لقد خرب " بيت الرب " فى القدس مراراً وتعرض لأعمال شنيعة على كل العصور. ثم أين ثروات البحر والبر التى تجبى إلى تلك المدينة وأهلهاإلى الآن. وأين هى المواكب التى تأتى إليها براً وبحراً وجَوّاً ، وهل أبوابها مفتوحة ليلاً ونهاراً ، وأين هم بنوها الذين اجتمعوا حولها. وما صلة غنم قيدار وكباش مدين بها. وأين هو التسبيح الذى يشق عنان السماء منها.. وأين.. وأين..؟ إن هذه المغالطات لا تثبت أمام قوة الحق الواضح.
-9 نبؤة قرآنا عربيا .. منجما وليس جملة واحدة
"وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا"
النبؤة القادمة تتحدث عن الوحي الجديد والذي سيتنزل منجما آية بآية لن يكون جملة واحدة كما أنزل الله التوراة والإنجيل وسيكون بلسان غير لسان بني اسرائيل وهذا مذكور في سفر اشعياء 28: 10-11 وقد اتيت بالترجمة الإنجليزية لاختلاف الترجمات العربية بعضها عن بعض في محاولة منهم لإخفاء المعنى المقصود.
"أَنَّهُ يُكَرِّرُ عَلَيْنَا أَوَامِرَهُ كَلِمَةً فَكَلِمَةً، وَوَصِيَّةً فَوَصِيَّةً؛ شَيْئاً مِنْ هُنَا وَشَيْئاً مِنْ هُنَاكَ. سَيُخَاطِبُ الرَّبُّ هَذَاالشَّعْبَ بِلِسَانٍ غَرِيبٍ أَعْجَمِيٍّ" اشعياء 28: 10-11
10 For it is: Do and do, do and do, rule on rule, rule on rule; a little here, a little there." 11 Very well then, with foreign lips and strange tongues God will speak to this people “. “NIV
(3/398)
لم يكن نزول القرآن عبر ثلاثة وعشرين عاما بنفس ترتيبه النهائي في المصحف, وإنما كان ينزل مُفَرَّقاً: إما مجموعات من الآيات أو سورا كاملة, حتى رُتِّبَت الآيات والسور كما أرشد جبريلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في عرضه الأخير للقرآن فتكاملت الآيات والسور ببيانها ونسقها المعجز, وهذا التنزيل المتوالي ثم الترتيب قد أشارت إليه نبوءة أشعياء.
ولننظر معا لماذا استبدل الله بني اسرائيل وأخذ منهم النبوة والكتاب .. وذلك من الكتاب المقدس "ولكن هؤلاء ايضا ضلوا بالخمر وتاهوا بالمسكر.الكاهن والنبي ترنحا بالمسكر ابتلعتهما الخمر تاها من المسكر ضلا في الرؤيا قلقا في القضاء. 8 فان جميع الموائد امتلأت قيأ وقذرا.ليس مكان. 9 لمن يعلّم معرفة ولمن يفهم تعليما.أللمفطومين عن اللبن للمفصولين عن الثدي. 10 لانه أمر على أمر.أمر على أمر.فرض على فرض.فرض على فرض.هنا قليل هناك قليل11 انه بشفة أخرى وبلسان غريب يكلم الرب هذا الشعب 12 الذين قال لهم هذه هي الراحة.اريحوا الرازح وهذا هو السكون.ولكن لم يشاءوا ان يسمعوا. 13 فكان لهم قول الرب أمرا على أمر أمرا على أمر.فرضا على فرض فرضا على فرض.هنا قليلا هناك قليلا لكي يذهبوا ويسقطوا الى الوراء وينكسروا ويصادوا فيؤخذوا 14 لذلك اسمعوا كلام الرب يا رجال الهزء ولاة هذا الشعب الذي في اورشليم. 15 لانكم قلتم قد عقدنا عهدا مع الموت وصنعنا ميثاقا مع الهاوية.السوط الجارف اذا عبر لا يأتينا لاننا جعلنا الكذب ملجأنا وبالغش استترنا. 16 لذلك هكذا يقول السيد الرب.هانذا أؤسس في صهيون حجرا حجر امتحان حجر زاوية كريما اساسا مؤسسا.من آمن لا يهرب"
-10 نبؤة النبي المهاجر راكب الجمل
"وَعِنْدَمَا يُشَاهِدُ رَاكِبِينَ فُرْسَاناً أَزْوَاجاً أَزْوَاجاً أَوْ رَاكِبِينَ عَلَى حَمِيرٍ وَرَاكِبِينَ عَلَى جِمَالٍ فَلْيُصْغِ إِصْغَاءً شَدِيداً" اشعياء 7:21
(3/399)
إن النصارى يقولون أن الجزء الأوسط من النبؤة تتحدث عن المسيح ابن مريم عليه السلام وهذا يؤكده الكلام الآتي “ودخل يسوع اورشليم راكبا جحشا وحمار ابن اتان” وايضا "وَوَجَدَ يَسُوعُ جَحْشاً فَرَكِبَ عَلَيْهِ كَمَا قَدْ كُتِبَ" يوحنا 12: 14. .. فمن هو راكب الجمل؟ .. أليس النبي محمد وناقته القصواء؟ .. التي هاجر بها وكان عليها في صلح الحديبية وقد حج بها وكان يركبها في كل ارتحاله؟
-11 نبؤة النبي الآتي من فاران بلد اسماعيل ابن ابراهيم
"وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا"
هذه نبوءة أوحى الله بها لنبيه الله حبقوق .. عن النبى الموعود الآتى من جبال فاران موطن إسماعيل في سفر حبقوق 3 : 2-14
" يا رب قد سمعت خبرك فجزعت.يا رب عملك في وسط السنين أحيه.في وسط السنين عرّف.في الغضب اذكر الرحمة الله جاء من تيمان والقدوس من جبل فاران.سلاه.جلاله غطى السموات والارض امتلأت من تسبيحه. وكان لمعان كالنور. له من يده شعاع وهناك استتار قدرته. قدامه ذهب الوبأ وعند رجليه خرجت الحمّى. وقف وقاس الارض.نظر فرجف الامم ودكّت الجبال الدهرية وخسفت اكام القدم.مسالك الازل له. رأيت خيام كوشان تحت بلية.رجفت شقق ارض مديان. هل على الانهار حمي يا رب هل على الانهار غضبك او على البحر سخطك حتى انك ركبت خيلك مركباتك مركبات الخلاص. عرّيت قوسك تعرية.سباعيّات سهام كلمتك.سلاه.شققت الارض انهارا. ابصرتك ففزعت الجبال.سيل المياه طما.اعطت اللجّة صوتها.رفعت يديها الى العلاء. الشمس والقمر وقفا في بروجهما لنور سهامك الطائرة للمعان برق مجدك. بغضب خطرت في الارض.بسخط دست الامم. خرجت لخلاص شعبك لخلاص من مسحته ملكا.سحقت راس بيت الشرير معرّيا الاساس "في النسخة الانجليزية الأرجل" حتى العنق.سلاه. ثقبت بسهامه راس قبائله.
(3/400)
لا يستطيع عاقل عالم بتاريخ الرسالات ومعانى التراكيب أن يصرف هذه النصوص على غير البشارة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم. فالجهتان المذكورتان فى مطلع هذا المقطع وهما: تيمان: يعنى اليمن ، وجبل فاران: يعنى جبل النور الذى بمكة المكرمة التى هى فاران. هاتان الجهتان عربيتان. وهما رمز لشبه الجزيرة العربية التى كانت مسرحاً أولياً لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم.فليس المراد إذن نبياً من بنى إسرائيل ؛ لأنه معلوم أن رسل بنى إسرائيل كانت تأتى من جهة الشام شمالاً. لا من جهة بلاد العرب. وهذه البشارة أتت مؤكدة للبشارة المماثلة ، التى تقدم ذكرها من سفر التثنية ، وقد ذكرت أن الله: تلألأ أو استعلن من جبل فاران.
جبل فاران هو جبل مكة، حيث سكن إسماعيل، تقول التوراة عن إسماعيل: "كان الله مع الغلام فكبر. وسكن في البرية وكان ينمو رامي قوس وسكن في برية فاران وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر" التكوين 21/20-21.
وقد انتشر أبناؤه في هذه المنطقة فتقول التوراة " هؤلاء هم بنو إسماعيل..... وسكنوا من حويلة إلى شور " التكوين 25/16 – 18
حويلة كما جاء في قاموس الكتاب المقدس منطقة في أرض اليمن
شور في جنوب فلسطين. وعليه فإن إسماعيل وأبناؤه سكنوا هذه البلاد الممتدة جنوب الحجاز وشماله وهو يشمل أرض فاران التي سكنها إسماعيل.
حتى وإن قلنا أن هناك منطقة بجوار سيناء اسمها فاران فان وجود منطقة اسمها فاران في جنوب فلسطين لا يمنع من وجود فاران أخرى هي تلك التي سكنها إسماعيل وقامت الأدلة التاريخية على أنها الحجاز حيث بنى إسماعيل وأبوه الكعبة وحيث تفجر زمزم تحت قدميه وهو ما اعترف به عدد من المؤرخين منهم المؤرخ جيروم واللاهوتي يوسبيوس فقالا بأن فاران هي مكة.
(3/401)
التعبير عن الأمور المستقبلة بصيغة الماضي معهود في لغة الكتاب المقدس. يقول اسبينوزا: " أقدم الكتاب استعملوا الزمن المستقبل للدلالة على الحاضر، وعلى الماضي بلا تمييز كما استعملوا الماضي للدلالة على المستقبل... فنتج عن ذلك كثير من المتشابهات".
ونقول: لم خص جبل فاران بالذكر دون سائر الجبال لو كان الأمر مجرد إشارة إلى انتشار مجد الله.
" قاس الأرض كقائد يقف وينظر إلى ميدان الحرب، ويعين لفرق جيشه مراكزهم وأعمالهم فيعملون كما رسم القائد" والفقرة بالعبرية :
ترى أى نبى ذلك ؟ إنه نبى محارب ، لقد كان حبقوق حوالى 605 ق.م. أى بعد داود وسليمان بقرون عديدة؟؟
بشارة حبقوق فهى خاصة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم. ولو لم يكن فى كلام حبقوق إلا هذا " التحديد " لكان ذلك كافياً فى اختصاص بشارته برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ومع هذا فقد اشتمل كلام حبقوق على دلائل أخرى ذات مغزى: منها: الإشارة إلى كثرة التسبيح حتى امتلأت منه الأرض.. ؟!
ومنها: دكه صلى الله عليه وسلم لعروش الظلم والطغيان وقهر الممالك الجائرة. ومنها: أن خيل جيوشه ركبت البحر ، وهذا لم يحدث إلا فى ظل رسالة الإسلام.
مات أبو جهل فى معركة بدر ، قطعت رجله من الفخذ، ثم قطعت رأسه، وألقى على الأرض فى ساحة المعركة، معرى كما تقول النبوءة من الفخذ حتى عنقه. إن المرء ليعجب من دقة تصوير النبوءة لهذا المنظر .
-12 نبؤة عن قليب بدر ووعد من الله بنصر رسوله الكريم على اعدائه
"ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى. فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى"
(3/402)
يقول النبي داود في سفر المزامير 1:110-6 قال الرب "الله" لربي "لسيدي" اجلس عن يميني حتى اضع اعداءك موطئا لقدميك. 2 يرسل الرب قضيب عزك من صهيون.تسلط في وسط اعدائك. 3 شعبك منتدب في يوم قوتك في زينة مقدسة من رحم الفجر لك طل حداثتك 4 اقسم الرب ولن يندم.انت كاهن الى الابد على رتبة ملكي صادق. 5 الرب عن يمينك يحطم في يوم رجزه ملوكا. 6 يدين بين الامم.ملأ جثثا ارضا واسعة سحق رؤوسها"
وتفسير النبؤة أن داود عليه السلام كان يشير بهذا اللقب إلى النبي محمد سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وقد كانت نبؤة عن نبيٍّ قادم والنبؤة تصف ما جري علي يديه بإذن الله من نجاح وانتشار وخلود. قال الرب "الله" لربي "لسيدي" اجلس عن يميني حتى اضع اعداءك موطئا لقدميك. هنا داود يقول إن الله تعالى يقول لسيد الأنبياء اجلس عن يميني وبالفعل حدث هذا في شهادة الإسلام "أشهد أن لاإله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله" وكذلك كان يوم الإسراء والمعراج. وبعدها هاجر النبي إلى المدينة لتأتي موقعة بدر وليُقتل سبعون من صناديد قريش اعداء الله ورسوله ومنهم أبو جهل عمرو بن هشام بن المغيرة حين ألقاهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم فى القليب يوم بدر وجلس على حافة القليب يخاطب من ألقاهم فيه وهم تحت قدميه "هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا فإنى وجدت ما وعدنى ربى حقا" .. وقد كان من معجزاته إخباره بمصارع القوم "من الذي سيقتل وفي أي مكان"
(3/403)
لقد كان الكثير من بني اسرائيل الذين آمنوا بالمسيح "الرسول" ابن مريم وكذلك نصارى اليوم يظنون أن المسيح بن مريم هو ذلك النبي الآتي إلى العالم الذي أخبر عنه النبي داود ولكن المسيح ابن مريم كان كثيرا ما يوضح لهم بأن المسيح لن يأتي من نسل داود ويقول لهم "فَمَادَامَ دَاوُدُ نَفْسُهُ يَدْعُوهُ الرَّبَّ "السيد" فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ ابْنَهُ؟ وَكَانَ الْجَمْعُ الْعَظِيمُ يَسْمَعُهُ بِسُرُورٍ" مرقس 12: 37. ويقول لهم المسيح ايضا موضحا لهم أن هذا النبي لن يكون من نسل داود "فِيمَا يَقُولُ دَاوُدُ نَفْسُهُ فِي كِتَابِ الْمَزَامِيرِ: قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي “لسيدي” :اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ؟ إِذَنْ، دَاوُدُ يَدْعُوهُ رَبّاً، فَكَيْفَ يَكُونُ ابْنَهُ؟" لوقا 20: 42-44.
ولقد حاول النصارى وعلى رأسهم الفريسي بولس الصاق هذه النبؤة بالمسيح ابن مريم عليه السلام .. مع أن المسيح أخبرهم بأن النبي القادم لن يكون من نسل داود .. ولكنهم أصروا على عنادهم .. وأنا هنا اسألهم ألم يكن المسيح يتخفى من بني اسرائيل ومختبئا ومتخفيا في زي البستاني حتى لا يقتلوه إلى لحظة أن رفعه الله؟ فأين كلام الكتاب المقدس "الرب عن يمينك يحطم في يوم رجزه ملوكا. يدين بين الامم. ملأ جثثا ارضا واسعة سحق رؤوسها" .. أم أن الكتاب غير صادق وأنتم فقط الصادقون؟
-13 نبؤة عن مكة وبيت الله
(3/404)
" ترنمي ايتها العاقر التي لم تلد أشيدي بالترنم ايتها التي لم تمخض لان بني المستوحشة اكثر من بني ذات البعل قال الرب اوسعي مكان خيمتك ولتبسط شقق مساكنك.لا تمسكي.اطيلي اطنابك وشددي اوتادك. لانك تمتدين الى اليمين والى اليسار ويرث نسلك امما ويعمر مدنا خربة. لا تخافي لانك لا تخزين.ولا تخجلي لانك لا تستحين.فانك تنسين خزي صباك وعار ترملك لا تذكرينه بعد. لان بعلك هو صانعك رب الجنود اسمه ووليك قدوس اسرائيل اله كل الارض يدعى. لانه كامرأة مهجورة ومحزونة الروح دعاك الرب وكزوجة الصبا اذا رذلت قال الهك. لحيظة تركتك وبمراحم عظيمة ساجمعك. بفيضان الغضب حجبت وجهي عنك لحظة وباحسان ابدي ارحمك قال وليك الرب. لانه كمياه نوح هذه لي.كما حلفت ان لا تعبر بعد مياه نوح على الارض هكذا حلفت ان لا اغضب عليك ولا ازجرك. فان الجبال تزول والآكام تتزعزع اما احساني فلا يزول عنك وعهد سلامي لا يتزعزع قال راحمك الرب ايتها الذليلة المضطربة غير المتعزية هانذا ابني بالاثمد حجارتك وبالياقوت الازرق اؤسسك واجعل شرفك ياقوتا وابوابك حجارة بهرمانية وكل تخومك حجارة كريمة وكل بنيك تلاميذ الرب وسلام بنيك كثيرا. بالبر تثبتين بعيدة عن الظلم فلا تخافين وعن الارتعاب فلا يدنو منك. ها انهم يجتمعون اجتماعا ليس من عندي. من اجتمع عليك فاليك يسقط. هانذا قد خلقت الحداد الذي ينفخ الفحم في النار ويخرج آلة لعمله وانا خلقت المهلك ليخرب كل آلة صورت ضدك لا تنجح وكل لسان يقوم عليك في القضاء تحكمين عليه.هذا هو ميراث عبيد الرب وبرهم من عندي يقول الرب" سفر إشعياء الإصحاح 45 : 1-17
" العاقر" مكة المكرمة لعدم ظهور نبي فيها بعد إسماعيل عليه السلام " بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ"
"بنو المستوحشة" هم أولاد هاجر عليها السلام كما في سفر التكوين الإصحاح 16 : 11-12
(3/405)
"بنو ذات رجل" هم أولاد سارة عليها السلام
"ويرث نسلك أمماً" الفتوحات الإسلامية
الجمل من 4-16 استمرار الأمن والإسلام في مكة المكرمة
"كل آلة صورت ضدك لا تنجح" حماية مكة المكرمة كما حدث لأبرهة الأشرم حين غزاها فهزمه الله سبحانه وتعالى
-14 نبؤة عن مكة وبيت الله
يقول النبي حجي وهو من أواخر انبياء بني اسرائيل في سفر حجي الإصحاح 2 : 7- 10 عن النبي الذي سيرسله الله إلى العالم
"لانه هكذا قال رب الجنود.هي مرّة بعد قليل فازلزل السموات والارض والبحر واليابسة. وازلزل كل الامم وياتي مشتهى كل الامم فاملأ هذا البيت مجدا قال رب الجنود. لي الفضة ولي الذهب يقول رب الجنود. مجد هذا البيت الاخير يكون اعظم من مجد الاول قال رب الجنود وفي هذا المكان اعطي السلام يقول رب الجنود"
النص العبري الأصلي "وسوف يأتي حمدا لكل الأمم" استبدل كتبة الإنجيل كلمة "حمدا" بكلمة "مشتهى" وهي عبرية تعني حمد ، شهية ، شائق ، أحمد وهو صيغة أخرى لمحمد
"هذا البيت" المسجد الأقصى ملأه الله سبحانه وتعالى بالمجد بصلاة محمد صلى الله عليه وسلم فيه إماماً بالأنبياء ليلة الإسراء" سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ"
"مجد الأول" هيكل سليمان عليه السلام
"أعطي السلام"الإسلام فقد أخفق المسيح عليه السلام في جلب السلام متى الإصحاح 10 : 34 تنبأ بخراب الهيكل في إنجيل متى الإصحاح 24 : 2 وفي إنجيل مرقس الإصحاح 13 : 2 وفي إنجيل لوقا الإصحاح 21 : 6 الأمر الذي تحقق بعد أربعين عاماً تقريباً على يد الرومان وتشتت اليهود
-15 النبي الآتي يسحق الشعوب المشركة في زمانه كما أخبر يعقوب
(3/406)
"يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب" التكوين 49/10 وقال عنه داود: "تقلد سيفك على فخذك أيها الجبار جلالك وبهاءك، وبجلالك اقتحم. اركب من أجل الحق والدعة والبر، فتريك يمينك مخاوف، نبلك المسنونة في قلب أعداء الملك شعوب تحتك يسقطون. كرسيك يا الله إلى دهر الدهور، قضيب استقامة قضيب ملكك " المزمور 45/1 - 6.
أما المسيح عليه السلام فكان يدفع الجزية للرومان "ولما جاءوا إلى كفر ناحوم تقدم الذين يأخذون الدرهمين إلى بطرس وقالوا: أما يوفي معلمكم الدرهمين؟ قال: بلى، فلما دخل البيت سبقه يسوع قائلاً: ماذا تظن يا سمعان، ممن يأخذ ملوك الأرض الجباية أو الجزية أمن بنيهم أم من الأجانب؟ قال له بطرس: من الأجانب، قال له يسوع: فإذا البنون أحرار، ولكن لئلا نعثرهم اذهب إلى البحر وألق صنارة والسمكة التي تطلع أولاً خذها، ومتى فتحت فاها تجد أستاراً، فخذه وأعطهم عني وعنك" متى 17/24-27. وكان المسيح يختفي من اليهود في زي البستاني حتى لايقتلوه.
كرسيك يا الله إلى دهر الدهور: كان كاتبو التوراة يطلقون لفظ الله على الملوك والقضاة والأنبياءوالعظماء. وهي هنا تشير إلى النبي محمد .. ولا يجوز لنا نحن المسلمين استخدامها على أي بشر مهما كان.
-16 النبي الآتي سيزيل الله به الأصنام ويقتل الأنبياء الكذبة
يقول الله في سفر زكريا 13 : 2-3 "ويكون فى ذلك اليوم، يقول رب الجنود : أنى أقطع أسماء الأصنام من الأرض فلا تذكر بعد. وأزيل الأنبياء أيضاً و الروح النجس من الأرض، ويكون إذا تنبأ أحد بعد، أن أباه وأمه والديه يقولان له: لا تعيش لأنك تكلمت بالكذب باسم الرب، فيطعنه أبوه وأمه والداه عندما يتنبأ"
(3/407)
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح على راحلته، فطاف عليها وحول البيت أصنام مشدودة بالرصاص، فجعل النبى صلى الله عليه وسلم يشير بقضيب فى يده إلى الأصنام ويقول "جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا"، فما أشار إلى صنم منها فى وجهه إلا وقع لقفاه، ولا أشار لقفاه إلا وقع لوجهه، حتى ما بقى منها صنم إلا وقع " كما صعد بلال إلى ظهر الكعبة، فكسر ما عليها من الأصنام وهو يقول : الله أكبر، الله أكبر.إن النبوءة تتكلم ايضا عن عن الأسود العنسي و مسيلمة بن تمامة بن حنيفة(الكذاب).
-17 النبي الآتي سيبني بيت الله وهو موطنه ويكون منتصرا
"هكذا قال رب الجنود قائلا: هوذا الرجل (الغصن) اسمه، ومن مكانه ينبت ويبنى هيكل الرب فهو يبنى هيكل الرب وهو يحمل الجلال ويجلس ويتسلط على كرسيه، ويكون كاهنا على كرسيه " زكريا 6/12-13
لقد شارك النبي محمد صلى الله عليه وسلم فى بناء الكعبة ونقل الأحجار إليها على كتفه بعد أن هدمها السيل ، لقد بُنى بيت الله فى مكةمنشأ ومنبت الرسول ، لقد كان كل مؤمن يحتمي به لأنه كان أشجع الناس .. ولا ننسى قصة الدين الذي كان على أبي جهل لأحد الناس وذهب للنبي ليأخذه له منه، وإن حاول القوم البهت أن يضعوها فى سياق عن زربابل الذى لم يكن كاهنا قط (رجل دين) فهو لم يكن لاويا من سبط لاوى.
-18 حفظ الله لنبيه .. وأنه سيموت في زمانه انبياء كذبة
يقول الله في سفر زكريا 13 : 2-3 "ويكون فى ذلك اليوم .. وأزيل الأنبياء أيضاً و الروح النجس من الأرض، ويكون إذا تنبأ أحد بعد، أن أباه وأمه والديه يقولان له: لا تعيش لأنك تكلمت بالكذب باسم الرب، فيطعنه أبوه وأمه والداه عندما يتنبأ"
إن النصارى نسوا قتل وصلب إلههم يسوع وذبح رسلهم بولس وبطرس ومتى ولوقا .. وتحولوا يشككون في نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم ويقولون إنه مات مسموما؟
(3/408)
وأنا أرد عليهم قائلا .. من المعروف أن الأنبياء الكذبة .. قد حكم الله عليهم بالهلاك سريعا ..في القرآن وفي الكتاب المقدس .. نعم سريعا .. ومنهم الأسود العنسي ومسيلمة الكذاب؟
و في رسالة بطرس الثانية 2:1 " ما يؤكد ذلك " ولكن كان ايضا في الشعب انبياء كذبة كما سيكون فيكم ايضا معلّمون كذبة الذين يدسّون بدع هلاك واذ هم ينكرون الرب الذي اشتراهم يجلبون على انفسهم هلاكا سريعا"
و يقول الله في سفر زكريا 13 : 2-3 "ويكون فى ذلك اليوم .. وأزيل الأنبياء أيضاً و الروح النجس من الأرض، ويكون إذا تنبأ أحد بعد، أن أباه وأمه والديه يقولان له: لا تعيش لأنك تكلمت بالكذب باسم الرب، فيطعنه أبوه وأمه والداه عندما يتنبأ" .. عندما يتنبأ .. احتفظ بهذه المعلومة "عندما يتنبأ"
ويقول الله في ارمياء 31:23 ها أنا ذا على الانبياء يقول الرب الذين ياخذون لسانهم ويقولون قال .. أي سيهلكهم الله لامحالة.
ويقول الله في سفر التثنية 18:20 "وأما النبي الذي يتجبر فينطق باسمي بما لم آمره به أو يتكلم باسم آلهة أخرى فإنه حتما يموت"
حننيا نبي كاذب وقتل سريعا كما يقول الكتاب المقدس
ولذلك فقد هلك حنانيا النبي الكاذب في الشهر السابع اقرأ .. "فقال ارميا النبي لحننيا النبي اسمع يا حننيا.ان الرب لم يرسلك وانت قد جعلت هذا الشعب يتكل على الكذب. لذلك هكذا قال الرب.هانذا طاردك عن وجه الارض.هذه السنة تموت لانك تكلمت بعصيان على الرب. فمات حننيا النبي في تلك السنة في الشهر السابع"
لقد أراد اليهود اختبار نبؤة سفر التثنية 20:18 على النبي محمد أكثر من عشر مرات ..... والنبؤة تقول "وأما النبي الذي يتجبر فينطق باسمي بما لم آمره به أو يتكلم باسم آلهة أخرى فإنه حتما يموت"
(3/409)
ومن هذه المرات .. "في شهر المحرم من السنة السابعة من الهجرة" .. أرسلت إحدى اليهوديات واسمها زينب بنت الحارث ذراع شاة مشوية إلى النّبي صلى الله عليه وسلم ووضعت فيها السم فلما وضعته بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم أكل لقمة ثمّ لفظها "أي أخرجها"، وقال: "إن هذه الشاة تخبرني انها مسمومة" .. وكان معه بِشرُ بن البراء .. فأكل بشر من اللحم، فمات متأثراً بالسم.
ولم يمت النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلا في ربيع الأول من السنة الحادية عشرة من الهجرة .. فهل هناك سم يقتل بعد ما يقرب من أربعة سنوات .. اليست تلك معجزة؟! .. يارجل .. لما الكبر؟
لقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته بشهر .. يخطب في الناس قائلا .. " إن عبداً خيّره الله بين الدنيا و ما عنده فاختار ما عندالله " .فبكى أبو بكر و قال: فديناك بأنفسنا و أبائنا!
وإني اسألكم هنا ايها النصارى .. هل هناك نبي مسموم يبعث بسرية في غزوة مؤته سنة 8 هجرية .. أي بعد السم بعام؟
هل هناك نبي مسموم يرأس سرية لفتح مكة سنة 8 هجرية .. أي بعد السم بعام؟
هل هناك نبي مسموم يرأس سرية غزوة حنين سنة 8 هجرية .. أي بعد السم بعام؟
هل هناك نبي مسموم يرأس سرية غزوة الطائف 9 هجرية .. أي بعد السم بعامين؟
هل هناك نبي مسموم يرأس سرية غزوة تبوك سنة 9 هجرية .. ولمدة ثلاثة شهور يسير في الصحراء؟!!!! .. وذلك بعد السم بعامين؟
هل هناك نبي مسموم يحج حجة الوداع وكانت سنة 10 هـ .. وتتنزل عليه "اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" .. بعد السم بثلاثة أعوام؟
فبكى أبو بكر الصديق رضي الله عنه و قال: "هذا نعي رسول الله".
ورجع الرسول من حجة الوداع وقبل الوفاة بتسعة أيام "أي في اليوم الثالث من ربيع الأول سنة 11 هجرية" نزلت آخر آية في القرآن "واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون "
(3/410)
ثم دخلت ابنته فاطمة فبكت عند دخولها لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستطع الوقوف لها فقال لها الرسول: "ادني مني يا فاطمة" فهمس لها بأذنها فبكت ثم قال لها الرسول مرة ثانية: "ادني مني يا فاطمة" فهمس لها مرة أخرى بأذنها فضحكت فبعد وفاة الرسول سألوا فاطمة "ماذا همس لك فبكيتي وماذا همس لك فضحكت!" قالت فاطمة: "أول مرة قال لي يا فاطمة اني ميت الليلة. فبكيت! ولما وجد بكائي رجع وقال لي: أنت يا فاطمة أول أهلي لحاقاً بي. فضحكت!"
تقول السيدة عائشة َسَمِعْتُه يقول: " مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا " .. وكان ذلك صباح الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول سنة 11 هجرية .. أي بعد السم بأربع سنوات وشهرين .. أليست هذه معجزة تدل على النبوة؟
النبي محمد مكث 23 سنة يبلغ دعوة الله إلى "اليوم أكملت لكم دينكم"
النبي محمد يقول "مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا "
والآن نعود إلى قول سفر الأمثال 32:14 "الشرير يطرد بشره.اما الصدّيق فواثق عند موته"
من هو الواثق عند موته .. أليس النبي محمد؟
-19 النبي الآتي سيقيم أمة تسحق أمما مشركة
"وفي أيام هؤلاء يقيم إله السماوات مملكة لن تنقرض أبداً ومَلِكها لا يُترك لشعب آخر وتسحق وتفنى كل هذه الممالك وهي تثبت إلى الأبد لأنك رأيت أنه قد قطع حجر من جبل لا بيدين فسحق الحديد والنحاس والخزف والفضة والذهب" دانيال 2/42- 45. لقد كان العرب قبل الإسلام ضالين فهداهم الله وأهلك على ايديهم كل الأمم الظالمة من الفرس والرومان ألم يقل المسيح عليه السلام عن تلك الأمة المسلمة. ألم يقل المسيح عليه السلام عن تلك الأمة "ومن سقط على هذا الحجر يترضض، ومن سقط هو عليه يسحقه" (متى 21/44)
(3/411)
-20 موسى يخبر بني اسرائيل بالبركة التي باركه الله بها .. ومنها نبي مكة
"وَهَذِهِ هِيَ الْبَرَكَةُ الَّتِي بَارَكَ بِهَا مُوسَى، رَجُلُ اللهِ، بَنِي إِسْرَائِيلَ قَبْلَ مَوْتِهِ، فَقَالَ: أَقْبَلَ الرَّبُّ مِنْ سِينَاءَ، وَأَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ سَاعِيرَ، وَتَأَلَّقَ فِي جَبَلِ فَارَانَ؛ جَاءَ مُحَاطاً بِعَشَرة آلاف من الرجال القديسين وَعَنْ يَمِينِهِ نار شريعة. حَقّاً إِنَّكَ أَنْتَ الَّذِي أَحْبَبْتَ الشَّعْبَ؛ وَجَمِيعُ الْقِدِّيسِينَ فِي يَدِكَ، سَاجِدُونَ عِنْدَ قَدَمَيْكَ يَتَلَقَّوْنَ مِنْكَ أَقْوَالَكَ" سفر التثنية 33 : 1- 3
ولقد حاول الترجمات العربية إخفاء معنى “مُحَاطاً بِعَشَرة آلاف من الرجال القديسين” وحولوها إلى "وأتى من ربوات القدس". وإذا نظرنا إلى الترجمات الإنجليزية .. فسوف نرى الحقيقة التي يحاول إخفاءها المترجمون.
He said,The LORD came from Sinai,And dawned on them from Seir;
He shone forth from Mount Paran, And He came from the midst of ten thousand holy ones At His right hand there was flashing lightning for them. Deuteronomy 33: 2 (New American Standard Bible)
و فى النسخة القياسية المنقحة : He came with the ten thousand of holy men
أى: "وأتى فى عشرة آلاف من الرجال الأطهار".
فى نسخة الملك جيمس : 2And he said, The LORD came from Sinai, and rose up from Seir unto them; he shined forth from mount Paran, and he came with ten thousands of saints: from his right hand went a fiery law for them.
أى: " وأتى فى عشرة آلاف من القديسين " .أى أن التحريف هو للعرب فقط .
كانت الترجمة العربية السابقة والمحذوفة " ومعه عشرة آلاف من القديسين الأطهار"، وحرفت لأن نبيهم لم يأت ومعه عشرة آلاف من الرجال الأطهار .
(3/412)
والآن يوصيهم موسى بالبركة التي باركه الله بها بالشريعة البديلةوبوحي جديد بدلا من الذي معهمز لأن الرسل والمؤمنين يتلقون وحي الله ويعملون به.
"أقبل" أمر يقيني
"الرب" أي الله بوحيه
" قديسيه" الصحابة رضي الله عنهم
" لِيَدِينَ جَمِيعَ النَّاسِ " أنه أرسل للعالم كافةا لرب" تعني وحي الله سبحانه وتعالى أمره
"سيناء" صحراء في مصر وهي مكان تلقي موسى عليه السلام للتوراة
"ساعير" جبال في فلسطين حيث تلقى المسيح عليه السلام الإنجيل
"وَبَعَثَ يَعْقُوبُ قُدَّامَهُ رُسُلاً إِلَى أَخِيهِ عِيسُو فِي أَرْضِ سَعِيرَ بِلاَدِ أَدُومَ" التكوين 32 :3
"فاران" هي مكة المكرمة حيث سكن إسماعيل عليه السلام وأمه "وَسَمِعَ اللهُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَنَادَى مَلاَكُ اللهِ هَاجَرَ مِنَ السَّمَاءِ وَقَالَ لَهَا: مَا الَّذِي يُزْعِجُكِ يَاهَاجَرُ؟ لاَ تَخَافِي، لأَنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ بُكَاءَ الصَّبِيِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُلْقًى. قُومِي وَاحْمِلِي الصَّبِيَّ، وَتَشَبَّثِي بِهِ لأَنَّنِي سَأَجْعَلُهُ أُمَّةً عَظِيمَةً. ثُمَّ فَتَحَ عَيْنَيْهَا فَأَبْصَرَتْ بِئْرَ مَاءٍ، فَذَهَبَتْ وَمَلأَتِ الْقِرْبَةَ وَسَقَتِ الصَّبِيَّ. وَكَانَ اللهُ مَعَ الصَّبِيِّ فَكَبُرَ، وَسَكَنَ فِي صَحْرَاءِ فَارَانَ، وَبَرَعَ فِي رَمْيِ الْقَوْسِ وَاتَّخَذَتْ لَهُ أُمُّهُ زَوْجَةً مِنْ مِصْر" سفر التكوين 21 : 17 - 21
هذه العبارة تضمنت خبراً وبشارتين:
فالخبر هو تذكير موسى بفضل الله عليه حيث أرسله إليهم رسولاً.والبشارتان:الأولى: خاصة بعيسى عليه السلام. والثانية خاصة بمحمد صلى الله عليه وسلم.
(3/413)
النصارى قالوا إن " فاران " هى " إيلات " وليست مكة. وأجمع على هذا " الباطل " واضعو كتاب: قاموس الكتاب المقدس. وهدفهم منه واضح إذ لو سَلَّمُوا بأن " فاران " هى مكة المكرمة ، للزمهم إما التصديق برسالة رسول الإسلام ، وهذا عندهم قطع الرقاب أسهل عليهم من الإذعان له.. ؟! ، أو يلزمهم مخالفة كتابهم المقدس ، ولم يقتصر ورود ذكر " فاران " على هذا الموضع من كتب العهد القديم ، فقد ورد فى قصة إسماعيل عليه السلام مع أمه هاجر حيث تقول التوراة: إن إبراهيم عليه السلام استجاب لسارة بعد ولادة هاجر ابنها إسماعيل وطردها هى وابنها فنزلت وسكنت فى " برية فاران ". على أنه يلزم من دعوى واضعى قاموس الكتاب المقدس من تفسيرهم فاران بإيلات أن الكذب باعترافهم وارد فى التوراة. لأنه لم يبعث نبى من " إيلات " حتى تكون البشارة صادقة. ومستحيل أن يكون هو عيسى عليه السلام ؛ لأن العبارة تتحدث عن بدء الرسالات وعيسى تلقى الإنجيل بساعير وليس بإيلات. فليست " فاران " إلا " مكة المكرمة " وباعتراف الكثير منهم ، وجبل فاران هو
جبل " النور " الذى به غار حراء ، الذى تلقى فيه رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم بدء الوحى. وهجرة إسماعيل وأمه هاجر إلى مكة المكرمة " فاران " أشهر من الشمس.
وترتيب الأحداث الثلاثة فى العبارة المذكورة:
جاء من سيناء
وأشرق من ساعير
وتلألأ من فاران. هذا الترتيب الزمنى دليل ثالث على أن " تلألأ من جبل فاران" تبشير قطعى برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم. وفى بعض " النسخ " كانت العبارة: " واستعلن من جبل فاران " بدل " تلألأ ". وأياً كان اللفظ فإن " تلألأ " و " استعلن " أقوى دلالة من " جاء " و " أشرق " وقوة الدلالة هنا ترجع إلى " المدلولات " الثلاثة. فالإشراق جزء من مفهوم " المجئ " وهكذا كانت رسالة عيسى بالنسبة لرسالة موسى (عليهما السلام).
(3/414)
أما تلألأ واستعلن فهذا هو واقع الإسلام ، رسولا ورسالة وأمة ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
هذه المغالطة (فاران هى إيلات) لها مثيل حيث تزعم التوراة أن هاجر أم إسماعيل عندما أجهدها العطش هى وابنها إسماعيل بعد أن طردا من وجه " سارة " طلبت الماء فلم تجده إلا بعد أن لقيا ملاك " الرب " فى المكان المعروف الآن "ببئر سبع" ؟! وأنها سميت بذلك لذلك..؟! وكما كذبت فاران دعوى "إيلات " كذَّبت " زمزم الطهور " دعوى " بئر سبع " ؟
-21 داود يبشر بنبي يجاهد المشركين ولقبه سيد المرسلين .. ويوصي ابنته صفية بنت حيي بن أخطب ويبشرها بلقب أم المؤمنين
"فاض قلبي بكلام صالح، متكلم أنا بإنشائي للملك، لساني قلم كاتب ماهر: أنت أبرع جمالاً من بني البشر انسكبت النعمة على شفتيك لذلك باركك الله إلى الأبد. تقلد سيفك على فخذك أيها الجبار جلالك وبهاءك، وبجلالك اقتحم. اركب من أجل الحق والدعة والبر، فتريك يمينك مخاوف، نُبُلُك المسنونة في قلب أعداء الملك، شعوبٌ تحتك يسقطون. كرسيك يا الله إلى دهر الدهور، قضيب استقامة قضيب ملكك. أحببت البر وأبغضت الإثم. من أجل ذلك مسحك إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك.... بنات ملوك بين حظياتك جعلت الملكة عن يمينك بذهب أوفير. اسمعي يا بنت وانظري وأميلي أذنك انسي شعبك وبيت أبيك، فيشتهي الملك حسنك، لأنه هو سيدك فاسجدي له.. عوضاً عن آبائك يكون بنوك، تقيمهم رؤساء في كل الأرض أذكر اسمك في كل دور فدور. من أجل ذلك تحمدك الشعوب إلى الدهر والأبد" المزمور 45/1 – 17
من العجيب أن النصارى يقولون أن هذه النبؤة عن المسيح ابن مريم؟ .. مع انهم هم الذين قالوا سابقا أن يسوع "لا صورة له ولا جمال فننظر إليه ولا منظر فنشتهيه" إشعيا 52:2 .. وقالوا عنه أنه "كشاة سيق إلى الذبح لم يفتح فاه" فلتستقروا على اختيار ايها النصارى!
(3/415)
إذن من هو النبي الأبرع جمالا .. وكان وجهه أجمل من البدر كما وصفه كل الصحابة؟ .. من الذي انسكبت نعمة القرآن على شفتيه "لا تعجل به إنا علينا جمعه وقرآنه" .. من الذي يقول المسلمون عنه اللهم صلي وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد؟ .. من الذي قال عنه المسيح ابن مريم "لا تروني بعد حتى تقولوا مبارك الآتي باسم الرب". من الذي أمره الله بالجهاد وأهلك الله على يديه مشركي جزيرة العرب؟ .. من الذي قال الله عنه في اشعياء 42 الرب قد سر ببره؟ .. من الذي جعله الله خاتم المرسلين؟ .. ثم هنا ينصح داود بعد ذلك أم المؤمنين السيدة صفية بنت حيى بن أخطب وهي من بني اسرائيل أن تنسى شعبها (بنى إسرائيل) وبيت أبيها، وأن تخضع لزوجهاوبالفعل نست السيدة صفية شعبها وبيت ابيهاوأصبحت أم المؤمنين. ولقد قال لها النبي صلى الله عليه وسلم قولي لعائشة "بل من أعلى مني نسبا .. أبي موسى وعمي هارون وزوجي محمد"
-22 نبي لا يقرأ ولا يعرف القراءة
يقول سفر اشعياء 29: 12 في نبؤة عن شخص يتلقى الوحي وهو لا يستطيع القراءة "وَعِنْدَمَا يُنَاوِلُونَهُ لِمَنْ يَجْهَلُ الْقِرَاءَةَ قَائِلِينَ: اقْرَأْ هَذَا يُجِيبُ: لاَ أَسْتَطِيعُ الْقِرَاءَةَ"
"إذا تعطيه إلى شخص لا يستطيع القراءة وتطلب إليه أن يقرأه عليك سيجيب بأنه لا يعرف كيف"
أول ما نزل من الوحي علي محمد صلي الله عليه وسلم قول جبريل عندما جاءه في غار حراء : "اقرأ" فقال : "ما أنا بقارئ "أي أ نَّى لي أن أعرف القراءة وهو عين ما أشارت إليه نبوءة اشعياء
النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أتاني جبريل بنمط من ديباج فيه كتاب قال : اقرأ قلت : ما أنا بقارئ"
وهذا مصداقا لقول الله في القرآن "وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ"
-23 يعقوب يخبر بالنبي الذي ليس من بني اسرائيل والذي يكون له الأمر وتطيعه الشعوب
(3/416)
يقول يعقوب عليه السلام في سفر التكوين 49 : 10 "لاَ يَزُولُ صَوْلَجَانُ الْمُلْكِ مِنْ يَهُوذَا وَلاَ مُشْتَرِعٌ مِنْ صُلْبِهِ حَتَّى يَأْتِيَ شِيلُوهُ (وَمَعْنَاهُ: مَنْ لَهُ الأَمْرُ) فَتُطِيعُهُ الشُّعُوبُ"
"شيلوهُ" كلمة عبرية الأصل تعني "المرسل"
وباليونانية تعني "الذي له الكل"
وبالسريانية تعني " الذي هو له "
وباللاتينية تعني "الذي سيرسل"
من الواضح أنها تدل على شخص ليس من بني اسرائيل و لا تنطبق على موسى فقد كان أول من نظم أسباط بني إسرائيل الاثني عشر ولم يظهر قبله أي نبي أو ملك من سبط يهوذا
ولا تنطبق على داود عليه السلام فقد كان أول ملك نبي ينحدر من سبط يهوذا ولا تنطبق على المسيح ابن مريم عليه السلام فقد كان ايضا ينحدر من سبط يهوذا كما أن المسيح ابن مريم عليه السلام لم يترك قانوناً مكتوباً ولم يكن ملكاًلقد انقرض سبط يهوذا منذ مئات السنين فأين شيلوه إذن ؟ انه محمد ابن عبد الله
-24 مزامير داود تخبر بالنبي الآتي من نسل هاجر أم اسماعيل والتي رفضها بنو اسرائيل والذي كان حجر الزاوية
"الحجر الذى رفضه البناءون قد صار رأس الزاوية من قبل الرب كان هذا وهو عجيب فى أعيننا، هذا هو اليوم الذى صنعه الرب نبتهج ونفرح فيه. آه يا رب خلص. آه يا رب انقذ. مبارك الآتى باسم الرب. باركناكم من بيت الرب. الرب هو الله" مز 118/24-27.
النبوءة عن الحجر الذى رفضه البناءون ثم صار رأس الزاوية فى البناء و هذه الاستعارة عن " النبي محمد" نسل هاجر وإسماعيل اللذين يقول اليهود والنصارى أنهما طردا عن طريق سارة.
ألم يقل المسيح عليه السلام عن تلك الأمة "ومن سقط على هذا الحجر يترضض، ومن سقط هو عليه يسحقه" (متى 21/44)
(3/417)
قال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ، وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ: هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ"
-25 ميخا النبي يخبر عن الوقوف بعرفة
من المعروف أن النبي ميخا قد شاهد الهيكل هيكل سليمان .. ولكنه هنا يتحدث عن أمم كثيرة وشعوب من كل بقاع الأرض متوحدة على دين واحد .. تسعى إلى جبل عرفات .. ثم طواف الوداع بالبيت "ويكون فى آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتا فى رأس الجبال، و يرتفع فوق التلال، وتجرى إليه شعوب، وتسير أمم كثيرة. ويقولون هلم نصعد إلى جبل الرب، وإلى بيت إله يعقوب. فيعلمنا من طرقه، ونسلك فى سبله، لأنه من صهيون تخرج الشريعة، ومن أورشليم كلمة الرب" ميخا 4/1
"فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ"
-26 اشعياء يتكلم عن فتح مكة وعن الحج وأن مكة لايدخلها إلا مسلم
(3/418)
“شددوا الأيادى المسترخية، والركب المرتعشة ثبتوها، وقولوا لخائفى القلوب تشددوا لا تخافوا، هوذا إلهكم، الانتقام يأتى، جزاء الله هو يأتى ويخلصكم، حينئذ تنفقح عيون العمى، وآذان الصم تنفتح، حينئذ يقفز الأعرج كالأيل، ويترنم لسان الأخرس، لأنه قد انفجرت فى البرية مياه ، وأنهار فى القفر، ويصير السراب أجما، والمعطشة ينابيع ماء، فى مسكن الذئاب فى مربضها دار للقصب والبردى، وتكون هناك سكة وطريق يقال لها الطريق المقدسة. لا يعبر فيها نجس بل هى لهم. من سلك فى الطريق حتى الجهال لا يضل، لا يكون هناك أسد، وحش مفترس لا يصعد إليها. لا يوجد هناك. بل يسلك المفديون (المغفور لهم) فيها، ومفديو الرب يرجعون ويأتون إلى صهيون بترنم وفرح أبدى على رءوسهم، ابتهاج وفرح يدركانهم، ويهرب الحزن والتنهد" إشعياء 35/3-10
(3/419)
من هؤلاء المغلوب على أمرهم ، أصحاب الركب المرتعشة ، والقلوب الخائفة الوجلة ، الذين لا يملكون من أمرهم شيئا ، لا شك أنهم الرقيق العبيد والموالى الذين اتبعوا النبى، فليجتهد أصحاب كل نبى فى إثبات النبوءة له ، ولنأت نحن بأسماء العبيد والموالى الضعفاء الذين تبعوا نبى الإسلام ، : بلال ، عامر بن فهيرة ، صهيب ، عمار ، ياسر ، خباب علينا أن نأتى بمسالك المسلمين وطرقهم فى الصحراء العربية ، برية فاران ، فى ذهابهم وإيابهم لحج بيت الله الحرام ، الطرق المقدسة التى لايعبر فيها نجس ، أممى مشرك إن لفظ الله يطلق فى العبرية على الله ، وعلى الأنبياء ، وعلى الملائكة ، وعلى الملوك حتى ولو كانوا مشركين ، وعلى العظماء، بل وعلى عامة الناس ، فإلى نص النبوءة إن أتباع محمد لم يتقاعسوا عنه ، لم يطلبوا الموت فقط ، بل كانوا يتسابقون إليه ، ويتنافسون فى الفوز به " فوالذى بعثك بالحق ، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد " . لقد خلدت التوراة اسم الصحابى الأعرج الجليل عمرو بن الجموح، لا يتقهقر عند الموت "ويقول والله إني لأرجو أن اطأ بعرجتي هذه أبواب الجنة" .. و كما يسارع المؤمن للشهادة فى سبيل الله ، يسارع أيضاً فى الطاعات والعبادات ، وأداء الفرائض والمناسك وعمل الصالحات نحن إذن مع البيت الحرام ، فى البرية القاحلة ، الأرض القفر المعطشة ، الصحراء التى تفجر فيها ينبوع الماء ، وفيها الطرق الطاهرة الآمنة ، التى ليس فيها أسد ولا حيوان مفترس ، التى يقال لها الطرق المقدسة ، وعودة الحجيج المفديين (أى المغفور لهم) إلى الديار بفرح وابتهاج عظيم
-27 اشعياء يخبر عن يهود بني قريظة وبني النضير .. وعن المسلمين
(3/420)
يقول إشعياء النبي في سفر إشعياء 65:13-16 "لذلك هكذا قال السيد الرب هوذا عبيدى يأكلون وأنتم تجوعون هوذا عبيدى يشربون وأنتم تعطشون هوذا عبيدى يفرحون وأنتم تحزنون هوذاعبيدى يترنمون من طيبة القلب وأنتم تصرخون من كآبه القلب ومن انكسار الروح تولولون وتخلفون اسمكم لعنه لمختارى فيميتك السيد الرب ولعبيده يدعى اسم آخر فالذى يتبرك فى الارض يتبرك بإله الحق والذى يحلف فى الارض يحلف بإله الحق لأنه نسيت الضيقات الاولى ولأنهااستترت عن عينى”
نحن هنا بصدد قبائل بنى إسرائيل خيبر وقريظة وقينقاع والنضير، فى المدينة وما حولها، حق عليناان نأتى بالآيات القرآنيةالتى تقص عليناامر إخراجهم والقضاء عليهم، وخراب ديارهم.
" هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم ان يخرجوا وظنوا أنهم ما نعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف فى قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدى المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار . ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم فى الدنيا ولهم فى الآخرة عذاب النار "
-28 النبي محمد صاحب الإسم العجيب .. وخاتم النبوة على كتفه
هل تذكرون بحيرا الراهب حينما نظر خاتم النبوة على كتف النبي؟ وقولته المشهورة لأبي طالب .. هل تذكرون العلامة الأخيرة التي أراد بها سلمان التأكد من صدق الرسول؟ .. هل تريدون أن تعلموا كيف تأكد حيي بن أخطب من شخصية النبي محمد؟ .. تعالوا معا لنرى كيف أن النبي اشعياء يتنبأ عن النبي محمد .. هيا بنا نقرأ اشعياء9 : 6-7 ..
"لانه يولد لنا ولد ونعطى ابنا وتكون الرياسة على كتفه ويدعى اسمه عجيبا مشيرا الها قديرا ابا ابديا رئيس السلام. لنمو رياسته وللسلام لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن الى الابد. غيرة رب الجنود تصنع هذا"
(3/421)
سيولد لنا نحن نسل ابراهيم والذي أعطاه الله عهدا أبديا له ولنسله لتتبارك به الأمم .. هذا الإبن يكون على كنفه خاتم النبوة ولم يتسمى باسمه أحد من قبل .. سيدا قويا يقول أفشوا السلام بينكم .. "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله"
ملحوظة هامة: كلمة إله وردت كثيرا في الكتاب المقدس لتدل على النبي موسى واليهود والقضاة:
الكتاب المقدس يقول إن موسى النبي إله
سفر الخروج 4: 16 يقول "وَهُوَ هارون يُكَلِّمُ الشَّعْبَ عَنْكَ (يا موسي). وَهُوَ يَكُونُ لَكَ فَماً وَأَنْتَ تَكُونُ لَهُ إِلَهاً"
الكتاب المقدس يقول إن موسى النبي إله .....مرة ثانية
سفر الخروج 7:1 يقول "فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: انْظُرْ! أَنَا جَعَلْتُكَ إِلَهاً لِفِرْعَوْنَ. وَهَارُونُ أَخُوكَ يَكُونُ نَبِيَّكَ"
الكتاب المقدس يقول إن اليهود الهة
في سفر المزامير 82: 6 "أَنَا قُلْتُ إِنَّكُمْ آلِهَةٌ وَبَنُو الْعَلِيِّ كُلُّكُمْ."
الكتاب المقدس يقول إن القضاة الهة
" الخروج 22: 8 "وَإِنْ لَمْ يُوجَدِ السَّارِقُ يُقَدَّمُ صَاحِبُ الْبَيْتِ إِلَى اللهِ "أي إلى القاضى" لِيَحْكُمَ هَلْ لَمْ يَمُدَّ يَدَهُ إِلَى مُلْكِ صَاحِبِهِ.
ومن العجيب أن النصارى الذين قالوا عن يسوع الناصري أنه هو الله وابن الله والروح القدس والإنسان وابن الإنسان والنبي والرسول والمخلص والديان والمبارك والملعون والمرسل لبني اسرائيل والمرسل للعالم ويسوع وعمانوئيل .. يقولون أن هذه النبؤة عن يسوع الناصري ايضا ؟ .. وإنني اسألكم ايها النصارى بما انكم تقولون أن يسوع هو الله .. وهل الله يولد؟ .. أليس هو الأزلي؟ وهل الله ولد؟.. وهل الله ابن لبني إسرائيل .. نسل إبراهيم؟ .. ثم أي رياسة كانت ليسوع على كتفه؟
(3/422)
إنه من المؤكد أن أياً من هذه الأسماء عجيبا أو مشيرا لم يتسم به المسيح فأين سمي اسما عجيباً أو مشيراً؟ إن اسم المسيح ابن مريم هو يشوع "باليهودية" ولقد كان هذا الإسم منتشرا في بني اسرائيل و لنبي آخر من قبله من انبياء بني اسرائيل هو يشوع النبي وله سفر يسمى سفر يشوع "يشوع يعني الله مخلص"
ثم إن المسيح ابن مريم لم يملك على قومه يوماً واحداً .. بل كان فاراً من بني إسرائيل حتى بعد قيامته التي تؤمنون بها .. خائفاً من بطشهم كما هرب من قومه حين أرادوه أن يملك عليهم. "وأما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكاً انصرف أيضاً إلى الجبل وحده" يوحنا 6/15
ثم إن إشعيا يتحدث عن رئيس السلام .. وهو لا ينطبق على الذي نسبت إليه الأناجيل أنه قال: " لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض ما جئت لألقي سلاماً " متى 10/34 - 36 ويقول في انجيل لوقا 12: 49-53” "جِئْتُ لأُلْقِيَ نَاراً عَلَى الأَرْضِ فَمَاذَا أُرِيدُ لَوِ اضْطَرَمَتْ؟ وَلِي صِبْغَةٌ أَصْطَبِغُهَا وَكَيْفَ أَنْحَصِرُ حَتَّى تُكْمَلَ؟ أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئْتُ لأُعْطِيَ سَلاَماً عَلَى الأَرْضِ؟ كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ! بَلِ انْقِسَاماً. فهل يسمى بعد ذلك رئيس السلام؟
و إشعيا يتحدث عن قدير، وليس عن بشر محدود أخذه بعض اليهود والرومان وصلبوه وهو ايضا لا يقدر أن يصنع من نفسه شيئاً كما قال عن نفسه: " أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً كما أسمع أدين" يوحنا 5/30
(3/423)
ثم إن الكتاب المقدس يمنع أن يكون المسيح ملكاً على بني إسرائيل، فقد حرم الله الملك على ذرية يهوياقيم "الياقيم" أحد أجداد المسيح فقال الله فيه: "هكذا قال الرب عن يهوياقيم ملك يهوذا: لا يكون له جالس على كرسي داود .. وأعاقبه ونسله وعبيده على إثمهم " إرميا 36/30 - 31. والمسيح ابن مريم بقولكم من ذرية هذا الملك الفاسق كما في سفر الأيام الأول "بنو يوشيا: البكر: يوحانان، الثاني: يهوياقيم، الثالث: صدقيا، الرابع: شلّوم. وابنا يهوياقيم: يكنيا ابنه، وصدقيا ابنه" الأيام الأول 3/14-15، فيهوياقيم أحد أجداد المسيح بالإضافة إلى انكم تقولون في متى أن المسيح من نسل زنى.
-29 الحج إلى بيت الله في مكة .. ومغفرة الذنوب
هذه النبؤة من النبؤات التي حاول فيها كتبة ومترجمي الكتاب المقدس بكل ماأوتوا من قوة أن يتلاعبوا فيها .. تعالوا معا نرى عما تتحدث:
المزمور 84 :6
6Who passing through the valley of Baca make it a well; the rain also filleth the pools.
" ما احلى مساكنك يا رب الجنود. 2 تشتاق بل تتوق نفسي الى ديار الرب.قلبي ولحمي يهتفان بالاله الحي. 3 العصفور ايضا وجد بيتا والسنونة عشّا لنفسها حيث تضع افراخها مذابحك يا رب الجنود ملكي والهي. 4 طوبى للساكنين في بيتك ابدا يسبحونك.سلاه 5 طوبى لاناس عزهم بك.طرق بيتك في قلوبهم.6 عابرين في وادي البكاء يصيرونه ينبوعا.ايضا ببركات يغطون مورة 7 يذهبون من قوة الى قوة.يرون قدام الله في صهيون 8 يا رب اله الجنود اسمع صلاتي واصغ يا اله يعقوب.سلاه. 9 يا مجننا انظر يا الله والتفت الى وجه مسيحك. 10 لان يوما واحدا في ديارك خير من الف.اخترت الوقوف على العتبة في بيت الهي على السكن في خيام الاشرار. " المزمور 84 10:1
(3/424)
يقول تعالى " إن أول بيت وضع للناس للذى ببكة مباركا وهدى للعالمين " آل عمران : آية ( 96 ) وهذا المزمور يتحدث عن الحنين لأداء الحج (Eager to make the pilgrimage ) والسير عبر وادى بكة ( (Go pass through the valley of baca النسخة القياسية المنقحة R.S.V.) ) ونسخة الملك جيمس ( . K.J) وإن كانت الترجمات العربية طمست الحقيقة حين ترجمت ( وادى بكة ) إلى ( وادى البكاء الجاف ) .
إن جميع الترجمات الإنجليزية تكتبها بفتح الباء ، وبالحرف الكبير Baca باعتبارها اسم علم بعكس الترجمة العربية التى تسجلها بالضمة وتحولها إلى البكاء ، وذرف الدموع .
وهناك قراءة فى التوراة العبرية تقول (هـ بكه ) بالهاء مثل اسمها فى القرآن الكريم ، وليست ( بكا ) بضم الباء وبالألف ، فلا بكاء ولا عويل ، إن التوراة تتحيز دائماً للمسلمين تؤيدهم وتناصرهم ، وكأنهم كتبوها لأنفسهم .
وكعادة بنى إسرائيل القوم البهت ، أضافوا إلى النص عبارة ) TO Zion فى صهيون ) لبسا للحق ، ولرغبتهم فى تحويل النبوءات إلى جنسهم ، حسدا على بنى إسماعيل ، ولكن النسخة القياسية المنقحة R.S.V. تسجل ملاحظة : إن هذه العبارة غير موجودة فى التوارة العبرية
( (Heb. Lacks to Zion .
لقد زوروا التوارة السبعينية بالحذف والإضافة وتلقفها العالم المسيحى بتحريفاتها .
ولنذكر نص النبوءة من واقع ترجمة الكاثوليك فهى أوضح وأكثر سلاسة ، ثم نستكمل باقى الملاحظات السريعة، ونسير على ترجمة البروتستانت كعادتنا:
"ما أحلى مساكنك يا رب الجنود .. تتوق بل تحن نفسى إلى ديار الرب، قلبى وجسمى يرنمان بفرح للإله الحى، العصفور أيضا وجد له وكرا، واليمامة عثرت لنفسها على عش تضع فيه فراخها، بجوار مذبحك يارب الجنود يا ملكى طوبى لمن يسكنون فى بيتك فإنهم يسبحونك دائماً. طوبى (blessed) لأناس أنت قوتهم، المتلهفون لاتباع طرقك المفضية إلى بيتك المقدس
(3/425)
“Who are eager to make the pilgrimage (R.S.V) - whose heart is set on pilgimage (K.J.V)” أى المتلهفون على أداء الحج ) .
وإذ يعبرون فى وادى البكاء الجافas they go pass through the vally of Baca) أى واذ يعبرون فى وادى بكة ) يجعلونة ينابيع ماء ، ويغمرهم المطر الخريفى بالبركات، ينمون من قوة إلى قوة، إذ يمثل كل واحد أمام الله ( فى صهيون ) –" إضافة ليست فى العبرية "- انظر بعين الرحمة إلى من مسحته ملكا. إن يوما واحدا أقضيه داخل ديارك (your template أى معبدك أو حرمك ) خير من ألف يوم خارجها. اخترت أن أكون بوابا فى بيت إلهى عن السكن فى خيام الأشرار … " مز 84 :1-10
ولنستكمل باقى الملاحظات بعد أن تبين أنه لا علاقة لجبل صهيون فى الشام بوادى مكة بأرض الحجاز وأن عبارة " فى صهيون " مدسوسة على النص وغير موجودة فى التوراة العبرية فعلا .
- إن العصفور واليمامة لا تبنى عشاشها بجوار مذبح الهيكل فى أورشليم ، ولكنها تفعل ذلك فى الحرم الآمن فى مكة ، حيث يحرم ترويع الطير وطردها فضلا عن ذبحها أو صيدها .
- إن الحاج تكتب له الحسنة عن أعمال البر فى أرض مكة بمائة ألف حسنة والصلاة بمائة ألف صلاة … الخ وفى المسجد النبوى بألف ، وهذا مما خص الله به بيته الحرام وأرضه المقدسة ، وهذا ما يقول به المزمور " إن يوما واحدا أقضيه داخل ديارك خير من ألف يوم خارجها "
- إن كلمة المطر الخريفى فى التوارة العبرية هى : ( مورة ) ، لها معنيان فى القاموس العبرى
1 - الرامى – رامى ( القوس ) – مطلق ( البندقية )
2 - المطر المبكر
هذا هو النص فى القاموس العبرى – العربى ، كما ورد فيه حرفيا .
تقول التوراة عن إسماعيل عليه السلام : "وكان ينمو رامى قوس ، وسكن فى برية فاران " تك 21/20-21
(3/426)
لقد اشتهر إسماعيل برمى القوس، وبرع بنو إسماعيل العرب فى ذلك ، وذاع صيتهم فى استعماله فى حروبهم. ولكن القوم رفضوا المعنى الأول فى القاموس العبرى، إنه يشير إلى إسماعيل الفرع الأول لنسل إبراهيم
استبعدوا هذا المعنى وأخذوا بالمعنى الثانى "المطر المبكر" أو "الخريفى" . استبعدوا المعنى الذى يشير إلى حامى الحرم، رغم أن الآيات كلها تتكلم عن الحج إلى بيت الله بوادى بكة، وجاءونا بالمعنى الثانى، بالضبط كما حرفوا "وادى بكة" إلى "وادى البكاء الجاف" .
- كما تقول ترجمة الآباء اليسوعيين الكاثوليك " من مسحته ملكا " بينما تحرص ترجمة البروتستانت كثيرة الانتشار على لفظة (مسيحك) ليقع المعنى على يسوع المسيح .
والنص كما جاء في ترجمة الكاثوليك كالتالي: "يجتازون في وادي البكاء، فيجعلونه ينابيع ماء، لأن المشترع يغمرهم ببركاته، فينطلقون من قوة إلى قوة، إلى أن يتجلى لهم إله الآلهة في صهيون" 83/7-8.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم " صلاة فى مسجدى هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ، فإنى آخر الأنبياء ، ومسجدى آخر المساجد ، وصلاة فى المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه "
وهذا الاسم العظيم (بكة) هو اسم بلد محمد صلى الله عليه وسلم، الاسم الذي استخدمه القرآن للبلد الحرام "إن أول بيتٍ وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدًى للعالمين" (آل عمران: 96).
"إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ. فِيهِ ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ"
(3/427)
"وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا".
"رَبَّنَاإِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّم"
-30 نبيا من وسط إخوة بني اسرائيل .. مثل موسى .. من يكون
في الحقيقة لقد تركت هذه النبؤة لتكون هي آخر نبؤة في العهد القديم .. عن نبي قادم مثل موسى. النبؤة تقول في سفر التثنية 18: 18 - 22.." اقيم لهم نبيا من وسط اخوتهم مثلك واجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما اوصيه به ويكون ان الانسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي انا اطالبه . واما النبي الذي يطغي فيتكلم باسمي كلاما لم اوصه ان يتكلم به او الذي يتكلم باسم آلهة اخرى فيموت ذلك النبي . وان قلت في قلبك كيف نعرف الكلام الذي لم يتكلم به الرب . فما تكلم به النبي باسم الرب ولم يحدث ولم يصر فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرب بل بطغيان تكلم به النبي فلا تخف منه"
والنصارى والمسلمون يتنازعونها فيما بينهم ..
فالنصارى يقولون إنه المسيح ابن مريم .. وهذا يلزمهم حينئذ بالآتي:
1- بأن المسيح ابن مريم ليس أكثر من نبي مثل موسى وليس إله كما يقولون ..
2- وأنه لم يصلب حيث أنه لو كان صُلب وقتل فإنه يكون كاذبا وهذا ما تقوله النبؤة ..
(3/428)
3- بل والأقوى من ذلك أن التلاميذ لم يُقتلوا كما يقول العهد الجديد حيث أن النبؤة تقول "ويكون ان الانسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي انا اطالبه" .. وهذا ما يؤيده القرآن حين يقول "فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ " وبذلك يكون العهد الجديد الذي بين ايديكم به ماهو ليس بصادق .. وأنا حينئذ أبارك لهم هذا الاعتراف وسأستخدمه بعد ذلك بما لايدع مجالا للشك أن المسيح ابن مريم بشر بالنبي محمد .. ولن يستطيعوا الإنكار حينئذ.
ويستند النصارى في أقوالهم أن النبي الذي مثل موسى هو المسيح ابن مريم على الآتي:
أن المسيح ابن مريم عليه السلام تلقى الإنجيل بساعير في فلسطين .. وهناك العديد من البشارات عن أنه سيكون محي من ساعير .. ويفسرون ماجاء في نبؤة سفر التثنية 18:18 من وسط إخوتهم أي المقصود بها موطن سكن عيسو عم ابناء يعقوب "بني اسرائيل" ويستشهدون بالأعداد التالية ..
"أنتم مارون بتخم إخوتكم بنو عيسو" التثنية 2/4
وبنو عيسو بن إسحاق كما سلف هم أبناء عمومة لبني إسرائيل، وجاء نحوه في وصف أدوم، وهو من ذرية عيسو "وأرسل موسى رسلاً من قادش إلى ملك أدوم، هكذا يقول أخوك إسرائيل: قد عرفت كل المشقة التي أصابتنا" العدد20/14 فسماه أخاً وأراد أنه من أبناء عمومة إسرائيل.
ولذلك كان المسيح ابن مريم يذكر اليهود دائما بهذه النبؤة ويقول لهم .... في انجيل يوحنا 5 : 45 – 47 " يوجد الذي يشكوكم وهو موسى الذي عليه رجاؤكم . لانكم لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني لانه هو كتب عني . فان كنتم لستم تصدقون كتب ذاك فكيف تصدقون كلامي"
و قَالَ لَهُمْ في يوحنا 4: 34 " طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ."
(3/429)
وقال ايضا في يوحنا 7:16 "اجابهم يسوع وقال تعليمي ليس لي بل للذي ارسلني"
وكررها في يوحنا 7:28 " ومن نفسي لم آت بل الذي ارسلني هو حق"
واعادها في يو حنا 8:42 " لاني لم آت من نفسي بل ذاك ارسلني"
وقالها في يو حنا 8:50 "انا لست اطلب مجدي يوجد من يطلب ويدين" ....
ويستندون ايضا إلى قول بطرس " ويرسل يسوع المسيح المبشر به لكم من قبل ... فإن موسى قال للآباء: إن نبيا مثلى سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم له تسمعون فى كل مايكلمكم به ويكون أن كل نفس لا تسمع لذلك النبى تباد من الشعب ، وجميع الأنبياء أيضا من صموئيل فما بعده ، جميع الذين تكلموا سبقوا وأنبأوا بهذه الأيام " أعمال الرسل 3/20-24
وإلى قول استفانوس "هذا هو موسى الذى قال لبنى إسرائيل نبيا مثلى سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم له تسمعون" أعمال الرسل 7/37 .
والمسلمون يقولون إن النص المتنازع عليه يقيد البشارة بالنبى الموعود به فيه بشرطين:
1- أنه من وسط إخوة بنى إسرائيل.
2- أنه مثل موسى عليه السلام نبي صاحب شريعة وجهاد لأعداء الله
فموسى كان صاحب شريعة وعيسى وجميع الرسل الذين جاءوا بعد موسى عليه السلام من بنى إسرائيل لم يكن واحداً منهم صاحب شريعة ، وإنما كانوا على شريعة موسى عليه السلام. وحتى عيسى ما جاء بشريعة ولكن جاء متمماً ومعدلاً فشريعة موسى هى الأصل "ماجئت لأنقض بل لأكمل" .. إن عيسى كان مذكراً لبنى إسرائيل ومجدداً الدعوة إلى الله على هدى من شريعة موسى عليه السلام !! فالمثلية بين هؤلاء - وهى أحد شرطى البشارة - وبين موسى عليه السلام لا وجود لها؟! الشرطان متحققان فى رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم
(3/430)
وبنفس القوة والوضوح اللذين انتفى الشرطان بهما عمن ذكروا من الأنبياء ثبت ذلك الشرطان لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم: فهو من نسل إسماعيل فهو من وسط إخوة بنى إسرائيل بنو عمومتهم - وليس من إسرائيل نفسها. وبهذا تحقق الشرط الأول من شرطى البشارة: ومحمد - عليه الصلاة والسلام - صاحب شريعة جليلة الشأن لها سلطانها الخاص بها - جمعت فأوعت مثلما كان موسى - أكبر رسل بنى إسرائيل - صاحب شريعة مستقلة كانت لها منزلتها التى لم تضارع فيما قبل من بدء عهد الرسالات إلى مبعث عيسى عليه السلام.
وبهذا يتحقق الشرط الثانى من شرطى البشارة وهو " المثليه " بين موسى ومحمد (عليهما صلوات الله وسلامه) ، فعلى القارئ أن يتأمل ثم يحكم. وإنني هنا اجتهد ولست ملزما للمسلمين قائلا .. إن النبؤة تتكلم عن المسيح ابن مريم كنبي مثل موسى عبد لله كموسى .. لم يُقتل ولم يصلب مثل موسى .. نادى بالتوحيد كموسى .. لم يدعي أنه إله كما لم يدعي موسى .. وهنا الزم النصارى بما سبق .. من عبودية المسيح ابن مريم لله كما كان موسى.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار"
تم بحمد الله الجزء الأول
يتبعه بإذن الله الجزء الثاني(3/431)
كتب الدكتور حبيب بن عبد الملك
"أمة عظيمة ورسول كامل"
بسم الله الرحمن الرحيم
صدق الله القائل:
"وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ"
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني عندالله لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم بتأويل ذلك: أنا دعوة أبي إبراهيم "ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك" وبشارة أخي عيسى " ومبشراً برسول يأتى من بعدى اسمه أحمد" ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني وقد خرج منها نور ساطع أضاءت منه قصور الشام"
(3/432)
بعد فساد وضلال بني اسرائيل وبُعدهم عن طريق الله وتركهم لشريعته أخبر الله انبياء بني اسرائيل أنه سيستبدلهم بأمة أخرى تكون خير أمة أخرجت للناس فهي أمة اختارها الله وسيرسل الله نبي إلي العالم كله في نهاية الزمان وسيكون حينها بنو اسرائيل مستضعفين مستعبدين وارشليم محتلة والهيكل متهدم فعليهم أن يطيعوه لأن الله ناصره على اعدائه جميعا نصرا مؤزرا .. هذا النبي الآتي إلى العالم سيكون من وسط الديار التي سكنها قيدار بن اسماعيل وهي مكة بجزيرة العرب ولقد أعطاهم الله علامات هذا النبي حتى علامة خاتم النبوة التي على كتفه ونصره على اعدائه وحتى اسمه سيكون عجيبا "لم يتسمى به أحد من قبله" .. وقد تكلم عنه الأنبياء جميعا .. وكان آخرهم المسيح بن مريم عليه السلام حينما كلمهم عن هذا النبي كثيرا وكان آخرها حين قال للمؤمنين برسالته قبل رفعه "إن لم أنطلق لا يأتيكم أحمد الباراكليت المعزي" .. ولكن القوم من بعده استكبروا وأخذتهم العزة بالإثم كما أخذت الذين من قبلهم من بني اسرائيل وكذلك ممن سبقهم من الأمم الأخرى .. وبعد أن تكلم عنه الكتاب المقدس ليعرفوه أكثر من معرفتهم بأولادهم .. إذا بهم يقولوا كما قال من كان قبلهم "بل هو ساحر كذاب أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيئ عجاب"
ملحوظة هامة: كلمة مسيح لم يختص بها المسيح بن مريم وحده وانما اطلق هذا اللفظ على هارون وداود وإشعياء .. و كلمة مسيح أصلها عبري "مشيح" ومعناها من مسحه الله أي جعله مسيحا وكلفه بإبلاغ رسالة إلى الناس و جعله رسولا. أي أن معنى كلمة المسيح :العبرية" = الرسول “العربية”.
كما نرى في المزمور 89 :21 يقول الله " وجدت داود عبدي بدهن قدسي مسحته" داود مسيح .. مسحه الله!
و في سفر إشعياء 45:1 هكذا يقول الرب لمسيحه "إشعياء" لكورش الذي امسكت بيمينه لادوس امامه امما" ..... إشعياء نبي الله إلى بني اسرائيل مسيح ايضا.
(3/433)
و في سفر اللاويين 6:20 هارون مسيح "هذا قربان هارون وبنيه الذي يقرّبونه للرب يوم مسحته"
وفي سفر اعمال الرسل 10:38 " يسوع الذي من الناصرة ... كيف مسحه الله "
ومن المحزن فإن اليهود والنصارى يكررون نفس ما فعله آباؤهم وأجدادهم مع الأنبياء من قبل من تكذيب وعداوة لأنبياء الله .. فحاول اليهود قتله مرات كثيرة ولكن الله ينجيه لأنه وعد بحفظه لأنه نبي صادق فمرة يحاولون القاء صخرة عليه كبيرة ومرة بالخيانة في غزوة الخندق لإدخال المشركين من شمال المدينة لقتله هو والمؤمنين معه واجتثاثهم ومرة بالشاة المسمومة .. ولكن الله سبحانه ينجيه حتى يستكمل الرسالة ويؤدي الأمانة ويتنزل عليه قول الله تعالى "اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" .. وبعد أن ينزل قول الله تعالى "إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا" .. ويخرج النبي على أصحابه ليعلمهم بموته ويقول لهم "إن عبدا خيره الله بين الدنيا والآخرة فاختار لقاء الله " فبكى الصحابة لما علموا بفراقه إياه لهم ولكنه يطمأنهم ويقول لهم "إن موعدكم الحوض" .. ثم تصعد روحه الطاهرة وهو يرفع سبابته للسماء معلنا ومعترفا بوحدانية الخالق ويقول "بل الرفيق الأعلى .. بل الرفيق الأعلى"
قبل أن ابدأ كتابة هذا الكتاب فإني أقدم له ببعض الوريقات وأحب أن أورد بها خمس قصص كنت اسمعها واقرأها منذ طفولتي .. هذه القصص بعد فضل الله هي من الاساسيات التي دفعتني لكتابة هذا الكتاب .. ليعرف كل باحث عن الحق من هو النبي محمد بن عبد الله.
(3/434)
القصة الأولى: ينزل النبي محمد مسرعا من غار حراء بجبل النور بمكة وهو يرتجف ويعود إلى بيته مرتاعا فتقول له زوجته الفاضلة أم المؤمنين خديجة بنت خويلد ما بك يابن العم؟ .. يقص عليها الرسول صلى الله عليه و سلم ماحدث قائلا "بينما أنا في الغار "غار حراء" اتعبد إذا برجل حسن الثياب حسن المنظر قد أتاني بنمط "أي صحيفة" من ديباج وأعطاني إياها قائلا لي "إقرأ" .. قلت "ما أنا بقارئ” .. "أي لا استطيع القراءة" .. فأخذني فغطني حتى أخذ مني الجهد .. ثم قال لي اقرأ فقلت ما أنا بقارئ "لا استطيع أن اقرأ" .. فأخذني فغطني الثانية حتى أخذ مني الجهد .. ثم قال لي اقرأ فقلت ما أنا بقارئ "لا استطيع أن اقرأ" .. فأخذني فغطني الثالثة حتى أخذ مني الجهد .. فقال لي اقرأ فقلت ماذا اقرأ؟ قال "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" .. فنزلت مسرعا .. فسمعت صوته ينادي علي قائلا “يامحمد إنك نبي الله” فنظرت .. فإذا به يجلس على كرسي بين السماوات والأرض .. ثم يكمل النبي محمد وهو يرتجف قائلا .. "دثروني .. دثروني" .. فترد عليه أم المؤمنين الكاملة "لا تخف يا بن العم .. والله لايخزيك الله أبدا .. إنك لتصل الرحم .. وتُقري الضيف .. وتحمل الكل .. وتُكسب المعدوم .. وتُعين على نوائب الحق" .. وبذكاء لم أر مثله تستطلع السيدة العاقلة كنه ما رآه زوجها هل هو روح حق "ملاك" أم روح خبيث "شيطان" .. فتسأله الزوجة العاقلة "هل تراه الآن" .. فيقول نعم .. فتأخذ السيدة خديجة الزوجة زوجها محمدا وتجلسه على رجليها .. وتسأله "هل تراه الآن" .. فيقول نعم .. فتكشف السيدة العاقلة عن جزء من رجليها أمام زوجها .. وتقول "هل تراه الآن؟" فيقول "لا" .. حينئذ تتأكد انه روح حق "ملاك" .. فالملاك حيي والشيطان ليس كذلك .. وتأخذه(3/435)
السيدة الفاضلة العاقلة خديجة إلى ابن عمها ورقة ابن نوفل الرجل الذي يدين بدين المسيح ابن مريم عليه السلام والذي يقرأ التوراة والانجيل وهو عالم بهما لتستطلع الأمر .. فتقول السيدة خديجة لورقة بن نوفل اسمع لأبن أخيك .. فيردد الرسول نفس الكلمات .. وورقة يستمع .. ويسترجع ورقة أمامه أكوام البشارات بالنبي الأمي الذي بشر به كل الأنبياء من قبل و التي تعج بصفاته التوراة والإنجيل .. ليقول بعدها كلمات من وراءها تاريخ كبير "إن هذا لهو الناموس الذي أنزله الله على موسى .. وإنك لنبي هذه الأمة .. ليتني أكون حيا إذا يخرجك قومك .. لانصرنك نصرا مؤزرا" .. فيرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم قائلا "أو مخرجي هم؟" .. يرد العالم بالكتاب ورقة بن نوفل قائلا "ما أتى رجل بمثل ماأتيت به إلا عودي" .. حقيقة كنت اتسائل كيف عرف ورقة كل هذه المعلومات .. إلى أن قرأت الكتاب المقدس بنفسي ودرسته لمدة ثماني سنوات.
القصة الثانية: ها هو عبد الله بن ابي قحافة "ابو بكر الصديق" يغادر إلى بلاد اليمن قبل النبوة في تجارة له فيقابل هناك راهبا .. فيسأله الراهب من أي البلاد الرجل؟ .. فيجيب ابو بكر "من مكة" .. فيسأله الراهب ثانية "هل خرج النبي؟" .. فيقول ابو بكر أي نبي؟ .. فيقول الراهب .. "النبي الذي يخرج من مكة .. إنه مكتوب في كتبنا أن نبي آخر الزمان يرسله الله من مكة؟" .. فيقول ابو بكر "لا لم يخرج نبي من مكة" .. ثم يعود ابو بكر إلى داره بمكة .. وبعد فترة لما ارسل الله عبده محمدا .. دعاه النبي إلى الإسلام قائلا إن الله قد ارسلني نبيا .. لم يتردد أبو بكر للحظة و قال "اشهد أن لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله"
(3/436)
القصة الثالثة: يخرج سعيد بن العاص "شقيق عمرو بن العاص" في قافلة تجارة بعد النبوة إلى بلاد العراق "الموصل" .. وبينما هو في العراق قابل راهبا متعبدا قد خرج لتوه من صومعته ووجد الناس قد اجتمعوا حوله يسلمون عليه .. فأخذه فضوله لإستطلاع الأمر .. فذهب فسلم على الراهب .. فسأله الراهب .. من أي البلاد أنت .. فقال من مكة بجزيرة العرب .. فسأله الراهب .. هل ظهر نبي في مكة .. فقال له سعيد نعم .. فقال له الراهب "وهل آمنت به؟" .. قال سعيد "لا" .. فضربه الراهب بيده على صدره .. وقال له "ابلغه السلام" .. فسأله سعيد وهل هو نبي صادق؟ .. قال الراهب "نعم" .. ثم دخل الراهب صومعته فما كان من سعيد إلا أن عاد مسرعا وأعلن اسلامه.
القصةالرابعة: عندما قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلي المدينة خرج حيي ابن اخطب اليهودي وملك قبيلته ليتأكد من انه هو النبي المنتظر ، فقدم إليه وسأله أسئلة فأجابه صلى الله عليه وسلم عليها، ثم أخذ حيي ينظر إلى كتف النبي صلى الله عليه وسلم محاولا رؤية خاتم النبوة على كتفه فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يريد الرجل فأمال نفسه وكشف له كتفه حتى رأى خاتم النبوة وتأكد حيي انه هو النبي وان الدلائل قطعية ثم ولى مدبرا إلي قومه فلقى اخاه ياسر فسأله قائلا : أهو نبي آخر الزمان؟ فقال حيي نعم هو، فأعادها ثانية أهو..هو قال نعم هو .. هو!! قال : وما أنت فاعل قال "إنها العداوة ما دمت حيا”.
(3/437)
وصدق قول الله فيه وفي أمثاله "وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ. بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ.وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ"
القصةاالخامسة: قال عبد الله بن سلام : لمّا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت صفتَهُ واسمَهُ وزمانه وهيئته، والذي كنّا نتوقع له، فكنت مُسِرّاً صامتاً عليه حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فلمّا قَدِمَ نزل بقباء في بني عمرو بن عوف، فأقبل رجل حتى أخبر بقدومه، وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها، وعمّتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة فلمّا سمعتُ الخبر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم كبّرت ، فقالت لي عمّتي حين سمعت تكبيري: "لو كنتَ سمعت بموسى بن عمران قادماً ما زدت !؟" قُلتُ لها : "أيْ عمّة، هو والله أخو موسى بن عمران وعلى دينه، بُعِثَ بما بُعِثَ به فقالت لي: أيْ ابن أخ، "أهو النبي الذي كُنّا نُخبَرُ به أنه بُعث مع السّاعة؟" فقلت "نعم". فأسلم عبد الله بن سلام وعمته خالدة بنت الحارث.
(3/438)
نعم إن اليهود والنصارى يعرفون النبي محمدا صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناؤهم وإن كثيرا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون .. بل إني أكرر قول عبد الله بن سلام لعمر بن الخطاب حينما سأله "كيف تعرفون النبي محمدا كما تعرفون ابناءكم؟" .. فإذا بعبد الله بن سلام يرد ردا قويا لامرية فيه فيقول "بل والله إنا لنعرفه أكثر مما نعرف ابناءنا .. فمحمد قد أخبرنا الله عنه وإخبار الله ليس فيه شك .. أما ابناءنا فلا نعلم من أين أتت بهم أمهاتهم"
نبذة عن صفات الرسول صلى الله عليه وسلم
- كان رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض مشرب بالحمرة كأنه البدر بل هو أجمل كما قال صحابته رضوان الله عليهم. وكانت عينيه شديده الحدقه مع سعتها وكان في بياض عينيه حمره مضيء الوجه مشرق دقيق الحاجبين مع طولهما مفرج بين الثنايا مدور الوجه واسع الجبين كث اللحيه سواء البطن عظيم الصدر رحب الكفين والقدمين ليس بالطول البائن ولا القصير المتردد من رآه بديهة هابه ومن خالطه معرفه أحبه وكان شعره لا رجل سبط ولا جعد قطط وكان في لحيته بعض شعيرات بيض.
- يقول أنس بن مالك رضي الله عنه "ماشممت عنبرا قط ولا مسكا ولاشئا أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم"
- من صفاته صلى الله عليه وسلم العدل والأمانه وصدق لهجته فكان يسمى قبل النبوه بالصادق الأمين و عندما شفع اسامه في اقامة حد السرقه على المخزوميه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أتشفع في حد من حدود الله ياأسامه والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها"
- وقال "إنما انا عبد آكل كما يآكل العبد وأجلس كما يجلس العبد"
- وقال "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم .. ولكن قولوا عبد الله ورسوله"
- دخل عليه رجل فأصابته هيبته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم له "هون عليك انما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد"
(3/439)
- كان كثير السكوت لا يتكلم في غير حاجه يعرض عمن تكلم يغير جميل كان ضحكه تبسما وكلامه فصلا اذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير.
- قالت السيده عائشة : كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحدث حديثا لو عده العاد لأحصاه.
- قالت عائشة رضي الله عنها ماشبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام تباعا من خبز حتى مضى.
- وكان يقول : "مالي وللدنيا وانما أنا فيها كراكب استظل بظل شجره ثم راح وتركها"
- ومن اطلع على فراشه وملبسه ومطعمه ادرك حقيقة زهده في الدنيا
- كان كثير القيام لله والبكاء بين يديه فقالت له السيده عائشة :لقد غفر الله لك ماتقدم من ذنبك وما تأخر فقال : "أفلا أكون عبدا شكورا"
- ما خير بين أمرين الا اختار أيسرهما مالم يكن اثما وما انتقم لنفسه قط الا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها.
- آذاه أهل مكه فقال اللهم اهدي قومي فانهم لا يعلمون.
- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لايزيده جهل الجاهل الا عفوا وصفحا وقال رجلا يوما احمل لي على بعيري هذين من مال الله الذي عندك فانك لا تحمل لى من مالك ولا من مال أبيك فقال النبي صلى الله عليه وسلم المال مال الله وأنا عبده.
- كان أجود الناس وكان أجود مايكون في شهر رمضان حين يلقاه جبريل علي السلام فيعرض عليه الرسول القرآن وما سئل عن شيء قط فقال لا ويقول ماأحب ان لي ذهبا تمضي علي ثلاث أيام وعندي منه دينار الى شىء أرصده لديني.
- قال ابن عمر رضي الله عنهما مارأيت أشجع ولا أنجد ولا أجود من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفال علي رضي الله عنه انا كنا اذا اشتد البأس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب الى العدو منه ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا الى العدو.
(3/440)
- كان أشد الناس حياء وكان أشد حياء من العذراء في خدرها وكان اذا كره شيئا عرف في وجهه ولم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا صخابا بالأسواق واذا عرف من أفعال شخص مايكره وقف وقال : مابال أقوام يفعلون كذا وكذا وآذاه أصحابه بطول مكثهم في منزله فأنزل الله تعالى "إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق"
- من سأله حاجه لم يرده الا بها أو بقول حسن وكان دائم البشر لين الجانب وكان أوسع الناس صدرا وأصدقه لهجه وأكرمهم عشرة
- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجيب من دعاه ويقبل الهديه ولا يقبل الصدقة ويكافئ عليها ويمازح أصحابه ويحادثهم ويلاعب صبيانهم ويبدأ أصحابه بالمصافحه ويكرم من يدخل عليه وكان أكثر الناس تبسما
- قال الله تعالى عنه "وما أرسلناك الا رحمة للعالمين" وقال في وصفه "بالمؤمنين رؤف رحيم"
بعد قراءتي للكتاب المقدس مرات ومرات و معرفتي بوجود دلائل النبوة و صفات القران والنبي محمد عليه الصلاة والسلام فيه واضحة جلية "اكثر من 50 صفة" لم يسعني الا ان ابكي شكرا لله على نعمةالاسلام التي ورثناها والتي لم نقدرها نحن المسلمون حق قدرها. ولم نعمل جهدنا للتعرف عليها وايصالها لكل من يؤمن بالله ويبحث عن الحق .. إننا جميعا مكلفون بإبلاغ الرسالة بالحسنى والموعظة الحسنة "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن" .. ثم بعد ذلك "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" .. فعكفت اكتب هذا العمل المتواضع سائلا الله عز و جل ان يتقبل مني.
ولله الحمد من قبل ومن بعد .. اللهم تقبل مني وتقبلني .. فإنك تعلم ماأريد.
"أمة عظيمة ورسول كامل"
النبؤات بالرسول محمد والإسلام في الكتاب المقدس
-1 وعد الله لإبراهيم بمباركة اسماعيل وبجعله مثمرا وباكثار نسله وجعله أمة عظيمة
يقول الله لإبراهيم عليه السلام في الكتاب المقدس:
(3/441)
“أَمَّاإِسْمَاعِيلُ، فَقَدِاسْتَجَبْتُ لِطِلْبكَ مِنْ أَجْلِهِ. سَأُبَارِكُهُ حَقّاً، وَأَجْعَلُهُ مُثْمِراً، وَأُكَثِّرُ ذُرِّيَّتَهُ جِدّاً فَيَكُونُ أَباً لاثْنَيْ عَشَرَ رَئِيساً، وَيُصْبِحُ أُمَّةً كَبِيرَةً" سفر التكوين الإصحاح 17 : 20
وانني اسأل أهل الكتاب .. ما المقصود هنا بالمباركة ثم الإثمار ثم إكثار الذرية .. مامعنى سأباركه؟ أليست مباركةإسماعيل بجعل النبوة في ذريته؟ .. هل الله بارك فرعون وعابدي الأوثان؟؟ بالطبع لا وسوف اترك الكتاب المقدس يجيب عن ذلك:
في سفر التكوين 25:11 الله يبارك اسحاق " وكان بعد موت ابراهيم ان الله بارك اسحق ابنه وسكن اسحق عند بئر لحي رئي" كيف بارك الله اسحاق؟؟ .. أليس بأن جعل النبوة في نسله؟ .. كلنا يعلم أن كل انبياء بني اسرائيل كانوا من نسل إسحاق.
وفي سفر التكوين 14:19 الله يبارك ابراهيم "وباركه وقال مبارك ابرام من الله العلي مالك السموات والارض" كيف بارك الله ابراهيم؟؟ .. أليس بأن جعل النبوة في نسله؟؟
في سفر صموئيل الأول 15:13 شاول الملك النبي يبارك صمؤئيل لأنه يسمع كلام الرب "ولما جاء صموئيل الى شاول قال له شاول مبارك انت للرب قد اقمت كلام الرب" فما معنى أن الله سيبارك اسماعيل ابن ابراهيم؟؟
وفي سفر التكوين 27: 30 اسحاق بارك يعقوب ولم يبارك عيسو فكان كل الأنبياء من ذرية يعقوب "وحدث عندما فرغ اسحق من بركة يعقوب ويعقوب قد خرج من لدن اسحق ابيه ان عيسو اخاه أتى من صيده"
ثم اني اسأل سؤالا ثانيا .. أليس الإثمار يأتي نتيجة رضوان الله كما في المزامير 105: 24 جعل شعبه مثمرا جدا واعزه على اعدائه.
كما قال المسيح في انجيل متى " لِذلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَلَكُوتَ اللهِ سَيُنْزَعُ مِنْ أَيْدِيكُمْ وَيُسَلَّمُ إِلَى شَعْبٍ يُؤَدِّي ثَمَرَهُ" ولذلك يقول القرآن "كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله" ..
(3/442)
وفي سفر التثنية 1:33 "هَذِهِ هِيَ الْبَرَكَةُ الَّتِي بَارَكَ بِهَا مُوسَى، رَجُلُ اللهِ، بَنِي إِسْرَائِيلَ قَبْلَ مَوْتِهِ" .. مامعنى البركة هنا .. أليس التبشير بالنبوة؟ .. و يأتي بعد ذلك إكثار ذرية اسماعيل ليكون المنتهى بتكوين الأمة العظيمةالتي ستأتي من نسل اسماعيل بعد أن باركه الله؟؟
فيقول سفر التكوين 21 : 17 - 21 "وَسَمِعَ اللهُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَنَادَى مَلاَكُ اللهِ هَاجَرَ مِنَ السَّمَاءِ وَقَالَ لَهَا: مَا الَّذِي يُزْعِجُكِ يَاهَاجَرُ؟ لاَ تَخَافِي، لأَنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ بُكَاءَ الصَّبِيِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُلْقًى. قُومِي وَاحْمِلِي الصَّبِيَّ، وَتَشَبَّثِي بِهِ لأَنَّنِي سَأَجْعَلُهُ أُمَّةً عَظِيمَةً".
من هي هذه الأمة العظيمة التي ستأتي من نسل اسماعيل؟ انها أمة الإسلام و محمد صلى الله عليه وسلم هو الرسول الذي أرسله الله من نسل إسماعيل عليه السلام.
يقول الله في سفر التكوين الإصحاح 21 : 13 "وَسَأُقِيمُ مِنِ ابْنِ الْجَارِيَةِ أُمَّةً أَيْضاً لأَنَّهُ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ" ابن الجارية هو إسماعيل عليه السلام .. الأمة الأولى من ذرية اسحاق التي أمه سارة وهي أمة بني اسرائيل .. فمن هي الأمةالتي من ذرية اسماعيل؟
إن اليهود والنصارى يقولون إن ابراهيم قد طرد اسماعيل .. ولكننا نجد الكتاب يقول غير ذلك ففي سفرالتكوين 25: 9 "ودفنه اسحق واسماعيل ابناه في مغارة المكفيلة في حقل عفرون بن صوحر الحثّي الذي امام ممرا"
ويقول الكتاب ايضا في سفر اخبار الأيام الأول 28:1 "ابنا ابراهيم اسحق واسماعيل" .. وهذا يدل على الإخوة.
(3/443)
إن الفريسي بولس وكلنا يعرف من هم الفريسيون .. هم الذين قال لهم المسيح "ويل لكم ايها الكتبة والفريسيون" يقول بولس ما ليس بحق في رسالته إلى غلاطية 30:4 "لكن ماذا يقول الكتاب اطرد الجارية وابنها لانه لا يرث ابن الجارية مع ابن الحرة" بينما الكتاب يقول الحقيقة في سفر التكوين 13:21 "وابن الجارية ايضا ساجعله امة لانه نسلك"
-2 الرب يغير ويستبدل بني اسرائيل بأمة كانت في ضلال "غبية"
في سفر التثنية 32 : 19-21 "فرأى الرب ورذل من الغيظ بنيه وبناته، وقال: أحجب وجهي عنهم وانظر ماذا تكون آخرتهم، إنهم جيل متقلب، أولاد لا أمانة فيهم، هم أغاروني بما ليس إلهاً، أغاظوني بأباطيلهم، فأنا أغيرهم بما ليس شعباً بأمة غبية أغيظهم"
هنا تقول الأعداد من 19-21 .. أن الله غضب على بني اسرائيل وهم يدعون انهم ابناء الله. فهم لايطيعون الله ولا يوفون بعهدهم معه ويُغضبون الله ولذلك فإن الله سيستبدلهم بأمة وشعب كان في ظلمات الضلال والجهل.
-3 الرب يخبر بتوحيد رسالة الشعوب وجعل الرسالة القادمة واحدة لكل شعوب الأرض
"إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ"
يقول النبي صفنيا وهو من أواخر انبياء بني اسرائيل في سفر صفنيا 9:3 "لأني حينئذ أحول الشعوب إلى شَفة نقية ليدعوا كلهم باسم الرب ليعبدوه بكتف واحدة"
وبالإسلام توحدت لغة العبادة لله ، فيقرأ القرآن في الصلاة بلغة واحدة هي العربية، ويصفون كتفاً إلى كتف.
-4 الأيام الأخيرة لأنبياء بني اسرائيل والبشرى بالذي يكون له الحكم
يقول النبي حزقيال وهو نبي أتى بعد موسى وداود وسليمان: "أنت أيها النجس الشرير رئيس إسرائيل الذي قد جاء يومه في زمان إثم النهاية، هكذا قال السيد الرب: انزعِ العمامة وارفعِ التاج، هذه لا تلك، ارفعِ الوضيع، وضعِ الرفيع، منقلباً، منقلباً، منقلباً أجعله، هذا لا يكون حتى يأتي الذي له الحكم، فأعطيه إياه" (حزقيال 21/25 - 27).
(3/444)
-5 الرب ينبأ عن الأمة التي كانت في ضلال وغفلة وسيسميهم هو بنفسه"المسلمين" ليلعنوا اليهود في كل صلاة ويقاتلوهم
أصغيت إلى الذين لم يسألوا، وجدت من الذين لم يطلبونى، قلت ها أنذا ها أنذا لأمة لم تسم باسمى ... وتخلفون اسمكم لعنة لمختارى، فيميتك السيد الرب، و يسمى عبيده اسما آخر" إشعياء 65 :1-15 .
ترجمة أخرى لإشعياء 15:65 "وَتتركون اسمَكُمْ لَعْنَةً عَلَى شِفَاهِ مُخْتَارِيَّ، وَيُمِيتُكُمُ الرَّبُّ وَيُطْلِقُ عَلَى عَبِيدِهِ اسْماً آخَرَ" أليس الله هو الذي سمى "المسلمين"؟
علينا أن نقرأ النبوءة من أولها لنتعرف على هؤلاء القوم ، الذين أصغى الله إليهم دون أن يسألوه ، وتفضل عليهم بالتعرف إليهم ، لم يعرفوه من قبل ، لم يكونوا موضع رسالات أو شرائع ، ولا عرفوا معنى النبوة والوحى ، ولا تطلعوا إليها ولا تفكروا فيها ، لم يقرأوا التوراة ، ولا صحف موسى وإبراهيم ، ولا زبور داود ، ولا إنجيل عيسى . إن بنى إسرائيل قد سموا باسم الله تعالى ، فهم : شعب الله المختار ، فضله على العالمين فى زمانه ، وخصه بالأنبياء والرسالات على نحو لم يشهده شعب من الشعوب ، وسماه باسمه ، لذلك فإن بنى اسرائيل أو أرض كنعان وفلسطين ، أورشليم وما حولها مستبعدة من النبوءة. "تتركون اسمَكُمْ لَعْنَةً عَلَى شِفَاهِ مُخْتَارِيَّ" أليس المسلمون يقولون في كل صلواتهم غير المغضوب عليهم؟ وَيُطْلِقُ عَلَى عَبِيدِهِ اسْماً آخَرَ" أليس الله هو الذي سمى "المسلمين" بهذا الإسم؟ "هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ"
-6 صفات العبد الرسول "محمد" الآتي والذي يرسله الله نورا للعالم
"يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا"
(3/445)
في سفر إشعياء 42 : 1- 25 يتكلم الله تعالى في الأعداد القادمة عن صفات العبد الرسول الذي سيرسله الله من ديار قيدار ابن اسماعيل في جزيرة العرب ويجعله نورا للعالم .. فهو رسول صادق يوحى إليه من الله سيأتي بشريعة جديدة غير شريعة موسى وسيحفظه الله من أعدائه وسيأمر الله عباده حينئذ بالحج إلى بيته وبالأذان في كل مكان وسيأمره الله بالجهاد وسينصره الله على عابدي الأوثان وسيخرج بالناس من الظلمات إلى النور .. ثم يتكلم الحق سبحانه وتعالى بصفات لاتنطبق إلا على عبد ورسوله محمدا .. فيقول الله لقد كان غافلا وضالا فهداه الله وهذا العبد يكرم شريعة الله ولذلك فإن الله يحبه .. ولنقرأ معا تلك النبؤة:
(3/446)
1 هوذا عبدي الذي اعضده مختاري الذي سرّت به نفسي.وضعت روحي عليه فيخرج الحق للامم. 2 لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته. 3 قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة خامدة لا يطفئ.الى الامان يخرج الحق. 4 لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الارض وتنتظر الجزائر شريعته 5 هكذا يقول الله الرب خالق السموات وناشرها باسط الارض ونتائجها معطي الشعب عليها نسمة والساكنين فيها روحا. 6 انا الرب قد دعوتك بالبر فامسك بيدك واحفظك واجعلك عهدا للشعب ونورا للامم 7 لتفتح عيون العمي لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن الجالسين في الظلمة 8 انا الرب هذا اسمي ومجدي لا اعطيه لآخر ولا تسبيحي للمنحوتات. 9 هوذا الاوليات قد اتت والحديثات انا مخبر بها.قبل ان تنبت اعلمكم بها. 10 غنوا للرب اغنية جديدة تسبيحه من اقصى الارض.ايها المنحدرون في البحر وملؤه والجزائر وسكانها. 11 لترفع البرية ومدنها صوتها الديار التي سكنها قيدار.لتترنم سكان سالع.من رؤوس الجبال ليهتفوا. 12 ليعطوا الرب مجدا ويخبروا بتسبيحه في الجزائر. 13 الرب كالجبار يخرج.كرجل حروب ينهض غيرته.يهتف ويصرخ ويقوى على اعدائه 14 قد صمت منذ الدهر سكت تجلدت.كالوالدة اصيح.انفخ وانخر معا 15 اخرب الجبال والآكام واجفف كل عشبها واجعل الانهار يبسا وانشف الآجام 16 واسير العمي في طريق لم يعرفوها.في مسالك لم يدروها امشيهم.اجعل الظلمة امامهم نورا والمعوجات مستقيمة هذه الامور افعلها ولا اتركهم. 17 قد ارتدوا الى الوراء.يخزى خزيا المتكلون على المنحوتات القائلون للمسبوكات انتنّ آلهتنا 18 ايها الصم اسمعوا.ايها العمي انظروا لتبصروا. 19 من هو اعمى الا عبدي واصم كرسولي الذي أرسله.من هو اعمى كالكامل واعمى كعبد الرب. 20 ناظر كثيرا ولا تلاحظ.مفتوح الاذنين ولا يسمع. 21 الرب قد سرّ من اجل بره.يعظّم الشريعة ويكرمها. 22 ولكنه شعب منهوب ومسلوب قد اصطيد في الحفر كله وفي بيوت الحبوس(3/447)
اختبأوا.صاروا نهبا ولا منقذ وسلبا وليس من يقول رد 23 من منكم يسمع هذا.يصغى ويسمع لما بعد. 24 من دفع يعقوب الى السلب واسرائيل الى الناهبين.أليس الرب الذي اخطأنا اليه ولم يشاءوا ان يسلكوا في طرقه ولم يسمعوا لشريعته. 25 فسكب عليه حمو غضبه وشدة الحرب فاوقدته من كل ناحية ولم يعرف واحرقته ولم يضع في قلبه"
1 هوذا عبدي الذي اعضده مختاري الذي سرّت به نفسي.وضعت روحي عليه فيخرج الحق للامم. إنه عبد لله سيختاره الله وهو عنه راض .. سيلقي عليه وحيه فيخرج بالأمم من الظلمات إلى النور .. وهي مصداقا لقول الله في القرآن "وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" .. بالنسبة للنصارى فإنهم يقولون يسوع هو الله؟
2 لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته .. تقول السيدة عائشة "كان النبي طويل الصمت" .. و يسوع كان يصرخ بصوت عظيم يلوم إلهه قائلا "إلهي إلهي لماذا تركتني؟"
3 قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة خامدة لا يطفئ.الى الامان يخرج الحق .. ألم يقل النبي لعمه أبا طالب حين اتى صناديد قريش لمساومته على الدعوة بالمال والملك والنساء "والله ياعم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن اترك هذا الأمر ماتركته حتى يظهره الله أو اهلك دونه"
4 لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الارض وتنتظر الجزائر شريعته: ألم يقل للسيدة خديجة "انتهى عهد النوم ياخديجة" .. ألم يقل الله له " ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ. إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ"
(3/448)
5 هكذا يقول الله الرب خالق السموات وناشرها باسط الارض ونتائجها معطي الشعب عليها نسمة والساكنين فيها روحا. ألم يقل الله "وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ . نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ"
6 انا الرب قد دعوتك بالبر فامسك بيدك واحفظك واجعلك عهدا للشعب ونورا للامم ألم يقل الله "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا"
7 لتفتح عيون العمي لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن الجالسين في الظلمة ألم يقل الله "كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ"
8 انا الرب هذا اسمي ومجدي لا اعطيه لآخر ولا تسبيحي للمنحوتات. ألم يقل الله "قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ"
9 هوذا الاوليات قد اتت والحديثات انا مخبر بها.قبل ان تنبت اعلمكم بها ألم يقل الله "هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ"
10 غنوا للرب اغنية جديدة تسبيحه من اقصى الارض.ايها المنحدرون في البحر وملؤه والجزائر وسكانها .. أليست هي "لبيك اللهم لبيك" والمنحدرون في البحر هم الحجاج الذاهبين لجزيرة العرب؟
11 لترفع البرية ومدنها صوتها الديار التي سكنها قيدار.لتترنم سكان سالع.من رؤوس الجبال ليهتفوا. البرية "برية فاران التي سكنها اسماعيل .. وديار قيدار هي مكة المكرمة .. يترنم سكان سالع بالتهليل والتكبير وسالع هو جبل سالع بالمدينة بجوار جبل أُحد.
"الديار التي سكنها قيدار" الديار التي سكنها قيدار هي مكة المكرمة
(3/449)
"وَهَذَا سِجِلُّ مَوَالِيدِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي أَنْجَبَتْهُ هَاجَرُ الْمِصْرِيَّةُ جَارِيَةُ سَارَةَ لإِبْرَاهِيمَ. وَهَذِهِ أَسْمَاءُ أَبْنَاءِ إِسْمَاعِيلَ مَدَوَّنَةً حَسَبَ تَرْتِيبِ وِلاَدَتِهِمْ: نَبَايُوتُ بِكْرُ إِسْمَاعِيلَ، وَقِيدَارُ وَأَدَبْئِيلُ وَمِبْسَامُ، وَمِشْمَاعُ وَدُومَةُ وَمَسَّا، 15وَحَدَارُ وَتَيْمَا وَيَطُورُ وَنَافِيشُ وَقِدْمَةُ" التكوين 25 :12-14
12 ليعطوا الرب مجدا ويخبروا بتسبيحه في الجزائر .. يعطوا الرب مجدا بالآذان الله اكبر الله اكبر
13 الرب كالجبار يخرج.كرجل حروب ينهض غيرته.يهتف ويصرخ ويقوى على اعدائه الرب تعني المعلم أو السيد .. وهو سيد ولد آدم محمد نبي الرحمة والملحمة والجهاد
14 قد صمت منذ الدهر سكت تجلدت .كالوالدة اصيح .انفخ وانخر معا.
أليست صيحة حي على الجهاد وقوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض؟
15 اخرب الجبال والآكام واجفف كل عشبها واجعل الانهار يبسا وانشف الآجام. أليست "إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المُنذرين"
16 واسير العمي في طريق لم يعرفوها.في مسالك لم يدروها امشيهم.اجعل الظلمة امامهم نورا والمعوجات مستقيمة هذه الامور افعلها ولا اتركهم. أليست " فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا. رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا " و أليست "فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ"
(3/450)
17 قد ارتدوا الى الوراء.يخزى خزيا المتكلون على المنحوتات القائلون للمسبوكات انتنّ آلهتنا. أليست "وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا"
18 ايها الصم اسمعوا.ايها العمي انظروا لتبصروا. أليست "هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ" و " وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ"
19 من هو اعمى الا عبدي واصم كرسولي الذي أرسله.من هو اعمى كالكامل واعمى كعبد الرب. أليست " وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى" و "وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا"
20 ناظر كثيرا ولا تلاحظ.مفتوح الاذنين ولا يسمع.أليست "نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ"
لقد كان النبي أمينا صادقا قبل الوحي يعتزل اللهو ويتعبد في الغار ولم يسجد للأصنام يوما ما .. يبحث عن رب هذا الكون .. والمشركون حينئذ عاكفون على أصنامهم .. و بعد أن أرسل الله إليه جبريل بالوحي .. عرف النبي محمد ربه وإلهه وقربه الله إليه وجعله نبيا .. فهذا شيئ اكبر .. نعم لقد كان بلا كتاب ولا شريعة" أما الآن فمعه كتاب الله وشريعة الله .. إنه الآن نبي ورسول يعرف الله ويحبه ويبكى من خشيته ويرجو رحمته .. لقد أنعم الله عليه بالرسالة .. وهذا فضل عظيم من الله .. ولذلك يقول الله تعالى في القرآن مخاطبا عبده ونبيه محمد"وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما"
(3/451)
21 الرب قد سرّ من اجل بره.يعظّم الشريعة ويكرمها. من العبد الرسول الذي أكرم الشريعة التي يعطيها إياه الله ويقول لأسامة بن زيد" اتشفع في حد من حدود الله ياأسامة؟ والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطع محمد يدها."
ألم يلغي اليهود والنصارى شريعة الله؟
الله يقول في كِتَابُ التَّثْنِيَة 26ِ : 26 "مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يُطِيعُ كَلِمَاتِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ وَلاَ يَعْمَلُ بِهَا."
إلا اننا نجد بولس رسول النصارى يهدم الناموس والشريعة قائلا:
فَإِنَّهُ يَصِيرُ إِبْطَالُ الْوَصِيَّةِ السَّابِقَةِ مِنْ أَجْلِ ضُعْفِهَا وَعَدَمِ نَفْعِهَا، إِذِ النَّامُوسُ لَمْ يُكَمِّلْ شَيْئاً. عبرانيين 7: 18-19
"فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ الأَوَّلُ بِلاَ عَيْبٍ لَمَا طُلِبَ مَوْضِعٌ لِثَانٍ" عبرانيين 8: 7
"
22 ولكنه شعب منهوب ومسلوب قد اصطيد في الحفر كله وفي بيوت الحبوس اختبأوا.صاروا نهبا ولا منقذ وسلبا وليس من يقول رد
إنني هنا اؤكد أن المسيح ابن مريم عليه السلام لم يرسل إلا لبني اسرائيل "للخراف الضالة من بيت اسرائيل"
انجيل متى 15:24 "فاجاب وقال لم أرسل الا الى خراف بيت اسرائيل الضالة "
انجيل متى 10 : 5- 6 "هؤلاء الاثنا عشر ارسلهم يسوع واوصاهم قائلا . الى طريق امم لا تمضوا والى مدينة للسامريين لا تدخلوا . بل اذهبوا بالحري الى خراف بيت اسرائيل الضالة "
سفر إرمياء 23:6 "في ايامه يخلص يهوذا ويسكن اسرائيل آمنا وهذا هو اسمه الذي يدعونه به الرب برنا" .. وهل المسيح ابن مريم خلص يهوذا أم قال لهم هو ذا بيتكم يتك عليكم خرابا؟
رسالة بولس ليهود رومية 11:26 "وهكذا سيخلص جميع اسرائيل . كما هو مكتوب سيخرج من صهيون المنقذ ويرد الفجور عن يعقوب"
(3/452)
هذا هو يسوع الناصري تقولون سيخلص جميع اسرائيل ومع ذلك لم يخلص جميع اسرائيل؟ .. بل قال لهم هذا هو بيتكم يترك عليكم خرابا .. فهل مازلتم تعاندون ايها النصارى .. وتقولون إن كل النبؤات الموجودة في الكتاب المقدس هي عن يسوع الناصري؟
-7 نبؤة هجرة النبي محمد إلى المدينة
يتكلم هنا اشعياء عن ثلاث نبؤات .. والذي يهمنا هو النبؤة الثالثة عن ركاب الجمال والوحي الذي من جهة العرب.
وأهم شيئ في تلك النبؤة "في مدة سنة كسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار" لقد حدثت معركة بدر الكبرى وقد نصر الله سبحانه وتعالى فيها محمد صلى الله عليه وسلم في العام الثاني للهجرة وكانت بداية فناء أمجاد قيدار الجاهلية واعتنق جميعهم الإسلام فيما بعد
"وبقية عدد أبطال بني قيدار تقل" لقد قُتل 70 من صناديد قريش يوم بدر وفي هذا يقول القرآن "وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" يقول سفر إشعيا 21/ 6 – 17.
" قال لي السيد: اذهب أقم الحارس، ليخبر بما يرى، فرأى ركاباً أزواج فرسان، ركاب حمير، ركاب جمال، فأصغى إصغاء شديداً، ثم صرخ كأسد: أيها السيد أنا قائم على المرصد دائماً في النهار، وأنا واقف على المحرس كل الليالي، وهوذا ركاب من الرجال، أزواج من الفرسان.فأجاب وقال: سقطت، سقطت بابل وجميع تماثيل آلهتها المنحوتة كسرها إلى الأرض.
(3/453)
يا دياستي وبني بيدري، ما سمعته من رب الجنود إله إسرائيل أخبرتكم به، وحي من جهة دومة.صرخ إليّ صارخ من سعير: يا حارس ما من الليل، يا حارس ما من الليل. قال الحارس: أتى صباح وأيضاً ليل، إن كنتم تطلبون فاطلبوا. ارجعوا تعالوا، وحي من جهة العرب: سَتَبِيتِينَ فِي صَحَارِي بِلاَدِ الْعَرَبِ يَا قَوَافِلَ الدَّدَانِيِّينَ، فَاحْمِلَوا يَا أَهْلَ تَيْمَاءَ الْمَاءَ لِلْعَطْشَانِ، وَاسْتَقْبِلُوا الْهَارِبِينَ بِالْخُبْزِ، لأَنَّهُمْ قَدْ فَرُّوا مِنَ السَّيْفِ الْمَسْلُولِ، وَالْقَوْسِ الْمُتَوَتِّرِ، وَمِنْ وَطِيسِ الْمَعْرَكَةِ. لأَنَّهُ هَذَا مَا قَالَهُ لِي الرَّبُّ: فِي غُضُونِ سَنَةٍ مَمَاثِلَةٍ لِسَنَةِ الأَجِيرِ يَفْنَى كُلُّ مَجْدِ قِيدَارَ، وَتَكُونُ بَقِيَّةُ الرُّمَاةِالأَبْطَالُ مِنْ أَبْنَاءِ قِيدَارَ، قِلَّةً. لأَنَّ الرَّبَّ إِلَهَ إِسْرَائِيلَ قَدْ تَكَلَّمَ"
(3/454)
قوافل الددانيين وددان قرب المدينة النبوية المنورة. ويأمر الوحي الذي تلقاه أشعيا أهل تيماء أن يقدموا الشراب والطعام لهارب يهرب من أمام السيوف ، ومجيئ الأمر بعد الإخبار عن الوحي الذي يكون من جهة بلاد العرب قرينة بأن الهارب هو صاحب ذلك الوحي الذي يأمر الله أهل تيماء بمناصرته : " هاتوا ماءًا لملاقاة العطشان يا سكان أرض تيماء وافوا الهارب بخبزه" وأرض تيماء منطقة من أعمال المدينة ، وفيها يهود تيماء الذين انتقل معظمهم إلى يثرب. فأهل يثرب من اليهود هم من أهل تيماء المخاطبين في النص. وكان تاريخ مخاطبة اشعياء لاهل تيماء في هذا الاصحاح هو النصف الأخير من القرن الثامن قبل الميلاد. ويفيد الوحي إلى إشعيا أن الهارب هرب ومعه آخرون:"فإنهم من أمام السيوف قد هربوا".ثم يذكر الوحي الخراب الذي يحل بمجد قيدار بعد سنة من هذه الحادثة ، مما يدل على أن الهروب كان منهم ، وأن عقابهم كان بسبب تلك الحادثة : " فإنه هكذا قال لي السيد الله : في مدة سنة كسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار ، وبقية عدد قسي أبطال بني قيدار تقل " وتنطبق هذه البشارة على محمد صلى الله عليه وسلم وهجرته تمام الانطباق ، فقد نزل الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم في بلاد العرب ، وفي الوعر من بلاد العرب، في مكة والمدينة. وهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة من أرض بني قيدار قريش الذين كانوا قد عينوا من كل بطن من بطونهم شاباً جلداً ليجتمعوا لقتل محمد ليلة هجرته ، فجاء الشباب ومعهم أسلحتهم فخرج الرسول مهاجراً هارباً ، فتعقبته قريش بسيوفها وقسيها كما تذكر العبارة : " فإنهم من أمام السيوف قد هربوا ، من أمام السيف المسلول ، ومن أمام القوس المشدودة ". ثم عاقب الله قريشاً أبناء قيدار بعد سنة ونيف من هجرته صلى الله عليه وسلم بما حدث في غزوة بدر من هزيمة نكراء أذهبت مجد قريش ، وقتلت عدداً من أبطالهم : " كما قال لي الله : في مدة سنة كسنة الأجير يفنى(3/455)
كل مجد قيدار ، وبقية عدد قسي أبطال بني قيدار تقل " . وتؤكد العبارة أن هذا الإخبار وأن هذا التبشير بنزول الوحي في بلاد العرب ، وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم وما يجري له من هجرة ونصر هو بوحي من الله : " لأن الرب إله إسرائيل قد تكلم "
وهل هناك نبي هاجر من مكة إلى المدينة واستقبله أهل تيماء غير محمد
هل نزل وحي في بلاد العرب غير القرآن ؟!
وهل هناك هزيمة لقريش بعد عام من الهجرة إلا على يد رسول الله في غزوة بدر ؟! إن هذه البشارة تدل على صدق رسالة محمد، وأنها إعلان إلهي عن مقدمه ينقلها أحد أنبياء بني إسرائيل اشعياوبقي هذا النص إلى يومنا هذا على الرغم من حرص كفرة أهل الكتاب على التحريف والتبديل
"يا سكان أرض تيماء" تيماء مدينة تقع شمال المدينة المنورة وسميت كذلك نسبة إلى تيما بن إسماعيل وقد كان يسكنها اليهود لأنهم كانوا يتوقعون ظهور النبي وكانوا يقولون لأهل المدينة "إن نبيا يظهر فينا نقتلكم به قتل إرم وعاد" .. وهنا في تلك الأعداد أمر من الله سبحانه وتعالى لهم باتباع محمد صلى الله عليه ويقول حزقيال " لذلك هكذا قال السيد الرب وامد يدي على ادوم واقطع منها الانسان والحيوان واصيرها خرابا من التيمن والى ددان يسقطون بالسيف." حزقيال 25:13
ومن المعروف أن بني اسماعيل كانوا يسكنون في جزيرة العرب وذلك ثابت في الكتاب المقدس ففي سفر التكوين 25 :13-18 "وهذه اسماء بني اسماعيل باسمائهم حسب مواليدهم.نبايوت بكر اسماعيل وقيدار وأدبئيل ومبسام ومشماع ودومة ومسّا وحدار وتيما ويطور ونافيش وقدمة. هؤلاء هم بنو اسماعيل وهذه اسماؤهم بديارهم وحصونهم اثنا عشر رئيسا حسب قبائلهم. وهذه سنو حياة اسماعيل.مئة وسبع وثلاثون سنة.واسلم روحه ومات وانضمّ الى قومه. وسكنوا من حويلة الى شور التي امام مصر حينما تجيء نحو اشور.امام جميع اخوته نزل "
(3/456)
"العطشان والهارب بخبزه" هو صلى الله عليه وسلم عندما هاجر من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة
"فإنهم من أمام السيوف قد هربوا" أمر الله سبحانه وتعالى رسوله بالهجرة من مكة إلى المدينة هرباً من بطش قريش عندما تسلحوا بسيوفهم وحاصروا بيته لقتله ولكن الله سبحانه وتعالى نجاه منهم
-8 إعلان من الله باقتراب رسالة "النبي محمد" وتمجيد بيت الله البهي
يقول الله في سفر إشعياء 60 : 7 للنبي القادم بأن كل ابناء قيدار ونبايوت ابناء اسماعيل سيجتمعون تحت إمرته وسيذبحون الهدي اثناء الحج في بيت الله وسيرفع الله من قدر بيته الذي كانت الأصنام حوله من كل مكان "جَمِيعُ قُطْعَانِ قِيدَارَ تَجْتَمِعُ إِلَيْكِ، وَكِبَاشُ نَبَايُوتَ "نَبَايُوتُ بِكْرُ إِسْمَاعِيلَ" تَخْدُمُكِ، تُقَدِّمُ قَرَابِينَ مَقْبُولَةً عَلَى مَذْبَحِي، وَأُمَجِّدُ بَيْتِي الْبَهِيَّ"
ولنبدأ لنعرف ماذا يقول سفر إشعياء الإصحاح 60 من أوله "قُومِي اسْتَضِيئِي فَإِنَّ نُورَكِ قَدْ جَاءَ وَمَجْدَ الرَّبِّ أَشْرَقَ عَلَيْكِ" اشعياء 60: 1
ينادي الله تعالى البلد "مكة" التي سيظهر فيها النبي القادم "محمد" بأن النور آتيها لامحالة لأنه وعد من الله .. وتعظيم الله اياها حق قادم
"هَا إِنَّ الظُّلْمَةَ تَغْمُرُ الأَرْضَ وَاللَّيْلَ الدَّامِسَ يَكْتَنِفُ الشُّعُوبَ وَلَكِنَّ الرَّبَّ يُشْرِقُ عَلَيْكِ وَيَتَجَلَّى مَجْدُهُ حَوْلَكِ" اشعياء 2:60 .. لقد نظر الله إلى أهل الأرض جميعا فمقتهم إلا قلة من أهل الكتاب. فلقد كانت الأرض تموج بكل أصناف الكفر .. فأرسل الله عبده محمد رحمة من البلد الأمين من أم القرى ونورا للعالمين.
(3/457)
"فَتُقْبِلُ الأُمَمُ إِلَى نُورِكِ وَتَتَوَافَدُ الْمُلُوكُ إِلَى إِشْرَاقِ ضِيَائِكِ" اشعياء 3:60 .. هذا وعد تقريري من الله بأنه سيجعل مكة البلد الأمين هي مركز النور الإلهي .. وسيجعل الأمم تقبل على الإسلام وكذلك الملوك تأتي خاضعة متلهفة للبيت الحرام.
"تَأَمَّلِي حَوْلَكِ وَانْظُرِي فَهَا هُمْ جَمِيعاً قَدِ اجْتَمَعُوا وَأَتَوْا إِلَيْكِ يَجِيءُ أَبْنَاؤُكِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ وَتُحْمَلُ بَنَاتُكِ عَلَى الأَذْرُعِ" اشعياء 60: 4 .. يخاطب الله بلده الحرام بأسلوب توكيدي أن كل من حولها قد اجتمعوا واتوا إليها وذلك في موسم الحج ليشهدوا منافع لهم .. وهم في منتهى التواضع والحب والتسابق على الخدمة.
"عِنْدَئِذٍ تَنْظُرِينَ وَتَتَهَلَّلِينَ وَتَطْغَى الإِثَارَةُ عَلَى قَلْبِكِ وَتَمْتَلِئِينَ فَرَحاً لأَنَّ ثَرْوَاتِ الْبَحْرِ تَتَحَوَّلُ إِلَيْكِ وَغِنَى الأُمَمِ يَتَدَفَّقُ عَلَيْكِ" اشعياء 60: 5 وخلال قرن من الزمان اتسعت أمة الوحدة الإسلامية حتى صارت في أوجها أوسع أمة عرفها التاريخ حتى اليوم .. وبالفعل كل الثروات تتدفق إليها عن طريق الحجاج والمعتمرين.
"تَكْتَظُّ أَرْضُكِ بِكَثْرَةِ الإِبِلِ مِنْ أَرْضِ مِدْيَانَ وَعِيفَةَ تَغْشَاكِ بُكْرَانٌ تَتَقَاطَرُ إِلَيْكِ مِنْ شَبَا مُحَمَّلَةً بِالذَّهَبِ وَاللُّبَانِ وَتُذِيعُ تَسْبِيحَ الرَّبِّ" اشعياء 6:60 وهذه تنطبق على مكة اثناء الحج والعمرة على مدار السنة وما يصحبه من الزحام من كل بقاع الأرض ومن التجارة وتبادل المنافع.
(3/458)
"جَمِيعُ قُطْعَانِ قِيدَارَ تَجْتَمِعُ إِلَيْكِ وَكِبَاشُ نَبَايُوتَ تَخْدُمُكِ تُقَدِّمُ قَرَابِينَ مَقْبُولَةً عَلَى مَذْبَحِي وَأُمَجِّدُ بَيْتِي الْبَهِيَّ " اشعياء7:60 وهنا التأكيد على أن النبي محمد هو صاحب هذه النبؤة .. فنسل قيدار ونبايوت ابناء اسماعيل سوف تذبح الهدي في بيت الله اثناء الحج إلى بيت الله الحرام "الكعبة".. وهذا مصداقا لقول الله تعالى "ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ" وللتأكيد على ذلك فإنني استشهد هنا بالكتاب المقدس:
قِيدَارَ وَ نَبَايُوتَ من ذرية إسماعيل التأكيد على أن
وَهَذَا سِجِلُّ مَوَالِيدِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي أَنْجَبَتْهُ هَاجَرُ الْمِصْرِيَّةُ جَارِيَةُ سَارَةَ لإِبْرَاهِيمَ. وَهَذِهِ أَسْمَاءُ أَبْنَاءِ إِسْمَاعِيلَ مَدَوَّنَةً حَسَبَ تَرْتِيبِ وِلاَدَتِهِمْ: نَبَايُوتُ بِكْرُ إِسْمَاعِيلَ، وَقِيدَارُ وَأَدَبْئِيلُ وَمِبْسَامُ، وَمِشْمَاعُ وَدُومَةُ وَمَسَّا، 15وَحَدَارُ وَتَيْمَا وَيَطُورُ وَنَافِيشُ وَقِدْمَةُ" التكوين 25 :12-14
"كل غنم قيدار تجتمع إليك" انتشار الإسلام بين العرب فهم لم يتأثروا بالمسيحية أبداً وهذا تصديق لوعد الله سبحانه وتعالى لإبراهيم عليه السلام كما في سفر التكوين 17 :20 بجعل إسماعيل عليه السلام أمة كبيرة
سفر حزقيال الإصحاح 27: 21"وَتَاجَرَ مَعَكِ الْعَرَبُ وَكُلُّ رُؤَسَاءِ قِيدَارَ، فَقَايَضُوا بَضَائِعَكِ بِالْخِرْفَانِ وَالْكِبَاشِ وَالأَعْتِدَةِ"
وقبائل قيدار التي تجمعت وتوحدت هي قبائل العرب من نسل قيدار ولد إسماعيل. أما بيت المجد المشار إليه فالثابت من السياق أنه بيت الله الحرام في مكة - مستقر أبناء قيدار وإسماعيل.
"بَيْتِي الْبَهِيَّ" هو بيت الله الحرام "المسجد الحرام"
(3/459)
"تَنْفَتِحُ أَبْوَابُكِ دَائِماً وَلاَ تُوْصَدُ لَيْلَ نَهَارَ لِيَحْمِلَ إِلَيْكِ النَّاسُ ثَرْوَةَ الأُمَمِ وَفِي مَوْكِبٍ يُسَاقُ إِلَيْكِ مُلُوكُهُمْ" أشعياء 11:60
من المعروف أن بيت الله الحرام أكبر بيوت الله على وجه الأرض لا ولَمْ يُوصًدْ ليلاً ولا نهاراً على مدار التاريخ منذ طهره محمد صلى الله عليه وسلم من الأوثان ليصبح قبلة وملاذا لكل مؤمن .. وكذلك فإن وفود الحجيج ومنهم الملوك يأتون في مواكب تقاد إلى البيت .. بيت الله.
"من هؤلاء الطائرون كسحاب وكالحمام إلى بيوتها. إن الجزائر تنتظرنى وسفن ترشيش فى الأول لتأتى من بعيد وفضتهم وذهبهم معهم لا سم الرب إلهك ….وبنو الغريب يبنون أسوارك ، وملوكهم يخدمونك .. وتفتح أبوابك دائما نهاراً وليلاً لا تغلق ، ليؤتى إليك بغنى الأمم وتقاد ملوكهم"
لقد أشار النص إشارات تعد من أوضح الأدلة على أن المراد بهذا النص مكة المكرمة. وتلك الإشارات هى طرق حضور الحجاج إليها. ففى القديم كانت وسائل النقل: ركوب الجمال. ثم السفن.
1- الجمال: قال فيها: تغطيك كثرة الجمال.
2- السفن: قال فيها: وسفن ترشيش تأتى ببنيك من بعيد.
والحجاج كلهم في ملابسهم البيضاء كالسحاب مسرعين كالحمام
أليس هذا أوضح من الشمس فى كبد السماء.على أن النص ملئ بعد ذلك بالدقائق والأسرار ، ومنها أن مكة مفتوحة الأبواب ليلاً ونهاراً لكل قادم فى حج أو عمرة.. ؟!
ومنها أن خيرات الأمم تجبى إليها من كل مكان "أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شىء"
أهذه الأوصاف يمكن أن تطلق على مدينة " صهيون ".
(3/460)
لقد خرب " بيت الرب " فى القدس مراراً وتعرض لأعمال شنيعة على كل العصور. ثم أين ثروات البحر والبر التى تجبى إلى تلك المدينة وأهلهاإلى الآن. وأين هى المواكب التى تأتى إليها براً وبحراً وجَوّاً ، وهل أبوابها مفتوحة ليلاً ونهاراً ، وأين هم بنوها الذين اجتمعوا حولها. وما صلة غنم قيدار وكباش مدين بها. وأين هو التسبيح الذى يشق عنان السماء منها.. وأين.. وأين..؟ إن هذه المغالطات لا تثبت أمام قوة الحق الواضح.
-9 نبؤة قرآنا عربيا .. منجما وليس جملة واحدة
"وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا"
النبؤة القادمة تتحدث عن الوحي الجديد والذي سيتنزل منجما آية بآية لن يكون جملة واحدة كما أنزل الله التوراة والإنجيل وسيكون بلسان غير لسان بني اسرائيل وهذا مذكور في سفر اشعياء 28: 10-11 وقد اتيت بالترجمة الإنجليزية لاختلاف الترجمات العربية بعضها عن بعض في محاولة منهم لإخفاء المعنى المقصود.
"أَنَّهُ يُكَرِّرُ عَلَيْنَا أَوَامِرَهُ كَلِمَةً فَكَلِمَةً، وَوَصِيَّةً فَوَصِيَّةً؛ شَيْئاً مِنْ هُنَا وَشَيْئاً مِنْ هُنَاكَ. سَيُخَاطِبُ الرَّبُّ هَذَاالشَّعْبَ بِلِسَانٍ غَرِيبٍ أَعْجَمِيٍّ" اشعياء 28: 10-11
10 For it is: Do and do, do and do, rule on rule, rule on rule; a little here, a little there." 11 Very well then, with foreign lips and strange tongues God will speak to this people “. “NIV
(3/461)
لم يكن نزول القرآن عبر ثلاثة وعشرين عاما بنفس ترتيبه النهائي في المصحف, وإنما كان ينزل مُفَرَّقاً: إما مجموعات من الآيات أو سورا كاملة, حتى رُتِّبَت الآيات والسور كما أرشد جبريلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في عرضه الأخير للقرآن فتكاملت الآيات والسور ببيانها ونسقها المعجز, وهذا التنزيل المتوالي ثم الترتيب قد أشارت إليه نبوءة أشعياء.
ولننظر معا لماذا استبدل الله بني اسرائيل وأخذ منهم النبوة والكتاب .. وذلك من الكتاب المقدس "ولكن هؤلاء ايضا ضلوا بالخمر وتاهوا بالمسكر.الكاهن والنبي ترنحا بالمسكر ابتلعتهما الخمر تاها من المسكر ضلا في الرؤيا قلقا في القضاء. 8 فان جميع الموائد امتلأت قيأ وقذرا.ليس مكان. 9 لمن يعلّم معرفة ولمن يفهم تعليما.أللمفطومين عن اللبن للمفصولين عن الثدي. 10 لانه أمر على أمر.أمر على أمر.فرض على فرض.فرض على فرض.هنا قليل هناك قليل11 انه بشفة أخرى وبلسان غريب يكلم الرب هذا الشعب 12 الذين قال لهم هذه هي الراحة.اريحوا الرازح وهذا هو السكون.ولكن لم يشاءوا ان يسمعوا. 13 فكان لهم قول الرب أمرا على أمر أمرا على أمر.فرضا على فرض فرضا على فرض.هنا قليلا هناك قليلا لكي يذهبوا ويسقطوا الى الوراء وينكسروا ويصادوا فيؤخذوا 14 لذلك اسمعوا كلام الرب يا رجال الهزء ولاة هذا الشعب الذي في اورشليم. 15 لانكم قلتم قد عقدنا عهدا مع الموت وصنعنا ميثاقا مع الهاوية.السوط الجارف اذا عبر لا يأتينا لاننا جعلنا الكذب ملجأنا وبالغش استترنا. 16 لذلك هكذا يقول السيد الرب.هانذا أؤسس في صهيون حجرا حجر امتحان حجر زاوية كريما اساسا مؤسسا.من آمن لا يهرب"
-10 نبؤة النبي المهاجر راكب الجمل
"وَعِنْدَمَا يُشَاهِدُ رَاكِبِينَ فُرْسَاناً أَزْوَاجاً أَزْوَاجاً أَوْ رَاكِبِينَ عَلَى حَمِيرٍ وَرَاكِبِينَ عَلَى جِمَالٍ فَلْيُصْغِ إِصْغَاءً شَدِيداً" اشعياء 7:21
(3/462)
إن النصارى يقولون أن الجزء الأوسط من النبؤة تتحدث عن المسيح ابن مريم عليه السلام وهذا يؤكده الكلام الآتي “ودخل يسوع اورشليم راكبا جحشا وحمار ابن اتان” وايضا "وَوَجَدَ يَسُوعُ جَحْشاً فَرَكِبَ عَلَيْهِ كَمَا قَدْ كُتِبَ" يوحنا 12: 14. .. فمن هو راكب الجمل؟ .. أليس النبي محمد وناقته القصواء؟ .. التي هاجر بها وكان عليها في صلح الحديبية وقد حج بها وكان يركبها في كل ارتحاله؟
-11 نبؤة النبي الآتي من فاران بلد اسماعيل ابن ابراهيم
"وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا"
هذه نبوءة أوحى الله بها لنبيه الله حبقوق .. عن النبى الموعود الآتى من جبال فاران موطن إسماعيل في سفر حبقوق 3 : 2-14
" يا رب قد سمعت خبرك فجزعت.يا رب عملك في وسط السنين أحيه.في وسط السنين عرّف.في الغضب اذكر الرحمة الله جاء من تيمان والقدوس من جبل فاران.سلاه.جلاله غطى السموات والارض امتلأت من تسبيحه. وكان لمعان كالنور. له من يده شعاع وهناك استتار قدرته. قدامه ذهب الوبأ وعند رجليه خرجت الحمّى. وقف وقاس الارض.نظر فرجف الامم ودكّت الجبال الدهرية وخسفت اكام القدم.مسالك الازل له. رأيت خيام كوشان تحت بلية.رجفت شقق ارض مديان. هل على الانهار حمي يا رب هل على الانهار غضبك او على البحر سخطك حتى انك ركبت خيلك مركباتك مركبات الخلاص. عرّيت قوسك تعرية.سباعيّات سهام كلمتك.سلاه.شققت الارض انهارا. ابصرتك ففزعت الجبال.سيل المياه طما.اعطت اللجّة صوتها.رفعت يديها الى العلاء. الشمس والقمر وقفا في بروجهما لنور سهامك الطائرة للمعان برق مجدك. بغضب خطرت في الارض.بسخط دست الامم. خرجت لخلاص شعبك لخلاص من مسحته ملكا.سحقت راس بيت الشرير معرّيا الاساس "في النسخة الانجليزية الأرجل" حتى العنق.سلاه. ثقبت بسهامه راس قبائله.
(3/463)
لا يستطيع عاقل عالم بتاريخ الرسالات ومعانى التراكيب أن يصرف هذه النصوص على غير البشارة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم. فالجهتان المذكورتان فى مطلع هذا المقطع وهما: تيمان: يعنى اليمن ، وجبل فاران: يعنى جبل النور الذى بمكة المكرمة التى هى فاران. هاتان الجهتان عربيتان. وهما رمز لشبه الجزيرة العربية التى كانت مسرحاً أولياً لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم.فليس المراد إذن نبياً من بنى إسرائيل ؛ لأنه معلوم أن رسل بنى إسرائيل كانت تأتى من جهة الشام شمالاً. لا من جهة بلاد العرب. وهذه البشارة أتت مؤكدة للبشارة المماثلة ، التى تقدم ذكرها من سفر التثنية ، وقد ذكرت أن الله: تلألأ أو استعلن من جبل فاران.
جبل فاران هو جبل مكة، حيث سكن إسماعيل، تقول التوراة عن إسماعيل: "كان الله مع الغلام فكبر. وسكن في البرية وكان ينمو رامي قوس وسكن في برية فاران وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر" التكوين 21/20-21.
وقد انتشر أبناؤه في هذه المنطقة فتقول التوراة " هؤلاء هم بنو إسماعيل..... وسكنوا من حويلة إلى شور " التكوين 25/16 – 18
حويلة كما جاء في قاموس الكتاب المقدس منطقة في أرض اليمن
شور في جنوب فلسطين. وعليه فإن إسماعيل وأبناؤه سكنوا هذه البلاد الممتدة جنوب الحجاز وشماله وهو يشمل أرض فاران التي سكنها إسماعيل.
حتى وإن قلنا أن هناك منطقة بجوار سيناء اسمها فاران فان وجود منطقة اسمها فاران في جنوب فلسطين لا يمنع من وجود فاران أخرى هي تلك التي سكنها إسماعيل وقامت الأدلة التاريخية على أنها الحجاز حيث بنى إسماعيل وأبوه الكعبة وحيث تفجر زمزم تحت قدميه وهو ما اعترف به عدد من المؤرخين منهم المؤرخ جيروم واللاهوتي يوسبيوس فقالا بأن فاران هي مكة.
(3/464)
التعبير عن الأمور المستقبلة بصيغة الماضي معهود في لغة الكتاب المقدس. يقول اسبينوزا: " أقدم الكتاب استعملوا الزمن المستقبل للدلالة على الحاضر، وعلى الماضي بلا تمييز كما استعملوا الماضي للدلالة على المستقبل... فنتج عن ذلك كثير من المتشابهات".
ونقول: لم خص جبل فاران بالذكر دون سائر الجبال لو كان الأمر مجرد إشارة إلى انتشار مجد الله.
" قاس الأرض كقائد يقف وينظر إلى ميدان الحرب، ويعين لفرق جيشه مراكزهم وأعمالهم فيعملون كما رسم القائد" والفقرة بالعبرية :
ترى أى نبى ذلك ؟ إنه نبى محارب ، لقد كان حبقوق حوالى 605 ق.م. أى بعد داود وسليمان بقرون عديدة؟؟
بشارة حبقوق فهى خاصة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم. ولو لم يكن فى كلام حبقوق إلا هذا " التحديد " لكان ذلك كافياً فى اختصاص بشارته برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ومع هذا فقد اشتمل كلام حبقوق على دلائل أخرى ذات مغزى: منها: الإشارة إلى كثرة التسبيح حتى امتلأت منه الأرض.. ؟!
ومنها: دكه صلى الله عليه وسلم لعروش الظلم والطغيان وقهر الممالك الجائرة. ومنها: أن خيل جيوشه ركبت البحر ، وهذا لم يحدث إلا فى ظل رسالة الإسلام.
مات أبو جهل فى معركة بدر ، قطعت رجله من الفخذ، ثم قطعت رأسه، وألقى على الأرض فى ساحة المعركة، معرى كما تقول النبوءة من الفخذ حتى عنقه. إن المرء ليعجب من دقة تصوير النبوءة لهذا المنظر .
-12 نبؤة عن قليب بدر ووعد من الله بنصر رسوله الكريم على اعدائه
"ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى. فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى"
(3/465)
يقول النبي داود في سفر المزامير 1:110-6 قال الرب "الله" لربي "لسيدي" اجلس عن يميني حتى اضع اعداءك موطئا لقدميك. 2 يرسل الرب قضيب عزك من صهيون.تسلط في وسط اعدائك. 3 شعبك منتدب في يوم قوتك في زينة مقدسة من رحم الفجر لك طل حداثتك 4 اقسم الرب ولن يندم.انت كاهن الى الابد على رتبة ملكي صادق. 5 الرب عن يمينك يحطم في يوم رجزه ملوكا. 6 يدين بين الامم.ملأ جثثا ارضا واسعة سحق رؤوسها"
وتفسير النبؤة أن داود عليه السلام كان يشير بهذا اللقب إلى النبي محمد سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وقد كانت نبؤة عن نبيٍّ قادم والنبؤة تصف ما جري علي يديه بإذن الله من نجاح وانتشار وخلود. قال الرب "الله" لربي "لسيدي" اجلس عن يميني حتى اضع اعداءك موطئا لقدميك. هنا داود يقول إن الله تعالى يقول لسيد الأنبياء اجلس عن يميني وبالفعل حدث هذا في شهادة الإسلام "أشهد أن لاإله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله" وكذلك كان يوم الإسراء والمعراج. وبعدها هاجر النبي إلى المدينة لتأتي موقعة بدر وليُقتل سبعون من صناديد قريش اعداء الله ورسوله ومنهم أبو جهل عمرو بن هشام بن المغيرة حين ألقاهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم فى القليب يوم بدر وجلس على حافة القليب يخاطب من ألقاهم فيه وهم تحت قدميه "هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا فإنى وجدت ما وعدنى ربى حقا" .. وقد كان من معجزاته إخباره بمصارع القوم "من الذي سيقتل وفي أي مكان"
(3/466)
لقد كان الكثير من بني اسرائيل الذين آمنوا بالمسيح "الرسول" ابن مريم وكذلك نصارى اليوم يظنون أن المسيح بن مريم هو ذلك النبي الآتي إلى العالم الذي أخبر عنه النبي داود ولكن المسيح ابن مريم كان كثيرا ما يوضح لهم بأن المسيح لن يأتي من نسل داود ويقول لهم "فَمَادَامَ دَاوُدُ نَفْسُهُ يَدْعُوهُ الرَّبَّ "السيد" فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ ابْنَهُ؟ وَكَانَ الْجَمْعُ الْعَظِيمُ يَسْمَعُهُ بِسُرُورٍ" مرقس 12: 37. ويقول لهم المسيح ايضا موضحا لهم أن هذا النبي لن يكون من نسل داود "فِيمَا يَقُولُ دَاوُدُ نَفْسُهُ فِي كِتَابِ الْمَزَامِيرِ: قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي “لسيدي” :اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ؟ إِذَنْ، دَاوُدُ يَدْعُوهُ رَبّاً، فَكَيْفَ يَكُونُ ابْنَهُ؟" لوقا 20: 42-44.
ولقد حاول النصارى وعلى رأسهم الفريسي بولس الصاق هذه النبؤة بالمسيح ابن مريم عليه السلام .. مع أن المسيح أخبرهم بأن النبي القادم لن يكون من نسل داود .. ولكنهم أصروا على عنادهم .. وأنا هنا اسألهم ألم يكن المسيح يتخفى من بني اسرائيل ومختبئا ومتخفيا في زي البستاني حتى لا يقتلوه إلى لحظة أن رفعه الله؟ فأين كلام الكتاب المقدس "الرب عن يمينك يحطم في يوم رجزه ملوكا. يدين بين الامم. ملأ جثثا ارضا واسعة سحق رؤوسها" .. أم أن الكتاب غير صادق وأنتم فقط الصادقون؟
-13 نبؤة عن مكة وبيت الله
(3/467)
" ترنمي ايتها العاقر التي لم تلد أشيدي بالترنم ايتها التي لم تمخض لان بني المستوحشة اكثر من بني ذات البعل قال الرب اوسعي مكان خيمتك ولتبسط شقق مساكنك.لا تمسكي.اطيلي اطنابك وشددي اوتادك. لانك تمتدين الى اليمين والى اليسار ويرث نسلك امما ويعمر مدنا خربة. لا تخافي لانك لا تخزين.ولا تخجلي لانك لا تستحين.فانك تنسين خزي صباك وعار ترملك لا تذكرينه بعد. لان بعلك هو صانعك رب الجنود اسمه ووليك قدوس اسرائيل اله كل الارض يدعى. لانه كامرأة مهجورة ومحزونة الروح دعاك الرب وكزوجة الصبا اذا رذلت قال الهك. لحيظة تركتك وبمراحم عظيمة ساجمعك. بفيضان الغضب حجبت وجهي عنك لحظة وباحسان ابدي ارحمك قال وليك الرب. لانه كمياه نوح هذه لي.كما حلفت ان لا تعبر بعد مياه نوح على الارض هكذا حلفت ان لا اغضب عليك ولا ازجرك. فان الجبال تزول والآكام تتزعزع اما احساني فلا يزول عنك وعهد سلامي لا يتزعزع قال راحمك الرب ايتها الذليلة المضطربة غير المتعزية هانذا ابني بالاثمد حجارتك وبالياقوت الازرق اؤسسك واجعل شرفك ياقوتا وابوابك حجارة بهرمانية وكل تخومك حجارة كريمة وكل بنيك تلاميذ الرب وسلام بنيك كثيرا. بالبر تثبتين بعيدة عن الظلم فلا تخافين وعن الارتعاب فلا يدنو منك. ها انهم يجتمعون اجتماعا ليس من عندي. من اجتمع عليك فاليك يسقط. هانذا قد خلقت الحداد الذي ينفخ الفحم في النار ويخرج آلة لعمله وانا خلقت المهلك ليخرب كل آلة صورت ضدك لا تنجح وكل لسان يقوم عليك في القضاء تحكمين عليه.هذا هو ميراث عبيد الرب وبرهم من عندي يقول الرب" سفر إشعياء الإصحاح 45 : 1-17
" العاقر" مكة المكرمة لعدم ظهور نبي فيها بعد إسماعيل عليه السلام " بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ"
"بنو المستوحشة" هم أولاد هاجر عليها السلام كما في سفر التكوين الإصحاح 16 : 11-12
(3/468)
"بنو ذات رجل" هم أولاد سارة عليها السلام
"ويرث نسلك أمماً" الفتوحات الإسلامية
الجمل من 4-16 استمرار الأمن والإسلام في مكة المكرمة
"كل آلة صورت ضدك لا تنجح" حماية مكة المكرمة كما حدث لأبرهة الأشرم حين غزاها فهزمه الله سبحانه وتعالى
-14 نبؤة عن مكة وبيت الله
يقول النبي حجي وهو من أواخر انبياء بني اسرائيل في سفر حجي الإصحاح 2 : 7- 10 عن النبي الذي سيرسله الله إلى العالم
"لانه هكذا قال رب الجنود.هي مرّة بعد قليل فازلزل السموات والارض والبحر واليابسة. وازلزل كل الامم وياتي مشتهى كل الامم فاملأ هذا البيت مجدا قال رب الجنود. لي الفضة ولي الذهب يقول رب الجنود. مجد هذا البيت الاخير يكون اعظم من مجد الاول قال رب الجنود وفي هذا المكان اعطي السلام يقول رب الجنود"
النص العبري الأصلي "وسوف يأتي حمدا لكل الأمم" استبدل كتبة الإنجيل كلمة "حمدا" بكلمة "مشتهى" وهي عبرية تعني حمد ، شهية ، شائق ، أحمد وهو صيغة أخرى لمحمد
"هذا البيت" المسجد الأقصى ملأه الله سبحانه وتعالى بالمجد بصلاة محمد صلى الله عليه وسلم فيه إماماً بالأنبياء ليلة الإسراء" سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ"
"مجد الأول" هيكل سليمان عليه السلام
"أعطي السلام"الإسلام فقد أخفق المسيح عليه السلام في جلب السلام متى الإصحاح 10 : 34 تنبأ بخراب الهيكل في إنجيل متى الإصحاح 24 : 2 وفي إنجيل مرقس الإصحاح 13 : 2 وفي إنجيل لوقا الإصحاح 21 : 6 الأمر الذي تحقق بعد أربعين عاماً تقريباً على يد الرومان وتشتت اليهود
-15 النبي الآتي يسحق الشعوب المشركة في زمانه كما أخبر يعقوب
(3/469)
"يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب" التكوين 49/10 وقال عنه داود: "تقلد سيفك على فخذك أيها الجبار جلالك وبهاءك، وبجلالك اقتحم. اركب من أجل الحق والدعة والبر، فتريك يمينك مخاوف، نبلك المسنونة في قلب أعداء الملك شعوب تحتك يسقطون. كرسيك يا الله إلى دهر الدهور، قضيب استقامة قضيب ملكك " المزمور 45/1 - 6.
أما المسيح عليه السلام فكان يدفع الجزية للرومان "ولما جاءوا إلى كفر ناحوم تقدم الذين يأخذون الدرهمين إلى بطرس وقالوا: أما يوفي معلمكم الدرهمين؟ قال: بلى، فلما دخل البيت سبقه يسوع قائلاً: ماذا تظن يا سمعان، ممن يأخذ ملوك الأرض الجباية أو الجزية أمن بنيهم أم من الأجانب؟ قال له بطرس: من الأجانب، قال له يسوع: فإذا البنون أحرار، ولكن لئلا نعثرهم اذهب إلى البحر وألق صنارة والسمكة التي تطلع أولاً خذها، ومتى فتحت فاها تجد أستاراً، فخذه وأعطهم عني وعنك" متى 17/24-27. وكان المسيح يختفي من اليهود في زي البستاني حتى لايقتلوه.
كرسيك يا الله إلى دهر الدهور: كان كاتبو التوراة يطلقون لفظ الله على الملوك والقضاة والأنبياءوالعظماء. وهي هنا تشير إلى النبي محمد .. ولا يجوز لنا نحن المسلمين استخدامها على أي بشر مهما كان.
-16 النبي الآتي سيزيل الله به الأصنام ويقتل الأنبياء الكذبة
يقول الله في سفر زكريا 13 : 2-3 "ويكون فى ذلك اليوم، يقول رب الجنود : أنى أقطع أسماء الأصنام من الأرض فلا تذكر بعد. وأزيل الأنبياء أيضاً و الروح النجس من الأرض، ويكون إذا تنبأ أحد بعد، أن أباه وأمه والديه يقولان له: لا تعيش لأنك تكلمت بالكذب باسم الرب، فيطعنه أبوه وأمه والداه عندما يتنبأ"
(3/470)
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح على راحلته، فطاف عليها وحول البيت أصنام مشدودة بالرصاص، فجعل النبى صلى الله عليه وسلم يشير بقضيب فى يده إلى الأصنام ويقول "جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا"، فما أشار إلى صنم منها فى وجهه إلا وقع لقفاه، ولا أشار لقفاه إلا وقع لوجهه، حتى ما بقى منها صنم إلا وقع " كما صعد بلال إلى ظهر الكعبة، فكسر ما عليها من الأصنام وهو يقول : الله أكبر، الله أكبر.إن النبوءة تتكلم ايضا عن عن الأسود العنسي و مسيلمة بن تمامة بن حنيفة(الكذاب).
-17 النبي الآتي سيبني بيت الله وهو موطنه ويكون منتصرا
"هكذا قال رب الجنود قائلا: هوذا الرجل (الغصن) اسمه، ومن مكانه ينبت ويبنى هيكل الرب فهو يبنى هيكل الرب وهو يحمل الجلال ويجلس ويتسلط على كرسيه، ويكون كاهنا على كرسيه " زكريا 6/12-13
لقد شارك النبي محمد صلى الله عليه وسلم فى بناء الكعبة ونقل الأحجار إليها على كتفه بعد أن هدمها السيل ، لقد بُنى بيت الله فى مكةمنشأ ومنبت الرسول ، لقد كان كل مؤمن يحتمي به لأنه كان أشجع الناس .. ولا ننسى قصة الدين الذي كان على أبي جهل لأحد الناس وذهب للنبي ليأخذه له منه، وإن حاول القوم البهت أن يضعوها فى سياق عن زربابل الذى لم يكن كاهنا قط (رجل دين) فهو لم يكن لاويا من سبط لاوى.
-18 حفظ الله لنبيه .. وأنه سيموت في زمانه انبياء كذبة
يقول الله في سفر زكريا 13 : 2-3 "ويكون فى ذلك اليوم .. وأزيل الأنبياء أيضاً و الروح النجس من الأرض، ويكون إذا تنبأ أحد بعد، أن أباه وأمه والديه يقولان له: لا تعيش لأنك تكلمت بالكذب باسم الرب، فيطعنه أبوه وأمه والداه عندما يتنبأ"
إن النصارى نسوا قتل وصلب إلههم يسوع وذبح رسلهم بولس وبطرس ومتى ولوقا .. وتحولوا يشككون في نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم ويقولون إنه مات مسموما؟
(3/471)
وأنا أرد عليهم قائلا .. من المعروف أن الأنبياء الكذبة .. قد حكم الله عليهم بالهلاك سريعا ..في القرآن وفي الكتاب المقدس .. نعم سريعا .. ومنهم الأسود العنسي ومسيلمة الكذاب؟
و في رسالة بطرس الثانية 2:1 " ما يؤكد ذلك " ولكن كان ايضا في الشعب انبياء كذبة كما سيكون فيكم ايضا معلّمون كذبة الذين يدسّون بدع هلاك واذ هم ينكرون الرب الذي اشتراهم يجلبون على انفسهم هلاكا سريعا"
و يقول الله في سفر زكريا 13 : 2-3 "ويكون فى ذلك اليوم .. وأزيل الأنبياء أيضاً و الروح النجس من الأرض، ويكون إذا تنبأ أحد بعد، أن أباه وأمه والديه يقولان له: لا تعيش لأنك تكلمت بالكذب باسم الرب، فيطعنه أبوه وأمه والداه عندما يتنبأ" .. عندما يتنبأ .. احتفظ بهذه المعلومة "عندما يتنبأ"
ويقول الله في ارمياء 31:23 ها أنا ذا على الانبياء يقول الرب الذين ياخذون لسانهم ويقولون قال .. أي سيهلكهم الله لامحالة.
ويقول الله في سفر التثنية 18:20 "وأما النبي الذي يتجبر فينطق باسمي بما لم آمره به أو يتكلم باسم آلهة أخرى فإنه حتما يموت"
حننيا نبي كاذب وقتل سريعا كما يقول الكتاب المقدس
ولذلك فقد هلك حنانيا النبي الكاذب في الشهر السابع اقرأ .. "فقال ارميا النبي لحننيا النبي اسمع يا حننيا.ان الرب لم يرسلك وانت قد جعلت هذا الشعب يتكل على الكذب. لذلك هكذا قال الرب.هانذا طاردك عن وجه الارض.هذه السنة تموت لانك تكلمت بعصيان على الرب. فمات حننيا النبي في تلك السنة في الشهر السابع"
لقد أراد اليهود اختبار نبؤة سفر التثنية 20:18 على النبي محمد أكثر من عشر مرات ..... والنبؤة تقول "وأما النبي الذي يتجبر فينطق باسمي بما لم آمره به أو يتكلم باسم آلهة أخرى فإنه حتما يموت"
(3/472)
ومن هذه المرات .. "في شهر المحرم من السنة السابعة من الهجرة" .. أرسلت إحدى اليهوديات واسمها زينب بنت الحارث ذراع شاة مشوية إلى النّبي صلى الله عليه وسلم ووضعت فيها السم فلما وضعته بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم أكل لقمة ثمّ لفظها "أي أخرجها"، وقال: "إن هذه الشاة تخبرني انها مسمومة" .. وكان معه بِشرُ بن البراء .. فأكل بشر من اللحم، فمات متأثراً بالسم.
ولم يمت النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلا في ربيع الأول من السنة الحادية عشرة من الهجرة .. فهل هناك سم يقتل بعد ما يقرب من أربعة سنوات .. اليست تلك معجزة؟! .. يارجل .. لما الكبر؟
لقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته بشهر .. يخطب في الناس قائلا .. " إن عبداً خيّره الله بين الدنيا و ما عنده فاختار ما عندالله " .فبكى أبو بكر و قال: فديناك بأنفسنا و أبائنا!
وإني اسألكم هنا ايها النصارى .. هل هناك نبي مسموم يبعث بسرية في غزوة مؤته سنة 8 هجرية .. أي بعد السم بعام؟
هل هناك نبي مسموم يرأس سرية لفتح مكة سنة 8 هجرية .. أي بعد السم بعام؟
هل هناك نبي مسموم يرأس سرية غزوة حنين سنة 8 هجرية .. أي بعد السم بعام؟
هل هناك نبي مسموم يرأس سرية غزوة الطائف 9 هجرية .. أي بعد السم بعامين؟
هل هناك نبي مسموم يرأس سرية غزوة تبوك سنة 9 هجرية .. ولمدة ثلاثة شهور يسير في الصحراء؟!!!! .. وذلك بعد السم بعامين؟
هل هناك نبي مسموم يحج حجة الوداع وكانت سنة 10 هـ .. وتتنزل عليه "اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" .. بعد السم بثلاثة أعوام؟
فبكى أبو بكر الصديق رضي الله عنه و قال: "هذا نعي رسول الله".
ورجع الرسول من حجة الوداع وقبل الوفاة بتسعة أيام "أي في اليوم الثالث من ربيع الأول سنة 11 هجرية" نزلت آخر آية في القرآن "واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون "
(3/473)
ثم دخلت ابنته فاطمة فبكت عند دخولها لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستطع الوقوف لها فقال لها الرسول: "ادني مني يا فاطمة" فهمس لها بأذنها فبكت ثم قال لها الرسول مرة ثانية: "ادني مني يا فاطمة" فهمس لها مرة أخرى بأذنها فضحكت فبعد وفاة الرسول سألوا فاطمة "ماذا همس لك فبكيتي وماذا همس لك فضحكت!" قالت فاطمة: "أول مرة قال لي يا فاطمة اني ميت الليلة. فبكيت! ولما وجد بكائي رجع وقال لي: أنت يا فاطمة أول أهلي لحاقاً بي. فضحكت!"
تقول السيدة عائشة َسَمِعْتُه يقول: " مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا " .. وكان ذلك صباح الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول سنة 11 هجرية .. أي بعد السم بأربع سنوات وشهرين .. أليست هذه معجزة تدل على النبوة؟
النبي محمد مكث 23 سنة يبلغ دعوة الله إلى "اليوم أكملت لكم دينكم"
النبي محمد يقول "مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا "
والآن نعود إلى قول سفر الأمثال 32:14 "الشرير يطرد بشره.اما الصدّيق فواثق عند موته"
من هو الواثق عند موته .. أليس النبي محمد؟
-19 النبي الآتي سيقيم أمة تسحق أمما مشركة
"وفي أيام هؤلاء يقيم إله السماوات مملكة لن تنقرض أبداً ومَلِكها لا يُترك لشعب آخر وتسحق وتفنى كل هذه الممالك وهي تثبت إلى الأبد لأنك رأيت أنه قد قطع حجر من جبل لا بيدين فسحق الحديد والنحاس والخزف والفضة والذهب" دانيال 2/42- 45. لقد كان العرب قبل الإسلام ضالين فهداهم الله وأهلك على ايديهم كل الأمم الظالمة من الفرس والرومان ألم يقل المسيح عليه السلام عن تلك الأمة المسلمة. ألم يقل المسيح عليه السلام عن تلك الأمة "ومن سقط على هذا الحجر يترضض، ومن سقط هو عليه يسحقه" (متى 21/44)
(3/474)
-20 موسى يخبر بني اسرائيل بالبركة التي باركه الله بها .. ومنها نبي مكة
"وَهَذِهِ هِيَ الْبَرَكَةُ الَّتِي بَارَكَ بِهَا مُوسَى، رَجُلُ اللهِ، بَنِي إِسْرَائِيلَ قَبْلَ مَوْتِهِ، فَقَالَ: أَقْبَلَ الرَّبُّ مِنْ سِينَاءَ، وَأَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ سَاعِيرَ، وَتَأَلَّقَ فِي جَبَلِ فَارَانَ؛ جَاءَ مُحَاطاً بِعَشَرة آلاف من الرجال القديسين وَعَنْ يَمِينِهِ نار شريعة. حَقّاً إِنَّكَ أَنْتَ الَّذِي أَحْبَبْتَ الشَّعْبَ؛ وَجَمِيعُ الْقِدِّيسِينَ فِي يَدِكَ، سَاجِدُونَ عِنْدَ قَدَمَيْكَ يَتَلَقَّوْنَ مِنْكَ أَقْوَالَكَ" سفر التثنية 33 : 1- 3
ولقد حاول الترجمات العربية إخفاء معنى “مُحَاطاً بِعَشَرة آلاف من الرجال القديسين” وحولوها إلى "وأتى من ربوات القدس". وإذا نظرنا إلى الترجمات الإنجليزية .. فسوف نرى الحقيقة التي يحاول إخفاءها المترجمون.
He said,The LORD came from Sinai,And dawned on them from Seir;
He shone forth from Mount Paran, And He came from the midst of ten thousand holy ones At His right hand there was flashing lightning for them. Deuteronomy 33: 2 (New American Standard Bible)
و فى النسخة القياسية المنقحة : He came with the ten thousand of holy men
أى: "وأتى فى عشرة آلاف من الرجال الأطهار".
فى نسخة الملك جيمس : 2And he said, The LORD came from Sinai, and rose up from Seir unto them; he shined forth from mount Paran, and he came with ten thousands of saints: from his right hand went a fiery law for them.
أى: " وأتى فى عشرة آلاف من القديسين " .أى أن التحريف هو للعرب فقط .
كانت الترجمة العربية السابقة والمحذوفة " ومعه عشرة آلاف من القديسين الأطهار"، وحرفت لأن نبيهم لم يأت ومعه عشرة آلاف من الرجال الأطهار .
(3/475)
والآن يوصيهم موسى بالبركة التي باركه الله بها بالشريعة البديلةوبوحي جديد بدلا من الذي معهمز لأن الرسل والمؤمنين يتلقون وحي الله ويعملون به.
"أقبل" أمر يقيني
"الرب" أي الله بوحيه
" قديسيه" الصحابة رضي الله عنهم
" لِيَدِينَ جَمِيعَ النَّاسِ " أنه أرسل للعالم كافةا لرب" تعني وحي الله سبحانه وتعالى أمره
"سيناء" صحراء في مصر وهي مكان تلقي موسى عليه السلام للتوراة
"ساعير" جبال في فلسطين حيث تلقى المسيح عليه السلام الإنجيل
"وَبَعَثَ يَعْقُوبُ قُدَّامَهُ رُسُلاً إِلَى أَخِيهِ عِيسُو فِي أَرْضِ سَعِيرَ بِلاَدِ أَدُومَ" التكوين 32 :3
"فاران" هي مكة المكرمة حيث سكن إسماعيل عليه السلام وأمه "وَسَمِعَ اللهُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَنَادَى مَلاَكُ اللهِ هَاجَرَ مِنَ السَّمَاءِ وَقَالَ لَهَا: مَا الَّذِي يُزْعِجُكِ يَاهَاجَرُ؟ لاَ تَخَافِي، لأَنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ بُكَاءَ الصَّبِيِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُلْقًى. قُومِي وَاحْمِلِي الصَّبِيَّ، وَتَشَبَّثِي بِهِ لأَنَّنِي سَأَجْعَلُهُ أُمَّةً عَظِيمَةً. ثُمَّ فَتَحَ عَيْنَيْهَا فَأَبْصَرَتْ بِئْرَ مَاءٍ، فَذَهَبَتْ وَمَلأَتِ الْقِرْبَةَ وَسَقَتِ الصَّبِيَّ. وَكَانَ اللهُ مَعَ الصَّبِيِّ فَكَبُرَ، وَسَكَنَ فِي صَحْرَاءِ فَارَانَ، وَبَرَعَ فِي رَمْيِ الْقَوْسِ وَاتَّخَذَتْ لَهُ أُمُّهُ زَوْجَةً مِنْ مِصْر" سفر التكوين 21 : 17 - 21
هذه العبارة تضمنت خبراً وبشارتين:
فالخبر هو تذكير موسى بفضل الله عليه حيث أرسله إليهم رسولاً.والبشارتان:الأولى: خاصة بعيسى عليه السلام. والثانية خاصة بمحمد صلى الله عليه وسلم.
(3/476)
النصارى قالوا إن " فاران " هى " إيلات " وليست مكة. وأجمع على هذا " الباطل " واضعو كتاب: قاموس الكتاب المقدس. وهدفهم منه واضح إذ لو سَلَّمُوا بأن " فاران " هى مكة المكرمة ، للزمهم إما التصديق برسالة رسول الإسلام ، وهذا عندهم قطع الرقاب أسهل عليهم من الإذعان له.. ؟! ، أو يلزمهم مخالفة كتابهم المقدس ، ولم يقتصر ورود ذكر " فاران " على هذا الموضع من كتب العهد القديم ، فقد ورد فى قصة إسماعيل عليه السلام مع أمه هاجر حيث تقول التوراة: إن إبراهيم عليه السلام استجاب لسارة بعد ولادة هاجر ابنها إسماعيل وطردها هى وابنها فنزلت وسكنت فى " برية فاران ". على أنه يلزم من دعوى واضعى قاموس الكتاب المقدس من تفسيرهم فاران بإيلات أن الكذب باعترافهم وارد فى التوراة. لأنه لم يبعث نبى من " إيلات " حتى تكون البشارة صادقة. ومستحيل أن يكون هو عيسى عليه السلام ؛ لأن العبارة تتحدث عن بدء الرسالات وعيسى تلقى الإنجيل بساعير وليس بإيلات. فليست " فاران " إلا " مكة المكرمة " وباعتراف الكثير منهم ، وجبل فاران هو
جبل " النور " الذى به غار حراء ، الذى تلقى فيه رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم بدء الوحى. وهجرة إسماعيل وأمه هاجر إلى مكة المكرمة " فاران " أشهر من الشمس.
وترتيب الأحداث الثلاثة فى العبارة المذكورة:
جاء من سيناء
وأشرق من ساعير
وتلألأ من فاران. هذا الترتيب الزمنى دليل ثالث على أن " تلألأ من جبل فاران" تبشير قطعى برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم. وفى بعض " النسخ " كانت العبارة: " واستعلن من جبل فاران " بدل " تلألأ ". وأياً كان اللفظ فإن " تلألأ " و " استعلن " أقوى دلالة من " جاء " و " أشرق " وقوة الدلالة هنا ترجع إلى " المدلولات " الثلاثة. فالإشراق جزء من مفهوم " المجئ " وهكذا كانت رسالة عيسى بالنسبة لرسالة موسى (عليهما السلام).
(3/477)
أما تلألأ واستعلن فهذا هو واقع الإسلام ، رسولا ورسالة وأمة ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
هذه المغالطة (فاران هى إيلات) لها مثيل حيث تزعم التوراة أن هاجر أم إسماعيل عندما أجهدها العطش هى وابنها إسماعيل بعد أن طردا من وجه " سارة " طلبت الماء فلم تجده إلا بعد أن لقيا ملاك " الرب " فى المكان المعروف الآن "ببئر سبع" ؟! وأنها سميت بذلك لذلك..؟! وكما كذبت فاران دعوى "إيلات " كذَّبت " زمزم الطهور " دعوى " بئر سبع " ؟
-21 داود يبشر بنبي يجاهد المشركين ولقبه سيد المرسلين .. ويوصي ابنته صفية بنت حيي بن أخطب ويبشرها بلقب أم المؤمنين
"فاض قلبي بكلام صالح، متكلم أنا بإنشائي للملك، لساني قلم كاتب ماهر: أنت أبرع جمالاً من بني البشر انسكبت النعمة على شفتيك لذلك باركك الله إلى الأبد. تقلد سيفك على فخذك أيها الجبار جلالك وبهاءك، وبجلالك اقتحم. اركب من أجل الحق والدعة والبر، فتريك يمينك مخاوف، نُبُلُك المسنونة في قلب أعداء الملك، شعوبٌ تحتك يسقطون. كرسيك يا الله إلى دهر الدهور، قضيب استقامة قضيب ملكك. أحببت البر وأبغضت الإثم. من أجل ذلك مسحك إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك.... بنات ملوك بين حظياتك جعلت الملكة عن يمينك بذهب أوفير. اسمعي يا بنت وانظري وأميلي أذنك انسي شعبك وبيت أبيك، فيشتهي الملك حسنك، لأنه هو سيدك فاسجدي له.. عوضاً عن آبائك يكون بنوك، تقيمهم رؤساء في كل الأرض أذكر اسمك في كل دور فدور. من أجل ذلك تحمدك الشعوب إلى الدهر والأبد" المزمور 45/1 – 17
من العجيب أن النصارى يقولون أن هذه النبؤة عن المسيح ابن مريم؟ .. مع انهم هم الذين قالوا سابقا أن يسوع "لا صورة له ولا جمال فننظر إليه ولا منظر فنشتهيه" إشعيا 52:2 .. وقالوا عنه أنه "كشاة سيق إلى الذبح لم يفتح فاه" فلتستقروا على اختيار ايها النصارى!
(3/478)
إذن من هو النبي الأبرع جمالا .. وكان وجهه أجمل من البدر كما وصفه كل الصحابة؟ .. من الذي انسكبت نعمة القرآن على شفتيه "لا تعجل به إنا علينا جمعه وقرآنه" .. من الذي يقول المسلمون عنه اللهم صلي وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد؟ .. من الذي قال عنه المسيح ابن مريم "لا تروني بعد حتى تقولوا مبارك الآتي باسم الرب". من الذي أمره الله بالجهاد وأهلك الله على يديه مشركي جزيرة العرب؟ .. من الذي قال الله عنه في اشعياء 42 الرب قد سر ببره؟ .. من الذي جعله الله خاتم المرسلين؟ .. ثم هنا ينصح داود بعد ذلك أم المؤمنين السيدة صفية بنت حيى بن أخطب وهي من بني اسرائيل أن تنسى شعبها (بنى إسرائيل) وبيت أبيها، وأن تخضع لزوجهاوبالفعل نست السيدة صفية شعبها وبيت ابيهاوأصبحت أم المؤمنين. ولقد قال لها النبي صلى الله عليه وسلم قولي لعائشة "بل من أعلى مني نسبا .. أبي موسى وعمي هارون وزوجي محمد"
-22 نبي لا يقرأ ولا يعرف القراءة
يقول سفر اشعياء 29: 12 في نبؤة عن شخص يتلقى الوحي وهو لا يستطيع القراءة "وَعِنْدَمَا يُنَاوِلُونَهُ لِمَنْ يَجْهَلُ الْقِرَاءَةَ قَائِلِينَ: اقْرَأْ هَذَا يُجِيبُ: لاَ أَسْتَطِيعُ الْقِرَاءَةَ"
"إذا تعطيه إلى شخص لا يستطيع القراءة وتطلب إليه أن يقرأه عليك سيجيب بأنه لا يعرف كيف"
أول ما نزل من الوحي علي محمد صلي الله عليه وسلم قول جبريل عندما جاءه في غار حراء : "اقرأ" فقال : "ما أنا بقارئ "أي أ نَّى لي أن أعرف القراءة وهو عين ما أشارت إليه نبوءة اشعياء
النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أتاني جبريل بنمط من ديباج فيه كتاب قال : اقرأ قلت : ما أنا بقارئ"
وهذا مصداقا لقول الله في القرآن "وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ"
-23 يعقوب يخبر بالنبي الذي ليس من بني اسرائيل والذي يكون له الأمر وتطيعه الشعوب
(3/479)
يقول يعقوب عليه السلام في سفر التكوين 49 : 10 "لاَ يَزُولُ صَوْلَجَانُ الْمُلْكِ مِنْ يَهُوذَا وَلاَ مُشْتَرِعٌ مِنْ صُلْبِهِ حَتَّى يَأْتِيَ شِيلُوهُ (وَمَعْنَاهُ: مَنْ لَهُ الأَمْرُ) فَتُطِيعُهُ الشُّعُوبُ"
"شيلوهُ" كلمة عبرية الأصل تعني "المرسل"
وباليونانية تعني "الذي له الكل"
وبالسريانية تعني " الذي هو له "
وباللاتينية تعني "الذي سيرسل"
من الواضح أنها تدل على شخص ليس من بني اسرائيل و لا تنطبق على موسى فقد كان أول من نظم أسباط بني إسرائيل الاثني عشر ولم يظهر قبله أي نبي أو ملك من سبط يهوذا
ولا تنطبق على داود عليه السلام فقد كان أول ملك نبي ينحدر من سبط يهوذا ولا تنطبق على المسيح ابن مريم عليه السلام فقد كان ايضا ينحدر من سبط يهوذا كما أن المسيح ابن مريم عليه السلام لم يترك قانوناً مكتوباً ولم يكن ملكاًلقد انقرض سبط يهوذا منذ مئات السنين فأين شيلوه إذن ؟ انه محمد ابن عبد الله
-24 مزامير داود تخبر بالنبي الآتي من نسل هاجر أم اسماعيل والتي رفضها بنو اسرائيل والذي كان حجر الزاوية
"الحجر الذى رفضه البناءون قد صار رأس الزاوية من قبل الرب كان هذا وهو عجيب فى أعيننا، هذا هو اليوم الذى صنعه الرب نبتهج ونفرح فيه. آه يا رب خلص. آه يا رب انقذ. مبارك الآتى باسم الرب. باركناكم من بيت الرب. الرب هو الله" مز 118/24-27.
النبوءة عن الحجر الذى رفضه البناءون ثم صار رأس الزاوية فى البناء و هذه الاستعارة عن " النبي محمد" نسل هاجر وإسماعيل اللذين يقول اليهود والنصارى أنهما طردا عن طريق سارة.
ألم يقل المسيح عليه السلام عن تلك الأمة "ومن سقط على هذا الحجر يترضض، ومن سقط هو عليه يسحقه" (متى 21/44)
(3/480)
قال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ، وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ: هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ"
-25 ميخا النبي يخبر عن الوقوف بعرفة
من المعروف أن النبي ميخا قد شاهد الهيكل هيكل سليمان .. ولكنه هنا يتحدث عن أمم كثيرة وشعوب من كل بقاع الأرض متوحدة على دين واحد .. تسعى إلى جبل عرفات .. ثم طواف الوداع بالبيت "ويكون فى آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتا فى رأس الجبال، و يرتفع فوق التلال، وتجرى إليه شعوب، وتسير أمم كثيرة. ويقولون هلم نصعد إلى جبل الرب، وإلى بيت إله يعقوب. فيعلمنا من طرقه، ونسلك فى سبله، لأنه من صهيون تخرج الشريعة، ومن أورشليم كلمة الرب" ميخا 4/1
"فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ"
-26 اشعياء يتكلم عن فتح مكة وعن الحج وأن مكة لايدخلها إلا مسلم
(3/481)
“شددوا الأيادى المسترخية، والركب المرتعشة ثبتوها، وقولوا لخائفى القلوب تشددوا لا تخافوا، هوذا إلهكم، الانتقام يأتى، جزاء الله هو يأتى ويخلصكم، حينئذ تنفقح عيون العمى، وآذان الصم تنفتح، حينئذ يقفز الأعرج كالأيل، ويترنم لسان الأخرس، لأنه قد انفجرت فى البرية مياه ، وأنهار فى القفر، ويصير السراب أجما، والمعطشة ينابيع ماء، فى مسكن الذئاب فى مربضها دار للقصب والبردى، وتكون هناك سكة وطريق يقال لها الطريق المقدسة. لا يعبر فيها نجس بل هى لهم. من سلك فى الطريق حتى الجهال لا يضل، لا يكون هناك أسد، وحش مفترس لا يصعد إليها. لا يوجد هناك. بل يسلك المفديون (المغفور لهم) فيها، ومفديو الرب يرجعون ويأتون إلى صهيون بترنم وفرح أبدى على رءوسهم، ابتهاج وفرح يدركانهم، ويهرب الحزن والتنهد" إشعياء 35/3-10
(3/482)
من هؤلاء المغلوب على أمرهم ، أصحاب الركب المرتعشة ، والقلوب الخائفة الوجلة ، الذين لا يملكون من أمرهم شيئا ، لا شك أنهم الرقيق العبيد والموالى الذين اتبعوا النبى، فليجتهد أصحاب كل نبى فى إثبات النبوءة له ، ولنأت نحن بأسماء العبيد والموالى الضعفاء الذين تبعوا نبى الإسلام ، : بلال ، عامر بن فهيرة ، صهيب ، عمار ، ياسر ، خباب علينا أن نأتى بمسالك المسلمين وطرقهم فى الصحراء العربية ، برية فاران ، فى ذهابهم وإيابهم لحج بيت الله الحرام ، الطرق المقدسة التى لايعبر فيها نجس ، أممى مشرك إن لفظ الله يطلق فى العبرية على الله ، وعلى الأنبياء ، وعلى الملائكة ، وعلى الملوك حتى ولو كانوا مشركين ، وعلى العظماء، بل وعلى عامة الناس ، فإلى نص النبوءة إن أتباع محمد لم يتقاعسوا عنه ، لم يطلبوا الموت فقط ، بل كانوا يتسابقون إليه ، ويتنافسون فى الفوز به " فوالذى بعثك بالحق ، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد " . لقد خلدت التوراة اسم الصحابى الأعرج الجليل عمرو بن الجموح، لا يتقهقر عند الموت "ويقول والله إني لأرجو أن اطأ بعرجتي هذه أبواب الجنة" .. و كما يسارع المؤمن للشهادة فى سبيل الله ، يسارع أيضاً فى الطاعات والعبادات ، وأداء الفرائض والمناسك وعمل الصالحات نحن إذن مع البيت الحرام ، فى البرية القاحلة ، الأرض القفر المعطشة ، الصحراء التى تفجر فيها ينبوع الماء ، وفيها الطرق الطاهرة الآمنة ، التى ليس فيها أسد ولا حيوان مفترس ، التى يقال لها الطرق المقدسة ، وعودة الحجيج المفديين (أى المغفور لهم) إلى الديار بفرح وابتهاج عظيم
-27 اشعياء يخبر عن يهود بني قريظة وبني النضير .. وعن المسلمين
(3/483)
يقول إشعياء النبي في سفر إشعياء 65:13-16 "لذلك هكذا قال السيد الرب هوذا عبيدى يأكلون وأنتم تجوعون هوذا عبيدى يشربون وأنتم تعطشون هوذا عبيدى يفرحون وأنتم تحزنون هوذاعبيدى يترنمون من طيبة القلب وأنتم تصرخون من كآبه القلب ومن انكسار الروح تولولون وتخلفون اسمكم لعنه لمختارى فيميتك السيد الرب ولعبيده يدعى اسم آخر فالذى يتبرك فى الارض يتبرك بإله الحق والذى يحلف فى الارض يحلف بإله الحق لأنه نسيت الضيقات الاولى ولأنهااستترت عن عينى”
نحن هنا بصدد قبائل بنى إسرائيل خيبر وقريظة وقينقاع والنضير، فى المدينة وما حولها، حق عليناان نأتى بالآيات القرآنيةالتى تقص عليناامر إخراجهم والقضاء عليهم، وخراب ديارهم.
" هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم ان يخرجوا وظنوا أنهم ما نعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف فى قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدى المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار . ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم فى الدنيا ولهم فى الآخرة عذاب النار "
-28 النبي محمد صاحب الإسم العجيب .. وخاتم النبوة على كتفه
هل تذكرون بحيرا الراهب حينما نظر خاتم النبوة على كتف النبي؟ وقولته المشهورة لأبي طالب .. هل تذكرون العلامة الأخيرة التي أراد بها سلمان التأكد من صدق الرسول؟ .. هل تريدون أن تعلموا كيف تأكد حيي بن أخطب من شخصية النبي محمد؟ .. تعالوا معا لنرى كيف أن النبي اشعياء يتنبأ عن النبي محمد .. هيا بنا نقرأ اشعياء9 : 6-7 ..
"لانه يولد لنا ولد ونعطى ابنا وتكون الرياسة على كتفه ويدعى اسمه عجيبا مشيرا الها قديرا ابا ابديا رئيس السلام. لنمو رياسته وللسلام لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن الى الابد. غيرة رب الجنود تصنع هذا"
(3/484)
سيولد لنا نحن نسل ابراهيم والذي أعطاه الله عهدا أبديا له ولنسله لتتبارك به الأمم .. هذا الإبن يكون على كنفه خاتم النبوة ولم يتسمى باسمه أحد من قبل .. سيدا قويا يقول أفشوا السلام بينكم .. "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله"
ملحوظة هامة: كلمة إله وردت كثيرا في الكتاب المقدس لتدل على النبي موسى واليهود والقضاة:
الكتاب المقدس يقول إن موسى النبي إله
سفر الخروج 4: 16 يقول "وَهُوَ هارون يُكَلِّمُ الشَّعْبَ عَنْكَ (يا موسي). وَهُوَ يَكُونُ لَكَ فَماً وَأَنْتَ تَكُونُ لَهُ إِلَهاً"
الكتاب المقدس يقول إن موسى النبي إله .....مرة ثانية
سفر الخروج 7:1 يقول "فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: انْظُرْ! أَنَا جَعَلْتُكَ إِلَهاً لِفِرْعَوْنَ. وَهَارُونُ أَخُوكَ يَكُونُ نَبِيَّكَ"
الكتاب المقدس يقول إن اليهود الهة
في سفر المزامير 82: 6 "أَنَا قُلْتُ إِنَّكُمْ آلِهَةٌ وَبَنُو الْعَلِيِّ كُلُّكُمْ."
الكتاب المقدس يقول إن القضاة الهة
" الخروج 22: 8 "وَإِنْ لَمْ يُوجَدِ السَّارِقُ يُقَدَّمُ صَاحِبُ الْبَيْتِ إِلَى اللهِ "أي إلى القاضى" لِيَحْكُمَ هَلْ لَمْ يَمُدَّ يَدَهُ إِلَى مُلْكِ صَاحِبِهِ.
ومن العجيب أن النصارى الذين قالوا عن يسوع الناصري أنه هو الله وابن الله والروح القدس والإنسان وابن الإنسان والنبي والرسول والمخلص والديان والمبارك والملعون والمرسل لبني اسرائيل والمرسل للعالم ويسوع وعمانوئيل .. يقولون أن هذه النبؤة عن يسوع الناصري ايضا ؟ .. وإنني اسألكم ايها النصارى بما انكم تقولون أن يسوع هو الله .. وهل الله يولد؟ .. أليس هو الأزلي؟ وهل الله ولد؟.. وهل الله ابن لبني إسرائيل .. نسل إبراهيم؟ .. ثم أي رياسة كانت ليسوع على كتفه؟
(3/485)
إنه من المؤكد أن أياً من هذه الأسماء عجيبا أو مشيرا لم يتسم به المسيح فأين سمي اسما عجيباً أو مشيراً؟ إن اسم المسيح ابن مريم هو يشوع "باليهودية" ولقد كان هذا الإسم منتشرا في بني اسرائيل و لنبي آخر من قبله من انبياء بني اسرائيل هو يشوع النبي وله سفر يسمى سفر يشوع "يشوع يعني الله مخلص"
ثم إن المسيح ابن مريم لم يملك على قومه يوماً واحداً .. بل كان فاراً من بني إسرائيل حتى بعد قيامته التي تؤمنون بها .. خائفاً من بطشهم كما هرب من قومه حين أرادوه أن يملك عليهم. "وأما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكاً انصرف أيضاً إلى الجبل وحده" يوحنا 6/15
ثم إن إشعيا يتحدث عن رئيس السلام .. وهو لا ينطبق على الذي نسبت إليه الأناجيل أنه قال: " لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض ما جئت لألقي سلاماً " متى 10/34 - 36 ويقول في انجيل لوقا 12: 49-53” "جِئْتُ لأُلْقِيَ نَاراً عَلَى الأَرْضِ فَمَاذَا أُرِيدُ لَوِ اضْطَرَمَتْ؟ وَلِي صِبْغَةٌ أَصْطَبِغُهَا وَكَيْفَ أَنْحَصِرُ حَتَّى تُكْمَلَ؟ أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئْتُ لأُعْطِيَ سَلاَماً عَلَى الأَرْضِ؟ كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ! بَلِ انْقِسَاماً. فهل يسمى بعد ذلك رئيس السلام؟
و إشعيا يتحدث عن قدير، وليس عن بشر محدود أخذه بعض اليهود والرومان وصلبوه وهو ايضا لا يقدر أن يصنع من نفسه شيئاً كما قال عن نفسه: " أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً كما أسمع أدين" يوحنا 5/30
(3/486)
ثم إن الكتاب المقدس يمنع أن يكون المسيح ملكاً على بني إسرائيل، فقد حرم الله الملك على ذرية يهوياقيم "الياقيم" أحد أجداد المسيح فقال الله فيه: "هكذا قال الرب عن يهوياقيم ملك يهوذا: لا يكون له جالس على كرسي داود .. وأعاقبه ونسله وعبيده على إثمهم " إرميا 36/30 - 31. والمسيح ابن مريم بقولكم من ذرية هذا الملك الفاسق كما في سفر الأيام الأول "بنو يوشيا: البكر: يوحانان، الثاني: يهوياقيم، الثالث: صدقيا، الرابع: شلّوم. وابنا يهوياقيم: يكنيا ابنه، وصدقيا ابنه" الأيام الأول 3/14-15، فيهوياقيم أحد أجداد المسيح بالإضافة إلى انكم تقولون في متى أن المسيح من نسل زنى.
-29 الحج إلى بيت الله في مكة .. ومغفرة الذنوب
هذه النبؤة من النبؤات التي حاول فيها كتبة ومترجمي الكتاب المقدس بكل ماأوتوا من قوة أن يتلاعبوا فيها .. تعالوا معا نرى عما تتحدث:
المزمور 84 :6
6Who passing through the valley of Baca make it a well; the rain also filleth the pools.
" ما احلى مساكنك يا رب الجنود. 2 تشتاق بل تتوق نفسي الى ديار الرب.قلبي ولحمي يهتفان بالاله الحي. 3 العصفور ايضا وجد بيتا والسنونة عشّا لنفسها حيث تضع افراخها مذابحك يا رب الجنود ملكي والهي. 4 طوبى للساكنين في بيتك ابدا يسبحونك.سلاه 5 طوبى لاناس عزهم بك.طرق بيتك في قلوبهم.6 عابرين في وادي البكاء يصيرونه ينبوعا.ايضا ببركات يغطون مورة 7 يذهبون من قوة الى قوة.يرون قدام الله في صهيون 8 يا رب اله الجنود اسمع صلاتي واصغ يا اله يعقوب.سلاه. 9 يا مجننا انظر يا الله والتفت الى وجه مسيحك. 10 لان يوما واحدا في ديارك خير من الف.اخترت الوقوف على العتبة في بيت الهي على السكن في خيام الاشرار. " المزمور 84 10:1
(3/487)
يقول تعالى " إن أول بيت وضع للناس للذى ببكة مباركا وهدى للعالمين " آل عمران : آية ( 96 ) وهذا المزمور يتحدث عن الحنين لأداء الحج (Eager to make the pilgrimage ) والسير عبر وادى بكة ( (Go pass through the valley of baca النسخة القياسية المنقحة R.S.V.) ) ونسخة الملك جيمس ( . K.J) وإن كانت الترجمات العربية طمست الحقيقة حين ترجمت ( وادى بكة ) إلى ( وادى البكاء الجاف ) .
إن جميع الترجمات الإنجليزية تكتبها بفتح الباء ، وبالحرف الكبير Baca باعتبارها اسم علم بعكس الترجمة العربية التى تسجلها بالضمة وتحولها إلى البكاء ، وذرف الدموع .
وهناك قراءة فى التوراة العبرية تقول (هـ بكه ) بالهاء مثل اسمها فى القرآن الكريم ، وليست ( بكا ) بضم الباء وبالألف ، فلا بكاء ولا عويل ، إن التوراة تتحيز دائماً للمسلمين تؤيدهم وتناصرهم ، وكأنهم كتبوها لأنفسهم .
وكعادة بنى إسرائيل القوم البهت ، أضافوا إلى النص عبارة ) TO Zion فى صهيون ) لبسا للحق ، ولرغبتهم فى تحويل النبوءات إلى جنسهم ، حسدا على بنى إسماعيل ، ولكن النسخة القياسية المنقحة R.S.V. تسجل ملاحظة : إن هذه العبارة غير موجودة فى التوارة العبرية
( (Heb. Lacks to Zion .
لقد زوروا التوارة السبعينية بالحذف والإضافة وتلقفها العالم المسيحى بتحريفاتها .
ولنذكر نص النبوءة من واقع ترجمة الكاثوليك فهى أوضح وأكثر سلاسة ، ثم نستكمل باقى الملاحظات السريعة، ونسير على ترجمة البروتستانت كعادتنا:
"ما أحلى مساكنك يا رب الجنود .. تتوق بل تحن نفسى إلى ديار الرب، قلبى وجسمى يرنمان بفرح للإله الحى، العصفور أيضا وجد له وكرا، واليمامة عثرت لنفسها على عش تضع فيه فراخها، بجوار مذبحك يارب الجنود يا ملكى طوبى لمن يسكنون فى بيتك فإنهم يسبحونك دائماً. طوبى (blessed) لأناس أنت قوتهم، المتلهفون لاتباع طرقك المفضية إلى بيتك المقدس
(3/488)
“Who are eager to make the pilgrimage (R.S.V) - whose heart is set on pilgimage (K.J.V)” أى المتلهفون على أداء الحج ) .
وإذ يعبرون فى وادى البكاء الجافas they go pass through the vally of Baca) أى واذ يعبرون فى وادى بكة ) يجعلونة ينابيع ماء ، ويغمرهم المطر الخريفى بالبركات، ينمون من قوة إلى قوة، إذ يمثل كل واحد أمام الله ( فى صهيون ) –" إضافة ليست فى العبرية "- انظر بعين الرحمة إلى من مسحته ملكا. إن يوما واحدا أقضيه داخل ديارك (your template أى معبدك أو حرمك ) خير من ألف يوم خارجها. اخترت أن أكون بوابا فى بيت إلهى عن السكن فى خيام الأشرار … " مز 84 :1-10
ولنستكمل باقى الملاحظات بعد أن تبين أنه لا علاقة لجبل صهيون فى الشام بوادى مكة بأرض الحجاز وأن عبارة " فى صهيون " مدسوسة على النص وغير موجودة فى التوراة العبرية فعلا .
- إن العصفور واليمامة لا تبنى عشاشها بجوار مذبح الهيكل فى أورشليم ، ولكنها تفعل ذلك فى الحرم الآمن فى مكة ، حيث يحرم ترويع الطير وطردها فضلا عن ذبحها أو صيدها .
- إن الحاج تكتب له الحسنة عن أعمال البر فى أرض مكة بمائة ألف حسنة والصلاة بمائة ألف صلاة … الخ وفى المسجد النبوى بألف ، وهذا مما خص الله به بيته الحرام وأرضه المقدسة ، وهذا ما يقول به المزمور " إن يوما واحدا أقضيه داخل ديارك خير من ألف يوم خارجها "
- إن كلمة المطر الخريفى فى التوارة العبرية هى : ( مورة ) ، لها معنيان فى القاموس العبرى
1 - الرامى – رامى ( القوس ) – مطلق ( البندقية )
2 - المطر المبكر
هذا هو النص فى القاموس العبرى – العربى ، كما ورد فيه حرفيا .
تقول التوراة عن إسماعيل عليه السلام : "وكان ينمو رامى قوس ، وسكن فى برية فاران " تك 21/20-21
(3/489)
لقد اشتهر إسماعيل برمى القوس، وبرع بنو إسماعيل العرب فى ذلك ، وذاع صيتهم فى استعماله فى حروبهم. ولكن القوم رفضوا المعنى الأول فى القاموس العبرى، إنه يشير إلى إسماعيل الفرع الأول لنسل إبراهيم
استبعدوا هذا المعنى وأخذوا بالمعنى الثانى "المطر المبكر" أو "الخريفى" . استبعدوا المعنى الذى يشير إلى حامى الحرم، رغم أن الآيات كلها تتكلم عن الحج إلى بيت الله بوادى بكة، وجاءونا بالمعنى الثانى، بالضبط كما حرفوا "وادى بكة" إلى "وادى البكاء الجاف" .
- كما تقول ترجمة الآباء اليسوعيين الكاثوليك " من مسحته ملكا " بينما تحرص ترجمة البروتستانت كثيرة الانتشار على لفظة (مسيحك) ليقع المعنى على يسوع المسيح .
والنص كما جاء في ترجمة الكاثوليك كالتالي: "يجتازون في وادي البكاء، فيجعلونه ينابيع ماء، لأن المشترع يغمرهم ببركاته، فينطلقون من قوة إلى قوة، إلى أن يتجلى لهم إله الآلهة في صهيون" 83/7-8.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم " صلاة فى مسجدى هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ، فإنى آخر الأنبياء ، ومسجدى آخر المساجد ، وصلاة فى المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه "
وهذا الاسم العظيم (بكة) هو اسم بلد محمد صلى الله عليه وسلم، الاسم الذي استخدمه القرآن للبلد الحرام "إن أول بيتٍ وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدًى للعالمين" (آل عمران: 96).
"إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ. فِيهِ ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ"
(3/490)
"وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا".
"رَبَّنَاإِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّم"
-30 نبيا من وسط إخوة بني اسرائيل .. مثل موسى .. من يكون
في الحقيقة لقد تركت هذه النبؤة لتكون هي آخر نبؤة في العهد القديم .. عن نبي قادم مثل موسى. النبؤة تقول في سفر التثنية 18: 18 - 22.." اقيم لهم نبيا من وسط اخوتهم مثلك واجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما اوصيه به ويكون ان الانسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي انا اطالبه . واما النبي الذي يطغي فيتكلم باسمي كلاما لم اوصه ان يتكلم به او الذي يتكلم باسم آلهة اخرى فيموت ذلك النبي . وان قلت في قلبك كيف نعرف الكلام الذي لم يتكلم به الرب . فما تكلم به النبي باسم الرب ولم يحدث ولم يصر فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرب بل بطغيان تكلم به النبي فلا تخف منه"
والنصارى والمسلمون يتنازعونها فيما بينهم ..
فالنصارى يقولون إنه المسيح ابن مريم .. وهذا يلزمهم حينئذ بالآتي:
1- بأن المسيح ابن مريم ليس أكثر من نبي مثل موسى وليس إله كما يقولون ..
2- وأنه لم يصلب حيث أنه لو كان صُلب وقتل فإنه يكون كاذبا وهذا ما تقوله النبؤة ..
(3/491)
3- بل والأقوى من ذلك أن التلاميذ لم يُقتلوا كما يقول العهد الجديد حيث أن النبؤة تقول "ويكون ان الانسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي انا اطالبه" .. وهذا ما يؤيده القرآن حين يقول "فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ " وبذلك يكون العهد الجديد الذي بين ايديكم به ماهو ليس بصادق .. وأنا حينئذ أبارك لهم هذا الاعتراف وسأستخدمه بعد ذلك بما لايدع مجالا للشك أن المسيح ابن مريم بشر بالنبي محمد .. ولن يستطيعوا الإنكار حينئذ.
ويستند النصارى في أقوالهم أن النبي الذي مثل موسى هو المسيح ابن مريم على الآتي:
أن المسيح ابن مريم عليه السلام تلقى الإنجيل بساعير في فلسطين .. وهناك العديد من البشارات عن أنه سيكون محي من ساعير .. ويفسرون ماجاء في نبؤة سفر التثنية 18:18 من وسط إخوتهم أي المقصود بها موطن سكن عيسو عم ابناء يعقوب "بني اسرائيل" ويستشهدون بالأعداد التالية ..
"أنتم مارون بتخم إخوتكم بنو عيسو" التثنية 2/4
وبنو عيسو بن إسحاق كما سلف هم أبناء عمومة لبني إسرائيل، وجاء نحوه في وصف أدوم، وهو من ذرية عيسو "وأرسل موسى رسلاً من قادش إلى ملك أدوم، هكذا يقول أخوك إسرائيل: قد عرفت كل المشقة التي أصابتنا" العدد20/14 فسماه أخاً وأراد أنه من أبناء عمومة إسرائيل.
ولذلك كان المسيح ابن مريم يذكر اليهود دائما بهذه النبؤة ويقول لهم .... في انجيل يوحنا 5 : 45 – 47 " يوجد الذي يشكوكم وهو موسى الذي عليه رجاؤكم . لانكم لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني لانه هو كتب عني . فان كنتم لستم تصدقون كتب ذاك فكيف تصدقون كلامي"
و قَالَ لَهُمْ في يوحنا 4: 34 " طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ."
(3/492)
وقال ايضا في يوحنا 7:16 "اجابهم يسوع وقال تعليمي ليس لي بل للذي ارسلني"
وكررها في يوحنا 7:28 " ومن نفسي لم آت بل الذي ارسلني هو حق"
واعادها في يو حنا 8:42 " لاني لم آت من نفسي بل ذاك ارسلني"
وقالها في يو حنا 8:50 "انا لست اطلب مجدي يوجد من يطلب ويدين" ....
ويستندون ايضا إلى قول بطرس " ويرسل يسوع المسيح المبشر به لكم من قبل ... فإن موسى قال للآباء: إن نبيا مثلى سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم له تسمعون فى كل مايكلمكم به ويكون أن كل نفس لا تسمع لذلك النبى تباد من الشعب ، وجميع الأنبياء أيضا من صموئيل فما بعده ، جميع الذين تكلموا سبقوا وأنبأوا بهذه الأيام " أعمال الرسل 3/20-24
وإلى قول استفانوس "هذا هو موسى الذى قال لبنى إسرائيل نبيا مثلى سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم له تسمعون" أعمال الرسل 7/37 .
والمسلمون يقولون إن النص المتنازع عليه يقيد البشارة بالنبى الموعود به فيه بشرطين:
1- أنه من وسط إخوة بنى إسرائيل.
2- أنه مثل موسى عليه السلام نبي صاحب شريعة وجهاد لأعداء الله
فموسى كان صاحب شريعة وعيسى وجميع الرسل الذين جاءوا بعد موسى عليه السلام من بنى إسرائيل لم يكن واحداً منهم صاحب شريعة ، وإنما كانوا على شريعة موسى عليه السلام. وحتى عيسى ما جاء بشريعة ولكن جاء متمماً ومعدلاً فشريعة موسى هى الأصل "ماجئت لأنقض بل لأكمل" .. إن عيسى كان مذكراً لبنى إسرائيل ومجدداً الدعوة إلى الله على هدى من شريعة موسى عليه السلام !! فالمثلية بين هؤلاء - وهى أحد شرطى البشارة - وبين موسى عليه السلام لا وجود لها؟! الشرطان متحققان فى رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم
(3/493)
وبنفس القوة والوضوح اللذين انتفى الشرطان بهما عمن ذكروا من الأنبياء ثبت ذلك الشرطان لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم: فهو من نسل إسماعيل فهو من وسط إخوة بنى إسرائيل بنو عمومتهم - وليس من إسرائيل نفسها. وبهذا تحقق الشرط الأول من شرطى البشارة: ومحمد - عليه الصلاة والسلام - صاحب شريعة جليلة الشأن لها سلطانها الخاص بها - جمعت فأوعت مثلما كان موسى - أكبر رسل بنى إسرائيل - صاحب شريعة مستقلة كانت لها منزلتها التى لم تضارع فيما قبل من بدء عهد الرسالات إلى مبعث عيسى عليه السلام.
وبهذا يتحقق الشرط الثانى من شرطى البشارة وهو " المثليه " بين موسى ومحمد (عليهما صلوات الله وسلامه) ، فعلى القارئ أن يتأمل ثم يحكم. وإنني هنا اجتهد ولست ملزما للمسلمين قائلا .. إن النبؤة تتكلم عن المسيح ابن مريم كنبي مثل موسى عبد لله كموسى .. لم يُقتل ولم يصلب مثل موسى .. نادى بالتوحيد كموسى .. لم يدعي أنه إله كما لم يدعي موسى .. وهنا الزم النصارى بما سبق .. من عبودية المسيح ابن مريم لله كما كان موسى.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار"
تم بحمد الله الجزء الأول
يتبعه بإذن الله الجزء الثاني(3/494)
لماذا كان الإسلام حقاً وما عداه باطلاً؟
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد،،،
لما كان اختيار الدين هو أعظم وأهم عمل يقوم به الإنسان، وأنه لا يجوز للعاقل أن يتخذ ديناً كيفما اتفق، ولا أن يقلد في دينه أحداً لا آباءه ولا قومه، ولا عموم الناس، ولا غير ذلك. إذ أن هناك دين يقول الداعون إليه (وهم رسل الله) إن دينهم هو الحق وحده دون ما سواه، وأنه كل من اتخذ ديناً غيره فهو خاسر في الدنيا والآخرة ومعرض لعذاب خالق الكون وسخطه.
من أجل ذلك وجب على كل ذي عقل ولب أن يفكر في مقالة هؤلاء الداعين إلى هذا الدين، فإن كلامهم لو كان حقاً وخالفه من خالفه تعرض لما حذروا منه . قال تعالى منادياً المنكرين والمستكبرين {قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به}؟! وجواب الشرط ماذا يكون أمركم وشأنكم لا شك أنكم ستتعرضون للعذاب والخسار.
فأما أن الإسلام هو الحق، وما عداه من دين فباطل، فالأدلة على هذا كثيرة جداً، وهذا ذكر لمجموعة منها:
الكون كله شاهد على وحدانية الرب وعظمته وقدرته:
الكون الذي تعيش فيه كون مصنوع، وهو في غاية الاتساع والأحكام والدقة، بدءاً من الأجزاء الصغيرة (الذرة) إلى الأجرام الكبيرة (المجرة). وكل جزء من هذا الكون مرتبط ارتباطاً وثيقاً بأجزائه الأخرى بحيث أن حصول أي خلل فيه، لو كان صغيراً يسبب فساداً عظيماً في الخلق: فالأرض في موقعها ومدارها والقمر والشمس، وسائر النجوم والكواكب والمجرات، يرتبط بعضها ببعض بنظام هو غايةٌ في الإبداع، وبحساب بالغ الدقة قال تعالى: {الشمس والقمر بحسبان} أي بحساب بالغ الدقة.
وقال تعالى: {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون* والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم* والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم* لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون}.
(3/495)
ودقة الصنع، ودقة الحركة في هذه الأجرام الكبيرة هو كذلك في كل عنصر صغير من عناصر الوجود، فالإنسان والنبات والحيوان كل فرد منها في نفسه في غاية من الإحكام والنظام، بل كل عضو وجزء من أجزاء كل مخلوق قد صنع بدقة وإحكام متناه، فالعين والأذن واليد والرجل، وكل عضو من المخلوق الحي آية من آيات الله في إحكامه وخلقه ووظائفه، وكذلك كل جزء في النبات من الأوراق والأزهار والساق، والثمار، وحبوب اللقاح، والأنابيب الشعرية الموصلة للماء والغذاء آيات كثيرة لا يمكن استقصاها ولا الإحاطه بها، وكلها في غاية الدقة والإعجاز.
وهذه آيات الخلق التي لا تحصى كثرة من أعظم الدلائل البينات على أن خالق الكون إله واحد لم يشاركه أحد في خلقه، وأنه عليم قدير قائم على هذا الخلق، وأن غيره لا يقوم مقامه فيه أبداً.
وهذه الحقيقة التي يمكن أن يستخلصها ذو عقل حكيم عن طريق النظر بنفسه في هذا الكون قد جاءت كذلك حقيقة خبرية على ألسنة الرسل، ففي القرآن الكريم وجهنا الله إلى هذه الحقيقة في آيات كثيرة جداً من كتابه العظيم القرآن.
قال تعالى: {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم* إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون} (البقرة:163-164).
وقال تعالى: {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا، ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليماً غفوراً} (فاطر:41).
وقال تعالى: {حم* تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم* إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين* وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون* واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون} (الجاثية:1-5).
(3/496)
وأدلة الخلق على وحدانية الخالق وأنه سبحانه الإله الواحد القادر القاهر العليم الحكيم، القوي الحافظ لهذا الخلق هي بعدد كل مخلوقات الله، إذ كل مخلوق في نفسه آية على ذلك فالله هو الذي أحسن كل شيء خلقه، وهو خالق كل شيء.
والخلق كله كتاب مفتوح لمن يقرأ... ولكن قليلاً من الناس جداً من يقرأ صفحات هذا الكتاب بل يسير كثير منهم وكأنهم عميان لا يرون شمساً ولا قمراً، ولا نجوماً، ولا سماءاً ولا أرضاً بل لا يرون أنفسهم قال تعالى: {وكم من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون}، وقال تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون}.
يستحيل أن يكون هذا الخلق العظيم لغير غاية وبغير هدف:
لا يمكن أن يتصور ذو لب وعقل راجح أن هذا الكون العظيم، قد وضع لغير حكمة وهدف وغاية، وأنه خلق هكذا لمجرد الخلق والوجود، لأن العليم والحكيم من البشر لا يصنع ويعمل إلا وفق العلم والحكمة، ولله المثل الأعلى سبحانه وتعالى، فخالق هذا الكون وهو الرب العليم الحكيم القوي العزيز يستحيل أن يكون قد أبرز هذا الوجود بغير هدف وحكمة وغاية، بل لا بد أن يكون له سبحانه غاية حكيمة من وراء خلقه لهذا الكون.
ولما كان البشر لا يستطيعون بأنفسهم أن يعرفوا مراد الله من خلقهم وإيجادهم، وخلق السماوات والأرض فإن الله سبحانه وتعالى قد اختار منهم رسلاً أطلعهم الله على غيبه، وأوحى إليهم بحكمته في الخلق ومراده سبحانه وتعالى من خلقهم وإيجادهم في الأرض. وكان كل رسول أرسله الله إلى قوم من البشر يبدأ دعوته إليهم ببيان هذه الحقيقة، وهي هدف الرب جل وعلا ومراده من خلقهم. قال تعالى عن نوح وهو أول رسول إلى أهل الأرض: {لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} (الأعراف:59).
وقال تعالى عن هود: {وإلى عاد أخاهم هوداً قال يقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون}.
(3/497)
وقال تعالى عن صالح: {وإلى ثمود أخاهم صالحاً قال يقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم} (الأعراف:73).
وهكذا كل رسول أرسله الله إلى قوم كانت هذه مقالته، وهذا آخر الرسل محمد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه أنزل الله عليه {ألر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير* ألا تعبدوا إلا الله أنني لكم منه نذير وبشير* وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير* إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير} (هود:1-4).
وقد أخبر سبحانه عن هدف الرسالات جميعاً فقال جل وعلا: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}.. وقال سبحانه: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون}.. وقال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون* ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}.
وقد أخبرنا سبحانه وتعالى أنه ما خلق من شيء إلا وهو عابد له، مسبح بحمده وأنه لم يشذ عن ذلك إلا الكافر اللئيم من الجن والإنس فقط، دون سائر المخلوقات قال تعالى: {ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء} (الحج:18).
وقال تعالى: {تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن، وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً} (الإسراء:44).
وقال تعالى: {أن تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون} (النور:41).
(3/498)
ولا يشذ عن هذه العبادة الطوعية والهداية الإلهية إلا كافر الجن والإنس دون سائر المخلوقات والعوالم في السماء والأرض، ولكنهم مع ذلك مسلمون لله كرهاً خاضعون لإرادته ومشيئته وقدره سبحانه نافذ فيهم. {أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون} (آل عمران:83).
كل من شك في حكمة الخالق فهو كافر معاند:
والكفار درجات، فأحطهم درجة من شك في وجود الرب الخالق سبحانه وتعالى، وقد قامت أدلة وجوده ووحدانيته في كل ذرة من مخلوقاته: {أفي الله شك فاطر السموات والأرض}.
وهؤلاء أحط دركاً من الأنعام لأنهم ظنوا أنهم يعيشون هذه الحياة الدنيا فقط، وأنه لا بعث ولا نشور، ولا حساب للإنسان عما يفعله في هذه الحياة.
وهؤلاء قد توعدهم الله بالعذاب الشديد في الآخرة قال تعالى: {أفأحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق...} الآية.
وقال تعالى: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين}.. وقال تعالى: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار}.
والمعنى أنه سبحانه وتعالى وهو الرب العليم الحكيم لا يمكن أن يكون قد خلق خلقه سدى ولا عبثاً ولا لعباً، بل خلقه لحكمة عظيمة وأن من شك في هذه الحكمة فهو كافر بالله متهمٌ له بالعبث واللهو تعالى الله عن ذلك.
وكيف يسوي الله سبحانه وتعالى وهو الملك الحكيم بين من قام بأمره وعبده وحده لا شريك له، وكان من أهل الإيمان والعمل الصالح، وبين الكفار الفجار الأشرار الذين خالفوا أمره، وكذبوا رسله، وعاندوا واستكبروا: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين* مالكم كيف تحكمون}.
(3/499)
والدرجة الثانية من الكفار من آمن بوجود الرب، وشك في حكمته في الخلق، ولم يعبد الله وحده كما أمره، واتخذ لنفسه معبوداً سواه، أو معبوداً مع الله. وهؤلاء الذين سووا بين الله وخلقه في الصفات أو الذات، أو الحقوق هم كفا مشركون {والذين كفروا بربهم يعدلون}.
الأدلة على أن الإسلام وحده هو طريق الرب:
والأدلة السابقة جميعها يمكن لعاقل أن يتوصل إليها بعقله وفطرته وبيان ذلك أنه لا يمكن لعاقل أن يدفعأو يماري في أنه مخلوق صغير في كون كبير، وأن هذا الكون في غاية الاحكام والإبداع، وأن كل جزء من هذا الكون مرتبط بغيره ارتباطاً وثيقاً وأنه لا بد وأن يكون لهذا الكون صانع عظيم عليم قوي قاهر.. وأنه لا بد وأن يكون حكيماً ويستحيل أن يكون قد خلق خلقه بغير هدف ولا غاية، وأنه لا بد وأن يكون هناك جزاء في نهاية المطاف، وأن يقام حكم يقتص فيه للمظلوم من الظالم، ويلقى المحسن والمسيء كل جزاءه، لأنه لو لم يكن كذلك لكان الظالم القاهر الباغي العابث المفسد لهواه هو العاقل في هذه الحياة، ولكان التقى البار العفيف الذي يؤدي الحقوق ويمتنع عن الحرام هو الغبي الجاهل... فما دام أنه لا توجد حياة بعد الموت وحكومة في الآخرة، ولا يجازي أحد بما عمل فإنه يكون من السذاجة والجهل الانصراف عن الملاذ، وتحقيق الشهوات وحيازة الخيرات، والعب من كأس الحياة حتى الثمالة، والاستمتاع بمباهج الحياة إلى النهاية، ولو أدى ذلك إلى ظلم العباد ونشر الفساد.
وعلى هذا الأساس يكون الذي خلق هذه الحياة، ونصب هذه السموات،ووضع هذه الأرض، وخلق الإنسان يخلف جيل منه آخر، قد خلق خلقه عبثاً ولعباً، وظلماً ونكداً تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار}؟!
(3/500)
وقال تعالى: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون} وهذه الحقائق حقائق عقلية فطرية لا يحتاج الناس فيها إلى الوحي لمعرفتها لأنها من الضرورات العقلية، ولكن لأن الأبصار تعمى، والفطرة تنطمس بالتعليم المنحرف ولذلك أرسل الله الرسل من أجل بيانها والتذكير بها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه]..
وهنا نصل إلى السؤال الآتي؟ وما الدليل على أن خالق هذا الكون سبحانه وتعالى قد اختار رسلاً بأعيانهم، وبعبارة أخرى ماذا يدلنا أن هذا الذي يدعي الرسالة هو رسول الله حقاً وصدقاً.
والجواب: من حيث دلالة العقل فإنه لا بد لخالق هذا الكون أن يعرف مخلوقاته بذاته العلية، وأن يخبرهم عن نفسه جل وعلا ولماذا خلقهم؟ وفيم أقامهم؟ لأنه سبحانه وتعالى لو لم يفعل ذلك لكان هؤلاء الخلق في عماية عن حقيقة أمرهم، وأصل منشئهم، وصفة خالقهم؟ وماذا يريد من إيجادهم؟ لأن هذا الكون من الاتساع والشمول بحيث لا تحيط به أبصارهم ولا تصل إلى نهايته أقدامهم ومراكبهم؟ وهو كذلك من الدقة والأحكام وخفاء الأسرار بما لا يستطيعون إدراك كنهه. هذا مع قصر أعمارهم، وقلة علومهم، والبشر مع تراكم علومهم جيلاً بعد جيل لم يكتشفوا كثيراً من القوي المذخورة في الكون إلا قريباً، فلم يعرفوا الكهرباء مثلاً إلا مؤخراً، ولليوم لا يعرفون حقيقة الذرات التي بنى منها الكون، ولا يعرفون دقائق الخلق في أنفسهم فما زال جسم الإنسان نفسه في كثير من أحواله ووظائفه ودقائقه مجهولاً مع تقدم آلات الإنسان ووسائله وعلومه، وما زال سر الحياة في الإنسان وهو روحه لا يعلم الإنسان عنها إلا قليلاً: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً}.
(4/1)
وهناك عوالم كثيرة خفية تتحكم في حياة الإنسان نفعاً وضراً وهو لا يستطيع أن يراها ولا أن يحيط علماً بها، فإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يعرف حقيقة ما يحسه ويراه، فأنى له أن يعرف ما غاب عنه، ولا سبيل له للوصول إليه؟
ومن أجل ذلك فإن الله سبحانه وتعالى قد تكفل بأن يعلم الإنسان منذ آدم لماذا خلقه، والمهمة المناطة به، ويعلمه بدايته ونهايته، والعوالم المحيطة به، وما الذي عليه أن يأخذه، وما الذي عليه أن يدعه؟ قال تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها}.
وقال تعالى: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين}..
ولما عصى آدم ربه وأكل من الشجرة أهبطه الله إلى الأرض وعلمه مهمته فيها. قال سبحانه وتعالى: {قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى* ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يم القيامة أعمى* قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً* قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها فكذلك اليوم تنسى* وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى} (طه:123-127).
الرسالات هي طريق الله لهداية الإنس والجن:
وقد اختار الله أن يكون تعليمه للإنسان بطريق الوحي إلى رجال يختارهم الله في كل أمة ليكونوا واسطة بين الله وخلقه ولو أراد الله غير هذا الطريق لفعل فإن الله لا يعجزه شيء كأن يهدى الإنسان بلا واسطة قال تعالى: {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها}.
وقد أقام الله عجماوات من الحيوانات والحشرات والمخلوقات فيما خلقها له بهداية منه وتوفيق، فهو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى قال تعالى: {وأوحى ربك إلى النحل ان اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون}.
ولكن الله سبحانه وتعالى شاء في عالم الإنس والجن أن يختار في كل قبيل منهم رسولاً يرسله إلى جماعته داعياً لهم ومبيناً لهم طريق الرب سبحانه وتعالى.
(4/2)
وعلى كل حال فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي له الخيرة وحده وليس لعبيده ولا خلقه القاصرين الضعفاء أن يقترحوا عليه الطريقة التي يعلم بها عباده {والله يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون}.
المعاندون يقترحون رؤية الله والملائكة عياناً ليؤمنوا:
واختيار الله لإرسال الرسل طريقة لإعلام عباده كان دائماً مثار استنكار ورد واعتراض من الكفار والمعاندين. فإنهم قالوا لماذا لا يأتينا الله بنفسه لنراه ويكلمنا بما يريد؟ وقال بعضهم لماذا لا يرسل الله لنا ملائكته عياناً لنراهم ويخبروننا بمراد الرب؟ ولماذا يختار الله واحداً منا فيرفعه هذه الرفعة العظيمة، ويشرفه علينا، ونحن مثله. قال تعالى: {وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا}.. وقال تعالى عن تعنت الكفار وطلبهم مقابلة الرب نفسه حتى يصدقوا ويؤمنوا: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً* أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً* أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً} (الإسراء:90-92).
ومعنى قبيلاً أي في مقابلتنا وجهاً لوجه.. وقال تعالى عن قوم نوح في ردهم الإيمان بالله وعبادته وحده: {فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر منكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين} (المؤمنون:23).
وعن آخرين أنهم قالوا لرسولهم: {وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون* ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذا لخاسرون} (المؤمنون:33-34).
(4/3)
والخلاصة أن الكفار في كل أمة اعترضوا بمثل هذه الاعتراضات على اختيار الرب سبحانه وتعالى أن يرسل رسلاً من البشر إلى الناس ليعلموهم ويرشدوهم إلى طريق الرب، والحال أنه ليس للإنسان المخلوق أن يعترض على اختيار الرب سبحانه وتعالى ولكنه الكفر والعقوق والجحود، وكان الواجب على الإنسان أن يبحث فقط في دليل من يدعي أنه رسول من الله خالق الكون، وهل هو صادق فيما قاله أم لا؟ وهذا ما يحتمه ضرورة العقل الصحيح أن ينظر فيما يدعيه من يدعي أنه رسول الله هل هو صادق فيما يقول أم لا؟ وذلك أنه من السهل على كل أحد أن يدعي هذه الدعوى؟ ولو كان كل من ادعاها صدقه الناس واتبعوه واستجابوا لأمره، لاختلط شأن الصادق بالكاذب، ولو لم يمكن التفريق بين الصادق في دعوى النبوة والكذاب لكان هذا من أعظم الفساد والشر لأنه حينئذ ينطمس طريق الرب، ويختلط صراطه مع غيره من طرق الشر والغواية، ولا يعلم على الحقيقة ما يريده الرب جل وعلا مما يدعيه الكذابون الذين يتخذون دعوى الرسالة طريقاً إلى شهواتهم وملذاتهم وتسخيرهم الناس فيما يريدون.
ومن أجل ذلك كان حقاً على الله سبحانه وتعالى أن يؤيد الصادق بالمعجزات الدالة على صدقه وأنه رسوله حقاً، وأن يكذب الكاذب ويفضحه في الدنيا بما يبين لكل ذي عقل أنه كذاب فيما ادعاه، ولو لم يفعل الرب ذلك لاختلط شأن الرسل على الناس ولم يستطيعوا أن يميزوا بين الصادق في دعوى الرسالة والكذاب وهنا ينطمس طريق الله ولا يعرف الناس مراده والطريق إلى محبته رضوانه، وكيف يحذرون سخطه وعقابه.
(4/4)
ومن أجل ذلك فإنه ما من رسول أرسله الله سبحانه وتعالى إلى الناس إلا وأتى بما يثبت صدقه في دعواه، ويقطع حجة المخالفين له، ولا يترك لمبطل دليلاً إلا دحضه، ولا حجة إلا أبطلها، قال تعالى: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين* لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين* بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون* وله من في السموات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون} (الأنبياء:16-19).
وما من رسول أرسله الله إلا وهو يخبر الناس بمن سبقه ويعلمهم بمن سيأتي بعده من أعلام الرسل والأنبياء لتكون السلسلة معلومة عند كل مؤمن، ولا يدخل فيها الغريب والشاذ والكذاب.
وكان آخر الرسل العظام موسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم، وما من أحد منهم إلا كان معلماً بمن سبقه من لدن آدم، ومخبراً بمن بعده، وسيأتي إن شاء الله تفصيل كامل لبشارات موسى وعيسى بمحمد صلى الله عليه وسلم.
لم يوجد رجل في الأرض كلها منذ خلقها الله وإلى يومنا أحبه الناس واتبعوه في تفاصيل حياته ودقائق تصرفاته وأعماله كمحمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم:
وكان خاتم الأنبياء والمرسلين هو محمد بن عبدالله الهاشمي القرشي من نسل إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام، وقد كان لهذا الرسول صلى الله عليه وسلم من الشأن والرفعة، وبلوغ الدعوة وقوة التأثير في الأرض، وكثرة الاتباع والانصار، ما لم يكن لنبي ولا رسول قبله، وقام من أدلة إثبات نبوته ورسالته من الآيات والأدلة والمعجزات ما لم يتحقق لأحد مثله، ولا ينكر مثله إلا مطموس القلب جاهل كافر أو حاسد حاقد.
(4/5)
ولم يكن في أمة من أمم الهداية السابقة من قبله من يكون في أمته من المهتدين والمجاهدين والعلماء العاملين، والعباد، والزهاد ولم تجرد سيوف في الحق ما جردت سيوفه، ولم يأرز الإيمان إلى قرية في العالم قط ما أزر إلى المدينة التي كانت دار هجرته، ولم تعمر مدينة في التاريخ قط بالعباد الصالحين الذين يأرزون إليها ويفدون إليها من كل فج في العالم فيطوفون ويسعون ويعتكفون، ويصلون، ويذكرون الله بأصوات مرتفعة بالتكبير والتهليل والتلبية ما عمرت أم القرى التي ولد فيها، وابتدأ فيها دعوته ورسالته، ولا حفظ كتاب في الأرض كلها منذ وجدت الأرض ما حفظ الكتاب الذي جاء به من الله فهو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم يقرأونه آناء الليل وأطراف النهار على مر العصور والدهور، ومنهم من يقرأ الكتاب كله وهو نحو ستمائه صفحة في كل يوم طيلة حياته، ومنهم من يقوم به بالليل على قدميه كل ثلاث ليال ويفعل هذا عشرات بل مئات الألوف ممن لا يحصى عددهم إلا الله في كل عصر من عصور الإسلام.
ولا يوجد رجل في الأرض أحبه الناس من أهل الإيمان كما أحب الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا رجل ذكروا اسمه كما ذكروه ودعوا له وصلوا عليه كما صلوا عليه، ولا يكاد يوجد مكان في الأرض على مدار الساعة إلا ويرتفع فيه صوت المؤذن باسمه مع اسم الله تعالى "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمد رسول الله".
(4/6)
ولم يوجد رجل قط يتتبع الناس تفاصيل حياته فيأكلون كما يأكل، ويحبون من الطعام والشراب واللباس ما كان يطعم ويشرب ويلبس، وينامون كما كان ينام، ويقولون الأذكار التي كان يقولها عندما يركب ويأكل ويشرب وينام، ويشاهد الهلال والفاكهة الجديدة، ويدخل الخلاء، ويخرج منه، ويأتي أهله، ويحيي من يلقاه كما يفعل أهل الإيمان اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعاً في كل تفاصيل حياته. هذا فضلاً عن اتباعه في عبادته في صلاته وصومه، وحجه وجهاده، فإن أهل الإيمان يبحثون ويتتبعون أدق أعماله في الصلاة كيف كان يقف، وكيف كان يركع وكيف كان يسجد، وكيف يجلس بين السجدتين، وكيف يتشهد، وكيف يحرك أصبعه في الشهادة.
ويبحثون في تفاصيل حجه ويتبعونه في ذلك، ويجعلون ذلك نسكاً وديناً وشرعاً فيتعلمون كيف رمل في السعي؟! وكيف اضطبع في الطواف؟ وأين وقف عندما شرب من زمزم؟!
وسطوع نور الإسلام في الأرض، وظهور الحجة به على العباد أعظم، وأكبر من سطوع الشمس للعالمين، ولكن عمى البصائر ينكرون، ويجحدون.
إيمان المقلد يقع باطلاً:
ولما كان الإيمان لا يصح إلا بدليل، فالمقلد لآبائه وقومه الذي لم يتحقق في قلبه أن الإسلام حق، وما عداه باطل لا يكون مؤمناً، فإنني أحببت أن أسرد بعض أدلة الإيمان لتكون تثبيتاً للذين آمنوا وزيادة في إيمانهم فإن الإيمان يقوى ويزيد بتضافر الأدلة، ويتجدد بتجدد ورودها إلى القلب، وجدة ما يسمع منها {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون، وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون} وكذلك لتكون باباً وطريقاً ممن لمن لم يذوقوا للإيمان طعماً أن يجدوا الطريق إليه.
معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم هو المدخل إلى الإيمان:
الإيمان بالرسول هو المدخل إلى الإيمان كله لأن الرسول هو الدال على الله والمخبر به، والهادي إلى طريق الله وصراطه.
(4/7)
ودلالة العقل والفطرة على الإيمان تقف عند حدود اليقين بوجود الله وعلمه وقدرته، ورحمته بعباده ثم يقف العقل عند ذلك فلا سبيل إلى العلم بمراد الله في الخلق وحكمته من إيجادهم، وماذا يكون بعد الموت؟ ولا سبيل للعقل ليعرف جنة أو ناراً، أو ملائكة أو يدرك بدايات الخلق ونهاياته، وكل ذلك لا يدرك إلا عن طريق الرسول ومن أجل ذلك كان الإيمان بالرسول هو الباب والمدخل إلى الإيمان.
الأدلة على أن محمداً بن عبدالله هو رسول الله حقاً وصدقاً:
هذه بعض الأدلة على أن محمداً بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه هو رسول الله حقاً وصدقاً، ونسردها أولاً على وجه الإجمال ثم نأتي إلى تفصيلها وبيانها:
(1) المعجزة الكبرى التي تحدى الله بها المعاندين المكذبين للرسول وجعلها معجزة باقية إلى يوم القيامة وهو القرآن الكريم.
(2) خوارق العادات التي أجراها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم مما لا يحصى كثرة.
(3) أخبار الماضين مما لم يطلع عليها الرسول الأمي الذي لم يقرأ كتاباً واتيانه على النحو الدقيق كما هي عند أهلها ونقلتها.
(4) الاخبار المستقبلية التي جاءت وتحققت كما أخبر بها تماماً.
(5) السيرة الشخصية للنبي الكريم التي تدل دلالة قاطعة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الصدق والإيمان وأن مثله يستحيل عليه الكذب أو أن يدعي أو يقول غير الحق.
(6) متانة الدين والتشريع الذي جاء به وبناؤه على الحكمة والعلم مما يستحيل صدوره من أمي لم يقرأ ولم يكتب.
(7) كمال الوصف للإله الحق خالق السموات والأرض الذي يستحيل للبشر وحدهم تصوره ولا يمكن أن يكون هذا إلا وحياً.
(8) أخبار الرسول عن كثير من حقائق الموجودات والنبات، وخواص الأشياء في السموات والأرض والإنسان والحيوان مما لم يكن مثله معلوماً قط وقت الرسالة، والتي لم يطلع البشر عليه إلا بعد تراكم علوم هائلة، واكتشاف أدوات دقيقة، ومرور مئات من السنين.
(4/8)
(9) شهادة الشهود بصدقه وأمانته وأول ذلك:
وأول شاهد هو الله سبحانه وتعالى الذي شهد بأن محمداً بن عبدالله هو رسوله حقاً وصدقاً، وكانت شهادته سبحانه بالقول المنزل، وبأفعاله العظيمة التي أيده فيها كما نصره في بدر، وجعل هذا النصر مع قلة عدد المؤمنين وضعفهم وذلهم فرقاناً بين الحق والباطل. قال تعالى: {قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار}، وجعل سبحانه ذلك دليلاً على صدق رسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك شهادة الملائكة الذين أخبر الله بشهادتهم، والذين نصروه في معاركه وشاهدهم الكفار عياناً بياناً. وشهادة أولو العلم وخلاصة البشر في كل جيل ممن يرفعون أيديهم إلى السماء كل وقت وحين نشهد أن لا إله إلا الله ونشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وشهادة أهل الذكر من اليهود والنصارى الذين دمعت أعينهم لما اطلعوا على صدقه وحقيقة حاله، ومسارعتهم إلى الإيمان به، وهذا في كل جيل وقرن من الناس منذ بعث رسول الله وإلى يومنا هذا.
وشهادة العجماوات من الحيوانات والجمادات من النباتات والأحجار، وكل هذا قد كان بأفصح عبارة وأوضح إشارة.
وتحت هذه الكليات من الأدلة تفصيلات كثيرة يخشع عند ذكرها القلب، وتدمع لها العين، ويهتف بها اللسان أشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله.
وسيكون تفصيل هذا الإجمال في مقالات آتية إن شاء الله تعالى.
********
***(4/9)
مفصل دلائل النبوة (1)
إيمان ذوي العقول وأهل الألباب من كل أمة بالرسول صلى الله عليه وسلم
اعلم رحمني الله وإياك أن من دلائل نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم هي مسارعة أهل العقول الراجحة، وأولي الألباب من كل أمة وملة ودين إلى الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وترك ما كانوا عليه من الجاهلية والكفر وما زال هذا دأب الناس معه منذ بعثته وإلى يومنا هذا.
وهؤلاء أهل العقول الراجحة الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم إنما آمنوا عن دليل وبرهان ولم يأخذوا الأمر تقليداً واتباعاً وسنعرض نماذج من هؤلاء الذين التقوا الرسول وناقشوا معه دليل نبوته واتبعوا دينه، وكذلك ممن شهد له بالصدق والحق ولم يتبعه إيثاراً للملك كهرقل أو اشفاقاً من مفارقة قومه وجماعته كبعض أحبار اليهود.
إسلام الصديق عن دليل برهان:
فالصديق أبو بكر الذي هو أول الرجال إيماناً كان إيمانه بالنبي صلى الله عليه وسلم عن دليل وبرهان، فإنه قد صادق النبي قبل أن يبعث وعرف من أخلاقه وشمائله أنه ليس بكذاب وأنه يستحيل عقلاً أن يعيش رجل أربعين عاماً من عمره لا تعرف عنه كذبه ثم يشرع بعد ذلك في الكذب على الله الذي هو أشنع الكذب. والكذب على الناس، وكذلك علم أبو بكر يقيناً أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم منزه عن الغرض ويستحيل أن يكون له دخيلة أو يكون ممن يظهر خلاف ما يبطن ولذلك أسرع إلى الإيمان به عن ثقة ويقين، وقد كان لكل أحد وقفة تردد في قبول دعوة الرسول إلا أبا بكر الصديق رضي الله عنه فإنه ما علم أن دعاه النبي إلى الإسلام حتى بادر بالشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما دعوت أحداً للإسلام إلا كانت له إلا أبا بكر..]
(4/10)
وروى الإمام البخاري عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذاً بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [أما صاحبكم فقد غامر فسلم ]، وقال: إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبى علي فأقبلت إليك، فقال يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثاً، ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر. فسأل أَثَمَّ أبو بكر؟ فقال: لا، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه. فقال: يا رسول الله: والله أنا كنت أظلم مرتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [إن الله بعثني إليكم، فقلتم كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله. فهل أنتم تاركوا لي صاحبي مرتين فما أوذي بعدها] (رواه البخاري)
والشاهد أن إسلام الصديق -وهو أول الناس إسلاماً- كان عن يقين ودليل وبرهان تحقق لأبي بكر بفضل الصحبة الطويلة قبل البعثة والمعرفة اليقينية بالرسول صلى الله عليه وسلم، وقد كان ثبات الصديق على هذا الدين، وضربه المثال الكامل للمؤمن الصديق، وتطبيقه الرائع الفريد لحقائق الدين وقيمه، دليل على صدق النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
إسلام خديجة رضي الله عنها عن دليل وبرهان:
وكذلك كان إسلام أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فإنها قالت للنبي عندما قص عليها خبر ما رآه في الغار وقال لها الرسول: [لقد خشيت على نفسي] ولم يكن الرسول يعلم مَنْ هذا الذي نزل عليه في الغار ولا ما كان يريد.
فقالت خديجة رضي الله عنها له: (لا والله لا يخزيك الله أبداً فإنك لتصل الرحم وتحمل الكل، وتكسب المعلوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق) (رواه البخاري)
ثم لما ذهبت به إلى ورقة بن نوفل رضي الله عنه وأخبرهما أن هذا هو الناموس الذي نزل على موسى كان هذا شهادة كذلك من رجل عليم بالرسالات.
(4/11)
ومن أجل ذلك كانت خديجة رضي الله عنها أول امرأة أسلمت بل لعلها أول إنسان آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم وكان إيمانها عن دليل وبرهان ولم يكن مجرد تقليد واتباع لزوج.
ولا برهان أعظم مما رأته في النبي صلى الله عليه وسلم فقد عرفت فيه الصدق والأمانة وصلة الرحم وحسن الخلق والرحمة بالخلق ومثل هذا لا يخزيه الله أبداً.
إسلام السابقين من المؤمنين عن دليل وبرهان:
وهكذا الشأن في السابقين الأولين من الذين عرفوا النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته فإن قريشاً كلها لم يجربوا عليه كذباً،بل وكل من تعامل بالنبي بمعاملة بيع أو شراء عرف في النبي صلى الله عليه وسلم الصدق والأمانة. ولذلك لما سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله ويخبر أنه رسوله بادروا إلى الإيمان به، عن دليل، وبرهان، وأنضاف إلى ذلك مسارعة أمثال الصديق إلى الإيمان فإن تصديق الصادقين دليل صدق النبي صلى الله عليه وسلم فإن الصادق يصدقه الصادقون وأما الكذاب فإنه لا يصدقه ولو ظاهراً إلا من كان على شاكلته من أهل الكذب.
كيف أسلم من لم يكن يعرف النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة:
وأما من لم يكن يعرف النبي صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه فإن أهل العقل والحجى منهم لم يؤمنوا بالنبي حتى علموا دلائل نبوته.
وذلك أن قوم النبي صلى الله عليه وسلم اختلفت مقالتهم فيه فمنهم من آمن به ومنهم من كفر به وهم السواد الأعظم. وهؤلاء الذين كفروا به شنعوا عليه بالباطل فتارة يقولون ساحر، وتارة يقولون كاهن، وتارة يقولون مجنون، وأخرى يقولون شاعر. وفي كل ذلك يرمونه بالكذب والإفك.
وهذا ما حمل أهل العقل والحجى من قبائل العرب خارج مكة ومن عقلاء اليهود والنصارى أن ينظروا في دلائل النبوة ويتحققوا هل هو فعلاً رسول الله حقاً وصدقاً كما يقول هو ومن آمن به أم هو كما يقول الذين كذبوه وعاندوه.
(4/12)
وقد سارع كل ذي عقل ولب من هؤلاء إلى الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وهذه نماذج هؤلاء:
(1) إسلام أبي ذر رضي الله عنه:
وأبو ذر رضي الله عنه نسيج وحده، ونموذج فريد من البشر كان باحثاً عن الحق قبل أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم، ودله بحثه على الإيمان بالله والإسلام له، ولما التقى النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه طابق دليل النبوة فطرته السليمة، وتشوقه إلى الحق، وما علم أبو ذر الحق استعذب العذاب في سبيله.
(4/13)
قال البخاري رحمه الله: حدثنا عمرو بن عباس حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن المثنى عن أبي حمزة عن ابن عباس قال لما بلغ أبا ذر نبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، يأتيه الخبر من السماء، فاسمع من قوله ثم ائتني. فانطلق الأخ حتى قدم وسمع من كلامه ثم رجع إلى أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق ،وكلاماً ما هو بالشعر. فقال: ما شفيتني مما أردت، فتزود وحمل شَنْةً فيها ماء، حتى قدم مكة فأتى المسجد، فالتمس رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه وكره أن يسأل عنه، حتى أدركه بعض الليل اضطجع. فرآه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فعرف أنه غريب فلما رآه تبعه ولم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى أصبح، ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد وظل ذلك اليوم ولا يرى النبي صلى الله عليه وسلم حتى أمسى فعاد إلى مضجعه فمر به علي فقال: أما آن للرجل يعلم منزله!! فأقامه فذهب به، لا يسأل واحداً منهما صاحبه عن شيء حتى إذا كان يوم الثالث، فعاد على مثل ذلك فأقام معه، فقال: ألا تحدثني بالذي أقدمك؟ قال: إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدني فعلت. ففعل، فأخبره، قال: فإنه حق، وإنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئاً أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، وإن مضيت فاتبعني، حتى تدخل مدخلي. ففعل. فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ودخل معه فسمع من قوله وأسلم مكانه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: [ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري] فقال: والذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلا صوته: أشهد لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ثم قام فضربوه حتى أضجعوه. فأتى العباس فأكب عليه فقال: ويلكم ألم تعلموا أنه من غفار، وأن طريق تجارتكم إلى الشام. فأنقذه منهم. ثم عاد من الغد بمثلها فضربوه وثاروا(4/14)
إليه فأكب العباس عليه (هذا لفظ البخاري).
وقد جاء خبر إسلامه مبسوطاً في صحيح مسلم وغيره فقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون حدثنا سليمان بن المغيرة حدثنا حميد بن هلال عن هبة الله بن الصامت قال أبو ذر: خرجنا من قومنا غفار -وكان يحلون الشهر الحرام- أنا وأخي أنيس وأمنا فانطلقنا حتى نزلنا على خال لنا ذي مال وذي هيئة فأكرمنا خالنا وأحسن إلينا فحسدنا قومه فقالوا له: إنك إذا خرجت عن أهلك خلفك إليهم أنيس، فجاء خالنا فنثى ما قيل له (أي عابنا وذمنا وصدق الذي قالوه عنا)!! فقلت له: أما ما مضى من معروفك فقد كدرته ولا جماع لنا فيما بعد.
قال: فقربنا صرمتنا فاحتملنا عليها وتغطى خالنا بثوبه وجعل يبكي. قال: فانطلقا حتى نزلنا محضرة مكة قال فقامر أنيس عن صرمتنا وعن مثليها، فأتينا الكاهن فَخَيّر أنيساً فأتانا بصرمتنا ومثلها وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، قال: قلت لمن؟ قال: لله. قلت: فأين توجه. قال: حيث وجهني الله. قال: واصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألقى كأني خفاء حتى تعلوني الشمس. قال: فقال أنيس: إن لي حاجة بمكة فألقني حتى آتيك قال: فانطلق فراث علي ثم أتاني. فقلت: ما حبسك؟ قال: لقيت رجلاً يزعم أن الله أرسله على دينك، قال: فما يقول الناس له؟ قال: يقولون إنه شاعر وساحر وكان أنيس شاعراً. قال: فقال لقد سمعت الكهان فما يقول بقولهم، وقد وضعت قوله على إقراء الشعر فوالله ما يلتم لسان أحد أنه شعر، ووالله إنه لصادق وإنهم لكاذبون. قال: فقلت له هل أنت كافيني حتى انطلق؟ قال: نعم، وكن من أهل مكة على حذر، فإنهم قد شنعوا له وتجهموا له.
(4/15)
قال: فانطلقت حتى قدمت مكة فتضعفت رجلاً منهم فقلت: أين هذا الرجل الذي يدعونه الصابئ؟ قال: فأشار إلي، فمال أهل الوادي علي بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشياً علي!! ثم ارتفعت حين ارتفعت كأني نُصُبٌ أحمر فأتيت زمزم فشربت من مائها وغسلت عني الدم ودخلت بين الكعبة وأستارها فلبثت به يا ابن أخي ثلاثين من يوم وليلة مالي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني وما وجدت على كبدي سخفة جوع.
قال: فبينا أهل مكة في ليلة قمراء أضحيان وضرب الله على أشحمة أهل مكة فما يطوف بالبيت غير امرأتين فأتتا علي وهما يدعوان أساف ونائلة. فقلت: انكحوا أحدهما الآخر فما ثناهما ذلك فقلت: وهن مثل الخشبة غير أني لم أركن!! قال: فانطلقتا تولولان، ويقولان: لو كان ههنا أحد من أنفارنا قال فاستقبلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وهما هابطان من الجبل فقال مالكما؟ فقالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها قالا ما قال لكما؟ قالتا قال لنا كلمة تملأ الفم!!
قال: وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وصاحبه حتى استلم الحجر، وطاف بالبيت ثم صلى. قال: فأتيته فكنت أول من حياه بتحية أهل الإسلام. فقال: [عليك السلام ورحمة الله من أنت؟] قال: قلت من غفار!! قال فاهوى بيده فوضعهما على جبهته. قال: فقلت في نفسي كره أن انتميت إلى غفار، قال فأردت أن آخذ بيده، فقذفني صاحبه، وكان أعلم به مني، قال: [متى كنت ههنا؟] قال: قلت: كنت ههنا منذ ثلاثين من بين ليلة ويوم. قال: [فمن كان يطعمك؟] قلت: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني وما وجدت على كبدي سخفة جوع. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنها مباركة إنها طعام طعم] قال: فقال أبو بكر: ائذن لي يا رسول الله في طعامه الليلة قال: ففعل.
(4/16)
قال: فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم، وانطلقت معهما حتى فتح أبو بكر باباً فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف، وقال فكان ذلك أول طعام أكلته بها، فلبثت ما لبثت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إني قد وُجِّهتُ إلى أرض ذات نخل ولا أحسبها إلا يثرب فهل أنت مبلغ عني قومك لعل الله ينفعهم بك ويأجرك فيهم؟].
قال: فانطلقت حتى أتيت أخي أنيساً، قال: فقال لي ما صنعت؟ قال: قلت: صنعت أني أسلمت وصدقت، قال: فما بي رغبة عن دينك فأني قد أسلمت وصدقت. ثم أتينا أمنا فقالت: ما بي رغبة عن دينكما فإني قد أسلمت وصدقت.
فتحملنا حتى أتينا قومنا غفار، قال: فأسلم بعضهم قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وكان يؤمهم خفاف بن إيما بن رخصة الغفاري وكان سيدهم يومئذ، وقال بقيتهم: إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمنا!! قال فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم بقيتهم. قال: وجاءت أسلم فقالوا يا رسول الله إخواننا نسلم على الذي أسلموا عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله] ورواه مسلم عن هدبة بن خالد عن سليمان بن المغيرة به نحوه.
إسلام ضماد رضي الله عنه:
وهذا رجل آخر من ازدشنوءة كان خبيراً بالرقى وعليماً بكلام العرب فانظر كيف كان إسلامه:
روى مسلم والبيهقي من حديث داود بن أبي هند بن عمرو بن سعيد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. قال: قدم ضماد مكة وهو رجل من أزدشنوءة وكان يرقي من هذه الرياح فسمع سفهاء من سفهاء مكة يقولون: إن محمداً مجنون. فقال: أين هذا الرجل لعل الله أن يشفيه على يدي؟
(4/17)
قال: فلقيت محمداً فقلت: إني أرقي من هذه الرياح، وأن الله يشفي على يدي من شاء فهلم!! فقال محمد صلى الله عليه وسلم: [إن الحمد لله نحمده ونستعينه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثلاث مرات] فقال ضماد: والله لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات فهلم يدك أبايعك على الإسلام فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: [وعلى قومك فقال وعلى قومي. فبعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً فمروا بقوم ضماد فقال صاحب الجيش للسرية: هل أصبتم من هؤلاء القوم شيئاً؟ فقال رجل منهم: أصبت منهم هذه المطهرة. فقال: ردوها عليهم فإنهم قوم ضماد.
وفي رواية فقال له ضماد: أعد علي كلماتك هؤلاء فلقد بلغن قاموس البحر!!
قلت: إذا نظرت في الدليل الذي أسلم عليه ضماد عرفت أنه من أقوى الأدلة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال له كلمات في معاني الربوبية لم يسمع هذا الرجل العليم بالرقى بمثلها قط، وعلم أنها من الحق الذي لا يصل إليها إلا نبي فهي في عمق معناها، وكمال ألفاظها قد بلغت قاموس البحر أي هي عمق المعنى وغزارته في عمق البحر وكثرة مائه.
إسلام النجاشي رضي الله عنه:
النجاشي ملك الحبشة كان على دين عيسى بن مريم وهو رجل عميق في هذا الدين، وعلى علم بالرسالات، وكان إسلامه دليلاً على أن ما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وسلم حق وصدق.
قال الإمام أحمد رحمه الله: "ثنا يعقوب ثنا أبي عن محمد بن إسحاق حدثني محمد بن مسلم بن أبي عبيدة بن شهاب عن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي عن أم سلمة ابنة أبي أمية بن المغيرة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار: النجاشي آمنا على ديننا، وعبدنا الله لا نُؤْذَى ولا نسمع شيئاً نكرهه.
(4/18)
فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جَلْدَين وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة وكان أعجب ما يأتيه منها إليه الأدم (أي الجلود)، فجمعوا له أدماً كثيراً ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا له هدية ثم بعثوا بذلك مع عبدالله بن ربيعة بن المغيرة المخزومي وعمرو بن العاص بن وائل السهمي وأمروهما أمرهم وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم.
ثم قدموا للنجاشي ونحن عنده بخير دار وعند خير جار فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي. ثم قالا لكل بطريق منهم: إنه قد صبأ إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم. وقد بعثنا إلى الملك أنه قد صبأ إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا لدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت وقد بعثنا أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه!! قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم. فقالت بطارقته حوله: صدقوا أيها الملك، قومهم أعلم بهم عيناً وأعلم بما عابوا عليه، فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم قال: فغضب النجاشي ثم قال: لا ها الله!! أيم الله إذاً لا أسلمهم إليهما، ولا أطرد قوماً جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم ما يقول هذان في أمرهم فأن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني.
قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم.
(4/19)
فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض ما تقولون للرجل إذا جئتموه قالوا: نقول له والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائن في ذلك ما هو كائن.
فلما جاءوه وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله سألهم فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم؟
قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال له: أيها الملك: كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الرحم، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نحن نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وآداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام.
قال: فعدد عليه أمور الإسلام فصدقناه، وآمنا به واتبعناه على ما جاء به فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا.
فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله. وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا فخرجنا إلى بلدك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك!!
(4/20)
قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شئ؟ قالت: فقال له جعفر: نعم. فقال له النجاشي: إقرأ علي. فقرأ عليه (صدراً) من{كهيعص}. قالت: "فبكى والله النجاشي حتى اخضل لحيته وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلي عليهم ثم قال النجاشي: إن هذا والله والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة!! انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكم أبداً ولا أكاد.
قالت أم سلمة: فلما خرجا من عنده، قال عمرو بن العاص: والله (لأنبئنهم) غداً عيبهم عندهم ثم استأصل به خضراءهم، قالت: فقال له عبد الله بن أبي ربيعة -وكان أتقى الرجلين فينا-: لا تفعل فإن لهم أرحاماً وإن كانوا قد خالفونا، قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد، قالت: ثم غدا عليه الغد. فقال له: أيها الملك انهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه.
قالت: فأرسل إليهم يسألهم عنه. قالت: ولم ينزل بنا مثله فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله فيه ما قال الله وما جاء به نبينا كائناً في ذلك ما هو كائن. فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون في عيسى بن مريم؟ فقال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا هو عبدالله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. قالت: فضرب النجاشي يده إلى الأرض فأخذ منها عوداً ثم قال: ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله! اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي -والسيوم الآمنون- من سبكم غرم. فما أحب أن لي دبراً ذهباً وأني آذيت رجلاً منكم -والدبر بلسان الحبشة الجعل- ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لنا بها فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه وما أطاع الناس فأطيعهم فيه.
قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار.
(4/21)
قالت: فوالله إنا على ذلك إذ نزل به يعني من ينازعه في ملكه. قالت: فوالله ما علمنا حزناً قط كان أشد من حزن حزناه عنده ذلك تخوفاً أن يظهر ذلك على النجاشي فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه.
قالت وسار النجاشي وبينهما عرض النيل. قالت: فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رجل يخرج حتى يحضر وقعة القوم ثم يأتينا بالخبر. قالت: فقال الزبير بن العوام: أنا. قالت: وكان من أحدث القوم سناً. قالت: فنفخوا له قربة فجعلها في صدره ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم ثم انطلق حتى حضرهم. قالت ودعونا الله للنجاشي بالظهور على عدوه والتمكين له في بلاده واستوسق عليه أمر الحبشة فكنا عنده في خير منزل حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة.
رواية أخرى:
قال الإمام عبد الله بن محمد بن أبي شيبة رحمه الله: حدثنا عبيد الله بن موسى قال أخبرنا إسرائيل عن أبي اسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننطلق مع جعفر بن أبي طالب إلى النجاشي قال فبلغ ذلك قومنا فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد وجمعوا للنجاشي هدية فقدمنا وقدما على النجاشي فأتوه بهدية فقبلها وسجدوا، ثم قال له عمرو بن العاص: إن قومنا رغبوا عن ديننا وهم في أرضك فقال لهم النجاشي: في أرضي؟ قالوا: نعم. فبعث إلينا فقال لنا جعفر: لا يتكلم منكم أحد، أنا خطيبكم اليوم. قال: فانتهينا إلى النجاشي وهو جالس في مجلسه وعمرو بن العاص عن يمينه وعمارة عن يساره والقسيسون والرهبان سماطين، وقد قال له عمرو وعمارة: إنهم لا يسجدون لك. قال: فلما انتهينا إليه أخبرنا من عنده من القسيسين والرهبان اسجدوا للملك فقال جعفر: لا نسجد إلا لله، فلما انتهينا إلى النجاشي قال: ما يمنعك أن تسجد.
(4/22)
قال: لا نسجد إلا لله. قال له النجاشي: وما ذاك؟ قال: إن الله بعث فينا رسوله وهو الرسول الذي بشر به عيسى بن مريم {برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} فأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً ونقيم الصلاة ونؤتي الزكاة وأمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر. فقال النجاشي لجعفر: ما يقول صاحبك في ابن مريم؟ قال: يقول فيه قول الله، هو روح الله وكلمته أخرجه من البتول العذراء التي لم يقر بها بشر. قال: فتناول النجاشي عوداً من الأرض فقال: يا معشر القسيسين والرهبان: ما يزيد ما يقول هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم ما يزن هذه!! مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده. فأنا أشهد أن رسول الله والذي بشر به عيسى بن مريم ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أحمل نعليه!! امكثوا في أرضي ما شئتم. وأمر لنا بطعام وكسوة وقال: ردوا على هذين هديتهما.
مكيدة لعمرو بن العاص لرفيقه عمارة بن الوليد:
قال: وكان عمرو بن العاص رجلاً قصيراً وكان عمارة بن الوليد رجلاً جميلاً. قال فأقبلا في البحر للنجاشي قال: فشربوا. قال: ومع عمرو بن العاص امرأته فلما شربوا الخمر قال عمارة لعمرو مر امرأتك فلتقبلني، فقال له عمرو: ألا تستحي؟! فأخذه عمارة فرمى به في البحر فجعل عمرو يناشده حتى أدخله السفينة فحقد عليه عمرو ذلك، فقال عمرو للنجاشي: إنك إذا خرجت خلف عمارة في أهلك. قال: فدعا النجاشي بعمارة فنفخ في احليله فصار مع الوحش!!
*********
*****
مفصل دلائل النبوة (2)
إيمان ذوي العقول وأهل الألباب من كل أمة بالرسول صلى الله عليه وسلم
وهذه طائفة أخرى من الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى ومشركي العرب بعد سطوع آيات النبوة.
سلمان الفارسي رضي الله عنه:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لو كان الدين بالثريا لأدركه أقوام من هؤلاء]
قصة إسلامه واستدلاله على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(4/23)
قال الإمام أحمد رحمه الله: ثنا أبي عن أبي إسحاق حدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري عن محمود بن لبيد عن عبدالله بن عباس قال حدثني سلمان الفارسي حديثه من فيه قال: كنت رجلاً فارسياً من أهل أصبهان من أهل قرية منها يقال لها (جي)، وكان أبي دهقان قريته (أي القائم على النار)، وكنت أحب خلق الله إليه، فلم يزل به حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية، وأجهدت في المجوسية حتى كنت قَطِنَ النار الذي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة. قال: وكان لأبي ضيعة عظيمة. قال: فشغل في بنيان له يوماً، فقال لي: يا بني إني قد شغلت في بنيان هذا اليوم، فاذهب فاطلعها، وأمرني فيها ببعض ما يريد، فخرجت أريد ضيعته، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته، فلما مررت بهم وسمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون، قال: فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم، ورغبت في أمرهم وقلت: هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه، فوالله ما تركتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعة أبي ولم آتها فقلت لهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام. قال: ثم رجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله. قال فلما جئته قال: أي بني أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت؟ قال: قلت: يا أبت مررت بالناس يصلون في كنيسة لهم، فأعجبني ما رأيت من دينهم فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس. قال: أي بني. ليس في ذلك الدين خير دينك ودين آبائك خير منه. قال: قلت: كلا والله إنه خير من ديننا. قال: فخافني فجعل في رجلي قيداً ثم حبسني في بيته.
(4/24)
قال: وبعثت إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام، تجار من النصارى فأخبروني بهم، قال: فقدم عليهم ركب من الشام، تجار من النصارى فأخبروني بهم قال: قلت: إذا قضوا حوايجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني بهم. قال: فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم أخبروني بهم، فألقيت الحديد من رجلي، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام، فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل هذا الدين؟ قالوا: الأسقف في الكنيسة.
قال: فجئته فقلت: إني أرغب في هذا الدين، وأحببت أن أكون معك أخدمك في كنيستك، وأتعلم منك، وأصلي معك. قال: فادخل. فدخلت معه. قال: فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه منها أشياء اكتنزه لنفسه ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق، قال: وأبغضته بغضاً شديداً لما رأيته يصنع، ثم مات، فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء، يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه، ولم يعط المساكين منها شيئاً. قالوا: وما علمك بذلك؟ قال: قلت أنا أدلكم على كنزه، قالوا: فدلنا عليه، قال:فأريتهم موضعه. قال فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهباً وورقاً، فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبداً، فصلبوه، ثم رجموه بالحجارة، ثم جاؤوا برجل آخر فجعلوه بمكانه.
قال: يقول سلمان فما رأيت رجلاً لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه، أزهد في الدنيا، ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلاً ونهاراً منه. قال: فأحببته حباً لم أحبه من قبله، وأقمت معه زماناً، ثم حضرته الوفاة، فقلت له: يا فلان إني كنت معك وأحببتك حباً لم أحبه أحداً من قبلك، وقد حضرك ما ترى من أمر الله، فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟ قال: أي بني والله ما أعلم أحداً اليوم على ما كنت عليه. لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلاً بالموصل، وهو فلان، فهو على ما كنت عليه فالحق به.
(4/25)
قال: فلما مات وغيب لحقت بصاحب الموصل. فقلت له: يا فلان إن فلاناً أوصاني عند موته أن ألحق بك، وأخبرني أنك على أمره. قال: فقال لي: أقم عندي. فأقمت عنده فوجدته خير رجل على أمر صاحبه، فلم يلبث أن مات، فلما حضرته الوفاة قلت له: يا فلان إن فلاناً أوصى بي إليك، وأمرني باللحوق بك، وقد حضرك من الله عز وجل ما ترى فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟ قال: أي بني والله ما أعلم رجلاً على مثل ما كنا عليه إلا رجلاً بنصيبين، وهو فلان فالحق به.
قال: فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين فجئته، فأخبرته بخبري وما أمرني به صاحبي. قال: فأقم عندي. فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبيه، فأقمت مع خير رجل، فوالله ما لبث أن نزل به الموت فلما حضر قلت له: يا فلان كان أوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟ قال: أي بني والله ما نعلم أحداً بقي على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلاً بعمورية، فإنه بمثل ما نحن عليه، فإن أحببت فأته. قال: فإنه على أمرنا.
قال: فلما مات وغيب لحقت بصاحب عمورية وأخبرته خبري، فقال: أقم عندي. فأقمت مع رجل على هدى أصحابه وأمرهم. قال: واكتسبت حتى كان لي بقرات وغنيمة، قال: ثم نزل به أمر الله فلما حضر قلت له: يا فلان إني كنت مع فلان فأوصي فلان إلى فلان، وأوصي بي فلان إلى فلان، ثم أوصى فلان إليك، فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟ قال: أي بني والله ما أعلمه أصبح على ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبي وهو مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب مهاجراً إلى أرض بين حرتين بينهما نخل به علامات لا تخفى: يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإذا استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل.
(4/26)
قال: ثم مات وغيب فمكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث، ثم مر بي نفر من كلب تجاراً فقلت لهم: تحملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه؟ قالوا: نعم. فأعطيتموها ورجوت أن تكون البلد، وحملوني حتى إذا قدموا بي وادي القرى ظلموني، فباعوني من رجل من يهودي عبداً، فكنت، ورأيت النخل ورجوت أن تكون البلد الذي وصف لي صاحبي ولم يحق لي في نفسي، فبينما أنا عنده قدم ابن عم له من المدينة من بني قريظة فابتاعني منه، فاحتملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي، فأقمت بها وبعث الله رسوله فأقام بمكة ما أقام، لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق، ثم هاجر إلى المدينة، فوالله إني لفي رأس عذق لسيدي أعمل فيه بعض العمل، وسيدي جالس إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه فقال فلان: قاتل الله بني قيلة، والله إنهم الآن لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي. قال: فلما سمعتها أخذتني العُرَواء حتى ظننت أني سأسقط على سيدي، قال: ونزلت على النخلة فجعلت أقول لابن عمه ذلك ماذا تقول؟ قال فغضب سيدي فلكمني لكمة شديدة، ثم قال: مالك ولهذا أقبل على عملك!!. قال: قلت: لا شئ إنما أردت أن استثبت عما قال. وقد كان عندي شيء. قد جمعته فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء فدخلت عليه فقلت له: أنه قد بلغني أنك رجل صالح، ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم فقربته إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: كلوا. وأمسك يده فلم يأكل. قال: فقلت: في نفسي هذه واحدة، ثم انصرفت عنه، فجمعت شيئاً وتحول رسول اله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ثم جئت به فقلت: إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية أكرمتك بها، قال: فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها وأمر أصحابه معه، قال: فقلت في نفسي: هاتان اثنتان: ثم جئت رسول(4/27)
الله صلى الله عليه وسلم وهو ببقيع الغرقد. قال وقد تبع جنازة من أصحابه عليه شملتان وهو جالس في أصحابه، فسلمت عليه ثم استدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنى استدرته عرف أني استثبت في شيء وصف لي. قال: فألقى رداءه عن ظهره فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فانكببت عليه أقبله وأبكي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: تحول!! فتحولت فقصصت عليه حديثي، كما حدثتك يا ابن عباس.
قال فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمع ذلك أصحابه، ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر وأحد.
قال: ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: كاتب يا سليمان. فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها له بالفقير وبأربعين أوقية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أعينوا أخاكم فأعانوني بالنخل، الرجل بثلاثين ودية، والرجل بعشرين والرجل بخمس عشرة، والرجل بعشر يعني الرجل وما يقدر ما عنده، حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب يا سلمان ففقر لها فإذا فرغت فائتني أكون أنا أضعها بيدي ففقرت لها وأعانني أصحابي، حتى إذا فرغت منها جئته، فأخبرته فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معي إليها، فجعلنا نقرب له الودي ويضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فوالذي نفس سلمان بيده ما مات منها ودية واحدة، فأديت النخل وبقي علي المال فأتى رسول الله بمثل بيضة الدجاج من ذهب من بعض المغازي، فقال: ما فعل الفارسي المكاتب؟ قال فدعيت له فقال: خذ هذه فأد بها ما عليك يا سلمان. فقلت: وأين تقع هذه يا رسول الله مما علي. قال خذها، فإن الله عز وجل سيؤدي بها عنك. قال: فأخذتها فوزنت لهم منها والذي نفس سلمان بيده أربعين أوقية فأوفيتهم حقهم، وأعتقت فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق ثم لم يفتني معه مشهد.
(4/28)
قلت: هذه القصة المليئة بالعبر، والشاهد فيها أن سلمان الفارسي رضي الله عنه، قد انتفى منه الغرض الدنيوي، وطلب الدين لله لا لحظ نفسه، ولاقى في سبيل الله ما لاقى من ترك أهله ووطنه، والدنيا التي كان فيها، وتتبع بقايا رهبان النصارى حتى فنوا وانقرضوا، ثم هداه الله إلى الإسلام، وتعرف على النبي صلى الله عليه وسلم من خلال الدليل الذي صحبهمعه، وبقي سلمان على الإسلام حتى أصبح بعد ذلك أميراً على العراق بعد أن فتحها الله للمسلمين، وكان سلمان في كل حياته زاهداً في الدنيا باحثاً عن الحق وإيمانه بالرسول صلى الله عليه وسلم دليل صدق وشاهد عدل{قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب}.
عبدالله بن سلام سيد اليهود وعالمهم بالمدينة المنورة:
قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر ثنا عوف عن زرارة عن عبدالله بن سلام. قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة احتفل الناس فكنت فيمن احتفل، فلما تبينت وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب!! فكان أول شيء سمعته يقول: [افشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام. تدخلوا الجنة بسلام] (رواه الترمذي وابن ماجه من طرق عن عوف الأعرابي عن زرارة بن أبي أوفى به عنه).
وقال الترمذي صحيح، ومقتضى هذا السياق أنه سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم ورآه أول قدومه حين أناخ عند دار أبي أيوب عند ارتحاله من قباء إلى دار بني النجار كما تقدم فلعله رآه أول ما رآه بقباء، واجتمع به بعد ما صار إلى دار بني النجار، والله أعلم.
وفي سياق البخاري من طريق عبدالعزيز عن أنس. قال: فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم جاء عبدالله بن سلام فقال أشهد أنك رسول الله، وأنك جئت بحق. وقد علمت يهود أني سيدهم وابن سيدهم وأعلمهم وابن أعلمهم، فادعهم فسلهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت. فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا في ما ليس في.
(4/29)
فأرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهود فدخلوا عليه. فقال لهم: [يا معشر اليهود ويلكم اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقاً وأني جئتكم بحق فأسلموا] قالوا: ما نعلمه!! قالوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قالها ثلاث مرار. قال: [فأي رجل فيكم عبدالله بن سلام؟] قالوا ذاك سيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا. قال: [أفرأيتم إن أسلم]، قالوا حاشى لله ما كان ليسلم. قال: [يا ابن سلام اخرج عليهم] فخرج فقال: يا معشر يهود اتقوا الله فوالله الذي لا إله هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله وأنه جاء بالحق. فقالوا: كذبت فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. (هذا لفظه)
وفي رواية: فلما خرج عليهم شهد شهادة الحق قالوا: شَرُّنا وابن شَرِّنا، وتنقصوه، فقال: يا رسول الله هذا الذي كنت أخاف!!
وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبدالله الحافظ أخبرنا الأصم حدثنا محمد بن إسحاق الصنعاني ثنا عبدالله بن أبي بكر ثنا حميد عن أنس. قال: سمع عبدالله بن سلام بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم وهو في أرض له - فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟
قال: [أخبرني بهن جبريل آنفاً]. قال: جبريل؟ قال: [نعم]، قال: عدو اليهود من الملائكة. ثم قرأ{قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله} قال: [أما أول أشراط الساعة فنار تخرج على الناس من المشرق تسوقهم إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نَزَعَ الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد].
فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. يا رسول الله إن اليهود قوم بهت وأنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني.
(4/30)
فجاءت اليهود، فقال: [أي رجل عبدالله فيكم؟] قالوا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا. قال: [أرأيتم إن أسلم؟]، قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبدالله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله. قالوا شرنا وابن شرنا وانتقصوه. قال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله. (رواه البخاري عن عبدالله بن منير عن عبدالله بن أبي بكر به ورواه عن حامد بن عمر عن بشر بن المفضل عن حميد به).
قال محمد بن اسحاق: حدثني عبدالله بن أبي بكر عن يحيى بن عبدالله عن رجل من آل عبدالله بن سلام. قال: كان من حديث عبدالله بن سلام حين أسلم، وكان حبراً عالماً. قال: لما سمعت برسول الله، وعرفت صفته واسمه وهيئته و(زمانه) الذي كنا نتوكف له، فكنت بقباء مسراً بذلك صامتاً عليه حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فلما قدم نزل بقباء في بني عمرو بن عوف، فأقبل رجل حتى أخبر بقدومه، وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة، فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرت، فقالت عمتي حين سمعت تكبيري لو كنت سمعت بموسى بن عمران ما زدت، قال: قلت لها أي عمة. والله هو أخو موسى بن عمران وعلى دينه بعث بما بعث به. قال: فقالت له: يا ابن أخي أهو الذي كنا نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة؟ قال: قلت لها: نعم، قالت: فذاك إذاً.
قال: فخرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا وكتمت إسلامي من اليهود وقلت: يا رسول الله إن اليهود قوم بهت، وإني أحب أن تدخلني في بعض بيوتك لتغيبني عنهم، ثم تسألهم عني فيخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامي فإنهم إن يعلموا بذلك بهتوني وعابوني، (وذكر نحو ما تقدم). قال: فاظهرت إسلامي وإسلام أهل بيتي وأسلمت عمتي خالدة بنت الحارث.
(4/31)
وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق حدثني عبدالله بن أبي بكر حدثني محدث عن صفية بنت حيي قالت: لم يكن أحد من ولد أبي وعمي أحب إليهما مني، لم ألقاهما في ولد لهما قط اهش إليهما إلا أخذاني دونه، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء (قرية بني عمرو بن عوف) غدا إليه أبي وعمي أبو ياسر بن أخطب مُغَلِّسين، فوالله ما جاآنا إلا مع مغيب الشمس فجاآنا فاتِرَيْن كسلانين ساقطين يمشيان الهوينا، فهششت إليهما كما كنت أصنع فوالله ما نظر إلى واحد منهما!! فسمعت عمي أبا ياسر يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم والله! قال: تعرفه بنعته وصفته؟ قال: نعم والله! قال: فماذا في نفسك منه؟ قال عداوته والله ما بقيت!!
وذكر موسى بن عقبة عن الزهري أن أبا ياسر بن أخطب حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ذهب إليه وسمع منه وحادثه، ثم رجع إلى قومه فقال: يا قوم أطيعوني فإن الله قد جاءكم بالذي كنتم تنتظرون فاتبعوه ولا تخالفوه، فانطلق أخوه حيي بن أخطب وهو يومئذ سيد اليهود، وهما من بني النضير، فجلس حيي بن أخطب إلى رسول الله وسمع منه، ثم رجع إلى قومه وكان فيهم مطاعاً فقال: أتيت من عند رجل والله لا أزال له عدواً أبداً. فقال له أخوه أبو ياسر: يا ابن أم أطعني في هذا الأمر، واعصني فيما شئت بعده لا تهلك، قال: لا والله لا أطيعك أبداً، واستحوذ عليه الشيطان واتبعه قومه على رأيه.
قلت (أي الزهري): أما أبو ياسر بن الأخطب فلا أدري ما آل إليه أمره، وأما حيي بن أخطب والد صفية بنت حيي فشرب عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولم يزل ذلك دأبه لعنه الله حتى قتل صبراً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قتل مقاتلة بني قريظة.
هرقل قيصر الروم الأكبر ورئيس الكنيسة الشرقية:
(4/32)
قال البخاري رحمه الله: حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني عبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود أن عبدالله بن عباس أخبره أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجاراً بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مادَّ فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال: أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟
فقال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسباً.
فقال: ادنوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال ترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذباً لكذبت عليه. ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟
قلت: هو فينا ذو نسب.
قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا.
قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا.
قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم.
قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون.
قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا.
قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا.
قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها. قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة.
قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم.
قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا سجال ينال منا وننال منه.
قال: بماذا يأمركم؟ قلت: يقول اعبدوا الله وحده لا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.
(4/33)
فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها. وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول. فذكرت أن لا. فقلت: لو أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله. وسألتك هل كان من آبائه من ملك فذكرت أن لا. قلت: لو كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد عرفت أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله وسألتك أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك أيرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا. وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن لا. وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك بما يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه!!! ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبدالله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك (بدعاية) الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}
(4/34)
قال أبو سفيان: فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات وأخرجنا. فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أَمِرَ أَمْرُ بن أبي كبشة إنه يخافه ملك بني الأصفر فما زلت موقناً أنه سيظهر حتى أدخل الله عَلَيَّ الإسلام.
وكان ابن الناطور صاحب إيلياء وهرقل سقفاً على نصارى الشام يحدث أن هرقل حين قدم أيلياء أصبح يوماً خبيث النفس فقال بعض بطارقته قد استنكرنا هيئتك. قال ابن الناطور: وكان هرقل حزاء ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت ملك الختان قد ظهر فمن يختتن من هذه الأمة؟ قالوا: ليس يختتن إلا اليهود فلا يهمنك شأنهم واكتب إلى مدائن ملكك فيقتلوا من فيهم من اليهود.
فبينا هم على أمرهم أتى هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا؟ فنظر إليه فحدثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب فقال: هم يختتنون. فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر. ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية وكان نظيره في العلم.
وسار هرقل إلى حمص فلم ير حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق هرقل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه نبي. فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلقت، ثم اطلع فقال: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب!!! فوجدوها قد غلقت فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الإيمان قال: ردوهم علي. وقال إني قلت مقالتي آنفاً أختبر بها شدتكم على دينكم فقد رأيت. فسجدوا له ورضوا عنه فكان ذلك آخر شأن هرقل.
ومن دلالات هذا الحديث:
1) يقين هرقل بأن محمداً هو رسول الله الخاتم حقاً وصدقاً وأنه سيملك أرض بيت المقدس وقد وقع هذا تماماً كما توقعه هرقل حيث قال لأبي سفيان (لئن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين).
(4/35)
2) الذي منع هرقل من إعلان الإيمان ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم هو نفرة الروم وتعصبهم لدينهم الباطل وقد ضنَّ هرقل بملكه وخشى إن أظهر الإسلام أن يفقد سلطانه فبقي على كفره إلى أن مات عليه بعد أن طاردته خيل المسلمين بعد موقعة اليرموك.
3) أسلم ابن الناطور وكان قرين هرقل في العلم بدين النصرانية وكان حاضراً الأسئلة التي وجهها هرقل لأبي سفيان، وشهد ابن الناطور ظهور الإسلام ودخول المسلمين إلى بلاد الشام وهو الذي حدث بما كان من شأن قريش عندما جمعهم في حمص.
فشهادة هرقل بأن محمداً هو رسول الله حقاً وصدقاً إنما كانت شهادة عن يقين وبرهان وليس تقليداً وظناً وتخمنياً، ولكن الله سبحانه يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
***********
*****
مفصل دلائل النبوة (3)
المعجزات وخوارق العادات التي جرت على يد النبي صلى الله عليه وسلم
ليس هناك من رسول أجرى الله على يديه من خوارق العادات وأيده بالمعجزات ما أجرى الله على يد محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، وهذا تفصيل لبعض هذه المعجزات التي هي من قبيل خرق العادة، وإظهار الكرامة، وتمام النعمة، والشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالفضل والنبوة.
وقبل هذا لا بد من مقدمة:
تعريف خرق العادة:
خرق العادة هو حدوث أمر ما على غير السنة الجارية، فإن الله سبحانه وتعالى جعل لكل شيء حدّاً ومقداراً وسنة متبعة، وربط كل شيء بأسبابه، وكل ما ظهر خلاف السنن الجارية يكون خارقاً للعادة، فالإنسان مثلاً مخلوق يمكنه السير على الأرض ولا يمكنه الطيران بغير جناحين أو آلة يطير بها في الهواء، فلو أن إنساناً استطاع أن يطير في الهواء بغير آلة وبغير جناحين لقلنا خرقت له العادة، وكذلك إذا استطاع أن يمشي على الماء لقلنا خرقت له العادة.
وخرق العادة له أحوال ودرجات أربعة هي:
(4/36)
(1) أن تجري العادة على وجه التحدي والإعجاز، ولا يكون هذا إلا لنبي وتسمى المعجزة، وآيات الرسل من هذا القبيل كما أيد الله بموسى بمجموعة من المعجزات، وكذلك عيسى، ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
(2) أن تخرق العادة لرجل صالح وهذه من باب الكرامة، وقد وقع هذا ولا يزال لصالحي أهل الإيمان في كل أمة ويبقى إلى قيام الساعة.
(3) خرق العادة لفاجر أو كافر ويكون هذا من باب ابتلاء الله عباده ليفرقوا بين أولياء الله وأولياء الشياطين كما وقع هذا لكثير من مدعى النبوة، فقد كان للأسود العنسي ومسيلمة الكذاب خوارق للعادات. وكما يقع من خوارق العادات على يد المسيح الكذاب فإنه يقول للسماء امطري فتمطر، وللأرض أخرجي كنوزك فتخرج كنوزها، ويقتل رجلاً بسيفه ثم يحييه، وكما يقع هذا لكثير من أولياء الشياطين.
(4) خرق العادة الذي هو باب الشعبذة والتخييل والكذب وهذا يفعله السحرة، والكذابون، وهي أمور تعتمد على الحيلة، وسرعة الحركة، والتخييل، كما فعله سحرة فرعون حيث جاءوا بسحر عظيم. قال تعالى: {فسحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم}.
حتى إن موسى عليه السلام خشي أن تنطلي حيلتهم على الناس جميعاً، وتبطل آية الله مع ما جاءوا به من السحر. قال تعالى: {يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى}، وهذا السحر والتخييل ليس من باب خرق العادة، ولكنه يظهر للناس أنه أمر خارق للعادة وليس كذلك، فإن السحر لا يغير حقائق الأشياء ولا طبائعها، وإنما يغير فقط نظر الناس إليها فيبصرون الأمر على غير حقيقته.
هذه هي خوارق العادة الأربعة: المعجزة للرسل، والكرامة للصالحين، وخرق العادة لبعض أولياء الشياطين من مدعي الإلهية والنبوة، والسحر والشعبذة والتخييل والكذب وهو ما يجري على أيدي السحرة والكذابين.
خوارق العادة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم كثيرة جداً:
(4/37)
وما أجراه الله على يد الرسول صلى الله عليه وسلم من خوارق العادة كثيرة جداً، وجميعه من بركات النبي صلى الله عليه وسلم، ودلائل نبوته وآيات صدقه، ومن أنواع الرحمات التي أنزلها الله على نبيه صلى الله عليه وسلم.
فمن ذلك: تكثير الماء القليل ليكون ماءاً كثيراً، وتكثير الطعام القليل ليكفي جيشاً كاملاً ونزول المطر بدعائه في التو والحال، وارتفاعه بدعائه في التو والحال، وتسبيح الحصا في يده، وحنين الجذع إليه، ومجيء الشجرة إليه تخد الأرض خداً ورجوعها إلى مكانها بأمره، وتكثير المقدار القليل من الذهب ليصبح كثيراً، والمقدار القليل من التمر ليصبح كثيراً، ورده عن أبي قتادة عينه بعد أن سالت على خده، فأصبحت أفضل من السليمة، وصرعه صلى الله عليه وسلم ركانة بن الحارث ثلاث مرات، وكان لا يصرع قط، ولم يضجعه أحد قط، وتحول العرجون بأمره إلى سيف، ومن أعظم ذلك كله انتصاره بالعدد القليل من المؤمنين على العدد الكبير من الكافرين، فإن هذا من أعظم خوارق العادات ومن أجل الكرامات، وأوضح الدلالات والآيات أنه رسول الله المؤيد بنصره وتمكينه!!
تكثير الماء القليل ليصبح كثيراً:
وهذه الآية قد وقعت مراراً للنبي صلى الله عليه وسلم فكلما عطش المسلمون في سفر أو حضر كانوا يلجئون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيسقيهم الله ببركة من بركات هذا النبي وبآية من آيات الله، وقد جاء هذا بصور كثيرة، فتارة ينبع الماء من بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم، فيشرب القوم ويملئون قرابهم وهم عدد كبير، وتارة يبارك الرسول في مزادة فتنفجر بالماء إلى أن يسقي القوم، وتارة بضرب الرسول سهماً في بئر جافة فتفور بالماء، وتارة يبارك على عين جافة فيجري ماؤها...
وهذه بعض الروايات في هذا الصدد:
(1) الماء يتفجر من بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم:
(4/38)
قال البخاري رحمه الله: حدثنا عبدالرحمن بن مبارك حدثنا حزم قال سمعت الحسن قال: حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه قال: [خرج النبي صلى الله عليه وسلم في بعض مخارجه ومعه ناس من أصحابه، فانطلقوا يسيرون، فحضرت الصلاة، فلم يجدوا ماءاً يتوضأون، فانطلق رجل من القوم فجاء بقدح من ماء يسير فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ ثم مد أصابعه الأربع على القدح ثم قال: [قوموا فتوضأوا]، فتوضأ القوم حتى بلغوا ما يريدون من الوضوء وكانوا سبعين أو نحوه. (6/581)
وقال البخاري رحمه الله: حدثنا أبي عدي عن سعيد عن قتادة عن أنس رضي الله عنه: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بإناء وهو بالزوراء (وهو مكان في المدينة)، فوضع يده في الإناء، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه، فتوضأ القوم قال قتادة: قلت لأنس: كم كنتم؟ قال: ثلاثمائة أو زهاء ثلاثمائة. (6/580)
(2) بركة النبي صلى الله عليه وسلم من بين مزادة امرأة مشركة:
(4/39)
قال البخاري رحمه الله: حدثنا مسدد قال حدثني يحيى بن سعيد قال حدثنا عوف قال حدثنا أبو رجاء عن عمران قال: كنا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم، وانا أسرينا حتى إذا كنا في آخر الليل وقعنا وقعة ولا وقعة أحلى عند المسافر منها، فما أيقظنا إلا حر الشمس، وكان أول من استيقظ فلان، ثم فلان، ثم فلان، يسميهم أبو رجاء، فنسي عوف، ثم عمر بن الخطاب الرابع، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نام لم يوقظ حتى يكون هو يستيقظ لأنا لا ندري ما يحدث له في نومه، فلما استيقظ عمر ورأى ما أصاب الناس وكان رجلاً جليداً، فكبر ورفع صوته بالتكبير فما زال يكبر ويرفع صوته بالتكبير حتى استيقظ بصوته النبي صلى الله عليه وسلم فلما استيقظ شكوا إليه الذي أصابهم، قال: [لا ضير، ارتحلوا]، فارتحل فسار غير بعيد، ثم نزل فدعا بالوضوء فتوضأ ونودي للصلاة فصلى بالناس فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم قال: [ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟] قال أصابتني جنابة ولا ماء. قال: [عليك بالصعيد فإنه يكفيك].
(4/40)
ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم فاشتكى إليه الناس من العطش فنزل فدعا فلاناً كان يسميه أبو رجاء نسيه عوف، ودعا علياً فقال: [اذهبا فابتغيا الماء]، فانطلقا فتلقيا امرأة بين مزادتين أو سطيحتين من ماء على بعير لها. فقالا لها: أين الماء؟ قالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة ونفرنا خلوفاً، قالا لها: انطلقي إذا. قالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: الذي يقال له الصابئ؟ قالا: هو الذي تعنين. فانطلقي، فجاءا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحدثناه الحديث. قال فاستنزلوها عن بعيرها ودعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناء ففرغ فيه من أفواه المزادتين أو السطيحتين وأوكأ أفواهما، واطلق العزالي ونودي في الناس اسقوا واستقوا فسقي من شاء واستقى من شاء، وكان آخر ذاك أن أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء قال: [اذهب فأفرغه عليك]، وهي قائمة تنظر إلى ما يفعل بمائها وأيم الله لقد أقلع عنها وإنه ليخيل إلينا أنها أشد ملاءة منها حين ابتدأ فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [اجمعوا لها من بين عجوة ودقيقة وسويقة] حتى جمعوا لها طعاماً، فجعلوها في ثوب وحملوها على بعيرها ووضعوا الثوب بين يدها!!
قال لها صلى الله عليه وسلم: [تعلمين مارزئنا من مائك شيئاً ولكن الله هو الذي أسقانا]!! فأتت أهلها وقد احتبست عنهم قالوا: ما حبسك يا فلانة؟ قالت: العجب لقيني رجلان فذهبا بي إلى هذا الذي يقال له الصابئ، ففعل كذا وكذا فوالله إنه لأسحر الناس من بين هذه وهذه، وقالت باصبعيها الوسطى والسبابة فرفعتهما إلى السماء تعني السماء والأرض أو إنه لرسول الله حقاً!! فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون على من حولها من المشركين، ولا يصيبون الصرم الذي هي منه، فقالت يوماً لقومها: ما أرى أن هؤلاء القوم يدعونكم عمداً، فهل لكم في الإسلام؟ فأطاعوا فدخلوا في الإسلام.
(4) الماء يتفجر من البئر بسهم من كنانة النبي صلى الله عليه وسلم:
(4/41)
قال البخاري رحمه الله: حدثني عبدالله بن محمد، حدثنا عبدالرزاق أخبرنا معمر قال: أخبرني الزهري قال أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان –يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه- قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة، فخذوه ذات اليمين]، فوالله ما شعر بهم خالد، إذا هم بقترة الجيش فانطلق يركض نذيراً لقريش، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بكرت به راحلته، فقال الناس: حل حل!! فألحت. فقالوا:خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل]، ثم قال: [والذي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها] ثم زجرها فوثبت..
(4/42)
قال: فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضاً، فلم يلبث الناس حتى نزحوه، وشكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهماً من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه، فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة -وكانوا عيبة نصح رسول الله من أهل تهامة- فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية ومعهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشاَ قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره]. فقال بديل: سأبلغهم ما تقول. قال: فانطلق حتى أتى قريشاً قال: إنا جئناكم من هذا الرجل وسمعناه يقول قولاً فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرونا عنه بشيء، وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول. قال: سمعته يقول كذا وكذا فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى. قال أو لست بالولد؟ قالوا: بلى. قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي ومالي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى. قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد اقبلوها ودعوني آته. قالوا: أئته، فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي نحو من قوله لبديل.
(4/43)
فقال عروة عند ذلك: أي محمد أرأيت إن استأصلت أمر قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فإني والله لا أرى وجوهاً، وإني لأرى أوشاباً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك، فقال له أبو بكر: أمصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟ فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر. قال: زما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما تكلم بكلمة أخذ بلحيته والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم، فرفع عروة رأسه فقال: من هذا؟ قال: المغيرة بن شعبة. فقال: أي غدر؟! ألست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية وقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء]، ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه.
(4/44)
قال: فوالله ما تنخم رسول الله نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيماً له، فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت مليكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمداً، والله إن يتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيماً له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. فقال رجل من بني كنانة: دعوني آتيه، فقالوا: أئته، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال صلى الله عليه وسلم: [هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له]، فبعثت له واستقلبه الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت فما أرى أن يصدوا عن البيت، فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص فقال: دعوني آته. فقالوا: أئته، فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: [هذا مكرز وهو رجل فاجر]، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو.
(4/45)
قال معمر فأخبرني أيوب عن عكرمة أنه لما جاء سهيل بن عمرو قال النبي صلى الله عليه وسلم: [قد سهل لكم من أمركم]. قال معمر قال الزهري في حديثه: فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات أكتب بيننا وبينكم كتاباً، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [بسم الله الرحمن الرحيم]، فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هي، ولكن اكتب باسمك اللهم، كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [اكتب باسمك اللهم]، ثم قال: [هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم]. فقال سهيل: والله لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبدالله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [والله إني لرسول الله وإن كذبتموني اكتب محمد بن عبدالله]!!
قال الزهري: وذلك لقوله: لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: [على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به]. فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب على أنا أخذنا ضغطة، ولكن ذلك من العام المقبل، فكتب فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا. قال المسلمون: سبحان الله كيف يرد إلى المشركين، وقد جاء مسلماً؟ فبينما هم كذلك، إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرفس قيوده وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [إنا لم نقض الكتاب بعد]. قال: فوالله إذاً لم أصالحك على شيء أبداً. قال النبي صلى الله عليه وسلم: [فأجزه لي]. قال: ما أنا بمجيزه لك.
(4/46)
قال: [بلى فافعل]. قال: ما أنا بفاعل. قال مكرز: قد أجزناه لك. قال أبو جندل: أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً؟ ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب عذاباً شديداً في الله. قل: فقال عمر بن الخطاب: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ألست نبي الله حقاً؟ قال: [بلى]. قلت: ألست على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: [بلى]. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً؟ قال: [إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري]. قلت: أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت نطوف به؟ قال: [بلى، فأخبرتك أنا نأتيه هذا العام؟]، قال: قلت: لا. قال: [فأنك آتيه ومطوف به]. قال: فأتيت أبا بكر فقلت له: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقاً؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً؟ قال: أيها الرجل إنه لرسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره، فاستمسك بغرزه فوالله إنه على الحق!! قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به.
(4/47)
قال الزهري: قال عمر: فعلمت لذلك أعمالاً. قال: فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: [قوموا فانحروا ثم احلقوا]. قال فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ فأخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فليحلقك، فخرج فلم يكلم أحداً حتى فعل ذلك نحر ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً. ثم جاء نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى:{يا أيها الذين أمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنونهن} حتى بلغ{ولا تمسكوا بعصم الكوافر} فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأخرى صفوان بن أمية، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجاءه أبو بصير رجل من قريش، وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا: العهد الذي جعلت لنا. فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم. فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً، فاستله الآخر فقال: أجل والله إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت فقال أبو بصير: أرني انظر إليه، فأمكنه منه فضربه حتى برد!!
(4/48)
وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه: [لقد رأى هذا ذعراً]، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله قد والله أوفى الله ذمتك قد رددتني إليه ثم أنجاني الله منهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد]!! فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر. قال: وينفلت أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون بِعيرٍ خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم، وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده -الله والرحم- لما أرسل فمن أتاه فهو آمن!! فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فأنزل الله تعالى:{وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم} حتى بلغ {الحمية حمية الجاهلية} وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينهم وبين البيت.
قلت: وفي سياق هذا الحديث من دلائل النبوة عدا تفجر الماء أمور كثيرة جداً.
(5) الرسول صلى الله عليه وسلم يفجر عيناً في طريق تبوك:
(4/49)
قال الإمام أحمد رحمه الله: ثنا يزيد بن هارون أنا حماد بن سلمة عن ثابت عن عبدالله بن رباح عن أبي قتادة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقال: [إنكم إن لا تدركوا الماء غداً تعطشوا]، وانطلق سرعان الناس يريدون الماء ولزمت رسول الله صلى الله عليه وسلم فمالت برسول الله راحلته، فنعس رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعمته فأدعم، ثم مال فدعمته فأدعم، ثم مال حتى كان أن ينجفل عن راحلته فدعمته فانتبه، فقال: [من الرجل؟] قلت: أبو قتادة. قال: [من كم كان مسيرك؟] قلت: منذ الليلة. قال: [حفظك الله كما حفظت رسوله] ، ثم قال: [لو عرسنا]، فمال إلى شجرة فنزل، فقال: [انظر هل ترى أحداً؟] قلت: هذا راكب، هذان راكبان حتى بلغ سبعة، فقال: [احفظوا علينا صلاتنا]، فنمنا فما أيقظنا إلا حر الشمس فانتبهنا، فركب رسول الله فسار وسرنا هنيهة ثم نزل، فقال: [أمعكم ماء؟] قال: قلت: نعم معي ميضأة فيها شيء من ماء. قال: [أئتني بها]، فأتيته بها، فقال: [مسوا منها، مسوا منها]، فتوضأ القوم وبقيت جرعة فقال: [ازدهر بها يا أبا قتادة فإنه سيكون لها نبأ]، ثم أذن بلال وصلوا الركعتين قبل الفجر، ثم صلوا الفجر، ثم ركب وركبنا فقال بعضهم لبعض فرطنا في صلاتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما تقولون؟ إن كان أمر دنياكم فشأنكم وإن كان أمر دينكم فإلي]. قلنا: يا رسول الله فرطنا في صلاتنا. فقال: [في النوم إنما التفريط في اليقظة، فإذا كان ذلك فصلوها من الغد وقتها]، ثم قال: [ظنوا بالقوم]. فقالوا: إنك قلت بالأمس: إلا تداركوا الماء غداً تعطشوا، فالناس بالماء. فقال: [أصبح الناس وقد فقدوا نبيهم]..
(4/50)
فقال بعضهم لبعض: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن ليسبقكم إلى الماء ويخلفكم، وإن يطع الناس أبا بكر وعمر يرشدوا -قالها ثلاثاً- فلما اشتد الظهيرة رفع لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله هلكنا عطشا تقطعت الأعناق فقال: [لا هلك عليكم]. ثم قال: [يا أبا قتادة أئت بالميضأة]، فأتيت بها، فقال: [احلل لي غمري] يعني قدحه، فحللته فأتيت به فجعل يصب فيه ويسقي الناس فازدحم الناس عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يا أيها الناس أحسنوا الملأ فكلكم سيصدر عن ري]، فشرب القوم حتى لم يبق غيري وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصب لي فقال: [اشرب يا أبا قتادة]. قال: قلت: أنت يا رسول الله. قال: [إن ساقي القوم آخرهم]، فشربت وشرب بعدي، وبقي في الميضأة نحو مما كان فيها وهم يومئذ ثلاثمائة).
وقال مسلم رحمه الله: حدثنا عبدالله بن عبدالرحمن الزارمي حدثنا أبو علي الحمصي حدثنا مالك (وهو أبو أنس) عن أبي الزبير المكي أن أبا الطفيل عامر بن واثلة أخبره أن معاذ بن جبل أخبره قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك، فكان يجمع الصلاة، فصلى الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً، حتى إذا كان يوماً أخر الصلاة، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعاً ثم دخل، ثم خرج بعد ذلك فصلى المغرب والعشاء جميعاً، ثم قال: [إنكم ستأتون غداً إن شاء الله عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار فمن جاءها منكم فلا يمس من مائها شيئاً حتى آتي] فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان، والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء قال فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: [هل مسستما من مائها شيئاً]. قالا: نعم، فسبهما النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهما ما شاء الله أن يقول.
(4/51)
قال: ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلاً حتى اجتمع في شيء. قال: وغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يديه ووجهه ثم أعاد فيها، فجرت العين بماء منهمر أو قال غزير -شك أبو علي أيهما قال- حتى استسقى الناس ثم قال: [يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما ههنا قد ملئ جناناً ]. (3/1784)
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصبحت أرض تبوك اليوم جناناً وبساتين!!
************
*******
مفصل دلائل النبوة (4)
من معجزاته صلى الله عليه وسلم بركته في تكثير الطعام القليل ليشبع العدد الكثير!!
من آيات صدق النبي صلى الله عليه وسلم ودلائل نبوته، وعظيم بركاته، أنه صلى الله عليه وسلم كان يبارك على الطعام القليل فيصبح كثيراً جداً، حتى إن طعام رجل واحد كان يكفي سبعين رجلاً، وطعاماً لا يكفي إلا خمسة يطعم ألفاً ويشبعون، وهذا قد وقع ببركة النبي صلى الله عليه وسلم مراراً وتكراراً، وهذه الآية المبصرة دليل عظيم من أدلة النبوة، فإن هذه الآية تفارق السحر، ولا يتطرق إليها وهم أو ظنون. أما مفارقتها للسحر فإن الساحر لا يقلب الأعيان، ولا يغير الحقائق، ولا يجعل القليل كثيراً، ولا يعمل في النفع والخير، وليس لعمله بركة في الدنيا ولا في الآخرة، بل {يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم}.
وأما جعل طعام قليل لا يكفي عشرة من الناس طعاماً كثيراً مباركاً هنيئاً مريئاً يكفي الجيش كله وهم ألوف، فإن هذا يستحيل أن يكون سحراً، لأن تكثير الطعام خرق للعادة وتبديل للأعيان، فحقيقة القلة غير حقيقة الكثرة، والإنسان الجائع لا يشبع من فراغ، فإذا شبع بطعام فلا بد وأن يكون ما أكله طعاماً حقيقياً حصل به الشبع، وهذا العمل في ذاته من أعمال الخير والبركة، وهو يفارق أعمال السحرة والكهنة فإنهم لا يعملون إلا في الشر والنقص والخبال والظلم.
وهذا سرد لبعض الوقائع في هذا الصدد:
(4/52)
(1) النبي صلى الله عليه وسلم يطعم المهاجرين والأنصار جميعاً يوم الخندق من عناق واحدة وصاع من شعير:
قال البخاري رحمه الله: حدثنا خلاد بن يحيى، حدثنا عبدالواحد بن أيمن عن أبيه قال أتيت جابراً رضي الله عنه فقال: إنا يوم الخندق نحفر، فعرضت كدية شديدة (الكدية: الصخرة العظيمة) فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق. فقال صلى الله عليه وسلم: [أنا نازل]، ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول، فضرب في الكدية فعاد كثيباً أهيل أو أهيم، فقلت: يا رسول الله أئذن لي إلى البيت. فقلت لامرأتي: رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ما كان في ذلك صبر فعندك شيء؟ فقالت: عندي شعير وعناق، فذبحت العناق، وطحنت الشعير، حتى جعلنا اللحم بالبرمة (البرمة: قدر يكون أسفله أوسع من أعلاه)، ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم والعجين قد انكسر(أي اختمر) والبرمة بين الأثافي (الأحجار التي يحمل عليها القدر) قد كادت أن تنضج فقلت: طُعَيْمٌ لي فقم أنت يا رسول الله ورجلٌ أو رجلان. قال: [كم هو؟] فذكرت له. فقال صلى الله عليه وسلم: [كثير طيب. قل لها لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي]. فقال صلى الله عليه وسلم: [قوموا!!] فقام المهاجرون والأنصار، فلما دخل على امرأته قال: ويحك جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم!! قالت: هل سألك؟ قلت: نعم. فقالت: ادخلوا ولا تضاغطوا، فجعل يكسر الخبز، ويجعل عليه اللحم، ويخمر (أي يغطي) البرمة (أي يغطيها) والتنور إذا أخذ منه، ويقرب إلى أصحابه، ثم ينزع، فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا وبقي بقية. قال صلى الله عليه وسلم: [كلي هذا أو اهدي فإن الناس أصابتهم مجاعة] (أخرجه البخاري 7/395، ومسلم 3/1610)
(4/53)
وفي رواية أخرى قال البخاري رحمه الله: حدثني عمرو بن علي، حدثنا أبو عاصم أخبرنا حنظلة بن أبي سفيان، أخبرنا سعيد بن ميناء قال: سمعت جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: لما حفر الخندق، رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم خمصاً شديداً فانكفأت إلى امرأتي فقلت: هل عندك شيء، فإني رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصاً شديداً، فأخرجت إليّ جراباً فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن فذبحتها، وطحنت الشعير، ففرغتْ إلي فراغي (يعني لما فرغ هو من الذبح وسلخ الشاة فرغت امرأته من طحن الشعير وعجنه) وقطعتها في برمتها، ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم وبمن معه!! فجئته فساررته فقلت: يا رسول الله ذبحنا بهيمة لنا، وطحنا صاعاً من شعير كان عندنا فتعال أنت ونفرٌ معك. فصاح النبي صلى الله عليه وسلم: [يا أهل الخندق إن جابراً قد صنع لكم سوراً، فحَيَّ هلاً بكم]. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تُنْزِلُنَّ برمتكم، ولا تخبزن عجينكم، حتى أجيئ]. فجئت وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس حتى جئت امرأتي فقالت: بِكَ وبِكَ، فقلت: قد فعلت الذي قلت!!
فأخرجت له عجيناً فبصق فيه وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبصق وبارك، ثم قال: [ادع خابزةً فلتخبزْ معي، واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها]، وهم ألف، فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجينتنا ليخبز كما هو!!
(4/54)
قلت: هذا الحديث من دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن إطعام ألف رجل حتى يشبعوا بعد أن أنهكهم الجوع، ومكثوا أياماً دون طعام، وهم محاصرون في الخندق في برد شديد، ويعملون في حفر الخندق ونقل التراب، تكسير الصخور.. إطعام هؤلاء جميعاً من عنز صغير (عناق)، مع صاع واحد من شعير -وهذا طعام لا يكفي في العادة إلا نحو خمسة رجال-. ثم إن هؤلاء الألف الذين أكلوا حتى شبعوا قد تركوا برمة اللحم كما هي، والعجين كما هو، لم ينقص منه شيء... فأي دليل على إثبات النبوة، وحدوث المعجزة أعظم من هذا؟ فهذا دليل حسي مرئي اطلع عليه هذا العدد العظيم من الناس، ولم يشاهدوا الآية فقط، بل أكلوا وشبعوا، فاشترك في إدراك هذه المعجزة كل الحواس، النظر، والسمع، واللمس، والذوق، والشم، وأدركوا كل ذلك بعقولهم وقلوبهم، وظهرت آثار بركة هذا في أعمالهم وأخلاقهم.
فمن لا يصدق بعد ذلك أن محمد بن عبدالله كان رسول الله حقاً وصدقاً وأنه كان مباركاً حيث كان صلى الله عليه وسلم!!
(2) النبي صلى الله عليه وسلم يطعم جيش المسلمين في تبوك من بقايا أزوادهم:
(4/55)
قال الإمام أحمد رحمه الله: ثنا علي بن إسحاق، أنا عبدالله يعني ابن المبارك قال أنا الأوزاعي، قال: حدثني المطلب بن حنطب المخزومي قال: حدثني عبدالرحمن بن أبي عمرة الأنصاري حدثني أبي، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة، فأصاب الناس مخمصة، فاستأذن الناس رسول الله في نحر بعض ظهورهم (أي جمالهم التي يركبون عليها)، وقالوا: يبلغنا الله به، فلما رأى عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هم أن يأذن لهم في نحر بعض ظهورهم، قال: يا رسول الله كيف بنا إذا نحن لقينا القوم غداً جياعاً أو رجالاً؟ ولكن إن رأيت يا رسول الله أن تدعو لنا ببقايا أزوادهم فنجمعها، ثم تدعو الله فيها البركة، فإن الله تبارك وتعالى سيبلغنا بدعوتك، أو قال سيبارك لنا في دعوتك. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم ببقايا أزوادهم، فجعل الناس يجيئون بالحثية (الحثية ما يملأ الكف الواحدة) من الطعام وفوق ذلك، وكان أعلاهم من جاء بصاع من تمر، فجمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قام فدعا ما شاء الله أن يدعو، ثم دعا الجيش بأوعيتهم، فأمرهم أن يحتثوا فما بقى في الجيش وعاءً إلا ملأوه!!! فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى بدت نواجذه، فقال: [أشهد أن لا له إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقي الله عبد مؤمن بهما إلا حجبت عنه النار يوم القيامة].
(4/56)
وقال الإمام مسلم رحمه الله: حدثنا أبو بكر بن النضر، قال حدثني أبو النضر هاشم بن القاسم، حدثنا عبيد الله الأشجعي، عن مالك بن مغول، عن طلحة بن مصرف عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسير، قال: فنفذت أزواد القوم. قال: حتى هم ينحر بعض حمائلهم. قال: فقال عمر: يا رسول الله، لو جمعت ما بقي من أزواد القوم فدعوت الله عليها. قال: ففعل. قال: فجاء ذو البر (البر هو القمح) ببره، وذو التمر بتمره (وقال مجاهد وذو النوى بنواه). قلت: وما كانوا يصنعون بالنوى؟ قال: كانوا يمصونه ويشربون عليه الماء. قال: فدعا عليها حتى ملأ القوم أزودتهم. قال: فقال عند ذلك: [أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة]. (أخرجه مسلم 1/55)
(3) النبي صلى الله عليه وسلم يطعم ثمانين رجلاً من بضع أقراص من شعير:
قال البخاري رحمه الله: حدثنا عبدالله بن يوسف أخبرنا مالك عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك يقول: قال أبو طلحة لأم سليم: لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً أعرف فيه الجوع فهل عندك من شيء؟ قالت: نعم. فأخرجت أقراصاً من شعير، ثم أخرجت خماراً لها فلفت الخبز ببعضه ثم دسته تحت يدي ولاثتني (لاثتني: أي لفت بقية الثوب حول رأسي ورقبتي) ببعضه، ثم أرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فذهبت به فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ومعه الناس فقمت عليهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أرسلك أبو طلحة؟] فقلت: نعم. قال: [بطعام؟] فقلت: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن معه: [قوموا!!] فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته. فقال أبو طلحة: يا أم سليم قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، وليس عندنا ما نطعمهم. فقالت الله ورسوله أعلم.
(4/57)
فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل رسول الله وأبو طلحة معه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يا أم سليم ما عندك؟] فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله ففت وعصرت أم سليم عكة (قربة صغيرة يوضع فيها السمن) فأدمته، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ما شاء أن يقول ثم قال: [ائذن لعشرة]، فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا، ثم قال: [أئذن لعشرة]، فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا، ثم قال: [أئذن لعشرة]، فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا، ثم قال: [أئذن لعشرة] فأكل القوم كلهم حتى شبعوا والقوم سبعون أو ثمانون رجلاً. (أخرجه مسلم 3/1612)
(4) النبي صلى الله عليه وسلم يبارك تمر جابر بن عبدالله الأنصاري حتى يوفي منه دينه!! ويبقى التمر كما هو كأن لم يؤخذ منه شيء!!:
قال البخاري رحمه الله: حدثنا عبدان أخبرنا جرير عن مغيرة عن الشعبي عن جابر رضي الله عنه قال: توفي عبدالله بن عمرو بن حرام وعليه دين، فاستعنت النبي على غرمائه أن يضعوا من دينه، فطلب صلى الله عليه وسلم فلم يفعلوا. فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: [اذهب فصنف تمرك أصنافاً، العجوة على حدة، وعذاق ابن زيد (نوع من التمر) على حدة، ثم أرسل إلي]، ففعلت، ثم أرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء، فجلس أعلى أعلاه أو في وسطه، ثم قال: [كِلْ للقوم!!] فكلتهم حتى أوفيت الذي لهم، وبقي تمري كأنه لم ينقص منه شيء!!
(4/58)
وقال فراس عن الشعبي: حدثني جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: فما زال يكيل لهم حتى أداه، وقال هشام بن كيسان عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أنه أخبره أن أباه توفي، وترك عليه ثلاثين وسقاً (الوسق ثلاثمائة صاعا، والصاع نحو كيلوين فيكون الوسق ستمائة كيلو) لرجل من اليهود فاستنظره (أي طلب منه مهلة حتى يستطيع وفاء دينه) جابر، فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشفع له إليه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلم اليهودي ليأخذ تمر نخلة (بالتي) له فأبى، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم النخل فمشى فيها، ثم قال لجابر: [جد له فأوف له الذي له]، فجده بعد ما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأوفاه ثلاثين وسقاً، وفضلت له سبعة عشر وسقاً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبر بالذي كان، فوجده يصلي العصر، فلما انصرف أخبر بالفضل. فقال: أخبر ذلك ابن الخطاب!! فذهب جابر إلى عمر فأخبره، فقال له عمر: لقد علمت حين مشى فيها رسول الله ليباركن فيها!!
(5) النبي صلى الله عليه وسلم يطعم مائة وثلاثين رجلاً من كبد شاة واحدة:
(4/59)
قال البخاري رحمه الله: حدثنا أبو النعمان حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن أبي عثمان عن عبدالرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه قال: كنا مع النبي رضي الله عنه ثلاثين ومائة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل مع أحد منكم طعام فإذا مع رجل صاع من طعام أو نحوه فعجن، ثم جاء رجل مشرك مشعان (ثائر الرأس) طويل بغنم يسوقها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [بيعاً أم عطية؟] -أو قال أم هبة- قال: بل بيع، فاشترى منه شاة فصنعت، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بسواد البطن (الكبد) أن يشوى، وأيم الله ما في الثلاثين والمائة إلا وقد حزَّ النبي صلى الله عليه وسلم له حزة من سواد بطنها إن كان شاهداً أعطاه إياها، وإن كان غائباً خبأ له، فجعل منها قصعتين فأكلوا أجمعون وشبعنا، ففضلت القصعتان فحملناه على البعير أو كما قال.
(6) قصعة واحدة يأكل منها المسلمون من الصبح حتى المساء ولا تنقص:
قال الترمذي رحمه الله: حدثنا محمد بن بشار أخبرنا يزيد بن هارون أخبرنا سليمان عن أبي العلاء عن سمرة بن جندب قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نتداول من قصعة من غدوة (الصباح) حتى الليل، تقوم عشرة وتقعد عشرة. قلنا: فما كانت تمد؟ قال: من أي شيء تعجب؟ ما كانت تمد إلا من ههنا وأشار بيده إلى السماء!!
(7) النبي صلى الله عليه وسلم يزود وفد خثعم من تمر عمر بن الخطاب ويبقى تمره كما هو:
قال الإمام أحمد رحمه الله: ثنا وكيع ثنا إسماعيل عن قيس عن دكين بن سعيد الخثعمي قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أربعون أو أربعمائة نسأله الطعام. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: [قم فأعطهم].
قال: يا رسول الله ما عندي إلا ما يقيظني والصبية. - قال وكيع: القيظ في كلام العرب أربعة أشهر-
قال: [قم فأعطهم].
قال عمر: يا رسول الله سمعاً وطاعة.
(4/60)
قال: فقام عمر وقمنا معه فصعد بنا إلى غرفة له فأخرج المفتاح من حجزته ففتح الباب، قال دكين: فإذا بالغرفة شبيه الفصيل (الفصيل ابن الناقة الذي عمره عام وانفصل عن رضاع أمه) الرابض (أي من التمر).
قال: شأنكم، قال: فأخذ كل رجل منا حاجته ما شاء الله. قال: ثم التفت وإني لمن آخرهم وكأنا لم نرزأ (أي لم نصب ولم ننقص) منه تمرة. (أخرجه أحمد 4/174)
وفي رواية أخرى: ثنا بن عبيد إسماعيل عن قيس عن دكين بن سعيد المزني قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعون راكباً أو أربعمائة نسأله طعاماً فقال لعمر: [اذهب فأعطهم]. فقال: يا رسول الله ما بقي إلا آصع من تمر ما أرى أن يقيظني (أي يكفيني القيظ وهو فترة الصيف) قال: [اذهب فأعطهم]. قال: سمعاً وطاعة. قال: فأخرج عمر المفتاح من حجزته ففتح الباب، فإذا شبه الفصيل الرابض من تمر. فقال: لتأخذوا فأخذ كل رجل منا ما أحب، ثم التفت وكنت من آخر القوم، وكأنا لم نرزأ تمرة.
(8) النبي صلى الله عليه وسلم يسقي أهل الصفة جميعاً وهم نحو سبعين رجلاً من قدح واحد من حليب:
(4/61)
قال البخاري رحمه الله: حدثني أبو نعيم بنحو من نصف هذا الحديث حدثنا عمر بن ذر حدثنا مجاهد أن أبا هريرة يقول: ألله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه. فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني فمر فلم يفعل. ثم مر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني فمر ولم يفعل، ثم مر أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسم حين رآني، وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: [أبا هريرة!!] قلت: لبيك يا رسول الله. قال: [الحق!!] ومضى فتبعته، فدخل، فاستأذن فأذن لي، فدخل، فوجد لبناً في قدح. فقال: [من أين هذا اللبن؟] قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة. قال: [يا أبا هريرة!] قلت: لبيك يا رسول الله. قال: [الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي]!!، قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد إذا أتته (صدقة) أرسل إليهم، وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؟ كنت أحق أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها. فإذا جاء وأمرني فكنت أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن.
ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بد، فأتيتهم ودعوتهم، فأقبلوا فاستأذنوا لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت.
(4/62)
قال صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة قلت: لبيك يا رسول الله. قال: [خذ فأعطيهم فأخذت القدح]، فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروي، ثم يرد علي القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروي ثم يرد القدح، حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى القوم كلهم فأخذ القدح ثم وضعه على يده، فنظر إلي فتبسم فقال: [يا أبا هريرة]. قلت: لبيك يا رسول الله. قال: [اقعد فاشرب]، فقعدت وشربت، فقال: [اشرب فشربت]، فما زال يقول: [اشرب] حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكاً، قال: فأرني، فأعطيته القدح فحمد الله وسمى وشرب الفضلة. (أخرجه البخاري 11/281)
(9) النبي صلى الله عليه وسلم يفجر اللبن من ضرع شاة لا تحلب!!:
قال الحاكم رحمه الله: حدثنا أبو بكر بن إسحاق ثنا أبو الوليد ثنا عبيد الله بن إياد بن لقيط ثنا إياد بن لقيط عن قيس بن النعمان قال: لما انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مستخفيين (أي في الهجرة من مكة) مراً (بعبد) يرعى غنماً، فاستسقياه من اللبن فقال: ما عندي شاة تحلب غير أن ههنا عناقاً حملت أول الشتاء، وقد أخرجت وما بقى لها لبن فقال : [ادع بها]، فدعا بها فاعتقلها النبي صلى الله عليه وسلم، ومسح ضرعها، ودعا حتى انزلت قال: وجاء أبو بكر رضي الله عنه بمحجن فحلب، فسقى أبا بكر، ثم حلب فسقى الراعي، ثم حلب فشرب!! فقال الراعي: بالله من أنت؟؟ فوالله ما رأيت مثلك قط؟ قال: [أو تراك تكتم علي حتى أخبرك؟] قال: نعم. قال: [فإني محمد رسول الله!!] فقال: أنت الذي تزعم قريش أنه صابئ؟ قال: [إنه ليقولون ذلك!!] قال: فأشهد أنك نبي، وأشهد أن ما جئت به حق إنه لا يفعل ما فعلت إلا نبي وأنا متبعك. قال: [إنك لا تستطيع ذلك اليوم. فإذا بلغك أني قد ظهرت فأتنا].
(10) عبدالله بن مسعود رضي الله عنه يرى المعجزة:
(4/63)
قال الإمام أحمد رحمه الله: ثنا أبو بكر بن عياش حدثني عاصم عن زر عن ابن مسعود قال: كنت أرعى غنماً لعقبة بن أبي معيط فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر فقال: [يا غلام هل من لبن؟] قال: قلت: نعم، ولكني مؤتمن. قال: [فهل من شاة لم ينز عليها الفحل؟] فأتيته بشاة فمسح ضروعها، فنزل لبن فحلبه في إناء، فشرب وسقى أبا بكر ثم قال للضرع: [اقلص]، فقلص. قال: ثم أتيته بعد هذا فقلت: يا رسول الله علمني من هذا القول. قال: فمسح رأسي وقال: [يرحمك الله فإنك غليم مُعَلَّم].
ثم قال الإمام أحمد رحمه الله ثنا عفان ثنا حماد بن سلمة عن عاصم بإسناده، قال: فأتاه أبو بكر بصخرة منقورة فاحتلب فيها فشرب وشرب أبو بكر، وشربت. قال: ثم أتيت بعد ذلك قلت: علمني من هذا القرآن. قال: [إنك غلام معلم]. قال: فأخذت من فيه سبعين سورة (أي أن ابن مسعود بعد أن صحب النبي صلى الله عليه وسلم تعلم سبعين سورة من النبي صلى الله عليه وسلم بغير واسطة).
(11) تمرات لأبي هريرة يباركها الرسول فلا تفنى إلا بعد خمسين عاماً.
قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا يونس حدثنا حماد يعني بن زيد عن المهاجر عن أبي العالية عن أبي هريرة قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم يوماً بتمرات، فقلت ادع الله لي فيهن بالبركة. قال: صفهن بين يديه. قال: ثم دعا فقال لي: اجعلهن في مزود (المزود جراب للتمر) وأدخل يدك ولا تنثره!! قال: فحملت (أي تصدقت وحملت معي في الغزو) منه كذا وكذا وسقا في سبيل الله، ونأكل ونطعم، وكان لا يفارق حقوي (الحقو: مربط الحزام من الإنسان)، فلما قتل عثمان رضي الله عنه، انقطع عن حقوي فسقط!!
(4/64)
وقال الإمام أحمد رحمه الله: ثنا أبو عامر ثنا إسماعيل يعني بن مسلم عن أبي المتوكل عن أبي هريرة قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من تمر فجعلته في مكتل لنا، فعلقناه في سقف البيت، فلم نزل نأكل منه حتى كان آخره أصابه أهل الشام، حيث أغاروا على المدينة (أي في وقعة الحرة).
قلت: كانت وقعة الحرة عام (63هـ)، وإسلام أبي هريرة كان قبل وفاة النبي بثلاث سنوات فلو أن حادثة التمر الذي باركه الرسول لأبي هريرة في عام إسلامه فإنه يعني أنه مكث خمسين عاماً يأكل من هذا التمر المبارك وهو لا يفنى!!
************
******
مفصل دلائل النبوة (5)
إخباره صلى الله عليه وسلم بغيوب كثيرة وقعت كما أخبر بها تماماً
إخباره صلى الله عليه وسلم بالفتوح التي تفتحها أمته
(1-2)
مدخل:
ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم ودلائل صدقه صلى الله عليه وسلم إخباره صلى الله عليه وسلم بغيوب كثيرة وقعت على النحو الذي أخبر به تماماً وهذه الغيوب التي أخبر بها صلى الله عليه وسلم تشمل الغيب الإضافي، والغيب الذي لا يعلمه إلا الله، ولا يطلع عليه إلا من ارتضى من رسول.
الغيب نوعان:
اعلم -رحمني الله وإياك- أن الغيب نوعان: غيب للبعض وشهادة للآخرين، فما يحدث في بيت جارك مثلاً هو غيب بالنسبة إليك ولكنه شهادة عندهم، فكل ما هو غائب عن سمعك وبصرك وحواسك فهو غيب بالنسبة إليك ولكنه شهادة عند غيرك ممن يراه أو يسمعه أو يحسه، فهذا هو الغيب الإضافي.
والقسم الثاني من الغيب هو ما استأثر الله بعلمه ولا يعلمه إلا هو أو من يطلعه الله عليه من رسول. قال تعالى: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً* إلا من ارتضى رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً* ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً} (الجن:26-28).
(4/65)
وقال تعالى: {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير} (لقمان:34).
وقال صلى الله عليه وسلم: [مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله تعالى: لا يعلم أحد ما يكون في غد إلا الله تعالى، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام إلا الله تعالى، ولا يعلم أحد متى تقوم الساعة إلا الله تعالى، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله تعالى، ولا يدري أحد متى يجيء المطر إلا الله تعالى] (رواه البخاري).
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بغيوب كثيرة من الغيب الإضافي كأن يحدث أمر في مكان بعيد فيخبر به فيكون على النحو الذي أخبر به تماماً، وكذلك حدث النبي بغيوب هائلة كثيرة مستقبلية مما أطلعه الله عليه، ولا يعلمه إلا الله، وذلك منذ مبعثه وإلى يوم القيامة فوقع ما وقع منها على النحو الذي حدث به تماماً... ولا تزال الأيام تأتي بما أخبر به مما لم يقع فيقع الأمر كما أخبر به تماماً صلوات الله وسلامه عليه.
وهذا بيان تفصيلي لطائفة من هذه الغيوب:
(1) إخباره صلى الله عليه وسلم بأن الدين الذي بعث به سيعلو على كل الأديان، وأنه سينصر، وأن أمته ستفتح العالم، وتفتح لها كنوز الأرض:
أ- النبي صلى الله عليه وسلم يخبر وهو في مكة في فئة مستضعفة أن دينه سيعم الجزيرة كلها:
فعن خباب بن الأرت قال: [شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ متوسد بردة في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا الله تبارك وتعالى، أو ألا تستنصر لنا؟ فقال: قد كان الرجل فيمن كان قبلكم يؤخذ فيحفر له في الأرض، فيجاء بالمنشار على رأسه فيجعل بنصفين فما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب فما يصده ذلك، والله ليتمن الله عز وجل هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله تعالى، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون] (رواه أحمد).
(4/66)
وقد وقع هذا الأمر في حياته صلى الله عليه وسلم فدانت الجزيرة كلها بالإسلام، وأمن الناس فيها من أقصاها إلى أقصاها... وكان تصور هذا ضرب من الخيال، فقد كان القتل وقطع الطريق، والإغارة والنهب والسلب في كل ركن من أركانها إلا المسجد الحرام فقط.
إخباره صلى الله عليه وسلم بفتح جزيرة العرب ثم فارس ثم الروم، ووقوع الأمر كما حدث به تماماً:
قال مسلم رحمه الله: حد ثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن عبدالملك بن عمير عن جابر بن سمرة عن نافع بن عتبة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم قوم من قبل المغرب عليهم ثياب الصرف فوافقوه عند أكمة فإنهم لقيام ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد قال: فقالت لي نفسي ائتهم فقم بينهم وبينه لا يغتالونه قال: ثم قلت لعله نجى معهم فأتيتهم فقمت بينهم وبينه فحفظت منه أربع كلمات أعدهن في يدي قال: [تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله، ثم فارس فيفتحها الله ثم تغزون الروم فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله]!!
قلت: ويبقى فتح الدجال، وسيقع الأمر فيه كما حدث صلى الله عليه وسلم تماماً، وسيكون ذلك آية أخرى لمن يشهدها في وقتها.
ب- النبي صلى الله عليه وسلم يخبر وهو في المدينة أن أمته ستفتح كنوز كسرى.
(4/67)
روى الإمام البخاري رحمه الله بإسناده إلى عدي بن حاتم قال: بينا أنا عند الني صلى الله عليه وسلم إذا أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل. فقال: [يا عدي، هل رأيت الحيرة؟] قلت: لم أرها، وقد أنبئت عنها. قال: [فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله، قلت فيما بيني وبين نفسي فأين دعار (الدعار هو الخبث الشديد) طيء الذين قد سعروا البلاد؟ ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى]. قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: [كسرى بن هرمز. ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحداً يقبله منه، وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له، فيقولن ألم أبعث إليك رسولاً فيبلغك فيقول بلى فيقول: ألم أعطك مالاً وأفضل عليك؟ فيقول : بلى!! فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم، وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم]. قال عدي: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [اتقوا النار ولول بشق تمرة، فمن لم يجد شق تمرة فبكلمة طيبة]. قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: يخرج ملء كفه. (رواه البخاري).
(4/68)
وقد روى هذا الحديث أبو نعيم بإسناده في دلائل النبوة أن الشعبي رحمه الله دخل على عدي بن حاتم الطائي فقال: إنه بلغني عنك حديث كنت أحب أن أسمعه منك، قال: نعم، بعث النبي صلى الله عليه وسلم وكنت من أشد الناس له كراهية، وكنت بأقصى أرض العرب من الروم، فكرهت مكاني أشد من كراهيتي لأمري الأول، فقلت لآتين هذا الرجل، فإن كان صادقاً لا يخفى علي أمره، وإن كان كاذباً لا يخفى علي، أو قال: لا يضرني، قال: فقدمت المدينة، فاستشرفني الناس فقالوا: عدي بن حاتم، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: [يا عدي أسلم تسلم]، قلت: إن لي ديناً، قال: [أنا أعلم بدينك منك]. قلت: ما يجعلك أعلم بديني مني؟!! قال: [أنا أعلم بدينك منك. ألست ترأس قومك؟] قلت: بلى. قال: [ألست تأخذ المرباع (ربع الغنيمة)]. قلت: بلى. قال: [فإن ذلك لا يحل لك]. قلت: أجل.
قال: فكان ذلك أذهب بعض ما في نفسي، قال: [أنه يمنعك من أن تسلم خصاصة فقر من ترى حولنا، وإنك ترى الناس علينا إلباً واحداً، أو قال يداً واحدة]، قلت: نعم، قال: [هل أتيت الحيرة؟] قلت: لا، وقد علمت مكانها، قال صلى الله عليه وسلم: [يوشك الظعينة أن تخرج من الحيرة حتى تطوف بالبيت بغير جوار!! ويوشك أن تفتح كنوز كسرى بن هرمز]، قال: قلت: كنوز كسرى بن هرمز!! قال: [كنوز كسرى بن هرمز!! ويوشك أن يخرج الرجل الصدقة من ماله فلا يجد من يقبلها منه].
قال عدي رضي الله عنه: فلقد رأيت الظعينة تخرج من الحيرة حتى تطوف بالبيت بغير جوار، وكنت في أول خيل أغارت على السواد، والله لتكونن الثالثة أنه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية أبي بكر بن خلاد ومحمد بن أحمد قال عدي فأنا سرت بالظعينة من الحيرة، قال: إلى البيت العتيق في غير جوار، يعني أنه حج بأهله، وكنت في أول خيل أغارت على المدائن، والله لتكونن الثالثة كما كانت هاتان أنه تحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إياي.
وفي رواية أخرى:
(4/69)
قدم عدي بن حاتم الطائي الكوفة، فأتيته في أناس منا، من أهل الكوفة، قلنا: حدثنا بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنبوة ولا أعلم أحداً من العرب كان له أشد بغضاً مني، ولا أشد كراهية له مني، حتى لحقت بأرض الروم، فتنصرت فيهم، فلما بلغني ما يدعو إليه من الأخلاق الحسنة، وما اجتمع إليه من الناس ارتحلت حتى أتيته، فوقفت عليه وعنده صهيب وبلال وسلمان. فقال: [يا عدي بن حاتم أسلم تسلم]، فقلت : أخ أخ فأنخت، فجلست وألزقت ركبتي بركبته، فقلت: يا رسول الله ما الإسلام؟ قال: [تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وتؤمن بالقدر خيره وشره، وحلوه ومره. يا عدي بن حاتم لا تقوم الساعة حتى تفتح خزائن كسرى وقيصر. يا عدي بن حاتم لا تقوم الساعة حتى تأتي الظعينة من الحيرة –ولم يكن يومئذ كوفة- حتى تطوف بالكعبة بغير خفير، لا تقوم الساعة حتى يحمل الرجل جراب المال فيطوف به فلا يجد أحد يقبله، فيضرب به الأرض فيقول: ليتك كنت تراباً (دلائل النبوة لأبي نعيم 2/693-696).
إخباره صلى الله عليه وسلم بفتح الحيرة وهبته الشيماء بنت نفيلة لخريم بن أوس:
قال أبو نعيم: حدثنا محمد بن معمر قال ثنا عبدالله بن محمد بن ناجية، قال: ثنا أبو السكين زكريا بن يحيى الطائي، قال حدثني عم أبي زخر بن حصن عن جده حميد بن منهب قال:
(4/70)
قال جدي خريم بن أوس: هاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقدمت عليه مُنْصَرَفَةُ من تبوك، فأسلمت فسمعته يقول: [هذه الحيرة البيضاء قد رفعت لي، وهذه الشيماء بنت نفيلة الأزدية على بغله شهباء معتجرة بخمار أسود] فقلت: يا رسول الله إن نحن دخلنا الحيرة فوجدناها كما تصف فهي لي؟ قال: [هي لك!!] قلت: ثم كانت الردة، فما ارتد أحد من طيء، فأقبلنا مع خالد بن الوليد نريد الحيرة، فلما دخلناها كان أول من تلقانا الشيماء بنت نفيلة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة شهباء معتجرة بخمار أسود فتعلقت بها فقلت: هذه وصفها لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاني خالد بالبينة فأتيت بها، فكانت البينة محمد بن مسلمة ومحمد بن بشير الأنصاريان، فسلمها إليّ خالد، ونزل إليها أخوها عبدالمسيح بن نفيلة يريد الصلح، فقال: بعينها، فقلت: لا أنقصها والله من عشر مائة!! فأعطاني ألف درهم وسلمتها إليه، فقالوا لي: لو قلت مائة ألف لسلمها إليك، فقلت: ما كنت أحسب أن عدداً أكثر من عشر مائة!!
قلت: وهذا صحابي لا يعلم بعد الألف عدداً!! وهذا الحديث من أعلام نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه حدث عن أمر من الغيب لا يمكن تصوره بالظن ولا التخييل ولا التوقع فإن تصور انتصار العرب المسلمين على الفرس كان أبعد من الخيال!! ولقد حدث عنه النبي صلى الله عليه وسلم بصفته حقيقة واقعة!! ووقع الأمر كما حدث به تماماً.
(4/71)
وقد روى هذا الحديث الإمام ابن حبان رحمه الله كما في الموارد: أخبرنا ابن أسلم حدثنا محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني، حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم بن عدي بن حاتم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مثلت لي الحيرة كأنياب الكلاب وإنكم ستفتحونها]، فقام رجل فقال: [هب لي يا رسول الله ابنة نفيلة]، فقال: [هي لك فأعطوها إياه]، فجاء أبوها فقال: أتبيعنها فقال: نعم، قال: بكم؟ قال: احتكم ما شئت، قال: بألف درهم. قال: قد أخذتها فقيل: لو قلت ثلاثين ألفاً. قال: وقال: وهل عدد أكثر من ألف؟!
قال الحافظ الهيثمي: قلت هكذا وقع في هذه الرواية أن الذي اشتراها أبوها وإن المشهور أن الذي اشتراها عبدالمسيح أخوها والله أعلم.
إخباره صلى الله عليه وسلم بحسن إسلام الفرس بعد الفتح:
قال البخاري رحمه الله: حدثنا عبدالعزيز بن عبدالله قال حدثني سليمان بن بلال عن ثور عن أبي الغيث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه سورة الجمعة {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم} قال: قلت: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثاً، وفينا سلمان الفارسي وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان ثم قال: [لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال أو رجل من هؤلاء].
حدثنا عبدالله بن عبدالوهاب حدثنا عبدالعزيز أخبرني ثور عن أبي الغيث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : [لناله رجال من هؤلاء] (البخاري 8/641).
المسلمون يفتحون فارس موقنين بخبر الرسول صلى الله عليه وسلم:
(4/72)
قال البخاري رحمه الله: حدثنا الفضل بن يعقوب حدثنا عبدالله بن جعفر الرقي حدثنا المعتمر بن سليمان حدثنا سعيد بن عبيد الله الثقفي حدثنا بكر بن عبدالمزني وزياد بن جبير عن جبير بن حية قال: بعث عمر الناس في أفناء الأنصار، يقاتلون المشركين، فأسلم الهرمزان فقال له عمر: إني مستشيرك في مغازي هذه، قال: نعم!! مَثَلُها ومثل من فيها من الناس من عدو المسلمين مثل طائر له رأس، وله جناحان وله رجلان، فإن كسر أحد الجناحين نهضت الرجلان بجناح والرأس، فإن كسر الجناح الآخر نهضت الرجلان والرأس، وإن شدخ الرأس ذهبت الرجلان والجناحان والرأس، فالرأس كسرى، والجناح قيصر، والجناح الآخر فارس، فمر المسلمين فلينفروا إلى كسرى.
وقال بكر بن زياد جميعاً عن جبير بن حية قال: فندبنا عمر واستعمل علينا النعمان بن مقرن حتى إذا كنا بأرض العدو، خرج علينا عامل كسرى في أربعين ألفاً، فقام ترجمان فقال: ليكلمني رجل منكم فقال المغيرة بن شعبة: سل عما شئت. قال: ما أنتم؟ قال: نحن أناس من العرب، كنا في شقاء شديد وبلاء شديد، نمص الجلد والنوى من الجوع، ونلبس الوبر والشعر، ونعبد الشجر والحجر، فبينا نحن كذلك إذ بعث رب السموات ورب الأرضين تعالى ذكره وجلت عظمته إلينا نبياً من أنفسنا نعرف أباه وأمه، فأمر نبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية، وأخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن رسالة ربنا أن من قتل منا صار إلى الجنة في نعيم لم ير مثلها قط، ومن بقي منا ملك رقابكم!!
(4/73)
وروى الحاكم رحمه الله هذا الحديث قال: حدثنا علي بن جمشاد العدل، ثنا علي بن عبدالعزيز ثنا حجاج بن منهال ثنا حماد بن سلمة ثنا أبو عمران الجوني، عن علقمة بن عبدالله المزني عن معقل بن يسار أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شاور الهرمزان في أصبهان وفارس وآذربيجان فقال يا أمير المؤمنين: أصبهان الرأس وفارس وآذربيجان الجناحان، فابدأ بأصبهان فدخل عمر بن الخطاب بالمسجد فإذا هو بالنعمان بن مقرن يصلي فانتظره حتى قضى صلاته فقال له: إني مستعملك. فقال: أما جابياً فلا!! وأما غازياً فنعم!! قال: فإنك غاز فسرحه وبعث إلى أهل الكوفة أن يمدوه ويلحقوا به وفيهم حذيفة بن اليمان، والمغيرة بن شعبة، والزبير بن العام، والأشعث بن قيس وعمرو بن معدي كرب، وعبدالله بن عمرو، فأتاهم النعمان وبينه وبينهم نهر، فبعث إليهم المغيرة بن شعبة رسولاً وملكهم ذو الحاجبين فاستشار أصحابه فقال: ما ترون أقعد لهم في هيئة الحرب أو في هيئة الملك وبهجته؟ فجلس في هيئة الملك وبهجته على سريرة، ووضع التاج على رأسه وحوله سماطين عليهم ثياب الديباج والقرط والأسورة، فجاء المغيرة بن شعبة فأخذ بضبعيه، وبيده الرمح والترس والناس حوله سماطين على بساط له، فجعل يطعنه برمحه فخرقه لكلي يتطيروا، فقال له ذو الحاجبين: إنكم يا معشر العرب أصابكم جوع شديد وجهد فخرجتم!! فإن شئتم مرناكم (من الميرة يعني الطعام) ورجعتم إلى بلادكم، فتكلم المغيرة فحمد الله وأثنى عليه وقال: إنا كنا معشر العرب نأكل الجيفة والميتة، وأنه قد وعدنا أن هاهنا سيفتح علينا، وقد وجدنا جميع ما وعدنا حقاً، وإني لأرى ها هنا بزة وهيئة ما أرى من معي بذاهبين حتى يأخذوه، فقال المغيرة: فقالت لي نفسي لو جمعت جراميزك فوثبت وثبة فجلست معه على السرير إذ وجدت غفلة فزجني وجعلوا يحثونه فقلت: أرأيتم إن كنت أنا استحمق فإن هذا لا يفعل بالرسل، وإنا لا نفعل هذا برسلكم إذا أتونا. فقال: إن شئتم قطعتم إلينا(4/74)
وإن شئنا قطعنا إليكم. فقلت: بلى نقطع إليكم، فقطعنا إليهم وصاففناهم فتسلسلوا كل سبعة في سلسلة، وخمسة في سلسلة حتى لا يفروا.
قال: فرامونا حتى أسرعوا فينا فقال المغيرة للنعمان: إن القوم قد أسرعوا فينا فاحمل، فقال: إنك ذو مناقب وقد شهدت مع رسول الله، ولكني أنا شهدت رسول صلى الله عليه وسلم إذا لم يقاتل أول النهار، أخر القتال حتى تزول الشمس وتهب الريح، وينزل النصر.
فقال النعمان: يا أيها الناس اهتز ثلاث هزات فأما الهزة الأولى فليقضي الرجل حاجته، وأما الثانية فلينظر الرجل في سلاحه وسيفه، وأما الثالثة فإني حامل فاحملوا فإن قتل أحد فلا يلوي أحد على أحد، وإن قتلت فلا تلووا علي، وإني داع الله بدعوة فعزمت على كل امرىء منكم لما أمن عليها، فقال: اللهم ارزق اليوم النعمان شهادة تنصر المسلمين، وافتح عليهم. فأمن القوم.. وهز لواءه ثلاث مرات، ثم حمل فكان أول صريع رضي الله عنه فذكرت وصيته فلم ألوي عليه، وأعلمت مكانه فكنا إذا قتلنا رجلاً منهم، شغل عنا أصحابه يجرونه ووقع ذو الحاجبين من بغلته الشهباء فانشق بطنه وفتح الله على المسلمين، وأتيت النعمان وبه رمق، فأتيته بماء فجعلت أصبه على وجهه أغسل التراب عن وجهه، فقال: من هذا، فقلت: معقل بن يسار، فقال: ما فعل الناس. فقلت: فتح الله عليهم. فقال: الحمد لله اكتبوا بذلك إلى عمر، وفاضت نفسه فاجتمع الناس إلى الأشعث بن قيس فقال: فأتينا أم ولده فقلنا: هل عهد إليك عهداً. قالت: لا إلا سفيط له فيه كتاب فقرأته فإذا فيه: إن قتل فلان ففلان، وإن قتل فلان ففلان (المستدرك 3/293).
قلت: فانظر كيف زحف المسلمون وهم قلة قليلة إلى الفرس وهم أضعاف أضعافهم ولكن المسلمين كانوا موقنين بالنصر لأن النبي صلى الله عليه وسلم وعدهم بذلك، والرسول لا يقول إلا حقاً.
إخباره صلى الله عليه وسلم بأنه إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده!!:
(4/75)
قال البخاري رحمه الله: حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله].
وقال البخاري رحمه الله: حدثنا إسحاق سمع جريراً عن عبد الملك عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله]
وأخرجه أيضاً من حديث سماك بن حرب عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [لتفتحن عصابة من المسلمين -أو من المؤمنين- كنز آل كسرى الذي في الأبيض].
قلت: وقد وقع الأمر تماماً كما قال صلى الله عليه وسلم فإنه لم يأت بعد كسرى كسرى غيره، ولما هدمت دولة القياصرة فلم تقم لهم دولة بعد ذلك وإلى يومنا هذا.
فأي دليل أعظم من هذا الدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم يحدث بالوحي الذي لا يعلمه إلا الله، فإنه لم يكن يتصور أحد أن دولة الأكاسرة التي استمرت نحو ألف عام أن يكون سقوطها وزوالها بأيدي المسلمين، وأن الأكاسرة لا يستطيعون، وإلى قيام الساعة أن يعيدوا ملكهم مرة ثانية!!
إخباره صلى الله عليه وسلم بفساد بعض أحوال المسلمين وقتالهم بعضهم بعضاً بعد فتح فارس والروم:
قال مسلم رحمه الله: حدثنا عمرو بن سواد العامري أخبرنا عبدالله بن وهب أخبرني عمرو بن العاص حدثه عن عبدالله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [إذا فتحت عليكم فارس والروم أي قوم أنتم؟] قال عبدالرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أو غير ذلك. تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون أو نحو ذلك، ثم تنطلقون في مساكن المهاجرين فتجعلون بعضهم على رقاب بعض] (مسلم 4/2274).
(4/76)
قلت: وللأسف فقد حدث ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وقتل المهاجرين والأنصار بعضهم بعضاً في الجمل وصفين!! فإنا لله وإنا إليه راجعون!!
ج- النبي صلى الله عليه وسلم يخبر بفتح القسطنطينية:
وقال صلى الله عليه وسلم: [لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى]. فقالت عائشة: يا رسول الله إن كنت لأظن حين أنزل الله {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} أن ذلك تاماً، قال: [إنه سيكون من ذلك ما شاء الله] (رواه مسلم).
وقال صلى الله عليه وسلم: [إن الله زوى (أي جمع وضم) لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها] (رواه مسلم).
وقال صلى الله عليه وسلم: [ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز، أو بذل ذليل عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر]
وعن أبي قبيل قال: كنا عند عبدالله بن عمرو بن العاص، وسئل أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أو رومية؟ فدعا عبدالله بصندوق له خلق، قال: فأخرج منه كتاباً. قال: فقال عبدالله: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب، إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المدينتين تفتح أولاً أقسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مدينة هرقل تفتح أولاً]. يعني قسطنطينية (رواه أحمد والدارمي وغيرهما وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة).
**********
*****
مفصل دلائل النبوة (6)
إخباره صلى الله عليه وسلم بالفتوح التي تفتحها أمته
(2-2)
(1) إخباره صلى الله عليه وسلم ببلوغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار:
(4/77)
لقد حدث النبي صلى الله عليه وسلم بغيوب كثيرة وكلها وقعت كما حدث تماماً. ومما حدث به صلى الله عليه وسلم ما يكون لأمته من الفتح والنصر والتمكين، وكذلك ما يكون فيها من الفتن، والمصائب والرزايا العظيمة. وفي المقال السابق بينا طرفاً مما حدث به النبي صلى الله عليه وسلم من الفتوح العظيمة التي تكون في أمته من بعده، وهذا سرد وبيان لطائفة أخرى من إخبار النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الصدد.
فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم صحابته الذين كانوا يعانون الظلم والاضطهاد، أن الدين الذي جاء به سيعلو كل دين، وأن الله سيبدل الخوف الذي يعيش فيه المسلمون بأمن سابغ تنعم فيه الجزيرة كلها قريباً حتى تسير الظعينة من بصرى الشام، أو من الحيرة في جنوب العراق إلى أن تطوف بالبيت، أو تذهب إلى أقصى الجزيرة في حضرموت بغير جوار، ولا تخاف إلا الله.. وهذا تصوير لمنتهى الأمن واستقرار الأمور وكونها بيد المسلمين الصالحين، وكان هذا عند من لا يصدق بموعود الله ضرباً من الخيال.
(4/78)
وأخبر صلى الله عليه وسلم بالفتوح التي تقع في عهده فتحاً فتحاً، والفتوح الكبرى التي ستفتح بعده فتحاً فتحاً. فمن ذلك ما أخبرهم عن نصر بدر، وأن الله وعده إحدى الطائفتين: إما العير القافلة من الشام، وكان على رأسها أبو سفيان بن حرب، وأما قريش التي خرجت لتحمي تجارتها، وتحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وقع النصر في بدر كما حدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل تفاصيله وجزئياته فقد حدثهم النبي في آخر الأمر وقبيل المعركة بقليل بنتائجها، وكيف أن فلاناً المشرك سيقتل هنا في هذا الموضع، وفلاناً يقتل هنا، وفلاناً سيقتل هنا، وقد وقع الأمر كما حدث به صلى الله عليه وسلم فإن أحداً من القتلى لم يجاوز مكانه الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بجمع قتلى المشركين حيث ألقوا في قليب واحد، وقال لهم ومنادياً إياهم بأسمائهم: يا فلان، ويا فلان. هل رأيتم ما وعد ربكم حقاً، فإني قد رأيت ما وعدني ربي حقاً!! حتى إن أصحابه قالوا له يا رسول الله كيف تخاطب قوماً قد جيفوا!! فقال صلى الله عليه وسلم: [ما أنتم بأسمع لما أقول منهم]!!
وكانت بدر آية وبرهاناً على صدق النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة:
1) منها إخباره بما كان فيها ثم وقوع الأمر كما أخبر به صلى الله عليه وسلم.
2) ومنها أن فئة قليلة لم تخرج لقتال وإنما لغنيمة باردة (لغير ذات الشوكة) فإذا بها تفاجأ بجيش يفوقها ثلاث مرات جاء ليقاتل مفاخراً بقوته، مستنداً إلى خبرته ورجاله الأشداء المتمرسين.
(4/79)
ثم كانت النتيجة عكس ما يتوقعه المتوقعون وعلى خلاف العادة الجارية في أن الكثير يغلب القليل، والقوي يغلب الضعيف. فخرق الله العادة لأهل الإسلام وجعل الضعيف يغلب القوي، والقليل يهزم الكثير، وغير ذوي الخبرة في القتال من صبية الأنصار يقتلون الصناديد من المشركين، فقد قتل أبو جهل بأيدي ولدين صغيرين لا يتجاوز عمر الواحد منهم خمسة عشر عاماً، وهما معاذ ومعوذ أبناء عفراء!! وكذلك حدث الرسول صلى الله عليه وسلم بما يكون في أحد من الكسرة فقال: [رأيت في منامي فلاَّ بذباب سيفي (الفل: الكسر الصغير)، ورأيت بقراً يذبح]!! قالوا فما أولته يا رسول الله؟ قال: [يقتل رجل من أهل بيتي، ويقتل أناس من أصحابي]!!، فكان الأمر كما حدث به تماماً، فقتل حمزة بن عبدالمطلب شهيداً، وقتل سبعون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكانت أحد درساً بليغاً، ومحنة أعقبت خيراً كثيراً، ووقع الأمر كما حدث به النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي الخندق، وقد ضاق الحال، وظهر النفاق، وكُذِّبَ الرسول علناً جهاراً نهاراً فقال المنافقون: يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا، وقالوا: ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً ، وظن الجميع إلا خالص المؤمنين أن الإسلام انتهى وللأبد!! وأن صفحته قد طويت واستئصاله قد حان!! ولكن النبي صلى الله عليه وسلم في وسط هذا الجو المشحون بتكذيبه، والشك في موعود الله أخبرهم بما هو أكبر من هزيمة المشركين في هذه الواقعة.
أخبرهم بفتح كنوز كسرى وقيصر!! وقد ظن المنافقون والمشركون أن هذا هروباً إلى الأمام، ودغدغة للعواطف والأحلام... وكان الأمر يقيناً صادقاً، وحكماً فاصلاً، وردد المسلمون منذ ذلك الوقت وعبر العصور
(لا إله إلا الله وحده، صدق وعده،ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده).
(4/80)
وأخبر النبي أصحابه بدخول مكة معتمرين فدخلوها في السنة السابعة، ووقع صلح الحديبية الذي ظنه المسلمون أنه أعظم هزيمة كلهم، وأعظم كسرة حسوا بها، فقد ظنوا أنهم قبلوا بالدنية وهي أن يتخلوا عمن هاجر إليهم من المسلمين ويردوه إلى الكفار، وهذا من الذل والدنية، والعرب لا ترض أن يسلم العربي جواره، ويفرط فيمن يستغيث به، ويلوذ إليه، ولكن النبي أخبرهم أن هذا الصلح هو أعظم فتح في الإسلام، وقد كان، فلم يكن فتح أكبر منه. قال تعالى: (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً* ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيماً* وينصرك الله نصراً عزيزاً}.
وقال جل وعلا: {لقد صدق الله ورسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون، فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً}. وكذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم صحابته أنهم يفتحون خيبر، وأن غنيمتها تكون لمن خرج معه في غزوة الحديبية فقط، وقد وقع الأمر كما حدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم تماماً. قال تعالى: {سيقول المخلفون من الأعراب إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم} الآية. والمغانم هنا فتح خيبر، وقد أخبر الله رسوله بذلك، قبل أن يتوجه إلى خيبر، وأخبره بما سيقوله المخلفون وبماذا يرد عليهم، ووقع الأمر كما حدث النبي صلى الله عليه وسلم تماماً.
(4/81)
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أصحابه بما تملك أمته من بعده فذكر فتح بلدان بأسمائها فارس والروم، ومصر، والقسطنطينية، وروما، ومشارق الأرض ومغاربها، ودخول الإسلام كل بيت في الأرض، وعلو الإسلام على الأديان كلها، وخضوع الجميع من أقصى الأرض إلى أقصاها لسلطانه. وقد وقع من هذا ما شاء الله أن يقع كما حدث به النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ما لم يقع فهو بسبيل الوقوع على النحو الذي حدث به تماماً صلى الله عليه وسلم. وحدث النبي أمته كذلك أنه بعد الفتوح العظيمة، والنصر الكبير سيعود بهم القهقرى حتى ترجع الجاهلية الأولى إلى جزيرة العرب نفسها قلب الإسلام، فتعبد اللات والعزى من جديد، وتضطرب إليات نساء دوس حول ذي الخلصة.
قال صلى الله عليه وسلم: [لن تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دوس حول ذي الخلصة]. وكذلك يرفع القرآن، وتهدم الكعبة، ولا يبقى في الأرض من يقول: الله!! الله!! ولا شك أن كل ذلك كان على النحو الذي حدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه بعض الروايات في الفتوح:
قال صلى الله عليه وسلم: [إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها] (رواه مسلم). وقال أيضاً: [ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر] (انظر تخريجه الأحاديث الصحيحة للألباني رقم 3).
(2) عودة العرب إلى الجاهلية في آخر الزمان:
(4/82)
وقال صلى الله عليه وسلم: [لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى]. فقالت عائشة: يا رسول الله إن كنت لأظن حين أنزل الله {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} أن ذلك تاماً، قال: [إنه سيكون من ذلك ما شاء الله] (رواه مسلم ). قوله صلى الله عليه وسلم: [لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى] أي أنه لن ينقضي الزمان حتى يعود العرب مرة ثانية إلى عبادة اللات والعزى، ولكن ذلك في آخر الزمان كما قال صلى الله عليه وسلم: [لن تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دوس حول ذي الخلصة] (ودوس قبيلة عربية) (وذي الخلصة كان صنماً من أصنامهم في الجاهلية). ومعنى تضطرب إليات نساء دوس: أي وهم يطفن حول هذا الصنم.
وهذا إخبار منه بعودة الجاهلية إلى العرب في آخر الزمان، وعبادة ما كانوا يعبدون من الأصنام، ولكن هذه العودة لا تكون إلا بعد تمام الدين، ودخول الإسلام إلى كل مكان في الأرض، ودخوله كل بيت.
(3) إخباره بفتح القسطنطينية وروما:
(4/83)
فمن الفتوح الكبرى التي حدث بها رسول الله وبشر بها أمته فتح عاصمتي النصرانية القسطنطينية: عاصمة الكنيسة الشرقية. وروما: عاصمة الكنيسة الغربية.. وقد وقع الفتح الأول بعد ست قرون من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم كما أخبر به تماماً، وسيقع الفتح الثاني بإذن الله ومشيئته التي لا ترد، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. فعن أبي قبيل قال: كنا عند عبدالله بن عمرو بن العاص، وسئل أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أو رومية؟ فدعا عبدالله بصندوق له خلق، قال: فأخرج منه كتاباً. قال: فقال عبدالله: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب، إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المدينتين تفتح أولاً أقسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مدينة هرقل تفتح أولاً]. يعني قسطنطينية (رواه أحمد والدارمي وغيرهما وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة).
فأي دليل أكبر من هذا من أدلة نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم؟!
(4) إخباره صلى الله عليه وسلم بغزو أمته في البحر:
(4/84)
وقد فصل النبي صلى الله عليه وسلم تسلسل الأحداث، فأخبر أن أمته ستغزو في البحر: قال البخاري رحمه الله: حدثنا عبدالله بن يوسف عن مالك عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سمعه يقول: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعمته وجعلت تفلي رأسه فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استيقظ وهو يضحك قالت فقلت: وما يضحكك يا رسول الله!! قال: [ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج البحر ملوكاً على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة -شك إسحاق-] قالت فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وضع رأسه ثم استيقظ وهو يضحك، فقلت وما يضحكك يا رسول الله؟ قال: [ناس من أمتي عرضوا على غزاة في سبيل الله –كما قال في الأول] قالت: فقلت: يا رسول الله: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: [أنت من الأولين]!! فركبت البحر في زمن معاوية بن أبي سفيان، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت (أخرجه مسلم 3/1518).
قلت: وقبر أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها معروفاً بجزيرة قبرص إلى اليوم!!
قال البخاري رحمه الله: حد ثنا إسحاق بن يزيد الدمشقي حدثنا يحيى بن حمزة قال حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان أن عمير بن الأسود العنسي حدثه: أنه أتى عبادة بن الصامت وهو نازل في ساحة حمص وهو في بناء له ومعه أم حرام. قال عمير: فحدثتنا أم حرام أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا]. قالت أم حرام: قلت يا رسول الله أنا فيهم؟ قال: [أنت فيهم]، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: [أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم]. فقلت: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال:[لا].
قلت: مدينة قيصر هي القسطنطينية.
(4/85)
(5) إخباره صلى الله عليه وسلم بفتح مصر:
قال مسلم رحمه الله: حدثني أبو الطاهر أخبرنا ابن وهب أخبرني حرملة (ح) وحدثني هارون بن سعيد الأيلي حدثنا ابن وهب حدثني حرملة وهو ابن عمران التجيبي عن عبدالرحمن بن شماسة أرضاً يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيراً، فإن لهم ذمة ورحماً، فإذا رأيتم رجلين يقتتلان في موضع لبنة فاخرج منها. قال: فمر بربيعة وعبدالرحمن ابني شرحبيل بن حسنة يتنازعان في موضع لبنة فخرج منها. حدثني زهير بن حرب وعبيد الله بن سعيد قالا حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي سمعت حرملة المصري يحدث عن عبدالرحمن بن شماسة عن أبي بصرة عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنكم ستفتحون مصر وهي أرض يسمى فيها القيراط فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحماً، أو قال: ذمة وصهراً، فإذا رأيت رجلين يختصمان فيها في موضع لبنة فأخرج منها]. قال: فرأيت عبدالرحمن بن شرحبيل بن حسنة وأخاه ربيعة يختصمان في موضع لبنة فخرجت منها.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله في مشكل الآثار: إسحاق بن إبراهيم بن يونس البغدادي قد حدثنا قال حدثنا محمد بن الصباح قال حدثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن الزهري عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [إن فتحتم مصراً فاستوصوا بالقبط فإن لهم ذمة ورحماً]. ثم قال الطحاوي رحمه الله: ووجدنا إسحاق أيضاً قد حدثنا قال حدثنا الوليد بن شجاع بن الوليد قال حدثني الوليد بن مسلم ثم ذكر بإسناده مثله. ووجدنا إسحاق قد أخبرنا قال حدثنا محمد بن مسلم بن وارة قال حدثني محمد بن موسى بن أعين قال ثنا أبي عن إسحاق بن راشد عن عبدالرحمن بن كعب عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو وزاد فيه: [إن أم إسماعيل منهم] (أي هاجر عليها السلام).
(4/86)
الحديث أخرجه الحاكم فقال: أخبرنا أبو بكر بن إسحاق أنبأ الحسن بن علي بن زياد ثنا إبراهيم بن موسى ثنا هشام بن يوسف عن معمر عن الزهري عن ابن كعب بن مالك عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا فتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيراً فإن لهم ذمة ورحماً]. قال الزهري: فالرحم أم إسماعيل منهم. قلت: وهي أم جميع العرب الذين تناسلوا من إسماعيل عليه السلام وهم العدنانيون والقحطانيون جميعاً، فالصحيح أن العدنانيين والقحطانيين كلهم من نسل إسماعيل لقوله صلى الله عليه وسلم للقحطانيين: [ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً] (رواه البخاري).
(6) إخباره صلى الله عليه وسلم بفتح خيبر على يدي علي رضي الله عنه ثم إخراج اليهود منها:
(4/87)
قال البخاري رحمه الله: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ابن إسماعيل عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: كان علي رضي الله عنه تخلف عن رسول الله في خيبر، وكان به رمد. فقال: أنا أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم! فخرج علي فلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان مساء الليلة التي فتحها في صباحها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لأعطين الراية، أو قال: ليأخذن غداً رجل يحبه الله ورسوله] أو قال: [يفتح الله عليه]، فإذا نحن بعلي وما نرجوه، فقالوا: هذا علي، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ففتح الله عليه (أخرجه مسلم 4/1872). قال مسلم رحمه الله: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا يعقوب يعني ابن عبدالرحمن القاري عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: [لأعطين هذه الراية رجلاً يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه]. قال عمر بن الخطاب: وما أحببت الإمارة إلا يومئذ، قال: فتساورت لها رجاء أن ادعى لها، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، فأعطاه إياها، وقال: [امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك] قال: فسار علي شيئاً ثم وقف ولم يلتفت، فصرخ: يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس؟ قال: [قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله].
(7) إخباره صلى الله عليه وسلم بإخراج اليهود من خيبر:
(4/88)
قال البخاري رحمه الله: حدثنا أبو محمد حدثنا محمد بن يحيى أبو غسان الكناني أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه قال: لما فدعأهل خيبر عبدالله بن عمر قام عمر خطيباً فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل يهود خيبر على أموالهم وقال: نقركم ما أقركم الله، وإن عبدالله بن عمر خرج إلى ماله هناك فعدى عليه من الليل ففدعت يداه ورجلاه وليس لنا هناك عدو غيرهم، هم عدونا وتهمتنا، وقد رأيت إجلاءهم. فلما أجمع عمر على ذلك أتاه أحد بني أبي الحقيق فقال: يا أمير المؤمنين أتخرجنا وقد أقرنا محمد صلى الله عليه وسلم وعاملنا على الأموال وشرط ذلك لنا؟ فقال عمر: ظننت أني نسيت قول رسول الله: [كيف بك إذا أخرجت من خيبر تعدو بك قلوصك ليلة بعد ليلة؟] فقال: كان ذلك هزيلة من أبي القاسم. فقال: كذبت يا عدو الله، فأجلاهم عمر وأعطاهم قيمة ما كان لهم من الثمر مالاً وإبلاً وعروضاً من أقتاب وحبال وغير ذلك (رواه حماد بن سلمة عن عبدالله أحسبه عن نافع عن ابن عمر عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم).
(8) إخباره صلى الله عليه وسلم بفتح الأمصار وخروج أصحابه تاركين المدينة إليها:
(4/89)
قال البخاري رحمه الله: حدثنا عبدالله بن يوسف أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبدالله بن الزبير عن سفيان بن أبي زهير رضي الله عنه أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [تفتح اليمن فيأتي قوم يبسُّون، فيتحملون بأهلهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتفتح العراق فيأتي قوم يبسُّون فيتحملون بأهلهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون] (أخرجه مسلم ). قال الإمام مسلم رحمه الله: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبدالعزيز يعني الدراوردي عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه: هلم إلى الرخاء، هلم إلى الرخاء، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، والذي نفسي بيده لا يخرج منها أحد رغبة عنها إلا أخلف الله فيها خيراً منه، ألا إن المدينة كالكير تخرج الخبيث، لا تقوم الساعة حتى تنفى المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد].
(9) إخباره صلى الله عليه وسلم بقتال اليهود آخر الزمان:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود حتى يقول الحجر وراءه اليهودي: يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله] (متفق عليه). قلت وهذا من الفتوح التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تقع بعد، وسيكون الأمر كما حدث به صلى الله عليه وسلم تماماً، وسيكون هذا آية لمن يراها من المسلمين، وليقول كل جيل من أجيال المسلمين كلما رأوا آية نشهد أن لا إله إلا الله، ونشهد أن محمداً رسول الله!!
**********
*****(4/90)
الحياة الدنيوية لصفوة خلق الله محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه
كانت الحياة الدنيوية لأشرف الرسل، وأكرم خلق الله، وخير البرية محمد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه، مثالاً وبرهاناً أن الله لا يختار الدنيا لأوليائه وأحبابه، وإنما يختار لهم الآخرة {وللآخرة خير لك من الدنيا}.
وكانت كذلك سلسلة متواصلة من الاختبارات والابتلاءات.
فقبل الرسالة نشأ النبي صلى الله عليه وسلم في أسرة فقيرة فقد مات أبوه قبل أن يولد، ولم يترك له من الميراث إلا أمة هي أم أيمن رضي الله عنها.
وقد عانت أمه حتى وجدت مرضعاً له، وبقي في كفالة جده عبدالمطلب ثم لم تلبث والدته حتى توفيت وهو طفل صغير، ثم تبعها جده عبدالمطلب، فانتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى كفالة عمه أبي طالب، الذي كان فقيراً، كثير الأولاد، وهكذا نشأ النبي يتيماً فقيراً قد من الله عليه بالمأوى عند جده، ثم عمه. قال تعالى {ألم يجدك يتيماً فآوى}.
وعمل النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام أجيراً في رعي غنم الأثرياء من أهل مكة فقال: [رعيت الغنم على قراريط لبعض أهل مكة]، والقيراط عمله صغيرة في قيمة الفلس.
ولما شب لم يكن له مال ليتاجر فيه كأهل مكة الذين كانت التجارة هي عملهم الأساس. فإن مكة ليست ببلد زرع، وإنما عيش أهلها على التجارة واستجلاب البضائع، والبيع في أسواق الحج.. وقد عمل النبي صلى الله عليه وسلم بالتجارة مرات قليلة في مال خديجة بنت خويلد رضي الله عنها. وكان أهل مكة يقارضون بأموالهم. (والقراض أن يعطي رب المال ماله للعامل ليتاجر فيه ثم يكون الربح بينهما وإذا وقعت الخسارة وقعت في المال وخسر العامل عمله)، وهذه المعاملة التي كان أهل الجاهلية يتعاملون بها جاء الإسلام وأقرها، فهي صورة من صورة الشركة في الإسلام.
ولم يتوغل النبي في التجارة، ولا كانت هماً له.
(4/91)
وبعد أن تزوج من خديجة رضي الله عنها، انصرف إلى العزلة والتعبد، فكان يأخذ زاده من طعام وشراب، ويخرج خارج مكة، وقد اختار جبل حراء الذي وجد كهفاً (مغارة) في أعلاه سكنها النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يمكث فيها الليالي ذوات العدد حتى إذا فنى الطعام الذي معه، ونفذ الماء رجع إلى مكة مرة ثانية، ثم يكون من شأنه أن يتزود من الطعام والشراب لأيام أخرى يقضيها وحده في غار حراء.
ووجد صلى الله عليه وسلم في هذه الخلوة راحته وسعادته واطمئنان قلبه، وحببت إليه هذه الخلوة والابتعاد عن الناس، ومن كان في مثل هذه الحال فإن الدنيا لا تكون له على بال.
وكان هذا إعداداً من الله له ليحمل بعد ذلك ما لا تستطيع حمله الجبال.
وأتاه الوحي من الله، وحمله الله سبحانه وتعالى رسالته إلى العالمين، وأمره بإبلاغ دينه إلى الناس كافة في الأرض كلها.
وهذه الرسالة تبديل كامل لما عليه الأمم كلها من العقائد والنظم والتشريع والآداب والأخلاق، وفيها إكفار أهل الأرض كلهم: اليهود والنصارى والعرب المشركين والمجوس، وتسفيه لأحلامهم وحكم عليهم بالنار والعذاب والخسران هم ومن مضى من آبائهم إن ظلوا على ما هم عليه من الدين والخلق والسلوك والتشريع..
ومع ضخامة هذه المهمة وثقلها، وتكاليفها الباهظة فإن الله سبحانه وتعالى لم يضع تحت يد النبي صلى الله عليه وسلم كنزاً من المال ينفق منه، ولا وسيلة معجزة خارقة للعادة تحمله هنا وهناك ليبلغ رسالة ربه، بل ولم يرفع عنه السعي الواجب ليكسب عيشه وعيش أولاده، وكان صلى الله عليه وسلم قد رزق بولدين القاسم وعبدالله ماتا سريعاً، وبأربعة من البنات هن زينب،ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، عليهن السلام جميعاً ظللن في كنفه. والبنت ليست كاسبة.
وكان على النبي صلى الله عليه وسلم الذي حمل هذه الأمانة العظمى أن يسعى فيها وأن يجد ويجتهد، فانتهى بذلك عهد السكون والخلوة والسلامة من الناس والبعد عن شرورهم..
(4/92)
يوم الطائف!! وما لقي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ولم يجد النبي صلى الله عليه وسلم من ماله في هذا الوقت دابة يركبها، ولو حماراً يحمله إلى مكان بعيد عن مكة ليبلغ رسالة ربه، ولما أراد الذهاب إلى الطائف لم يجد إلا قدميه، وعندما رآه أهل الطائف وهم أهل الغنى والثراء، وقد أتاهم من مكة ماشياً، وليس معه أحد.. لا صديق، ولا مرافق، ولا خادم، يقوم بخدمته.. ثم يقول لهم بعد ذلك [أنا رسول رب العالمين]!!، استنكروا هذا جداً، ولم تتقبل عقولهم المريضة، ونفوسهم الخسيسة أن يكون هذا الذي أمامهم وهو على تلك الحال من الضعف والفقر هو رسول الله حقاً وصدقاً، إذ كيف يكون رسول الله خالق الكون الذي يكلفه بالبلاغ للناس جميعاً، ولا يضع له ولو ردابة في الخدمة ليبلغ عليها رسالة ربه!!
وكان من شأنهم ما قصه النبي صلى الله عليه وسلم عندما سألته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قائلة: هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال: [لقيت من قومك ما لقيت!! وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذا عرضت نفسي على ابن عبدياليل بن عبدكلال، فلم يجبني إلى ما أردت -فانطلقت وأنا مهموم- على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب -وهو المسمى بقرن المنازل- فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم!! فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمد، ذلك!! فما شئت؟! إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين - أي لفعلت، (والأخشبان هما جبلا مكة، أبو قبيس والذي يقابله وهو قعيقعان) - قال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئاً].(متفق عليه)
(4/93)
وقد روى ابن اسحاق هذه الحادثة بتفصيلاتها فقال: لما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله من الأذى ما لم تكن نالته منه في حياة عمه أبي طالب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة والمنعة بهم من قومه، ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله تعالى، فخرج إليهم وحده!!
فحدثني يزيد بن أبي زياد عن محمد بن كعب القرظي. قال: انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وعمد إلى نفر من ثقيف هم سادة ثقيف. وأشرافهم وهم إخوة ثلاثة: عبدياليل، ومسعود، وحبيب بنو عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة بن عوف بن ثقيف وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إليهم فدعاهم إلى الله وكلمهم لما جاءهم له من نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه.
فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك!! وقال الآخر: أما وجد الله أحداً أرسله غيرك!! وقال الثالث: والله لا أكلمك أبداً لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام!! ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك!!
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف، وقد قال لهم -فيما ذكر لي- إن فعلتم ما فعلتم بي فاكتموا علي، وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه عنه فيذئرهم ذلك عليه.
وألجئوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما فيه، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه. فعمد إلى ظل حبله من عنب جلس فيه وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما يلقى من سفهاء أهل الطائف، قد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما ذكر لي- المرأة التي من بني جمح، فقال لها: ماذا لقينا من أحمائك!!
(4/94)
فلما أطمأن قال -فيما ذكر- [اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي إلى من تكلني؟! إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو تحل علي سخطك. لك العتبى حتى ترضى لا حول ولا قوة إلا بك].
قال: فلما رآه ابنا ربيعة عتبة وشيبة، وما لقي تحركت له رحمهما فدعوا غلاماً لهما نصرانياً يقال له عداس وقالا له: خذ قطفاً من هذا العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه. ففعل عداس ثم ذهب به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال له كل، فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فيه قال: [بسم الله] ثم أكل، ثم نظر عداس في وجهه ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ومن أهل أي بلاد أنت يا عداس؟ وما دينك]، قال: نصراني وأنا رجل من أهل نينوى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من قرية الرجل الصالح يونس بن متى]، فقال له عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ذلك أخي كان نبياً وأنا نبي]، فأكب عداس على رسول الله يقبل رأسه ويديه وقدميه. قال يقول أبناء ربيعة لأحدهما لصاحبه: أما غلامك فقد أفسده عليك!!
فلما جاء عداس قالا له: ويلك يا عداس!! ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي قالا له: ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك فإن دينك خير من دينه.
(4/95)
وقد ذكر موسى بن عقبة نحواً من هذا السياق إلا أنه لم يذكر الدعاء وزاد، وقعد له أهل الطائف صفين على طريقه، فلما مر جعلوا لا يرفع رجليه، ولا يضعهما إلا رضوخهما بالجحارة حتى أدموه فخلص منهم وهما يسيلان الدماء فعمد إلى ظل نخلة وهو مكروب، وفي ذلك الحائط عتبة وشيبة أبناء ربيعة، فكره مكانهما لعداوتهما الله ورسوله.
النبي صلى الله عليه وسلم يستدين ثمن الراحلة التي يهاجر عليها إلى المدينة:
ولما أذن الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بالهجرة بعد أن أجمعت قريش أمرها على قتله، رأت أن هذا هو السبب الوحيد الذي يمكن أن يوقف دعوته، وأن نفيه خارج مكة أو حبسه فيها، لن يمنع من انتشار دعوته في مكة وخارجها.. أقول لما عزم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج مكة وأذن الله له في الخروج منها لم يكن يملك راحلة يركبها، وهو رسول رب العالمين، الذي له ملك السموات والأرضين، ولما عرض النبي صلى الله عليه وسلم أمر الهجرة على الصديق أبي بكر رضي الله عنه، فرح أبو بكر بذلك فرحاً شديداً، وكان يعلم أنه لا بقاء له والرسول صلى الله عليه وسلم بمكة بعد أن اشتد على المسلمين الأذى وهاجر عامتهم إلى الحبشة، ولم يبق إلا من له عهد مع قريش أو عصبة قوية تحميه، وكان أبو بكر قد اشترى راحلتين من ماله، وكان تاجراً ميسوراً فعرض على النبي صلى الله عليه وسلم إحداهما ليهاجر عليها فقبلها النبي بثمنها.
الصديق يرتب أمر الهجرة خطة ومالاً:
ورتب أبو بكر شأن الهجرة كله، الرواحل، والزاد، ودليل الطريق (عبدالله بن أريقط) وكان غلاماً للصديق، والاختفاء في نواحي مكة حتى يخف الطلب ويأمن الطريق، وكيفية وصول الزاد إليهما، ومعرفة أخبار قريش مدة الاختفاء حتى يخف الطلب، فقد كان رأس أبي بكر مطلوباً مع رأس النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قريش جعلت مائة من الإبل لمن أتاها بالنبي أو صاحبه حياً أو ميتاً.
(4/96)
وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على الصديق الذي لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم من أهل الأرض كلهم ناصر بعد الله إلا هو، الذي رافقه في هجرته جاعلاً حياته مع حياة النبي صلى الله عليه وسلم وروحه دون روحه. قال تعالى: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذي كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا...} الآية
وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لا يحمل مالاً ولا متاعاً، والراحلة التي حملته كانت من مال الصديق ديناً على النبي صلى الله عليه وسلم، وحق للنبي صلى الله عليه وسلم قبل موته أن يذكر الصديق مشيداً بمنزلته وفضله فيقول: [إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الرحمن] (متفق عليه)
النبي صلى الله عليه وسلم ينزل المدينة بلا مال أم متاع:
ويسكن النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وينزل أولاً ضيفاً على أبي أيوب الأنصاري، ثم يعرض شراء أرض المسجد وكانت خربة فيها قبور لبعض المشركين، وبقايا نخل لا يثمر، فيقول أصحاب الأرض: والله لا نقبل ثمنها إلا من الله!!
فيكون وقفهم هذا أعظم وقف في الإسلام (المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم) ويشتري النبي بجوار المسجد أرضاً يقيم فيها حجرات لزوجاته. كانت الحجرة لا تسعه قائماً يصلي، وتسع امرأته. قالت أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها: (كنت أنام في قبلة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قائم يصلي من الليل فإذا أراد أن يسجد غمزني فقبضت رجلي فإذا قام بسطتهما). (متفق عليه) وهذا من ضيق المكان.
فهل تتصور الآن غرفة لا تسع مصل ونائم!!
أنس بن مالك أعظم هدية في الإسلام:
(4/97)
ولما سكن الرسول بيته جاءته أم سليم الأنصارية الصحابة العابدة الفقيهة الحصيفة كاملة الدين والعقل فأهدت له ابنها، وقالت: يا رسول الله هذا خادمك أنس!!، فكان أنس بن مالك رضي الله عنه خادم النبي صلى الله عليه وسلم لعشر سنين!! لم يعرف خادم في الدنيا أشرف ولا أجل ولا أعظم منه فشرف الخادم بشرف المخدوم، وهل أجل وأعظم وأشرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولو قدر لنا أن نرى خادم رسول الله لخدمناه لخدمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
منزل بلا أثاث أو رياش:
وعاش النبي صلى الله عليه وسلم في منزل لا يعرف الأثاث ولا الرياش، فلم يكن فيه بساط قط، ولا كان يستر حيطانه من الطين شيء من الأصباغ بل ولا تسويه بالملاط.
ولما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم عدي بن حاتم الطائي وهو ملك طيء وسيدهم وحبرهم، وقد علق صليباً من الذهب في صدره، واستضافه النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزله لم يجد النبي صلى الله عليه وسلم ما يقدم لضيفه ليجلس عليه إلا وسادة واحدة من ليف وضعها النبي صلى الله عليه وسلم لضيفه ليجلس عليها، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأرض!!
منزل بلا مطبخ ولا نار!!
ولم يعرف بيت النبي صلى الله عليه وسلم مطبخاً قط، ولا كان فيه فرن قط، وكان يمر شهران كاملان ولا يوقد في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم نار قط، وكان يعيشون الشهر والشهرين على الماء والتمر فقط.. قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: كنا نتراءى الهلال والهلال والهلال ثلاثة أهلة في شهرين، ولا يوقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار!! قيل: فما كان طعامكم. قالت: الأسودان: التمر والماء!!!
ولم يكن يجد آل محمد صلى الله عليه وسلم التمر في كل أوقاتهم، بل كان رسول الله يمضي عليه اليوم واليومين وهو لا يجد من الدقل (التمر الردئ) ما يملأ به بطنه.
(4/98)
ولم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبز الأبيض النقي قط، وسأل عروة بن الزبير رضي الله عنه خالته عائشة رضي الله عنها هل أكل رسول الله خبز النقي؟ فقالت: ما دخل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منخلاً قط، ولا رأى رسول الله منخلاً قط.. قال: فكيف كنتم تأكلون الشعير؟ قالت: كنا نطحنه ثم نذريه (مع الهواء) ثم نثريه ونعجنه!! ومع ذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشبع من خبز الشعير هذا يومين متتالين حتى لقي الله عز وجل!!
قالت أم المؤمنين رضي الله عنها: ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتالين حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكانت تمر الأيام على أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجدون ما يأكلونه لا تمراً ولا شعيراً إلا الماء.
ولقد جاء للنبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله أنا ضيفك اليوم!! فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى تسع زوجات عنده، ترد كل واحدة منهن (والله ما عندنا ما يأكله ذو كبير!! والمعنى من طعام يمكن أن يأكله إنسان أو حيوان) فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن أخذه إلى المسجد عارضاً ضيافته على من يضيفه من المسلمين فقال: [من يضيف ضيف رسول الله!!]
وأقول: الله أكبر!! رسول رب العالمين، ومن له خزائن السموات والأراضين لا يوجد في بيته خبزة من شعير أو كف من تمر يقدمه لضيفه!!
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد الذي أرسلته رحمة للعالمين وسيداً للبشر أجمعين، وأعليت ذكره في الأولين والآخرين، واحشرني تحت لوائه يوم الدين.
وعاش النبي صلى الله عليه وسلم حياته لم يجلس في طعامه على خوان قط، ولا أكل في (سكرجة) قط (السكرجة: هي الصحون الصغيرة) ولم يعرف لا هو ولا أصحابه المناديل التي يجفف بها الأيدي بعد الطعام قط.
هذه ثياب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:
(4/99)
وكان عامة أصحابه لا يجد أحدهم إزاراً ورداءاً معاً، بل عامتهم من كان له إزار لم يكن له رداء، ومن كان له رداء لم يكن له إزار!!
وكان يستحيون من رقة حالهم إذا جلسوا أو مشوا أن تظهر عوراتهم!!
وكان يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلوا وليس لإحدهم إلا الإزار أن يخالف بين طرفيه ويربطه في رقبته على عاتقيه!! حتى لا يسقط إزاره وهو يصلي!!
وفي عهد التابعين رأى أحدهم جابر بن عبدالله الأنصاري يصلي في إزار قد عقده من قبل قفاه!! وثيابه موضوعة على المشجب فقال له: تصلي في إزار واحد؟! فقال: إنما صنعت ذلك ليراني أحمق مثلك!! وأينا كان له ثوبان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
واختار النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيش حياته كلها متخففاً من الدنيا، مقبلاً على الآخرة، ولما فتحت له الفتوح، وكان له الخمس من مال بني النضير وخمس الخمس من خيبر، والخمس من فدك وكلها أراض ترد غلات كبيرة جعل كل ذلك في سبيل الله، وجاءته نساؤه يطلبن التوسعة في النفقة، فأنزل الله سبحانه وتعالى عليه {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً}
ولما نزلت هذه الآية على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلم أن هذا الخيار قد يصعب على بعض زوجاته، وكان صلى الله عليه وسلم يحب عائشة رضي الله عنها، وكانت في وقت نزول هذه الآية طفلة صغيرة لم تكمل الحادية عشرة من عمرها.
فبدأ النبي بها صلى الله عليه وسلم وقال لها: [يا عائشة إني عارض عليك أمراً فلا تستعجلي فيه حتى تستأمري أبويك!!]
(4/100)
وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أن أبويها لا يمكن أن ينصحا لها بفراق النبي صلى الله عليه وسلم!! فلما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم عليها الآية وفيها تخيير بين الحياة مع النبي مع التقشف والتخفف من الدنيا، وترك التوسع فيها، وبين الطلاق. قالت: يا رسول الله أفيك أستأمر أبوي!! بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة!!
الله أكبر... ما أعظم هذا!! هذه عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فتاة لم تبلغ الحادية عشرة من عمرها... أي فقه وفهم ورجاحة عقل ودين كانت تحمله هذه الحِصَان الرازن الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها. ثم قالت عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: ولكن يا رسول الله لا تخبر أحداً من زوجاتك بالذي اخترته!!
ومرة ثانية أقول الله أكبر... عائشة أم المؤمنين التي اختارت الله ورسوله والدار الآخرة وآثرت الحياة مع النبي صلى الله عليه وسلم مع الزهد والتقشف والتقلل من الدنيا يظهر فيها كذلك معاني الأنثى الكاملة، والزوجة الغيور المحبة لزوجها التي تريد أن تستأثر به (وفضل عائشة على سائر النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) ، وترجو أن يسقط في الاختبار غيرها من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم!!
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لها: [لا تسألني واحدة منهن عما اخترتيه إلا قلت لها!!]
نعم المعلم أنت يا رسول الله!! فقد كنت كاملاً في كل نواحيك!!
فأنت خير زوج لأزواجك، وخير صديق لأصدقائك، وخير صاحب لأصحابك، وخير شريك لشركائك، وخير جار لجيرانك، وفي النهاية خير رسول لأمته. فصلى الله عليك وعلى آلك وأزواجك الطيبين الطاهرين الذين صحبوك في هذه الحياة الدنيا على أتم صحبة، فكانت زوجاتك الطيبات الطاهرات خير النساء، ومن أجل ذلك جعلهن الله أمهات لكل مؤمن بمنزلة الأم الرؤوم الحنون. كما كنت يا رسول الله أباً لكل مؤمن بمنزلة الوالد الرؤوف الرحيم {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهن}
(4/101)
وفارقرسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا يوم فارقها وهو في ثوبه الخشن، ومنزله المتواضع، عيشه الكفاف، ولم يترك ديناراً ولا درهماً بل مات وهو مدين بثمن ثلاثين صاعاً من شعير طعاماً لأهل بيته كان قد اشتراها من يهودي ورهنه النبي درعه!!
وأخرجت عائشة رضي الله عنها للناس رداءاً وكساءاً غليظاً فقالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين!!
فسلام الله عليك ورحمته وبركاته عليك يا رسول في العالمين.
*********
****(4/102)
المعنى التفصيلي لتسبيح الله جل وعلا
الإيمان حمد وتسبيح:
الإيمان بالله سبحانه وتعالى يشتمل على أمرين: الحمد والتسبيح، فالحمد هو الثناء على الله سبحانه وتعالى بما هو أهله. والتسبيح هو تنزيه الله جل وعلا عما لا يليق به، ولا هو من صفته وفعله جل وعلا، وإن شئت فقل الإيمان نفي وإثبات: فالنفي معناه تنزيه الله عما لا يليق به، والإثبات هو الثناء على الله جل وعلا بما يتصف به من الصفات والأفعال والذات.
لا يحيط بالله علماً إلا الله:
فأما محامد الله سبحانه وتعالى فإنه لا يحيط بها إلا الله، لأنه لا يعلم من هو الله على الحقيقة إلا الله، وأما الخلق من الملائكة والجن والإنس فإن عقولهم لا يتسع علمها للإحاطة بالله علماً، قال جل وعلا عن ملائكته: {يعلم ما بين أيديهم ما خلفهم ولا يحيطون به علماً}.
فالملائكة المقربون بالله جل وعلا لا يحيطون علماً بالله، فالله سبحانه وتعالى أجل وأعظم وأكبر من أن يحيط أحداً علماً به، وأما هو سبحانه وتعالى فقد وسع كل شيء علماً فما من ذرة فما فوقها خلقها الله في السموات والأرض إلا وهو يعلمها منذ برأها، ويعلم كل ما يجري عليها من التصريف والتحويل لحظة بلحظة... قال تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين}، بل وما لم يخلقه الله قد أحاط الله علماً به إذا كان كيف يكون.
(4/103)
وهذه الصفة وحدها من صفات الله كافية لإعلام العباد أن الله سبحانه وتعالى لا يمكن لخلقه أن يحيطوا علماً به، إذ كيف يمكن تصور علم الله للموجودات، وهذه الموجودات هي من الاتساع والكثرة، وتقلب الأحوال ما لا يمكن لعقل حدة أو معرفة مقداره، وهل يتسع عقل في السماوات والأرض أن يحيط علماً بهذا الكون الفسيح الذي لا يعلم البشر لليوم له نهاية وحدّاً... فإذا كانت عقول البشر لا تسع أن تعلم الموجود، فكيف تسع من وسع علمه كل الوجود {يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير}. وقال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه}. وقال تعالى: {إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليماً غفوراً}، وقال تعالى: {وما قدروا الله حق قدره، والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} فكيف يمكن للمخلوق الصغير الضعيف أن يحيط علماً بالإله العلي الكبير الذي مثل السموات والأرض في كفه سبحانه كخردلة في كف إنسان (ولله المثل الأعلى).
والذي قال عن نفسه: {يوم نطوى السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين}.
قال الإمام البخاري رحمه الله في قوله تعالى {وما قدروا الله حق قدره} حدثنا آدم حدثنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن عبيدة عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إنا نجد أن الله عز وجل يجعل السموات على أصبع والأرضين على أصبع، والشجر على أصبع والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع فيقول: أنا الملك. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة}.
(4/104)
وقد رواه الإمام أحمد من طريق أخرى بلفظ آخر أبسط من هذا السياق وأطول فقال حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة عن عبيد الله بن مقسم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هكذا بيده يحركها يقبل بها ويدبر [يمجد الرب نفسه أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم] فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر حتى قلنا ليخرن به.
وقد رواه مسلم والنسائي وابن ماجه من حديث عبدالعزيز بن أبي حازم زاد مسلم عن عبيدالله بن مقسم في هذا الحديث أنه نظر إلى عبدالله بن عمر رضي الله عنهما كيف يحكى النبي صلى الله عليه وسلم قال يأخذ الله تبارك وتعالى سمواته وأرضه بيده ويقول: أنا الملك ويقبض أصابعه ويبسطها أنا الملك حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى إني لأقول أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم؟
لا يبلغ أحدٌ ثناءاً على الله كما أثنى الله على نفسه:
فمن كانت هذه صفته أنى للعباد أن يحيطوا علماً به.. بل لا يعلمون من صفاته إلا ما أعلمهم، وما تستوعبه عقولهم، والله بعد ذلك أكبر وأجل وأعظم من أن يحيط أحد علماً به علي الصفة التي هو عليها سبحانه وتعالى، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أثنى على الله بما علمه الله سبحانه وتعالى يقول بعد ذلك: [سبحانك لا أحصى ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك].
فإن العباد مهما قالوا من المدح والثناء على الله فإنهم لا يبلغون حقيقة ما يتصف به الله.
ويوم القيامة عندما يقوم الرسول صلى الله عليه وسلم للشفاعة بين يدي ربه تبارك وتعالى يلهمه الله من تحميده والثناء عليه شيئاً لم يكن يعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم في الدنيا.
(4/105)
والخلاصة أن معنى الحمد هو الثناء على الله بما هو أهله، وقد أنزل الله في الكتاب وعلى لسان الرسول من صفاته وأفعاله، ما عرفنا به سبحانه وتعالى عن نفسه من أنه الله الرب الرحمن الرحيم الملك القدوس البارئ المصور، من له الأسماء الحسنى والصفات العلى، والمثل الأعلى.
والشهادة لله بما شهد لنفسه، وبما يشهد له به ملائكته ورسله، وأهل العلم من خلقه هو الإيمان، وهو معنى الحمد. قال تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو، والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط، لا إله إلا هو العزيز الحكيم}.
هذا فيما يتعلق بالحمد ذكرناه على وجه الإجمال.
التسبيح هو الوجه الآخر للحمد:
وأما التسبيح فإنه الوجه الآخر للحمد، إذ معناه نفس كل صفات النقص عن الله تبارك وتعالى، وتنزيه الله عما لا يليق به جل وعلا، وما ليس من صفته وفعله وما يتنزه سبحانه وتعالى عنه، فكل صفة ثابتة لله سبحانه وتعالى فالله منزه عن ضدها من صفات النقص والعيب، فالله واحد منزه أن يكون له شبيه أو نظير.
كونه الرحمن الرحيم لا ينافي كونه شديد العقاب:
وهو الرحمن الرحيم منزه عن الظلم، وأما كونه سبحانه وتعالى شديد العقاب فهو لا ينافي ولا يضاد كونه سبحانه وتعالى رحماناً رحيماً، لأن لا يعاقب إلا من هو أهل للعقاب، ويضع سبحانه وتعالى رحمته فيمن يستحقها. قال تعالى: {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم، وأن عذابي هو العذاب الأليم}.
فمغفرته سبحانه وتعالى للتائبين من عبادته ورحمته لأهل طاعته. قال تعالى: {عذابي أصيب به من أشاء، ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون}.
الحي الذي لا يموت والقيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم:
(4/106)
والله سبحانه وتعالى هو الحي الذي لا يموت، والقيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم والعلي العظيم، الذي لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، والغني الذي لا يفتقر إلى سواه، فلا يحتاج إلى أحد من خلقه فليس له من عبادة معين، ولا وزير، ولا وكيل، بل جميع خلقه في حاجة إليه وهو سبحانه وتعالى لا يحتاج أحداً من خلقه، وهو سبحانه وتعالى الجبار المتكبر الذي ذل له كل خلقه، وقهر كل ما سواه، والذي لا يقهره أحداً، ولا يكرهه أحد، ولا يجبره أحد تعالى الله أن يكون له من عباده مكره.
1- الألوهية أعظم صفات الحمد ونفي أضدادها أعظم معاني التسبيح:
الشهادة لله سبحانه وتعالى بأنه الإله وحده مقدمة علي جميع الصفات لأن كل الصفات راجعة إلى هذه الصفة، فإن الإله بمعنى المعبود لا يكون إلهاً حقاً إلا إذا كان يملك معبوده خلقاً وتصريفاً، وإحساناً وتربية ورزقاً، ولا يملك هذه إلا الله وحده... وأما غيره ممن ادعيت له الألوهية كالملائكة والرسل، والكواكب والجن والحجر، والشجر والحيوان، فإنها بذاتها مخلوقات لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً فضلاً أن تملكه لغيرها. ولذلك فمن عبدها من البشر فهو ظالم لأنه وضع العبادة في غير محلها {إن الشرك لظلم عظيم}، فمن عبد الملائكة مثلاً مهما ادعى فيهم فهو كافر مشرك لأن الملائكة خلق محتاج مربوب، لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا يملكون لغيرهم نفعاً ولا ضراً إلا بإذن مولاهم، خالقهم. قال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه، بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى، وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين}.
(4/107)
فمن عبد الملائكة ظاناً أنهم أولاد الله فهو مفتر كذاب قائل بالظن والتخبيط، ثم إن هؤلاء الملائكة هم عباد الله لا يتكلمون إلا بما يأذن الله لهم أن يتكلموا به، وهذا من كمال عبوديتهم لله {لا يسبقونه بالقول}، ثم هم مطيعون لأمره {وهم بأمره يعملون}، ثم إن ربهم وخالقهم يحيط علماً بكل عملهم وهم لا يحيطون علماً بالله. قال تعالى: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً}.
ثم إن ربهم قادر عليهم فلو فرض أن أحداً منهم ادعى إنه إله مع الله، ودعا الناس إلى عبادة نفسه لأذله الله، وألقاه في النار {ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين}..
فكيف يعبد بعد ذلك من هذه حاله، ومعلوم أن العبادة ذل وخضوع وطاعة واستسلام للمعبود... فكيف يذل العبد ويخضع ويستسلم، ويطيع من لا يملك ضره ولا نفعه ولا موته ولا حياته ولا نشوره، والذي لم يخلقه ولم يرزقه، ولم يحييه ولا يملك موته.
لا شك أن من فعل ذلك وعبد مخلوقاً مثله لا يملك لعابده نفعاً ولا ضراً فهو ظالم كافر مشرك.
وإذا كانت الملائكة كذلك في أنهم عباد الله المحتاجون إليه، وليسوا أولاده وليس لهم شركة مع الله في الخلق أو الأمر، فإن من دون الملائكة كذلك، فالرسل مثلاً وهم صفوة الله من خلقه، وأمناؤه على وحيه، وأولياؤه وأنصاره، لا يعبدون. ومن عبدهم فهو ظالم مشرك، لأن الذي يستحق العبادة هو رب العالمين، وخالق الناس أجمعين، وأما الرسل مع كرامتهم على الله إلا أنهم لا يستحقون من المخلوق أن يعبدهم، كيف وهم الذين جاءوا يدعون الناس إلى عبادة ربهم وخالقهم، وهم كانوا أسبق الناس إلى طاعة إلههم ومولاهم.
(4/108)
وما كان لأحد منهم أن يدعو الناس إلى عبادة نفسه. قال تعالى: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله، ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون، ولا يأمركم أن يتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً، أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون}.
فمن عبد أحداً من الرسل فهو عاص لله أولاً وعاص لرسل الله جميعاً الذين ما جاءوا إلا ليدعوا الناس إلى عبادة الله سبحانه وتعالى وحده. وكذلك الحال فيمن دون الرسل من الصالحين والأولياء...
الملائكة المعبودون هم أنفسهم عابدون مجتهدون!!
وقد بين سبحانه وتعال فساد عبادة هؤلاء المشركين، وسخر من شركهم وجهلهم وذلك أن هؤلاء المشركين يعبدون من هم مجدون مجتهدون في عبادة مولاهم. قال تعالى: {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب، ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذوراً}.
والمعنى انظروا إلى عبادة هؤلاء المشركين للملائكة والرسل، والحال أن ملائكة الله ورسله مجدون مجتهدون في طلب القربى من الله والزلفى منه فهم يعبدون من هو قائم بعبادة الله!!
ولا أضل ممن هذا حاله... فكيف تعبد أيها المشرك من هو مجد مجتهد في عبادة ربه محتاج مفتقر إليه، ساع في طلب الوسيلة إليه!!
وأما الذين اتخذوا من دون الملائكة والرسل آلهة لهم كمن عبدوا الشمس والقمر والنجوم، والأشجار والأحجار والأنهار، فهم أضل سبيلاً، وأضل منهم من عبد من هو دون ذلك في سلم الخلق كمن عبد القرود، والفئران، والحيات، والأبقار... الخ
عجباً للإنسان يتخذ ممن هو دونه إلهاً له يعبده ويخافه ويرجوه!!:
والعجب كل العجب من هذا الإنسان الذي كرمه الله بالعقل والسمع والبصر كيف يتخبط ليتخذ من هذه المخلوقات الحقيرة إلها يقدسه ويعبده ويصلي له، ويسجد له ويطلب منه النفع ويخاف منه الضر!!
(4/109)
وصدق الله سبحانه وتعالى إذ يقول: {العصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}.
ويقول جل وعلا: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا عملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون}.
أحط البرية من عاش لا يعرف له إلهاً خالقاً رازقاً:
وأما من عاش في هذا الكون ولم يعلم له إلهاً ولا خالقاً ولا رازقاً، ولم يبصر في هذا الوجود حكمة لوجوده وظن أنه وجد في هذه الأرض ليأكل ويشرب ويتمتع ويعمل ما يحلو له، ولا يتخذ لنفسه معبوداً إلا هواه ولا رباً إلا نفسه، فهذا أضل من الأنعام سبيلاً. قال تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يعقلون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون}.
الله هو الاسم الأعظم للرب جل وعلا:
والخلاصة: أن صفة الألوهية لله جل وعلا هي أجمع الصفات ولذلك كان اسم الله هو الإسم الأعظم للرب الخالق الرحمن الرحيم سبحانه وتعالى.
والله معناها الإله، والله سبحانه وتعالى هو الإله الحق، وما عداه ممن تسمى بالإله إله باطل، تسمى بالإله ولا يستحق هذه التسمية، فإذا سمى بعض البشر الشمس (الإلهة) فتسميتهم إياها بالآلهة باطل، فالشمس ليست آلهة، ولا تملك من الألوهية شيء، وتسمية الكفار أصنامهم التي يعبدوها آلهة تسمية باطلة، وهذه الأصنام والأحجار ليست آلهة على الحقيقة، ولا تملك من معاني الألوهية شيء، فليست بخالقة ولا رازقة، ولا تحيي، ولا تميت، ولا تملك شيئاً يؤهلها إلى أن تكون معبودة، فالتسمية باطلة ولذلك كان الرسل يقولون لأقوامهم المشركين {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان}، والمعنى أنكم سميتموها آلهة وهي ليست كذلك ولا تملك من معاني الألوهية شيئاً.
الإله لا يكون إلا واحداً:
(4/110)
والإله الحق لا يكون في الوجود إلا واحداً، لأن الإله الحق لا بد وأن يكون خالقاً رازقاً متصرفاً قديراً، رباً فالذي يستحق العبادة لا يكون إلا كذلك.
ولو فرض وجود خالقين رازقين يملك كل منهما القدرة على الإحياء والإماتة والتصريف، لفسد هذا الكون الذي نعيش فيه، وذلك أن كل إله لا بد وأن يكون منفصلاً عن الآخر بمخلوقاته، ولا يتصور أن يوجد ويبقى خالق في كنف وطاعة خالق آخر مماثل له.
قال تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} أي السموات والأرض تفسدان لو كان الذي خلقهما خالقان وذلك أن أحدهما بالضرورة لا بد وأن يعادي الآخر ويحاربه ليكون هو الإله وحده، أو ينفصل أحدهما عن الآخر بما يخلقه. قال تعالى: {قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً* سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً يسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً}.
فلو كان هناك آلهة يستحقون العبادة كما يقول المشركون فإنهم بالضرورة لا بد وأن يتخذوا سبيلاً إلى مغالبة الرب العظيم صاحب العرش، والغالب في النهاية هو الإله وحده... وهذا الفرض إنما فرض للجدال وبيان الأمر، فإن الله سبحانه وتعالى بين لهم فساد اعتقادهم في وجود شريك مع الله. إذ لو كان معه شريك حقاً يخلق ويرزق ويحيي ويميت فلا بد وأن يغالب الله لتكون الألوهية لواحد...
وسبحان الله أن يكون في الكون من يغالبه أو ينازعه. قال تعالى: {ما اتخذ الله من ولد، وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق، ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون}.
(4/111)
فالله سبحانه وتعالى لم يتخذ ولداً ولو كان له ولد لكان مثله يخلق ويرزق ويحيي ويميت كما يقولونه النصارى الضالون. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، والله جل وعلا ليس معه إله، لأنه لو كان معه إله يستحق أن يعبد لعلا كل منهما على الآخر، حتى يكون العلي واحداً أو لذهب كل إله بما خلق إلى ناحية من الوجود، وانفرد بخلقه وعباده عن خلق غيره... تعالى الله أن يكون في الوجود سواه، وأن يكون هناك إله معه.
وحدة الخلق دليل على وحدة الخالق:
وأعظم دلالات الوحدانية هي وحدة الخلق فلما كان الخلق كله وحدة واحدة يرتبط كل جزء منه بالجزء الآخر، ارتباط العضو بالجسد كان هذا دليلاً على أن الخالق واحداً، فالسموات مع الأرض ترتبطان ارتباط كل جزء في الآلة الواحدة بالجزء الآخر، وكأنها ساعة واحدة كل ترس من تروسها ينتظم مع الترس الآخر. انظر في السموات إلى ملايين النجوم، وآلاف المجرات. كل في فلكه يسبحون لا يتأخر كوكب أو نجم عن دورته ثانية واحدة، ولا جزءاً من ثانية، ولا يخرج كوكب ولا نجم عن مساره قيد أنملة. فهل يمكن أن يكون هذا الخلق الذي ينتظم في وحدة واحدة إلا من خلق إله واحداً؟! هل يتصور خالقان يشتركان في خلق هذا الوجود وملائمتهما مع كل ذرة في الوجود.
انظر إلى الأرض التي نعيش عليها نجد أن كل جزء منه في موضعه الصحيح والمناسب من كل جزء آخر، وكل فرد من أفراد مخلوقاتها متناسبة في الخلق مع سائر الأفراد، فاليابسة مناسبة للماء تماماً، والليل على سطح الأرض مناسب للنهار تماماً، ولو طال الليل عما هو عليه الآن ساعة واحدة لتجمدت الأرض، ولو طال النهار عن منسوبه في الأرض لاحترقت.
(4/112)
وخليط الهواء الذي نستنشقه متناسق تماماً ولو زاد بعض هذا الخليط عن نسبته لفسدت الحياة لو زاد الأكسجين في الجو عن معدله، لاحترقنا عند أول حريق!! ولفسد تنفس النبات فمات!! وانظر إلى دورة الماء على الأرض منذ صعودها من الجبال بخراً، وهطولها على الأرض مطراً وجريانها أنهاراً، ودخولها إلى بطن الأرض مخزوناً، وقيام حياة المخلوقات على الأرض على الماء حياة وبقاءاً... ألا نبئك كل ذلك على أن الخالق واحد سبحانه وتعالى...
قال جل وعلا: {الله الذي يرسل الرياح فيثير سحاباً فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفاً فترى الودق يخرج من خلاله}.
وقال تعالى: {وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته، وأنزلنا من السماء ماءاً طهوراً لنحيي به بلدة ميتاً، ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسي كثيراً، ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفوراً}.
وآيات الله سبحانه وتعالى في الخلق لا يمكن إحصاؤها ولا الإحاطة بها.
والخلاصة: أن وحدانية الله سبحانه وتعالى هي أصل الصفات لأن الرب سبحانه وتعالى واحد في ذاته واحداً في صفاته، واحداً في أفعاله فلا شبيه له في ذات أو صفة أو فعل.
وأعظم معاني التسبيح هو تنزيه الله عن أي شبيه ومثيل له في الذات أو في الصفات، وفي كونه وحده الإله الحق الذي لا إله إلا هو.
***********
*****(4/113)
الجحيم رؤية من الداخل
المقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} (آل عمران:102)
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً} (النساء:1)
{يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} (الأحزاب:70-71)
وبعد،،،
1- في أول الطريق: الفردوس هي الأمل:
عندما كنت في بداية الطريق، طريق الإسلام، وكان هذا بحمد الله في أول مراحل الشباب، كنت أرى أن الفردوس هو المكان الذي يجب أن تتعلق همتي به. وربما كان يخالجني الشعور لا الأمل فقط بأنني جدير به!! وكنت أظن أن مسألة النار، والتفكير بالنجاة منها خارج عن سعي مثلي ودعائه؛ فمثلي ليس من أهلها -إن شاء الله- ولا يدخلها!! وبالتالي، فهو غني عن الخوف منها، والاستعاذة بالله منها، وإن دعا الله بالنجاة منها، فإنما ذلك تأسياً بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي يدعو بالنجاة من النار مع القطع أنه ليس من أهلها. وكان كثيراً ما يخالجني الشعور عند الاستغفار أنني لم أعمل ما يوجب الندم الطويل، ولا الأسف البالغ، فإن ما وقعت فيه من الذنب قد وفقني الله للإقلاع عنه، والاعتذار منه، وهذا كاف في باب التوبة!!
(4/114)
وقد استمر بي هذا الظن مرحلة من عمري في الدين. ثم لما بدأت في فقه القرآن، وعرفت حقيقة معنى الإيمان، وحقيقة معنى المعصية، ودرست أخلاق الرسل والصالحين وأهل الإيمان، بدأ هذا الشعور يتلاشى شيئاً فشيئاً. ثم أصبح الهاجس الأول والأخير هو التفكير في كيفية النجاة من النار، والفرار مما قبلها من أهوال وأما الجنة؛ كل الجنة؛ ولا سيماً الفردوس فلها حسابات أخرى!! وسعي آخر رأيت أن همتي وعزمي وعملي دونه بكثير. وأن المعاصي التي ارتكبتها والذنوب التي قارفتها لا يكفيها البكاء من يومي هذا إلى الممات، وأنني إن لم تتداركني رحمة الله بالمغفرة، أصبحت من الخاسرين. فكيف كان ذلك؟!
2- إدراك مفهوم الذنب:
لقد اجتمعت مجموعة من الأمور جعلتني أراجع حساباتي السابقة، وأنظر إلى الأمر نظرة جديدة، وكان أول ما أيقظ شعوري بخطأ تصوراتي السابقة حول الجنة والنار -وأنا في بداية الطريق- هو إدراكي لمعنى الذنب، وأن معصية الله سبحانه وتعالى شيء كبير، وكان مما أشعل في نفسي هذا المعنى كلمةٌ لأحد الصالحين يقول فيها: "لا تنظر إلى صغر الذنب، ولكن انظر من عصيت"!!
ووجدت مصداق ذلك فيما يتصف الله به من صفات كماله وأنعامه وتفضله على عباده. وأن حقه سبحانه وتعالى على عباده أن يتقوه حق تقاته، وأن يطيعوه ولا يعصوه، وأن يشكروه ولا يكفروه، وأن يذكروه ولا ينسوه. ومن الذي يستطيع أن يقوم بذلك على وجهه الكامل؟ ووجدت أن الله سبحانه وتعالى يحذر عباده من عقوبته. وأنه يؤاخذ بالذنب صغيره وكبيره!! وتيقنت أن حق الله على عباده أعظم وأكبر من كل ما يأمرهم به. وأن الجميع تحت رحمته وطوع أمره، وأنه سبحانه {لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد}.
3- لماذا كانت المعصية شيئاً عظيماً؟:
(4/115)
المعصية في ذاتها شيء عظيم لأنها مخالفة لأمر الرب الإله الذي لا إله إلا هو، خالق السموات والأرض، وخالق كل شيء، وهو رب كل شيء ومليكه الذي خضع له كل شيء، وذل له كل شيء، فهو القاهر فوق عباده، وهو الحكيم الخبير الذي لا يغيب عنه من شؤون عباده صغير ولا كبير.. فهو القائم على كل نفس بما كسبت، والذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض... الذي تخافه الملائكة العظام الكرام، وتكاد السموات أن يتفطرن من فوقهن فرقاً وخوفاً منه.
والذي يمسك السموات والأرض أن تزولاً... والذي لا يحيط أحد من خلقه علماً به، وهو يحيط علماً بكل مخلوقاته، ولا يغيب عنه سبحانه خطرات قلوبهم ولا نزغات نفوسهم، ولا وساوس صدورهم، الذي وسع كل شيء رحمة وعلماً، والذي لا يقبل من أحد من مخلوقاته إلا الإذعان له، والاستسلام لأمره.
والذي يكرم من شاء من خلقه وعباده فلا يكون لإكرامه منتهى ولا لعطائه حد. ويهين من شاء من خلقه، فلا تكون لإهانته مثيل، ويعذب من أراد من عبيده فلا يكون لعذابه نهاية، ولا لعذابه شبيه {فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد}.
وهو الرب الإله الذي جعل الخلق كله له والأمر كله له، فلا يخلق إلا هو، ولا يستطيع غيره أن يخلق ذَرَّة، ولا بُرَّةً، ولا ذباباً. والذي يملك نفع خلقه وضرهم فلا يملك غيره لأحد من خلقه لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء هو.. وهو الرب الإله خالق السماوات والأرض الذي لا يكرثه ولا يتعبه خلق السموات والأرض ولا حفظهما في أماكنها ومداراتها.
فمن ذا يستطيع أن يضع الشمس في مكانها غيره؟ وأن يضع القمر في مكانه غيره؟ والنجوم في مساراتها، والمجرات في مجاريها؟ ومن الذي أتقن كل ذلك. قال تعالى: {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليماً غفوراً}
(4/116)
فهو مالك الملك كله، ومدبر الكون كله لم يساعده أحد و لم يعاونه أحد في خلق الكون، ولا حفظه، بل هو الخالق لكل ما في الكون والحافظ له، والمقيم له، وهو الذي يفرط عقد هذا الكون وقتما يشاء، ويبدل السموات والأرض وقتما يريد. قال تعالى: {إذا السماء انفطرت* وإذا الكواكب انتثرث* وإذا البحار فجرت* وإذا القبور بعثرت* علمت نفس ما قدمت وأخرت}
وقال تعالى: {إذا الشمس كورت* وإذا النجوم انكدرت* وإذا الجبال سيرت* وإذا العشار عطلت* وإذا الوحوش حشرت* وإذا البحار سجرت* وإذا النفوس زوجت* وإذا الموءودة سئلت* بأي ذنب قتلت* وإذا الصحف نشرت* وإذا السماء كشطت* وإذا الجحيم سعرت* وإذا الجنة أزلفت* علمت نفس ما أحضرت} (التكوير:1-14)
وقال تعالى: {إذا السماء انشقت* وأذنت لربها وحقت* وإذا الأرض مدت* وألقت ما فيها وتخلت* وأذنت لربها وحقت} (الانشقاق:1-5)
هذا الرب الإله سبحانه وتعالى الذي وصف نفسه في القرآن فقال: {إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين} (الأعراف:54)
وقال جل وعلا: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنه ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بأيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم} (البقرة:255)
(4/117)
وقال جل وعلا: {الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش مالكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون* يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون* ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم* الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين* ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين* ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون} (السجدة:4-9)
وقال جل وعلا: {الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماءاً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار* وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار* وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار} (إبراهيم:32-34)
وهكذا فإن معصية هذا الرب العظيم الكبير المتعالي أمر عظيم، ومخالفته فيما أوجب على عباده ذنب كبير جداً.
4- حق الله على عباده أكبر من كل ما يأمرهم به:
ثم إن مما يجعل مخالفة أمر الله سبحانه وتعالى أمر عظيم، وإثم كبير هو أن حق الله على عباده أكبر مما يأمرهم به، فإن الله هو خالق الخلق، ومدبر شؤونهم، والمتفضل عليهم بنعمة الوجود أولاً، ثم ما من نعمة إلا وهي منه سبحانه وتعالى، فهو وحده الرزاق لكل عباده وهو ربهم الذي يكلئهم ويرعاهم، ويربيهم برحمته، وليس لهم رب سواه، ولا إله لهم غيره.
(4/118)
ولو أمر عباده بما أمر، فإن هذا حقه على عباده فإنه خالقهم وربهم، ومنشئهم من العدم، ومع ذلك فلا يكلف سبحانه وتعالى نفساً إلا وسعها ولا يأمر عباده إلا بما ينفعهم، وإذا أمرهم فإنه يأمرهم وهو غني عنهم، غير فقير لعبادتهم، وعبادة العباد له هي من جملة الفضل الذي يتفضل به عليهم، لأنها سبب لزكاتهم وطهارتهم، وسبب لنيل مرضاته ورحمته وجائزته. وهكذا تصبح معصية العاصي أمراً عظيماً وإثماً كبيراً لأنه يخالف الرب الإله الذي أحسن وأكرم، وخلق ورزق، وتحنن على عبده!!
5- الدين الذي لا يقبل الله من عباده غيره هو الإسلام:
والدين الذي لا يقبل الله من عباده غيره، هو الإسلام ومعناه الاستسلام لله بتصديق خبره وتنفيذ أمره. قال تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام}، وقال جل وعلا: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}..
والإسلام هو الدين الذي رضيه الله لعباده {ورضيت لكم الإسلام دينا} وهو دين ملائكته وكل طائع له طوعاً من خلقه. قال تعالى: {يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون}، ودين السماوات والأرض. قال تعالى: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين}!!
وأما من لم يطعه طوعاً من خلقه فكرهاً: {أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون}.
6- تكذيب الخبر كفر، ورد الأمر كفر:
ومن رد خبر الله سبحانه وتعالى، أو كذب بشيء من الغيب الذي قصه علينا فقد كفر، وكذلك من رد أمر الله سبحانه وتعالى وأبى أن يطيعه استكباراً وعناداً فقد كفر.
(4/119)
والمعصية الأولى التي عصى بها إبليس ربه كانت من النوع الثاني أعنى أنها رد الأمر، فإن الله قد أمره بالسجود لآدم فقال: {لم أكن لأسجد لمن خلقت طيناً}، ولم يكن إبليس -لعنه الله- مكذباً بشيء من أخبار الله. وإنما انحصرت معصيته في رد الأمر الإلهي كبراً وعلواً عندما ظن أن هذا الأمر يخالف الحكمة إذ زعم أن الفاضل لا يسجد للمفضول، وقد رأى نفسه، وقد خلق من النار أفضل من آدم المخلوق من الطين. وقياس إبليس قياس فاسد.
ولما أصر إبليس على معصيته كان جزاؤه أن لعنه الله أبداً وطرده من رحمته سرمداً.
فمعصية إبليس إذن كانت إباءاً ورداً للأمر الإلهي، ومن أجل ذلك كفر إبليس، ولعن وطرد من رحمة الله.
وأما المعصية الثانية التي عصى بها الله سبحانه وتعالى، فقد وقعت من آدم عليه السلام، ولما لم تكن عناداً، وإنما كانت ضعفاً ونسياناً كما قال تعالى: {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً} ثم إن آدم لم يصر عليها، بل سارع إلى الفرار منها والاعتذار عنها قال تعالى: {وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين* قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين}.
فلما اعترف آدم وزوجه بالخطيئة، وسارعا إلى التوبة والإنابة، فإن الله سبحانه قبل عذره، وأقال عثرته.
والناظر في معصية آدم يجد أن هذه المعصية قد كانت مخالفة للأمر الإلهي فقط، فإن الأكل من شجرة في الجنة ليس إثماً في ذاته، لولا أنه معصية لله الذي أمره ألا يأكل من هذه الشجرة.
7- العبودية لله هي طاعة الأمر فيما عقل معناه، وما لم يعقل معناه:
(4/120)
والعبودية لله إنما هي في طاعة أمره أيا كان هذا الأمر في صغير أو كبير. فيما يوافق معقول المأمور، أو يخالف معقوله. فإن الرب الإله سبحانه وتعالى هو أعلم بما يأمر به وينهى عنه، والعبد لا يكون عبداً على الحقيقة إلا إذا أطاع معبوده دون تردد أو توقف أو نظر أو سؤال؛ لم أمر بكذا؟ ولم نهى عن كذا؟ ولو كان العبد لا يطيع إلا فيما عقل وفهم لكانت طاعته لمعقوله ومفهومه وليس لخالقه وإلهه ومولاه..
فإن الإنسان يطيع عقله، وقلبه في أشق الأمور على نفسه وبدنه، بل قد يركب الصعب والذلول في تنفيذ ما يأمره به سلطان العقل، أو سلطان القلب والهوى...
ولو كانت طاعة الله تابعة لسلطان العقل والقلب والهوى لكان المعبود حقاً هو العقل والقلب والهوى وليس الله سبحانه وتعالى...
بل العبودية أن يطيع العبد ربه فيما يخالف سلطان عقله وقلبه وهواه.
بل إن الدين قائم على مخالفة ما تهواه النفوس، وما يخالف رأي الإنسان ومعقوله أحياناً وهذا هو معنى التعبد لله... ولا يمنع أن يكون في الدِّين ما يوافق معقول الإنسان ونظره، ولكن الله سبحانه وتعالى شاء أن يتعبد عباده بما يحكم به هو سبحانه وتعالى، لا بما يرونه بأنفسهم أو يعقلوه بعقولهم، أو تهواه أنفسهم.
8- إبراهيم عليه السلام هو الإمام والمثال والقدوة والأسوة في المسارعة إلى تنفيذ أمر الله سبحانه:
(4/121)
هذا نبي الله إبراهيم جعله الله إماماً للناس جميعاً، وجعل النبوة في ذريته دون سائر البشر، ولم يصل إبراهيم عليه السلام إلى ما وصل إليه من إمامة الدين إلا أنه أُمِرَ بأوامر إلهية تخالف معقول البشر فنفذها إبراهيم عليه السلام على النحو الذي أمره الله بها تماماً. قال تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم رَبُّه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً}، وكان مما أمر به مما يخالف معقول البشر أن يلقي زوجته هاجر وابنها اسماعيل في أرض مقفرة موحشة لا إنس فيها ولا شيء وهي أرض مكة، وليس معهم أحد على الإطلاق وليس لهم من الزاد إلا جراب تمر، وقربة ماء... ثم كر عائداً وحده إلى بلاد الشام.
وهذا الأمر الإلهي لإبراهيم عليه السلام يخالف معقول البشر فإن أحداً لو فعل ذلك من عند نفسه لكان فعله جريمة وإثماً!!
وكذلك أمر الله سبحانه وتعالى له بأن يقتل ابنه بكره إسماعيل عليه السلام بعد أن شب وبلغ مبلغ الرجال، فسارع إلى تنفيذ الأمر دون تلكأ أو نظر، أو تسويف، ولو أن إنساناً عمد إلى أن يقتل ابنه دون أمر من الله لكان هذا جريمة وإثماً.
فقد روى الإمام البخاري رحمه الله بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: [أول ما اتخذ النساء المِنْطَق من قِبَلِ أم اسماعيل، اتخذت منطقاً لتُعَفِّي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء فوضعهما هنالك، ووضع عندها جراباً فيه تمر وسقاءاً فيه ماء، ثم قَفَّى إبراهيم منطلقاً.
فتبعته أم اسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً. وجعل لا يلتفت إليها فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذن لا يضيعنا. ثم رجعت.
(4/122)
فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال: {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم} حتى بلغ {يشكرون} وجعلت أم اسماعيل ترضع اسماعيل، وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نَفَدَ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها فجعلت تنظر إليه يتلوى، أو قال: يَتَلَبَّط، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم تر أحداً، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحداً فلم تَرَ أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات.
قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [فذلك سعي الناس بينهما].
فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت: صَهْ!! تريد نفسها، ثم سمعت فسمعت أيضاً، فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث!! فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه، أو قال: بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تحوِّضُه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف...
قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [يرحم الله أم اسماعيل لو تركت زمزم -أو قال: لو لم تغرف من زمزم- لكانت زمزماً عيناً معيناً].
قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافوا الضَّيعَة، فإن هذا بيت الله يبني هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله.
وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله. فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جُرْهُم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كُدَاء، فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائراً عائفاً فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جرياً أو جريين فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا.
(4/123)
قال: وأم اسماعيل عند الماء فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم. ولكن لا حق لكم في الماء!! قالوا: نعم. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأُنْسَ] فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم.
وشب الغلام وتعلم العربية منهم، وأنفسهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم.
وماتت أم إسماعيل.
فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته، فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بِشَرٍّ!! ونحن في ضيق وشدة!! فشكت إليه. قال: فإذا جاء زوجك اقرئي عليه السلام وقولي له يُغيِّر عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئاً فقال: هل جاءكم أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا فسألنا عنك، فأخبرته، وسألني كيف عيشنا، فأخبرته أنّا في جهد وشدة، قال فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم! أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول: غَيِّرْ عتبة بابك، قال: ذاك أبي،وقد أمرني أن أفارقك!! الحقي بأهلك فطلقها!! وتزوج منهم امرأة أخرى.
فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد فلم يجده، فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت: خرج يبتغي لنا. قال: كيف أنتم؟ وسألها ما طعامكم؟ قالت: اللحم!! قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء، قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ولم يكن لهم يومئذ حَبٌّ، ولو كان لهم دعا لهم فيه]. قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه. قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومُريهِ يثبت عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم. أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه فسألني عنك فأخبرته، فسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أنّا بخير، قال: فأوصاك بشيء. قالت: نعم! هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك. قال: ذاك أبي وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك.
(4/124)
ثم لبث عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحة قريباً من زمزم، فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد. ثم قال: يا إسماعيل إن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها. قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يناوله الحجارة يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم}. قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت، وهما يقولان: {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم}] (رواه البخاري)
9- الجانب التعبدي في الإسلام كبير جداً:
وإذا كانت الشريعة المنزلة على محمد صلى الله عليه وسلم في عمومها مما يوافق معقول أهل العقل والحجا والحكمة إلا أن الجانب التعبدي فيها كبير جداً... فإن مواقيت الصلاة، وأعداد الركعات، وهيئات الصلاة، وكون الزكاة في بعض الأموال وليست في جميعها، وتقدير النصاب، وصفة الصوم، وأعمال الحج من طواف وسعي وتقبيل للحجر الأسود، والوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، ورمي الجمار، كل ذلك من الأمور التعبدية التي يراد منها ابتلاء طاعة العباد لربهم وخالقهم سبحانه وتعالى.
كما أن الحدود والعقوبات الشرعية الشأن فيها التعبد لله سبحانه وتعالى بتنفيذ أمره والانتهاء عن نهيه جل وعلا..
وكذلك ما أباحه الله وما حرمه...فإن الله أباح البيع وحرم الربا، وقد يكسب البائع في بيعه ألفاً في المائة، وقد يكون الربا المحرم درهم في الألف، ويبقى الربا حراماً والبيع حلالاً.. وقد أمرت المرأة أن لا تحد على ميت أكثر من ثلاثة أيام، ولو كان الميت أعز الناس لديها كابنها وأخيها وأبيها، ولكنها يجب أن تحد على زوجها أربعة أشهر وعشراً!!
(4/125)
ولا شك أن وراء كل أمر إلهي حكمة عليا قد يخبرنا الله بها، وقد يهدينا إلى معرفتها، وقد يخفيها عنا، وفي كل ذلك يجب على المكلف أن يسمع ويطيع. وأما إن علق طاعته لله على فهمه ومعقوله ومعرفته لحكمة الآمر، فإنه لا يكون عابداً لله على الحقيقة ولو رد الأمر الإلهي ظاناً أنه مخالف للحكمة والعقل لكان كافراً، وكان كفره ككفر إبليس الذي لم تكن جريمته إلا رد الأمر الإلهي كفراً وكبراً وعناداً.
10- المفهوم الشمولي لمعنى الذنب:
إذا عرف العبد ربه على الحقيقة، وأنه هو خالقه ورازقه، ومتولي شؤونه، ومن بيده نفعه وضره، ومن يعلم علانيته وسره، وحياته ومماته، وأن العبد لا يستغنى عنه طرفة عين، علم أن حق الله على عباده أن يطيعوه فلا يعصوه، وأن يشكروه ولا يكفروه، وأن يذكروه ولا ينسوه، وأن يتقوه حق تقاته.
وكل تقصير في هذه الحقوق تقصير ومعصية... فالغفلة ولو للحظة واحدة عن ذكر الله إثم، وعدم القيام بشكر نعمة واحدة من نعم الله التي لا تحصى إثم، ومعصية أمر الله في الكبير والصغير إثم.
وقد أمر الله عباده أن يتقوه حق تقاته، أي كما ينبغي له إذ هو سبحانه وتعالى أهل لأن يتقى، فهو الرب الإله القائم على كل نفس بما كسبت. قال تعالى: {وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه، وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} (يونس:61)
وقد علم الله سبحانه وتعالى أن عباده لا يطيقون أن يقوموا بحقه وأن يتقوه كما ينبغي له سبحانه وتعالى، ففرض عليهم من ذلك ما يستطيعون، فقال جل وعلا: {فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا} فمن غفل عن ذكر الله الواجب المستطاع فهو آثم، كما قال صلى الله عليه وسلم: [ما من قوم جلسوا مجلساً ثم قاموا منه ولم يذكروا الله فيه إلا كان هذا المجلس عليهم ترة يوم القيامة] أي حسرة وندامة... ولا حسرة إلا في ترك واجب.
(4/126)
ومن قصر في شكر نعمة عرفها فهو آثم ولو كانت في شربة ماء شربها، ولم يحمد الله عليها. قال تعالى: {ثم لتسألن يومئذ عن النعيم} وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر لما خرجا من بيوتهم بسبب الجوع ثم أضافهم أنصاري فقدم لهم عذقاً من تمر ورطب فأكلوا وقدم لهم ماءاً بارداً فشربوا... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن هذا من النعيم ولتسألن عنه يوم القيامة].
ومن عصى الله في صغير أو كبير فهو تحت الحساب والمؤاخذة إلا أن يغفر الله ذنبه.
إذا علم هذا علم معنى الذنب الذي ينسب إلى الأنبياء والرسل فإنه ليس كبيرة بحال، وليس تعمداً لمعصيته الله، وإنما قد يكون اختياراً لخلاف الأولى، أو انقطاعاً لحظة عن الذكر الدائم، أو قعود لحظة عن الشكر الدائم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنه ليُغَانُ على قلبي وإني أتوب إلى الله في اليوم أكثر من مائة مرة]..
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل حتى تتفطر قدماه، فإذا سئل في ذلك قال: [أفلا أكون عبداً شكوراً] فمن عرف حق الله على عباده، وعرف أن حقه يعظم كلما عظمت نعمته على العبد وعلم أن حق الله سبحانه على عبده أن يذكره فلا ينساه، ويشكره فلا يكفره، وأن يطيعه فلا يعصاه، وأن يخافه ويتقيه كما ينبغي لجلاله وعظيم سلطانه..
علم العبد عند ذلك ماذا تعني المعصية والذنب؟
11- المؤاخذة بالمعصية :
كل من عصى الله سبحانه وتعالى فهو تحت المؤاخذة إلا أن يغفر الله ذنبه، والمؤمن قد يؤاخذ بمعصيته في الدنيا، ويحصل له من البلاء ما يطهر ذنبه، ويعلي درجته، وقد يؤاخذ الله بعض أنبيائه في الدنيا بسبب معصية صغيرة تقع منهم ومن ذلك.
أ- آدم عليه السلام ومعصيته للأمر الإلهي:
(4/127)
فآدم عليه السلام الذي لم تكن معصيته إلا أنه خالف الأمر الإلهي بأكله من شجرة نهاه أن يأكل منها، ومعصية آدم بالأكل من الشجرة فإنها -والله تعالى أعلم- لم تكن فاحشة في ذاتها ولا إثماً لولاً المعصية. فقد أباح الله لآدم الأكل من كل أشجار الجنة، فليس الأكل من هذه الشجرة مذهباً للعقل، ولا ضاراً في النفس أو البدن، ولا تعدياً على حق مخلوق، ونحو ذلك مما هو من تعليل الإثم. وإنما كانت معصية آدم فيما أخبرنا الله به –والله تعالى أعلم- في أنه أطاع الشيطان الذي حذره الله من طاعته، وأنه عصى الله فيما أمره به. قال تعالى: {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما، وقال تعالى: {وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين} (الأعراف:22)
ومع ذلك كان من آثار هذه المعصية آلاماً طويلة في الدنيا منها: خروج آدم وزوجه من الجنة، وتعرضه هو وذريته لما يتعرضون له من البلاء في هذا الدار.. وإلى يوم القيامة!!
ب- نوح عيه السلام ووعظ الله له:
وهذا نبي الله نوح عليه السلام سماه عبداً شكوراً، وكان من أولي العزم من الرسل، وقد قام في عبادة الله سبحانه وتعالى ألف سنة إلا خمسين عاماً يتحمل في أثنائها الكرب الطويل والأذى البالغ. قال تعالى:{ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون ونجيناه وأهله من الكرب العظيم} (الصافات:75-76)
ولما دعا نوح ربه قائلاً: {رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين} (هود:45) أجابه الله سبحانه: {يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين} (هود:46)
فقال العبد الصالح: {رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} (هود:47)
فاعترف عليه السلام بذنبه، وأنه قد قال قولاً لا علم له به!!
ج- يونس عليه السلام والسجن في بطن الحوت:
(4/128)
وهذا يونس عليه السلام عاقبه الله لأنه ترك قومه الذين كذبوه وآذوه، دون أن يأذن الله له، فسجن في بطن الحوت إلى أن تداركته رحمة الله بالخروج، ضعيفاً مريضاً. قال تعالى:{فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون} (الصافات:143-144)
وقال تعالى: {وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين* فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين} (الأنبياء:87-88)
د- الوعيد بالعذاب لقبول الفداء من الأسرى:
ونبينا صلى الله عليه وسلم عاتبه الله سبحانه بعد قبوله فداء الأسرى ويقول: [لقد عرض عذابكم أدنى من هذه الشجرة]!!
فقد روى الإمام أحمد قال: حدثنا عبدالله بن أبي ثنا أبو نوح أنبأنا عكرمة بن عمار ثنا سماك أبو زميل حدثني ابن عباس حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: [لما كان يوم بدر قال: نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاث مائة ونيف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة، ثم مد يديه وعليه رداؤه وإزاره ثم قال: اللهم أين ما وعدتني؟ اللهم أنجز ما وعدتني، اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تُعبد في الأرض أبداً].
قال: فما زال يستغيث ربه عز وجل ويدعوه حتى سقط رداؤه، فأخذ (أبو بكر) رداءه فرداه ثم التزمه من ورائه، ثم قال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك. وأنزل الله عز وجل {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين}.
(4/129)
فلما كان يومئذ والتقوا، فهزم الله عز وجل المشركين فقتل منهم سبعون رجلاً، وأسر منهم سبعون رجلاً، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا نبي الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان فإني أرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار وعسى الله أن يهديهم فيكونون لنا عضداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما ترى يا ابن الخطاب]؟ قال: قلت والله ما أرى رأي أبي بكر، ولكني أرى أن تمكنني من فلان -قريباً لعمر- فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان -أخيه- فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين. هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم!! فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلتُ، فأخذ منهم الفداء.
فلما أن كان من الغد قال عمر رضي الله عنه: غدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو قاعد وأبو بكر رضي الله عنه وإذا هما يبكيان!! فقلت: يا رسول الله أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما!! قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [الذي عرض عليّ أصحابك من الفداء، لقد عُرِض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة] لشجرة قريبة، وأنزل الله عز وجل {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} إلى قوله: {لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم}.
ثم أحل لهم الغنائم فلما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء فقتل منهم سبعون وفر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكسرت رَبَاعِيَّته وهُشِّمَت البيضة على رأسه وسال الدم على وجهه، وأنزل الله تعالى: {أو لما أصابتكم معصية قد أصبتم مثليها} الآية بأخذكم الفداء] (رواه أحمد)
(4/130)
12- الرسل عليهم السلام يخافون ذنوباً لو كانت لأحدنا لعدها من الطاعات:
الرسل عليهم السلام يخافون ذنوباً لو كانت هذه الذنوب نفسها لأحدنا لعددناها من الطاعات والقربات.. فمن منا لا يتمنى أن يكون صنع ما صنع إبراهيم عليه السلام من كذبه على قومه عباد الأصنام عندما قال لهم: {إني سقيم} (الصافات:289) وقوله: {بل فعله كبيرهم هذا} (الأنبياء:63) حتى يحطم أصنامهم، ويرجعهم إلى عقولهم ورشدهم؟! ومن منا لا يتمنى أن يقول عن زوجته هي أختي ينقذها ونفسه من جبار كافر أراد أن يقتله ويستحوذ على زوجته!! ومع ذلك يقول إبراهيم عليه السلام يوم القيامة معتذراً عن التصدر للشفاعة خائفاً من معصيته!! [وإني قد كذبت ثلاث كذبات!!] (رواه البخاري)
وهذا نبي الله موسى عليه السلام، وهو من أولي العزم والرسل، يقتل نفساً قتلاً شبه عمد وليس عمداً، ويقتله بغير قصد قتله، يقتله دفاعاً عن مظلوم، وهذا الفعل منه كان قبل الرسالة ومع ذلك يقول:{رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي، فغفر له إنه هو الغفور الرحيم} (القصص:16)، ومع ذلك يظل موسى خائفاً من فعلته هذه إلى يوم القيامة ويقول: [إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله وإني قد عصيت ربي فقتلت نفساً لم أومر بقتلها]. (رواه البخاري)
ومن منا لا يتمنى أن يكون صنع ما صنع موسى في دفاعه عن مظلوم من قومه!!
13- ازدياد الخوف من الله مع زيادة الإيمان، ونقص الخوف مع نقص الإيمان:
كلما تبلد الشعور، وزاد البعد عن مصدر النور، زال الإحساس بالذنب، فالكفار يكفرون ويجرمون ويفسقون وهم يضحكون. والفاجر والمنافق يرى ذنبه كأنه ذباب يحط على أنفه لو أشار إليه بيده رده، والمؤمن يرى ذنبه كالجبل يوشك أن يسقط عليه، وكان أنس بن مالك يقول وكان قد عمر زماناً بعد النبي صلى الله عليه وسلم: [أنكم تعملون أعمالاً كنا نعدها من الكبائر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في أعينكم أصغر من الشعر]
(4/131)
14- ألوان وأنواع العقوبات لعصاة المؤمنين:
كل ذنب داخل في الحساب إلا ما يغفره الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره* ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} (الزلزلة:7-8)
وبعض العصاة من الموحدين قد يعذبون في النار، أو في القبر، أو في الحشر في صغائر من الذنوب، وفي كبائر يظنها بعض الناس صغائر، فامرأة يراها النبي في النار في هرة حبستها حتى ماتت جوعاً. وقتيل مع الرسول ظنه الصحابة شهيداً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [كلا. إني رأيته في النار في بردة غلها] (رواه مسلم)، ولم تكن هذه البردة تساوي أربعة دراهم!!
والرجل يتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى، لا يلقي لها بالاً فتهوي به في النار سبعين خريفاً.
ونساءٌ كثيراتٌ كثيراتٌ من أهل التوحيد يدخلن النار لأنهن يكثرن اللعن، ويكفرن العشير!!
ورجال يحبسون في النار في ردغة الخبال، ووسط عصارة وصديد أهل النار لأنهم تكلموا في إخوانهم المسلمين بغير حق. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله، ومن خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع عنه، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال] (رواه أبو داود)
والوعيد الشديد لعصاة أهل التوحيد يشمل المعاصي كلها صغيرها وكبيرها، فقاتل النفس عمداً يقول الله فيه: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاءه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً} (النساء:93)
وآكل الربا يقول الله فيه: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا، وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} (البقرة:275)
(4/132)
والكنّازون مانعي الزكاة يقول الله في وعيدهم: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم* يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون} (التوبة:34)
وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [ما من صاحب ذهب ولا فضة، لا يؤدي منها حقها إلا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه، وجبينه، وظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار]. (رواه مسلم)
والذي يقتطع حق امرئ مسلم بيمينه -ولو كان هذا المقتطع شيئاً يسيراً ولو عوداً من أراك - فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة. قال تعالى: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} (آل عمران:77)
وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة] فقال رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ فقال: [وإن قضيباً من أراك]. (رواه مسلم)
ورأي النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من أصحابه لبس خاتماً من ذهب، فاقتلعه النبي من أصبعه، ورمى به قائلاً: [يعمد أحدكم إلى جمرة من نار، فيجعلها في يده]!! (رواه مسلم)
وامرأة كانت من أهل النار لأنها تؤذي جيرانها بلسانها!! وفقير من فقراء المهاجرين، عذب في قبره لأنه مات وكان عليه ديناران لم يسددهما!! وظل يعذب حتى تصدق عليه أبو قتادة وسدد عنه دينه!!
(4/133)
ورجل يعذب في قبره لأنه كان لا يستنزه من بوله، وآخر يعذب لأنه يمشي النميمة بين الناس، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يدخل الجنة قتات] (نمام)، و[لا يدخل الجنة قاطع]!! و[لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر]!! و[ان الكبر بطر الحق وغمط الناس].. وكم يقع مثل هذا!!
اللهم أني استغفرك لذنبي، وأعوذ بك من شر نفسي وسيئات عملي.
ومما قصه النبي صلى الله عليه وسلم من عذاب عصاة المؤمنين قوله: [إنه أتاني الليلة آتيان وإنهما ابتعثاني وإنهما قالا لي: انطلق، وإني انطلقت معهما، وإنا أتينا على رجل مضطجع وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فَيَثْلَغُ رأسه، فيتهدده الحجر هاهنا، فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع إليه، حتى يصح رأسه كما كان، ثم يعود عليه فيفعل به كما فعل به المرة الأولى.
قال: قلت لهما سبحان الله!! ما هذان. قال: قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا فأتينا على رجل مُسْتَلقٍ لقفاه وإذا آخر قائم عليه بكُلُّوب من حديد، وإذا هو يأتي أحد شِقَّي وجهه، فيشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان، ثم يعود عليه فيفعل مثل ما يفعل في المرة الأولى.
قال: قلت: سبحان الله ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق. فانطلقنا فأتينا على مثل التنور، وأحسب أنه كان يقول: فإذا فيه لغط وأصوات فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة!! وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضَوْضَوْا.قال: قلت: ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق!!
(4/134)
قال: فانطلقت فأتينا على نهر حسبت أنه كان يقول: أحمر مثل الدم، وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح، ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة فَيَفْغَرُ له فاه، فيلقمه حجراً، فينطلق يسبح، ثم يرجع إليه، كلما رجع إليه فغر له فاه فألقمه حجراً، قال: قلت لهما: ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق!!
فانطلقنا، فأتينا على رجل كريه المرآة أو كأكره ما رأيت من راءٍ رجلاً مرآة، وإذا هو عنده نار يَحُشُّها ويسعى حولها، قال: قلت لهما: ما هذا؟ قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا فأتينا على روضة معتمة فيها من كل لون الربيع، وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولاً في السماء، وإذا حول الرجل من أكثر ولدانٍ رأيتهم قط، قال: قلت لهما: ما هذا؟ ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق. فانطلقنا، فأتينا إلى روضة عظيمة لم أر روضة قط أعظم منها، ولا أحسن. قال: قالا لي: ارْقَ فيها فارتقيت فيها، قال: فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة، فأتينا باب المدينة فاستفتحنا ففتح لنا، فدخلناها فتلقانا رجال شطر من خَلْقِهم من أحسن ما أنت راءٍ، وشطر كأقبح ما أنت راء. قال: قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، قال: إذا هو نهر معترض يجري كأن ماءه المحض في البياض فذهبوا فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم، فصاروا في أحسن صورة قال: قالا لي: هذه جنة عدن، وهَذَاكَ منزلك، فسما بصري صعداً، فإذا قصر مثل الربابة البيضاء، قالا لي: هذاك منزلك؟
قلت لهما: بارك الله فيكما فذراني فأدخله، قالا: أما الآن فلا، وأنت داخله.
قلت لهما: فإني رأيت منذ الليلة عجباً، فما هذا الذي رأيت؟! قالا لي: أما إنا سنخبرك أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر، فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة.
(4/135)
وأما الرجل الذي أتيت عليه يُشَرْشَرُ شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه ، فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق.
وأما الرجال والنساء العراة الذين هم في مثل بناء التنور، فهم الزناة والزواني.
وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويُلْقَمُ الحجارة فإنه آكل الربا.
وأما الرجل الكريه المرآة الذي عند النار يحشها ويسعى حولها، فإنه مالك خازن جهنم.
وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم.
وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة.
وفي رواية البرقاني: [ولد على الفطرة]، فقال بعض المسلمين: يا رسول الله وأولاد المشركين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأولاد المشركين!! وأما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح، فإنهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، تجاوز الله عنهم]. (رواه البخاري)
15- حال المؤمن بين الخوف والرجاء:
كنت أسمع كثيراً وأنا في مراحل العلم الأولى أن المؤمن يجب أن يكون خائفاً راجياً، خائفاً من العذاب وراجياً رحمة الله وفضله في الجنة والمغفرة... وكان يقرع آذاني كسائر المتعلمين للعلم الشرعي- الآيات والأحاديث في ذلك: آيات الوعد والوعيد، وأحاديث البشارة والنذارة... ولكني كنت ككثير من الناس أغلب الرجاء على الخوف، والطمع على الرهبة!! ثم اكتشفت أخيراً أن هذا من التغرير!! وعلمت يقيناً بعد ذلك أن الخوف يأتي أولاً، ويستمر أبداً، ومن لا يخاف الله على الحقيقة فهو خارج عنمسمى الإيمان..
وقد وصلت إلى ذلك بعد أن علمت يقيناً أن أهل الإيمان جميعاً يخافون، فالملائكة وهم خير عباد الله يخافون معصية الله، والرسل وهم صفوة الله قد كانوا في خوف دائم من عذاب الله، وأن خيار أهل الإيمان كانوا في خوف وإشفاق دائم من العذاب!! وأنه لا أمن للمؤمن إلا بعد دخول الجنة، وقول الله سبحانه وتعالى لأهلهما [إني أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً] وأما قبل ذلك فلا.
(4/136)
16- ملائكة الله يخافون العذاب:
الملائكة قد وصفهم الله سبحانه وتعالى بالطاعة التامة، قال تعالى عنهم: {إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عباده ويسبحونه وله يسجدون} (الأعراف:206) ،وقال تعالى: {فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون} (فصلت:38)
وقال سبحانه عن أشد الملائكة خلقاً،وأعنفهم خلقاً وهم ملائكة العذاب الموصوفون بأنهم [غلاظ شداد]، قال تعالى عنهم: {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} (التحريم:6)
ومع ذلك فإنهم في خوف دائم من الله سبحانه وتعالى، وحذر دائم من معصيته، وفرق ورعب منذ خلق الله النار. قال تعالى عنهم: {ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون* يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون} (النحل:49-50)
وقد جاء في القرآن وعيدهم وتهديدهم بجهنم على المعصية. قال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عباد مكرمون* لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون* يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين} (الأنبياء:26-29)
(4/137)
وهذا إبليس قد كان في يوم ما عابداً الله مع الملأ الأعلى من الملائكة.. فلما عصى ربه، ولم يسجد لآدم كما أمره كان من شأنه ما قص الله علينا في القرآن... قال تعالى: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين* قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك، قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين* قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين* قال انظرني إلى يوم يبعثون* قال إنك من المنظرين* قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم* ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين* قال اخرج منها مذءوماً مدحوراً لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين} (الأعراف:11-18)
فلما أصر إبليس على كبره وعناده ولم يرجع عن معصيته، وأخذ على نفسه أن يغوي آدم وذريته... قال له الله تبارك وتعالى: {قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} (ص:84-85)
وقال تعالى لإبليس أيضاً: {قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم} (الحجر:41-44)
فإذا كان إبليس قد أفسد ماضيه في العبادة، ومنزلته في الملائكة بمعصية واحدة أصر عليها، ولج في خصومته لربه، وعاند فيها.. فكان جزاؤه اللعنة أبداً، والنار سرمداً، والخذلان في الآخرة والأولى.
ثم أصبحت نهاية إبليس ما نص الله علينا في سورة إبراهيم من قوله: {وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم} (إبراهيم:22)
(4/138)
فهل بعد هذا يأمن عبد من عباد الله أن تغشه نفسه، ويخونُه تدبيره، ويعميه غروره، وتغريره، فيكون من الهالكين بمعصية واحدة يصر عليها، ويستكبر بها عن طاعة ربه. وكم من عابد، وعالم غوته نفسه وأطاع الشيطان فتحول ليكون تابعاً ذليلاً للشيطان!!
فكم أضل الشيطان من أهل العلم والبصيرة، بل من أهل الطاعة والإنابة. قال تعالى: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين* ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآيتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون} (الأعراف:175-176)
وقال تعالى عن قوم سبأ: {ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين}..
وقال تعالى عن عاد: {وعاداً وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين}
فانظر كيف أغواهم الشيطان علماً أنهم كانوا ذوي بصيرة ونظر!!
وقال صلى الله عليه وسلم: [ليُذادَنَّ أقوام من أمتي حوضي أعرفهم ويعرفوني ويؤخذ بهم جهة النار، فأقول: أصحابي أصحابي. فيقال: ليسوا أصحابك إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول: سحقاً سحقاً].
والملائكة الذين أقامهم الله في الطاعة وألزمهم العبادة وألهمهم التقوى والمخافة هم في طاعة ربهم حيث يشاء ربهم لا حيث يريدون هم.
وكان نبينا صلى الله عليه وسلم يحب جبريل، وكيف لا يحبه وهو معلمه. قال تعالى:{علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو في الأفق الأعلى} (النجم:5-7)
وكيف لا يحبه وهو ناصره ووليه. قال تعالى: {وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير} (التحريم:4)
(4/139)
وكيف لا يحبه وقد كان في حروبه أمامه، وعلى ميمنته وكان نبينا صلى الله عليه وسلم يقول لجبريل: [ألا تزورنا أكثر مما تزورنا!!] فنزل قول الله تبارك وتعالى: {وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسياً}. (رواه البخاري)
فإذا كان جبريل أمين الله على وحيه، ورسوله إلى رسله، لا يهبط إلى الأرض إلا بإذن ربه، ولا يزور محمداً صلى الله عليه وسلم إلا برسم وأمر، فانظر كيف تكون طاعة الملائكة لربهم جل وعلا... وهذا إسرافيل قد التقم القرن وحنى جبهته وأصاغ السمع، وانتظر متى يأمر الله بأن ينفخ في الصور!! ومنذ متى وهو على هذه الحال!! قائم في الطاعة!! ملتزم بالأمر... وجميعهم خائف من الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون} (النحل:50)
وقد جاء أنهم في خوف دائم منذ خلق الله النار.
17- رسل الله وأنبياؤه يخافون العذاب:
وأما الرسل والأنبياء فهم أعظم البشر خوفاً من الله سبحانه وتعالى، وفرقاً من عذابه، وفراراً إليه!! مع ما كانوا عليه من الطاعة والاستقامة، والعبادة!!
فهذا آدم منذ عصى الله بأن أكل من الشجرة التي نهاه الله أن يأكل منها وهو خائف من العذاب مع استغفاره ورجوعه إلى الله من ذنبه مع ما حدث له بعد ذلك من الابتلاء بالخروج من الجنة ومقاساة العيش على ظهر الأرض...
وعندما يلتقي أبناءه يوم القيامة يستشفع به أبناؤه إلى الله في القضاء بين العباد ودخول الجنة قائلين له: يا أدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء ألا تشفع لنا عند الله!! [فيقول لهم أبوهم آدم: وهل أخرجكم من الجنة إلا معصية أبيكم، اذهبوا إلى غيري].
(4/140)
وفي حديث الشفاعة الطويل يظل كل رسول خائفاً من الله... فقد روى الإمام البخاري عن أبي هريرة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوة، فرفع إليه الذراع، وكانت تعجبه، فَنَهَسَ منها نَهْسَةً، وقال: [أنا سيد الناس يوم القيامة هل تدرون مم ذاك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيبصرهم الناظر، ويسمعهم الداعي وتدنو منهم الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون.
فيقول الناس: ألا ترون إلى ما أنتم فيه؟ ألا ترون إلى ما بلغكم، ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم، ويأتونه فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك وأسكنك الجنة، ألا تشفع لنا إلى ربك؟ ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا؟ فقال: إن ربي غضب غضباً لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، وأنه نهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح.
فيأتون نوحاً فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبداً شكوراً، ألا ترى إلى ما نحن فيه ألا ترى إلى ما بلغنا، ألا تشفع لنا إلى ربك؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم.
فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني كنت كذبت ثلاث كذبات. نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى.
(4/141)
فيأتون موسى. فيقولون: يا موسى أنت رسول الله فضلك الله برسالاته وبكلامه على الناس، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفساً لم أومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى.
فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله وكلمته التي ألقاها إلى مريم وروح منه، وكلمت الناس في المهد، اشفع لنا إلى ربك. ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنباً. نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم..
فيأتوني فيقولون: يا محمد أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟
فأنطلق، فآتي تحت العرش، فأقع ساجداً لربي، ثم يفتح الله علي من محامده، وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه علي أحد قبلي، ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك، سل تعطه، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا رب، أمتي يا رب.
فيقال: يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس، فيما سوى ذلك من الأبواب، ثم قال: [والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى]. (متفق عليه)
فإذا كان هذا هو حال الرسل يوم القيامة، فما حال غيرهم من أهل الذنوب والمعاصي.
وكان صلى الله عليه وسلم أتقى العباد لله وأخوفهم منه، وأعلمهم به، وكان يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء..
18- المؤمنون حقاً في خوف دائم من عذاب الله إلى أن يدخلوا الجنة:
عندما قرأت القرآن وجدت الله سبحانه وتعالى وصف عباده المؤمنين أنهم كانوا في خوف دائم من عذابه، وفي تَرَقُّب وتوجس أن يقع بهم العذاب في أي لحظة، وإشفاق دائم مما هم مقدمون عليه...
(4/142)
وجدت أن الله يقول في وصف عباده المؤمنين: {والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون} (المعارج:27-28)
والإشفاق غاية الخوف، ونهاية الرعب، ووجدت الله يقول في وصف عباده المؤمنين: {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون* والذين هم بآيات ربهم يؤمنون* والذين هم بربهم لا يشركون* والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون* أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون} (المؤمنون:58-61)
وهؤلاء المؤمنون خائفون مع أنهم يصلون ويصومون ويتصدقون. ففي مسند الإمام أحمد أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجله هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر ويخاف الله عز وجل؟ قال: [لا يا ابنة الصديق، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو يخاف الله عز وجل]
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون}.. "أي هم مع إحسانهم وإيمانهم وعملهم الصالح مشفقون من الله خائفون وجلون من مكره بهم".
قال الحسن البصري: "إن المؤمن جمع إحساناً وشفقة، وإن الكافر جمع إساءة وأمناً".
نعم لقد وجدت أنه لا يشعر بالأمن والأمان إلا الكفار والمنافقون الذين غرتهم أنفسهم وَرَأَوْا سيء أعمالهم حسناً، وأن الله ما دام قد أعطاهم في الدنيا الأموال والأولاد فهو مكرمهم في الآخرة أيضاً.
ورأيت أن الله أخبرنا بحديث أهل الجنة وذكرياتهم في الدنيا فكان مما قالوه: {إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين* فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم* إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم} (الطور:26-28)
19- نماذج رائعة من المؤمنين الخائفين من عذاب الله:
أ- عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتمنى كل مؤمن أن يكون له بعض عمله يقول: وهو في مرض موته عن سابقته في الإسلام وعمله الصالح كله "وددت أن هذا كفافاً لا لي ولا عَلَيَّ"
(4/143)
فقد روى الإمام البخاري بإسناده إلى المسور بن مخرمة قال: لما طعن عمر جعل يألم، فقال له ابن عباس، وكأنه يُجَزِّعُه: يا أمير المؤمنين ولئن كان ذاك لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحسنت صحبته، ثم فارقت وهو عنك راض، ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم فارقت وهو عنك راض، ثم صحبت صَحَبَتُهم فأحسنت صُحْبَتَهم، ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون. قال: أما ما ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاه، إن ذلك مَنٌّ منًّ الله تعالى علي، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه فإنما ذلك مَنٌّ من الله جل ذكره عَلَيَّ وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك ومن أجل أصحابك، والله لو أن لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله عز وجل قبل أن أراه"
وفي رواية أخرى قال: [وددت أن ذلك كفافاً لا عليّ ولا لي] (رواه البخاري)
وفي رواية: [لو أن بغلة عثرت بالعراق لسئل عنها عمر بين يدي الله عز وجل]
فهل يغتر مؤمن بعمله بعد أن يرى هذا من عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
فإذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي أسلم مبكراً، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وصحبة ساعة مع رسول الله لا يعدلها عمل ممن يأتي بعده، وكان وزير النبي صلى الله عليه وسلم ومستشاره، ولم يمت النبي صلى الله عليه وسلم حتى بشره بالجنة مراراً وتكراراً، ثم كان خير صاحب لأبي بكر الصديق، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان خير وزير ومستشار ومعين له، ثم تولى أمر المسلمين "فاستحالت في يده غرباً"... "حتى ضرب الناس بعطن".
ففتحت في عهده الفتوح،ودخلت الأمم في دين الله أفواجاً: الفرس والروم، وشعوب بلاد الشام، ومصر، وغطى الإسلام الأرض كلها أو كاد... ونقل إلى المدينة النبوية كنوز كسرى وقيصر، ومع ذلك مات عمر يوم مات شهيداً حميداً مديناً بستة وثمانين ألف دينار!! قام ابنه عبدالله رضي الله عنه بتسديدها عنه بعد أن جمعها من مال آل الخطاب.
(4/144)
ومع كل هذه الفضائل والمناقب قال عند موته: "أرجو أن يكون هذا كفافاً لا لي ولا علي... والله لو أن بغلة عثرت بالعراق لسئل عنها عمر بين يدي الله عز وجل، والله لو كان طلاع الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله قبل أن أراه". أي لو كنت أملك مثل جبال الأرض ذهباً لافتديت به الآن مما أحاذر من عذاب الله، فإذا كان عمر رضي الله عنه يخشى من عذاب الله على هذا النحو، وهو من هو رضي الله عنه، فما الظن بأمثالنا ممن لا تحصى ذنوبهم ولا قدم لهم في الإسلام.
ب- عمرو بن العاص رضي الله عنه يبكي -خوفاً من الله- وهو على فراش الموت:
ورأيت أن عمرو بن العاص يبكي وهو على فراش الموت خائفاً من لقاء الله فقد روى الإمام مسلم بإسناده إلى أن ابن شماسة المهري قال: "حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت فبكى طويلاً وحول وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: يا أبتاه أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ قال: فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
إني قد كنت على أطباق ثلاث:
لقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني، ولا أحب إلي أن أكون قد استمكَنْتُ منه فقتلته، فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار.
فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك. فبسط يمينه. قال: فقبضت يدي. قال: [مالك يا عمرو] قال: قلت: أردت أن اشترط. قال: [تشترط بماذا؟] قلت: أن يغفر لي، قال: [أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله]. وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه، ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة.
(4/145)
ثم حدثت أمور لا أدري ما حالي فيها.. فإذا دفنتموني فَشُنُّوا علي التراب شنّاً، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزورٌ، ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي.
ج- أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تجعل نفسها من قسم الظالم لنفسه:
وتقول عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن قوله تعالى {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم نفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله} أي بني هؤلاء في الجنة، أما السابق بالخيرات فمن بقى على عهد رسول الله، وشهد له الرسول بالجنة، وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق بهم، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم!!. (رواه الطيالسي)
د- الجميع يبكي ذنبه ويذكر خطيئته:
ولقد رأيت الجميع يبكي ذنبه، ويذكر خطيئته، ولا يرى لنفسه فضلاً، ولا لعمله الصالح ذكراً ويقول أحدهم: "لو أعلم أن لي عملاً واحداً متقبلاً لتمنيت الموت!!"
ولما رأيت ذلك، ورأيت الطريق الطويل إلى الجنة، ووجدت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [ما من حكم يحكم بين الناس إلا حبس يوم القيامة وملك آخذ بقفاه حتى يقفه على جهنم، ثم يرفع رأسه إلى الله عز وجل، فإن قال الخطأ ألقاه في جهنم يهوي أربعين خريفاً]. (رواه أحمد)
وفي كل يوم لنا أحكام وأحكام؟!
20- جولة في النار تبدد الغرور:
ولقد كان أعظم ما جعل غروري السابق بالفردوس يتلاشى ويزول، والتفكير كله ينصب على النجاة من النار أولا وأخيراً هو جولة في النار من الداخل ونظرة إلى الهوة السحيقة!! واستبصار لمن يدخلونها ويتساقطون فيها...
(4/146)
ولما وقفت مرة ومرة عند وصف الله ورسوله لهذه النار العظيمة الموجودة الآن. وعاينت بالقلب أحوال أهلها، علمت يقيناً -إن شاء الله- أن العزم كل العزم يجب أن يكون في الفرار منها، وأن الفرار من النار مقدم على التفكير في دخول الجنة، ومن المعلوم أن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح. فكيف إذا كانت المصلحة لا يتوصل إليها إلا بدفع المفسدة أولاً... فالجنة لا تنال إلا بعد النجاة من النار!! وقد علمت أن مثلي ممن حمل هذه السلسلة الطويلة من الذنوب والمعاصي، والتي يستحق بها العذاب -لولا رحمة الله- يصبح من إساءة الأدب، ومن الاعتداء في الدعاء أن يسأل الله الجنة، وهو بعد لم يتخلص من موجبات العذاب.
والحق أنني لم أر النار، نار الآخرة لا يقظة ولا مناماً.. ولكني وقفت قليلاً على توقيف الله عباده على هذه النار، ووصفه سبحانه المفصل لها، وتصريف الله الوعيد لعباده بشأنها، وعلى النقل الحي للرسول صلى الله عليه وسلم الذي رآها رأي العين، ثم وصفها وصفاً واضحاً كاملاً، فأصبح من لم يرها بعينه كأنه رآها بعينه بوصف النبي صلى الله عليه وسلم لها.
وقد كان الصحابي يجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحدث عن الجنة والنار، فكأنه وإياها رأي العين، قال حنظلة: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا وإياها رأي العين!! فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً!! (رواه مسلم)
(4/147)
وكان رسول الله إذا خطب يصف النار علا صوته، واشتد غضبه، واحمر وجهه كأنه نذير جيش يقول: [صبحكم ومساكم] قال جابر بن عبدالله رضي الله عنه: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول: [من يهده الله فلا مضل له ومن يضلله فلا هادي له. إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدى هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار] ثم يقول: [بعثت أنا والساعة كهاتين وكان إذا ذكر الساعة احمرتْ وَجْنتاه وعلا صوته، واشتد غضبه؛ كأنه نذير جيش يقول: [صبحكم ومساكم]!! ثم قال: [من ترك مالاً فلأهله ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإلي أو علي وأنا أولى بالمؤمنين] (رواه النسائي)
ولو قدر لنا أن تصلنا سلسلة خطب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يفسر سورة (ق) من فوق منبره لكنا سمعنا عجباً، فإن بعض الصحابيات حفظن سورة (ق) من فم الرسول صلى الله عليه وسلم من كثرة ما يخطب بها صلى الله عليه وسلم في الجمعة.
وسورة (ق) من سور الوعيد، وقد حملت مشاهد عظيمة من صور الحشر، والنار، وكلام أهل النار وخصومتهم بعضهم بعضاً: من كان السبب منهم في إدخال الآخر إلى النار ورد الله على الجميع: {لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد* ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد} (ق: 28)
ثم كلام الله للنار التي قد فتحت أبوابها تبتلع كل الأفواج ممن يدخلها من أهلها. وهم عدد لا يحصى كثرة، فإنه يدخل من أولاد آدم من كل ألف تسعة وتسعون وتسعمائة!! ويبقى واحد من كل ألف يدخل الجنة!!
ولما كانت النار دركات بعضها فوق بعض، لا يشاهد المشاهد منها على ظهر أرض المحشر إلا أبوابها، وقرونها وأسوارها، ولهيبها المنبعث منها، وأما هي فبئر واسع سحيق يمتد سفلاً حتى إن الحجر ليلقى من على شفير جهنم (الشفير حافة البئر) فيمكث سبعين عاماً لا يصل إلى قعرها!!
(4/148)
لما كانت النار كذلك، وقد يظن أنه من كثرة ما يلقى فيها من الجن والإنس يصبحون طبقات بعضهم فوق بعض، وألا متسع في داخلها لمزيد من الأفواج أخبر سبحانه وتعالى عباده أن هذا التنور العظيم، والبئر الواسعة العميقة لن يعجز عن استيعاب كل الداخلين إليها قال تعالى: {يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد} (ق:30)، وقال تعالى: {فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون} (الشعراء:94-95)
21- النبي صلى الله عليه وسلم يحدث عن النار التي رآها رأى العين:
على باب النار وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى داخل النار نظر!! فقال صلى الله عليه وسلم: [اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء] (رواه البخاري)
وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: [قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجد محبوسون غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار، وقمت على باب النار، فإذا عامة من دخلها النساء] (رواه البخاري)
(4/149)
وفي مسند الإمام أحمد عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال: خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم شديد الحر، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه فأطال القيام حتى جعلوا يخرون، ثم ركع فأطال الركوع ثم رفع رأسه فأطال، ثم ركع فأطال الركوع ثم سجد سجدتين، ثم قام فصنع مثل ذلك ثم جعل يتقدم ثم جعل يتأخر، فكانت أربع ركعات، وأربع سجدات، ثم قال: [إنه عرض علي كل شيء توعدونه، فعرضت علي الجنة حتى لو تناولت منها قطفاً أخذته] أو قال: [تناولت منها قطفاً فقصرت يدي عنه] شك هشام [وعرضت علي النار فجعلت أتأخر رهبة أن تغشاكم فرأيت امرأة حِمَيْرِيّةً سوداء طويلة تعذب في هرة لها ربطتها فلم تطعمها، ولم تسقها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، ورأيت أبا ثمامة عمرو بن مالك يجر قُصْبَهُ في النار وإنهما آيتان من آيات الله عز وجل يريكموها فإذا خسفت فصلوا حتى تنجلي] (رواه أحمد)
وفي رواية مسلم: [عُرِضَت عَلَيَّ الجنة والنار آنفاً في عرض هذا الحائط فلم أر كاليوم في الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحتكم قليلاً ولبكيتم كثيراً] (رواه مسلم)
22- عبدالله بن عمر بن الخطاب يرى النار مناماً:
وكان عبدالله بن عمر رضي الله عنهما يتمنى أن يرى رؤيا ليقصها على النبي صلى الله عليه وسلم كما كان يفعل كثيرٌ من أصحاب النبي ففي الصحيحين قال: رأيت في المنام أنه جاءني ملكان في يد كل واحد منهما مِقْمَعَةٌ من حديد، قالوا: لن ترع!! نِعْمَ الرجل أنت، لو كنت تكثر الصلاة من الليل!! فانطلقوا بي حتى وقفوا بي على شفير جهنم، فإذا هي مطوية كطي البئر، لها قرون كقرون البئر، بين كل قرنين مَلَكٌ بيده مقمعة من حديد، وإذا فيها رجال معلقون بالسلاسل رؤوسهم أسفلهم!! وعرفت رجالاً من قريش!! فانصرفوا بي عن ذات اليمين، فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: [إن عبدالله رجل صالح]!!
(4/150)
وفي رواية: [نعم الرجل عبدالله لو كان يصلي من الليل]
23- هذا وصف النار في القرآن والسنة:
وأما أنا كاتب هذه السطور فلم أر النار... نار الآخرة لا يقظة ولا مناماً، ولكنني قرأت وسمعت أوصافها في القرآن الكريم، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم.
وكنت وما زلت أحاول أن أكون كذلك الصحابي الذي كان يجلس مجالس النبي صلى الله عليه وسلم فيسمع وصف النبي صلى الله عليه وسلم وتصويره للنار وأهوالها، وأحوال أهلها فكأنه وإياها رأي العين.
وقد شرعت أجمع وصف النار من آيات كتاب الله الكريم، ومَشَاهِد يصورها الله لنا بالقرآن البليغ المعجز، ومشاهد آخر ينقلها النبي صلى الله عليه وسلم لنا ويصورها بجوامع الكلم، فإذا الصورة الكلية رهيبة رهيبة، وإذا المشاهد: كل مشهد يقطع القلب لو كان يعي ويسمع..
24- النار واحدة من آيات الله الكبرى:
وأنا متنقل بك أخي المسلم، بل أخي الإنسان، وكيفما كان معتقدك لتنظر وترى، ثم اختر لنفسك بعد ذلك ما شئت قال تعالى: {كلا والقمر* والليل إذ أدبر* والصبح إذا أسفر* إنها لإحدى الكبر* نذيراً للبشر* لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر} (المدثر:32-37)
وقال تعالى: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا اعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقاً} (الكهف:29)
وأقول للمصدق بالنار... اجلس بنا نؤمن ساعة!! فإن تذكر النار من الإيمان.
وأقول لغير المصدق بالجحيم: والله إنها لحق، وهي موجودة الآن، وقد رآها الصادقون رأي العين، وحدثوا بما شاهدوا فيها، وأعظم من رآها وحدث بما فيها هو رسولنا الصادق الأمين محمد بن عبدالله الرسول النبي الأمي صلوات الله وسلامه عليه. فقد قال: [وقفت على باب النار!!] وقال: [ورأيت النار فلم أر شيئاً أفظع!!]
ورأيت هنا رؤية بصر، وليس رؤية علم فقط.
25- الجحيم: موجودة باقية أبداً سرمداً:
(4/151)
الجحيم موجودة مخلوقة كائنة الآن، وقد رآها النبي صلى الله عليه وسلم بعيني رأسه، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه وتعالى عندما خلق الجنة نادى جبريل فقال له: [اذهب فانظر إليها، وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فذهب فنظر إليها، وإلى ما أعد الله لأهلها فيها، فرجع فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها!! فأمر بالجنة فحفت بالمكاره، فقال: ارجع فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فنظر إليها، فلما رجع فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد!! قال: ثم أرسله إلى النار قال: اذهب فانظر إليها، وإلى ما أعددت لأهلها فيها. قال: فنظر إليها، فإذا هي يركب بعضها بعضاً، ثم رجع فقال: وعزتك لا يدخلها أحد سمع بها!! فأمر بها فحفت بالشهوات. ثم قال: اذهب فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها، فذهب فنظر فيها فرجع فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها]!! (رواه أحمد أبو داود والترمذي والنسائي)
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن النار اشتكت إلى الله سبحانه وتعالى فقالت: [يا رب! أكل بعضي بعضاً، فجعل لها نفسين، نفساً في الشتاء، ونفساً في الصيف، فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها، وشدة ما تجدون من الحر من سمومها] (رواه ابن ماجه)
وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه [إذا جاء رمضان فُتِحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النيران، وصفدت الشياطين] (متفق عليه)
وجميع أخبار الله عنها في القرآن أنها مخلوقة موجودة.
وهذه النار لا تفنى ولا تبيد، بل هي باقية وخالدة خلوداً لا نهاية له، ولا انقطاع له، وأهلها الذين هم أهلها باقون فيها معذبون عذاباً لا ينقطع أبداً، ولا يفتر عنهم مطلقاً -عياذاً بالله منها ومن أحوال أهلها-
قال تعالى: {فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد} (هود:106-107)
(4/152)
وقال: {إنه من يأت ربه مجرماً فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى} (طه:74)
وقال تعالى: {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين* خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون} (البقرة:160-161)
وقال تعالى: {يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم} (المائدة:37)
وقال: {فذكر إن نفعت الذكرى سيذكر من يخشى* ويتجنبها الأشقى* الذي يصلى النار الكبرى* ثم لا يموت فيها ولا يحيى} (الأعلى:11-13) أي لا يموت موتاً يستريح فيه من العذاب، ولا يحيى حياة نافعة صالحة، بل عذاب دائم يصبح الموت معه أكبر الأماني ولكنه لا يكون. قال تعالى: {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون} (الزخرف:77)
وقال تعالى لأهلها: {قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين} (الزمر:72)
وقال تعالى: {والذين كفرا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور} (فاطر:36)
وقال صلى الله عليه وسلم: [إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار ثم يذبح ثم ينادي مناد: يا أهل الجنة خلود فلا موت!! يا أهل النار خلود فلا موت، فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم] (رواه البخاري)
26- هل يمكن تصور سعة النار؟!:
(4/153)
وهذه النار المخلوقة الموجودة الآن لا يبلغ العقل معرفة اتساعها، فإن الشمس والقمر والنجوم أحجار صغيرة في وسطها.. إنها مِحْرَقَةٌ هائلة تلقى فيها النجوم والشموس كما تلقى الأحجار الصغيرة في البئر العظيمة، وتتضخم أجساد أهلها وأصحابها ممن كتب الله عليهم الخلود فيها حتى إنه ليكون ضرس أحدهم كجبل أحد!! وما بين منكبيه مسيرة ثلاثة أيام!! وسمك جلده مسيرة ثلاثة أيام!! فيكون جثمان الواحد من أهل النار كأعظم جبل من جبال الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم: [ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد، وغَلِظَ جلده مسيرة ثلاث أيام] (رواه مسلم)
وفي البخاري قال صلى الله عليه وسلم: [ما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع]
وفي الترمذي قال صلى الله عليه وسلم: [إن مجلس الكافر من جهنم كما بين مكة والمدينة]!!
ومع أنه يدخل النار من أولاد آدم من كل ألف تسع وتسعون وتسعمائة، ولا يدخل الجنة من الألف إلا واحد فقط!! وثَمَّ من شياطين الجن مثل أعداد كفار بني آدم أو يزيدون، وكلهم يدخلون النار على الحال التي وصف الله سبحانه وتعالى، وكل هؤلاء لا يملئون النار،ولا تضيق بهم!!
{يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد} (ق:30)
وهذه النار التي هي بهذا الاتساع، قد خلقت على شكل البئر المطوية قد لا يبدو للناظر إليها وهو خارج عنها من فوقها إلا سورها وسرادقها المحيط بها، وأبوابها السبعة المقامة في سورها، أو المنصوبة على دركاتها، وأما هي فتذهب عمقاً إلى قعر لا قرار له، وإذا ألقى الحجر العظيم من شفيرها يظل يهوي سبعين عاماً لا يبلغ قعرها... وفي هذه المحرقة الهائلة جبال .
وفي هذه الجبال من الكهوف والمغارات والوديان، والشعاب، تهاويل وتهاويل لا يبلغ العقل عدها ولا حصرها، وتجري في جبالها وسهولها وقيعانها، أنهار القيح والصديد، وما يسيل من أجساد أهل النار وما ينفجر من بطونهم وأمعائهم {وسقوا ماءاً حميماً فقطع أمعاءهم} (محمد:15)
(4/154)
ومن هذه الجبال والوديان تتفجر أنهار من ماء كَدَرْدَرِيِّ الزيت مُنْتِنٍ بلغ غايته وحَدَّه في الحرارة، إذا قربه المعذب من وجهه شوى وجهه، وتساقط جلد وجهه فيه -عياذاً بالله من سخطه وعقابه- {وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا} (الكهف:29)
والمهل: هو الرصاص المذاب، أو كُلُّ معدن مذاب.
27- في النار: كل أسباب الموت ولا موت!!
هذه النار العظيمة المخلوقة الآن من دخلها من أهلها الذين هم أهلها -عياذاً بالله- فإنه يبشر عند الدخول بالخلود الذي لا انقطاع له، قبل أن يلقى فيها {فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين} (الزمر:72)، ويجتمع له فيها كل أسباب الموت، ولكنه لا يموت بسبب من أسبابها، ولا باجتماع كل أسبابها {ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ} (إبراهيم:17) فإن حر نارها يقتل ويميت وفي لحظة واحدة، ولكن الله كتب على أهلها أن يذوقوه ولا يموتوا، وكذلك ماؤها الذي يقطع الأمعاء يقتل لو لم يكتب الله البقاء السرمدي لأهلها، وكذلك لدغ حياتها وأكل زقومها، وقرع ملائكتها، وضربهم أهلها بمقامع من حديد لو ضرب بها أعظم جبال الأرض ضربة واحدة لدك لساعته وأصبح كثيباً مهيلاً!! ثم الغم الشديد الذي يفجر القلب، واليأس الشديد الذي يقطع الأمل وكل هذه أحوال قاتلة مميتة، ولكن المعذب بها من أهل النار عياذاً بالله لا يموت بواحد منها ولا باجتماعها جميعاً، وهي مجتمعة على كل واحد من أهل النار. {ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ} (إبراهيم:147)
28- عذاب النار في ازياد أبداً:
(4/155)
ويستمر هذا التسعير والتصعيد في العذاب أبداً ولا أمل في يوم من الراحة، ولا ساعة من الهدوء، ولا فتور للعذاب {وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب قالوا أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات. قالوا بلى!! قالوا: فادعوا.. وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} (المؤمن:49-50)
وقال تعالى: {إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون} (الزخرف:74-75) أي متحيرون يائسون منقطعو الرجاء والأمل في أي صورة من صور الرحمة بهم.
إن تصور هذه الحال، وتخيل أن يكون الواحد منا في هذه المآل -عياذاً بالله- أعظم واعظ وأكبر زاجر.
29- طعام أهل النار عذاب، وشربهم عذاب:
أهل النار الذين هم أهلها المخلدون فيها -عياذاً بالله- يأكلون فيها ويشربون، ولكنهم يعذبون بالطعام والشراب عذاباً كعذاب النار أو أشد، ومع أنهم يعذبون بالطعام الذي يأكلونه وبالشراب الذي يشربونه إلا أن ضرورة الجوع والعطش تلجئهم إلى هذا الأكل والشرب الذي هو نوع من العذاب بل هو العذاب.
فالمعذب في النار يجوع جوعاً شديداً، ويلجئه ضرورته وألمه إلى الأكل من شجر الزقوم... وهذه الشجرة تخرج في أصل النار في عمق البئر، وقعر الجحيم، وتخرج أغصانها وثمارها في صورة مرعبة كريهة بشعة.
وما ظنك بثمار شجر ينبت في النار، وتغذيه النار ويجري في عروقه الحميم.
ووصف الله سبحانه وتعالى شجرة الزقوم فقال جل وعلا: {إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم* طلعها كأنه رؤوس الشياطين* فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون* ثم إن لهم عليها لشوباً من حميم* ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم} (الصافات:64-68)
وقال جل وعلاً أيضاً: {ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم} (الواقعة:51-55)
(4/156)
والمعنى أن ضرورة الجوع تلجىء المعذب من أهل النار إلى الأكل من هذه الشجرة الخبيثة الملعونة التي تخرج في أصل النار، وتثمر ثماراً من نار، فإذا احترق جوف المعذب من هذا الطعام الخبيث، وأراد أن يطفئ الحرارة المشتعلة في بطنه ويطفئ العطش الهائل الذي يحس به، ألجأته هذه الضرورة إلى ماء خبيث قد بلغ غايته في الحرارة فيشربه ليطفئ ناراً فلا يزيده هذا الماء المغلي إلا اشتعالاً {فشاربون عليه من الحميم} (الواقعة:54)
ومع أن الماء كدردري الزيت خبيث منتن الرائحة قد بلغ غايته في الغليان إلا أن المعذب يشرب منه شرباً ذريعاً شرب الناقة الهيماء التي يصيبها داء في جوفها، فتشعر بلهيب في بطنها فتعب من الماء ولا ترتوي... كما قال الشاعر يصف حاله في الحب:
فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد ظماها ولا يقضي عليها هيامها
قال تعالى عن أصحاب النار عياذاً بالله: {ثم إنكم أيها الضالون المكذبون* لآكلون من شجر من زقوم* فمالئون منها البطون* فشاربون عليه من الحميم* فشاربون شرب الهيم} (الواقعة:51-55)
والهيم: جمع هيماء وهي الناقة المريضة بداء الجوف التي تشرب ولا تروى.
وإذا شرب هؤلاء المعذبون من الماء الذي لا ينفعهم بل يضرهم حتى تقطع أمعاءهم، فروا منه إلى النار فكان بئس الفرار، ثم تلجئهم ضرورة العطش مرة ثانية إلى ذلك الماء الخبيث، وهكذا فراراً من شر إلى ما هو شر منه، ثم عود إلى الأول.
قال تعالى: {هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون* يطوفون بينها وبين حميم آن} (الرحمن:43-44) والمعنى: يفرون منها إلى الحميم ويفرون من الحميم إليها، ومعنى آن: أي بلغ حينه أي غاية حدة في الحرارة والغليان.
30- ألوان أخرى من الأشربة الخبيثة:
(4/157)
وليس هذا وحده ما يعذب به أهل النار من الطعام والشراب، بل إن لهم من ألوان الأشربة الخبيثة النتنة المهلكة أشكالاً وألواناً. قال تعالى: {هذا وإن للطاغين لشر مآب جهنم يصلونها فبئس المهاد هذا فليذوقوه حميم وغساق، وآخر من شكله أزواج} (ص:55-58)
فالحميم هو الماء الحار والغساق شراب خبيث لو ألقيت قطرة واحدة منه على بحار الأرض لأفسدت على أهل الأرض كلهم معايشهم.
قال صلى الله عليه وسلم: [{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} لو أن قطرة من الزقوم قطرت لأفسدت على أهل الأرض عيشهم فكيف من ليس لهم طعام إلا الزقوم] (رواه أحمد)
والأزواج الأخرى أشكال من جنس هذا عياذاً بالله من سخطه وعقابه.. وكل ذلك حق اليقين..
31- العذاب النفسي أشد من العذاب الجسماني:
وليس عذاب أهل النار عذاباً جسمانياً فقط، يعذبون فيه بالنار التي تنضج جلودهم، ثم ينبت في الحال غيرها، وتحرق صدورهم حتى يبلغ قلوبهم. قال تعالى: {نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة} (الهمزة:6-7) أي التي يدخل لهيبها إلى الفؤاد، والتي توضع أحجارها المحماة على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج الحجر من ظهره، ويوضع فوق ظهره حتى يخرج من صدره!!
قال صلى الله عليه وسلم: [بشر الكنازين برضف يحمى عليه في نار جهنم، فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من ناغض كتفيه، ويوضع على ناغض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثدييه، يتزلزل]!! (رواه مسلم)
ومن العذاب الجسماني في شربهم الحميم، وأكلهم الزقوم،ولدغ حيات كالبغال تنطلق من كهوف في النار ويسري سمها في أجسامهم يعمل عمل النار أو أشد... ليس هذا هو عذاب أهل النار فقط، بل إن عذابهم النفسي مثل ذلك وأشر. فمن ذلك:
(1) التقريع الدائم من خزنة النار كقولهم لهم {ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين} (الزمر:71)
(4/158)
(2) وكذلك إهمال ملائكة النار لاستغاثاتهم وصراخهم أو أن يرقوا لحالهم.. بل مضاعفة العذاب لهم كلما استغاثوا. قال تعالى: {وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه}. قال تعالى: {وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوم من العذاب* قالوا أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} (غافر:49-50)
وعندما يبلغ بأهل النار كَرْبَهُم وَغَمَّهُم غايته يسألون مالك خازن النار، وهو أشد ملائكة العذاب شدة وغلظة {يا مالك ليقض علينا ربك} فيرد عليهم بعد ألف سنة -وهو يوم واحد من أيام الآخرة- {إنكم ماكثون لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهين} (الدخان:77-78)
وإذا بلغ منهم الغم مداه عادوا بالمقت على أنفسهم فقالوا: {لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} (الملك:10) وهذا اعتراف منهم بالذنب أنهم لم يكونوا ذوي آذان تسمع النداء -نداء الحق- في الدنيا، ولا ذوي عقول تعي دعوة الحق التي جاءتهم على السنة الرسل!!
وإذا علموا السبب الحق في ضلالهم وعادوا بالملامة على أنفسهم، وندموا حيث لا تنفع الندامة، وتحسروا حيث لا تزيدهم الحسرة إلا مثلها، ومقتوا أنفسهم نودوا بما يصيبهم بغم وكرب أعظم من الذي نالوه كله، وهو أن سخط الرب ومقته لهم أعظم من مقتهم أنفسهم.
قال تعالى: {إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون} (غافر:10)
وسبب مقتهم أنفسهم أن الإيمان قد كان في متناول يدهم لو تناولوه، وأما الآن فالإيمان بعيد ولا يقبل منهم {وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد} (سبأ:52)
(4/159)
فقد كان المطلوب منهم إيماناً بالقلب بوحدانية الله وشهادة باللسان، وعملاً صالحاً سهلاً ميسوراً يستعذبه المؤمن في الدنيا، ويمتع به في الدنيا قبل الآخرة... فالصائم يفرح في الدنيا بصومه، والمصلي يشعر بالرضا بصلاته، والمتصدق يسكب الله في قلبه من معاني الخير والفضل ما هو خير من إمساكه ما تصدق به، والحاج يستعذب المشقة في سبيل الله وذاكر الله يقول: "إننا والله في نعمة لو علمها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف"!! والراضي بالحلال في المأكل والمشرب والمنكح يشعر بسعادة ورضى لا يشعر بها من يعيش فيما حرم الله عليه من المآكل والمناكح والمشارب. قال تعالى: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى} (طه:124)
(3) ومن العذاب النفسي لأهل النار قمعهم المطارق، وتأنيبهم مع هذا العذاب المذل بالتبكيت، وصنوف الإذلال كقول الملائكة لهم بعد صب العذاب فوقهم {ذق إنك أنت العزيز الكريم}!! (الدخان:49)
وقولهم {إن هذا ما كنتم به تمترون}!!، وقولهم {أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون}!! (الطور:15)
(4) ومن ذلك أن يكون العذاب في نفسه مهيناً كالسحب على الوجوه في النار {يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر}، والأخذ بالنواصي والأقدام، ثم الإلقاء في النار {يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام} (الرحمن:41)
أو الدفع والدز الشديد إلى العذاب. قال تعالى: {يوم يدعون إلى نار جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون} (الطور:13-14)
والدع: هو الدفع العنيف، والدز بشدة وقوة وعنف.
وقد سمى الله عذاب الآخرة بالعذاب المهين، وذلك أن من يصلاه يهان أعظم إهانة وأكبرها. قال تعالى: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين} (لقمان:6)
(4/160)
(5) وأعظم أنواع الإهانات التي يتلقاها أهل النار عياذاً بالله هي حلول غضب الله وسخطه عليهم، والتخلي عنهم، ونسيانه سبحانه وتعالى لهم ومقتهم. قال تعالى: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} (آل عمران:77)
(6) ومن ذلك الفضيحة بالذنب على رؤوس الأشهاد والتشهير بهم على الملأ، بل على رءوس الناس جميعاً منذ خلق الله إلى يوم القيامة. قال تعالى: {يوم تبلى السرائر* فما له من قوة ولا ناصر} (الطارق:9-10)
ومعنى تبلى تهتك، ويظهر ما كان في الخفاء مما أَسَرَّه أصحاب الذنوب والمعاصي.
وقال تعالى بعد أن صور مصارع الهالكين من قوم نوح وعاد وثمود، وأصحاب لوط، وقوم شعيب: {إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود} (هود:103)
أي يشهده الناس جميعاً ويحضرونه... فمن عذبه الله في هذا اليوم، وأظهر فضائحه على الملأ، وشهر به أمام جميع الخلائق، فقد أهانه أبلغ الإهانة، وأذله غاية الإذلال قال تعالى عن دعاء المؤمنين ربهم: {ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته، وما للظالمين من أنصار} (آل عمران:192)
وقال إبراهيم عليه السلام في دعائه: {ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} (الشعراء:87)
وقال صلى الله عليه وسلم: [لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة له بقدر غدره، ألا ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة] (رواه مسلم)
32- أعظم عذاب النار هو الخلود!!:
(4/161)
أهل النار قسمان: مخلدون خلوداً لا انقطاع له، ولا موت معه، وهم درجات فيها أعلاهم من يوضع في جب في أسفل النار، لو فتح هذا الجب فإن جهنم نفسها تستغيث بالله من حره!! وأدناهم منزلة وأقلهم عذاباً من يوضع في أخمص قدميه جمرتان يغلى منهما دماغه!! وهذا وإن كان أهون أهل النار عذاباً إلا أنه يظن، ويرى نفسه أنه أشد الناس عذاباً.
وتصور الخلود في العذاب أمر يفوق التصور!! ويقطِّع القلب!! فإن تصور أن يكون الإنسان في سجن ما ولو كان كسجون الدنيا يعيش فيه إلا ما لا نهاية، ولا يخرج منه أبداً بالموت ولا بغيره، بل يبقى فيه بقاءً سرمدياً... هذا التصور كاف في موت الإنسان غماً وكمداً وحزناً... فكيف لو كان هذا السجن: جدرانه، وأبوابه، وطعامه، وشرابه من النار!!؟
فكيف إذا كان هذا السجن بئراً إذا ألقي فيه هذا المعذب، هوى على أم رأسه سبعين سنة لا يصل إلى قرار؟!
فكيف إذا كانت النار التي نعهدها في هذه الدنيا جزءاً من سبعين جزء من نار الآخرة؟ كل جزء من التسعة والستين فيه مثل حر نار الدنيا؟!
إن تصور الخلود في هذا العذاب شيء يفوق الوصف... والعجب أن المصدق به لا يفر منه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: [عجبت للنار كيف نام هاربها]؟!
وإلا فمن عرف هذه النار وآمن بها وأنها موجودة حاضرة الآن وإذا مات في آية لحظة فقد يدخلها كيف له أن ينام وهي في الانتظار!!! ولكن إنها الغفلة والتسويف والانشغال بما حفت به النار من الشهوات.
33- من هم عصاة المؤمنين:
المؤمن الذي يموت على الإيمان إذا كان قد ارتكب في حياته معصية دون الكفر والشرك المخرج من الملة فإن له حالتان: إما أن يكون قد تاب من معصيته في حياته، وإما أن يكون مات غير تائب منها... فإن كان قد تاب منها في حياته توبة نصوحاً قبلها الله منه فإنه يعود كمن لا ذنب له، فلا يطالب بمعصيته هذه في الآخرة.
وأما إذا كان قد مات غير تائب من معصيته فإن لهذا أحوالاً:
(4/162)
(1) فمنها أن يتجاوز الله عنه إحساناً من الله وفضلاً ومناً. كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في النجوى [أن الله سبحانه وتعالى يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره فيقول: أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم، أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه هلك قال: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطي كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا ربهم ألا لعنة الله على الظالمين] (رواه البخاري)
هذا في موقف القيامة.
(2) ومنها أن تكون له حسنات كثيرة تربو على هذه السيئات، فيتجاوز الله عنه، ويسامحه في سيئاته لزيادة الخير الذي عنده. قال تعالى: {فمن ثقلت موازينه فأولئك المفلحون} (الأعراف:8)
وقال تعالى: {فمن ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية* ومن خفت موازينه فأمه هاوية} (القارعة:6-7)
(3) وإما أن يشاء الله سبحانه وتعالى عقوبته. وهذه العقوبة إما أن يعذب بها في القبر، أو في الموقف (يوم القيامة) أو في نار جهنم، ثم تتداركه بعد رحمة الله فينصرف إلى الجنة ما دام أنه قد مات على التوحيد والإيمان ولم يكن من أهل الكفر الناقل عن ملة الإسلام.
وهؤلاء المؤمنون العصاة هم الذين يموتون يوم يموتون وقد فعلوا معاصي لم يتوبوا منها، أو لم تقبل توبتهم فيها، أو ماتوا يوم ماتوا عليها -عياذاً بالله من سخطه- كمن مات وهو يزني أو وهو يسرق، أو وهو فار من الزحف أو هو يأكل الربا، أو ماتوا وهم يعملون ما دون ذلك من المعاصي والسيئات.
ثم شاء الله جل وعلا أن يعذبهم بمعاصيهم في القبر أو عرصات يوم القيامة في يوم مقداره خمسين ألف سنة من أيام الدنيا، أو في النار بعد ذلك.
34- الذنب والوعيد متحققان، والتوبة والمغفرة مظنونتان:
(4/163)
لقد وجدت أن وقوع الذنب من العبد متحقق سواء علم به العبد أو لم يعلم به، أو عَدَّه ذنباً، أو لم يعده ذنباً، وسواء تذكره أو نسيه، فكل ذنب وقع في الأرض فهو مكتوب مسطور ما لم يمحه الله بالتوبة.
ووجدت أن العقوبة التي رتبها الله على الذنب فهي كذلك متحققة، ما لم يغفر الله لفاعل الذنب.
ولما كانت الذنوب التي فعلتها أمراَ مقطوعاَ به، فقد كتب وسجل لا محالة في ذلك، والوعيد على الذنب مقطوع به فإن الله سبحانه وتعالى لا يقول إلا حقاً، ولا يتوعد إلا صدقاً إلا أن يتوب العبد توبة نصوحاً، فيغفر الله له، ولكن قبول التوبة يظل مظنوناً.
فما يدريني -ويدري غيري- أن الله قد قبل عذري، وأقال عثرتي، وغفر ذنبي!!
إنني أحسن الظن بالله -إن شاء الله- ولكني أسيء الظن في نفسي، فهل استكملت أركان التوبة؟ فأقلعت عن الذنب إقلاع من لا ينوي مراجعته قط!! وهل ندمت على فعل كل ذنب أذنبته، ندم من يقطع بالعقوبة عليه إن لم يغفر الله؟ وهل عزمت على عدم العودة ما حييت!! وهل رددت حقوق الآدميين لهم؟ وتحللت منهم مما لا أستطيع رده؟ كيف وعندي ما لا يعلمه إلا الله من الذنوب التي هي حق خالص لله، وجبال أخرى من الذنوب التي تتعلق بحقوق الآدميين !!؟
وأقول: اللهم أنت ربي وأنا عبدك وأنا على عهدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، وأبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
35- طريق أهل الإيمان إلى الجنة طريق طويل فليستعدوا له:
نظرت في طريق المؤمن إلى الجنة فرأيت أن العصاة من أمثالي أمامهم درب طويل، وطريق محفوف بالمخاطر، ومفاوز عظيمة، وعقبات وعقبات، وأن هناك من عصاة المؤمنين من يُقْتَطَعُ دون الجنة، فيمكث في النار ما شاء الله أن يمكث، وأنه لا يدخل الجنة بعد ذلك إلا محترقاً، ثم ينبت له لحم جديد!!
(4/164)
وأما طريق الكفار إلى النار، فهو قصير جداً... القبر أول منازله. قال تعالى عن قوم نوح: {مما خطيئاتهم أغرقوا فادخلوا ناراً} (نوح:25) بفاء التعقيب.
وقال تعالى في قوم فرعون: {النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب} (غافر:46) ثم البعث فالحشر فالنار..
وأما أهل الإيمان فإن طريقهم إلى الجنة طويل، ولا يدخلونها إلا بعد أن يدخل أهل النار النار، ولنبدأ رحلة الإيمان من أولها:
36- الموت آت لا محالة:
من هذه اللحظة إلى الموت قدر من العمر قد يكون لحظة، وقد يستمر سنوات!! وأعمار أمة محمد عامتهم بين الستين والسبعين، ولا يجاوز هذا العمر إلا القليل النادر..
إنني اليوم -كاتب هذه السطور- قد جاوزت الستين (القمرية) وإذن فقد بلغت تمام العمر، وأنا اليوم في الوقت الإضافي...
ومنذ اللحظة إلى لحظة الوداع لا يدري أحد ما تكون الخاتمة. قال صلى الله عليه وسلم: [إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها].
وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: [إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة] (متفق عليه)
اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلي أن تثبتني على الإيمان حتى ألقاك ، وأن تجعل خير أيامي آخرها، وأحسن عملي خواتيمه. اللهم اختم لي ولإخواني المؤمنين بخاتمة أهل السعادة، ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا يا رب العالمين.
(4/165)
وسيظل المؤمن خائفاً من تقلب قلبه. وهل سمي القلب قلباً إلا لتقلبه؟ ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الجبل الراسخ في الإيمان، خير عباد الله على الإطلاق. يقول: [يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك]، وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: كان أكثر ما كان النبي يحلف: [لا ومقلب القلوب] (رواه البخاري)
فما يدريني أنا أو غيري كيف تكون لحظة النهاية!! هذا ونحن نعيش العصر الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: [بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يمسي المرء مؤمناً، ويصبح كافراً، ويصبح مؤمناً ويمسي كافراً يبيع أحدهم دينه بعرض من الدنيا قليل] (رواه أحمد ومسلم والترمذي)
{ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب}
37- هل يعاني المؤمن سكرات الموت:
الموت لحظة رهيبة، والكل يخافه ويكرهه، المؤمن والكافر... ولابد لكل أحد منه ، ولا فرار عنه، ونزع الروح نزع، وآلام، وكل إنسان يذوقه مؤمناً أو كافراً... قال تعالى: {كل نفس ذائقة الموت}. وقال تعالى: {إنك ميت وإنهم ميتون}...
والمؤمن لا يناله من ألم الموت إلا القليل، وأما الكافر فإن نزع الروح هو أول العذاب له.
يروي البخاري في صحيحه: [أن عائشة رضي الله عنها كانت تقول: إن من نعم الله علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته، دخل علي عبدالرحمن (أخوها) وبيده السواك، وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته ينظر إليه، عرفت أنه يحب السواك فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فتناولته فاشتد عليه، وقلت ألينه لك، فأشار برأسه أن نعم، فلينته، وبين يديه ركوة أو علبة -يشك عمر- فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه يقول: لا إله إلا الله، إن للموت سكرات!! ثم نصب يده فجعل يقول: في الرفيق الأعلى حتى قبض ومالت يده صلى الله عليه وسلم] (رواه البخاري)
(4/166)
38- لحظة الموت لحظة الإخبار بالنتيجة النهائية:
ولحظة الموت لكل عبد من عباد الله هي مرحلة الإخبار بالنتيجة النهائية... فالمؤمن يبشر بالجنة والكافر يبشر بالنار. قال تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة (أي عند الموت) ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون* نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون* نزلاً من غفور رحيم} (فصلت:30-32)
وأما الكافر فإنه يتلقى الصفعات عند الموت. قال تعالى: {فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم} (محمد:27)
ويبشر بالنار وَيُقَرَّع عند الموت. قال تعالى:{الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء. بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون، فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين} (النحل:28-29)
39- اللحظات الأخيرة في حياة المؤمن والكافر:
(4/167)
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذه اللحظات الأخيرة في حياة المؤمن والكافر فقال صلى الله عليه وسلم: [إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحَنُوط من حَنُوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت، حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة، أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان. فتخرج، فتسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط. ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض. فيصعدون بها، فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان -بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا- حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي إلى السماء السابعة.
فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوا عبدي إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى.
فتعاد روحه فيأتيه ملكان، فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله. فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت.
فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي!! فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة. فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد البصر. ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير. فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة!! رب أقم الساعة!! حتى أرجع إلى أهلي ومالي.
(4/168)
وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المَسُوح. فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة أخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السَّفُّود من الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض.
فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان -بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا- فيستفتح له، فلا يفتح له، ثم قرأ {لا تفتح لهم أبواب السماء} فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى!! فتطرح روحه طرحاً، فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان، فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه. لا أدري. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول:هاه هاه. لا أدري. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول:هاه هاه. لا أدري. فينادي مناد من السماء: أن كذب عبدي، فأفرشوه من النار، وافتحوا له باباً إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره، حتى تختلف أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت فوجهك يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب لا تقم الساعة]. (أخرجه أحمد وأبو داود وابن خزيمة والحاكم وصححه شيخنا الألباني)
40- من عصاة المؤمنين من يعذب في قبره على صغير من الإثم وكبير:
(4/169)
وعصاة المؤمنين قد يعذب بعضهم في قبره في صغير من الذنوب وكبير: فمنهم من يعذب بالنميمة، ومنهم من يعذب لأنه لم يكن يستنزه من بوله، ومنهم من يعذب في دين كان عليه لم يؤده، ففي مسند أحمد رحمه الله عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال: توفى رجل فغسلناه وحنطناه، وكفناه ثم أتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عليه، فقلنا تصلي عليه فخطا خطى ثم قال: [أعليه دين]؟ قلنا: ديناران. فانصرف!! فتحملهما أبو قتادة فأتيناه. فقال أبو قتادة: الديناران علَيَّ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أَحَقَّ الغريم وبرئ منهما الميت]؟! قال: نعم. فصلى عليه ثم قال بعد ذلك بيوم: [ما فعل الديناران]؟! فقال أبو قتادة: إنما مات أمس!! فعاد إليه من الغد فقال: قد قضيتهما فقال رسول الله: [الآن بردت عليه جلده]!!.
وقوله صلى الله عليه وسلم: [الآن بردت عليه جلده] يدل على أنه كان يعذب في القبر إلى أن أدى ما عليه من الدين.
ومنهم من مات شهيداً مع النبي صلى الله عليه وسلم ولما كان قد غَلَّ بردة لا تساوي أربعة دراهم فقد دخل العذاب بعد الموت مباشرة..
(4/170)
ففي صحيح الإمام البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر فلم نغنم ذهباً ولا فضة إلا الأموال والثياب والمتاع، فأهدى رجل من بني الضبيب، يقال له رفاعة بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً يقال له مدعم، فوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي القرى حتى إذا كان بوادي القرى بينما مدعم يحط رحلاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سهمٌ عائرٌ فقتله، فقال الناس: هنيئاً له الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كلا والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه ناراً]!! فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بشراك أو شراكين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: [شراك من نار أو شراكان من نار]!!
وقد روى هذا الحديث مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، ففتح الله علينا، فلم نغنم ذهباً ولا وَرِقاً، غنمنا المتاع والطعام والثياب، ثم انطلقنا إلى الوادي، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد له، وهبه له رجل من جذام، يدعى رفاعة بن زيد من بني الضبيب، فلما نزلنا الوادي قام عبد رسول الله صلى الله عليه وسلم يحل رحله فرمى بسهم، فكان فيه حتفه، فقلنا: هنيئاً له الشهادة يا رسول الله!! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كلا والذي نفس محمد بيده! إن الشملة لتلتهب عليه ناراً أخذها من الغنائم يوم خيبر لم تصبها المقاسم] قال: ففزع الناس فجاء رجل بشراك أو شراكين فقال: يا رسول الله أصبت يوم خيبر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [شراك من نار أو شراكان من نار]!!
(4/171)
فانظر -أخي المسلم- فإن أخذ شراك من الغنائم لا شك أنه من صغار الذنوب لأن الشراك لا يساوي شيئاً، ولا يشاح فيه، ومن فقده لا يسأل عنه، ومع ذلك لما كان غلولاً لم يتسامح فيه!! وهذا من أبين الأدلة على أن المؤمن قد يعذب في قبره في صغائر من الذنوب.
41- القبر: بغير عذابٍ عذابٌ:
والقبر وإن كان بغير عذاب فهو عذاب فهو منزل رهيب. إنه الوحدة والوحشة والظلمة والضيق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن هذه القبور ممتلئة على أهلها ظلمة، وإن الله يُنَوّرها لهم بصلاتي عليهم]!! (رواه أحمد ومسلم)
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد... اللهم أعذني وأخواني المؤمنين من عذاب القبر، اللهم نور علينا قبورنا، ولا تردنا على أعقابنا بعد إذ هديتنا للإسلام.
وليس من مؤمن إلا وهو يستقبل من القبر بضمة وضغطة، قال صلى الله عليه وسلم في سعد بن معاذ: [هذا الذي تحرك له العرش وفتحت له أبواب السماء وشهده سبعون ألفاً من الملائكة لقد ضُمَّ ضمةَ ثم فرج عنه] (رواه النسائى وصححه الألباني)
فإذا كان هذا حال سعد بن معاذ سيد الأوس، السابق بالإيمان، والذي لا تحصى مناقبه، والذي اهتز لموته عرش الرحمن... فما بالك بسواه؟! والمؤمن والكافر والمنافق كل رهين عمله في القبر، وحياة البرزخ حياة بكل الأحاسيس والمشاعر التي كانت في الحياة الدنيا ففي القبر الفرح والسرور والبشري، وفيه الحزن والغم والهموم والآلام...
42- الموقف والحشر: اليوم الثقيل الطويل العبوس القمطرير!!
(4/172)
وما بعد القبر أعظم منه إنه البعث والنشور إنه اليوم الثقيل الطويل العبوس القمطرير!! إنه يوم واحد ولكنه خمسون ألف سنة من أيام الدنيا طولاً... يومٌ لا تغرب شمسه إلا بعد مضي خمسين ألف سنة، يوم يقوم الناس فيه لرب العالمين في رشحهم وعرقهم إلى أنصاف آذانهم. فمنهم من يأخذه عرقهُ إلى كعبيه، ومنهم من يأخذ عرقه إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه عرقُه إلى ثدييه ومنهم من يلجمه عرقه، ومنهم من يغط في عرقه غطيطاً.
وقد حذر الله جميع عباده منه فقال تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم* يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد} (الحج:1-2)
وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقوم بالليل استعداداً وحذراً لهذا اليوم. قال تعالى: {ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلاً طويلاً إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً} (الإنسان:26-27)
وقال تعالى: {فكيف تتقون إن كفرتم يوماً يجعل الولدان شيباً* السماء منفطر به} (المزمل:17-18)
وقال تعالى: {سأل سائل بعذاب واقع* للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج* تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة* فاصبر صبراً جميلاً} (المعارج:1-4)
وقال تعالى بعد ذكره لمصارع الغابرين: {إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود} (هود: 103)
وقال تعالى: {أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه* قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب} (الزمر:9)
وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم من أحوال هذا اليوم وطوله، وتهاويله وآلامه، ومشاهده ما يخلع القلب، ويدمع العين، ويحمل على التفكير فيه وحده، والانصراف عن كل شيء دونه!!
(4/173)
فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: [تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حِقْوَيه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً] قال: وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه. (رواه مسلم)
ففي هذا اليوم العصيب يرى كل حميم حميمه فيفر منه، ويشتغل بنفسه عنه، قال تعالى: {ولا يسأل حميم حميماً}، وقال تعالى: {يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} (عبس:34-37)
في هذا اليوم يكون الكافر في عذاب هائل من الخوف والقلق، واليأس من رحمة الله، وانتظار العذاب المحقق في النار، ويصبح وجهه كالليل سواداً وظلمه مما هو فيه من الكرب العظيم. قال تعالى: {كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً} (يونس:27)
وقال تعالى: {يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشراً نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوماً} (طه:102-104)
وأما أهل الإيمان فهم في أرض المحشر درجات في حصول الشدة والكرب، والهم والغم وكل واحد منهم فيما هو فيه حسب إيمانه، وعمله الصالح، وحسب ما ارتكب كل من السيئات.
43- مانع الزكاة يعذب خمسين ألف سنة:
ومن أهل الإيمان ممن له معاصي لم يشأ الله أن يغفرها له يعذب في أرض المحشر على هذه المعاصي (خمسين ألف سنة) حتى يقضي بين الخلائق -عياذاً بالله من سخطه وعقابه- فمن ذلك:
مانع الزكاة: ففي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ما من صاحب كنز لا يؤدي حقه، إلا جعل صفائح يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جبهته وجنبه وظهره، حتى يحكم الله عز وجل بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون]. (رواه الإمام أحمد)
(4/174)
وفي صحيح الإمام مسلم قال صلى الله عليه وسلم: [ما من صاحب ذهب ولا فضة، لا يؤدي منها حقها إلا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه، وجبينه، وظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله وإما إلى الجنة وإما إلى النار]
قيل: يا رسول الله فالبقر والغنم؟ قال: [ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة، بطح لها بقاع قرقر، لا يفقد منها شيئاً، ليس فيها عقصاء، ولا جلجاء، ولا عضباء، تنطحه بقرونها، وتطؤه بأظلافها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله وإما إلى الجنة وإما إلى النار]...
وقيل: يا رسول الله فالخيل؟ قال: [الخيل ثلاثة: هي لرجل وزر، وهي لرجل ستر، وهي لرجل أجر. فأما التي هي له وزر: فرجل ربطها رياء وفخراً ونواء على أهل الإسلام، فهي له وزر. وأما التي هي له ستر، فرجل ربطها في سبيل الله ثم لم ينس حق الله في ظهورها، ولا رقابها، فهي له ستر. وأما التي هي له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام في مرج أو روضة، فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة من شيء إلا كتب له عدد ما أكلت حسنات، وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات، ولا تقطع طولها فاسْتَنَّت شرفاً أو شرفين إلا كتب الله له عدد آثارها، وأرواثها حسنات، ولا مر بها صاحبها على نهر، فشربت منه، ولا يريد أن يسقيها إلا كتب الله له عدد ما شربت حسنات].
قيل: يا رسول الله فالحمر؟ قال: [ما أنزل علي في الحمر شيء إلا هذه الآية الفاذة الجامعة: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره* ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره}] (رواه مسلم)
(4/175)
وتصديق هذا الحديث في كتاب الله تعالى قوله جل وعلا: {يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم* يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون} (التوبة34-35)
44- مؤمنون في ظل الله يوم القيامة:
ومن أهل الإيمان من يكونون في ظل الله قد خصهم الله بهذه الكرام لاختصاصهم بأعمال عظيمة. قال تعالى: {إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً* عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً* يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً* ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً* إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً* إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً* فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسروراً} (الإنسان:5-11)
وقال صلى الله عليه وسلم: [سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه، وتفرقا عليه. ورجل دعته امرأة ذات حسن وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه] (متفق عليه)
45- المرور على الصراط هو الكرب الأعظم لأهل الإيمان!! السابقون يجوزون، والعصاة يسقطون:
والمرحلة قبل الأخيرة من هذا اليوم (يوم القيامة) هي أعسر مراحله، وأصعب أوقاته، إنه العبور فوق جهنم من أرض المحشر إلى قنطرة أخرى قبل الجنة... إنه عبور فوق النار كلها. وما أعرض هذه النار؟! وما أعظم اتساعها ولو قربنا المعنى لقلنا: إنه عبور فوق الشمس!! بل الشمس كوكب صغير في النار!!
(4/176)
فهل فكرت يا عبدالله في أنه يتوجب عليك أن تعبر فوق ما يشبه الشمس حراً وناراً، واتساعاً، بل الشمس الذي ينفجر بركانها، وتصل حرارة سطحها إلى مليوني درجة جزء صغير من نار الآخرة.
فإذا تصورنا النار كما صورها الله لنا في القرآن، وكما أخبر عنها رسوله صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الكثيرة، وعلمنا أنها بئر عميقة قد بعد قرارها بعداً لا تستوعبه عقولنا إلا أن نقيس ذلك بالبعد بين الكواكب في هذا الكون الفسيح، وأنها في التهاب الشمس بل أعظم، وإنها واسعة بحيث تكون الشمس هذه ذاتها، والقمر هذا ذاته الذي نراه حجرين صغيرين في صحراء واسعة. قال صلى الله عليه وسلم: [الشمس والقمر مكوران في النار يوم القيامة]. (رواه البخاري)
وإذا كان أهل الإيمان يكربون في الموقف العظيم والمشهد الهائل والقيام لرب العالمين، وكرب كل واحد منهم على قدر ذنوبه ومعاصيه، ومن أهل الإيمان من يفتن في قبره، ويعذب حتى ينفخ الصور. ومنهم من يعذب بالنار في محشره في هذا اليوم الطويل العصيب حتى يقضي الله بين الخلائق... فإن ثمة ما هو أعظم لهم جميعاً وأكبر فتنة وهولاً، وهو المرور على الصراط والجواز منه إلى الجنة... فإما عبور وسلامة، وإما معاناة طويلة طويلة!! وإما هوى في نار جهنم إلى غاية لا يعلمها إلا الله وحده حتى تدركهم الشفاعة ورحمة الله في نهاية المطاف...
قال صلى الله عليه وسلم: [ويضرب الصراط بين ظهري جهنم، فأكون أنا وأمتي أول من يجيز، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، ودعوى الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم!!
وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان، هل رأيتم السعدان؟] قالوا: نعم يا رسول الله. قال: [فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم ما قدر عظمها إلا الله تخطف الناس بأعمالهم، فمنهم المؤمن بقي بعمله، ومنهم المجازي حتى يُنَجَّى]. (رواه مسلم)
(4/177)
وقال صلى الله عليه وسلم: [ثم يضرب بالجسر على جهنم وتحل الشفاعة، ويقولون: اللهم سلم سلم] قيل: يا رسول الله! وما الجسر؟ قال: [دَحْضٌ مزلة فيه خطاطيف وكلاليب وحسك، تكون بنجد فيها شويكة يقال لها: السعدان، فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناجٍ مسلم، ومخدوش مرسل، ومكدوس في نار جهنم.
حتى إذا خلص المؤمنون من النار، فوالذي نفسي بيده! ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله، في استقصاء الحق، من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار. يقولون: ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون!! فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم!! فَتُحَرم صورهم على النار. فيخرجون خلقاً كثيراً قد أخذت النار إلى نصف ساقيه، وإلى ركبتيه ثم يقولون: ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به. فيقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا، ثم يقول: ارجعوا. فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً. ثم يقولون: ربنا ! لم نذر فيها خيراً].
وكان أبو سعيد الخدري يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فأقرأوا إن شئتم {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها، ويؤت من لدنه أجراً عظيما}.
[فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط، قد عادوا حمماً، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة، فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل. ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر، ما يكون إلى الشمس أصيفر وأخيضر، وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض؟] فقالوا: يا رسول الله ! كأنك كنت ترعى بالبادية!!
(4/178)
قال: [فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم، يعرفهم أهل الجنة. هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه.
ثم يقول: ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم، فيقولون: ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين فيقول: لكم عندي أفضل من هذا، فيقولون: يا ربنا أي شيء أفضل من هذا؟ فيقول: رضاي، فلا أسخط عليكم بعده أبداً]. (رواه مسلم)
ويبقى من حبسه القرآن. فمن هم؟
46- من الذين حبسهم القرآن:
الذين حبسهم القرآن كثيرون؟ وهم الذين أخبر الله عنهم أنهم مخلدون في النار أولهم: الكفار المشركون قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء:116)
وقال تعالى: {وما هم منها بمخرجين}، وقال تعالى عنهم: {إنكم ماكثون}، والآيات في خلود الكفار في النار خلوداً لا انقطاع فيه كثيرة جداً.
وقال صلى الله عليه وسلم: [اعلموا أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة]. (رواه مسلم)
ومن الذين حبسهم القرآن وقضى بخلودهم: قاتل النفس ظلماً الذي لم يتب من ذلك قال جل وعلا: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها، وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً} (النساء:93)
وآكل الربا الذي مات غير تائب منه. قال تعالى: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا، وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} (البقرة:275)
وهؤلاء لا يحكم فيهم إلا رب العالمين، ولا يخرجون من النار إلا بإذن أحكم الحاكمين.
وكم يستمر خلودهم في النار حتى تتداركهم الرحمة هذا علمه إلى الله سبحانه وتعالى وحده، ولا شك أن خلود هؤلاء العصاة ليس كخلود الكفار، ولكنه بقاء طويل لأن هذا هو معنى الخلود.
47- هل قدر المؤمنون السقوط عن الصراط:
(4/179)
فانظر يا عبدالله يا من تقرأ أو تسمع هذا الكلام، واقدر هذا اليوم حق قدره، فإنه مكتوب على كل عبد من عباد الله أن لا يدخل الجنة إلا أن يجاوز النار عبوراً فوق الصراط. قال تعالى: {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا} (مريم:71-72)
والصراط ما قد علمت جسر طويل طويل طويل فوق جهنم ويوم يضرب الجسر على جهنم ستقوم الأمانة في جانب وتقوم الرحم في الجانب الآخر إيذاناً وإعلاناً أن من أدى الأمانة ووصل الرحم نجا، ووصل الجنة، وأما من خان الأمانة أو قطع الرحم خانته رجلاه فسقط، وانقطع أن يصل الجنة!!
وهذا الذي سقط في النار، كم سيبقى في النار حتى تدركه الرحمة؟! إن بقي يوماً واحداً فقد بقى ألف سنه!! وإن بقي نصف يوم فخمسمائة عام!!
قال تعالى: {ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون} (الحج:47)
48- لحظة واحدة في النار تنسي المعذب كل نعيم رآه قبل ذلك:
وإن لحظة واحدة في النار بل غمسة واحدة تنسيك كل نعيم تنعمت به في الأرض.
قال صلى الله عليه وسلم: [يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في جهنم صبغة، ثم يقال له: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ في الجنة صبغة فيقال له: يا ابن آدم! هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب. ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط!!]
49- وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون!!
وقل للذين يمنون أنفسهم وينظرون إلى معاصيهم كأنها ذباب وقع على أنف أحدهم وأنه لو أشار إليه لذبه وطرده.. هل سمعت بقول النبي صلى الله عليه وسلم: [وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء]!! (رواه مسلم)
(4/180)
وقوله صلى الله عليه وسلم: [يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار]. فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: [تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، وما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب الرجل الحازم من إحداكن]. قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: [أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟] قلن: بلى. قال: [فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟] قلن: بلى. قال: [فذلك من نقصان دينها] (رواه البخاري)
فانظر أليس إكثار اللعن من صغار الذنوب، وأليس كفران نعمة الزوج أن تقول: ما رأيت منك خيراً قط!! وأليس كون المرأة تستطيع أن تميل الرجل الحازم وتفتنه أن يقوم بواجب أو أن يفعل محرماً كذلك!! فإذا كانت النساء يدخلن النار في مثل هذه المعاصي، ولا تدرك رحمة الله من تلبست بمثل هذه المعاصي إلا بعد دخول النار، فهل يأمن أحد بعد ذلك أن يؤاخذه الله بالذنب. فإن المرأة في أساس الخلق أقل من الرجل عقلاً وحكمة تعذب في النار بمثل هذه الذنوب!! فكيف بمن يرتكب الكبائر ولا يتوب، ومن يفعل ما يظنه من الصغائر ولا يرعوي!! ومن يظن أنه ناج من أول وهله بتصديق القلب فقط دون إسلام الجوارح!! وإيمان القلب.
50- المرحلة الأخيرة (التصفية النهائية):
وبعد تلك المرحلة الشاقة العسيرة: عبور الجسر (الصراط) وخلوص من خلص من النار من عصاة المؤمنين.
تبقى المقاصّة بين المؤمنين، وتصفية ما بقي من حساب بعضهم على بعض. روى الإمام البخاري رحمه الله عن قتادة عن أبي المتوكل الناجي: أن أبا سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذِّبوا ونُقّوا أذن لهم في دخول الجنة!! فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا].
(4/181)
وهذا الحبس على هذه القنطرة بين النار والجنة قد يطول ببعض العصاة... فكم لكثير من أهل الإيمان حق على إخوانه المؤمنين قد هضموه، وعرض قد هتكوه، ومالٍ قد سلبوه، وكم يقع من الظلم بين المسلمين!!!
51- أخيراً: الجنة تفتح أبوابها: الفقراء يدخلون!! والأغنياء يؤخرون!!
وبعد هذه المراحل الطويلة والعقبات الكبيرة: يقف المؤمنون على أبواب الجنة التي لم تفتح بعد!! ولا تفتح حتى يأتي من أعلى الله منزلته في الدنيا والآخرة، ومن جعله سيداً للناس أجمعين. وهل يدخل المؤمنون الجنة إلا أن يدخل سيدهم وإمامهم!! يأتي رسول الله محمد بن عبدالله أكرم العباد على الله فيكون أول من يطرق باب الجنة والناس ينظرون، والمؤمنون ينتظرون، وينادي من داخلها من رضوان خازنها: [بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك] (رواه مسلم)
قال صلى الله عليه وسلم: [أنا أول شفيع في الجنة]. (رواه مسلم)، وقال: [أنا أول من يأخذ بحلق باب الجنة فأقعقعها]. (رواه أحمد والترمذي وصححه شيخنا الألباني)
وتفتح الجنة أبوابها الثمانية ما بين مصراعي الباب الواحد ما بين مكة وهجر (البحرين)، ولكل باب اسم مخصوص، باسم عبادة من العبادات: باب الصلاة، وباب الزكاة، وباب الريان (باب الصوم)، باب الجهاد، وباب الوالدين.
ويصنف أهل الإيمان بحسب درجاتهم في العبادة، وينادي الملائكة الذين اصطفوا على باب الجنة كل أهل عباده ليدخلوا من بابهم...
وهناك من يكرم من أهل الإيمان فيناديه ملائكة كل باب لأنه كان من أهل هذه العبادات جميعاً، فقد كان من السابقين في كل أبواب الخير، باراً بوالديه. قال صلى الله عليه وسلم: [الوالد أوسط أبواب الجنة] (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم)، سابقاً في الصلاة، وسابقاً في الصوم، وسابقاً في الزكاة..
ويدخل الفقراء أولاً!! ويحبس أغنياء المؤمنين!! (يحبسون نصف يوم.. خمسمائة عام). إنه تعويض عن فترة حرمان في الدنيا...
(4/182)
قال صلى الله عليه وسلم: [قمت على باب الجنة فإذا عامة من دخلها المساكين، وإذا أصحاب الجد محبسون، إلا أصحاب النار فقد أمر بهم إلى النار، وقمت على باب النار، فإذا عامة من دخلها النساء]. (رواه أحمد والبخاري)
وقال صلى الله عليه وسلم: [أبشروا يا فقراء المهاجرين. تدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم] (رواه البخاري)
وإذا دخل أهل الجنة، ذهب كل إلى منزله دون مرشد أو قائد يقوده، أو معرف يعرفه منزله..
قال صلى الله عليه وسلم: [فوالذي نفسي بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا] (رواه البخاري)
وقال تعالى: {والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم، ويدخلهم الجنة عرفها لهم} (محمد:4-6)
52- قد كان الأمن السابق تغريراً:
وبعد لقد نظرت حالي في هذه المرحلة فوجدت أنني قد عشت دهراً من عمري مغروراً، ووجدت أن الأمن الذي كنت أشعر به كان تغريراً!! وكان الذي كشف لي هذه الحقيقة مجموعة من الأمور تجمع بعضها مع بعض، فكشفت عن العين ما كان مستوراً، وإن لم في يكن حقيقته مستوراً!! فإن القرآن قد نطق به كثيراً، والرسول قد خطب به على منبره دهراً طويلاً، ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم النار رأي العين قال صلى الله عليه وسلم: [لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً]!! (رواه البخاري)
وكان صلى الله عليه وسلم إذا خطب عن الجنة والنار احمر وجهه كثيراً، واشتد غضبه وعلا صوته كأنه منذر جيش يقول: [صبحكم ومساكم]. (رواه مسلم)
وكان صلى الله عليه وسلم إذا سمع كلمه يقولها صحابي من كلمات الطمأنينة والثقة والجزم بالجنة لمن عرف صلاحه... يقول: [والله ما أدري -وأنا رسول الله- ما يفعل بي]!! (رواه البخاري)
(4/183)
ففي البخاري أن أم العلاء امرأة من نساء الأنصار بايعت النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن عثمان بن مظعون طار لهم في السكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين. قالت: أم العلاء، فاشتكى عثمان عندنا، فمَرَّضْتُه حتى توفى، وجعلناه في أثوابه، فدخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب!! شهادتي عليك: لقد أكرمك الله!! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [وما يدريك أن الله أكرمه؟] قال: قلت لا أدري. بأبي وأمي يا رسول الله. فمن؟ قال: [أما هو فقد جاءه والله اليقين!! والله إني لأرجو له الخير، وما أدري والله، وأنا رسول الله ما يفعل بي؟!] قالت: فوالله لا أزكي أحداً بعده!! قالت: فأحزنني ذلك فنمت، فرأيت لعثمان عيناً تجري، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته. فقال: [ذلك عمله].
وأقول: فهل بعد ذلك يطمئن مؤمن إلى عمله؟ وينام قرير العين ولما يعلم منزله في الجنة أو في النار؟
53- دعوة ومناشدة واسترحام لأخواني المسلمين:
إخواني وأحبائي المسلمين:
قد قال صلى الله عليه وسلم: [من كانت لأخيه عنده مظلمة من عرض أو مال، فليتحلله اليوم، قبل أن يؤخذ منه يوم لا دينار ولا درهم، فإن كان له عمل صالح، أخذ بقدر مظلمته وإن لم يكن له عمل أخذ من سيئات صاحبه فجعلت عليه] (رواه البخاري)
وقد نظرت في صحائفي نظرة سريعة إلى الوراء فوجدت من الحقوق والديون لإخواني من المسلمين ما لا أستطيع الوفاء به، إنها سلسلة طويلة من المظالم!! وأنا راجع عنها في الدنيا قبل الآخرة، وداع كل من له مظلمة عندي أن يسامحني في هذه الدنيا، وجزاه الله خيراً أو يطالبني الآن، وجزاه الله خيراً إذا عجل مطالبته هنا في هذه الدنيا، وهو بذلك نعم الأخ والصديق!! وأرجو من كل أخ مشفق صديق، وأناشده الله ألا يؤخر مطالبته يوم القيامة.
(4/184)
اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا، ورحمتك التي وسعت كل شيء، أسألك بأنك أنت الله رب العالمين، البر الرحيم الغفور الودود، ذو العرش الكريم، أن تتجاوز عن خطيئاتي، وأن تغفر لي ذنبي، وأن تجزي كل مؤمن صنع إحساناً بإحسان من عندك، وأن تغفر لكل من أساء إلي أو ظلمني أي مظلمة كانت.
اللهم تقبل عملي إنك أنت السميع العليم.. رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأصلح في ذريتي إني تبت إليك وإنني من المسلمين.
*********
****(4/185)