وكان الكفاح الجزائري قد لفت إليه الأنظار ، وتناولته الصحف والإذاعات العالمية بالشرح والتعليق .. ورحت أسأل الوفود الغربية :
- كيف تقفلون أبواب الأمم المتحدة في وجه القضية الجزائرية ، وهذه صحفكم واذاعاتكم قد انفتحت لها .. كيف لا ترفعون صوتكم في تأييد حق الشعب الجزائري في وطنه ، وهؤلاء أساتذة الجامعات في فرنسا ، ومعهم رجال الكنيسة ، ومجموعة من أحرار الفكر والضمير في الشعب الفرنسي ، يسمونها "الحرب القذرة" ويطالبون حكومتهم بالتفاهم مع الشعب الجزائري على أساس ديمقراطي عادل ..
ثم وجهت حديثي إلى الوفدين الإفرنسي والأمريكي قائلا:
- أنتم يا أحفاد الثورة الإفرنسية . وأنتم يا أحفاد الثورة الأمريكية .. ماذا ستقولون لشعوبكم وماذا ستقولون للتاريخ .. نحن لا نريد لفرنسا إدانة ولا إهانة ، كل ما نريده الوصول إلى حل سلمي ديمقراطي وفق أهداف الأمم المتحدة .. ألم توقعوا على ميثاق الأمم المتحدة ؟ وهل في الأمم المتحدة من يعارض الالتزام بميثاق الأمم المتحدة ..؟
كانت القاعة مليئة ، وكان ممثلو الصحف العالمية يراقبون .. وكأنهم يبحثون عن ذلك الوفد الذي يعارض في الحل السلمي الديمقراطي وحق ميثاق الأمم المتحدة .
ولم تستطع الدول الغربية أن تقول لا .. فقد استأثرت الثورة الجزائرية باهتمام الرأي العام العالمي.. وهكذا صدر القرار من الأمم المتحدة تعرب فيه الجمعية العامة عن أملها في ايجاد حل ديمقراطي سليم عادل .. ينطبق على مبادئ ميثاق الأمم المتحدة ، وكان هذا أول نصر سياسي للقضية(1/870)
الجزائرية على صعيد الأمم المتحدة .. فلم تعد قضية (إفرنسية داخلية ) وإنما قضية دولية ، وبقرار من الأمم المتحدة نفسها .
أجل ، لقد كانت خطوة واسعة على الطريق .. ولكن كان لا يزال أمام القضية الجزائرية طريق طويل في الوطن .. ثم في الأمم المتحدة .
ومضى العام كله -1957- والحرب الجزائرية مشتعلة في جميع الساحات والميادين ، لتدخل عامها الثالث ، دون أن تذعن فرنسا لقرار الأمم المتحدة ، وأصبحت الحرب الجزائرية هي القضية الملتهبة لدى الرأي العام الدولي ، وتكاثر عدد المؤيدين لها في فرنسا وأوروبا وأمريكا ، حتى على صعيد الكتلة الآسيوية الإفريقية ، فقد تقدمت اثنتان وعشرون دولة لإدراج القضية الجزائرية على جدول أعمال الدورة الثانية عشرة ، في حين أن الذين طلبوا إدراجها من المجموعة الآسيوية الإقريقية في عام 1955 كانوا أربع عشرة دولة .
وجاء المسيو بينو وزير خارجية فرنسا على رأس وفد كبير ليدحض الشكوى الجزائرية ، ووصل كذلك الوفد الجزائري وانبث أعضاؤه في أروقة الأمم المتحدة ودارت المعركة السياسية في المنظمة العالمية على أشدها .. ووراءها المعركة العسكرية على أرض الجزائر تلهب العالم بأنباء البطولة التي تتجلى في هجمات جيش التحرير الجزائري ، وهو يخوض المعركة في وجه عدو تفوق من غير حساب ، في العدة والعدد والسلاح .
وتوليت عرض القضية الجزائرية بشرح وإسهاب ، تاريخها وتطورها ، معاركها السابقة واللاحقة منذ عهد الأمير عبد القادر الجزائري إلى يومنا هذا .. وألمحت إلى أن ذلك العام هو عام إفريقيا استقلت فيه(1/871)
عشرون دولة ودخلت الأمم المتحدة ، دون أن تطلق معظمها رصاصة واحدة .. وتساءلت لماذا تنكر فرنسا على الشعب الجزائري حقه الطبيعي في الحرية والاستقلال .. وقلت للمسيو بينو وزير الخارجية الإفرنسية :
- هل من تفسير مقبول عادل ؟ .. هل يتفضل المسيو بينو ويشرح للأمم المتحدة السبب .. وهل يتفضل المسيو بينو بإيضاح لغز أكبر إلى متى تظل الجزائر محرومة من الاستقلال ، وهذه تونس على ميمنتها والمغرب على ميسرتها قد بلغت كل منهما السيادة الكاملة ، وها نحن نرى الوفدين التونسي والمغربي يحتلان مقعديهما في الأمم المتحدة بكل جدارة
واستحقاق ..، ولم يبقَ أحد في القاعة إلاّ والتفتّ إلى وزير الخارجية الإفرنسية يطلب منه الإيضاح..
ونهض الوزير الإفرنسي متثاقلا يجر خطاه إلى منبر الأمم المتحدة، وراح يتحدث بلهجة الساخر المتهكم ، لا يشير إليّ باسمي وهو يقول :
- إنني أوجه خطابي إلى الجمعية العامة ، لا إلى المتكلم السابق ، فهو معروف لكم بغوغائيته وشيوعيته .. إن الجزائر هي مقاطعة إفرنسية شأنها في ذلك شأن المقاطعات الإفرنسية الأخرى .. وأن فرنسا في الجزائر منذ 1830 ، ووضعها يختلف عن تونس والمغرب اللتين كانتا تحت الحماية .. وإننا نستغرب كيف أن الدول الآسيوية الإفريقية تتدخل في هذه القضية ، ومؤتمر باندونغ قد أعلن مبدأ عدم التدخل ..
ومضى بينو يردد هذه الحجج الاستعمارية المعروفة .. وتقابلنا ، بينو وأنا ، في منتصف القاعة هو يغادر المنبر وأنا أسير إليه ، وأنا أنظر إليه مبتسما ، فضحك الوفود وصفقوا .. وبدأت كلامي وأنا اقول :
-(1/872)
من حقكم أن تضحكوا وأن تصفقوا فإن المتكلم السابق معروف لديكم باستعماريته ورجعيته ، وهذا أسوأ بكثير من شيوعيتي وغوغائيتي – وضجت القاعة بالضحك .. ، وتابعت حديثي – إن الغوغائي الشيوعي الذي اسمه أحمد الشقيري يريد أن يعلم الرجعي الاستعماري الذي اسمه المسيو بينو تاريخ فرنسا ..إن تاريخ فرنسا الدبلوماسي يتضمن 57 معاهدة عقدت بين فرنسا والجزائر بين 1619- 1830 وهذا نابليون الثالث قد كتب إلى الحاكم الإفرنسي في الجزائر في عام 1860 بأن الجزائر "ليست مستعمرة .. ولكنها مملكة عربية" .. وخاطبت بعد ذلك مندوب بريطانيا وقلت له : أرجو أن تهمس في أذن الوزير الإفرنسي أن بريطانيا قد وقعت معاهدة صداقة مع الجزائر في عام 1682.
والتفت الى المندوب الأمريكي وقلت له : وأنت .. أرجو أن تهمس في أذن الوزير الإفرنسي أن الجزائر كانت من أوائل الدول التي اعترفت باستقلال الولايات المتحدة ، وعقدت معها ثلاث معاهدات بين 1795 – 1816 .. وقد تعهدت الجزائر بموجب هذه المعاهدات بأن لا تبيع سفنا حربية لأية دولة تكون في حرب مع أمريكا .. هذا بالنسبة إلى التاريخ الماضي .. أما التاريخ المعاصر فلعل المسيو بينو قد سمع صيحات مظاهرات الجامعيين التي استقبل بها مؤخرا المسيو بينو في أمريكا اللاتينية لا شيوعية ولا غوغائية وهي تنادي : يافرنسا اخرجي من الجزائر .
وختمت حديثي إلى المسيو بينو قائلا : أما قرار مؤتمر باندونغ بعدم التدخل الذي أشرت إليه .. فمعناه أن لا تتدخل فرنسا في شؤون الجزائر الداخلية .. ومؤتمر باندونغ ، على كل حال قد أعلن حق الجزائر في الحرية(1/873)
والاستقلال .. وليس غريبا على من يجهل تاريخ فرنسا الدبلوماسي أن يكون جاهلا لقرارات مؤتمر باندونغ ..
وغادرت المنبر إلى مقعدي – الوفد السعودي – وورائي وفد الجزائر وقد سجلتهم معي في الوفد ، وكانوا في جدال مع عضو في الوفد الأمريكي وهو يقول لهم :
-هل أنتم موافقون على خطاب الشقيري .
الوفد الجزائري : نعم نحن موافقون ، ونحن نعتبره ممثلا للجزائر .
الوفد الأمريكي : ولكن الخطاب فيه تهجم شديد على فرنسا ..
الوفد الجزائري : لا يا سيدي .. الوزير الإفرنسي هو الذي بدأ الهجوم وعلى كل فإن الشقيري قد قدم إلى الأمم المتحدة حقائق تاريخية .
الوفد الأمريكي :ولكن الشقيري تجاوز الحدود ، وفرنسا دولة عظمى وعضو دائم في مجلس الامن ..
الوفد الجزائري : والمملكة العربية السعودية هي عضو مؤسس في الأمم المتحدة .
وختم الوفد الجزائري الحوار مع الوفد الأمريكي بالعبارة الإفرنسية: الحرب هي الحرب .. وكانت الحرب ولا شيء غير الحرب على الأرض الجزائرية هي التي دفعت الأمم المتحدة في تلك الدورة إلى إصدار قرار إجماعي يدعو إلى "اجراء محادثات تستهدف الوصول إلى حل يتفق مع ميثاق الأمم المتحدة."
والدعوة إلى محادثات ، نصر سياسي كبير حققته القضية الجزائرية لأول مرة في الأمم المتحدة . فقد أصبحت "جبهة التحرير الجزائرية " فريقا ،(1/874)
وعلى فرنسا أن تدخل معها في "محادثات " ، وكان ذلك بداية الاعتراف بالشخصية الجزائرية المستقلة المنفصلة عن فرنسا .. وبهذا تداعت أسطورة الجزائر الإفرنسية .. والذين بددوا هذه الاسطورة ، لم يكونوا خطباء الأمم المتحدة وأنا واحد منهم ، ولكنهم كانوا أبطال الحرب التحريرية الجزائرية الذين قدموا أرواحهم للحرية والاستقلال .. ومرة أخرى مضى عام 1958 من غير أن تخضع فرنسا لقرار الأمم المتحدة بالدخول في "محادثات مع الجزائر .. مع أن خبراء الصياغة في الأمم المتحدة قد عثروا في القاموس الدبلوماسي على تعبير سياسي مأخوذ من اللغة الإفرنسية "Pourparlers " محادثات وهو تعبير أخف من "المفاوضات " فاستخدموه في قرار الدورة السابقة ارضاء لاحساسات فرنسا .
ولكن النزعة الاستعمارية في فرنسا لم تكن قد قُهرت بعد ، فاستمرت الحرب طاحنة على أرض الجزائر ، فاستخدمت الحكومة الإفرنسية كل قواتها العسكرية ومعها حلف الأطلنطي ، وألقى الشعب الجزائري في الميدان كل بسالته وشجاعته ، مع القليل من السلاح والمال والزاد والعتاد .
وقد رأيت بارقة أمل جديدة حينما تألفت حكومة جزائرية مؤقتة في ايلول 1958 وأعلنت عن أهدافها في اقامة جمهورية جزائرية ديمقراطية ، ومواصلة حرب التحرير حتى النصر ، إلى جانب استعدادها للدخول في مفاوضات حرة مع فرنسا للوصول إلى تسوية سلمية على أساس الحرية والاستقلال .(1/875)
وأرسل إليّ رئيس الحكومة الجزائرية الموقتة ملفا كاملا يتضمن سير الأحداث العسكرية التي تمت إلى ذلك الحين ، وبرنامجها السياسي في الميدانين الداخلي والخارجي .
وأقبلت الدورة الثالثة عشرة للأمم المتحدة ، والكفاح الجزائري تتردد أنباؤه وأصداؤه في العالم ، وبكرت في حضور تلك الدورة ، وطفت مع الوفد الجزائري على عدد كبير من وفود الأمم المتحدة ، وفزنا هذه المرة بأربع وعشرين دولة إفريقية آسيوية لطلب إدراج القضية الجزائرية على جدول الأعمال.
ولم يكن الموقف سهلا على صعيد الأمم المتحدة ، ففي تلك الفترة جاء الجنرال ديغول على رأس الحكم في فرنسا ، يجر وراءه سمعة عالية ، ولم يكن يسيرا التصدي له في المحافل الدولية .. وتضاعفت هذه الصعوبة بعد أن أعلن الجنرال ديغول أن فرنسا ستتخلف عن حضور الأمم المتحدة في تلك الدورة ، ولتفعل هذه المنظمة العالمية ما تشاء ..
وأقبل دور المناقشة العامة في هذا الجو المشحون : حرب في الجزائر ، وخطب ديغول في فرنسا ، وأصدقاء فرنسا في الأمم المتحدة يناورون في أروقة الأمم المتحدة.
وجلست في مقعدي ، وورائي أعضاء الوفد الجزائري يتنقلون حينا على الوفود ثم يعودون ، وخطب عدد من الوفود الأوروبية واللاتينية يعربون عن ثقتهم الكاملة بفرنسا وبالجنرال ديغول ، وأن مناقشة القضية الجزائرية في الأمم المتحدة سيزيد الموقف تعقيدا ، وأنه من الخير أن لا يصدر أي قرار من الأمم المتحدة ، حتى يعطي الجنرال ديغول الفرصة(1/876)
لتنفيذ برنامجه "الاصلاحي" في الجزائر ، وما تقدم به من مقترحات لتحقيق "سلم الرجل الشجاع " .. إلى آخر ما وراء هذه العبارات المعسولة من مماطلة وتسويف .. ونهضت بعد أن استنفد أصدقاء فرنسا كل ما في جعبتهم، لأرد عليهم فردا فردا وجماعة .. وأعربت عن الأسف أن فرنسا غائبة عن الأمم المتحدة .. منكرا أن يغيب الجنرال ديغول عن الميدان – ميدان الأمم المتحدة – وأن هذا لا يتفق مع تقاليد أبطال التحرير ، والجنرال ديغول في طليعتهم .
وأحسست أمام هذا الثناء المبطن للجنرال ديغول ، أن جو الأمم المتحدة قد اخذ ينفرج ، أن العقول أخذت تتفتح للاستماع إلى وجهة النظر الجزائرية ، وقد كان معروفا إنني أتحدث بلسان الوفد الجزائري الذي لم يكن يملك حق الكلام على منبر الجمعية العامة ...
وبدأت أشرح القضية الجزائرية من جديد مؤكداً أهدافها في الحرية والاستقلال ، وأعلنت قيام الحكومة الجزائرية المؤقتة والدول التي اعترفت بها ، وطالبت الدول الأعضاء أن تعترف بها .. وأن تمدوها بالمال والسلاح.. فإن تأييد معارك الحرية هو واجب دولي يقع على الإنسانية بأسرها .. ومضيت أُفند موقف فرنسا وقلت "كان الأفضل للجنرال ديغول بدلا من أن يخطب في فرنسا والجزائر ويعرض "سلم الرجل الشجاع " أن يخطب هنا في الأمم المتحدة ويواجه الرأي العام الدولي .. أن الجنرال ديغول قد عرض على الثوار أن يلقوا السلاح ويعودوا إلى عائلاتهم وأعمالهم لتستطيع فرنسا تنفيذ برنامج الخمس سنوات للنهوض الإقتصادي والإجتماعي، ولكن هذا هو بعينه سلم الرجل الجبان والجزائريون شجعان(1/877)
ليس فيهم جبان ، وما يعرفون مثل هذه الحلول الهزيلة .. ولو أن الجنرال ديغول قد عرضت عليه مثل هذه الحلول حينما كان يقود المقاومة الإفرنسية في الحرب العالمية الثانية لرفضها بكل شجاعة .. وختمت هذا العرض وفي لهجتي روح التحدي الكامن في الثورة الجزائرية، معلناً أنه "كان الأفضل للجنرال ديغول أن ينسحب من الجزائر لا من الأمم المتحدة .. ولكن الرئيس ديغول قد خيب آمالنا في الجنرال ديغول .. "بطل الثورة والتحرير."
وساد الجلسة جو من الرهبة والهيبة بعد أن تعرضت للجنرال
ديغول ، فنهض رئيس وفد بلجيكا ، وكانت بيني وبينه "ثارات" منذ أن تصديت لقضية الكونجو ، فقام يحمل على "شيوعيتي" وأنني في تعرضي للجنرال ديغول قد استخدمت شكسبير "ولكن بروتوس رجل شريف" وأن السلام لا يمكن تحقيقه بهذه الأساليب الشعرية .
فعدت إلى منبر الأمم المتحدة مرة ثانية وأنا أخاطب الوفد البلجيكي قائلا: "إنني أعرف السبب في غضبكم وحقدكم.. أنتم هنا تعالجون كل القضايا الدولية من زاوية قضية الكونجو ، ولا زلتم في حزن دائم لخروجكم من الكونجو.. ولكن اعلموا أن فرنسا ستخرج من الجزائر كما خرجتم من الكونجو.. ان الجزائر عربية وترفض الإندماج بفرنسا .. وحتى الشباب الجزائريين الذين لا يعرفون إلاّ الإفرنسية ، يعربون عن استنكارهم ورفضهم للإندماج باللهجة الباريسية البارعة.. والعمال الجزائريون في فرنسا نفسها، قد فتحوا جبهة ثانية وأصبحوا يقومون بأعمال عسكرية على الأراضي الإفرنسية..(1/878)
... ثم وجهت حديثي إلى الجمعية العامة وأعلنت، أن الثورة الجزائرية قد قضت على الجمهورية الإفرنسية الرابعة.. وإذا لم تحل القضية الجزائرية، فستقضي على الجمهورية الإفرنسية الخامسة.. إن الثورة الجزائرية جاءت بالجنرال ديغول من عزلته في ضواحي باريس وجعلته الرئيس ديغول وإذا لم تحل القضية الجزائرية فسيعود الرئيس ديغول إلى عزلة الجنرال ديغول ليكتب الفصل الأخير من مذكراته.. وربما وقعت فرنسا في حرب أهلية.. وعلى الذين يريدون أن يتجنبوا هذه المأساة أن يدفعوا فرنسا إلى التفاوض مع الجزائر للوصول إلى حل سلمي مشرف، يعترف للشعب الجزائري البطل بالحرية والاستقلال."
... ختمت حديثي بهذه العبارات.. وإذا بالدول الإفريقية والآسيوية ومعهم جمهور المستمعين يعربون عن تأييدهم وحماستهم.. والوفود الاستعمارية في صمت ووجوم لا تدري ما تقول..
... وجاءت هذه الصيحة الداوية إلى جانب صيحات الوفود الإفريقية الآسيوية لتضع قرارا مجيدا تعلن فيه الأمم المتحدة حق الجزائر في الاستقلال، واستعداد حكومة الجزائر المؤقتة للدخول في مفاوضات مع الحكومة الإفرنسية.. ودعوة الفريقين إلى التوصل إلى تسوية عن طريق التفاوض تتفق وميثاق الأمم المتحدة.
... كان ذلك القرار نصرا مجيدا على صعيد الأمم المتحدة.. ففيه اعتراف بحكومة الجزائر المؤقتة، وحق الاستقلال، ودعوة فرنسا إلى المفاوضة.. ومن الذي كان يحلم قبل عام أن الأمم المتحدة ستسير هذا الشوط كله.. وتتصدى لفرنسا، وعلى رأسها الجنرال ديغول..(1/879)
ولكن هذا النصر المجيد ومعه الرأي العام العالمي، قد صنعه أبطال الجزائر على جبال الأوراس، ولم تصنعه جهودنا السياسية ونحن نخطب في أبهى قاعة شهدها التاريخ الدولي، منذ كان للحياة الدولية تاريخ..
... لقد قطعت الثورة شوطا كبيرا.. ولكن بقي أمامها أشواط أكبر من النضال، على الجبال وفي الوديان، في المدن وفي الصحراء.. في وطن الثورة . وهذا ما جرى فعلا ، فقد دخلت الثورة الجزائرية في سنة 1959 مرحلة رهيبة من الكفاح الدموي، فدفعت فرنسا بكل رصيدها العسكري والسياسي في هذه المعركة ولجأت السلطات الإفرنسية إلى أفانين التعذيب الوحشي، ووضع الجنرال ديغول كل أثقاله في قيادة المعركة على الصعيدين السياسي والعسكري.
... وكان أكثر ما أزعج الرئيس ديغول على الصعيد الدولي، أن الأمم المتحدة وهي منظمة واقعة تحت السيطرة الغربية، قد راحت تصدر قراراتها ضد فرنسا وفي قضية الجزائر وهي أعز القضايا على فرنسا .. ورغما عن هجماتي المعروفة على الولايات المتحدة ، فقد كنا ، أنا والسيد كابوت لودج رئيس الوفد الأمريكي ، نتبادل النكات اللاذعة ، وقد فرض الترتيب الأبجدي أن تكون مقاعدنا متقاربة ، وقلت له مرة : لقد تخلفت فرنسا عن حضور الجلسات ولكنها جندت كل أصدقائها وأعدائها:
_ ألا تستحون من تاريخكم .. إن الشعب الأمريكي أول من ثأر على الاستعمار البريطاني، فكيف تناصرون فرنسا في قضية استعمارية كمشكلة الجزائر.(1/880)
... قال: نحن مع الشعب الجزائري .. ولكن المشكلة صعبة ودقيقة ، ونحن بطريقتنا الهادئة لا نفتأ أن ننصح فرنسا بالاستجابة لمطالب الشعب الجزائري .
... قلت: يستحيل على فرنسا أن تتخلى عن الجزائر بالإقناع.. وعلى الأمم المتحدة أن تصبح قوة ضاغطة، كما يجب على أصدقاء فرنسا ودول الحلف الأطلنطي أن يكفوا عن معاونتها وتأييدها عسكرياً وإقتصادياً.
قال: إن الجنرال ديغول قد طلب أن لا تتدخل الأمم المتحدة في هذه القضية وأعرب عن استعداده لتسويتها وأن على أصدقاء فرنسا أن يعطوه الفرصة الكافية.
... قلت: هل أفهم من ذلك أنكم ستحولون هذا العام دون اتخاذ أي قرار من قبل الأمم المتحدة ..
... قال: سنرى ما يكون .. ولا أدري كيف ستنتهي هذه الدورة.
... ونقلت إلى الوفد الجزائري ما دار بيني وبين رئيس الوفد الأمريكي، وأعربت عن خشيتي أن تفلح دول حلف الأطلنطي في إحباط جهودنا في الأمم المتحدة ، في ذلك العام .
... وأطل هلال الدورة الرابعة عشرة للأمم المتحدة ، فرأينا أنفسنا أمام خطة مدبرة محكمة ، ولقد تخلفت فرنسا عن حضور الجلسات ولكنها جندت كل أصدقائها وبقايا الوفد الإفرنسي يعملون في أروقة الأمم المتحدة فيقومون بالاتصالات والمناورات ، ويصدرون إيضاحاتهم وبياناتهم إلى الصحافة من حين إلى حين ..(1/881)
ووجدنا كذلك تركيزا على خطة الرئيس ديغول بشأن القضية الجزائرية التي أعلنها في أيلول 1959 على أساس تقرير المصير ، فقد عرض على الشعب الجزائري أن يختار واحدا من ثلاثة : الاستقلال _ الإندماج_ الإتحاد الفيدرالي مع فرنسا .
... وكان هذا الإطار بارعا وذكيا من غير شك.. ولكن للذين يقرأون العناوين وكفى .. أما التفاصيل فقد كانت مدمرة للعناوين..
... وبدأ عدد من أعضاء حلف الأطلنطي يكيلون الثناء لفرنسا فقد تعاقبوا على منبر الأمم المتحدة ، يشيرون إلى خطة الرئيس ديغول في تسوية القضية الجزائرية وأنها أعفت الأمم المتحدة من مهمة التدخل في القضية .. ورأينا أنفسنا أمام أوركسترا واحدة تنشد ألحانا واحدة..
... وحملت خطة الرئيس ديغول وخطبه وخطب وزرائه إلى منبر الأمم المتحدة ، لأشرح حقيقة الموقف الإفرنسي من البيانات الرسمية ، وقلت "إنه لا يليق بالأمم المتحدة أن تبني سياستها على أساس العناوين البارزة ، من غير دراسة كاملة للبيانات السياسية بكاملها .. إن بيان الرئيس ديغول ينص على أمور خطيرة لا يصح للأمم المتحدة أن تقوم عليها ، صحيح أن الرئيس ديغول قد عرض واحدا من الخيارات الثلاثة : الإستقلال _ الإندماج_ الإتحاد الفيدرالي_ ولكنه بنفس الوقت يهدد الشعب الجزائري بأنّ الإستقلال مصيره الفقر والخراب والشيوعية والديكتاتورية، وأن الإتحاد الفيدرالي مع فرنسا معناه الإزدهار الاقتصادي والتقدم الاجتماعي و.. و..
وفوق هذا فقد ألمح الرئيس ديغول أنه في حالة إختيار الإستقلال فستعمل فرنسا على انتزاع الصحراء وما فيها من البترول ، وستقيم مناطق(1/882)
عسكرية أخرى للجالية الإفرنسية ، وبهذا تقوم على أرض الجزائر عدة دول: دولة البترول في الصحراء ، دولة الإفرنسيين على الشواطئ ، دولة الجزائريين في الجبال ، دولة عسكرية في المناطق الإستراتيجية ..وأسهبت في شرح المخاطر التي ينطوي عليها بيان الرئيس ديغول ، وطلبت في نهاية كلامي أن لا تخدع الأمم المتحدة بذلك البيان الخادع..
... وانطلقت دول حلف الأطلنطي _كالدبابير_ يتناوب وفودها على منبر الجمعية العامة، وهم يطلبون إعلان الثقة الكاملة بسياسة فرنسا ، فأعلن المندوب الفرنسي "أنّ أية كلمة متسرعة قد تؤثر على الوضع وأنّ السبيل الوحيد الذي يجب إتباعه هو عدم اتخاذ قرار .. ودعا الوفد الأمريكي إلى ضبط النفس وعدم مناقشة بيان الرئيس ديغول .." وناشد المندوب الأسترالي أن "ثمة اخطارا في استباق الأحداث وأنّ أي قرار تتخذه الأمم المتحدة ولا ترضى به فرنسا لن يكون مجديا .." وحذر المندوب الإيطالي من "اتخاذ أي قرار قد يعرقل فرص الوصول إلى وقف إطلاق النار وإلى حل مبكر للمشكلة"..
... وهكذا أصبح واضحا أن خطة المعسكر الغربي، معسكر دول العالم الحر، قد أخذت تسد الطريق على الحرية.. فنهضت إلى المنبر في محاولة أخيرة، لأرد على هذه الحجج الواهية، ولألقي مزيدا من الضوء على بيان الرئيس ديغول ، وقلت موجها حديثي إلى الدول الغربية: ألم تقرأوا بيان الرئيس ديغول.. لقد زعم الرئيس ديغول أنه منذ كانت الخليقة لم يكن كيان جزائري.. وأنّ شعوبا كثيرة قد غزت أرض الجزائر على مدى التاريخ.. ولكن أنتم تعلمون أن فرنسا نفسها قد غزتها شعوب كثيرة على مدى التاريخ،(1/883)
وأن العرب قد غزوا فرنسا ووصلوا حتى بوردو.. ولقد غزيت فرنسا في الحربين العالميتين الكبيرتين الأولى والثانية، واشتركت الفصائل الجزائرية الباسلة في أن ترد لفرنسا وطنها وشرفها ووحدتها.. ثم إن بيان الرئيس ديغول سيطبق خطته في الجزائر بعد أن تمضي أربع سنوات من الهدوء. وكيف يرضى الشعب الجزائري أن يلقي السلاح وينتظر الاستقلال بعد أربعة أعوام.. هل كان يرضى الجنرال ديغول من القوات النازية مثل هذه الشروط.. يبدو لنا أن الرئيس ديغول قد خان الجنرال ديغول ، ثم وجهت سؤالي إلى ممثلي دول حلف الأطلنطي: وخطاب الرئيس ديغول في
الجزائر ، على أرض الثورة ، حين كان يتحدث إلى وحدات الجيش الإفرنسي ، ألم تقرؤوه حين قال للضباط والجنود الإفرنسيين : "ابذلوا كل جهودكم ، أعطوا كل فرصة للجزائر لتختار الإتحاد مع فرنسا " ثم ألم تقرؤوا خطاب رئيس وزراء الإفرنسي المسيو ميشيل دوبريه في البرلمان الإفرنسي وهو يعلن أن "الجزائر والصحراء جزء من فرنسا كالمقاطعات الإفرنسية الأخرى.."
ثم تساءلت "هل تريدون أن تعطوا الفرصة لفرنسا.. الفرصة لإدماج الجزائر مع فرنسا.. وهل تريد الأمم المتحدة أن تضع نفسها في خدمة المصالح الاستعمارية الإفرنسية.. و.. و..". وبعد إنتهاء الخطب والمناقشات ، عرض مشروع القرار، وقد حرصنا نحن الوفود الآسيوية الإفريقية ومعنا وفد الجزائر، أن نجعل صياغته وألفاظه قريبة من صياغة الميثاق وألفاظه..، وهنا وقعت المأساة المحيرة ...
لقد طرحت مشروع القرار للتصويت فقرة فقرة، فنال الأكثرية المطلوبة،(1/884)
ولكنه حينما عرض للتصويت بمجموعه، كما تقضي بذلك الإجراءات، لم يفز بالأكثرية المطلوبة، وسقط مشروع القرار.. ولعلها كانت الحادثة الأولى والأخيرة في تاريخ الأمم المتحدة..
وأسرعت الخطى إلى منبر الأمم المتحدة لأعلن أن "هذه الهزيمة هي هزيمة للأمم المتحدة ولميثاق الأمم المتحدة، وأرجو أن أخبركم أن فقرات القرار الذي سقط لأنه مأخوذ من ميثاق الأمم المتحدة بصيغتها وألفاظها.. وعلى الذين يهمهم الأمر، حين يخرجون من هذه القاعة، أن يخبروا الوفد الفرنسي الذي ينتظركم في الخارج.. أن الحرب الجزائرية ستمضي في طريقها، حتى لو أصبحت حرب المائة عام، إلى أن تتحقق الحرية للشعب الجزائري، والهزيمة لفرنسا.. ولا بد أن تنتصر الحرية في النهاية، مهما كانت قراراتكم ومواقفكم.. وانتظروا معي إلى الأعوام المقبلة."
وهكذا خرجنا من تلك الدورة من غير قرار.. ودول المعسكر الحر تحسب أنها أعطت فرنسا فرصة لتصفية الحرب الجزائرية، والاحتفاظ بقاعدة من قواعد الأطلنطي المنتشرة في أرجاء العالم، ولكن خاب ظن الدول الغربية بفرنسا، وصدق ظني بالشعب الجزائري المجاهد، فقد انقضى العام كله _1960_ والحرب الجزائرية تنزل بالجيش الفرنسي أفدح الخسائر، حتى بات هو لا القضية الجزائرية عرضة للتصفية الكاملة.
وافتتحت الدورة الخامسة للأمم المتحدة، والدول الغربية تعاني أمام الرأي العام الدولي الخيبة والخزي، ذلك أن الحرب الجزائرية وصلت أنباءها الضارية متلاحقة إلى ردهات الأمم المتحدة.. وأصبح عدد من الوفود لا يدرون ماذا يصنعون بهذه القضية المزمنة، والحرب الجزائرية دخلت ) في شهر(1/885)
تشرين الثاني (1960 عامها السابع، وظلت القضية الجزائرية تؤجل من أسبوع لأسبوع ولم تبحث إلاّ في ختام الدورة(في شهر كانون أول سنة (1960
وتنطع الوفد الأمريكي في بداية الجلسات مطالباً بضبط النفس والتروي، فإن القضية حساسة، وإن الخطب النارية لا تساعد على حل هذه القضية الملتهبة ..) وكان رئيس الوفد الأمريكي يوجه حديثه إليّ.. وعلى الفور وجهت حديثي إلى الوفد الأمريكي : "ترى من الذي جعل القضية الجزائرية ملتهبة؟ أهي خطبي النارية، أم أسلحتكم النارية.. إن الولايات المتحدة قدمت لفرنسا في عام 1956 خمسين طائرة هليوكبتر من طراز هـ21، وفي عام 1957-1958، كانت مشتريات فرنسا من الأسلحة من الولايات المتحدة بما يعادل 500 مليون دولار، وفي عام 1959 اشترت فرنسا من أمريكا خمساً وعشرين طائرة ثقيلة وعدداً كبيراً من الطائرات المقاتلة من طرازات 28، وفي أول العام 1960، استلمت فرنسا من أمريكا ستين طائرة أخرى ت28، و طلبت فرنسا مؤخراً ستاً وتسعين طائرة أخرى.. وغير ذلك.. هذا فضلاً عن أن الغارة الوحشية التي شنها الفرنسيون على ساقية سيدي بن يوسف ( شباط (1958 قد تمت بطائرات أمريكيةالصنع من طراز ب 26، وبعد هذه البيانات أريد أن أسأل رئيس الوفد الأمريكي: أيها أشد لهيباً، خطبي أم الطائرات الأمريكية؟؟ (أريد جواباً من الوفد الأمريكي) ولكن الوفد الأمريكي التزم الصمت أمام هذه الوقائع والأرقام.. وانتهت المناقشة بين وفود الدول الأعضاء: كتلة الأطلنطي تلتمس الأعذار لفرنسا وتطلب مزيداً من الوقت للجنرال ديغول، والكتلة الآسيوية الإفريقية تلح على الإعتراف بحق الجزائر في الحرية والاستقلال.. ووقف رئيس وفد بلجيكا ليقول:"إن الرئيس ديغول قد وعد باستفتاء الشعب حول(1/886)
القضية الجزائرية... فلماذا الخطب في الأمم المتحدة.. لننتظر نتيجة الاستفتاء.. هل يرفض رئيس الوفد السعودي الاستفتاء.. وهل يرفض أن تبدأ المحادثات بين فرنسا والجزائر بعد الاستفتاء..؟ "
وأجبت على الفور: " نحن لا نرفض الاستفتاء.. ولكن ما هو الاستفتاء، ولا نرفض المفاوضات ولكن ما هي المفاوضات.. إن معي من الوفد الجزائري السيدين بومنجل وبن يحيى، يستطيعان أن يحدثاكم عن المفاوضات، حينما ذهبا إلى ميلون في شهر تموز للتمهيد لهذه المفاوضات.. لقد عوملا كأسرى حرب.. وقد أبلغتهما السلطات الإفرنسية أن على رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة عند وصوله إلى فرنسا أن يقيم حيث تطلب إليه الإقامة، وأن لا يقابل أحداً، وأن لا يتحدث إلى أي إنسان.. وأنه لن يقابل الرئيس ديغول إلاّ بعد توقيع وقف إطلاق النار..، وهذا هو الاستسلام بعينه..، إنه لشرف عظيم أن يقابل رئيس حكومة الجزائر الجنرال ديغول بطل التحرير.. ولكن الرئيس الجزائري يريد أن يرى التحرير أولاً، ثم بطل التحرير ثانياً.." ووقف جمهور من النظارة في مؤخرة القاعة وهم يهتفون: تعيش الحرية.. تعيش.. وتابعت حديثي: " أما عن الاستفتاء فقد جعل منه الجنرال ديغول عملية مزدوجة ذات استراتيجية ذكية يريد من ورائها ( فرنسة الجزائر) وهو ما عجزت عنه فرنسا خلال مئة وثلاثين عاماً. فمن جهة يقرر الجنرال ديغول أنه سيستفتي الشعب الفرنسي في مصير الجزائر، ومن جهة ثانية سيستفتي الشعب الجزائري تحت الحديد والنار، إذا كان يريد الاستقلال أو الإندماج أو الاتحاد. فما هو شأن الشعب الإفرنسي في تقرير مصير الجزائر، إن شعب الجزائر وحده هو الذي يقرر المصير..إن تقرير المصير عند الجنرال ديغول هو إفناء المصير.. أما بالنسبة للإستفتاء في(1/887)
الجزائر فيكفي أن تقرأوا رسالة وزير الحربية الإفرنسية التي وجهها إلى ضباطه وجنوده في الجزائر يقول فيها:"عندما يتم تنظيم الجزائر السياسي سيظل الجيش في الجزائر لأداء رسالته الخالدة، وهي الدفاع عن فرنسا والجزائر..، وهذا رئيس وزراء فرنسا المسيو دوبريه يبعث بتعليماته إلى المقيم الفرنسي العام في الجزائر يؤكد فيها أن النقطة الرئيسية هي أن تتبع كل سبل ممكنة لضمان الاقتراع ضد الانفصال _ الاستقلال_ وانتصار الوحدة الوثيقة مع فرنسا.." وأخيراً فهذا الجنرال ديغول خطب في جولته الأخيرة يقول:"إننا نريد السلام في الجزائر، لأننا نريد أولاً الاحتفاظ بفرنسا فيها.."
وحدثت في تلك الفترة انتخابات الرياسة في الولايات المتحدة، وجاءت الإدارة الجديدة بوعودها المعتادة في سياسة خارجية جديدة.. وعثرت وأنا أقلب محاضر مجلس الشيوخ الأمريكي في عام 1957، على وثيقة حملتها معي إلى الأمم المتحدة،وكأنما كنت أمسك عنان النصر بيدي.
وقفت على منبر الأمم المتحدة وأنا أقول: لا أريد أن أخطب عليكم اليوم، ولكني سأفسح المجال لزعيم عظيم يقف الآن على عتبة التاريخ ليساهم في صنع التاريخ.. وسأسرد أقواله دون أن أذكر اسمه.. تاركاً لكم أن تعرفوه..
لقد قال ذلك الزعيم حينما كان عضواً في مجلس الشيوخ: " .. لقد استنزفت حرب الجزائر من فرنسا رجالها ومواردها، وأفقدت إحدى حليفاتنا القديمة والمهمة روحها وحيويتها ..إن حرب الجزائر قد أثرت على موقفنا في عيون العالم الحر، كما أثرت على قيادتنا للنضال لإبقاء هذا العالم حراً، وعلى سمعتنا وسلامتنا .. إن حرب الجزائر التي يشتبك فيها أكثر من أربعماية ألف جندي فرنسي، قد نزعت من قوات حلف الأطلنطي كل إمكانياتها .. هناك حالات عدة(1/888)
من التصادم بين الاستقلال والاستعمار الغربي ولعل من أبرز هذه الاصطدامات وأكثرها حراجة اليوم، قضية الجزائر.. إن الجزائر لم تعد مشكلة تهم فرنسا وحدها، ولن تكون كذلك مرة ثانية ..إن القوة العظيمة اليوم ليست هي الشيوعية أو الرأسمالية، لا ولا القنبلة الهيدروجينية أو الصاروخ الموجه، وإنما هي رغبة الإنسان الخالدة في أن يعيش حراً مستقلاً .. إنني أرى من واجب فرنسا أن تسير في المفاوضات مع الوطنيين على أساس الاستقلال.. وبدلاً من أن نسهم بمجهودنا للوصول إلى وقف إطلاق النار وتحقيق تسوية، نرى المعدات العسكرية الأمريكية ولا سيما طائرات الهليوكبتر تستخدم ... ضد الثائرين..إن سجل الولايات المتحدة في قضية الجزائر، سجل تراجعها عن مبادىء الاستقلال ومناهضة الإستعمار.. وسواء قبلت فرنسا أو لم تقبل فإن ممتلكاتها عبر البحر ستحطم أغلالها.. وإذا أرادت فرنسا أن يكون لها نفوذ في شمال أفريقيا فعليها أن تعطي الجزائر استقلالها.."
ورفعت رأسي بعد أن فرغت من قراءة هذه العبارات الرائعة، لأرى وفود الأمم المتحدة وقد استولى عليهم الذهول.. وقلت صائحاً: " أتعلمون من هو هذا الزعيم العظيم، إنه الرئيس كنيدي، وهذا هو خطابه الذي ألقاه في مجلس الشيوخ الأمريكي في الثاني من شهر أيار سنة 1957، هذا هو موقف زعيم العالم الحر من القضية الجزائرية، ولا أظن الرئيس كنيدي يخون الشيخ كنيدي، كما اختار الرئيس ديغول أن يخون الجنرال ديغول.
ونزلت عن المنبر وراح وفود الدول الأعضاء يصفقون وقوفاً لهذه المفاجأة التي لم تخطر على بال.. ولم يستطع الوفد الأمريكي إلاّ أن يقف مع الواقفين ويصفق مع المصفقين..(1/889)
والواقع أن قرار الأمم المتحدة في ذلك العام بالنسبة للقضية الجزائرية كان رائعاً فقد نص على:
1- حق تقرير المصير كأساس للوصول إلى تسوية.
2- حق الشعب الجزائري في الاستقلال
3- توكيد الوحدة الإقليمية للوطن الجزائري
4- واجب الأمم المتحدة في المساهمة في تمكين الشعب الجزائري من نيل حقوقه القومية.
وانتهت الدورة، وقد حققت القضية الجزائرية ذلك النصر المؤزر، بفضل ما كان وراءها من كفاح الأعوام السبعة ووراء ذلك كفاح المئة عام.. ولكن النصر الحاسم الفاصل لم تكن قطوفه دانية المنال، فإن الجنرال ديغول خصم عنيد، ولا يتراجع إلاّ شبراً شبراً، ولا يسلِّم ويستسلم إلاّ في الثانية الأخيرة من الدقيقة الأخيرة..
ومضى عام 1961 بأيامه وأسابيعه وشهوره، والجنرال ديغول يكر ويفر في ميدان الحرب في الجزائر، ويكر ويفر في الميدان السياسي في فرنسا.. لقد أخفقت فرنسا في إخماد الحرب الجزائرية على أرض الجزائر ولكن المفاوضات بين الفريقين في إيفيان في أيار سنة 1961 وبعدها في لوجران قد أخفقت، وحملنا نحن الوفود العربية والآسيوية والأفريقية ملفاتنا إلى الأمم المتحدة. إلى الدورة السادسة عشرة لنخوض المعركة السياسية في عامها الثامن.
وتخلفت فرنسا عن حضور الجلسات، فقد أصبح ديغول غاضباً على الأمم المتحدة وأخذ يسخر منها في خطبه، ووصفها مرة (ما يسمى الأمم المتحدة)(1/890)
ومرة أخرى، (الأمم المتفرقة) واتخذت هذه التسميات مدخلاً لحديثي في الأمم المتحدة وأعلنت أن الرئيس ديغول على حق في وصفه للأمم المتحدة.. ولكن من المسؤول عن ذلك.. إن فرنسا بمخالفتها لقرارات الأمم المتحدة قد جعلت هذه المنظمة العالمية من غير هيبة ولا كرامة .. ولعله يصلح حالها لو خرجت فرنسا من الجمعية العامة ولجانها الرئيسية ومجلس الأمن.. وأن يخرج معها من الأعضاء من يخالفون ميثاقها.. ويومها ستصبح هذه المنظمة حقاً الأمم المتحدة.
وعدت إلى صلب الموضوع فقلت: " إن الجنرال ديغول لا يزال يحاول الاحتفاظ بالجزائر إفرنسية، وإذا لم يفلح فإنه سيحاول تمزيق وحدة التراب الجزائري.. والجنرال ديغول هو الذي قاوم الفرنسيين الخونة الذين تعاونوا مع النازية على تمزيق الوحدة الإفرنسية، وها نحن نذكِّر الرئيس ديغول بأمجاد الجنرال ديغول حتى لا يكتب في تاريخه صفحة مماثلة للإفرنسيين الخونة أمثال بيتان ودارلان.."
وتتابع عدد من الدول الغربية على الكلام، وهم يشيرون إلى المفاوضات الدائرة بين فرنسا والجزائر ويطالبون بوقف القتال .. وإحلال السلام..
وتولى عدد من الدول الآسيوية والافريقية الرد عليهم بما فيه الكفاية.. وكان في تلك الدورة بعض الوزراء الجزائريين الذين اشتركوا في تلك المفاوضات. فلم أرَ مندوحة من عرض آرائهم بلساني.. فلم يكن مأذوناً لهم الاشتراك بالمناقشات، ووجهت حديثي إلى الدول الغربية قائلاً: " إنني أتحدث على مسمع من الوزراء الجزائريين .. وبعضهم اشترك في المباحثات مع(1/891)
الوفد الإفرنسي .. وقد بدأت هذه المباحثات في ايفيان في شهر أيار سنة 1961، وقد طرح الوفد الجزائري موقفه من القضايا المعروضة بكل موضوعية، ولكن الوفد الإفرنسي أراد الاحتفاظ بالصحراء [الإفرنسية] (1) .. وبمناطق عسكرية.. وبمناطق بترولية، وبمناطق أخرى للجاليات الأوروبية .. وبدا واضحاً أن فرنسا ايفيان وهي معروفة بأنها من أشهر مدن القارة الأوروبية أصبحت نادياً للقمار السياسي،كما بدا واضحاً أنها تريد إغراق القضية الجزائرية في حمامات إيفيان، كما لو كانت جثة مريضة تحتاج إلى المياه المعدنية..
ولم يتمالك الرئيس عن الضحك.. وأصبح في حاجة إلى من يضرب له المطرقة ويرده إلى النظام، وتابعت حديثي قائلاً: "وفي مدينة لوجران حيث أستؤنفت المفاوضات مرة ثانية طلب الوفد الإفرنسي أن توضع قضية الصحراء على الثلج، ولكن أي ثلج لا يذوب في لهب الصحراء.. إن ضباط فرنسا وجنودها يعرفون جيداً أن ثلج الألب لا يثبت أمام صحراء الجزائر، وقد ألهبت جلودهم.."
وبصدد الجالية الأوروبية، قلت: "إن الوفد الجزائري منحهم حق المواطنين من غير تمييز، ولكن الوفد الإفرنسي يريد أن يبني لهم دولة خاصة بهم..، ويتساءل الجنرال ديغول كيف نضع مليون أوروبي تحت رحمة الغير، ولكن لدينا تساؤلاً أكبر، وكيف نضع عشرة ملايين جزائري تحت رحمة الغير، والوطن وطنهم؟.."
وتوقفت برهة عن الكلام، وقلت: "لقد طال كلامنا في الأمم المتحدة
__________
(1) * هكذا وردت في الأصل وهو يقصد الصحراء الجزائرية [المحرر].(1/892)
عن قضية الجزائر.. وطال عصيان فرنسا لقرارات الأمم المتحدة.. ولكن صبر الشعب الجزائري لن ينفد.. وسيظل يحمل السلاح حتى تتحقق له حريته واستقلاله .. وستهزم فرنسا... وستنتصر الجزائر.. وتلك مسيرة التاريخ.. إن ثلاثين دولة قد اعترفت بالحكومة الجزائرية المؤقتة.. ولم يبقَ إلاّ أن تدخل الأمم المتحدة من الباب الذي دخله المكافحون.. وبينكم منهم عدد غير قليل.. وإني لأرجو وفدي ألبانيا والأرجنتين أن يفسحوا في العام القادم مكاناً بينهما لجلوس وفد الجزائر.. ليتخذ مقعده حسب الترتيب الأبجدي في المنظمة العالمية.. هذا هو دعائي، بل أملي ورجائي..
ولقد ختمت حديثي بهذه الخاتمة المثيرة.. وعدد من الوفود تعلو وجوههم ابتسامات صفراء..وكأنما نجواهم تقف على شفاههم: استقلال الجزائر .. خروج فرنسا من الجزائر وفي العام القادم.. مستحيل، مستحيل، مستحيل..
وكان عام 1962، طويلاً حقاً.. لأننا كنا معه على موعد.. وأخيراً جاء الموعد شهر تموز، ليعلن استقلال الجزائر..
وذهبنا إلى الأمم المتحدة لشهود الدورة السادسة عشرة، ولم نحمل معنا ملفات القضية الجزائرية فقد أودعناها في رحاب التاريخ.
واهتز جدول أعمال الأمم المتحدة، فقد أدرج فيه موضوع ( استقلال الجزائر) بدلاً من موضوع ( القضية الجزائرية)
وجاء إلى الأمم المتحدة وفد جزائري كبير على رأسه السيد أحمد بن بللا، ومعه السيد توفيق المدني وزير الأوقاف، ووزير الخارجية الشاب السيد أحمد خمستي .. وكان يوماً رائعاً خالداً.. فقد وافقت الجمعية العامة ومجلس(1/893)
الأمن على أن " الجمهورية الجزائرية مؤهلة لعضوية الأمم المتحدة .."
ووقفت على منبر الأمم المتحدة، كما لم أقف من قبل، معلناً الترحيب بالجزائر العربية الإفريقية دولة مستقلة .. كافحت من أجل حريتها واستقلالها بكل شجاعة وبسالة..
وألتفت بعد ذلك إلى الوفد الإفرنسي وقد عاد إلى مقعده بعد غياب طويل.. وقلت: "الآن انتهت الحرب بين فرنسا والجزائر.. والآن ينتهي الحوار بيننا وبين فرنسا في الأمم المتحدة، وإنني أرى من واجبي أن أعترف من غير أن أعتذر .. لقد كنت قاسياً بالغ القسوة على فرنسا وعلى الجنرال ديغول.. ولكن هذه هي الحرب.. ومع هذا فقد كنت على الدوام أثني على الجنرال ديغول وأنتقد الرئيس ديغول، وكنت أخشى على الأول من الثاني.. وكلنا نعرف أن الجنرال ديغول قد انتصر على النازية .. أما الآن فلقد انتصر على الفكرة الاستعمارية .. وقد كان بطلاً قومياً وأصبح الآن رجلاً عالمياً.. وهكذا سينزل في التاريخ، وإن الأمة العربية تتطلع إلى صفحة جديدة مع هذا البطل القومي والرجل العالمي.."
وجاءني الرئيس أحمد بن بللا ووفده ليقول: "إن الجزائر لن تنسى الشقيري.. وقد بقي علينا تحرير فلسطين، سيظل استقلال الجزائر غير كامل حتى تتحرر فلسطين"..
قلت: "الحمد لله .. لقد ساهمت بقسط متواضع في الأمم المتحدة في القضايا القومية، وها أنا أشهد بعيني استقلال الجزائر.. بعد أن شهدت استقلال ليبيا وتونس والمغرب.. وأرجو أن أكون حياً لأشهد استقلال فلسطين.."(1/894)
وبكيت، وبكى الرئيس أحمد بن بللا .. وقالها الوزير الجزائري توفيق المدني.. لقد بكى الأحمدان..
حقاً لقد بكينا.. فرحاً للجزائر، وانتظاراً لفلسطين.
وأنت أيضا يا بروتوس !
وأنت أيضا يا إيبان!
خمسة عشر عاماً من عمري قضيتها في الأمم المتحدة في صراع مع إسرائيل، بدأت في عام 1948 وانتهت في عام 1963، وقد سبقتها خمسة عشر عاماً من النضال القومي ضد الصهيونية والاستعمار كنت خلالها معتقلاً في السجون، مترافعاً أمام القضاء أو متصدراً للاضطرابات والمظاهرات، ثم لحقتها خمسة أعوام في بناء الكيان الفلسطيني، وإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية.(1/895)
ذلك هو عمري، وذلك هو كفاح جيلي بأسره.. فتحنا عيوننا صغاراً على الوطن القومي اليهودي وهو صغير.. وكبرنا وكبر معنا.. وكبرت معنا الكارثة..
وأعود الآن إلى ذكرياتي قبل خمسين عاماً، إلى عام 1919، حين كانت مخاوفنا ( أوهاماً)، فأرى أن الأوهام قد أصبحت حقيقة رهيبة: لقد سقط الوطن كله تحت أقدام إسرائيل من البحر إلى النهر، وسقطت معه الأرض العربية من الجولان إلى القنال..
وألقي بصري فلا أرى في الوطن العربي إلاّ شعب الكارثة يحمل السلاح.. بعد خمسين عاماً من الكفاح.. يزداد كل يوم إيماناً وعزماً ومضاء.. ويتساقط منه الشهداء وهم أبناء الشهداء.. وأحفاد الشهداء..وكأنما نذر هذا الشعب نفسه أن لا يموت على فراشه..
ثم ألقي سمعي، فإذا بي أسمع إيبان ( وزير) الخارجية الإسرائيلية يلقي خطب النصر في الأمم المتحدة، ويعلن أن إسرائيل لن تخرج من بيت المقدس، حتى ولو أرادت ذلك الأمم المتحدة بأسرها..
استمع إلي إيبان هذا في غطرسته وعجرفته، وقد هزمته وهزمت معه السيدة جولدا ماير رئيسة وزراء إسرائيل، وهزمت معهما جميع مندوبي إسرائيل في لجان الأمم المتحدة.. ومرغت وجوههم في التراب وأنوفهم في الوحل، على أرض الحق، وفي ميدان العدل والمنطق..
ولست أقول هذا متفاخراً بغير صدق، معتزاً من غير حق.. فإنه الصدق كل الصدق والحق كل الحق ..
ولقد لقيت إيبان أول ما لقيته في عام1948، مع وزيره شاريت، في(1/896)
قصر شايوه، حين كانت دورة الأمم المتحدة في باريس.. ثم لقيته في جنيف في قصر عصبة الأمم البائدة، أمام مجلس الوصاية حين كان يضع مشروع دستور القدس.. ثم لقيته مندوباً دائماً لإسرائيل في الأعوام التالية ووزيراً للخارجية.
وأصبحت لإيبان شهرة في الأمم المتحدة بأنه العالم الأديب.. الصادق الأمين.. يعرض القضية الإسرائيلية بكل تجرد وموضوعية واعتدال.. وقد أعانه على هذه الشهرة، أنه كان وراءه عدد كبير من الخبراء يقدمون له المقتبسات عبر السنين في دقيقة أو دقيقتين.. ووراءه أيضا أجهزة الدعاية الصهيونية، بكل ما تملك من وافر الخبرات والثروات وجمال الفتيات..
وجئت الأمم المتحدة لأنازل إيبان، والقضية الفلسطينية على أطراف أناملي بتاريخها وأحداثها وأسانيدها ومعي حقيبة مليئة بالأسانيد الصهيونية بوبتها في روية الليالي وصنفتها في صبر الأيام..
ويسند هذا وذاك، قدري الذي حفّظني التوراة والإنجيل في المدرسة التبشيرية .. ثم جعلني محامياً أمام القضاء، متمرساً بالحوار والجدال..
وعلى رأس هذا كله.. حملت معي إلى الأمم المتحدة، أفئدة شعبنا بكل آلامهم وآمالهم.. آلام الهجرة والتشريد.. وآمال العودة الكريمة الظافرة.
بهذه الروح ، وبهذه الروح وحدها، بدأت السجال مع إيبان، ومع الوزراء الذين سبقوه ولحقوه، حتى أصبحت خطبي ثمانية كتب باللغة الإنكليزية، طبع الوفد السوري واحدة، والوفد السعودي ستة، ومنظمة التحرير واحدة..
ولكني وجدت في (مذكراتي) ما ليس في الكتب الثمانية، ويلح علي(1/897)
واجب النضال، وحق التاريخ، أن أضعها بين يدي الأمة العربية ..
ولقد وقعت أولى المعارك بيني وبين إيبان في مجلس الوصاية.. فقد ألقى إيبان خطاباً مسهباً، معداً إعداداً دقيقاً، في تعابير مشرقة ولغة ناصعة.. فأنكر على الأمم المتحدة حقها في تدويل القدس، وإنشاء إدارة دولية ذات سيادة، معلناً أن القدس عاصمة إسرائيل الخالدة.. وأنها يجب أن تكون يهودية كما أن لندن إنجليزية ..
ولم يكد يفرغ من السطر الأخير من الصفحة الأخيرة من خطابه، حتى رفعت يدي أطلب الكلمة، فذكرت المجلس أن في الأمم المتحدة دولة واحدة، ولدت على فراش الأمم المتحدة _ هي إسرائيل_ ووضعت لها حدودها ودستورها، وقيدت سيادتها بقيود، وذلك كله لم تفعله الأمم المتحدة في أية دولة أخرى.. وهذه إسرائيل (ولد) الأمم المتحدة يطعن أمه، وينازعها في اختصاصها وسلطانها، وهي علة وجوده وبقائه.. وأضفت: " إني لست أجد جواباً أرُدّ به على إيبان وإسرائيل إلاّ أن أصيح صيحة شكسبير: وأنت أيضا يا بروتوس.. وأنت أيضا يا إيبان.. !! وانفضت الجلسة على هذه الطعنة النجلاء.. ومضت أيام وعدد من الصحفيين يقولون، بروتس، بروتس، كلما مرّ إيبان في قاعات الأمم المتحدة.
وفي ليك ساكسس، حيث كانت تنعقد الجمعية العامة للأمم المتحدة، قبل إنشاء مقرها الضخم في نيويورك، لم يكن عدد الدول الأعضاء قد تجاوز الستين، وكنا في اللجنة السياسية جالسين حول الطاولة البيضاوية، كل وفد أمامه ميكروفونه ولافتة صغيرة تحمل اسم بلاده، وقد قضى الترتيب الأبجدي أن يكون وفد إسرائيل بين العراق ولبنان..، وكانت المناقشة حامية بيني وبين(1/898)
إيبان حول الموضوع إياه، ولا سواه.. قضية فلسطين.. وكان الدكتور فاضل الجمالي ( العراق) والدكتور شارل مالك ( لبنان)، ينحنيان من وراء ظهر إيبان ليتبادلا الرأي متهامسين .. وكنت ساعتها أتحدث عن قيام إسرائيل في قلب العالم العربي، إسفيناً دقه الاستعمار ليفصل بين المغرب العربي والمشرق العربي .. وصحت في وجوه الوفود وأنا أقول لهم: " انظروا أمامكم .. ان إيبان يفصل بين الجمالي ومالك، تماماً، كما تفصل إسرائيل مشرقنا عن مغربنا.. وها أنتم ترون مالك والجمالي ينحنيان وراء إيبان كلما أرادا أن يتبادلا التحية والآراء.. "وضجت القاعة بالضحك، ولم يستطع رئيس الجلسة أن يردهم إلى النظام، إلاّ بعد أن أمسك بمطرقته، وهو يصيح ضاحكاً: نظام.. نظام..!!
وتكاثر عدد الأعضاء فيما بعد، وجاءت دول جديدة، وفصلت بأبجديتها إسرائيل عن العراق ولبنان، وكان إيبان يتحدث عن دور إسرائيل في الشرق الأوسط من حيث العون الفني وما إلى ذلك.. وأراد أن
( يستظرف) .. فقال: "نحن لسنا إسفيناً بين الدول العربية ولكننا سنكون جسراً.. لأننا نريد أن نرضي السيد الشقيري.. وأصبح الآن لبنان والعراق متجاورين تماماً لا يفصلهما أحد.. يتحدثان كما يريدان" .. وظن إيبان أنه اقتص من الطعنة القديمة.. فقلت على الفور: "لقد تزحزح الإسفين قليلاً في الأمم المتحدة.. ولكننا نريد أن نقلعه هناك.. هناك.. في المنطقة على الأرض.. على الطبيعة.." فعبس إيبان وتجهم وتمايل الأعضاء مبتهجين شامتين..
وكنا نحن الوفود العربية لا نكلم أحداً من الوفد الإسرائيلي .. إلاّ(1/899)
الدكتور شارل مالك فقد كان يكلم إيبان في اللجنة في عبارات قصيرة.. وقد كنت أنكر عليه هذا الموقف... ولكن الدكتور شارل مالك إنسان فيلسوف، ولا يمكن مناقشته في هذا الموضوع.
وإني لأذكر مرة، انني كنت في مصعد الأمم المتحدة، ووقف المصعد في أحد الطوابق وأراد إيبان أن ينزل إلى طابق آخر.. فدخل المصعد، فخرجت، وتركت المصعد لإيبان.. وانتظرت حتى جاء مصعد آخر...
وكان أعضاء الوفود يقيمون الولائم بعضهم لبعض، منها الموائد الصغيرة، ومنها حفلات الاستقبال الكبيرة .. واستجبت لدعوة أحد الوفود.. وكانت وليمة غداء على مائدة تجمع قريباً من ثلاثين مدعواً، وجلسنا إلى المائدة.. وإذا بي أرى أمامي إيبان وجهاً لوجه.. وأغلب الظن أنها كانت مقصودة.. حتى يبادلني إيبان التحية .. ثم الكلام.. ثم الحديث.. ، ولم أفكر لا قليلاً ولا كثيراً.. فطويت فوطة الطعام وخرجت، .. وخرج ورائي صاحب الدعوة_ رئيس وفد هولندا_ يرجوني العودة.. فهذه وليمة اجتماعية وليست مناسبة سياسية، فشكرت واعتذرت وقلت: يا سيدي ان الذي بيني وبين إيبان هو خلاف على الوطن.. وهذا الموضوع.. لا يقبل التمييز بين الأمور الاجتماعية والسياسية..
وجاء دور مناقشة قضية اللاجئين في اللجنة السياسية الخاصة.. فتحدثت طويلاً، مستعرضاً المأساة وظروفها القاسية .. وإرهاب إسرائيل ومصادرتها لأملاكهم ..، وطالبت بعودة اللاجئين استناداً إلى الحق الطبيعي .. إلى الميثاق.. إلى إعلان حقوق الإنسان.. وإلى الفقرة الحادية عشرة من القرار الصادر في عام 1948.(1/900)
وردّ إيبان في خطاب طويل.. مستنداً إلى سيادة إسرائيل .. وأمنها.. واقتصادها.. واختتم بالقول بأن عقارب الساعة لا تعود إلى الوراء .. واللاجئون لا يعودون..
وكان موقفاً حاسماً قاطعاً بدا فيه إيبان متنمراً.. يحملق بي من بعيد، وهو يحسب أنه قطع علي الدروب ، وسد مسالك الكلام.
ولم أشأ أن أرُدّ في خطاب طويل.. فقد كنت أوفيت الموضوع حقه في جلسة سابقة، ورأيت أن الجواب القصير المسكت أوقع وأقطع.. وقلت:" اللاجئون الآن هم في عامهم الثالث..وأن إيبان لا يريد أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء.. إلى ثلاثة أعوام ولكن إسرائيل أعادت عقارب الساعة إلى الوراء .. ثلاثة آلاف عام.. فنظر الوفود بعضهم إلى بعض، ولسان حالهم يقول: صحيح !!
وكانت تقارير لجنة التوفيق الدولية ميدان حوار الأمم المتحدة، بيني وبين جميع ممثلي إسرائيل الذين تعاقبوا على الأمم المتحدة.. وقد بلغت تقارير اللجنة عشرين تقريراً حتى عام 1962، وكانت اللجنة في الأعوام الأربعة الأولى. ابتداءً من عام 1949، تعمل وتنشط، وتجتمع بالوفود العربية وبوفد إسرائيل .. ثم انتهى الأمر بها إلى التسلل التام فأصبحت تصدر تقارير روتينية من مكتبها في الطابق الأعلى من مقر الأمم المتحدة.
... وقد عنيت التقارير في بداية الأمر، بالمقدسات الدينية وموضوع تدويل القدس.. وانبرى إيبان يتحدث عن التسامح الديني في إسرائيل، وحرصها على صيانة الأماكن المقدسة، وحرية العبادة والزيارة، وكانت وفود أمريكا اللاتينية وبعض الدول الأوروبية المتدينة تصغي إلى إيبان(1/901)
باهتمام..وكأنما أصبحت إسرائيل دولة مسيحية، تبحث عن الذين صلبوا السيد المسيح !!
ولم أجد مفراً من الرد على هذه الأباطيل، فإن الموضوع دقيق وحساس.. وليس لنا أن نسمح لإسرائيل أن تغزو الدول المسيحية بالباطل.. وفي موضوع الأماكن المقدسة بالذات.. وانحنيت إلى حقيبتي.. وتناولت المقتبسات العديدة.. وبدأت أقرأ: "اليهود يهدمون مقبرة الروم الكاثوليك في حيفا ويكسرون الصلبان: اليهود ينسفون كنيسة أقرت ويأخذون جرس الكنيسة إلى المستعمرة اليهودية ليقرعوه في مواعيد الطعام، اليهود يضطهدون الراهبات في يافا ويضيقون على نشاطهم الإنساني، اليهود يسيئون إلى الحجاج المسيحيين القادمين إلى القدس بمناسبة أعياد الفصح.. اليهود.. اليهود..
وقلت بعد ذلك إن التعصب الذميم، قد انتقل من الموتى إلى الأحياء... حتى إلى اليهود أنفسهم، وقرأت قصاصة من الصحف اليهودية عن الأب دانيال الذي ولد يهودياً من أبوين يهوديين، وهاجر إلى فلسطين، ثم اعتنق المسيحية وأصبح قسيساً كاثوليكياً، وكيف أن إسرائيل قد منعت عنه الجنسية الإسرائيلية .. لأنه مسيحي كاثوليكي.. ومضيت في هذه الاقتباسات أقرأ تفاصيلها وأعلق عليها.. ، ورد إيبان بأن هذه أعمال غير مسؤولة، والمشاغبون المخربون موجودون في كل شعب، وأن إسرائيل اعتذرت عن هذه الأعمال الطائشة.. وقدمت التعويضات المناسبة إلى الهيئات المسيحية المعنية...
قلت: " لا .. بل هذه جرائم تنبع من صميم العقيدة الصهيونية"(1/902)
قال إيبان: هذا كذب وافتراء.. وإني أتحدى الشقيري أن يقدم دليلاً واحداً على ذلك..
قلت: " ما كنت أريد أن أثير حفيظة العالم المسيحي، ولكني أمام تحدي إيبان، لا بد لي أن أقدم الدليل.. وسيكون هذا الدليل من الصهيونية ذاتها .. بل من فم زعيمها .."
وتناولت مذكرات سوكولوف الزعيم الثاني للصهيونية بعد هرتزل .. ورئيس المنظمة الصهيونية العالمية .. وتلوت ما دوّنه عن زيارته للفاتيكان، وما طلب المونسنيور جاسباري وزير خارجية الفاتيكان من الضمانات لحماية الأماكن المقدسة وحرية الزيارة والعبادة، قبل أن ينظر في المشروع الصهيوني في إقامة وطن قومي في فلسطين.. ثم تلوت ما دونه سوكولوف:" وكنت أستمع إلى هذه المطالب والضمانات .. وأنا أحس أن قشعريرة شديدة تهز عظامي.."
ووضعت مذكرات سوكولوف على الطاولة، لمن يريد أن يقرأها من الوفود وأنا أقول: " هذه هي الصهيونية على لسان زعيمها .. وأحسب الآن أن القشعريرة قد انتقلت إلى إيبان لتهز عظامه.." ولم يملك جواباً .. وكل ما فعله أنه نزع نظارته عن عينيه وأخذ يجففهما من العرق في عصبية ظاهرة.
وكان موضوع القدس هو شغلي الشاغل في معظم دورات الأمم المتحدة، أبحث شؤونها في كل مناسبة.. وكنت أردد العهدة العمرية التي أعطاها الفاتح العظيم ( عمر) إلى نصارى القدس، وأشير إليها بأنها أعظم معاهدة على وجه الأرض تمت بين الغالب والمغلوب.. وكنت أندد على(1/903)
الدوام بدعوى إسرائيل أن القدس هي العاصمة الخالدة لإسرائيل .. وتصدى لي إيبان وهو يقول: " ما شأن الشقيري في القدس إنه غريب عنها... إن القدس الجديدة تحت سيادتنا والقديمة تحت سيادة الأردن.. والشقيري ممثل سوريا، وهي دولة لا تملك شبراً واحداً فيها.. إنه غريب عنها.. " وقد بدا للأعضاء أن هذا الكلام صحيح .. وفيه المنطق الدولي السليم.. وإنني أخوض في موضوع لا علاقة لي به.. وإنني غريب حقاً !!
وتفتحت أكمام قريحتي عن كل خزائنها.. وعثرت على كل مكنونها .. وقلت في زهو الذي وجد كنوزه: " إنني لست غريباً عن القدس .. القدس داري.. قضيت فيها صباي، وفيها كانت دراستي وعبادتي.. وإنني كفلسطيني أملكها وطناً.. وكعربي أملكها كحاضرة من أعز حواضر العرب، وكمسلم أملكها موطناً للإسراء والمعراج وأولى القبلتين وثالث الحرمين.. وكإنسان أملكها مهوى لقلوب المؤمنين في العالم .. ولكن الغريب عنها إيبان، المواطن البريطاني .. وجولدا ماير المواطنة الأمريكية .. وإن جميع زعماء الصهيونية وإسرائيل، هرتزل ووايزمان وسوكولوف وبن غوريون وشاريت وأشكول ، جميعهم غرباء من أوروبا الشرقية.. من روسيا وبولندا والنمسا ولتوانيا وأستونيا وأوكرانيا .." ثم أردفت وقلت: " واليهود غرباء عن فلسطين منذ كانت اليهودية.." وقرأت العبارة الشهيرة في التوراة، خطاباً إلى اليهود " الأرض التي تعيش فيها غريباً.. وهي أرض كنعان".. وكانت قاعة الزائرين مملوءة بالجالسين فانطلقوا مصفقين، وشاركهم عدد من وفود أمريكا اللاتينية .. وقد بدا إيبان في ذلك اليوم وكأنه ( غريب) حتى عن الأمم المتحدة.(1/904)
وكانت الأمم المتحدة قد أوفدت بعثة اقتصادية إلى الشرق الأوسط بحثاً عن مشروعات لتشغيل اللاجئين في الدول العربية _ وهي ( بعثة كلاب) على اسم رئيسها ..
وقدمت اللجنة تقريراً إضافياً إلى الأمم المتحدة، واغتنمتها إسرائيل فرصة للدعوة إلى مقترحاتها المعروفة، في تسوية قضية اللاجئين على أساس التوطين، ضمن مشروعات التنمية الاقتصادية في البلاد العربية .. واندفع إيبان يعرض ( تطوع) إسرائيل للمساهمة في تطوير اقتصاد الشرق الأوسط وتقديم خبراتها الفنية .. وراح يقتبس من تقرير ( كلاب) عبارة من هنا، وعبارة من هناك ليعزز رأيه.
وكان تقرير (كلاب) مؤلفاً من ثلاثة مجلدات ضخمة، مملوءة بالجداول والإحصاءات والدراسات الفنية .. ومن أين للوفود القراءة والدراسة.. وإسرائيل تعتمد في دعايتها على جهل الآخرين.. وكان في تقرير ( كلاب) توصية رائعة.. ليس لها عنوان.. وواردة في مكان غير بارز..
ولكن الأم تعرف ولدها.. وقد رأيت ولدي وعرفته.. فأمسكت بالمجلد الثاني من التقرير .. وقلت: "إن إيبان يعتمد التقرير.. وقد قرأ لكم مقتبسات من التقرير أخرجها من سياقها. وفصلها عن مقدماتها ونتائجها .. ولكن هنالك توصية لا مجال للطعن فيها .. وأخذت أقرأ: "ان خطوط الهدنة قد تسببت في مشكلة خطيرة.. لقد أصبح 325 ألفا من الفلاحين الذين يعيشون في 118 مدينة وقرية، مفصولين عن أراضيهم التي كانوا يفلحونها، أما بالنسبة لقطاع غزة_ حيث اللاجئون يقاربون 350 ألفاً_ فإن المشكلة لا تحل إلاّ إذا سمح لهم بأن يفلحوا أراضيهم، التي تفصلهم عنها الهدنة الآن.." فبهت(1/905)
إيبان، وراح يقلب تقارير كلاب، فيضع المجلد الأول فوق الثالث، ثم الثالث تحت الثاني، وهو يتشاغل عن الجواب لأنه لم يكن يملك الجواب، ولأن إسرائيل تعارض أشد المعارضة أن يزرع الفلاحون أراضيهم عبر خطوط الهدنة، وهي على مرمى البصر..
ولكن أشد المعارك على إيبان كانت حول موضوع الاستعمار، وصلته بالحركة الصهيونية.. وكنت لا أترك دورة من دورات الأمم المتحدة إلاّ وأشير فيها إلى أن الصهيونية هي حركة استعمارية، وأن إسرائيل هي وليدة الاستعمار، وكان إيبان يستولي عليه أشد الضيق بهذه التهمة، فقد كان إيبان يتحدث دوماً عن كفاح إسرائيل في سبيل التحرير، وأن إسرائيل مثلها في ذلك مثل الدول الإفريقية والآسيوية، خاضت حرب التحرير حتى ظفرت باستقلالها !!
وفي سياق الحديث عن وعد بلفور، قرأت نصه الكامل، وقلت: "لقد طغى اسم اللورد بلفور على هذا الوعد حتى أصبح يعرف بوعد بلفور، والواقع أنه يجب أن يعرف باسم وعد روتشلد"..، وانتبه الأعضاء إلى أمر لم يكونوا يعرفونه..، وواصلت حديثي قائلاً:"ان روتشلد الرأسمالي الكبير.. المساهم الكبير في المشاريع الاستعمارية في أفريقيا.. هو الذي حاز على هذا التصريح .. ، وأن بلفور بدأ تصريحه بقوله: (عزيزي روتشلد)، فهل تريدون دليلاً أقوى على (استعمارية) الصهيونية ومعها إسرائيل ؟؟ وثار إيبان محتجاً على التعرض إلى ( محسن) كبير مثل روتشلد، صاحب المشروعات الإنسانية و... و...
قلت: " ليس لإيبان أن يغضب..فإذا كان اسم روتشلد لا يكفي.. فإن(1/906)
سيرة الصهيونية مع الاستعمار.. كافية.. ، لقد طاف زعماء الصهيونية على الدول الاستعمارية في القرن التاسع عشر يشرحون خطتهم..
فعرضوا على فرنسا: " لا يمكن لفرنسا إلاّ أن ترغب في رؤية الطريق إلى الهند والصين مع شعب يسير وراءها إلى الموت.. وهل من شعب يصلح لهذا الهدف أكثر من اليهود، الذين شاء لهم القدر منذ بداية عصور التاريخ أن يرتبطوا بمثل هذا الهدف .. وليس ثمة من شك في أن اليهود والفرنسيين قد خلقوا منذ الأزل ليعملوا معاً.."
وعرضوا على بريطانيا والولايات المتحدة: " إن فلسطين اليهودية التي تخلقها بريطانيا العظمى وتساعدها أمريكا، تعني ضربة مميتة توجه إلى السيطرة الإسلامية _ البروسية_ الطورانية..، ويجب أن يكون من الواضح كل الوضوح أن ثمة ارتباطاً كلياً بين المصالح الأمريكية والبريطانية واليهودية في وجه المصالح التركية البروسية..".
وعرضوا على ألمانيا: " نحن نريد أن نقيم على الشواطئ الشرقية للبحر الأبيض المتوسط حضارة عصرية، ومركزاً تجارياً يكون دعامة للسيادة الألمانية. وستكون فلسطين عن طريق الهجرة اليهودية قاعدة سياسية وتجارية بل صخرة ألمانية _ تركية كصخرة جبل طارق."
وأخيراً.. عرضوا في القرن العشرين على الإتحاد السوفيتي: " وستخلق روسيا السوفيتية لنفسها.. عن طريق تشجيعها للهجرة اليهودية، مركزاً ممتازاً في الشرق الأوسط.."
وبعد أن فرغت من قراءة هذه المقتبسات من مصادرها الصهيونية واحدة واحدة.. تساءلت صائحاً: " هل يطلب إيبان المزيد؟ هؤلاء هم زعماء(1/907)
الصهيونية الذين عرضوا الوطن القومي اليهودي على الدول الاستعمارية: بريطانيا_ فرنسا_ ألمانيا القيصرية_ وأمريكا..."
وقد طلعت معظم الصحف اليهودية في إسرائيل، طافحة بأخبار هذا الحوار، وكلها تنحي باللائمة على إيبان بأنه ( قد هزم في المعركة.. وأن الشقيري قد قضى عليه بأسلحة صهيونية..)
وفي عدة دورات تالية عزمت جولدا ماير، وكانت وزيرة الخارجية الإسرائيلية أن تحضر بنفسها مناقشات القضية الفلسطينية، وأن تأخذ بسياسة الهجوم على الدول العربية فذلك خير وسائل الدفاع..
ومن هذا المنطلق، ألقت الوزيرة الإسرائيلية، خطاباً طويلاً عن إنجازات إسرائيل كدولة متحررة .. وأعلنت رغبتها في مساعدة الدول النامية، والدول الإفريقية خاصة.. وحتى في ( تحررها من تجارة الرقيق.. التي كان يمارسها العرب من قديم الزمان..).
وتجارة الرقيق من قديم الزمان.. تهمة لحقت بالعرب، وسكتوا عليها، حتى أصبحوا مسؤولين عن هذه الجريمة الإنسانية وحدهم.. وها هي الوزيرة الإسرائيلية تنكأ جراحات الشعوب الأفريقية، وتثير أشد أوجاعهم وأفظع آلامهم.. وهل أشنع من الرقيق!!
وكانت الوزيرة الإسرائيلية تقدم مقتبسات مبعثرة من هنا وهناك، تتعرض لبعض تجار الرقيق من العرب.. وشخصت الأبصار إلى الوفود العربية في خليط من الإشفاق والاستنكار.. والوفود الإفريقية تنظر إلى الوزيرة الإسرائيلية بكثير من التقدير والرضا..
ورفعت يدي أطلب الكلمة.. وقاربت الساعة الثانية ظهراً، وكان يوم(1/908)
جمعة.. فأعلن الرئيس تأجيل الجلسة .. وأن السيد الشقيري سيكون المتكلم الأول في جلسة صباح الإثنين."
وكانت لدي إلى ذلك الوقت عدة مراجع تنفي عن العرب التهمة الشائعة بصدد تجارة الرقيق .. غير أنه، وقد تأجل الموضوع إلى يوم الاثنين خطر لي أسلوب آخر في الحوار.. ما هو دور اليهود في تجارة الرقيق ؟ ورحت أبحث في نفسي عن الوسيلة .. وجدت ضالتي .. فلأذهب إلى
( المكتبة الكبرى) في الشارع الخامس من مدينة نيويورك..
وقضيت يومي السبت والأحد في المكتبة_ وفي الجناح اليهودي بالذات، وهو مكتبة كبرى بنفسه.. ورأيت العجب العجاب .. فنسخته وحملته، وكنت في صباح يوم الاثنين في الأمم المتحدة، كمن هبطت عليه كنوز السماء وتفجرت أمامه كنوز الأرض ، وبدأت حديثي قائلاً: " أريد أن أعلم وزيرة الخارجية الإسرائيلية دور اليهود ( العظيم) في الرقيق.. على مسمع من الدول الإفريقية .. تقول دائرة المعارف اليهودية في الصفحة 565 من المجلد التاسع ما يلي:
" وكان من الطبيعي أن يسهم اليهود في تجارة الرقيق.. بالنظر لمعرفتهم الواسعة باللغات، وعلاقتهم المنتشرة في جميع أرجاء العالم، ولقد ظهر تجار الرقيق اليهود إلى حيز الوجود، منذ القرن الأول للحقبة المسيحية في أوروبا، وقد تزايد نشاطهم بصورة خاصة بعد القرن السادس".
وفي الصفحة 409 من المجلد الثاني من الموسوعة اليهودية، وهو كتاب آخر، جاء ما يلي:
" ولقد أصبح اليهود في القرن السادس أكبر تجار الرقيق في العالم،(1/909)
وفي القرن التاسع كان التجار اليهود يحملون العبيد من الشرق إلى الغرب ومن الغرب إلى الشرق.. وكان الكثيرون من يهود اسبانيا مدينين بثرائهم إلى تجارة الرقيق.. وقد ظل اليهود أجيالاً طويلة يقومون بتصدير العبيد إلى مختلف أسواق التجارة"..
وكنت أتلو هذه المقتبسات على الدول الإفريقية ، آذانهم معي، وأبصارهم على الوزيرة الإسرائيلية وهي تنسق شعرها بأظافرها مرة، وتميل إلى معاونها مرة أخرى، وأنا أوجه حديثي إلى السيدة جولدا ماير قائلاً: " وإذا عادت الوزيرة إلى الحديث عن تجارة الرقيق فسأتكلم عن دور إسرائيل في تجارة الرقيق الأبيض.. وأنت تعرفين ما أعني"... وسكتت الوزيرة فعلاً لأنها تعرف ما أعني .. وتعرف دور الإسرائيليات ابتداءً من حكاية ( أستر) في التوراة ... إلى يومنا هذا..
وجاءت الوزيرة الإسرائيلية في العام التالي وقد أعدت نفسها للثأر والانتقام، ونحن أصحاب الحق في الثأر والانتقام.
وألقت الوزيرة خطاباً طويلاً عن إنجازات إسرائيل في مجالات الاقتصاد والعمران.. وتحدثت عن مشروعات النقب.. وإسكان المهاجرين اليهود.. وعن نشاط الجباية اليهودية في الولايات المتحدة.. وإن كل ما تطلبه إسرائيل ، هو السلام لتعمل المزيد من مشروعات التنمية .. وأن يمتنع الغرباء أمثال الشقيري من التدخل في شؤون إسرائيل.."
وكانت الوزيرة في طريقها إلى مقعدها، وأنا في طريقي من مقعدي إلى المنبر.. فقد توجهت إلى المنصة لأرد على الوزيرة.. ومعي ورقة صغيرة تحوي بعض الأرقام.. فقد كان كل ما تحدثت به الوزيرة، لا يقتضي(1/910)
تفنيده إلاّ القليل.
وتطلعت الوفود إليّ وكأنها تتساءل، ماذا عسى أن أجيب على السيدة ولم تتحدث إلاّ عن التنمية الاقتصادية والسلام وحملة الإعانات...
قلت: "لن أتكلم، سأجعل المصادر الرسمية تتكلم.. إن اليهود لا يملكون في صحراء النقب إلاّ نصفا من واحد من الماية، وهذا هو المصدر.
إن اليهود قد صادروا المدن والقرى والأراضي والمصانع والمزارع العربية، وغلتها في العام الواحد خمسون مليون جنيه استرليني، وهذا هو المصدر.
إن السيدة جولدا ماير قد أعلنت أن إسرائيل في حاجة إلى هجرة مليونين من اليهود، على حين أن اللاجئين الفلسطينيين يقيمون في الخيام على مقربة من أراضيهم ومدنهم وقراهم وهذا هو المصدر.
إن الشقيري هو ابن فلسطين ومن مدينة عكا وليس غريباً .. وإنما الغريب هي السيدة جولدا ماير، وهي مواطنة أمريكية، حيث لا اضطهاد في أمريكا، ولا أقدم مصدراً يثبت جنسيتها الأمريكية.. فإن لهجتها الأمريكية تدل أنها جاءتكم من نيويورك في هذا اليوم . فتصاعدت قهقهات الوفود إلى سقف الجمعية العامة، يتنقل صداها من زاوية إلى زاوية..
وتابعت حديثي قائلاً: " أما حملة التبرعات الإسرائيلية في أمريكا فهي لتفسد على الأمريكان عقولهم وضمائرهم وجيوبهم، إن إسرائيل تدفع في أمريكا:-
328.000 - دولار للمجلس الأمريكي
700.000 - للاتحاد الصهيوني(1/911)
48.000 - مجلس شؤون الشرق الأوسط
20.000 - مجلس الشرق الأدنى
وتلوت أرقاماً ومساعدات أخرى كلها مقتبسة من تقرير لجنة الكونجرس الأمريكي برياسة فولبرايت، وجاء في هذا التقرير أن إسرائيل تدفع هذه الأموال للدعاية الصهيونية عن طريق الإذاعة والتلفزيون والأشرطة السينمائية والمجلات والخطب والرحلات المجانية لإسرائيل.. ولتوزيع بعض المطبوعات والمنشورات لمجابهة قضية اللاجئين.. ولإعداد التصريحات والبيانات الموالية لإسرائيل، ليلقيها حكام الولايات ورؤساء البلديات.."
وقلت في ختام حديثي: إذا كانت السيدة جولدا ماير، لا يعجبها تقرير فولبرايت.. فإليها ما صرح به رئيسها بن غوريون: "بامكاننا أن نقيم اتصالنا في الولايات المتحدة مع الكونجرس ومع رجال الصحافة.. وقد مكن هذا الوضع حكومة إسرائيل في مناسبات عدة من التأثير على الحكومة الأمريكية ومن حملها على تغيير قراراتها السابقة."
فرغت من تلاوة تصريح بن غوريون وقلت: " إذا كانت الوزيرة تستطيع أن تكذبني في جميع الوقائع والأرقام والمقتبسات التي أشرت إليها.. فإنني أخلي لها المنبر فلتتفضل ..
ولكن الوزيرة لم ( تتفضل) وبقي المنبر شاغراً .. وبقي مقعدها مملوءًا بها، لا تستطيع منه حراكاً ..
ولكن المعركة الكبرى والأخيرة كانت في صيف 1963، فقد ذهبت إلى الأمم المتحدة في تلك الدورة، لا رئيساً للوفد السعودي، ولكن رئيساً لوفد(1/912)
فلسطين، وكان في الوفد ثمانية عشر فلسطينياً بينهم سيدتان، يمثلون الفلسطينيين في الأردن وقطاع غزة. وكان موضوع الكيان الفلسطيني لا يزال محور نقاش وجدال ..، وأخذ ورد، بين الدول العربية من جانب، والأردن من جانب آخر.. ولم تكن منظمة التحرير قد أنشئت..
وكان الوفد الإسرائيلي في تعبئة كاملة: الوزيرة جولدا ماير ومعها إيبان وكومي وجدعون، وعدد من سفراء إسرائيل في أمريكا اللاتينية ومجموعة من الخبراء والمستشارين.. فإن إسرائيل تواجه لأول مرة بعد1948، وفداً فلسطينياً يتكلم باسم فلسطين..
وفي الواقع، فقد طرحت قضية فلسطين في تلك الدورة كقضية سياسية قومية تحررية، وأبلت الوفود العربية بلاءً حسناً، ولكن زمام القضية كان بيد الوفد الفلسطيني..
ودار الحوار شديداً وقاسياً في بداية الجلسات حول نقطة شكلية ولكنها أساسية.. فقد تقدمنا إلى الأمم المتحدة نطلب الاستماع إلينا بوصفنا ( الوفد الفلسطيني)، وثارت ثائرة الوزيرة الإسرائيلية وقامت باتصالات مع جميع الوفود، تعارض في قبولنا تحت هذا ( الاسم) وأن أقصى ما يمكن أن توافق عليه هو أن نكون ( وفد اللاجئين).
وفي أول جلسة أصرت الوزيرة الإسرائيلية على رفض الاستماع إلى ( الوفد الفلسطيني)، وتمادت في تاريخ مسهب للقضية الفلسطينية منذ 1947، وأن فلسطين كانت موجودة في عهد الانتداب وأنه في عهد الأمم المتحدة وبعد قرار التقسيم، لم يعد إلاّ دولتان إسرائيل في الغرب والمملكة الأردنية الهاشمية في الشرق، وهما العضوان الممثلان في الأمم المتحدة..، وأنه لم(1/913)
يعد هنالك أرض ( فلسطين) ولا شعب فلسطين. وقد أصبح
( الفلسطينيون السابقون) أردنيين منهم الوزراء وقادة الجيش..، واستمرت الوزيرة الإسرائيلية ( تكافح) بضراوة ( اللبؤة) لتحول بيننا وبين الأمم المتحدة .. وكان الوفد الأمريكي يؤيدها بصورة غير مباشرة، وهو يقترح حلاً وسطاً.
ودخلت مع الوزيرة الإسرائيلية في نقاش حاد، فأعلنت أن فلسطين قائمة وباقية، وأن قيام إسرائيل هو مرحلة تشويه عابرة.. وأن الأمم المتحدة لا تزال تستخدم كل التعابير المتصلة بفلسطين..: أن لجنة التوفيق الفلسطينية.. ، كبير مراقبي الهدنة على فلسطين، تسوية القضية الفلسطينية، وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين _ اتفاقيات الهدنة الأربعة وقد تعددت الإشارة إلى فلسطين وقضية فلسطين_ وغير ذلك ..
وأردفت بعد ذلك، أن صفة أعضاء الوفد، هي الصفة الفلسطينية التي لا تزول، سواء حملوا الجنسية الأردنية أو غيرها، وأن أعضاء الوفد هم من أهالي حيفا_ صفد_ عكا_ القدس_ الخليل.. هؤلاء فلسطينيون، وآباؤهم وأجدادهم من قبل..
ثم التفت صوب الوفد الإسرائيلي وقلت: أما أنتم، فلستم فلسطينيين، ولا علاقة لكم بفلسطين.. السيدة جولدا ماير أمريكية، وإيبان بريطاني _ وكوماي من جنوب أفريقيا.. وكذلك الحال بالنسبة إلى رئيس جمهوريتكم ورئيس وزرائكم .. كلهم من أوروبا الشرقية، ولم يولد واحد منهم في فلسطين..
وذهل أعضاء الأمم المتحدة، وهم يستمعون إلى هذه التفاصيل عن(1/914)
فلسطينية وفدنا عضواً عضواً، وأجنبية الوفد الإسرائيلي، وفي ظل هذه الموجة العارمة من البيانات، اقترح الوفد السوفيتي إقفال باب المناقشة وقبول ( الوفد الفلسطيني) بهذه الصفة، فوافقت الأكثرية على ذلك، واستنكفت الولايات المتحدة وبريطانيا عن التصويت.
وافتتحت المناقشة في خطاب مسهب، استعرضت فيه تاريخ القضية الفلسطينية وأن الشعب الفلسطيني يلجأ إلى الأمم المتحدة لآخر مرة، وأنه لا يرى مناصاً من حرب تحريرية لاسترداد وطنه.. وأن أمام الأمم المتحدة فرصة قصيرة لإنقاذ السلام في الشرق الأوسط.. وعدت بعد أسبوع، في خطاب ثانٍ إلى مزيد من الشرح والإيضاح .. واختتمت المناقشة في خطاب ثالث في مزيد من التوكيد.. ونشرت فيما بعد هذه الخطب الثلاث في كتاب مستقل ، بالإنجليزية والعربية.
وبالإضافة لهذه الخطب فقد وقعت بيني وبين الوزيرة الإسرائيلية مساجلات أشبه بالصراع الخاطف، كنت أوجه فيها الطعنات لإسرائيل بأسلحة إسرائيلية..
ولخصت الوزيرة الإسرائيلية في ختام بياناتها، موقف إسرائيل في أربع نقاط:
أولاً: توقيع معاهدة صلح مع الدول العربية بضمانة مجلس الأمن.
ثانياً: ليس لإسرائيل أية أهداف توسعية.
ثالثاً: أن إسرائيل تريد أن تتجنب أسباب الحرب في الشرق الأوسط.
رابعاً: إجراء مفاوضات مباشرة مع الدول العربية للوصول إلى الصلح.(1/915)
وقد وضعت إسرائيل هذه النقاط الموجزة بصورة براقة، ولم يعد هنالك مجال للرد عليها بخطاب طويل.وكأنما أصبح الموقف العربي في (الزاوية) ولا سبيل إلاّ بالإجابة بلا أو نعم.. وبادرت على الفور بإجابات سريعة تذهب من النفوس (روعة) الموقف الإسرائيلي.. وقلت: أن أجوبتي الأربع على النقاط الأربع ستكون أجوبة إسرائيلية، ودهش الأعضاء لهذه البداية المفاجئة..
أولاً : لقد وقعت الدول العربية على اتفاقيات الهدنة تحت إشراف مجلس الأمن، وقال عنها بن غوريون: " انتهت الهدنة إلى غير رجعة كما انتهت خطوط الهدنة وليس في قدرة أي سحرة أو مشعوذين أن يعيدوها إلى ما كانت عليه".
ثانياً: إن إسرائيل دولة توسعية في نشأتها وأهدافها، وهذا بن غوريون يعلن في الكنيست بعد العدوان الثلاثي " كان أحد الأهداف الرئيسية الثلاثة التي حققتها إسرائيل في حملة سيناء تحرير جزء من أرض الوطن لا يزال في أيد غريبة"، وهذه الوزيرة الإسرائيلية تصرح إلى جريدة نيويورك تايمس في أكتوبر سنة 1962 تدعو إلى تهجير مليوني يهودي.
ثالثاً: إن إسرائيل قامت بالحرب، وباقية بالحرب، وهذا بن غوريون، جواباً على اقتراح من رئيس وزراء بريطانيا بتعديل حدود إسرائيل أعلن " إنني على ثقة من أن رئيس وزراء بريطانيا يعرف تمام المعرفة بأن حدود إسرائيل لا يمكن أن تتبدل دون حرب دامية.. حرب حياة أو موت.." ، وهذا كومي المندوب الإسرائيلي الدائم أعلن للأمم المتحدة في نوفمبر سنة 1960 "(1/916)
ليس ثمة من سبيل واقعي إلاّ الحرب، يحطم إسرائيل ليعيد إسكان اللاجئين فوق أنقاضها."
رابعاً: أما التفاوض مع إسرائيل فليس بذي موضوع: نحن لا نفاوض على الوطن.. إإن إسرائيل تمثل حركة رجعية عالمية، لا يمكن التفاوض معها، وبدأت أقرأ من المصادر الإسرائيلية.. "بن غوريون يقول: "ليس يهودياً من لا يهاجر إلى إسرائيل".
بن غوريون يقول: "عندما يتحدث يهودي في أمريكا أو جنوب أفريقيا إلى إخوانه اليهود مستعملاً عبارة حكومتنا فهو يعني حكومة إسرائيل"
بن غوريون يقول: "تنظر جماهير اليهود في مختلف البلاد إلى سفراء إسرائيل على أنهم ممثلوهم" .
وأرادت الوزيرة الإسرائيلية أن تقاطعني عند هذه النقطة، فقلت لها: " لا داعي للمقاطعة والخروج على النظام، وتذكري أنك حينما سافرت إلى الإتحاد السوفيتي أول سفيرة لإسرائيل، احتشد يهود موسكو، لاستقبالك في الكنيس اليهودي، وحول الفندق الذي نزلت فيه..
واضطربت الوزيرة الإسرائيلية، وطلبت الكلمة، وأخذت في هجوم شخصي علي بأنني كنت نازياً مع الحاج أمين .. وأصبحت في الوفد السوري ثم انتقلت إلى الوفد السعودي، والآن رئيس الوفد الفلسطيني، وإن كل همي أن ألقي اليهود في البحر، أنا والرئيس عبد الناصر...
ولم تدر الوزيرة أنها وقعت في مطب كبير، فقد خاطبت الدول الأعضاء قائلاً:" ارجعوا إلى صفحة 16 من خطابي في الأمم المتحدة لعام 1957، حيث تقرأون بالحرف الواحد: إننا لا نريد إلقاء اليهود في البحر..(1/917)
نحن نريد لهم حياة سعيدة في أوطانهم الأولى.. أما اليهود الفلسطينيون، المواطنون الشرعيون فإنهم يستطيعون أن ينعموا مع المواطنين المسلمين والمسيحيين في مجتمع رغيد في ظل نظام ديمقراطي عادل.. ومن غير إسرائيل الدولة يستطيع اليهود أن يعيشوا بسلام حيثما كانوا.."
وبهتت الوزيرة الإسرائيلية، وكأنها أصبحت صماء بكماء..
وجاء إيبان في الجلسة الختامية، وتخلفت الوزيرة، وكأنه جاء ليفاجئني فبدأ حديثه قائلاً: "إن الموضوع قد استوفي نقاشاً، وهو يريد أن يطرح سؤالاً، يريد عليه جواباً بلا أو نعم:
_ هل الدول العربية مستعدة للمفاوضات المباشرة، بقصد الوصول إلى تسوية سلمية للقضية الفلسطينية..، وأردت أن أجيب على السؤال فقال إيبان: "إنني أوجه حديثي إلى وفود الدول العربية، لا إلى الوفد الفلسطيني فقلت: "يا سيدي الرئيس أنا صاحب الحق في الجواب، وليست الدول العربية، ولم يولد ذلك العربي الذي يقبل أية تسوية للقضية الفلسطينية نيابة عن الشعب الفلسطيني..
وحصل شيء من الهرج، فتدخل السيد عدنان الباجه جي مندوب العراق وقال: "إن الشعب الفلسطيني هو صاحب الحق في تقرير مصيره.." وأيده باقي المندوبين العرب وهنا عاد إيبان فقال:
لا مانع لدي من توجيه السؤال إلى السيد الشقيري:
_ هل العرب مستعدون للمفاوضة المباشرة، بقصد الوصول إلى تسوية سلمية لقضية فلسطين؟!(1/918)
قلت:" نعم.. وسكتّ قليلاً، وذهل الأعضاء _ ثم واصلت حديثي: نعم، العرب مستعدون للمفاوضة المباشرة لتحرير فلسطين..
قال إيبان ساخراً: وماذا يبقى للمفاوضات بعد تحرير فلسطين..
قلت: "نبحث الضمانات الدستورية لصيانة حقوق المواطنين الشرعيين من اليهود..
فساد القاعة جو من المرح.. إلاّ الوفدان الإسرائيلي والأمريكي فقد التزما الصمت.. فقد أيقنا أن لا سبيل لانتزاع أي شيء من الوفد الفلسطيني.. أو استدراجه إلى المزالق.
وعدت إلى الفندق ذلك اليوم وأنا أسأل نفسي: أي معنى لهذا الحوار في الأمم المتحدة، وقد امتد بيني وبين إسرائيل خمسة عشر عاماً طوالاً، لقد مرّغت وجه إسرائيل في الأمم المتحدة، ولكنهم يمرغون وجوه العرب في الوطن، ولقد أحسست أنه لم تعد هنالك جدوى من الأمم المتحدة، إذا لم يكن وراء خطبنا كفاح مسلح.. فلقد دافعت عن قضايا المغرب والجزائر وتونس وليبيا.. ودافعت كذلك عن فلسطين.. فلماذا أخفقنا في قضية فلسطين، ونجحنا في أخواتها .. الخطب هي الخطب.. ولكن الفرق أن كفاحاً مسلحاً كان وراء المغرب، والجزائر، وليبيا، وتونس.. أما فلسطين فليس وراءها إلاّ الخطب.
تلك كانت النجوى في فؤادي، وذلك كان الحوار في نفسي عن ذلك الحوار الدولي الطويل .. فعزمت أن تكون تلك الدورة آخر دورة أحضرها في الأمم المتحدة.. وعزمت أن أساهم في بناء حركة تحرير فلسطين.. كما جرى في وطننا العربي في شمال أفريقيا..(1/919)
وذهبت في الجلسة الأخيرة إلى الأمم المتحدة وألقيت كلمة كانت بمثابة وداع وقلت: "إن مشكلة فلسطين هي مشكلة استعمارية.. ولا يمكن أن تحل إلا كما حلت المشاكل الاستعمارية، كما حلت المشكلة الجزائرية.. وأنتم تعرفون معنى الحل الجزائري من البداية إلى النهاية.. وقد أصبح من الضروري أن نشرع في حركة تحريرية تعتمد على جيش التحرير.. وسنبني هذا الجيش وستقوم حركة التحرير.
وبهذه العبارة أنهي بياني إليكم.."
تلك كانت آخر كلماتي في الأمم المتحدة رئيساً لوفد فلسطين في تشرين ثاني سنة 1963، وقال القدر: نعم فقد عدت إلى الوطن وجاءت مؤتمرات القمة، وعهد إليّ بإنشاء الكيان الفلسطيني، فقامت منظمة التحرير وجيش التحرير، وتجسدت الشخصية الفلسطينية.
تلك مسيرة مليئة بالأسرار، ستجعل مذكراتي عنها كتاباً مستقلاً، فإنها مرحلة قائمة بذاتها، بأحداثها ووقائعها .. مع الشعب الفلسطيني .. مع الملوك والرؤساء.. ومع العالم الدولي.
وسيكون لكارثة حزيران من عام 1967 مكان الصدارة في أسبابها ونتائجها .. فإذا عرفنا أسباب الكارثة ..عرفنا أسباب النصر..
وفي هذه الحقبة القصيرة الطويلة من عام 1963 إلى عام 1967 قامت أحداث كبار، حامت حولها، وما تزال، تساؤلات وأسرار.
كيف نشأ الكيان الفلسطيني وقامت منظمة التحرير..؟
لماذا اختلفت مع بعض الملوك والرؤساء؟
ما هي خفايا مؤتمرات القمة الأربعة ؟(1/920)
لماذا انسحبت من مؤتمر الخرطوم؟
لماذا تنحيت عن رياسة منظمة التحرير الفلسطينية ؟
ما هو موقف موسكو من قضية فلسطين؟
ما هو موقف بكين، ومساعداتها العسكرية؟
وما هو .. وكيف.. وكيف..؟(1/921)