بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الحمد لله رب العالمين القائل سبحانه (إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ) [ فاطر :28] ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذى علمنا أن " العلماء هم ورثة الأنبياء "، اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد .
.... أما بعد
* فهذا كتابنا "الرابع" " الإستعمار والصهيونية وجمع المعلومات عن مصر ".ضمن سلسلة نحو وعى سياسى واستراتيجى وتاريخى " ، بقلم الأستاذ الدكتور حامد عبد الله ربيع .
* وقد نشرت مقالات هذا البحث تباعاً فى الأهرام الاقتصادى تحت عنوان رئيسى " إحتواء العقل المصرى " :
المقالة الأولى : " إحتواء العقل المصرى " العدد 733 القاهرة فى 31/1/1983 .
المقالة الثانية : " دور المعلومات فى الاستراتيجية الأمريكية " العدد 437 القاهرة فى 7/2/1983 .
المقالة الثالثة : " تحركات السياسة الأمريكية على أرض مصر " العدد 735 القاهرة فى 14/2/1983 .
المقالة الرابعة : " ولم يتعلم الأمريكيون من أخطائهم " العدد 736 ، القاهرة فى 21/2/1983 .
المقالة الخامسة : " سياسة جمع المعلومات فى منطقة الشرق الأوسط " العدد 737 ، القاهرة فى 28/2/1983 .
المقاله السادسة: " التوافق الإسرائيلى الأمريكى" العدد 738، القاهرة فى 3/3/1988.
المقالة السابعة: " الأمن المطلوب فى سياسة جمع المعلومات " العدد 739، القاهرة فى 14/ 3/ 1983.
* ومجموع هذه المقالات- بإيجاز- تدور حول [ الموضوعات التالية ]:(1/1)
* حرص القوى الاستعمارية والصهيونية- وعلى رأسها أمريكا وإسرائيل وحلف الأطلنطى- على جمع المعلومات عن مصر، عبر مؤسسات عالمية ومحلية، وعبر الجواسيس الذين يتزينون بزى العلماء، بهدف التعرف على مصر من الداخل، وتحليل خصائص منطقها، وأسلوب التعامل مع عقليتها، وعقلية قياداتها الفكرية والسياسية والعسكرية، وذلك بهدف السيطرة عليها.
وأن الولايات المتحدة بدأت فى تنفيذ هذه السياسة منذ عهد الرئيس جمال عبد الناصر، من خلال منظمة فورد 1.
* إن سياسة جمع المعلومات عن مصر، تستند إلى تحالف وثيق وتنسيق بين الأجهزة الأمريكية من جانب، والأجهزة الإسرائيلية من جانب آخر، وأجهزة حلف الأطلنطى من جانب ثالث. والمخابرات الأمريكية بصفة خاصة تعمل بتوافق تام مع أجهزة الأمن الإسرائيلى.
* لو استطاعت مصر أن تهيئ لنفسها قيادة حقيقية، فهى مؤهلة لأن تجمع تحت رايتها جميع دول المنطقة العربية، وهذا يعنى نتيجتين:
الأولى: إنهاء إسرائيل سواء باستئصالها أو بذوبانها وابتلاعها.
الثانية: وضع حد لعملية النهب التى تمارسها القوى الدولية، والشركات الكبرى المتعددة الجنسية فى جميع أجزاء المنطقة العربية.
* وفى هذه المقالات تساءل الكاتب عن أهداف السياسة الإسرائيلية البعيدة المدى، والتى تتفق مع السياسة الأمريكية؟؟
* وأجاب الكاتب أن المخطط العام الذى يسيطر على القيادات الصهيونية هو تجزئة المنطقة العربية، وتحويلها إلى كيانات صغيرة يسيطر عليها مفهوم الدول الطائفية، ومصر هى الدولة الوحيدة التى سوف تقف عقبة فى وجه هذا المخطط!!
ولكن هذا لا يمنع القيادة الصهيونية من أن تفكر فى تنفيذ نفس السياسة أيضاً بصدد وادى النيل.
الخيال الصهيونى- كما يقول الكاتب- يتصور هذه التجزئة فى أربعة محاور أساسية: المحور الأول: الدولة القبطية.
المحور الثانى: الدولة البربرية.
المحور الثالث: مصر الإسلامية.(1/2)
المحور الرابع: امتداد النفوذ الصهيونى عبر سيناء ليستوعب شرق الدلتا.. إلخ.
* وتساءل الكاتب (عام 1983) لماذا اهتمت الأبحاث الميدانية التى أجرتها الهيئات الأمريكية على وجه الخصوص بمحافظة الفيوم، وكذلك بمدينة أسوان؟؟
وهل هناك علاقة بين الاهتمام بأسوان، والحديث المتردد عن دولة البربر؟ وهل صحيح أن هناك دراسة ممولة من الجانب الأمريكى حول الطريق الصحراوى الذى سوف يربط الفيوم بالإسكندرية ؟
* كما تحدث الكاتب عن دور المعلومات فى الاستراتيجية الأمريكية، ودقة وخطورة عملية التعامل مع المعلومات، وخصوصية العلماء العرب ، الذين يأتون من الولايات المتحدة الأمريكية، وأنهم يجب ألا يتاح لهم المشاركة فى الأبحات التى تتيح لهم جمع معلومات عن الأمة ، لأن أغلبهم إن لم يكونوا جميعهم أدوات متقدمة للمخابرات الأمريكية، يخضعون لتوجيهها بطريقة أو بأخرى.
وأن الذى يعيشون منهم على الأرض الأمريكية يقعون تحت سيطرة العديد من تلك الأجهزة القادرة على أن تتغلغل فى جميع عناصر حياتهم- بل فى بعض الأحيان زوجاتهم الأمريكيات- ليسوا إلا عملاء لتلك الأجهزة (والكلام لحامد ربيع).
* وأشار الكاتب إلى اتساع مفهوم الأمن القومى الأمريكى، عندما ربطت الولايات المتحدة بين أمنها القومى ووجود إسرائيل، وأن أى تهديد لأى من الأنظمة السياسية التى تدور فى فلك أمريكا، يعتبر تهديداً للأمن القومى الأمريكى، يستلزم التدخل بالقوة لاستئصال القوى الثورية، والقيادات الرافضة للتواجد الأمريكى الاستعمارى فى المنطقة.
* وذكر الكاتب- رحمه الله- أن ممثلو الأبحاث الميدانية فى مصر يجلسون فى أدق أجزاء الجسد المصرى حساسية.
كما قام الكاتب- رحمه الله-: بتقويم تحركات السياسة الأمريكية على أرض مصر وأوروبا الغربية وأمريكا اللاتينية وأفريقيا السوداء، وجنوب شرق آسيا:
إن نجاح السياسة الأمريكية الاستعمارية الصهيونية فى بعض أجزاء منطقة الشرق(1/3)
الأوسط مرده ضعف الإرادة الذاتية فى المنطقة، ووجود الاحتلال الصهيونى على أرض فلسطين.
* إن الولايات المتحدة الأمريكية تَتّبع فى المنطقة بصفة عامة، وفى مصر بصفة خاصة سياسات أربع:
الأولى والثانية: بخصوص حماية الأمن القومى الأمريكى، وتحقيق مساندة المنطقة العربية لها.
أمريكا تجعل من وجود إسرائيل وبقائها أحد عناصر أمنها القومى، وحدوث أمر معين على حدودها يعنى ضرورة القتال بلا أى مقدمات، وأخذت السياسة الأمريكية على مسئوليتها تحقيق تفوقاً عسكرياً ساحقاً للإدارة الإسرائيلية على جميع القوى المقاتلة العربية، وذلك أيضاً يعنى إلغاء أى معنى من معانى الأمن القومى، لأى دولة عربية وعلى وجه التحديد مصر.
* وتساءل الكاتب، كيف يمكن التوفيق بين هذه السياسة وما يسمى بالإجماع الاستراتيجى لدول منطقة الشرق الأوسط ؟
أى كيف يمكن لأمريكا أن تحقق مساندة إقليمية لسياستها ومصالحها فى ظل هذه السياسة؟ أو بمعنى آخر... كيف يمكن تحويل المنطقة الممتدة من الخليج العربى حتى البحر الأحمر بجميع شواطئه بما فى ذلك الجزء الشرقى من حوض البحر المتوسط إلى كتلة واحدة متراصة لمساندتها وهى تتبع سياسة مزدوجة حيال العالم العربى، وعدوته الأولى الدولة الصهيونية المغتصبة لفلسطين.
الثالثة: تنطلق السياسة الأمريكية من مبدأ تحزيم مصر، وتفريغ المنطقة العربية من قياداتها التاريخية، لتحقيق أهداف السياسة الإسرائيلية والأمريكية، التى ليس من صالحها أن توجد مصر القوية القادرة على أن تكتل خلفها دول المنطقة.
الرابعة: أمريكا تطبق مع المنطقة العربية ومع مصر سياسة الاستعمار الجديد، الذى يهدف إلى تحقيق السيطرة الكاملة على العالم وما يستلزمه ذلك من خلق التبعية، وفرض الهيمنة المعنوية على شعوب المنطقة.
* وأول أدوات السيطرة السياسية الأمريكية فى ذلك:(1/4)
أولاً: تدعيم الكيان الصهيونى على أرض فلسطين، وتوسيع دائرة نفوذه، واستخدامها كأداة لتهديد أى قوة عربية، فى منطقة القلب.
إن مفهوم الأمن القومى للكيان الصهيونى يمتد ، بحيث يحتضن فى جانب آخر جميع أجزاء شمال إفريقيا حتى المحيط الأطلسى.
* إن الوجود الصهيونى فى المنطقة يشل القلب، وهو بداية التدخل الأجنبى فى المنطقة [ فهل بعد ذلك تسعى الأمة لتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيونى؟؟].
ثانياً: اتباع سياسة شد الأطراف، الذى بدأ مع الحروب الصليبية، ليكمل وظيفة الكيان الصهيونى فى المنطقة، فإذا كانت إسرائيل تشل القلب، كانت القوى الجاذبة تشد القوى المتواجدة خارج دائرة القلب، وهكذا تمنع المساندة، ولعل الحرب العراقية الإيرانية فى أقصى الشرق، وبعد ذلك الحرب العراقية الكويتية نماذج واضحة لتأكيد هذا المفهوم.
ثالثاً: خلق حالة الشلل فى وظيفة مصر الإقليمية.
رابعاً: إذابة العروبة فى المفهوم الإسلامى بصورة تسمح بإفقاد المفهوم الفاعلية الحقيقية.
خامساً: خلق دولة البربر على جزء من أرض مصر وأرض السودان.
* كما عرّف الكاتب- رحمه الله- أن نظرية الاستعمار الجديد (اليهودى الأمريكى الأوربى) فى تفتيت الإرادة القومية للعالم العربى تقوم على:
أ- تشجيع الشعوبية (العربية الفرعونية... إلخ).
ب- تدعيم مفهوم الولاء الطائفى (النصرانى- النصيرى- الدرزى).
ج- مساندة الزعامات الضعيفة المهلهلة ودفعها إلى موقع السلطة.
د- خلق طبقات منتفعة طفيلية.
ف- استخدام جميع أساليب التسميم السياسى.
و- نشر الكراهية ضد العالم العربى (والإسلامى) وضد الإسلام تحت شعار محاربة الإرهاب.
ز- تدعيم الترابط الدولى ضد المصالح العربية.
ح - تفجير منظمة الأوبك.
* وتساءل الكاتب: أين مسئولية العلماء الذين اندفعوا بلا وعى فى تمكين أمريكا من جمع المعلومات عن المنطقة العربية ومصر؟ وأين مسئولية أجهزة الأمن المصرية؟ وكيف يجب أن تؤدى واجبها؟(1/5)
* وفى مقال تحت عنوان: " ولم يتعلم الأمريكيون من أخطائهم " نشر الكاتب- رحمه الله- أن السياسة الأمريكية فى منطقة الشرق الأوسط سوف تنتهى بالفشل الذريع، لا يجوز أن يغرينا بريق القوة، ورونق الفاعلية، جوهر السلوك الأمريكى هو عدم الفاعلية،
ومنطق التحرك هو عدم القدرة، وأحال الكاتب فى ذلك إلى كتاب " الفشل الأمريكى فى منطقة الشرق الأوسط " تأليف العالم الأمريكى " إيفلاند ".
* السياسة الأمريكية فى المنطقة العربية لا زالت تتميز بخصائص ثلاث:
الأولى: التناقض.
الثانية: الاضطراب وعدم وضوح الرؤية.
الثالثة: عدم فهم حقيقة إطار التحرك.
* إن السياسة الأمريكية فى المنطقة تقوم على التلاعب بمصالح المنطقة، والدليل:
* تعليماتها إلى الشركات البترولية أن توجِّه عائداتها البترولية لتوظف فى اقتصاد غرب أوروبا، ولا توظف محلياً فى المنطقة العربية لماذا؟؟
* إن أمريكا تقف من التطور الوحدوى (الوحدة العربية) موقف العداوة.. لماذا؟
* أمريكا ترفض التطور الاقتصادى فى المنطقة العربية، نحو التكامل والتصنيع بمعناه الحقيقى... لماذا ؟ لماذا ترفض التجديد والتغيير؟ هل هذه السياسة الأمريكية، نتيجة الاستخفاف بشعوب المنطقة؟ أو نتيجة لعدم قدرة القيادة الأمريكية على فهم مقتضيات ما يسمى بسياسة الإجماع الاستراتيجى.
* وفى النهاية يتساءل الكاتب، ولكن أين كل ذلك من سياسة جمع المعلومات؟
وأجاب الكاتب على ذلك بقوله:
أهداف السياسة الأمريكية من وراء جمع المعلومات فى مصر:
* من الحقائق الثابتة بصدد هذه السياسة ، هناك أهداف خفية تجعل الإدارة الأمريكية تلهث وراء معرفة خفايا الوجود المصرى، منها: منع مصر أولاً من أن تصير قوة ضاربة فى المنطقة ؟ حتى يتسنى لأمريكا السيطرة على المنطقة، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا إذا عُزلت مصر وحطمت إرادة التكامل بينها وبين أهل المنطقة، وما يستلزم ذلك من تطويع كلى وشامل للإرادة المصرية.(1/6)
* إن السياسة الأمريكية تعيش أسيرة الأهداف الإسرائيلية التى تبغى تجزئة المنطقة العربية إلى دويلات طائفية، بحيث يسهل التحكم فيها، وتمكين النفوذ الإسرائيلى الاقتصادى، والذى يتستر خلف الشركات المتعددة الجنسية من التوسع، واستيعاب المنطقة ؟ يؤكد ذلك تصريح " هنرى كيسنجر": إن الاعتراف بالدولة الإسرائيلية (الكيان الصهيونى المغتصب لأرض فلسطين) لن يكون إلا بداية لتعديل وتنظيم للأوضاع الإقليمية للإرادة الإسرائيلية، بل ولا يتردد، أن يضيف بصفاقة منقطعة النظير، إن الخطر الحقيقى فى هذه المنطقة سوف يتمركز حول عدم القبول بالإرادة الإسرائيلية.
من أهداف السياسة الأمريكية فى " جمع المعلومات عن مصر " تحت ستار الأبحاث الميدانية المشتركة:
ا- تطويع القوى الراديكالية ذات الميول الشيوعية التى تعودت أن تركب كل موجة. والهدف إحراق العميل، وربطهم بالمصالح الأمريكية، والاستفادة بهم كمصدر للمعلومات السطحية.
2- اكتشاف قوى الرفض الممكنة أو المحتملة، للاحتلال الصهيونى، والهيمنة الأمريكية الاستعمارية على المنطقة، ومواجهتها وتصفيتها بالقوة، والسياسة الأمريكية تتصور بناء قوة بوليسية شبه عسكرية، وقد سُلّحت بأدوات متقدمة ضد المظاهرات والإرهاب (وقد كان!!)، بل ووصل الأمر إلى حد تصور استخدام هذه القوة لأسلحة مزودة بالطاقة النووية.
3- تجزئة مصر... وعندئذ كما تتصور السياسة الأمريكية سوف يكون لدينا دولة قبطية فى مصر العليا.. فإذا تمت تجزئة مصر فإن دولاً كـ ليبيا والسودان، ودولاً أخرى لا يمكن أن تظل فى صورتها الحالية.
* نصف الاستثمارات الأمريكية يوجد خارج الأرض الأمريكية، وأمريكا تستورد أكثر من نصف الخامات الأولية من خارج الأرض إليها.
* ولهذا فإن سياستها كان يجب أن تسيطر عليها أخلاقيات معينة.(1/7)
كتاب " كل أمبراطورية مصيرها الانقراض " تأليف العالم الفرنسى (ديروذيل) جوهر فكره أن الولايات المتحدة لن تعيش أكثر من ربع قرن. إنها توقع بسلوكها الحالى قرار الحكم بإعدامها، مرد ذلك الحقيقى بأنها لا تفهم مسئوولياتها.
* من مصلحة أمريكا أن تضعف مصر فى بعدين ، فى علاقتها بالمنطقة العربية من جانب، وفى علاقة القيادات الحاكمة بالقوى المحكومة (الشعب) من جانب آخر.
* تصميم السياسية الإسرائيلية على تجزئة مصر، وعدم معارضة أمريكا لذلك، وقيام أمريكا وإسرائيل بجمع المعلومات عن مصر والمنطقة العربية.
الإدراك الصهيونى بهذا الخصوص يمكن أن يتحدد فى ثلاث خطوات:
الأولى: الهزيمة العسكرية الساحقة، يصاحبها تدمير مكثف من جانب، وتشتيت للأهالى على صورة واسعة من جانب آخر، ثم الحرب النفسية من جانب ثالث، وهذا يترتب عليه فقدان الثقة فى الذات، والقناعة فى عدم القدرة على المواجهة.
الثانية: خلق مسالك للاتصال المباشر مع القوى الفكرية، والقيادات فى المجتمعات العربية، وتدعيم مفهوم التعاون والحوار الذى يضع حداً للعداوة التقليدية، ويخلق طبقات منتفعة. مئات الآلاف التى بدأت إسرائيل تنفقها فى مصر... ثم فى لبنان على الأبحاث الميدانية، البحوث المشتركة مع بعض أساتذتها تخفى تحركاً خبيثا، محوره خلق بذور الصداقة والمصلحة فى الجسد العربى.
الثالثة: تخريب المرافق القومية، وذلك يؤدى إلى فقد الهيبة والشعور بعدم فاعلية الدولة المركزية، ويرتبط بذلك الإكثار من الفضائح وتلويت القيادات.
* تساءل الكاتب.... أين المصالح الأمريكية فى تنفيذ مثل هذا المخطط؟؟
وأجاب... " إن القيادات الإسرائيلية استطاعت أن تخلق القناعة الأمريكية!!!(1/8)
** وعرض الكاتب... وثيقة خطيرة بعنوان " استراتيجية إسرائيل فى الثمانينات " إعداد "أوديد بينون "، أحد مسئولى وزارة الخارجية الإسرائيلية، وغيرها يكشف منطلقات ثلائة كانت أساساً لخلق القناعة الأمريكية فى اعتماد هذه السياسة:
أولاً: منطلق نظرى.
ثانياً: منطلق تاريخى، يرتبط بتجزئة الاستعمار الإنجليزى والفرنسى للمنطقة فكلاهما حاول تكريس وجوده فى المنطقة من خلال تفتيت الكيانات القوية، والاعتماد على الأقليات، وتجعل من ذلك وسيلة لخلق الفرقة القومية.
المصدر الحقيقى الذى تستمد منه القيادة الصهيونية فى هذا الشأن هو الفكر الهتلرى النازى [ اقرأ ما كتبه إسرائيل شاهاك، رئيس اللجنة الإسرائيلية لحقوق الإنسان ].
* وواصل الكاتب- رحمه الله- تحليلاته... " إسرائيل وضعت عَقِب نكبة 1967 حاملة الطائرات الثانية فى المنطقة العربية لحماية المصالح الغربية، وبصفة أدق لتأديب القيادات العربية.
* كما أضحت إسرائيل رأس حربة للتواجد الأمريكى الممتد فى المحيط الهندى، وحتى داخل الخليج العربى من جانب، ومدخل البحر الأحمر من جانب آخر، بل إنها أضحت أداة لوظيفة أكثر خطورة، يؤكد ذلك التقرير الذى سربته الصحافة الفرنسية عام 1982 عن التعاون الاستراتيجى بين تل أبيب وواشنطن، والمرتبط أيضاً بما يسمى قوة الانتشار السريع. وتساءل الكاتب... عن الثمن الذى ستقبضه إسرائيل فى مقابل هذا ؟؟ وأجاب :
" أحد عناصر المقابل الذى سوف تحصل عليه قيادة ليكود- (نأمل من القارئ الكريم أن يدرك أن هذا البحث نشره د. حامد ربيع عام 1983، ونحن الآن فى عام 1998) الوصول إلى موقع القيادة... وقد حدث ذلك بعد مصرع " رابين " فى مقابل هذا الدور.
ثالثاً: المنطلق الثالث: وهو النظرية الأمريكية " تحويل الشرق الأوسط إلى قاعدة عسكرية متقدمة، شبيهة بقواعدها فى غرب أوروبا، مع ربط تلك المنطقة بوسط أوروبا وبوسط المحيط الهندى من جانب آخر.
* الإدراك الأمريكى يرى:(1/9)
- أن الوحدة العربية ضد المصالح الأمريكية، ومن ثم يجب تفجيرها.
- أن التعاون الجزئى المحدود قد يصير فى صالح السياسة الأمريكية، وبهذا دفعت بدول الخليج على التعاون فيما بينهم... هذا التعاون المحدود الشكلى لا يمنع تشجيع سياسة التجزئة [ كما حدث فى العراق، وكما نجد المحاولة فى جنوب السودان.. والبقية فى الطريق ]. إن أمريكا تشجع تعاون محدود وشكلى هدفه الحقيقى حماية الأنظمة القائمة ولكن من جانب آخر فإن تجزئة وتفتيت هذه الكيانات يسمح بتحقيق هدفين:
ا- التواجد العسكرى باسم حفظ الأمن [ وقد كان، فالقواعد العسكرية الأمريكية والإنجليزية والفرنسية تنتشر فى المنطقة بأكملها ].
2- السيطرة على المرافق الإقليمية، وهى مسألة حياة أو موت بالنسبة للقوات الأجنبية فى المنطقة، لو قدر لها أن تشتبك فى معركة على قسط معين من الأهمية.
وهكذا... نصل لجوهر الملاحظات " سياسة جمع المعلومات " والبحوث المشتركة كأداة لتحقيق هذه الأهداف المختلفة، وهى ضبط القوى المحلية والسياسية القادرة على التغيير أولاً [ الصحوة الإسلامية بمؤسساتها الشرعية ]، ثم العمل على تجزئة مصر ثانياً، وعزلها وتفريغها من قواها الحقيقية وإعدادها للدور الذى قد أعدته لها الاستراتيجية الأمريكية، بالتوافق مع الاستراتيجية الإسرائيلية.
* وتساءل الكتاب فى نهاية البحث: أين مسئولية علمائنا ؟؟ أين مسئولية أجهزة الأمن؟ وهل القيادة واعية بهذه المخاطر؟ وماذا أعدت لمواجهتها ؟؟
وقد أجاب الكاتب- رحمه الله- على هذه التساؤلات تفصيلاً فى مقاله السابع.
أيها القارئ الكريم:
لقد مضى على نشر هذه المقالات " خمس عشرة سنة " ومضى على وفاة كاتبها- الأستاذ الدكتور حامد عبد الله ربيع- تسع سنين.(1/10)
وعبر هذه السنوات وقعت وقائع، وأحداث جسيمة أكدت صحة ما جاء فى هذه المقالات، التى كانت تعتبر قراءة فى مخططات أعداء الأمة، تجاه المنطقة العربية الإسلامية فى مرحلة الثمانينات، والتسعينات، لتحذير الأمه من الهيمنة الصهيونية الاستعمارية التى تستهدف الإنسان والدين والعرض والثروة والأرض والمقدسات ، ولكن الأمة لم تنتبه فى حينه ، رغم أن العدو ينفذ مخططه حرفياً، كما أخبر به حامد ربيع رحمه الله تعالى .
أيها القارئ الكريم :
إن العدو لم يتراجع عن تنفيذ مخططاته ، وتحقيق أهدافه ، وأصبحت الأمة فى موقع الخطر المباشر الذى يعرضها لخطر الاستذلال من أعدائها ، بمعاونة قطاع ضخم من أبنائها بعلم ... أو بدون علم .
* ولهذا رأينا من الواجب إعادة نشر ما كتبه حامد ربيع أداءً لواجب البلاغ وإبراءً للذمة ، عسى أن تستيقظ الأمة وتواجه الأخطار المحدقة بها .
قال تعالى : (إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وهُوَ شَهِيدٌ) [ق:37]
……………جمال عبد الهادى محمد مسعود
……………عبد الراضى أمين سليم…
المقالة الأولى
احتواء العقل المصرى
تحت هذا العنوان كتب حامد ربيع:
"هل حقا عاد الوعى إلى مصر؟ مصر الخالدة، التى ظلت دائماً صامدة أمام أى عدوان؟ نعم إنها الأنثى التى تعرف بحسها اللاشعورى ابنها الحقيقى، من ذلك الذى حملته سفاحاً، فجاء يلطخ اسمها بالأوحال. مصر التى لم تعرف خلال تاريخها الطويل سوى الآلام، ومع ذلك فهى قائدة بتضحياتها، قوية بإيمانها، راسخة بصلابتها، هذه هى التى أتوجه إليها بالحديث، أؤكد لها أن أبناءها الحقيقيين سوف يظلون على عهدهم عصبها الحقيقى، ودرعها الواقية، وسوف يحمون بجسدهم قيمها الحقيقية، قيم الصلابة السلوكية، والقوة المثالية، قيم الوظيفة الحضارية والقيادة التاريخية.(1/11)
أ- موضوع إعادة وصف مصر، لا يمكن فصله عن حقائق ثلاث، مجموعها يكون الإدراك الحقيقى للتعامل الدولى، الذى خضعت له مصر دائماً، بل والمنطقة العربية سواء سميت هذه بمنطقة الشرق الأوسط أو بالوطن العربى، وهى حقائق ليست جديدة بل إننا فقط لم نعد نعرف تاريخنا 2 وقد أضحينا نتجاهل خبرة آبائنا وأجدادنا فى التعامل مع القوى ذات الأطماع الاستعمارية.
أول هذه الحقائق: الرغبة الثابتة فى معرفة مصر من الداخل، وتحليل خصائص منطقها وأسلوب التعامل مع عقليتها وعقلية قياداتها السياسية والفكرية، هذه المعرفة لا تعود إلى الأمس القريب، ولا تبدأ فقط مع الحملة الفرنسية، وكتاب وصف مصر.(1/12)
إن تحليل دراسة الماضى تثبت أن هذه الحقيقة تعود إلى أقدم العصور، بل وإلى عصر البطالسة على وجه التحديد، عندما حدث أول صدام حقيقى مع امبراطورية كبرى، ولكننا لو اقتصرنا على العالم المعاصر، لوجدنا أول تعامل مع هذا المفهوم يقودنا إلى فترة حكم على بك الكبير الذى يندر أن يذكره أحد، هو أول من حاول بناء دولة كبرى فى منطقة الشرق الأوسط، وقد كشفت الوثائق التى قدر لنا أن نطلع عليها ونحللها، أنه فى فترة حكمه، وهى فترة فكرت فيها فرنسا بدورها فى مد نفوذها إلى وادى النيل، والتدخل فى هذه المنطقة أرسلت أحد أبنائها واسمه " سافادى "، عاش فى مصر ثلاثة أعوام، أرسل خلالها مجموعة من الخطابات إلى المسؤولين، موجودة حالياً فى المكتبة الوطنية بباريس باسم " رسائل من مصر " ومن يرد أن يعرف كيف كان يتولى هؤلاء الجواسيس 3 جمع المعلومات من منطلق الفضول ظاهرياً ومن منطلق التخطيط الواعى لفهم عقلية هذه البلاد، التى يرغبون فى الاستيلاء على خيراتها فعلاً، فليس عليه سوى أن يطلع على هذه الخطابات، المجموعة فى ثلاث مجلدات بباريس، وتوجد منها نسخة معروضة للبيع لدى المكتبة الشرقية بشارع "Monsieur Le Prince" حاولت أن أحصل عليها فى الصيف الماضى ولكننى كنت عاجزاً إزاء ثمنها وهو حوالى ألف ومائتا جنيه.(1/13)
الحقيقة الثانية: تدور حول طبيعة المخطط الاستعمارى (4) من حيث خصائصه العامة نى التعامل مع مصر، إنه دائماً يسير فى خطين متوازيين، خلق الفرقة بين القيادة المصرية والشعب المصرى من جانب، وفرض العزلة فى العلاقات بين مصر والدول المحيطة بها من جانب آخر، وكان محور ذلك دائماً التعامل النفسى، هذا المحور قد يختلف من حيث تشكيله وأداته من مرحلة لأخرى، ومن مستعمر لآخر ، لأنه ينبع من التصور لأسلوب الغزو، ومنطق الفتح، ولكن تحطيم الثقة فى الذات القومية كان دائماً العنصر الأساسى فى عملية الغزو المعنوى، وقد بدأ ذلك من الفتح الرومانى عقب مقتل كليوباترا خرج رسل قيصر روما الجديد ولديهم أمر واحد صريح تحطيم معبد الكرنك، لماذا؟ لأن معبد الكرنك لم يكن مجرد منزل الإله، بل لأنه كان يمثل أكبر جامعة فى العالم القديم، علماء الكيمياء والطب والتشريح واستخراج المعادن، كانوا فى رداء الكهنوت فى ذلك المعبد بالمئات، بل وبعض النصوص اللاتينية تحدثنا عنهم بالآلاف، تحطيم الكرنك لم يكن يعنى مجرد تحطيم معبد، ولكنه استئصال للعلم والتكنولوجيا المتقدمة، التى عرفتها أرض وادى النيل.
الاستعمار الفرنسى ورث الاستعمار الإنجليزى، وكلاهما ورث وعاش مفاهيم استراتيججة القيادات الرومانية ، ومن المعلوم أن رعاة البقر القادمين اليوم من القارة الجديدة، يصفون أنفسهم بالقياصرة الجدد، وهكذا علينا ألا نندهش إزاء سياسة استعمارية تنطلق من مبدأ اختصاص قدراتنا العلمية ومواهبنا الإبداعية كيف؟
سوف نرى ذلك فيما بعد وفى موضعه، وسوف ندرك حينئذ الخطورة الحقيقية لهذا الموضوع الذى نحن بصدده، وكيف أن على الدولة أن تستيقظ، وعلى الحاكم أن يفتح عينيه دوماً ليعرف كيف أن كيان أمة قد أضحى موضع التهديد.
بل إننى أتساءل هل نستطيع الآن أن ننقذ الجسد مما ألم به؟ قبل أن تصيبة مآسى حقيقية؟ ألم يعد الوقت متأخراً ؟(1/14)
الحقيقة الثالثة: التى يجب أن ندخلها فى الاعتبار وهى أن الاستعمار الذى يعرفه العالم المعاصر ينطلق من مفهوم الاستعمار الجديد، والاستعمار الجديد يعنى بأبسط الكلمات: خلق التبعية المعنوية.
التبعية قديماً كانت أداتها هى القوة الغاشمة والقهر المادى والعضوى، جيش يأتى فيحتل الأرض المراد استغلالها والحصول على ثرواتها.
اليوم هناك أسلحة أكثر فتكاً وأقل تكلفة: أسلحة نفسية (5) تواضع العلماء على تسميتها بكلمة الغزو المعنوى، هذا هو مفهوم الاستعمار الجديد، هذا المنطق تختلف أساليبه، أو بعبارة أدق تختلف فلسفة التعامل بخصوصه، فالمنطق الفرنسى يدور حول خلق التبعية من المنطلق الحضارى، ومن خلال زرع كلمات الفكر الفرنسى.
الروسى يفضّل منطق الولاء والقناعة الأيديولوجية، وهكذا تصير الاشتراكية والعدالة، الاشتراكية والمساواة بين الشعوب رداء فضفاضاً يستتر خلفه منطق التغلغل، وخلق التبعية المعنوية.
الأمريكى ابتدع مفهوم التنمية وأسلوب الحياة الأمريكى، هو يجمع بين عنصرين كل منهما يكمل الآخر: عنصر القناعة الفكرية بالتنمية وما ينطوى تحتها من مثاليات، بحيث تستوعب فى نظام القيم القومية من جانب، ثم عنصر الممارسة والحياة الواقعية من خلال تقديم نموذج الوجود الأمريكى، على أنه المثل الأعلى فى العالم المعاصر للمجتمع المثالى، وهو يسعى بهذا المعنى لخلق التبعية السلوكية أولاً من جانب الجماهير، وثانياً التبعية الفكرية لتلك المتعلقة بالفئة المختارة، وذلك دون الحديث عن التبعية المصلحية للفئات المنتفعة.
وسوف نرى كل ذلك تفصيلاً فى موضوع آخر.
ب- قد يتصور البعض أن كاتب هذه الصفحات يبالغ ويضخم، ولكننى أؤكد أن تحت يدى من الوثائق مايجعل أى مواطن مؤمن بواجبه لو قدر له الاطلاع عليها يخجل مما يحدث حوله، وهو صامت لا يرفع راية التحدى والمطالبة بوضع حد لهذا التسيب الذى تعيشه مصر منذ عدة أعوام.
ولنقتصر مؤقتاً على بعض المنطلقات:(1/15)
ا- أول هذه المنطلقات: هو أن التفكير فى هذه العملية أى فى عملية الغزو المعنوى العقلى والفكرى للعالم الثالث، بل وللعالم الأوربى نفسه لا يعود من جانب القيادة الأمريكية إلى الأمس القريب، يوجد فى منطقة الأوهايو بشمال أمريكا، وعلى وجه التحديد بمدينة كليفلاند مبنى يحمل اسماً ترجمته الحرفية " القضية الغربية " الدخول إلى هذا المبنى الذى يوصف بأنه جامعة أصعب من التطرق إلى دهاليز البنتاجون، وأتحدى أن يكون أحد حضرات العلماء الذين أقبلوا على السادة الأمريكيين يخدمونهم بكل هذه القناعة، قد سمع بها أو علم بما يحدث فى داخلها، عندما كنت بالولايات المتحدة فى صيف عام 1973 وقبل حرب أكتوبر فى مهمة رسمية لحساب السلطات المصرية، حاولت أن أدخل هذه الجامعة، ولو لعدة ساعات فلم أستطع، ورغم أننى استطعت أن أدخل حاخامية القيادة الصهيونية، وأجلس مع "دانييل سيلفر" ابن أكبر الدعاة للصهيونية الأمريكية وأطلع على خطاباته أقصد أباهى لِلَيل سيلفر فقد ظلت أبواب هذه الجامعة مغلقة بالضبة والمفتاح أمام كل محاولاتى وخلال شهر كامل.
2- لدينا اليوم دراسة قامت بنشرها إحدى دور النشر الفرنسية، وهى متداولة فى الأسواق منذ الشتاء الماضى، ورغم أننى فى هذه اللحظة لا أذكر اسم المؤلف أو الدار إلا أنها موجودة لدينا بالقاهرة، وكم كنت أتمنى أن تترجم إلى اللغة العربية، وبصفة خاصة
أن تجميع الوثائق التى تستند إليها هذه الدراسة من تقارير سرية، تعود إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة.(1/16)
وكيف منذ تلك الفترة بدأت القيادة الأمريكية المسؤولة تخطط لكيفية غزو العقول والأفئدة. فقط أود أن أضيف بأن مقتل الناشر اليسارى الإيطالى المشهور " فلترينللى" منذ قرابة عشرة أعوام والذى ظل يحيط به الغموض حتى وقت قريب، الجميع يعلم اليوم أنه مرتبط بهذه الوثيقة، وفى التفكير فى طرحها على الرأى العام الأوربى، وليس ذلك لأن الرأى العام الأوربى يخشى على مصير مصر، ولكن لأن هذا المخطط يتجه أيضاً إلى العالم الأوربى.
3- ولعله يكفى التأكيد بهذه الحقيقة وما يرتبط بها، من تصور أمريكى لأساليب الغزو الفكرى، أن نعود إلى ما حدث فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، فى كل من اليابان والمانيا الغربية، ولنحدد مصادر المعلومات بهذا الخصوص، حتى لا تخرج علينا أبواق التكذيب، أول مصدر هو كتاب العالم الأمريكى " الأشهر كاهن " عن اليابان ولنتذكر أن " كاهن " هو العقل المفكر لمؤسسة "راندكوربوريشن"، وقد كان أى " كاهن " مستشاراً للرئيس كيندى فى لحظة معينة، هذا الكتاب يحمل عنوان: (اليابان).
أما عن ألمانيا فلدينا وثيقة خطيرة كنا نتمنى أن تترجم إلى اللغة العربية، ونحن على استعداد لأن نقدمها مجاناً لأى جهة علمية مصرية تتعهد بتلك المهمة ، هذه الوثيقة تحمل عنواناً له دلالة: " سوف أظل بروسيا " كتبها الفيلسوف الألمانى الشهير (سالومون). ظروف هذا الكتاب الضخم الذى يقرب من ستمائة صفحة والذى أصدره فيلسوف ألمانيا الأشهر عام 1954 هو أنه سقطت فى يده بطريق المصادفة، أداة جمع المعلومات التى كانت قوات الاحتلال الأمريكى فى ألمانيا قد قامت بتنفيذها، لدراسة خصائص الطابع القومى الألمانى، ويستطيع القارئ أن يجد تفاصيل بهذا الخصوص فى مؤلفنا بعنوان " مقدمة فى العلوم السلوكية " وبصفة خاصة طبعته الثانية " دمشق عام 1981 " هذا الحادث له دلالة متعددة الأبعاد:(1/17)
أولاً: أسلوب جمع المعلومات الميدانى، هو المسيطر على المنطق الأمريكى، كنتيجة للمدرسة السلوكية التى تتحكم فى المنطق العلمى للتحليل الاجتماعى والسياسى فى تلك التقاليد.
ثانياً: إن هذه المعلومات ليست بقصد علمى منزه، لقد كانت تقوم بها فى ألمانيا واليابان قوات الاحتلال، وتخضع لإدارة عسكرية، وهى اليوم فى المجتمعات المتخلفة تتولاها أجهزة فى ظاهرها جهات مدنية، ولكنها تنتهى بأن تصب فى أجهزة الأمن القومى الأمريكى الصانعة للسياسة الخارجية لتلك الدولة، أو على الأقل المحددة لأهم مؤشرات ومتغيرات تنفيذ تلك السياسة.
ثالثاً: كذلك فإن هذا المفهوم للتعامل لا يعود للأمس القريب، لقد طُبّق فى ألمانيا الغربية منذ أعقاب الحرب العالمية الثانية، وطبق بالنسبة لليابان منذ فترة سالفة على الحرب العالمية الثانية. يخبرنا " كاهن" فى مؤلفه السابق ذكره بأن ذلك تم أثناء الحرب حيث طبق على اليابانيين المقيمين بالولايات المتحدة بل ومنذ عام 1942.(1/18)
رابعاً: ونستطيع أن نضيف إلى ذلك أنه بالنسبة للمنطقة العربية، فإن تطبيق هذا الأسلوب لا يعود إلى الأمس القريب، يخطئ من يتصور أن بداية عملية جمع المعلومات الميدانية عن مصر تعود فقط إلى عدة أعوام، لقد بدأت الولايات المتحدة فى تنفيذ هذه السياسة مند عهد عبد الناصر، وعلى وجه التحديد عقب حوادث وحدة مصر مع سوريا، ثم حرب اليمن، ولكن تم ذلك خلال تلك الفترة بطريق الوسيط، وأستطيع أن أؤكد أن ذلك تم خلال الفترة من خلال منظمة فورد (6) التى بدورها عهدت إلى بعض الإيطاليين وواحد منهم دون ذكر اسمه مؤقتاً شخص تصفه الأوساط العالمية الإيطالية بأنه اكبر " نصّاب " فى تاريخ إيطاليا العلمى الحديث، قام بإنشاء مركز مصطنع وهمى فى إحدى الشقق الخاصه بروما ومن خلاله استطاع التسرب إلى مصر عن طريق بعض الأجهزة المسؤولة ذات البريق الجذاب، وقام بجمع المعلومات اللازمة، سواء بخصوص تطور العمالة المصرية فى العالم العربى، أو سواء بصدد انتشار المفاهيم والمدركات المصرية فى العالم العربى، وأثر كل ذلك على الاندماج العربى، وهذه الدراسات التى نوقشت فى ميلانو وشاءت المصادفة إلا أن أحضر المناقشة، بوصفى أستاذاً خارجياً فى جامعة روما، كانت هى الأساس الذى استتر خلف سياسة واشنطن، عقب ذلك ابتداء من عام 1974 وانتهاء بالتوقيع على اتفاقيات كامب ديفيد.
وسوف نعود للتفاصيل وندعمها بالوثائق.(1/19)
ب- كل هذا يقودنا إلى أهداف تلك السياسة الخاصة، بجمع المعلومات، ورغم أننا سوف نطرح التفاصيل فى مقالاتنا المتتابعة إلا أننا نود منذ البداية أن نذكر بأن عملية جمع المعلومات هذه تستند إلى تحالف وثيق، وتنسيق بين الأجهزة الأمريكية من جانب والأجهزة الاسرائيلية من جانب آخر، وأجهزة حلف الأطلنطى من جانب ثالث، والمخابرات الأمريكية بصفة خاصة تعمل بتوافق تام مع أجهزة الأمن الإسرائيلى، والسؤال الذى يجب أن نطرحة بصراحة ووضوح، ما هى أهداف السياسة الإسرائيلية البعيدة المدى والتى تتفق مع السياسة الأمريكية، وكيف تستطيع عملية جمع المعلومات هذه أن تخدم كلا السياستين ؟
لقد ظلت مصر دائماً فى جميع مراحل تاريخها متماسكة، قومياً وسياسياً واقتصادياً، لماذا ؟
التاريخ والطبيعة الجغرافية والتقاليد الحضارية تجيب على هذا التساؤل، ولكن ما هو أخطر من ذلك؟ هو أنه لم يكن من صالح الدول المستعمرة أو المحتلة تجزئة مصر، ستة آلاف عام ظلت خلالها مصر ومنذ عهد (مينا) دولة واحدة تعبر عن كيان قومى واحد. ولكننا اليوم نعيش مرحلة فيها قوى دولية تطمع فى مصر، ومن صالحها تجزئة ذلك الكيان فهل نحن على وعى بذلك؟ لأنها فى نهاية القرن سوف تصير ثمانين مليوناً ولأن موقعها الاستراتيجى أضحى أكثر خطورة على مصالح القوى الكبرى ، ولأن حقيقة الصراع الدولى تغيرت معالمه وخصائصه، ولو استطاعت مصر أن تهيئ لنفسها قيادة حقيقية فهى مؤهلة، لأن تجمع تحت رايتها جميع دول المنطقة العربية، وهذا يعنى نتيجتين:
أولاً: انتهاء إسرائيل سواء باستئصالها واقتطاع وجودها، أو بذوبانها وابتلاعها.
ثانياً: وضع حد لعملية النهب التى تمارسها القوى الدولية والشركات الكبرى المتعددة الجنسية فى جميع أجزاء المنطقة العربية.(1/20)
من يريد أن يعرف كيف تفكر القيادة الإسرائيلية، فليعد إلى كتاب "بن جوريون " الذى أنهاه قبل موته بعدة أشهر، والذى يعتبر وصية للجيل الذى أعقبه بعنوان "A Personal History " " تاريخ شخصى " كتاب ضخم يقع فى حوالى ألف صفحة يشرح فيه كاتبه من خلال حياته تطور وظيفة إسرائيل فى منطقة الشرق الأوسط، فهل قرأه أحد من السادة علماء السياسة الذين تطوعوا لخدمة السادة الجدد لقاء عدة ملاليم دون وعى ودون حياء؟
فلنعد للتساؤل: ما الذى تخطط له إسرائيل بالنسبة لمصر فى الأمد البعيد ولو نسبياً ؟
إن المخطط العام الذى يسيطر على القيادة الصهيونية، وهو تجزئة المنطقة وتحويلها إلى كيانات (7) صغيرة يسيطر عليها مفهوم الدولة الطائفية، ومصر هى الدولة الوحيدة التى سوف تقف عقبة فى وجه هذا المخطط. ولكن هذا لا يمنع القيادة الصهيونية من أن تفكر فى تنفيذ نفس السياسة أيضاً بصدد وادى النيل، بل إن المخاطر التى يتعرض لها هذا الكيان الصهيونى، لو ظلت مصر فى تماسكها أولاً وفى تضخمها الديمقراطى ثانياً، وفى تقدمها العلمى والتكنولوجى ثالثاً هى قاتلة والقيادة الإسرائيلية تعلم ذلك جيداً، فهل تقف صامتة؟
الخيال الصهيونى يتصور هذه التجزئة فى أربعة (8) محاور أساسية:
أولاً: محور الدولة القبطية الممتدة من جنوب بنى سويف حتى جنوب أسيوط، وقد اتسعت غرباً لتضم الفيوم التى بدورها تمتد فى خط صحراوى يربط هذه المنطقة بالإسكندرية التى تصير عاصمة الدولة القبطية، وهكذا تفصل مصر عن الإسلام الإفريقى الأبيض وعن باقى أجزاء وادى النيل (9).
ثانياً: ولتزيد من تعميق هذه التجزئة تربط الجزء الجنوبى الممتد من صعيد مصر حتى شمال السودان باسم بلاد النوبة بمنطقة الصحراء الكبرى، حيث أسوان تصير العاصمة لدولة جديدة دولة تحمل اسم دولة البربر.(1/21)
ثالثاً: الجزء المتبقى من مصر سوف تسميه مصر الإسلامية وهكذا تصبغ الطابع الطائفى على مصر بعد أن قلصتها من عاصمتها التاريخية فى الشمال وعاصمتها الصناعية فى الجنوب.
رابعاً: وعندئذ يصير طبيعياً أن يمتد النفوذ الصهيونى عبر سيناء ليستوعب شرق الدلتا بحيث تصير حدود مصر الشرقية من جانب فرع رشيد، ومن جانب آخر ترعة الإسماعيلية، وهكذا يتحقق الحلم التاريخى (10) من النيل إلى الفرات، طبقاً للشطر المتعلق بالفرات ليس هذا موضعه ولكنه بدوره يخضع لتصور آخر.
سوف نسمع الصيحات: خيال مريض! ولكن ألم نصف ما حدث فى لبنان منذ عشرة أعوام بأنه خيال، وها هو اليوم يتحقق أمام أعيننا؟ عندما كتبنا ننبه الأذهان فى كتابنا عن " الحرب النفسية " قبل حرب أكتوبر اتهمنا بالمبالغة وكنا نتمنى فى قرارة أنفسنا أن نكون فعلاً مبالغين، ولكن ها هو كل ما تنبأنا (11) به قد تحقق، واليوم هذه التصورات التى نطرحها سبق وحددناها فى كتابنا عن " اتفاقيات كامب ديفيد " ونعود اليوم لنؤكدها وقد ازددنا قناعة، بل نود أن نضيف بأن الوثائق المتعلقة بالحديث عن "جمهورية سيناء المستقلة" موجودة فى مصلحة الاستعلامات بالقاهرة، فهل فكر أحد فى تحليل واستخلاص دلالتها من هذا الجهاز الضخم المسؤول عن أمن مصر؟
سؤال ليس فى حاجة إلى إجابة.
إن أخطر ما يجب أن نلحظة، وأن نؤكد عليه هو أن التطور الذى نعيشه جعل سياسة القوى الكبرى تتتفق فى مصالحها مع سياسة إسرائيل، لا فقط بمعنى عزل مصر بل وبمعنى تجزئة مصر، ورغم أننا أيضاً سوف نعود لهذا بتفصيل فى مواضع أخرى، إلا أننا نقتصر بهذا الخصوص على أن نطرح علامات الاستفهام التالية:
أولاً: لماذا اهتمت الأبحاث الميدانية التى أجرتها الهيئات الأمريكية على وجه الخصوص بمحافظة الفيوم وكذلك بمدينة أسوان؟(1/22)
ثانياً: وهل الاهتمام بمحافظة الفيوم ينبع من التصور الإسرائيلى بخصوص الدولة القبطية؟ الذى أساسه ضم الفيوم إلى المحافظات الأخرى السابق ذكرها، وشق طريق صحراوى يربط هذه المنطقة عبر وادى النطرون بالإسكندرية، التى سوف تصير عاصمة للدولة الجديدة، وقد اتسعت لتضم أيضاً جزءاً من المنطقة الساحلية الممتدة حتى مرسى مطروح ؟
ثالثا: وهل هناك علاقة بين الاهتمام بأسوان، والحديث المتردد عن دولة البربر، التى سوف تمتد حينئذ لتشمل الصحراء الكبرى من جنوب المغرب حتى البحر الأحمر؟ التفكير فى دولة البربر قديم، أثارته بعض الاتجاهات الاستعمارية الفرنسية قبل الحرب العالمية الثانية، وعندما بدأت تتكشف أهمية البترول المنتشر فى الصحراء الجزائرية وحولها، ولكن التفكير اصطدم بعدم وجود مدينة فى جميع أجزاء هذه المنطقة، لتجعل منها فرنسا عاصمة للدولة الجديدة، وبينما راحت الأقلام تلح على التفكير الجدى فى إنشاء تلك العاصمة، نشبت الحرب، وتوقفت جميع هذه المشروعات، اليوم الأهداف مختلفة: فالسياسة الأمريكية تريد خلق حائط يمنع الإسلام العربى من الالتقاء بالإسلام الأسود (12) وهى تريد أن تحمى مراكز الثروة الطبيعية فى وسط إفريقيا، وهى تعلم جيداً حاجتها إلى تلك المصادر، التى أضحت توصف بأنها مصادر للمعادن الاستراتيجية، ولنتذكر على سبيل المثال النيكل والبلاتين والقصدير، دون الحديث عن اليورانيوم، وهكذا تلتقى أهداف التجزئة لمصر مع أهداف الإحاطة، والتحزيم للسياسة الإمبريالية، فهل سوف تحل مدينة أسوان هذه المشكلة ؟ لتصير عاصمة الدولة البربرية؟ والجميع يتحدث اليوم عن الوحدة الثقافية لشعب البربر وعن الالتقاء الطبيعى بين شعب النوبة والشعب البربرى، فهل هذا عشوائى؟(1/23)
رابعاً: وهل صحيح أن هناك دراسة ممولة من الجانب الأمريكى حول هذا الطريق الصحراوى الذى سوف يربط الفيوم بالإسكندرية؟ وهل بدأت هذه الدراسة فعلاً أم أنها لا تزال فى حيز الإعداد (13) ؟
أسئلة عديدة نطرحها مؤقتاً،
ولكن الجعبة لا تزال عامرة بالمفاجآت!!! "
المقالة الثانية
تحت هذا العنوان كتب حامد ربيع:
" هل نستطيع طرح الموضوع بشىء من الهدوء، والنظرة البعيدة المدى، دون ذلك التشنج الذى تعودناه فى مناقشاتنا منذ عدة أعوام؟ نحن علماء، والعلم يعنى الوصفية فى المواجهة، والمتابعة المنطقية فى التحليل، والصلابة فى النتائج، والحياد فى التقييم، ليس هدفنا فى هذه الصفحات أن نثير الماضى، وأن نتحدث عن المسؤول فلنترك ذلك جانباً ولكن نريد أن نقتنع بمصالح أمتنا الحقيقية، وكيف يجب أن نبنى إطارنا فى التعامل مع الواقع، الذى تعيشه مصر من جانب، والمنطقة العربية من جانب آخر، وموضع مصر من تلك المنطقة من جانب ثالث.
فلنجعل هذا وحده منطلقنا فى تناول الموضوع. هناك، وقبل أن ندلى بدلونا فى العناصر المختلفة التى سوف تدفعنا إلى جوهر المعالجة التفصيلية نقاط ثلاث، يجب أن تكون واضحة ومقننة منذ البداية، حيث لا موضع حولها لمناقشات:
أولاً: دقة وخطورة عملية التعامل مع المعلومات.
ثانياً: خصوصية العلماء العرب الذين يأتون من الولايات المتحدة الأمريكية.
ثالثاً: طبيعة التطور العام فى المنطقة، وأهميته للاستراتيجية الأمريكية الجديدة وموضوع عملية جمع المعلومات من هذه الاستراتيجية.
أول هذه المنطلقات والتى يجب أن تكون واضحة فى الذهن، هى ما يتعلق بعملية جمع المعلومات، من متابعة التعليقات المختلفة التى تثار بهذا الخصوص، نلحظ نوعاً من السذاجة المنقطعة النظير، ونحن نتساءل :(1/24)
هل هى سذاجة مصطنعة أم سذاجة حقيقية ؟ هل يتصور أولئك الذين يقولون بأن هذه المعلومات متوفرة فى الخارج، ونحن مهما أحطناها بسرية فلا يمكن أن تظل خافية على الآخرين إنه لا يوجد فى عالمنا العربى من يعرف حقيقة التعامل مع المعلومات؟ إنهم هم الذين لا يعرفون كيف تتم عملية جمع المعلومات؟ كيف تتم عملية استخدام المعلومات فى بناء التصور، وخلق مسالك التنبؤ؟ أم أن الحقيقة تجمع بين هذا وذاك؟
أ- فالملاحظة أولاً أن من يعهد إليهم بهذه البحوث فى كثير من الأحيان لا يملكون أى معرفة حقيقية بالبحوث الميدانية، لم تقدر لهم الدراسة العلمية السابقة، ولم تقدر لهم التجربة الواقعية الحقيقية، وهم إلى جانب ذلك يمتازون بالسطحية من جانب، والغرور من جانب آخر، وهذا سلاح ذو حدين: فهو من جانب يجعل المرء يطمئن إلى عدم قدرة هؤلاء على البحث الحقيقى، واكتشاف الحقائق المستترة خلف هذه المعلومات، ولكن من جانب آخر يصيرون أداة واعية فى يد المخطط الأجنبى (14) الذى يجلس إلى جوار هؤلاء، ويستخدمهم كما تستخدم الدمى (15) على مسرح العرائس، وحتى لا يظن البعض أننى أبالغ فإننى أسوق واقعة واحدة، أن أحد أهم من قام بتوجيه بعض هذه الأبحاث وبحضور قنصل مصر العام فى روما فى الشتاء الماضى، قال لى بالكلمة الواحد: إن بعض ما قام به هؤلاء الباحثون المصريون، لا يصلح حتى للنشر فهو مادة تافهة لا ترقى إلا مستوى المادة العلمية.(1/25)
ب- كذلك فإن استخدام المعلومات اليوم أضحى عملية مرعبة، من حيث القدرة والفاعلية، لقد ذكر البعض أنه فى عهد الرئيس عبد الناصر استطاعت المخابرات الإسرائيلية. من متابعة عدد علب السردين المنقولة إلى منطقة الإسماعيلية. تقدير تطور عدد القوات المصرية المقاتلة فى تلك المنطقة، وهذه ليست نكتة ولكنها حقيقة، إن النظريات السلوكية بتحالفها مع نظريات المعلومات وصلت إلى مستوى وقدرة على التنبؤ لا يستطيع أن يتصورها إلا أولئك الذين تعاملوا حقيقة مع هذه الأجهزة، وعلماؤنا الذين يُختارون لهذه المشاكل، أى لجمع المعلومات فى غالبيتهم العظمى ينتمون إلى ثقافة اجتماعية ضحلة لم تسمح لهم بالتعامل الرياضى والالكترونى مع أجهزة تحليل المعلومات.
جـ- وتأتى لتزيد من مخاطر هذه الحقيقة أن الاستمارة التى تضم المعلومات قد تحتوى من الأسئلة ما لا صلة له بالموضوع، وهذا قد يجد تبريراً له فيما يقال: إن كل استمارة يجب أن تتضمن مجموعة أسئلة ضابطة، ومعنى ذلك أن هناك أسئلة لا تتناول بالتحليل موضوع البحث، ولكنها تسعى إلى جمع المعلومات القصد منها التأكد من صلاحية الحالة موضع التحليل، للاعتماد على صدقها فى نقل المعلومات، من الناحية العلمية قول سليم لا يمكن المناقشة فى صحته، ولكن من حيث الواقع، فإن هذا باب واسع للتحايل بحيث يسمح بالحصول على معلومات لا صلة بها بالبحث، ولكن الجهاز المتستر خلف البحث والمتخصص فى عملية جمع المعلومات يسعى للحصول عليها بجميع الوسائل، وهذا يذكرنا بالطبيب الذى يطلب من مريضته أن تكشف عن جسدها ليقوم بعملية الفحص، وهو لا يريد سوى أن يتمتع بالنظر إلى موضع الجمال بها، وقد يستغل ذلك والمريضة الساذجة التى تذكرنا بعالمنا المصرى لن تفهم ذلك إلا متأخرة وقد لا تفهم إطلاقا، وهناك من تفهمه وتتظاهر بعدم الفهم وتتمادى فى ذلك.
ولعله قد يكون من قبيل الاستطراد أن نطرح سؤالين:(1/26)
الأول: هل حقا أنه فى بعض الأبحاث تأتى استمارة جمع المعلومات وقد تم إعدادها فى المراكز المتخصصة الأمريكية؟ ويكون دور عالمنا المصرى أن يبصم على الاستمارة ليضفى عليها صفة الشرعية؟
الثانى: هل الأبحاث المشتركة التى تتم فى الجامعات الأوربية واليابانية، بل وفى أمريكا اللاتينية تأخذ نفس هذه المنهاجية؟
أسئلة محددة وكم كنت أتمنى أن يطرحها علماؤنا الأجلاء على زملائهم الأمريكيين الذين يشتركون معهم فى إعداد أدوات جمع المعلومات.
د- وليكتمل هذا الإطار ننتقل إلى تلك المقولة الخاصة بأن المعلومات عن مصر وعن المجتمع المصرى (16) متوفرة فى الخارج، وهذه الأجهزة قادرة بإمكانياتها من الحصول عليها دون عناء، منطق أيضاً أشد تفاهة، فلو أن الأمر كان كذلك فلماذا تنفق تلك الجهات الملايين؟
الواقع أن المعلومات التى تسعى إليها هذه الأجهزة هى تلك التى تسمى بالمعلومات الخاصة بالمبرارت "Motivation"، أو بعبارة أخرى المتغيرات الدقيقة التى تستتر خلف السلوك، وخلف الوقائع، إن المعلومات المتوفرة فى الأجهزة الخارجية يغلب عليها طابع الوقائع Facts وليست المبررات، وهذه الأخيرة هى المحور الحقيقى لعملية التطويع ولنقدم نموذجاً:
شخص يرفض تنظيم النسل، هذه هى الواقعة أو الموقف، ولكن المبرر متغير داخلى: قد يكون التدين، ودرجة التدين، وقد يكون الرغبة فى إنجاب طفل ذكر والزوجة لم تنجب سوى إناث، وقد يكون رفض مصدر الدعوة لسبب عقائدى عنيف، رغم القناعة بصحة ومنطق موضوع تنظيم النسل، وقد يكون مصلحة مهنية كأن يكون الشخص الرافض طبيب صاحب مستشفى للولادة على سبيل المثال، وقد تعلم الأمريكيون من خبرة إيران أن الاقتصار على المعرفة بالوقائع لا يمكن إلا أن يقدم صورة مشوهة، بل إن نظرية السلوك بكاملها من منطلق التقاليد الأمريكية تخضع فى هذه اللحظة لعملية إعادة تشكيل كاملة، وأحد عناصر ذلك هو كل ما له صلة بالتنبؤ بالسلوك.(1/27)
والآن ننتقل إلى الناحية الثانية، وهى المتعلقة بالعلماء ومدى إمكانية الاستعانة بهم فى الأبحاث المختلفة التى قد يطرحها أو يفرضها موضوع التعاون المشترك.
موضوع لا شك فى منتهى الحساسية، فليس هناك موضع للمناقشة فى أن من صالحنا السعى نحو استعادة هؤلاء العلماء لحاجتنا الماسة إليهم، سواء بخصوص المشروعات الإنمائية الطموحة التى تفكر فيها جميع المجتمعات العربية، سواء لبناء جامعات ومراكز بحوث متقدمة، هذه المنطقة فى أشد الحاجة إليها، والإحصاءات المتوفرة لدينا تسمح بتقدير أؤلى للكفاءات. الأرقام بهذا الخصوص تصيبنا بالذهول، فالمهاجرين العرب من العلماء والمهندسين ما بين عام 1966 وعام 1977 أى خلال قرابة عشرة أعوام، قد بلغ عددهم فقط من الذين يحملون درجة الدكتوراه أكثر من ستة آلاف عالم، نصيب مصر وحدها يزيد عن ثلاثة آلاف.
وهم على وجه التحديد 3310 موزعون بالشكل التالى ، مهندسون 2113- علماء فى الطبيعيات 1039- علماء الاجتماع 158 وذلك دون الأطباء وسائر العلوم الأخرى جميع المحاولات بخصوص استعادتهم لأرض الوطن باءت بالفشل، ولعل خير نموذج لذلك مركز الإسكندرية للدراسات العلمية الذى أنشئ فى عام 1972 وحددت لإنهائة فترة حوالى خمسة عشر عاماً، واستناداً إلى تقرير اليونسكو الذى ساهم فى المشروع، فإنه لم يستطع حتى عام 1980 أن يجتذب من العلماء المصريين المقيمين بالولايات المتحدة سوى أربعة أشخاص هم الذين عادوا نهائياً.
والآن عودة للتساؤل هل يصلح هؤلاء العلماء، وبالتحديد العلماء المقيمون بالولايات المتحدة الأمريكية، للمشاركة فى أبحاثنا الميدانية وتحمل مسؤولية تلك الأبحاث، ونحدد أيضاً: الأبحاث المتعلقة بالمعلومات التى ترتبط بالأمن القومى؟(1/28)
نحن نجيب بصراحة ووضوح: كلا وليست هذه الإجابة مردها التعصب الأعمى أو عدم الثقة فى علمائنا بالخارج، ولكنها إجابة مردها العديد من الاعتبارات التى يعود جزء منها بالأساس إلى صالح هؤلاء العلماء أنفسهم، ونحن نقدم حقا خلاصة أبحاثنا التى نقوم بها لحساب اليونسكو العربية، بصدد إنشاء جهاز الانتفاع بالخبرة العربية المهاجرة لصالح التطور الاقتصادى والتكنولوجى فى المنطقة العربية.
الأسباب عديدة ونحن نوجزها فيما له صلة بموضوعنا:
أولاً: هؤلاء العلماء العرب بما فيهم المصريون المقيمون بالولايات المتحدة لا يخرجون عن واحد من اثنين: إما أنهم يحملون الجنسية الأمريكية وفى جيبهم جواز سفر أمريكى وإما أنهم لم يحصلوا بعد على الجنسية فى الحالة الأولى هم قد أقسموا لحظة الحصول على الجنسية بألا يخدموا سوى الدولة الجديدة، وأنهم لم يعودوا ينتمون من حيث الولاء إلا لهذه الدولة التى يحملون جنسيتها، وأقل ما يمكن أن يحدث فى مثل هذا القِسْم، هو حالة من التمزق، لو فرض عليهم أن يختاروا بين الولاء الجديد والأمانة نحو الولاء القديم، فإن لم يكونوا قد حصلوا على الجنسية فهم يعلمون أن مستقبلهم ومستقبل أولادهم متوقف على الحصول على تلك الجنسية، ومن ثم فإن حالتهم تدعو للرثاء والشفقة أكثر منها للثقة والطمأنينة.(1/29)
ثانياً: هؤلاء العلماء قد انقطعت صلتهم بالوطن الأم، ومجرد هجرتهم تعنى أن هناك أسباباً معينة تجعل علاقة الولاء ضعيفة أو غير متماسكة، ومن ثم فهم غرباء عن وطنهم سواء بسبب الانقطاع المادى أو الغربة المعنوية، وليست عملية مجيئهم عدة أيام أو أشهر بقادرة على أن تعيد إليهم ذلك الذى لم تستطع أن تكسبهم إياه حياة كاملة سابقة، وهذا لا علاقة له بمشكلة الولاء، إنه فقط يعنى أن منطق هؤلاء العلماء وطريقة تفكيرهم وأسلوبهم فى مواجهة المشاكل، لم يعد مصرياً ولا يجوز أن يغرينا أو يخدعنا سواء أصلهم المصرى أو أنهم يتكلمون العربية، أو أنهم يتحدثون دائماً عن الغربة والرغبة فى العودة إلى مصر.
إن اللغة تصير بالنسبة لهم رموزا وليست مفاهيم، عبارات وليست مدركات، وهم قد يصلحون أداة اتصال بيننا وبين المنطق الأمريكى، وذلك فقط لصالح هذا المنطق الذى لا يملك أداة أخرى، ولكن هؤلاء لا يستطيعون أن يعيشوا منطقنا وإدراكنا فى دينامياته وتطوراته المتعاقبة والمتتالية، فى عصر أضحى يتميز بالوثبات المتلاحقة.
إنهم يذكروننى بالمغنية " داليدا " التى كلما تحدثت قالت بأنها ولدت وعاشت شبابها فى شبرا، فهل هى اليوم قادرة علي أن تعيش فى شبرا، وتفهم أهل شبرا مرة أخرى؟ ولماذا نذهب بعيداً: هل من يدخل الجامعة الأمريكية فى القاهرة يشعر بأنه حقيقة فى القاهرة، وأن من بها يعيشون فى القاهرة؟ سؤال سوف نعود له مرة أخرى عندما نتعرض للوظيفة الحقيقية التى تتولاها الجامعة الأمريكية فى القاهرة، وكذلك جميع الجامعات الأمريكية فى مختلف أجزاء العالم (17).(1/30)
ولكن ليسمح لى القارئ أن أذكره بواقعة شخصية: إننى لا أزال أتذكر التعليقات التى سمعتها عندما قدر لى أن أجرى دراسة ميدانية فى إحدى قرى الصعيد لحساب المركز القومى للدراسات الاجتماعية فى القاهرة، كانت قد نزلت قبلى وفى نفس العزبة باحثة مصرية آتية من أمريكا، تعمل لحساب الجامعة الأمريكية، وعندما ذهبت لتلك العزبة كانت تحمل فى حقيبتها عدة أنابيب مطهرة " د. د. ت"، وقبل أن تجلس تناقش الفلاحة المصرية فى موضوع بحثها، تبدأ الباحثة المتفرنجة تفرغ إحدى الأنابيب من حولها وتطلب من الفلاحة أن تظل بعيدة عنها عدة أمتار، وويل لها إن اقتربت منها، وكم سمعت من تعليقات على ذلك من أهالى تلك القرية!.(1/31)
ثالثاً: وليسمح لى هؤلاء الأخوة أن أحدثهم بلغة صريحة: إن أغلبهم إن لم يكونوا جميعهم أدوات متقدمة للمخابرات الأمريكية يخضعون لتوجيهها بطريق أو بآخر، بل إن الكثير ممن درسوا فى تلك الجامعات وعادوا إلى مصر قد خضعوا لذلك التوجيه، لكن عودتهم إلى الأرض الوطن قد سمحت لهم ولو نسبياً باستعادة حريتهم وقدرتهم على عدم الخضوع المطلق، ولكن أولئك الذين يعيشون فى الأرض الأمريكية، يقعون تحت سيطرة العديد من تلك الأجهزة القادرة على أن تتغلغل فى جميع عناصر حياتهم، بل وفى بعض الأحيان فإن زوجاتهم الأمريكيات ليسوا إلا عملاء لتلك الأجهزة، هل يريدون أسماء؟ نحن على استعداد لأن نتحفهم بالكثير من النماذج، لا يعنى ذلك عدم الاستعانة بهؤلاء العلماء، ولكن يجب ألا نضعهم موضع الاختبار بالنسبة لمشاكلنا الأمنية التى لا بد وأن تفرض عليهم تمزقات عديدة، هم أنفسهم ليسوا راغبين فيها، علينا أن نساعدهم على ألا يوضعوا فى هذا المأزق، بأن نحجب عنهم التصريح بالمشاركة فى مثل تلك الأبحاث، ولتكن المبادرة من جانبنا بأن نغلق ذلك الباب الذى ليس لصالحنا، بل ولا من صالح هؤلاء العلماء أنفسهم أن يتورطوا فى متاهاته، وما يفرضه من مشاكل وما يخلقه من مخاطر، ولو كان ذلك فقط من قبيل الحيطة فإنه جدير بالاعتبار.
بطبيعة الحال أحدد مرة أخرى: أننى أقصد أولئك العلماء الذين لا يزالون يقيمون فى الولايات المتحدة من جانب وعندما يتعلق الأمر بجمع معلومات ترتبط بأمننا ثانياً، ولكن هذا لا يمنع من الاستعانة بهم فى خارج ذلك النطاق من جانب، ومن محاولة استعادتهم إلى الوطن الأم، التى لا تزال فى حاجة إلى خدماتهم وجهودهم من جانب آخر.
وهكذا نصل إلى النقطة الثالثة المتعلقة بالاستراتيجية الأمريكية الجديدة وموقع سياسة جمع المعلومات من هذه الاستراتيجية.(1/32)
مما لا شك فيه أن الحديث عن هذه الاستراتيجية الأمريكية الجديدة، موضوع معقد متشابك لا نستطيع أن نصفه فى كلمات محدودة، ولكن التعرض له فى نطاق علاقته السياسية بجمع المعلومات يصير ضرورة أساسية لفهم الموضوع الذى نتناوله بالتعليق، والوقائع، أن الحديث عن هذه الاستراتيجية بدأ يتردد فى صورة خافتة هامشية عقب الانسحاب من فيتنام، ليصير قوياً مدوياً فى أعقاب أزمة الرهائن، وليصير سياسة صريحة واضحة مع وصول ريجان إلى السلطة، على أنه يمتد فى حقيقته من حيث أصوله إلى فترة حكم كيندى عندما قدر لماكنمارا أن يتولى وزارة الدفاع وأن يجمع حوله طائفة من أكثر العقول الاستراتيجية حنكة، لوضع أصول التحرك الدولى من منطلق مصالح الإمبراطورية الأمريكية.
فنلقف إزاء تلك العناصر الأساسية المرتبطة بموضوعنا:
أولاً: اتساع مفهوم الأمن القومى الأمريكى.
ثانياً: الترابط بين منطقة الخليج العربى وجنوب شرق أوروبا.
ثالثاً: العودة إلى ما يسمى بنظرية الجبن والضعف.
رابعاً: مواجهة أى حركة ترمى إلى تغيير الوضع القائم فى دول العالم الثالث بالعنف والاستئصال.
هذا العنصر الأخير هو الذى يقودنا إلى سياسة المعلومات، على أن توضيح العناصر الثلاثة الأول يكمل هذا الإطار الكلى للإدراك الأمريكى.(1/33)
فأول هذه العناصر هو اتساع مفهوم الأمن القومى الأمريكى بشكل لافت للنظر، عندما ربطت الولايات المتحدة بين أمنها القومى ووجود إسرائيل، وُصِفَ ذلك فى حينه بأنه توسع مبالغ فيه، اليوم أصبح ينظر إلى أى تغير فى العالم على أنه تهديد للأمن القومى الأمريكى، لقد أضحت حماية المواد الأولية فى دولة كجنوب إفريقيا، الدولة العنصرية، التى تضرب عرض الحائط بجميع المفاهيهم والمثاليات التى تقوم عليها الأسرة الدولية، وهى أحد عناصر الأمن القومى الأمريكى، وقد ترتب على هذا التصور أن الولايات المتحدة تسيطر عليها قناعة واحدة: لم تعد المخاطر التى يتعين عليها أن تواجهها لتسمح لها بالاعتماد على الآخرين: لا حلفاء ولا دول تابعة يجب أن تخلق أدواتها الذاتية فى كل منطقة.
يرتبط بهذا تطور خطير فى مفهوم التعامل الاستراتيجى، أحد محاور الصدام المحتمل باسم منطقة القلب، وهى الممتدة من جنوب شرق أوروبا، حيث مواقع الحلف الأطلنطى حتى وسط المحيط الهندى، حيث جزيرة " ديجوجارسيا " التى تتمركز بها أكبر قاعدة أمريكية عرفها التاريخ حتى اليوم، ويتبع ذلك أن هذه المنطقة يجب أن تدخل فى دائرة الاستعداد، حيث المسرح الثانى لحرب فى مستوى الصدام فى وسط أوروبا مع احتمالات التدفق الروسى وحلف وارسو.(1/34)
هذا يقودنا إلى العنصر الرابع الذى يرتبط مباشرة بموضوع هذه الدراسة، والواقع أن هذا العنصر ينطلق من مقدمات معينه تدور حول أسلوب التعامل مع دول العالم الثالث، فأى حركة فى تلك الدول ترمى إلى تغيير الوضع القائم يجب أن تواجه بالعنف (18)، إنها نوع من الإرهاب الدولى، يقول هيج عندما كان مسؤولاً عن وزارة الخارجية بهذا الخصوص: إن مفهوم مقاومة الإرهاب (19) الدولى- وهو الاصطلاح الذى استخدم للتعبير فى العالم الثالث - يجب أن يحل فى اهتمامنا موضع مفهوم الدفاع عن حقوق الإنسان، وكذلك فإن مواجهة هذا الإرهاب الدولى يجب أن تتم من خلال استخدام القوة العسكرية، من العبث الحديث عن الإصلاح أو التقدم أو التجديد، الذى يعنى القيادات الأمريكية هو القدرة على الاستئصال الجسدى والعنصرى للقوى الثورية والقيادات الرافضة وهكذا فإن النظرة الأمريكية الجديدة واقعية وعنيفة فى واقعيتها، إنها لا تؤمن بفكرة الإصلاح ولا بكل ما يتصل بغزو القلوب، هى تكتفى بغزو القوى الثورية، واستئصالها بالأدوات العسكرية، أو ما فى حكمها، أما ما عدا ذلك فلا يعنيها، لأنه مضيعة للوقت والمال. ولكن ما هى أدوات تنفيذ تلك السياسة فى دول العالم الثالث؟
أدوات عديدة ليس هذا موضع التفصيل بخصوصها.
" ولكنها تنبع من مفهومين أساسيين الوقاية أولاً خير من العلاج، ومن ثم يجب ألا تنتظر حتى تتفجر الثورة أو حركات الرفض، بل يجب اقتطاعها مسبقاً، والثانى عندما يحدث التدخل فلندع جانباً مفهوم التدرج فى التدخل، وإنما يجب أن يكون هذا التدخل كثيفا صاعقاً.
بعبارة أخرى أول ما يجب أن تهتم به الإدارة الأمريكية هو عملية حصر حقيقية للقوى والقيادات القادرة أو الصالحة لأن تكون بؤرة رفض على قسط معين مهم من الفاعلية، وعندما تكتشف الإدارة ذلك عليها أن تلجأ إلى جميع الوسائل لاستئصال تلك القوى والقيادات.(1/35)
الترغيب والتطويع خطوة أولى وإن لم تفلح فالقبض والسجن خطوة ثانية، وإلا فالقتل والاسئصال الجسدى ".
وقد أرفق الكاتب صورة فوتغرافية من جريدة "لموند الدبلوماسى" الفرنسية
" Le Monde Deplomatique ".. عدد أبريل 1981:
"نشرت تقرير " ميتشيل كلار " الخبير فى التحليل السياسى، واحد ممن ساهموا فى وضع الاستراتيجية الأمريكية الجديدة التى بدأت من أول كارتر.. يعمل باحثا فى معهد دراسات التخطيط السياسى بواشنطن- صاحب المؤلف المشهور بعنوان " حرب بدون نهاية " الذى يؤكد فيه ضرورة أن تدخل الإدارة الأمريكية فى قناعتها استمرار التدخل فى العالم الثالث دون توقف.
فى هذا التقرير تحدث عن التخطيط الأمريكى لمواجهة حركات الرفض فى دول العالم الثالث، على أساس تغيير الاستراتيجية التى كان يتبعها كيندى، واتباع استراتيجية جديدة، مفادها ليس خلق القناعة بالتعاون مع الإدارة الأمريكية وإنما استئصال مفاصل القوة فى المجتمعات موضع الغزو من دول العالم الثالث ".
هذا ما يكتبه بصراحة " ميتشيل كلار " الخبير فى معهد التحليل السياسى بجامعة واشنطن، وهو ما يسمح لنا بأن نفهم الوظيفة التى تؤديها مراكز البحوث المنتشرة خلف مزاعم الأهداف والاعتبارات الأكاديمية، وهو أيضاً ما يوضح النوايا الحقيقية من عمليات جمع المعلومات الميدانية، يقول الكاتب المذكور بكلمات صريحة، ليست فى حاجة إلى تعليق: " ولتستطيع هذه السياسة أن تكون مجدية، فإن السياسة الأمريكية تفحص الملاحظة المستمرة لسلوك المواطنين من خلال ناقلى المعلومات للإدارة الأمريكية، وكذلك من خلال وضع نظام حديث للتصنت والمراقبة فضلا عن معالجة المعلومات ".
ترى هل قرأ علماؤنا تقرير هذا العالم؟ وهو أحد من ساهموا فى وضع هذه الاستراتيجية؟ هذا التقرير قد نشرته جريدة " لموند " الدبلوماسى فأقام الدنيا وأقعدها فى جميع أجزاء أوروبا، ولكن علماؤنا الأجلاء لا يزالون يغطون فى النوم.
فهل من مستمع؟! ".(1/36)
وتحت صورة لكتاب بالفرنسية عنوانه: غزو الأرواح "La Conquete des esprites" كتب حامد ربيع:
" أصدره الناشر اليسارى الفرنسى " ماسبرو " سنة 1982، وهو يحدد مصادر التصور الأمريكى لغزو العقول فى العالم المعاصر بما فى ذلك أوروبا، وكيف أن التفكير بدأ أثناء الحرب العالمية الثانية.
هذه الوثيقة خطورتها فى أنها تحدد مصادر غير معروفة وغير متداولة، عن كيفية دراسة وإعداد هذا المخطط منذ الحرب العالمية الثانية نفسها، ويقال: إن سبب مقتل فلترينلى الناشر الإيطالى اليسارى المشهور يرتبط بهذه الوثيقة ".
وتحت صورة لكتاب آخر بالإيطالية كتب حامد ربيع:
" سالمون أشهر فيلسوف ألمانى- تصدى للغزو الفكرى الثقافى الأمريكى لألمانيا من سنة 1951. الكتاب الأصلى باللغة الألمانية صادر سنة 1951، وتمت ترجمته إلى الإيطالية سنة 1954، الغريب أن تلميذه هو (خيمر) أستاذ علم النفس السياسى، ومن أشهر أطباء علم النفس فى جامعة برلين اختفى فى الستينات ولا نعرف عنه شيئا ".
المقالة الثالثة
تحت هذا العنوان كتب حامد ربيع:
لا بد وأن القارئ قد طرح على نفسه هذا التساؤل: هل هذه الملاحظات التى يدفع بها الكاتب، تخفى عداوة حقيقية وعميقة للسياسة الأمريكية؟ وإذ يطرح هذا الاستفهام فإن مجموعة أخرى من الأسئلة سوف تفرض نفسها: هل هذا الكاتب يسارى مؤمن بالتعاون الشيوعى؟ أليس من أولئك الذى يٌسبِحون بحمد موسكو؟ أليس ناصرياً منتمياً إلى حزب التجمع؟
نعم لقد تعودنا خلال ثلاثين عاماً من الاضطراب الفكرى، ألا نواجه مشاكلنا إلا بسطحية مطلقة، فمن انتقد السياسة الأمريكية لا يمكن أن يكون إلا عدوا لها، ومن كان غير متفق مع واشنطن فهو مؤمن بموسكو، ومتعاون من أذنابها فى الشرق الأوسط والناصرية هى موقف سياسى، لا يمكن إلا أن يعبر عن تحالف يسارى، وهكذا تفاهات وأحكام، تذكرنا بما يصنعه علماء النفس بخصائص المراهقة الفكرية.(1/37)
لا نريد أن نفتح أبواباً تقودنا إلى موضوع آخر جانبى، ولكن الذى نود أن نؤكده منذ البداية أن هذه الانتقادات لهذا الذى يوصف بالأبحاث الميدانية، التى انتشرت فى مصر خلال الأعوام الأخيرة وتغلغلت فى كل مكان، بحيث وجدنا ممثليها يجلسون فى أدق أجزاء الجسد المصرى حساسية، وبحيث أضحى كل مصرى يتهالك على إرضاء هؤلاء السادة الجدد، ليس مردها سوى أمر واحد، خوفنا على مستقبل أمتنا، وحرصنا على حماية هذه الأرض التى يجب أن نسلمها لأبنائنا أكثر قوة وليس أكثر ضعفاً، نحن لا نؤمن إلا بعروبتنا ولا نثق إلا فى أمنا المصرية، وكل من خان أو خرج على مقتضى هذه المفاهيم لابد وأن نحاربه ونعرى خسته ودناءته.
فلنترك جانباً مؤقتاً تلك الفئة من المنتفعين والمتسلقين، التى ملأت مصر بل والعالم العربى خلال الأعوام الأخيرة ولنقصر حديثنا على من يتولى تخطيط السياسة الأمريكية، ويضع قواعد وأصول محركها فى أرضنا المصرية.
هل يعتقد هؤلاء السادة حقاً أنهم بهذه السياسة التى ينتهجونها فى مصر، سوف يخلقون لهم أصدقاء فى مصر؟ هل يعتقدون أن هؤلاء الذى جعلوا منهم أدواتهم فى خلق بؤر النفوذ فى مصر، هم وجه مصر الحقيقى، وهم الذين سوف يخلقون لهم مسالك المساندة من منطلق القناعة بوحدة المصالح ووحدة الأهداف؟(1/38)
لم أفهم يوم من الأيام كلمات ديجول عام 1958 عقب الأزمة المعروفة فى فرنسا والتى قادته إلى الحكم، وإلا وأنا أشاهد ما يحدث فى مصر اليوم، ولم أفهم معنى ما يقوله كيسنجر عن قيادات أمة إلا عندما أفكر فى السياسة الأمريكية فى منطقة الشرق الأوسط، ولم أدرك لماذا عندما نجتمع فى الأكاديمية الدبلوماسية فى باريس لا نستمع إلا هجوماً واحتقاراً للسياسة الأمريكية إلا وأنا بسبيل تقييم تلك السياسة فى مصر على ضوء خبرة الأعوام الخمسة الماضية، ولماذا هذا التساؤل وهذا الاستفهام: أين نجحت السياسة الأمريكية؟ هى تحارب متراجعة فى أوروبا الغربية، وهى تفقد مواقعها فى أمريكا اللاتينية وهى متهالكة فى إفريقيا السوداء، وهى تتلقى الصفعات الواحدة تلو الأخرى فى جنوب شرق آسيا، وهى سوف تتعلم دروساً قاسية فى بداية القرن القادم من طوكيو وبكين، وهى إذا كانت قد نجحت حتى الآن فى بعض أجزاء منطقة الشرق الأوسط، فليس ذلك سوى نتيجة لضعف الإرادة الذاتية فى المنطقة من جانب، ولوجود أداة أخرى لا مثيل لها فى أى منطقة أخرى وهى إسرائيل، رغم ذلك فهل هذا النجاح مطلق؟
إن المأساة الحقيقية التى وضعت فيها السياسة الأمريكية خلال الأعوام العشرة الأخيرة، إنها تريد أن تحقق سياسات متعددة، كل منها تملك منطقها وخصائصها وإطارها الحركى وهى من ثم تتناسى أن أيا من هذه السياسات تتعارض بل وتتناقض مع السياسات الأخرى، ومن ثم المأساة التى لا بد أن تفرض نفسها فى لحظة معينة، والواقع أن واشنطن لم تع بعد اللطمة التى صفعتها إيران، وهى على ما يبدو تسعى جاهدة لتقبل لطمات أخرى: تركيا آتية لاريب فيه، ومصر قد تكون بطيئة فى تحركها متأنية فى قرارها الجماعى، ولكنها عندما تهب فهى كالبحر الهائج إذا بأمواجة ترتفع لتناطح قمم الجبال، فهم هذه الحقيقة هو المنطلق الأساسى لفهم سياسة جمع المعلومات، والتخبط الذى تقع فيه الإدارة الأمريكية بهذا الخصوص.(1/39)
الولايات المتحدة تتبع فى المنطقة بصفة عامة وفى مصر بصفة خاصة سياسات أربع كل منها تملك منطقها الذاتى وخصائصها الحركية:
أولاً: سياسة الأمن القومى.
ثانياً: سياسة المساندة الإقليمية.
ثالثا: سياسة تحزيم مصر، وتصفية الوطن العربى، من قيادته التاريخية وإرادته الذاتية.
رابعاً: سياسة الاستعمار الجديد.
سياسات أربع، قد تتفق إحداها مع الأخرى، ولكنها فى مجموعها لا يمكن أن تتوافق إنها متناقضة وواشنطن لم تقتصر على أن تطبق السياسات الأربع فى آن واحد، بل إنها لم تحاول حتى هذه اللحظة أن تضع تلك الأولويات التى كان يجب على سياسة كبرى أن تكون واعية بأهميتها، كأحد المنطلقات الأساسية لبناء خطة للتعامل ولإدارة الصراع، ومن هنا المأساة الحقيقية التى تذكرنا بمأساة أخرى، وقعت فيها أيضاً السياسة البريطانية فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، ولكن بصورة أقل خطورة، رغم ذلك وهنا لا بد أن نطرح علامات التعجب، لم تعرف السياسة الأمريكية كيف تنتفع بتلك الأخطاء، ترى هل يتعين علينا أن نعيد ونردد ما يقوله كيسنجر بأنها سياسة ساذجة مراهقة؟
أول هذه السياسات ما يسمى بسياسة الأمن القومى، ومعنى تلك السياسة أن هناك قواعد جامدة ومطلقة لا تقبل المناقشة، بصدد حماية الحدود القومية، فى أصولها التاريخية، هذه السياسة التى اتبعتها كل من فرنسا وبريطانيا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، تعنى أن حدوث أمر معين على حدودها المباشرة، يعنى ضرورة القتال بلا أى مقدمات، فبريطانيا على سبيل المثال جرت على مبدأ أن سقوط أوروبا القارة فى يد قيادة واحدة، يعنى الصدام والنزال العسكرى، نابليون ثم هتلر ليس كلاهما سوى تعبير عن مبدأ واحد، ولكن الولايات المتحدة الدولة العظمى توسع المفهوم لتجعل من وجود إسرائيل وبقائها أحد عناصر أمنها القومى.(1/40)
ولكنها منذ حرب 1967 طورت المفهوم، فجعلت أساسه التفوق العسكرى الساحق للأداة العسكرية الإسرائيلية، على جميع القوى المقاتلة العربية، مثل هذا المبدأ وبغض النظر عن مخالفته لجميع التقاليد الفكرية، يعنى إلغاء لأى معنى من معانى الأمن القومى لأى دولة عربية، وعلى وجه التحديد مصر، التى تقع على حدود إسرائيل الجنوبية والتى يصير بالنسبة لها وبصفة خاصة بحكم تقاليدها الأمنية وخصائص شبه جزيرة سيناء عملية الحماية الذاتية إزاء التفوق العسكرى الإسرائيلى مسألة حياة أو موت، فلنترك جانباً حديث الأخلاق، ولكن علينا أن نتساءل: كيف توفق السياسة الأمريكية بين سياسة أمن قومى بهذا المعنى، وسياسة أخرى لا تحمل بذور العداوة القاتلة مع الدول العربية وبصفة خاصة مع المجاورة لإسرائيل، وبصفة أكثر تحديداً مصر؟ كيف التوفيق بين هذه السياسة، وما يسمى بالإجماع الاستراتيجى لدول منطقة الشرق الأوسط.(1/41)
ومن هنا تبدو حقيقة التناقض مع سياسة المساندة الإقليمية، التى بدأ الحديث عنها واضحاً وصريحاً مع الرئيس السابق " كارتر" والتى تتردد اليوم على ألسنة المسؤولين باسم الإجماع الاستراتيجى (اتفاقيات كامب ديفيد) نفسها هى مقدمة لهذه السياسة خلاصة سياسة المساندة الإقليمية، تحويل المنطقة الممتدة من الخليج العربى حتى البحر الأحمر بجميع شواطئه، بما فى ذلك الجزء الشرقى من حوض البحر المتوسط، كتلة متراصة كأحد مناطق المواجهة (20) المحتملة مع الاتحاد السوفيتى، وسواء كان ذلك فى صورة دفاعية لمواجهة أى محاولة لإكمال الكماشة التى تحصر المنطقة، ما بين أفغانستان شرقا والحبشة غرباً وسوريا شمالأ أو كان فى صورة هجومية، بمعنى خلق نتواءت ومواقع للتوتر والقلاقل فى جنوب الاتحاد السوفيتى، حول المناطق الإسلامية أو الأقليات القومية، فإن المحور هو تحويل هذه المنطقة إلى نوع من الغطاء العسكرى للقوى الأمريكية، التى توصف عامة بقوات الانتشار السريع، مثل هذا التصور يعنى تحويل المنطقة إلى قاعدة متماسكة، تتميز بخصائص ثلاث:
أولاً: القناعة القيادية بالتعاون مع الإدارة الأمريكية.
ثانياً: القدرة والفاعلية على التحكم فى المنطقة، إزاء أى محاولات لخلق القلاقل أو الاضطرابات المحلية.
ثالثا: خلق المرافق المشتركة المتماسكة والمتفاعلة، التى تسمح بتطوير التعامل وقت الضرورة فى إطار موحد إقليمى، من حيث السيولة فى التنقل والاستمرارية فى التدفق. مثل هذه السياسة التى لبنتها الحقيقية التعاون الإقليمى المتكامل، وخلق المرافق المتماسكة والمتناسقة أيضاً إقليمياً، لا يمكن أن تتجانس مع تلك السياسة الأخرى، التى سبق ورأيناها حيث تصير إسرائيل كدولة مسيطرة على المنطقة، أحد عناصر الأمن القومى الأمريكى، إن إسرائيل دولة غير متجانسة مع دول المنطقة، وهى خالقة لمشاكل محلية وإقليمية وهى ذات أطماع توسعية، فكيف يمكن التوفيق بين هاتين السياستين؟(1/42)
ثم تأتى السياسة الثالثة والتى قد تبدو لأول وهلة متجانسة مع كلا السياستين الأولى والثانية، فتحزيم مصر وتفريغ المنطقة من قيادتها التاريخية، يحقق أهداف السياسة الإسرائيلية، ومن ثم سياسة الأمن القومى الأمريكى من جانب، وهو يمكن السياسة الأمريكية من جانب آخر من تدعيم الإجماع الاستراتيجى، حيث لا تستطيع مصر أن تقف عقبة ضد تحويل المنطقة إلى حزام أمن للمصالح الأمريكية، ليس من صالح سياسة المساندة أن توجد مصر القوية القادرة على أن تكتل خلفها دول المنطقة، هنا تبدو بصورة واضحة عدم قدرة السياسة الأمريكية على التعلم من أخطائها، فهى إذا كانت قد نجحت نجاحاً نسبياً فى أوروبا الغربية، فى خلق إطار من التعاون العسكرى، فلأن هذا كانت لحماية القناعة الشعبية، والإرادة القومية والرفاهية الاقتصادية، فى ظل نظام سياسى مُكَّن من تحقيق ذلك، ولو بدرجات متفاوته، ترى لو أن ألمانيا الغربية كانت تعيش اليوم فى الفقر أو تعانى أزمات بولندة، أكان من الممكن الحديث عن معسكر غربى؟ واشنطن إذا كانت قد فشلت فى فيتنام فلأن المجتمع السياسى لم يشارك، ويؤمن بالمصير المشترك مع الدبلوماسية الأمريكية، فهل تريد الولايات المتحدة أن تكرر فى المنطقة العربية مأساتها فى فيتنام؟ أو هى تعتقد أن شعب فيتنام أكثر قدرة على التحدى من الشعب المصرى؟ وهل هى تجمع المعلومات لتطمئن نفسها على صحة هذا الافتراض؟ مرة أخرى نلحظ بمنطق العالم المحايد، الذى يبحث عن الحقيقة المجردة دون أى اعتبار آخر كم هى القيادة الأمريكية على قسط من السذاجة والسطحية ؟ ترى هل اطلع حكماء البنتاجون على مؤلف وصفه أحد من ارتبط بالسياسة الخارجية الأمريكية فى لحظة معينة، العالم الأشهر " لينجيل " الأستاذ بجامعة نيويورك، والذى طبع بواشنطن عام 1957 وعقب أزمة السويس المعروفة، وموقف "أيزنهاور" الذى أثبت وعياً نادراً فى تاريخ الولايات المتحدة بعنوان: " دور مصر فى المشاكل العالمية "(1/43)
وهل قرأ هؤلاء ما كتبه العالم المذكور فى الصفحة الأولى: " القوى العظمى فرض عليها أن تخضع لعملية جذب ساحقة نحو ضفاف النيل، وتلك القوى التى عرفت كيف تشق طريقها برزت كقوى دولية، بينما تلك التى فشلت لتبنى مسالك تعاملها مع أرض دلتا النيل الخضراء قضى عليها بالفناء إن هذا هو الدرس الكبير الذى سطره التاريخ منذ أيام الإسكندر الأكبر حتى عصر القيادة الجماعية فى روسيا السوفيتية ". ولكن بقى السؤال: كيف تستطيع القيادة الأمريكية أن تخلق ذلك الجذب الذى سمح لها بأن تؤسس سياسة أساسها التعاون مع الإرادة المصرية؟ هنا تقع الولايات المتحدة فى أكبر خطأ ارتكبته فى. تاريخها القصير، كقوة عظمى عندما تصورت أنها تستطيع أن تلجأ إلى سياسة الاستعمار الجديد لتحقيق هذا الهدف.
ترى هل نعايش قصة الفشل السوفيتى فى المنطقة فى فصل آخر أكثر قسوة وأشد غباء؟ وهكذا نصل إلى السياسة الرابعة التى تطبقها الولايات المتحدة فى تعاملها مع مصر: سياسة الاستعمار الجديد.
فالولايات المتحدة ومنذ مجىء ريجان إلى الحكم تسير فى سياسة صريحة أساسها السعى نحو تحقيق السيطرة الكاملة على العالم، أو على الأقل لإحكام قبضتها على ما هو خارج دائرة النفوذ السوفيتى، وهى لا تقتصر على أن تسعى لمد نفوذها فى جميع أنحاء العالم، وهى تعلم مدى أهمية دول العالم الثالث، بهذا الخصوص بل وكذلك تخطط بحيث تفرض على الاتحاد السوفيتى أن ينزل إلى مرتبة الدولة الثانية فى سلم التصاعد الدولى، هل سوف تنجح؟ أم مصيرها الفشل؟ سؤال آخر لا يعنينا، ولكن الذى يجب أن تقف إزاءه بشىء من التأمل، هو تطبيق سياسة الاستعمار الجديد مع المنطقة العربية بصفة عامة ومع مصر بصفة خاصة.(1/44)
سياسة الاستعمار الجديد تعنى سياسة خلق التبعية وفرض الهيمنة المعنوية على الشعوب موضوع المناقشة، هذه السياسة ليست مقصورة على الولايات المتحدة، بل تتبعها جميع القوى الكبرى بأساليب ووسائل متباينة، تبعاً لقوة وأهداف كل من القوى العظمى، ولكن الخطوط العامة لهذه السياسة تسمح بفهم جوهر وأساليب التعامل الدولى مع المنطقة العربية.
نستطيع أن نميز فى أساليب التعامل الدولى مع المنطقة العربية، لتحطيم الإرادة الذاتية ومنع المنطقة من التماسك ثلاثة أنواع من الأساليب، كل من هذه الأساليب يتجه إلى مستويات معينة من مستويات التفتيت فى الجسد العربى، أول هذه المستويات وأكثرها خطورة هو المستوى الإقليمى تقاليده تعود إلى فترة الاستعمار الأوربى، وبصفة خاصة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ثم تأتى مجموعة أخرى نستطيع أن نسميها بأساليب التعامل الداخلى، تبرز واضحة فى بداية القرن العشرين، وتظل تتسع وتنتشر من حيث فاعليتها، لتصير فى عالمنا المعاصر المحور الحقيقى للتعامل مع المنطقة، وتأتى مجموعة ثالثة لتكمل هذه المجموعة الأخيرة، ولتسيطر خلال الأعوام العشرة الأخيرة على منطق التعامل مع المنطقة وهى الأدوات الدولية.
فلنتابع هذه الأدوات بشىء من الإنجاز.
أول هذه الأدوات تنبع من الواقع الإقليمى، فهم أسلوب التطويع للإرادة العربية، بما فى ذلك الإرادة المصرية، لا يمكن أن يكون واضحاً إذ لم يتم رصد لجميع هذه الأدوات فى إطار واحد، وتحديد حقيقة العلاقة المتداخلة بينها:
أولاً: إنشاء إسرائيل وتدعيم توسيع دائرة نفوذها.
ثانياً: اتباع سياسة شد الأطراف.
ثالثاً: خلق حالة شلل فى وظيفة مصر الإقليمية.
رابعا: إذابة القومية العربية فى المفهوم الإسلامى.
خامساً: خلق دولة البربر الكبرى.(1/45)
الأداة الأولى: بدأ التفكير فيها منذ الربع الثانى من القرن التاسع عشر خلال حكم" بالمرستون ". تأجيل ذلك كان طبيعياً عقب أن احتلت بريطانيا منطقة وادى النيل، خروج بريطانيا من مصر كان إيذاناً بالعودة إلى التفكير الجدى فى المشروع، بل وفى تنفيذه، وما كان يمكن لساسة واشنطون إلا أن يستغلوا هذه الأداة الثمينة، فإسرائيل أداة لتهديد أى قوى عربية فى منطقة القلب، وهى قد جزأت، بل وفصمت الجسد العربى، وهى قادرة على أن تحدث المزيد من الاضطرابات ليس فقط فى المنطقة المحيطة بها، بل وفى جميع أجزاء الوطن العربى.(1/46)
إن المتتبع لتطور مفهوم الأمن الإسرائيلى، وبصفة خاصة كما يتصوره المنظرون الصهيونيون لوظيفة إسرائيل، خلال الأعوام القادمة، لا بد وأن يصيبه الذهول من كيفية تصور قياداتها لأن يمتد هذا المفهوم ويتسع، بحيث يحتضن من جانب القسم الغربى من المحيط الهندى ومن جانب آخر جميع أجزاء شمال إفريقيا وحتى المحيط الأطلسى، يجب أن ينظر إلى الوجود الصهيونى على أنه مرحلة من مراحل التدخل الأجنبى فى المنطقة، ومنذ بداية الحروب الصليبية، بدأ شد الأطراف يأتى فيكمل وظيفة إسرائيل، فإذا كانت هذه تشل القلب فإن القوى الجاذبة الجانبية تشد القوى المتواجدة خارج دائرة القلب، وهكذا تمنع المساندة، ولعل الحرب العراقية الإيرانية فى أقصى الشرق، وحرب الصحراء فى أقصى المغرب واحتمالات الصدام فى جنوب السودان، نماذج واضحة لتأكيد هذا المفهوم، خلق حالة الشلل فى وظيفة مصر الإقليمية أداة أخرى، تعود إلى بداية القرن التاسع عشر على الأقل. الانكفاء الداخلى فى مصر عقب الاستعمار البريطانى هو أكبر صفعة أصابت التطور القومى العربى فى العصور الحديثة إذابة العروبة فى مفهوم أكثر اتساعا يسمح بإفقاد المفهوم الفاعلية الحقيقية، يبرز خلال الأعوام الأخيرة فى صورة واضحة لا تسمح بالتردد فى فهم حقيقة الأهداف الكامنة من السياسة الأمريكية، خلف تشجيع بعض الحركات الإسلامية، مستغلة فى هذا السذاجة التى ينطوى عليها الكثير من القيادات التى تسيطر على تحرك الجماهير من هذا المنطلق الدينى. خلق دولة البربر الكبرى يبدو مفهوما ليس جديدا، ولكن السياسة الأمريكية تتبناه اليوم فى ظل إطار مختلف من التعامل ولكن لتحقيق نفس الأهداف.
الأدوات الداخلية ليست أقل خطورة، ورغم أنها تعود إلى عصور طويلة من المعاناة حيث استغلت القوى الأجنبية نواحى الضعف فى الجسد العربى، إلا أنها لم تتكامل فى إطار واحد متماسك، إلا مع نظرية الاستعمار الجديد .(1/47)
إن العودة إلى سياسة الخلفاء العباسيين مع أهل الذمة وبصفة خاصة منذ فترة حكم الخليفة المتوكل العباسى، يلحظ كيف تحول سياسة التسامح فى فترة معينة إلى نوع من التعصب كنتيجة لخيانة وقعت من هؤلاء لصالح الدولة البيزنطية، والواقع أن إضعاف الخصم من الداخل ليس أسلوباً جديداً. نظرية الاستعمار الجديد، اكتملت عناصر هذا التصور لتقدم لنا نظرية متكاملة فى أساليب تفتيت الإرادة القومية.
العناصر عديدة:
أولاً: تشجيع الشعوبية.
ثانياً: تدعيم مفهوم الولاء الطائفى.
ثالثا: مساندة الزعامات الضعيفة، المهلهلة ودفعها إلى مواقع السلطة.
رابعا: خلق طبقات منتفعة طفيلية.
خامساً: استخدام جميع أساليب التسميم السياسى.
مجموعة هذه العناصر تقود إلى نتيجتين متكاملتين: أولهما: الفوز بالتبعية نحو الإرادة الغازية. وثانيها: الابتعاد عن التكامل، بالنسبة للإرادة القومية: النماذج التى تعيشها المنطقة العربية بهذا المعنى عديدة لا حصر لها، بل ويمكن القول أن جميع أجزاء المنطقة وبدرجات مختلفة، قد وقعت فى هذا الفخ. ليست مصر وحدها، ولا منصقة الخليج العربى فقط، بل حتى الدول التى تزعم بأنها تمثل الخط اليسارى المتقدم فى المنطقة، وتركت نفسها بلا وعى تسقط فى هذا الفخ، وتصير أسيرة لهذا التطور، بما فى ذلك كل من العراق وسوريا.
الأدوات الدولية تكمل هذا الإطار العام من الصراع ضد تكامل الإرادة العربية ورغم أن هذه الأدوات، لم تبرز بعد واضحة من حيث آثارها إلا أنها حية ملموسة، لكل من يتابع حقائق التعامل الدولى:
أولاً: نشر الكراهية ضد العالم العربى أوالإسلامى بل وتشويه الإسلام،.
ثانياً: تدعيم الترابط الدولى ضد المصالح العربية [ولصالح العدوان الإسرائيلى].
ثالثا: تفجير منظمة الأوبك.(1/48)
مما لا شك فيه أن بعض هذه الأدوات لا تتجة فقط إلى التماسك العربى، بل إنها تعنى أيضاً دول العالم الثالث، ولكن النتيجة دائماً واحدة، وقد يبدو للبعض أن هذه الأدوات بعيدة عن التأثير فى الواقع المصرى، سذاجة أخرى، فالأداة الأولى قادت إلى حملة عنيفة من جانب الشعوب السوداء ضد الدول العربية البترولية، بدعوى أن ارتفاع سعر البترول قد قاد إلى إفلاسها، وهذا غير صحيح؟ لأن تطور سعر البترول أقل من أى سلعة أخرى فى النطاق الدولى، بل والأشهر الأخيرة تحدثنا عن احتمالات انخفاض هذا السعر إلى حد لم يسبق له مثيل، فى وقت ترتفع فيه جميع الأسعار حتى سعر " الطين " كذلك فإن تدعيم الترابط الدولى ضد المصالح العربية ظهر واضحا فى جولات الحوار العربى الأوربى، ولا تزال نتساءل: كيف يمكن أن نتصور المنطقة العربية وهى تنتج أكثر من 60% من البترول الخام الدولى، وهى فى مجموعها تستورد قرابة نصف البترول المكرر الذى يحتاجة السوق العربى؟ أما عن تفجير منظمة الأوبك فهى ظاهرة ليست موضوع تعليق تعاصرها لحظة كتابة هذه الأسطر، وقد سبق وأن نبهنا الأذهان إلى احتمالات منذ أكثر من عشرة أعوام، هذه الأدوات المختلفة تكوّن نسيجاً متكاملاً من التعامل: وهى تطرح مجموعة تساؤلات:
أولاً: كيف أن هذه السياسات الأربع تتضمن مجموعة من التناقضات، حيث لا يمكن إلا أن تقود إلى الفشل الذريع، إنها سوف تنتهى بأن تلغى إحداها الأخرى، وهنا تلعب إسرائيل دوراً خطيرا، ليس فى صالح الولايات المتحدة، وعلى واشنطن أن تتنبه له بوعى حقيقى.
ثانياً: وكيف أن سياسة جمع المعلومات تخدم هذه السياسات الأربع من جانب، وكيف أن سياسة جمع المعلومات من جانب آخر تعكس بدورها نفس التناقضات التى تسيطر على السياسة الأمريكية.(1/49)
ثالثاً: ويصير منطقياً عقب ذلك، أن نطرح السؤال الأخير: أين مسئولية علمائنا الذى اندفعوا بلا وعى فى هذه العملية؟ وأين مسؤولية أجهزة الأمن المصرية وكيف يجب أن تؤدى واجبها؟
والحديث ذو شجون ".
المقالة الرابعة
تحت هذا العنوان كتب حامد ربيع:
"السياسة الأمريكية فى منطقة الشرق الأوسط سوف تنتهى بالفشل الذريع، إنها تسير فى طريق محفوف بالأخطار، لا يجوز أن يغرينا بريق القوة ورونق الرفاهية، جوهر السلوك الأمريكى هو عدم الفاعلية، ومنطق التحرك هو عدم القدرة، مجموعة الأخطاء المتراكمة منذ ثلاثين عاماً تعلن بصراحة عن أن جبابرة المال لا يفهمون فن التعامل مع الشعوب، ولعله من سوء حظ الإنسانية أن العالم المعاصر يتقاسم مصيره رعاة البقر من جانب، وصنْوه البرابرة المغول من جانب آخر، وحدثى يا نفسى ولا تحزنى، وليس علينا سوى أن نختار بين شهاب الدين وأخيه.
ولكن لنقصر حديثنا على السياسة الأمريكية.(1/50)
سياسة واشنطن ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ليس إلا مجموعة متراكمة من الأخطاء، والأمريكيون لم يتعلموا من أخطائهم، فجمال عبد الناصر لم يتجه إلى المعسكر الشيوعى فى صفقة السلاح المشهورة إلا نتيجة لقصر نظر " فوستر دالاس "، والسادات لم يرتكب الخطأ القاتل، عندما وضع معارضة مصر كاملة فى السجون، إلا عندما عاد وقد فقد توازنه إزاء موقف التصلب، والتعنت للرئيس ريجان حتى إن جريدة لموند الفرنسية خرجت تتساءل: من هو القاتل الحقيقى لرجل الدولة المصرى؟ ولماذا نذهب بعيداً ؟ فلنسمع إلى العالم الأمريكى " إيفلاند " يكتب بهذا الشأن فى مؤلف يحمل عنواناً له دلالة: " الفشل الأمريكى فى منطقة الشرق الأوسط " فيعلن: " الآن وفى نهاية عام 1979 فمختلف عناصر التواجد الأمريكى فى منطقة الشرق الأوسط، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لا تزال تخلق فينا الرعب وتهدد آمالنا فى السلام، واستقرار أوضاعنا الاقتصادية القوية ويبدو أننا لم نتعلم إلا قليلأ من أخطائنا" ومن هو " إيفلاند " كاتب هذه الصفحات؟ إنه مستشار وكالة المخابرات الأمريكية أولاً، وعضو هيئة التخطيط السياسى بالبيت الأبيض ثانياً، وكم كنت أتمنى على المسؤولين فى القيادة الأمريكية أن
يقرؤوا بعناية وتأمل، مجموعة الأخطاء التى وقعت فيها الدبلوماسية الأمريكية، والتى جمعها الكاتب المذكور فى نهاية مؤلفة فى عشرين صفحة كاملة، ولكن هل تغير الوضع حالياً وعقب وصول ما يسمى بالاتجاه المحافظ الجديد إلى السلطة؟ كلا، بل إن الدبلوماسية الأمريكية تسير فى سياسة أكثر خطورة؟ لأنها تتناسى جميع حقائق منطقة الشرق الأوسط، التى فرضتها الأحداث الأخيرة، والتطورات الاستراتيجية التى يعشيها العالم بصفة كاملة خلال الأعوام العشرة الأخيرة.(1/51)
السياسة الأمريكية تتميز أساساً بالاضطراب والتناقض وعدم القدرة على فهم حتى مصالحها الحقيقية، وسياسة جمع المعلومات ليس سوى إحدى الأدوات المساندة لاستراتيجية التحرك، وعندما كانت تلك الاستراتيجية غير واضحة أو مضطربة، فلا بد وأن يعكس ذلك اضطراباً مماثلاً فى سياسة جمع المعلومات، مما لا شك فيه إننى كمصرى مؤمن بعروبته أولاً، وبانتمائه المصرى ثانياً، لا يعنينى من السياسة الأمريكية النجاح أو الفشل فى قليل أو كثير، بل إننى أخفى سعادتى فى أن أرى الفشل يزداد تضخماً ولكن عندما يكون ذلك الفشل مدعاة لخلق الاضطراب فى المنطقة ولفرض حالة من الفوضى على قيادتها والتسيب، بل والتحلل الداخلى، فلا بد من أن أرفع صوتى محذرا تلك القيادات التى تذكرنى بالدب، الذى قتل صاحبه بدعوى إبعاد الذباب عن وجهه، والواقع أن قيادات واشنطن وهنا تبدو المفارقة العجيبة، لا تريد أن تستوعب كيف اكتشفت القيادات الأوروبية الأخطاء التى وقعت فيها السياسة الغربية، خلال الأعوام اللاحقة للحرب العالمية الثانية، ولا تريد أن تتعلم من أولئك الذين قدموا لها التراث التاريخى، للتعامل مع المنطقة العربية، أقصد قادة لندن وباريس خبرتهم التى دفعوا ولا يزالوا يدفعوا ثمنها غالياً.
فلنتابع هذه المقدمات بإيجاز، وفى حدود وإطار موضوع هذه الملاحظات: السياسة الأمريكية فى مصر منذ اتفاقيات كامب ديفيد، وبصفة خاصة فيما يتعلق بسياسة جمع المعلومات.(1/52)
أ- فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، سادت قناعة أوربية، أنه لم يعد هناك ما يعنى أوروبا الغربية فى دول العالم الثالث، لقد خرجت الحضارة البيضاء التقليدية مهزومة مدحورة، وانتقلت محاور القوى العظمى إلى خارج البحر المتوسط بين موسكو وواشنطن، لم يعد يعنى القيادات الأوربية ما يحدث فى جميع دول العالم الملون، وبلا استثناء. على أوروبا أن تعيد بناء منزلها الداخلى، ومعنى ذلك أن تنطوى على نفسها وأن تنسى جانبا كل ما يقع خارج حدودها الطبيعية، وهكذا اتخذت القيادات الأوربية مجموعة من القرارت وعقب نوع من الشروط:
أولاً: فض اليد من مصير الدول المستعمرة، أى التى كانت تخضع لنفوذها، ومن ثم التخلى عن مسؤوليتها إزاء تلك الشعوب التى ظلت تحاكى الحضارة البيضاء، باسم التفوق الحضارى لفترات قد تختلف من الامتداد الزمنى ولكنها تتفق من حيث الأهمية.
ثانياً: وفى هذا الإطار يفهم القرار البريطانى بإلغاء التواجد العسكرى الإنجليزى شرق قناة السويس، بما فى ذلك الانسحاب الكلى والشامل من منطقة الخليج العربى بجميع أجزائها [ ولكنها عادت الآن 1997 ].
ثالثا: عدم الانغماس فى مشاكل العالم العربى، أليس هذا العالم بدوره جزء من دول العالم الثالث؟ فلماذا التورط فى وحل تلك المنطقة، فيما هو أبعد من التعامل التجارى المعتاد؟ عليها أى الدول العربية أن تحل مشاكلها بنفسها وبقدراتها الذاتية.
رابعا: المساندة للدولة الإسرائيلية لأن هذا رغم أنها تنتمى عضوياً ومن حيث التواجد المكانى إلى دول العالم الثالث، إلا أنها حيث التكوين والحضارة هى امتداد العالم الغربى الأوروبى الكاثوليكى.
ربع قرن أثبت مجموعة الأخطاء التى وقعت فيها القيادات الأوربية، وكان عليها أن تدفع ثمنها. كم تحسّرت لندن عقب ذلك؟ وهى تسعى مرة أخرى فى محاولة يائسة لوضع أقدامها مرة ثانية فى منطقة الخليج (21) ولكن دون جدوى.(1/53)
"ديغول" لمس تلك الأخطاء بحسه التاريخى، ولكن قبله أعلن ذلك بوضوح "هنرى سباك " فى خطابه المشهور، إلى الرئيس " كيندى" الذى به استقال من مسؤولية حلف الأطلنطى، ذلك أن العالم العربى رغم أنه قد ينتمى إلى العالم الثالث، وإلى الشعوب الملونة إلا أنه جزء لا يتجزأ من دائرة الأمن الاستراتيجى لدول أوروبا الغربية، إن هذه المنطقة أى غرب أوروبا، لا تستطيع الدفاع عن نفسها إن لم تضمن الحدود الجنوبية لحوض البحر المتوسط، وهكذا عادت المفاهيم الاستراتيجية التى صاغها قياصرة روما مرة جديدة إلى الحياة، ولكن واشنطن لا تزال مصرة على عدم فهم هذه الحقيقة، أو على الأقل على التظاهر بعدم فهم هذه الحقيقة، وما تفرضة من التزامات وما تعنيه من نتائج.
ب- السياسة الأمريكية كانت ولا تزال تتميز أساساً بخصائص ثلاث فى كل ما له صلة بالتعامل مع منطقة الشرق الأوسط:
أولاً: التناقض.
ثانياً: الاضطراب وعدم وضوح الرؤية.
ثالثا: عدم فهم حقيقة إطار التحرك.(1/54)
الصفة الأولى: تعنى اتباع مبادئ لا تقبل التجانس فيما بينها، مبادئ كل منها يلغى الآخر أو يجعل الآخر مستحيل التطبيق، يكفى أن نتذكر أن السياسة الأمريكية تقوم حالياً على أساس المساندة الكلية، والكاملة للملكة العربية السعودية، ولكنها فى الوقت ذاته ترفض حتى التصريح لقادة المقاومة الفلسطينية بالتطرق ولو بالزيارة إلى " الجنة الأمريكية " لماذا ؟ لأنهم إرهابيون؟ فهل هذا منطق متجانس؟ إن حكام السعودية لا يستمدون شرعية وجودهم وقيادتهم للمنطقة إلا من منطلق الدفاع عن قضايا الأمة العربية، أو التظاهر بذلك، فلماذا لا تقبل قيادة واشنطن ولو من منطلق مبدأ الإخراج المسرحى الذى برعت فيه، فتح باب التعامل ولو غير المباشر مع القيادات الفلسطينية؟ وهى تريد أن تؤمن استمرار تدفق البترول لحماية أصدقائها فى المعسكر الرأسمالى، ومع ذلك لا ترفض استخدام الحرب المحلية كأداة لتأديب من تريده من القيادات، فعلت ذلك فى حرب الأيام الستة، وهى تفعله اليوم فى الحرب العراقية الإيرانية، وبينهما ما فعلته فى لبنان، ألا تعلم أن هذا قد يحيل المنطقة فى لحظة معينة إلى جحيم مستمر، ولا يمكن إلا أن يؤدى إلى عدم ضمان استمرار تدفق البترول؟ ولنتذكر أن حمايتها للاقتصاد الأوربى من جانب واليابانى من جانب آخر، ليس إلا لإرتباط كلاهما المباشر بالاقتصاد الأمريكى، بحيث أن أى انهيار حقيقى فى أى منهما لا بد وأن يرتبط به انهيار مماثل فى الدائرة الأمريكية.(1/55)
الصفة الثانية: والتى تحتل العصب الحقيقى للسياسة الأمريكية هى الاضطراب وعدم وضوح الرؤية. ماذا تريد الولايات المتحدة حقيقة من منطقة الشرق الأوسط؟ إنها تريد الكثير الذى لا ينتهى، فإذا بها لا تدرى ذلك الذى تريده حقيقة، هل تريد صداقة شعوب المنطقة، التى هى السند الحقيقى لأى سياسة مساندة؟ إذن فلماذا تأبى إلا التلاعب بمصالح المنطقة؟ بل تُفصِحْ الوثائق التى نشرها العالم الفرنسى "جوليان " على أن سياسة الولايات المتحدة بهذا المعنى قديمة، فمنذ الحرب العالمية الثانية وتعليماتها إلى الشركات البترولية واضحة، وهى عدم توظيف عوائدها النفطية فى المنطقة، وذلك رغم أن احتمالات الكسب فى ذلك الميدان لا حدود لها، كل دولار يوظف فى المنطقة العربية يستعيد نفسه خلال فترة لا تتجاوز العامين، بينما هو فى حاجة إلى خمسة عشر عاما فى غرب أوروبا، ومع ذلك فتعليمات وزارة الخارجية كانت صريحة: على الشركات البترولية أن توجه عائداتها البترولية لتوطف فى اقتصاد غرب أوروبا، وليس لأن توظف محلياً فى المنطقة العربية، لما ذا؟
وكيف أن الولايات المتحدة حتى قبل أن تتلاحم استراتيجياً مع إسرائيل فى أعقاب حرب عام 1967 تقف من التطور الوحدوى فى المنطقة موقف العداوة وخلافا أيضاً للسياسة البريطانية التى تبنت فى لحظة معينة إنشاء جامعة الدول العربية؟ بل ورغم أن هذا أيضاً ليس فى صالح الشركات الكبرى المتعددة الجنسية، لأن هذه فى حاجة إلى السوق الواسع ولو نسبياً وليس إلى الأسواق العربية التى لن تحقق لها أى مصالح تجارية حقيقية ؟ ويبدو هذا الاضطراب واضحاً عندما نقارن بين سياسة الولايات المتحدة فى كل من اليابان وأوروبا الغربية من جانب، وفى منطقة الشرق الأوسط من جانب آخر.(1/56)
محور السياسة الأمريكية كما تبلور بصفة خاصة خلال الأعوام الخمسة الأخيرة فى منطقة الشرق الأوسط، يعيد للذاكرة نفس تلك السياسة فى كل من اليابان وغرب أوروبا فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، الجوهر هو خلق ما يسمى بالترابط الحركى، والمساندة الإقليمية، ويعنى ذلك أن تحول المنطقة، فإذا بها مثابة قاعدة متقدمة لأهدافها الاستراتيجية إنها تصير خط هجوم أولى وخط دفاع أخير، إنها بمثابة رأس رمح يسمح بالاختراق لو أرادت القيادات الأمريكية أن تنازل خصمها أى الاتحاد السوفيتى، وهى بمثابة حائط قادر على أن يعوق الفيضان الروسى، لو فكرت قيادات موسكو المنازلة الفجائية اتجاهاً نحو الدولة الأم أى القارة الأمريكية، أرض الولايات المتحدة تمثل ضعفا استراتيجياً حقيقياً وهى لذلك فى حاجة إلى خلق مراكز متقدمة أقرب ما تكون إلى الاتحاد السوفيتى، بحيث تُكْرِهه على أن يحارب حول حدوده القومية ، وبصفة خاصة، لو استخدمت الأسلحة التقليدية، لو استطاعت أية قوة أجنبية على قسط معين من الأهمية. أن تنزل على الشواطى الأمريكية فقد انتهى نصف المعركة بالنسبة لواشنطن، والقيادات العسكرية الأمريكية تعرف ذلك جيداً، ومن ثم فهى تجعل من غرب أوروبا الدرع الواقى للمحيط الأطلسى، ومن اليابان درع آخر مماثل للمحيط الهادى، ومنطقة الشرق الأوسط أضحت فى التصور المعاصر بحيث تؤدى نفس الوظيفة بل وبشكل أكثر خطورة.
أولاً: فهى تحمى درع غرب أوروبا فى أكثر أجزائة ضعفاً، والتى لا تملك أى عمق استراتيجى وهى اليونان وتركيا.
ثانياً: وهى تحاصر وتحيط بجنوب الاتحاد السوفيتى فى أضعف مواقع القوة الشيوعية،أى المنطقة الوحيدة التى غُزِيَت منها الأراض الروسية فى تاريخها الطويل وبنجاح أى حول بحر قزوين.
ثالثا: وهى تسمح بخلق الترابط والسيولة بين البحر المتوسط، أى الامتداد الطبيعى للمحيط الأطلسى والمحيط الهندى الذى بدوره- يمثل الامتداد للمحيط الهادى.(1/57)
رابعاً: وهى تحقق التواصل والمساندة لأصدقائها حول المحيط الهندى، سواء أولئك التقليديين فى استراليا وجنوب إفريقيا، أو الجدد فى الصين وما حولها.
خامساً: وهى وسيلتها لضبط التوسع الروسى فى وسط إفريقيا، بل وإكراهه فى لحظة معينة على التراجع، والعودة إلى مواقعه التقليدية.
هذه الأهداف: هى التى قادت إلى فرض مفهوم الإجماع الاستراتيجى فى التصور الأمريكى، وهو المفهوم الذى تردده القيادات الأمريكية، بثبات منذ عهد كارتر حتى هذه اللحظة، وكل من يتابع أحاديث المسؤولين عن السياسة الأمريكية يجد هذا التصور محوراً ثابتاً لجميع تصريحاتهم بما فى ذلك وزير الدفاع "واينبرجر" مفهوم الإجماع الاستراتيجى يخلق وضعاً جديداً إذ يجعل من سياسة المساندة الإقليمية المحور الأساسى للتعامل مع المنطقة، فهل تتفق هذه السياسة مع التأييد المطلق لإسرائيل؟ سياسة التأييد المطلق لإسرائيل نبتت وتبلورت فى عهد عبد الناصر عندما كانت السياسة الأمريكية تقوم على مبدأ خلق " كلب الحراسة المدلل " فى كل نظام إقليمى، وتدعيم ذلك الكلب بجميع عناصر القوة ليؤدب من حوله، ولكن فى ظل السياسة الجديدة، أى سياسة المساندة الإقليمية فكيف تتفق مفاهيم تلك السياسة مع السياسة الأخرى السابقة، التى أسميها بسياسة خلق " كلب الحراسة المدلل؟ " كذلك فإن سياسة المساندة بهذا المعنى تصير سياسة أمن قومى، وسياسة الأمن القومى بما تفرضه من خصائص الجمود والتحجر فى قواعد التطبيق تأبى المرونة وتعدد البدائل، وجعل التواجد الإسرائيلى من منطلق مبدأ التفوق على جميع القوى العربية أحد عناصر الأمن القومى الأمريكى، يتعارض تعارضا مطلقاً وكلياً مع سياسة المساندة الإقليمية أو ما يسمى بالإجماع الاستراتيجى كأحد عناصر الاستراتيجية الكلية الأمريكية.(1/58)
الرئيس كارتر مستمداً فى هذا مفاهيمه من الوزير السابق كسينجر، انطلق من مبدأ آخر وهو مبدأ " توظيف العداوات الإقليمية "، فالصراع الإقليمى لو أمكن تطويقه وإعادة توظيفه لصالح السياسة الأمريكية يسمح- فى ذهن هؤلاء- بخلق حائط من التحالف المحلى لصالح التحرك الأمريكى، وهم يسوقون بذلك الخصوص النموذج الفرنسى الألمانى، وهنا تبرز الحقيقة القاطعة، وهى عدم إدراك القيادات الأمريكية لإطار التحرك فى منطقة الشرق الأوسط.
إن الصراع بين العالم العربى وإسرائيل صراع قومى تغلبه عناصر عاطفية بحيث تدخله فى نطاق تلك الصراعات التى لا تقبل ولا تسمح بإجراء عمليه التوفيق، إنه لا يصلح حتى موضوعا للمفاوضات، لا نريد أن ندخل فى تفاصيل ومناقشات نظرية بهذا الخصوص ولا نريد ان نسوق كتابات المحللين الإسرائيليين لتدعيم هذا المنطق، ولكن الأمر الذى لا شك فيه أنه طالما تسيطر على القيادات الإسرائيلية مفاهيم التوسع والاستيعاب، فإنه من العبث إمكانية تصور توظيف هذا الصراع لصالح سياسة أمريكية أساسها مبدأ المساندة الإقليمية. وإذا كانت هذه السياسة قد انطلقت من أحلام اليقظة فى عام 1975 وشجعها على ذلك سذاجة قيادة السياسة الخارجية المصرية، فإن الأمر- وعقب ثمانية أعوام من الفشل المستمر- لم يعد موضوع مناقشة، لقد كان على واشنطن قبل أن تبدأ فى التفكير فى مثل هذه السياسة ومن هذا المنطق أن تبعد من مسؤولية القيادة الإسرائيلية أحزاب التعصب والتطرف، سواء اليمين المحافظ أو الدينى التقليدى، دون الحديث عن قيادات المؤسسة العسكرية الصهيونية، فهل هى قادرة على ذلك؟ ولماذا من ثم الاستمرار فى سياسة أساسها افتراضى مستحيل التحقيق؟ القائد السياسى تبرز قدرته وحنكته فى معرفة كيفية الاختيار وكيفية الحسم فى الاختيار، فهل القيادة الأمريكية الحالية قادرة وصالحة لذلك؟(1/59)
وتبرز هذه الحقيقة واضحة عندما نقارن بين السياسة الإمريكية فى غرب أوروبا واليابان من جانب، وسياستها فى منطقة الشرق الأوسط من جانب آخر، فهى تؤيد وحدة غرب أوروبا، وهى تدفع بالصناعة الأوربية ولو على حسابها، وهى تنظر إلى الازدهار اليابانى بعين الارتياح وهى لم تقف عقبة ضد الإيناع الاقتصادى فى اليابان، حتى وهو يهددها شى عقر دارها. إنها فى جميع هذه التطبيقات تسعى للتوفيق بين أمنها الاستراتيجى الكلى الشامل، ومصالحها الاقتصادية الجزئية والمؤقتة، فلماذا تنهج سياسة أخرى مختلفة فى منطقة الشرق الأوسط ومع العالم العربى؟ لماذا تقف من الوحدة العربية موقف العداوة؟ ولماذا ترفض التطور الاقتصادى فى المنطقة العربية نحو التكامل والتصنيع بمعناه الحقيقى؟ ولماذا ترفض التجديد والتغيير؟ مرة أخرى نعيد التساؤل: هل هو نتيجة للاستخفاف بشعوب المنطقة؟ أو نتيجة لعدم قدرة القيادة الامريكية على فهم مقتضيات ما يسمى بسياسة الإجماع الاستراتيجى؟
لقد كانت تلك السياسة مفهومة ومنطقية مع نفسها حتى بداية السبعينات، عندما لم تكن تنظر واشنطن إلى منطقة الشرق الأوسط، إلا على أنها جزء من دول العالم الثالث، أما وقد أضحت نظرتها تسيطر عليها متغيرات استراتيجية مختلفة وهى التى نسميها بالإجماع الاستراتيجى، فقد كان على قيادة واشنطن أن تعيد بلورة مفاهيمها، وتخطيط سياستها من منطلقات أخرى مختلفة.
ولكن القيادات الأمريكية بقصر نظرها لا تزال تتخبط بين سياسة الاستعمار الجديد من جانب، وسياسة الإجماع الاستراتيجى أو المساندة الإقليمية من جانب آخر، فإلى متى تظل لى هذا التخبط؟ وهل هذا التخبط لصالح واشنطن ولو فى الأمد البعيد نسبياً؟
ولكن أين من كل ذلك سياسة جمع المعلومات... سؤال آخر فى حاجة إلى إجابة على حدة ".(1/60)
وقد ألحق الكاتب- رحمه الله- فى نهاية المقال صورة كتاب (باللغة الإنجليزية) (Ropes of sand) " أحلام فوق الرمال " [ فشل سياسة الولايات المتحدة فى الشرق الأوسط، تأليف: ولبركرين إيفلاند . Wilpur Crane Eveland . وتحت الصورة عرف الكاتب المؤلف وهو مستشار سابق بوكالة المخابرات الأمريكية، وعضو هيئة التخطيط. كما يوضح الكاتب كيف انتهت ساسية الولايات المتحدة، حتى تلك اللحظة بالفشل الحقيقى.
المقالة الخامسة
تحت هذا العنوان كتب حامد ربيع:
سياسة المعلومات هى أحد الأدوات المساندة والضرورية لعملية التغلغل من القوى الأجنبية، لقد أضحت المعرفة الدقيقة والواضحة بمقومات الجسد، الذى يراد تطويقه عنصرا أساسيا من عناصر التعامل مع الواقع السياسى، الذى ليس هذا بالحقيقة الجديدة، ولكن متغيرات أخرى فرضت وضخمت من أهمية تلك الحقيقة. فسرعة التحرك كأحد خصائص العالم المعاصر تفسر أهمية العلم المسبق، وتتضخم الجماعات المعاصرة من حيث الكم الذى جعل تلك الجماعات ترفض إمكانيات القدرة على التنبؤ الدقيق يجعل من موضوع المعرفة التفصيلية وبصفة خاصة بكم معين أمرا بالغ الأهمية، المجموعة الاستراتيجية التى تجتمع يوم السبت من كل أسبوع فى جامعة " برنستون " بالولايات المتحدة والتى يرأسها الأدميرال "لايروس" رئيس الأركان المشتركة الفرنسية سابقاً، انتهت إلى قناعة ثابتة مدارها أن مجتمعا يتجاوز العشرين مليوناً يرفض إمكانيات التنبؤ الدقيقة، ولا يجوز لنا أن ننسى أن التطور المعاصر وبصفة خاصة فى المجتمعات المتخلفة من تمركز الكثافة السكانية فى المدن، فرض أساليب جديدة للتعامل مع حركات الرفض وثورات دول العالم الثالث.
جميع هذه الحقائق يجب أن ندخلها فى الاعتبار ونحن بصدد تحليل وفهم موضوع سياسة جمع المعلومات عن مستقبل منطقة الشرق الاوسط.(1/61)
تحليل أى سياسة عظمى لا يمكن أن يخضع لنفس القواعد التى تخضع لها عملية الفهم العلمى لسياسة دولة صغرى أو على الأقل دولة غير عظمى، هناك مجموعة من المبادئ التى يجمب أن تكون واضحة فى الذهن ونحن بصدد تحليل سياسة جمع المعلومات، كما تطبقها فى مصر الإدارة الامريكية.
أولاً: إن أى دولة عظمى تحمل مسؤولية كبرى، ليس من حقها كما قد يتصور البعض أن ترمح بلا رقيب، القيادة الدولية تعنى مسؤولية، وهى ما يُعبّر عنه بالوظيفة الحضارية، فنترك جانباً المسميات، ولكن هناك قيودا معنوية ولو مفتعلة أو مصطنعة أو مفترضة تحكم حركتها، وتحدد الأهداف والوظائف التى يجب أن تسيطر على إطار التعامل. الدولة العظمى تملك هيبتها وتلك الهيبة إنما تستمد مصادرها الحقيقية من الجدية والصدق واحترام الكلمة المعطاة والقدرة على مواجهة الأمور بميزان المنظور والحس التاريخى، هكذا علمنا قياصرة (22) روما، ومن يريد أن يستمع عن مسؤولية القيادة الدولية فليقرأ خطبة "كاتو" العجوز فى مجلس الشيوخ الرومانى، وهكذا سار على الدرب خلفاء دمشق وبغداد، ورغم خلافنا معهم فى العقيدة والرأى، فليعد قادة اليوم إلى خطب بابوات روما وهم يتحدون الأحداث، الولايات المتحدة تقف اليوم قائدة للعالم الحر، فهل تفهم معنى تلك المسؤولية؟(1/62)
ثانياً: كذلك فإن سياسة الدولة العظمى لا بد وأن تكون منطقية مع نفسها، إنها تلك القدرة والمقدرة ومن ثم هى قادرة على أن تخضع حركتها لمنطق محدد، من حيث مقدماته ونتجائه، وعليها ألا تتحرك إلا فى نطاق ذلك المنطق، ولعل هذا يفسر ما يقوله علماء العلاقات الدولية من أن التنبؤ بسياسة دولة عظمى أسهل بكثير من تحديد التوقعات بصدد سياسة دولة صغيرة، هذه فى تقاليد السياسات العظمى الواعية. إن السياسات العظمى تجعل محاور حركاتها ثابته، حيث المتغيرات الاستراتيجية محطات قائمة لا تبدل وحيث منطق التعامل يتشكل بتلك المتغيرات فقد تفاعلت بالوظيفة من جانب، والهيبة من جانب آخر، فأين من هذه السياسة الأمريكية؟ وكيف يمكن تفسير تلك السياسة بصدد مشكلة الأرجنتين وجزر المالديف؟ وهنا لا يستطيع المحلل إلا أن يلاحظ الفارق الواضح بين سياسة الاتحاد السوفيتى والسياسة الأمريكية، الأولى تحترم تقاليذا ثابتة وضعتها القياصرة خلال عصور متعاقبة من المعاناة، بينما الثانية لم تحترم حتى تلك المثاليات ولو شكلاً، التى صاغها قادة عظام من أمثال جورج واشنطون وويلسون وروزفلت.(1/63)
ثالثا: كل هذا يصبغ على سياسة الدولة العظمى نوعاً من الاستقرار والوضوح، فهى تملك تقاليد معينة، ولا بد أن تحترم تلك التقاليد وهى تملك هيبة معينة، وتعلم أن تلك الهيبة لها ثمنها ولها عائدها، وهى لها كلمتها التى تعرف كيف تحترمها مهما كانت الظروف، وهى لا تسير وراء الآخرين ولكنها تتصدر الجميع، ولم يعرف التاريخ نموذجاً أضحت فيه دولة عملية تصير هى المسيطرة على دولة كبرى توجهها وتخضعها لتعاليمها كما يحدث اليوم فى العلاقة بين واشنطن وتل أبيب، لقد استغنت الولايات المتحدة عما كان يسميه ديجول سياسة العظمة، ولجأت إلى ما تسميه سياسة الإخراج المسرحى، فكيف تقبل دولة عظمى لنفسها أن تنزل إلى ذلك المستوى؟ رغم كل ما توصف به سياسة مصر الخارجية خلال الأعوام الخمسة الأخيرة فإن خطأها القاتل هى أنها ظنت أن الولايات المتحدة وهى دولة عظمى تتبع سياسة تنطلق من مبادئ ومفاهيم وتقاليد السياسات العظمى، ونسيت أن الولايات المتحدة لم تعد تملك تقاليدا أو قيادة، بل ويخيل إلينا أنها لا تعرف مصالحها الحقيقية، وبصفة خاصة فى الأمد البعيد.
هذه المفاهيم يجب أن تكون واضحة ونحن بصدد تحليل سياسة جمع المعلومات التى تعيشها مصر فى هذه اللحظة.
قبل أن ننطلق فى تحديد أهداف واشنطون من سياسة جمع المعلومات فى مصر، وكيف أنها تسير فى طريق خاطىء يعكس التردد وعدم وضوح الرؤية من جانب، والخروج عن قواعد وتقاليد السياسات العظمى من جانب آخر، لتصير أسيرة دولة صغيرة تمثل كياناً مصطنعاً لا قيمة له فى ذاته من جانب آخر، علينا أن نتذكر الحقائق الثاتبة بصدد هذه السياسة.(1/64)
أولاً: إن ما ينفق من ملايين فى مصر حول هذه البحوث المشتركة ليس مرده حب مصر والتغنى بجمال المصريين، ومن يحدثنى عن الاهتمامات الأكاديمية فلا أستطيع أن أصفه إلا بالبلاهة لو أردت أن أفترض فيه حسن النية، وهو أمر بدوره موضوع احتمال هناك أهداف خفية تجعل الإرادة الأمريكية تلهث وراء معرفة خفايا الوجود المصرى سواء على مستوى الفرد أو الجماعة، وليس فقط من حيث الخصائص السلوكية واحتمالاتها المستقبلية، هذه العملية تنبع من مخطط معين يسيطر عليه السعى نحو أهداف معينة فما هى؟ ورغم أن السلطات المصرية ظلت حتى الآن تغمض عينيها عن ذلك الذى يدور حولها، فهل آن الأوان لأن نتساءل وبصراحة: ما هى حقيقة هذه الأهداف؟(1/65)
ثانياً: السياسة الأمريكية رغم جميع نواحى النقص التى سبق ورأيناها تملك قوتها، مما لا شك فيه أن قوتها الحقيقة هو ضعف الإرادة المصرية، فى مواجهة الغزو الفكرى الذى تخضع له مصر دون حياء، والواقع أنها بهذا الخصوص لا تفعل سوى أن تسير على الدرب الذى سبق وجربته السياسة البريطانية، ولكن مع ذلك الفارق فهى دولة أكثر قوة وأكثر عنفا فى قوتها، ومصر أكثر ضعفا وأكثر استسلاماً إزاء الفاتح الجديد. أين مصر التى أنجبت العقاد، وأين مصر سعد زغلول التى وقفت صفاً واحداً إزاء "مللنر" ترفض حتى مجرد الخطاب مع مثل الدولة المستعمرة من مصراليوم؟ السياسة الأمريكية تعيد قصة السياسة الأنجلوسكسونية فى وادى النيل، منع مصر أولاً من أن تصير قوة ضاربة فى المنطقة، إنها تعلم أن مصر هى المدخل المتحكم فى المنطقة، وطالما أنها تريد أن تسيطر على المنطقة فلن يتأتى لها ذلك إلا إذا عزلت مصر عن المنطقة، وعملية العزل أبعادها متعددة: تحطيم إرادة التكامل ليس سوى أحد أبعادها، وهى من جانب آخر تقوم بعملية تطويع كلى وشامل للإرادة المصرية، بحيث تجعل من الجسد المصرى كياناً لا مفاصل له، وهى من ثم بأساليب متعددة ترحب وتشجع عملية خلق التسيب، بحيث يصير الجسد مترهلاً غير قادر على أى نوع من أنواع التماسك.
ثالثا: ولنتذكر أخيرا أن السياسة الأمريكية تقف أسيرة للإدراك الصيهونى فى كل ما يتعلق بالتعامل مع المنطقة، إنها تعيش أسيرة أهداف القيادة الإسرائيلية، ولا يجوز أن تخدعنا عمليات الإخراج المسرحى، حول إخراج "شارون " أو تنحيته عن وزارة الدفاع، إنها نوع من المسكنات لامتصاص نقمته لخطة، أو بعبارة أخرى هى تراجع خطوة للقفز خطوتين إلى الأمام، هدف السياسة الإسرائيلية هو تجزئة المنطقة إلى دويلات (23) وتحويلها إلى نموذج آخر لما أصاب البلقان فى بداية هذ القرن.(1/66)
إن هدف إسرائيل من هذه العملية هو تحقيق أهداف ثلاثة فى آن واحد: تحويل المنطقة إلى كيانات صغيرة طائفية بحيث يسهل التحكم فيها من جانب، إقليمية بحيث تشغل قوى المنطقة لنصف قرن على الأقل من الزمان حول مشاكل حدود مصطنعة من جانب آخر، ومن ثم تمكين النفوذ الإسرائيلى والاقتصادى الصيهونى الذى تتستر خلفه الشركات المتعددة الجنسيات من التوسع واستيعاب المنطقة من جانب آخر، ليس هذا موضع التحليل فيما يسمية الفقه الإسرائيلى، أمن الدولة العربية فى الثمانينات، ولكن الذى يعنينا أن نؤكد على أن هذا التصور تحتضنه وتتبناه السياسة الأمريكية:
ا- فمنذ عام 1975 لم يفتأ "ريمون إده " رجل لبنان العاقل، الذى غادر بيروت واستقر بباريس، ليعلن عن ذلك المخطط، ليس فقط بصدد لبنان، بل وكذلك بصدد جميع أجزاء منطقة الشرق الأوسط.
2- وهو مخطط اتجه أولاً إلى قبرص وأحداثها معروفة، بل والبعض يتحدث عن محاولات لتطبيقه فى تركيا، حيث حدث الصدام العنيفة بين الشيعة والسنة فى عام 1980- تصريحات الرئيس اللبنانى السابق " سليمان فرنجية " عن محاولات الولايات المتحدة فى بناء دولة (مارونية) فى لبنان ابتداء من عام 1978 صادرة من شخص مسؤول ينتمى إلى تلك الطائفة، الأمر الذى يضفى عليها مصداقية معينة.
4- على أن أخطر ما يؤكد ذلك أقوال كيسنجر نفسه فى حديثه المشهور لمجلة (الإكونو ميست) اللندنية فى نوفمبر الماضى " عدد 13 نوفمبر 1982 " عندما أعلن: " إن الاعتراف بالدولة الإسرائيلية من جانب منظمة التحرير والدول العربية، لن يكون إلا بداية عملية تعديل وتنظيم للأوضاع الإقليمية تبعاً للإرادة الإسرائيلية "، بل ولا يتردد أن يضيف بصفاقة منقطعة النظير: " إن الخطر الحقيقى فى هذه المنطقة سوف يتمركز حول عدم القبول بالإرادة الإسرائيلية ".(1/67)
لا نريد أن نتساءل: هل هذا صالح الولايات المتحدة؟ ولا نريد أن نعيد ونكرر: أليس هذا مخالفا للهدف الأساس؟ الذى سيطر على الدبلوماسية الأمريكية وهو خلق الإجماع الاستراتيجى فى المنطقة، إن هذه هى حقيقة الإدراك الأمريكى، وعلينا أن نتعامل مع الموقف الذى تعيشة المنطقه ومصر على هذا الأساس، وأن نحلل مخاطر الموقف فقط من هذا المنطلق ".
ما هى أهداف السياسه الأمريكية من جمع معلومات عن مصر تحت ستار الأبحاث المشتركة؟
الأهداف الثلاثة بصفة خاصة:
أولاً: تطويع القوى الراديكالية أو اليسارية.
ثانياً: اكتشاف مواقع وقوى الرفض المتوقعة.
ثالثا: الإعداد والمساهمة فى عملية تجزئة مصر فلنتابع هذه النواحى بالتفصيل.
أول هذه الأهداف وأقلها أهمية يدور حول تطويع القوى اليسارية، لقد تساءل البعض، لماذا يغلب على المتعاونين مع السلطات الأمريكية الطبيعة الراديكالية؟ وجاءت إجابة على صفحات هذه الجريدة تحدد بأن أحد أسباب ذلك هو أن " الباحث الذى يتخذ موقفا راديكالياً يتميز بالجدية فيمكن الاعتماد عليه " تبسيط مبالغ فيه، وتعبير عن عدم فهم لحقيقة الأمور، التعاون مع الراديكاليين، وهذه كلمة مهذبة لمصطلح الشيوعى أو صاحب الميول اليسارية، يثير طبيعة هذه القوى فى دول العالم الثالث وبصفة خاصة فى المنطقة العربية. فى حقيقتها القوى اليسارية فى دول العالم الثالث هى قوى تعودت أن تركب كل، موجة، يصفها المحللون الأوربيون بأنها تمثل "الانفتاح الفكرى " إنها أضعف القوى السياسية فى العالم العربى، أين كان موقفها من جمال عبد الناصر، وهى اليوم تزعم أنها خليفة الناصرية، وأين كانت من القضية الفلسطينية فى الأربعينات، وهى اليوم ترفع شعار تلك القضية؟
سياسات المعلومات أتاحت للإرادة الأمريكية من خلال تعاملها مع تلك القوى تحقيق أربعة أهداف فى آن واحد:(1/68)
ا- إفقاد تلك القيادات الفكرية التعاطف من جانب الرأى العام القومى، أو ما يعبر عنه بكلمة " إحراق العميل " إنها تقول بلغة مقنعة لرجل الشارع: انظر هذا هو قائدك اليسارى يبيع أمته، وأمن أمته بعدة ملاليم، من تلك الجهة التى يزعم بأنه يحاربها باسم المجتمع القومى، الذى يرفع راية شرفه والكفاح من أجل كرامته، وهى لا تمثل نموذجا جديداً للتعامل إذ سبق أن استخدمته الصهيونية الأمريكية فى القضاء على خصومها فى أواخر الأربعينات.
2- وهى تربط هؤلاء اليساريين بالمصالح الأمريكية، والواقع أنه من المعروف فى خلق العملاء ألا تتجه إلا إلى المعقدين نفسياً، العلماء الذى يشعرون بأن حقوقهم مهضومة، ذوى الأصل الفقير الذين يتطلعون إلى الرفاهية واليسر، المفكرون الذين قد ترسبت لديهم القناعة بأنهم غير مفهومين وغير قادرين على الاتصال مع المجتمع الذى ينتمون إليه يمثلون خير العناصر الصالحة لذلك، القيادة النازية أثناء الحرب العالمية الثانية كانت تتصيد العاهرات (24) لتجعل منهن مصدرا للمعلومات لسببين: أولهما: لأنها كانت تعلم بأن تلك العاهرات أكثر عناصر المجتمع تعقيداً لسبب المهنة التى يمارسنها، وثانيهما: العقد تؤدى إلى ضعف الشعور بالانتماء القومى، ومن ثم عدم صلابة الولاء القومى، صاحب العقد النفسية على استعداد دائماً لأن يفسر خيانته بأن يجد لها مبرراً وجيهاً أمام نفسه وضميره.
3- ثم هى فى ذاتها مصدر للمعلومات، اليساريون الذين يتعاونون مع أجهزة المعلومات، يخضعون لعملية ملاحظة مستمرة، بحيث يمكن من خلال تجميع معلومات عنهم، ومنهم تحديد خصائص القوى اليسارية الرافضة، ولعلى لا أعلن سرا عندما أذكر أن هؤلاء السادة العلماء يحجون عدة مرات إلى الجامعات الأمريكية، بدعوى المناقشة تارة فى خطة البحث، وتارة فى نتائج البحث، بينما فى الواقع أنهم هم أنفسهم الذين يصيرون مادة البحث.(1/69)
4- الهدف الرابع: وهو أن هذه القوى خير العناصر لجمع المعلومات المسطحة، ويعنى ذلك أن المعلومات فى أغلب الأحيان يصحبها نوع من الانفعال، وسواء كان الإنفعال مرده التأييد المبالغ فيه أو المعارضة المبالغ فيها، فإنه يفقد المعلومة قسطا من موضوعيتها، ولذلك ففى أجهزة الأمن القومى الأمريكى هناك جهاز وظيفته ما يسمى بعملية "تسطيح المعلومة"، أى إفقادها عنصر العاطفة الراديكالى بحكم تكوينه أقل عاطفية سواء كان اليمينى حيث يصير مدافعا عن النظام الأمريكى عن قناعة، أو القومى فى معناه التقليدى حيث يتخذ الموقف العكسى.
إن أحد أهم أسباب تخلى الاتحاد السوفيتى عن التورط فى منطقة الشرق الأوسط طبقا لتفسير بدأت تتداوله فى الأعوام الأخيرة الأقلام مستنداً فى هذا إلى وثائق جديدة وجديرة بالاهتمام، هو أنه قد تعلم أن يحتقر أذنابه فى تلك المنطقة، ومن يرد تفاصيل فليقرأ كتاب " كيمش " بعنوان "إسرائيل أو فلسطين " ولنتذكر أن هذه ظاهرة تكررت أيضاً فى بعض الدول الأوربية، وبصفة خاصة فى إيطاليا وفرنسا.(1/70)
الهدف الثانى من الأهداف الثلاثة الرئيسية: هو اكتشاف قوى الرفض الممكنة أو المحتملة وخصائصها، وهذا ما يعلنه صراحة " ميتشيل كلار" فى تقريره الذى سبق وأشرنا إليه فى أكثر من مناسبة، يقول الكاتب المذكور فى أحد فقراته: بينما كانت الاستراتيجيات السابقة تهتم أساساً بتهديد الحركات الثورية الآتية من المجتمعات الريفية والزراعية، كانت اتجاهات الفقة الحالى تولى اهتمامها أكثر وأكثر لحركات الرفض فى المدن، هذا التطوير يُفسّر من جانب بالتضخم المتزايد لمجتمع المدينة، وبصفة خاصة فى دول العالم الثالث ومن جانب آخر بتلك الحقيقة الثابتة، وهى أن الفقر أضحى يتمركز بشكل واضح فى تلك الأماكن المحيطية بالمدن، فى أغلب مجتمعات العالم الثالث ويبينها العالم الأمريكى " لوسيان باى" الأستاذ بمعهد ماسا شوسيت للتكنولوجيا- وهو الذى يتعاون مع جامعة القاهرة. بأن "مستوى المدن التى تتزايد وتتضخم باستمرار، والتى تم تسييسها بعنف، أضحت بمثابة مسدسات مصوبة إلى الحكومات المسؤولة، ويضيف ميتشيل كلار فيحدد: " للاحتفاظ بالنظام فى مواجهة هذه المسدسات- فإن الاستراتيجيين الأمريكيين يتصورون بناء قوة بوليسية شبه عسكرية، قد سلحت بأدوات متقدمه ضد المظاهرات وضد الإرهاب.
الواقع المصرى يثير عدة مشاكل بخصوص هذه المدركات، فى حاجة إلى معلومات ميدانية جديدة وأكثر دقة من تلك المتداولة ذلك أن المجتمع المصرى يتميز بخصائص ثلاث تبلورت بصفة خاصة خلال الأعوام العشرة الأخيرة:
أولاً: التحرك من المجتمع الزراعى الريفى نحو المجتمع المدنى المصرى.
ثانياً: ارتفاع فئة الحرفيين إلى الطبقة الوسطى، وانخفاض جزء من الطبقة الوسطى التقليدية إلى الطبقة السفلى بصفة خاصة فى مجتمع المدينة.
ثالثا: سيطرة عنصر الشباب.(1/71)
لقد ظلت مصر حتى وقت قريب وهى تتميز أساساً بأنها مجتمع ريفى، المدن الضخمة فى مصر لم تكن سوى القاهرة والإسكندرية، الذى حدث منذ ثورة يولية وعقب التطور الصناعى أن تضخم مجتمع المدينة، المدن الضخمة فى مصر تتجاوز اليوم عشرين مدينة، وهى قد أضحت مدناً عملاقة من حيث الكم، القاهرة تحتوى فى كل صباح على أكثر من عشرة ملايين.
كذلك وبصفة خاصة فى مجتمع المدينة، فقد حدث انقلاب خطير فى الهرم الاجتماعى، لم تعد الطبقة الوسطى تتكون أساساً من الموظفين ورجال المهن الحرة، إذ انفصل جزء كبير من الفئة الأولى أى الموظفين وتحرك إلى أسفل، ليمثل مركزه فى أعلى الطبقة السفلى، بينما ارتفعت شريحة هامة من الطبقة السفلى، وهى المتمثلة فى المهن الحرفية " السباكة والنجارة على سبيل المثال " لتحتل مكاناً مرموقا فى الطبقة الوسطى.
هذا التطور الذى قد يبدو لأول وهلة محدود الأهمية، له نتائج خطيرة فى الطبقة الرافضة، لم تعد طبقة الأُجراء كما تعودنا من منطلق الخبرة الماضية كذلك فإن الطبقة المثقفة بالمعنى التقليدى أضحت تسيطر على الطبقة السفلى، وهذا يعنى أن الطبقة الرافضة أضحى يغلب عليها عنصر المثقف، ونحن نعلم أن الطبقة الرافضة هى المقدمة الطبيعية للحركات الثورية أو ما فى حكمها.
أضف إلى ذلك غلبة عنصر الشباب، إن أكثر من نصف المجتمع المصرى المعاصر أقل من سن العشرين، وهذا يصغ على المجتمع دينامية معينة يعبر عنها علماء التحليل السياسى بقولهم: إنه صالح لسرعة الاشتعال.(1/72)
هذه الخصائص الجديدة تفرض أسلوباً جديدا فى التعامل، وهو ما يعلن عنه صراحة الخبير الأمريكى السابق ذكره، ولكن لابد لذلك من اكتشاف دقيق لهذه الخصائص وتحديدها كمّاً وكيفاً، وهنا تبدأ أهداف الأبحاث الميدانية تبرز ظاهرة واضحة للعيان كم كنا نتمنى أن ننقل للقارئ كل ما تسرب من تقارير " ميتشيل كلار" بهذا الخصوص الذى يصل به الأمر إلى تصور استخدام الأسلحة المزودة بالطاقة النووية فى تلك اللحظة والتى يسميها خبراء الاستراتيجية، " Arms Nucleares de Theatre". الهدف الثالث من الأهداف الثلاثة الرئيسية: هو المساهمة فى العمل على تجزئة مصر.
إن هذا بدوره فى حاجة إلى معلومات، ولنستمع مرة أخرى إلى حقيقة هذا الهدف يشرح تفاصيله العالم الإسرائيلى " أوديد بنون " والذى كان فى لحظة معينة أحد كبار مخططى السياسة فى وزراة الخارجية الإسرائيلية فيقول: تجزئة مصر. تحويل كيانها إلى وحدات جغرافية مستقلة هذا هو الهدف السياسى الإسرائيلى بالنسبة لحدودها الغربية خلال الثمانينات.. إذا تمت تجزئة مصر فإن دولاً كليبيا والسودان بل ودولاً أخرى أكثر بعداً لا يمكن أن تظل فى صورتها الحالية... وعندئذ سوف تكون لدينا دولة قبطية (25) فى مصر العليا، ثم عدد معين من الدولة الضعيفة، لا تملك سوى قدرة محدودة عوضاً عن الدولة المركزية الحالية: أن هذا هو التطور التاريخى المنطقى الذى لا نعرفة فى الأمد البعيد والذى أخره فقط إتفاقية السلام عام 1979... ".
ولكن كيف استطاعت القيادات الإسرائيلية أن تجعل هذا المنطق يسيطر على الإدراك الأمريكى؟ وكيف أحالت هذا المنطق إلى قناعة، بأن يتفق مع ذلك الذى يسمى بالإجماع الاستراتيجى؟ وأين دور سياسة جمع المعلومات هنا؟
هنا يعجز القلم عن متابعة التحليل فلا بد من وقفة تأمل، إزاء هذا الذى يصفه العالم الفرنسى " جور كورم " بالجنون اللامنطقى، ولا بد من مراجعة عسيرة لكل كلمة تقال ".
المقالة السادسة(1/73)
(التوافق الإسرائيلى الأمريكى)
تحت هذا العنوان كتب حامد ربيع:
"سياسة الدولة العظمى يجب أن تسيطر عليها أخلاقيات معينة، ومنطق معين محورهما الأساسى هو المسؤولية الدولية، إن الدولة العظمى هى قيادة فى نطاق التعامل بين الشعوب، مما لا شك فيها أنها تظل تمارس هذه القيادة من منطق الأنانية والطموح الأنانية تعبر عنها بما يسمى الأمن القومى، والطموح حيث السعى الدائب نحو السيطرة العالمية، إلا أنه رغم ذلك لا بد وأن يغلف تلك الأهداف ذلك الوعى القيادى بالوظيفة التاريخية، هذه الحقيقة التى علمتنا إياها جميع القيادات الكبرى لم تكن أكثر إلحاحاً وأشد خطورة منها فى عالم الصراع بين موسكو وواشنطن. إن كلا منهما يمثل عقيدة معينة وينبع من قناعة محورها الإيمان بسيادة تصور معين على الحركة والوجود، كذلك فإن النظام السياسى الأمريكى يستمد كيانه ووجوده وفاعليته من تعاملاته الخارجية، أكثر من نصف الاستثمارات الأمريكية يوجد خارج الأرض الأمريكية، والولايات المتحدة اليوم تستورد أكثر من نصف حاجتها من المواد الأولية من خارج الأرض الأم، وهكذا وظيفة تاريخية أولاً وطبيعة اقتصادية ثانياً، وطموح قيادى ثالثاً: جمعيها كانت تفرض على الولايات المتحدة إدراكا سياسياً معيناً، ولكن للأسف لن نجد سوى فقاعات استطاعت الإرادة الإسرائيلية أن ترسبها فى المنطق الأمريكى، فأضحى هذا المنطق خطرا ليس فقط على مستقبل الإمبراطورية الجديدة ولكن ما هو أكثر من ذلك على مصالح كل من ارتبط بتلك الإمبراطورية بشكل أو بآخر.(1/74)
منذ عدة أشهر خرج علينا العالم الفرنسى الأشهر " ديروذيل " بكتاب له معناه وله دلالة بعنوان " كل امبراطورية مصيرها الانقراض " ورغم أنه يلجأ إلى الأسلوب الرمزى إلا أن معنى وجوهر فكره أن الولايات المتحدة لن تعيش أكثر من ربع قرن، إنها توقع بسلوكها الحالى قرار الحكم بإعدامها، ومرد ذلك الحقيقى: أنها لا تفهم مسؤولياتها، وهو بهذا يُقوّم أساساً فكريا لذلك الاتجاه الذى بدأ يسود فى جميع أوساط أوروبا الغربية بما فى ذلك بريطانيا، من ضرورة تحييد القارة العجوز وإبعادها عن احتمالات الحرب العالمية الثالثة، فأين نحن فى المنطقة العربية من كل ذلك، ونحن نعيش خبرة متتالية الحلقات محورها الحقيقى: أن الولايات المتحدة لم تعرف ولو مرة واحدة كيف تحترم مسؤولياتها فى المنطقة.
نحن نسلم بأن مصلحة الولايات المتحدة كأى قوة عظمى تعاملت مع المنطقة على أن تضعف مصر فى بعدين فى علاقة مصر بالمنطقة العربية من جانب، وفى علاقة القيادات الحاكمة بالقوى المحكومة من جانب آخر، من مصلحتها أن تخلق الحواجز بين القيادة المصرية والشعوب التى تنتمى إلى منطقة الشرق الأوسط، لأن هذا يضعف مصر ويمنعها من أن تمارس وظيفتها الإقليمية، ومن مصلحتها أيضاً أن تعمق هذه العزلة الإقليمية بعزلة داخلية بين القيادة والشعب، وهى لذلك من مصلحتها أن تدفع قيادات مصر الفكرية للانطواء على الذات والاكتفاء الداخلى تارة باسم الفرعونية، وتارة أخرى باسم مصر للمصريين، وتارة أخيرة باسم الاختلال الحضارى بين مصر صاحبة الستة آلات عام والشعوب الأخرى التى لا حضارة لها، وهى قد تجد فى بعض دول المنطقة أداة مساندة غير واعية لهذه العملية من خلال تفريغ مصر من عقولها المفكرة، فى ذلك الذى يسمى الجامعات البترولية، حيث يتحول المفكر أو العالم الجامعى المتخصص إلى بائع متجول. ..... كل هذا صحيح !!(1/75)
ولكن هل من مصلحة الولايات المتحدة تجزئة المنطقة العربية إلى دويلات صغيرة بما فى ذلك مصر، وهل أضحى هذا المفهوم وارداً فى الإدراك الأمريكى؟ ويعبر بصفة خاصة فى هذا المقام تطبيق هذا المفهوم عن مصر، لماذا تحتضن السياسة الأمريكية هذا التصور هل ذلك لمصلحة السياسة الأميريكية؟ وكيف تأتى عملية جمع المعلومات لتعلن بطريقة غير واضحة عن هذا الهدف فى إطار أولويات السياسة الأمريكية؟
موضوع بالغ الحساسية، ورغم أن المعلومات بصورة محدودة ، لأنه يدخل فى نطاق "غاية فى السرية " إلا أن الجزئيات التى تتجمع أمامنا خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، تسمح لنا بتصور حقيقة الأهداف الباطنة، هذه الحساسية تزيد من الأهمية إن فى الميزان مصير أمة ومستقبل شعب. فهل يجوز لنا أن نتردد فى طرح هذه العناصر؟ وهل يجوز لنا أن نصمت إزاء ما يحدث حولنا ولو كانت الشبهة ضئيلة والاحتمالات محدودة إننى أود أن أذكر القارئ بأن احتمالات الحرب النووية بين العملاقين لا تتجاوز 2% ومع ذلك يسلم علماء تحليل القرار القومى أن هذا الاحتمال كاف لأن تبنى عليه سياسة خارجية كاملة، فهل هذا يكفى لخلق القناعة بأهمية وضرورة التحدى لهذا الموضوع بصراحة ووضووح؟
هناك مشاكل ثلاث لا بد وأن نعرض لها بإيجاز:
أولاً: تصميم السياسة الإسرائيلية على تجزئة مصر.
ثانياً: الترابط بين السياسة الإسرائيلية والسياسة الأمريكية، الذى انتهى على الأقل بعدم معارضة هذه الأخيرة للاستراتيجية الإسرائيلية.
ثالثا: سياسة جمع المعلومات، وكيف تخدم هذه الأهداف تارة بطريق مباشر، وتارة أخرى بطريق غير مباشر.(1/76)
أ- السياسة الإسرائيلية بصدد تجزئة المنطقة العربية منطقية مع نفسها، ومتابعة تطور مضمون هذه السياسة بخصوص ذلك تفصح عن مدى الترابط بين السياسة الإسرائيلية والتطور الفعلى للنجاح الصهيونى، والواقع أننا بهذا الخصوص علينا أن نميز بين مفهومين، كل منهما مستقل عن الآخر، ورغم أنهما من حيث الواقع يمثلان وجهين لحقيقة واحدة.
المفهوم الأول: هو فكرة الدولة الطائفية.
المفهوم الثانى: هو تجزئة المنطقة إلى كيانات صغيرة محدودة القوة والفاعلية.
الواقع أن المفهوم الأول قديم قدم المنطقة فمنذ جاءت الدعوة الإسلامية ترسب فى المنطقة مبدأ التسامح الدينى، الذى كان لابد وأن يعود إلى فكرة استقلال الطوائف وحقها فى ممارسة حقوقها الدينية، ساعد على انتشار المبدأ أن الحضارة الإسلامية لم تحقق فى المنطقة أى وحدة قانونية ونظامية حقيقية، الوحدة كانت حضارية من جانب، وفى نطاق التعامل الدولى أكثر منها فى نطاق التعامل الداخلى من جانب آخر، أو بعبارة أكثر دقة فإن المفهوم الإسلامى هو حرية الطوائف فى بناء قواعد ممارساتها الفردية، القوى الأجنبية استغلت مبدأ التسامح الإسلامى فى بعدين: أحدهما: نظام الامتيازات، وثانيهما: تحويل المفهوم الطائفى من قناعة دينية إلى ممارسة سياسية، ومن ثم إلى أساس لاستقلال الأمر الذى كان لا بد وأن يقود إلى التجزئة فى الجسد العربى.(1/77)
ولعل هذا يفسر كيف أن المساندة لإنشاء إسرائيل فى لحظة معينة جاء من كبار رجال الدين الموارنة فى الأمم المتحدة، تقرير " القس مبارك " بشأن تشجيع إنشاء دولة يهودية والدفاع عن فكرة الدولة المارونية، ثم الدولة العلوية، والذى يعود إلى عام 1945 لا يزال مودعاً فى الوثائق الدولية، على أن الفكر الصهيونى فى الستينات بدأ يشرح الموضوع من منطلق آخر، كيف تستطيع القيادة الصهيونية المحافظة على بقاء إسرائيل وتجنب الخبرة الصليبية، " إيجال الون " وشيمون بيريز " قدما اجتهادات بهذا الخصوص، وهى ليست الوحيدة، المحور الفكرى هو أن إسرائيل مهما فعلت وحتى لو نجحت بأقصى فاعلية، فإن تجمع اليهود فى دولة إسرائيل لن يسمح بإقامة دولة تتجاوز العشرين مليوناً حتى نهاية القرن... وحتى ذلك التاريخ فإن أصغر دولة عربية سوف تكون قد تجاوزت ذلك الرقم أو اقتربت منه، وذلك دون الحديث عن مصر التى سوف تصل إلى ثمانين مليوناً إزاء ذلك، فإن إسرائيل سوف يتعين عليها أن تظل قلقة محاصرة، فهل تضمن الدفاع المستمر بما يمثل من نفقات من جانب الولايات المتحدة، على إسرائيل إذا أن تخلق إطار دفاعها الذاتى، وهى لذلك يجب أن تعمل جاهدة على أن تحيل المنطقة إلى دويلات صغيرة، أو كيانات هشة محدودة الفاعلية، ومن ثم تلهى تلك الدويلات بصراعات محلية حول الحدود أو بخلافات عشائرية خلال خمسين عاماً على الأقل، مثل هذا التصور يحقق لإسرائيل ثلاثة أهداف فى آن واحد:
أولاً: أن تصبغ على المنطقة صفة الطائفية، أى مفهوم الدولة الدينية، وهكذا تصير إسرائيل متجانسة مع النموذج السياسى السائد فى المنطقة.
ثانياً: أن تصير إسرائيل وهى الدولة القوية باقتصادها وتقدمها التكنولوجى، هى الدولة السائدة أو المسيطرة على المنطقة حيث حولها لا توجد سوى دول أقزام.(1/78)
ثالثاً: أن تتوسع وتغزو اقتصادياً ، لأن أى دولة من تلك الكيانات الهشة لن تملك مقومات القدرة الاقتصادية على الاكتفاء الذاتى، وإسرائيل قادرة حينئذ من خلال اقتصادها المتطور من جانب، ورأس المال المتركز داخل حدودها من جانب آخر، أن تحقق تلك السيطرة، وذلك الغزو الذى يصير نموذجا جديداً للاستعمار من خلال مفهوم التبعية الاقتصادية.
هذا المفهوم الإسرائيلى تطور عقب حرب الأيام الستة، وبسبب تلك الحرب. فقد استطاع العالم اليهودى " فيتال " فى كتابه عن " عدم المساواة بين الشعوب " والذى كتبه أولاً بشكل تقرير قدم إلى وزارة الخارجية الإسرائيلية، حيث كان يعمل بها مديرا للأبحاث أن يخلق ذلك التصور الذى ارتكزت إليه سياسة إسرائيل التى قادت إلى حرب يونيه المفهوم الأساسى هو أن الدول الصغيرة رغم عدم قدرتها على التأثير فى التوازنات الدولية إلا أنها من خلال تنمية قدراتها الاقتصادية من جانب، ثم القيام بحرب خاطفة إقليمية تخلق نوعاً من الاختلال فى التوازن الدولى بين القوتين الأعظم، لا يعنينا هذا التصور إلا فكرة الحرب الخاطفة القادرة على خلق الدول المسيطرة إقليمياً، ثم تأتى التطورات الدولية التى أصابت المنطقة ابتداء من حرب 1973 والتى انتهت بخروج مصر من الصف العربى وإطلاق يد إسرائيل فى لبنان.
الفقه الإسرائيلى المعاصر ومنذ العام الماضى أضحى يطرق بصراحة ووضوح هذا الهدف أى التجزئة كأحد عناصر الأمن الإسرائيلى، بل إنه يصير عنصراً أساسياً لا بديل له ، ونستطيع أن نحدد الإدراك الصهيونى بهذا الخصوص فى ثلاث خطوات متتالية:
أولاً: الهزيمة العسكرية السابقة تصير الخطوة الأولى. إن هذا يعنى فقدان الثقة فى الذات والقناعة فى عدم القدرة على المواجهة، ولذلك فإن الهزيمة العسكرية يجب أن تصاحبها أمور ثلاث: تدمير مكثف من جانب، وتشتيت للأهالى على صورة واسعة من جانب آخر، ثم الحرب النفسية من جانب ثالث.(1/79)
ثانياً: خلق مسالك الاتصال المباشر مع القوى الفكرية، والقيادية فى المجتمعات المحلية، وتدعيم مفهوم التعاون والحوار الذى يضع حداً للعداوة التقليدية، ويخلق طبقات منتفعة، مئات الآلاف التى بدأت إسرائيل تنفقها فى مصر ثم فى لبنان على الأبحاث الميدانية، والبحوث المشتركة مع بعض أساتذتها، تخفى تحركا خبيثا محوره خلق بذور الصداقة والمصلحة فى الجسد العربى، والتى سوف يقدر لها فيما بعد أن تتسع كبقع الزيت لتضفى على التواجد صفة الشرعية، وتخلق التحالف مع بعض القوى الذاتية.
ثالثاً: تخريب المرافق القومية. قد يبدو هذا الهدف لا صلة له بهذا المخطط، ولكن التعامل البعيد المدى يسمح بإدراك حقيقة ذلك، إن تخريب المرافق يؤدى إلى فقد الهيبة والشعور بعدم فاعلية الدولة المركزية، ويرتبط بذلك الإكثار من الفضائح وتلويث القيادات، لأنه فى الأمد البعيد لا بد وأن يُضعف الولاء نحو السلطة المركزية.
ب- ولكن الذى يعنينا أن نُفصّل بخصوصه هو: أين مصالح السياسة الأمريكية فى تنفيذ مثل هذا المخطط.
والواقع أن القيادة الإسرائيلية استطاعت أن تخلق القناعة الأمريكية من عدة منطلقات، ورغم أن المكان لا يسمح برصد جميع مصادرنا إلا أننا نكتفى بأن نسوق وثيقة خطيرة لأحد مسؤولى وزارة الخارجية الإسرائيلية وهو "أوديد بينون" بعنوان " استراتيجية إسرائيل فى الثمانينات " نشرتها مجلة الدراسات الفلسطينية فى العدد الثانى لعام 1982 والأهرام الاقتصادى بتاريخ 18/1/1982 وكانت أساسا لمجموعة من التحقيقات قامت بها جريدة لموند الدبلوماسى آخرها نشر فى عدد يناير 1983 حيث اقتنع صاحب تلك التحقيقات بصحة ما ورد فى تلك الوثيقة وجعلها أساساً لتحليلاته. ونستطيع أن نضيف إلى ذلك " الكتاب السنوى لإفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط "، والذى يعنى أساساً بالنواحى الاستراتيجية فى عدديه الأخيرين: عام 1982 والعام السابق عليه.(1/80)
منطلقات ثلاثة كانت أساسا لخلق القناعة فى اعتماد هذه السياسة، أو على الأقل عدم المعارضة مع تنفيذها:
أولاً: منطلق نظرى أساسه: أن المنطقة تعيش اضطرابات متتالية منذ الحرب العالمية الأولى حتى اليوم، كنتيجة لأنها استقبلت مفهوما غربياً على تقاليدها، وهو مفهوم " الدولة القوية " هذا المفهوم الذى هو محور السياسة الأوربية، لا يصلح للواقع العربى. إن هذا الواقع يرتبط بمفهوم آخر أكثر صلاحية، وهو مفهوم "الدولة الطائفية" تاريخه يقوم على هذا المفهوم الأخير، وواقعه يسعى لذلك المفهوم، وتاريخه المعاصر يثبت فشل أى مفهوم آخر، فلماذا لا نجرب هذا التصور الذى ينبع من واقع المنطقة؟(1/81)
ثانياً: منطلق تاريخى يرتبط بخبرة الاستعمار الفرنسى والبريطانى، فكلاهما حاول تأسيس وجوده فى المنطقة، من خلال تفتيت الكيانات القوية، وقد كان الاستعمار الفرنسى فى هذا أكبر باعاً، بل إن نفس التنافس الفرنسى البريطانى كان مصدرا لمذابح عديدة، وبصفة خاصة بين الدروز وخصومهم التقليديين الموارنة فى نفس المناطق التى تشاهد اليوم فصلاً آخر من قصة هذا الصراع، جبل لبنان ليسى النموذج الوحيد فالقصة أيضا لها مظاهر أخرى فى سوريا ولعل أهمها الدولة العلوية. بريطانيا اتبعت سياسة أقل وضوحاً بهذا الشأن، فهى تعتمد على الأقليات وتجعل من ذلك مبدأ وسيلة لخلق الفرق القومية، ولكن ليس بمعنى خلق دولة الأقليات أو بعبارة أدق ليس معنى المفهوم الطائفى بمفهوم إقليمى. ورغم أنها فى لحظة معينة حاولت ذلك فى العراق عقب اكتشاف البترول، حول الموصل فأبرزت فكرة الدولة السريانية، إلا أن هؤلاء قدر لهم أن يُمزّقوا عام 1930 تحت بصر الجيش البريطانى، دون أن يتحرك أو يمد لهم يد العون. على أن المصدر الفكرى الحقيقى الذى تستمد منه القيادة الإسرائيلية تصورها، يعود للفكر النازى، يكتب " إسرائيل شاهاك " رئيس اللجنة الإسرائيلية لحقوق الإنسان تعليقاً على ذلك: "لا يجوز لنا أن ننظر إلى هذا المشروع على أنه تنقصه الصلاحية العملية، أو على أنه غير صالح للتطبيق على الأقل فى الأمد القريب. إن مشروع تجزئة المنطقة يستند بأمانة إلى النظريات الاستراتيجية التى سادت ألمانيا خلال الفترة 1890-1933 والتى تبناها وطبقها بحذافيرها هتلر والنظام النازى، والتى سيطرت على سياسته فى أوروبا الشرقية. الأهداف المحدودة بهذه النظريات، وبصفة خاصة عملية تفجير الدولة القائمة، طبقت ابتداء من الحرب العالمية الثانية فى أوروبا فقط التحالف الدولى هو الذى منع تطبيقها على الأمد البعيد... محور التصور النازى هو أن ألمانيا لن تستطيع أن تحكم أوروبا، وتسيطر عليها إذا ظلت إلى(1/82)
جوارها كيانات قوية، على قسط معين من الكم الديموجرافى كفرنسا على سبيل المثال، ومن ثم فتجزئة فرنسا وتحويلها إلى عدة دول يسمح لألمانيا بخلق السيطرة الدائمة، ووضع اليد المطلقة على مصير وقيادة هذه الدول، هذا المفهوم هو الذى يغلف منطق اللقاء الجديد بين تل أبيب وواشنطن.
والواقع أن علينا أن نتذكر أن العلاقة بين الدولة اليهودية والدولة العظمى اجتازت عدة مراحل: قبل 1967 ثم ما بين حرب يونيه وحرب أكتوبر، ثم عقب حرب أكتوبر وحتى حرب لبنان 1982 فى المرحلة الأولى التعامل معنوى، والمساعدة أدبية، تدور حول احترام الوجود الإسرائيلى فى نطاق حدوده الدولية منذ إنشاء إسرائيلى، عقب 1967 أضحت إسرائيل هى حاملة الطائرات الثانية فى المنطقة لحماية المصالح الأمريكية، وبصفة أدق لتأديب القيادات العربية، منذ عام 1975 ازدادت الصلة والترابط حيث أضحت إسرائيل رأس حربة للتواجد الأمريكى الممتد فى المحيط الهندى وحتى داخل الخليج العربى من جانب، ومدخل البحر الأحمر من جانب آخر، ولكنها فى عام 1982 تصير أداة لوظيفة أخرى أكثر خطورة، التقرير الذى سربته الصحافة الفرنسية فى العام الماضى والذى ارتبط بالتعاون الاستراتيجى بين تل أبيب واشنطن والمرتبط أيضاً بما يسمى قوى الانتشار السريع أساسه أن إسرائيل تعد بحيث تستطيع أن توجه ضربة أولى للبحرية السوفيتية، لو خرجت بكثافة معينة من البحر الأسود متجهة إلى البحر الأبيض المتوسط الشرقى بواسطة الطيران الإسرائيلى المتقدم، هذه الوظيفة لها ثمنها فما هو؟ سؤال آخر ليس هنا موضع الإجابة عليه، ولكن صمت السياسة الأمريكية إزاء عمليات التمزيق لا بد وأن يكون أحد عناصر المقابل الذى سوف تحصل عليه قيادة ليكود، فى مقابل هذا الدور الذى يتفق مع الفكر الصهيونى اليمينى، الذى يسيطر على القيادة الإسرائيلية فى هذه الخطة.(1/83)
ثالثاً: ثم يأتى المنطلق الثالث وهو المنطلق الواقعى. النظرية الأمريكية التى وضع أصولها قادة البنتاجون بصفة خاصة، منذ مجىء " ريجان " إلى السلطة، هى تحويل منطقة الشرق الأوسط إلى قاعدة عسكرية متقدمة، مع ربط المنطقة بوسط أوروبا من جانب وبوسط المحيط الهندى من جانب آخر، الذى يعنينا أن نلاحظه بهذا الخصوص:
ا- أن هذه المنطقة تتضمن أضعف مواقع الحلف الأطلنطى وعلى وجه التحديد تركيا واليونان، والإدارة الأمريكية واعية بهذه الحقيقة ومن ثم فهى فى حاجة إلى تدعيم هذين الموقعين بعمق استراتيجى فى الجنوب، بالنسبة لليونان تصير مصر، وبالنسبة لتركيا تصير لبنان، ومن ثم لا بد من التواجد الأمريكى والانتشار الأمريكى لتأمين المرافق الإقليمية.
2- هذه المنطقة تتضمن وتحتوى على أضعف مواقع القدرة السوفيتية، وهى المنطقة الممتدة من أفغانستان حتى البحر الأسود، إنها المنطقة الرخوة فى الجسد الروسى، والولايات المتحدة لابد من أن تعمل على إضعاف هذه المنطقة وبقدر المستطاع وأساليبها هى خلق القلاقل وتصدير حركات الرفض الإسلامية.
3- على أن أهم ما يعنى الإدارة الأمريكية هو تحويل المنطقة إلى قاعدة شبيهة بقواعدها فى غرب أوروبا، السياسة الأمريكية فى غرب أوروبا كما بلورتها أحداث ما أعقب الحرب العالمية الثانية، تدور حول رفع مستوى المعيشة وخلق المشاركة الشعبية، وتكتيل الإرادات القومية خلف السياسة الأمريكية، فهل تطبق مثل هذه السياسات فى المنطقة العربية؟
وهكذا يطرح السؤال الأساسى: هل سياسة المساندة الإقليمية تفرض تشجيع سياسة الوحدة العربية أم العكس؟
هنا يبرز الدور الخطير للإدارة الإسرائيلية ونستطيع أن نُلخص الإدراك الأمريكى حول مجموعة عناصر أساسية:
أولاً: أن الوحدة العربية ضد المصالح الأمريكية ومن ثم يجب تفجيرها.(1/84)
ثانياً: أن التعاون الجزئى المحدود لا يتعارض، بل قد يصير فى صالح السياسة الأمريكية. وبهذا المعنى دفعت بالتعاون فى منطقة الخليج ولم تمانع فى التقارب المصرى السودانى، بل ويقال بأنها فى لحظة معينة كانت خلف التقارب السورى العراقى.
ثالثا: هذا التعاون المحدود والشكلى لا يمنع من تشجيع سياسة التجزئة بل والفرقة الداخلية، إنه تعاون شكلى هدفه الحقيقى حماية النظم القائمة ولكن من جانب آخر فإن تجزئة وتفتيت هذه الكيانات يسمح بتحقيق هدفين أساسيين:
ا- التواجد العسكرى باسم حفظ الأمن، وهكذا رأينا واشنطن تضع قواتها فى لبنان وهى سوف تزيد من هذه القوات التى هدفها الأساسى خلق نوع معين من الاستقرار الذى يسمح لقواتها عند اللزوم بالانتشار السريع.
2- السيطرة على المرافق الإقليمية، إن أى دولة صغيرة غير قادرة على تأمين هذه المرافق وبصفة خاصة تلك المتعلقة بالمواصلات والاتصالات والتخزين، ومن هنا تتقدم الدولة الكبرى للقيام بإنشاء هذه المرافق أو تطويرها أو صيانتها، وهى مسألة حياة أو موت بالنسبة لقواتها فى المنطقة، لو قدر لها أن تشتبك فى معركة على قسط معين من الأهمية.
وهكذا نصل إلى جوهر هذه الملاحظات: سياسة جمع المعلومات والبحوث المشتركة كأداة لتحقيق هذه الأهداف المختلفة، ضبط القوى المحلية الساعية والقادرة على التغيير أولاً، ثم العمل على تجزئة مصر ثانياً، وذلك دون الحديث عن عزل مصر وتفريغها من قواها الحقيقية، ويستتر خلف كل ذلك إعداد مصر للدور الذى قد أعدته لها الاستراتيجية الأمريكية بالتوافق التام مع الاستراتيجية الإسرائيلية.
وهنا لا بد وأن نطرح التساؤل الخطير: أين مسؤولية علمائنا؟ وأين مسؤولية أجهزة الأمن لدينا؟ وهل القيادة واعية بهذه المخاطر؟ وماذا أعدت لمواجهتها؟ ".
الخاتمة
المقالة السابعة(1/85)
( كيف تواجه الأمة الخطر الصهيونى الاستعمارى فى مجال جمع المعلومات والتجسس على العالم العربى على وجه العموم ومصر على وجه الخصوص؟ ) وقد أجاب الكاتب- رحمه الله- على هذا السؤال فى المقالة السابعة
تحت عنوان:
" مصر الحبيبة أعلم أنك تبكين فى صمت وهدوء، وأنت تتحاملين على نفسك لتقفين صامدة بكبرياء قوية، دون خنوع فأنت دائما القاهرة، ولكن تكونى سوى القائدة، وأعلم أنك تتلفتين حول أرضك فلا تجدين سوى العداوة والحقد، وهى عداوة مردها الحقيقى الشعور بالضعة. ولكنك تعلمين أيضاً أن قصتك هى قصة البطولة، وأن تاريخك لن يكون سوى نموذج التضحية، تقدمينه دون ضجة أو ضوضاء.. وهذا لم يمنعك من أن تتوقفى من آن لآخر لتنظفى منزلك مما علق به من أوحال، وهذا هو سر قوتك وسر بقائك، رافضة الفناء مؤكدة العظمة والخلود، نعم علينا أن نستعيد حقيقة ما حدث، وما يحدث حولنا، وعلى الحاكم أن يخرج عن صمته ليؤدى واجبه إن أراد أن يخلى مسؤوليته أمام الله ثم الأجيال القادمة وأن يعلن أمام الضمير القومى بأنه واع بحقيقة واجبه.
وليعلم أن هذا وحده هو أساس شرعيته، هناك أخطاء ارتكبت ولا نريد أن نفتح مأساة الماضى، ولكن يجب أن يوضع حد لتلك الأخطاء، وأن يعامل من ارتكبها بوعى حقيقى بفداحة الإثم، والذى ارتكب فى حق هذه الأمة، فلندع جانباً حديث العاطفة. إن مصير أمنا المصرية فى الميزان. ونحن لا نطالب بأن يفعل الحاكم ما فعله "كليمنصو " عندما أراد أن ينقذ أمته من جحافل الألمان فوضع جميع رجال التعاون مع الجيش الغازى فى السجن حتى تنتهى المعركة، كلا ولكننا نريد محاكمة حقيقية لأولئك الذين خانوا أمتهم، وخانوا أمانة العالم التى وضعت فى أعناقهم عندما قبلوا أن يكونوا فى بلادنا جيشاً من العملاء.
ولكن لنبدأ من المقدمات:
أ- النتائج التى وصلنا إليها نستطيع أن نوجزها بصراحة ووضوح حول ثلاثة متغيرات أساسية:(1/86)
أولاً: السياسة الأمريكية متحالفة مع الاستراتيجية الإسرائيلية، فلندع جانباً جميع المسرحيات التى يلجأ إليها تارة رجال البنتاجون وتارة مخططو الدبلوماسية فى واشنطن، من يقتنع بها فهو ساذج إن لم يكن خائناً يتلاعب بضمير أمته، والسياسة الأمريكية تجد نفسها فى منطقة الشرق الأوسط كالغريق الذى يشعر بحقه فى أن يتعلق بأى قشة تنقذه من المأساة التى تنتظره، إن قادة واشنطن لا يفكرون فى إمكانياتهم الحقيقية؟ لأنهم ليس لديهم خبرة بالسياسة الدولية، ولم يعدوا لقيادة العالم الحر وما يفرضه ذلك من مسؤوليات، ولا يظن أحد أننا أول من يقول ذلك، بل جميع المحللين المحايدين فى جميع دول أوروبا الغربية يرتجفون رعباً، إزاء المصير الغامض الذى ينتظرهم وهم يسيرون خلف رعاة البقر.
ثانياً: كذلك فإن القيادة الإسرائيلية قد استطاعت أن تقنع القيادة الأمريكية بأن خير مصير للمصالح الغربية هو تجزئة المنطقة، وجعل مفهوم الدولة الطائفية يسود هذه المنطقة هو السند الحقيقى لإمكانية تحقيق تلك الأهداف على الأقل لمدة خمسين عاماً قادمة، وهم لا يستبعدون أى دولة فى المنطقة من هذا المخطط بما فى ذلك الدول الإسلامية غير العربية، والأمر الأكثر خطورة أنه بينما كان الفكر الاستراتيجى وعقب اتفاقيات كامب ديفيد، يؤجل تجزئة مصر إلى نهاية المطاف، فإن القناعة الحالية هو أن مصر يجب أن تسبق غيرها: الضعف الداخلى فى وادى النيل عنصر أساسى يشجع على ذلك ولكن أيضاً لأنه لو تحقق ذلك فى مصر فإن التقسيم والتجزئة لباقى دول المنطقة يصير أمراً تلقائيا، ولنذكر أخوتنا فى العروبة أن هذا المخطط لن يترك جزءاً حتى المغرب من هذا المخطط.
ثالثا: إن سياسة جمع المعلومات تصير بهذا المعنى أداة معدة ومكملة للتحرك السياسى فى منطقة الشرق الأوسط بصفة عامة، وفى مصر بصفة خاصة، ثم تسمح بالمعرفة الدقيقة للنواحى التالية:(1/87)
1- تشكيل المجتمع الحقيقى عقب التطورات العنيفة اقتصاديا واجتماعيا التى تعيشها مصر منذ عشرين عاماً على الأقل.
2- موضع القيادات الحقيقية القادرة على التصدى من جانب، والصالحة للتطويع من جانب آخر.
3- حقيقة المرافق الإقليمية والتى سوف تصير عنصرا أساسيا من عناصر البناء الجديد للمجتمع عقب تجزئته، ولصالح تحويل المنطقة كقاعدة عسكرية تؤدى وظيفة المواجهة.
وإذ نصل إلى هذه النتيجة علينا أن نطرح تساؤلين:
" التساؤل الأول ": هل تصير المنطقة بهذا المعلم بديلاً للمنطقة الأوربية فى المفهوم الأمريكى كموضوع للقتال الذرى الذى لا ينال الأرض الأمريكية من جانب والأرض الروسية من جانب آخر؟
التساؤل الثانى: هل تصير المنطقة بهذا المعنى أيضاً مقدمة لاستئصال الشعوب الملونة أو على الأقل ضبط الفيضان الملون والذى طرح فى لحظة معينة، وكان على جانب بين روسيا وأوروبا والولايات المتحدة فى مواجهة المخاطر القادمة من الشعوب غير البيضاء خصوصاً أن كل رجل أبيض فى نهاية الأمر سوف يواجهه ستة ملونين؟ وهو الأمر الذى كان خلف الفكر الاستراتيجى فى نقل ميدان الصدام المحتمل إلى المحيط الهندى؟
هذان السؤالان يعبران بصراحة عن الإمكانيات الحقيقية لمصر، فى هذه اللحظة
لو قدرت لها متطلبات القيادة الواعية والقيادة الواعية يعنى مقدرة أولاً، أى مرنة وصلاحية ثم شجاعة ثانياً، أى استعداداً للمغامرة، ولو بحساب ثم تخطيطا وتنظيفا ثالثاً، أى مجموعة أو من فريق باحث يتولى الإعداد والمتابعة، لتنفيذ السياسة الخارجية ولنذكر المسؤولين أن السياسة الخارجية لم تعد هواية وإنما هى حرفة وتخصص، ثم الإخلاص رابعاً وهو وحده الذى يضبط ويقلل من مخاطر الفشل والإخفاق.(1/88)
ب- والآن لننتقل إلى مسؤولية العلماء الذين يساهمون فى عملية جمع المعلومات عن مصر وفى أدق جزئياتها، نحن نؤمن بحرية البحث العلمى، ولكن الباحث المصرى ولخدمة المجتمع المصرى وليس يستطيع عدو مصر أن يعرف كل شىء عن مصر، وكيف يستطيع عندما تحين اللحظة المناسبة أن يتحكم فى جميع مفاصل الجسد المصرى، هؤلاء العلماء الذين تعاونوا تحت ستار الأبحاث المشتركة ينقسمون إلى قسمين: أحدهما: حسن النية، وينطوى تحت هذه الفئة وبصفة خاصة أولئك الذين تخصصوا تكنولوجياً وعرفوا بأنه إزاء التخلف الذى تعيشه مصر فهم لا بد وأن يلجؤوا لجميع الوسائل فى سبيل وضع حد لحالة التخلف إننى أتذكر أحد مديرى جامعة القاهرة وهو يتصور أن التقدم فى مصر ليس سوى حجرة عمليات مكيفة، هؤلاء يجب أن يخضعوا لعملية توعية أساسية، إنهم قد يوصفوا بأنهم علماء ولكنهم من حيث الواقع نموذج حى للأمية السياسية. يجب أن يفهم هؤلاء أن ما تواجهه مصر اليوم، ليس السعى نحو التقدم التكنولوجى، وإنما احتمالات الاختفاء الحضارى، ثم هناك مجموعة أخرى وأقصد بصف خاصة علماء السياسة، والكثير من علماء الاقتصاد، الذين تطوعوا لهذا العمل على علم ودراية، ولكن لأنهم يريدون أن يرفلوا فى الغنى واليسر. هؤلاء يجب أن يحاسبوا لقد لوثوا أنفسهم ولوثوا الجامعات التى ينتسبون إليها، ويجب أن يوضع حد لاتصالهم بشبابنا بعدما رسّبوا فى أذهانهم أحقر القيم وأخس المثاليات، نحن نريد علماء يمثلون قيم أمتنا التاريخية، نحن نريد علماء يقدمون بسلوكهم النموذج للجيل الشاب، الذى يجب أن يجتذبه، نحن نريد علماء يعرفون كيف يحتضنون قيم أمتهم بجسدهم، ولو فرض على ذلك الجسد أن تنهال عليه الحراب من كل صوب، نحن نريد علماء يؤمنون بأن وظيفة العالم هى التضحية وليس البيع والشراء.
مسؤولية العلماء تطرح مجموعة مشاكل جانبية:
أولاً مسؤولية الدولة:(1/89)
بخصوص تشجيع البحث العلمى، لقد استقرت جميع دول العالم المحترمة على تخصيص نسبة معينة ولتكن ضئيلة من الدخل القومى للبحث العلمى، وهذا يفترض أيضا خطة عامة للدولة فى هذا الخصوص، بحيث يتم تنسيق ليس فقط بين الجامعات بل وكذلك بين الأجهزة المسؤولة عن البحث بما فى ذلك نفس عملية اختيار موضوعات الرسائل الجامعية، ولايجوز أن نتصور أن التخلف أو الفقر يمثل عقبة لا يمكن اجتيازها، فالهند بما هى عليه من مشاكل استطاعت أن تتخطى هذه النواحى، وعلينا أن نتذكر كيف أن سوق البحث العلمى فى البلاد العربية أيضاً قادرة على تخطى الكثير من هذه النواحى، ونحن لا نبالغ عندما نؤكد أن بعض الجهات العربية تدفع أكثر مما تقدم، أكثر مصادر التمويل الأمريكى غنى ويسرا. ولكن كل ذلك فى حاجة إلى سياسة وتنسيق، بل ولا يوجد ما يمنع من أن نحصل على المعونة الامريكية، ولكن على أن تقف عند حد المساندة، أما الإشراف والمشاركة والتوجيه وسرقة المعلومات فهذه جميعها أمور أخرى.
ثانياً:
كذلك فعلينا أن نلاحظ أن جمع المعلومات الميدانية لا يمكن أن يتم فى أى دولة فى العالم إلا على الأقل بتنسيق مع أجهزة الأمن، هل ما يحدث فى مصر يمكن أن يحدث فى نفس الولايات المتحدة، أو فى أى دولة أوربية؟ وعلينا أن نلاحظ بهذا الخصوص ضرورة التفرقة بين جمع المعلومات، ثم استخدام المعلومات ثم عملية نشر نتائج دراسة المعلومات:
1- يجب التمييز القاطع بين جمع المعلومات واستخدام المعلومات فى تفسير أو تحليل الظواهر: إذا كان الثانى مفتوحا أمام الجميع فى دول العالم الحر، فإن الاول أى جمع المعلومات حتى لو قامت به أجهزة خاصة فلا بد وأن يتم تحت إشراف ورقابة أجهزة الأمن، بل وفى أغلب الأحيان يوضع فى المجموعة الباحثة شخص وظيفته الحقيقية أن يقدم تقريرا دورياً عن مدى تقدم عملية جمع المعلومات، بحيث لو اقتربت من النقط الحساسة صدر الأمر بالتوقف أو بتغيير اتجاهات البحث.(1/90)
2- كذلك فإنه بالنسبة لتفسير المعلومات، فهناك دائماً ثلاثة مستويات: الأول: وهو ما يسمى بمستوى النشر العادى.
ثم المستوى الثانى: والذى يوصف بأنه ينشر بطريقة ضيقة أو ما يعبر عنه بكلمة Confidential.
ثم يأتى المستوى الأخير: والذى يوصف بأنه Top Secret، والذى فى العادة يكتب على الآلة الكاتبة، بل ويتبع ذلك أسلوب معين، لا يُسمح حتى لمن يكتبه بأن يعرف المحتويات كاملة، وذلك بأن يقسم التقرير بين ثلاثة أو أربعة يتولون تلك العملية، فهل نحن نفهم معنى ذلك؟ ولنتذكر أن ذلك يحدث فى داخل مراكز البحث القومية فى تلك المجتمعات المتقدمة، وتصير بعض أجزاء البحث غير المعلومة، حتى ممن قام بها وهم جميعهم مواطنون، وليس هناك أبحاث مشتركة أو علماء أجانب مشاركون؟
3- أما عن مناقشة نتائج عملية جمع المعلومات، فإن السؤال الآخر الذى نطرحه هو
: كيف يتم ذلك فى الجامعات والمعاهد الأمريكية؟ كيف يسمح ذلك الأستاذ المصرى لنفسه أن يذهب إلى بوسطون يفتح حنفيات معلوماته وتصوراته، ثم يأتى هنا يحدثنا عن القومية العربية، وعن كفاح الطبقات، وعن العدالة الماركسية؟ وليس ما يفعله مما يضعه تحت طائفة العقاب؟ ألا يوصف هذا بأنه نوع من الخيانة العظمى؟ إحدى قواعد المسؤولية الجزائية. إن من يحصل على معلومات من خلال ممارسته لمهنته فليس من حقه إفشائها، إن إفشاء سر المهنة هو جريمة تعاقب عليها جميع القوانين، بل وحوكم بعض العلماء الأمريكيين بهذا الخصوص أثناء حرب فيتنام، فهل لا ينطبق هذا الوصف على ما يفعله علماء السياسة لدينا بخصوص أمننا القومى؟
ثالثاً: كذلك علينا ألا ننسى النتائج السيئة التى ترتبت على ما حدث حتى الآن بصدد عملية جمع المعلومات فى مصر وخلال الأعوام العشرة الأخيرة.(1/91)
1- فهناك توجيهات البحث بصفة عامة إلى المشاكل التى تعنى فقط وأساسا السياسة الأمريكية، وليس تلك التى تعنى السياسة المصرية، لقد طرحنا فى أثناء هذه الدراسة موضوع تحضير العالم العربى، فهل نشرت نتائج هذا البحث، والذى أنفقت عليه منظمة فورد؟ ولماذا لم تنشر نتائجه، أو تتداول حتى هذه اللحظة ولا تزال حبيسة الجدران بين روما وبعض الجهات المسؤولة فى الولايات المتحدة؟ إن نسخة واحدة من هذه الدراسة لا توجد فى أى جهة فى مصر فكيف نفسر ذلك؟
2- ثم هناك القدرة على التأثير على صانع القرار المصرى، جميع علماء تحليل وقياس الرأى العام يسلمون بأن نشر نتائج الاستطلاعات قبل حدوث التصويب يؤدى إلى تشويه الرأى العام، وذلك فى المجتمعات المتقدمة، فما بالنا بما يمكن أن يحدث فى المجتمعات المتخلفة حيث يتميز صانع القرار فى كثير من الاحيان، وقد رأينا مثلاً لذلك- بالأمية السياسية؟
3- ولا يجوز لنا أن ننسى الآثار السيئة عندما يرى العالم النظيف زميله الذى لا ولاء له، وهو يرفل- يغرق- فى الذهب، بينما هو يعانى فى سبيل لقمة العيش معاناة نعرفها جميعاً، إنه يكرر مأساة رحيل علمائنا إلى العالم الغربى فى صورة أكثر بشاعة، وهو لذلك لا بد وأن يقود إلى عملية مزدوجة: تلويث نفسى على الأقل لمن يتعاون من جانب، وتمزيق نفسى لمن يرفض مثل هذا التعاون فلمصلحة من ذلك؟؟(1/92)
4- ويأتى فيكمل ذلك ما يحدث فى داخل الجامعات كنتيجة لما نسميه مقاول الأبحاث، لقد أضحى أغلب علمائنا الشباب الذين يعملون لدى تلك الهيئات وظيفة الواحد منهم أن يفرض الإتاوة على مساعدين ومعيدين، بحيث يصير الواحد منهم وظيفته فقط أن يبصم على أبحاث جهود الآخرين، فهل هكذا تخلق التقاليد الجامعية؟ إن جامعاتنا التى عرفت بتقاليدها أضحت اليوم معروفة بأنها لا تقاليد لها، هل نروى قصة الأستاذ الذى رفع قضية ضد زميله يطالب بالتعويض؟ لأنه نقل مذكراته وطبعها باسمه فلم يجد المدعى عليه ليدافع عن نفسه سوى أن يثبت أن كلاهما نقل مذكرات أستاذ ثالث، ليعيش بينهم وبمثابة أستاذ ومعلم لكليهما؟ وكيف يمكن أن تترسب تقاليد حالية فى إطار حيث مدير الجامعة يبيع نفسه، ورئيس القسم يزور، ثم الأستاذ وهو يقفز على كل حبل ويغنى بكل مزمار؟ وكيف يمكن فى مثل هذا الإطار أن تخلق التقاليد التى أساسها فقط مفاهيم القناعة، وقيم الكرامة القومية، ومبادئ الوظيفة الحضارية؟(1/93)
5- ولتكتمل هذه المأساة يأتى أسلوب " الخطف "، فيصير أحد تقاليد البحث لدينا فى هذه الأعوام، أن الباحث الذى باع نفسه للجهات الاجنبية يتعجل فى استغلال المواقف ولسان حاله: فلنسرع قبل أن تفوتنا الفرصة، وهكذا ترتب على ذلك فقط تقديم أبحاث لا قيمة لها، بل وسرقة جهود الآخرين، أخطر مظاهر ذلك سرقة الأفكار، ولنقدم نموذجا محدداً بحث جمهورية مصر العربية، هذا موضوع طرح كبحث جماعى فى المجلس الأعلى للثقافة والعلوم الاجتماعية، وقدم بخصوصه مشروع بحثى كالعادة فإن البحث الجماعى لإقراره فى حاجة إلى عدة دراسات ابتدائية، والبيروقراطية لدينا تزيد من تضخم العملية، والمجلس الاعلى لدينا بطبيعته مصاب بالترهل فى خلال ذلك تأتى تقاليد الخطف فيُسرق المشروع وتُسرق الفكرة وتتولى "فورد " الإنفاق، بماذا يمكن أن يوصف هذا السلوك حتى اللصوص يعيشون على نظام ويحترمونه، ونحن قد تجاوزنا تقاليد قانون الغابة بسبب إغراء المال، الذى هبط علينا فجأة فحطم كل تقاليد الشرف والكرامة؟
جـ- أما عن مسؤولية أجهزة الأمن، فإن المأساة أكثر خطورة. إن جهاز الامن وظيفته حماية المجتمع فى نطاق التعامل الداخلى والخارجى، ليس فقط من أعدائه بل وكذلك من أصدقائه، هكذا علمنا علم المعلومات لأبنائنا، وهكذا تعلمناه فى أعظم معاهد العلوم السياسية فى العالم، فهل نحن هنا فى مصر قد فهمنا هذه الحقيقة؟ وكيف يتم بحث مشترك أو بحث ممول من الخارج دون أن تكون هناك جهة أمنية قد أشرفت على التصريح لذلك البحث وحدود المعلومات التى سوف تجمع، وتلك التى يجوز أن يعهد بها إلى الجهات الأجنبية حتى لو قبلنا المبدأ، وتلك التى تظل حبيسة الجدران؟
وأجهزة الأمن التى يجب أن تتعاون بذلك الخصوص ثلاثة:
أولاً: الجهاز المركزى للإحصاء والتعبئة.
ثانياً: المخابرات العامة.
ثالثا: جهاز الأمن بوزارة الخارجية.(1/94)
يجب أن تنشأ هيئة تمثل هذه الأجهزة الثلاثة ينضم إليها بعض خبراء التخطيط السياسى، والمرتبط بالتعامل مع المعلومات لتتكون هيئة عليا تتبع أيا من هذه الأجهزة لتصير وظيفتها الإشراف على هذه البحوث المشتركة، وكذلك الممولة من الخارج من حيث التصريح بها، ثم مساراتها ومتابعة كل دقائق تنفيذها، لقد آن الأوان لوضع حد لحالة التسيب التى يعيشها البحث العلمى فى مصر، ويجب أن يكون هناك حساب ومسؤولية لكل من يخالف توجيهات تلك الهيئة، يجب أن يوضع قانون لأمن المعلومات يحدد ضوابط قاطعة للتعاون مع الجهات الأجنبية، ولنتذكر مرة أخرى أن جميع هذه الجهات تحيطها شبهة التعامل مع أعدائنا الحقيقيين، والذين يتربصون بنا، ولنتذكر أن معركتنا القادمة هى معركة حياة أو موت، ولأذكر كذلك بأن منظمة " فورد " هى ذراع حقيقى لوكالة المخابرات المركزية، ولأذكر بهذا الخصوص على سبيل المثال بعالمين انتهيا إلى هذه النتيجة بعد دراسة استغرقت أعواماً طويلة، الأول العالم الفرنسى (جوليان) الذى كان مسؤولاً فى لحظة معينة عن جريدة ( لموند الفرنسية )، وقد نشر خلاصة أبحاثه فى كتابه بعنوان: "الامبراطورية الأمريكية " والثانى العالم البريطانى " لوندون " فى كتابه عن صنع السياسة الخارجية، لقد أضحى من المسلّم به أن منظمة فورد تعمل لحساب وكالة المخابرات الأمريكية، وإن أداتها الحقيقية تحقيق ذلك التعاون، رئيس المنظمة من جانب، ومدير علاقتها الخارجية من جانب آخر، كلاهما يُختار من بين رجال وكالة المخابرات، هل نريد أسماء القائمة أوردها "إنديس " فى كتابه الذى سبق وذكرناه، والذى أصدرته دار (ماسبيرو) فى العام الماضى؟ ولنتذكر أن ما يحكم السياسة الأمريكية كما يقول "جوليان ": هو مبدأ المسؤولية الجماعية.(1/95)
فهل قيادتنا قادرة على أن تعى معنى كل هذا؟ وهل يتعين علينا أن نكون أكثر صراحة وأن ننزل إلى مستوى المهاترات الفردية لنستطيع أن ندخل فى وعى القيادات المسؤولة حقيقة المخاطر التى تحيط بنا وبمستقبل أمتنا؟
وإن غداً لناظره لقريب!! ".
تعقيب حول احتواء العقل المصرى
المرأة الخارقة فى مصر
بقلم دينا عبد العزيز
تحت هذا العنوان نشرت الأهرام الاقتصادى (26):
قرأت فى الأهرام الاقتصادى مقالة الدكتور/ حامد ربيع عن " احتواء العقل المصرى " وأتابع مقالات الأستاذ/ محمد هجرس عن " خرافة الشعب اليهودى " بشغف كما أتابع فى الصحف سواء القومية أو المعارضة عن محاولات تغلغل النفوذ الصهيونى فى العالم العربى عن طريق الإعلام، وبطريقة بطيئة وغير مباشرة، ولكن أكيدة، وبما أنى درست الإعلام فى الكلية، فقد رأيت أن أكتب لكم عن خطورة الإعلام المرئى الذى يتعرض له شبابنا وأطفالنا دون أن نتصدى له.
لقد عرض فيلم " غزاة الكنز المفقود " فى السينما لمدة ثلاثة أسابيع تقريباً، دون أن يفكر أحد فى إيقافه ومثله فيلم " عربة النار " والفيلمان يحتويان دعاية صهيونية، تمجد عظمة اليهود كجنس سام، والحمد لله تنبه المسؤولون إلى خطورتهما فأوقفوا عرضهما، لكن السؤال كم شاب وطفل شاهدوا هذه الأفلام، وما مدى تأثيرهما عليهم، وكيف سُمح لمثل نوعية هذه الأفلام أن تعرض.
مثال آخر لا ينتبه إليه أحد مع خطورته، هو حلقات " المرأة الخارقة " التى تعرض بنجاج فى التليفزيون لدرجة أنه أعيد عرضها مرة أخرى فى التليفزيون بناء على رغبة الجماهير، وفى هذه الحلقات نجد أن رئيس المخابرات يهودى، وأن المرأة الخارقة يهودية كما عرفنا فى أحد الحلقات، عندما أهدتها والدتها نجمة داود، وهى كما نرى امرأة أرادوها جميلة تمتاز بالأنوثة والإنسانية، ومساعدة الضعفاء وحماية وطنها، مرة أخرى نرى اليهود كجنس سام قوى ممتلئ بالمشاعر الإنسانية والرغبة فى حماية الضعفاء.(1/96)
يا ترى ما تأثير هذا على أطفالنا؟ خصوصاً فى وقت ضج فيه العالم من مذابح الإسرائيليين فى صبرا وشاتيلا، والتى لم يحدث مثلها فى العالم من قبل، ومن الغريب الذى يحتاج إلى أيضاًح أن التليفزيون المصرى عرض علينا فى نفس الوقت حلقات " داخل الرايخ الثالث " فيه تعريض بهتلر والنازية، لما قاموا به من فظائع تقشعر منها الأبدان، فهل المقصود هو تحويل نظرنا عن مأساتنا العربية فى صبرا وشتيلا.
بالطبع هذه نماذج قليلة جدا للطرق التى يتبعها الإعلام الإسرائيلى، وقد سقت مثالين فقط ، لأن نوعية الدعاية عن طريق الحلقات المثيرة والممتعة بالنسبة للأطفال هامة وخطرة جداً، لأنهم يتشربون كل هذه المعلومات قطرة قطرة، وأطفال اليوم هم رجال الغد ورأيهم الذى يكونونه فى سن مبكرة سيؤثر عليهم وعلى مصر فى المستقبل، ونوعية هذه الدعاية بالطبع لن تكون فى مصلحة مصر ولا مصلحة السلام المنشود.. ".
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
تعريف بالمؤلف
* حامد عبد الله ربيع.
* ولد فى 24 إبريل عام 1924م * حصل على البكالوريا عام 1942 م، ثم ليسانس الحقوق عام 1946م.
* واصل دراسته خارج مصر وحصل على درجات علمية عديدة منها: دكتوراه العلوم السياسية جامعة باريس عام 1962 م.
أعمال الدكتور حامد عبد الله ربيع:
* عمل محاضرا فى جامعة فلورانس بإيطاليا من عام 1956: 1958 وباحثا فى المركز الفرنسى للبحوث العلمية من عام 1958 : 1959.
* عين أستاذاً مساعداً بكلية الحقوق جامعة الفاهرة 1960.
* عمل مساعدا لكرسى القانون العام بجامعة باريس 1962 : 1964.
* تولى رئاسة قسم الدراسات السياسية والقومية بمركز البحوث العربية بالقاهرة ثم بغداد من عام 1973 : 1988.
* انتخب رئيسئا للندوة الدولية للعلوم السياسية بباريس عام 1982.(1/97)
* يعد أول عربى يحصل على درجة الدكتوراه فى التشريع البحرى فى العصر الذرى والتى نال عليها جائزة مركز البحوث القومى الفرنسى فى العلوم لعام 1956.
مؤلفات الدكتور حامد عبد الله ربيع:
* تزيد مؤلفاته عن خمسين كتابا وعشرات الأبحاث والمقالات وعشرات الرسائل العلمية التى أشرف عليها، من بين مؤلفاته ثلاثة عشر مؤلفا وضعها بالفرنسية والإيطالية أهم مؤلفاته رحمه الله تعالى:
ا- اتفاقيات كامب ديفيد " قصد حوار بين الثعلب والذئب "- عمان- مطبعة الجليل 1980.
2- الإسلام والقوى الدولية. نحو ثورة القرن الواحد والعشرين- القاهرة- دار الموقف العربى- ط ا عام 1981.
3- الثقافة العربية بين الغزو الصهيونى وإرادة التكامل القومى- القاهرة- 1983.
4- أزمة الديمقراطية والحرية فى العالم العربى- معهد البحوث والدراسات العربية- المنظمه العربية للتربية والعلوم والثقافة- الدورة الخامسة- عام 1981.
المراجع
1- إطار الحركة السياسية فى المجتمع الإسرائيلى- د. حامد عبد الله ربيع- دار الفكر العربى طبعة عام 1978.
2- الإسلام والقوى الدولية... د. حامد عبد الله ربيع، طبعة عام 1981.
3- الثقافة العربية بين الغزو الصيهونى وإرادة التكامل القومى. د. حامد عبد الله ربيع. دار الوقف العربى عام 1984.
4- مصر تدخل عصر النفايات الذرية- د. حامد عبد الله ربيع بالاشتراك مع الدكتورة نعمات أحمد فؤاد- دار الاتحاد للطباعة- طبعة عام 1979.
5- نظرية الأمن القوى العربى والتطور المعاصر للتكامل الدولى فى منطقة الشرق الاوسط د. حامد عبد الله ربيع- طبعة عام 1981.
6- سلوك المالك فى تدبير الممالك تحقيق د. حامد عبد الله ربيع- طبعة عام 1980.
7- أزمة الديمقراطية والحرية فى العالم العربى- د. حامد عبد الله ربيع- معهد البحوث والدراسات العربية- المنظمة العربية والعلوم والثقافة- الدورة الخاصة طبعة عام 1981.(1/98)
8- اتفاقيات كامب ديفيد " قصة حوار بين الثعلب والذئب "- د. حامد عبد الله ربيع، عمان- مطبعة الجليل طبعة عام 1980.
9- الوثائق الدولية للأمم المتحدة عام 1945. تقرير القس مبارك بشأن إنشاء دولة يهودية ودولة مارونية ودولة علوية.
10- مجلة الدراسات الفلسطينية العدد الثانى عام 1982 الأهرام الاقتصادى بتاريخ 18/10/1982.
11- الكتاب السنوى لإفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط عدد 1982-1982.
12- استراتيجية إسرائيل فى الثمانينات تأليف " أوديد بينون " (أحد المسئؤولين فى الخارجية الإسرائيلية) نشر فى: Le Monde Deplomatique 1983.
13- التقرير الذى سربته الصحافة الفرنسية عام 1988 عن معاهدة التعاون الاستراتيجى بين تل أبيب وواشنطن.
14- ملف إسرائيل- رجاء جارودى- دار الشرق- القاهرة.
إنتهى
_____________________
رقم الإيداع:17343/ 1998م
I.S.B.N:977-15-0259-X
______________________
1 التى ساهمت بالدعم المادى ، مع مؤسسة " كونراد أديناور " الألمانية وذلك عن طريق مدير مكتبها بالقاهرة، الدكتور توماس شيبان، وذلك لإعداد التقرير الأول، والثانى عن الحالة الدينية فى مصر، لمركز الدراسات الاستراتيجية للأهرام عام 1998، التقرير عن الحالة الدينية الجزء الاول الطبعة الخامسة، ص 10، الجزء الثانى ص9.
2 التاريخ ذاكرة الأمة.. وأمة بلا تاريخ أمة بلا ذاكرة، ومن وعى التاريخ فى صدره أضاف أعماراً إلى عمره.
3 الجواسيس: يعيشون فى مصر وينعمون بخيراتها تحت مسميات متعددة بعيدة تماماً عن مسمى الجواسيس ، فإما أنهم مجندون- كطلبة فى الجامعة، أو كأساتذة فى الجامعة، أو كفريق متعاون فى تأسيس شركة أو استثمار فى مشروع فالأساليب كثيرة.. بل ومتنوعة.(1/99)
راجع بالتفصيل كتاب " المؤامرة على التعليم رقم 3 أ ". حسن جودة وآخرون- دار الوفاء للطباعة والنشر المنصورة، ص 20: ص 64، الفصل الثالث (المنظمات الأمريكية ذات الصلة بالمخابرات الأمريكية والإسرائيلية ودورها فى تهويد عقل الأمة!!)! رسالة فى الطريق إلى ثقافتنا، د. محمود شاكر، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
4 هذا المخطط الاستعمارى يقوم على تنفيذ المخططات الواردة فى بروتوكولات حكماء صهيون: ا- بروتوكول 4 [ يجب أن ننزع فكره الله ذاتها من عقول غير اليهود، وأن نضع مكانها عمليات حسابية... ورغبات مادية ] 2- برتوكول 13سنحاول أن نوجه العقل العام نحو كل نوع من النظريات المبهرجة التى يمكن أن تبدو تقدمية.. أو تحررية،. وتحقق لنا ذلك بنظريات دارون ودوركايم.. وغيرهما ليسيطروا على العقول تحت مسميات مختلفة وعلى رأسها الغزو الثقافى.. الغزو المعنوى... راجع بروتوكولات حكماء صهيون- ترجمة محمد خليفة التونسى.
5 (1) ومن أجل هذا كانت الحملة الصليبية الفرنسية على مصر بقيادة بونابرت عام 1798.
6 مؤسسة فورد فونديشن : أخطر مراكز التجسس العلمية الأمريكية على الإطلاق، وقد بدأت ممارسة نشاطها فى مصر عام 1952 مع قيادة حركة يوليو، ولقد ازداد نشاطها الجاسوسى فى السبعينات، واهتمت الفورد فونديشن بدراسة التغيرات الاجتماعية والدينية والثقافية فى مصر والشرق الأوسط، بهدف دراسة مقومات هذه التغيرات والتنبؤ بها لمساعدة السياسة الأمريكية على التحكم فى مسار التغيير داخل هذه المجتمعات لخدمة مصالح الولايات المتحدة والصهيونية العالمية، والقضاء أولاً بأول على العناصر التى تهدد السيطرة الأمريكية على المنطقة. راجع كتاب " المؤامرة على التعليم " رقم 3. حسن جودة وآخرون، دار الوفاء للطباعة والنشر، المنصورة- عام 1993 ص 59.(1/100)
7 راجع بشىء من التفصيل كتاب الطريق إلى بت المقدس " القضية الفلسطينية "، د. جمال عبد الهادى مسعود ج 3، الفصل الخامس عشر- مخططات اليهود والأمريكان- المبحث الأول ص 163 ، دار الوفاء للطباعة والنشر المنصورة.
8 راجع ما نشرته جريدة (عرب تايمز) فى عددها 107 ص 38 بتاريخ 11: 20 ديسمبر 1992 لزيادة شرح المحاور الأربعة.. بل وما هو أكبر.
9 هل الطرق التى تم شقها ورصفها فى الصحراء الغربية لها علاقة بهذا الهدف، هل الإبرار البرى والبحرى والجوى الذى حدث فى الساحل الشمالى وداخل الصحراء أثناء المناورات المشتركة له علاقة بذلك ؟؟ هل السماح للأجانب بشق الطرق ورصفها وأستثمارها لمدة 99 سنة، له علاقة بذلك ؟ هل السماح للأجانب بإنشاء مطارات خاصة تحت إدارتهم لمدة 99 سنة له علاقة بذلك ؟ هل فيه دولة فى العالم تحترم أمنها القومى وتسمح بذلك ؟.
10 الحلم التاريخى كما هو مكتوب عندهم فى التوراة المحرفة فى سفر التكوين 15/ 18 [ وعقد الرب مع إبرام عهداً لنسلك أعطى الأرض- فلسطين وغيرها- من نهر مصر إلى نهر الفرات ].
11 الكاتب- رحمه الله- لا يعلم عن الغيب شيئاً، ولكن نتيجة خبرته.. ودراسته.. وعلمه، وتحليله للموقف كانت النبوءة، وهى من قبيل الاحتمالات، وليست النبوءة من النبوة والرسالة.
12 ويعنى الكاتب- رحمه الله- بالإسلام العربى (الإسلام عموماً حيث بدأ بالعرب) والإسلام الأسود يعنى إسلام الأمريكان السود أو الزنوج. والله أعلم
13 بل قد تم التنفيذ لشبكة الطرق.(1/101)
14 المخطط الأجنبى المعنى به اليهودى. يؤكد ذلك بروتوكولات حكماء صهيون، ففى البروتوكول 10 يقول: [ إن هذه المخططات لن تقلب اليوم الدساتير والهيئات القائمة، بل ستغير نظريتها الاقتصادية فحسب، ومن ثم تغير كل طريق تقدمها الذى لا بد له حينئذ أن يتبع الطريق الذى تفرضه خططنا ] راجع كتاب " الخطر اليهودى بروتوكولات حكماء صهيون، ترجمة محمد خليفة التونسى، مكتبة دار التراث، القاهرة 1976.
15 الدمى: جمع دمية: والمُعنِى بها " العروسة، التى يلعب بها الطفل أو الصبى، والمخطط اليهودى- الأجنبى- اعتبر الرؤساء والزعماء والقادة (دُمَى) فى أيديهم، كما أثبتوا ذلك فى بروتوكولاتهم، ففى البروتوكول العاشر يقول: [ وهكذا ثبتنا اللغم الذى وضعناه تحت الأُمميين- غير اليهود- أو بالأحرى تحت الشعوب الأُمميية، وفى المستقبل القريب سنجعل الرئيس شخصاً مسؤولاً. ويومئذ لن نكون حائرين فى أن ننفذ بجسارة خططنا التى ستكون " دميتنا " Dummy مسؤولا عنها، ماذا يعنينا إذا صارت رتب طلاب المناصب ضعيفة، وهبت القلاقل من أستحالة وجود رئيس حقيقة ؟ أليست القلاقل هى التى ستطيح نهائياً بالبلاد ؟]. راجع الخطر اليهودى، بروتوكولات حكماء صهيون، محمد خليفة التونسى، ص 206 مصدر سابق.
16 راجع كتاب " المؤامرة على التعليم رقم 3 " ص 51، أ. حسن جودة وآخرون. الناشر دار الوفاء للطباعة والنشر، المنصورة ، جمهورية مصر العربية.
17 الاستعمار والتبشير، د. عمر فى وخ ومصطفى الخالدى.
18 وهذا يفسر لنا اختفاء ومصرع كثير من العلماء مثل حامد ربيع، وجمال حمدان، ويحيى المشد، وسعيد بديروغيرهم.
19 يقصد تحديداً الإسلام.
20 يمكن القول بعد انهيار القوة السوفيتية، أصبح هدف أمريكا تحويل المنطقة إلى كتلة متراصة لمواجهة الصحوة الإسلامية وحماية موارد الثروات لمصلحة أمريكا.(1/102)
21 لقد استطاعت (الآن عام 1998) أن ترجع إلى المنطقة بعد غزو العراق للكويت وهى مؤامرة من تدبير أعداء الأمة.
22 إن قياصرة روما لا يعرفون الصدق ولا احترام الكلمة.
راجع فى ذلك كتاب " قصة الحضارة " قيصر والمسيح أو الحضارة الرومانية، المجلد الثالث- الجزء الثانى- تأليف "ول ديورانت " تعريب محمد بدران،الإدارة الثقافية جامعة الدول العربية. القاهرة 1963.
23 راجع كتاب " الطريق إلى بيت المقدس " القضية الفلسطينية. ج 3. د. جمال عبد الهادى مسعود، الفصل الحادى عشر ص 103. دار الوفاء للطباعة والنشر، المنصورة.
24 راجع كتاب " الجواسيس الغير كاملين " يوسى ميلمان- داف رافيف، ترجمة لواء. أ. ح. د. فوزى محمد طايل، ص199- ص 203، الزهراء للإعلام العربى طبعة عام 1994.
25 راجع فى ذلك جريدة " عرب تايمز " فى عددها رقم 107 ص 38 بتاريخ 11: 20 ديسمبر 1992، وهى تشرح تفاصيل تقسيم مصر إلى دويلات أربع!!
* مع ملاحظة أن رئيس التحرير قد تم عزله بمجرد نشر هذا الخبر على العالم!!!.
26 العدد 741 فى 28 مارس 1983 م.
??
??
??
??(1/103)