت حمزة عم محمد بعمي طعيمة بن عدي فأنت عتيق
فكانت هند بنت عتبة كلما مرت بوحشي أو مر بها قالت ويها أبا دسمة وهي كنيته اشف واشتف
فأقبلوا حتى نزلوا بعينين جبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي مقابل المدينة
فلما سمع بهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} والمسلمون قد نزلوا حيث نزلوا قال {صلى الله عليه وسلم} إني قد رأيت والله خيرا رأيت بقرا تذبح ورأيت في ذباب سيفي ثلما فأما البقر فهي ناس من أصحابي يقتلون وأما الثلم الذي في ذباب سيفي فهو رجل من أهل بيتي يقتل ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يكره الخروج وكان عبد الله بن أبي يرى رأي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في ذلك فقال رجل من المسلمين ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد وغيره ممن كان فاته بدر يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم
(2/56)
فقال عبد الله بن أبي يا رسول الله أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم فوالله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه فدعهم يا رسول الله فإن أقاموا أقاموا بشر محبس وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم الصبيان والنساء بالحجارة من فوقهم وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا
فلم يزل برسول الله {صلى الله عليه وسلم} الناس الذين كان من أمرهم حب لقاء العدو حتى دخل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلبس لأمته وذلك يوم الجمعة حين فرغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من الصلاة وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار يقال له مالك بن عمرو أخو بني النجار فصلى عليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم خرج عليهم وقد ندم الناس فقالوا يا رسول الله استكر هناك ولم يكن ذلك لنا فإن شئت فاقعد {صلى الله عليه وسلم}
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما ينبغي للنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل
فخرج في ألف من أصحابه حتى إذا كانوا بين المدينة وأحد انخذل عنه عبد الله بن أبي بثلث الناس وقال أطاعهم وعصاني ما ندري علام نقتل أنفسنا
ها هنا أيها الناس
فرجع بمن اتبعه من أهل النفاق والريب واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام يقول يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا قومكم ونبيكم عند ما حضر من عدوهم
قالوا لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ولكنا لا نرى أنه يكون قتال
فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف عنهم قال أبعدكم الله أعداء الله فسيغني الله عنكم نبيه
ومضى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى سلك في حرة بني حارثة فذب فرس بذبنه فأصاب كلاب سيف فاستله فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكان يحب الفأل ولا يعتاف
( يا صاحب السيف شم سيفك فإني أرى السيوف ستسل اليوم )
ثم قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ( من رجل يخرج بنا على القوم من كثب أي من قرب من طريق لا تمر بنا عليهم ) فقال أبو خيثمة أخو بني حارثة أنا يا رسول الله
(2/57)
فنفذ به في حرة بني حارثة وبين أموالهم حتى سلك في مال لمربع بن قيظي وكان منافقا ضرير البصر فلما سمع حس رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ومن معه من المسلمين قام يحثي في وجوههم التراب ويقول إن كنت رسول الله فإني لا أحل لك أن تدخل حائطي
وذكر أنه أخذ حفنة من تراب في يده ثم قال والله لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك
فابتدره القوم ليقتلوه فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لا تقتلوه فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر
ومضى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى نزل الشعب من أحد فجعل ظهره وعسكره إلى أحد وقال لا يقاتلن أحد حتى نأمره بالقتال
وقد سرحت قريش الظهر والكراع في زروع كانت للمسلمين فقال رجل من الأنصار أترعى زرع بني قيلة ولما نضارب
وتعبى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} للقتال وهو في سبعمائة رجل وأمر على الرماة عبد الله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف وهو معلم يومئذ بثياب بيض
والرماة خمسون رجلا فقال انضح الخيل عنا لا يأتوننا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك
وظاهر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بين درعين ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير أخي بني عبد الدار
وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف ومعهم مائتا فرس قد جنبوها فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل
وقد كان أبو عامر عبد عمرو بن صيفي من الأوس خرج عن قومه إلى مكة مباعدا لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فكان يعد قريشا أن لو لقي قومه لم يختلف عليه منهم رجلان فلما التقى الناس كان أول من لقيهم أبو عامر في الأحابيش وعبدان أهل مكة فنادى يا معشر الأوس أنا أبو عامر
قالوا فلا أنعم الله بك عينا يا فاسق
وبذلك سماه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكان يسمى في الجاهلية الراهب فلما سمع ردهم عليه قال لقد أصاب قومي بعدي شر ثم قاتلهم قتالا شديدا ثم راضخهم بالحجارة
(2/58)
وقال أبو سفيان يومئذ لأصحاب اللواء من بني عبد الدار يحرضهم بذلك يا بني عبد الدار إنكم قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم إذا زالت زالوا فإما أن تكفونا لواءنا وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه فهموا له وتواعدوه وقالوا أنحن نسلم إليك لواءنا ستعلم غدا إذا التقينا كيف نصنع
وذلك أراد أبو سفيان
فاقتتل الناس حتى حميت الحرب
وقاتل أبو دجانة سماك بن خرشة أخو بني ساعدة حتى أمعن في الناس وقد كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال لسيف عنده من يأخذ هذا السيف بحقه فقام إليه رجال فأمسكه عنهم حتى قام إليه أبو دجانة فقال وما حقه يا رسول الله قال أن تضرب به في العدو حتى ينحني
قال أنا آخذه يا رسول الله بحقه
فأعطاه إياه وكان أبو دجانة رجلا شجاعا يختال عند الحرب وكان إذا أعلم بعصابة
له حمراء فاعتصب بها علم الناس أنه سيقاتل فلما أخذ السيف من يد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أخرج عصابته تلك فعصب بها رأسه ثم جعل يتبختر بين الصفين فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين رآه يتبختر إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن
وكان الزبير بن العوام قد سأل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ذلك السيف مع من سأله منه فمنعه إياه فقال وجدت في نفسي حين سألته إياه فمنعنيه وأعطاه أبا دجانة وقلت أنا ابن صفية عمته ومن قريش وقد قمت إليه فسألته إياه قبله فأعطاه إياه وتركني والله لأنظرن ما يصنع فأتبعته فأخرج عصابة حمراء فعصب بها رأسه فقالت الأنصار أخرج أبو دجانة عصابة الموت وهكذا كانت تقول له إذا تعصب بها فخرج وهو يقول
أنا الذي عاهدني خليلي
ونحن بالسفح لدى النخيل
أن لا أقوم الدهر في الكيول
اضرب بسيف الله والرسول
السريع
(2/59)
فجعل لا يلقي أحدا إلا قتله وكان في المشركين رجل لا يدع جريحا إلا ذفف عليه فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه فدعوت الله أن يجمع بينهما فالتقيا فاختلفا ضربتين فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بدرقته فعضت بسيفه وضربه أبو دجانة فقتله ثم رأيته قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة ثم عدل السيف عنها قال الزبير فقلت الله ورسوله أعلم
وقال أبو دجانة رأيت إنسانا يخمش الناس خمشا شديدا فصمدت إليه فلما حملت عليه السيف ولول فإذا امرأة فأكرمت سيف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن أضرب به امرأة
وقاتل حمزة بن عبد المطلب حتى قتل أحد النفر الذين كانوا يحملون اللواء من بني عبد الدار وكان جبير بن مطعم قد وعد غلامه وحشيا بالعتق إن قتل حمزة بعمه طعيمة بن عدي المقتول يوم بدر قال وحشي فخرجت مع الناس وكنت رجلا حبشيا أقذف بالحربة قذف الحبشة قل ما أخطئ بها شيئا فلما
التقى الناس خرجت أنظر حمزة حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق يهد الناس بسيفه هدا ما يقوم له شيء فوالله إني لأتهيأ له أريده وأستتر منه بشجرة أو بحجر ليدنو مني إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزي الغبشاني فلما رآه حمزة قال له هلم إلي يا ابن مقطعة البظور
وكانت أمه ختانة بمكة قال فضربه ضربة فكأنما أخطأ رأسه قال وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت في ثنته حتى خرجت من بين رجليه وذهب لينوء نحوي فغلب وتركته وإياها حتى مات ثم أتيته فأخذت حربتي ورجعت إلى العسكر فقعدت فيه ولم تكن لي بغيره حاجة إنما قتلته لأعتق
(2/60)
فلما قدمت مكة عتقت ثم أقمت حتى إذا افتتح رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مكة هربت إلى الطائف فكنت بها فلما خرج وفد الطائف إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ليسلموا تعيت علي المذاهب فوالله إني لفي ذلك إذ قال لي رجل ويحك إنه والله ما يقتل أحدا من الناس دخل في دينه فلما قال لي ذلك خرجت حتى قدمت على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المدينة فلم يرعه إلا بي قائما على رأسه أتشهد شهادة الحق فلما رآني قال أوحشي قلت نعم يا رسول الله قال أقعد فحدثني كيف قتلت حمزة فحدثته فلما فرغت قال ويحك غيب عني وجهك
فكنت أتنكبه {صلى الله عليه وسلم} حيث كان لئلا يراني حتى قبضه الله تعالى
فلما خرج المسلمون إلى مسيلمة الكذاب خرجت معهم وأخذت بحربتي التي قتلت بها حمزة فلما التقى الناس رأيت مسيلمة قائما في يده السيف وما أعرفه فتهيأت له وتهيأ له رجل من الأنصار من الناحية الأخرى كلانا يريده فهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت فيه وشد عليه الأنصاري فضربه بالسيف فربك أعلم أينا قتله فإن كنت قتلته فقد قتلت خير الناس بعد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقد قتلت شر الناس
وذكر ابن إسحاق بإسناد له إلى عبد الله بن عمر وكان شهد اليمامة قال سمعت يومئذ صارخا يقول قتله العبد الأسود
قال ابن إسحاق فبلغني أن وحشيا لم يزل يحد في الخمر حتى خلع من الديوان
فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول قد علمت أن الله لم يكن ليدع قاتل حمزة
قال ابن إسحاق
وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى قتل قتله ابن قميئة الليثي وهو يظن أنه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فرجع إلى قريش فقال قتلت محمدا
فلما قتل مصعب أعطى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اللواء علي بن أبي طالب فقاتل علي ورجال من المسلمين
ولما اشتد القتال يومئذ جلس رسول الله {صلى الله عليه وسلم} تحت راية الأنصار وأرسل إلى علي أن قدم الراية فتقدم فقال أنا أبو القصم فناداه أبو سعد بن أبي طلحة هل لك يا أبا القصم في البراز من حاجة قال نعم
(2/61)
فبرزا بين الصفين فاختلفا ضربتين فضربه علي فصرعه ثم انصرف ولم يجهز عليه فقال له أصحابه أفلا أجهزت عليه فقال إنه استقبلني بعورته فعطفتني عليه الرحم وعرفت أن الله قد قتله
ويقال إن أبا سعد هذا خرج بين الصفين وطلب من يبارزه مرارا فلم يخرج إليه أحد فقال يا أصحاب محمد زعمتم أن قتلاكم في الجنة وقتلانا في النار كذبتم واللات لو تعلمون ذلك حقا لخرج إلي بعضكم
فخرج إليه علي فاختلفا ضربتين فقتله علي
وقد قيل إن سعد بن أبي وقاص هو الذي قتل أبا سعد هذا
وقاتل عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح فقتل مسافع بن طلحة وأخاه الجلاس ابن طلحة كلاهما يشعره سهما فيأتي أمه فيضع رأسه في حجرها فتقول يا بني من أصابك فيقول سمعت رجلا يقول حين رماني خذها وأنا ابن أبي الأقلح
فنذرت إن أمكنها الله من رأس عاصم أن تشرب فيه الخمر وكان
عاصم قد عاهد الله أن لا يمس مشركا ولا يمسه مشرك أبدا فتمم الله له ذلك حيا وميتا حسب ما نذكره عند مقتل عاصم على الرجيع ماء لهذيل إن شاء الله تعالى
والتقى يوم أحد حنظلة بن أبي عامر الغسيل وأبو سفيان فلما استعلاه حنظلة رآه شداد بن الأسود بن شعوب قد علا أبا سفيان فضربه شداد فقتله فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن صاحبكم يعني حنظلة لتغسله الملائكة فسلوا أهله ما شأنه فسئلت صاحبته فقالت خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لذلك غسلته الملائكة
ثم أنزل الله نصره على المسلمين وصدقهم وعده فحسوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن العسكر ونهكوكم قتلا
وقد حملت خيل المشركين على المسلمين ثلاث مرات كل ذلك تنضح بالنبل فترجع مفلولة وكانت الهزيمة لا شك فيها
(2/62)
فلما أبصر الرماة الخمسون أن الله قد فتح لإخوانهم قالوا والله ما نجلس هنا لشيء قد أهلك الله العدو وإخواننا في عسكر المشركين فتركوا منازلهم التي عهد إليهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن لا يتركوها وتنازعوا وفشلوا وعصوا الرسول فأوجفت الخيل فيهم قتلا ولم يكن نبل ينضحها ووجدت مدخلا عليهم فكان ذلك سبب الهزيمة على المسلمين بعد أن كانت لهم
قال الزبير بن العوام رضي الله عنه والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها منكشفات هوارب ما دون أخذهن قليل ولا كثير إذ مالت الرماة إلى العسكر حتى كشفنا القوم عنه وخلوا ظهورنا للخيل فأتتنا من خلفنا وصرخ صارخ ألا أن محمدا قد قتل فانكفأنا وانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنو منه أحد من القوم
وانكشف المسلمون فأصاب فيهم العدو ويقال إن الصارخ هو الشيطان
وكان يوم بلاء وتمحيص أكرم الله فيه من أكرم من المسلمين بالشهادة
حتى خلص العدو إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فدث بالحجارة حتى وقع لشقه فأصيبت رباعيته وكلمت شفته وشج في وجهه فجعل الدم يسيل على وجهه وجعل {صلى الله عليه وسلم} يمسحه وهو يقول كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم
فأنزل الله عليه في ذلك ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون آل عمران 128
وكان الذي كسر رباعيته وجرح شفته عتبة بن أبي وقاص وشجه عبد الله ابن شهاب الزهري في جبهته وجرح ابن قميئة وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته ووقع {صلى الله عليه وسلم} في حفرة من الحفر التي عمل أبو عامر ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون فأخذ علي بن أبي طالب بيده ورفعه طلحة ابن عبيد الله حتى استوى قائما
ومص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجهه ثم ازدرده فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من مس دمه دمي لم تصبه النار
وقال {صلى الله عليه وسلم} من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على الأرض فلينظر إلى طلحة
(2/63)
ونزع أبو عبيدة بن الجراح إحدى الحلقتين من وجهه {صلى الله عليه وسلم} فسقطت ثنيته ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى فكان ساقط الثنيتين
وكان سعد بن أبي وقاص يقول والله ما حرصت على قتل رجل قط حرصي على قتل عتبة بن أبي وقاص وهو أخوه وإن كان ما علمت لسيئ الخلق مبغضا في قومه ولقد كفاني منه قول رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اشتد غضب الله على من دمى وجه رسوله
وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين غشيه القوم من رجل يشري لنا نفسه فقام زياد بن السكن في نفر خمسة من الأنصار وبعض الناس يقولون إنما هو
عمارة بن زياد بن السكن فقاتلوا دون رسول الله {صلى الله عليه وسلم} رجلا ثم رجلا يقتلون دونه حتى كان آخرهم زياد أو عمارة فقاتل حتى أثبتته الجراحة ثم جاءت فئة من المسلمين فأجهضوهم عنه فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أدنوه مني
فأدنوه منه فوسده قدمه فمات وخده على قدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وقاتلت أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية يومئذ قالت خرجت أول النهار وأنا أنظر ما يصنع الناس ومعي سقاء فيه ماء فانتهيت إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو في أصحابه والدولة والريح للمسلمين فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف وأرمي عن القوس حتى خلصت الجراح إلي
قالت أم سعد بنت سعد بن الربيع فرأيت على عاتقها جرحا أجوف له غور فقلت من أصابك بهذا قالت ابن قميئة أقمأه الله لما ولى الناس عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أقبل يقول دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا
فاعترضته أنا ومصعب بن عمير وأناس ممن ثبت مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فضربني هذه الضربة ولقد ضربته على ذلك ضربات ولكن عدو الله كانت عليه درعان
وترس دون رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أبو دجانة بنفسه يقع النبل في ظهره وهو منحن عليه حتى كثر فيه النبل
ورمى سعد بن أبي وقاص دون رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال سعد فلقد رأيته يناولني النبل ويقول أرم فداك أبي وأمي حتى إنه ليناولني السهم ما له من نصل فيقول ارم به
ورمى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يوم أحد عن قوسه حتى اندقت سيتها
(2/64)
وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان فردها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بيده فكانت أحسن عينيه وأحدهما
وأصيب فم عبد الرحمن بن عوف فهتم وجرح عشرين جراحة أو أكثر أصابه بعضها في رجله فعرج
وأتى أنس بن النضر عم أنس بن مالك وبه سمي إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار قد ألقوا بأيديهم فقال ما يجلسكم قالوا قد قتل محمد رسول الله
قال فما تصنعون بالحياة بعده قوموا على ما مات عليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل رحمه الله تعالى
وروي حميد عن أنس أن عمه أنس بن النضر هذا غاب عن قتال يوم بدر فقال غبت عن أول قتال قاتله رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المشركين لئن أشهدني الله قتالا ليرين الله ما أصنع فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون فقال اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء يعني المشركين وأعتذر إليك مما جاء به هؤلاء يعني المسلمين ثم مشى بسيفه فلقيه سعد بن معاذ فقال أي سعد والذي نفسي بيده إني لأجد ريح الجنة دون أحد واها لريح الجنة
فقال سعد فما استطعت يا رسول الله ما صنع
فوجدناه بين القتلى وبه بضع وثمانون جراحة من ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم وقد مثلوا به حتى عرفته أخته ببنانه
قال أنس كنا نقول أنزلت هذه الآية من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه الأحزاب 23 فيه وفي أصحابه
قال ابن إسحاق وكان أول من عرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعد الهزيمة وتحدث الناس بقتله كعب بن مالك الأنصاري قال عرفت عينيه تزهران تحت المغفر فناديت بأعلى صوتي يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فأشار إلي أن أنصت
فلما عرف المسلمون رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نهضوا به ونهض معهم نحو الشعب معه أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام والحارث بن الصمة ورهط من المسلمين
فلما أسند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول أين محمد لا نجوت إن نجوت فقال القوم يا رسول الله أيعطف عليه رجل منا فقال
دعوه
(2/65)
فلما دنا تناول رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الحربة من الحارث بن الصمة يقول بعض القوم فلما أخذها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} منه انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعراء من ظهر البعير إذا انتفض بها ثم استقبله فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مرارا
وكان أبي بن خلف يلقي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بمكة فيقول يا محمد إن عندي العوذ فرسا أعلفه كل يوم فرقا من ذرة أقتلك عليه
فيقول رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنا أقتلك إن شاء الله
فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشا غير كبير فاحتقن الدم قال قتلني والله محمد فقالوا له ذهب والله فؤادك والله إن بك بأس
قال إنه قد كان قال لي بمكة أنا أقتلك
فوالله لو بصق علي لقتلني
فمات عدو الله بسرف وهم قافلون به إلى مكة
وقد قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما قاله يومئذ اشتد غضب الله على رجل قتله رسول الله
فسحقا لأصحاب السعير
ولما انتهى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى الشعب خرج علي بن أبي طالب حتى ملأ درقته من المهراس فجاء به إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ليشرب منه فوجد له ريحا فعافه ولم يشرب منه وغسل عن وجهه الدم فصب على رأسه وهو يقول اشتد غضب الله على من دمى وجه رسوله
فبينا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في الشعب معه أولئك النفر من أصحابه إذا علت عالية من قريش الجبل فقال اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل
ونهض رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى صخرة من الجبل ليعلوها فلم يستطع وقد كان بدن وظاهر بين درعين فجلس تحته طلحة بن عبيد الله فنهض به حتى استوى عليها فقال {صلى الله عليه وسلم} أوجب طلحة
وصلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الظهر يومئذ قاعدا من الجراح التي أصابته وصلى المسلمون خلفه قعودا
(2/66)
ولما خرج {صلى الله عليه وسلم} إلى أحد رفع حسيل بن جابر وهو اليمان أبو حذيفة بن اليمان وثابت بن قيس في الآكام مع النساء والصبيان فقال أحدهما لصاحبه وهما شيخان كبيران لا أب لك ما ننتظر فوالله إن بقي لواحد منا من عمره إلا ظمء حمار إنما نحن هامة اليوم أو غد أفلا نأخذ أسيافنا ثم نلحق رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لعل الله يرزقنا شهادة معه فأخذا أسيافهما ثم خرجا حتى دخلا في الناس ولم يعلم بهما
فأما ثابت فقتله المشركون وأما حسيل فاختلفت عليه أسياف المسلمين فقتلوه وهم لا يعرفونه فقال حذيفة أبي قالوا والله إن عرفناه
وصدقوا قال حذيفة يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين
فأراد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يديه فتصدق حذيفة بديته على المسلمين فزاده عند رسول الله خيرا
وكان ممن قتل يوم أحد مخيريق من أحبار اليهود وقد تقدم خبره وكيف قال - يومئذ - ليهود لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لحق
فتعللوا عليه بأنه يوم السبت فقال لهم لا سبت لكم
وأخذ سيفه وعدته فلحق برسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقاتل معه حتى قتل بعد أن قال إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء
وفيه قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مخيريق خير يهود
وكان عمرو بن ثابت بن وقش أصيرم بني عبد الأشهل يأبى الإسلام على قومه فلما كان يوم أحد بدا له في الإسلام فأسلم ثم أخذ سيفه فغزا حتى دخل في عرض الناس فقاتل حتى أثبتته الجراحة فبينا رجال من بني عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة إذا هم به فقالوا والله أن هذا للأصيرم ما جاء به لقد تركناه وانه لمنكر لهذا الحديث
فسألوه ما جاء بك يا عمرو احدب على قومك أم رغبة في الإسلام قال بل رغبة في الإسلام آمنت بالله وبرسوله وأسلمت ثم أخذت سيفي فغدوت مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم قاتلت حتى أصابني ما أصابني ثم لم يلبث أن مات في أيديهم فذكروه لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال انه لمن أهل الجنة
وكان أبو هريرة يقول حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصلي قط فإذا لم يعرفه الناس سألوه من هو فيقول أصيرم بني عبد الأشهل
(2/67)
وكان عمرو بن الجموح اعرج شديد العرج وكان له بنون أربعة مثل الأسد يشهدون مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المشاهد فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه وقالوا له إن الله قد عذرك
فأتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال أن بني يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك فيه فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة
فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أما أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك
وقال لبنيه ما عليكم أن لا تمنعوه لعل الله يرزقه الشهادة فخرج معه فقتل يرحمه الله
ووقعت هند بنت عتبة والنسوة اللاتي معها يمثلن بالقتلى من المسلمين يجدعن الأذان والأنوف حتى اتخذت هند من آذان الرجال وأنوفهم خدما وقلائد وأعطت خدمها وقلائدها وقرطها وحشيا قاتل حمزة وبقرت عن كبد حمزة رضي الله عنه فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها ثم علت على صخرة مشرفة فصرخت بأعلى صوتها
نحن جزيناكم بيوم بدر
والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان عن عتبة لي من صبر
ولا أخي وعمه وبكر
شفيت نفسي وقضيت نذري
شفيت وحشي غليل صدري
فشكر وحشي على عمري
حتى ترم أضلعي في قبري
السريع
فأجابتها هند بنت أثاثة بن عباد بن المطلب فقالت
خزيت في بدر وبعد بدر
يا بنة وقاع عظيم الكفر
صبحك الله غداة الفجر
بالهاشميين الطوال الزهر
بكل قطاع حسام يفري
حمزة ليثي وعلي صقر
أصابني ما أصابني ثم لم يلبث أن مات في أيديهم فذكروه لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال انه من أهل الجنة
وكان أبو هريرة يقول حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصلي قط فإذا لم يعرفه الناس سألوه من هو فيقول أصيرم بني عبد الأشهل
وكان عمرو بن الجموح اعرج شديد العرج وكان له بنون أربعة مثل الأسد يشهدون مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المشاهدة فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه وقالوا له أن الله قد عذرك
فأتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال أن بني يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك فيه فوالله أني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة
فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أما أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك
(2/68)
وقال لبنيه ما عليكم إلا أن تمنعوه لعل الله يرزقه الشهادة فخرج معه فقتل برحمة الله
ووقعت هند بنت عتبة والنسوة اللاتي معها يمثلن بالقتلى من المسلمين يجدعن الأذان والأنوف حتى اتخذت هند من آذان الرجال وأنوفهم خدما وقلائد وأعطت خدمها وقلائدها وقرطها وحشيا قاتل حمزة وبقرت عن كبد حمزة رضي الله عنه فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها ثم علت على صخرة مشرفة فصرخت بأعلى صوتها
نحن جزيناكم بيوم بدر
والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان عن عتبة لي من صبر
ولا أخي وعمه وبكر
شفيت نفسي وقضيت نذري
شفيت وحشي غليل صدري
فشكر وحشي على عمري
حتى ترم أضلعي في قبري
السريع
فأجابتها هند بنت أثاثة بن عباد بن المطلب فقالت
خزيت في بدر وبعد بدر
يا بنة وقاع عظيم الكفر
صبحك الله غداة الفجر
بالهاشميين الطوال الزهر
بكل قطاع حسام يفري
حمزة ليثي وعلي صقر
إذ رام شيب وأبوك غدري
فخضبا منه ضواحي النحر
ونذرك السوء فشر نذر
السريع
وقد كان الحليس بن زبان أخو بني الحارث بن عبد مناة وهو يومئذ سيد الأحابيش مر بأبي سفيان وهو يضرب في شدق حمزة بن عبد المطلب بزج الرمح ويقول ذق عقق فقال الحليس يا بني كنانة هذا سيد قريش يصنع بابن عمه ما ترون لحما
فقال ويحك اكتمها عني فإنها كانت زلة
ثم إن أبا سفيان حين أراد الانصراف أشرف على الجبل ثم صرخ بأعلى صوته أنعمت فعال إن الحرب سجال يوم بيوم بدر اعل هبل
أي ظهر دينك
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قم يا عمر فأجبه
فقل الله أعلى وأجل لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار
وفي الصحيح من حديث البراء أن أبا سفيان قال إنه لنا العزي ولا عزي لكم
فقال النبي {صلى الله عليه وسلم} أجيبوه
قالوا ما نقول قال قولوا الله مولانا ولا مولى لكم
وفيه أيضا أن أبا سفيان أشرف يوم أحد فقال أفي القوم محمد فقال لا تجيبوه
فقال أفي القوم ابن أبي قحافة قال لا تجيبوه
(2/69)
قال أفي القوم ابن الخطاب فلما لم يجبه أحد قال إن هؤلاء قتلوا فلو كانوا أحياء لأجابوا فلم يملك عمر نفسه فقال كذبت يا عدو الله قد أبقى الله لك ما يخزيك
قال ابن إسحاق فلما أجاب عمر أبا سفيان قال له هلم إلي يا عمر فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لعمر ايته فانظر ما شأنه
فجاءه فقال له أبو سفيان أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمدا قال عمر اللهم لا وإنه ليسمع كلامك الآن قال أنت أصدق عندي من ابن قميئه وأبر
لقول ابن قميئه لهم إني قد قتلت محمدا ثم نادى أبو سفيان إنه قد كان في قتلاكم مثل والله ما رضيت وما سخطت وما أمرت وما نهيت
ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى إن موعدكم بدر العام القابل
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لرجل من أصحابه قل نعم هو بيننا وبينكم موعد
ثم بعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} علي بن أبي طالب فقال اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون وماذا يريدون فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة والذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأناجزنهم فخرج علي فرآهم قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل ووجهوا إلى مكة
وفرغ الناس لقتلاهم وانتشروا يبتغونهم فلم يجدوا قتيلا إلا وقد مثلوا به إلا حنظلة بن أبي عامر فإن أباه كان مع المشركين فتركوه له وزعموا أن أباه وقف عليه قتيلا فدفع صدره بقدمه وقال قد تقدمت إليك في مصرعك هذا ولعمر الله إن كنت لواصلا للرحم برا بالوالدة
وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع أفي الأحياء هو أم في الأموات فقال رجل من الأنصار أنا أنظر لك يا رسول الله ما فعل
(2/70)
فنظر فوجده جريحا في القتلى وبه رمق قال فقلت له إن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أمرني أن أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات قال أنا في الأموات فأبلغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عني السلام وقل له إن سعد بن الربيع يقول جزاك الله عنا خير ما جزي نبيا عن أمته وأبلغ قومك السلام عني وقل لهم إن سعد بن الربيع يقول لكم أنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم ومنكم عين تطرف
قال ثم لم أبرح حتى مات
فجئت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأخبرته خبره
وفي سعد هذا يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقد دخل عليه رجل وعلى صدره بنت لسعد جارية صغيرة يرشفها ويقبلها فقال الرجل من هذه فقال أبو بكر رضي الله عنه بنت رجل خير مني سعد بن الربيع كان من النقباء ليلة العقبة وشهد بدرا واستشهد يوم أحد
وخرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يلتمس حمزة بن عبد المطلب فوجده ببطن الوادي
قد بقر بطنه عن كبده ومثل به فجدع أنفه وأذناه فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين رأى ما رأى لولا أن تخزن صفية ويكون سنة من بعدي لتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير ولئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلا منهم
فلما رأى المسلمون حزن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وغيظه على من فعل بعمه ما فعل قالوا والله لئن أظفرنا الله بهم يوما من الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب
فأنزل الله تعالى فيما قاله من ذلك رسوله {صلى الله عليه وسلم} وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون النحل 126 - 127 فعفا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وصبر ونهى عن المثلة
ويقال إن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لما وقف على حمزة قال لن أصاب بمثلك أبدا ما وقفت موقفا قط أغيظ إلي من هذا
ثم قال جاءني جبريل فأخبرني أن حمزة مكتوب في أهل السموات السبع حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله
(2/71)
ثم أمر به رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فسجي ببرده ثم صلى عليه فكبر سبع تكبيرات ثم أتى بالقتلى يوضعون إلى حمزة وصلى عليهم وعليه معهم حتى صلى عليه ثنتين وسبعين صلاة
وأقبلت صفية بنت عبد المطلب لتنظر إليه وكان أخاها لأبيها وأمها فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لابنها الزبير بن العوام القها فأرجعها لا ترى ما بأخيها
فقال لها يا أمه إن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يأمرك أن ترجعي
قالت ولم وقد بلغني أن قد مثل بأخي وذلك في الله فما أرضانا بما كان من ذلك لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله
فلما أخبر الزبير بذلك رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال له خل سبيلها
فأتته فنظرت إليه فصلت عليه واسترجعت واستغفرت له
ثم أمر به رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فدفن
وزعم آل عبد الله بن جحش أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} دفن عبد الله بن جحش مع حمزة في قبره وهو ابن أخته أميمة بنت عبد المطلب وكان قد مثل به كما مثل بخاله حمزة إلا أنه لم يبقر عن كبده وجدع أنفه وأذناه فلذلك يقال له المجدع في الله
وكان في أول النهار قد لقي سعد بن أبي وقاص فقال له عبد الله هلم يا سعد فلندع الله وليذكر كل واحد منا حاجته في دعائه وليؤمن الآخر
فقال سعد يا رب إذا لقيت العدو فلقني رجلا شديدا بأسه شديدا حرده أقاتله فيك ويقاتلني ثم ارزقني الظفر عليه حتى أقتله وأسلبه سلبه
فأمن عبد الله بن جحش ثم قال اللهم ارزقني رجلا شديدا بأسه شديدا حرده أقاتله فيك ويقاتلني فيقتلني ثم يجدع أنفي وأذني فإذا لقيتك غدا قلت لي يا عبد الله فيم جدع أنفك وأذناك فأقول فيك يا رب وفي رسولك
فتقول لي صدقت
فأمن سعد على دعوته
قال سعد كانت دعوة عبد الله خيرا من دعوتي لقد رأيته آخر النهار وإن أذنيه وأنفه معلقتان في خيط ولقيت أنا فلانا من المشركين فقتلته وأخذت سلبه
وذكر الزبير أن سيف عبد الله بن جحش انقطع يوم أحد فأعطاه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عرجونا فعاد في يده سيفا قائمه منه فقاتل به فكان ذلك السيف يسمى العرجون ولم يزل هذا يتوارث حتى بيع من بغا التركي بمائتي دينار
(2/72)
واحتمل ناس من المسلمين قتلاهم إلى المدينة فدفنوهم بها ثم نهى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عن ذلك وقال ادفنوهم حيث صرعوا
ولما أشرف {صلى الله عليه وسلم} يوم أحد على القتلى قال أنا شهيد على هؤلاء إن ما من جريح يجرح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة يدمي جرحه اللون لون دم والريح ريح مسك انظروا أكثر هؤلاء جمعا للقرآن فاجعلوه أمام أصحابه في القبر
وكانوا يدفنون الاثنين والثلاثة في القبر الواحد
وقال يومئذ حين أمر بدفن القتلى انظروا عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو بن حرام فإنهما كانا متصافيين في الدنيا فاجعلوهما في قبر واحد
وذكر مالك بن انس في موطئه أن السيل حفر قبرهما بعد زمان فحفر عنهما ليغيرا من مكانهما فوجدا لم يتغيرا كأنما ماتا بالأمس وكان أحدهما قد جرح فوضع يده على جرحه فدفن وهو كذلك فأميطت يده عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت وكان بين أحد وبين يوم حفر عنهما ست وأربعون سنة
ثم انصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} راجعا إلى المدينة فلقيته حمنة بنت جحش فلما لقيت الناس نعي لها أخوها عبد الله بن جحش فاسترجعت واستغفرت له ثم نعى لها خالها حمزة بن عبد المطلب فاسترجعت واستغفرت له ثم نعي لها زوجها مصعب بن عمير فصاحت وولولت فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن زوج المرأة منها لبمكان لما رأى من تثبتها على أخيها وخالها وصياحها على زوجها
ومر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بدار من دور الأنصار فسمع البكاء والنوائح على قتلاهم فذرفت عيناه فبكى ثم قال لكن حمزة لا بواكي له
فلما رجع سعد بن معاذ وأسيد بن حضير إلى دار بني عبد الأشهل أمرا نساءهما أن يتحزمن ثم يذهبن فيبكين على عم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ففعلن فلما سمع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بكاءهن على حمزة خرج عليهن وهن على باب المسجد يبكين عليه فقال ارجعن يرحمكن الله فقد آسيتن بأنفسكن
وقيل إنه لما سمع بكاءهن قال
رحم الله الأنصار فإن المواساة منهم ما علمت لقديمة مروهن فلينصرفن
(2/73)
ومر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في انصرافه بامرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بأحد فلما نعوا لها قالت فما فعل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قالوا خيرا يا أم فلان هو بحمد الله كما تحبين
قالت أرونيه حتى أنظر إليه
فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت كل مصيبة بعدك جلل تريد صغيرة
فلما انتهى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة فقال اغسلي عن هذا دمه يا بنية فوالله لقد صدقني اليوم وناولها علي بن أبي طالب سيفه فقال
وهذا فاغسلي عنه دمه فوالله لقد صدقني اليوم
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لئن كنت صدقت القتال لقد صدق معك سهل بن حنيف وأبو دجانة
وكان يقال لسيف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ذو الفقار
ونادي مناد يوم أحد
لا سيف إلا ذو الفقار
ولا فتى إلا علي
الكامل
وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لعلي بن أبي طالب لا يصيب المشركون منا مثلها حتى يفتح الله علينا
وكان يوم أحد يوم السبت للنصف من شوال
فلما كان الغد منه يوم الأحد أذن مؤذن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بطلب العدو وأذن مؤذنه أن لا يخرجن معنا أحد إلا أحد حضر يومنا بالأمس
فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام فقال يا رسول الله كان أبي خلفني على أخوات لي سبع وقال يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على نفسي فتخلف على أخواتك
فتخلفت عليهن
فأذن له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فخرج معه
وإنما خرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مرهبا للعدو ليبلغهم أنه خرج في طلبهم فيظنوا به قوة وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم
وشهد مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يوم أحد أخوان من بني عبد الأشهل فرجعا جريحين قال أحدهما فلما أذن مؤذن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالخروج في طلب العدو قلت لأخي أو قال لي أتفوتنا غزوة مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} والله ما لنا من دابة نركبها وما منا إلا جريح ثقيل
فخرجنا وكنت أيسر جرحا منه فكان إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون
(2/74)
وانتهى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في خروجه ذلك إلى حمراء الأسد على ثمانية أميال من المدينة
فأقام بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء ثم رجع إلى المدينة
وقد مر به هناك معبد بن أبي معبد الخزاعي وكانت خزاعة مسلمهم
ومشركهم عيبة نصح رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بتهامة صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا كان بها ومعبد يومئذ مشرك فقال يا محمد أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا أن الله عافاك فيهم
ثم خرج ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} بحمراء الأسد حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه وقالوا أصبنا حد أصحابه وقادتهم وأشرافهم ثم نرجع قبل أن نستأصلهم لنكرن على بقيتهم فلنفرغن منهم
فلما رأى أبو سفيان معبدا قال ما وراءك يا معبد قال محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط يتحرقون عليكم تحرقا قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على ما صنعوا فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط
فقال ويحك ما تقول قال والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل
قال فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم
قال فإني أنهاك عن ذلك والله لقد حملني ما رأيت علي أن قلت فيه أبياتا من الشعر
قال وما قلت قال قلت
كادت تهد من الأصوات راحلتي
إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
تردي بأسد كرام لا تنابلة
عند اللقاء ولا ميل معازيل
فظلت عدوا أظن الأرض ماثلة
لما سموا برئيس غير مخذول
فقلت ويل ابن حرب من لقائكم
إذا تغطمطت البطحاء بالخيل
إني نذير لأهل البسل ضاحية
لكل ذي إربة منهم ومعقول
من جيش أحمد لا وخشا قنابله
وليس يوصف ما أنذرت بالقيل
البسيط
فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه
ومر به ركب من عبد القيس فقال أين تريدون قالوا نريد المدينة قال ولم قالوا نريد الميرة
قال فهل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة أرسلكم بها إليه وأحمل لكم بهذه غدا زبيبا بعكاظ إذا ما أتيتموها قالوا نعم
(2/75)
قال فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم
فمر
الركب برسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهم بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه فقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل
ويقال إنهم لما هموا بالرجعة إلى المدينة ليستأصلوا كما زعموا بقية أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال لهم صفوان بن أمية لا تفعلوا فإن القوم قد حربوا وقد خشينا أن يكون لهم قتال غير الذي كان فارجعوا
فرجعوا
فقال النبي {صلى الله عليه وسلم} وهو بحمراء الأسد حين بلغه أنهم هموا بالرجعة والذي نفسي بيده لقد سومت لهم حجارة لو صبحوا بها لكانوا كأمس الذاهب
وأخذ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في وجهه قبل رجوعه إلى المدينة معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس جد عبد الملك بن مروان أبا أمه وأبا عزة الجمحي وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أسره ببدر ثم من عليه وقد تقدم ذكر ذلك وذكر مقتله إياه في هذه الأخذة الثانية صدر غزوة أحد ولجأ معاوية بن المغيرة إلى عثمان بن عفان فاستأمن له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأمنه على أنه إن وجد بعد ثلاث قتل فأقام بعدها وتواري
فبعث النبي {صلى الله عليه وسلم} زيد بن حارثة وعمار بن ياسر وقال إنكما ستجدانه بموضع كذا
فوجداه فقتلاه
وكان يوم أحد يوم بلاء ومصيبة وتمحيص اختبر الله به المؤمنين ومحن به المنافقين ممن كان يظهر الإيمان بلسانه وهو مستخف بالكفر في قلبه وأكرم الله فيه من أراد كرامته بالشهادة من أهل ولايته
وكان مما أنزل الله تبارك وتعالى من القرآن في شأن أحد ستون آية من آل عمران في طاعة من أطاع ونفاق من نافق وصفة ما كان في يومهم وتعزية المؤمنين في مصيبتهم ومعاتبة من عاتب منهم
يقول الله تبارك وتعالى لنبيه {صلى الله عليه وسلم} وإذ غدوت من أهلك تبويء المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم
أي سميع لما يقولون عليم بما يخفون
إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا أي تتخاذلا
(2/76)
والطائفتان بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس وهما الجناحان يقول الله تبارك وتعالى والله وليهما أي المدافع عنهما ما همتا به من ذلك برحمته وعائذته حتى سلمتا ولحقتا
بنبيهما
وقيل إنه لما أنزل الله تعالى في هاتين الطائفتين قالتا ما نحب أنا لم نهم بما هممنا لتولي الله إيانا في ذلك
وعلى الله فليتوكل المؤمنون أي من كان به ضعف من المؤمنين فليتوكل علي وليستعن بي أعنه على أمره وأدفع عنه حتى أبلغ به وأقويه على نيته
ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة أقل عددا وأضعف قوة فاتقوا الله لعلكم تشكرون أي فاتقوني فإنه شكر نعمتي
إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين أي إن تصبروا لعدوي وتطيعوا أمري ويأتوكم من وجههم هذا أمددكم بهذا العدد من الملائكة مسومين أي معلمين
وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم أي ما سميت لكم من سميته من جنود ملائكتي إلا لتستبشروا بذلك وتطمئن قلوبكم إليه لما أعرف من ضعفكم وما النصر إلا من عند الله لسلطاني وقدرتي وذلك أن العزة والحكم لي لا إلى أحد من خلقي
ثم قال لمحمد {صلى الله عليه وسلم} ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون أي ليس لك من الحكم شيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم أو أتوب عليهم برحمتي فإن شئت فعلت أو أعذبهم بذنوبهم فبحقي فإنهم ظالمون أي عصوا فاستوجبوا ذلك بمعصيتهم إياي
ثم استقبل ذكر المصيبة التي نزلت بهم والبلاء الذي أصابهم والتمحيص لما كان فيهم واتخاذه الشهداء منهم فقال تعزية لهم وتعريفا لهم فيما صنعوا وفيما هو صانع بهم قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين أي قد مضت مني وقائع نقمة في أهل التكذيب برسلي والشرك في عاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين فرأوا مثلات قد مضت
(2/77)
مني فيهم ولمن هو علي مثل ما هم عليه هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين أي نور وأدب لمن أطاعني وعرف أمري
ولا تهنوا ولا تحزنوا أي لا تضعفوا ولا تبتئسوا على ما أصابكم وأنتم الأعلون لكم تكون العاقبة والظهور إن كنتم مؤمنين أي إن كنتم صدقتم نبيي بما جاءكم به عني
إن يمسسكم قرح أي جراح فقد مس القوم قرح مثله أي جراح مثلها وتلك الأيام نداولها بين الناس أي نصرفها للبلاء والتمحيص وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين أي حسبتم أن تدخلوا الجنة فتصيبوا كرامة ثوابي ولم أختبركم بالشدة وأبتليكم بالمكاره حتى أعلم صدق ذلك منكم الإيمان بي والصبر على ما أصابكم في
ولقد كنتم تمنون الموت أي الشهادة من قبل أن تلقوه يعني الذين استنهضوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى الخروج بهم إلى عدوهم يوم أحد لما فاتهم من يوم بدر رغبة في الشهادة يقول فقد رأيتموه وأنتم تنظرون
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم أي لقول الناس قتل محمد
وانهزامهم عند ذلك وانصرافهم عن عدوهم
أفئن مات أو قتل رجعتم عن دينكم كفارا كما كنتم وتركتم جهاد عدوكم وكتاب ربكم وما خلف نبيه من دينه معكم وعندكم وقد بين لكم فيما جاءكم به عني أنه ميت عنكم ومفارق لكم ومن ينقلب على عقبيه أي يرجع عن دينه فلن يضر الله شيئا أي لن ينقص ذلك عز الله ولا ملكه ولا سلطانه ولا قدرته وسيجزي الله الشاكرين أي من أطاعه وعمل بأمره
وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب
(2/78)
الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين ) أي من أراد الدنيا خاصة أتاه منها ما كتب له وما له في الآخرة من نصيب ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن آتاه منها ما وعد به مع ما يجري عليه في دنياه من رزقه المقدر له وذلك هو جزاء الشاكرين أي المتقين
وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا أي وكم من نبي أصابه القتل ومعه جماعات من أنصاره فما وهنوا لفقد نبيهم وما ضعفوا عن عدوهم وما استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن الله وعن دينهم وذلك هو الصبر والله يحب الصابرين
وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين أي فقولوا مثل ما قالوا واعلموا أن ذلك بذنوب منكم فاستغفروه كما استغفروا وامضوا على دينكم كما مضوا على دينهم ولا ترتدوا على أعقابكم راجعين وسلوه كما سألوه أن يثبت أقدامكم وينصركم على القوم الكافرين
فكل هذا من قولهم كان وقد قتل نبيهم ولم يفعلوا كما فعلتم
فآتاهم الله ثواب الدنيا بالظهور على عدوهم وحسن ثواب الآخرة الذي به وعدهم والله يحب المحسنين
يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين أي عن عدوكم فتذهب دنياكم وآخرتكم
بل الله مولاكم وهو خير الناصرين فإن كان ما تقولون بألسنتكم صدقا عن قلوبكم فاعتصموا به ولا تنتصروا بغيره ولا ترجعوا كفارا على أعقابكم مرتدين عن دينه
سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب الذي به كنت أنصركم عليهم جزاء لهم بما أشركوا بي فلا تظنوا أن لهم عاقبة نصر ولا ظهورا عليكم ما
اعتصمتم بي واتبعتم أمري وإنما أصابكم منهم ما أصابكم بذنوب قدمتموها لأنفسكم خالفتم بها أمري وعصيتم فيها نبيي
(2/79)
ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون أي لقد وفيت لكم ما وعدتكم من النصر على عدوكم إذ تحسونهم بالسيوف أي تستأصلونهم قتلا بإذني وتسليطي أيديكم عليهم وكفي أيديهم عنكم حتى إذا فشلتم أي تخاذلتم وتنازعتم في الأمر اختلفتم فيه وعصيتم بترك أمر نبيكم يعني الرماة الذين عهد إليهم ألا يفارقوا مكانهم فخالفوا أمره حتى أتي المسلمون من قبلهم من بعد ما أراكم ما تحبون أي الفتح لا شك فيه وهزيمة القوم عن نسائهم وأموالهم منكم من يريد الدنيا أي النهب ومنكم من يريد الآخرة أي الذين جاهدوا في الله ولم يخالفوا إلى ما نهوا عنه ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين أي أنه سبحانه وإن عاقب من يشاء من عباده ببعض الذنوب في عاجل الدنيا أدبا وموعظة فإنه غير مستوف كل ماله فيهم من الحق بما أصابوا من معصية فضلا من الله ورحمة
ثم أنبهم بالفرار عن نبيهم وهو يدعوهم ولا يعطفون عليه فقال إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم أي كربا بعد كرب بقتل من قتل من إخوانكم وعلو عدوكم عليكم وما وقع في أنفسكم حين سمعتم أنه قتل نبيكم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من الظهور على عدوكم بعد أن رأيتموه بأعينكم ولا ما أصابكم من قتل إخوانكم بما فرجت عنكم من الكرب بوقاية نبيكم وكشف كرب الشيطان في الصراخ بقتله بينكم فكان هذا هو الذي فرج الله به عنهم ما تابع عليهم من الغم فلما رأوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حيا بين أظهرهم هان عليهم ما فاتهم من القوم بعد الظهور عليهم والمصيبة التي أصابتهم فيمن قتل منهم
ثم قال تعالى بعد آيات ذكر فيها ما ذكر من قصة أحد وما أصابكم يوم
(2/80)
التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم ) يعني عبد الله بن أبي والراجعين عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين سار إلى عدوه من المشركين
يقول الله تبارك وتعالى هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرأوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين
ثم قال لنبيه {صلى الله عليه وسلم} يرغب المؤمنين في الجهاد ويهون عليهم القتل ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب في ظل العرش فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم قالوا يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلا يزدهوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب قال الله تبارك وتعالى فأنا ابلغهم عنكم فانزل الله عز ذكره على رسوله {صلى الله عليه وسلم} هذه الآيات ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله إلى آخرها
وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا
وسئل عبد الله بن مسعود عن هؤلاء الآيات ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا فقال أما إنا قد سألنا عنها فقيل لنا انه لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب في ظل العرش فيطلع الله إليهم اطلاعة
فيقول يا عبادي ما تشتهون فأزيدكم فيقولون ربنا لا فوق ما أعطيتنا الجنة نأكل منها حيث شئنا
(2/81)
ثم يطلع الله إليهم اطلاعة فيقول يا عبادي ما تشتهون فأزيدكم فيقولون ربنا لا فوق ما أعطيتنا الجنة نأكل منها حيث نشاء ثم يطلع إليهم اطلاعة فيقول يا عبادي ما تشتهون فأزيدكم فيقولون ربنا لا فوق ما أعطيتنا الجنة نأكل منها حيث شئنا إلا أنا نحب أن ترد أرواحنا في أجسادنا ثم تردنا إلى الدنيا فنقاتل فيك حتى نقتل فيك مرة أخرى
وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لجابر بن عبد الله ألا أبشرك يا جابر قال قلت بلى يا رسول الله قال إن أباك حيث أصيب بأحد أحياه الله ثم قال ما تحب يا عبد الله بن عمرو أن افعل بك قال أي رب احب أن تردني إلى الدنيا فأقاتل فيك فأقتل مرة أخرى
وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} والذي نفسي بيده ما من مؤمن يفارق الدنيا يحب أن يرجع إليها ساعة من النهار وان له الدنيا وما فيها إلا الشهيد فانه يحب أن يرد إلى الدنيا فيقاتل في الله فيقتل مره أخرى
واستشهد من المسلمين يوم أحد مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من المهاجرين والأنصار خمسة وستون رجلا أربعة من المهاجرين وسائرهم من الأنصار وقتل الله من المشركين يومئذ اثنين وعشرون
وكان مما قيل من الشعر في يوم أحد قول كعب بن مالك الأنصاري رحمه الله
ألا هل أتى غسان عنا ودونهم
من الأرض خرق سيره متتعتع
صحار وأعلام كأن قتامها
من البعد نقع هامد متقطع
تظل به البزل العراميس درجا
ويحلو به غيث السنين فيمرع
به جيف الحسري يلوح صليبها
كما لاح كتان التجار الموضع
به العين والآرام يمشين خلفة
وبيض نعام قيضة يتقلع
مجالدنا عن ديننا كل فخمة
مذربة فيها القوانس تلمع
وكل صموت في الصوان كأنها
إذا لبست نهي من الماء مترع
ولكن ببدر سائلوا من لقيتم
من الناس والأنباء بالغيب تنفع
وإنا بأرض الخوف لو كان أهلها
سوانا لقد أجلوا بليل فأقشع
إذا جاء منا راكب كان قوله
أعدوا لما يزجي ابن حرب ويجمع
ولما ابتنوا بالعرض قال سراتنا
علام إذا لم يمنع العرض نزرع
وفينا رسول الله نتبع أمره
إذا قال فينا القول لا نتطلع
(2/82)
تدلى عليه الروح من عند ربه
ينزل من جو السماء ويرفع
نشاوره فيما نريد وقصدنا
إذا ما اشتهى أنا نطيع ونسمع
وقال رسول الله لما بدوا لنا
ذروا عنكم هول المنيات واطمع
ولكن خذوا أسيافكم وتوكلوا
على الله إن الأمر لله أجمع
وكونوا كمن يشري الحياة تقربا
إلى ملك يحيا لديه ويرجع
فسرنا إليهم جهرة في رحالهم
ضحيا علينا البيض لا نتخشع
بملمومة فيها السنور والقنا
إذا ضربوا أقدامها لا تروع
فجئنا إلى موج من البحر وسطه
أحابيش منهم حاسر ومقنع
ثلاثة آلاف ونحن نضية
ثلاث ميين إن كثرنا وأربع
نغاورهم تجري المنية بيننا
نشارعهم حوض المنايا ونشرع
تهادي قسي النبع فينا وفيهم
وما هو إلا اليثربي المقطع
ومنجوفة حرمية صاعدية
يذر عليها السم ساعة تصنع
وخيل تراها بالفضاء كأنها
جراد صبا في قرة يتريع
فلما تلاقينا ودارت بنا الرحى
وليس لأمر حمه الله مدفع
ضربناهم حتى تركنا سراتهم
كأنهم بالقاع خشب مصرع
لدن غدوة حتى استفقنا عشية
كأن ذكاها حر نار تلفع
وراحوا سراعا موجعين كأنهم
جهام هراقت ماءه الريح مقلع
ورحنا وأخرانا بطاء كأننا
أسود على لحم ببيشة ظلع
فنلنا ونال القوم منا وربما
فعلنا ولكن ما لدي الله أوسع
ودارت رحانا واستدارت رحاهم
وقد جعلوا كل من الشر يشبع
ونحن أناس لا نرى القتل سبة
على كل من يحمي الذمار ويمنع
جلاد على ريب الحوادث لا ترى
على هالك عين لنا الدهر تدمع
بنو الحرب لا نعيا بشيء نقوله
ولا نحن مما جرت الحرب نجزع
بنو الحرب إن نظفر فلسنا بفحش
ولا نحن من أظفارها نتوجع
الطويل
وقال حسان بن ثابت يجيب عبد الله بن الزبعري عن كلمة له على روي هذا الجواب يفخر فيها بيوم أحد وكلتا الكلمتين ينكرها بعض أهل العلم لمن نسبت إليه
أشاقتك من أم الوليد ربوع
بلاقع ما من أهلهن جميع
عفاهن ضيفي الرياح وواكف
من الدلو زحاف السحاب هموع
فلم يبق إلا موقد النار حوله
رواكد أمثال الحمام كنوع
فدع ذكر دار بددت بين أهلها
نوى لمتينات الجبال قطوع
(2/83)
وقل إن يكن يوم بأحد يعده
سفيه فإن الحق سوف يشيع
فقد صابرت فيه بنو الأوس كلهم
وكان لهم ذكر هناك رفيع
وحامى بنو النجار فيه وصابروا
وما كان منهم في اللقاء جزوع
أمام رسول الله لا يخذلونه
لهم ناصر من ربهم وشفيع
وفوا إذ كفرتم يا سخين بربكم
ولا يستوي عبد وفي ومضيع
بأيديهم بيض إذا حمي الوغى
فلا بد أن يودي بهن صريع
كما غادرت في النقع عتبة ثاويا
وسعدا صريعا والوشيج شروع
وقد غادرت تحت العجاجة مسندا
أبيا وقد بل القميص نجيع
بكف رسول الله حيث تنصبت
على القوم مما قد يثرن نقوع
أولئك قوسم سادة من فروعكم
وفي كل قوم سادة وفروع
بهن نعز لله حتى يعزنا
وإن كان أمر يا سخين فظيع
فلا تذكروا قتلى وحمزة فيهم
قتيل ثوى الله وهو مطيع
فإن جنان الخلد منزلة له
وأمر الذي يقضي الأمور سريع
وقتلاكم في النار أفضل رزقهم
حميم معا في جوفها وضريع
الطويل
وقال كعب بن مالك يجيب ابن الزبعري وعمرو بن العاص عن كلمتين قالاها في ذلك
أبلغ قريشا وخير القول أصدقه
والصدق عند ذوي الألباب مقبول
أن قد قتلنا بقتلانا سراتكم
أهل اللواء ففيما يكثر القيل
ويوم بدر لقيناكم لنا مدد
فيه مع النصر ميكال وجبريل
إن تقتلونا فدين الحق فطرتنا
والقتل في الحق عند الله تفضيل
وإن تروا أمرنا في رأيكم سفها
فرأي من خالف الإسلام تضليل
فلا تمنوا لقاح الحرب واقتعدوا
إن أخا الحرب أصدى اللون مشغول
إنا بنو الحرب نمريها وننتجها
وعندنا لذوي الأضغان تنكيل
إن ينج منها ابن حرب بعدما بلغت
منه التراقي وأمر الله مفعول
فقد أفادت له حلما وموعظة
لمن يكون له لب ومعقول
ولو هبطتم ببطن السيل كافحكم
ضرب لشاكلة البطحاء ترعيل
تلقاكم عصب حول النبي لها
مما يعدون للهيجا سرابيل
من جذم غسان مسترخ حمائلهم
لا جبناء ولا ميل معازيل
يمشون تحت عمايات القتال كما
يمشي المصاعبة الأدم المراسيل
أو مثل مشي أسود الطل ألثقها
يوم رذاذ من الجوزاء مشمول
في كل سابغة كالنهي محكمة
(2/84)
قيامها فلح كالسيف بهلول
ترد حد قران النبل خاسئة
ويرجع السيف عنها وهو مفلول
ولو قذفتم بسلع عن ظهوركم
وللحياة ودفع الموت تأجيل
ما زال في القوم وتر منكم أبدا
تعفو السلام عليه وهو مطلول
البسيط
وقال كعب أيضا في يوم أحد من قصيدة يفخر فيها بقومه
فإن كنت عن شأننا سائلا
فسل عنه ذا العلم ممن يلينا
بنا كيف نفعل إن قلصت
عوانا ضروسا عضوضا حجونا
ألسنا نشد عليها العقاب
حتى تدر وحتى تلينا
ويوم له رهج دائم
شديد التهاول حامي الأرينا
طويل شديد أوار القتال
يبغي حواقزه المقر فينا
تخال الكماة بأعراضه
ثمالي على لذة منزفينا
تعاور أيمانهم بينهم
كؤوس المنايا بحد الظبينا
شهدنا وكنا أولى بأسه
وتحت العصابة والمعلمينا
بخرس الحسيس حسان رواء
وبصريه قد أجمن الجفونا
فما ينفللن وما ينحنين
وما ينتهين إذا ما نهينا
كبرق الخريف بأيدي الكماة
يفجعن بالطل هاما سكونا
وعلمنا الضرب آباؤنا
وسوف نعلم أيضا بنينا
جلاد الكماة وبذل التلاد
عن جل أحسابنا ما بقينا
إذا مر قرن كفي نسله
وأورثه بعده آخرينا
نشب وتهلك آباؤنا
وبينا نربي بنينا فنينا
المتقارب
وقال حسان بن ثابت يبكي حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه
أتعرف الدار عفا رسمها
بعدك صوب المسبل الهاطل
بين السراديح فأرمانة
فمدفع الروحاء في حائل
سألتها عن ذاك فاستعجمت
لم تدر ما مرجوعة السائل
دع عنك دارا قد عفا رسمها
وابك على حمزة ذي النائل
المالئ الشيزي إذا أعصفت
غبراء في ذي الشبم الماحل
والتارك القرن لذي لبدة
يعثر في ذي الخرص الذابل
واللابس الخيل إذا أحجمت
كالليث في غابته الباسل
أبيض في الذروة من هاشم
لم يمر دون الحق بالباطل
مال شهيدا بين أسيافكم
شلت يدا وحشي من قاتل
أي امرئ غادر في ألة
مطرورة مارنة العامل
أظلمت الأرض لفقدانه
واسود نور القمر الناصل
صلى عليه الله في جنة
عالية مكرمة الداخل
كنا نرى حمزة حرزا لنا
من كل أمر يأتنا نازل
وكان في الإسلام ذا تدرء
يكفيك فقد القاعد الخاذل
(2/85)
لا تفرحي يا هند واستجلبي
دمعا وأذري عبرة الثاكل
وابكي على عتبة إذ قطه
بالسيف تحت الرهج الحائل
إذ خر في مشيخة منكم
من كل عات قلبه جاهل
أرداهم حمزة في أسرة
يمشون تحت الحلق الفاضل
غداة جبريل وزير له
نعم وزير الفارس الحامل
الرجز
وقال عبد الله بن رواحة يبكي حمزة وتروي أيضا لكعب بن مالك رضي الله عنهم أجمعين
بكت عيني وحق لها بكاها
وما يغني البكاء ولا العويل
على أسد الإله غداة قالوا
أحمزة ذاكم الرجل القتيل
أصيب المسلمون به جميعا
هناك وقد أصيب به الرسول
أبا يعلي لك الأركان هدت
وأنت الماجد البر الوصول
عليك سلام ربك في جنان
مخالطها نعيم لا يزول
الوافر
وقالت صفية بنت عبد المطلب تبكي أخاها حمزة رضي الله عنهما
أسائله أصحاب أحد مخافة
بنات أبي من أعجم وخبير
فقال الخبير إن حمزة قد ثوى
وزير رسول الله خير وزير
دعاه الإله الحق ذو العرش دعوة
إلى جنة يحيا بها وسرور
فذلك ما كنا نرجي ونرتجي
لحمزة يوم الحشر خير مصير
فوالله ما أنساك ما هبت الصبا
بكاء وحزنا محضري ومسيري
على أسد الله الذي كان مدرها
يذود عن الإسلام كل كفور
فيا ليت شلوي عند ذاك وأعظمى
لدى أضبع تعتادني ونسور
أقول وقد أعيي النعي عشيرتي
جزي الله خيرا من أخ ونصير
الطويل
وقالت نعم امرأة شماس بن عثمان تبكي زوجها شماسا وأصيب يوم أحد
يا عين جودي بفيض غير إبساس
على كريم من الفتيان لباس
صعب البديهة ميمون نقيبته
حمال ألوية ركاب أفراس
أقول لما أتى الناعي له جزعا
أودى الجواد وأودى المطعم الكاسي
وقلت لما خلت منه مجالسه
لا يبعد الله منا قرب شماس
البسيط
فأجابها أخوها يعزيها فقال
اقنى حياءك في ستر وفي كرم
فإنما كان شماس من الناس
لا تقتلي النفس إذ حانت منيته
في طاعة الله يوم الروع والباس
قد كان حمزة ليث الله فاصطبري
فذاق يومئذ من كأس شماس
البسيط
وقالت هند بنت عتبة حين انصرف المشركون عن أحد
رجعت وفي نفسي بلابل جمة
وقد فاتني بعض الذي كان مطلبي
(2/86)
من أصحاب بدر من قريش وغيرهم
بني هاشم منهم ومن آل يثرب
ولكنني قد نلت شيئا ولم يكن
كما كنت أرجو في مسيري ومركبي
الطويل
وهذه هند أم معاوية بن أبي سفيان وكانت امرأة فيها مكارة وذكورة ولها نفس وأنفة وكان المسلمون قد أصابوا يوم بدر أباها عتبة وعمها شيبة وأخاها الوليد فأصابها من ذلك ما يصيب من مثله النفوس الشهمة والقلوب الكافرة فخرجت إلى أحد مع زوجها أبي سفيان تبتغي الانتصار وتطلب الأوتار فهذا قولها يرحمها الله والوتر يقلقها والكفر يحنقها والحزن يحرقها والشيطان ينطقها
ثم إن الله سبحانه هداها إلى الإسلام وأخذ بحجزتها عن سواء النار فصلحت حالها وتبدلت أقوالها حتى قالت لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما قالت له والله يا رسول الله ما كان على الأرض أهل خباء أحب إلى أن يذلوا من أهل خبائك وما أصبح اليوم على الأرض خباء أحب إلى أن يعزوا من أهل خبائك
أو نحو هذا من القول
فالحمد لله الذي هدانا برسوله أجمعين وإياه سبحانه نسأل أن يميتنا على خير ما هدانا إليه لا مبدلين ولا مغيرين
غدر عضل والقارة بأصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وقدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعد أحد رهط من عضل والقارة وهم بنو الهون ابن خزيمة بن مدركة فقالوا له يا رسول الله إن فينا إسلاما فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهوننا في الدين ويقرئوننا القرآن ويعلموننا شرائع الإسلام
فبعث معهم ستة من أصحابه مرثد بن أبي مرثد الغنوي وأمره عليهم وخالد بن البكير وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح وخبيب بن عدي وزيد بن الدثنة وعبد الله بن طارق
فخرجوا حتى إذا كانوا على الرجيع ماء لهذيل بناحية الحجاز من صدر الهدأة غدروا بهم فاستصرخوا عليهم هذيلا فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف قد غشوهم فأخذوا أسيافهم ليقاتلوا القوم فقالوا لهم إنا والله ما نريد قتلكم ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة ولكم عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم
(2/87)
فأما مرثد وخالد وعاصم فقالوا والله لا نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا أبدا
وقال عاصم
ما علتي وأنا جلد نابل
والقوس فيها وتر عنابل
تزل عن صفحتها المعابل
الموت حق والحياة باطل
وكل ما حم الإله نازل
بالمرء والمرء إليه آيل
إن لم أقاتلكم فأمي هابل
الرجز
ثم قاتل القوم حتى قتل وقتل صاحباه رحمهم الله
فلما قتل عاصم أرادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد بمكة وكانت حين أصاب ابنيها يوم أحد نذرت لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن في قحفه الخمر فمنعه الدبر فقالوا دعوه حتى يمسي فتذهب عنه فنأخذه
فبعث الله الوادي فاحتمل عاصما فذهب به
وقد كان عاصم أعطى الله عهدا أن لا يمس مشركا وألا يمسه مشرك أبدا تنجسا
فكان عمر بن الخطاب يقول يحفظ الله العبد المؤمن كان عاصم نذر أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركا أبدا في حياته فمنعه الله بعد وفاته كما امتنع منه في حياته
وأما زيد بن الدثنة وخبيب بن عدي وعبد الله بن طارق فلانوا ورقوا ورغبوا في الحياة فأعطوا بأيديهم فأسروهم ثم خرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها حتى إذا كانوا بالظهران انتزع عبد الله بن طارق يده من القران ثم أخذ سيفه واستأخر عنه القوم فرموه بالحجارة حتى قتلوه فقبره بالظهران
وأما خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة فقدموا بهما مكة فابتاع خبيبا حجير بن أبي إهاب التميمي لعقبة بن الحارث بن عامر بن نوفل ليقتله بأبيه
وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف فبعث به مع مولى له يقال له نسطاس إلى التنعيم فأخرجوه من الحرم ليقتلوه واجتمع رهط من قريش منهم أبو سفيان بن حرب فقال له أبو سفيان لما قدم ليقتل أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك تضرب عنقه وأنك في أهلك فقال والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي
يقول أبو سفيان ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا
(2/88)
ثم قتله رحمه الله نسطاس مولى صفوان
قال ابن عقبة وزعموا أنهم رموه بالنبل وأرادوا فتنته فلم يزده إلا إيمانا ويقينا
وأما خبيب بن عدي فجلس بمكة في بيت ماوية مولاة حجير بن أبي إهاب فكانت تخبر بعد ما أسلمت قالت لقد اطلعت عليه يوما وإن في يده لقطفا من عنب مثل رأس الرجل يأكل منه ووالله ما أعلم في أرض الله عنبا يؤكل
قالت وقال لي حين حضره القتل ابعثي إلي بحديدة أتطهر بها للقتل فأعطيت الموسى غلاما من الحي فقلت ادخل بها على هذا الرجل قالت فوالله ما هو إلا أن ولى الغلام بها إليه فقلت ماذا صنعت أصاب والله الرجل ثأره يقتل هذا الغلام فيكون رجلا برجل
فلما ناوله الحديدة أخذها من يده ثم قال لعمرك ما خافت أمك غدري حين بعثتك بهذه الحديدة إلي ثم خلى سبيله
ثم خرجوا بخبيب حتى إذا جاءوا به التنعيم ليصلبوه قال لهم إن رأيتم أن تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا
قالوا له دونك فاركع
فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما ثم أقبل على القوم فقال أما والله لولا تظنوا أني إنما طولت جزعا من القتل لاستكثرت من الصلاة
فكان خبيب أول من سن هاتين الركعتين عند القتل للمسلمين
ثم رفعوه على خشبة فلما أوثقوه قال اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك فبلغه الغداة ما يصنع بنا
ثم قال اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تغادر منهم أحدا
ثم قتلوه
فكان معاوية بن أبي سفيان يقول حضرت يومئذ فيمن حضره مع أبي أبي سفيان فلقد رأيته يلقيني في الأرض فرقا من دعوة خبيب وكانوا يقولون الرجل إذا دعي عليه فاضطجع لجنبه زلت عنه
وكان ممن حضره يومئذ سعيد بن عامر بن جذيم الجمحي ثم أسلم بعد ذلك واستعمله عمر بن الخطاب رضي الله عنه على بعض الشام فكانت تصيبه غشية بين ظهري القوم فذكر ذلك لعمر وقيل إن الرجل مصاب
(2/89)
فسأله عمر رحمه الله في قدمة قدمها عليه فقال يا سعيد ما هذا الذي يصيبك قال والله يا أمير المؤمنين ما بي من بأس ولكني كنت فيمن حضر خبيب بن عدي حين قتل وسمعت دعوته فوالله ما خطرت على قلبي وأنا في مجلس قط إلا وغشي علي فزادته عند عمر خيرا
وذكر ابن عقبة أن خبيبا وزيدا قتلا في يوم واحد قال وزعموا أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال وهو جالس في ذلك اليوم الذي قتلا فيه وعليكما أو وعليك السلام خبيب قتلته قريش لا ندري أذكر ابن الدثنة معه أم لا
وقال خبيب يرحمه الله لما اجتمع القوم لصلبه
لقد جمع الأحزاب حولي وآلبوا
قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم
وقربت من جذع طويل ممنع
إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي
وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي
فذا العرش صبرني على ما يراد بي
فقد بضعوا لحمي وقد ياس مطمعي
وذلك في ذات الإله وان يشأ
يبارك على أوصال شلو ممزع
وقد خيروني الكفر والموت دونه
وقد هملت عيناي من غير مجزع
وما بي حذار الموت إني لميت
ولكن حذاري جحم نار ملفع
ولست أبالي حين أقتل مسلما
على أي جنب كان في الله مضجعي
فلست بمبد للعدو تخشعا
ولا جزعا إني إلى الله مرجعي
الطويل
وقال حسان بن ثابت يبكي خبيبا
يا عين جودي بدمع منك منسكب
وابكي خبيبا مع الفتيان لم يؤب
صقرا توسط في الأنصار منصبه
سمح السجية محضا غير مؤتشب
قد هاج عيني على علات عبرتها
إذ قيل نص إلى جذع من الخشب
يا أيها الراكب الغادي لطيته
أبلغ إليك وعيدا ليس بالكذب
بني كهينة إن الحرب قد لقحت
محلوبها الصاب إذ تمري لمحتلب
فيها أسود بني النجار يقدمهم
شهب الأسنة في معصوصب لجب
البسيط
وقال حسان أيضا يهجو هذيلا
لعمري لقد شانت هذيل بن مدرك
أحاديث كانت في خبيب وعاصم
أحاديث لحيان صلوا بقبيحها
ولحيان جرامون شر الجرائم
أناس هم من قومهم في صميمهم
بمنزلة الزمعان دبر القوائم
هم غدروا يوم الرجيع وأسلمت
أمانتهم ذا عفة ومكارم
رسول رسول الله غدرا ولم تكن
(2/90)
هذيل توقى منكرات المحارم
فسوف يرون النصر يوما عليهم
بقتل الذي يحميه دون المحارم
أبابيل دبر شمس دون لحمه
حمت لحمك شهاد عظام الملاحم
لعل هذيلا أن يروا بمصابه
مصارع قتلى أو مقاما لمأتم
ويوقع فيها وقعة ذات صولة
يوافي بها الركبان أهل المواسم
بأمر رسول الله إن رسوله
رأي رأي ذي حزم بلحيان عالم
قبيلته ليس الوفاء بهمهم
وإن ظلموا لم يدفعوا كف ظالم
إذا الناس حلوا بالفضاء رأيتهم
بمجرى مسيل الماء بين المخارم
محلهم دار البوار ورأيهم
إذا نابهم أمر كرأي البهائم
الطويل
غزوة بئر معونة
وبعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أصحاب بئر معونة في صفر على رأس أربعة أشهر من أحد
وكان من حديثهم أن أبا براء ملاعب الأسنة واسمه عامر بن مالك بن جعفر قدم المدينة على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فعرض عليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الإسلام ودعاه إليه فلم يسلم ولم يبعد من الإسلام وقال يا محمد لو بعث رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إني أخشى عليهم أهل نجد قال أنا لهم جار فابعثهم فبعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة المعنق ليموت في أربعين رجلا من أصحابه منهم الحارث بن الصمة وحرام بن ملحان وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي ونافع بن بديل بن ورقاء وعامر بن فهيرة في رجال مسمين من خيار المسلمين
فساروا حتى نزلوا بئر معونة وهي بين أرض بني عامر وحرة بني سليم كلا البلدين منها قريب وهي إلى حرة بني سليم أقرب
فلما نزلوها بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى عدو الله عامر بن الطفيل فلما أتاهم لم ينظر في كتابه حتى عدا على الرجل فقتله ثم استصرخ عليهم بني عامر فأبوا أن يجيبوه وقالوا لن نخفر أبا براء وقد عقد لهم عقدا وجوارا
(2/91)
فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم عصية ورعلا وذكوان فأجابوه إلى ذلك فخرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم فلما رأوهم أخذوا سيوفهم ثم قاتلوهم حتى قتلوا من عند آخرهم رحمهم الله إلا كعب بن زيد أخا بني دينار بن النجار يرحمه الله فإنهم تركوه وبه رمق فارتث من بين القتلى فعاش حتى قتل يوم الخندق شهيدا
وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري ورجل من الأنصار من بني عمرو بن عوف قيل إنه المنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح فلم ينبئهما بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على العسكر فقالا والله إن لهذا الطير لشأنا
فأقبلا لينظرا فإذا القوم في دمائهم وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة
فقال الأنصاري لعمرو بن أمية ما ترى
قال أرى أن نلحق برسول الله {صلى الله عليه وسلم} فنخبره الخبر
فقال الأنصاري لكني ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو وما كنت لتخبرني عنه الرجال
ثم قاتل القوم حتى قتل
وأخذوا عمرو بن أمية أسيرا فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل وجز ناصيته وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه فخرجة عمرو بن أمية حتى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة أقبل رجلان من بني عامر حتى نزلا معه في ظل هو فيه فسألهما ممن أنتما فقالا من بني عامر
فأمهلهما حتى إذا ناما عدا عليهما فقتلهما وهو يرى أنه قد أصاب بهما ثؤرة من بني عامر في ما أصابوه من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكان مع العامريين عقد من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وجوار لم يعلم به عمرو بن أمية فلما قدم عمرو على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأخبره الخبر قال لقد قتلت قتيلين لأدينهما
ثم قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} هذا عمل أبي براء قد كنت لهذا كارها متخوفا
وكان فيمن أصيب يومئذ عامر بن فهيرة فكان عامر بن الطفيل يقول من
رجل منهم لما قتل رأيته رفع بين السماء والأرض حتى رأيت السماء دونه قالوا هو عامر بن فهيرة
وذكر ابن عقبة أنه لم يوجد جسد عامر بن فهيرة يومئذ فيرون أن الملائكة هي وارته رحمة الله عليه
(2/92)
وكان جبار بن سلمى فيمن حضرها يومئذ مع عامر بن الطفيل ثم أسلم فكان يقول إن مما دعاني إلى الإسلام أني طعنت رجلا منهم بالرمح بين كتفيه فنظرت إلى سنان الرمح حين خرج من صدره فسمعته يقول فزت والله فقلت في نفسي ما فاز ألست قد قتلت الرجل حتى سألت بعد ذلك عن قوله فقالوا الشهادة
فقلت فاز لعمر الله
وأقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} شهرا يدعو في صلاة الغداة على الذين قتلوا أصحاب بئر معونة يدعو على رعل وذكوان وعصية الذين عصوا الله ورسوله وأنزل فيمن قتل هنالك قرآن ثم رفع بلغوا عنا قومنا أن لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه
ذكر غزوة بني النضير والسبب الذي هاج الخروج إليهم
وذلك أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خرج إليهم يستعينهم في دية العامريين اللذين قتل عمرو بن أمية الضمري للجوار الذي كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عقد لهما فقالوا له لما كلمهم في ذلك نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه اجلس حتى تطعم وترجع بحاجتك
فجلس رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى ظل جدار من جدر بيوتهم معه نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلي ينتظرون أن يصلحوا أمرهم
فخلا بعضهم ببعض والشيطان معهم لا يفارقهم فائتمروا بقتل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقالوا إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه
فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب أحدهم فقال أنا لذلك
وصعد ليفعل
فأتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الخبر من السماء بما أراد القوم فقام راجعا إلى المدينة وترك أصحابه في مجلسهم فلما استلبث النبي {صلى الله عليه وسلم} أصحابه قاموا في طلبه فلقوا رجلا مقبلا من المدينة فسألوه عنه فقال لقيته داخلا المدينة فأقبلوا حتى انتهوا إليه فأخبرهم بما كانت يهود أرادت من الغدر به
وأمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم ثم سار بالناس ونزل بهم فتحصنوا منه في الحصون
(2/93)
وعرض عليهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الجلاء عن أوطانهم وأن يسيروا حيث شاءوا فراسلهم أولياؤهم من المنافقين عبد الله بن أبي في رهط من قومه حين سمعوا ما يراد منهم أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم إن قاتلتم قاتلنا معكم وإن خرجتم خرجنا معكم
فغرتهم أماني المنافقين ونادوا النبي {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه إنا والله لا نخرج ولئن قاتلتنا لنقاتلنك
فمضى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لأمر الله فيهم فلما انتهى إلى أزقتهم وحصونهم كره أن يمكنهم من القتال في دورهم وحصونهم فحفظ الله له أمره وعزم له على رشده فأمر بالأدنى فالأدنى من دورهم أن تهدم وبالنخيل أن تحرق وتقطع وكف الله أيديهم وأيدي المنافقين فلم ينصرونهم وألقى الله في قلوب الفريقين كليهما الرعب فهدموا الدور التي هم فيها من أدبارها فلما كادوا يبلغون آخر دورهم وهم ينتظرون المنافقين ويتربصون من نصرهم ما كانوا يمنونهم به حتى يئسوا مما عندهم سألوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الذي كان عرض عليهم قبل ذلك
فقاضاهم {صلى الله عليه وسلم} على أن يجليهم ويكف عن دمائهم وعلى أن لهم ما استقلت به الإبل من أموالهم إلا الحلقة فقط
فطاروا بذلك كل مطير وتحملوا بما أقلت إبلهم حتى إن الرجل ليهدم بيته عن نجاف بابه في فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به
فخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام وكان أشرافهم بنو أبي الحقيق وحيي بن أخطب فيمن سار إلى خيبر فلما نزلوها دان لهم أهلها
وخلي بنو النضير الأموال لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فكانت له خاصة بحكم الله له بها ليضعها حيث شاء فقسمها على المهاجرين الأولين دون الأنصار إلا أن سهل بن حنيف وأبا دجانة سماك بن خرشة ذكرا فقرا فأعطاهما رسول الله {صلى الله عليه وسلم} منها
وكانت اليهود قد عيروا المسلمين حين يهدمون الدور ويقطعون النخل
(2/94)
فنادوا أن يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه فما بال قطع النخيل وتحريقها وما ذنب شجرة وأنتم تزعمون أنكم مصلحون في الأرض فأنزل الله سبحانه في قصتهم وما ذكروه من قولهم وبيان وجه الحكم في أموالهم سورة الحشر بأسرها
فقال عز من قائل
سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار للذي كان منهم من الهدم من أدبار بيوتهم وهدم المسلمين لما يليهم منها
ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا أي بالسيف ولهم في الآخرة عذاب النار أي مع ما لقوه في الدنيا من النقمة
ثم قال تعالى فيما عابوه من قطع النخيل وعدوه من ذلك فسادا ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله أي فبأمر الله قطعت لم يكن ذلك فسادا بل نقمة أنزلها بهم وليخزي الفاسقين
ثم بين تعالى لرسوله الحكم في أموالهم وأنها نفل له لا سهم لأحد فيها معه فقال عز ذكره وجل قوله وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير فقسمها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيمن أراه الله من المهاجرين الأولين كما تقدم وأعطى منها الرجلين المسميين من الأنصار
وقال علي بن أبي طالب يذكر إجلاء بني النضير وما تقدم قبل ذلك من قتل كعب بن الأشرف ويقال بل قالها رجل من المسلمين غير علي
عرفت ومن يعتدل يعرف
وأيقنت حقا ولم أصدف
عن الكلم المحكم اللاء من
لدى الله ذي الرأفة الأرأف
وسائل تدرس في المؤمنين
بهن اصطفى أحمد المصطفى
فأصبح أحمد فينا عزيزا
عزيز المقامة والموقف
فيا أيها الموعدوه سفاها
ولم يأت جورا ولم يعنف
ألستم تخافون أدنى العذاب
وما آمن الله كالأخوف
(2/95)
وأن تصرعوا تحت أسيافه
كمصرع كعب أبي الأشرف
غداة رأي الله طغيانه
وأعرض كالجمل الأحنف
فأنزل جبريل في قتله
بوحي إلى عبده ملطف
فدس الرسول رسولا له
بأبيض ذي هبة مرهف
فباتت عيون له معولات
متى ينع كعب لها تذرف
وقلن لأحمد ذرنا قليلا
فإنا من النوح لم نشتف
فخلاهم ثم قال اظعنوا
دحورا على رغم الأنف
وأجلى النضير إلى غربة
وكانوا بدار ذوي زخرف
إلى أذرعات ردافي وهم
على كل ذي دبر أعجف
المتقارب
ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان يامين بن عمير بن كعب ابن عم عمرو بن جحاش وأبو سعد بن وهب أسلما خوفا على أموالهما فأحرزاها وحدث بعض آل يامين أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال ليامين ألم تر ما لقيت من ابن عمك وما هم به من شأني فجعل يامين لرجل جعلا على أن يقتل عمرو بن جحاش فقتله فيما يزعمون
غزوة ذات الرقاع
ثم أقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالمدينة بعد غزوة بني النضير شهر ربيع وبعض جمادي ثم غزا نجدا يريد بني محارب وبني ثعلبة من غطفان حتى نزل نخلا
وهي غزوة ذات الرقاع وسميت بذلك لأنهم رقعوا فيها راياتهم وقيل لأجل شجرة بذلك الموضع يقال لها ذات الرقاع
وقيل لما كانوا يعصبون على أرجلهم من الخرق إذ نقبت أقدامهم
فلقي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} هنالك جمعا من غطفان فتقارب الناس ولم يكن بينهم حرب وخاف الناس بعضهم بعضا حتى صلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يومئذ بالناس صلاة الخوف ثم انصرف بهم
وفي هذه الغزوة عرض له رجل من محارب يقال له غورث وقد قال لقومه من غطفان ومحارب ألا أقتل لكم محمدا قالوا بلى وكيف تقتله قال أفتك به
فأقبل إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو جالس وسيفه في حجره فقال يا محمد أنظر إلى سيفك هذا قال نعم
فأخذه فاستله ثم جعل يهزه ويهم به فيكبته الله ثم قال يا محمد أما تخافني قال لا والله ما أخاف منك
قال أما تخافني وفي يدي السيف قال بلى يمنعني الله منك
ثم عمد إلى سيف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فرده عليه
(2/96)
فأنزل الله تبارك وتعالى يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون المائدة 11
وقيل إنها إنما نزلت في عمرو بن جحاش وما هم به من إلقاء الحجر على رسول
الله {صلى الله عليه وسلم} يوم وصل إلى بني النضير مستعينا بهم في دية العامريين
فالله أعلم أي ذلك كان
وحدث جابر بن عبد الله قال خرجنا مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في غزوة ذات الرقاع من نخل فأصاب رجل امرأة رجل من المشركين فلما انصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قافلا أتى زوجها وكان غائبا فلما أخبر الخبر حلف أن لا ينتهي حتى يهريق في أصحاب محمد دما فخرج يتبع أثر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فنزل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} منزلا فقال من رجل يكلؤنا ليلتنا قال فانتدب رجل من المهاجرين قيل هو عمار بن ياسر ورجل من الأنصار قيل هو عباد بن بشر فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب قال الأنصاري للمهاجري أي الليل تحب أن أكفيكه أوله أو آخره قال بل اكفني أوله فاضطجع المهاجري فنام وقام الأنصاري يصلي وأتي الرجل فلما رأى شخصه عرف أنه ربيئة القوم فرماه بسهم فوضعه فيه قال فانتزعه عنه وثبت قائما ثم رماه بسهم آخر فوضعه فيه فنزعه فوضعه وثبت قائما ثم عاد له بالثالث فوضعه فيه فنزعه ثم ركع وسجد ثم أهب صاحبه فقال اجلس فقد أثبت
قال فوثب فلما رآهما الرجل عرف أن قد نذرا به فهرب فلما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدماء قال سبحان الله أفلا أهببتني أول ما رماك قال كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها حتى أنفذها فلما تابع على الرمي ركعت فآذنتك وأيم الله لولا أن أضيع ثغرا أمرني رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها
وقال جابر بن عبد الله خرجت إلى غزوة ذات الرقاع على جمل لي ضعيف فلما قفل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} جعلت الرفاق تمضي وجعلت أتخلف حتى أدركني رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال ما لك يا جابر قلت يا رسول الله أبطأ بي جملي
(2/97)
قال أنخه فأنخته وأناخ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم قال أعطني هذه العصار من يدك أو اقطع
لي عصا من شجرة ففعلت فأخذها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فنخسه بها نخسات ثم قال اركب فركبت فخرج والذي بعثه بالحق يواهق ناقته مواهقة وتحدثت معه فقال لي أتبيعني جملك هذا يا جابر قلت يا رسول الله بل أهبه لك
قال لا ولكن بعنيه
قلت فسمنيه
قال قد أخذته بدرهم
قلت لا إذن تغبنني يا رسول الله
قال فبدرهمين
قلت لا
فلم يزل يرفع لي حتى بلغ الأوقية فقلت أقد رضيت قال نعم
قلت فهو لك
قال قد أخذته
ثم قال يا جابر هل تزوجت بعد قلت نعم يا رسول الله قال أثيبا أم بكرا قلت بل ثيبا
قال أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك قلت يا رسول الله إن أبي أصيب يوم أحد وترك بنات له سبعا فنكحت امرأة جامعة تجمع رءوسهن وتقوم عليهن
قال أصبت إن شاء الله أما إنه لو قد جئنا صرارا أمرنا بجزور فنحرت وأقمنا عليها يومنا ذلك وسمعت بنا فنفضت نمارقها
قلت والله يا رسول الله مالها من نمارق
قال إنها ستكون
فإذا أنت قدمت فاعمل عملا كيسا
قال فلما جئنا صرارا أمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بجزور فنحرت وأقمنا عليها ذلك اليوم فلما أمسى دخل ودخلنا فحدثت المرأة الحديث وما قال لي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قالت فدونك فسمع وطاعة
فلما أصبحت أخذت برأس الجمل فأقبلت به حتى أنخته على باب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم جلست في المسجد قريبا منه وخرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فرأى الجمل فقال ما هذا فقالوا يا رسول الله هذا جمل جاء به جابر
قال فأين جابر فدعيت له
فقال يا ابن أخي خذ برأس جملك فهو لك
ودعا بلالا وقال اذهب بجابر فأعطه أوقية
قال فذهبت معه فأعطاني أوقية وزادني شيئا يسيرا فوالله ما زال ينمي عندي ويرى مكانه من بيتنا حتى أصيب أمس فيما أصيب لنا يعني يوم الحرة
قال ابن إسحاق ولما قدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من غزوة ذات الرقاع أقام بها بقية جمادي الأولى وجمادي الآخرة ورجب
ثم خرج في شعبان إلى بدر لميعاد أبي سفيان حتى نزله فأقام عليه ثماني ليال ينتظره
(2/98)
وخرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة من ناحية الظهران وبعض الناس يقول غسفان ثم بدا له في الرجوع فقال يا معشر قريش إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب ترعون فيه الشجر وتشربون فيه اللبن فإن عامكم هذا عام جدب وإني راجع فارجعوا
فرجع الناس فسماهم أهل مكة جيش السويق يقولون إنما خرجتم تشربون السويق
وأقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على بدر ينتظر أبا سفيان لميعاده فأتاه مخشى بن عمرو الضمري وهو الذي كان وادعه على بني ضمرة في غزوة ودان فقال يا محمد أجئت للقاء قريش على هذا الماء قال نعم يا أخا بني ضمرة وإن شئت مع ذلك رددنا إليك ما كان بيننا وبينك ثم جالدناك حتى يحكم الله بيننا وبينك
قال لا والله يا محمد ما لنا بذلك منك من حاجة
ومر برسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو هناك ينتظر أبا سفيان معبد بن أبي معبد الخزاعي فقال وناقته تهوى به وقد رأى مكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
قد نفرت من رفقتي محمد
وعجوة من يثرب كالعنجد
تهوى على دين أبيها الأتلد
قد جعلت ماء قديد موعدي
وماء ضجنان لها ضحى الغد
الرجز
وقال عبد الله بن رواحة في ذلك ويقال إنها لكعب بن مالك
وعدنا أبا سفيان بدرا فلم نجد
لميعاده صدقا وما كان وافيا
فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا
لأبت ذميما وافتقدت المواليا
تركنا بها أوصال عتبة وابنه
وعمرا أبا جهل تركناه ثاويا
عصيتم رسول الله أف لدينكم
وأمركم السيئ الذي كان غاويا
فإني وإن عنفتموني لقائل
فدا لرسول الله أهلي وماليا
أطعناه لم نعدله فينا بغيره
شهابا لنا في ظلمة الليل هاديا
الطويل
وقال حسان بن ثابت في ذلك
دعوا فلجات الشام قد حال دونها
جلاد كأفواه المخاض الأوارك
بأيدي رجال هاجروا نحو ربهم
وأنصاره حقا وأيدي الملائك
إذا سلكت للغور من بطن عالج
فقولا لها ليس الطريق هنالك
أقمنا على الرس النروع ثمانيا
بأرعن جرار عريض المبارك
بكل كميت جوزه نصف خلقه
وقب طوال مشرفات الحوارك
ترى العرفج العامي تذري أصوله
مناسم أخفاف المطي الرواتك
فإن تلق في تطوافنا والتماسنا
(2/99)
فرات بن حيان يكن رهن هالك
وإن تلق قيس بن امرئ القيس بعده
يزد في سواد لونه لون حالك
فأبلغ أبا سفيان عني رسالة
فإنك من غر الرجال الصعالك
الطويل
ثم انصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى المدينة فأقام بها حتى مضى ذو الحجة وهي سنة أربع من مقدمة المدينة ثم غزا دومة الجندل ثم رجع قبل أن يصل إليها ولم يلق كيدا {صلى الله عليه وسلم}
غزوة الخندق
وكانت في شوال من سنة خمس في قول ابن إسحاق
وكان من الحديث عن الخندق أنه لما أجلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بني النضير خرج نفر من اليهود سلام بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب وكنانة بن الربيع النضريون وهوذة بن قيس وأبو عمار الوائليان في نفر من بني النضير وبني وائل وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين قدموا مكة على قريش فاستفزوهم واستنفروهم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ودعوهم إلى حربه وقالوا إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله
فقالت لهم قريش يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد أفديننا خير أم دينه قالوا بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه فهم الذين أنزل الله عز وجل فيهم ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا النساء 51 - 52
فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فاجتمعوا لذلك واتعدوا له
ثم خرج أولئك النفر حتى جاءوا غطفان من قيس عيلان فدعوهم إلى مثل ما دعوا إليه قريشا وأخبروهم أنهم سيكونون معهم وأن قريشا قد تابعوهم على ذلك
وجعلت يهود لغطفان تحريضا على الخروج نصف تمر خيبر كل عام
فزعموا أن الحارث بن عوف أخا بني مرة قال لعيينة بن حصن بن حذيفة ابن بدر ولقومه من غطفان يا قوم أطيعوني دعوا قتال هذا الرجل وخلوا بينه وبين عدوه من العرب فغلب عليهم الشيطان وقطع أعناقهم الطمع ونفذوا لأمر عيينة على قتال رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
(2/100)
وكتبوا إلى حلفائهم من بني أسد فأقبل طليحة الأسدي فيمن اتبعه من بني أسد وهما الحليفان أسد وغطفان
وكتبت قريش إلى رجال من بني سليم أشراف بينهم وبينهم أرحام استمدادا لهم فأقبل أبو الأعور بمن اتبعه من سليم مددا لقريش
فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن في بني فزارة والحارث بن عوف في بني مرة ومسعر بن رخيلة الأشجعي فيمن تابعه من قومه من أشجع وتكامل لهم ولمن استمدوه فأمدهم جمع عظيم هم الذين سماهم الله الأحزاب
فلما سمع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بخروجهم وبما اجمعوا له من الأمر اخذ في حفر الخندق وضربه على المدينة فعمل فيه {صلى الله عليه وسلم} ترغيبا للمسلمين في العمل والأجر وعمل معه المسلمون فدأب فيه ودأبوا حتى أحكموه
وأبطأ عنهم في عملهم ذلك رجال من المنافقين وجعلوا يورون بالضعيف من العمل ويتسللون إلى أهلهم بغير علم من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ولا إذن وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لا بد له منها يذكر ذلك لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} ويستأذنه في اللحوق بحاجته فيأذن له فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عمله رغبة في الخير واحتسابا له فأنزل الله في أولئك من المؤمنين إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شانهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم
الله إن الله غفور رحيم ) النور 62
فنزلت هذه الآية فيمن كان من المسلمين من أهل الحسبة والرغبة في الحرب والطاعة لله ولرسوله
ثم قال تبارك وتعالى يعني المنافقين الذين كانوا يتسللون من العمل ويذهبون بغير إذن من النبي {صلى الله عليه وسلم} لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم 63 النور
(2/101)
وكانت في حفر الخندق أحاديث فيها من الله عبرة في تصديق رسوله وتحقيق نبوته عاين ذلك المسلمون
فمنها أنه اشتد عليهم في بعض الخندق كدية فشكوها إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فدعا بإناء من ماء فتفل فيه ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به ثم نضح ذلك الماء على تلك الكدية فيقول من حضرها فوالذي بعثه بالحق لانهالت حتى عادت كالكثيب ما ترد فأسا ولا مسحاة
ودعت عمرة بنت رواحة أم النعمان بن بشير ابنة لها من بشير فأعطتها حفنة من تمر في ثوبها ثم قالت أي بنية اذهبي إلى أبيك وخالك عبد الله بن رواحة بغدائهما
قالت فأخذتها فانطلقت فمررت برسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأنا التمس أبي وخالي فقال تعالي يا بنية ما هذا معك قالت قلت يا رسول الله هذا تمر بعثتني به أمي إلى أبي بشير بن سعد وخالي عبد الله بن رواحة يتغديانه
قال هاتيه
قالت فصببته في كفي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فما ملأتهما ثم أمر بثوب فبسط له ثم دحا بالتمر عليه فتبدد فوق الثوب ثم قال لإنسان عنده اصرخ في أهل الخندق أن هلم إلى الغداء
فاجتمع أهل الخندق عليه فجعلوا يأكلون منه وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق وإنه ليسقط من أطراف الثوب
وقال جابر بن عبد الله عملنا مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في الخندق وكنا نعمل فيه
نهارا فإذا أمسينا رجعنا إلى أهالينا فكانت معي شويهة غير جد سمينة فقلت والله لو صنعناها لرسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فأمرت امرأتي فطحنت لنا شيئا من شعير فصنعت لنا منه خبزا وذبحت تلك الشاة فشويناها لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلما أمسينا وأراد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الانصراف عن الخندق قلت يا رسول الله إني قد صنعت لك شويهة كانت عندنا وصنعنا معها شيئا من خبز هذا الشعير فأحب أن تنصرف معي إلى منزلي
وإنما أريد أن ينصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} معي وحده
فلما قلت له ذلك قال نعم
ثم أمر صارخا فصرخ أن انصرفوا مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى بيت جابر بن عبد الله
(2/102)
قال قلت إنا لله وإنا إليه راجعون فأقبل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} والناس معه فجلس وأخرجناها إليه فبرك وسمى الله ثم أكل وتواردها الناس كلما فرغ قوم قاموا وجاء ناس حتى صدر أهل الخندق عنها
وحدث سلمان الفارسي قال ضربت في ناحية من الخندق فغلظت علي ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} قريب مني فلما رآني أضرب ورأى شدة المكان علي نزل فأخذ المعول من يدي فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة ثم ضرب به ضربة أخرى فلمعت تحته برقة أخرى ثم ضرب به الثالثة فلمعت برقة أخرى قلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما هذا الذي رأيت لمع تحت المعول وأنت تضرب قال أوقد رأيت ذلك يا سلمان قلت نعم
قال أما الأولى فإن الله فتح علي بها اليمن وأما الثانية فإن الله فتح علي بها الشام والمغرب وأما الثالثة فإن الله فتح بها علي المشرق
فكان أبو هريرة يقول حين فتحت الأمصار في زمان عمر وزمان عثمان وما بعده افتتحوا ما بدا لكم فوالذي نفس أبي هريرة بيده ما افتتحتم من مدينة ولا تفتحونها إلى يوم القيامة إلا وقد أعطى الله محمدا {صلى الله عليه وسلم} مفاتيحها قبل ذلك
ولما فرغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة بين الجرف وزغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم
من بني كنانة وأهل تهامة وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد حتى نزلوا بذنب نقمي إلى جانب أحد
وخرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب هنالك عسكره والخندق بينه وبين القوم وأمر بالذراري والنساء فجعلوا في الآطام
وخرج عدو الله حيي بن أخطب حتى أتي كعب بن أسد صاحب عقد بني قريظة وعهدهم وكان قد وادع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على قومه وعاقده على ذلك وعاهده فلما سمع كعب بحيي بن أخطب أغلق دونه باب حصنه فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له فناداه حيي ويحك يا كعب افتح لي
فقال ويحك يا حيي إنك امرؤ مشؤوم وإني قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بيني وبينه ولم منه إلا وفاء وصدقا قال ويحك افتح لي أكلمك
(2/103)
قال ما أنا بفاعل
قال والله إن أغلقت دوني إلا على جشيشتك أن آكل معك منها
فاحفظ الرجل ففتح له فقال ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر وببحر طام جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمي إلى جنب أحد قد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه
فقال له كعب جئتني والله بذل الدهر وبجهام قد هراق ماءه فهو يرعد ويبرق وليس فيه شيء ويحك يا حيي فدعني وما أنا عليه فإني لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء
فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذروة والغارب حتى سمح له على أن أعطاه عهدا من الله وميثاقا لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن ادخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك
فنقض كعب بن أسد عهده وبريء مما كان بينه وبين رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فلما انتهى الخبر إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} والى المسلمين بعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سعد ابن معاذ وهو يومئذ سيد الأوس وسعد بن عبادة وهو يومئذ سيد الخزرج ومعهما عبد الله بن رواحة وخوات بن جبير فقال انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم فإن كان حقا فالحنوا إلي لحنا أعرفه ولا تفتوا في أعضاد الناس وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فأجهروا به للناس
فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم نالوا من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقالوا من رسول الله لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه وكان رجلا فيه حدة فقال له سعد بن عبادة دع عنك مشاتمتهم فما بيننا أربي من المشاتمة
ثم أقبلا ومن معهما إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فسلموا عليه ثم قالوا عضل والقارة
أي كعذر عضل والقارة بأصحاب الرجيع خبيب وأصحابه فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين
(2/104)
وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كل ظن ونجم النفاق من بعض المنافقين وحتى قال قائل منهم كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط
وأقام عليه المشركون قريبا من شهر لم يكن بينهم حرب إلا الرمياء
بالنبل والحصار
فلما اشتد على الناس البلاء بعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عوف وهما قائدا غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه فجرى بينه وبينها المراوضة في الصلح حتى كتبوا
الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح ثم بعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فذكر لهما ذلك واستشارهما فيه فقالا يا رسول الله أمرا تحبه فتصنعه أم شيئا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به أم شيئا تصنعه لنا قال بل شيء أصنعه لكم والله ما أصنع ذلك إلا أني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما
فقال له سعد بن معاذ يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قرى أو بيعا فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا ما لنا بهذا من حاجة والله لا نعطيكم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم
قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأنت وذلك
فتناول سعد الصحيفة فمحا ما فيها من الكتب ثم قال ليجهدوا علينا
فأقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} والمسلمون وعدوهم محاصروهم ولم يكن بينهم قتال إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب وضرار بن الخطاب تلبسوا للقتال ثم خرجوا على خيلهم حتى مروا بمنازل بني كنانة فقالوا تهيأوا يا بني كنانة للحرب فستعلمون من الفرسان اليوم
(2/105)
ثم أقبلوا تعنق بهم خيلهم حتى وقفوا على الخندق فلما رأوه قالوا والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها ثم تيمموا مكانا من الخندق ضيقا فضربوا خيلهم فاقتحمت منه فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم وكان عمرو بن عبد ود قد
قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد يوم أحد فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مكانه فلما وقف هو وخيله قال من يبارز فبرز علي بن أبي طالب فقال له يا عمرو إنك كنت عاهدت الله لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه فقال له أجل فقال له علي فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام
قال لا حاجة لي بذلك
قال فإني أدعوك إلي النزال
قال له ولم يا ابن أخي فوالله ما أحب أن أقتلك
قال علي لكني والله أحب أن أقتلك فحمي عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه ثم أقبل على علي فتنازلا وتجاولا فقتله علي
وخرجت خيلهم منهزمة حتى اقتحمت من الخندق هاربة
وذكر ابن إسحاق في غير رواية البكائي أن عمرا لما نادى يطلب من يبارزه قام علي رضي الله عنه وهو مقنع في الحديد فقال أنا له يا نبي الله
فقال له اجلس إنه عمرو ثم ذكر عمرو النداء وجعل يؤنبهم ويقول أين جنتكم التي تزعمون أنه من قتل منكم دخلها أفلا تبرزون إلي رجلا فقام علي فقال أنا له يا رسول الله
قال اجلس إنه عمرو
ثم نادى الثالثة وقال
ولقد بححت من النداء
بجمعكم هل من مبارز
ووقفت إذ جبن المشجع
وقفة الرجل المناجز
وكذاك أني لم أزل
متسرعا نحو الهزاهز
إن الشجاعة في الفتى
والجود من خير الغرائز
الكامل
فقام علي رضي الله عنه فقال أنا له يا رسول الله
فقال إنه عمرو فقال وإن كان عمرا
فأذن له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فمشى إليه علي وهو يقول
لا تعجلن فقد أتاك
مجيب صوتك غير عاجز
ذو نية وبصيرة
والصدق منجي كل فائز
إني لأرجو أن أقيم
(2/106)
عليك نائحة الجنائز
من ضربة نجلاء يبقى
ذكرها عند الهزاهز
الكامل
فقال عمرو من أنت قال أنا علي قال ابن عبد مناف قال أنا علي بن أبي طالب
فقال غيرك يا ابن أخي من أعمامك من هو أسن منك فإني أكره أن أهريق دمك
فقال علي لكني والله ما أكره أن أهريق دمك
فغضب ونزل فسل سيفه كأنه شعلة نار ثم أقبل نحو علي مغضبا
ويقال إنه كان على فرسه فقال له علي كيف أقاتلك وأنت على فرسك ولكن انزل معي
فنزل عن فرسه ثم أقبل نحوه فاستقبله علي بدرقته فضربه عمرو فيها فقدها وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجه وضربه علي على حبل العاتق فسقط وثار العجاج وسمع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} التكبير فعرف أن عليا قد قتله فثم يقول علي رضي الله عنه
أعلى تقتحم الفوارس هكذا
عني وعنه أخبروا أصحابي
فاليوم يمنعني الفرار حفيظتي
ومصمم في الرأس ليس بنابي
أدى عمير حين أخلص صقله
صافي الحديدة يستفيض ثوابي
فغدوت ألتمس القراع بمرهف
عضب مع النتراء في إقراب
قال ابن عبد حين شد ألية
وحلفت فاستمعوا من الكذاب
أن لا يفر ولا يهلل فالتقى
أسدان يضطربان كل ضراب
نصر الحجارة من سفاهة رأيه
ونصرت دين محمد بصواب
فصددت حين تركته متجدلا
كالجذع بين دكادك وروابي
وعففت عن أثوابه ولو أنني
كنت المجدل بزني أثوابي
لا تحسبن الله خاذل دينه
ونبيه يا معشر الأحزاب
الكامل
وكان شعار أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يوم الخندق وبني قريظة حم لا ينصرون
وكانت عائشة رضي الله عنها يوم الخندق في حصن بني حارثة وكان من
أحرز حصون المدينة وكانت أم سعد بن معاذ معها في الحصن قالت عائشة وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب فمر سعد وعليه درع له مقلصة وقد خرجت منها ذراعه كلها وفي يده حربته يرقد بها أي يسرع بها في نشاط وهو يقول
لبث قليلا يشهد الهيجا حمل
لا بأس بالموت إذا حان الأجل
الرجز
فقالت أمه الحق أي بني فقد والله أخرت
قالت عائشة فقلت لها يا أم سعد والله لوددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هي
(2/107)
قالت وخفت عليه حيث أصاب السهم منه فرمي سعد بسهم فقطع منه الأكحل رماه حبان بن قيس بن العرقة أحد بني عامر بن لؤي فلما أصابه قال خذها وأنا ابن العرقة
فقال له سعد عرق الله وجهك في النار اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهد من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة
وكان عبد الله بن كعب بن مالك يقول ما أصاب سعدا يومئذ إلا أبو أسامة الجشمي حليف بني مخزوم وقال في ذلك شعرا يخاطب به عكرمة بن أبي جهل
أعكرم هلا لمتني إذ يقول لي
فداك بآطام المدينة خالد
ألست الذي ألزمت سعدا مرشة
لها بين أثناء المرافق عائد
قضي نحبه منها سعيد فأعولت
عليه مع الشمط العذاري النواهد
الطويل
في أبيات ذكرها ابن إسحاق
ويقال إن الذي رمى سعدا خفاقة بن عاصم بن حبان
فالله أعلم أي ذلك كان
وكانت صفية بنت عبد المطلب في فارع أطم حسان بن ثابت قالت
وحسان معنا فيه مع النساء والصبيان
قالت صفية فمر بنا رجل من يهود فجعل يطيف بالحصن وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} والمسلمون في نحور عدوهم لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا إن أتانا آت قالت قلت يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا من وراءنا من يهود وقد شغل عنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه فانزل إليه فاقتله
قال يغفر الله لك يا ابنة عبد المطلب والله لقد علمت ما أنا بصاحب هذا
فلما قال لي ذلك ولم أر عنده شيئا احتجزت ثم أخذت عمودا ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن فقلت لحسان انزل فاسلبه فإني لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل
قال مالي بسلبه من حاجة يا بنت عبد المطلب
(2/108)
وأقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه فيما وصف الله من الخوف والشدة لتظاهر عدوهم عليهم وإتيانهم إياهم من فوقهم ومن أسفل منهم
ثم إن نعيم بن مسعود الأشجعي أتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة
فخرج نعيم حتى أتى بني قريظة وكان لهم نديما في الجاهلية فقال يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم
قالوا صدقت فلست عندنا بمتهم
فقال لهم إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم البلد بلدكم به أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره وإن قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره فليسوا كأنتم فإن رأوا نهزة أصابوها وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم فلا طاقة لكم به إن خلا بكم فلا
تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمدا حتى تناجزوه
قالوا لقد أشرت بالرأي
ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لأبي سفيان ومن معه من رجالهم قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمدا وإنه قد بلغني أمر رأيت علي حقا أن أبلغكموه نصحا لكم فاكتموا عني
قالوا نفعل
قال تعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد وقد أرسلوا إليه أنا قد ندمنا على ما فعلنا فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم فأرسل إليهم نعم
فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا
ثم خرج حتى أتى غطفان فقال يا معشر غطفان إنكم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إلي ولا أراكم تتهمونني
قالوا صدقت ما أنت عندنا بمتهم قال فاكتموا عني
قالوا نفعل
ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم
(2/109)
فلما كانت ليلة السبت وكان ذلك من صنع الله لرسوله {صلى الله عليه وسلم} أرسل أبو سفيان بن حرب ورءوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان فقالوا لهم إنا لسنا بدار مقام قد هلك الخف والحافر فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه فأرسلوا إليهم إن اليوم يوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئا وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثا فأصابه ما لم يخف عليكم ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمدا فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلادنا ولا طاقة لنا بذلك
فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان والله إن
الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق
فأرسلوا إلى بني قريظة إنا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا
فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل بهذا إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا فإن رأوا فرصة انتهزوها وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل في بلدكم
فأرسلوا إلى قريش وغطفان إنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا
فأبوا عليهم
وخذل الله بينهم وبعث عليهم الريح في ليال شاتية شديدة البرد فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح آنيتهم
فلما انتهى إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما اختلف من أمرهم وما فرق الله من جماعتهم دعا حذيفة بن اليمان فبعثه ليلا لينظر ما فعل القوم فحدث حذيفة رحمه الله وقد قال له رجل من أهل الكوفة يا أبا عبد الله أرأيتم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وصحبتموه قال نعم يا ابن أخي
قال فكيف كنتم تصنعون قال والله لقد كنا نجهد
قال الرجل والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض ولحملناه على أعناقنا
(2/110)
فقال حذيفة يا ابن أخي والله لقد رأيتنا مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالخندق وصلى هويا من الليل ثم التفت إلينا فقال من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع يشرط له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الرجعة أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة فما قام رجل من القوم من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد فلما لم يقم أحد دعاني فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني فقال يا حذيفة اذهب فادخل في القوم فانظر ما يفعلون ولا تحدثن شيئا حتى تأتينا
فذهبت فدخلت في القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء فقام أبو سفيان فقال يا معشر قريش لينظر امرؤ من جليسه
قال حذيفة فأخذت بيد الرجل الذي إلى جنبي فقلت من أنت قال فلان بن فلان
وذكر ابن عقبة أنه فعل ذلك بمن يلي جانبيه يمينا ويسارا قال وبدرهم بالمسألة خشية أن يفطنوا له
قال حذيفة ثم قال أبو سفيان يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام لقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره ولقينا من شدة الريح ما ترون ما تطمئن لنا قدر ولا تقوم لنا نار ولا يستمسك لنا بناء فارتحلوا فإني مرتحل
ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث فما أطلق عقاله إلا وهو قائم
ولولا عهد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلي أن لا تحدث شيئا حتى تأتيني ثم شئت لقتلته بسهم
فرجعت إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه فلما رآني أدخلني إلى رجليه وطرح علي طرف المرط ثم ركع وسجد وإني لفيه فلما سلم أخبرته الخبر
وسمعت غطفان بما فعلت قريش فانشمروا راجعين إلى بلادهم
ولما أصبح رسول الله {صلى الله عليه وسلم} انصرف عن الخندق راجعا إلى المدينة والمسلمون معه وقد عضهم الحصار فرجعوا مجهودين فوضعوا السلاح
فلما كانت الظهر أتى جبريل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} معتجرا بعمامة من إستبرق على بغلة عليها رحالة عليها قطيفة من ديباج
(2/111)
ويقولون فيما ذكر ابن عقبة أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كان في المغتسل عندما جاءه جبريل وهو يرجل رأسه قد رجل أحد شقيه
فجاءه جبريل على فرس عليه اللأمة حتى وقف بباب المسجد عند موضع الجنائز وإن على وجه جبريل لأثر الغبار فخرج إليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال له جبريل غفر الله لك أقد وضعتم السلاح قال نعم
قال جبريل ما وضعت الملائكة السلاح بعد وما رجعت الآن إلا من طلب القوم إن الله يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة فإني عامد إليهم فمزلزل بهم
فأمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مؤذنا فأذن في الناس من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة
وقدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} علي بن أبي طالب برايته إلى بني قريظة وابتدرها الناس فسار علي رضي الله عنه حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فرجع حتى لقى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالطريق فقال يا رسول الله لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابيث
قال لم أظنك سمعت منهم لي أذى قال نعم
قال لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا
فلما دنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من حصونهم قال يا إخوان القردة هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته قالوا يا أبا القاسم ما كنت جهولا
ومر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بنفر من أصحابه في طريقه قبل أن يصل إلى بني قريظة فقال هل مر بكم أحد قالوا يا رسول الله مر بنا دحية بن خليفة الكلبي على بغلة بيضاء عليها رحالة عليها قطيفة ديباج
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ذلك جبريل بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم
وتلاحق الناس برسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأتى رجال من بعد العشاء الآخرة لم يصلوا العصر لقول رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لا يصلين أحد العصر إلا ببني قريظة فصلوا العصر بها من بعد العشاء الآخرة فما عابهم الله بذلك في كتابه ولا عنفهم به رسوله
وذكر ابن عقبة أن الناس لما حانت العصر وهم في الطريق ذكروا الصلاة فقال بعضهم ألم تعلموا أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أمركم أن تصلوا العصر في بني قريظة
وقال آخرون هي الصلاة
(2/112)
فصلى منهم طائفة وأخرت الصلاة طائفة حتى صلوها في بني قريظة بعد أن غابت الشمس فذكروا لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} من عجل الصلاة ومن أخرها فذكر أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لم يعنف واحدة من الطائفتين
وحاصر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بني قريظة خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب
وكان حيي بن أخطب دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم
قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه فلما أيقنوا أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} غير منصرف عنهم حتى يناجزهم قال لهم كعب بن أسد يا معشر يهود قد نزل بكم من الأمر ما ترون وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا آيها شئتم فقالوا و ما هي قال نتابع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد تبين لكم انه نبي مرسل وانه للذي تجدونه في كتابكم فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم قالوا لا نفارق حكم التوراة أبدا ولا نستبدل به غيره قال فإذا أبيتم علي هذه فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين السيوف لم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه وان نظهر فلعمري لنجدن النساء والأبناء
قالوا أنقتل هؤلاء المساكين فما خير العيش بعدهم قال فإذا أبيتم على هذه فإن الليلة ليلة السبت وانه عسى أن يكون محمد واصحابه قد آمنوا فيها فأنزلوا لعلنا نصيب من محمد واصحابه غره
قالوا أنفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يحدث من كان قبلنا إلا من قد علمت فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ قال ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه حازما ليلة واحدة من الدهر
ثم انهم بعثوا إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن ابعث إلينا أبا لبابه بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف وكانوا حلفاء الأوس نستشيره في امرنا فأرسله رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إليهم فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه فرق لهم وقالوا له يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد قال نعم
وأشار بيده إلى حلقه انه الذبح
(2/113)
قال أبو لبابة فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله
ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده
وقال لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله علي مما صنعت وعاهد الله أن لا أطأ بني قريظة أبدا ولا أرى في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا
فلما بلغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خبره وكان قد استبطأه قال أما انه لو كان جاءني لاستغفرت له فأما إذ فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه
فنزلت توبته على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو في بيت أم سلمه قالت سمعت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من السحر وهو يضحك قلت مم تضحك أضحك الله سنك قال تيب على أبي لبابة
قالت قلت أفلا ابشره يا رسول الله
قال بلى أن شئت قال فقامت على باب حجرتها وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب فقالت يا أبا لبابه ابشر فقد تاب الله عليك
قالت فثار الناس إليه ليطلقوه فقال لا والله حتى يكون رسول الله {صلى الله عليه وسلم} هو الذي يطلقني بيده
فلما مر عليه خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه
وذكر ابن هشام أن أبا لبابه أقام مرتبطا بالجذع ست ليال تأتيه امرأته في كل وقت صلاه فتحله للصلاة ثم يعود فيرتبط بالجذع
والآية التي نزلت في توبته وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم أن الله غفور رحيم التوبة 102 وأنزل الله في أبي لبابة فيما روي عن عبد الله بن قتادة
يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون الأنفال 27
(2/114)
ثم إن ثعلبة بن سعيه وأسيد بن سعيه وأسد بن عمير وهم نفر من بني هدل ليسوا من بني قريظة ولا بني النضير نسبهم فوق ذلك هم بنو عم القوم أسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها بنو قريظة على حكم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأحرزوا دماءهم وأموالهم وكان إسلامهم فيما زعموا عما كان ألقاه إليهم من أمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ابن الهيبان القادم عليهم قبل الإسلام متوكفا لخروج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ومحققا لنبوته فنفع الله هؤلاء الثلاثة بذلك واستنقذهم به من النار
وقد تقدم ذكر خبره فيما مضى من هذا الكتاب
وخرج في تلك الليلة عمرو بن سعدي القرظي
فمر بحرس رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وعليه محمد بن مسلمة فلما رآه قال من هذا قال أنا عمرو بن سعدي
وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقال لا أغدر بمحمد أبدا
فقال محمد بن مسلمة حين عرفه اللهم لا تحرمني إقالة عثرات الكرام ثم خلي سبيله فخرج على وجهه حتى بات في مسجد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالمدينة تلك الليلة ثم ذهب فلم يدر أين توجه من الأرض إلى يومه هذا
فذكر شأنه لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال ذلك رجل نجاه الله بوفائه
وبعض الناس يزعم أنه كان أوثق برمة فيمن أوثق من بني قريظة حين نزلوا على حكم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأصبحت رمته ملقاة ولا يدري أين يذهب
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيه تلك المقالة
فالله أعلم أي ذلك كان ولما نزل بنو قريظة على حكم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثواثبت الأوس فقالوا يا رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت يريدون بني قينقاع وما كان من حصار رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لهم ونزولهم على حكمه وكيف سأله إياهم عبد الله بن أبي بن سلول فوهبهم له
فلما كلمته الأوس قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم قالوا بلى قال فذاك إلى سعد بن معاذ
(2/115)
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة من أسلم يقال لها رفيدة في مسجده كانت تداوي الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد قال لقومه حين أصابه السهم في الخندق اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب
فلما حكمه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في بني قريظة أتاه قومه فحملوه على حمار قد وطأوا له بوسادة
من أدم وكان رجلا جسيما ثم أقبلوا معه إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهم يقولون يا أبا عمرو أحسن في مواليك فإن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم
فلما أكثروا قال لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم
فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الأشهل فنعي لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد عن كلمته التي سمع منه
فلما انتهى سعد إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} والمسلمين قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قوموا إلى سيدكم فأما المهاجرون من قريش فيقولون إنما أراد الأنصار
وأما الأنصار فيقولون قد عم بها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المسلمين
فقاموا إليه فقالوا يا أبا عمرو إن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم
فقال سعد بن معاذ عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيهم لما حكمت قالوا نعم
قال وعلي من ها هنا في الناحية التي فيها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو معرض عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إجلالا له
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نعم
قال سعد فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبي الذراري والنساء
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة
ثم استنزلوا فحسبهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في المدينة في دار امرأة من بني النجار ثم خرج {صلى الله عليه وسلم} إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق يخرج بهم إليها أرسالا
وفيهم عدو الله حيي بن أخطب وكعب بن أسد رأس القوم وهم ستمائة أو سبعمائة والمكثر يقول كانوا بين الثمان المائة والتسع المائة
(2/116)
وقالوا لكعب بن أسد وهم يذهب بهم إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أرسالا يا كعب ما تراه يصنع بنا قال أفي كل موطن لا تعقلون ألا ترون أن الداعي لا ينزع وأن من ذهب به منكم لا يرجع هو والله القتل
فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأتي بعدو الله حيي بن أخطب وعليه حلة فقاحية قد شقها عليه من كل ناحية قدر أنملة لئلا يسلبها مجموعة يداه إلى عنقه بحبل فلما نظر إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال أما والله ما لمت
نفسي في عداوتك ولكن من يخذل الله يخذل ثم أقبل على الناس فقال يا أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله كتاب وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل ثم جلس فضربت عنقه
فقال في ذلك جبل بن جوال الثعلبي
لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه
ولكنه من يخذل الله يخذل
لجاهد حتى أبلغ النفس عذرها
وقلقل يبغي العز كل مقلقل
الطويل
بل ابتغي عدو الله ذل الأبد فوجده وجاهد الله فجهده فأصبح برأيه القائل وسعيه الخاسر من الذين لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار
وقتل من نساء بني قريظة امرأة واحدة لم يقتل من نسائهم غيرها قالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها والله إنها لعندي تحدث معي وتضحك ظهرا وبطنا ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقتل رجالها في السوق إذ هتف هاتف باسمها أين فلانة قالت أنا والله قلت لها ويلك مالك قالت أقتل
قلت ولم قالت لحدث أحدثته
فانطلق بها فضربت عنقها
فكانت عائشة تقول والله لا أنسى عجبا منها طيب نفسها وكثرة ضحكها وقد علمت أنها تقتل
قال ابن هشام هي التي طرحت الرحا على خلاد بن سويد فقتلته
وكان الزبير بن باطا القرظي قد من على ثابت بن قيس بن شماس في الجاهلية أخذه يوم بعاث فجز ناصيته ثم خلي سبيله
فجاءه ثابت لما قتل بنو قريظة وهو شيخ كبير فقال يا أبا عبد الرحمن هل تعرفني قال وهل يجهل مثلي مثلك
قال فإني أردت أن أجزيك بيدك عندي
قال إن الكريم يجزي الكريم
(2/117)
ثم أتى ثابت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال يا رسول الله إنه كان للزبير علي منة وقد أحببت أن أجزيه بها فهب لي دمه
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} هو لك
فأتاه فقال إن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد وهب لي دمك فهو لك قال شيخ كبير لا أهل له ولا ولد فما يصنع بالحياة فأتى ثابت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال بأبي أنت وأمي
يا رسول الله امرأته وولده
قال هم لك
فأتاه فقال قد وهب لي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أهلك وولدك فهم لك
قال أهل بيت بالحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك فأتي ثابت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال يا رسول الله ماله
قال هو لك
فأتاه ثابت فقال قد أعطاني رسول الله مالك فهو لك فقال أي ثابت ما فعل الذي كان وجهه مرآة صينية يتراءى فيها عذاري الحي كعب بن أسد قال قتل
قال فما فعل سيد الحاضر والبادي حيي بن أخطب قال قتل
قال فما فعل مقدمتنا إذا شددنا وحاميتنا إذا فررنا عزال بن شموال
قال قتل
قال فما فعل المجلسان يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة
قال ذهبوا فقتلوا
قال فإني أسألك يا ثابت بيدي عندك إلا ألحقتني بالقوم فوالله ما في العيش بعد هؤلاء من خير فما أنا بصابر لله فيلة دلو ناضح حتى ألقى الأحبة
فقدمه ثابت فضرب عنقه
فلما بلغ أبا بكر الصديق رضي الله عنه قوله ألقي الأحبة قال يلقاهم والله في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد أمر بقتل كل من أنبت منهم
قال عطية القرظي وكنت غلاما فوجدوني لم أنبت فخلوا سبيلي
وكان رفاعة بن شموال القرظي رجلا قد بلغ فلاذ بسلمى بنت قيس أم المنذر أخت سليط بن قيس وكانت إحدى خالات رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد صلت القبلتين معه وبايعته بيعة النساء فقالت يا نبي الله بأبي أنت وأمي هب لي رفاعة فإنه زعم أنه سيصلي ويأكل لحم الجمل
فوبه فوهبه لها فاستحيته
(2/118)
ثم إن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قسم أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين وأعلم في ذلك اليوم سهمان الخيل وسهمان الرجال وأخرج منها الخمس فكان للفارس ثلاثة أسهم للفرس سهمان ولفارسه سهم وللراجل من ليس له فرس
سهم
وكانت الخيل يوم بني قريظة ستة وثلاثين فرسا وكان أول فيء وقعت فيه السهمان وأخرج منه الخمس فعلى سنتها وما مضى من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيها وقعت المقاسم ومضت السنة في المغازي
ثم بعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سعد بن زيد الأنصاري الأشهلي بسبايا من سبايا بني قريظة إلى نجد فابتاع له بهم خيلا وسلاحا
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد اصطفى لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خنافة من بني عمرو بن قريظة فكانت عنده حتى توفي عنها وهي في ملكه وكان عرض عليها أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب فقالت يا رسول الله بل تتركني في ملكك فهو أخف علي وعليك فتركها
وكانت حين سباها قد تعصت بالإسلام وأبت إلا اليهودية فعزلها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ووجد في نفسه لذلك من أمرها فبينا هو مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه فقال إن هذا لثعلبة بن سعيه يبشرني بإسلام ريحانة
فجاءه فقال يا رسول الله قد أسلمت ريحانة
فسره ذلك من أمرها
وأنزل الله عز وجل في أمر الخندق وبني قريظة القصة في سورة الأحزاب يذكر فيها ما نزل بهم من البلاء ويذكر نعمته عليهم وكفايته إياهم حتى فرج عنهم ذلك
يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا الأحزاب 9 - 12 في آيات استوفى فيها تعالى ذكر ما شاء من قصتهم
(2/119)
ثم قال سبحانه ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤوها وكان الله على كل شيء قديرا الأحزاب 24 - 27
فلما انقضى شأن بني قريظة انفجر بسعد بن معاذ جرحه فمات شهيدا يرحمه الله
فذكروا أن جبريل أتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين قبض سعد من جوف الليل معتجرا بعمامة من استبرق فقال يا محمد من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء واهتز له العرش فقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سريعا يجر ثوبه إلى سعد بن معاذ فوجده قد مات
وقد كان سعد رجلا بادنا فلما حمله الناس وجدوا له خفة فقال رجال من المنافقين والله إن كان لبادنا وما حملنا من جنازة أخف منه
فبلغ ذلك رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال إن له حملة غيركم والذي نفس محمد بيده لقد استبشرت الملائكة بروح سعد واهتز له العرش
وقالت عائشة رضي الله عنها لأسيد بن حضير وهو قافل معها من مكة وبلغه موت امرأة له فحزن عليها بعض الحزن يغفر الله لك أبا يحيى أتحزن على امرأة وقد أصبت بابن عمك وقد اهتز له العرش تعني سعدا
وقال جابر بن عبد الله لما دفن سعد ونحن مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سبح رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فسبح الناس معه وكبر فكبر الناس معه فقالوا يا رسول الله مم سبحت قال لقد تضايق على هذا الرجل الصالح قبره حتى فرجه الله عنه
ويروى أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال إن للقبر لضمة لو كان أحد منها ناجيا لكان سعد بن معاذ
ولسعد يقول رجل من الأنصار
وما اهتز عرش الله من موت هالك
سمعنا به إلا لسعد أبي عمرو
وقالت أم سعد حين احتمل نعشه وهي تبكيه
ويل أم سعد سعدا
صرامة وحدا
وسؤددا ومجدا
وفارسا معدا
سد به مسدا
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كل نائحة تكذب إلا نائحة سعد بن معاذ
وقال حسان بن ثابت يبكي سعدا
لقد سجمت من فيض عيني عبرة
وحق لعيني أن تفيض على سعد
قتيل ثوي في معرك فجعت به
(2/120)
عيون ذواري الدمع دائمة الوجد
على ملة الرحمن وارث جنة
مع الشهداء وفدها أكرم الوفد
فإن تك قد ودعتنا وتركتنا
وأمسيت في غبراء مظلمة اللحد
فأنت الذي يا سعد أبت بمشهد
كريم وأثواب المكارم والحمد
بحكمك في حبي قريظة بالذي
قضي الله فيهم ما قضيت على عمد
فوافق حكم الله حكمك فيهم
ولم تعف إذ ذكرت ما كان من عهد
فإن كان ريب الدهر أمضاك في الألى
شروا هذه الدنيا بجناتها الخلد
فنعم مصير الصادقين إذا دعوا
إلى الله يوما للوجاهة والقصد
الطويل
وقال حسان يبكي سعدا ورجالا من الشهداء من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
ألا يا لقومي هل لما حم دافع
وهل ما مضى من صالح العيش راجع
تذكرت عصرا قد مضى فتهافتت
بنات الحشا وانهل مني المدامع
صبابة وجد ذكرتني إخوة
وقتلى مضي فيها طفيل ورافع
وسعد فأضحوا في الجنان وأوحشت
منازلهم فالأرض منهم بلاقع
وفوا يوم بدر للرسول وفوقهم
ظلال المنايا والسيوف اللوامع
دعا فأجابوه بحق وكلهم
مطيع له في كل أمر وسامع
فما نكلوا حتى تولوا جماعة
ولا يقطع الآجال إلا المصارع
لأنهم يرجون منه شفاعة
إذا لم يكن إلا النبيين شافع
فذلك يا خير العباد ملاذنا
إجابتنا لله والموت ناقع
لنا القدم الأولى إليك وخلفنا
لأولنا في ملة الله تابع
ونعلم أن الملك لله وحده
وأن قضاء الله لا بد واقع
الطويل
ولم يستشهد من المسلمين يوم الخندق إلا ستة نفر كلهم من الأنصار سعد ابن معاذ وأنس بن أوس بن عتيك وعبد الله بن سهل الأشهليون والطفيل ابن النعمان وثعلبة بن غنمة الجشميان
ومن بني دينار بن النجار كعب بن زيد أصابه سهم غرب فقتله رحمة الله عليهم
واستشهد يوم بني قريظة من المسلمين خلاد بن سويد من بني الحارث بن الخزرج طرحت عليه رحي فشدخته شدخا شديدا فزعموا أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال إن له لأجر شهيدين
ومات أبو سنان بن محصن أخو عكاشة بن محصن ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} محاصر بني قريظة
(2/121)
ولما انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا ولكنكم تغزونهم
فكان كذلك لم تغزهم قريش بعد ذلك وكان هو {صلى الله عليه وسلم} يغزوهم حتى فتح الله عليه مكة
وقال حسان بن ثابت في يوم الخندق يجيب عبد الله بن الزبعري شاعر قريش عن كلمة قالها في ذلك
هل رسم دارسة المقام بباب
متكلم لمحاور بجواب
قفر عفارهم السحاب رسومه
وهبوب كل مظلة مرباب
ولقد رأيت بها الحلول يزينهم
بيض الوجوه ثواقب الأحساب
فدع الديار وذكر كل خريدة
بيضاء آنسة الحديث كعاب
واشك الهموم إلى الإله وما ترى
من معشر ظلموا الرسول غضاب
ساروا بجمعهم إليه وألبوا
أهل القرى وبوادي الأعراب
جيش عيينة وابن حرب فيهم
متخطمين بحلية الأحزاب
حتى إذا وردوا المدينة وارتجوا
قتل الرسول ومغنم الأسلاب
وغدوا علينا قادرين بأيدهم
ردوا بغيظهم على الأعقاب
بهبوب معصفة تفرق جمعهم
وجنود ربك سيد الأرباب
وكفى الإله المؤمنين قتالهم
وأثابهم في الأجر خير ثواب
من بعد ما قنطوا ففرق جمعهم
تنزيل نصر مليكنا الوهاب
وأقر عين محمد وصحابه
وأذل كل مكذب مرتاب
عاتي الفؤاد موقع ذي ريبة
في الكفر ليس بطاهر الأثواب
علق الشقاء بقلبه ففؤاده
في الكفر آخر هذه الأحقاب
الكامل
وقال كعب بن مالك في ذلك أيضا يجيب ابن الزبعري عن كلمته
أبقي لنا حدث الحروب بقية
من خير نحلة ربنا الوهاب
بيضاء مشرقة الذري ومعاطنا
حم الجذوع غزيرة الأحلاب
كاللوب يبذل جمها وحفيلها
للجار وابن العم والمنتاب
ونزائعا مثل السراج نمى بها
علف الشعير وجزة المقضاب
عري الشوى منها وأردف نحضها
جرد المتون وسار في الآراب
قودا تراح إلى الصياح إذا غدت
فعل الضراء تراح للكلاب
وتحوط سائمة الذمار وتارة
تردي العدى وتؤوب بالأسلاب
يعدون بالزغف المضاعف شكه
وبمترصات في الثقاف صياب
وصوارم نزع الصياقل غلبها
وبكل أروع ماجد الأنساب
يصل اليمين بمارن متقارب
وكلت وقيعته إلى خباب
وكتيبة ينفي القران قتيرها
وترد حد قواجز النشاب
(2/122)
أعيت أبا كرب وأعيت تبعا
وأبت بسالتها على الأعراب
ومواعظ من ربنا نهدي بها
بلسان أزهر طيب الأثواب
عرضت علينا فاشتهينا ذكرها
من بعد ما عرضت على الأحزاب
حكما يراها المحرمون بزعمهم
حرجا ويفهمها ذوو الألباب
جاءت سخينة كي تغالب ربها
وليغلبن مغالب الغلاب
الكامل
ولما قال كعب بن مالك هذا البيت جاءت سخينة إلى آخره
قال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لقد شكرك الله يا كعب على قولك هذا
لقد علم الأحزاب حين تألبوا
علينا وراموا ديننا ما نوادع
أضاميم من قيس بن عيلان أصفقت
وخندف لم يدروا بما هو واقع
يذودوننا عن ديننا ونذودهم
عن الكفر والرحمن راء سامع
إذا غايظونا في مقام أعاننا
على غيظهم نصر من الله واسع
وذلك حفظ الله فينا وفضله
علينا ومن لم يحفظ الله ضائع
هدانا لدين الحق واختاره لنا
ولله فوق الصانعين صنائع
الطويل
وقال كعب أيضا
ألا أبلغ قريشا أن سلعا
وما بين العريض إلى الصماد
نواضح في الحروب مدربات
وخوص بقيت من عهد عاد
رواكد يزجر المران فيها
فليست بالجمام ولا الثماد
بلاد لم تثر إلا لكيما
نجالد إن نشطتم للجلاد
أثرنا سكة الأنباط فيها
فلم نر مثلها جلهات وادي
قصرنا كل ذي حضر وطول
على الغايات مقتدر جواد
أجيبونا إلى ما نجتذيكم
من القول المبين والسداد
وإلا فاصبروا لجلاد يوم
لكم منا إلى شطر المذاد
نصبحكم بكل أخي حروب
وكل مطهم سلس القياد
وكل طمرة خفق حشاها
تدف دفيف صفراء الجراد
وكل مقلص الآراب نهد
تميم الخلق من أخر وهاد
خيول لا تضاع إذا أضيعت
خيول الناس في السنة الجماد
ينازعن الأعنة مصغيات
إذا نادى إلى الفزع المنادي
إذا قالت لنا النذر استعدوا
توكلنا على رب العباد
وقلنا لن يفرج ما لقينا
سوى ضرب القوانس والجهاد
ولم نر عصبة فيمن لقينا
من الأقوام من قار وباد
أشد بسالة منا إذا ما
أردناه وألين في الوداد
إذا ما نحن أشرجنا عليها
جياد الجدل في الأرب الشداد
قذفنا في السوابغ كل صقر
كريم غير معتلث الزناد
ليظهر دينك اللهم إنا
(2/123)
بكفك فاهدنا سبل الرشاد
الوافر
وقال حسان بن ثابت يذكر بني قريظة
تفاقد معشر نصروا قريشا
وليس لهم ببلدتهم نصير
هم أوتوا الكتاب فضيعوه
وهم عمي من التوراة بور
كفرتم بالقران وقد أتيتم
بتصديق الذي قال النذير
فهان على سراة بني لؤي
حريق بالبويرة مستطير
الوافر
ولما سمع ذلك أبو سفيان بن الحارث قال
أدام الله ذلك من صنيع
وحرق في طوائفها السعير
الوافر
في أبيات ذكرها ابن إسحاق لم يأل قائلها أن صدق حسان
وقال في ذلك أيضا جبل بن جوال الثعلبي وبكى النضير وقريظة ونعى على سعد بن معاذ إسلامه مواليه منهم خلاف ما فعل عبد الله بن أبي في بني قينقاع
ألا يا سعد سعد بني معاذ
لما لقيت قريظة والنضير
لعمرك إن سعد بني معاذ
غداة تحملوا لهو الصبور
فأما الخزرجي أبو حباب
فقال لقينقاع لا تسيروا
الوافر
ويقول في آخرها
تركتم قدركم لا شيء فيها
وقدر القوم حامية تفور
فقال سعد حين بلغه هذا الشعر من لقيهم فليحدثهم أنهم خانوا الله ورسوله فأخزاهم الله
مقتل سلام بن أبي الحقيق
وكان سلام بن أبي الحقيق أبو رافع فيمن حزب الأحزاب على رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وكان مما صنع الله به لرسوله أن هذين الحيين من الأنصار الأوس والخزرج كانا يتصاولان مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} تصاول الفحلين لا تصنع الأوس شيئا فيه عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عناء إلا قالت الخزرج والله لا يذهبون بهذه فضلا علينا عند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وفي الإسلام
فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها وإذا فعلت الخزرج شيئا قالت الأوس مثل ذلك
وكانت الأوس قبل أحد قد قتلت كعب بن الأشرف في عداوته لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} وتحريضه عليه فقالت الخزرج والله لا يذهبون بها فضلا علينا أبدا
(2/124)
فتذاكروا بعد أن انقضى شأن الخندق وبني قريظة من رجل لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} في العداوة كابن الأشرف فذكروا ابن أبي الحقيق وهو بخيبر فاستأذنوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في قتله فأذن لهم فخرج إليه من الخزرج من بني سلمة خمسة نفر عبد الله بن عتيك ومسعود بن سنان وعبد الله بن أنيس وأبو قتادة الحارث بن ربعي وخزاعي بن أسود حليف لهم من أسلم
فخرجوا وأمر عليهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عبد الله بن عتيك ونهاهم أن يقتلوا وليدا أو امرأة
فخرجوا حتى إذا قدموا خيبر أتوا دار ابن أبي الحقيق ليلا فلم يدعوا لهم بيتا في الدار إلا أغلقوه على أهله وكان في علية له إليها عجلة فأسندوا فيها حتى قاموا على بابه فاستأذنوا فخرجت عليهم امرأة فقالت من أنتم فقالوا أناس من العرب نلتمس الميرة
قالت ذاكم صاحبكم فادخلوا إليه
قال فلما دخلنا
أغلقنا علينا وعليها الحجرة تخوفا أن يكون دونه مجادلة تحول بيننا وبينه
قال وصاحت امرأته فنوهت بنا وابتدرناه وهو على فراشه بأسيافنا والله ما يدلنا عليه في سواد الليل إلا بياضه كأنه قبطية ملقاة
قال ولما صاحت بنا امرأته جعل الرجل منا يرفع عليها سيفه ثم يذكر نهي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيكف يده ولولا ذلك لفرغنا منها بليل فلما ضربناه بأسيافنا تحامل عليه عبد الله بن أنيس بسيفه في بطنه حتى أنفذه وهو يقول قطني قطني أي حسبي حسبي
قال وخرجنا وكان عبد الله بن عتيك رجلا سيئ البصر فوقع من الدرجة فوثئت يده وثئا شديدا قال ابن هشام ويقال رجله وحملناه حتى نأتي منهرا من عيونهم فندخل فيه
قال وأوقدوا النيران واشتدوا في كل وجه يطلبون حتى إذا يئسوا رجعوا إلى صاحبهم فاكتنفوه وهو يقضي بينهم
فقلنا كيف لنا بأن نعلم أن عدو الله قد مات فقال رجل منا أنا أذهب فأنظر لكم
فانطلق حتى دخل في الناس قال فوجدتها ورجال يهود حوله وفي يدها المصباح تنظر في وجهه وتحدثهم وتقول أما والله لقد سمعت صوت ابن عتيك ثم أكذبت وقلت أني ابن عتيك بهذه البلاد
(2/125)
ثم أقبلت عليه تنظر في وجهه ثم قالت فاظ وإله يهود
فما سمعت من كلمة كانت ألذ إلى نفسي منها
قال ثم جاءنا فأخبرنا الخبر فاحتملنا صاحبنا فقدمنا على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأخبرناه بقتل عدو الله واختلفنا عنده في قتله كلنا ندعيه فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
هاتوا أسيافكم
فجئناه بها فنظر إليها فقال لسيف عبد الله بن أنيس هذا قتله أرى فيه أثر الطعام
وقال حسان بن ثابت يذكر قتل كعب بن الأشرف وقتل سلام بن أبي الحقيق
لله در عصابة لاقيتهم
يا بن الحقيق وأنت يابن الاشرف
يسرون بالبيض الخفاف إليكم
مرحا كأسد في عرين مغرف
حتى أتوكم في محل بلادكم
فسقوكم حتفا ببيض ذفف
مستنصرين لنصر دين نبيهم
مستصغرين لكل أمر مجحف
الكامل
ذكر إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد رضي الله عنهما
حدث عمرو بن العاص رحمه الله قال لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق جمعت رجالا من قريش كانوا يرون رأيي ويسمعون مني فقلت لهم تعلموا والله إني أرى أمر محمد يعلو الأمور علوا منكرا وإني قد رأيت أمرا فما ترون فيه قالوا وماذا رأيت قال رأيت أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا أن نكون تحت يدي محمد وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا فلن يأتينا منهم إلا خير
قالوا إن هذا لرأي
قلت فاجمعوا ما نهدي له وكان أحب ما يهدي إليه من أرضنا الأدم فجمعنا له أدما كثيرا ثم خرجنا حتى قدمنا عليه فو الله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية الضمري بعثه إليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في شأن جعفر وأصحابه قال فدخل عليه ثم خرج من عنده فقلت لأصحابي هذا عمرو بن أمية لو قد دخلت على النجاشي سألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه فإذا فعلت ذلك رأت قريش أني قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد قال فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع فقال لي مرحبا بصديقي أهديت لي من بلدك شيئا قلت نعم أيها الملك قد أهديت لك أدما كثيرا
(2/126)
ثم قربته إليه فأعجبه واشتهاه ثم قلت له أيها الملك إني قد رأيت رجلا خرج من عندك وهو رسول رجل عدو لنا فأعطينيه لأقتله فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا
قال فغضب ثم مد يده وضرب به أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره فلو انشقت لي الأرض لدخلت فيها فرقا منه ثم قلت له أيها الملك والله لو ظننت انك تكره
هذا ما سألتكه قال أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله قلت أيها الملك أكذلك هو قال ويحك يا عمرو أطعني واتبعه فإنه والله لعلى الحق وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده
قلت أفتبايعني له على الإسلام قال نعم
فبسط يده فبايعته على الإسلام
ثم خرجت إلى أصحابي وقد حال رأيي عما كان عليه وكتمت أصحابي إسلامي ثم خرجت عامدا إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لأسلم فلقيت خالد بن الوليد وذلك قبيل الفتح وهو مقبل من مكة فقلت أين يا أبا سليمان قال والله لقد استقام المنسم وإن الرجل لنبي أذهب والله فأسلم حتى متى قلت والله ما جئت إلا لأسلم
فقدمنا المدينة على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فتقدم خالد بن الوليد فأسلم وبايع ثم دنوت فقلت يا رسول الله إني أبايعك على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي ولا أذكر ما تأخر
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يا عمرو بايع فإن الإسلام يجب ما كان قبله وإن الهجرة تجب ما كان قبلها قال فبايعته وانصرفت
وذكر ابن إسحاق عمن لا يتهم أن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار كان معهما أسلم حين أسلما
وذكر غيره أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال حين رآهم رمتكم مكة بأفلاذ كبدها
وحدث الواقدي بإسناد له قال قال عثمان بن طلحة لقيني رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بمكة قبل الهجرة فدعاني إلى الإسلام فقلت يا محمد العجب لك حين تطمع أن أتبعك وقد خالفت قومك وجئت بدين محدث ففرقت جماعتهم وألفتهم وأذهبت بهاءهم
(2/127)
فانصرف وكنا نفتح الكعبة في الجاهلية يوم الاثنين والخميس فأقبل يوما يريد أن يدخل الكعبة مع الناس فغلظت عليه ونلت منه وحلم عني ثم قال يا عثمان لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث
شئت
فقلت لقد هلكت قريش يومئذ وذلت
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بل عمرت وعزت يومئذ
ودخل الكعبة فوقعت كلمته مني موقعا ظننت أن الأمر سيصير إلى ما قال فأردت الإسلام فإذا قومي يزبرونني زبرا شديدا ويزرون برأيي فأمسكت عن ذكره فلما هاجر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى المدينة جعلت قريش تشفق من رجوعه عليها فهم على ما هم عليه حتى جاء النفير إلى بدر فخرجت فيمن خرج من قومنا وشهدت المشاهد كلها معهم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلما دخل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مكة عام القضية غير الله قلبي عما كان عليه ودخلني الإسلام وجعلت أفكر فيما نحن عليه وما نعبد من حجر لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضر وأنظر إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه وظلف أنفسهم عن الدنيا فيقع ذلك مني فأقول ما عمل القوم إلا على الثواب لما يكون بعد الموت
وجعلت أحب النظر إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى أن رأيته خارجا من باب بني شيبة يريد منزلة بالأبطح فأردت أن آتيه وآخذ بيده وأسلم عليه فلم يعزم لي على ذلك وانصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} راجعا إلى المدينة ثم عزم لي على الخروج إليه فأدلجت إلى بطن يأجج فألقى خالد بن الوليد فاصطحبنا حتى نزلنا الهدة فما شعرنا إلا بعمرو بن العاص فانقمعنا عنه وانقمع منا ثم قال أين يريد الرجلان فأخبرناه فقال وأنا أريد الذي تريدان
فاصطحبنا جميعا حتى قدمنا المدينة على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فبايعته على الإسلام وأقمت حتى خرجت معه في غزوة الفتح ودخل مكة فقال لي يا عثمان ايت بالمفتاح فأتيته به فأخذه مني ثم دفعه إلي وقال خذوها تالدة خالدة ولا ينزعها منكم إلا ظالم يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف
(2/128)
قال عثمان فلما وليت ناداني فرجعت إليه فقال ألم يكن الذي قلت لك فذكرت قوله لي قبل الهجرة بمكة لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت فقلت بلى أشهد أنك رسول الله
قال الواقدي فهذا أثبت الوجوه في إسلام عثمان
غزوة بني لحيان
وخرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على رأس ستة أشهر من فتح بني قريظة إلى لحيان يطلبهم بأصحاب الرجيع خبيب وأصحابه وأظهر أنه يريد الشام ليصيب من القوم غرة
فلما انتهى إلى منازلهم بغران وهو واد بين أمج وعسفان وجدهم قد حذروا وتمنعوا في رءوس الجبال
فلما أخطأه من غرتهم ما أراد قال لو أنا هبطنا عسفان لرأي أهل مكة أنا قد جئنا مكة
فخرج في مائتي راكب من أصحابه حتى نزل عسفان ثم بعث فارسين من أصحابه حتى بلغا كراع الغميم ثم كرا وراح رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قافلا
فكان جابر بن عبد الله يقول سمعت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول حين وجه راجعا آيبون تائبون إن شاء الله لربنا حامدون أعوذ بالله من وعثاء السفر وكآبة المنقلب وسوء المنظر في الأهل والمال
غارة عيينة بن حصن على سرح المدينة وخروج النبي {صلى الله عليه وسلم} في أثره وهي غزوة ذي قرد
ولما قدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المدينة من غزوة بني لحيان لم يقم بالمدينة إلا ليال قلائل حتى أغار عيينة بن حصن في جبل من غطفان على لقاح رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالغابة وفيها رجل من بني غفار وامرأة له فقتلوا الرجل واحتملوا المرأة في اللقاح
وكان أول من نذر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي غدا يريد الغابة متوشحا سيفه ونبله ومعه غلام لطلحة بن عبيد الله معه فرس يقوده حتى إذا علا ثنية الوداع نظر إلى بعض خيولهم فأشرف في ناحية سلع ثم صرخ واصباحاه
ثم خرج يشد في آثار القوم وكان مثل السبع حتى لحق القوم فجعل يردهم بالنبل ويقول إذا رمي
خذها وأنا ابن الأكوع
اليوم يوم الرضع
الرجز
فإذا وجهت الخيل نحوه انطلق هاربا ثم عارضهم فإذا أمكنه الرمي رمى ثم قال
خذها وأنا ابن الأكوع
اليوم يوم الرضع
فيقول قائلهم أأكيعنا هو أول النهار
(2/129)
وبلغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} صياح ابن الأكوع فصرخ بالمدينة الفزع الفزع
فترامت الخيل إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فكان أول من انتهى إليه من الفرسان المقداد بن عمرو وهو الذي يقال له المقداد بن الأسود
ثم كان أول فارس وقف على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعد المقداد من الأنصار عباد بن بشر وسعد بن زيد الأشهليان
وأسيد بن ظهير الحارثي يشك فيه وعكاشة بن محصن ومحرز بن نضلة الأسديان وأبو قتادة السلمي وأبو عياش الزرقي
فلما اجتمعوا إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أمر عليهم سعد بن زيد وقال اخرج في طلب القوم حتى ألحقك في الناس
وقال لأبي عياش يا أبا عياش لو أعطيت هذا الفرس رجلا هو أفرس منك فلحق بالناس
قال أبو عياش فقلت يا رسول الله أنا أفرس الناس
ثم ضربت الفرس فوالله ما جرى بي خمسين ذراعا حتى طرحني فعجبت أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول لو أعطيته أفرس منك وأقول أنا أفرس الناس فأعطى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فرس أبي عياش هذا فيما زعموا معاذ بن ماعص أو عائذ بن ماعص فكان ثامنا
فخرج الفرسان في طلب القوم حتى تلاحقوا وكان أول فارس لحق بالقوم محرز بن نضلة الأخرم ويقال له أيضا قمير ولما كان الفزع جال فرس لمحمود بن مسلمة في الحائط وهو مربوط بجذع نخل حين سمع صاهلة الخيل وكان فرسا صنيعا جاما فقال بعض نساء بني عبد الأشهل يا قمير هل لك في أن تركب هذا الفرس فإنه كما ترى ثم تلحق برسول الله {صلى الله عليه وسلم} وبالمسلمين قال نعم فأعطينه إياه فخرج عليه فلم يلبث أن بز الخيل بجمامه حتى أدرك القوم فوقف لهم بين أيديهم ثم قال قفوا بني اللكيعة حتى يلحق بكم من وراءكم من المهاجرين والأنصار وحمل عليه رجل منهم فقتله وجال الفرس فلم يقدر عليه حتى وقف على أرية في بني عبد الأشهل
فقيل إنه لم يقتل من المسلمين يومئذ غيره وقد قيل إنه قتل معه وقاص بن محرز المدلجي
(2/130)
ولما تلاحقت الخيل قتل أبو قتادة حبيب بن عيينة بن حصن وغشاه بردة ثم لحق بالناس وأقبل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في المسلمين فإذا حبيب مسجي ببرد أبي قتادة فاسترجع الناس وقالوا قتل أبو قتادة فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ليس بأبي قتادة ولكنه قتيل لأبي قتادة وضع عليه برده ليعرفوا أنه صاحبه
وأدرك عكاشة بن محصن أوبارا وابنه عمرو بن أوبار وهما على بعير واحد
فانتظمهما بالرمح فقتلهما جميعا واستنقذوا بعض اللقاح
وسار رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى نزل بالجبل من ذي قرد وتلاحق به الناس وأقام عليه يوما وليلة وقال له أبو سلمة بن الأكوع يا رسول الله لو سرحتني في مائة رجل لاستنقذت بقية السرح وأخذت بأعناق القوم فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إنهم الآن ليغبقون في غطفان
فقسم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في أصحابه في كل مائة رجل جزورا
وأقاموا عليها ثم رجع قافلا إلى المدينة
وأفلتت امرأة الغفاري على ناقة من إبل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى قدمت عليه فأخبرته الخبر فلما فرغت قالت يا رسول الله إني قد نذرت لله أن أنحرها إن نجاني الله عليها فتبسم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم قال بئس ما جزيتها أن حملك الله عليها ونجاك بها ثم تنحرينها إنه لا نذر في معصية الله ولا فيما لا تملكين إنما هي ناقة من إبلي ارجعي إلى أهلك على بركة الله
فهذا حديث ابن إسحاق عن غزوة ذي قرد
وخرج مسلم بن الحجاج رحمه الله حديثا في صحيحه بإسناده إلى سلمة بن الأكوع فذكر حديثا طويلا خالف به حديث ابن إسحاق في مواضع منه فمن ذلك أن هذه الغزوة كانت بعد انصراف الرسول {صلى الله عليه وسلم} من الحديبية وجعلها ابن إسحاق قبل ذلك وكذلك فعل ابن عقبة
وفيه أن سلمة بن الأكوع استنقذ سرح رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بجملته قال سلمة فوالله ما زلت أرميهم وأعقر بهم فإذا رجع إلي فارس أتيت شجرة فجلست في أصلها ثم رميته فعقرت به حتى إذا تضايق الجبل فدخلوا في تضايقه علوت الجبل فجعلت أرديهم بالحجارة
قال فما زلت كذلك أتبعهم حتى ما خلق الله من بعير من
(2/131)
ظهر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلا خلفته وراء ظهري وخلوا بيني وبينه ثم اتبعتهم أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة وثلاثين رمحا يستخفون ولا يطرحون شيئا إلا جعلت عليه آراما من الحجارة يعرفها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه حتى أتوا متضايقا من ثنية فإذا هم قد أتاهم فلان بن بدر الفزاري فجلسوا يتضخون أي يتغدون وجلست على رأس قرن
قال الفزاري ما هذا الذي أرى قالوا لقينا من هذا البرح والله ما فارقنا منذ غلس يرمينا حتى انتزع كل شيء في أيدينا
قال فليقم إليه نفر منكم أربعة قال فصعد إلي منهم أربعة في الجبل فلما أمكنوني من الكلام قلت هل تعرفونني قالوا لا ومن أنت قلت أنا سلمة بن الأكوع والذي كرم وجه محمد {صلى الله عليه وسلم} لا أطلب رجلا منكم إلا أدركته ولا يطلبني فيدركني
قال أحدهم أنا أظن ذلك فرجعوا
فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يتخللون الشجر فإذا أولهم الأخرم الأسدي على أثره أبو قتادة الأنصاري وعلى أثره المقداد بن الأسود الكندي فأخذت بعنان الأخرم فولوا مدبرين قلت يا أخرم احذرهم لا يقتطعونك حتى يلحق رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه قال يا سلمة إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر وتعلم أن الجنة حق والنار حق فلا تحل بيني وبين الشهادة
قال فخليته فالتقى هو وعبد الرحمن قال فعقر بعبد الرحمن فرسه وطعنه عبد الرحمن فقتله وتحول على فرسه
ولحق أبو قتادة فارس رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعبد الرحمن فطعنه فقتله فوالذي كرم وجه محمد لتبعتهم أعدو على رجلي حتى ما أرى من ورائي من أصحاب محمد {صلى الله عليه وسلم} ولا غبارهم شيئا حتى يعدلوا قبل غروب الشمس إلى شعب فيه ماء يقال له ذو قرد ليشربوا منه وهم عطاش فنظروا إلي أعدو وراءهم فحلأتهم عنه
فما ذاقوا منه قطرة ويخرجون فيشتدون في ثنية فأعدو فألحق رجلا منهم فأمسكه بسهم في نغض كتفه قلت
خذها وأنا ابن الأكوع
واليوم يوم الرضع
قال يا ثكلته أمه أأكوعه بكرة قلت نعم يا عدو نفسه أكوعه بكرة
(2/132)
قال وأردوا فرسين على ثنية فجئت بهما أسوقهما إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ولحقني عامر بسطيحة فيها مذقة من لبن وسطيحة فيها ماء فتوضأت وشربت ثم أتيت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو على الماء الذي حلأتهم عنه قد أخذ تلك الإبل وكل شيء استنقذته من المشركين وكل رمح وكل بردة وإذا بلال نحر ناقة من الإبل التي استنقذت من القوم وإذا هو يشوي لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} من كبدها وسنامها قلت يا رسول الله خلني فأنتخب من القوم مائة رجل فأتبع القوم فلا يبقى منهم مخبر إلا قتلته
فضحك رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى بدت نواجذه في ضوء النار قال يا سلمة أتراك كنت فاعلا قلت نعم والذي أكرمك قال إنهم الآن ليقرون بأرض غطفان
قال فجاء رجل من غطفان فقال نحر لهم فلان جزورا فلما كشطوا جلدها رأوا غبارا فقالوا إياكم القوم فخرجوا هاربين
فلما أصبحنا قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة وخير رجالنا سلمة
ثم أعطاني رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سهمين سهم الفارس وسهم الراجل فجمعهما لي جميعا
وذكر الزبير بن أبي بكر أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مر في غزوة ذي قرد هذه على ماء يقال له بيسان فسأل عنه فقيل اسمه يا رسول الله بيسان وهو مالح
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لا بل اسمه نعمان وهو طيب
فغير رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الاسم وغير الله تعالى الماء
فاشتراه طلحة بن عبيد الله ثم تصدق به وجاء إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأخبره فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما أنت يا طلحة إلا فياض
فسمي طلحة الفياض
وكان مما قيل من الشعر في يوم ذي قرد قول حسان بن ثابت
أظن عيينة إذ زارها
بأن سوف يهدم منها قصورا
فأكذبت ما كنت صدقته
وقلتم ستغنم أمرا كبيرا
فعفت المدينة إذ زرتها
وآنست للأسد فيها زئيرا
وولوا سراعا كشد النعام
ولم يكشفوا عن ملط حصيرا
أمير علينا رسول المليك
أحبب بذاك إلينا أميرا
رسول نصدق ما جاءه
ونتلو كتابا مضيئا منيرا
المتقارب
وقال كعب بن مالك
أيحسب أولاد اللقيطة أننا
على الخيل لسنا مثلهم في الفوارس
وإنا أناس لا نرى القتل سبة
ولا ننثني عند الرماح المداعس
(2/133)
وإنا لنقري الضيف من قمع الذري
ونضرب رأس الأبلج المتشاوس
نرد كماة المعلمين إذا انتحوا
بضرب يسلي نخوة المتقاعس
بكل فتى حامي الحقيقة ماجد
كريم كسرحان الغضاة مخالس
يذودون عن أحسابهم وتلادهم
ببيض تقد الهام تحت القوانس
فسائل بني بدر إذا ما لقيتهم
بما فعل الإخوان يوم التمارس
إذا ما خرجتم فاصدقوا من لقيتم
ولا تكتموا أخباركم في المجالس
وقولوا زللنا عن مخالب خادر
به وحر في الصدر ما لم يمارس
الطويل
وقال شداد بن عارض الجشمي في يوم ذي قرد لعيينة بن حصن وكان عيينة يكنى أبا مالك
فهلا كررت أبا مالك
وخيلك مدبرة تقتل
ذكرت الإياب إلى عسجد
وهيهات قد بعد المقفل
وضمنت نفسك ذا ميعة
مسح الفضاء إذا يرسل
إذا قبضته إليك الشمال
جاش كما اضطرم المرجل
فلما عرفتم عباد الإله
لم ينظر الآخر الأول
عرفتم فوارس قد عودوا
طراد الكماة إذا أسهلوا
إذا طردوا الخيل تشقي بهم
فضاحا وإن يطردوا ينزلوا
فيعتصموا في سواء المقام
بالبيض أخلصها الصيقل
المتقارب
غزوة بني المصطلق وهي غزوة المريسيع
وغزا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بني المصطلق من خزاعة في شعبان سنة ست وكان بلغه أنهم يجمعون له وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية زوج النبي {صلى الله عليه وسلم}
فلما سمع بهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع فتزاحف الناس واقتتلوا فهزم الله بني المصطلق وقتل من قتل منهم ونفل رسوله أبناءهم ونساءهم وأموالهم
وكان شعار المسلمين في ذلك اليوم يا منصور أمت أمت
وأصاب يومئذ رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت رجلا من المسلمين من بني كلب بن عوف بن عامر بن أمية بن ليث بن بكر يقال له هشام ابن صبابة وهو يرى أنه من العدو فقتله خطأ
فبينا الناس على ذلك الماء وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من غفار يقال له جهجاه بن مسعود يقود فرسه فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهني حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهني يا معشر الأنصار
(2/134)
وصرخ جهجاه يا معشر المهاجرين
فغضب عبد الله بن أبي بن سلول فقال أقد فعلوها قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا والله ما أعدنا وجلابيب قريش هؤلاء إلا كما قال الأول سمن كلبك يأكلك أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل
ثم أقبل على من حضره من قومه وفيهم زيد بن أرقم غلام حدث فقال هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم
وقاسمتموهم أموالكم أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم
فمشي زيد بن أرقم إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأخبره الخبر وذلك عند فراغه من عدوه وعنده عمر بن الخطاب فقال مر به عباد بن بشر فليقتله
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه لا ولكن أذن بالرحيل
وذلك في ساعة لم يكن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يرتحل فيها
فارتحل الناس وقد مشى عبد الله بن أبي إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين بلغه أن زيدا بلغه ما سمع منه فحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلمت به
وكان في قومه شريفا عظيما فقال من حضر من الأنصار من أصحابه يا رسول الله عسى أن يكون الغلام أوهم في حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل
حدبا على ابن أبي ودفعا عنه
فلما استقل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وسار لقيه أسيد بن حضير فحياه بتحية النبوة وسلم عليه ثم قال يا نبي الله والله لرحت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها
فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أو ما بلغك ما قال صاحبكم قال وأي صاحب يا رسول الله قال عبد الله بن أبي
قال وما قال قال زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل
قال فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت هو والله الذليل وأنت العزيز
ثم قال يا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ارفق به فوالله لقد جاء الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه فإنه ليرى أن قد استلبته ملكا
(2/135)
ثم مشى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالناس يومهم ذلك حتى أمسى وليلتهم حتى أصبح وسار يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس ثم نزل بالناس فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياما وإنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس ثم راح بالناس فهبت عليهم ريح شديدة آذتهم وتخوفوها فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لا تخافوها فإنما هبت لموت عظيم من الكفار
فلما قدموا المدينة وجدوا
رفاعة بن زيد بن التابوت أحد بني قينقاع وكان من عظماء يهود وكهفا للمنافقين مات ذلك اليوم
ونزلت السورة التي ذكر الله فيها المنافقين في عبد الله بن أبي ومن كان على مثل أمره
فلما نزلت أخذ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بأذن زيد بن أرقم ثم قال هذا الذي أوفى لله بأذنه
وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي الذي كان من أمر أبيه فأتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه فإن كنت فاعلا فمرني فأنا أحمل إليك رأسه فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني إني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا
وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويؤاخذونه ويعنفونه فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأنهم كيف ترى يا عمر أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله لأرعدت له آنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته فقال عمر قد والله علمت لأمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أعظم بركة من أمري
وقدم مقيس بن صبابة من مكة متظاهرا بالإسلام فقال يا رسول الله جئتك مسلما وجئتك أطلب دية أخي قتل خطأ فأمر له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بدية أخيه هشام بن صبابة فأقام عند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} غير كثير ثم عدا على قاتل أخيه فقتله
ثم خرج إلى مكة مرتدا وقال في شعر له
شفي النفس أن قد بات بالقاع مسندا
تضرج ثوبيه دماء الأخادع
وكانت هموم النفس من قبل قتله
(2/136)
تلم فتحميني وطاء المضاجع
حللت به وترى وأدركت ثؤرتي
وكنت إلى الأوثان أول راجع
ثأرت به فهرا وحملت عقله
سراة بني النجار أرباب فارع
الطويل
وقال أيضا
جللته ضربة باتت لها وشل
من ناقع الجوف يعلوه وينصرم
فقلت والموت يغشاه أسرته
لا تأمنن بني بكر إذا ظلموا
البسيط
وأصاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من بني المصطلق سبيا كثيرا فشا قسمه في المسلمين وكان فيمن أصيب يومئذ من السبايا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن الشماس أو لابن عم له فكاتبته على نفسها
قالت عائشة رضي الله عنها وكانت تعني جويرية امرأة حلوة ملاحة لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه فأتت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} تستعينه في كتابتها فوالله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتي فكرهتها وعرفت أنه سيرى منها ما رأيت فدخلت عليه فقالت يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن الشماس أو لابن عم له فكاتبته على نفسي فجئتك أستعينك على كتابتي
قال فهل لك في خير من ذلك قالت وما هو يا رسول الله قال أقضي كتابتك وأتزوجك
قالت نعم يا رسول الله
قال قد فعلت
وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد تزوج جويرية
فقال الناس أصهار رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فأرسلوا ما بأيديهم قالت فلقد أعتق بتزوجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق فما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها
وبعث إليهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعد إسلامهم الوليد بن عقبة بن أبي معيط فلما
(2/137)
سمعوا به ركبوا إليه فلما سمع بهم هابهم فرجع إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأخبره أن القوم هموا بقتله ومنعوه ما قبلهم من صدقتهم فأكثر المسلمون في ذكر غزوهم حتى هم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بأن يغزوهم فبينا هم في ذلك قدم وفدهم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقالوا يا رسول الله سمعنا برسولك حين بعثته إلينا فخرجنا إليه لنكرمه ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة فانشمر راجعا فبلغنا أنه زعم لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنا خرجنا إليه لنقتله ووالله ما جئنا لذلك
فأنزل الله فيه وفيهم يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين الحجرات 6
هكذا ذكر ابن إسحاق أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعث إلى بني المصطلق بعد إسلامهم الوليد بن عقبة ولم يعين مدة توجيهه إياه إليهم وقد يوهم ظاهره أن ذلك كان بحدثان إسلامهم ولا يصح ذلك إذ الوليد بن مسلمة الفتح وإنما كان الفتح في سنة ثمان بعد غزوة بني المصطلق وإسلامهم بسنتين فلا يكون هذا التوجيه إلا بعد ذلك ولا بد
وقد قال أبو عمر بن عبد البر لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت أن قوله عز وجل إن جاءكم فاسق بنبأ نزلت في الوليد بن عقبة حين بعثه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى بني المصطلق مصدقا والله سبحانه أعلم
وأقبل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من سفره ذلك حتى إذا كان قريبا من المدينة قال أهل الإفك في الصديقة المبرأة المطهرة عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما ما قالوا
فحدثت يرحمها الله قالت كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه
فلما كانت غزوة بني المصطلق أقرع بين نسائه كما كان يصنع فخرج سهمي عليهن معه فخرج بي {صلى الله عليه وسلم}
قالت وكان النساء إذ ذاك إنما يأكلن العلق لم يهبجهن اللحم فيثقلن وكنت إذا رحل لي بعيري
جلست في هودجي ثم يأتي القوم الذين يرحلون لي ويحملونني فيأخذون بأسفل الهودج فيرفعونه فيضعونه على ظهر البعير فيشدونه بحباله ثم يأخذون برأس البعير فينطلقون به
(2/138)
فلما فرغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من سفره ذلك وجه قافلا حتى إذا كان قريبا من المدينة نزل منزلا فبات به بعض الليل ثم أذن في الناس بالرحيل فارتحل الناس وخرجت لحاجتي وفي عنقي عقد لي فيه جزع ظفار فلما فرغت انسل من عنقي ولا أدري فلما رجعت إلى الرحل ذهبت ألتمسه في عنقي فلم أجده وقد أخذ الناس في الرحيل فرجعت إلى مكاني الذي ذهبت إليه فالتمسته حتى وجدته وجاء خلافي القوم الذين كانوا يرحلون لي البعير وقد فرغوا من رحلته فأخذوا الهودج وهم يظنون أني فيه كما كنت أصنع فاحتملوه فشدوه على البعير ولم يشكوا أني فيه ثم أخذوا برأس البعير فانطلقوا به ورجعت إلى العسكر وما فيه داع ولا مجيب قد انطلق الناس قالت فتلففت بجلبابي ثم اضطجعت في مكان وعرفت أنه لو قد افتقدت لرجع إلي
فوالله إني لمضطجعة إذ مر بي صفوان بن المعطل السلمي وكان تخلف عن العسكر لبعض حاجته فلم يبت مع الناس فرأى سوادي فأقبل حتى وقف علي وقد كان يراني قبل أن يضرب علينا الحجاب فلما رآني قال إنا لله وإنا إليه راجعون ظعينة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأنا متلففة في ثيابي
قال ما خلفك رحمك الله قالت فما كلمته ثم قرب البعير فقال اركبي
واستأخر عني فركبت وأخذ برأس البعير فانطلق سريعا يطلب الناس فوالله ما أدركنا الناس وما افتقدت حتى أصبحت ونزل الناس فلما اطمأنوا طلع الرجل يقودني فقال أهل الإفك ما قالوا
فارتعج العسكر ووالله ما أعلم بشيء من ذلك
ثم قدمنا المدينة فلم ألبث أن اشتكيت شكوا شديدا لا يبلغني من ذلك شيء وقد انتهى الحديث إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وإلى أبوي لا يذكرون لي منه قليلا ولا كثيرا إلا أني قد أنكرت من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعض لطفه بي كنت إذا اشتكيت رحمني ولطف بي فلم يفعل ذلك في شكوي ذلك فأنكرت ذلك
منه كان إذا دخل علي وعندي أمي تمرضني قال كيف تيكم لا يزيد على ذلك حتى وجدت في نفسي حين رأيت ما رأيت من جفائه لي
فقلت يا رسول الله لو أذنت لي فانتقلت إلى أمي فتمرضني قال لا عليك
(2/139)
فانتقلت إلى أمي ولا علم لي بشيء مما كان حتى نقهت من وجعي بعد بضع وعشرين ليلة وكنا قوما عربا لا نتخذ في بيوتنا هذه الكنف التي تتخذ الأعاجم نعافها ونكرهها إنما كنا نذهب في فسح المدينة وإنما كان النساء يخرجن كل ليلة في حوائجهن فخرجت ليلة لبعض حاجتي ومعي أم مسطح بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف وكانت أمها خالة أبي بكر الصديق فوالله إنها لتمشي معي إذ عثرت في مرطها فقالت تعس مسطح
قلت بئس لعمر الله ما قلت لرجل من المهاجرين قد شهد بدرا
قالت أو ما بلغك الخبر يا بنت أبي بكر قلت وما الخبر فأخبرتني بالذي كان من قول أهل الإفك
قلت أوقد كان هذا قالت نعم والله لقد كان
فوالله ما قدرت على أن أقضي حاجتي ورجعت فوالله مازلت أبكي حتى ظننت أن البكاء سيصدع كبدي
وقلت لأمي يغفر الله لك تحدث الناس بما تحدثوا به ولا تذكرين لي من ذلك شيئا قالت أي بنية خفضي عليك الشأن فوالله لقل ما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثرن وكثر الناس عليها
قالت وقد قام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في الناس فخطبهم ولا أعلم بذلك فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس ما بال رجال يؤذونني في أهلي ويقولون عليهم غير الحق والله ما علمت منهم إلا خيرا ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيرا وما يدخل بيتا من بيوتي إلا وهو معي
قالت وكان كبر ذلك عند عبد الله بن أبي في رجال من الخزرج مع الذي قال مسطح وحمنة بنت جحش وذلك أن أختها زينب كانت عند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ولم يكن من نسائه امرأة تناصيني في المنزلة عنده غيرها فأما زينب فعصمها الله بدينها فلم تقل إلا خيرا وأما حمنة فأشاعت من ذلك ما أشاعت تضادني لأختها فشقيت بذلك
فلما قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} تلك المقالة قال أسيد بن حضير يا رسول الله إن يكونوا من الأوس نكفكهم وإن يكونوا من إخواننا من الخزرج فمرنا بأمرك فوالله إنهم لأهل أن تضرب أعناقهم
(2/140)
فقام سعد بن عبادة فقال كذبت لعمر الله لا تضرب أعناقهم أما والله ما قلت هذه المقالة إلا أنك قد عرفت أنهم من الخزرج ولو كانوا من قومك ما قلت هذا
فقال أسيد كذبت لعمر الله ولكنك منافق تجادل عن المنافقين
قالت وتثاور الناس حتى كاد يكون بين هذين الحيين من الأوس والخزرج شر
ونزل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فدعا علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد فاستشارهما فأما أسامة فأثنى خيرا ثم قال يا رسول الله أهلك ولا نعلم منهم إلا خيرا وهذا الكذب والباطل
وأما علي فإنه قال يا رسول الله إن النساء لكثير وإنك لتقدر أن تستخلف وسل الجارية فإنها ستصدقك
فدعا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بريرة ليسألها فقام إليها علي فضربها ضربا شديدا ويقول اصدقي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فتقول والله ما أعلم إلا خيرا وما كنت أعيب على عائشة شيئا إلا أني كنت أعجن عجيني فآمرها أن تحفظه فتنام عنه فتأتي الشاة فتأكله
قالت ثم دخل علي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وعندي أبواي وعندي امرأة من الأنصار فأنا أبكي وهي تبكي معي فجلس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال يا عائشة إنه قد كان ما بلغك من قول الناس فاتقي الله وإن كنت قارفت سوءا مما يقول الناس فتوبي إلى الله فإن الله يقبل التوبة عن عباده
قالت فوالله إن هو إلا أن قال لي ذلك فقلص دمعي حتى ما أحس منه شيئا
وانتظرت أبوي أن يجيبا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلم يتكلما
قالت وأيم الله لأنا كنت أحقر في نفسي وأصغر شأنا من أن ينزل الله في قرآنا يقرأ به في المسجد ويصلى به ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
في منامه شيئا يكذب الله به عني لما يعلم من براءتي أو يخبر خبرا فأما قرآن ينزل في فوالله لنفسي كانت أحقر عندي من ذلك
قالت فلما لم أر أبوي يتكلمان قلت لهما ألا تجيبان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقالا والله ما ندري بماذا نجيبه
قالت ووالله ما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على آل أبي بكر في تلك الأيام
(2/141)
قالت فلما استعجما علي استعبرت فبكيت ثم قلت والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبدا والله إني لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس والله يعلم أني منه بريئة لأقولن ما لم يكن ولئن أنا أنكرت ما يقولون لا تصدقونني ثم التمست اسم يعقوب فما أذكره فقلت ولكني سأقول كما قال أبو يوسف فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون يوسف 18
قالت فوالله ما برح رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مجلسه حتى تغشاه من الله ما كان يتغشاه فسجي بثوبه ووضعت له وسادة من أدم تحت رأسه فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت فوالله ما فزعت ولا باليت قد عرفت أني بريئة وأن الله غير ظالمي وأما أبواي فوالذي نفس عائشة بيده ما سري عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقا من أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس
ثم سري عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فجلس وإنه ليتحدر منه مثل الجمان وفي يوم شات فجعل يمسح العرق عن جبينه ويقول أبشري يا عائشة فقد أنزل الله براءتك قلت بحمد الله
ثم خرج إلى الناس فخطبهم وتلا عليهم ما أنزل الله عليه من القرآن في ذلك ثم أمر بمسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش وحسان بن ثابت وكانوا ممن أفصح بالفاحشة فضربوا حدهم
قالت فلما نزل القرآن ذكر من قال من الفاحشة ما قال من أهل الإفك فقال إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم النور 11 قيل إنه حسان بن ثابت وأصحابه ويقال عبد الله بن أبي وأصحابه
ثم قال لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين أي هلا قلتم إذ سمعتموه كما قال أبو أيوب الأنصاري وصاحبته أم أيوب وذلك أنها قالت لزوجها يا أبا أيوب ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة قال بلى وذلك الكذب أكنت يا أم أيوب فاعلته قالت لا والله ما كنت لأفعله
قال فعائشة والله خير منك
(2/142)
ثم قال تعالى إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم
فلما نزل هذا في عائشة وفيمن قال لها ما قال قال أبو بكر رحمه الله وكان ينفق على مسطح لقرابته وحاجته والله لا أنفق على مسطح أبدا ولا أنفعه بنفع أبدا بعد الذي قال لعائشة وأدخل علينا
قالت فأنزل الله في ذلك ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم النور 22 قالت فقال أبو بكر بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي
فرجع إلى مسطح نفقته التي كان ينفق عليه وقال والله لا أنزعها منه أبدا
وذكر ابن إسحاق أن حسان بن ثابت مع ما كان منه في صفوان بن المعطل من القول السيء قال مع ذلك شعرا يعرض فيه بصفوان ومن أسلم من مضر يقول فيه
أمسى الجلابيب قد عزوا وقد كثروا
وابن الفريعة أمسى بيضة البلد
البسيط
فلما بلغ ذلك ابن المعطل اعترض حسان بن ثابت فضربه بالسيف ثم قال
تلق ذباب السيف عني فإنني
غلام إذا هوجيت لست بشاعر
الطويل
فوثب عند ذلك ثابت بن قيس بن شماس على صفوان فجمع يديه إلى عنقه
بحبل ثم انطلق به إلى دار بني الحارث بن الخزرج فلقيه عبد الله بن رواحة فقال ما هذا قال أما أعجبك ضرب حسان بالسيف والله ما أراه إلا قد قتله
فقال له ابن رواحة هل علم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بشيء مما صنعت قال لا والله
قال لقد اجترأت أطلق الرجل
فأطلقه
ثم أتوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فذكروا ذلك له فدعا حسان وصفوان فقال صفوان يا رسول الله آذاني وهجاني فاحتملني الغضب فضربته
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لحسان يا حسان أتشوهت على قومي أن هداهم الله للإسلام ثم قال أحسن يا حسان في الذي أصابك
قال هي لك
فأعطاه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عوضا منها بئر حاء ماء كان لأبي طلحة بالمدينة فتصدق به إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ليضعه حيث شاء فأعطاه حسان في ضربته وأعطاه سيرين أمة قبطية ولدت له ابنه عبد الرحمن
(2/143)
وقد روي من وجوه أن إعطاء رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إياه سيرين إنما كان لذبه بلسانه عن النبي {صلى الله عليه وسلم}
والله تعالى أعلم
وكانت عائشة رحمها الله تقول لقد سئل عن ابن المعطل فوجدوه حصورا لا يأتي النساء ثم قتل بعد ذلك شهيدا
وقال بعد ذلك حسان يمدح عائشة رضي الله عنها ويعتذر من الذي كان في شأنها
حصان رزان ما تزن بريبة
وتصبح غرثي من لحوم الغوافل
عقيلة حي من لؤي بن غالب
كرام المساعي مجدهم غير زائل
مهذبة قد طيب الله جنبها
وطهرها من كل سوء وباطل
فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتم
فلا رفعت سوطي إلي أناملي
وكيف وودي ما حييت ونصرتي
لآل رسول الله زين المحافل
له رتب عال على الناس كلهم
تقاصر عنه سورة المتطاول
فإن الذي قد قيل ليس بلائط
ولكنه قول امرئ بي ماحل
الطويل
وقال قائل من المسلمين في ضرب حسان وصاحبيه في فريتهم على عائشة رضي الله عنها
لقد ذاق حسان الذي كان أهله
وحمنة إذا قالوا هجيرا ومسطح
تعاطوا برجم الغيب زوج نبيهم
وسخطة ذي العرش الكريم فأترحوا
وآذوا رسول الله فيها فجللوا
مخازي تبقى عمموها وفضحوا
وصبت عليهم محصدات كأنها
شآبيب قطر من ذرى المزن تسفح
الطويل
وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر الحافظ أن قوما أنكروا أن يكون حسان خاض في الإفك أو جلد فيه ورووا عن عائشة رحمها الله أنها برأته من ذلك ثم ذكر عن الزبير بن بكار وغيره أن عائشة كانت في الطواف مع أم حكيم بنت خالد بن العاص وابنة عبد الله بن أبي ربيعة فتذاكرن حسان فابتدرتاه بالسب فقالت لهما عائشة ابن الفريعة تسبان إني لأرجو أن يدخله الله الجنة بذبة عن النبي {صلى الله عليه وسلم} بلسانه أليس القائل
هجوت محمدا فأجبت عنه
وعند الله في ذاك الجزاء
فإن أبي ووالده وعرضي
لعرض محمد منكم وقاء
الوافر
فقالتا لها أليس ممن لعنه الله في الدنيا والآخرة بما قال فيك قلت لم يقل شيئا ولكنه القائل
حصان رزان ما تزن بريبة
وتصبح غرثي من لحوم الغوافل
فإن كان ما قد قيل عني قلته
فلا رفعت سوطي إلي أناملي
الطويل
(2/144)
غزوة الحديبية
وخرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في ذي القعدة من سنة ست معتمرا لا يريد حربا واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه وهو يخشى من قريش الذي صنعوا أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت
فأبطأ عليه كثير من الأعراب وخرج بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب وساق معه الهدى وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه وليعلم أنه إنما خرج زائرا لهذا البيت ومعظما له
حتى إذا كان بعسفان لقيه بسر بن سفيان الكعبي فقال يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجوا معهم العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور وقد نزلوا بذي طوى يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموها إلى كراع الغميم
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة فما تظن قريش فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة
ثم قال من رجل يخرج بنا على غير طريقهم فقال رجل من أسلم أنا فسلك بهم طريقا وعرا أجرل بين شعاب فلما خرجوا منه وقد شق عليهم وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قولوا نستغفر الله ونتوب إليه
فقالوا ذلك فقال والله إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها
فأمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الناس فقال اسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمص في طريق تخرج على ثنية المرار فهبط الحديبية من أسفل مكة
فسلك الجيش ذلك الطريق فلما رأت خيل قريش هذه الجيش قد خالفوا عن طريقهم وكفوا راجعين إلى قريش وخرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى إذا سلك في ثنية المزار بركت ناقته فقال الناس خلأت
فقال ما خلأت وما هو لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة
(2/145)
لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسلون فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها ثم قال للناس انزلوا
قيل يا رسول الله ما بالوادي ماء ننزل عليه
فأخرج {صلى الله عليه وسلم} سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه فنزل في قليب من تلك القلب فغرزه في جوفه فجاش بالرواء حتى ضرب الناس عنه بعطن
فلما اطمأن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أتاه بديل بن ورقاء في رجال من خزاعة فكلموه وسألوه ما الذي جاء به فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربا وإنما جاء زائرا للبيت ومعظما لحرمته ثم قال لهم نحوا مما قال لبسر بن سفيان فرجعوا إلى قريش فقالوا إنكم تعجلون على محمد إن محمدا لم يأت لقتال إنما جاء زائرا لهذا البيت
فاتهموهم وجبهوهم وقالوا إن كان جاء ولا يريد قتالا فوالله لا يدخلها علينا عنوة أبد ولا تحدث بذلك عنا العرب
ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص بن الأخيف أخا بني عامر بن لؤي فلما رآه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مقبلا قال هذا رجل غادر
فلما انتهى إليه وكلمه قال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نحوا مما قال لبديل وأصحابه
فرجع إلى قريش فأخبرهم
ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة أو ابن زبان أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة وكان يومئذ سيد الأحابيش فلما رآه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه
فلما رأى الهدى يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إعظاما لما رأى فقال لهم ذلك فقالوا له اجلس
فإنما أنت أعرابي لا علم لك فغضب الحليس عند ذلك وقال يا معشر القوم والله ما على هذا حالفناكم وما على هذا عاقدناكم أيصد عن بيت الله من جاء معظما له والذي نفس الحليس بيده
لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد
فقالوا له كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به
(2/146)
ثم بعثوا إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عروة بن مسعود الثقفي فقال يا معشر قريش إني قد رأيت ما يلقي منكم من بعثتموه إلى محمد إذا جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ وقد عرفت أنكم والد وأني ولد وكان لسبيعة بنت عبد شمس وقد سمعت بالذي نابكم فجمعت من أطاعني من قومي ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسي
قالوا صدقت ما أنت عندنا بمتهم
فخرج حتى أتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فجلس بين يديه ثم قال يا محمد أجمعت أوشاب الناس ثم جئت إلى بيتك لتقضها بهم إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدا وأيم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك
فرد عليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقال أنحن ننكشف عنه ثم جعل عروة يتناول لحية رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو يكلمه والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في الحديد فجعل يقرع يده إذا فعل ذلك ويقول اكفف يدك عن وجه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قبل أن لا تصل إليك
فيقول عروة ويحك ما أفظك وأغلظك
فتبسم رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فقال من هذا يا محمد قال هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة
قال أي غدر هل غسلت سوءتك إلا بالأمس يريد أن المغيرة كان قتل قبل إسلامه ثلاثة عشر رجلا من ثقيف فتهايج الحيان من ثقيف بنو مالك رهط المقتولين والأحلاف رهط المغيرة فودى عروة المقتولين ثلاث عشرة دية وأصلح ذلك الأمر
وكلم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عروة بنحو مما كلم به أصحابه وأخبره أنه لم يأت يريد حربا فقام من عنده وقد رأى ما يصنع به أصحابه لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه فرجع إلى قريش فقال يا معشر قريش إني قد جئت كسرى في ملكه
وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه وإني والله ما رأيت ملكا في قوم قط مثل محمد في أصحابه ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا فروا رأيكم
(2/147)
ودعا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خراش بن أمية الخزاعي فحمله على بعير له وبعثه إلى قريش ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له فعقروا به الجمل وأرادوا قتله فمنعته الأحابيش فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وبعثت قريش أربعين رجلا أو خمسين وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ليصيبوا لهم من أصحابه أحدا فأخذوا أخذا فأتى بهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فخلى سبيله
ثم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له فقال يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها ولكني أدلك على رجل أعز بها مني عثمان بن عفان
فدعا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عثمان فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب وأنه إنما جاء زائرا لهذا البيت ومعظما لحرمته فخرج عثمان إلى مكة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها فحمله بين يديه ثم أجاره
وقال له فيما ذكره غير ابن إسحاق أقبل وأدبر ولا تخف أحدا بنو سعيد أعزه الحرم
فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما أرسله به فقالوا له حين فرغ إن شئت أن تطوف بالبيت فطف
قال ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فاحتبسته قريش عندها فبلغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} والمسلمين أن عثمان قد قتل فقال حين بلغه ذلك لا نبرح حتى نناجز القوم
ودعا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الناس إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة
فكان الناس يقولون بايعهم على الموت
وكان جابر يقول بايعنا على ألا نفر
فبايع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الناس ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس لصق بإبط ناقته يستتر بها من الناس
ثم أتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن الذي كان من أمر عثمان باطل
وقد كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بايع لعثمان ضرب بإحدى يديه على الأخرى وقال هذه يد عثمان
(2/148)
ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو وقالوا إيت محمدا فصالحه ولا يكون في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا فوالله لا تحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة أبدا
فأتى سهيل فلما رآه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مقبلا قال قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل
فلما انتهى إليه سهيل تكلم فأطال الكلام وتراجعا ثم جرى بينهما الصلح
فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب وثب عمر بن الخطاب فأتى أبا بكر فقال يا أبا بكر أليس برسول الله قال بلى
قال أولسنا بالمسلمين قال بلى
قال أوليسوا بالمشركين قال بلى
قال فعلام نعطي الدنية في ديننا قال أبو بكر يا عمر الزم غرزه فإني أشهد أنه رسول الله
قال عمر وأنا أشهد أنه رسول الله
ثم أتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال يا رسول الله ألست برسول الله قال بلى
قال أولسنا بالمسلمين قال بلى
قال أو ليسوا بالمشركين قال بلى
قال فعلام نعطي الدنية في ديننا قال أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني
فكان عمر يقول مازلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به حين رجوت أنه يكون خيرا
ثم دعا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل بن عمرو لا أعرف هذا ولكن اكتب باسمك
اللهم
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اكتب باسمك اللهم
فكتبها ثم قال اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو
فقال سهيل لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو
اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه وأن بيننا عيبة مكفوفة وأنه لا إسلال ولا إغلال وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه
فتواثبت خزاعة فقالوا نحن في عقد محمد وعهده
(2/149)
وتواثبت بنو بكر فقالوا نحن في عقد قريش وعهدهم
وأنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنها فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاث معك سلاح الراكب السيوف في القرب لا تدخلها بغيرها
فبينا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو إذ جاء أبو جندل ابن عمرو ويرسف في الحديد قد انفلت إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وقد كان أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خرجوا وهم لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع وما يحمل عليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في نفسه دخل الناس من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون
فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلبيبه ثم قال يا محمد قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا
قال صدقت
فجعل ينتره بتلبيبه ويجره ليرده إلى قريش وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين يفتنوني في ديني فزاد الناس ذلك إلى ما بهم
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يا أبا جندل اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك
ولمن معك من المسلمين فرجا ومخرجا إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله وإنا لا نغدرهم
فوثب عمر بن الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول اصبر يا أبا جندل فإنما هم المشركون وإنما دم أحدهم دم كلب ويدني قائم السيف منه يقول عمر رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه فضن الرجل بأبيه ونفذت القضية
فلما فرغ من الكتاب أشهد رجالا من المسلمين ورجالا من المشركين أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن سهيل بن عمرو وسعد بن أبي وقاص ومحمود بن مسلمة ومكرز بن حفص وهو مشرك وعلي بن أبي طالب وهو كان كاتب الصحيفة
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مضطربا في الحل وكان يصلي في الحرم فلما فرغ من الصلح قام إلى هديه فنحره ثم جلس فحلق رأسه وأهدى عامئذ في هداياه جملا لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ بذلك المشركين
(2/150)
فلما رآه الناس قد نحر وحلق تواثبوا ينحرون ويحلقون وكان فيهم يومئذ من قصر فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يرحم الله المحلقين
قالوا والمقصرين يا رسول الله قال يرحم الله المحلقين
قالوا والمقصرين يا رسول الله قال يرحم المحلقين
قالوا والمقصرين يا رسول الله قال والمقصرين
فقالوا يا رسول الله فلم ظاهرت الترحيم للمحلقين دون المقصرين قال لم يشكوا
ثم انصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من وجهه ذلك قافلا حتى إذا كان بين مكة والمدينة نزلت سورة الفتح إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما
ثم ذكر القصة فيه وفي أصحابه حتى إذا انتهى إلى ذكر البيعة فقال إن
الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما )
ثم ذكر من تخلف عنهم من الأعراب فاستوفى قصتهم
ثم قال لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فجعل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقيما وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شيء قديرا
ثم قال وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا يعني النفر الذين وجهت قريش بهم ليصيبوا من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أحدا فلم ينالوا شيئا وأخذوا لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} بجملتهم وسيقوا إليه فخلى سبيلهم
ثم قال بعد إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية يعني سهيل بن عمرو حين حمي أن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم
وأن محمدا رسول الله فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها أي التوحيد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله
(2/151)
ثم قال لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا أي لرؤيا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} التي رأى أنه سيدخل مكة آمنا لا يخاف
وقد قال لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} لما قدم المدينة بعض من كان معه ألم تقل يا رسول الله أنك تدخل مكة آمنا قال بلى قال أفقلت لكم من عامي هذا قالوا لا
قال فهو كما قال لي جبريل فحقق له سبحانه من موعده ما أنجزه له بعد وصدقه بقوله جل قوله لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين معه فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا صلح الحديبية
يقول الزهري فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه إنما كان القتال حيث التقى الناس فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب وأمن الناس كلهم بعضهم بعضا والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه فلقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر
قال ابن هشام والدليل على ما قال الزهري أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة في قول جابر بن عبد الله ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف
وذكر ابن عقبة أنه لما كان صلح الحديبية قال رجال من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما هذا بفتح لقد صددنا عن البيت وصد هدينا
فبلغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قول أولئك فقال بئس الكلام هذا بل هو أعظم الفتوح قد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألوكم القضية ويرغبوا إليكم في الأمان وقد رأوا منكم ما كرهوا وأظفركم الله عليهم وردكم سالمين مأجورين فهو أعظم الفتوح أتنسون يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم
أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا فقال المسلمون صدق الله ورسوله فهو أعظم الفتوح والله ما فكرنا فيما فكرت فيه ولأنت أعلم بالله وأمره منا
(2/152)
وفي الصحيح من حديث سهل بن حنيف أنه قال يوم صفين يا أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لرددته والله ورسوله أعلم
وخرج البخاري من حديث البراء بن عازب قال تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية كنا مع
رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أربع عشرة مائة والحديبية بئر فنزحناها فلم نترك فيها قطرة فبلغ ذلك النبي {صلى الله عليه وسلم} فأتاها فجلس على شفيرها ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ثم مضمض ودعا ثم صبه فيها فتركناها غير بعيد ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابنا
وعن سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد الله قال عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} بين يديه ركوة فتوضأ منها ثم أقبل الناس نحوه فقالوا يا رسول الله ليس عندنا ماء نتوضأ به ولا نشرب إلا ما في ركوتك
قال فوضع النبي {صلى الله عليه وسلم} يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون
قال فشربنا وتوضأنا فقلت لجابر كم كنتم يومئذ قال لو كنا مائة ألف لكفانا كنا خمس عشرة مائة
وذكر ابن عقبة عن ابن عباس قال لما رجع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من الحديبية كلمه بعض أصحابه فقالوا جهدنا وفي الناس ظهر فانحره لنا فلنأكل من لحومه ولندهن من شحومه ولنحتذ من جلوده
فقال عمر لا تفعل يا رسول الله فإن الناس إن يكن فيهم بقية ظهر أمثل
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ابسطوا أنطاعكم وعباءكم ففعلوا ثم قال من كان عنده بقية من زاد وطعام فلينثره ودعا لهم ثم قال لهم قربوا أوعيتكم
فأخذوا ما شاءوا
(2/153)
قال ابن إسحاق ولما قدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المدينة يعني من الحديبية أتاه أبو بصير عتبة بن أسيد بن حارثة وكان ممن حبس بمكة فكتب فيه أزهر بن عبد عوف والأخنس بن شريق إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وبعثا رجلا من بني عامر بن لؤي ومعه مولى لهم فقدما على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالكتاب فقال {صلى الله عليه وسلم} يا أبا بصير إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ولا يصلح لنا في ديننا الغدر وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا
فانطلق معهما حتى إذا كان بذي الحليفة جلس إلى جدار وجلس معه صاحباه فقال أبو بصير
أصارم سيفك هذا يا أخا بني عامر فقال نعم
قال أنظر إليه قال إن شئت فاستله أبو بصير ثم علاه به حتى قتله
وذكر ابن عقبة أن الرجل هو الذي سل سيفه ثم هزه فقال لأضربن بسيفي هذا في الأوس والخزرج يوما إلى الليل فقال له أبو بصير وصارم سيفك هذا فقال نعم
فقال ناولنيه أنظر إليه فناوله إياه فلما قبض عليه ضربه به حتى برد
قال ويقال بل تناول أبو بصير سيف الرجل بفيه وهو نائم فقطع إساره ثم ضربه به حتى برد وطلب الآخر فجمز مرعوبا مستخفيا حتى دخل المسجد ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} جالس فيه يطن الحصباء من شدة سعيه فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين رآه لقد رأى هذا ذعرا
قال ابن إسحاق فلما انتهى إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال ويحك مالك قال قتل صاحبكم صاحبي
فوالله ما برح حتى طلع أبو بصير متوشحا السيف فقال يا رسول الله وفت ذمتك وأدى الله عنك أسلمتني بيد القوم وقد امتنعت بديني أن أفتن فيه أو يعبث بي
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ويلمه محش حرب لو كان معه رجال
ثم خرج أبو بصير حتى نزل العيص من ناحية المروة على ساحل البحر بطريق قريش التي كانوا يأخذون إلى الشام وبلغ المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكة قول رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لأبي بصير ويلمه محش حرب لو كان معه رجال فخرجوا إلى أبي بصير بالعيص فاجتمع إليه قريب من سبعين رجلا منهم
(2/154)
وذكر موسى بن عقبة أن أبا جندل بن سهيل بن عمرو الذي رد على قريش مكرها يوم القضية هو الذي انفلت في سبعين راكبا أسلموا وهاجروا فلحقوا بأبي بصير وكرهوا الثواء بين أظهر قومهم فنزلوا مع أبي بصير في منزل كريه إلى قريش فقطعوا مادتهم من طريق الشام
قال وكان أبو بصير زعموا وهو في مكانه ذلك يصلي لأصحابه فلما قدم عليهم أبو جندل كان هو يؤمهم
واجتمع إلى أبي جندل ناس من غفار وأسلم وجهينه وطوائف من العرب حتى بلغوا ثلاثمائة مقاتل وهم مسلمون فأقاموا مع أبي جندل وأبي بصير لا يمر بهم عير لقريش إلا أخذوها وقتلوا أصحابها
وقال في ذلك أبو جندل فيما ذكره غير ابن عقبة
أبلغ قريشا عن أبي جندل
أنا بذي المروة بالساحل
في معشر تخفق أيمانهم
بالبيض فيها والقنا الذابل
يأبون أن يبقى لهم رفقة
من بعد إسلامهم الواصل
أو يجعل الله لهم مخرجا
والحق لا يغلب بالباطل
فيسلم المرء بإسلامه
أو يقتل المرء ولم يأتل
السريع
فأرسلت قريش إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أبا سفيان بن حرب يسألونه ويتضرعون إليه أن يبعث إلى أبي بصير والى أبي جندل بن سهيل ومن معهم فيقدموا عليه وقالوا من خرج منا إليك فأمسكه في غير حرج فإن هؤلاء الركب قد فتحوا علينا بابا لا يصلح إقراره
فلما كان ذلك من أمرهم علم الذين كانوا أشاروا على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يمنع أبا جندل من أبيه بعد القضية أن طاعة رسول الله خير فيما أحبوا وفيما كرهوا وأن رأيه أفضل من رأيهم ومن رأي من ظن أن له قوة ورأيا وعلم أن ما خص الله به نبيه من العون والكرامة أفضل
وكتب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى أبي جندل وأبي بصير يأمرهم أن يقدموا عليه ويأمر من
معهما من المسلمين أن يرجعوا إلى بلادهم وأهليهم ولا يعرضوا لأحد مر بهم من قريش وعيراتها فقدم كتاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} زعموا على أبي جندل وأبي بصير وأبو بصير يموت فمات وكتاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في يده يقترئه
فدفنه أبو جندل مكانه وجعل عند قبره مسجدا
(2/155)
وقدم أبو جندل على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} معه أناس من أصحابه ورجع سائرهم إلى أهليهم وأمنت عيرات قريش
فلم يزل أبو جندل مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وشهد ما أدرك من المشاهد بعد ذلك وشهد الفتح ورجع مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلم يزل معه بالمدينة حتى توفى {صلى الله عليه وسلم} وقدم أبوه سهيل بن عمرو المدينة أول إمارة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فمكث بها أشهرا ثم خرج مجاهدا إلى الشام وخرج معه ابنه أبو جندل فلم يزالا مجاهدين حتى ماتا جميعا هناك يرحمهما الله
وهاجرت إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في تلك المدة أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط فخرج أخواها عمارة والوليد ابنا عقبة حتى قدما على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يسألانه أن يردها عليهما بالعهد الذي بينه وبين قريش في الحديبية فلم يفعل أبى الله ذلك وأنزل فيه على رسوله يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم الممتحنة 9 - 10
غزو خيبر
ولما قدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المدينة من الحديبية مكث بها ذا الحجة منسلخ سنة ست وبعض المحرم من سنة سبع
ثم خرج في بقية منه إلى خيبر غازيا
وكان الله وعده إياها وهو بالحديبية بقوله عز من قائل وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه الفتح 20 يعني بالمعجل صلح الحديبية والمغانم الموعود بها فتح خير
فخرج إليها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مستنجزا ميعاد ربه وواثقا بكفايته ونصره ودفع الراية إلى علي بن أبي طالب وكانت بيضاء فسلك على عصر فبني له فيها مسجدا ثم على الصهباء
(2/156)
ثم أقبل بجيشه حتى نزل به بواد يقال له الرجيع فنزل بينهم وبين غطفان ليحول بينهم وبين أن يمدوا أهل خيبر وكانوا لهم مظاهرين على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فذكر أن غطفان لما سمعت بمنزله من خيبر جمعوا ثم خرجوا ليظاهروا يهود عليه حتى إذا ساروا منقلة سمعوا خلفهم في أموالهم وأهليهم حسا ظنوا أن القوم قد خالفوا إليهم فرجعوا على أعقابهم فأقاموا في أهليهم وأموالهم وخلوا بين رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وخيبر
قال أبو معتب بن عمرو لما أشرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على خيبر قال لأصحابه وأنا فيهم قفوا
ثم قال اللهم رب السموات السبع وما أظللن ورب الأرضين السبع وما أقللن ورب الشياطين وما أضللن ورب الرياح وما أذرين فإنا نسألك
خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها ثم قال أقدموا بسم الله
قال وكان يقولها لكل قرية دخلها
وقال أنس بن مالك كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إذا غزا قوما لم يغر عليهم حتى يصبح فإن سمع أذانا أمسك وإن لم يسمع أذانا أغار فنزلنا خيبر ليلا فبات رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى إذا أصبح لم يسمع أذانا فركب وركبنا معه فركبت خلف أبي طلحة وإن قدمي لتمس قدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} واستقبلنا عمال خيبر غادين قد خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم فلما رأوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} والجيش قالوا محمد والخميس معه
فأدبروا هرابا فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين
(2/157)
قال ابن إسحاق وتدني رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الأموال يأخذها مالا مالا ويفتحها حصنا حصنا فكان أول حصونهم افتتح حصن ناعم وعنده قتل محمود بن مسلمة ألقيت عليه رحى منه فقتلته ثم القموص حصن أبي الحقيق وأصاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} منهم سبايا منهن صفية بنت حيي بن أخطب وكانت عند كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وبنتي عم لها فاصطفى صفية لنفسه بعد أن سأله إياها دحية بن خليفة الكلبي فلما اصطفاها لنفسه أعطاه ابنتي عمها وكان بلال هو الذي جاء بصفية وبأخرى معها فمر بهما على قتلى من قتلى يهود فلما رأتهم التي مع صفية صاحت وصكت وجهها وحثت التراب على رأسها فلما رآها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال أغربوا عني هذه الشيطانة وأمر بصفية فحيزت خلفه وألقى عليها رداؤه فعرف المسلمون أنه قد اصطفاها لنفسه فذكر أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال لبلال حين رأى بتلك اليهودية ما رأى أنزعت منك الرحمة يا بلال حين تمر بامرأتين على قتلى رجالهما
وكانت صفية قد رأت في المنام وهي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي
الحقيق أن قمرا وقع في حجرها فعرضت رؤياها على زوجها فقال ما هذا إلا أنك تمنين ملك الحجاز محمدا فلطم وجهها لطمة حضر عينها منها
فأتي بها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وبها أثر منه فسألها ما هو فأخبرته الخبر
ولما أعرس بها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بخيبر أو ببعض الطريق وبات بها في قبة له بات أبو أيوب الأنصاري متوشحا السيف يحرسه ويطيف بالقبة حتى أصبح رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلما رأى مكانه قال ما لك يا أبا أيوب قال يا رسول الله خفت عليك من هذه المرأة وكانت امرأة قد قتلت أباها وزوجها وقومها وكانت حديثة عهد بكفر فخفتها عليك
فزعموا أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظني
وأتي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بكنانة بن الربيع وكان عنده كنز بني النضير فسأله عنه فجحد أن يكون يعلم مكانه فأتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} برجل من يهود فقال إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لكنانة أرأيت إن وجدناه عندك أقتلك قال نعم
(2/158)
فأمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالخربة فحفرت فأخرج منها بعض كنزهم ثم سأله ما بقي فأبى أن يريه فأمر به الزبير بن العوام فقال عذبه حتى تستأصل ما عنده
فكان الزبير يقدح بزند في صدره حتى أشرف على نفسه ثم دفعه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى محمد بن مسلمة فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة
وفشت السبايا من خيبر في المسلمين وأكل المسلمون لحوم الحمر من حمرها
قال ابن عقبة كانت أرضا وخيمة شديدة الجهد فجهد المسلمون جهدا شديدا وأصابتهم مسغبة شديدة فوجدوا أحمرة إنسية ليهود لم يكونوا أدخلوها
الحصن فانتحروها ثم وجدوا في أنفسهم من ذلك فذكروها لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فنهاهم عن أكلها
قال أبو سليط فيما ذكر ابن إسحاق أتانا نهي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عن أكل لحوم الحمر الإنسية والقدور تفور بها فكفأناها على وجوهها
وذكر أيضا أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قام يومئذ في الناس فنهاهم عن أمور سماها لهم قال مكحول نهاهم يومئذ عن أربع عن إتيان الحبالى من النساء وعن أكل الحمار الأهلي وعن أكل كل ذي ناب من السباع وعن بيع المغانم حتى تقسم
وحدث جابر بن عبد الله ولم يشهد خيبر أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين نهى الناس عن أكل لحوم الحمر أذن لهم في لحوم الخيل
وافتتح رويفع بن ثابت قرية من قرى المغرب يقال لها جربة فقام خطيبا فقال يا أيها الناس إني لا أقول لكم إلا ما سمعت من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول فينا يوم خيبر قام فينا فقال
لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصيب امرأة من السبي حتى يستبرئها ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنما حتى يقسم ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه
وقال عبادة بن الصامت نهانا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يوم خيبر أن نبيع أو نبتاع تبر الذهب بالذهب العين وتبر الفضة بالورق العين وقال ابتاعوا تبر الذهب بالورق العين وتبر الفضة بالذهب العين
(2/159)
ولما أصاب المسلمين بخيبر ما أصابهم من الجهد أتى بنو سهم من أسلم رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فقالوا يا رسول الله لقد جهدنا وما بأيدينا من شيء
فلم يجدوا عند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} شيئا يعطيهم إياه فقال اللهم إنك قد عرفت حالهم وأن
ليست بهم قوة وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم غناء وأكثرها طعاما وودكا
فغدا الناس وفتح الله عليهم حصن الصعب بن معاذ وما بخيبر كان أكثر طعاما وودكا منه
ولما افتتح رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من حصونهم ما افتتح وحاز من الأموال ما حاز انتهوا إلى حصنيهم الوطيح والسلالم وكانا آخر حصون أهل خيبر افتتاحا فحاصرهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بضع عشرة ليلة وخرج مرحب اليهودي من حصنهم قد جمع سلاحه وهو ينادي من يبارز ويرتجز
قد علمت خيبر أني مرحب
شاكي السلاح بطل مجرب
أطعن أحيانا وحينا أضرب
إذا الليوث أقبلت تحرب
إن حماي للحمى لا يقرب
الرجز
فأجابه كعب بن مالك فقال
قد علمت خيبر أني كعب
مفرج الغما جريء صلب
حيث تشب الحرب ثم الحرب
معي حسام كالعقيق عضب
نطؤكم حتى يذل الصعب
نعطي الجزاء أو يفاء النهب
بكف ماض ليس فيه عتب
الرجز
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من لهذا قال محمد بن مسلمة أنا له يا رسول الله أنا والله الموتور الثائر قتل أخي بالأمس
قال فقم إليه اللهم أعنه عليه
فلما دنا أحدهما من صاحبه دخلت بينهما شجرة عمرية من شجر العشر فجعل أحدهما يلوذ بها من صاحبه كلما لاذ بها منه اقتطع صاحبه بسيفه ما دونه منها حتى برز كل واحد منهما لصاحبه وصارت بينهما كالرجل القائم ما فيها فنن ثم حمل مرحب على محمد بن مسلمة فاتقاه بدرقته فوقع سيفه فيها فعضت به فأمسكته وضربه محمد بن مسلمة حتى قتله
ثم خرج بعد مرحب أخوه ياسر وهو يقول من يبارز فخرج إليه الزبير بن العوام فيما ذكر هشام بن عروة فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب يقتل ابني يا رسول الله قال بل ابنك يقتله إن شاء الله
فخرج الزبير فالتقيا فقتله الزبير
(2/160)
وحدث سلمة بن عمرو بن الأكوع قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يوم خيبر لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه ليس بفرار فدعا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو أرمد فتفل في عينيه ثم قال خذ هذه الراية فامض بها حتى يفتح الله عليك
فخرج وهو يهرول بها هرولة وإنا لخلفه نتبع أثره حتى ركز رايته في رضم من حجارة تحت الحصن فاطلع إليه يهودي من رأس الحصن فقال من أنت قال أنا علي بن أبي طالب
قال اليهودي علوتم وما أنزل علي موسى أو كما قال فما رجع حتى فتح الله على يديه
وقال أبو رافع مولى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خرجنا مع علي رضي الله عنه حين بعثه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} برايته فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم فضربه رجل من يهود فطرح ترسه من يده فتناول علي بابا كان عند الحصن فترس به عن نفسه فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه ثم ألقاه من يده حين فرغ فلقد رأيتني في نفر معي سبعة أنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه
وحدث أبو اليسر كعب بن عمرو قال إنا لمع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بخيبر ذات عشية إذا أقبلت غنم لرجل من يهود تريد حصنهم ونحن محاصروهم فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
من رجل يطعمنا من هذه الغنم فقال أبو اليسر أنا يا رسول
الله قال فافعل
قال فخرجت أشتد مثل الظليم فلما رآني رسول الله {صلى الله عليه وسلم} موليا قال اللهم أمتعنا به قال فأدركت الغنم وقد دخلت أولاها الحصن فأخذت شاتين من أخراها فاحتضنتهما تحت يدي ثم أقبلت بهما أشتد كأنه ليس معي شيء حتى ألقيتهما عند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فذبحوهما فأكلوهما
فكان أبو اليسر من آخر أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} موتا فكان إذا حدث هذا الحديث بكى ثم قال أمتعوا بي لعمري حتى كنت من آخرهم
وحاصر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أهل خيبر في حصنيهم الوطيح والسلالم حتى إذا أيقنوا بالهلكة سألوه أن يسيرهم وأن يحقن لهم دماءهم ففعل
(2/161)
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد حاز الأموال كلها الشق ونطاة والكتيبة وجميع حصونهم إلا ما كان من ذينك الحصنين فلما سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا بعثوا إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سألوه أن يسيرهم وأن يحقن لهم دماءهم ويخلوا له الأموال ففعل
فلما نزل أهل خيبر على ذلك سألوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يعاملهم في الأموال على النصف وقالوا نحن أعلم بها منكم وأعمر لها فصالحهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم فصالحه أهل فدك على مثل ذلك فكانت خيبر فيئا بين المسلمين
وكانت فدك خالصة لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب
فلما اطمأن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم شاة مصلية
وقد سألت أي عضو من الشاة أحب إليه فقيل لها الذراع
فأكثرت فيه من السم
ثم سمت سائر الشاة ثم جاءت بها فلما وضعتها بين يديه تناول الذراع فلاك منها مضغة فلم يسغها ومعه بشر بن البراء بن معرور قد أخذ منها كما أخذ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأما بشر فأساغها وأما رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلفظها
ثم قال إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم
ثم دعا بها فاعترفت
فقال ما حملك على ذلك قالت بلغت من قومي ما لم يخف عليك فقلت إن كان ملكا استرحت منه وإن كان نبيا فسيخبر
فتجاوز عنها رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
ومات بشر بن البراء من أكلته التي أكل
وذكر ابن عقبة أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} تناول الكتف من تلك الشاة فانتهش منها وتناول بشر عظما فانتهش منه فلما استرط رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لقمته استرط بشر ما في فيه فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ارفعوا أيديكم فإن كتف هذه الشاة يخبرني أني بغيت فيها
فقال بشر بن البراء والذي أكرمك لقد وجدت ذلك في أكلتي التي أكلت فما منعني أن ألفظها إلا أني أعظمت أن أنغصك طعامك فلما أسغت ما في فيك لم أكن أرغب بنفسي عن نفسك ورجوت أن لا تكون استرطتها وفيها بغي
فلم يقم بشر من مكانه حتى عاد لونه مثل الطيلسان وماطله وجعه حتى كان لا يتحول إلا ما حول
(2/162)
قال جابر بن عبد الله واحتجم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يومئذ على الكاهل حجمه أبو طيبة مولى بني بياضة
وبقي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعده ثلاث سنين حتى كان وجعه الذي توفي منه فدخلت عليه أم بشر بنت البراء بن معرور تعوده فيما ذكر ابن إسحاق فقال لها يا أم بشر إن هذا لأوان وجدت انقطاع أبهري من الأكلة التي أكلت مع أخيك بخيبر
قال فإن كان المسلمون ليرون أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مات شهيدا مع ما أكرمه الله من النبوة
ولما فرغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من خيبر انصرف إلى وادي القرى فحاصر أهله ليالي ثم انصرف راجعا إلى المدينة
قال أبو هريرة لما انصرفنا مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عن خيبر إلى وادي القرى نزلناها أصلا مع مغرب الشمس ومع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} غلام أهداه له رفاعة بن زيد الجذامي ثم الضبيبي فوالله إنه ليضع رحل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إذ أتاه سهم غرب فأصابه فقتله فقلنا هنيئا له الجنة
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كلا والذي نفس محمد بيده إن شملته الآن لتحرق عليه في النار كان غلها من فيء المسلمين يوم خيبر
فسمعها رجل من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأتاه فقال له يا رسول الله أصبت شراكين لنعلين لي
فقال يقد لك مثلهما من النار
وخرج مسلم في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لما كان يوم خيبر أقبل نفر من صحابة النبي {صلى الله عليه وسلم} فقالوا فلان شهيد وفلان شهيد حتى مروا على رجل فقالوا فلان شهيد
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كلا إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة
ثم قال يا ابن الخطاب اذهب فناد في الناس إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون
قال فخرجت فناديت ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون
وشهد خيبر مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نساء من نساء المسلمات فرضخ لهن عليه السلام من الفيء ولم يضرب لهن بسهم
حدثت بنت أبي الصلت عن امرأة غفارية سمتها قالت أتيت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في نسوة من بني غفار وهو يسير إلى خيبر فقلن يا رسول الله قد أردنا الخروج معك إلى وجهك هذا فنداوي الجرحى ونعين المسلمين بما استطعنا
فقال على بركة الله
(2/163)
قالت فخرجنا معه فلما افتتح خيبر رضح لنا من الفيء وأخذ هذه القلادة التي تزين في عنقي فأعطانيها وعلقها بيده في عنقي فوالله لا تفارقني أبدا
قالت فكانت في عنقها حتى ماتت ثم أوصت أن تدفن معها
واستشهد بخيبر من المسلمين نحو من عشرين رجلا منهم عامر بن الأكوع عم سلمه بن عمرو بن الأكوع وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد قال له في مسيره إلى خيبر انزل يا ابن الأكوع فخذ لنا من هناتك فنزل يرتجز برسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال
والله لولا الله ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
إنا إذا قوم بغوا علينا
وإن أرادوا فتنة أبينا
فأنزلن سكينة علينا
وثبت الأقدام إن لاقينا
الرجز
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يرحمك الله
فقال عمر بن الخطاب وجبت والله يا رسول الله لو أمتعتنا به فقتل يوم خيبر شهيدا وكان قتله أن سيفه رجع عليه وهو يقاتل فكلمه كلما شديدا فمات منه فكان المسلمون قد شكوا فيه وقالوا إنما قتله سلاحه حتى سأل ابن أخيه سلمة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عن ذلك وأخبره بقول الناس فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إنه لشهيد وصلى عليه
فصلى عليه المسلمون
ومنهم الأسود الراعي من أهل خيبر وكان من حديثه أنه أتي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو محاصر لبعض حصون خيبر ومعه غنم كان فيها أجيرا لرجل من يهود فقال يا رسول الله أعرض علي الإسلام فعرضه عليه فأسلم
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لا يحقر أحدا أن يدعوه إلى الإسلام ويعرضه عليه فلما أسلم قال يا رسول الله إني كنت أجيرا لصاحب هذه الغنم وهي أمانة عندي فكيف أصنع بها قال اضرب في وجوهها فإنها سترجع إلى ربها أو كما قال فقام الأسود فأخذ حفنة من الحصباء فرمى بها في وجهها وقال ارجعي إلى صاحبك فوالله لا أصحبك
وخرجت مجتمعة كأن سائقا يسوقها حتى دخلت الحصن ثم تقدم الأسود إلى ذلك الحصن ليقاتل مع المسلمين فأصابه حجر فقتله وما صلى لله
(2/164)
صلاة قط فأتي به رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فوضع خلفه وسجي بشملة كانت عليه فالتفت إليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ومعه نفر من أصحابه ثم أعرض عنه فقالوا يا رسول الله لم أعرضت عنه قال إن معه الآن زوجتيه من الحور العين
وذكر ابن إسحاق عن عبيد الله بن أبي نجيح أن الشهيد إذا ما أصيب نزلت زوجتاه من الحور العين عليه ينفضان التراب عن وجهه ويقولان ترب الله وجه من تربك وقتل من قتلك
قال ولما افتتحت خيبر كلم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الحجاج بن علاط السلمي ثم البهزي فقال يا رسول إن لي بمكة مالا عند صاحبتي أم شيبة بنت أبي طلحة ومالا متفرقا في تجار أهل مكة فأذن لي يا رسول الله فأذن له قال إنه لا بد لي يا رسول الله من أن أقول
قال قل
قال الحجاج فخرجت حتى إذا قدمت مكة وجدت بثنية البيضاء رجالا من قريش يتسمعون الأخبار ويسألون عن أمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقد بلغهم أنه سار إلى خيبر وعرفوا أنها قرية الحجاز ريفا ومنعة ورجالا فهم يتحسسون الأخبار ويسألون الركبان فلما رأوني ولم يكونوا علموا بإسلامي قالوا الحجاج بن علاط عنده والله الخبر أخبرنا يا أبا محمد فإنه بلغنا أن القاطع سار إلى خيبر وهي بلد يهود وريف الحجاز
قلت قد بلغني ذلك وعندي من الخبر ما يسركم
قال فالتبطوا بجنبي ناقتي يقولون إيه يا حجاج قلت هزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط وقتل أصحابه قتلا لم تسمعوا بمثله قط وأسر محمد أسرا وقالوا لا نقتله حتى نبعث به إلى مكة فيقتلونه بين أظهرهم بمن كان أصاب من رجالهم
قال فقاموا وصاحوا بمكة وقالوا قد جاءكم الخبر وهذا محمد إنما تنظرون أن يقدم به عليكم فيقتل بين أظهركم
قال فقلت أعينوني على جمع مالي بمكة على غرمائي فإني أريد أن أقدم خيبر فأصيب به من أهل محمد وأصحابه قبل أن يسبقني التجار إلى ما هنالك
فقاموا فجمعوا إلي مالي كأحث جمع سمعت به وجئت صاحبتي فقلت مالي وقد كان لي عندها مال موضوع لعلي ألحق بخيبر فأصيب من فرص البيع قبل أن يسبقني التجار
(2/165)
قال فلما سمع العباس بن عبد المطلب الخبر وجاءه عني أقبل حتى وقف إلى جنبي وأنا في خيمة من خيام التجار فقال يا حجاج ما هذا الذي جئت به قلت وهل عندك حفظ لما وضعت عندك قال نعم
قلت فاستأخر عني حتى ألقاك على خلاء فإني في جمع مالي كما ترى فانصرف عني حتى أفرغ قال حتى إذا فرغت من جمع كل شيء كان لي بمكة وأجمعت الخروج لقيت العباس فقلت احفظ علي حديثي يا أبا الفضل فإني أخشى الطلب ثلاثا ثم قل ما شئت
قال أفعل
قلت فإني والله لقد تركت ابن أخيك عروسا على بنت ملكهم يعني صفية بنت حيي ولقد افتتح خيبر وانتثل ما فيها وصارت له ولأصحابه
قال ما تقول يا حجاج قلت إي والله فاكتم عني ولقد أسلمت وما جئت إلا لآخذ مالي فرقا من أن أغلب عليه فإذا مضت ثلاث فأظهر أمرك فهو والله على ما تحب
قال حتى إذا كان اليوم الثالث لبس العباس حلة له وأخذ عصاه ثم خرج حتى أتى الكعبة فطاف بها فلما رأوه قالوا يا أبا الفضل هذا والله التجلد الحر المصيبة قال كلا والله الذي حلفتم به لقد افتتح محمد خيبر وترك عروسا على ابنة ملكهم وأحرز أموالهم وما فيها فأصبحت له ولأصحابه
قالوا من جاءك بهذا الخبر قال الذي جاءكم بما جاءكم به ولقد دخل عليكم مسلما وأخذ ماله فانطلق ليلحق بمحمد وأصحابه فيكون معه
قالوا يال عباد الله انفلت عدو الله أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن
ولم ينشبوا أن جاءهم الخبر بذلك
وقال كعب بن مالك الأنصاري في يوم خيبر
ونحن وردنا خيبرا وفروضه
بكل فتى عارى الأشاجع مذود
جواد لدى الغايات لا واهن القوى
جريء على الأعداء في كل مشهد
عظيم رماد القدر في كل شتوة
ضروب بنصل المشرفي المهند
يرى القتل مدحا إن أصاب شهادة
من الله يرجوها وفوزا بأحمد
يذود ويحمي عن ذمار محمد
ويدفع عنه باللسان وباليد
وينصره من كل أمر يريبه
يجود بنفس دون نفس محمد
الطويل
(2/166)
وذكر ابن عقبة أن بني فزارة قدموا على أهل خيبر في أول أمرهم ليعينوهم فراسلهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن لا يعينوهم وأن يخرجوا عنهم على أن يعطيهم من خيبر شيئا سماه لهم فأبوا عليه وقالوا جيراننا وحلفاؤنا
فلما فتح الله خيبر أتاه من كان هناك من بني فزارة فقالوا الذي وعدتنا فقال لكم ذو الرقيبة لجبل من جبال خيبر قالوا إذن نقاتلك قال موعدكم جنفاء فلما سمعوا ذلك من رسول الله خرجوا هاربين
قال ابن إسحاق وكانت المقاسم على أموال خيبر على الشق ونطاة والكتيبة وكانت الشق ونطاة في سهمان المسلمين وكانت الكتيبة خمس الله وسهم النبي {صلى الله عليه وسلم} وسهم ذوي القربي والمساكين وطعم أزواج النبي {صلى الله عليه وسلم} وطعم رجال مشوا بين رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وبين أهل فدك بالصلح
وقسمت خيبر على أهل الحديبية من شهد خيبر ومن غاب عنها ولم يغب عنها ألا جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام فقسم له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كسهم من حضرها
وفي هذه الغزوة بين رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سهمان الخيل والرجال فجعل للفرس سهمين ولفارسه سهما وللراجل سهما فجرت المقاسم على ذلك فيما بعد ويومئذ عرب العربي من الخيل وهجن الهجين
وذكر ابن عقبة أنه قدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بخيبر نفرا من الأشعريين فيهم أبو عامر الأشعري قدموا المدينة مع مهاجرة الحبشة ورسول الله {صلى الله عليه وسلم}
بخيبر فمضوا إليه وفيهم أبان بن سعيد بن العاص والطفيل يعني ابن عمرو الدوسي ذا النور وأبو هريرة ونفر من دوس فرأى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ورأيه الحق أن لا يخيب مسيرهم ولا يبطل سفرهم فشركهم في مقاسم خيبر وسأل أصحابه ذلك فطابوا به نفسا
ولم يذكر ابن عقبة جعفر بن أبي طالب في هؤلاء القادمين على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بخيبر من أرض الحبشة وهو أولهم وأفضلهم وما مثل جعفر يتخطى ذكره ومن البعيد أن يغيب ذلك عن ابن عقبة فالله أعلم بعذره
(2/167)
وقد ذكر ابن إسحاق أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كان بعث مرو بن أمية الضمري إلى النجاشي فيمن كان أقام بأرض الحبشة من أصحابه فحملهم في سفينتين فقدم بهم عليه وهو بخيبر بعد الحديبية فذكر جعفرا أولهم ذكر معه ستة عشر رجلا قدموا في السفينتين صحبته
وذكر ابن هشام عن الشعبي أن جعفرا قدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يوم فتح خيبر فقبل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما بين عينيه والتزمه وقال ما أدري بأيتهما أنا أسر أبفتح خيبر أم بقدوم جعفر ولما جرت المقاسم في أقوال خيبر اتسع فيها المسلمون ووجدوا بها مرفقا لم يكونوا وجدوه قبل حتى لقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فيما خرج له البخاري في صحيحه ما شبعنا حتى فتحنا خيبر
وأقر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يهود خيبر في أموالهم يعملون فيها للمسلمين على النصف مما يخرج منها كما تقدم
قال ابن إسحاق فكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يبعث إلى أهل خيبر عبد الله بن رواحة خارصا بين المسلمين وبين يهود فيخرص عليهم فإذا قالوا تعديت علينا
قال إن شئتم فلكم وإن شئتم فلنا
فتقول يهود بهذا قامت السموات والأرض
قال وإنما خرص عليهم عبد الله عاما واحدا ثم أصيب بمؤتة يرحمه الله فكان جبار بن صخر أخو بني سلمة هو الذي يخرص عليهم بعده
فأقامت يهود على ذلك لا يرى بهم المسلمون بأسا في معاملتهم حتى عدوا في عهد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على عبد الله بن سهل أخي بني حارثة فقتلوه فأتهمهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} والمسلمون عليه وكتب إليهم أن يدوه أو يأذنوا بحرب
فكتبوا يحلفون بالله ما قتلوه ولا يعلمون له قاتلا فوداه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من عنده وأقرهم على ما سبق من معاملته إياهم
فلما توفي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أقرهم أبو بكر الصديق على مثل ذلك حتى توفي ثم أقرهم عمر صدرا من إمارته ثم بلغ عمر أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال في وجعه الذي قبضه الله فيه لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان ففحص عمر عن ذلك حتى بلغه الثبت فأرسل إلى يهود فقال إن الله قد أذن في جلائكم قد بلغني أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان فمن كان عنده عهد من رسول الله فليأتني به أنفذه له ومن لم يكن عنده عهد من رسول الله فليتجهز للجلاء
فأجلى عمر منهم من لم يكن عنده عهد من رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وقال عبد الله بن عمر خرجت أنا والزبير والمقداد بن الأسود إلى أموالنا بخيبر نتعاهدها فلما قدمنا تفرقنا في أموالنا فعدي علي تحت الليل فقرعت يداي من مرفقي فلما أصبحت استصرخ علي صاحباي فأتياني فأصلحا من يدي ثم قدما بي على عمر فقال هذا عمل يهود ثم قام في الناس خطيبا فقال أيها الناس إن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كان عامل يهود خيبر على أنا نخرجهم إذا شئنا وقد عدوا على عبد الله بن عمر ففدعوا يديه كما بلغكم مع عدوتهم على الأنصاري قبله لا نشك أنهم أصحابه ليس لنا هناك عدو غيرهم فمن كان له مال بخيبر فليلحق به فإني مخرج يهود
فأخرجهم
ولما أخرج عمر رضي الله عنه يهود خيبر ركب في المهاجرين والأنصار وخرج(2/168)
معه بجبار بن صخر وكان خارص أهل المدينة وحاسبهم ويزيد بن ثابت فهما قسما خيبر على أصحاب السهمان التي كانت عليها وذلك أن الشق والنطاة اللتين هما سهم المسلمين قسمت في الأصل على عهد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى ثمانية عشر سهما نطاة من ذلك خمسة أسهم والشق ثلاثة عشر سهما ثم قسم كل قسم من هذه الثمانية عشر سهما إلى مائة سهم لكل رجل سهم ولكل فرس سهمان وكانت عدة الذين قسمت عليهم ألف رجل وأربعمائة رجل ومائتي فرس فذلك ألف سهم وثمانمائة سهم
عمرة القضاء وهي غزوة الأمن
قال ابن إسحاق ولما رجع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من خيبر إلى المدينة أقام بها شهري ربيع وما بعده إلى شوال يبعث فيما بين ذلك سراياه
ثم خرج في ذي القعدة في الشهر الذي صده فيه المشركون معتمرا عمرة القضاء مكان عمرته التي صدوه عنها وخرج معه المسلمون ممن كان صد معه في عمرته تلك وهي سنة سبع
فلما سمع به أهل مكة خرجوا عنه
قال ابن عقبة وتغيب رجال من أشرافهم خرجوا إلى بوادي مكة كراهية أن ينظروا إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} غيظا وحنقا ونفاسة وحسدا
وتحدثت قريش بينها فيما ذكر ابن إسحاق أن محمدا وأصحابه في عسرة وجهد وشدة فصفوا له عند دار الندوة لينظروا إليه وإلى أصحابه
فلما دخل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المسجد اضطبع بردائه وأخرج عضده اليمنى ثم قال رحم الله امرءا أراهم اليوم من نفسه قوة ثم استلم الركن وخرج يهرول ويهرول أصحابه معه حتى إذا واراه البيت منهم واستلم الركن اليماني مشى حتى يستلم الركن الأسود ثم هرول كذلك ثلاثة أطواف ومشي سائرها فكان ابن عباس يقول كان الناس يظنون أنها ليست عليهم وذلك أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إنما صنعها لهذا الحي من قريش الذي بلغه عنهم حتى حج حجة الوداع فلزمها فمضت السنة بها
ولما دخل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مكة في تلك العمرة وعبد الله بن رواحة يرتجز بين يديه
خلوا بني الكفار عن سبيله
خلوا فكل الخير في رسوله
يا رب إني مؤمن بقيله
أعرف حق الله في قبوله
السريع
(2/169)
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد بعث بين يديه جعفر بن أبي طالب إلى ميمونة بنت الحارث بن حزن الهلالية فخطبها عليه فجعلت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب وكانت تحته أختها أم الفضل بنت الحارث وقيل جعلت أمرها إلى أم الفضل فجعلت أم الفضل أمرها إلى العباس فزوجها العباس رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأصدقها عنه أربعمائة درهم
وقضى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نسكه وأقام بمكة ثلاث ليال وكان ذلك أجل القضية يوم الحديبية
فلما أصبح رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من اليوم الرابع أتاه سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزي
في نفر من قريش ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} في مجلس الأنصار يتحدث مع سعد بن عبادة فصاح حويطب نناشدك الله والعقد إلا خرجت من أرضنا فقد مضت الثلاث
فقال سعد كذبت لا أم لك إنها ليست بأرضك ولا أرض أبيك والله لا يخرج إلا راضيا فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وضحك يا سعد لا تؤذ قوما زارونا في رحالنا
ثم قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم وصنعنا لكم طعاما فحضرتموه قالوا لا حاجة لنا بطعامك فاخرج عنا
فأمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أبا رافع مولاه فأذن بالرحيل وخلف أبا رافع على ميمونة حتى أتاه بها بسرف وقد لقيت ومن معها عناء وأذى من سفهاء المشركين وصبيانهم فبني بها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بسرف ثم أدلج فسار حتى قدم
المدينة
ثم كان من قضاء الله سبحانه أن ماتت ميمونة بسرف بعد ذلك بحين فتوفيت حيث بني بها
قال موسى بن عقبة وذكر أن الله تعالى أنزل في تلك العمرة الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص البقرة 194
وذكر ابن هشام أنها يقال لها عمرة القصاص لأنهم صدوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عن العمرة في ذي القعدة في الشهر الحرام من سنة ست فاقتص منهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ودخل مكة في ذي القعدة في الشهر الحرام الذي صدوه فيه من سنة سبع
غزوة مؤتة من أرض الشام
(2/170)
ولما صدر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من عمرة القضاء إلى المدينة أقام بها نحوا من ستة أشهر ثم بعث إلى الشام في جمادي الأولى من سنة ثمان بعثه الذين أصيبوا بمؤتة واستعمل عليهم زيد بن حارثة وقال إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة
فتجهز الناس ثم تهيأوا للخروج وهم ثلاثة آلاف فلما حضر خروجهم ودع الناس أمراء رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وسلموا عليهم فلما ودع عبد الله بن رواحة بكى فقالوا ما يبكيك يا بن رواحة فقال والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم ولكني سمعت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقرأ آية من كتاب الله ويذكر فيها النار وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا مريم 71 فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود فقال المسلمون صحبكم الله ودفع عنكم وردكم إلينا صالحين
فقال عبد الله بن رواحة
لكنني أسأل الرحمن مغفرة
وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة
بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقال إذا مروا على جدثي
ما أرشد الله من غاز وقد رشدا
البسيط
ثم إن القوم تهيأوا للخروج فأتى عبد الله بن رواحة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فودعه ثم قال
أنت الرسول فمن يحرم نوافله
والوجه منه فقد أزرى به القدر
فثبت الله ما آتاك من حسن
في المرسلين ونصرا كالذي نصروا
إني تفرست فيك الخير نافلة
فراسة خالفت فيك الذي نظروا
البسيط
يعني المشركين
ثم خرج القوم وخرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يشيعهم حتى إذا ودعهم وانصرف عنهم قال عبد الله بن رواحة
خلف السلام على امرئ ودعته
في النخل خير مشيع وخليل
الكامل
وحدث زيد بن أرقم قال كنت يتيما لعبد الله بن رواحة في حجره فخرج بي في سفره ذلك مردفي على حقيبة رحلة فوالله إنه ليسير ليلة إذ سمعته ينشد أبياته هذه
إذا أدنيتني وحملت رحلي
مسيرة أربع بعد الحساء
فشأنك فانعمى وخلاك ذم
ولا أرجع إلي أهلي ورائي
وجاء المسلمون وغادروني
بأرض الشام مشتهى الثواء
وردك كل ذي رحم قريب
إلى الرحمن منقطع الرجاء
هنالك لا أبالي طلع بعل
(2/171)
ولا نخل أسافلها وراء
الوافر
فلما سمعتهن بكيت فخفقني بالدرة وقال وما عليك يا لكع أن يرزقني الله الشهادة وترجع بين شعبتي الرحل
ثم مضى القوم حتى نزلوا معان من أرض الشام فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم وانضم إليهم من لخم وجذام والقين وبهراء وبلي مائة ألف منهم
فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين ينظرون في أمرهم وقالوا
نكتب إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فنخبره بعدد عدونا فإما أن يمدنا بالرجال وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له
فشجع الناس عبد الله بن رواحة فقال يا قوم والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم تطلبون الشهادة وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين إما ظهور وإما شهادة
فقال الناس صدق والله ابن رواحة
فمضى الناس وقال عبد الله في مجلسهم ذلك
جلبنا الخيل من أجأ وفرع
تعر من الحشيش لها العكوم
حذوناها من الصوان سبتا
أزل كأن صفحته أديم
أقامت ليلتين على معان
فأعقب بعد فترتها جموم
فرحنا والجياد مسومات
تنفس في مناخرها السموم
فلا وأبي مآب لنأتينها
وإن كانت بها عرب وروم
فعبأنا أعنتها فجاءت
عوابس والغبار لها بريم
بذي لجب كأن البيض فيه
إذا برزت قوانسها النجوم
فراضية المعيشة طلقتها
أسنتنا فتنكح أو تئيم
الوافر
ثم مضى الناس حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف
ثم دنا العدو وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة فالتقي الناس عندها
فتعبي لهم المسلمون فجعلوا على ميمنتهم رجلا من بني عذرة يقال له قطبة بن قتادة وعلى مسيرتهم رجلا من الأنصار يقال له عبابة بن مالك ويقال عبادة
ثم التقى الناس فاقتتلوا فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى شاط في رماح القوم ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى إذا ألحمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء
(2/172)
قال أحد بني مرة بن عوف وكان في تلك الغزوة والله لكأني أنظر إليه حين اقتحم عنها ثم عقرها ثم قاتل القوم حتى قتل وهو يقول
يا حبذا الجنة واقترابها
طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها
علي إذ لاقيتها ضرابها
الرجز
وكان جعفر أول من عقر في الإسلام فرسه
ولما قتل جعفر أخذ عبد الله بن رواحة الراية ثم تقدم بها وهو على فرسه فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد ثم قال
اقسمت يا نفس لتنزلنه
لتنزلن أو لتكرهنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنه
مالي أراك تكرهين الجنه
قد طال ما قد كنت مطمئنه
هل أنت إلا نطفة في شنه
الرجز
وقال أيضا
يا نفس إلا تقتلى تموتى
هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت
إن تفعلي فعلهما هديت
السريع
يعني صاحبيه زيدا وجعفرا
ثم نزل فأتاه ابن عم له بعرق من لحم فقال شد بهذا صلبك فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت
فأخذه من يده فانتهس منه نهسة ثم سمع الحطمة في ناحية الناس فقال وأنت في الدنيا ثم ألقاه من يده ثم أخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى قتل
ثم أخذ الراية ثابت بن أرقم أخو بني العجلان فقال يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم
قالوا أنت
قال ما أنا بفاعل فاصطلح القوم على خالد بن الوليد
فلما أخذ الراية دافع القوم وخاشى بهم ثم انحاز وانحيز عنه حتى انصرف بالناس
ولما أصيب القوم قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيدا ثم صمت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى تغيرت وجوه الأنصار وظنوا أنه قد كان في عبد الله بن رواحة بعض ما يكرهون ثم قال أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيدا
ثم قال لقد رفعوا إلى الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سريري صاحبيه فقلت عم هذا فقيل لي مضيا وتردد عبد الله بعض التردد ثم مضى
(2/173)
وذكر ابن هشام أن جعفرا أخذ اللواء بيمينه فقطعت فأخذه بشماله فقطعت فاحتضنه بعضديه حتى قتل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة فأثابه الله بذلك جناحين يطير بهما حيث شاء
ويقال إن رجلا من الروم ضربه يومئذ فقطعه نصفين
وذكر ابن عقبة أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال بالمدينة لما أصيبوا قبل أن يأتيه نعيهم مر علي جعفر بن أبي طالب في الملائكة يطير كما يطيرون له جناحان
قال وقدم يعلي بن منبه على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بخبر أهل مؤتة فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن شئت فأخبرني وإن شئت أخبرتك
قال فأخبرني يا رسول الله فأخبره رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خبرهم كله ووصفه له
فقال والذي بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا واحدا لم تذكره وإن أمرهم لكما ذكرت
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن الله رفع لي الأرض حتى رأيت معتركهم
وحدثت أسماء بنت عميس امرأة جعفر قالت لما أصيب جعفر وأصحابه دخل علي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال ايتيني ببني جعفر
وقد كانت غسلتهم ودهنتهم ونظفتهم
قالت فأتيته بهم فشمهم وذرفت عيناه فقلت يا رسول الله بأبي أنت ما يبكيك أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء قال نعم أصيبوا هذا اليوم
قالت فقمت أصيح واجتمع إلي النساء
وخرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى أهله فقال لا تغفلوا آل جعفر من أن تصنعوا لهم طعاما فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم
وقالت عائشة رضي الله عنها لما أتي نعي جعفر عرفنا في وجه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الحزن
ولما انصرف خالد قافلا بالناس ودنوا من المدينة تلقاهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} والمسلمون ولقيهم الصبيان يشتدون ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} مقبل مع القوم على دابة فقال خذوا الصبيان فاحملوهم وأعطوني ابن جعفر
فأتى بعبد الله بن جعفر فأخذه فحمله بين يديه وجعل الناس يحثون على الجيش التراب ويقولون يا فرار فررتم في سبيل الله فيقول رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله
(2/174)
وقالت أم سلمة زوج النبي {صلى الله عليه وسلم} لامرأة سلمة بن هشام بن العامر بن المغيرة مالي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قالت والله ما يستطيع أن يخرج كلما خرج صاح به الناس يا فرار فررتم في سبيل الله حتى قعد في بيته فما يخرج
وقد قال فيما كان من أمر الناس وأمر خالد ومخاشاته بالناس وانصرافه بهم قيس بن المسحر اليعمري يعتذر مما صنع يومئذ وصنع الناس
والله لا تنفك نفسي تلومني
على موقفي والخيل قابعة قتل
وقفت بها لا مستحيزا فنافذا
ولا مانعا من كان حم له القتل
على أنني آسيت نفسي بخالد
ألا خالد في القوم ليس له مثل
وجاشت إلى النفس من نحو جعفر
بمؤتة إذ لا ينفع النابل النبل
وضم إلينا حجزتيهم كليهما
مهاجرة لا مشركون ولا عزل
الطويل
فبين قيس في شعره ما اختلف الناس فيه من ذلك أن القوم حاجزوا وكرهوا الموت وحقق انحياز خالد بمن معه
وكان مما بكي به أصحاب مؤتة قول حسان بن ثابت
تأوبني ليل بيثرب أعسر
وهم إذا ما هوم الناس مسهر
لذكرى حبيب هيجت لي عبرة
سفوحا وأسباب البكاء التذكر
بلى إن فقدان الحبيب بلية
وكم من كريم يبتلى ثم يصبر
رأيت خيار المؤمنين تواردوا
شعوب وخلفا بعدهم يتأخر
فلا يبعدن الله قتلى تباعدوا
جميعا وأسباب المنية تخطر
غداة مضوا بالمؤمنين يقودهم
إلى الموت ميمون النقيبة أزهر
أغر كضوء البدر من آل هاشم
أبي إذا سيم الطلامة يجسر
فطاعن حتى مال غير موسد
بمعترك فيه قنا متكسر
فصار مع المستشهدين ثوابه
جنان وملتف الحدائق أخضر
وكنا نرى في جعفر من محمد
وفاء وأمرا حازما حين يأمر
وما زال في الإسلام من آل هاشم
دعائم عز لا يزلن ومفخر
هم جبل الإسلام والناس حولهم
رضام إلى طود يروق ويقهر
بهاليل منهم جعفر وابن أمه
علي ومنهم أحمد المتخير
وحمزة والعباس منهم ومنهم
عقيل وماء العود من حيث يعصر
بهم تفرج اللأواء في كل مأزق
عماس إذا ما ضاق بالناس مصدر
هم أولياء الله أنزل حكمه
عليهم وفيهم ذا الكتاب المطهر
الطويل
(2/175)
وقال كعب بن مالك في ذلك
نام العيون ودمع عينك يهمل
سحاكما وكف الطباب المخضل
في ليلة وردت علي همومها
طورا أحن وتارة أتململ
واعتادني حزن فبت كأنني
ببنات نعش والسماك موكل
وكأنما بين الجوانح والحشا
مما تأوبني شهاب مدخل
وجدا على النفر الذين تتابعوا
يوما بمؤتة أسندوا لم ينقلوا
صلى الإله عليهم من فتية
وسقى عظامهم الغمام المسبل
صبروا بمؤتة للإله نفوسهم
حذر الردي ومخافة أن ينكلوا
فمضوا أمام المسلمين كأنهم
فنق عليهن الحديد المرفل
إذ يهتدون بجعفر ولوائه
قدام أولهم فنعم الأول
حتى تفرجت الصفوف وجعفر
حيث التقى وعث الصفوف مجدل
فتغير القمر المنير لفقده
والشمس قد كسفت وكادت تأفل
قوم علا بنيانه من هاشم
فرعا أشم وسؤددا ما ينقل
قوم بهم عصم الإله عباده
وعليهم نزل الكتاب المنزل
فضلوا المعاشر عزة وتكرما
وتغمدت أحلامهم من يجهل
لا يطلقون إلى السفاه جباهم
ويرى خطيبهم بحق يفصل
بيض الوجوه ترى بطون أكفهم
تندى إذا اعتذر الزمان الممحل
وبهديهم رضي الإله لخلقه
وبجدهم نصر النبي المرسل
الكامل
وقال حسان بن ثابت يبكي جعفرا
ولقد بكيت وعز مهلك جعفر
حب النبي على البرية كلها
ولقد جزعت وقلت حين نعيت لي
من للجلاد لدى العقاب وظلها
بالبيض حين تسل من أغمادها
ضربا وإنهال الرماح وعلها
بعد ابن فاطمة المبارك جعفر
خير البرية كلها وأجلها
رزءا وأكرمها جميعا محتدا
وأعزها متظلما وأذلها
للحق حين ينوب غير تنحل
كذبا وأنداها يدا وأبلها
بالعرف غير محمد لا مثله
حي من أحياء البرية كلها
الكامل
وقال شاعر من المسلمين ممن رجع عن غزوة مؤتة
كفى حزنا أني رجعت وجعفر
وزيد وعبد الله في رمس أقبر
قضوا نحبهم لما مضوا لسبيلهم
وخلفت للبلوى مع المتغير
الطويل
واستشهد يوم مؤتة من المسلمين سوى الأمراء الثلاثة رضي الله عنهم من قريش ثم من بني عدي بن كعب مسعود بن الأسود بن حارثة
ومن بني مالك بن حسل وهب بن سعد بن أبي سرح
(2/176)
ومن الأنصار عباد بن قيس من بني الحارث بن الخزرج والحارث بن النعمان بن إساف من بني غنم بن مالك بن
النجار وسراقة بن عمر بن عطية بن خنساء من بني مازن بن النجار وأبو كليب ويقال أبو كلاب وجابر ابنا عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول وهما لأب وأم
وعمر وعامر ابنا سعد بن الحارث بن عباد من بني مالك بن أفصى
وهؤلاء الأربعة عن ابن هشام
غزوة الفتح
وأقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعد بعثه إلى مؤتة جمادي الآخرة ورجبا
ثم عدت بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة على خزاعة ولم يزالوا قبل ذلك متعادين وكان الذي هاج ما بينهم أن حليفا للأسود بن رزن الديلي خرج تاجرا فلما توسط أرض خزاعة عدوا عليه فقتلوه وأخذوا ماله فعدت بنو بكر على رجل من خزاعة فقتلوه فعدت خزاعة قبيل الإسلام على بني الأسود بن رزن سلمى وكلثوم وذؤيب وهم منحر بني كنانة وأشرافهم كانوا في الجاهلية يودون ديتين لفضلهم في قومهم فقتلتهم خزاعة بعرفة عند أنصاب الحرم ثم حجز بينهم الإسلام وتشاغل الناس به
فلما كان صلح الحديبية دخلت خزاعة في عقد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ودخلت بنو بكر في عقد قريش
فلما كانت الهدنة اغتنمتها بنو الديل فخرجوا حتى بيتوا خزاعة على الوتير ماء لهم فأصابوا منهم رجلا وتحاجزوا واقتتلوا ورفدت قريش بني بكر بالسلاح وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفيا
فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من العهد والميثاق بما استحلوا منهم وكانوا في عقده وعهده خرج عمرو بن سالم الخزاعي الكعبي حتى قدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المدينة فوقف عليه وهو جالس في المسجد بين ظهري الناس فقال
يا رب إني ناشد محمدا
حلف أبينا وأبيه الأتلدا
قد كنتم ولدا وكنا والدا
ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا(2/177)
فانصر هداك الله نصرا أعتدا
وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا
أبيض مثل البدر يسمو صعدا
إن سيم خسفا وجهه تربدا
في فيلق كالبحر يجري مزبدا
إن قريشا أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وجعلوا لي في كداء رصدا
وزعموا أن لست أدعو أحدا
وهم أذل وأقل عددا
هم بيتونا بالوتير هجدا
وقتلونا ركعا وسجدا
الكامل
يقول قتلنا وقد أسلمنا
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نصرت يا عمرو بن سالم ثم عرض لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} عنان من السماء فقال إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب
ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المدينة فأخبروه بما أصيب منهم ومظاهرة قريش بني بكر عليهم ثم انصرفوا راجعين إلى مكة
وقد قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} للناس كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العقد وليزيد في المدة
ومضى بديل بن ورقاء في أصحابه حتى لقوا أبا سفيان بعسفان قد بعثته قريش إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ليشد العقد ويزيد في المدة وقد رهبوا الذي صنعوا فلما لقي أبو سفيان بديلا قال من أين أقبلت يا بديل وظن أنه قد أتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال سيرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بطن هذا الوادي
قال أوما جئت محمدا قال لا
فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان لئن كان بديل جاء المدينة لقد علف بها النوى
فأتى مبرك راحلته فأخذ من بعرها ففته فرأى فيه النوى فقال أحلف بالله لقد جاء بديل محمدا
ثم خرج أبو سفيان حتى قدم المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة فلما ذهب
ليجلس على فراش رسول الله {صلى الله عليه وسلم} طوته عنه فقال يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني قالت بل هو فراش رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأنت رجل نجس مشرك فلم أحب أن تجلس عليه
قال والله يا بنية لقد أصابك بعدي شر
ثم خرج حتى أتي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فكلمه فلم يرد عليه شيئا ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال ما أنا بفاعل
(2/178)
ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه فقال أنا أشفع لكم إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به
ثم خرج حتى دخل على علي بن أبي طالب وعنده فاطمة بنت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وعندها حسن بن علي غلام يدب بين يديها فقال يا علي إنك أمس القوم بي رحما وإني قد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت فاشفع لي قال ويحك يا أبا سفيان والله لقد عزم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه
فالتفت إلى فاطمة فقال يا بنت محمد هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر
قالت والله ما بلغ بني ذلك أن يجير بين الناس وما يجير أحد على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال يا أبا حسن إني أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني
قال والله ما أعلم شيئا يغني عنك شيئا ولكنك سيد بني كنانة فقم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك قال أوتري ذلك مغنيا عني شيئا قال لا والله ما أظنه ولكنني لا أجد لك غير ذلك
فقام أبو سفيان فقال أيها الناس إني قد أجرت بين الناس
ثم ركب بعيره فانطلق
فلما قدم على قريش قالوا ما وراءك قال جئت محمدا فكلمته فوالله ما رد علي شيئا ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيرا
ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أدنى العدو
ويقال أعدي العدو ثم أتيت عليا فوجدته ألين القوم وقد أشار علي بشيء صنعته فوالله ما أدري هل يغني شيئا أم لا قالوا وبم أمرك قال أمرني أن أجير بين الناس ففعلت
قالوا فهل أجاز ذلك محمد قال لا
قالوا ويلك والله ما زاد الرجل على أن لعب بك فما يغني عنك ما قلت
قال لا والله ما وجدت غير ذلك
وأمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الناس بالجهاز وأمر أهله أن يجهزوه فدخل أبو بكر على ابنته عائشة وهي تحرك بعض جهاز رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال أي بنية أمركم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن تجهزوه قالت نعم فتجهز
قال فأين ترينه يريد قالت لا والله ما أدري
ثم إن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أعلم الناس أنه سائر إلى مكة وأمرهم بالجد والتهيؤ وقال اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها فتجهز الناس
(2/179)
وكتب حاطب بن أبي بلتعة عند ذلك كتابا إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من الأمر في السير إليهم ثم أعطاه امرأة وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا
فجعلته في رأسها ثم فتلت عليه قرونها ثم خرجت به
وأتي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الخبر من السماء بما صنع حاطب فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام فقال أدركا امرأة كتب معها حاطب إلى قريش يحذرهم ما أجمعنا له في أمرهم
فخرجا حتى أدركاها فاستنزلاها والتمسا في رحلها فلم يجدا شيئا فقال لها علي أحلف بالله ما كذب رسول الله ولا كذبنا ولتخرجن هذا الكتاب أو لنكشفنك
فلما رأت الجد منه استخرجت الكتاب من قرون رأسها فدفعته إليه
فأتى به رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فدعا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حاطبا فقال يا حاطب ما حملك على هذا قال يا رسول الله أما والله إني لمؤمن بالله وبرسوله ما غيرت ولا بدلت ولكني كنت امرء ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليه فقال عمر يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه فإن الرجل نافق
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع إلي أصحاب بدر يوم بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم
فأنزل الله في حاطب يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق الآيات كلها إلى
قوله قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده الممتحنة 1 - 4 إلى آخر القصة
ثم مضى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لسفره حتى نزل بمر الظهران في عشرة آلاف من المسلمين وقيل في اثني عشر ألفا فسبعت سليم وقيل ألفت وألفت مزينة وفي كل القبائل عدد وإسلام
وأوعب مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المهاجرون والأنصار فلم يتخلف عنه منهم أحد
(2/180)
وقد كان ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وابن عمته عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة لقياه بنيق العقاب فيما بين مكة والمدينة فالتمسا الدخول عليه وكلمته أم سلمة فيهما وهي أخت عبد الله منهما فقالت يا رسول الله ابن عمك وابن عمتك وصهرك
قال لا حاجة لي بهما أما ابن عمي فهتك عرضي وأما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال لي بمكة ما قال
فلما خرج الخبر إليهما بذلك قال أبو سفيان ومعه بني له والله ليأذنن لي أو لآخذن بيد بني هذا ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشا وجوعا
فلما بلغ ذلك رسول الله {صلى الله عليه وسلم} رق لهما ثم أذن لهما فدخلا عليه فأسلما وأنشده أبو سفيان
لعمرك إني يوم أحمل راية
لتغلب خيل اللات خيل محمد
لكالمدلج الحيران أظلم ليله
فهذا أواني حين أهدي وأهتدي
هداني هاد غير نفسي وقادني
مع الله من طردت كل مطرد
الطويل
فزعموا أنه لما أنشده هذا البيت ضرب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في صدره وقال أنت طردتني كل مطرد
وعميت الأخبار عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على قريش فلا يأتيهم خبر عنه ولا يدرون ما هو فاعل
وخرج في تلك الليالي أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يتحسسون الأخبار
وكان العباس بن عبد المطلب قد لقى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ببعض الطريق مهاجرا بعياله وكان قبل ذلك مقيما بمكة على سقايته ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} عنه راض
قال العباس فلما نزل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مر الظهران قلت واصباح قريش والله لئن دخل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر
فجلست على بغلة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} البيضاء فخرجت عليها حتى جئت الأراك فقلت لعلي أجد بعض الحطابة أو صاحب لبن أو ذا حاجة يأتي مكة فيخبرهم بمكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ليخرجوا إليه فيستأمنوه
فوالله إني لأسير عليها والتمس ما خرجت له إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء وهما يتراجعان وأبو سفيان يقول ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا
(2/181)
قال يقول بديل هذه والله خزاعة حمستها الحرب فيقول أبو سفيان خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها
قال فعرفت صوته فقلت يا أبا حنظلة فعرف صوتي فقال أبو الفضل قلت نعم
قال مالك فداك أبي وأمي قلت ويحك يا أبا سفيان هذا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في الناس واصباح قريش والله
قال فما الحيلة فداك أبي وأمي قلت والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتى بك رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأستأمنه لك
فركب خلفي ورجع صاحباه فجئت به كلما مر بنار من نيران المسلمين قالوا من هذا فإذا رأوا بغلة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأنا عليها قالوا عم رسول الله على بغلته
حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال من هذا وقام إلي فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال أبو سفيان عدو الله الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد
ثم خرج يشتد نحو رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وركضت البغلة فسبقته بما تسبق الدابة البطيئة الرجل البطيء فاقتحمت عن البغلة فدخلت على رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
ودخل عليه عمر فقال يا رسول الله هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد فدعني فلأضرب عنقه
قلت يا رسول الله إني قد أجرته ثم جلست إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأخذت برأسه فقلت والله لا يناجيه الليلة رجل دوني
فلما أكثر عمر في شأنه قلت مهلا يا عمر فوالله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت هذا ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف
فقال مهلا يا عباس فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم وما بي إلا أني عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من إسلام الخطاب فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اذهب به يا عباس إلى رحلك فإذا أصبحت فائتني به فذهبت به إلى رحلي فبات عندي فلما أصبحت غدوت به إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلما رآه قال ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله قال بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى شيئا بعد
(2/182)
قال ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله قال بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك أما والله هذه فإن في نفسي منها شيئا حتى الآن
قال له العباس ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك
قال فشهد شهادة الحق وأسلم
قال العباس قلت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا
قال نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن
فلما ذهب لينصرف قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يا عباس احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها
قال فخرجت فحبسته حيث أمرني رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن أحبسه فمرت القبائل على راياتها كلما مرت قبيلة قال يا عباس من هذه فأقول سليم
فيقول مالي ولسليم
ثم تمر القبيلة فيقول من هؤلاء فأقول مزينة
فيقول مالي ولمزينة
حتى نفذت القبائل ما تمر قبيلة
إلا سألني عنها فإذا أخبرته بهم قال مالي ولبني فلان
حتى مر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في كتيبته الخضراء فيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد قال سبحان الله يا عباس من هؤلاء قلت هذا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في المهاجرين والأنصار
قال ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما
قلت يا أبا سفيان إنها النبوة
قال فنعم إذن
قلت النجاء إلى قومك
حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن
فقامت إليه هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت اقتلوا الحميت الدسم الأحمس قبح من طليعة قوم
قال ويحكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن
قالوا قاتلك الله وما تغني عنا دارك قال ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن
فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد
(2/183)
ولما انتهى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى ذي طوى وقف على راحلته معتجرا بشقة برد حبرة حمراء وإنه ليضع رأسه تواضعا لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح حتى إن عثنونة ليكاد يمس وسط الرحل
ولما وقف هناك قال أبو قحافة وقد كف بصره لابنة له من أصغر ولده أي بنية اظهري بي على أبي قبيس
فأشرفت به عليه فقال أي بنية ماذا ترين قالت أرى سوادا مجتمعا قال تلك الخيل
قالت وأرى رجلا يسعى بين يدي السواد مقبلا ومدبرا
قال أي بنية ذلك الوازع الذي يأمر الخيل ويتقدم إليها
ثم قالت قد والله انتشر السواد
فقال قد والله إذن دفعت الخيل فأسرعي بي إلى بيتي
فانحطت به وتلقاه الخيل قبل أن يصل إلى بيته وفي عنق الجارية طوق من ورق فيلقاها رجل فيقتطعه من عنقها
قالت فلما دخل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مكة ودخل المسجد أتاه أبو بكر بأبيه يقوده فلما رآه {صلى الله عليه وسلم} قال هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه فقال أبو بكر يا رسول الله هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي إليه
قال فأجلسه بين يديه ثم مسح صدره ثم قال له أسلم
فأسلم
ورآه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكأن رأسه ثغامة فقال غيروا هذا من شعره
ثم قام أبو بكر فأخذ بيد أخته فقال أنشد الله والإسلام طوق أختي
فلم يجبه أحد فقال أي أخية احتسبي طوقك فوالله إن الأمانة اليوم في الناس لقليل
وأمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين فرق جيشه من ذي طوى الزبير بن العوام أن يدخل في بعض الناس من كدى وكان على المجنبة اليسرى وأمر سعد بن عبادة أن يدخل في بعض الناس من كداء
فذكروا أن سعدا حين وجه داخلا قال
اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة
فسمعها رجل من المهاجرين قيل هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال يا رسول الله اسمع ما قال سعد ما نأمن أن تكون له في قريش صولة
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لعلي بن أبي طالب أدركه فخذ الراية فكن أنت تدخل بها
ويقال إنه أمر الزبير بذلك وجعله مكان سعد على الأنصار مع المهاجرين
فسار الزبير بالناس حتى وقف بالحجون وغرز بها راية رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
(2/184)
وذكر غير ابن إسحاق أن ضرار بن الخطاب قال يومئذ شعرا استعطف فيه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على قريش حين سمع قول سعد وهو من أجود شعر قاله
يا نبي الهدى إليك لحاحي
قريش ولات حين لجاء
حين ضاقت عليهم سعة الأرض
وعاداهم إله السماء
والتقت حلقتا البطان على القوم
ونودوا بالصيلم الصلعاء
إن سعدا يريد قاصمة الظهر
بأهل الحجون والبطحاء
خزرجي لو يستطيع من الغيظ
رمانا بالنسر والعواء
فانهينه فإنه الأسد الأسود
والليث والغ في الدماء
فلئن أقحم اللواء ونادى
يا حماة اللواء أهل اللواء
لتكونن بالبطاح قريش
فقعة القاع في أكف الإماء
الخفيف
فحينئذ انتزع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الراية من سعد بن عبادة فيما ذكروا
والله أعلم
وأمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خالد بن الوليد وكان على المجنبة اليمنى فدخل من الليط أسفل مكة فلقيته بنو بكر فقاتلوه فقتل منهم قريب من عشرين رجلا ومن هذيل ثلاثة أو أربعة وانهزموا وقتلوا بالحزورة حتى بلغ قتلهم باب المسجد وهرب فضضهم حتى دخلوا الدور وارتفعت طائفة منهم على الجبال واتبعهم المسلمون بالسيوف
وأقبل أبو عبيدة بن الجراح بالصف من المسلمين ينصب لمكة بين يدي رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
ودخل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من أذاخر في المهاجرين الأولين حتى نزل بأعلى مكة وضربت هناك قبته
ولما علا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثنية كداء نظر إلى البارقة على الجبل مع فضض المشركين فقال ما هذا وقد نهيت عن القتال فقال المهاجرون نظن أن خالدا قوتل وبدئ بالقتال فلم يكن بد من أن يقاتل من قاتله وما كان يا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ليعصيك ولا ليخالف أمرك
فهبط رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من الثنية فأجاز على الحجون
واندفع الزبير بن العوام بمن معه حتى وقف بباب الكعبة
وجرح رجلان من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد عهد إلى امرائه من المسلمين حين أمرهم أن
(2/185)
يدخلوا مكة أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم إلا أنه قد عهد في نفر سماهم أمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وكان قد أسلم وكتب الوحي لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم ارتد مشركا ففر يومئذ إلى عثمان بن عفان وكان أخاه من الرضاعة فغيبه حتى أتى به رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعد أن اطمأن الناس فاستأمن له
فزعموا أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} صمت طويلا ثم قال نعم فلما انصرف عنه عثمان قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لمن حوله من أصحابه لقد صمت ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه
فقال رجل من الأنصار فهلا أومأت إلي يا رسول الله فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن النبي لا يقتل بالإشارة
وفي رواية إن النبي لا ينبغي أن تكون له خائنة أعين
ومنهم عبد الله بن خطل رجل من بني تيم بن غالب كان مسلما فبعثه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مصدقا وكان معه رجل مسلم يخدمه فأمره أن يصنع له طعاما ونام فاستيقظ ولم يصنع له شيئا فعدا عليه فقتله ثم ارتد مشركا وكانت له قينتان تغنيان بهجاء رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأمر بقتلهما معه فقتلت إحداهما وهربت الأخرى حتى استؤمن لها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأمنها
وقيل يومئذ لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال اقتلوه
فقتله سعيد بن حريث المخزومي وأبو برزة الأسلمي اشتركا في دمه
ومنهم الحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد بن قصي وكان ممن يؤذي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بمكة ولما حمل العباس بن عبد المطلب فاطمة وأم كلثوم بنتي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من مكة يريد بهما المدينة نخس بهما الحويرث هذا فرمى بهما إلى الأرض فقتله يوم الفتح علي بن أبي طالب
ومنهم مقيس بن صبابة الليثي وكان أخوه هشام بن صبابة قد قتله رجل من الأنصار خطأ فقدم مقيس بعد ذلك على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المدينة مظهرا الإسلام حتى إذا وجد غرة من قاتل أخيه عدا عليه فقتله ثم لحق بقريش مشركا
وقد تقدم ذكر ذلك فلأجله أمر سول الله {صلى الله عليه وسلم} بقتله فقتله نميلة بن عبد الله رجل من قومه فقالت أخت مقيس في ذلك
لعمري لقد أخزي نميلة رهطه
وفجع أضياف الشتاء بمقيس
(2/186)
فلله عينا من رأى مثل مقيس
إذا النفساء أصبحت لم تخرس
الطويل
ومنهم سارة مولاة لبني عبد المطلب ولعكرمة بن أبي جهل وكانت تؤذي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بمكة فاستؤمن لها فأمنها وبقيت حتى أوطأها رجل من الناس فرسا في زمان عمر بن الخطاب بالأبطح فقتلها
وكان صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو قد جمعوا أناسا بالخندمة ليقاتلوا فيهم حماس بن قيس بن خالد أخو بني بكر وكان قد أعد سلاحا وأصلح منها فقالت له امرأته لماذا تعد ما أرى قال لمحمد وأصحابه
قالت والله ما أراه يقوم لمحمد شيء قال والله إني لأرجو أن أخدمك بعضهم ثم قال
إن يقبلوا اليوم فمالي عله
هذا سلاح كامل وأله
وذو غرارين سريع السله
السريع
ثم شهد الخندمة فلما لقيهم المسلمون من أصحاب خالد بن الوليد ناوشوهم شيئا من قتال فقتل كرز بن جابر وخنيس بن خالد كانا في خيل خالد فشذا عنه وسلكا طريقا غير طريقه فقتلا جميعا وأصيب سلمة بن الميلاء الجهني من خيل خالد وأصيب من المشركين ناس ثم انهزموا فخرج حماس منهزما حتى دخل بيته وقال لامرأته أغلقي علي بابي
قالت فأين ما كنت تقول فقال
إنك لو شهدت يوم الخندمة
إذ فر صفوان وفر عكرمة
واستقبلتهم بالسيوف المسلمه
يقطعن كل ساعد وجمجمه
ضربا فلا تسمع إلا غمغمه
لهم نهيت خلفنا وهمهمه
لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه
الرجز
وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لخالد بن الوليد لم قاتلت وقد نهيتك عن القتال قال هم بدأونا ووضعوا فينا السلاح وأشعرونا النبل وقد كففت يدي ما استطعت
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قضاء الله خير
وفر يومئذ صفوان بن أمية عامدا للبحر وعكرمة بن أبي جهل عامدا لليمن فأقبل عمير بن وهب بن خلف إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال يا نبي الله إن صفوان بن أمية سيد قومه وقد خرج هاربا منك ليقذف نفسه في البحر فأمنه {صلى الله عليه وسلم} فإنك قد أمنت الأحمر والأسود
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أدرك ابن عمك فهو آمن
قال يا رسول الله فأعطني آية يعرف بها أمانك
فأعطاه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عمامته التي دخل فيها مكة
(2/187)
فخرج بها عمير حتى أدركه بجدة وهو يريد أن يركب البحر فقال يا صفوان فداك أبي وأمي الله الله في نفسك أن تهلكها فهذا أمان من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد جئتك به قال ويلك اغرب عني فلا تكلمني
قال أي صفوان فداك أبي وأمي أفضل الناس وأبر الناس وأحلم الناس وخير الناس ابن عمك عزه عزك وشرفه شرفك وملكه ملكك
قال إني أخافه على نفسي
قال هو أحلم من ذلك وأكرم
فرجع معه حتى وقف به على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال صفوان
إن هذا يزعم أنك أمنتني
قال صدق
قال فاجعلني فيه بالخيار شهرين
قال أنت بالخيار أربعة أشهر
وأقبلت أم حكيم بنت الحارث بن هشام وكانت تحت عكرمة بن أبي جهل وهي مسلمة يومئذ فقالت يا رسول الله آمن زوجي وائذن لي في طلبه
فأذن لها وأمنه فأدركته ببعض تهامة وقيل باليمن فأقبل معها وأسلم فلما رآه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وثب إليه فرحا وما عليه رداء
وكانت فاختة بنت الوليد تحت صفوان بن أمية وكانت أسلمت أيضا فلما أسلم عكرمة وصفوان أقر سول الله {صلى الله عليه وسلم} كل واحدة منهما عند زوجها على النكاح الأول
وقالت أم هانئ بنت أبي طالب وكانت عند هبيرة بن أبي وهب المخزومي لما نزل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بأعلى مكة فر إلي رجلان من أحمائي من بني مخزوم فدخل علي أخي علي بن أبي طالب فقال والله لأقتلنهما فأغلقت عليهما بيتي ثم جئت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو بأعلى مكة فوجدته يغتسل من جفنة إن فيها لأثر العجين وفاطمة ابنته تستره بثوبه فلما اغتسل أخذ ثوبه فتوشح به ثم صلى ثماني ركعات من الضحى ثم انصرف إلي فقال مرحبا وأهلا يا أم هانئ ما جاء بك فأخبرته خبر الرجلين وخبر علي فقال قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ وأمنا من أمنت فلا يقتلهما
قال ابن هشام هما الحارث بن هشام وزهير بن أبي أمية بن المغيرة
(2/188)
ولما نزل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مكة واطمأن الناس خرج حتى جاء البيت فطاف به سبعا على راحلته ليستلم الركن بمحجن في يده فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له فدخلها فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها ثم وقف على باب الكعبة فقال
لا إله إلا الله صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ألا وقتيل الخطأ شبه العمد السوط والعصا ففيه الدية مغلظة مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء الناس لآدم وآدم من تراب
ثم تلا هذه الآية
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير الحجرات 13
ثم قال يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم قالوا خيرا أخ كريم وابن أخ كريم
ثم قال اذهبوا فأنتم الطلقاء
ثم جلس رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في المسجد فقام إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومفتاح الكعبة في يديه فقال يا رسول الله اجمع لنا الحجابة مع السقاية {صلى الله عليه وسلم} فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أين عثمان بن طلحة فدعى له فقال هاك مفتاحك يا عثمان اليوم يوم بر ووفاء
وقال لعلى فيما حكي ابن هشام إنما أعطيكم ما ترزأون لا ما ترزأون
وذكر ابن عقبة أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لما قضي طوافه نزل فأخرجت الراحلة فركع ركعتين ثم انصرف إلى زمزم فاطلع فيها وقال لولا أن يغلب بنو عبد المطلب على سقايتهم لنزعت منها بيدي
ثم انصرف إلى ناحية المسجد قريبا من مقام إبراهيم وكان المقام لاصقا بالكعبة فأخذه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ودعا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بسجل من ماء فشرب وتوضأ والمسلمون يبتدرون وضوءه يصبونه على وجوههم والمشركون ينظرون إليهم ويعجبون ويقولون ما رأينا ملكا قط بلغ هذا ولا سمعنا به
(2/189)
وذكر ابن هشام أيضا أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} دخل البيت يوم الفتح فرأى فيه صور الملائكة وغيرهم فرأى إبراهيم مصورا في يده الأزلام يستقسم بها فقال قاتلهم الله جعلوا شيخنا يستسقم بالأزلام ما شأن إبراهيم والأزلام ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين آل عمران 67 ثم أمر بتلك الصور كلها فطمست
وعن ابن عباس قال دخل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مكة يوم الفتح على راحلته فطاف عليها وحول البيت أصنام مشددة بالرصاص فجعل النبي يشير بقضيب
في يده إلى الأصنام وهو يقول جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا الإسراء 81 فما أشار إلى صنم منها في وجهه إلا وقع لقفاه ولا أشار إلى قفاه إلا وقع لوجهه حتى ما بقي صنم إلا وقع
فقال تميم بن أسد الخزاعي
وفي الأصنام معتبر وعلم
لمن يرجو الثواب أو العقابا
الوافر
وأراد فضالة بن عمير بن الملوح الليثي قتل النبي {صلى الله عليه وسلم} وهو بالبيت عام الفتح فلما دنا منه قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أفضالة قال نعم فضالة يا رسول الله قال ماذا كنت تحدث نفسك فقال لا شيء كنت أذكر الله
فضحك النبي {صلى الله عليه وسلم} ثم قال استغفر الله
ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه
فكان فضالة يقول والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إلي منه
قال فضالة فرجعت إلى أهلي فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها فقالت هلم إلى الحديث
فقلت لا
وانبعث فضالة يقول
قالت هلم إلى الحديث فقلت لا
يأبي عليك الله والإسلام
لو ما رأيت محمدا وقبيله
بالفتح يوم تكسر الأصنام
لرأيت دين الله أضحى بيننا
والشرك يغشى وجهه الإظلام
الكامل
وأمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لما دخل الكعبة عام الفتح بلالا أن يؤذن وكان دخل معه وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة فقال عتاب لقد أكرم الله أسيدا أن لا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه
فقال الحارث أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته
(2/190)
وقال أبو سفيان لا أقول شيئا لو تكلمت لأخبرته عني هذه الحصباء فخرج عليهم النبي {صلى الله عليه وسلم} فقال قد علمت الذي قلتم ثم ذكر ذلك لهم فقال الحارث وعتاب نشهد أنك
رسول الله والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك
وقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين افتتح مكة على الصفا يدعو وقد أحدقت به الأنصار فقالوا فيما بينهم أترون رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها
فلما فرغ من دعائه قال ماذا قلتم قالوا لا شيء يا رسول الله
فلم يزل بهم حتى أخبروه فقال معاذ الله المحيا محياكم والممات مماتكم
وعدت خزاعة الغد من يوم الفتح على رجل من هذيل يقال له ابن الأثوع فقتلوه وهو مشرك برجل من أسلم يقال له أحمر بأسا وكان رجلا شجاعا وكان إذا نام غط غطيطا منكرا لا يخفي مكانه فكان يبيت في حيه معتنزا فإذا بيت الحي صرخوا يا أحمر
فيثور مثل الأسد لا يقوم لسبيله شي
فأقبل غزي من هذيل يريدون حاضره حتى إذا دنوا من الحاضر قال ابن الأثوع الهذلي لا تعجلوا حتى أنظر فإذا كان في الحاضر أحمر فلا سبيل إليهم فإن له غطيطا لا يخفي
فاستمع فلما سمع غطيطه مشى إليه حتى وضع السيف في صدره ثم تحامل عليه حتى قتله
ثم أغاروا على الحاضر فصرخوا يا أحمر ولا أحمر لهم فلما كان الغد من يوم الفتح أتى ابن الأثوع الهذلي حتى دخل مكة ينظر ويسأل عن أمر الناس وهو على شركه فرأته خزاعة فعرفوه فأحاطوا به وهو إلى جنب جدار من جدر مكة يقولون أنت قاتل أحمر قال نعم أنا قاتل أحمر فمه
إذ أقبل خراش بن أمية مشتملا على السيف فقال هكذا عن الرجل
قال بعض من حضرهم ووالله ما نظن إلا أنه يريد أن يفرج الناس عنه فلما تفرجوا حمل عليه فطعنه بالسيف في بطنه فوالله لكأني أنظر إليه وحشوته تسيل من بطنه وإن عينيه لترنقان في رأسه وهو يقول أقد فعلتموها يا معشر خزاعة حتى انجعف فوقع
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لما بلغه ما صنع خراش بن أمية إن خراشا لقتال
يعيبه بذلك
(2/191)
وقام {صلى الله عليه وسلم} في الناس خطيبا فقال يا أيها الناس إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام من حرام الله إلى يوم القيامة فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما ولا يعضد فيها شجرا لم تحلل لأحد كان قبلي ولا تحل لأحد يكون بعدي ولم تحل لي إلا هذه الساعة غضبا على أهلها ألا ثم قد رجعت كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد منكم الغائب فمن قال لكم إن رسول الله قد قاتل
فقولوا إن الله قد أحلها لرسوله ولم يحلها لكم
يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل فقد كثر القتل أن يقع لقد قتلتم قتيلا لأدينه فمن قتل بعد مقامي هذا فهم بخير النظرين إن شاءوا فدم قاتله وإن شاءوا فعقله
ثم ودي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بمكة بعد فتحها خمس عشرة ليلة يقصر الصلاة
وكان فتحها لعشر ليال بقين من رمضان سنة ثمان
وكان مما قيل من الشعر في فتح مكة قول حسان بن ثابت وذكر ابن هشام أنه قالها قبل الفتح
عفت ذات الأصابع فالجواء
إلى عذراء منزلها خلاء
ديار من بني الحسحاس قفر
تعفيها الروامس والسماء
وكانت لا يزال بها أنيس
خلال مروجها نعم وشاء
فدع هذا ولكن من لطيف
يؤرقني إذا ذهب العشاء
لشعثاء التي قد تيمته
فليس لقلبه منه شفاء
كأن سبيئة من بيت رأس
يكون مزاجها عسل وماء
إذا ما الأشربات ذكرن يوما
فهن لطيب الراح الفداء
نوليها الملامة إن ألمنا
إذا ما كان مغث أو لحاء
ونشربها فتتركنا ملوكا
وأسدا ما ينهنهنا اللقاء
عدمنا خيلنا إن لم تروها
تثير النقع موعدها كداء
ينازعن الأعنة مصغيات
على أكتافها الأسد الظلماء
تظل جيادنا متمطرات
يلطمهن بالخمر النساء
فإما تعرضوا عنا اعتمرنا
وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلا فاصبروا لجلاد يوم
يعز الله فيه من يشاء
وجبريل رسول الله فينا
وروح القدس ليس له كفاء
وقال الله قد أرسلت عبدا
يقول الحق إن نفع البلاء
شهدت به فقوموا صدقوه
فقلتم لا نقوم ولا نشاء
وقال الله قد يسرت جندا
هم الأنصار عرضتها اللقاء
لنا في كل يوم من معد
(2/192)
سباب أو قتال أو هجاء
فنحكم بالقوافي من هجانا
ونضرب حين تختلط الدماء
ألا أبلغ أبا سفيان عني
مغلغلة فقد برح الخفاء
هجوت محمدا وأجبت عنه
وعند الله في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكفء
فشركما لخيركما الفداء
هجوت مباركا برا حنيفا
أمين الله شيمته الوفاء
أمن يهجو رسول الله منكم
ويمدحه وينصره سواء
فإن أبي ووالده وعرضي
لعرض محمد منكم وقاء
لساني صارم لا عيب فيه
وبحري لا تكدره الدلاء
الوافر
وقول ابن هشام إن حسان قال هذا الشعر قبل الفتح ظاهر في غير ما شيء من مقتضياته ومن ذلك مقاولته لأبي سفيان وهو ابن الحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وقد أسلم قبل الفتح في طريق رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى مكة كما تقدم
وكذلك ذكر ابن عقبة أن حسان قاله في فخرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى مكة
وأن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لما دخل مكة نظر إلى النساء يلطمن الخيل بالخمر فالتفت إلى أبي بكر فتبسم لقول حسان في ذلك يلطمهن بالخمر النساء
وقال أنس بن زنيم الديلي يعتذر إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مما قال فيهم عمرو بن سالم الخزاعي
وأنت الذي تهدى معد بأمره
بل الله يهديهم وقال لك اشهد
وما حملت من ناقة فوق رحلها
أبر وأوفى ذمة من محمد
أحث على خير وأسبغ نائلا
إذا راح كالسيف الصقيل المهند
وأكسي لبرد الخال قبل ابتذاله
وأعطى لرأس السابق المتجرد
تعلم رسول الله أنك مدركي
وأن وعيدا منك كالأخذ باليد
تعلم رسول الله أنك قادر
على كل صرم متهمين ومنجد
تعلم بأن الركب ركب عويمر
هم الكاذبون المخلفوا كل موعد
ونبوا رسول الله أني هجوته
فلا حملت سوطي إلي إذا يدي
سوى أنني قد قلت ويلم فتية
أصيبوا بنحس لائط وبأسعد
ذؤيب وكلثوم وسلمى تتابعوا
جميعا فإن لا تدمع العين أكمد
أصابهم من لم يكن لدمائهم
كفاء فعزت عبرتي وتبلدي
الطويل
وقال بجير بن زهير بن أبي سلمى في يوم الفتح
نفي أهل الحبلق كل فج
مزينة غدوة وبنو خفاف
ضربناهم بمكة يوم فتح النبي
الخير بالبيض الخفاف
صبحناهم بسلع من سليم
(2/193)
وألف من بني عثمان وافي
نطا أكتافهم ضربا وطعنا
ورشقا بالمريشة اللطاف
ترى بين الصفوف لها حفيفا
كما انصاع الفواق من الرصاف
فرحنا والجياد تجول فيهم
بأرماح مقومة الثقاف
فأبنا غانمين بما اشتهينا
وآبوا نادمين على الخلاف
وأعطينا رسول الله منا
مواثيقا على حسن التصافي
وقد سمعوا مقالتنا فهموا
غداة الروع منا بانصراف
الوافر
وقال عباس بن مرداس السلمى في فتح مكة
منا بمكة يوم فتح محمد
ألف تسيل به البطاح مسوم
نصروا الرسول وشاهدوا أيامه
وشعارهم يوم اللقاء مقدم
في منزل ثبتت به أقدامهم
ضنك كأن الهام فيه الحنتم
جرت سنابكها بنجد قبلها
حتى استعاد لها الحجاز الأدهم
الله مكنه له وأذله
حكم السيوف لنا وجد مزحم
الكامل
وقال نجيد بن عمران الخزاعي
وقد أنشأ الله السحاب بنصرنا
ركام سحاب الهيدب المتراكب
وهجرتنا في أرضنا عندنا بها
كتاب أتى من خير ممل وكاتب
ومن أجلنا حلت بمكة حرمة
لندرك ثأرا بالسيوف القواضب
الطويل
ولما فتح الله على رسوله {صلى الله عليه وسلم} مكة بعث السرايا فيما حولها يدعو إلى الله ولم يأمرهم بقتال
وكان ممن بعث خالد بن الوليد وأمره أن يسير بأسفل تهامة داعيا ولم يبعثه مقاتلا ومعه قبائل من العرب فوطئوا بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة
فلما رآه القوم أخذوا السلاح فقال خالد ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا
فقال رجل منها يقال له جحدم ويلكم يا بني جذيمة إنه خالد والله ما
بعد وضع السلاح إلا الإسار وما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق والله لا أضع سلاحي أبدا
فأخذه رجال من قومه فقالوا يا جحدم أتريد أن تسفك دماءنا إن الناس قد أسلموا ووضعت الحرب وأمن الناس فلم يزالوا به حتى نزعوا سلاحه ووضع القوم السلاح لقول خالد
فلما وضعوه أمر بهم خالد عند ذلك فكتفوا ثم عرضهم على السيف فقتل من قتل منهم
وقال لهم جحدم حين وضعوا سلاحه ورأى ما يصنع بهم يا بني جذيمة ضاع الضرب قد كنت حذرتكم ما وقعتم فيه
(2/194)
فلما انتهى الخبر إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} رفع يديه إلى السماء ثم قال اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد
وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لرجل انفلت منهم فأتاه بالخبر هل أنكر عليه أحد فقال نعم قد أنكر عليه رجل أبيض ربعة فنهمه خالد فسكت عنه وأنكر عليه رجل أحمر مضطرب فراجعه فاشتدت مراجعتهما
فقال عمر بن الخطاب أما الأول يا رسول الله فابني عبد الله وأما الآخر فسالم مولى أبي حذيفة
وذكروا أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال رأيت كأني لقمت لقمة من حيس فالتذذت طعمها فاعترض في حلقي منها شيء حين ابتلعتها فأدخل علي يده فنزعه
فقال أبو بكر هذه سرية من سراياك تبعثها فيأتيك منها بعض ما تحب ويكون في بعضها اعتراض فتبعث عليا فيسهله
ثم لما كان من خالد في بني جذيمة ما كان دعا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} علي بن أبي طالب فقال يا علي اخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك
فخرج علي حتى جاءهم ومعه مال قد بعث به رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فودى لهم الدماء وما أصيب من الأموال حتى إنه ليدي لهم ميلغة الكلب حتى إذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلا وداه بقيت معه بقية من المال فقال لهم
على حين فرغ منه هل بقي دم أو مال لم يود لكم قالوا لا قال فإني أعطيكم هذه البقية من هذا المال احتياطا لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} مما لا يعلم ولا تعلمون
ففعل ثم رجع إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فاخبره الخبر فقال أصبت وأحسنت
ثم قام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فاستقبل القبلة قائما شاهرا يديه حتى انه ليرى ما تحت منكبيه يقول اللهم أني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد ثلاث مرات
وقد قال بعض من يعذر خالدا انه قال ما قاتلت حتى امرني بذلك عبد الله بن حذافة السهمي وقال أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أمر أن تقاتلهم لا متناعهم من الإسلام
وحدث ابن أبي حدرد الأسلمي قال
(2/195)
كنت يومئذ في خيل خالد بن الوليد فقال لي فتى من بني جذيمة وهو في سني وقد جمعت يداه إلى عنقه برمة ونسوة مجتمعات غير بعيد منه يا فتى قلت ما تشاء قال هل أنت اخذ بهذه الرمة فقائدي إلى هؤلاء النسوة حتى أقضى إليهن حاجة ثم تردني بعد فتصنعوا بي بعد ما بدا لكم قال قلت والله ليسير ما طلبت فأخذت برمته فقدته بها حتى أوقفته عليهن فقال اسلمي حبيش على نفد العيش
أربتك إذا طالبتكم فوجدتكم
بحلية أو ألفيتكم بالخوانق (
( آلم يك أهلا أن ينول عاشق تكلف إدلاج السري والودائق (
( فلا ذنب لي قد قلت إذ أهلنا معا
أثيبي بود قبل الصفائق
أثيبي بود قبل أن تشحط النوي
وينأي الأمير بالحبيب المفارق
الطويل
فقالت وأنت فحييت سبعا وعشرا وترا وثمانيا تترى
قال ثم انصرفت به فضربت عنقه
فما زالت تقبله حتى ماتت عنده
وخرج النسائي هذه القصة في مصنفة في باب قتل الأساري من حديث ابن عباس أن النبي {صلى الله عليه وسلم} بعث سرية فغنموا وفيهم رجل قال إني لست منهم عشقت امرأة فلحقتها فدعوني أنظر إليها نظرة ثم اصنعوا بي ما بدا لكم
قال فإذا امرأة طويلة أدماء فقال اسلمي حبيش قبل نفد العيش وذكر بعض الشعر المتقدم وبعده قالت نعم فديتك
قال فقدموه فضربوا عنقه فجاءت المرأة فوقفت عليه فشهقت شهقة أو شهقتين ثم ماتت فلما قدموا على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أخبروه الخبر فقال {صلى الله عليه وسلم} ( أما كان فيكم رجل رحيم )
ثم بعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خالد بن الوليد إلى العزي وكانت بنخلة وكان بيتا تعظمه قريش وكنانة ومضر كلها وكان سدنتها وحجابها بني شيبان من بني سليم حلفاء بن هاشم فلما سمع صاحبها السلمي بسير خالد إليها علق عليها سيفه وأسند في الجبل الذي هو فيه وهو يقول
( أيا عز شدي شدة لا شوى لها
على خالد ألقى القناع وشمري )
أ ( يا عز إن لم تقتلي المرء خالدا فبوئي بإثم عاجل أو تنصري ) ) الطويل
فلما انتهى إليها خالد هدمها
ثم رجع إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
غزوة حنين
(2/196)
ولما سمعت هوزان برسول الله {صلى الله عليه وسلم} وما فتح الله عليه من مكة جمعها مالك ابن عوف النصري فاجتمع إليه مه هوزان ثقيف كلها واجتمعت نضر وجشم كلها وسعد بن بكر وناس من بني هلال وهم قليل ولم يشهدها من قيس عيلان إلا هؤلاء
وفي بني جشم دريد بن الصمة شيخ كبير ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه ومعرفته بالحرب وجماع أمر الناس إلى مالك بن عوف
فلما أجمع السير إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حط مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم فلما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس وفيهم دريد بن الصمة في شجار له يقاد به فلما قال في أي واد أنتم قالوا بأوطاس
قال نعم مجال الخيل لا حزن ضرس ولا سهل دهس مالي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير ويعار الشاء قالوا ساق مالك بن عوف مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم
قال أين مالك فدعي له فقال يا مالك انك أصبحت رئيس قومك وإن هذا يوم له ما بعده مالي اسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير ويعار الشاء قال سقت مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم أردت أن اجعل خلف كل رجل منهم أهله وماله ليقاتل عنهم قال فانقض به وقال راعى ضأن والله وهل يرد المنهزم شيء إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك
ثم قال ما فعلت كعب وكلاب قالوا لم يشهدها منهم أحد
قال غاب الحد والجد لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب وكلاب ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب فمن شهدها منكم قالوا عمرو بن عامر
وعوف بن عامر
قال ذانك الجذعان لا ينفعان ولا يضران يا مالك إنك لم تصنع بتقديم بيضة هوزان إلى نحور الخيل شيئا ارفعهم إلى ممتنع بلادهم وعلياء قومهم ثم الق الصبا على متون الخيل فإن كانت لك لحق بك من وراءك وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك
قال والله لا أفعل إنك قد كبرت وكبر عقلك والله لتطيعنني يا معشر هوازن أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري
وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي قالوا أطعناك
(2/197)
فقال دريد ابن الصمة هذا يوم لم أشهده ولم يفتني
( يا ليتني فيها جذع
أخب فيها وأضع ( الرجز
ثم قال مالك للناس إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم ثم شدوا شدة رجل واحد
وبعث مالك بن عوف عيونا من رجاله فأتوه وقد تفرقت أوصالهم فقال ويلكم ما شأنكم قالوا رأينا رجالا بيضا على خيل بلق والله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى
فو الله ما رده ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد
ولما سمع بهم نبي الله {صلى الله عليه وسلم} بعث إليهم عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي وأمره أن يدخل في الناس ويقيم فيهم حتى يعلم علمهم ثم يأتيه بخبرهم فانطلق ابن أبي حدرد فدخل فيهم حتى سمع وعلم ما قد أجمعوا عليه من حرب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وسمع من مالك أمر هوزان ما هم له ثم أقبل حتى أتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأخبره الخبر
فلما أجمع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} السير إلى هوازن ذكر له أن عند صفوان بن أمية أدراعا وسلاحا فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك فقال يا أبا أمية أعرنا سلاحك هذا نلقي فيها عدونا غدا فقال صفوان أغصبا يا محمد فقال بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك قال ليس بهذا بأس
فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح فزعموا أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سأله أن يكفيهم حملها ففعل
ثم خرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عامدا لحنين معه ألفان من أهل مكة وعشرة آلاف من أصحابه الذين فتح الله بهم مكة فكانوا اثني عشر ألفا
وذكر أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال حين فصل من مكة إلى حنين ورأي كثرة من معه من جنود الله ( لن نغلب اليوم من قلة (
وزعم بعض الناس أن رجلا من بني بكرة قالها
واستعمل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس على مكة أميرا على من تخلف عنه من الناس
ثم مضى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على وجهه يريد لقاء هوازن
قال ابن عقبة وكان أهل حنين يظنون حين دنا منهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يعني في توجهه إلى مكة أنه باديء بهم وصنع الله لرسوله ما هو أحسن من ذلك فتح له مكة فأقر بها عينه وكبت بها عدوه
(2/198)
فلما خرج {صلى الله عليه وسلم} إلى حنين خرج معه أهل مكة ركبانا ومشاة حتى خرج معه النساء يمشين على غير دين نظارا ينظرون ويرجون الغنائم ولا يكرهون أن تكون الصدمة برسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه
وحدث أبو واقد الليثي قال خرجنا مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى حنين ونحن حديثوا عهد بالجاهلية وكانت لكفار قريش ومن سواهم من العرب شجرة خضراء عظيمة يقال لها ذات أنواط
يأتونها كل سنة فيعلقون عليها أسلحتهم ويذبحون
عندها ويعكفون عليها يوما قال فرأينا ونحن نسير معه سدرة خضراء عظيمة فتنادينا من جنبات الطريق اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ( الله أكبر قلتم والذي نفس محمد بيده كما قال قوم موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون الأعراف 138 فإنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم )
وحدث جابر بن عبد الله قال لما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف حطوط إنما ننحدر فيه انحدارا قال وذلك في عماية الصبح وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي فكمنوا لنا في شعابه وأحنائه ومضايقه قد أجمعوا وتهيأوا فو الله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدوا علينا شدة رجل واحد وانشمر الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد
وانحاز رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ذات اليمن ثم قال أيها الناس هلم إلى أنا رسول الله أنا محمد بن عبد الله قال فلا شيء حملت الإبل بعضها على بعض وأنطلق الناس إلا انه قد بقي مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته وفيمن ثبت معه من المهاجرين أبو بكر وعمر ومن أهل بيته علي بن أبي طالب والعباس وأبو سفيان بن الحارث وابنه والفضل بن عباس وربيعة بن الحارث وأسامة بن زيد وأيمن بن عبيد وهو ابن أم أيمن قتل يومئذ
(2/199)
قال ورجل من هوازن على جمل له أحمر بيده راية سوداء في رأس رمح طويل أمام هوزان وهم خلفه إذا أدرك طعن برمحه وإذا فاته الناس رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه فبينا ذلك الرجل يصنع ما يصنع إذ أهوى له علي بن أبي طالب ورجل من الأنصار يريدانه قال فيأتي علي من خلفه فضرب عرقوبي الجمل فوقع على عجزه ووثب الأنصاري على الرجل فضربة ضربة أطن قدمه بنصف ساقه فانجعف عن رحله
قال ابن إسحاق فلما انهزم الناس ورأى من كان مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من
جفاة أهل مكة الهزيمة تكلم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن فقال أحدهم لا تنتهي هزيمتهم دون البحر
وإن الأزلام لمعه في كنانته
وصرخ آخر منهم إلا بطل السحر اليوم فقال له صفوان بن أمية وهو يومئذ مشرك في المدة التي جعل له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اسكت فض الله فاك فوالله لأن يربني رجل من قريش أحب إلى من أن يربني رجل من هوازن
وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة أخوبني عبد الدار وكان أبوه قتل يوم أحد قلت اليوم أدرك ثأري اليوم أقتل محمدا
فأدرت برسول الله لأقتله فأقبل شيء حتى تغشى فؤادي فلم أطق ذلك وعلمت أني ممنوع منه
وذكر ابن أبي خثيمة حديث شيبة هذا قال لما رأيت النبي {صلى الله عليه وسلم} يوم حنين أعري ذكرت أبي وعمي قتلهما حمزة قلت اليوم أدرك ثأري في محمد
فجئته عن يمينه فإذا أنا بالعباس قائما عليه درع بيضاء قلت عمه لن يخذله
فجئته عن يساره فإذا أنا بأبي سفيان بن الحارث قلت ابن عمه لن يخذله فجئته من خلفه فدنوت ودنوت حتى لم يبق إلا أن أسور سورة بالسيف فرفع الي شواظ من نار كأنه البرق فنكصت على عقبي القهقري
فالتفت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال يا شيبة ادنه
فدنوت فوضع يده على صدري فاستخرج الله الشيطان من قلبي فرفعت إليه بصري فلهو أحب إلي من سمعي وبصري فقال لي يا شيبة قاتل الكفار
فقاتلت معه {صلى الله عليه وسلم}
(2/200)
وحدث العباس بن عبد المطلب قال إني لمع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} آخذ بحكمة بغلته البيضاء قد شجرتها بها وكنت امرء جسيما شديد الصوت ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول حين رأى ما رأى من أمر الناس أين آيها الناس فلم أر الناس يلوون على شيء فقال يا عباس اصرخ يا معشر الأنصار يا معشر أصحاب السمرة
قال فأجابوا لبيك لبيك
قال فيذهب الرجل ليثني بعيره فلا يقدر على ذلك فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه ويأخذ سيفه وترسه ويقتحم عن بعيره ويخلي سبيله فيؤم الصوت حتى ينتهي إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة
استقبلوا الناس فاقتتلوا فكانت الدعوى أول ما كانت للأنصار ثم خلصت آخرا للخروج وكانوا صبرا عند الحرب فأشرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في ركابئه فنظر إلى مجتلد القوم فقال الآن حمي الوطيس
قال جابر بن عبد الله في حديثه واجتلد الناس فوالله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأساري مكتفين عند رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
قال والتفت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى أبي سفيان بن الحارث وكان حسن الإسلام وممن صبر يومئذ معه وهو آخذ بثغر بغلته فقال من هذا قال أنا ابن أمك يا رسول الله
وذكر ابن عقبة أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لما غشيه القتال يومئذ قام في الركابين وهو على البغلة
ويقولون نزل
فرفع يديه إلى الله يدعوه يقول اللهم إني أنشدك ما وعدتني اللهم لا ينبغي لهم أن يظهروا علينا
ونادى أصحابه فذمرهم يا أصحاب البيعة يوم الحديبية يا أصحاب سورة البقرة يا أنصار الله وأنصار رسوله يا بني الخزرج
وقبض قبضة من الحصباء فحصب بها وجوه المشركين ونواحيهم كلها
وقال شاهت الوجوه
فهزم الله أعداءه من كل ناحية حصبهم فيها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأتبعهم المسلمون يقتلونهم وغنمهم الله نساءهم وذراريهم وشاههم وإبلهم وفر مالك بن عوف حتى دخل حصن الطائف في ناس من أشراف قومه
وأسلم عند ذلك ناس كثير من أهل مكة وغيرهم حين رأوا نصر الله ورسوله وإعزاز دينه
(2/201)
وحدث جبير بن مطعم قال لقد رأيت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون مثل البجاد الأسود أقبل من السماء حتى سقط بيننا وبين القوم فنظرت فإذا نمل أسود مبثوث قد ملأ الوادي ولم أشك إنها الملائكة فلم تكن إلا هزيمة القوم
والتفت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يومئذ فرأى أم سليم بنت ملحان وكانت مع زوجها أبي طلحة وهي حازمة وسطها ببرد لها وإنها لحامل بعبد الله بن أبي طلحة ومعها جمل أبي طلحة قد خشيت أن يعزها فأدنت رأسه منها فأدخلت يدها في خزامته مع الخطام فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أم سليم
قالت نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله اقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما تقتل الذين يقاتلونك فإنهم لذلك أهل
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أو يكفي الله يا أم سليم
وقال لها أبو طلحة ما هذا الخنجر يا أم سليم لخنجر رآه عندها
قالت خنجر اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بعجته به
فقال أبو طلحة إلا تسمع يا رسول الله ما تقول أم سليم
وحدث أنس أن أبا طلحة استلب وحده يوم حنين عشرين رجلا
وقال أبو قتادة
رأيت يوم حنين رجلين يقتتلان مسلما ومشركا فإذا رجل من المشركين يريد أن يعين صاحبه المشرك على المسلم فأتيته فضربت يده فقطعتها واعتنقني بيده الأخرى فوالله ما أرسلني حتى وجدت ريح الدم
ويروي ريح الموت
فلولا أن الدم نزفه لقتلني فسقط فضربته فقتلته وأجهضني عنه القتال
فلما وضعت الحرب أوزارها وفرغنا من القوم قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من قتل قتيلا فله سلبه
فقلت يا رسول الله والله لقد قتلت قتيلا ذا سلب فأجهضني عنه القتال فما أدري من استلبه
فقال رجل من أهل مكة صدق يا رسول الله فأرضه عني من سلبه
فقال أبو بكر لا والله لا ترضيه منه تعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن دين الله تقاسمه سلبه اردد عليه سلب قتيله
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} صدق اردد عليه سلبه
قال أبو قتادة فأخذته منه فبعته فاشتريت بثمنه مخرفا فإنه لأول مال اعتقدته
(2/202)
ولما انهزمت هوازن استحر القتل من ثقيف في بني مالك فقتل منهم سبعون رجلا تحت رايتهم فيهم عثمان بن عبد الله بن ربيعة ومعه كانت راية بني مالك
وكانت قبله مع ذي الخمار فلما قتل أخذها عثمان فقاتل بها حتى قتل فلما بلغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قتله قال أبعده الله فإنه كان يبغض قريشا
وكانت راية الأحلاف مع قارب بن الأسود فلما انهزم الناس هرب هو وقومه من الأحلاف فلم يقتل منهم غير رجلين يقال لأحدهما وهب وللآخر الجلاح فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين بلغه قتل الجلاح قتل اليوم سيد شباب ثقيف إلا ما كان من ابن هنيدة
يعني الحارث بن أويس
ولما انهزم المشركون أتوا الطائف ومعهم مالك بن عوف وعسكر بعضهم بأوطاس وتوجه بعضهم نحو نخلة وتبعت خيل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من سلك في نخلة من الناس ولم تتبع من سلك الثنايا فأدرك ربيعة بن رفيع وكان يقال له ابن الدغنة وهي أمه غلبت على اسمه أدرك دريد بن الصمة فأخذ بخطام جمله وهو يظن انه امرأة وذلك انه كان في شجار له فأناخ به فإذا شيخ كبير وإذا هو دريد ولا يعرفه الغلام فقال له دريد ماذا تريد بي قال أقتلك
قال ومن أنت قال أنا ربيعة بن رفيع السلمي
ثم ضربه بسيفه فلم يغن شيئا فقال بئس ما سلحتك أمك خذ سيفي هذا من مؤخر الرحل ثم اضرب به وارفع عن العظام واخفض عن الدماغ فإني كذلك كنت أضرب الرجال ثم إذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمة فرب والله يوم قد منعت فيه نساءك
فزعم بنو سليم أن ربيعة قال لما ضربته فوقع تكشف فإذا عجانه وبطون فخذيه مثل القرطاس من ركوب الخيل أعراء
فلما رجع ربيعة إلى أمه أخبرها بقتله إياه فقالت أما والله لقد أعتق أمهات لك ثلاثا
وقالت عميرة بنت دريد ترثي أباها
قالوا قتلنا دريدا قد صدقوا
فظل دمعي على السربال ينحدر
لولا الذي قهر الأقوام كلهم
رأت سليم وكعب كيف يأتمر
البسيط
(2/203)
وبعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في آثار من توجه قبل أوطاس أبا عامر الأشعري فأدرك بعض المنهزمة فناوشوه القتال فرمي بسهم فقتل فأخذ الراية أبو موسى الاشعري ففتح الله عليه وهزمهم الله
ويزعمون أن سلمة بن دريد هو الذي رمى أبا عامر
وذكر ابن هشام عمن يثق به أن أبا عامر الاشعري لقي يوم أوطاس عشرة أخوة من المشركين فحمل عليه أحدهم فحمل عليه أبو عامر وهو يدعوه إلى الإسلام ويقول اللهم أشهد عليه
فقتله أبو عامر ثم حمل عليه آخر فحمل عليه أبو عامر وهو يدعوه إلى الإسلام ويقول اللهم اشهد عليه فقتله أبو عامر ثم جعلوا يحملون عليه رجلا بعد رجل ويحمل أبو عامر ويقول ذلك حتى قتل تسعة وبقي العاشر فحمل على أبي عامر وحمل عليه أبو عامر وهو يدعوه إلى الإسلام ويقول اللهم اشهد عليه
فقال الرجل اللهم لا تشهد علي
فكف عنه أبو عامر فأفلت ثم اسلم بعد فحسن إسلامه فكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إذا رآه قال هذا شريد أبي عامر
ورمى أبا عامر يومئذ فيما ذكر ابن هشام أخوان من بني جشم بن معاوية فأصاب أحدهما قلبه والآخر ركبته فقتلاه وولي الناس أبو موسى ألاشعري فحمل عليهما فقتلهما
وذكر ابن إسحاق أن القتل استحر في بني نصر بن رئاب فزعموا أن
عبد الله بن قيس الذي يقال له ابن العوراء وهو أحد بني وهب بن رئاب قال يا رسول الله هلكت بنو رئاب
فزعموا أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال اللهم اجبر مصيبتهم
وخرج مالك بن عوف عند الهزيمة فوقف في فوارس من قومه على ثنية من الطريق وقال لأصحابه قفوا حتى يمضي ضعفاؤكم وتلحق أخراكم
فوقف هنا لك حتى مضى من كان لحق بهم من منهزمة الناس
قال ابن هشام وبلغني أن خيلا طلعت ومالك وأصحابه على الثنية فقال لأصحابه ماذا ترون قالوا نرى قوما واضعي رماحهم بين آذان خيلهم طويلة بوادهم
فقال هؤلاء بنو سليم ولا بأس عليكم منهم فلما أقبلوا سلكوا بطن الوادي ثم طلعت خيل أخرى تتبعها فقال لأصحابه ماذا ترون قالوا نرى أقواما عارضي أرماحهم أغفالا على خيلهم
(2/204)
قال هؤلاء الأوس والخزرج ولا بأس عليكم منهم فلما انتهوا إلى أصل الثنية سلكوا طريق بني سليم ثم اطلع فارس فقال لأصحابه ماذا ترون قالوا نرى فارسا طويل الباد واضعا رمحه على عاتقه عاصبا رأسه بملاءة حمراء
فقال هذا الزبير بن العوام وأحلف باللات ليخالطنكم فاثبتوا له
فلما انتهى الزبير إلى اصل الثنية ابصر القوم فصمد لهم فلم يزل يطاعنهم حتى أزاحهم عنها
وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يومئذ إن قدرتم على بجاد رجل من بني سعد بن بكر فلا يفلتنكم وكان قد أحدث حدثا
فلما ظفر به المسلمون ساقوه وأهله وساقوا معه الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى أخت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من الرضاعة فعنفوا عليها في السياق فقالت للمسلمين تعلموا والله أني لأخت صاحبكم من الرضاعة
فلم يصدقوها حتى أتوا بها النبي {صلى الله عليه وسلم} فلما انتهوا بها إليه قالت يا رسول الله إني أختك
قال وما علامة ذلك قالت عضة عضضتنيها
في ظهري وأنا متوركتك فعرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} العلامة فبسط لها رداءه فأجلسها عليه وخيرها فقال إذا أحببت فعندي محبة مكرمة وإن أحببت أن أمتعك وترجعي إلى قومك فعلت
قالت بل تمتعني وتردني إلى قومي
فمتعها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وردها إلى قومها
فزعمت بنو سعد أنه أعطاها غلاما له يقال له مكحول وجارية فزوجت أحدهما الآخر فلم يزل فيهم من نسلهما بقية
وأنزل الله تبارك وتعالى في يوم حنين لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين
ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين 25 26 التوبة
واستشهد من المسلمين يوم حنين من قريش ثم من بني هاشم أيمن بن عبيد مولاهم
ومن بني أسد بن عبد العزى يزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب جمح به فرس يقال له الجناح فقتل
ومن الأنصار سراقة بن الحارث العجلاني
ومن الأشعريين أبو عامر ألاشعري
(2/205)
ثم جمعت إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سبايا حنين وأموالها فأمر بها إلى الجعرانة فحبست بها حتى أدركها هنا لك منصرفه عن الطائف على ما يذكر بعد إن شاء الله تعالى
وقال عباس بن مرداس السلمي في يوم حنين
عفا مجدل من أهله فمتالع
فمطلا أريك قد خلا فالمصانع
ديار لنا يا جمل إذ جل عيشنا
رخي وصرف الدهر للحي جامع
حبيبة ألوت بها غربة النوى
لبين فهل ماض من العيش راجع
فإن تبتغي الكفار غير ملومة
فإني وزير للنبي وتابع
دعانا إليه خير وفد علمتم
خزيمة والمرار منهم وواسع
فجئنا بألف من سليم عليهم
لبوس لهم من نسج داود رائع
نبايعه بالأخشبين وإنما
يد الله بين الأخشبين نبايع
فحسنا مع المهدي مكة عنوة
بأسيافنا والنقع كاب وساطع
علانية والخيل يغشى متونها
حميم وآن من دم الجوف ناقع
ويوم حنين حين سارت هوازن
إلينا وضاقت بالنفوس الأضالع
صبرنا مع الضحاك لا يستفزنا
قراع الأعادي منهم والوقائع
أمام رسول الله يخفق فوقنا
لواء كخدروف السحابة لامع
عشية ضحاك بن سفيان معتص
بسيف رسول الله والموت كانع
نذود أخانا عن أخينا ولو نرى
مصالا لكنا الأقربين نتابع
ولكن دين الله دين محمد
رضينا به فيه الهدى والشرائع
أقام به بعد الضلالة أمرنا
وليس لأمر حمه الله دافع
الطويل
وقال عباس أيضا
تقطع باقي وصل أم مؤمل
بعاقبة واستبدلت نية خلفا
وقد حلفت بالله لا تقطع النوى
فما صدقت فيه ولا برت الحلفا
خفافية بطن العقيق مصيفها
وتحتل في البادين وجرة فالعرفا
فإن تتبع الكفار أم مؤمل
فقد زودت قلبي على نأيها شغفا
وسوف ينبيها الخبير بأننا
أبينا ولم نطلب سوى ربنا حلفا
وإنا مع الهادي النبي محمد
وفينا ولم نستوفها معشر ألفا
بفتيان صدق من سليم أعزة
أطاعوا فما يعصون من أمره حرفا
خفاف وذكوان وعوف تخالهم
مصاعب زافت في طروقتها كلفا
كأن النسيج الشهب والبيض ملبس
أسودا تلاقت في مراصدها غضفا
بنا عز دين الله غير تنحل
وزدنا على الحي الذي معه ضعفا
بمكة إذ جئنا كأن لواءنا
(2/206)
عقاب أرادت بعد تحليقها خطفا
على شخص الأبصار تحسب بينها
إذا هي جالت في مواردها عزفا
غداة وطئنا المشركين ولم نجد
لأمر رسول الله عدلا ولا صرفا
بمعترك لا يسمع القوم وسطه
لنا رحمة إلا التذامر والنقفا
ببيض تطير الهام عن مستقرها
وتقطف أعناق الكماة بها قطفا
فكأين تركنا من قتيل ملحب
وأرملة تدعو على بعلها لهفا
رضا الله ننوي لا رضا الناس نبتغي
لله ما يبدو جميعا وما يخفي
الطويل
وقال عباس أيضا
ما بال عينك فيها عائر سهر
مثل الحماطة أغضى فوقها الشفر
عين تأوبها من شجوها أرق
فالماء يغمرها طورا وينحدر
كأنه نظم در عند ناظمه
تقطع السلك منه فهو منتثر
ما بعد منزل من ترجو مودته
ومن أتى دونه الصمان فالحفر
دع ما تقدم من عهد الشباب فقد
ولي الشباب وزار الشيب والزعر
واذكر بلاء سليم في مواطنها
وفي سليم لأهل الفخر مفتخر
قوم هم نصروا الرحمن واتبعوا
دين الرسول وأمر الناس مشتجر
الضاربون جنود الشرك ضاحية
ببطن مكة والأرواح تبتدر
حتى رفعنا وقتلاهم كأنهم
نخل بظاهرة البطحاء منقعر
ونحن يوم حنين كان مشهدنا
للدين عزا وعند الله مدخر
إذ نركب الموت مخضرا بطائنه
والخيل ينجاب عنها ساطع كدر
تحت اللوامع والضحاك يقدمنا
كما مشى الليث في غاباته الخدر
في مأزق من مجر الحرب كلكلها
تكاد تأفل منه الشمس والقمر
وقد صبرنا بأوطاس أسنتنا
لله ننصر من شئنا وننتصر
حتى تأوب أقوام منازلهم
لولا المليك ولولا نحن ما صدروا
فما ترى معشرا قلوا ولا كثروا
إلا قد أصبح منا فيهم أثر
البسيط
وقال عباس بن مرداس أيضا رضي الله عنه
يا آيها الرجل الذي تهوي به
وجناء مجمرة المناسم عرمس
إما أتيت على النبي فقل له
حقا عليك إذا اطمأن المجلس
يا خير من ركب المطي ومن مشى
فوق التراب إذا تعد الأنفس
إنا وفينا بالذي عاهدتنا
والخيل تقدع بالكماة وتضرس
إذ سال من أفناء بهثة كلها
جمع تظل به المخارم ترجس
حتى صبحنا أهل مكة فيلقا
شهباء يقدمها الهمام الأشوس
(2/207)
من كل أغلب من سليم فوقه
بيضاء محكمة الدخال وقونس
وعلي حنين قد وفى من جمعنا
ألف أمد به الرسول عرندس
كانوا أمام المؤمنين دريئة
والشمس يومئذ عليها أشمس
نمضي ويحرسنا الإله بحفظه
والله ليس بضائع من يحرس
ولقد حبسنا بالمناقب محبسا
رضي الإله بهم فنعم المحبس
وغداة أوطاس شددنا شدة
كفت العدو وقيل منها يحبس
ندعو هوازن بالإخاءة بيننا
ثدي تمد به هوازن أيبس
حتى تركنا جمعهم وكأنه
عير تعاقبه السباع مفرس
) الكامل
وقال عباس بن مرداس أيضا
نصرنا رسول الله من غضب له
بألف كمي لا تعد حواسره
حملنا له في عامل الرمح راية
يذود بها في حومة الموت ناصره
ونحن خضبناها دما فهو لونها
غداة حنين يوم صفوان شاجره
وكنا على الإسلام ميمنة له
وكان لنا عقد اللواء وشاهره
وكنا له يوم الجنود بطانة
يشاورنا في أمره ونشاوره
دعانا فسمانا الشعار مقدما
وكان له عونا على من يناكره
جزى الله خيرا من نبي محمدا
وأيده بالنصر والله ناصره
الطويلغزوة الطائف
ولما قدم فل الطائف أغلقوا عليهم أبواب مدينتها وصنعوا الصنائع للقتال ولم يشهد حنينا ولا الطائف عروة بن مسعود ولا غيلان بن سلمة كانا بجرش يتعلمان صنعة الدبابات والمجانيق والضبور
ثم سار رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى الطائف حين فرغ من حنين فقال كعب بن مالك حين أجمع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} السير إليها
قضينا من تهامة كل ريب
وخيبر ثم أجممنا السيوفا
نخيرها ولو نطقت لقالت
قواطعهن دوسا أو ثقيفا
فلست لحاضن إن لم تروها
بساحة داركم منا ألوفا
وننتزع العروش ببطن وج
وتصبح دوركم منكم خلوفا
ويأتيكم لنا سرعان خيل
يغادر خلفه جمعا كثيفا
إذا نزلوا بساحتكم سمعتم
لها مما أناخ بها رجيفا
بأيديهم قواضب مرهفات
يزرن المصطلين بها الحتوفا
كأمثال العقائق أخلصتها
قيون الهند لم تضرب كتيفا
تخال جدية الأبطال فيها
غداة الروع جاديا مدوفا
أجدهم أليس لهم نصيح
من الأقوام كان بنا عريفا
يخبرهم بأنا قد جمعنا
عتاق الخيل والنجب الطروفا
(2/208)
وأنا قد أتيناهم بزحف
يحيط بسور حصنهم صفوفا
رئيسهم النبي وكان صلبا
نقي القلب مصطبرا عزوفا
رشيد الأمر ذا حكم وعلم
وحلم لم يكن نزقا خفيفا
نطيع نبينا ونطيع ربا
هو الرحمن كان بنا رءوفا
فإن تلقوا إلينا السلم نقبل
ونجعلكم لنا عضدا وريفا
وإن تأبوا نجاهدكم ونصبر
ولا يك أمرنا رعشا ضعيفا
نجالد ما بقينا أو تنيبوا
إلى الإسلام إذ عانا مضيفا
نجاهد لا نبالى ما لقينا
أأهلكنا التلاد أم الطريفا
وكم من معشر ألبوا علينا
صميم الجذم منهم والحليفا
أتونا لا يرون لهم كفاء
فجدعنا المسامع والأنوفا
بكل مهند لين صقيل
نسوقهم بها سوقا عنيفا
لأمر الله والإسلام حتى
يقوم الدين معتدلا حنيفا
وتنسى اللات والعزى ودد
ونسلبها القلائد والشنوفا
فأمسوا قد أقروا واطمأنوا
ومن لا يمتنع يقبل خسوفا
الوافر
وسلك رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على نخلة اليمانية وانتهى إلى بحرة الرغاء فابتني بها مسجدا فصلى فيه وأقاد فيها يومئذ بدم رجل من هذيل قتله رجل كم بني ليث فقتله به وهو أول دم أقيد به في الإسلام وأمر في طريقه بحصن مالك بن عوف فهدم
ثم سلك في طريق فسأل عن اسمها فقيل له الضيقة
فقال بل هي اليسرى
ثم خرج منها حتى نزل تحت سدرة يقال لها الصادرة قريبا من مال رجل من ثقيف فأرسل إليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إما أن تخرج وإما أن نخرب عليك حائطك
فأبى أن يخرج فأمر بإخرابه
ثم مضى حتى نزل قريبا من الطائف فضرب به عسكره فقتل ناس من أصحابه بالنبل وذلك أن العسكر اقترب من حائط الطائف فكانت النبل تنالهم ولم يقدر المسلمون على أن يدخلوا حائطهم أغلقوه دونهم
فلما أصيب أولئك النفر من أصحابه بالنبل وضع عسكره عند مسجده الذي بالطائف اليوم فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة
وقيل بضع عشرة ليلة ومعه امرأتان من نسائه إحداهما أم سلمة فضرب لهما قبتين ثم صلى بينهما فلما أسلمت ثقيف بني عمرو بن أمية بن وهب بن معتب بن مالك على مصلاة ذلك مسجدا
(2/209)
وكانت فيه سارية فيما يزعمون لا تطلع الشمس عليها يوما من الدهر إلا سمع لها نقيض
فحاصرهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقاتلهم قتالا شديدا وتراموا بالنبل ورماهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالمنجنيق فيما ذكر ابن هشام
قال وهو أول من رمى به في الإسلام إذ ذاك
حتى إذا كان يوم الشدخة عند جدار الطائف دخل نفر من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} تحت دبابة ثم رجعوا بها إلى جدار الطائف ليحرقوه فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار فخرجوا من تحتها فرمتهم بالنبل فقتلوا منهم رجالا فأمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بقطع أعتاب ثقيف فوقع الناس فيها يقطعون وتقدم أبو سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة إلى الطائف فناديا ثقيفا أن آمنونا حتى نكلمكم فآمنوهما
فدعوا نساء من نساء قريش وبني كنانة منهن ابنة أبي سفيان ليخرجن أليهما وهما يخافان عليهن السباء فأبين فلما أبين قال لهما الأسود بن مسعود يا أبا سفيان ويا مغيرة ألا أدلكما على خير مما جئتما له إن مال بني الأسود حيث علمتما وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نازلا بينه وبين الطائف بواد يقال له العقيق إنه ليس بالطائف مال أبعد رشاء ولا أشد مؤنة ولا أبعد عمارة من مال بني الأسود وإن محمدا إن قطعه لم يعمر أبدا فكلماه فليأخذه لنفسه أو ليدعه لله وللرحم فإن بيننا وبينه من القرابة ما لا يجهل
فزعموا أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} تركه لهم
وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما ذكر لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو محاصر ثقيفا يا أبا بكر إني رأيت أني أهديت إلى قعبة مملوءة زبدا فنقرها ديك فهراق ما فيها
فقال ما أظن أن تدرك منهم يومك هذا ما تريد
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأنا لا أرى ذلك
ثم إن خويلة بنت حكيم السلمية امرأة عثمان بن مظعون قالت يا رسول الله أعطني إن فتح الله عليك الطائف حلي بادية بنت غيلان أو حلي الفارغة ابنة عقيل
وكانتا من أحلى نساء ثقيف
(2/210)
فذكر أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال لها وإن كان لم يؤذن في ثقيف يا خويلة فخرجت خويلة فذكرت ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فدخل عمر على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال يا رسول الله ما حديث حدثتنيه خويلة زعمت أنك قلته قال قد قلته
قال أو ما أذن فيهم يا رسول الله قال لا
قال أفلا أؤذن بالرحيل قال بلى فأذن عمر بالرحيل فلما استقل الناس نادى سعيد بن عبيد ألا إن الحي مقيم
يقول عيينة بن حصن أجل والله مجدة كراما فقال له رجل من المسلمين قاتلك الله يا عيينة أتمدح المشركين بالامتناع من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقد جئت تنصره قال أني والله ما جئت لأقاتل ثقيفا معكم ولكني أردت أن يفتح محمد الطائف فأصيب من ثقيف جارية أتطئها لها تلد لي رجلا فإن ثقيفا قوم مناكير
ونزل على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في إقامته عليهم عبيد لهم فأسلموا فأعتقهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلما اسلم أهل الطائف تكلم نفر منهم في أولئك العبيد فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لا أولئك عتقاء الله
واستشهد بالطائف من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اثنا عشر رجلا سبعة من قريش وأربعة من الأنصار ورجل من بني ليث
ثم انصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عن الطائف حتى نزل الجعرانة واليها كان قدم سبي هوزان وأموالهم وقال له رجل من أصحابه يوم ظعن عن ثقيف يا رسول الله ادع عليهم فقال اللهم اهد ثقيفا وائت بهم
ثم أتاه وفد هوزان بالجعرانة وقد اسلموا وكان معه من سبيهم ستة آلاف من الذراري والنساء ومن الإبل والشاء ما لا يدري ما عدته فقالوا يا رسول الله أنا أهل وعشيرة وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك فامنن علينا من الله عليك وقام رجل منهم من سعد بن بكر يقال له زهير يكنى بأبي صرد فقال يا رسول الله إنما في الخطائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللائي كن يكفلنك ولو أنا ملحنا للحارث بن أبي شمر أو للنعمان بن المنذر ثم نزلا منا بمثل ما نزلت به رجونا عطفه وعائدته علينا وأنت خير المكفولين
ثم أنشأ يقول
امنن علينا رسول الله في كرم
فإنك المرء نرجوه وننتظر
(2/211)
امنن على بيضة قد عاقها قدر
مفرق شملها في دهرها غير
أبقت لنا الحرب هتافا على حزن
على قلوبهم الغماء والغمر
إن لم تداركهم نعماء تنشرها
يا أرجح الناس حلما حين يحتبر
امنن على نسوة قد كنت ترضعها
إذ فوك تملأه من محضها الدرر
إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها
وإذ يزينك ما تأتي وما تذر
لا تجعلنا كمن شالت نعامته
واستبق منا فإنا معشر زهر
إنا لنشكر للنعمى وقد كفرت
وعندنا بعد هذا اليوم مدخر
فألبس العفو من قد كنت ترضعه
من أمهاتك إن العفو يشتهر
إنا نؤمل عفوا منك تلبسه
هذي البرية أن تعفو وتنتصر
فاعف عفا الله عما أنت راهبه
يوم القيامة إذ يهدي لك الظفر ( البسيط
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم فقالوا يا رسول الله خيرتنا بين أموالنا وأحسابنا بل ترد إلينا نساءنا وأبناءنا فهو احب إلينا
فقال لهم أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم وإذا أنا صليت الظهر بالناس فقوموا فقولوا إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا
فسأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم
فلما صلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الظهر قاموا فتكلموا بالذي أمرهم به فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أما ما كان لي ولنبي عبد المطلب فهو لكم
فقال المهاجرون وما كان لنا فهو لرسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وقالت الأنصار ما كان لنا فهو لرسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فقال الأقرع بن حابس أما أنا وبنو تميم فلا
وقال عيينة بن حصن أما أنا وبنو فزارة فلا
وقال عباس بن مرداس أما أنا وبنو سليم فلا
فقالت بنو سليم بلى ما كان لنا فهو لرسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فقال عباس وهنتموني فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أما من تمسك منكم بحقه من هذا السبي فله بكل إنسان ست فرائض من أول شيء أصيبه فردوا إلى الناس أبناءهم ونساءهم
وكان عيينة بن حصن أخذ عجوزا من عجائزهم وقال حين أخذها أرى عجوزا إني لأحسب أن لها في الحي نسبا وعسى أن يعظم فداؤها
(2/212)
فلما رد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} السبايا بست فرائض أبي أن يردها فقال له زهير أبو صرد خذها عنك فوالله ما فوها ببارد ولا ثديها بناهد ولا بطنها بوالد ولا زوجها بواجد ولا درها بماكد
فردها بست فرائض حين قال له زهير ما قال
وسأل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وفد هوازن ما فعل مالك بن عوف فقالوا هو
بالطائف مع ثقيف
فقال لهم أخبروا مالكا أنه أن أتاني مسلما رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائة من الإبل
فأتي مالك بذلك فخاف ثقيفا أن يعلموا بما قال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيحبسوه فأمر براحلته فهيئت له وأمر بفرس له فأتى به بالطائف فخرج ليلا على فرسه حتى أتى راحلته حيث أمر بها أن تحبس فركبها فلحق برسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأدركه بالجعرانة أو بمكة فرد عليه أهله وماله وأعطاه مائة من الإبل وأسلم فحسن إسلامه وقال
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله
في الناس كلهم بمثل محمد
أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى
ومتى تشأ يخبرك عما في غد
وإذا الكتيبة عردت أنيابها
بالسمهري وضرب كل مهند
فكأنه ليث على أشباله
وسط الهباءة خادر في مرصد
الكامل
فاستعمله رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على من أسلم من قومه فكان يقاتل بهم ثقيفا لا يخرج لهم سرح إلا أغار عليه حتى ضيق عليهم أبو محجن بن حبيب الثقفي
هابت الأعداء جانبنا
ثم تغزونا بنو سلمه
وأتانا مالك بهم
ناقضا للعهد والحرمه
المديد
ولما فرغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من رد سبايا حنين إلى أهلها ركب واتبعه الناس يقولون يا رسول الله اقسم علينا فيئنا
للإبل والغنم حتى ألجأوه إلى شجرة فاختطفت عنه رداءه فقال ردوا علي ردائي أيها الناس فوالله إن لو كان لكم بعدد شجر تهامة نعما لقسمته عليكم ثم ما ألفيتموني بخيلا ولا جبانا ولا كذوبا ثم قام إلى جنب بعير فأخذ وبرة من سنامه فرفعها ثم قال أيها الناس والله مالي من
فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس والخمس مردود عليكم فأدوا الخائط والمخيط فإن الغلول يكون على أهله عارا وشنارا ونارا يوم القيامة
(2/213)
فجاء رجل من الأنصار بكبة من خيوط شعر فقال يا رسول الله أخذت هذه الكبة أعمل بها برذعة بعير لي دبر
فقال أما نصيبي منها فلك
قال أما إذا بلغت ذلك فلا حاجة لي بها
ثم طرحها من يده
ويروي أن عقيل بن أبي طالب دخل يوم حنين على امرأته فاطمة بنت شيبة وسيفه متلطخ دما فقالت إني قد عرفت أنك قد قاتلت فماذا أصبت من غنائم المشركين قال دونك هذه الإبرة تخيطين بها ثيابك
فدفعها إليها فسمع منادي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول من أخذ شيئا فليرده حتى الخائط والمخيط
فرجع عقيل فقال ما أرى إبرتك إلا قد ذهبت وأخذها فألقاها في الغنائم
وأعطى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المؤلفة قلوبهم وكانوا أشرافا من أشراف الناس يتألفهم ويتألف بهم قومهم فأعطى أبا سفيان بن حرب وابنه معاوية وحكيم بن حزام والحارث بن الحارث بن كلدة والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزي وصفوان بن أمية وكل هؤلاء من أشراف قريش والأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري ومالك بن عوف النصري أعطي كل واحد من هؤلاء المسلمين من قريش وغيرهم مائة بعير وأعطى دون المائة رجالا من قريش منهم مخرمة بن نوفل وعمير بن وهب وأعطى سعيد بن يربوع المخزومي وعدي بن قيس السهمي خمسين خمسين وأعطى عباس بن مرداس أباعر فسخطها وقال يعاتب فيها النبي {صلى الله عليه وسلم}
وكانت نهابا تلافيتها
بكري على المهر في الأجرع
وإيقاظي القوم أن يرقدوا
إذا هجع الناس لم أهجع
فأصبح نهبي ونهب العبيد
بين عيينة والأقرع
وقد كنت في الحرب ذا تدراء
فلم أعط شيئا ولم أمنع
إلا أفائل أعطيتها
عديد قوائمه الأربع
وما كان حصن ولا حابس
يفوقان مرداس في مجمع
وما كنت دون امرئ منهما
ومن تضع اليوم لا يرفع
المتقارب
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اذهبوا فاقطعوا عني لسانه فأعطوه حتى رضي فكان ذلك قطع لسانه
وذكر ابن هشام أن عباسا أتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنت القائل
فأصبح نهبي ونهب العبيد
بين الأقرع وعيينة
فقال أبو بكر بين عيينة والأقرع
(2/214)
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} هما واحد
فقال أبو بكر أشهد أنك كما قال الله وما علمناه الشعر وما ينبغي له 69 يس
وذكر ابن عقبة أن عباسا لما أمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بقطع لسانه فزع لها وقال من لا يعرف أمر عباس يمثل به
فأتى به إلى الغنائم فقيل له خذ منها ما شئت
فقال عباس إنما أراد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يقطع لساني بالعطاء بعد أن تكلمت
فتكرم أن يأخذ منها شيئا فبعث إليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بحلة فقبلها ولبسها
وقال لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} قائل من أصحابه يا رسول الله أعطيت عيينة بن حصن والأقرع بن حابس مائة وتركت جعيل بن سراقة الضمري فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أما والذي نفس محمد بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع
الأرض كلهم مثل عيينة والأقرع ولكني تألفتهما ليسلما ووكلت جعيل ابن سراقة إلى إسلامه
وجاء رجل من بني تميم يقال له ذو الخويصرة فوقف على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو يعطي الناس فقال يا محمد قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أجل فكيف رأيت قال لم أرك عدلت
فغضب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم قال ويحك إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون فقال عمر بن الخطاب ألا نقتله فقال لا دعوه فإنه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية ينظر في النصل فلا يوجد شيء ثم في القدح فلا يوجد شيء ثم في الفوق فلا يوجد شيء سبق الفرث والدم
ولما أعطى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما أعطى في قريش وفي قبائل العرب ولم يعط الأنصار شيئا وجدوا في أنفسهم حتى كثرت منهم القالة وحتى قال قائلهم لقي والله رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قومه
وذكر ابن هشام أن حسان بن ثابت قال يعاتبه في ذلك
زاد الهموم فماء العين منحدر
سحا إذا حفلته عبرة درر
وجدا بشماء إذ شماء بهكنة
هيفاء لا ذنن فيها ولا خور
دع عنك شماء إذ كانت مودتها
نزرا وشر وصال الواصل النزر
وائت الرسول فقل يا خير مؤتمن
للمؤمنين إذا ما عدد البشر
علام تدعى سليم وهي نازحة
قدام قوم هم آووا وهم نصروا
سماهم الله أنصارا ينصرهم
دين الهدى وعوان الحرب تستعر
(2/215)
وسارعوا في سبيل الله واعترفوا
للنائبات وما خافوا وما ضجروا
والناس إلب علينا فيك ليس لنا
إلا السيوف وأطراف القنا وزر
نجالد الناس لا نبقي على أحد
ولا نضيع ما توحي به السور
و لا تهز جناة الحرب نادينا
ونحن حين تلظى نارها سعر
كما رددنا ببدر دون ما طلبوا
أهل النفاق وفينا ينزل الظفر
ونحن جندك يوم النعف من أحد
إذ حزبت بطرا أحزابها مضر
فما ونينا ولا خمنا وما خبروا
منا عثارا وكل الناس قد عثروا
البسيط
فدخل سعد بن عبادة على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء
قال فأين أنت من ذلك يا سعد قال يا رسول الله ما أنا إلا من قومي
قال فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة
فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا وجاء آخرون فردهم فلما اجتمعوا له أعلمه سعد بهم فأتاهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها علي في أنفسكم ألم آتكم ضلالا فهداكم الله وعالة فأغناكم الله وأعداء فألف الله بين قلوبكم قالوا بل الله ورسوله أمن وافضل
ثم قال ألا تجيبونني يا معشر الأنصار قالوا بماذا نجيبك يا رسول الله لله ولرسوله المن والفضل
(2/216)
فقال صلوات الله عليه أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم أتيتنا مكذبا فصدقناك ومخذولا فنصرناك وطريدا فآويناك وعائلا فآسيناك أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى رحالكم فو الذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرء من الأنصار ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار
فبكي القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا رضينا برسول الله {صلى الله عليه وسلم} قسما وحظا
ثم انصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وتفرقوا
ثم خرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من الجعرانة معتمرا وأمر ببقايا الفيء فحبس بمجنة بناحية مر الظهران فلما فرغ من عمرته انصرف راجعا إلى المدينة واستخلف عتاب بن أسيد على مكة وخلف معه معاذ بن جبل يفقه الناس في الدين ويعلمهم القرآن وأتبع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ببقايا الفيء
ولما استعمل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عتابا على مكة رزقه في كل يوم درهما فقام عتاب خطيبا في الناس فقال أيها الناس أجاع الله كبد من جاع على درهم فقد رزقني رسول الله {صلى الله عليه وسلم} درهما كل يوم فليست بي حاجة إلى أحد
وكانت عمرة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في ذي القعدة وقدم المدينة في بقيتة أو في أول ذي الحجة
وحج الناس تلك السنة على ما كانت العرب تحج عليه وحج عتاب بن أسيد بالمسلمين فيها وهي سنة ثمان
وأقام أهل الطائف على شركهم وامتناعهم في طائفهم ما بين ذي القعدة إذ انصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى رمضان سنة تسع
(2/217)
ولما قدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من سفره هذا منصرفا عن الطائف كتب بجير بن زهير بن أبي سلمى إلى أخيه كعب بن زهير يخبره أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه وأن من بقي من شعراء قريش ابن الزبعرى وهبيرة بن أبي وهب قد هربوا في كل وجه فإن كانت لك في نفسك حاجة فطر إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فإنه لا يقتل أحدا جاء تائبا وإن أنت لم تفعل فانج إلى نجائك من الأرض
فلما بلغ كعبا الكتاب ضاقت به الأرض وأشفق على نفسه وارجف به من كان في حاضره من عدوه فقالوا هو مقتول
فلما لم يجد من شيء بدا قال قصيدته التي يمدح فيها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ويذكر فيها خوفه وإرجاف الوشاة به ثم خرج حتى قدم المدينة فنزل على رجل من جهينة كانت بينه وبينه معرفة فغدا به إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين صلى الصبح فصلى معه ثم أشار له إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال هذا رسول الله فقم إليه فاستأمنه
فذكر انه قام إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين جلس إليه فوضع يده في يده وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لا يعرفه فقال يا رسول الله إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائبا مسلما فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نعم
قال أنا يا رسول الله كعب بن زهير فوثب عليه رجل من الأنصار فقال يا رسول الله دعني وعدو الله اضرب عنقه
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} دعه عنك فإنه قد جاءنا تائبا نازعا
فغضب كعب على الأنصار لما صنع به صاحبهم ومدح المهاجرين دونهم إذ لم يتكلم فيه رجل منهم إلا بخير
والقصيدة التي قالها كعب في ذلك وذكر انه أنشدها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في المسجد
بانت سعاد فقلبي اليوم مبتول
متيم عندها لم يجز مكبول
وما سعاد غداة البين إذ برزت
إلا أغن غضيض الطرف مكحول
تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت
كأنه منهل بالراح معلول
شحت بذي شبم من ماء محنية
صاف بأبطح أضحى وهو مشمول
تنفي الرياح القذى عنه وأفرطه
من صوب غادية بيض يعاليل
وبلمها خلة لو أنها صدقت
بوعدها أو لو أن النصح مقبول
لكنها خلة قد سيط من دمها
فجع وولع وإخلاف وتبديل
(2/218)
فما تدوم على حال تكون بها
كما تلون في أثوابها الغول
كانت مواعيد عرقوب لها مثلا
وما مواعيدها إلا الأباطيل
فلا يغرنك ما منت وما وعدت
إن الأماني والأحلام تضليل
أمست سعاد بأرض لا تبلغها
إلا العتاق النجيبات المراسيل
ولا يبلغها إلا عذافرة
فيها على الأبن إرقال وتبغيل
من كل نضاخة الذفرى إذا عرقت
عرضتها طامس الأعلام مجهول
ضخم مقلدها فعم مقيدها
في خلقها عن بنات الفحل تفضيل
حرف أخوها ابوها من مهجنة
وعمها خالها قوداء شمليل
كأن أوب ذراعيها وقد عرقت
وقد تلفع بالقور العساقيل
أوب يدي فاقد شمطاء معولة
قامت فجاوبها نكد مثاكيل
نواحة رخوة الضبعين ليس لها
لما نعى بكرها الناعون معقول
تفري اللبان بكفيها ومدرعها
مشقق عن تراقيها رعابيل
تمشي الغواة بجنبها وقولهم
إنك يا ابن أبي سلمى لمقتول
وقال كل صديق كنت آمله
لا ألهينك إني عنك مشغول
فقلت خلوا طريقي لا أبالكم
فكل ما قدر الرحمن مفعول
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته
يوما على آلة حدباء محمول
نبئت أن رسول الله أوعدني
والعفو عند رسول الله مأمول
مهلا هداك الذي أعطاك نافلة القرآن
فيها مواعيظ وتفصيل
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم
أذنب ولو كثرت في الأقاويل
لقد أقوم مقاما لو يقوم به
يرمي ويسمع ما قد أسمع الفيل
لظل ترعد من خوف بوادره
إن لم يكن من رسول الله تنويل
حتى وضعت يميني ما أنازعها
في كف ذي نقمات قوله القيل
فلهو أخوف عندي إذ أكلمه
وقيل إنك منسوب ومسؤول
من ضيغم بضراء الأرض مخدره
في بطن عثر غيل دونه غيل
إن الرسول لنور يستضاء به
مهند من سيوف الله مسلول
في عصبة من قريش قال قائلهم
ببطن مكة لما أسلموا زولوا
زالوا فما زال انكاس ولا كشف
عند اللقاء ولا ميل معازيل
يمشون مشي الجمال الزهر يعصمهم
ضرب إذا عرد السود التنابيل
شم العرانين أبطال لبوسهم
من نسج داود في الهيجا سرابيل
بيض سوابغ قد شكت لها حلق
كأنها حلق القفعاء مجدول
ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم
(2/219)
قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا
لا يقع الطعن إلا في نحورهم
ليس لهم عن حياض الموت تهليل
البسيط
ويروى أن كعبا لما أنشد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بيده إلى الخلق أي اسمعوا
تعجبا بقوله
ومن مستجاد شعر كعب بن زهير قوله أيضا يمدح النبي {صلى الله عليه وسلم}
تحذي به الناقة الأدماء معتجرا
بالبرد كالبدر جلى ليلة الظلم
وفي عطافيه أو أثناء بردته
ما يعلم الله من دين ومن كرم
البسيط
ولما قال كعب في لاميته المتقدمة إذا عرد السود التنابيل
يريد الأنصار وخص المهاجرين بمدحته دونهم غضبت عليه الأنصار فقال بعد أن أسلم يمدحهم ويذكر بلاءهم مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وموضعهم من اليمن ويقال إن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حضه على ذلك وقال لما أنشده القصيدة المتقدمة لولا ذكرت الأنصار بخير فإن الأنصار لذلك أهل فقال كعب هذه الأبيات
من سره كرم الحياة فلا يزل
في مقنب من صالح الأنصار
ورثوا المكارم كابرا عن كابر
إن الخيار هم بنو الأخيار
المكرهين السمهري بأذرع
كسوالف الهندي غير قصار
والناظرين بأعين محمرة
كالجمر غير كليلة الإبصار
والبائعين نفوسهم لنبيهم
للموت يوم تعانق وكرار
يتطهرون يرونه نسكا لهم
بدماء من علقوا من الكفار
( دربوا كما دربت ببطن خفية غلب الرقاب من الأسود ضواري
وإذا حللت ليمنعوك إليهم أصبحت عند معاقل الأغفار
ضربوا عليا يوم بدر ضربة دانت لوقعتها جميع نزار
لو يعلم الأقوام علمي كله فيهم لصدقني الذين أماري
قوم إذا خوت النجوم فإنهم للطارقين النازلين مقاري
في الغر من غسان في جرثومة أعيت محافرها على المحفار
الكامل
وكان عبد الله بن الزبعري السهمي شاعر قريش ولسانها في مناقضة حسان بن ثابت وغيره من شعراء رسول الله {صلى الله عليه وسلم} له في ذلك أشعار كثيرة ذكرها ابن إسحاق في مواضعها وأضربنا نحن عنها وعن سائر أشعار الجاهلية لما فيها من تنقص الإسلام والنيل من أهله فلما كان عام الفتح فر ابن الزبعري إلى نجران فرماه حسان بن ثابت ببيت واحد ما زاد عليه وهو
(2/220)
لا تعدمن رجلا أحلك بغضه نجران في عيش أحذ لئيم
الكامل
فلما بلغ ذلك ابن الزبعري خرج إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأسلم وقال في ذلك أشعارا منها في أبيات
يا رسول المليك إن لساني راتق ما فتقت إذ أنا بور
إذ أباري الشيطان في سنن الغي ومن مال ميله مثبور
الخفيف
وقال أيضا حين أسلم
منع الرقاد بلابل وهموم
والليل معتلج الرواق بهيم
مما أتاني أن أحمد لامني
فيه فبت كأنني محموم
يا خير من حملت على أوصالها
عيرانة سرح اليدين عشوم
إني لمعتذر إليك من الذي
أسديت إذ أنا في الضلال أهيم
أيام تأمرني بأغوى خطة
سهم وتأمرني بها مخزوم
وأمد أسباب الردي ويقودني
أمر الغواة وأمرهم مشئوم
فاليوم آمن بالنبي محمد
قلبي ومخطيء هذه محروم
مضت العداوة فانقضت أسبابها
ودعت أواصر بيننا وحلوم
فاغفر فدى لك والداثي كلاهما
زللى فإنك راحم مرحوم
وعليك من علم المليك علامة
نور أغر وخاتم مختوم
أعطاك بعد محبة برهانه
شرفا وبرهان الإله عظيم
ولقد شهدت بأن دينك صادق
حق وإنك في العباد جسيم
والله يشهد أن أحمد مصطفى
متقبل في الصالحين كريم
فرم علا بنيانه من هاشم
فرع تمكن في الذري وأروم
الكامل
غزوة تبوك
وأقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالمدينة بعد منصرفه عن عمرة الجعرانة ما بين ذي الحجة إلى رجب ثم أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم وذلك في زمان عسرة من الناس وشدة من الحر وجدب من البلاد وحين طابت الثمار والناس يحبون المقام قي ثمارهم وظلالهم ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذي هم عليه
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قل ما يخرج في غزوة إلا ورى عنها وأخبر أنه يريد غير الوجه الذي يعمد إليه إلا ما كان من غزوة تبوك فإنه بينها للناس لبعد الشقة وشدة الزمان وكثرة العدو الذي يصمد له ليتأهب الناس لذلك أهبته
فأمر الناس بالجهاز وأخبرهم انه يريد الروم
(2/221)
فقال {صلى الله عليه وسلم} ذات يوم وهو في جهازه للجد بن قيس أحد بني سلمة يا جد هل لك العام في جلاد بني الأصفر فقال يا رسول الله أو تأذن لي ولا تفتني فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل أشد عجبا بالنساء مني وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر
فأعرض عنه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقال قد أذنت لك ففيه نزلت ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين التوبة 49 أي إن كان إنما خشي الفتنة من نساء بني الأصفر وليس ذلك به فما سقط فيه من الفتنة أكبر لتخلفه عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} والرغبة بنفسه عن نفسه يقول وإن جهنم لمن ورائه
وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض لا تنفروا في الحر زهادة في الجهاد
وشكا في الحق وإرجافا بالرسول فأنزل الله فيهم وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون التوبة 81 82
وبلغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن ناسا من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي يثبطون الناس عنه في غزوة تبوك فبعث إليهم طلحة بن عبيد الله في نفر من أصحابه وأمره أن يحرق عليهم البيت وفعل طلحة فاقتحم الضحاك بن خليفة من ظهر البيت فانكسرت رجله واقتحم أصحابه فأفلتوا فقال الضحاك في ذلك
وكادت وبيت الله نار محمد
يشيط بها الضحاك وابن أبيرق
وظلت وقد طبقت كبس سويلم
أنوء على رجلي كسيرا ومرفقي
سلام عليكم لا أعود لمثلها
أخاف ومن تشمل به النار يحرق
الطويل
ثم إن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} جد في سفره وأمر الناس بالجهاز والانكماش وحض أهل الغني على النفقة والحملان في سبيل الله فحمل رجال من أهل الغني واحتسبوا وأنفق عثمان بن عفان في ذلك نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض
(2/222)
ثم إن رجالا من المسلمين توا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهم البكاءون وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم سالم بن عمير وعلبة بن زيد وأبو ليلى بن كعب وعمرو بن حمام وهرمي بن عبد الله وعبد الله بن مغفل المزني ويقال عبد الله بن عمرو المزني وعرباض بن سارية الفزاري فاستحملوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهم أهل حاجة فقال لا أجد ما أحملكم عليه
فتولوا وأعينهم كفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون فذكر أن ابن يامين بن عمير النضري لقي أبا ليلى بن كعب وابن مغفل وهما يبكيان فقال ما يبكيكما قالا جئنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ليحملنا فلم نجد عنده ما
يحملنا عليه وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه فأعطاهما ناضحا له فارتحلاه وزودهما شيئا من تمر فخرجا مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وجاء المعذرون من الأعراب فاعتذروا إليه فلم يعذرهم الله وذكر أنهم نفر من بني غفار
ثم استتب برسول الله {صلى الله عليه وسلم} سفره وأجمع السير وتخلف عنه نفر من المسلمين عن غير شك ولا ارتياب منهم كعب بن مالك أخو بني سلمة ومرارة بن الربيع أخو بني عمر بن عوف وهلال بن أمية أخو بني واقف وأبو خيثمة أخو بني سالم وكانوا نفر صدق لا يتهمون في إسلامهم
فلما خرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ضرب عسكره على ثنية الوداع وضرب عبد الله بن أبي معه على حدة عسكره أسفل منه نحو ذباب وكان فيما يزعمون ليس بأقل العسكرين فلما سار رسول الله {صلى الله عليه وسلم} تخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلف من المنافقين و أهل الريب
وخلف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} علي بن أبي طالب على أهله وأمره بالإقامة فيهم فأرجف به المنافقون وقالوا ما خلفه إلا استثقالا له وتخففا منه فلما قالوا ذلك أخذ علي سلاحه ثم خرج حتى أتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو نازل بالجرف فقال يا بني الله زعم المنافقون أنك إنما خلفتني أنك استثقلتني وتخففت مني فقال كذبوا ولكني خلفتك لما تركت ورائي فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي
(2/223)
فرجع علي إلى المدينة رضي الله عنه ومضى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على سفره
ثم إن أبا خيثمة بعد أن سار رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أياما رجع إلى أهله في يوم حار فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه قد رشت كل واحدة منهما
عريشها وبردت له فيه ماء وهيأت له طعاما فلما دخل قام على باب العريش فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في الضح والريح والحر وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء في ماله مقيم ما هذا بالنصف ثم قال والله لا أدخل على عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله {صلى الله عليه وسلم} فهيئا لي زادا ففعلتا ثم قدم ناضحه فارتحله ثم خرج في طلب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى أدركه حين نزل بتبوك
وقد كان أدرك أبا خيثمة في الطريق عمير بن وهب الجمحي يطلب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فترافقا حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة لعمير إن لي ذنبا فلا عليك أن تخلف عني حتى آتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ففعل حتى إذا دنا من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو نازل بتبوك قال الناس هذا راكب على الطريق مقبل
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كن أبا خيثمة
قالوا هو والله أبو خيثمة يا رسول الله
فلما أناخ أقبل فسلم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أولي لك يا أبا خيثمة ثم أخبره خبره
فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خيرا ودعا له بخير
ويروى أن أبا خيثمة قال في ذلك
ولما رأيت الناس في الدين نافقوا
أتيت التي كانت أعف وأكرما
وبايعت باليمنى يدي لمحمد
فلم أكتسب إثما ولم أغش محرما
تركت خضيبا في العريش وصرمة
صفايا كراما بسرها قد تحمما
وكنت إذا شك المنافق أسمحت
إلى الدين نفسي شطره حيث يمما
الطويل
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين مر بالحجر نزلها واستقى الناس من بئرها فلما راحوا قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لا تشربوا من مائها ولا يتوضأ منه للصلاة وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئا ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له
(2/224)
ففعل الناس ما أمرهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلا أن رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته وخرج الآخر في طلب بعير له فأما الذي ذهب لحاجته فإنه خنق على مذهبه وأما الذي ذهب في طلب بعيره فاحتملته الريح حتى طرحته بجبلي طيء فأخبر بذلك رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال ألم أنهكم أن يخرج أحد منكم إلا ومعه صاحبه ثم دعا للذي أصيب على مذهبه فشفي وأما الذي وقع بجبلي طيء فإن طيئا أهدته لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين قدم المدينة
ولما مر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالحجر سجي ثوبه على وجهه واستحث راحلته ثم قال لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا وأنتم باكون خوفا أن يصيبكم ما أصابهم
فلما أصبح الناس ولا ماء معهم شكوا إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فدعا فأرسل الله سبحانه سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس واحتملوا حاجتهم من الماء
قال محمود بن لبيد لقد أخبرني رجال من قومي عن رجل من المنافقين معروف نفاقه كان يسير مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حيث سار فلما كان من أمر الماء بالحجر ما كان ودعا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين دعا فأرسل الله السحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس قالوا أقبلنا عليه نقول ويحك هل بعد هذا شيء قال سحابة مارة
قيل لمحمود هل كان الناس يعرفون النفاق فيهم قال نعم والله إن كان الرجل ليعرفه من أخيه ومن أبيه ومن عمه وفي عشيرته ثم يلبس بعضهم بعضا على ذلك
ثم إن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سار حتى إذا كان ببعض الطريق ضلت ناقته فخرج أصحابه في طلبها وعند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} رجل من أصحابه يقال له عمارة بن حزم وكان عقبيا بدريا وهو عم بني عمرو بن حزم وكان في رحله زيد بن لصيت القينقاعي وكان منافقا فقال زيد وهو في رحل عمارة وعمارة عند رسول الله
(2/225)
{صلى الله عليه وسلم} أليس محمد يزعم انه نبي ويخبركم عن خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وعمارة عنده إن رجلا قال هذا محمد يخبركم أنه نبي ويزعم أنه يخبركم بأمر السماء وهو لا يدري أين ناقته وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله وقد دلني الله عليها وهي في الوادي من شعب كذا وكذا وقد حبستها شجرة بزمامها فانطلقوا حتى تأتوني بها فذهبوا فجاءوا بها فرجع عمارة بن حزم إلى رحله فقال والله لعجب من شيء حدثناه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} آنفا عن مقالة قائل أخبره الله عنه
للذي قال زيد بن اللصيت
فقال رجل ممن كان في رحل عمارة ولم يحضر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} زيد والله قال هذه المقالة قبل أن تأتي فأقبل عمارة على زيد يجأ في عنقه ويقول يالعباد الله إن في رحلي لداهية وما أشعر أخرج أي عدو الله من رحلي فلا تصحبني
فزعم بعض الناس أن زيدا تاب بعد ذلك وقال بعض لم يزل متهما بشر حتى مات
ثم مضى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سائرا فجعل يتخلف عنه الرجل فيقولون يا رسول الله تخلف فلان فيقول
دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه حتى قيل يا رسول الله تخلف أبو ذر وأبطأ به بعيره
فقال دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم وإن يك غير ذلك فقد اراحكم الله منه
وتلوم أبو ذر على بعيره فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فحمله على ظهره ثم خرج يتبع أثر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ماشيا ونزل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في بعض منازله فنظر ناظر من المسلمين فقال يا رسول الله إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كن أبا ذر
فلما تأمله القوم قالوا يا رسول الله هو والله أبو ذر
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} رحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده
فقضى الله سبحانه أن أبا ذر لما أخرجه عثمان رضي الله عنه إلى الربدة وأدركته بها منيته لم يكن معه أحد إلا امرأته وغلامه فأوصاهما أن غسلاني
(2/226)
وكفناني ثم ضعاني على قارعة الطريق فأول ركب يمر بكم فقولوا هذا أبو ذر صاحب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأعينونا على دفنه فلما مات فعلا ذلك وأقبل عبد الله بن مسعود في رهط من العراق عمار فلم يرعهم إلا بالجنازة على ظهر الطريق قد كادت الإبل تطؤها وقام إليهم الغلام فقال هذا أبو ذر صاحب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأعينونا على دفنه
فاستهل عبد الله يبكي ويقول صدق رسول الله تمشي وحدك وتموت وحدك وتبعث وحدك ثم نزل هو وأصحابه فواروه
ثم حدثهم عبد الله بن مسعود حديثه وما قال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في مسيره إلى تبوك
وقد كان رهط من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني عمرو بن عوف وحليف لبني سلمة من أشجع يقال له مخشن بن حمير ويقال مخشي يشيرون إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو منطلق إلى تبوك فقال بعضهم لبعض أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا والله لكأننا بكم غدا مقرنين في الحبال إرجافا وترهيبا للمؤمنين فقال مخشن بن حمير والله لوددت أني أقاضي على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة وأنا نتفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه
وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيما بلغنا لعمار بن ياسر أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا فإن أنكروا فقل بلى قلتم كذ وكذا فانطلق إليهم عمار فقال ذلك لهم فأتوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يعتذرون فقال وديعة بن ثابت ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} واقف على ناقته فجعل يقول وهو آخذ بحقها يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب
فأنزل الله عز وجل فيهم ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب التوبة 65 وقال مخشن بن حمير يا رسول الله قعد بي اسمي واسم أبي
فكان الذي عفى عنه في هذه الآية مخشن بن حمير فتسمى عبد الرحمن وسأل الله أن يقتله شهيدا لا يعلم مكانه فقتل يوم اليمامة فلم يوجد له أثر
ولما انتهى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى تبوك أتاه يحنة بن رؤبة صاحب أيلة فصالح رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأعطى الجزية
وأتاه أهل جرباء وأذرح فأعطوا الجزية وكتب لهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كتابا فهو عندهم
بسم الله الرحمن الرحيم
(2/227)
هذه أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة سفنهم وسيارتهم في البر والبحر لهم ذمة الله ومحمد النبي ومن كان منهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه وأنه طيبة لمن أخذه من الناس وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يردونه من بر أو بحر
ثم دعا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خالد بن الوليد فبعثه إلى أكيدر دومة وهو أكيدر ابن عبد الملك رجل من كندة كان ملكا عليها وكان نصرانيا فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لخالد إنك ستجده يصيد البقر
فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين وفي ليلة مقمرة صائفة وهو على سطح له ومعه امرأته فباتت البقر تحك بقرونها باب القصر فقالت له امرأته هل رأيت مثل هذا قط قال لا والله
قالت فمن يترك هذه قال لا أحد
فنزل فأمر بفرسه فأسرج له وركب معه نفر من أهل بيته فيهم أخ له يقال له حسان فركب وخرجوا معه بمطاردهم فلما خرجوا تلقتهم خيل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأخذته وقتلوا أخاه وكان عليه قباء ديباج مخوص بالذهب فاستلبه خالد فبعث به إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قبل قدومه عليه فجعل المسلمون يلمسونه بأيدهم ويتعجبون منه فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أتعجبون من هذا فو الذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا
ثم قدم خالد بأكيدر على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فحقن له دمه وصالحه على الجزية ثم خلي سيبله
فرجع إلى قريته فقال رجل من طيء يقال له بجير بن بجرة يذكر قول
رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لخالد إنك ستجده يصيد البقر
وما صنعت البقر تلك الليلة حتى استخرجته لتصديق قول رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
تبارك سائق البقرات إني
رأيت الله يهدي كل هادي
فمن يك حائدا عن ذي تبوك
فإنا قد أمرنا بالجهاد
الوافر
فأقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بتبوك بضع عشرة ليلة ولم يجاوزها ثم انصرف قافلا إلى المدينة
(2/228)
وكان في الطريق ماء يخرج من وشل يروي الراكب والراكبين والثلاثة بواد يقال له وادي المشقق فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من سبقنا إلى الماء فلا يستقين منه شيئا حتى نأتيه
فسبقه إليه نفر من المنافقين فاستقوا ما فيه فلما أتاه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقف عليه فلم ير فيه شيئا فقال من سبقنا إلى هذا فقيل يا رسول الله فلان وفلان
ففال أو لم أنهكم أن تسقوا منه شيئا حتى آتيه ثم لعنهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ودعا عليهم ثم نزل فوضع يده تحت الوشل فجعل يصب في يده ما شاء الله أن يصب ثم نضحه به ومسحه بيده ودعا بما شاء الله أن يدعو به فانخرق من الماء كما يقول من سمعه ما إن له حسا كحس الصواعق فشرب الناس واستقوا حاجتهم منه
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لئن بقيتم أو من بقي منكم لتسمعن بهذا الوادي وهو أخصب ما بين يديه وما خلفه
ومات في هذه الغزوة من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عبد الله ذو البجادين المزني وإنما سمي ذا البجادين لأنه كان ينازع إلى الإسلام فيمنعه قومه من ذلك ويضيقون عليه حتى تركوه في بجاد ليس عليه غيره والبجاد الكساء الغليظ الجافي فهرب منهم إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلما كان قريبا منه شق بجاده باثنين فاتزر بواحد واشتمل بالآخر ثم أتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقيل له ذو البجادين لذلك
فكان عبد الله بن مسعود يحدث قال قمت من جوف الليل وأنا مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في غزوة تبوك فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر فاتبعتها أنظر إليها فإذا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأبو بكر وعمر وإذا عبد الله ذو البجادين قد مات وإذا هم قد
حفروا له ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} في حفرته وأبو بكر وعمر يد ليانه إليه وهو يقول أدليا إلي أخاكما فدلياه فلما هيأه لشقه قال اللهم إني قد أمسيت راضيا عنه فارض عنه يقول عبد الله بن مسعود يا ليتني كنت صاحب الحفرة
(2/229)
وقال أبو رهم الغفاري وكان ممن بايع تحت الشجرة غزوت مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} غزوة تبوك فسرت ذات ليلة معه قريبا منه وألقى علينا النعاس فطفقت أستيقظ وقد دنت راحلتي من راحلته عليه السلام فيفزعني دنوها منه مخافة أن أصيب رجله في الغرز فما استيقظت إلا لقوله حسن فقلت يا رسول الله استغفر لي قال سر
فجعل يسألني عمن تخلف من بني غفار فأخبره به فقال وهو يسألني ما فعل النفر الحمر الطوال الثطاط فحدثته بتخلفهم قال فما فعل النفر السود الجعاد القصار قلت والله ما أعرف هؤلاء منا
قال بلى الذين هم نعم بشبكة شدخ فتذكرتهم في بني غفار فلم أذكرهم حتى ذكرت أنهم رهط من أسلم كانوا حلفاء فينا فقلت يا رسول الله أولئك رهط من أسلم حلفاء فينا فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما منع أحد أولئك حين تخلف أن يحمل على بعير من إبله امرء نشيطا في سبيل الله إن أعز أهل علي أن يتخلف عني المهاجرون من قريش والأنصار وغفار وأسلم
قال ابن إسحاق ثم أقبل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى نزل بذي أوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار وكان أصحاب مسجد الضرار قد أتوه وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه فقال إني على جناح سفر وحال شغل
أو كما قال {صلى الله عليه وسلم}
ولو قد قدمنا إن شاء الله لأتيناكم فصلينا لكم فيه
فلما نزل بذي أوان أتاه خبر المسجد فدعا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف ومعن بن عدي أو أخاه عاصم بن عدي أخا بني العجلاني فقال انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه فخرجا سريعين حتى أتيا بني
سالم بن عوف رهط مالك فقال مالك لمعن انظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي
(2/230)
فدخل إلى أهله فأخذ سعفا من النخل فأشعل فيه نارا ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه وفيه أهله فحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه ونزل فيهم من القرآن ما نزل والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين التوبة 107 إلى آخر القصة
وقدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المدينة وقد كان تخلف عنه من تخلف من المنافقين وأولئك الرهط الثلاثة من المسلمين من غير شك ولا نفاق كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لأصحابه لا تكلمن أحدا من هؤلاء الثلاثة
وأتاه من تخلف عنه من المنافقين فجعلوا يحلفون له ويعتذرون فصفح عنهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ولم يعذرهم الله ولا رسوله فاعتزل المسلمون كلام أولئك النفر الثلاثة
فحدث كعب بن مالك قال ما تخلفت عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في غزوة غزاها قط غير أني تخلفت عنه في غزوة بدر وكانت غزوة لم يعاتب الله فيها ولا رسوله أحدا تخلف عنها وذلك أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إنما خرج يريد عير قريش فجمع الله بينه وبين عدوه على غير ميعاد ولقد شهدت مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت غزوة بدر هي أذكر في الناس منها
وكان من خبري حين تخلفت عنه في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة والله ما اجتمعت لي راحلتان قط حتى اجتمعتا لي في تلك الغزوة وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قل ما يريد غزوة يغزوها إلا وري بغيرها حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا واستقبل غزو عدو كثير فجلى للناس أمرهم ليتأهبوا
لذلك أهبته وأخبرهم خبره بوجهه الذي يريد والمسلمون من تبع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كثير لا يجمعهم كتاب حافظ يعني بذلك الديوان فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن انه سيخفى له ذلك ما لم ينزل فيه وحي من الله تعالى
(2/231)
وغزا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} تلك الغزوة حين طابت الثمار وأحبت الظلال فالناس إليها صعر فتجهز رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وتجهز المسلمون معه وجعلت أغدو لأتجهز معهم فأرجع ولم أقض حاجة فأقول في نفسي أنا قادر على ذلك إذا أردت
فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى شمر بالناس الجد وأصبح رسول الله {صلى الله عليه وسلم} غاديا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا فقلت أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحق بهم فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئا ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفرط الغزو فهممت أن أرتحل فأدركهم وليتني فعلت فلم افعل وجعلت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فطفت فيهم يحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء ولم يذكرني رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك ما فعل كعب بن مالك فقال رجل من بني سلمة يا رسول الله حبسه برداه والنظر في عطفيه
فقال له معاذ بئس ما قلت والله يا رسول الله ما علمنا منه إلا خيرا
فسكت رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فلما بلغني أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} توجه قافلا حضر لي بثي فجعلت أتذكر الكذب وأقول بماذا أخرج من سخط رسول الله {صلى الله عليه وسلم} غدا وأستعين على ذلك كل ذي رأي من أهلي فلما قيل لي إن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد أظل قادما زاح عني الباطل وعرفت أن لا أنجو منه إلا بالصدق فأجمعت أن أصدق
وصبح رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المدينة وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاء المخلفون من الأعراب فجعلوا يحلفون له ويعتذرون وكانوا بضعة وثمانين رجلا فيقبل منهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
علانيتهم وأيمانهم ويستغفر لهم ويكل سرائرهم إلى الله حتى جئت فسلمت عليه فتبسم تبسم المغضب ثم قال لي تعاله
(2/232)
فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي ما خلفك ألم تكن ابتعت ظهرك قلت يا رسول الله والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر لقد أعطيت جدلا ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثا كذبا لترضين عني وليوشكن الله أن يسخط علي ولئن حدثتك اليوم حديثا صادقا تجد علي فيه إني لأرجو عقابي من الله فيه ولا والله ما كان لي عذر والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أما هذا فقد صدقت فيه فقم حتى يقضي الله فيك
فقمت
وثار معي رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بما اعتذر إليه المحلفون فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لك فوالله ما زالوا حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأكذب نفسي ثم قلت لهم هل لقي هذا أحد غيري قالوا نعم رجلان قالا مثل ذلك وقيل لهما مثل ما قيل لك قلت من هما قالوا مرارة بن الربيع العمري وهلال بن أمية الواقفي
فذكروا لي رجلين صالحين فيهما أسوة حسنة فقمت حين ذكروهما لي
ونهى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي نفسي والأرض فما هي بالأرض التي كنت أعرف
فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا فقعدا في بيوتهما وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم فكنت أخرج وأشهد الصلوات مع المسلمين وأطوف بالأسواق لا يكلمني أحد وآتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا ثم أصلي قريبا منه فأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني
(2/233)
حتى إذا طال ذلك علي من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه فو الله ما رد علي السلام فقلت يا أبا قتادة أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله فسكت فعدت فناشدته فسكت فعدت فناشدته فقال الله ورسوله أعلم
ففاضت عيناني ووثبت فتسورت الحائط
ثم غدوت إلى السوق فبينا أنا أمشي بالسوق إذا نبطي يسأل عني من نبط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل على كعب بن مالك فجعل الناس يشيرون له إلي حتى جاءني فدفع إلي كتابا من ملك غسان في سرقة من حرير فإذا فيه أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نوسك
قلت حين قرأتها وهذا من البلاء أيضا قد بلغ بي ما وقعت فيه أن طمع في رجل من أهل الشرك فعمدت بها إلى تنور فسجرته بها
فأقمنا على ذلك حتى مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يأتيني فقال إن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يأمرك أن تعتزل امرأتك
فقلت أطلقها أم ماذا قال لا بل اعتزلها ولا تقربها
وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك فقلت لامرأتي الحقي بأهلك وكوني فيهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ما هو قاض
وجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقالت يا رسول الله إن هلال ابن أمية شيخ كبير ضائع إلا خادم أفتكره أن أخدمه قال لا ولكن لا يقربنك
قالت يا رسول الله والله ما به من حركة والله ما زال يبكي مذ كان من آمره ما كان إلى يومه هذا ولقد تخوفت على بصره
فقال لي بعض أهلي لو استأذنت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لامرأتك فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه فقلت والله لا أستأذنه فيها ما أدري ما يقول لي في ذلك إذا استأذنته وأنا رجل شاب
قال فلبثنا بعد ذلك عشر ليال فكمل لنا خمسون من حين نهى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المسلمين عن كلامنا ثم صليت الصبح صبح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتا على الحال التي ذكر الله منا قد ضاقت علينا الأرض بما رحبت وضاقت
(2/234)
علي نفسي وقد كنت ابتنيت خيمة في ظهر سلع فكنت أكون فيها إذ سمعت صوت صارخ أوفي على سلع يقول بأعلى صوته يا كعب بن مالك أبشر
فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاءني الفرج
قال وآذن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بتوبة الله علينا حين صلى الفجر فذهب الناس يبشروننا وذهب نحو صاحبي مبشرون وركض رجل إلي فرسا وسعى ساع من أسلم حتى أوفى على الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت ثوبي فكسو تهما إياه بشارة ووالله ما أملك يومئذ غيرهما واستعرت ثوبين فلبستهما ثم انطلقت أتيمم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وتلقاني الناس يبشرونني بالتوبة يقولون ليهنك توبة الله عليك
حتى دخلت المسجد ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} جالس حوله الناس فقام إلي طلحة بن عبيد الله فحياني وهنأني ووالله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره
فكان كعب لا ينساها لطلحة
قال كعب فلما سلمت على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال ووجهه يبرق من السرور أبشر بخير يوم مر عليك منذ يوم ولدتك أمك
قلت أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله قال بل من عند الله قال وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إذا استبشر كأن وجهه قطعة قمر وكنا نعرف ذلك منه
قال فلما جلست بين يديه قلت يا رسول الله إن من توبتي إلى الله أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله والى رسوله
قال أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك
قلت إني ممسك سهمي الذي بخيبر
وقلت يا رسول الله إن الله قد نجاني بالصدق فإن من توبتي إلى الله أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت
والله ما أعلم أحدا من الناس أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} ذلك أفضل مما أبلاني والله ما تعمدت من كذبة مذ ذكرت ذلك لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى يومي هذا وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي
وأنزل الله تبارك وتعالى لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار
(2/235)
الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم لارءوف رحيم وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) التوبة 117 119
قال كعب فو الله ما أنعم الله علي نعمة قط بعد أن هداني للإسلام كانت أعظم في نفسي من صدقي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يومئذ أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه فإن الله تبارك وتعالى قال في الذين كذبوه شر ما قال لأحد سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين التوبة 95 96
قال وكنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر هؤلاء الذين قبل منهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين حلفوا له فعذرهم واستغفر لهم وأرجأ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أمرنا حتى قضى الله فيه ما قضي فلذلك قال الله تبارك وتعالى وعلى الثلاثة الذين خلفوا وليس الذي ذكر من تخليفنا لتخلفنا عن الغزوة ولكن لتخليفه إيانا وإرجائه أمرنا عن من حلف له واعتذر إليه فقبل منه
ذكر إسلام ثقيف
وقدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المدينة من تبوك في رمضان وقدم عليه في ذلك الشهر وفد ثقيف
وكان من حديثهم أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لما انصرف عنهم اتبع أثره عروة بن مسعود حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة فأسلم وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كما يتحدث قومه إنهم قاتلوك
وعرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن فيهم نخوة الامتناع الذي كان منهم
فقال عروة يا رسول الله أنا أحب إليهم من أبكارهم
ويقال من أبصارهم
وكان فيهم كذلك محببا مطاعا
(2/236)
فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء أن لا يخالفوه لمنزلته فيهم فلما أشرف لهم على علية له وقد دعاهم إلى الإسلام وأظهر لهم دينه رموه بالنبل من كل وجه فأصابه سهم فقتله فقيل له ما ترى في دمك قال كرامة أكرمني الله بها وشهادة ساقها إلي فليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قبل أن يرتحل عنكم فادفنوني معهم
فزعموا أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال إن مثله في قومه لكمثل صاحب ياسين في قومه
ثم أقامت ثقيف بعد قتل عروة أشهرا ثم إنهم ائتمروا بينهم ورأوا أنهم لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب وقد بايعوا وأسلموا فمشى عمرو بن
أمية أخو بني علاج وكان من أدهى العرب إلى عبد ياليل بن عمرو حتى دخل داره وكان قبل مهاجرا له الذي بينهما سيء ثم أرسل إليه أن عمرو بن أمية يقول لك أخرج الي فقال عبد ياليل للرسول ويلك أعمرو أرسلك إلي قال نعم وها هوذا واقفا في دارك
قال إن هذا لشيء ما كنت أظنه لعمرو كان أمنع في نفسه من ذلك
فخرج إليه فلما رآه رحب به فقال له عمرو إنه قد نزل بنا ما ليست معه هجرة إنه قد كان من أمر هذا الرجل ما قد رأيت وقد أسلمت العرب كلها وليست لكم بحربهم طاقة فانظروا في أمركم
فعند ذلك ائتمرت ثقيف بينها وقال بعضهم لبعض ألا ترون أنه لا يأمن لكم سرب ولا يخرج منكم أحد إلا اقتطع فائتمروا بينهم وأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} رجلا كما أرسلوا عروة
فكلموا عبد ياليل وكان سن عروة وعرضوا عليه ذلك فأبى أن يفعل وخشي أن يصنع به إذا رجع كما صنع بعروة فقال لست فاعلا حتى ترسلوا معي رجالا
فأجمعوا أن يبعثوا معه رجلين من الأحلاف وثلاثة من بني مالك فيكونوا ستة فبعثوا مع عبد ياليل الحكم بن عمرو بن وهب بن معتب وشرحبيل بن غيلان بن سلمة بن معتب
ومن بني مالك عثمان بن أبي العاص وأوس بن عوف ونمير بن خرشة
(2/237)
فخرج بهم عبد ياليل وهو ناب القوم وصاحب أمرهم ولم يخرج بهم إلا خشية من مثل ما صنع بعروة بن مسعود لكي يشغل كل رجل منهم إذا رجعوا إلى الطائف رهطه فلما دنوا من المدينة ونزلوا قناة ألفوا بها المغيرة بن شعبة يرعى في نوبته ركاب أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكانت رعيتها نوبا عليهم فلما رآهم ترك الركاب عند الثقفيين وضبر يشتد يبشر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بقدومهم فلقيه أبو بكر الصديق قبل أن يدخل على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأخبره بقدومهم يريدون البيعة والإسلام وان يشترطوا شروطا ويكتتبوا من رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
كتابا
فقال أبو بكررضي الله عنه للمغيرة أقسمت عليك بالله لا تسبقني إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى أكون أنا أحدثه
ففعل المغيرة
فدخل أبو بكر على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأخبره بذلك ثم خرج المغيرة إلى أصحابه فروح الظهر معهم وعلمهم كيف يحيون رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلم يفعلوا إلا بتحية الجاهلية
ولما قدموا على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ضرب عليهم قبة في ناحية مسجده كما يزعمون فكان خالد بن سعيد هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى اكتتبوا كتابهم كتبه خالد بيده وكانوا لا يطعمون طعاما يأتيهم من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى يأكل منه خالد حتى أسلموا وفرغوا من كتابهم
وقد كان فيما سألوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يدع لهم الطاغية وهي اللات لا يهدمها ثلاث سنين فأبى ذلك عليهم فما برحوا يسألونه سنة سنة ويأبى حتى سألوه شهرا واحدا بعد مقدمهم فأبى عليهم أن يدعها شيئا مسمى وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام فأبى عليهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فيهدماها
وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة وان لا يكسروا أوثانهم بأيدهم فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أما كسر أوثانكم فنسنعفيكم منه وأما الصلاة فلا خير في دين لا صلاة فيه
(2/238)
فلما أسلموا وكتب لهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كتابا أمر عليهم عثمان بن أبي العاص وكان من أحدثهم سنا فقال أبو بكر لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} يا رسول الله إني قد رأيت هذا الغلام من أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم القرآن
فحدث
عثمان بن أبي العاص قال كان من آخر ما عهد إلي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين بعثني على ثقيف أن قال يا عثمان تجاوز في صلاتك وأقدر الناس بأضعفهم فإن فيهم الكبير والصغير والضعيف وذا الحاجة
فلما فرغوا من أمرهم وتوجهوا راجعين إلى بلادهم بعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} معهم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة في هدم الطاغية فخرجا مع القوم حتى إذا قدموا الطائف أراد المغيرة أن يقدم أبا سفيان فأبى ذلك عليه أبو سفيان وقال ادخل أنت على قومك
وأقام أبو سفيان بماله بذي الهدم فلما دخل علاها يضربها بالمعول وقام دونه بنو قومه معتب خشية أن يرمي أو يصاب كما أصيب عروة وخرج نساء ثقيف حسرا يبكين عليها ويقلن
لتبكين دفاع
أسلمها الرضاع
لم يحسنوا المصاع
الرجز
فلما هدمها المغيرة وأخذ مالها وحليها أرسل إلى أبي سفيان وحليها مجموع وما لها من الذهب والجزع
وقد كان أبو مليح بن عروة وقارب بن الأسود قدما على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قبل وفد ثقيف حين قتل عروة يريدان فراق ثقيف وان لا يجامعاهم على شيء أبدا
فأسلما فقال لهما رسول الله {صلى الله عليه وسلم} توليا من شئتما
فقالا نتولى الله ورسوله فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وخالكما أبا سفيان بن حرب
فقالا وخالنا أبا سفيان
فلما أسلم أهل الطائف ووجه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أبا سفيان والمغيرة إلى هدم الطاغية سأل أبو مليح رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يقضي عن أبيه عروة دينا كان عليه من مال الطاغية
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نعم
فقال له قارب بن الأسود وعن الأسود
يا رسول الله فاقضه
وعروة والأسود أخوان لأب وأم
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن الأسود مات مشركا
فقال قارب يا رسول الله لكن تصل مسلما إذا قرابة يعني نفسه إنما الدين علي وإنما أنا الذي أطلب به
(2/239)
فأمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أبا سفيان أن يقضي دين عروة والأسود من مال الطاغية فلما جمع المغيرة ما لها ذكر أبا سفيان بذلك فقضى منه عنهما
هكذا ذكر ابن إسحاق إسلام أهل الطائف بعقب غزوة تبوك في رمضان من سنة تسع قبل حج أبي بكر بالناس آخر تلك السنة
وجعل ابن عقبة قدوم عروة على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ومقتله في قومه واسلام ثقيف كل ذلك بعد صدر أبي بكر عن حجه وبين حديثه وحديث ابن إسحاق بعض اختلاف رأيت ذكر حديث ابن عقبة وان كان أكثره معادا لأجل ذلك الاختلاف ثم اذكر بعده حجة أبي بكر في الموضع الذي ذكرها فيه ابن إسحاق
قال موسى بن عقبة فلماصدر أبو بكر من حجه بالناس قدم عروة بن مسعود الثقفي على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فاسلم ثم استاذن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في الرجوع إلى قومه فقال له أني أخاف أن يقتلوك قال لو وجدوني نائما ما ايقظوني فأذن له فرجع إلى الطائف وقدمها عشاء فجاءته ثقيف يسلمون عليه فدعاهم إلى الإسلام ونصح لهم فاتهموه واعضوه واسمعوه من الأذى ما لم يكن يخشاه منهم فخرجوا من عنده حتى إذا اسحر وسطع الفجر قام على غرفة في داره فأذن بالصلاة وتشهد فرماه رجل من ثقيف بسهم فقتله فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لما بلغه قتله مثل عروة مثل صاحب ياسين دعا قومه إلى الله فقتلوه
واقبل بعد قتله وفد من ثقيف بضعة عشر رجلا هم أشراف ثقيف فيهم كنانة بن عبد ياليل وهو رأسهم يومئذ وفيهم عثمان بن أبي العاص وهو اصغر القوم حتى قدموا على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المدينة يريدون الصلح حين رأوا أن قد فتحت مكة واسلم عامة العرب فقال المغيرة بن شعبة يا رسول الله انزل على
قومي اكرمهم بذلك فاني حديث الجرم فيهم
قال لا امنعك أن تكرم قومك ولكن تنزلهم حيث يسمعون القران
فانزلهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في المسجد وبني لهم خياما لكي يسمعوا القران ويروا الناس إذا صلوا
(2/240)
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إذا خطب لم يذكر نفسه فلما سمعه وفد ثقيف قالوا يأمرنا أن نشهد انه رسول الله ولا يشهد به في خطبته فلما بلغه قولهم قال فاني أول من يشهد أني رسول الله
وكانوا يغدون على رسول الله كل يوم ويخلفون عثمان بن أبي العاص على رحالهم لانه اصغرهم فكان عثمان كلما رجع الوفد إليه وقالوا بالهاجرة عمد إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فسأله عن الدين واستقراه القران فاختلف إليه عثمان مرارا حتى فقه في الدين وعلم
وكان إذا وجد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نائما عمد إلى أبي بكر وكان يكتم ذلك من أصحابه فأعجب ذلك رسول الله {صلى الله عليه وسلم} واحبه
فمكث الوفد يختلفون إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو يدعوهم إلى الإسلام فقال له كنانة بن عبد ياليل هل أنت مقاضينا حتى نرجع إلى قومنا ثم نرجع إليك فقال نعم إن انتم اقررتم بالإسلام قاضيتكم وألا فلا قضية ولا صلح بيني وبينكم
قالوا أرأيت الزنا فإنا قوم نغترب ولا بد لنا منه
قال هو عليكم حرام إن الله يقول ولا تقربوا الزنا انه كان فاحشة وساء سبيلا الإسراء 32
قالوا فالربا قال والربا
قالوا انه اموالنا كلها
قال فلكم رءوس أموالكم قال الله يا آيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا أن كنتم مؤمنين البقرة 278
قالوا فالخمر فإنها عصير ارضنا ولا بد لنا منها
قال أن الله قد حرمها قال الله يا آيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون المائدة 90
فارتفع القوم فخلا بعضهم إلى بعض وقالوا ويحكم إنا نخاف إن
خالفناه يوما كيوم مكة انطلقوا فاعطوه ما سال واجيبوه
فأتوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقالوا لك ما سالت
أرايت الربة ماذا نصنع فيها قال اهدموها قالوا هيهات لو تعلم الربة أنا نريد هدمها لقتلت اهلنا
فقال عمر ويحك يا بن عبد ياليل ما احمقك إنما الربة حجر قال أنا لم ناتك يا بن الخطاب
ثم قال يا رسول الله تول أنت هدمها فأما نحن فلن نهدمها أبدا
قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فسابعث إليكم من يكفيكم هدمها
(2/241)
قال كنانه إئذن لنا قبل رسولك ثم ابعث في اثارنا فاني اعلم بقومي
فأذن لهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأكرمهم وحملهم
قالوا يا رسول الله أمر علينا رجل يؤمنا
فأمر عليهم عثمان بن أبي العاص لما رأى من حرصه على الإسلام وقد كان علم سورا من القران قبل أن يخرج
وقال كنانة لاصحابه أنا اعلمكم بثقيف فاكتموهم اسلامكم وخوفوهم الحرب والقتال واخبروهم أن محمدا سالنا امورا ابيناها عليه سألنا أن نهدم اللات ونبطل اموالنا في الربا ونحرم الخمر
حتى إذا دنوا من الطائف خرجت إليهم ثقيف يتلقونهم فلما راوهم قد ساروا العنق وقطروا الإبل وتغشوا ثيابهم كهيئة قوم قد حزنوا أو كذبوا قالت ثقيف بعضهم لبعض ما جاءوكم بخير
فلما دخلوا حصنهم عمدوا للات فجلسوا عندها واللات بيت كانوا يعبدونه ويسترونه ويهدون له الهدي يضاهون به بيت الله
ثم رجع كل واحد منهم إلى أهله فجاء كل رجل حامية من ثقيف فسالوه ماذا جئتم به قالوا آتينا رجلا فظا غليظا يأخذ من آمره ما شاء قد ظهر بالسيف واداخ العرب ودان له الناس فعرض علينا امورا شدادا هدم اللات وترك الأموال في الربا إلا رءوس أموالكم وحرم الخمر والزنا
قالت ثقيف والله لا نقبل هذا أبدا
قال الوفد اصلحوا السلاح وتهيئوا للقتال ورموا حصنكم
فمكثت ثقيف بذلك يومين أو ثلاثة تريد القتال ثم ألقى الله الرعب في قلوبهم وقالوا والله ما لنا به طاقة اداخ العرب كلها فارجعوا إليه فأعطوه ما
سأل وصالحوه عليه
فلما رأى الوفد أنهم قد رعبوا واختاروا الأمن على الخوف وعلى الحرب قالوا لهم إنا قد فرغنا من ذلك قد قاضيناه واسلمنا وأعطانا ما أحببنا واشترطنا ما أردنا وجدناه أتقى الناس وأوفادهم وأرحمهم وأصدقهم وقد بورك لنا ولكن في مسيرنا إليه وفيما قاضيناه عليه
فقالت ثقيف فلم كتمتمونا هذا الحديث وغممتمونا بذلك أشد الغم قالوا أردنا أن ينزع الله من قلوبكم نخوة الشيطان فأسلموا مكانهم واستسلموا
(2/242)
فمكثوا أياما ثم قدم عليهم رسل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد أمر عليهم خالد بن الوليد وفيهم المغيرة بن شعبة فلما قدموا عليهم عمدوا للات ليهدموها وانكفأت ثقيف كلها الرجال والنساء والصبيان حتى خرج العواتق من الحجال وهم لا يرون أنها تهدم ويظنون أنها ستمتنع
فقام المغيرة بن شعبة وقال لأصحابه لأضحكنكم من ثقيف فأخذ الكرزن فضرب به ثم أخذ يرتكض فارتج أهل الطائف بصيحة واحدة وقالوا أبعد الله المغيرة قد قتلته الربة وفرحوا حين رأوه ساقطا وقالوا من شاء منكم فليقترب ويجهد على هدمها فو الله لا تستطاع أبدا
فوثب المغيرة فقال قبحكم الله يا معشر ثقيف إنما هي لكاع حجارة ومدر ثم ضرب الباب فكسره ثم علا على سورها وعلا الرجال معه فما زالوا يهدمونها حجرا حجرا حتى سووها بالأرض وجعل صاحب المفاتيح يقول ليغضبن الأساس فليخسفن بهم
فلما سمع ذلك المغيرة قال لخالد دعني أحفر أساسها
فحفروها حتى أخرجوا ترابها وأخذوا حليها وثيابها فبهتت ثقيف
وانصرف الوفد إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بحليتها وكسوتها فقسمه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من يومه وحمد الله على نصر نبيه وإعزاز دينه
ذكر حج أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالناس سنة تسع وتوجيه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} علي بن أبي طالب بعده بسورة براءة
وبعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أبا بكر أميرا على الحج من سنة تسع ليقيم للمسلمين حجهم ونزلت بعد بعثه إياه براءة في نقض ما بين رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم أن لا يصد عن البيت أحد جاءه ولا يخاف على أحد في الشهر الحرام وكان ذلك عهدا عاما بينه وبين أهل الشرك وكان بين ذلك عهود خصائص بينه وبين قبائل العرب إلى آجال مسماة فنزلت فيه وفيمن تخلف من المنافقين عن تبوك وفي قول من قال منهم فكشف الله سرائر قوم كانوا يستخفون بغير ما يظهرون
فقيل لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} لو بعثت بها إلى أبي بكر فقال لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي
(2/243)
ثم دعا علي بن أبي طالب فقال أخرج بهذه القصة من صدر براءة وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى انه لا يدخل الجنة كافر ولا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان له عند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عهد فهو إلى مدته
فخرج علي على ناقة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} العضباء حتى أدرك أبا بكر الصديق بالطريق فلما رآه أبو بكر قال أمير أم مأمور قال بل مأور
ومضيا
فأقام أبو بكر للناس الحج والعرب قي تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب فأذن في
الناس بالذي أمره به رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذن فيهم ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة إلا أحد كان له عند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عهد إلى مدة فهو له إلى مدته
فلم يحجج بعد ذلك العام مشرك ولم يطف بالبيت عريان وكانت براءة تسمى في زمان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المبعثرة لما كشفت من سرائر الناس
وكانت تبوك آخر غزوة غزاها رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وكان جميع ما غزا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بنفسه سبعا وعشرين غزاة غزوة ودان وهي غزوة الابواء ثم غزوة بواط من ناحية رضوي غزوة العشيرة من بطن ينبع ثم غزوة بدر الأولى يطلب كرز بن جابر ثم غزوة بدر التي قتل الله فيها صناديد قريش ثم غزوة بني سليم حين بلغ الكدر ثم غزوة السويق يطلب أبا سفيان بن حرب ثم غزوة غطفان إلى نجد وهي غزوة ذي أمر ثم غزوة بحران معدن بالحجاز ثم غزوة أحد ثم غزوة حمراء الأسد ثم غزوة بني النضير ثم غزوة ذات الرقاع من نخل ثم غزوة بدر الآخرة ثم غزوة ثم غزوة دومة الجندل ثم غزوة الخندق ثم غزوة بني قريظة ثم غزوة بني لحيان من هذيل ثم غزوة ذي قرد ثم غزوة بني المصطلق من خزاعة ثم غزوة الحديبية لا يريد قتالا فصده المشركون ثم غزوة خيبر ثم عمرة القضاء ثم غزوة الفتح ثم غزوة حنين ثم غزوة الطائف ثم غزوة تبوك
(2/244)
قاتل {صلى الله عليه وسلم} في تسع غزوات منها بدر وأحد والخندق وقريظة وبني المصطلق وخيبر والفتح وحنين والطائف
وهذا الترتيب عن ابن إسحاق وخالفه ابن عقبة في بعضه
السرايا
وكانت بعوث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وسراياه ثمانية وثلاثين من بين بعث وسرية غزوة عبيدة بن الحارث أسفل ثنية المرة وغزوة حمزة بن عبد المطلب ساحل البحر من ناحية العيص وبعض الناس يقدم غزوة حمزة قبل غزوة عبيدة
وغزوة سعد بن أبي وقاص الخرار وغزوة عبد الله بن جحش نخلة وغزوة زيد بن حارثة القردة وغزوة محمد بن مسلمة كعب بن الأشرف وغزوة مرثد بن أبي مرثد الغنوي الرجيع وغزوة المنذر بن عمرو بئر معونة وغزوة أبي عبيدة بن الجراح ذا القصة من طريق العراق وغزوة عمر بن الخطاب تربة من أرض بني عامر وغزوة علي بن أبي طالب اليمن وغزوة غالب بن عبد الله الكلبي كلب ليث الكديد
فأصاب بني الملوح
وكان من حديثها أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعثه في سرية وأمره أن يشن الغارة على بني الملوح وهم بالكديد
قال جندب بن مكيث الجهني وكان مع غالب في سريته هذه فخرجنا حتى إذا كان بقديد لقينا الحارث بن مالك وهو ابن البرصاء الليثي فأخذناه فقال إني جئت أريد الإسلام وما خرجت إلا إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فقلنا له إن تك مسلما فلن يضرك رباط ليلة وإن تك على غير ذلك كنا قد استوثقنا منك فشددناه رباطا ثم خلفنا عليه رجلا من أصحابنا وقلنا له إن عازك فاحتز رأسه
قال ثم سرنا حتى أتينا الكديد عند غروب الشمس فكمنا في ناحية الوادي وبعثني أصحابي ربيئة لهم فخرجت حتى آتي تلا مشرفا على الحاضر فأسندت فيه فعلوت في رأسه فنظرت إلى الحاضر فو الله إني لمنبطح على التل إذ خرج
رجل منهم من خبائه فقال لامرأته إني لأرى على التل سوادا ما رأيته في أول يومي فانظري إلى أوعيتك هل تفقدين شيئا لا تكون الكلاب جرت بعضها
فنظرت فقالت لا والله ما أفقد شيئا
قال فناوليني قوسي وسهمين
فناولته فأرسل سهما فو الله ما أخطأ جنبي فأنزعه وأضعه وثبت مكاني
(2/245)
ثم أرسل الآخر فوضعه في منكبي فأنزعه وأضعه وثبت مكاني
فقال لامرأته لو كان ربيئة تحرك لقد خالطه سهماي لا ابالك إذا أصبحت فابتغيهما فخذيهما لا يمضغهما الكلاب علي ثم دخل
وامهلناهم حتى إذا اطمأنوا وناموا وكان في وجه السحر شننا عليهم الغارة فقتلنا واستقنا النعم وخرج صريخ القوم فجاءنا دهم لا قبل لنا به ومضينا بالنعم ومررنا بابن البرهاء وصاحبه فاحتملناهما معنا
وأدركنا القوم حتى قربوا منا فما بيننا وبينهم إلا وادي قديد فأرسل الله الوادي بالسيل من حيث شاء الله تبارك وتعالى من غير سحابة نراها ولا مطر فجاء بشيء ليس لأحد به قوة ولا يقدر على أن يجاوزه فوقفوا ينظرون إلينا وإنا لنسوق نعمهم وما يستطيع منهم رجل أن يجيز إلينا حتى فتناهم
فقدمنا بها على رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وغزوة علي بن أبي طالب بني عبد الله بن سعد من أهل فدك وغزوة أبي العوجاء السلمي أرض بني سليم فأصيب بها هو واصحابه جميعا
وغزوة عكاشة بن محصن الغمرة وغزوة أبي سلمة بن عبد الأسد قطنا ماء من مياه بني أسد من ناحية نجد قتل فيها مسعود بن عروة وغزوة محمد بن مسلمة القرطاء من هوازن وغزوة بشير بن سعد بني مرة بفدك وغزوته أيضا بناحية خيبر وغزوة زيد بن حارثة الجموح من أرض بني سليم وغزوته أيضا جذام من ارض خشين ويقال من ارض حسمى
وكان من حديثها كما حدث رجال من جذام كانوا علماء بها أن رفاعة بن زيد الجذامي لما قدم على قومه من عند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بكتابه يدعوهم إلى الإسلام فاستجابوا له لم يلبث أن قدم دحية بن خليفة الكلبي من عند قيصر
(2/246)
صاحب الروم حين بعثه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ومعه تجارة له حتى إذا كان بواد من أوديتهم أغار عليه الهنيد بن عوص الضليعي بطن منهم وابنه عوص فأصابا كل شي ء كان معه فبلغ ذلك قوما من بني الضبيب رهط رفاعة ممن كان أسلم وأجاب فنفروا إلى الهنيد وابنه فاستنقذوا ما كان في أيديهما فردة على دحية فخرج دحية حتى قدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأخبره خبره واستسقاه دم الهنيد وابنه فبعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} زيد بن حارثة وبعث معه جيشا فأغاروا فجمعوا ما وجدوا من مال أو ناس وقتلوا الهنيد وابنه ورجلين معهما فلما سمعت بذلك بنو الضبيب ركب نفر منهم فيهم حسان بن ملة فلما وقفوا على زيد بن حارثة قال حسان إنا قوم مسلمون
فقال له زيد فاقرأ أم الكتاب
فقرأها حسان
فقال زيد بن حارثة نادوا في الجيش إن الله قد حرم علينا ثغرة القوم التي جاءوا منها إلا من ختر
وإذا أخت حسان في الأساري فقال له زيد خذها
فقالت أم الفزر الصلعية أتنطلقون ببناتكم وتذرون أمهاتكم فقال أحد بني الخصيب إنها بنو الضبيب وسحر ألسنتهم سائر اليوم فسمعها بعض الجيش فأخبر بها زيدا فأمر بأخت حسان وقد كانت أخذت بحقوى أخيها ففكت يداها من حقويه وقال لها اجلسي مع بنات عمك حتى يحكم الله فيكن حكمه
فرجعوا ونهى الجيش أن يهبطوا إلى واديهم الذي جاءوا منه فأمسوا في أهليهم فلما شربوا عتمتهم ركبوا إلى رفاعة بن زيد فصبحوه فقال له حسان بن ملة إنك لجالس تحلب المعزى ونساء جذام أسارى قد غرها كتابك الذي جئت به فدعا رفاعة بجمل له فشد عليه رحله وهو يقول
هل أنت حي أو تنادي حيا
الرجز
ثم غدا وهم معه مبكرين فساروا إلى جوف المدينة ثلاث ليال فلما دخلوا على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ورآهم ألاح إليهم بيده أن تعالوا
من وراء الناس فلما
استفتح رفاعة بن زيد المنطق قال رجل من الناس يا رسول الله إن هؤلاء قوم سحرة
فرددها مرتين
فقال رفاعة رحم الله من لم يحذنا في يومنا هذا إلا خيرا
(2/247)
ثم دفع رفاعة إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كتابه الذي كان كتب له فقال دونك يا رسول الله قديما كتابه حديثا غدره
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اقرأه يا غلام واعلن
فلما قرأ كتابه استخبرهم فأخبره فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كيف أصنع بالقتلى ثلاث مرات فقال رفاعة أنت أعلم يا رسول الله لا نحرم عليك حلالا ولا نحل لك حراما
فقال أبو زيد بن عمرو أحد من قدم مع رفاعة أطلق لنا يا رسول الله من كان حيا ومن قتل فهو تحت قدمي هذه
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} صدق أبو زيد اركب معهم يا علي
فقال له علي يا رسول الله إن ريدا لن يطيعني
قال فخذ سيفي هذا
فأعطاه سيفه
فخرجوا فإذا رسول لزيد بن حارثة على ناقة من إبلهم فأنزلوه عنها فقال يا علي ما شأني فقال ما لهم عرفوه فأخذوه
ثم ساروا فلقوا الجيش فأخذوا ما بأيديهم حتى كانوا ينتزعون لبيد المرأة من تحت الرحل
وغزوة زيد بن حارثة أيضا الطرف من ناحية نخل من طريق العراق وغزوته أيضا وادي القرى لقي فيه بني فزارة فأصيب بها ناس من أصحابه وارتث زيد من بين القتلى فلما قدم زيد إلى أن لا يمس رأسه غسل من جنابة حتى يغزو بني فزارة فلما استبل من جراحه بعثه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى بني فزارة في جيش فقتلهم بوادي القرى وأصاب فيهم
وغزوة عبد الله بن رواحة خيبر مرتين إحداهما التي أصاب فيها اليسير بن رزام ويقال ابن رازم وكان من حديثه انه كان بخيبر يجمع غطفان لغزو رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فبعث إليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عبد الله بن رواحة في نفر من أصحابه منهم عبد الله بن أنيس حليف بني سلمة فلما قدموا عليه كلموه وقربوا له وقالوا
له إنك إن قدمت على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} استعملك وأكرمك
(2/248)
فلم يزالوا به حتى خرج معهم في نفر من يهود فحمله عبد الله بن أنيس على بعيره حتى إذا كان بالقرقرة من خيبر على ستة أميال ندم اليسير على مسيره إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ففطن له عبد الله بن أنيس وهو يريد السيف فاقتحم به ثم ضربه بالسيف فقطع رجله وضربه اليسير بمخرش في يده من شوحط فأمه ومال كل رجل من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على صاحبه من يهود فقتله إلا رجلا واحدا أفلت على رجليه
فلما قدم عبد الله بن أنيس على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} تفل على شجته فلم تقح ولم تؤذه
وغزوة عبد الله بن عتيك خيبر فأصاب بها أبا رافع بن أبي الحقيق
وغزوة عبد الله بن أنيس خالد بن سفيان بن نبيح بعثه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إليه وهو بنخلة أو بعرنة يجمع لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} ليغزوه فقتله
قال عبد الله بن أنيس دعاني رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال لي إنه بلغني أن ابن سفيان بن نبيح الهذلي يجمع لي الناس ليغزوني وهو بنخلة أو بعرنة فأته فاقتله
فقلت يا رسول الله من القشعريرة فأقبلت نحوه وخشيت أن تكون بيني وبينه مجاولة تشغلني عن الصلاة فصليت وأنا أمشي نحوه وأومئ برأسي
فلما انتهيت إليه قال من الرجل قلت رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل فجاءك لذلك
قال أجل أنا في ذلك
قال فمشيت معه شيئا حتى إذا أمكنني حملت عليه بالسيف فقتلته ثم خرجت وتركت طعائنه منكبات عليه
فلما قدمت على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فرآني قال أفلح الوجه قلت قد قتلته يا رسول الله
قال صدقت
ثم قام بي فأدخلني بيته فأعطاني عصا فقال أمسك هذه العصا عندك يا عبد الله بن أنيس
قال فخرجت بها على الناس فقالوا ما هذه لعصا قلت أعطانيها رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وأمرني أن أمسكها عندي
قالوا أفلا ترجع إليه فتسأله لم ذلك فرجعت فقلت يا رسول الله لم أعطيتني هذه العصا قال آية بيني وبينك يوم القيامة إن أقل الناس المتخصرون يومئذ
فقرنها عبد الله بن أنيس بسيفه فلم تزل معه حتى مات ثم أمر بها فضمت في كفنه ثم دفنا جميعا
وقال عبد الله في ذلك
تركت ابن ثور كالحوار وحوله
(2/249)
نوائح تفرى كل جيب مقدد
تناولته والظعن خلفي وخلفه
بأبيض من ماء الحديد مهند
عجوم لهام الدارعين كأنه
شهاب غضا من ملهب متوقد
أقول له والسيف يعجم رأسه
أنا ابن أنيس فارسا غير قعدد
وقلت له خذها بضربة ماجد
حنيف على دين النبي محمد
وكنت إذا هم النبي بكافر
سبقت إليه باللسان وباليد
الطويل
ومن البعوث أيضا بعث مؤتة حيث أصيب جعفر بن أبي طالب وأصحابه وغزوة كعب بن عمير الغفاري ذات أطلاح من أرض الشام أصيب بها هو واصحابه جميعا وغزوة عيينة بن حصن بني العنبر من تميم
وكان من حديثهم أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعثه إليهم فأغار عليهم واصاب منهم أناسا وسبى منهم أناسا
وقالت عائشة لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} يا رسول الله إن علي رقبة من ولد إسماعيل
قال هذا سبي بني العنبر يقدم الآن فنعطيك منهم إنسانا فتعتقينه
فلما قدم بسبيهم ركب فيهم وفد من بني تميم منهم ربيعة بن رفيع وسبرة بن عمرو والقعقاع بن معبد ووردان بن محرز وقيس بن عاصم ومالك بن عمرو والأقرع بن حابس وفراس بن حابس فكلموا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيهم فأعتق بعضا وأفدى بعضا وذلك هو الذي عنى الفرزدق بقوله
وعند رسول الله قام ابن حابس
بخطة سوار إلى المجد حازم
له أطلق الأسرى التي في حباله
مغللة أعناقها والشكائم
كفى أمهات الخالفين عليهم
غلاء المفادي أو سهام المقاسم
الطويل
وغزوة غالب بن عبد الله الكليبي أرض بني مرة وفيها قتل أسامة بن زيد حليفا لهم يقال له مرداس بن نهيك بن الحرقة من جهينة
قال أدركته أنا ورجل من الأنصار فلما شهرنا عليه السلاح قال أشهد أن لا اله إلا الله
فلم ننزع عنه حتى قتلناه
هكذا ذكر ابن إسحاق في حديثه
وخرج مسلم في صحيحه عن أسامة بن زيد قال فكف عنه الأنصاري وطعنته برمحي حتى قتلته فلما قدمنا بلغ ذلك النبي {صلى الله عليه وسلم} فقال يا أسامة اقتلته بعدما قال لا اله إلا الله قلت يا رسول الله إنما كان متعوذا
(2/250)
فقال أقتلته بعدما قال لا اله إلا الله فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم وفي بعض طرق مسلم أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال لأسامة لم قتلته قال يا رسول الله أوجع في المسلمين وقتل فلانا وفلانا وفلانا وسمى له نفرا وإني حملت عليه فلما رأى السيف قال لا اله إلا الله
قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اقتلته قال نعم
قال فكيف تصنع بلا اله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة قال يا رسول الله استغفر لي قال وكيف تصنع بلا إله إ لا الله إذا جاءت يوم القيامة فجعل لا يزيده على أن يقول كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة
وفي حديث ابن إسحاق أن أسامة قال أنظرني يا رسول الله إني أعاهد الله أن لا اقتل رجلا يقول لا اله إلا الله أبدا
وغزوة عمرو بن العاص ذات السلاسل من أرض بني عذرة وكان من
حديثه أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعثه يستنفر العرب إلى الشام وذلك أن أم أبيه العاص بن وائل كانت امرأة من بلي فبعثه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إليهم يستالفهم لذلك حتى إذا كان على ماء بأرض جذام يقال له السلسل وبذلك سميت تلك الغزوة غزوة ذات السلاسل خاف فبعث إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يستمده فبعث إليه أبا عبيده بن الجراح في المهاجرين الأولين فيهم أبو بكر وعمر وقال لأبي عبيده حين وجهه لا تختلفا فخرج أبو عبيده حتى إذا قدم عليه قال له عمرو إنما جئت مددا لي قال أبو عبيده لا ولكني علي ما أنا عليه وأنت على ما أنت عليه
فقال له عمرو بل أنت مدد لي
فقال له أبو عبيده وكان رجلا لينا هينا سهلا عليه أمر الدنيا يا عمرو أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال لي لا تختلفا وانك أن عصيتني اطعتك
قال فإني الأمير عليك وأنت مدد لي
قال فدونك
فصلى عمرو بالناس
(2/251)
وحدث رافع بن أبي رافع الطا ئي وهو رافع بن عميرة قال كنت امرءا نصرانيا فلما اسلمت خرجت في تلك الغزاة يعني غزوة ذات السلاسل فقلت والله لاختارن لنفسي صاحبا فصحبت أبا بكر فكنت معه في رحلة فكانت عليه عباءة له فدكية فكان إذا نزلنا بسطها واذا ركبنا لبسها ثم شكها عليه بخلال له وذلك الذي يقول أهل نجد حين ارتدوا كفارا بعد موت النبي {صلى الله عليه وسلم} ومبايعة الناس بعده لأبي بكر انحن نبايع ذا العباءة جهلوا يومئذ أن فضل الكمال ليس في ظاهر البهاء وان الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء
قال رافع فلما دنونا من المدينة قافلين قلت يا أبا بكر إنما صحبتك لينفعني الله بك فانصحني وعلمني
قال لو لم تسلني ذلك لفعلت امرك أن توحد الله لا تشرك به شيئا وان تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج هذا البيت وتغتسل من الجنابة ولا تتأمرن على رجلين من المسلمين أبدا
قال قلت يا أبا بكر أما أنا والله فاني أرجو أن لا اشرك بالله أبدا واما الصلاه فلن اتركها أبدا أن شاء الله واما الزكاة فإن يكن لي مال اؤديها أن شاء الله واما الحج فان استطع احج إن شاء الله واما الجنابه فساغتسل منها أن شاء الله
(2/252)
واما الاماره فاني رأيت الناس يا أبا بكر لا يشرفون عند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وعند الناس إلا بها فلم تنهى عنها قال إنما استجهدتني لأجهد ذلك وساخبرك عن ذلك أن الله تبارك وتعالى بعث محمدا {صلى الله عليه وسلم} بهذا الدين فجاهد فيه حتى دخل الناس فيه طوعا وكرها فلما دخلوا فيه كانوا عواذ الله وجيرانه وفي ذمته فإياك أن تخفر الله في جيرانه فيتبعك الله في خفرته فإن أحدكم يخفر في جاره فيظل ناتئا عضله غضبا لجاره إن اصيب له شاة أو بعير فالله اشد غضبا لجاره قال ففارقته على ذلك فلما قبض رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأمر أبو بكر على الناس قدمت عليه فقلت يا أبا بكر آلم تكن نهيتني عن أن اتامر على رجلين من المسلمين قال بلى وأنا الآن انهاك عن ذلك فقلت له فما حملك على أن تلي أمر الناس قال لا أجد من ذلك بدا خشيت على أمة محمد الفرقة
وفي هذه الغزاة أيضا صحب عوف بن مالك الاشجعي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قال فمررت بقوم على جزور لهم قد نحروها وهم لا يقدرون على أن يعضوها فقلت اتعطونني منها عشيرا على أن اقسمها بينكم قالوا نعم
فاخذت الشفرتين فجزاتها وأخذت منها جزء فحملته إلى اصحابي فاطبخناه فاكلناه فقال أبو بكر وعمر أنى لك هذا اللحم ياعوف فاخبرتهما خبره فقالا والله ما أحسنت حين اطعمتنا هذا ثم قاما يتقيآن ما في بطونهما من ذلك
فلما قفل الناس كنت أول قادم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فجئته وهو يصلي في بيته فقلت السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته
قال اعوف بن مالك قلت نعم بابي أنت وامي يا رسول الله
قال اصاحب الجزور ولم يزدني رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على ذلك
وغزوة ابن أبي حدرد واصحابه بطن إضم وكانت قبل الفتح قال عبد الله بن أبي حدرد بعثنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى اضم في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة ومحلم بن جثامة فخرجنا حتى إذا كنا ببطن اضم مر بنا عامر بن
(2/253)
الاضبط الاشجعي على قعود له معه متيع له ووطب من لبن فسلم علينا بتحية الإسلام فامسكنا عنه وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله لشيء كان بينهما واخذ بعيره ومتيعه
فلما قدمنا على رسول الله واخبرناه الخبر نزل فينا يا آيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا ( 94 النساء إلى آخر الآية
وعن ضميرة بن سعد السلمي عن أبيه وكان شهد حنينا قال صلى بنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الظهر ثم عمد إلى ظل شجرة فجلس تحتها وهو بحنين فقام إليه الاقرع بن حابس وعيينة بن حصن يختصمان في عامر بن الاضبط عيينة يطلب بدمه
وهو يومئذ رئيس غطفان والاقرع يدفع عن محلم بن جثامة لمكانه من خندف فتداولا الخصومة عند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ونحن نسمع فسمعنا عيينة يقول والله يا رسول الله لا ادعه حتى اذيق نساءه من الحر مثل ما اذاق نسائي ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول بل تاخذون الدية خمسين في سفرنا هذا وخمسين إذا رجعنا
وهو يابى عليه ثم ذكر تكرار رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قوله هذا فقبلوا الديه ثم قالوا أين صاحبكم هذا يستغفر له رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فقام رجل آدم ضرب طويل عليه حلة له قد كان تهيأ فيها للقتل حتى جلس بين يدي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال له ما اسمك فقال أنا محلم بن جثامة فرفع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يديه ثم قال الله اللهم لا تغفرلمحلم بن جثامة ثلاثا فقام يتلقى دمعه بفضل ردائه قال فأما نحن فنقول فيما بيننا أنا لنرجو أن يكون رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد استغفر له واما ما ظهر من رسول الله فهذا
(2/254)
وذكر سالم أبو النصر انه حدث أن عيينة بن حصن وقيسا لم يقبلوا الديه حتى خلا بهم الاقرع بن حابس وقال يا معشر قيس منعتم رسول الله قتيلا يستصلح به الناس افامنتم أن يلعنكم رسول الله فيلعنكم الله بلعنته أو أن يغضب عليكم فيغضب الله عليكم بغضبه والله الذي نفس الاقرع بيده لتسلمنه إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فليصنعن فيه ما أراد أو لآتين بخمسين رجلا من بني تميم يشهدون بالله لقتل صاحبكم كافرا ما صلى قط فلاطلن دمه
فقبلوا الديه
وفي حديث عن الحسن البصري قال والله ما مكث محلم بن جثامة إلا سبعا حتى مات فلفظته الأرض والذي نفس الحسن بيده ثم عادوا له فلفظته ثم عادوا له فلفظنته
فلما غلب قومه عمدوا إلى صدين فسطحوه بينهما ثم رضموا عليه الحجارة حتى واروه فبلغ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} شأنه فقال والله أن الأرض لتطابق على من هو شر منه ولكن الله أراد أن يعظكم في حرم ما بينكم بما اراكم منه
وغزوة ابن أبي حدرد الاسلمي أيضا الغابة قال تزوجت امرأة من قومي فجئت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} استعينه على نكاحي فقال وكم اصدقت قلت مائتي درهم قال سبحان الله لو كنتم تاخذون الدراهم من بطن واد ما زدتم والله ما عندي ما اعينك به
قال فلبثت أياما واقبل رجل من بني جشم بن معاوية يقال له رفاعة بن قيس أو قيس بن رفاعة في بطن عظيم من بني جشم حتى ينزل بقومه ومن معه بالغابه يريد أن يجمع قيسا على حرب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكان ذا اسم في جشم وشرف فدعاني رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ورجلين معي من المسلمين فقال اخرجوا إلى هذا الرجل حتى تاتوا منه بخبر وعلم قال وقدم لنا شارفا عجفاء فحمل عليها أحدنا فوالله ما قامت به ضعفا حتى دعمها الرجال من خلفها بأيديهم حتى استقلت وما كادت ثم قال تبلغوا عليها واعتقبوها
قال فخرجنا ومعنا سلاحنا من النبل والسيوف حتى إذا جئنا قريبا من الحاضر عشيشية مع غروب الشمس كمنت في ناحية
(2/255)
وامرت صاحبي فكمنا في ناحية أخرى من حاضر القوم وقلت لهما إذا سمعتماني قد كبرت وشددت في ناحية العسكر فكبرا وشدا معي فوالله إنا لكذلك ننتظر غرة القوم أو أن نصيب منهم شيئا وقد غشينا الليل حتى ذهبت فحمة العشاء وكان لهم راع سرح في ذلك البلد فابطا عليهم حتى تخوفوا عليه فقام صاحبهم ذلك فاخذ سيفه فجعله في عنقه ثم قال والله لاتبعن اثر راعينا هذا ولقد أصابه شر فقال نفر
ممن معه والله لا تذهب أنت نحن نكفيك
قال والله لا يذهب إلا أنا
قالوا فنحن معك قال والله لا يتبعني أحد منكم وخرج حتى مر بي فلما أمكنني نفحته بسهم فوضعته في فؤاده فوالله ما تكلم
ووثبت إليه فاحتززت رأسه وشددت في ناحية العسكر وكبرت وشد صاحباي وكبرا فوالله ما كان إلا النجاء ممن فيه عندك عندك بكل ما قدروا عليه من نسائهم وأبنائهم وما خف معهم من أموالهم واستقنا إبلا عظيمة وغنما كثيرة فجئنا بها إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وجئت برأسه احمله معي فأعانني رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من تلك الإبل بثلاثة عشر بعيرا في صداقي فجمعت إلي أهلي
وغزوة توجه فيها غبد الرحمن بن عوف
قال عطاء بن أبي رباح سمعت رجلا من أهل البصرة يسأل عبد الله بن عمر بن الخطاب عن إرسال العمامة من خلف الرجل إذا اعتم فقال عبد الله سأخبرك إن شاء الله عن ذلك بعلم
ثم ذكر مجلسا شاهده من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أمر فيه عبد الرحمن بن عوف أن يتجهز لسرية بعثه عليها
قال فأصبح وقد اعتم بعمامة من كرابيس سوداء فأدناه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} منه ثم نقضها ثم عمه بها وأرسل من خلفه أربع اصابع أو نحوا من ذلك
ثم قال هكذا يا بن عوف فاعتم فإنه أحسن وأعرف
ثم أمر بلالا أن يدفع إليه اللواء فدفعه إليه فحمد الله واثنى عليه وصلى على نفسه ثم قال خذه يا بن عوف اغزوا جميعا في سبيل الله فقاتلوا من كفر بالله لا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا فهذا عهد الله وسيرة نبية فيكم فأخذ عبد الرحمن بن عوف اللواء
قال ابن هشام فخرج إلى دومة الجندل
(2/256)
وبعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سرية إلى سيف البحر عليهم أبو عبيدة بن الجراح وزودهم جرابا من تمر فجعل يقوتهم إياه حتى صار إلى أن يعده لهم عددا حتى كان يعطي كل رجل منهم كل يوم تمرة فقسمها يوما فنقصت تمرة عن رجل فوجد فقدها ذلك اليوم
قال بعضهم فلما جهدنا الجوع أخرج الله لنا دابة من البحر فأصبنا من لحمها وودكها وأقمنا عليها عشرين ليلة حتى سمنا وأخذ أميرنا ضلعا من أضلاعها فوضعها على طريقة ثم أمر بأجسم بعير معنا فحمل عليه أجسم رجل منا فجلس عليه فخرج من تحتها وما مست رأسه فلما قدمنا على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أخبرناه خبرها وسألناه عن أكلنا إياها فقال رزق رزقكموه الله
وبعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عمرو بن أمية الضمري بعد مقتل خبيب وأصحابه إلى مكة وأمره أن يقتل أبا سفيان بن حرب وبعث معه جبار بن صخر الأنصاري فخرجا حتى قدما مكة وحبسا جمليهما بشعب من شعاب يأجج ثم دخلا مكة ليلا فقال جبار لعمرو لو أنا طفنا بالبيت وصلينا ركعتين فقال عمرو إن القوم إذا تعشوا جلسوا بأفنيتهم فقال كلا إن شاء الله
قال عمرو فطفنا بالبيت وصلينا ثم خرجنا نريد أبا سفيان فو الله إنا لنمشي بمكة إذ نظر الي رجل من أهل مكة فعرفني فقال عمرو بن أمية والله إن قدمها إلا لشر
فقلت لصاحبي النجاء
فخرجنا نشتد حتى أصعدنا في جبل وخرجوا في طلبنا حتى إذا علونا الجبل يئسوا منا فرجعنا فدخلنا كهفا في الجبل فبتنا وقد أخذنا حجارة فرضمناها دوننا
فلما أصبحنا غدا رجل من قريش يقود فرسا له ويختلي عليها فغشينا ونحن في الغار فقلت إن رآنا صاح بنا فأخذنا فقتلنا
قال ومعي خنجر قد أعددته لأبي سفيان فأخرج إليه فأضربه على ثديه وصاح صيحة أسمع أهل مكة وأرجع فأدخل مكاني
وجاءه الناس يشتدون وهو بآخر رمق فقالوا من ضربك فقال عمرو بن أمية
وغلبه الموت فمات مكانه ولم يدلل على مكاننا فاحتملوه فقلت لصاحبي لما أمسينا النجاء
(2/257)
فخرجنا ليلا من مكة نريد المدينة فمررنا بالحرس وهم يحرسون جيفة خبيب ابن عدي فقال أحدهم والله ما رأيت كالليلة أشبه بمشية عمرو بن أمية لولا انه بالمدينة لقلت هو عمرو بن أمية
فلما حاذى عمرو الخشبة شد عليها فاحتملها
وخرج هو وصاحبه شدا وخرجوا وراءه حتى أتى جرفا بمبسط يأجج فرمى بالخشبة في الجرف فغيبه الله عنهم فلم يقدروا عليه
قال عمرو بن أمية وقلت لصاحبي النجاء حتى تأتي بعيرك فتقعد عليه فإني شاغل عنك القوم وكان الأنصاري لا رجلة له
قال ومضيت حتى اخرج على ضجنان ثم آويت إلى جبل فأدخل كهفا فبينا أنا فيه دخل علي شيخ من بني الديل أعور في غنيمة فقال من الرجل فقلت من بني بكر فمن أنت قال من بني بكر
قلت مرحبا فاضطجع
ثم رفع عقيرته فقال
ولست بمسلم ما دمت حيا
ولا دان لدين المسلمينا
فقلت في نفسي ستعلم
فأمهلته حتى إذا نام أخذت قوسي فجعلت سيتها في عينه الصحيحة ثم تحاملت عليه حتى بلغت العظم
ثم خرجت النجاء حتى جئت العرج ثم سلكت ركوبه حتى إذا هبطت النقيع إذا رجلان من قريش من المشركين كانت قريش بعثتهما عينا إلى المدينة ينظران ويتحسسان فقلت استأسرا
فأبيا فأرمي أحدهما في بسهم فأقتله واستأسر الآخر فأوثقته رباطا وقدمت به المدينة
وسرية زيد بن حارثة إلى مدين فأصاب سبيا من أهل ميناء وهي السواحل وفيها جماع من الناس فبيعوا ففرق بينهم يعني بين الأمهات والأولاد فخرج رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهم يبكون فقال ما لهم فقيل يا رسول الله فرق بينهم فقال لا تبيعوهم إلا جميعا
وغزوة سالم بن عمير أبا عفك أحد بني عمرو بن عوف وكان نجم نفاقه حين قتل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الحارث بن سويد بن صامت فقال
لقد عشت دهرا وما إن أرى
من الناس دارا ولا مجمعا
أبر عهودا وأوفى لمن
يعاقد فيهم إذا ما دعا
من أولاد قيلة في جمعهم
تهد الجبال ولم تخضعا
فصدعهم راكب جاءهم
حلال حرام لشتى معا
فلو أن بالعز صدقتم
أو الملك تابعتم تبعا
الطويل
(2/258)
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من لي بهذا الخبيث فخرج سالم بن عمير أخو بني عمرو بن عوف وهو أحد البكائين فقتله فقالت أمامة المريدية في ذلك
تكذب دين الله والمرء أحمدا
لعمري الذي أمناك بئس الذي يمني
حباك حنيف آخر الليل طعنة
أبا عفك خذها على كبر السن
الطويل
وغزوة عمبر بن عدي الخطمي وهو الذي يدعي القارئ عصماء بنت مروان من بني أمية بن زيد وكانت تحت رجل من بني خطمة يقال له يزيد بن زيد فلما قتل أبو عفك نافقت فقالت تعيب الإسلام وأهله وتؤنب الأنصار في اتباعهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
أطعتم أتاوي من غيركم
فلا من مراد ولا مذحج
ترجونه بعد قتل الرءوس
كما يرتجي مرق المنضج
إلا آنف يبتغي غرة
فيقطع من أمل المرتجي
المتقارب
فلما بلغ ذلك رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال إلا أحد لي من ابنة مروان فسمع ذلك من قوله عمير بن عدي فلما أمسي من تلك الليلة سما عليها في بيتها فقتلها ثم أصبح مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال يا رسول الله إني قد قتلتها فقال نصرت الله ورسوله يا عمير فقال هل علي شيء من شأنها يا رسول الله فقال لا ينتطح فيها عنزان
فرجع عمير إلى قومه وبنو خطمة يومئذ كثير فوجههم في شأن بنت مروان
ولها بنون خمسة رجال
فقال يا بني خطمة أنا قتلت بنت مروان فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون
فذلك اليوم أول ما عز الإسلام في دار بني خطمة وكان يستخفي بإسلامه فيهم من أسلم
ويومئذ أسلم رجال منهم لما رأوا من عز الإسلام
والسرية التي أسرت ثمامة بن أثال الحنفي سيد أهل اليمامة وذلك أن خيلا لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} خرجت فأخذت رجلا من بني حنيفة لا يشعرون من هو حتى أتوا به رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال أتدرون من أخذتم هذا ثمامة بن أثال الحنفي أحسنوا إساره
ورجع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى أهله
فقال اجمعوا ما كان عندكم من طعام فابعثوا به إليه وأمر بلقحته أن يغدي عليه بها ويراح
(2/259)
فجعل لا يقع من ثمامة موقعا ويأتيه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيقول أسلم يا ثمامة وفي رواية ما تقول يا ثمامة فيقول يا محمد إن تقتل تقتل ذا دم وإن تنعم تنعم على شاكر وإن ترد الفداء فسل تعط منه ما شئت فمكث ما شاء الله أن يمكث ثم قال النبي {صلى الله عليه وسلم} يوما أطلقوا ثمامة
فلما أطلقوه خرج حتى أتى البقيع فتطهر فأحسن طهوره ثم أقبل فبايع النبي {صلى الله عليه وسلم} على الإسلام
فلما أمسي جاءوه بما كانوا يأتونه به من الطعام فلم ينل منه إلا قليلا وباللقحة فلم يصب من حلابها إلا يسيرا فعجب المسلمون من ذلك فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مم تعجبون من رجل أكل في أول النهار في معي كافر وأكل آخر النهار في معي مسلم إن الكافر يأكل في سبعة أمعاء وإن المسلم يأكل في معي واحد
وقال ثمامة حين أسلم لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} لقد كان وجهك أبغض الوجوه إلي فأصبح وهو أحب الوجوه إلي ولقد كان دينك أبغض الدين إلي فأصبح وهو أحب الاديان إلي ولقد كان بلدك أبغض البلاد إلي فأصبح وهو أحب البلاد إلي
ثم قال يا رسول الله إن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فأذن لي يا رسول
الله
فأذن له فخرج معتمرا فلما قدم مكة قالوا صبأت يا ثمامة
قال لا ولكني اتبعت خير الدين دين محمد ولا والله لا تصل إليكم حبة من اليمامة حتى يأذن فيها رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
ثم خرج إلى اليمامة فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئا فكتبوا إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إنك تأمر بصلة الرحم وإنك قد قطعت أرحامنا
فكتب إليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن خل بين قومي وبين ميرتهم
ففعل
ويقال إنه لما كان ببطن مكة في عمرته لبى فكان أول من دخل مكة يلبي فأخذته قريش فقالوا لقد اجترأت علينا
وهموا بقتله ثم خلوه لمكان حاجتهم إليه والى بلده فقال بعض بني حنيفة
ومنا الذي لبى بمكة معلنا
برغم أبي سفيان في الأشهر الحرم
الطويل
وبعث علقمة بن مجزز المدلجي لما قتل وقاص بن مجزر أخوه يوم ذي قرد وسأل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يبعثه في آثار القوم ليدرك ثأره فيهم فبعثه في نفر من المسلمين
(2/260)
قال أبو سعيد الخدري وأنا فيهم حتى إذا بلغنا رأس غزاتنا أو كنا ببعض الطريق أذن لطائفة من الجيش واستعمل عليهم عبد الله بن حذافة السهمي وكانت فيه دعابة فلما كان ببعض الطريق أوقد نارا ثم قال للقوم أليس لي عليكم السمع والطاعة قالوا بلى
قال فما آمركم بشيء إلا فعلتموه قالوا نعم
قال فإني أعزم عليكم بحقي وطاعتي إلا تواثبتم في هذه النار
فقام بعض القوم يحتجز حتى ظن أنهم واثبون فيها
فقال لهم اجلسوا فإنما كنت أضحك معكم
فذكر ذلك لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال من أمركم منهم بمعصية فلا تطيعوه
ويقال إن علقمة بن مجزر رجع هو وأصحابه ولم يلق كيدا
وبعث كرز بن جابر
وذلك أن نفرا من قيس كبة من بجيلة قدموا على
رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فاستوبأوا المدينة وطلحوا وكانت لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} لقاح ترعى ناحية الجماء يرعاها عبد له يقال له يسار كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أصابه في غزوة بني محارب وبني ثعلبة فقال لهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لو خرجتم إلى اللقاح فشربتم من ألبانها وأبوالها فخرجوا إليها فلما صحوا وانطوت بطونهم عكنا عدوا على راعي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فذبحوه وغرزوا الشوك في عينيه واستاقوا اللقاح فبعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في آثارهم كرزا فلحقهم فأتي بهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مرجعه من غزوة ذي قرد فقطع أيديهم وسمل أعينهم وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا
وغزوة علي بن أبي طالب اليمن غزاها مرتين
وقال أبو عمر المديني بعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} علي بن أبي طالب إلى اليمن وبعث خالد بن الوليد في جند آخر وقال إن التقيتما فالأمير علي بن أبي طالب
ثم بعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أسامة بن زيد بن حارثة إلى الشام وأمره أن يوطيء الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين وهو آخر بعث أمر به رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
فتجهز الناس وأوعب مع اسامة المهاجرون الأولون فبينا الناس على ذلك ابتدئ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بشكوه الذي قبضه الله فيه إلى ما أراد من رحمته وكرامته فلم ينفذ بعث أسامة إلا بعد وفاته صلوات الله عليه ورحمته وبركاته
(2/261)
وسيأتي ذكر ذلك مستوفي إن شاء الله
فهذه مغازي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وبعوثه وسراياه التي أعز الله بها الدين ودوخ بها الكافرين وشد أزره فيها بمن اختاره لصحبته ونصرته من الأنصار والمهاجرين رضي الله عنهم أجمعين وتلك أيام الله التي يجب بها التذكر والتذكير ويتأكد شكر الله سبحانه على ما يسرته منها المقادير
وقال حسان بن ثابت يعدد أيام الأنصار مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ويذكر مواطنهم معه في أيام غزوه وتروي لابنه عبد الرحمن
ألستم خير معد كلها نفرا
ومعشرا إن هم عموا وإن حصلوا
قوم هم شهدوا بدرا بأجمعهم
مع الرسول فما آلوا وما خذلوا
وبايعوه فلم ينكث به أحد
منهم ولم يك في إيمانهم دخل )
ويوم صبحهم في الشعب من أحد ضرب رصين كحر النار مشتعل
ويوم ذي قرد يوم استثار بهم على الجياد فما خاموا وما نكلوا
وذا العشيرة جاسوها بخيلهم مع الرسول عليها البيض والأسل
ويوم ودان أجلوا أهله رقصا بالخيل حتى نهانا الحزن والجبل
وليلة طلبوا فيها عدوهم لله والله يجزيهم بما عملوا
وغزوة يوم نجد ثم كان لهم مع الرسول بها الأسلاب والنفل
وليلة بحنين جالدوا معه فيها يعلهم بالحرب إذا نهلوا
وغزوة القاع فرقنا العدو به كما تفرق دون المشرب الرسل
ويوم بويع كانوا أهل بيعته على الجلاد فآسوه وما عدلوا
وغزوة الفتح كانوا في سريته مرابطين فما طاشوا وما عجلوا
ويوم خيبر كانوا في كتيبته يمشون كلهم مستبسل بطل
بالبيض ترعش في الأيمان عارية تعوج في الضرب أحيانا وتعتدل
ويوم سار رسول الله محتسبا إلى تبوك وهم راياته الأول
وساسة الحرب إن حرب بدت لهم حتى بدا لهم الإقبال فالقفل
أولئك القوم أنصار النبي وهم قومي أصير إليهم حين أتصل
ماتوا كراما ولم تنكث عهودهم وقتلهم في سبيل الله إذ قتلوا
البسيط
وقال حسان أيضا
وكنا ملوك الناس قبل محمد
فلما أتى الإسلام كان لنا الفضل
وأكرمنا الله الذي ليس غيره
إله بأيام مضت مالها شكل
بنصر الإله والرسول ودينه
وألبسناه اسما مضى ماله مثل
(2/262)
أولئك قومي خير قوم بأسرهم
فما كان من خير فقومي له أهل
يربون بالمعروف معروف من مضى
وليس عليهم دون معروفهم قفل
إذا اختبطوا لم يفحشوا في نديهم
وليس على سؤالهم عندهم بخل
وإن حاربوا أو سالموا لم يشبهوا
فحربهم حتف وسلمهم سهل
وجارهم موف بعلياء بيته
له ما ثوى فينا الكرامة والبذل
وحاملهم موف بكل حمالة
تحمل لا غرم عليه ولا خذل
وقائلهم بالحق إن قال قائل
وحلمهم عود وحكمهم عدل
ومنا أمير المسلمين حياته
ومن غسلته من جنابته الرسل
الطويل
وقال حسان أيضا من قصيدة له أولها
و قومي أولئك إن تسألي
كرام إذا الضيف يوما ألم
عظام القدور لأيسارهم
يكبون فيها المسن السنم
يواسون جارهم في الغنى
ويحمون مولاهم إن ظلم
فكانوا ملوكا بأرضيهم
يبادون غضبا بأمر غشم
ملوكا على الناس لم يملكوا
من الدهر يوما كحل القسم
ملوكا إذا غشموا في البلاد
لا ينكلون ولكن قدم
فأبنا بساداتهم والنساء
وأولادهم فيهم تقتسم
ورثنا مساكنهم بعدهم
وكنا ملوكا بها لم نرم
فلما أتانا الرسول الرشيد
بالحق والنور بعد الظلم
فقلنا صدقت رسول المليك
هلم إلينا وفينا أقم
فنشهد أنك عبد
الإله أرسلت نورا بدين قيم
فإنا وأولادنا جنة
نقيك وفي مالنا فاحتكم
فنحن أولئك إن كذبوك
فناد نداء ولا تحتشم
وناد بما كنت أخفيته
نداء جهارا ولا تكتتم
فسار الغواة بأسيافهم
إليه يظنون أن يخترم
فقمنا إليهم بأسيافنا
نجالد عنه بغاة الأمم
بكل صقيل له ميعة
رقيق الذباب عضوض خذم
إذا ما يصادف صم العظام
لم ينب عنها ولم ينثلم
فذلك ما ورثتنا القروم
مجدا تليدا وعزا أشم
إذا مر نسل كفى نسله
وغادر نسلا إذا ما انقصم
فما إن من الناس إلا لنا
عليه وإن خاس فضل النعم
المتقارب
ذكر الوفود على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ملخصا من كتاب ابن إسحاق والواقدي وغيرهما
وما زال آحاد الوافدين وأفذاذ الوفود من العرب يغدون على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} منذ أظهر الله دينه وقهر أعداءه
(2/263)
ولكن انبعاث جماهيرهم إلى ذلك إنما كان بعد فتح مكة ومعظمه في سنة تسع ولذلك كانت تسمى سنة الوفود
وذلك أن العرب كانت تربص بالإسلام ما يكون من قريش فيه إذ هم الذين كانوا نصبوا الحرب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وخلافه وكانوا إمام الناس وهاديهم وأهل البيت والحرم وصريح ولد إسماعيل وقادة العرب لا ينكر لهم ذلك ولا ينازعون فيه
فلما افتتح رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مكة ودانت له قريش ودوخها الإسلام عرفت العرب أنهم لا طاقة لهم بحربه ولا عداوته فدخلوا في دين الله أفواجا يضربون إليه من كل وجه يقول الله عز وجل لنبيه {صلى الله عليه وسلم} إذا جاء نصر الله والفتح سورة النصر أي فتح مكة ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا جماعات جماعات فسبح بحمد ربك أي فاحمد الله على ما ظهر من دينك واستغفره إنه كان توابا إشارة إلى انقضاء أجله واقتراب لحاقه برحمة ربه مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا النساء 69
كذلك يقول عبد الله بن عباس وقد سأله عمر بن الخطاب عن هذه
السورة فلما أجابه بنحو هذا المعنى قال له عمر رضي الله عنه ما أعلم منها إلا ما تعلم
فقدمت على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وفود العرب فمن ذلك
وفد بني تميم
قدم عليه عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس التميمي في أشراف من قومه منهم الأقرع بن حابس والزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم والحتات بن يزيد ونعيم بن يزيد وقيس بن الحارث وقيس بن عاصم في وفد عظيم من بني تميم
فلما دخلوا المسجد نادوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من وراء حجراته أن أخرج إلينا يا محمد فآذى ذلك رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من صياحهم وإياهم عنى الله سبحانه بقوله إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون الحجرات 4 فخرج إليهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقالوا يا محمد جئناك نفاخرك فأذن لشاعرنا وخطيبنا قال قد أذنت لخطيبكم فليقل فقام عطارد بن حاجب فقال
(2/264)
الحمد لله الذي له علينا الفضل وهو أهله الذي جعلنا ملوكا ووهب لنا أموالا عظاما نفعل فيها المعروف وجعلنا أعزة أهل المشرق واكثره عددا وأيسره عدة فمن مثلنا في الناس ألسنا برءوس الناس وأولي فضلهم فمن فاخرنا فليعدد مثل ما عددناه وإنا لو نشاء لأكثرنا الكلام ولكنا نحيا من الإكثار فيما أعطانا وإنا نعرف بذلك
أقول هذا لأن تأتونا بمثل قولنا وأمر أفضل من أمرنا
ثم جلس
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لثابت بن قيس بن شماس أخي بني الحارث بن الخزرج قم فأجب الرجل في خطبته فقام ثابت فقال
الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه قضى فيهن أمره ووسع كرسيه علمه ولم يك شيء قط إلا من فضله ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكا واصطفى من خير خلقه رسولا أكرمه نسبا واصدقه حديثا وأفضله حسبا فأنزل عليه كتابه وأتمنه على خلقه فكان خيرة الله من العالمين ثم دعا الناس إلى الإيمان به فآمن برسول الله {صلى الله عليه وسلم} المهاجرون من قومه وذوي رحمه أكرم الناس أحسابا وأحسن الناس وجوها وخير الناس فعالا ثم كان أول الخلق إجابة واستجابة لله حين دعاه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نحن فنحن أنصار الله ووزراء رسول الله نقاتل الناس حتى يؤمنوا فمن آمن بالله ورسوله منع منا ماله ودمه ومن كفر جاهدناه في الله أبدا وكان قتله علينا يسيرا
أقول قولي هذا واستغفر اللهلي وللمؤمنين والمؤمنات والسلام عليكم
فقام الزبرقان بن بدر فقال
نحن الكرام فلا حي يعادلنا
منا الملوك وفينا تنصب البيع
وكم قسرنا من الأحياء كلهم
عند النهاب وفضل العز يتبع
ونحن يطعم عند القحط مطعمنا
من الشواء إذا لم يؤنس القزع
بما ترى الناس تأتينا سراتهم
من كل أرض هوانا ثم متبع
فننحر الكوم عبطا في أرومتنا
للنازلين إذا ما أنزلوا شيع
فلا ترانا إلى حي نفاخرهم
إلا استفادوا وكانوا الرأس يقتطع
فمن يفاخرنا في ذاك نعرفه
فيرجع القوم والأخبار تستمع
إنا أبينا وما يأبى لنا أحد
إنا كذلك عند الفخر نرتفع
البسيط
(2/265)
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد استدعى حسان بن ثابت ليجيب شاعر بني تميم قال حسان فخرجت إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأنا أقول
منعنا رسول الله حل وسطنا
على أنف راض من معد وراغم
منعناه لما حل بين بيوتنا
بأسيافنا من كل باغ وظالم
ببيت حريد عزة وثراؤه
بجابية الجولان وسط الأعاجم
هل المجد إلا السؤدد العود والندى
وجاه الملوك واحتمال العظائم
الطويل
فلما فرغ الزبرقان قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قم يا حسان فأجب الرجل
فقال حسان
إن الذوائب من فهر وإخوتهم
قد بينوا سنة للناس تتبع
يرضى بهم كل من كانت سريرته
تقوى الإله وكل الخير يصطنع
قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم
أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
سجية تلك منهم غير محدثة
إن الخلائق فاعلم شرها البدع
إن كان في الناس سباقون بعدهم
فكل سبق لأدنى سبقهم تبع
لا يرقع الناس ما أوهت أكفهم
عند الدفاع ولا يوهون ما - رقعوا
إن سابقوا الناس يوما فاز سبقتهم
أو وازنوا أهل مجد بالندى متعوا
أعفة ذكرت في الوحي عفتهم
لا يطمعون ولا يرديهم طمع
لا يبخلون على جار بفضلهم
ولا يمسهم من مطمع طبع
إذا نصبنا لحي لم ندب لهم
كما يدب إلى الوحشية الذرع
نسموا إذا الحرب نالتنا مخالبها
إذا الزعانف من أظفارها خشعوا
لا يفخرون إذا نالوا عدوهم
وإن أصيبوا فلا خور ولا هلع
كأنهم في الوغى والموت مكتنع
أسد بحلبة في أرساغها فدع
خذ منهم ما أتي عفوا إذا غضبوا
ولا يكن همك الأمر الذي منعوا
فإن في حربهم فاترك عداوتهم
شرا يخاض عليه السم والسلع
أكرم بقوم رسول الله شيعتهم
إذا تفاوتت الاهواء والشيع
أهدى لهم مدحتي قلب يوازره
في ما أحب لسان حائك صنع
فإنهم أفضل الأحياء كلهم
إن جد بالناس جد القول أو شمع
البسيط
وذكر ابن هشام عن بعض أهل العلم بالشعر من بني تميم أن الزبرقان بن بدر لما قدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في وفد بني تميم قام فقال
أتيناك كيما يعلم الناس فضلنا
إذا اختلفوا عند اختضار المواسم
بأنا فروع الناس في كل موطن
وأن ليس في أرض الحجاز كدارم
(2/266)
وأنا نذود المعلمين إذا انتخوا
ونضرب رأس الأصيد المتفاقم
وأن لنا المرباع في كل غارة
نغير بنجد أو بأرض الأعاجم
الطويل
فقام حسان بن ثابت فأجابه فقال
هل المجد إلا السؤدد العود والندى
وجاه الملوك واحتمال العظائم
نصرنا وآوينا النبي محمدا
على أنف راض من معد وراغم
بحي حريد أصله وثراؤه
بجابية الجولان وسط الأعاجم
نصرناه لما حل وسط ديارنا
بأسيافنا من كل باغ وظالم
جعلنا بنينا دونه وبناتنا
وطبنا له نفسا بفيء المغانم
ونحن ضربنا الناس حتى تتابعوا
على دينه بالمرهفات الصوارم
ونحن ولدنا من قريش عظيمها
ولدنا نبي الخير من آل هاشم
بني دارم لا تفخروا إن فخركم
يعود وبالا عند ذكر المكارم
هبلتم علينا تفخرون وأنتم
لنا خول ما بين ظئر وخادم
فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم
وأموالكم أن تقسموا في المقاسم
فلا تجعلوا لله ندا وأسلموا
ولا تلبسوا زيا كزي الأعاجم
الطويل
قال ابن إسحاق فلما فرغ حسان من قوله قال الأقرع بن حابس وأبى إن هذا الرجل لمؤتى له لخطيبه أخطب من خطيبنا ولشاعره أشعر من شاعرنا ولأصواتهم أعلى من أصواتنا
فلما فرع القوم اسلموا وجوزهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأحسن جوائزهم
وكان عمرو بن الأهتم قد خلفه القوم في ظهرهم وكان أصغرهم سنا فأعطاه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مثل ما أعطى القوم
وقيس بن عاصم هو الذي ذكره له ذكرا أزرى به فيه فكان بينهما ما هو معلوم
وفد بني عامر
وقدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وفد بني عامر فيهم عامر بن الطفيل وأربد بن قيس وجبار بن سلمي وكان هؤلاء الثلاثة رؤساء القوم وشياطينهم
فقدم عامر بن الطفيل عدو الله على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو يريد الغدر به وقد قال له قومه يا عامر إن الناس قد أسلموا فأسلم
قال والله لقد كنت آليت أن لا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي أفأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش ثم قال لأربد إذا قدمنا على الرجل فإني سأشغل عنك وجهه فإذا فعلت ذلك فاعله بالسيف
(2/267)
فلما قدموا على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال له عامر بن الطفيل يا محمد خالني قال لا والله حتى تؤمن بالله وحده
قال يا محمد خالني وجعل يكلمه وينتظر من أربد ما كان آمره به فجعل أربد لا يحير شيئا فلما أبى عليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا فلما ولى قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اللهم اكفني عامر بن الطفيل
فلما خرجوا قال عامر لأربد ويلك يا أربد أين ما كنت أمرتك به والله ما كان على وجه الأرض رجل أخوف عندي على نفسي منك وأيم الله لا أخافك بعد اليوم أبدا
قال لا أبا لك لا تعجل علي والله ما هممت بالذي أمرتني به إلا دخلت بيني وبين الرجل حتى ما أرى غيرك أفاضربك بالسيف
وخرجوا راجعين إلى بلادهم حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه فقتله الله في بيت امرأة من بني سلول فجعل
يقول يا بني عامر أغدة كغدة البكر في بيت امرأة من بني سلول ويقال إنه قال أغدة كغدة الإبل وموتا في بيت سلولية
ثم خرج أصحابه حين واروه حتى قدموا أرض بني عامر فأتاهم قومهم فقالوا ما وراءك يا اربد قال لا شيء والله لقد دعاني الي عبادة شيء لوددت أنه عندي الآن فأرميه بالنبل حتى أقتله
فخرج بعد مقالته بيوم أو يومين معه جمل له يتبعه فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما
وأنزل الله جل قوله في وقاية الله تعالى لنبيه عليه السلام مما أراده به عامر وفيما قتل به أربد سواء منكم من اسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله أي أن المعقبات التي يحفظ الله بها نبيه هي من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال الرعد 10 13
(2/268)
وفد تجيب
وقدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقد تجيب وهم من السكون ثلاثة عشر رجلا قد ساقوا معهم صدقات أموالهم التي فرض الله عليهم فسر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بهم وأكرم منزلهم وقالوا يا رسول الله سقنا إليك حق الله تعالى في أموالنا
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ردوها فاقسموها على فقرائكم
فقالوا يا رسول الله ما قدمنا عليك إلا بما فضل عن فقرائنا
فقال أبو بكر يا رسول الله ما وفد علينا وفد من العرب بمثل ما وفد به هؤلاء الحي من تجيب
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن الهدى بيد الله عز وجل فمن أراد به خيرا شرح صدره للإيمان
وسألوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أشياء فكتب لهم بها وجعلوا يسألونه عن القرآن والسنن فازداد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} رغبة فيهم و أمر بلالا أن يحسن ضيافتهم
فأقاموا أياما ولم يطيلوا اللبث فقيل لهم ما يعجلكم فقالوا نرجع إلى من وراءنا فنخبرهم برؤيتنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكلامنا إياه وما رد علينا
ثم جاءوا إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يودعونه فأرسل إليهم بلالا فأجازهم بأرفع ما كان يجيز به الوفود
قال هل بقي منكم أحد قالوا غلام خلفناه على رحالنا هو أحدثنا سنا
قال أرسلوه إلينا
فلما رجعوا إلى رحالهم قالوا للغلام انطلق إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فاقض حاجتك منه فإنا قد قضينا حوائجنا منه
وودعناه
فأقبل الغلام حتى أتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال يا رسول الله إني امرؤ من بني أبذي قال الواقدي هو أبذي بن عدي وأم عدي تجيب بنت ثوبان بن سليم من مذحج واليها ينسبون يقول الغلام من الرهط الذين أتوك آنفا فقضيت حوائجهم فاقض حاجتي يا رسول الله
قال وما حاجتك
قال إن حاجتي ليست بحاجة أصحابي وإن كانوا قدموا راغبين في الإسلام وساقوا ما ساقوا من صدقاتهم وإني والله ما أعملني من بلادي إلا أن تسأل الله عز وجل أن يغفر لي وأن يرحمني وأن يجعل غناي في قلبي فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} واقبل إلى الغلام اللهم أغفر له وارحمه واجعل غناه في قلبه ثم أمر له بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه
(2/269)
فانطلقوا راجعين إلى أهاليهم ثم وافوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في الموسم بمنى سنة عشر فقالوا نحن بنو أبذي
قال رسول الله ما فعل الغلام الذي أتاني معكم قالوا يا رسول الله والله ما رأينا مثله قط ولا حدثنا بأقنع منه بما رزقه الله عز وجل لو أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها ولا التفت إليها
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الحمد لله إني لأرجو أن يموت جميعا
فقال رجل منهم أو ليس يموت الرجل جميعا يا رسول الله قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} تشعب أهواؤه وهمومه في أودية الدنيا فلعل أجله أن يدركه في بعض تلك الأودية فلا يبالي الله عز وجل في أيها هلك
قالوا فعاش ذلك الرجل فينا على أفضل حال وأزهده في الدنيا وأقنعه بما رزق فلما توفي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ورجع من رجع من أهل اليمن عن الإسلام قام في قومه يذكرهم الله والإسلام فلم يرجع منهم أحد
وجعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه يذكره ويسأل عنه حتى بلغه حاله وما قام به فكتب إلى زياد بن لبيد يوصيه به خيرا
فروة بن مسيك المرادي
وقدم فروة بن مسيك المرادي على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مفارقا لملوك كندة متابعا للنبي {صلى الله عليه وسلم} وقال في ذلك
لما رأيت ملوك كندة أعرضت
كالرجل خان الرجل عرق نسائها
قربت راحلتي أؤم محمدا
أرجو فواضلها وحسن ثرائها
الكامل
ثم خرج حتى أتى المدينة وكان رجلا له شرف فأنزله سعد بن عبادة عليه ثم غدا على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو جالس في المسجد فسلم عليه ثم قال يا رسول الله أنا لمن ورائي من قومي قال أين نزلت يا فروة قال على سعد بن عبادة قال بارك الله على سعد بن عبادة
وكان يحضر مجلس رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كلما جلس ويتعلم القرآن وفرائض الإسلام وشرائعه
(2/270)
وكان بين مراد وهمدان قبيل الإسلام وقعة أصابت فيها همدان من مراد ما أرادوا حتى أثخنوهم في يوم يقال له يوم الردم وكان الذي قاد همدان إلى مراد الأجدع بن مالك ففضحهم يومئذ فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لما وفد إليه يا فروة هل ساءك ما أصاب قومك يوم الردم قال يا رسول الله من ذا يصيب قومه مثل ما أصاب قومي يوم الردم لا يسوءه ذلك فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أما إن ذلك اليوم لم يزد قومك في الإسلام إلا خيرا
وفي ذلك اليوم يقول فروة بن مسيك
مررنا باللفاة وهن خوص
ينازعن الأعنة ينتحينا
فإن نغلب فغلابون قدما
وإن نغلب فغير مغلبينا
وما إن طبنا جبن ولكن
منايانا وطعمة آخرينا
كذاك الدهر دولته سجال
تكر صروفه حينا فحينا
فبينا ما نسر به ونرضى
ولو لبست غضارته سنينا
إذا انقلبت به كرات دهر
فألفى للأولى غبطوا طحينا
فمن يغبط بريب الدهر منهم
تجد ريب الزمان له خؤونا
فلو خلد الملوك إذن خلدنا
ولو بقي الكرام إذا بقينا
فأفنى ذلكم سروات قومي
كما أفني القرون الأولينا
الوافر
واستعمل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فروة بن مسيك على مراد وزبيد ومذحج كلها وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة وكتب له فيها كتابا لا يعدوه إلى غيره فكان خالد مع فروة في بلاده حتى توفي رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
ولما كانت السنة التي توفي فيها صلوات الله وبركاته عليه وصدر عن مكة ورأت أبناء زبيد قبائل اليمن تقدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مقرين بالإسلام مصدقين برسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم يرجع راجعهم إلى بلاده وهم على ما هم عليه قالوا لخالد بن سعيد والله لقد دخلنا فيما دخل فيه الناس وصدقنا بمحمد {صلى الله عليه وسلم} وخلينا بينك وبين صدقات أموالنا وكنا لك عونا على من خالفك من قومنا
قال خالد قد فعلتم قالوا فأوفد منا نفرا يقدمون على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ويخبرونه بإسلامنا ويقبسونا منه خيرا
(2/271)
قال خالد ما احسن ما دعوتم إليه وأنا أجيبكم ولم يمنعني أن أقول لكم هذا إلا أني رأيت الوفود تمر بكم فلا يهيجكم ذلك على الخروج فساءني ذلك منكم حتى ساء ظني بكم وكنتم على ما كنتم عليه من حداثة عهدكم بالشرك فخشيت أن يكون الإسلام لم يرسخ في قلوبكم فأما إذا طلبتم ما طلبتم فأنا أرجو أن يكون الإسلام راسخا في قلوبكم
قالوا وما أنكرت منا والله لقد كنا في حيزك واخترناك على غيرك من عمال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وما رأيت منا شيئا تكرهه ولا تنكره إلى يومنا هذا
قال اللهم غفرا لولا أني أنكرت منكم بعض ما ينكر ما قلت هذا أما تعلمون أني أخذت من شاب منكم فريضة بنت مخاض فعقلتها ووسمتها بميسم الصدقة فجئتم بأجمعكم فأخذتموها ثم قلتم إن شاء خالد فليأخذها من مرعاها فأمسكت عنكم وخفت أن يأتي منكم ما هو شر من هذا قالوا فقد كان ونزعنا وتبنا إلى الله فلا نحول بينك وبين شيء تريده فبعث معهم وفدا إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وفد زبيد عمرو بن معدي كرب
وقدم عمرو بن معدي كرب على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في أناس من قومه بني زبيد فأسلم وكان عمرو قد قال لقيس بن مكشوح المرادي حين انتهى إليهم أمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يا قيس إنك سيد قومك وقد ذكر لنا أن رجلا من قريش يقال له محمد خرج بالحجاز يقال إنه نبي فانطلق بنا إليه حتى نعلم علمه فإن كان نبيا كما يقول فإنه لن يخفي علينا إذا لقيناه اتبعناه وإن كان غير ذلك علمنا علمه فإنه إن سبق إليه رجل من قومك سادنا وترأس علينا وكنا له أذنابا
فأبى عليه قيس وسفه رأيه فركب عمرو بن معدي كرب حتى قدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأقام أياما فأجازه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كما كان يجيز الوفود وأنصرف راجعا إلى بلاده فأقام في قومه بني زبيد وعليهم فروة بن مسيك سامعا له مطيعا فلما توفي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ارتد عمرو ثم راجع الإسلام بعد ذلك
وقد كان قيس بن مكشوح لما بلغه خروج عمرو أوعده وتحطم عليه وقال خالفني وترك رأبي
فقال عمرو في ذلك من أبيات
أمرتك يوم في ذي صنعاء
(2/272)
أمرا باديا رشده
أمرتك باتقاء الله
والمعروف تتعده
فكنت كذي الحمير غره
مما به وتده
تمناني على فرس
عليه جالس أسده
فلو لاقيتني للقيت
ليثا فوقه لبده
الوافر
وطلب فروة بن مسيك قيس بن مكشوح كل الطلب حتى هرب من
بلاده وكان مصمما في طلب من خالفه فكان عمرو يقول لقيس قد خبرتك يا قيس أنك تكون ذنبا تابعا لفروة بن مسيك
وفد بني ثعلبة
وقدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وفد بني ثعلبة سنة ثمان مرجعه من الجعرانة
ذكر الواقدي عن رجل منهم قال لما قدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من الجعرانة قدمنا عليه وافدين مقرين بالإسلام ونحن أربعة نفر فنزلنا دار رملة بنت الحارث فجاءنا بلال فنظر إلينا فقال أمعكم غيركم قلنا لا فانصرف عنا فلم يلبث إلا يسيرا حتى أتى بجفنة من ثريد بلبن وسمن فأكلنا حتى نهلنا ثم رحنا إلى الظهر فإذا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد خرج من بيته ورأسه يقطر ماء فرمى ببصره إلينا فأسرعنا إليه وبلال يقيم الصلاة
فسلمنا عليه وقلنا يا رسول الله إنا رسل من خلفنا من قومنا مقرين بالإسلام وهم في مواشيهم وما لا يصلحه إلا هم وقد قيل لنا يا رسول الله لا إسلام لمن لا هجرة له فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حيثما كنتم واتقيتم الله فلا يضركم حيث كنتم
وفرغ بلال من الآذان ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} يكلمنا ثم تقدم فصلى بنا الظهر لم تصل وراء أحد قط أتم صلاة ولا أوجز منه ثم انصرف إلى بيته فدخل فلم يلبث أن خرج إلينا فقيل لنا صلى في بيته ركعتين فدعا بنا فقال أين أهلكم فقلنا قريبا يا رسول الله هم بهذه السرية فقال كيف بلادكم فقلنا مخصبون فقال الحمد لله
فأقمنا أياما وتعلمنا من القرآن والسنن وضيافته تجري علينا ثم جئنا نودعه منصرفين فقال لبلال أجزهم كما تجيز الوفد فجاء بلال بنقر من فضة فأعطى كل واحد منا خمس أواق وقال ليس عندنا دراهم مضروبة فانصرفنا إلى بلادنا
وفد بني سعد هذيم
وقدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بنو سعد هذيم من قضاعة في سنة تسع
(2/273)
ذكر الواقدي عن ابن النعمان منهم عن أبيه قال قدمت على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وافدا في نفر من قومي وقد أوطأ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} البلاد غلبة وأداخ العرب والناس صنفان
إما داخل في الإسلام راغب فيه وإما خائف من السيف فنزلنا ناحية من المدينة ثم خرجنا نؤم المسجد حتى انتهينا إلى بابه فنجد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يصلي على جنازة في المسجد فقمنا خلفه ناحية ولم ندخل مع الناس في صلاتهم وقلنا حتى نلقي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ونبايعه ثم انصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فنظر إلينا فدعا بنا فقال من أنتم فقلنا من بني سعد هذيم فقال أمسلمون أنتم قلنا نعم قال فهلا صليتم على أخيكم قلنا يا رسول الله ظننا أن ذلك لا يجوز لنا حتى نبايعك فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أينما أسلمتم فأنتم مسلمون
قال فأسلمنا وبايعنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بأيدينا على الإسلام ثم انصرفنا إلى رحالنا وقد كنا خلفنا عليها أصغرنا فبعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في طلبنا فأتى بنا إليه فتقدم صاحبنا فبايعه على الإسلام فقلنا يا رسول الله إنه أصغرنا وإنه خادمنا فقال أصغر القوم خادمهم بارك الله عليه
قال فكان والله خيرنا وأقرأنا للقرآن لدعاء رسول الله {صلى الله عليه وسلم} له
ثم أمره رسول الله {صلى الله عليه وسلم} علينا فكان يؤمنا
ولما أردنا الانصراف أمر بلالا فأجازنا بأواقي من فضة لكل رجل منا فرجعنا إلى قومنا فرزقهم الله الإسلام
وفد بني فزارة
ولما رجع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من تبوك قدم عليه وفد بني فزارة بضعة عشر رجلا فيهم خارجة بن حصن والحر بن قيس بن حصن ابن أخي عيينة بن حصن وهو أصغرهم فنزلوا في دار زينب بنت الحارث وجاءوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مقرين بالإسلام وهم مسنتون على وكاف عجاف فسألهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عن بلادهم فقال أحدهم يا رسول الله أسنتت بلادنا وهلكت مواشينا وأجدب جنابنا وغرث عيالنا فادع لنا ربك يغثنا واشفع لنا إلى ربك وليشفع لنا ربك إليك
(2/274)
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سبحان الله ويلك هذا أنا شفعت إلى ربي عز وجل فمن ذا الذي يشفع ربنا إليه لا اله إلا هو العلي العظيم وسع كرسيه السموات والأرض فهي تئط من عظمته وجلاله كما يئط الرجل الجديد
وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن الله جل وعز ليضحك من شفعكم وأزلكم وقرب غياثكم
فقال الأعرابي يا رسول الله ويضحك ربنا عز وجل قال نعم قال الأعرابي لن نعدمك من رب يضحك خير فضحك النبي {صلى الله عليه وسلم} من قوله وصعد المنبر فتكلم بكلمات وكان لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء فرفع يديه حتى رؤي بياض إبطيه وكان مما حفظ من دعائه اللهم اسق بلادك وبهائمك وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت اللهم اسقنا غيثا مغيثا مربعا طيبا واسعا عاجلا غير آجل نافعا غير ضار اللهم اسقنا رحمة ولا تسقنا عذابا ولا هدما ولا غرقا ولا محقا اللهم اسقنا الغيث وانصرنا على الأعداء
فقام أبو لبابة بن عبد المنذر الأنصاري فقال يا رسول الله التمر في المربد
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اللهم اسقنا فعاد أبو لبابة لقوله وعاد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لدعائه فعاد أيضا أبو لبابة لقوله وعاد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لدعائه فعاد أيضا أبو لبابة فقال التمر في المربد يا رسول الله فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اللهم اسقنا حتى يقوم أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره
قالوا ولا والله ما في السماء سحاب ولا قزعة وما بين المسجد وبين سلع من شجر ولا دار فطلعت من وراء سلع سحابة مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت فو الله ما رأوا الشمس سبعا
وقام أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره لئلا يخرج التمر منه فجاء ذلك الرجل أو غيره فقال يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فصعد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المنبر فدعا ورفع يديه مدا حتى رؤي بياض إبطيه ثم قال اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر
قال فانجابت السحاب عن المدينة انجياب الثوب
وفد بني أسد
(2/275)
وقدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وفد بني أسد عشرة رهط فيهم وابصة بن معبد وطليحة بن خويلد ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} جالس في المسجد مع أصحابه فسلموا وتكلموا وقال متكلمهم يا رسول الله إنا شهدنا أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأنك عبده ورسوله وجئناك يا رسول الله ولم تبعث إلينا بعثا ونحن لمن وراءنا
قال محمد بن كعب القرظي فأنزل الله عز وجل على رسوله يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين 17 الحجرات
وكان مما سألوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عنه يومئذ العيافة والكهانة وضرب الحصى فنهاهم عن ذلك كله
فقالوا يا رسول الله إن هذه أمور كنا نفعلها في الجاهلية أرأيت خصلة بقيت قال وما هي قال الخط قال علمه نبي من الأنبياء فمن صادف مثل علمه علم
وفد بهراء
(2/276)
وذكر الواقدي عن كريمة بنت المقداد قالت سمعت أمي ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب تقول قدم وفد بهراء من اليمن وهم ثلاثة عشر رجلا فأقبلوا يقودون رواحلهم حتى انتهوا إلى باب المقداد ونحن في منزلنا نبني جديلة فخرج إليهم المقداد فرحب بهم وأنزلهم وجاءهم بجفنة من حيس قد كنا هيأناها قبل أن يحلوا لنجلس عليها فحملها أبو معبد المقداد وكان كريما على الطعام فأكلوا منها حتى نهلوا وردت إلينا القصعة وفيها أكل فجمعنا تلك الأكل في قصعة صغيرة ثم بعثنا بها إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مع سدرة مولاتي فوجدته في بيت أم سلمة فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ضباعة أرسلت بهذا قالت سدرة نعم يا رسول الله قال ضعي ثم قال ما فعل ضيف أبي معبد قلت عندنا فأصاب منها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أكلا هو ومن معه في البيت حتى نهلوا وأكلت معهم سدرة ثم قال اذهبي بما بقي إلى ضيفكم قالت سدرة فرجعت بما بقي في القصعة إلى مولاتي قالت فأكل منها الضيف ما أقاموا نرددها عليهم وما تغيض حتى جعل الضيف يقولون يا أبا معبد انك لتنهلنا من احب الطعام إلينا وما كنا نقدر على مثل هذا إلا في الحين وقد ذكر لنا أن بلادكم قليلة الطعام إنما هو العلق أو نحوه ونحن عندك في الشبع فأخبرهم أبو معبد بخبر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنه أكل منها أكلا وردها فهذه بركة أثر أصابع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فجعل القوم يقولون نشهد أنه رسول الله وازدادوا يقينا وذلك الذي أراد رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وتعلموا الفرائض وأقاموا أياما ثم جاءوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فودعوه وأمر لهم بجوائزهم وانصرفوا إلى أهلهم
وفد بني غدرة
(2/277)
وقدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وفد بني غدرة في صفر سنة تسع اثنا عشر رجلا فيهم حمزة بن النعمان وسليم وسعد ابنا مالك ومالك بن أبي رباح فنزلوا في دار رملة بنت الحارث النجارية ثم جاءوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو في المسجد فسلموا بسلام أهل الجاهلية فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من القوم فقال متكلمهم من لا تنكر نحن بنو غدرة أخوة قصي لأمه نحن الذين عضوا قصيا وأزاحوا من بطن مكة خزاعة وبني بكر ولنا قرابات وأرحام
قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مرحبا بكم وأهلا ما أعرفني بكم فما منعكم من تحية الإسلام قالوا يا محمد كنا على ما كان عليه آباؤنا فقدمنا مرتادين لأنفسنا ولمن خلفنا فإلام تدعو فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى عبادة الله وحده لا شريك له وأن تشهدوا أني رسول الله إلى الناس كافة فقال المتكلم فما وراء ذلك من الفرائض فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الصلوات الخمس تحسن طهورهن وتصليهن لمواقيتهن فإنه أفضل العمل ثم ذكر لهم سائر الفرائض من الصيام والزكاة والحج فقال المتكلم الله أكبر نشهد انه لا اله إلا الله وأنك رسول الله قد أجبناك إلى ما دعوت إليه ونحن أعوانك وأنصارك ثم قال يا رسول الله إنا متاخمو الشام وأخبارهم ترد علينا وبالشام من قد علمت هرقل فهل أوحي إليك في أمره بشيء فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أبشر فإن الشام ستفتح عليكم ويهرب هرقل إلى ممتنع بلاده قال الله أكبر يا رسول الله إن فينا امرأة كاهنة كانت قريش والعرب يتحاكمون إليها ولو قد رجعنا أقرت هي وغيرها من قومنا بالإسلام إن شاء الله أفنسألها عن كهانتها فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لا تسألوها عن شيء قال الله أكبر ثم سأله عن الذبائح التي كانوا يذبحون في الجاهلية لأصنامهم فنهاهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عنها وقال لا
ذبيحة لغير الله عز وجل ولا ذبيحة عليكم في سنتكم إلا واحدة ط
قال وما هي فداك أبي وأمي قال الأضحية قال وأمي وقت تكون قال صبيحة العاشر من ذي الحجة تذبح شاة عنك وعن أهلك قال يا رسول الله أهي على أهل كل بيت وجدوها قال نعم
(2/278)
فأقاموا أياما ثم أجازهم كما يجيز الوفود وانصرفوا
وقدم بلي
وقد على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وفد بلي في ربيع الأول من سنة تسع
قال رويفع ابن ثابت البلوي فبلغني قدومهم فخرجت حتى جئتهم برأس الثنية في أيديهم خطم رواحلهم فرحبت بهم وقلت المنزل علي فعدلت بهم إلى منزلي فنزلوا ولبسوا من صالح ثيابهم ثم خرجت بهم حتى انتهيت إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو جالس في أصحابه في بقية فيء الغداة فسلمت
فقال رويفع فقلت لبيك قال من هؤلاء القوم قلت قومي قال مرحبا بك وبقومك قلت يا رسول الله قدموا وافدين عليك مقرين بالإسلام وهم على من وراءهم من قومهم
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من يرد الله به خيرا يهده للإسلام
قال وتقدم شيخ الوفد أبو الضبيب فجلس بين يديه فقال يا رسول الله إنا قدمنا عليك لنصدقك ونشهد أن ما جئت به حق ونخلع ما كنا نعبد ويعبد آباؤنا قبلنا
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الحمد لله الذي هداكم للإسلام فكل من مات على غير الإسلام فهو في النار قال يا رسول الله إني رجل لي رغبة في الضيافة فهل لي في ذلك من أجر قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نعم وكل معروف صنعته إلى غني أو فقير فهو صدقة قال يا رسول الله ما وقت الضيافة قال ثلاثة أيام فما كان بعد ذلك فصدقة ولا يحل للضيف أن يقيم عندك فيحرجك قال يا رسول الله أرأيت الضالة من الغنم أجدها في الفلاة من الأرض قال لك أو لأخيك أو للذئب قال فالبعير قال مالك وله دعه حتى يجده صاحبه
وسأله عن أشياء غير هذه فأجابه عنها
قال رويفع ثم قاموا فرجعوا إلى منزلي فإذا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يأتي منزلي يحمل تمرا فقال استعن بهذا التمر فكانوا يأكلون منه ومن غيره فأقاموا ثلاثا ثم ودعوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأجازهم ورجعوا إلى بلادهم
ضمام بن ثعلبة
(2/279)
وبعثت بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة وافدا إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقدم عيه وأناخ بعيره على باب المسجد ثم عقله ثم دخل المسجد ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} جالس في أصحابه وكان ضمام رجلا جلدا أشعر ذا غديرتين فأقبل حتى وقف على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في أصحابه فقال أيكم ابن عبد المطلب فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنا ابن عبد المطلب
قال أمحمد قال نعم قال يا ابن عبد المطلب إني سائلك ومغلظ عليك في المسألة فلا تجدن في نفسك قال لا أجد في نفسي فسل عما بدا لك
قال أنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك الله بعثك إلينا رسولا قال اللهم نعم قال فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك الله أمرك أن تأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا وأن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون معه قال اللهم نعم قال فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك الله أمرك أن نصلي هذه الصلوات الخمس قال اللهم نعم
ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة الزكاة والصيام والحج وشرائع الإسلام كلها ينشده عند كل فريضة كما ينشده في التي قبلها حتى إذا فرغ قال فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وسأؤدى هذه الفرائض وأجتنب ما نهيتني عنه ثم لا أزيد ولا أنقص
ثم انصرف إلى بعيره راجعا
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن صدق ذو العقيصتين دخل الجنة
قال فأتى بعيره فأطلق عقاله ثم خرج حتى قدم على قومه فاجتمعوا عليه فكان أول ما تكلم به أن سب اللات والعزى قالوا مه يا ضمام اتق البرص
اتق الجذام اتق الجنون قال ويلكم إنهما والله ما تضران ولا تنفعان إن الله قد بعث رسولا وأنزل عليه كتابا فاستنقذكم به مما كنتم فيه فإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وقد جئتكم من عنده بما أمركم به وما نهاكم عنه
قال فوالله ما أمسي من ذلك اليوم وفي حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلما
(2/280)
فبنوا المساجد وآذنوا بالصلاة وكلما اختلفوا في شيء قالوا عليكم بوافدنا
قال ابن عباس فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة
واختلف في الوقت الذي وفد فيه ضمام هذا على النبي {صلى الله عليه وسلم} فقيل سنة خمس
ذكره الواقدي وغيره وقيل سنة سبع وقيل سنة تسع فالله أعلم
وفد عبد القيس
وقدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وفد عبد القيس في جماعة رأسهم عبد الله بن عوف الأشج فلما أتوه قال من الوفد أو من القوم قالوا ربيعة قال مرحبا بالقوم أو بالوفد غير خزايا ولا الندامى قالوا يا رسول الله إنا نأتيك من شقة بعيدة وإن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر وإنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا ندخل به الجنة
فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع
أمرهم بالإيمان بالله وحده وقال هل تدرون ما الإيمان بالله قالوا الله ورسوله أعلم
قال شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تؤدوا خمسا من المغنم
ونهاهم عن الدباء والحنتم والمزفت والنقير
قالوا يا نبي الله ما علمك بالنقير قال بلى جذع ينقرونه فيقذفون فيه من القطيعاء أو قال من التمر ثم يصبون فيه من الماء حتى إذا سكن غليانه شربتموه حتى أن أحدكم أو أن أحدهم ليضرب ابن عمه بالسيف وفي القوم رجل أصابته جراحه كذلك قال وكنت أخبأها حياء من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقد كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لما سلم عليه القوم سألهم أيكم عبد الله الأشج فقالوا أتاك يا رسول الله وكان عبد الله وضع ثياب سفره وأخرج ثيابا حسانا فلبسها وكان رجلا دميما فلما جاء ونظر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى دمامته قال يا رسول الله إنه لا يستقي في مسوك الرجال إنما يحتاج من الرجل إلى أصغريه لسانه وقلبه
فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن فيك الخصلتين يحبهما الله ورسوله الحلم والأناة فقال عبد الله يا رسول الله أشيء حدث في أم شيء جبلت عليه فقال بل شيء جبلت عليه
(2/281)
وكان الأشج يسائل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عن الفقه والقرآن فكان رسول الله يدينه منه إذا جلس وكان يأتي أبي بن كعب فيقرأ عليه
وأمر لهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بجوائز وفضل الأشج عليهم فأعطاه اثنتي عشرة أوقية ونشا وذلك أكثر مما كان يجيز به الوفود
وقدم في هذا الوفد الجارود بن عمرو وكان نصرانيا فلما انتهى إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كلمه فعرض عليه الإسلام ودعاه إليه ورغبه فيه فقال يا محمد إني كنت على دين وإني تارك ديني لدينك أفتضمن لي ديني فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نعم أنا ضامن أن قد هداك الله إلى ما هو خير منه فأسلم وحسن إسلامه
وأراد الرجوع إلى بلاده فسأل النبي {صلى الله عليه وسلم} حملانا فقال والله ما عندي ما أحملكم عليه قال يا رسول الله فإن بيننا وبين بلادنا ضوال من ضوال الناس أفنتبلغ عليها إلى بلادنا قال لا إياك وإياها فإنما تلك حرق النار
فخرج من عنده الجارود راجعا إلى قومه وكان حسن الإسلام صليبا في دينه حتى هلك وقد أدرك الردة فلما رجع من كان أسلم من قومه إلى دينهم الأول مع الغرور بن المنذر بن النعمان قام الجارود فتشهد بشهادة الحق ودعا إلى الإسلام فقال يا أيها الناس إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأكفر من لم يتشهد
ويروي وأكفئ من لم يشهد
وفد بني مرة
وقدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وفد بني مرة ثلاثة عشر رجلا رأسهم الحارث ابن عوف وذلك منصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من تبوك جاءوه وهو في المسجد فقال الحارث بن عوف يا رسول الله إنا قومك وعشيرتك نحن قوم من بني لؤي بن غالب فتبسم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقال للحارث أين تركت أهلك قال بسلاح وما والاها قال فكيف البلاد قال والله إنا لمسنتون وما في المال مخ فادع الله لنا
(2/282)
قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اللهم اسقهم الغيث فأقاموا أياما ثم أرادوا الإنصراف إلى بلادهم فجاءوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مودعين له فأمر بلالا أن يجيزهم فأجازهم بعشر أواق عشر أواق فضة وفضل الحارث بن عوف أعطاه اثنتي عشرة أوقية ورجعوا إلى بلادهم فوجدوا البلاد مطيرة فسألوا متى مطرتم فإذا هو ذلك اليوم الذي دعا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيه
فقدم عليه قادم بعد وهو يتجهز لحجة الوداع فقال يا رسول الله رجعنا إلى بلادنا فوجدناها مضبوطة مطرا لذلك اليوم الذي دعوت لنا فيه ثم قلدتنا أقلاد الزرع في كل خمس عشرة ليلة مطرة جودا ولقد رأيت الإبل تأكل وهي بروك وإن غنمنا ما توارى من أبياتنا فترجع فتقيل في أهلنا
فقال رسول الله الحمد لله الذي هو صنع ذلك
وفد خولان
وقدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في شعبان من سنة عشر وفد خولان وهم عشرة فقالوا يا رسول الله نحن على من وراءنا من قومنا ونحن مؤمنون بالله عز وجل مصدقون برسوله قد ضربنا إليك آباط الإبل وركبنا حزون الأرض وسهولها والمنة لله ولرسوله علينا وقدمنا زائرين لك
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أما ما ذكرتم من مسيركم الي فإن لكم بكل خطوة خطاها بعير أحدكم حسنة واما قولكم زائرين لك فإنه من زارني بالمدينة كان في جواري يوم القيامة
قالوا يا رسول الله هذا السفر الذي لا توى عليه
ثم قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما فعل عم أنس وهو صنم خولان الذي كانوا يعبدونه قالوا بشر وعر بدلنا الله به ما جئت به وقد بقيت منا بعد بقايا من شيخ كبير وعجوز كبيرة متمسكون به ولو قد قمنا عليه هدمناه إن شاء الله فقد كنا في غرور وفتنة يا رسول الله إن فتنته كانت أعظم مما عسينا أن نذكره لك فالحمد لله الذي من علينا بك وتنقذنا من الهلكة وما مضى عليه الآباء من عبادته
قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وما أعظم ما رأيتم من فتنته قالوا يا رسول الله لقد رأيتنا وأسنتنا حتى أكلنا الرمة ومات الولدان غرما وهلكت ناغيتنا وراعيتنا وحافرنا أو ما ذهب منها
(2/283)
فقلنا أو من قال منا قربوا لعم انس قربانا يشفع لكم فتغاثوا فتعاونوا فجمعنا ما قدرنا عليه من عين مالنا ثم ذهب ذاهبنا فابتاع مائة ثور ثم حشرها علينا فنحرناها في غداة واحدة وتركناها تردها السباع ونحن أحوج إليها من السباع فجاءنا الغيث من ساعتنا فأي فتنة اعظم من هذه فلقد رأينا العشب يواري الرجال ويقول قائلنا أنعم علينا عم أنس
وذكروا لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما كانوا يقسمون لصنمهم هذا من أنعامهم وحروثهم وأنهم كانوا يجعلون من ذلك جزءا له وجزءا لله بزعمهم
قالوا كنا نزرع الزرع فنجعل له وسطه فنسميه له ونسمي زرعا آخر حجرة لله جل وعز فإذا مالت الريح بالذي سميناه لله جعلناه لعم أنس وإذا مالت الريح بالذي جعلناه لعم أنس لم نجعله لله
فذكر لهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن الله عز وجل أنزل عليه في ذلك وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون ( الأنعام 136
قالوا وكنا نتحاكم إليه فنكلم
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} تلك الشياطين تكلمكم
قالوا فأصبحنا يا رسول الله وقلوبنا تعرف أنه كان لا يضر ولا ينفع ولا يدري من عبده ممن لم يعبده
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الحمد لله الذي هداكم وأكرمكم بمحمد {صلى الله عليه وسلم}
وسألوه عن فرائض الدين فأخبرهم وأمرهم بالوفاء بالعهد وأداء الأمانة وحسن الجوار لمن جاوروا وان لا يظلموا أحدا
قال فإن الظلم ظلمات يوم القيامة
ثم أمر بهم فأنزلوا دار رملة وأمر لهم بضيافة تجرى عليهم وأمر من يعلمهم القرآن والسنن ثم ودعوه بعد أيام فأجازهم ورجعوا إلى قومهم فلم يحلوا عقدة حتى هدموا عم أنس
وفد محارب
وقدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عام حجة الوداع وفد محارب وهم كانوا أغلظ العرب وأفظه على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في تلك المواسم أيام عرضه نفسه على القبائل يدعوهم إلى الله فجاء رسول الله {صلى الله عليه وسلم} منهم عشرة نائبين عن من وراءهم من قومهم فأسلموا
(2/284)
وكان بلال يأتيهم بغذاء وعشاء إلى أن جلسوا مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يوما من الظهر إلى العصر فعرف رجلا منهم فأبده النظر فلما رآه المحاربي يديم النظر إليه قال كأنك يا رسول الله توهمني
قال لقد رأيتك
فقال المحاربي أي والله لقد رأيتني وكلمتني وكلمتك بأقبح الكلام ورددتك بأقبح الرد بعكاظ وأنت تطوف على الناس
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نعم
ثم قال المحاربي يا رسول الله ما كان في أصحابي أشد عليك يومئذ ولا أبعد من الإسلام مني فأحمد الله الذي أتعاني حتى صدقت بك ولقد مات أولئك النفر الذين كانوا معي على دينهم
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن هذه القلوب بيد الله عز وجل
فقال المحاربي يا رسول الله استغفر لي من مراجعتي إياك
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن الإسلام يجب ما كان قبله من الكفر
ثم انصرفوا إلى أهليهم
وفد طيء
وقدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وفد طيء فيهم زيد الخيل وهو سيدهم فلما إنتهوا إليه كلموه وعرض عليهم الإسلام فأسلموا فحسن إسلامهم وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني إلا رأيته دون ما يقال فيه إلا زيد الخيل فإنه لم يبلغ كل ما فيه ثم سماه زيد الخير وقطع له فيدا وأرضين معه وكتب له بذلك كتابا فخرج من عنده راجعا إلى قومه فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن ينج زيد من حمى المدينة يسميها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يومئذ باسم غير الحمى وغير أم ملدم
وقال زيد حين انصرف
أنيخت بآجام المدينة أربعا
وعشرا يغني فوقها الليل طائر
فلما قضى أصحابها كل بغية
وخط كتابا في الصحيفة ساطر
شددت عليها رحلها وسليلها
من الدرس والشعراء والبطن ضامر
الطويل
فلما انتهى زيد من بلد نجد إلى ماء من مياهه يقال له فردة أصابته الحمى فمات
وقال لما أحس بالموت
أمرتحل قومي المشارق غدوة
وأترك في بيت بفردة منجد
ألا رب يوم لو مرضت لعادني
عوائد من لم يشف منهن يجهد
فليت اللواتي عدنني لم يعدنني
وليت اللواتي غبن عني شهد
الطويل
(2/285)
فلما مات عمدت امرأته إلى ما كان من كتبه التي قطع له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فحرقتها بالنار
وأما عدي بن حاتم فكان يقول فيما ذكر عنه ما من رجل من العرب كان أشد كراهية لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين سمع به مني أما أنا فكنت امرأ شريفا وكنت نصرانيا وكنت أسير في قومي بالمرباع فكنت في نفسي على دين
وكنت ملكا في قومي لما كان يصنع بي قومي وما كان يصنع في أهل ديني فلما سمعت برسول الله {صلى الله عليه وسلم} كرهته فقلت لغلام كان لي عربي وكان راعيا لإبل لي لا أبالك أعدد لي من إبلي أجمالا ذللا سمانا فاحتبسها قريبا مني فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطئ هذه البلاد فآذني ففعل ثم إنه أتاني ذات غداة فقال يا عدي ما كنت صانعا إذا غشيك خيل محمد فاصنعه الآن فإني قد رأيت رايات فسألت عنها فقالوا هذه جيوش محمد
قلت فقرب إلي أجمالي فقربها فاحتملت بأهلي وولدي ثم قلت ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام وخلفت بنتا لحاتم في الحاضر فلما قدمت الشام أقمت بها
وتخالفني خيل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فتصيب بنت حاتم فيمن أصابت فقدم بها على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في سبايا من طيء فجعلت بنت حاتم في حظيرة بباب المسجد كانت السبايا تحبس فيها فمر بها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقد كان بلغه هربي إلى الشام فقامت إليه وكانت امرأة جزلة فقالت يا رسول الله هلك الوالد وغاب الوافد فامنن علي من الله عليك
قال ومن وافدك قالت عدي بن حاتم
قال الفار من الله ورسوله قالت ثم مضى وتركني حتى إذا كان من الغد مر بي فقلت له مثل ذلك وقال لي مثل ما قال بالأمس
قالت حتى إذا كان بعد الغد مر بي وقد يئست فأشار إلي رجل من خلفه أن قومي فكلميه فقمت إليه فقلت يا رسول الله هلك الوالد وغاب الوافد فتمنن علي من الله عليك قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد فعلت فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى أهلك ثم آذنيني
(2/286)
فسألت عن الرجل الذي أشار إلي أن كلميه فقيل علي بن أبي طالب وأقمت حتى قدم ركب من بلي أو قضاعة وإنما أريد أن آتي أخي بالشام فجئت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقلت يا رسول الله قد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة
وبلاغ
فكساني رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وحملني وأعطاني نفقة فخرجت معهم حتى قدمت الشام
قال عدي فوالله إني لقاعد في أهلي إذ نظرت إلى ظعينة تصوب الي تؤمنا قلت ابنة حاتم فإذا هي هي فلما وقفت علي انسحلت تقول القاطع الظالم احتملت بأهلك وولدك وتركت بقية والدك عورتك قلت أي أخية لا تقولي إلا خيرا فوالله ما لي من عذر لقد صنعت ما ذكرت
ثم نزلت فأقامت عندي
فقلت لها وكانت امرأة حازمة ماذا ترين في أمر هذا الرجل قالت أرى والله أن تلحق به سريعا فإن يكن الرجل نبيا فللسابق إليه فضله وان يكن ملكا فلن تذل في عز اليمن وأنت أنت
قلت والله أن هذا للرأي
فخرجت حتى اقدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المدينة فدخلت عليه وهو في مسجده فسلمت عليه فقال من الرجل فقلت عدي بن حاتم فقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فانطلق بي إلى بيته فوالله انه لعامد بي إليه إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته فوقف لها طويلا تكلمه في حاجتها قال قلت في نفسي والله ما هذا بملك قال ثم مضى بي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى إذا دخل بي بيته تناول وسادة من أدم محشوة ليفا فقذفها الي فقال اجلس على هذه قال قلت بل أنت فاجلس عليها قال بل أنت فجلست عليها وجلس رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالأرض فقلت في نفسي والله ما هذا بأمر ملك ثم قال إيه يا عدي بن حاتم آلم تك ركوسيا قلت بلى قال أو لم تكن تسير في قومك بالمرباع قلت بلى قال فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك قلت اجل والله وعرفت انه نبي مرسل يعلم ما يجهل ثم قال
لعلك يا عدي إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم فولله ليوشكن أن
(2/287)
تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه انك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم
وأيم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم
قال فأسلمت
وكان عدي يقول مضت اثنتان وبقيت الثالثة والله لتكونن
قد رأيت القصور البيض من ارض بابل قد فتحت وقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف حتى تحج هذا البيت وأيم الله لتكونن الثالثة ليفيض المال حتى لا يوجد من يأخذه
وفد كنده
وقدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الأشعث بن قيس في ثمانين راكبا من كندة فدخلوا على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مسجده قد رجلوا جممهم وتكحلوا عليهم جباب الحبرة قد كففوها بالحرير فلما دخلوا على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال ألم تسلموا قالوا بلى قال فما بال هذا الحرير في أعناقكم قال فشقوه منها فالقوه
ثم قال له الأشعث بن قيس يا رسول الله نحن بنو آكل المرار وأنت ابن أكل المرار فتبسم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقال ناسبوا بهذا النسب العباس بن عبد المطلب وربيعة بن الحارث وكانا إذا خرجا تاجرين فضربا في بعض العرب فسئلا ممن هما قالا نحن بنو آكل المرار يتعززان بذلك وذلك أن كندة كانوا ملوكا
ثم قال لهم لا بل نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفو أمنا ولا ننتفي من أبينا
وقال جندب بن مكيث لقد رأيت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يوم قدم وفد كندة عليه حلة يمانية يقال إنها حلة ابن ذي يزن وعلى أبي بكر وعمر مثل ذلك
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إذا قدم عليه الوفد لبس احسن ثيابه وأمر علية أصحابه بذلك
وفد صداء
(2/288)
وقدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وفد صداء في سنة ثمان وذلك أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لما انصرف من الجعرانة بعث بعوثا إلى اليمن وهيأ بعثا استعمل عليهم قيس بن سعد بن عبادة وعقد له لواء أبيض ورفع له راية سوداء وعسكر بناحية قناة في أربعمائة من المسلمين وأمره أن يطأ ناحية من اليمن كان فيها صداء فقدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} رجل منهم وعلم بالجيش فأتى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال يا رسول الله جئتك وافدا على من ورائي فاردد الجيش وأنا لك بقومي
فرد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قيس بن سعد من صدور قناة وخرج الصدائي إلى قومه فقدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خمسة عشر رجلا منهم فقال سعد بن عبادة يا رسول الله دعهم ينزلوا علي فنزلوا عليه فحياهم وأكرمهم وكساهم ثم راح بهم إلى النبي {صلى الله عليه وسلم} فبايعوه على الإسلام وقالوا نحن لكن على من وراءنا من قومنا فرجعوا إلى قومهم ففشا فيهم الإسلام فوافى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} منهم مائة رجل في حجة الوداع
ذكر هذا الواقدي عن بعض بني المصطلق
وذكر من حديث زياد بن الحارث الصدائي أنه الذي قدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال له اردد الجيش وأنا لك بقومي
فردهم
قال وقدم وفد قومي عليه فقال لي يا أخا صداء انك لمطاع في قومك قال قلت بلى من الله عز وجل ومن رسوله
وكان زياد هذا مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في بعض أسفاره
قال فاعتشى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أي سار ليلا واعتشينا معه وكنت رجلا قويا قال فجعل أصحابه يتفرقون عنه ولزمت غرزه فلما كان في السحر قال أذن يا أخا صداء فأذنت على راحلتي ثم سرنا حتى نزلنا فذهب لحاجته ثم رجع فقال يا أخا
صداء هل معك ماء قلت معي شيء في إداوتي
فقال هاته فجئت به فقال صب فصببت ما في الإداوة في القعب وجعل أصحابه يتلاحقون ثم وضع كفه على الإناء فرأيت بين كل أصبعين من أصابعه عينا تفور ثم قال يا أخا صداء لولا أني أستحي من ربي لسقينا واستسقينا ثم توضأ وقال أذن في صحابي
من كانت له حاجة بالوضوء فليرد
(2/289)
قال فوردوا من آخرهم ثم جاء بلال يقيم فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن أخا صداء قد أذن ومن أذن فهو يقيم فأقمت ثم تقدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فصلى بنا وكنت سألته قبل أن يؤمرني على قومي ويكتب لي بذلك كتابا ففعل فلما سلم يريد من صلاته قام رجل يشتكي من عامله فقال يا رسول الله إنه أخذنا بدخول كانت بيننا وبينه في الجاهلية فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لا خير في الإمارة لرجل مسلم ثم قام رجل فقال يا رسول الله أعطني من الصدقة فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن الله لم يكل قسمها إلى ملك مقرب ولا نبي مرسل حتى جزأها على ثمانية أجزاء فإن كنت جزءا منها أعطيتك وإن كنت عنها غنيا فإنما هو صداع في الرأس وداء في البطن
فقلت في نفسي هاتان خصلتان حين سألت الإمارة وأنا رجل مسلم وسألته من الصدقة وأنا غني عنها فقلت يا رسول الله هذان كتاباك فاقبلهما فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ولم قلت إني سمعتك تقول لا خير في الإمارة لرجل مسلم وأنا مسلم وسمعتك تقول من سأل من الصدقة وهو عنها غني فإنما هي صداع في الرأس وداء في البطن وأنا غني
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أما إن الذي قلت كما قلت لك فقبلهما رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم قال دلني على رجل من قومك أستعمله فدللته على رجل فاستعمله قلت يا رسول الله إن لنا بئرا إذا كان الشتاء كفانا ماؤها وإذا كان الصيف قل علينا فتفرقنا على المياه والإسلام اليوم فينا قليل ونحن نخاف فادع الله عز وجل لنا في بئرنا
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ناولني سبع حصيات فناولته فعركهن بيده ثم دفعهن إلي وقال إذا انتهيت إليها فألق فيها حصاة حصاة وسم الله
قال ففعلت فما أدركنا لهاقعرا حتى الساعة
وفد غسان
وقدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقد غسان
قالوا أو من قاله منهم فيما ذكر الواقدي عنهم قدمنا على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في رمضان سنة عشر ونحن ثلاثة نفر فلما كنا برأس الثنية لقينا رجل على فرس متنكب قوسا فحيانا بتحية الإسلام فرددنا عليه تحيتنا فقال من أنتم قلنا رهط من غسان قد قدمنا على محمد نسمع من كلامه ونرتاد لقومنا
(2/290)
قال فانزلوا حيث ينزل الوفد قلنا وأين ينزل الوفد قال دار رملة بنت الحارث
ويقال الحارث ثم ائتوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فكلموه
قلنا ونقدر عليه كلما أردنا قال فتبسم فقال أي لعمري إنه ليطوف بالأسواق ويمشي وحده وكنا قوما نسمع كلام النصارى وصفتهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأنه يمشي وحده لا شرطة معه ويرعب من يراه منهم
فقلنا للرجل من أنت لك الجنة
قال أنا أبو بكر بن أبي قحافة
فقلنا أنت فيما يزعم النصارى تقوم بهذا الأمر بعده
قال أبو بكر الأمر إلى الله عز وجل ثم قال كيف تخدعون عن الإسلام وقد خبركم أهل الكتاب بصفته وأنه آخر الأنبياء قلنا هو ذاك فمضى ومضينا نسأل عن دار رملة حتى انتهينا إليها فنصادف وفودا من العرب كلهم مصدق بمحمد {صلى الله عليه وسلم} فقلنا فيما بيننا أترانا شر من نزى من العرب ثم خرجنا حتى نلقي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عند باب المسجد واقفا فأمدنا ببصره وقال أنتم الغسانيون قلنا نعم قال قدمتم مرتادين لقومكم فما انتفعتم بعلم من كان معكم من أهل الكتاب
قلنا يا محمد لم نر أحدا منهم اتبعك فوقفنا عنك لذلك
ونحن الآن على غير ما كنا عليه فالإم تدعو قال أدعو إلى الله
وحده لا شريك له وخلع ما دعي من دونه وأني رسول الله
قال قائلهم فمن معك من أتباعك قال الله جل وعز معي والملائكة جبريل وميكائيل والأنبياء وصالح المؤمنين ثم التفت ونظر إلى عمر ولم ير أبا بكر فقال هذا وصاحبه قلنا ابن أبي قحافة قال نعم قلنا إنك لتأوي إلى ركن شديد وقد صدقناك وشهدنا أن ما جئت به حق ولا ندري أيتبعنا قومنا أم لا وهم يحبون بقاء ملكهم وقرب قيصر
ثم أسلموا وأجازهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بجوائز وانصرفوا راجعين فقدموا على قومهم فلم يستجيبوا لهم وكتموا إسلامهم حتى مات منهم رجلان على الإسلام وأدرك الثالث منهم عمر بن الخطاب عام اليرموك فلقي أبا عبيدة فخبره بإسلامه فكان يكرمه
وفد سلامان
(2/291)
وذكر الواقدي أيضا بإسناد له أن خبيب بن عمرو السلاماني كان يحدث قال قدمنا وفد سلامان على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ونحن سبعة نفر فانتهينا إلى باب المسجد فصادفنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خارجا منه إلى جنازة دعي إليها فلما رأيناه قلنا يا رسول الله السلام عليك فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وعليكم السلام من أنتم قلنا نحن قوم من سلامان قدمنا عليك لنبايعك على الإسلام ونحن على من وراءنا من قومنا
فالتفت إلى ثوبان غلامه فقال أنزل هؤلاء حيث ينزل الوفد فخرج بنا ثوبان حتى انتهى بنا إلى دار واسعة فيها نخل وفيها وفود من العرب وإذا هي دار رملة بنت الحارث النجارية فلما سمعنا أذان الظهر خرجنا إلى الصلاة فقمنا على باب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى خرج إلى المسجد فصلى بالناس وهو يتصفحنا ودخل بيته فلم يلبث أن خرج فجلس في المسجد بين المنبر وبين بيته وجلست عليه أصحابه عن يمينه وعن شماله فرأيت رجلا هو أقرب القوم منه يكثر ما يلتفت إليه ويحدثه
فسألت عنه فقيل أبو بكر بن أبي قحافة وجئنا فجلسنا تجاه وجهه وجعل الوفد يسألونه عن شرائع الإسلام فلم يكد سائلهم يقطع حتى خشيت أن يقوم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقلت إنا نريد ما تريد فتبسم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأسكت السائل فقلت أي رسول الله ما افضل الأعمال قال الصلاة في وقتها ثم ذكر حديثا طويلا
قال ثم جاء بلال فأقام الصلاة فقام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فصلى بالناس العصر فكانت صلاة العصر أخف في القيام من الظهر ثم دخل بيته فلم ينشب أن خرج فجلس في مجلسه الأول وجلس معه أصحابه وجئنا فجلسنا فلما
رآني قال يا أخا سلامان قلت لبيك قال كيف البلاد عندكم قلت أي رسول الله مجدبة وما لنا خبر من البلاد فادع الله أن يسقينا في بلادنا فنقر في أوطاننا ولا نسير إلى بلاد غيرنا فإن النجع تفرق الجميع وتشتت الديار
(2/292)
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بيده اللهم اسقهم الغيث في ديارهم فقلت يا رسول الله ارفع يديك فإنه أكثر وأطيب فتبسم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ورفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه ثم قام وقمنا عنه فأقمنا ثلاثا وضيافته تجري علينا ثم ودعناه وأمر لنا بجوائز فأعطينا خمس أواقي لكل رجل منا واعتذر إلينا بلال وقال ليس عندنا مال اليوم
فقلنا ما أكثر هذا وأطيبه ثم رحلنا إلى بلادنا فوجدناها قد مطرت في اليوم الذي دعا فيه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في تلك الساعة
قال الواقدي وكان مقدمهم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في شوال سنة عشر
وفد بني عبس
قال وقدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وفد بني عبس فقالوا يا رسول الله قدم علينا قراؤنا فأخبرونا أنه لا إسلام لمن لا هجرة له ولنا أموال ومواش وهي معايشنا فإن كان لا إسلام لمن لا هجرة له فلا خير في أموالنا بعناها وهاجرنا من آخرنا فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اتقوا الله حيث كنتم فلن يلتكم الله من أعمالكم شيئا وسألهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عن خالد بن سنان هل له عقب فأخبروه أنه لا عقب له كانت له ابنة فانقرضت وأنشأ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يحدث أصحابه عن خالد بن سنان فقال نبي ضيعه قومه
وفد الأزد وفد جرش
قال ابن إسحاق وقدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} صرد بن عبد الله الأزدي فأسلم وحسن إسلامه في وفد من الأزد فأمره رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على من أسلم من قومه
وأمره أن يجاهد بمن أسلم من كان يليه من أهل الشرك من قبائل اليمن
فخرج صرد بن عبد الله يسير بأمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى نزل بجرش وهي يومئذ مدينة مغلقة وبها قبائلمن قبائل اليمن وقد ضوت إليها خثعم فدخلوها معهم حين سمعوا بمسير رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إليهم فحاصروهم فيها قريبا من شهر وامتنعوا فيها منه ثم إنه رجع عنهم قافلا حتى إذا كان إلى جبل يقال له شكر ظن أهل جرش أنه إنما ولي عنهم منهزما فخرجوا في طلبه حتى إذا أدركوه عطف عليهم فقتلهم قتلا شديدا
(2/293)
وقد كان أهل جرش بعثوا رجلين منهم إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالمدينة يرتادان وينظران فبينما هما عند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عشية بعد العصر إذ قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بأي بلاد الله شكر فقال الجرشيان ببلادنا جبل يقال له كشر وكذلك يسميه أهل جرش فقال إنه ليس بكشر ولكنه شكر قالا فما شأنه يا رسول الله قال إن بدن الله لتنحر عنده الآن فجلس الرجلان إلى أبي بكر أو إلى عثمان فقال لهما ويحكما إن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الآن لينعى لكما قومكما فقوموا فاسألاه أن يدعو الله أن يرفع عن قومكما فقاما إليه فسألاه عن ذلك فقال اللهم ارفع عنهم فخرجا من عند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} راجعين
إلى قومهما فوجدوا قومهما أصابهم صرد بن عبد الله في اليوم الذي قال فيه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما قال وفي الساعة التي ذكر فيها ما ذكر
فخرج وفد جرش حتى قدموا على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأسلموا وحمي لهم حمى حول قريتهم على أعلام معلومة للفرس والراحلة وللميرة بقرة الحرث فمن رعاه من الناس فماله سحت
فقال في تلك الغزوة رجل من الأزد وكانت خثعم تصيب من الأزد في الجاهلية وكانوا يعدون في الشهر الحرام
يا غزوة ما غزونا غير خائبة
فيها البغال وفيها الخيل والحمر
حتى أتينا حميرا في مصانعها
وجمع خثعم قد شاعت لها النذر
إذا وضعت غليلا كنت أحمله
فما أبالي أدانوا بعد أم كفروا
البسيط
وفد غامد
(2/294)
قال الواقدي وقدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وفد غامد سنة عشر وهم عشرة فنزلوا في بقيع الغردق وهو يومئذ أثل وطرفاء ثم انطلقوا إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وخلفوا في رحلهم أحدثهم سنا فنام عنه وأتى سارق فسرق عيبة لأحدهم فيها أثواب له وانتهى القوم إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فسلموا عليه وأقروا له بالإسلام وكتب لهم كتابا فيه شرائع من شرائع الإسلام وقال لهم من خلفتم في رحالكم قالوا أحدثنا يا رسول الله قال فإنه قد نام عن متاعكم حتى أتى آت فأخذ عيبة أحدكم فقال أحد القوم يا رسول الله ما لأحد من القوم عيبة غيري فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد أخذت وردت إلى موضعها فخرج القوم سراعا حتى أتوا رحلهم فوجدوا صاحبهم فسألوه عما خبرهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال فزعت من نومي ففقدت العيبة فقمت في طلبها فإذا رجل قد كان قاعدا فلما رآني ثار يعدو مني فانتهيت إلى حيث انتهى فإذا أثر حفر وإذا هو قد غيب العيبة فاستخرجتها
فقالوا نشهد أنه رسول الله فإنه قد اخبرنا بأخذها وأنها قد ردت
فرجعوا إلى النبي {صلى الله عليه وسلم} فأخبروه وجاء الغلام الذي خلفوه فأسلم
وأمر النبي {صلى الله عليه وسلم} أبي بن كعب فعلمهم قرآنا وأجازهم {صلى الله عليه وسلم} كما كان يجيز الوفود وانصرفوا
وفد بني الحارث بن كعب
قال ابن إسحاق وبعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خالد بن الوليد في شهر ربيع الآخر أو جمادى الأول سنة عشر إلى بني الحارث بن كعب بنجران وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثا فإن استجابوا فأقبل منهم وإن لم يفعلوا فقاتلهم
فخرج خالد بن الوليد حتى قدم عليهم فبعث الركبان يضربون في كل وجه ويدعون إلى الإسلام ويقولون أيها الناس أسلموا تسلموا فأسلم الناس ودخلوا فيما دعوا إليه فأقام فيهم خالد يعلمهم الإسلام وكتاب الله وسنة نبيه وبذلك كان أمره رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن هم أسلموا ولم يقاتلوا
ثم كتب خالد إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
بسم الله الرحمن الرحيم لمحمد النبي رسول الله من خالد بن الوليد
(2/295)
السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد يا رسول الله صلى الله عليك فانك بعثتني إلى بني الحارث بن كعب وأمرتني إ ذا أتيتهم أن لا أقاتلهم ثلاثة أيام وأن أدعوهم إلى الإسلام فإن أسلموا قبلت منهم وعلمتهم معالم الإسلام وكتاب الله وسنة نبيه وأن لم يسلموا قاتلتهم وإني قدمت عليهم فدعوتهم إلى الإسلام ثلاثة أيام كما أمرني رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وبعثت فيهم ركبانا فقالوا يا بني الحارث أسلموا تسلموا فأسلموا ولم يقاتلوا وأنا مقيم بن أظهرهم آمرهم بما أمرهم الله به وأنهاهم عن ما نهاهم الله عنه وأعلمهم معالم الإسلام وسنة النبي {صلى الله عليه وسلم} حتى يكتب إلي رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
والسلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته
فكتب إليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
بسم الله الرحمن الرحيم من محمد النبي رسول الله
إلى خالد بن الوليد
سلام عليك
فإني أحمد إليك الله الذي لا اله إلا هو
أما بعد فإن كتابك جاءني مع رسولك يخبر أن بني الحارث بن كعب قد أسلموا قبل أن تقاتلهم وأجابوا إلى ما دعوتهم إليه من الإسلام وشهدوا أن لا إله إلا الله وإن محمدا عبده ورسوله وأن قد هداهم الله بهداه فبشرهم وأنذرهم واقبل وليقبل معك وفدهم والسلام عليك ورحمة الله وبركاته
فأقبل خالد إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأقبل معه وفد بني الحارث بن كعب منهم قيس بن الحصين ذو الغصة ويزيد بن عبد المدان ويزيد بن المحجل وعبد الله بن قراد الزيادي وشداد بن عبد الله القناني وعمرو بن عبد الله الضبابي
(2/296)
فلما قدموا على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فرآهم قال من هؤلاء القوم الذين كأنهم رجال الهند يعني في الطول والسمرة قيل يا رسول الله هؤلاء بنو الحارث بن كعب فلما وقفوا عليه سلموا وقالوا نشهد أنك لرسول الله وانه لا إله إلا الله قال وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ثم قال انتم الذين إذا زجروا استقدموا فسكتوا فلم يراجعه منهم أحد ثم أعادها الثانية فلم يراجعه منهم أحد ثم أعادها الثالثة فلم يراجعه منهم أحد ثم أعادها الرابعة فقال يزيد بن عبد المدان نعم يا رسول الله نحن الذين إذا زجروا استقدموا قالها أربع مرات فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لو أن خالدا لم يكتب إلي بأنكم أسلمتم ولم تقاتلوا لألقيت رءوسكم تحت أقدامكم
فقال يزيد بن عبد
المدان أما والله ما حمدناك ولا حمدنا خالدا قال فمن حمدتم قالوا حمدنا الله الذي هدانا بك يا رسول الله قال صدقتم
ثم قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بم كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية قالوا لم نك نغلب أحد قال بلى قد كنتم تغلبون من قاتلكم قالوا كنا نغلب من قاتلنا يا رسول الله إنا كنا نجتمع ولا نفترق ولا نبدأ أحدا بظلم قال صدقتم
وأمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على بني الحارث بن كعب قيس بن الحصين
فرجع وفد بني الحارث إلى قومهم في بقية شوال أو في صدر ذي القعدة فلم يمكثوا بعد أن رجعوا إلى قومهم إلا أربعة أشهر حتى توفي رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وقد كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعث إليهم بعد أن ولى وفدهم عمرو بن حزم ليفقههم في الدين ويعلمهم السنة ومعالم الإسلام ويأخذ منهم صدقاتهم وكتب لهم كتابا عهد إليه فيه عهده وأمره فيه أمره
(2/297)
بسم الله الرحمن الرحيم هذا بيان من الله ورسوله يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود عهد من محمد النبي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن أمره بتقوى الله في أمره كله فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون وأمره أن يأخذ بالحق كما أمره الله وان يبشر الناس بالخير ويأمرهم به ويعلم الناس القرآن ويفقههم فيه وينهي الناس فلا يمس القرآن إنسان إلا وهو طاهر ويخبر الناس بالذي لهم والذي عليهم ويلين للناس في الحق ويشتد عليهم في الظلم فإن الله كره الظلم ونهى عنه فقال ألا لعنة الله على الظالمين ( ويبشر الناس بالجنة وبعملها وينذر الناس النار وعملها ويتألف الناس حتى يفقهوا في الدين ويعلم الناس معالم الحج وسننه وفرائضه وما أمر الله به والحج الأكبر والحج الأصغر هو العمرة
وينهي الناس أن يصلي أحد في ثوب واحد صغير إلا أن يكون ثوبا يثني طرفيه على عاتقيه وينهي أن يجتبي أحد في ثوب واحد يفضي بفرجه إلى السماء وينهي أن لا يعقص أحد شعر رأسه في قفاه وينهي إذا كان بين الناس هيج عن الدعاء إلى القبائل والعشائر ولتكن دعواهم إلى الله وحده لا شريك له
(2/298)
فمن لم يدع إلى الله ودعا إلى القبائل والعشائر فليقطفوا بالسيف حتى تكون دعواهم إلى الله وحده لا شريك له ويأمر الناس بإسباغ الوضوء وجوههم وأيديهم إلى المرافق وأرجلهم إلى الكعبين ويمسحوا برءوسهم كما أمرهم الله وأمر بالصلاة لوقتها وإتمام الركوع والسجود يغلس بالصبح ويهجر بالهاجرة حين تميل الشمس وصلاة العصر والشمس في الأرض مدبرة والمغرب حين يقبل الليل لا تؤخر حتى تبدو النجوم في السماء والعشاء أول الليل وأمره بالسعي إلى الجمعة إذا نودي لها والغسل عند الرواح إليها وأمره أن يأخذ من المغانم خمس الله وما كتب على المؤمنين في الصدقة من العقار عشر ما سقت السماء وسقت العين وعلى ما سقى الغرب نصف العشر وفي كل عشر من الإبل شاتان وفي كل عشرين أربع شياة وفي كل أربعين من البقر بقرة وفي كل ثلاثين من البقر تبيع جذع أو جذعة وفي كل أربعين من الغنم سائمة وحدها شاة فإنها فريضة الله التي إفترض على المؤمنين في الصدقة فمن زاد خيرا فهو خير له وانه من اسلم من يهودي أو نصراني إسلاما خالصا من نفسه ودان بدين الإسلام فإنه من المؤمنين له مثل ما لهم وعليه مثل ما عليهم ومن كان على نصرانيته أو يهوديته فإنه لا يرد عنها أي لا يفتن وعلى كل حالم ذكر أو أنثى حر أو عبد دينار واف أو عوضه ثيابا
فمن أدى ذلك فإن له ذمة الله وذمة رسوله ومن منع ذلك فإنه عدو لله ولرسوله وللمؤمنين جميعا صلوات الله على محمد والسلام عليه ورحمة الله وبركاته
وفد بني حنيفة
وقدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وفد بني حنيفة فيهم مسيلمة بن حبيب الحنفي الكذاب
قال أبن إسحاق فحدثني بعض علمائنا من أهل المدينة أن بني حنيفة أتت به رسول الله {صلى الله عليه وسلم} تستره بالثياب ورسول الله جالس في أصحابه معه عسيب من سعف النخل في رأسه خوصات فلما انتهى إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهم يسترونه بالثياب كلمه وسأله فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتكه
(2/299)
قال وقد حدثني شيخ من بني حنيفة من أهل اليمامة أن حديثه كان على غير هذا زعم أن وفد بني حنيفة أتوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وخلفوا مسيلمة في رحالهم فلما أسلموا ذكروا مكانه فقالوا يا رسول الله إنا قد خلفنا صاحبا لنا في رحالنا أو في ركابنا يحفظها لنا قال فأمر له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بمثل ما أمر به للقوم وقال أما انه ليس بشركم مكانا أي لحفظه ضيعة أصحابه ذلك الذي يريد رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
قال ثم انصرفوا عن رسول {صلى الله عليه وسلم} وجاءوه بما أعطاه فلما انتهوا إلى اليمامة ارتد عدو الله وتنبأ وتكذب لهم
وقال إني قد أشركت في الأمر معه وقال لوفده الذين كانوا معه ألم يقل لكم حين ذكرتموني له أما انه ليس بشركم مكانا ما ذاك إلا لما كان يعلم إني قد أشركت في الأمر معه ثم جعل يسجع لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن
لقد أنعم الله على الحبلى أخرج منها نسمة تسعى من بين صفاق وحشى
وأحل لهم الخمر والزنا ووضع عنهم الصلاة وهو مع ذلك يشهد لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} بأنه نبي فأصفقت معه حنيفة على ذلك
فالله أعلم أي ذلك كان
وذكر الواقدي انه قدم في وفد بني حنيفة الرحال بن عنفوة وانه كان أيام مقام الوفد يختلف إلى أبي بن كعب يتعلم القرآن وشرائع الإسلام حتى كان الرحال عندهم أفضل من كان وفد عليهم لما يرون من حرصه فلما تنبأ مسيلمة بعد وفاة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} شهد له الرحال بن عنفوة أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أشركه في الأمر فافتتن الناس
وفد همدان
قال أبن هشام وقدم وفد همدان على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيهم مالك بن نمط وأبو ثور وهو ذو المشعار ومالك بن أيفع وضمام بن مالك السلماني وعميرة إبن مالك الخارقي فلقوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مرجعه من تبوك وعليهم مقطعات الحبرات والعمائم العدنية برحال الميس على المهرية والأرحبية ومالك بن نمط ورجل آخر يرتجزان بالقوم يقول أحدهما
همدان خير سوقة وأقيال
ليس لها في العالمين أمثال
محلها الهضب ومنها الأبطال
لها إطابات وآكال
الرجز
ويقول آخر
إليك جاوزن سواد الريف
في هبوات الصيف والخريف
(2/300)
مخطمات بحبال الليف
الرجز
فقام مالك بن نمط بين يديه ثم قال
يا رسول الله نصية من همدان من كل حاضر وباد أتوك على قلص نواج متصلة بحبائل الإسلام لا تأخذهم في الله لومة لائم من مخلاف خارف ويام وشاكر أهل السواد والقود أجابوا دعوة الرسول وفارقوا آلهات الأنصاب عهدهم لا ينقض ما أقامت لعلع وما جرى اليعفور بصلع
فكتب لهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كتابا فيه
بسم الله الرحمن الرحيم كتاب من رسول الله لمخلاف خارف وأهل جناب الهضب وخقاف الرمل مع وافدها ذي المشعار مالك بن نمط ومن أسلم من قومه على أن لهم فراعها ووهاطها ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة يأكلون علافها ويرعون عافيها لهم بذلك عهد الله وذمام رسوله وشاهدهم المهاجرون والأنصار
فقال في ذلك مالك بن نمط
ذكرت رسول الله في فحمة الدجى
ونحن بأعلى رحرحان وصلدد )
وهن بنا خوض طلائع تغتلى بركبانها في لا حب متمدد
على كل فتلاء الذراعين جسرة تمر بنا مرا لهجف الخفيدد
حلفت برب الراقصات إلى منى صوادي بالركبان من ظهر قردد
بأن رسول الله فينا مصدق رسول أتى من عند ذي العرش مهتد
فما حملت من ناقة فوق رحلها أشد على أعدائه من محمد
وأعطى إذا ما طالب العرف جاءه وأمضى بحد المشرفي المهند
وفد النخع
قال الواقدي وقدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وفد النخع وهم آخر وفد قدموا للنصف من المحرم سنة إحدى عشرة من الهجرة في مائتي رجل فنزلوا دار الأضياف ثم جاءوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مقرين بالإسلام وقد كانوا بايعوا معاذ ابن جبل باليمن فقال رجل منهم يقال له زرارة بن عمرو يا رسول الله إني رأيت في سفري هذا عجبا
قال وما رأيت قال رأيت أتانا تركتها في الحي كأنها ولدت جديا أسفع أحوى
فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} هل تركت أمة لك مصرة على حمل قال نعم قال فإنها ولدت غلاما وهو ابنك
قال يا رسول الله فما باله أسفع أحوى قال أدن مني فدنا منه فقال هل بك من برص تكتمه قال والذي بعثك بالحق ما علم به أحد ولا اطلع عليه غيرك
(2/301)
قال فهو ذلك قال يا رسول الله ورأيت النعمان بن المنذر عليه قرطان ودملجان ومسكتان
قال ذلك ملك العرب رجع إلى أحسن زيه وبهجته
قال يا رسول الله ورأيت عجوزا شمطاء خرجت من الأرض
قال تلك بقية الدنيا
قال ورأيت نارا خرجت من الأرض فحالت بيني وبين ابن لي يقال له عمرو وهي تقول لظي لظي بصير وأعمى أطعموني آكلكم آكلكم أهلكم ومالكم
قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} تلك فتنة تكون في آخر الزمان
قال يا رسول الله وما الفتنة قال يقتل الناس إمامهم ويشتجرون اشتجار أطباق الرأس وخالف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بين أصابعه يحسب المسيء فيها أنه محسن ويكون دم المؤمن عند المؤمن أحل من شرب الماء إن مات ابنك أدركت الفتنة وإن مت أنت أدركها ابنك
قال يا رسول الله أدع الله أن لا أدركها
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اللهم لا
يدركها فمات وبقي ابنه
وكان ممن خلع عثمان
وهذا الذي تيسر لنا ذكره من شأن الوفود وهم أكثر من هذا ومعظم من ذكرنا إنما هو من كتاب الواقدي مع من ذكره ابن إسحاق منهم
ذكر بعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى الملوك وكتابه إليهم
يدعوهم إلى الله وإلى الإسلام
قال ابن هشام وقد كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعث إلى الملوك رسلا من أصحابه وكتب معهم إليهم يدعوهم إلى الإسلام
حدثني من أثق به عن أبي بكر الهذلي قال بلغني أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خرج على أصحابه ذات يوم بعد عمرته التي صد عنها يوم الحديبية فقال أيها الناس إن الله قد بعثني رحمة وكافة فلا تختلفوا علي كما اختلف الحواريون على عيسى ابن مريم عليه السلام
وفي حديث ابن إسحاق إن الله بعثني رحمة وكافة فأدوا عني يرحمكم الله ولا تختلفوا علي كما اختلف الحواريون على عيسى فقال أصحابه وكيف اختلف الحواريون يا رسول الله فقال دعاهم إلى الذي دعوتكم إليه فأما من بعثه مبعثا قريبا فرضي وسلم وأما من بعثه مبعثا بعيدا فكره وجهه وتثاقل فشكا ذلك عيسى إلى الله تعالى فأصبح المتثاقلون وكل واحد منهم يتكلم بلغة الأمة التي بعث إليها
(2/302)
فبعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر ملك الروم وبعث عبد الله بن حذافه السهمي إلى كسرى ملك فارس وبعث عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ملك الحبشة وبعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس
صاحب الإسكندرية وبعث عمرو بن العاص إلى جيفر وعبد ابني الجلندي ملك عمان وبعث سليط بن عمرو أحد بني عامر بن لؤي إلى ثمامة بن أثال وهوذة بن علي الحنفيين ملكي اليمامة وبعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوي العبدي ملك البحرين وبعث شجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ملك تخوم الشام
ويقال بعثه إلى جبلة بن أيهم الغساني وبعث المهاجر بن أبي أمية المخزومي إلى الحارث بن عبد كلال الحميري ملك اليمن
ذكر كتاب النبي {صلى الله عليه وسلم} إلى قيصر وما كان من خبر دحية معه
ذكر الواقدي من حديث ابن عباس ومن حديثه خرج في الصحيحين أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام وبعث بكتابه مع دحية الكلبي وأمره أن يدفعه إلى عظيم بصري ليدفعه إلى قيصر فدفعه عظيم بصرى إلى قيصر وكان قيصر لما كشف الله عنه جنود فارس مشى من حمص إلى إيلياء شكرا لله جل وعز فيما أبلاه من ذلك فلما جاء قيصر كتاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال التمسوا لنا ها هنا أحدا من قومه نسألهم عنه
قال ابن عباس فأخبرني أبو سفيان بن حرب أنه كان بالشام في رجال من قريش قدموا تجارا وذلك في الهدنة التي كانت بين رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وبين كفار قريش قال فأتانا رسول قيصر فانطلق بنا حتى قدمنا إيلياء فأدخلنا عليه فإذا هو جالس في مجلس ملكه عليه التاج وحوله عظماء الروم فقال لترجمانه سلهم أيهم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم انه نبي قال أبو سفيان فقلت أنا أقربهم نسبا وليس في الركب يومئذ رجل من بني عبد مناف غيري قال قيصر أدنوه مني ثم أمر بأصحابي فجعلوا خلف ظهري ثم قال لترجماته
(2/303)
قل لأصحابه إنما قدمت هذا أمامكم لأسأله عن هذا الرجل الذي يزعم انه نبي وإنما جعلتم خلف كتفيه لتردوا عليه كذبا إن قاله قال أبو سفيان فوالله لولا الحياء يومئذ من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عنه ولكني استحييت فصدقته وأنا كاره ثم قال لترجمانه قل له كيف نسب هذا الرجل فيكم فقلت هو فينا ذو نسب قال قل له هل قال هذا القول منكم أحد قبله قلت لا قال فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال قال قلت لا قال هل كان من آبائه ملك قلت لا قال فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم قلت بل ضعفاؤهم قال فهل يزيدون أو ينقصون قلت بل يزيدون قال فهل يرتد أحد سخطة بدينه بعد أن دخل فيه قلت لا قال فهو يغدر قلت لا ونحن الآن منه في مدة ونحن لا نخاف غدره
وفي رواية ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها
قال أبو سفيان ولم تمكني كلمة أغمزه بها لا أخاف علي فيها شيئا غيرها
قال فهل قاتلتموه قلت نعم قال فكيف حربكم وحربه قلت دول سجال ندال عليه مرة ويدال علينا أخرى قال فما يأمركم به قلت يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا وينهانا عما كان يعبد أباؤنا ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة
فقال لترجمانه قل له إني سألتك عن نسبه فزعمت انه فيكم ذو نسب وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها وسألتك هل قال هذا القول منكم أحد قبله فزعمت أن لا فلو كان أحد منكم قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتم بقول قيل قبله وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فزعمت أن لا فقد عرفت انه لم يكن ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله وسألتك هل كان من آبائه ملك فقلت لا فقلت لو كان من آبائه
ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه وسألتك أأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم فقلت ضعفاؤهم وهم أتباع الرسل وسألتك هل يزيدون أو ينقصون فزعمت أنهم يزيدون وكذلك الإيمان حتى يتم
(2/304)
وسألتك هل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فزعمت أن لا وكذلك الإيمان حتى تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد وسألتك هل قاتلتموه فقلت نعم وأن حربكم وحربه دول وسجال ويدال عليكم مرة وتدالون عليه أخرى وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة وسألتك ماذا يأمركم به فزعمت أنه يأمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وهو نبي وقد كنت أعلم أنه خارج ولكن لم أظن أنه فيكم وإن كان ما أتاني عنه حقا فيوشك أن يملك موضع قدمي هاتين ولو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقيه ولو كنت عنده لغسلت قدميه
قال أبو سفيان ثم دعا بكتاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقرئ فإذا فيه
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى
أما بعد فإني أدعوك بداعية الإسلام أسلم لتسلم وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين
ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون
قال أبو سفيان فلما قضى مقالته وفرغ الكتاب علت أصوات الذين حوله وكثر لعظهم فلا أدري ما قالوا وأمر بنا فأخرجنا فلما خرجت أنا وأصحابي وخلصنا قلت لهم لقد أمر أمر ابن أبي كبشة هذا ملك بني الأصفر يخافه قال فوالله ما زلت ذليلا مستيقنا أن أمره سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام
وفي حديث غير هذا ذكره أيضا الواقدي عن محمد بن كعب القرظي أن
دحية الكلبي لقي قيصر بحمص لما بعثه إليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقيصر ماش من قسطنطينة إلى إيلياء في نذر كان عليه إن ظهرت الروم على فارس أن يمشي حافيا من قسطنطينة فقال لدحية قومه لما بلغ قيصر إذا رأيته فاسجد له ثم لا ترفع رأسك أبدا حتى يأذن لك
(2/305)
قال دحية لا أفعل هذا أبدا ولا أسجد لغير الله عز وجل قالوا إذا لا يؤخذ كتابك ولا يكتب جوابك قال وإن لم يأخذه فقال له رجل منهم أدلك على أمر يأخذ فيه كتابك ولا يكلفك فيه السجود
قال دحية وما هو قال إن له على كل عقبة منبرا يجلس عليه فضع صحيفتك تجاه المنبر فإن أحدا لا يحركها حتى يأخذها هو ثم يدعو صاحبها فيأتيه
قال أما هذا فسأفعل فعمد إلى منبر من تلك المنابر التي يستريح عليها قيصر فألقي الصحيفة فدعا بها فإذا عنوانها كتاب العرب فدعا الترجمان الذي يقرأ بالعربية فإذا فيه
من محمد رسول الله إلى قيصر صاحب الروم
فغضب أخ لقيصر يقال له نياق فضرب في صدر الترجمان ضربة شديدة ونزع الصحيفة منه فقال له قيصر ما شأنك أخذت الصحيفة فقال تنظر في كتاب رجل بدا بنفسه قبلك وسماك قيصر صاحب الروم وما ذكر لك ملكا
فقال له قيصر إنك والله ما علمت أحمق صغيرا مجنون كبيرا أتريد أن تخرق كتاب رجل قبل أن أنظر فيه فلعمري لئن كان رسول الله كما يقول لنفسه أحق أن يبدأ بها مني وإن كان سماني صاحب الروم لقد صدق ما أنا إلا صاحبهم وما أملكهم ولكن الله عز وجل سخرهم لي ولو شاء لسلطهم علي كما سلط فارس على كسرى فقتلوه
ثم فتح الصحيفة فإذا فيها
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد رسول الله إلى قيصر صاحب الروم سلام على من اتبع الهدى
أما بعد يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا
الله )
الآية إلى قوله اشهدوا بأنا مسلمون آل عمران 64 في آيات من كتاب الله يدعوه إلى الله ويزهده في ملكه ويرغبه فيما رغبة الله فيه من الآخرة ويحذره بطش الله وبأسه
وفي حديث غير الواقدي أن دحية لما لقي قيصر قال له
يا قيصر أرسلني إليك من هو خير منك والذي أرسله خير منه ومنك فاسمع ذل ثم أجب بنصح فإنك إن لم تذلل لم تفهم وإن لم تنصح لم تنصف
قال هات
قال هل تعلم أن المسيح كان يصلي
قال نعم
(2/306)
قال فإني أدعوك إلى من كان المسيح يصلي له وادعوك إلى من دبر خلق السموات والأرض والمسيح في بطن أمه وأدعوك إلى هذا النبي الأمي الذي بشر به موسى وبشر به عيسى ابن مريم بعده وعندك من ذلك أثاره من علم تكفي عن العيان وتشفي عن الخبر فإن أجبت كانت لك الدنيا والآخرة وإلا ذهبت عنك الآخرة وشوركت في الدنيا
وأعلم أن لك ربا يقصم الجبابرة ويغير النعم
فأخذ قيصر الكتاب فوضعه على عينيه ورأسه وقبله ثم قال
أما والله ما تركت كتابا إلا قرأته ولا عالما إلا سألته فما رأيت إلا خيرا فأمهلني حتى أنظر من كان المسيح يصلي له فإني أكره أن أجيبك اليوم بأمر أرى غدا ما هو أحسن منه فأرجع عنه فيضرني ذلك ولا ينفعني أقم حتى أنظر
ويروي أن قيصر لما سأل أبا سفيان بن حرب عما سأله عنه من أمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حسبما تقدم واخبره به قال والذي نفسي بيده ليوشكن أن يغلب على ما تحت قدمي يا معشر الروم هلم إلى أن نجيب هذا الرجل إلى ما دعا إليه
ونسأله الشام أن لا توطأ علينا أبدا فإنه لم يكتب نبي من الأنبياء قط إلى ملك من الملوك يدعوه إلى الله فيجيبه إلى ما دعاه إليه ثم يسأله عندها مسألة إلا أعطاه مسألته ما كانت فأطيعوني فلنجبه ونسأله أن لا توطأ الشام
قالوا لا نطاوعك في هذا أبدا تكتب إليه تسأله ملكك الذي تحت رجليك وهو هنالك لا يملك من ذلك شيئا فمن أضعف منك
وفي هذا الحديث عن أبي سفيان انه قال لقيصر لما سأله عن النبي {صلى الله عليه وسلم} في جملة ما أجابه
أيها الملك إلا أخبرك خبرا تعرف به أنه قد كذب
قال وما هو
(2/307)
قلت إنه زعم لنا أنه خرج من أرضنا ارض الحرم في ليلة فجاء مسجدكم هذا مسجد إيلياء ورجع إلينا في تلك الليلة قبل الصباح قال وبطريق إيلياء عند رأس قيصر فقال قد علمت تلك الليلة قال فنظر إليه قيصر و قال وما علمك بهذا قال إني كنت لا أنام ليلة أبدا حتى أغلق أبواب المسجد فلما كانت تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد غلبني فاستعنت عليه عمالي ومن يحضرني فلم نستطع أن نحركه كأنما نزاول جبلا فدعوت النجارين فنظروا إليه فقالوا هذا باب سقط عليه النجاف والبنيان فلا نستطيع أن نحركه حتى نصبح فننظر من أين أتى فرجعت وتركت البابين مفتوحين فلما أصبحت غدوت عليهما فإذا الحجر الذي في زاوية المسجد مثقوب وإذا فيه أثر مربط الدابة فقلت لأصحابي ما حبس هذا الباب الليلة إلا على نبي وقد صلى الليلة في مسجدنا هذا فقال قيصر لقومه يا معشر الروم ألستم تعلمون أن بين عيسى وبين الساعة نبي بشركم به عيسى ابن مريم ترجون أن يجعله الله فيكم قالوا بلى قال فإن الله جعله في غيركم في أقل منكم عددا وأضيق منكم بلدا وهي رحمة الله عز وجل يضعها حيث يشاء
وفي الصحيح من الحديث أن هرقل لما تحقق أمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بما كان يجده فيما عندهم من العلم أذن لغطماء الروم في دسكرة له بحمص و أمر بالأبواب فغلقت ثم طلع عليهم فقال يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت لكم ملككم وأن تتبعوا ما قال عيسى ابن مريم قالوا وما ذاك أيها الملك قال تتبعون هذا النبي العربي
قال فحاصوا حيصة حمر الوحش واستحالوا في الكنيسة وتناخروا ورفعوا الصلب وابتدروا الأبواب فوجدوها مغلقة فلما رأى هرقل يئس من إسلامهم وخافهم على ملكه فقال ردوهم علي فردوهم فقال إنما قلت لكم ما قلت لأخبر كيف صلابتكم في دينكم فقد رأيت منكم رأيت الذي أحب فسجدوا له ورضوا عنه فكان ذلك آخر شأنهم
(2/308)
ويروي أن قيصر لما انتهى مع قومه إلى ما ذكر ويئس من إجابتهم كتب مع دحية جواب كتابه الذي جاءه به يقول فيه للنبي {صلى الله عليه وسلم}
إني مسلم ولكني مغلوب على أمري
وأرسل إليه بهدية فلما قرأ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كتابه قال كذب عدو الله ليس بمسلم بل هو على نصرانيته وقبل هديته وقسمها بين المسلمين
وقال دحية في قدومه
ألا هل أتاها على نأيها
بأني قدمت على قيصر
فقررته بصلاة المسيح
وكانت من الجوهر الأحمر
وتدبير ربك أمر السماء
والأرض فاغضى ولم ينكر
وقلت تفز ببشرى المسيح
فقال سأنظر قلت أنظر
فكاد يقر بأمر الرسول
فمال إلى البدل الأعور
فشك وجاشت له نفسه
وجاشت نفوس بني الأصفر
على وضعه بيديه الكتاب
على الرأس والعين والمنخر
فأصبح قيصر في أمره
بمنزلة الفرس الأشقر
المتقارب
ذكر توجه عبد الله بن حذافة إلى كسرى بكتاب النبي {صلى الله عليه وسلم} وما كان من خبره معه
وكسرى هذا هو أبرويز بن هرمز أنو شروان ومعنى أبرويز المظفر فيما ذكره المسعودي وهو الذي كان غلب الروم فأنزل الله في قصتهم ألم غلبت الروم في أدنى الأرض 1 - 3 الروم وأدنى الأرض فيما ذكر الطبري هي بصرى وفلسطين وأذرعات من أرض الشام
وذكر الواقدي من حديث السفاء بنت عبد الله أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعث عبد الله بن حذافة السهمي منصرفه من الحديبية إلى كسرى وبعث معه كتابا مختوما فيه
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله أدعوك بداعية الله فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين أسلم تسلم فإن أبيت فعليك إثم المجوس
قال عبد الله بن حذافة فانتهيت إلى بابه فطلبت الإذن عليه حتى وصلت إليه فدفعت إليه كتاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقرئ عليه فأخذه ومزقه فلما بلغ ذلك رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال مزق ملكه
وذكر أبو رفاعة وثيمة بن موسى بن الفرات قال لما قدم عبد الله بن حذافة على كسرى قال
(2/309)
يا معشر الفرس إنكم عشتم بأحلامكم لعدة أيامكم بغير نبي ولا كتاب ولا تملك من الأرض إلا ما في يديك وما لا تملك منها أكثر وقد ملك الأرض قبلك ملوك أهل الدنيا وأهل الآخرة فأخذ أهل الآخرة بحظهم من الدنيا وضيع أهل الدنيا حظهم من الآخرة فاختلفوا في سعي الدنيا واستووا في عدل الآخرة وقد صغر هذا الأمر عندك أنا أتيناك به وقد والله جاءك من حيث خفت وما تصغيرك إياه بالذي يدفعه عنك ولا تكذيبك به بالذي يخرجك منه وفي وقعة ذي قار على ذلك دليل
فأخذ الكتاب فمزقه ثم قال لي ملك هني لا أخشى أن أغلب عليه ولا أشارك فيه وقد ملك فرعون بني إسرائيل ولستم بخير منهم فما يمنعني أن أملككم وأنا خير منه فأما هذا الملك فقد علمنا أنه يصير إلى الكلاب وانتم أولئك تشبع بطونكم وتأبى عيونكم فأما وقعة ذي قار فهي بوقعة الشام
فانصرف عنه عبد الله وقال في ذلك
أبى الله إلا أن كسرى فريسة
لأول داع بالعراق محمدا
تقاذف في فحش الجواب مصغرا
لأمر العريب الخائفين له الردا
فقلت له أرود فإنك داخل
من اليوم في بلوى ومنتهب غدا
فأقبل وادبر حيث شئت فإننا
لنا الملك فابسط للمسالمة اليدا
وإلا فأمسك قارعا سن نادم
أقر بذل الخرج أومت موحدا
سفهت بتخريق الكتاب وهذه
بتمزيق ملك الفرس يكفي مبددا
الطويل
ويروي أن كسرى رأى في النوم بعد أن أخبر بخروج النبي {صلى الله عليه وسلم} ونزوله يثرب أن سلما وضع في الأرض إلى السماء وحشر الناس حوله إذ أقبل رجل عليه عمامة وإزار أو رداء فصعد السلم حتى إذا كان بمكان منه نودي أين
فارس ورجالها ونساؤها ولامتها وكنوزها فأقبلوا فجعلوا في جوالق ثم رفع لجوالق إلى ذلك الرجل فأصبح كسرى تعس النفس محزونا لتلك الرؤيا وذكرها لأساورته فجعلوا يهونون عليه الأمر فيقول كسرى هذا أمر تراد به فارس فلم يزل مهموما حتى قدم عليه عبد لله بن حذافة بكتاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يدعوه إلى الإسلام
(2/310)
وذكر الواقدي من حديث أبي هريرة وغيره أن كسرى بينا هو في بيت كان يخلو فيه إذا رجل قد خرج إليه في يده عصا فقال يا كسرى إن الله قد بعث رسولا وأنزل عليه كتابا فأسلم تسلم واتبعه يبق لك ملكك
قال كسرى أخر هذا عني أثرا ما فدعا حجابه وبوابيه فتواعدهم وقال من هذا الذي دخل علي قالوا والله ما دخل عليك أحد وما ضيعنا لك بابا ومكث حتى إذا كان العام المقبل أتاه فقال له مثل ذلك وقال إن لا تسلم أكسر العصا
قال لا تفعل أخر ذلك أثرا ما ثم جاء العام المقبل ففعل مثل ذلك وضرب بالعصا على رأسه فكسرها وخرج من عنده
ويقال إن ابنه قتله في تلك الليلة وأعلم الله بذلك رسوله عليه السلام بحدثان كونه فأخبر {صلى الله عليه وسلم} بذلك رسل باذان إليه
وكان باذان عامل كسرى على اليمن فلما بلغه ظهور النبي {صلى الله عليه وسلم} ودعاؤه إلى الله كتب إلى باذان أن أبعث إلى هذا الرجل الذي خالف دين قومه فمره فليرجع إلى دين قومه فإن أبى فابعث إلي برأسه وإلا فليواعدك يوما تقتتلون فيه
فلما ورد كتابه إلى باذان بعث بكتابه مع رجلين من عنده فلما قدما على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنزلهما وأمرهما بالمقام فأقاما أياما ثم أرسل إليهما رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ذات غداة فقال انطلقا إلى باذان فأعلماه أن ربي عز وجل قد قتل كسرى في هذه الليلة فانطلقا حتى قدما على باذان فأخبراه بذلك فقال إن يكن الأمر كما قال فوالله إن الرجل لنبي وسيأتي الخبر بذلك إلى يوم كذا فأتاه الخبر كذلك فبعث باذان بإسلامه وإسلام من معه إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
ويقال إن الخبر أتاه بمقتل كسرى وهو مريض فاجتمعت إليه أساورته
فقالوا من تؤمر علينا فقال لهم ملك مقبل وملك مدبر فاتبعوا هذا الرجل وادخلوا في دينه وأسلموا
ومات باذان فبعث رءوسهم إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وفدهم يعرفونه بإسلامهم
ذكر إسلام النجاشي وكتاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إليه مع عمرو بن أمية الضمري
(2/311)
قال ابن إسحاق لما وجه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} رسله إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام وجه إلى النجاشي عمرو بن أمية فقال له يا أصحمة إن علي القول وعليك الاستماع إنك كأنك في الرقة علينا منا وكأنا في الثقة بك منك لأنا لم نظن بك خيرا قط إلا نلناه ولم نخفك على شيء قط إلا أمناه وقد أخذنا الحجة عليك من فيك الإنجيل بيننا وبينك شاهد لا يرد وقاض لا يجور وفي ذلك وقع الحز وإصابة المفصل وإلا فأنت في هذا النبي الأمي كاليهود في عيسى ابن مريم وقد فرق النبي {صلى الله عليه وسلم} رسله إلى الناس فرجاك لما لم يرجهم له وأمنك على ما خافهم عليه لخير سالف وأجر ينتظر
فقال النجاشي أشهد بالله أنه للنبي الأمي الذي ينتظره أهل الكتاب وأن
بشارة موسى براكب الحمار كبشارة عيسى براكب الجمل وأن العيان ليس بأشفى من الخبر
وذكر الواقدي أن الكتاب الذي كتبه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى النجاش مع عمرو ابن أمية الضمري هو هذا
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد رسول الله إلى النجاش ملك الحبشة
سلم أنت فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة فحملت بعيسى فخلقه من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده
وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته وان تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فإني رسول الله وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل فقد بلغت ونصحت فأقبلوا نصيحتي والسلام على من اتبع الهدى
فكتب إليه النجاشي
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى محمد رسول الله من النجاشي أصحمة
سلام عليك يا رسول الله من الله ورحمه الله وبركات الله الذي لا إله إلا هو
(2/312)
أما بعد فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى فورب السماء والأرض إن عيسى لا يزيد على ما ذكرت ثفروقا إنه كما ذكرت وقد عرفنا ما بعثت به إلينا وقد قربنا ابن عمك وأصحابه فأشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين
وذكر الواقدي عن سلمة بن الأكوع أن النجاشي توفي في رجب سنة تسع منصرف رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عن تبوك قال سلمة صلى بنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الصبح ثم قال إنا أصحمة النجاشي قد توفي هذه الساعة فاخرجوا بنا إلى
المصلى حتى نصلي عليه قال سلمة فحشد الناس وخرجنا مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى المصلى فرأيت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقدمنا وإنا لصفوف خلفه وأنا في الصف الرابع فكبر بنا أربعا
كتاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى المقوقس صاحب الإسكندرية مع حاطب بن أبي بلتعة
ولما وجه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} رسله إلى الملوك بعث حاطبا إلى المقوقس صاحب الإسكندرية بكتاب فيه
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الله رسول الله إلى المقوقس عظيم القبط
سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بداعية الإسلام اسلم تسلم وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم القبط
يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون
وختم الكتاب
فخرج به حاطب حتى قدم عليه الإسكندرية فانتهى إلى حاجبه فلم يلبثه أن أوصل إليه كتاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وقال حاطب للمقوقس لما لقيه
إنه قد كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى فانتقم به ثم انتقم منه فاعتبر بغيرك ولا يعتبر بك
قال هات
(2/313)
قال إن لك دينا لن تدعه إلا لما هو خير منه وهو الإسلام الكافي به الله فقد ما سواه إن هذا النبي {صلى الله عليه وسلم} دعا الناس فكان أشدهم عليه قريش وأعداهم له يهود وأقربهم منه النصارى ولعمري ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد {صلى الله عليه وسلم} وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل وكل نبي أدرك قوما فهم من أمته فالحق عليهم أن يطيعوه فأنت ممن أدركه هذا النبي ولسنا ننهاك عن دين المسيح ولكنا نأمرك به
فقال المقوقس إني قد نظرت في أمر هذا النبي فوجدته لا يأمر بمزهود فيه ولا ينهي إلا عن مرغوب عنه ولم أجده بالساحر الضال ولا الكاهن الكاذب ووجدت معه آلة النبوة بإخراج الخبء والإخبار بالنجوى وسأنظر
وأخذ كتاب النبي {صلى الله عليه وسلم} فجعله في حق من عاج وختم عليه ودفعه إلى جارية له ثم دعا كاتبا له يكتب بالعربية فكتب إلى النبي {صلى الله عليه وسلم}
بسم الله الرحمن الرحيم
لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط سلام عليك
أما بعد فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه
وقد علمت أن نبيا قد بقي وكنت أظن أنه يخرج بالشام وقد أكرمت رسولك وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم وبكسوة وأهديت لك بغلة لتركبها
والسلام عليك
ولم يزد على هذا ولم يسلم
وهاتان الجاريتان اللتان ذكرهما إحداهما مارية أم إبراهيم ابن النبي {صلى الله عليه وسلم} وأختها سيرين وهي التي وهبها النبي {صلى الله عليه وسلم} لحسان بن ثابت فولدت له ابنه عبد الرحمن والبغلة هي دلدل وكانت بيضاء
وقيل إنه لم يكن في العرب يومئذ غيرها وإنها بقيت إلى زمان معاوية
(2/314)
وذكر الواقدي بإسناد له أن المقوقس أرسل إلى حاطب ليلة وليس عنده أحد إلا ترجمان له يترجم بالعربية فقال له ألا تخبرني عن أمور أسألك عنها وتصدقني فإني أعلم أن صاحبك قد تخيرك من بين أصحابه حيث بعثك فقال له حاطب لا تسألني عن شيء إلا صدقتك فسأله عن ماذا يدعو إليه النبي {صلى الله عليه وسلم} ومن أتباعه وهل يقاتل قومه فأجابه حاطب عن ذلك كله ثم سأله عن صفته فوصفه حاطب ولم يستوف فقال له بقيت أشياء لم أرك تذكرها في عينيه حمرة قل ما تفارقه وبين كتفيه خاتم النبوة ويركب الحمار ويلبس الشملة ويجتزي بالتمرات والكسرة ولا يبالي من لاقى من عم وابن عم
قال حاطب فهذه صفته
قال كنت أعلم أنه بقي نبي وكنت أظن أن مخرجه ومنبته بالشام وهناك تخرج الأنبياء من قبله فأراه قد خرج في العرب في أرض جهد وبؤس والقبط لا يطاوعوني في اتباعه ولا أحب أن تعلم بمحاورتي إياك وأنا أضن بملكي أن أفارقه وسيظهر على البلاد وينزل بساحتنا هذه أصحابه من بعده حتى يظهر على ما ها هنا فارجع إلى صاحبك فقد أمرت له بهدايا وجاريتين أختين فارهتين وبغلة من مراكبي وألف مثقال ذهبا وعشرين ثوبا من لين وغير ذلك وأمرت لك بمائة دينار وخمسة أثواب
فارحل من عندي ولا تسمع منك القبط حرفا واحدا
فرجعت من عنده وقد كان لي مكرما في الضيافة وقلة اللبث ببابه ما أقمت عنده إلا خمسة أيام وإن الوفود وفود العجم ببابه منذ شهر وأكثر
قال حاطب فذكرت قوله لرسول {صلى الله عليه وسلم} فقال ضن الخبيث بملكه ولا بقاء لملكه
ذكر كتاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى المنذر بن ساوي العبدي مع العلاء بن الحضرمي بعد انصرافه من الحديبية
ذكر الواقدي بإسناد له عن عكرمة قال وجدت هذا الكتاب في كتب ابن عباس بعد موته فنسخته فإذا فيه
بعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوي وكتب إليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام فكتب يعني المنذر إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
(2/315)
أما بعد يا رسول الله فإني قرأت كتابك على أهل هجر فمنهم من أحب الإسلام وأعجبه ودخل فيه ومنهم من كرهه وبأرضي مجوس ويهود فأحدث إلي في ذلك أمرك
فكتب إليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوي سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله
أما بعد فإني أذكرك الله عز وجل فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه وإنه من يطع رسلى ويتبع أمرهم فقد أطاعني ومن نصح لهم فقد نصح لي وإن
رسلي قد أثنوا عليك خيرا وإني قد شفعتك في قومك فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه وعفوت عن أهل الذنوب فاقبل منهم وإنك مهما تصلح فلن نعزلك عن عملك ومن أقام على يهودية أو مجوسية فعليه الجزية
وذكر غير الواقدي أن العلاء بن الحضرمي لما قدم على المنذر بن ساوي قال له
يا منذر إنك عظيم العقل في الدنيا فلا تصغرن من الآخرة إن هذه المجوسية شردين ليس فيها تكرم العرب ولا علم أهل الكتاب ينكحون ما يستحي من نكاحه ويأكلون ما يتكرم عن أكله ويعبدون في الدنيا نارا تأكلهم يوم القيامة ولست بعديم عقل ولا رأى فانظر هل ينبغي لم لا يكذب أن تصدقه ولمن لا يخون أن تأتمنه ولمن لا يخلف أن تثق به فإن كان هذا هكذا فهو هذا النبي الأمي الذي والله لا يستطيع ذو عقل أن يقول ليت ما أمر به نهي عنه أو ما نهي عنه أمر به أوليته زاد في عفوه أو نقص من عقابه إن كل ذلك منه على أمنية أهل العقل وفكر أهل البصر
فقال المنذر قد نظرت في هذا الذي في يدي فوجدته للدنيا دون الآخرة ونظرت في دينكم فوجدته للآخرة والدنيا فما يمنعني من قبول دين فيه أمنية الحياة وراحة الموت ولقد عجبت أمس ممن يقبله وعجبت اليوم م من يرده وإن من إعظام ما جاء به أن يعظم رسوله وسأنظر
وذكر ابن إسحاق والواقدي وسيف والطبري وغيرهم أن المنذر لما وصله العلاء برسالة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكتابه أسلم فحسن إسلامه
(2/316)
وزاد الواقدي أن النبي {صلى الله عليه وسلم} استقدم العلاء بن الحضرمي فاستخلفه العلاء مكانه على عمله
وذكر ابن إسحاق وغيره أن المنذر توفي قبل ردة أهل البحرين والعلاء عنده أميرا لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} على البحرين
وذكر ابن قانع أن المنذر وفد على النبي {صلى الله عليه وسلم} ولا يصح ذلك إن شاء الله
ذكر كتاب النبي {صلى الله عليه وسلم} إلى جيفر وعبد ابني الجلندي الأزديين ملكي عمان مع عمرو بن العاص
ذكر الواقدي بإسناد له إلى عمرو بن العاص أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعث نفرا سماهم إلى جهات مختلفة برسم الدعاء إلى الإسلام
قال عمرو فكنت أنا المبعوث إلى جيفر وعبد ابني الجلندي وكتب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} معي كتابا
قال وأخرج عمرو الكتاب فإذا صحيفة أقل من الشبر فيها
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الله إلى جيفر وعبد ابني الجلندي سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوكما بداعية الإسلام أسلما تسلما فإني رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين وإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام فإن ملككما زائل عنكما وخيلي تحل بساحتكما وتظهر نبوتي على ملككما
وكتب أبي بن كعب وختم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الكتاب
ثم خرجت حتى انتهيت إلى عمان فلما قدمتها عمدت إلى عبد وكان أحلم الرجلين وأسهلهما خلقا فقلت إني رسول رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إليك والى أخيك فقال أخي المقدم علي بالسن والملك وأنا أوصلك إليه حتى يقرأ كتابك ثم
قال لي وما تدعو إليه قلت أدعوك إلى الله وحده لا شريك له وتخلع ما عبد من دونه وتشهد أن محمدا عبده ورسوله
قال يا عمرو إنك ابن سيد قومك فكيف صنع أبوك فإن لنا فيه قدوة
قلت مات ولم يؤمن بمحمد {صلى الله عليه وسلم} ووددت أنه كان أسلم وصدق به وقد كنت أنا على مثل رأيه حتى هداني الله للإسلام
قال فمتى تعته قلت قريبا فسألني أين كان إسلامي قلت عند النجاشي وأخبرته أن النجاشي قد أسلم قال فكيف صنع قومه بملكه قلت أقروه واتبعوه قال والأساقفة والرهبان تبعوه قلت نعم
(2/317)
قال انظر يا عمرو ما تقول إنه ليس من خصلة في رجل أفضح له من كذب
قلت ما كذبت وما نستحله في ديننا
ثم قال ما أرى هرقل علم بإسلام النجاشي
قلت بلى قال بأي شيء علمت ذلك قلت كان النجاشي يخرج له خرجا فلما أسلم وصدق بمحمد {صلى الله عليه وسلم} قال لا والله لو سألني درهما واحدا ما أعطيته فبلغ هرقل قوله فقال له نياق أخوه أتدع عبدك لا يخرج لك خرجا ويدين دينا محدثا قال هرقل رجل رغب في دين واختاره لنفسه ما أصنع به والله لولا الضن بملكي لصنعت كما صنع
قال انظر ما تقول يا عمرو قلت قد والله صدقتك
قال عبد فاخبرني ما الذي يأمر به وينهي عنه
قلت يأمر بطاعة الله عز وجل وينهي عن معصيته ويأمر بالبر وصلة الرحم وينهي عن الظلم والعدوان وعن الزنا وشرب الخمر وينهي عن عبادة الحجر والوثن والصليب
فقال ما أحسن هذا الذي يدعو إليه لو كان أخي يتابعني لركبنا حتى نؤمن بمحمد ونصدق به ولكن أخي أضن بملكه من أن يدعه ويصير ذنبا
قلت إنه إن أسلم ملكه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على قومه فأخذ الصدقة من غنيهم فردها على فقيرهم
فقال إن هذا الخلق حسن وما الصدقة فأخبرته بما فرض رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من الصدقات في الأموال حتى انتهيت إلى الإبل
فقال يا عمرو تؤخذ من سوائم مواشينا التي ترعى الشجر وترد المياه
فقلت نعم فقال والله ما أرى قومي في بعد دارهم وكثرة عددهم يطيعون بهذا
قال فمكثت ببابه أياما وهو يصل إلى أخيه فيخبره كل خبرى ثم أنه دعاني يوما
فدخلت عليه فأخذ أعوانه بضبعي فقال دعوه فأرسلت فذهبت لأجلس فأبوا أن يدعوني أجلس فنظرت إليه فقال تكلم بحاجتك فدفعت إليه الكتاب مختوما ففض خاتمه فقرأه حتى انتهى إلى آخره ثم دفعه إلى أخيه فقرأه مثل قراءته إلا أني رأيت أخاه أرق منه ثم قال ألا تخبرني عن قريش كيف صنعت فقلت تبعوه إما راغب في الدين وإما مقهور في السيف
(2/318)
قال ومن معه قلت الناس قد رغبوا في الإسلام واختاروه على غيره وعرفوا بعقولهم مع هدى الله إياهم انهم كانوا في ضلال فما أعلم أحدا بقي غيرك في هذه الحرجة وأنت إن لم تسلم اليوم وتتبعه يوطئك الخيل ويبيد خضراءك فأسلم تسلم ويستعملك على قومك ولا تدخل عليك الخيل والرجال
قال دعني يومي هذا وارجع إلي غدا
فرجعت إلى أخيه فقال يا عمرو إني لأرجو أن يسلم إن لم يضن بملكه
حتى إذا كان الغد أتيت إليه فأبى أن يأذن لي فانصرفت إلى أخيه فأخبرت أني لم أصل إليه فأوصلني إليه
فقال أني فكرت فيما دعوت إليه فإذا أنا أضعف العرب ن ملكت رجلا ما في يدي وهو لا تبلغ خيله ههنا وإن بلغت خيله ألفت قتالا ليس كقتال من لاقى
قلت فأنا خارج غدا فلما أيقن بمخرجي خلا به أخوه فقال ما نحن فيما قد ظهر عليه وكل من أرسل إليه قد أجابه فأصبح فأرسل إلي فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعا وصدقا النبي {صلى الله عليه وسلم} وخليا بيني وبين الصدقة وبين الحكم فيما بينهم وكانا لي عونا على من خالفني
وفي حديث غير الواقدي أن عمرا قال له فيما دار بينهما من الكلام إنك وإن كنت منا بعيدا فإنك من الله غير بعيد إن الذي تفرد بخلقك أهل أن تفرده بعبادتك وان لا تشرك به من لم يشركه فيك واعلم انه يميتك الذي أحياك ويعيدك الذي أبدأك فأنظر في هذا النبي الأمي الذي جاءنا بالدنيا والآخرة فإن كان يريد به أجرا فامنعه أو يميل به هوى فدعه ثم أنظر فيما
يجيء به هل يشبه ما يجيء به الناس فإن كان يشبهه فسله العيان وتخير عليه في الخبر وإن كان لا يشبهه فاقبل ما قال وخف ما وعد
قال ابن الجلندي إنه والله لقد دلني على هذا النبي الأمي انه لا يأمر بخير إلا كان أول من أخذ به ولا ينهي عن شر إلا كان أول تارك له وإنه يغلب فلا يبطر ويغلب فلا يضجر وأنه يفي بالعهد وينجز الموعود وأنه لا يزال سر قد اطلع عليه يساوي فيه أهله وأشهد أنه نبي
(2/319)
كتاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى هوذة بن علي مع سليط بن عمرو العامري وما كان من خبره معه
ولما بعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} رسله إلى الملوك يدعوهم إلى الله بعث سليط بن عمرو إلى هوذة بن علي الحنفي صاحب اليمامة والمتوج بها وهو الذي يقول فيه الأعشي ميمون بن قيس من كلمة
إلى هوذة الوهاب أعلمت ناقتي
أرجي عطاء فاضلا من عطائكا
فلما أتت آطام جو وأهلها
أنيخت وألقت رحلها بقبائكا
الطويل
وذكر الواقدي أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كتب إلى هوذة مع سليط حين بعثه إليه
بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هوذة بن علي سلام على من اتبع الهدى وأعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر فأسلم تسلم وأجعل لك ما تحت يديك
فلما قدم عليه سليط بكتاب النبي {صلى الله عليه وسلم} مختوما أنزله وحياه واقترأ عليه الكتاب فرد ردا دون رد وكتب إلي النبي {صلى الله عليه وسلم}
ما أحسن ما تدعوا إليه وأجمله وأنا شاعر قومي وخطيبهم والعرب تهاب مكاني فاجعل إلى بعض الأمر أتبعك
وأجاز سليطا بجائزة وكساه أثوابا من نسج هجر فقدم بذلك كله على
النبي {صلى الله عليه وسلم} فأخبره وقرأ النبي {صلى الله عليه وسلم} كتابه وقال لو سألني سبابة من الأرض ما فعلت باد وباد ما في يده فلما انصرف النبي {صلى الله عليه وسلم} من الفتح جاءه جبريل عليه السلام بأن هوذة مات فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أما إن اليمامة سيخرج بها كذاب يتنبأ يقتل بعدي فقال قائل يا رسول الله فمن يقتله فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنت وأصحابك فكان من أمر مسيلمة وتكذبه ما كان وظهر المسلمون عليه فقتلوه وكان ذلك القائل من قتلته وفق ما قاله الصادق المصدوق صلوات الله وبركاته عليه
(2/320)
وذكر وثيمة بن موسى أن سليط بن عمرو لما قدم على هوذة بكتاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكان كسرى قد توجه وقال له يا هوذة إنه قد سودتك أعظم حائلة وأرواح في النار وإنما السيد من متع الإيمان ثم زود التقوى إن قوما سعدوا برأيك فلا تشقين به وإني آمرك بخير مأمور به وأنهاك عن شر منهي عنه آمرك بعبادة الله وأنهاك عن عبادة الشيطان فإن في عبادة الله الجنة وفي عبادة الشيطان النار فإن قبلت نلت ما رجوت وأمنت ما خفت وإن أبيت فبيننا وبينك كشف الغطاء وهو المطلع
فقال هوذة يا سليط سودني من لو سودك شرفت به وقد كان لي رأي اختبر به الأمور فقدته فموضعه من قلبي هواء فاجعل لي فسحة يرجع إلي رأيي فأجيبك به إن شاء الله
وقال هوذة في ذلك
أتاني سليط بالحوادث جمة
فقلت له ماذا يقول سليط
فقال التي فيها على غضاضة
وفيها رجاء مطمع وقنوط
فقلت له غاب الذي كنت أجتلي
به الأمر عني فالصعود هبوط
وقد كان لي والله بالغ أمره
أبا النصر جاش في الأمور ربيط
فأذهبه خوف النبي محمد
فهوذة فيه في الرجال سقيط
فأجمع أمري من يمين وشمأل
كأني ردود للنبال لقيط
وأذهب ذاك الرأي إذ قال قائل
أتاك رسول للنبي خبيط
رسول رسول الله راكب ناضح
عليه من اوبار الحجاز غبيط
أحاذر منه سورة هائمية
فوراسها وسط الرجال عبيط
سكرت ودبت في المفارق وسنة
لها نفس على الفؤاد غطيط
فلا تعجلني يا سليط فإننا
نبادر أمرا والقضاء محيط
الطويل
وذكر الواقدي بإسناد له عن عبد الله بن مالك أنه قال قدمت اليمامة في خلافة عثمان بن عفان فجلست في مجلس لحجر فقال رجل في المجلس إني لعند ذي التاج الحنفي يعني هوذة يوم الفصح إذ جاء حاجبه فاستأذن لأركون دمشق وهو عظيم من عظماء النصارى فقال ائذن له فدخل فرحب به وتحدثا فقال الأركون ما أطيب بلاد الملك وأبرأها من الأوجاع
(2/321)