(الغلاف 2 )
أربعون عاماً...
في الحياة العربية والدولية(1/1)
الطبعة الإلكترونية الأولى
1426 هـ
2005 م(1/3)
? أربعون عاماً في الحياة العربية والدولية
? أحمد الشقيري
? الطبعة الإلكترونية الأولى 2005 م
المحرر
عبد العزيز السيد أحمد
تدقيق التنضيد والإخراج :-
المؤسسة العربية الدولية للنشر والتوزيع
هاتف: 5650630-6-962+ فاكس: 5668860-6-962+
ب.إ: arab_book@hotmail.com
...
جميع الحقوق محفوظة. All rights reserved.(1/4)
المحتويات
مذكرات عن المذكرات ................................. ... 11
الطفولة الباكرة والحرب العالمية الأولى ................ ... 25
- مع أمي وعمي ...................................... ... 27
- حجارة وتراب ....................................... ... 30
- أين أبي؟ ............................................ ... 35
- يتيم في بيت الجيران ................................ ... 40
- ليلة في مستعمرة يهودية ............................ ... 46
- المساعي الحميدة مع خالتي ......................... ... 54
- دقيقة واحدة مع أبي! ................................ ... 58
- ليعش سلطاننا طويلا ............................... ... 64
الشباب والوطن القومي واليهودي ..................... ... 69
- على عتبات التاريخ .................................. ... 71
- نطالب بانتداب أميركا ................................ ... 78
- مع جورج أنطونيوس في عكا ....................... ... 85
- أبو موسى اليهودي في الجامع ...................... ... 94
- مأساة واحدة بين آلاف المآسي ...................... ... 103
- يوم مع هربرت صموئيل ............................ ... 111(1/5)
- ليلة مع جمال باشا .................................. ... 117
- المستحيلات قبل أربعين عاما ........................ ... 124
- نشأت على جبل صهيون عدوا للصهيونية ........... ... 131
- لك الله يا غزة ....................................... ... 139
- السؤال الذي بقي خمسين عاما من غير جواب ...... ... 146
- أربع عشرة عقبة أمام الوحدة العربية؟ .............. ... 152
- (أنا انتهيت) سعد زغلول ............................ ... 163
فجر النضال الفلسطيني ................................ ... 171
- مع زعيم صهيوني كبير ............................. ... 173
- أطرد أباك من الميدان ............................... ... 181
- الحاج أمين على صهوة جواده الأبيض .............. ... 190
- خمسة عشر ألف جنيه رأس مال الحركة الوطنية .... ... 199
- فيصل لا يذكر ....................................... ... 207
- سنعود إلى بيت المقدس ولكن حجرا على حجر ...... ... 216
- عرس في غرفة الإعدام ............................. ... 224
- مكماهون وحسين يدفنان في وادي الحوارث ......... ... 229
- مرافعات، مظاهرات، أحزاب، صدقي باشا وبو رقيبة . ... 239
- يوم مع القسام ...................................... ... 249
- المجاهدون الجرحى يتحدثون عن المجاهد الشهيد ... ... 258
- شعب يقود زعماءه .................................. ... 267
- بريطانيا وأصدقاؤها يوقفون الإضراب والثورة ...... ... 276
ثورة شعب ............................................ ... 289(1/6)
- "تعال عندنا إلى عمان" الأمير "الملك عبدالله" ......... ... 291
- إلى السلاح يا رجال! ................................ ... 301
- افرجها علينا يا رب حتى نلتحق بالثورة ............. ... 309
- ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ................. ... 320
- الثورة، والثورة وحدها .............................. ... 327
- العرب والإنكليز واليهود اتفقوا على شيء واحد؟ .... ... 334
- مع الملك فاروق والإمام المراغي ................... ... 343
- حوار تاريخي مع كوهين العربي ..................... ... 349
العروبة في المهجر .................................... ... 357
- الجامعة العربية ولدت كبيرة جدا وعاشت صغيرة جدا ... 359
- بن غوريون في القاهرة ............................. ... 369
- ما أعقل هذا المجنون ............................... ... 376
- سذاجات أميركية في جزر الخالدات .................. ... 385
- الدولة العربية المتحدة في انسان .................... ... 392
- حزين ... في نيويورك ............................... ... 399
- الأمير فيصل، ناظم القدسي، القنبلة الذرية ........... ... 404
- يا مستر شقيري أنت متشائم جداً، يا مستر شقيري أنت متفائل جداً ..................................... ... 412
- الكونغرس في مباذله ................................ ... 421
- دعاية معلقة في الهواء .............................. ... 426
- أنباء لا آراء ........................................ ... 431
- العروبة في المهجر ................................. ... 441(1/7)
- حوار مع القس ومناجاة في المسجد ................. ... 453
- عيد الأضحى في الكنيس اليهودي ................... ... 458
- الصخرة ... الصخرة .................................. ... 462
الدول العربية في المعركة .............................. ... 473
- اللقاء في سوق الفراء ............................... ... 475
- لقاءات خاطفة ... الملك عبد العزيز- الأمير عبدالله - الرئيس القوتلي ..................................... ... 493
- عمان والكارثة ...................................... ... 502
- رقصت نيويورك ورقصت معها تل أبيب ............. ... 511
- لن يهربوا من التاريخ ولا من الشعب ............... ... 519
العرب في الأمم المتحدة .............................. ... 533
- رودس تصيح مع القدس الويل للمغلوب ............. ... 535
- نفدت آخر خرطوشة من زمان ....................... ... 543
- بروتوكول لوزان ليس سمكة ولا ضفدعة ............ ... 554
- شاريت في المرحاض يرفض رجاء أمريكا ........... ... 563
- إيبان لم يهمس ولم ينبس ........................... ... 573
-شاريت لم يهمس ونوري السعيد لم ينبس ............ ... 581
- ذكريات مع العرب الأربعة، أبو رقيبة والسنوسي ومحمد الخامس والأندلس .......................... ... 595
في كل ساحة وميدان .................................. ... 617
- مع الشيشكلي وعبد الناصر والنظرة الأولى حمقاء .. ... 619(1/8)
- مع الرئيسين محمد نجيب وعلي ماهر ............... ... 632
- اشربوا معي نخب الإتحاد السوفيتي ................. ... 642
- آمال في موسكو ومخاوف في الفاتيكان ............. ... 565
- حوار مع الملك إدريس ولقاء مع الجنرال فرانكو .... ... 670
- شجار مع نهرو، عهد مع شو أن لاي ونقاش مع عبد الناصر ............................................. ... 684
- دموع في الجامعة العربية وصلاة في مجلس الأمن .. ... 703
- مصائب اليمن الثلاث ورابعها إمامها ................ ... 715
- معركة مع الثلاثة الكبار والملك سعود يرفض استقالتي ........................................... ... 730
- ايزنهاور: الشقيري لا يمثل العربية السعودية ........ ... 747
- مكاشفة مع محمد الخامس والحسن الثاني، وسخرية مع السيد "سخرية" .................................. ... 767
- رؤساء وحذاء ....................................... ... 782
مع الغرب والشرق .................................... ... 797
- حوار السنين مع ملك بريطانيا ووزرائه والرئيس ترومان وحلفائه .................................... ... 799
- أيام مع خروشوف وكوسيجن ....................... ... 830
- الرئيس ديغول يخون الجنرال ديغول ................. ... 863
- وأنت أيضا يا بروتوس! وأنت أيضا يا إيبان! ........ ... 896(1/9)
مذكرات عن المذكرات
... في هذا الكتاب سيرة مواطن عربي عاش الحياة العربية العامة، فسار في موكبها وتمرس بأحداثها، وساهم في صنع وقائعها، عبر حقبة حافلة، امتدت قرابة أربعين عاما، ويزيد..
... وقد شاء طموحي في الحياة، وشاءت معه ظروف وأقدار أن يكون لي دور في الحياة السياسية على الصعيدين العربي والدولي، ومن هنا غدت هذه "المذكرات" سيرة جيل بكامله، لا سيرة مواطن فرد، أو إنسان واحد.. وما هو أهم من ذلك أصبحت هذه "المذكرات" ملك التاريخ العربي، وعلى صعيد النضال القومي ملك الأجيال الصاعدة والأجيال التي تتصاعد بعدها..
... وكذلك شاءت الأقدار أن يكون مولدي، ومولد جيلي معي، في أخريات الدولة العثمانية لنشهد بعدها عهد الاحتلال الأجنبي ، ثم عهد الاستقلال الوطني .. ويطغى على هذا وذاك عهد الخطر الصهيوني..
ولقد واكبت هذه العقود كلها طفلاً ، فصبياً ، فشاباً ، فرجلاً، فكهلاً .. فأصبت بنصيب منها، فعشت أيامها البهيجة والشقية، وكان أبهجها مواكب الاستقلال، وأشقاها كارثة حزيران، بأسبابها وعواملها.. وما تزال قائمة..
... وكانت هذه العهود غنية بالعظات والعبر، عرفتها وعرفها جيلي معي، بالممارسة والمعاناة، لا بالتفكير والتدبير، فقد كنا في مطلع هذا القرن أمة "مبتدئة" في الحياة الدولية.. وأحسب أننا لا نزال..(1/11)
... وها أنا أجلس الآن في مكتبي، فأتوغل على مدى عشرات السنين، في أخاديد ذاكرتي، وسراديب طفولتي الباكرة، فأرى وكأني أرى الآن، وأسمع وكأني أسمع الآن..
... أرى العجائز الطيبات، وأنا بينهن، يجلسن القرفصاء، بملابسهن المهلهلة حول "الطبلية" المستديرة الكبيرة، وهنّ ينتقين القمح من حب "الزوان" قبل إرساله إلى المطحنة.. ثم أستمع إليهن وهن يتحدثن أحاديث الفراغ عن شؤون المدينة وأهلها، رجالها ونسائها ... هذا تزوج، وتلك طلقت.. وهذا مات في سنة الكوليرا.. وذاك ولد سنة الحرية...
... ومع الأيام تداولت "سنة الحرية" على سمعي، فما جرى حوار في بيتنا عن أعمار البنات والصبيان، إلاّ والعجائز الطيبات يحتكمن إلى "سنة الحرية" يؤكدن أن "فاطمة" ولدت قبل الحرية بعام، وأن "محمداً" ولد بعد الحرية بعامين..
... ومع الأيام كذلك تداولت سمعي إلى جانب "الحرية" تعابير أخرى: "المشروطية" و"الدستور" و"حزب الإتحاد والترقي"، و"حزب الائتلاف". وقد زاد من اهتمامي بهذه التعابير الغريبة على صباي، أنني ولدت في سنة الحرية (1908) كما تحدثت لي العجائز الطيبات عن الأيام الخوالي..
... وتوالت الأيام بعد ذلك، ودارت في "ديوان" بيتنا الأحاديث، وكلها تدور حول هذه التعابير، فأخذت أفهم معناها ومداها..
... وبدأت يومئذ أعرف التاريخ بالرواية والسماع، قبل أن أعرفه بالدرس والاطلاع – تماما كما كان يفعل الأسلاف من الآباء والأجداد.(1/12)
... وفي هذا "الديوان" عرفت أن رجال "تركيا الفتاة" من أمثال طلعت أنور وجمال وجاويد قد قاموا بانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني فأعلنوا "الحرية" ووضعوا "الدستور" وأقاموا "الحكومة المشروطة" وأسسوا حزب الإتحاد والترقي ليكون شعارا لاتحاد العنصرين الكبيرين في الدولة العثمانية: الترك والعرب.
... وعرفت في هذا الديوان كذلك أن والدي كان من الأعضاء البارزين في حزب الإتحاد والترقي، وأن فريقا آخر من أعيان بلدي – عكا – كانوا ينتمون إلى حزب آخر يعرف بحزب الائتلاف، وهو يهدف كما يدل اسمه إلى مجرد ائتلاف بين الترك والعرب.. وكان السيد عبد الفتاح السعدي – عمي (حموي) فيما بعد – كبير الائتلافيين في عكا.
... وانتهى عهد الدولة العثمانية بانتهاء الحرب العالمية الأولى، ودخلت في عهد القضية العربية دون أن أنتمي إلى حزب والدي ولا إلى حزب عمي، فقد كان الشعار الذي انطلق في بيوتنا وشوارعنا ونوادينا ومقاهينا: الاستقلال التام الناجز في إطار الوحدة العربية..
... ولكن الحوار بين الائتلاف والاتحاد قد بقي زمنا طويلا بعد زوال الحكم العثماني وسقوط الخلافة الإسلامية.. ولقد شهدت هذا الحوار واشتركت في ندواته وحلقاته..
... وكان هذا الحوار يدور حول السؤال الكبير: الوحدة الإسلامية أم الوحدة العربية؟ وكان والدي من أنصار الأولى، على حين كان "عمي" من أنصار الثانية- وهكذا انقسم رجال العرب في كل أقطار العرب..(1/13)
... وجاء عهد الانتدابات على ديار الشام وأطلت الحركة الصهيونية برأسها ... وشهدت في "الديوان" الاتحاديين والائتلافيين يأتلفون ويتحدون في وجه الأجيال الصاعدة – وأنا واحد منهم.. وبدأ حوار جديد حول سؤال جديد: أيهما كان خيرا للأمة العربية: البقاء مع الدولة العثمانية أم السير في ركاب الحلفاء؟.
... وراح بقايا الدولة العثمانية يندبون زوال دولة الخلافة الإسلامية، وينعون على الشريف حسين أمير مكة وأنصاره تحالفهم مع بريطانيا "عدوة العرب والإسلام".
... وكنت أستمع إلى والدي في الديوان وهو يتحدث بحرارة المؤمن المنافح عن أيام "الباب العالي" في استانبول، وعن الموقف الشهير الذي وقفه السلطان عبد الحميد في رفضه استقبال "هرتسل" مؤسس الصهيونية، حين جاء إلى الآستانة يقدم العروض المالية المغرية، سعيا وراء تحقيق حلمه الرهيب..
... وكنا نحن الأجيال الصاعدة نقف في الطرف الآخر من هذا الحوار.. ونرى في حركة الشريف حسين عهدا مباركا... وأن الحلفاء لا بد أن ينجزوا وعودهم، ولا بد أن "يمنحونا" الاستقلال والحرية في ظلال الوحدة العربية..
... وانطفأ هذا الحوار فيما بعد، فقد مات "العثمانيون" من جيل والدي، وضاع الحديث حوله في زحمة الأحداث، وغاص جيلنا إلى الأذقان في مكافحة الانتداب الأجنبي، ونشدان الاستقلال.(1/14)
... ولكن هذا الحوار عاد وأفاق مرة ثانية.. لقد استيقظ في نفسي بعد أربعين عاما – بعد هزيمة حزيران النكراء.. وعاد السؤال القديم: أيهما افضل البقاء مع الدولة العثمانية أم السير في ركاب الحلفاء؟.
... ورجعت إلى نفسي، إلى هذا السؤال القديم، وقررت، وأنا أستعرض مسيرة الصهيونية في خلال خمسين سنة خلت، أن جيلنا كان على خطأ فادح، وأن الحكم العثماني بكل مخاطره التي أعرفها، أفضل من هذه "الاستقلالات" العربية، وهذه الدويلات المنكسرة، وقد هزمتها الصهيونية في حروب ثلاث، وهي الآن مركزة مدافعها على ضفاف النيل والأردن وسفوح الجولان، فاغرة أفواهها صوب العراق والكويت والسعودية ولبنان.
... ولعلي ما كنت أرتضي لنفسي هذا الاعتراف، لو أني أرى "الوحدة العربية" أملا قريبا، فالصهيونية العالمية وفي طليعتها إسرائيل قوة ديناميكية هائلة، لا يمكن أن يقف أمامها إلاّ وحدة عربية، لها جيش عربي واحد، على رأسه دولة اتحادية واحدة.. دولة واحدة حول إسرائيل على الأقل ... وبدلا من أن نظل نردد أن شعار إسرائيل من النيل إلى الفرات، علينا أن نقيم دولة الوحدة من النيل إلى الفرات ...
... إنه اعتراف خطير من غير شك، يحتاج بحثه ومناقشته إلى كتاب مستقل.. ولكن أنى للتاريخ أن يعود إلى الوراء..!
... ولم تكن هذه المخاوف تساورنا في أوائل العشرينات، بعد أن فرض الانتداب على بلادنا في المشرق العربي، لأسباب عرضتها في مذكراتي.. بل أن جيلي كانت له أحلام الكبار لعلها اقرب إلى الخيال.. ولكنها كانت تراودنا على كل حال ... ومن حق الأجيال الناشئة أن تعرفها، لتدرك في أي فلك(1/15)
كانت تسبح خواطرنا.. وفي أي هوة سحيقة وقعنا بعد نصف قرن من الزمان..
... كنّا يومئذ طلابا في المدارس نحفظ الشعر، وننشده بنبرات أصواتنا وإشارات أيدينا.. وكان أساتذتنا يحرصون أن يكون للشعر الأندلسي وتاريخ الأندلس نصيب.. نسترد الأندلس ... إنها وطننا الذي مكثنا فيه ثمانية قرون، وانشأنا حضارة ومجدا، و.. و ... فلا بد أن "نحرر" الفردوس المفقود..
... ولقد عشت هذه الأماني، ومعي جماهير الطلاب، بكل جوارحنا.. ثم امتدت الأيام وتعاقبت الكوارث.. وقدّر لي أن أعيش في خضم النكبات، فضاع الفردوس الموجود، ونحن نتعلل بالفردوس المفقود.. وانقلبنا من تحرير الأندلس إلى تحرير فلسطين.. ثم إلى تحرير سيناء والجولان.
... أجل لقد عشت هذه الحقيقة كلها، وولدت مع مولدها. ونشأت مع نشوئها.. وكبرت معها.. وتمنيت أني ما ولدت فلا تولد.. وما كبرت فلا تكبر.
... لقد ولدت في وطني وكان اليهود لا يتجاوزون (50) ألفاً وها أنا اليوم أكتب مذكراتي لأرى اليهود وقد تضاعفوا خمسين مرة.. وأصبحوا 2.5(مليون). في نسبة فذة فريدة، لم يعرف التاريخ الإنساني مثيلا لها.
... لقد ولدت في وطني ولم يكن اليهود يملكون فيه أكثر من اثنين في المائة، اشتروها من مالكين غائبين خلال خمسين سنة خلت.. وها أني أراهم اليوم وقد "ملكوا" فلسطين من البحر إلى النهر، وأضافوا أضعافها في سيناء والجولان..(1/16)
... لقد ولدت في وطني، والحكايات تملأ سمعي عن جبن اليهود، وكيف كانوا يفرون من وجوهنا حين نسير في الشوارع والساحات.. ثم امتد بي العمر لأسمع الطائرات الإسرائيلية تقصف مدننا وقرانا، وتشتت شعبنا، وتنهب ثرواتنا، وتصادر كرومنا ومزارعنا، وتسرق كنيسة القيامة، وتمضي في الحفائر تحت المسجد الأقصى.
... وقبل أن يستفحل هذا الخطر الداهم بسنين، كنّا، أنا ووديع البستاني الشاعر اللبناني الفلسطيني، نتشاكى أيامنا المكفهرة في فلسطين، فانطلق ينشد عن نفسه:
... غنى العروبة دهرا وعاش حتى رثاها
... ولست أدري ما يقول "البستاني" لو أنه عاش ليرى ما أرى وليسمع ما أسمع..
... ثم عشت عهد الحكم البريطاني الذي كرس نفسه لثلاثين عاما لإقامة الوطن القومي اليهودي تمهيدا لإنشاء إسرائيل.. فشهدت أفواج الهجرة اليهودية تطغى على بلادنا.. وشهدت جلاء الفلاحين العرب عن قراهم ومزارعهم.. وشهدت المظاهرات الدامية يتساقط فيها الشهداء والجرحى.. وخرجت من سجن إلى سجن، ومن معتقل إلى معتقل مع الآلاف من أبناء شعبنا ... وعلى الجملة فقد عشت خمس عشرة ثورة خاضها شعبنا البطل بكل بسالة وإيمان..
... وانتهت "مسيرتي" الفلسطينية في 1948،لأكون في الساحة العربية مستشارا للوفد السوري، ولأشهد الحرب العربية الإسرائيلية وكأنما قد أُعدت لهزيمة الأمة العربية ...(1/17)
... وبحثت في أعماق نفسي عن أسبابها، وتجاوزت عما أذيع ونشر، فلم يكن السبب فساد السلاح.. بل كان السبب ولا سبب سواه.. فساد الخلق القومي في الحكم العربي ... وتذكرت حينذاك حدثا مررت به في يومه مر الكرام.
... تذكرت أننا ونحن في شرخ الشباب، قد خرجنا من عكا في أوائل الثلاثينات إلى الحدود السورية لاستقبال السيد ياسين الهاشمي – الزعيم العراقي المعروف – وسرنا به في موكب فخيم إلى عكا.. وسار معنا بهدوء ورصانة، وعلى رأسه "فيصلية" من القماش العراقي الخشن.. وأذكر أنني خطبت بين يديه خطابا توقعت بعده أن أسمع منه خطابا وطنيا مليئا.. ولكن ياسين الهاشمي قد خيب ظني، فلم يهتز لروعة الاستقبال ولا لروعة الخطاب.. ووقف ليقول: لا بد أن نبني الخلق القومي في الحكم العربي أولاً وقبل كل شيء.. والسلام عليكم..
... كنّا في ذلك العهد في عنفوان الشباب، قلوبنا قفزت من صدورنا واستقرت في رؤوسنا تتبوأ مكان عقولنا.. فلم يعجبنا كلام الهاشمي.
... غير أني فهمت كلام ياسين الهاشمي بعد خمسة عشر عاما، حينما كنت في الساحة العربية على مقربة من الملوك والأمراء في زهراء أنشاص، ومع الرؤساء والوزراء والسفراء في ردهات الجامعة العربية وترحمت يومها على ياسين الهاشمي، فقد رأيت بعيني وسمعت بأذني كيف أن الحكم العربي لم يكن يتحلى بالخلق القومي.. فكانت الكارثة وكانت إسرائيل..
... وعلى الساحة العربية شهدت مولد الجامعة العربية.. وقد أسهبت مذكراتي كيف أنها ولدت كبيرة جدا ثم أصبحت صغيرة جدا.. وكيف عشت(1/18)
فيها سبع سنوات ثم خرجت منها دون أن أنجز فيها إلاّ تعيين بعض الموظفين وإعداد بعض الدراسات.. وها أني أراها اليوم تحتفل بعيد ميلادها الثاني والعشرين (1) ولم تنجز شيئا، فلا هي كونفدرالية ولا فدرالية ولا حتى "أمم متحدة"، فلم تستطع دولها أن توحد شيئا، أو تنسق أمرا.. حتى شهور السنة قد حاولت توحيدها في بداية نشوئها، وها نحن بعد ربع قرن من الزمان لا نزال نكتب فبراير، وشباط، وذا الحجة.. ولو سئلنا عن السبب لأوردنا ألف حجة وحجة ...
... وعلى الساحة العربية شهدت المحاولات "التعيسة" للوحدة العربية.. كنت فيها في مؤتمر الإسكندرية 1944 حين قدم الوفدان العراقي والسوري مشروعين لقيام دولة اتحادية ... وكنت فيها عام 1955، يوم بحثت أمرها في إحدى ليالي مؤتمر باندونغ بين عبد الناصر وخالد العظم.. وكنت على مقربة من قيام الوحدة بين سوريا ومصر، ثم وقفت منكسا في ساحة الأمم المتحدة في نيويورك وأنا أرى العلم السوري يرتفع على ساريته، يوم الانفصال ... على حين أني كنت بكيت فرحا يوم ارتفع العلم السوري في ساحة المرجة، في نيسان 1946 – في يوم الاستقلال.. وأنا أجلس قريبا من صانعي الاستقلال: شكري القوتلي وجميل مردم وفارس الخوري وإخوانهم.
... وليست الوحدة العربية عندي وعند أي مواطن عربي خطبة كما يفعل الملوك والرؤساء، ولا شعرا كما ينشد الشعراء، ولا أغنية كما يغني المطربون.. ولكنها حقائق ... تفرح لها أو تفجع، في أبسط مظاهرها ...
__________
(1) أُسست الجامعة العربية في القاهرة في - 21 آذار (مارس) 1945.(1/19)
... وإني لأذكر تلك الأيام التي كنّا نسافر فيها زمن الدولة العثمانية، في أرجاء الوطن العربي، فلا نحمل جوازا، ولا يعترضنا أحد، ولا يفتش حقائبنا أحد.. وجاء عهد الانتدابات الأجنبية في المشرق العربي، فأقام الاستعمار "أكشاكا" خشبية على المخافر والحدود، استمرت قرابة ثلاثين عاما في عهد الاحتلال. ثم جاء عهد الاستقلال، فانبرى الحكم العربي المعاصر وراح يهدم الأكشاك الخشبية وأقام مقامها مباني من الحجارة الصماء ... وأذكر أن وفدا من أبناء فلسطين قد طلبوا إليّ أن أثير هذا الموضوع في مؤتمر القمة.. فقد ذكروا لي أن المواطن القادم من الكويت إلى لبنان بالسيارة يتعرض للتفتيش تسع مرات.. فقلت لهم، تجنبوا السفر من الكويت إلى لبنان.. سافروا في أوروبا كلها. بين لندن وأثينا..شر البلية ما يضحك.
... ومرة أخرى شكا إليّ وفد عربي أن البريد بين هذه العاصمة العربية وتلك يستغرق ثلاثة أسابيع.. بل لعله في المدينة الواحدة يستغرق بضعة أيام.. لقد طلبوا إليّ كذلك أن أثير هذا الموضوع في مؤتمر القمة، قلت لهم: خير لكم أن تدعوا الله أن يبعث إليكم الظاهر بيبرس، من مرقده.. قالوا: لماذا؟ قلت: الظاهر بيبرس جعل البريد أربعة أيام بين دمشق والقاهرة، ولم تكن عنده طائرات ولا وزارة مواصلات.. ولا جامعة عربية، ولا مؤتمرات قمة.. ومرة أخرى ضحكوا، وشر البلية ما يضحك ...
... وعلى مدى عشرين عاما (1948-1968) كانت قضية فلسطين القنبلة الصاروخية التي تساقطت شظاياها في عدد من العواصم العربية فأحدثت الثورات والانقلابات والانتفاضات، وبعضها انقلب بعضه على بعض.. ولقد حققت هذه الثورات كثيرا من الإنجازات السياسية والاجتماعية(1/20)
الاقتصادية، ولكنها لم تحقق الإنجاز الكبير للقضية الكبرى التي قامت من أجلها، وهي قضية فلسطين.. لا جاءت هزيمة حزيران 1967 لتصيح بأعلى صوتها أن الأمة العربية ما تزال بحاجة إلى "الثورة الأم"، الثورة العربية الشاملة، فتضم في أكنافها الثورات السابقة وتقدم للحياة العربية المعاصرة، الحكم العربي الجديد والمواطن العربي الجديد..
... ومن الميدان العربي قفزت إلى الميدان الدولي، فدخلت الأمم المتحدة رئيسا للوفد السوري ثم رئيسا للوفد السعودي، وامتد عملي فيها خمسة عشر عاما، وأنا ادافع مع الوفود العربية عن القضايا العربية وفي مقدمتها قضية فلسطين.. ودخلت في معارك ضارية أجابه الاستعمار بلا هوادة.. وتصديت للملك جورج السادس وللرؤساء ترومان وايزنهاور وكندي وديغول، ووزارئهم وسفرائهم، في حوار قاس عنيف، فلم يستريحوا منه ومني إلاّ يوم انتهى عملي في الأمم المتحدة عام 1962، لأسباب وظروف سيأتي إيضاحها.
... وواكبت في هذه الفترة حركات التحرر في العالم، ورحت أبحث عن كل قضية حيثما وجدتها دفاعا عن أوطان الشعوب، وثأرا لوطني المغلوب..
... وفي غمرة هذا العراك بكرت في التحالف مع الوفود الشيوعية وعلى رأسها الوفد السوفياتي، في وقت كانت ترتجف أعصاب الحكام في العالم العربي إذا أعلن أي مندوب عربي تضامنه مع الوفد الروسي ولو على حق..(1/21)
... وختمت سيرتي في الأمم المتحدة باستقلال الجزائر، ووقفت على منبر الأمم المتحدة أشيد بانتصار الحرية، كما فعلت قبل ذلك بالنسبة إلى المغرب وتونس وليبيا.
... وفي خريف 1962 عدت إلى غير الوطن الصغير، إلى الوطن الكبير، وقلبي عامر بالبهجة والأسى، البهجة لما أديت من واجب تجاه القضايا العربية بأسرها، والأسى لأني فشلت في قضية فلسطين.. ولو أن قومي أنطقتني رماحهم لما فشلت..
... وحسبت أني بانتهاء "وظيفتي" في الأمم المتحدة سأخلد إلى القراءة والكتابة وهما نعم الحياة من المهد إلى اللحد.. وبدأت أبحث عن جليس.. وخير جليس في الزمان كتاب..
... وهكذا رحت أجلس مع نور الدين وصلاح الدين والظاهر بيبرس وقلاوون- الذين حرروا فلسطين وسائر ديار الشام أثناء الحروب الصليبية..
... ولكن الظروف حرمتني هؤلاء الجلساءلأكون جليس الملوك والرؤساء في مسيرة الهزيمة والنكبة، في مؤتمرات القمة، من القاهرة إلى الاسكندرية إلى الدار البيضاء إلى الخرطوم.. إلى أن انسحبت واعتزلت هذه المجالسة، وتلك سيرة خطيرة ومسيرة منيرة، ستكون موضوع كتابي الثاني، أرجو أن يرزقه الله فيضا من الشجاعة لنشره.. الشجاعة بالنسبة إلى غيري، فإنها بالنسبة إلى ذاتي متوفرة والحمد لله..
... هذه ملامح مذكراتي في صورتها العامة.. انها ليست مرجعا تاريخيا، ولا دراسة سياسية، ولا خطة قومية، ولا كتابا أدبيا إنسانيا، ولكنها مزيج من كل ذلك..(1/22)
... ولقد كتب الأمير الشاعر الفارس أسامة بن منقذ مذكراته في كتابه "الإعتبار"، في زمن الحروب الصليبية.. فكان كذلك مزيجا من كل ذلك، ولعل هذه طبيعة النفس البشرية وهي تتململ من الهزيمة لتتهيأ إلى النصر..
... هذه المذكرات هي "ولدي" السابع.. مع فارق واحد: أن أبنائي ساهمت في صنعهم عوامل الإرث والبيئة وأسرار أخرى لا نعرفها..
... أما هذه المذكرات فقد صنعتها كما اخترت وأردت.
... وأرجو أن يكون مكانها في مكتبة التحرير، في فلسطين، تمجيدا لبطولات شعبنا البطل، وبسالات أمتنا الباسلة..
... ونحن نعيش في هذه الأيام أروع هذه البطولات والبسالات.. مع الفدائيين والفدائيات في كفاحهم المجيد من النهر إلى البحر ...
تموز سنة 1969 أحمد الشقيري(1/23)
الطفولة الباكرة
والحرب العالمية الأولى(1/25)
مع أمي وعمي
لست أعي متى بدأت "أعي".
ولست أذكر متى بدأت "أذكر".
... تلك هي سنة الحياة في الطفولة المبكرة في مراحلها الأولى، لا يدري الطفل متى بدأ يعي، ومتى بدأ يشم ويتذوق، ومتى بدأ يفرح ويتألم.
... ولعل العقل الإلكتروني في مستقبل الأيام يستطيع أن يسجل حياة الطفولة في بواكيرها الأولى، فينفذ إلى مشاعر الأطفال وأحاسيسهم، وخواطرهم وذاكرتهم، وحوافزهم ودوافعهم، فتتجمع بذلك حصيلة غنية من المعرفة عن النفس الإنسانية في "مهدها".
... فالطفولة في ذلك العهد عالم مجهول يحوم حوله العلماء بالحدس والتخمين، ومن ذلك العالم المجهول تنطلق الإنسانية من عقالها، وتسير في حركتها المتطورة الدائبة، متطلعة إلى استكناه الكون والتعرف على أسراره بشوق ملح ولهفة غلابة، وهي لا تدري سر وجودها ونشوئها، بل انها لا تدري متى بدأت "تعي" ومتى بدأت "تذكر".
... وحين أحاول جاهدا أن أعود بعيدا إلى أعماق ذاكرتي، أنبش دفائنها القديمة، أجد نفسي طفلا صغيرا، ولا أدري في أي عمر، أعيش في مدينة طولكرم في بيت صغير إلى جوارنا بيت من حوله الجمال وتدخله الحيوانات والمواشي.(1/27)
... ومع ذلك فقد كان بيتنا نظيفا تبدو عليه سمات "المدينة" فإنني أذكر غرفة كانت مفروشة بالبسط، وفيها مقاعد حول جدرانها مغطاة بالقماش الملون، وعلى جنباتها الوسائد، ولم يكن في الغرفة شيء من مظاهر الترف والغنى، بل كان كل ما فيها فقرا نظيفا، مرتبا ومنظما. وهكذا كانت حياتنا في هذا البيت المتواضع من تلك المدينة المتواضعة.
... وكل ما أذكره عن هذه الغرفة من بيتنا، جمع من السيدات كنّ يجلسن على هذه المقاعد متكئات على الوسائد وأمامهن "النراجيل" (1) يدخنَّ، ويملأن جو الغرفة بأطباق الدخان.
... وذات مرة، حين انصرفت السيدات من الغرفة، أمسكت بحبل النارجيلة وفعلت كما فعلت السيدات، وأحسست بدوار، ولا أذكر بعد ذلك شيئا.
... وكان كل من في البيت أمي، ورجل آخر لم أكن أعرف من هو، إنه لم يكن أبي، يقينا، ولم أكن أعرف صلته بنا ولا قرابته.
... وكل ما أعرفه عنه أنه كان يغادر البيت كثيرا، في ساعات من الليل والنهار، وكنت أراه يحمل سلما ويخرج من المنزل..
... وليس في ذاكرتي صورة وجهه ولا شيء من ملامحه.. وكل ما أذكره أنني لم أعد أراه.
__________
(1) * تسمى الأراجيل حالياً جمع أرجيلة.(1/28)
... وأذكر ذات يوم، أنني رأيت في ساحة البيت صندوقا خشبيا طويلا ممددا على الأرض، وترامت في أذني كلمات وعبارات، كل ما بقي منها في مسمعي: مسافر مسافر.
... وعلمت بعد ذلك ما لم أكن أعلم، فقد كان هذا الرجل "عمي" زوج أمي، تزوجها بعد طلاقها من أبي، وكان هذا الرجل صالحا تقيا، يعمل موظفا في مصلحة البريد، في إصلاح خطوط التلفونات.
... وكان ذلك الصندوق الخشبي الممدود في ساحة البيت، هو نعشه الذي حمله إلى مثواه الأخير، فقد توفي بعد زواجه من أمي بعام أو بعض عام. ولعل كلمة مسافر، كانت تفسيرا لي لمشهد الموت ...
... وعلمت بعد ذلك ما لم أكن أعلم، فقد كنت ولدت في قلعة تبنين، من أعمال لبنان، حيث كان والدي معتقلا في زمن الدولة العثمانية في عهد السلطان عبد الحميد، وكانت والدتي تركية، تزوجها على زوجة تركية أخرى ثم طلقها، وكان مولدي في عام 1908 على ما قدرت فيما بعد من أعمار أقراني.
... وكان أن نقل عمي "قاسم" إلى مدينة طولكرم، ليعمل موظفا في دائرة المالية، وسافرت والدتي في صحبة أسرته وأقامت معهم. وفي طولكرم تزوجت والدتي إلى موظف البريد "عمي سليم" وبهذا تهيأ لي من يكفلني في حياة الطلاق والفراق ...
... رحم الله "عمي" سليم فقد أنقذني من شقاء اليتم ولو إلى حين،
... ورحم الله ذلك الزمن الذي كانت فيه رعاية اليتيم صفوة التقوى، بل جوهر الدين، وعنوان الإيمان.(1/29)
حجارة وتراب
... لست أدري كيف كان وكيف صار، فلقد وجدت نفسي أننا أصبحنا نسكن في بيت آخر يقع في الحي الشرقي من المدينة، ولست أحسب أن كلمة بيت تنطبق على الواقع. فقد كان هذا المسكن غرفة واحدة تطل على ساحة واسعة متصلة ببيوت صغيرة مبنية على الطراز القديم، والحي في مجموعه بدائي بسيط، أشبه ما يكون بالقرية الصغيرة في ساحاته وطرقه ومبانيه وأفرانه.
... وكانت غرفتنا من طراز هذه المباني، لولا أن أمي التركية كانت حريصة على نظافته وترتيبه بحيث أصبح واحة هادئة وسط هذا الحي المتخلف!!
... وكانت غرفتنا متصلة بباب من الداخل بغرفة أخرى مظلمة، تستعمل مخزنا للتبن، وكنت أرى الفلاحين والفلاحات يدخلون إلى غرفتنا ومنها إلى "المتبن" (1) وعلى رؤوسهم أحمال القش يلقونه، بعضه فوق بعض، حتى إذا كاد "المتبن" أن يمتلئ صعدوا إلى سطحه وأخذوا يلقون أحمال القش من نافذة في السقف.
__________
(1) * المتبن : مخزن التبن.(1/30)
... وكنت أسمع هؤلاء الفلاحين والفلاحات، يغنون وينشدون والأحمال على رؤوسهم، فأجري خلفهم إلى الغرفة المظلمة فأستشعر الرهبة، ولا يسرّي عن نفسي إلاّ الحداء والغناء.
... وإنني لأذكر أنني كنت أحمل كتابا من كتبي المدرسية وأجلس في الغرفة على مقربة من الطريق المؤدي إلى المتبن، ثم أنطلق في القراءة بصوت عال حتى إذا شاهدت الفلاحين والفلاحات أخذت أقرأ صائحا، تحدوني الرغبة في أن يسمعوني، وأن يعلموا أنني أجيد القراءة، كما يجيدون الغناء ...
... ولست أذكر متى ذهبت إلى المدرسة، وكل ما بقي في ذاكرتي أنني كنت في المدرسة ولا أعرف كيف ومتى، ولا أعرف من أخذني اليها، أهي أمي وكانت متدينة محجبة على خلاف النساء اللواتي كن يعشن في حينا، أم أن أولاد الجيران تولوا هذه المهمة الشاقة الصعبة!!
... وكانت المدرسة تقع في وسط المدينة، ولا تزال في مخيلتي صور متفرقة عن حياة الدراسة في تلك الفترة من طفولتي.
... وأبرز هذه الصور أن المعلمين كانوا في الصباح يتفقدون الغائبين من الطلاب، فيرسلون الأولاد الكبار إلى بيوتهم، وهؤلاء يبحثون عنهم في مخابئهم سواء في منازلهم أو في الشوارع والساحات أو في "الحواكير" (1) ، حتى إذا ظفروا بهم قادوهم إلى المدرسة يجرونهم جرا، وهنالك يهوي عليهم المعلم يضربهم بقضيب تسمع لهم فحيحا وهو ينزل على ظهورهم وجنوبهم،
__________
(1) * الحواكير:جمع حاكورة وهي قطعة أرض صغيرة تابعة للمنزل تزرع عادة بالخضروات والفواكه.(1/31)
و إذا ترفق بهم يضربهم بكفه في صفعات تتداوى أصداؤها في "الصف"، بل وفي ردهات المدرسة كلها!! وأذكر أن "فرقة" الأولاد الكبار قد جروني إلى المدرسة مرة أو مرتين.
... وفي هذه المدرسة تعلمت القراءة والكتابة في جو من الرهبة. فقد كنا نرتجف بين يدي "المعلم حسن" وكنا نخشاه خشية عظيمة.
... وكان المعلم حسن "كريم العين" أعور، ولكنه مع ذلك كان يجيد الخط إجادة رائعة!! وحين كان يكتب على اللوح كان كل حرف يؤلف لوحة فنية. أو هكذا كان يبدو لي، فالصغير يرى في معلمه المثل الأعلى في الفهم والإجادة والقوة، ولا يلبث بعد تقادم الزمان حين يتصل ببقية الناس، أن يراه شخصا عاديا وربما دون بقية الناس.
... ولقد انطمست في ذاكرتي تفاصيل الحياة المدرسية في المرحلة الإبتدائية، وكل ما أذكره أننا كنا نراقب شعاع الشمس وهو يخترق نافذة غرفة المدرسة ليزحف بطيئا على أرض الغرفة، بلاطة بعد بلاطة.
... ويبدو أن شعاع الشمس كان هو ساعتنا التي نحدد بها موعد الانصراف من المدرسة، وكنا إذا وصل الشعاع إلى البلاطة السادسة والسابعة أعلن المعلم موعد الانصراف.
... وكان بلاط الغرفة موضع أبصارنا طيلة الوقت، نختلس إليه النظرات ونحن ننتظر موعد الفرج، فقد كان للانصراف فرحة كبرى في نفوسنا، ما استشعرت مثلها حتى ساعة إطلاق سراحي من السجن بعد ربع قرن من الزمان!!(1/32)
... وإن أنسَ لا أنسى يوم الخميس من كل أسبوع، ففي ظهر هذا اليوم تبدأ عطلتنا إلى صباح السبت، ويغمرنا الفرح حين ننصرف من المدرسة وجوارحنا منطلقة إلى اللعب في يوم الجمعة بكامله، وما نستيقظ في صباح السبت إلاّ والشعور بالانقباض والرهبة يملك علينا مشاعرنا ونحن نهم بالذهاب إلى المدرسة.
... ومن تقاليد يوم الخميس "الرغيف والبيضة"، فلا بد لكل طالب في ذلك اليوم أن يقدم للمعلم رغيفا وبيضة، ولا أذكر أنني حملت للمعلم هذه "الضريبة"، ولعل حالتنا المادية لم تكن تسمح بذلك، أو لعل الأمر قد غاب في غياهب ذاكرتي في جملة ما غاب من شؤون الطفولة.
... وكان الانصراف من المدرسة "عملية" عسكرية بذاتها، طريفة من غير شك، ولكنها تدل على تأصل الروح القبلية في حياتنا القومية.
... فقد كان المعلم حسن يجمعنا في ساحة المدرسة صفا واحدا، ثم ينادي على التلاميذ بأحيائهم.
وكان يصيح: القَبَالا، فيخرج تلاميذ الحي القِبْلِي وينصرفون إلى بيوتهم..
ثم يصيح: الشّمالا، فيخرج تلاميذ الحي الشَمالي وينصرفون إلى بيوتهم..
ثم يصيح: الغَرابا، فيخرج تلاميذ الحي الغربي وينصرفون إلى بيوتهم..
ثم يصيح: الشَراقا، فيخرج تلاميذ الحي الشرقي وينصرفون إلى بيوتهم..
... وكان نصيبي أن أنصرف مع "الشراقا" إلى الحي الشرقي من المدينة، وكنت أسمع التلاميذ الكبار يتناقشون: أي حي أكثر عددا، وأي حي أشجع وأقوى، ولا أزال أذكر، كأنما المشهد أمامي، وقد انقضى عليه خمسة وخمسون عاما من الستين عاما من عمري، أن التلاميذ ، وهم في طريقهم(1/33)
إلى أحيائهم، كانوا يتوقفون قليلا ليتراشقوا بالحجارة، الحي الواحد على الآخر!!
... وكانت الحجارة متوفرة أكواما أكواما، فلم يكن في البلد طرق معبدة، ولا ساحات ممهدة، وكان كل شيء خارج البيوت حجارة وترابا..
... الحجارة نتراشق بها. والتراب نعفر به وجوهنا.
... تلك كانت طفولتي وطفولة الملايين من الأمة العربية. في العام 1913، ولعلها لا تزال كذلك حتى الآن في العام 1969، في الحواضر والبوادي، والمدائن والأرياف!!
... تلك هي الجذورالأولى للتخلف العربي، بل الجذورالأولى للكوارث والهزائم التي حلت بالأمة العربية.
... وكان قدر جيلنا أن يشقى بعارها ويكتوي بنارها!(1/34)
أين أبي؟
... كان أول ما تفتحت عليه أذناي من شؤون هذه الدنيا أخبار الحرب العالمية الأولى التي بدأت في العام 1914، ولعلي كنت في تلك الفترة في السادسة أو السابعة من عمري.
... وكانت السهرة أو مجلس "الخُرّاف" (1) الوسيلة الوحيدة لتداول الأخبار والاطلاع على شؤون الدنيا، والسهرة كانت تزاور الجيران من النساء في الحي الواحد، يرددن فيه ما يسمعن، والأطفال من حولهن بين إغفاء ويقظة، ينصتون إلى هذه الأحاديث، ما يفهمون منه وما لا يفهمون.
... ومجلس "الخُرّاف" كان يتنادى إليه الرجال وخاصة الشيوخ منهم فيتحدثون ويدلون بآرائهم، ويتجادلون، ويخُطّئ بعضهم بعضا.
... وكان إلى جانب غرفتنا بيت كبير، كنت أرى فيه شيوخ الحي يجتمعون كل ليلة، وفي زاوية من البيت سراج من زيت يرسل بصيصا مهتزاً يكفي ليرى المرء طريقه..
... وكان لهذا المجلس هيبة ووقار، في الظلمة التي تسوده، وفي السكينة التي يتحدث بها الشيوخ، وفي "خطورة" الشؤون التي يناقشونها!!
__________
(1) * الخُرّاف :أشتات الكلام الذي يدور بين الحاضرين في المجالس أو الدواوين أو المقاهي أي (الدردشة).(1/35)
... هكذا كان يبدو الأمر لي ولأطفال الحي، ونحن نراقب الشيوخ يغدون ويروحون في هذا البيت الكبير.
... ولم يكن يعادل مجلس "الخراف"، عندنا نحن الأطفال، إلاّ صندوق العجائب "وكراكوز".
... وصندوق العجائب، ولا يزال في الريف العربي إلى يومنا هذا، هو السينما المتنقلة التي كنا نتابعها، وهي صندوق في داخله صور متحركة، ترى من نافذة زجاجية في صدر الصندوق. وكان صاحب الصندوق يحطه عن أكتافه على الأرض، ويهرول إليه الأطفال ليشاهدوا صوره بعد أن يعطوه رغيفا أو بعض رغيف، ولم تكن حالي في يسار لأحمل إليه الرغيف، غير أني كنت أدفع أحد الأطفال من أمام الكوة الزجاجية، وأشاهد الصورة، لدقيقة أو بعض دقيقة، ولكن سروري كان يعدل العالم كله!!
... أما "كراكوز" فكان بمثابة السينما في يومنا هذا، وأحسب أنه قد انتهى أثره من الدنيا العربية.
... وكنا نذهب بعد المساء إلى دكان فيه بعض المقاعد الخشبية، وسراج من زيت، وفي صدر الدكان ستارة يقف وراءها صاحب "السينما"، وبيده أشخاص من الجلد يحركهم، فيقدمهم ويؤخرهم، ويضرب بعضهم ببعض، وهو يتحدث بأصواتهم، ويقص بنبراتهم، في حوار مثير بين "كراكوز (1) ،
__________
(1) * أسماء الشخوص الذين تظهر صورهم وهم يتصارعون ويتحاورون من خلال صندوق العجب وأهمهم كركوز الذي أصبح يطلق على الشخصية أوالشخص الذي يدعو
للسخرية .(1/36)
وعواظ*، والمدلل"*، فيستهوي أفئدة الشيوخ والشباب والأطفال على السواء!! وما أحلى تلك الساعات من تلك الأيام الحلوة!!
... ولعلي في سهرات الليل مع أمي وجاراتها، كنت أستمع لما يدور في هذا العالم، ولم يكن من حديث في تلك الفترة من طفولتي إلاّ حديث الحرب (1915) وحديث الجراد.
... وأذكر أن معلم المدرسة قد أخذ الطلاب لمكافحة الجراد، وخرجنا إلى ضاحية المدينة قريبا من محطة سكة الحديد وبدأنا نبحث عن الجراد في التراب، وهذا كل ما بقي في ذاكرتي.
... ولكني كنت أسمع الفلاحين وهم يقرعون على صفائح التنك، قرعا قويا متواصلا حول أطراف المدينة، وقد دام ذلك زمنا طويلا، ولا تزال "قعقعات" التنك في أذني حتى اليوم، وقد روي لي فيما بعد أن "حملة الضجيج" هذه، تمنع الجراد أن يستقر على الأرض وبذلك تنجو الأشجار والزروع!!
... أما حديث الحرب، فما عسى النسوة أن يعرفن من أمرها، إنه ترداد لما يقوله الرجال، والرجال يرددون ما يسمعون، بعضهم عن بعض.
... وكان مجلس السهرة عندي نوما هنيئا عميقا، ولم يكن حديث أمي وجاراتها إلاّ تهليلا يطيب معه النوم، وكانت أسوأ ساعة حين تنتهي السهرة، فتوقظني أمي وتعود بي إلى المنزل..
... غير أني قد علقت في ذاكرتي أطراف من أحاديث السهرة ما تزال نبراتها ترن في أذني:
... "سننتصر على الكفار أن شاء الله".(1/37)
... "اقتربنا من السويس"
... "لقد انتهى مد خط سكة الحديد وسنغلب الإنجليز".
... "سيدخل جمال باشا إلى مصر وتنتهي الحرب".
... تلك كانت هي الأحاديث، أو ما بقي منها في ذاكرتي، ولقد شاء القدر أن يكون لي مع جمال باشا حادث طريف حقا وموجع حقا، لقد وصل النبأ إلى المدينة أن جمال باشا (قائد تركي معروف ومن كبار رجال الدولة العثمانية) سيقوم بزيارة إلى البلاد وأنه قادم في القطار.
... وخرج التلاميذ مع أساتذتهم لاستقبال جمال باشا، وأذكر أنني كنت ألبس بدلة جديدة وأن في جيبي ورقة لأقرأها، وأحسب أنها خطاب ترحيب وتحية، وأذكر أن صدرها كان عبارات ملؤها، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
... وقد انتظرنا على رصيف المحطة وقتا طويلا، فما أطل القطار وما أطل جمال باشا ... وجلست القرفصاء، ولعلي نمت وأنا على هذا الحال، وعدنا إلى بيوتنا في الصباح دون أن نرى الرجل الذي ملأ القلوب ذعرا ورعبا.
... وعلمنا في اليوم التالي أن جمال باشا قد وصل، وأنه في مبنى المحطة وأن والدي، الشيخ أسعد الشقيري قد وصل معه ...
... ولم أكن أعرف إلى ذلك الحين أن لي أبا، وأن اسمه الشيخ أسعد الشقيري، فقد نشأت مع أمي، ولم يكن في البيت رجل غير "عمي سليم"، زوج أمي.(1/38)
... وقد عادت أمي وألبستني البدلة الجديدة، ولعل ورقة الخطاب كانت فيها. و أخذت طريقي إلى المحطة لأرى والدي وجمال باشا، وأحسب أن أمي وجاراتها قد زودنني بالنصائح الكثيرة، وأن أقول كذا.. وأن أفعل كذا..
... وكل ما أذكره الآن، أنني دخلت غرفة في الطابق العلوي من المحطة ووجدت بضعة عشر رجلا بملابسهم العسكرية، وأجلت بصري في وجوههم وأنا أبحث عن والدي بينهم، فلم أر رجلا على رأسه عمامة، لأتعرف على والدي الشيخ أسعد الشقيري، ولم أستطع أن أميز جمال باشا، سوى أنني رأيت في وسط الضباط ضابطا مهيبا له لحية سوداء، ويقينا كان هذا هو جمال باشا، على ما عرفت فيما بعد..
... وكانت دقيقة واحدة خرجت بعدها من تلك الغرفة، ووجدت نفسي في غرفة أخرى فيها بعض الموظفين، من رجال الحكومة في طولكرم.
... وفي هذه الغرفة سمعت أن والدي قد خص والدتي بعشر ليرات ذهبية، وخصني ببضعة عشر قرشا، وهذا ما بقي في ذاكرتي، وأرجو أن لا أكون قد ظلمت والدي، رحمه الله رحمة عرضها السموات والأرض.
... ولقد عدت إلى أمي، ألفها بذراعي النحيلتين، وفي نفسي سؤال حزين، أين أبي؟(1/39)
يتيم في بيت الجيران
... كان أسعد ما في طفولتي الهرب من المدرسة، وكان الهرب تقليدا شائعا بين التلاميذ، وكان الذهاب إلى المدرسة ثقيل الوطأة على النفس تحوطه هالة رهيبة من الرهبة، وكانت الكلمة الرائجة على ألسنة الأمهات "هل تقعد عاقلا، أو تذهب إلى المدرسة؟" وطبيعي أن يرضى الطفل أن "يقعد" عاقلا في البيت دون أن يذهب إلى المدرسة!!
... ويوم أهرب من المدرسة كنت أبحث في الحي عن زقاق ظليل أجلس فيه على الأرض مع أطفال آخرين هاربين، لنلعب بالتراب والحجارة، حتى إذا طاردتنا الشمس انتقلنا إلى مكان ظليل آخر، إلى أن يحين موعد الإنصراف من المدرسة فنعود إلى البيت "وكيس" الكتب مشدوداً إلى أعناقنا، كأننا عائدون من المدرسة.
... وكبرت عاما أو بعض عام، وأصبحت أهرب من المدرسة إلى التلال المجاورة للمدينة، وكان يعسكر فيها في ذلك الوقت الجنود الأتراك، وأذكر أننا كنا نحوم حول خيامهم ونتفرس فيهم وفي أسلحتهم، ونراقب تجمعهم في "الطابور"، وضابطهم يصدر إليهم الأوامر باللغة التركية.
... "حاز دور" – استعد.
... "ايلري مارش" – إلى الأمام سر.
... "كريا دون" – إلى الخلف در.(1/40)
... وليس بعيدا أن يكون ذلك الضابط عربيا من دمشق أو القدس أو بغداد أو بيروت، ويقينا أن الجنود كلهم عرب أقحاح. ولكن كان عليهم أن يتكلموا التركية، ضباطهم على الأقل !! وأذكر ذات مساء أنني كنت على مقربة من معسكر الجنود قريبا من سراي الحكومة، وكان الجنود ملتفين حول قِدر كبير يغرفون الطعام، فناولني أحد الجنود، وقد رآني شاخصا في القدر، طبقا مملوءا بالبرغل المطبوخ، فحملته إلى أمي وأكلنا منه، وكان طعمه كريها، وأحسب أننا كنا في فاقة وضائقة فأكلنا وحمدنا الله ... ولعاب الفقراء يجعل كل طعام مريئا وكل شراب هنيئا..
... وكنت أحسّ الفقر في بيتنا، كما كنت أحسه في تصرفات أمي وفي حركاتها وسكناتها.
... فأمي كانت مطلقة ثم أصبحت أرملة، وهذا طفلها معها في هذه الغرفة الفقيرة في الحي الفقير في المدينة، وكنت أرافق أمي في زياراتها لزوجات الموظفين الأتراك، وأستمع إلى حديثها بالتركية، وهي لغتي الأولى التي أخذتها عنها، وكان حديثها شاكيا منكسرا.
... وكنت أنظر في هذه البيوت فأرى آثار النعمة بادية، الفرش والأسرة والوسائد والستائر والكراسي والطاولات والسجاجيد، وبيتنا خال من ذلك، وكل ما عندنا فراشنا الذي نمده على الأرض ليلا وننام، وزير ماء من الفخار، وبعض أطباق الطعام، وليس فيها شيء من نعم الله إلاّ النظافة!
... ولست أعي ماذا كان طعامي وكسائي، ولكني أعي أنني في العيد كنت ألبس بدلة وحذاء، ولعل أمي كانت تقتر من هنا وتدبر من هناك حتى يفرح طفلها يوما واحدا في العام، وهو يوم العيد.(1/41)
... ولم أكن فقيرا في طفولتي فحسب، بل كنت كذلك "شقيا" ولعلهما مترابطان مترادفان، وأذكر أنني هربت مرة إلى "الطابون" المجاور لبيتنا وقضيت الليلة كلها أو معظمها مع الرماد والدخان، وأمي المطلقة الأرملة تكاد أن تصبح ثكلى، فقد كان من اليسير أن أموت مختنقا في الطابون، وتموت أمي من بعدي تخنقها الأحزان والأشجان.
... وأذكر ذات مرة أنني كنت قريبا من جامع المدينة أسير في الشوارع على غير هدى، و إذا بي "أغوص" في "مزبلة" إلى ركبتي، فما خرجت منها إلاّ وقدماي ملتهبتان بالحروق، ويبدو أن المزبلة كانت قد أحرقت منذ أيام، وكان قدري أن أغوص فيها وهي جمر يعلوه الرماد.
... ومرة أخرى قادتني "شقاوتي" إلى الحواكير في ضاحية المدينة، وقضيت يومي في الشمس اللاهبة بحثا عن حبة تين أو صبر، فعدت إلى أمي مريضا لأزيد في متاعبها وآلامها، فناولتني مسحوقا أبيض ملفوفا في ورق السيجارة، وكان طعمه شديد المرارة، لعله مسحوق الكينا.
... وكانت أمي بادية الحزن والانكسار، فلقد كنت أستيقظ في الليل وأراها جالسة في الفراش تدخن، وترسل مع دخانها الزفرات والحسرات.
... وأذكر أنني رافقتها في عصر يوم من الأيام إلى المقبرة، والمقبرة قائمة على رابية تشرف على محطة سكة الحديد، وجلست أمي إلى جوار أحد القبور وأخذت تبكي وتنتحب، و أخذت كذلك ترسل ترتيلا حزينا لا أدري إذا كان غناء أو قرآنا!!(1/42)
... وما عرفت من هذا الراقد في القبر، وأحسب أنه عمي سليم، خرجت إليه أمي تبكيه، وتبكي معه حظها التعيس، وقد حملتها الأقدار من بلاد الترك إلى هذه المدينة النائية.
... وفيما يشبه القبور، أذكر أنني في ذلك الوقت من طفولتي حيث تختلط الذكريات بعضها ببعض، أذكر أنني صحبت والدتي إلى قرية قريبة من طولكرم اسمها "إرتاح" تناقل الناس جيلا بعد جيل أن سيدنا يعقوب قد "ارتاح" فيها ...
... وكل ما أذكره أننا نزلنا مع والدتي وبعض السيدات المحجبات في درج إلى قبو تحت الأرض تخيم عليه الظلمة والسكينة والرهبة والبرودة في آن واحد، وقد أخذت أمي تدعو وتتضرع، وأحسب أن العجائز في طولكرم قد أخبرنها أن زيارة هذا المقام والدعاء فيه، تجلب الفرج وتدفع الكرب، وما أكثر ما كانت تعانيه أمي من الكرب، شأن الملايين من الأمهات في دنيا العرب والإسلام، كنّ يمرغن جباههن على عتبات الأضرحة والمقامات!
... ولا أدري كم مضى بعد ذلك من الزمن، و إذا بأمي طريحة الفراش ينتابها مرض شديد، ينهكها القيء والإعياء، وكان حديث الجيران أنها مصابة "بالكوليرا" وكنت أنام في غرفتها وأنا أرى أنها تزداد ضعفا ورهقا..
... وأذكر أنني ذهبت إلى "الفرن" في وسط المدينة وأنا أحمل على رأسي طبقا من الأرغفة ليخبز، وجلست على رصيف الطريق أنتظر الفران أن ينتهي، وجال في خاطري أن أمي ستموت، وحاولت أن أبكي وأن أعصر الدموع من عيني، ولكني ما بكيت، فعدت إلى البيت وعلى رأسي طبق(1/43)
الخبز، حارا لاهبا، وفي قلبي دموع لم تستطع أن تجد طريقها إلى عيني الجاحظتين ...
... وقضت أمي يومين أو ثلاثة تصارع المرض، وفي عصر يوم لا أنساه، توفيت أمي إلى رحمة الله، طلبت شربة ماء، وما أن جاءت الجارة بقدح الماء، حتى كانت قد فارقت الحياة ...
... ويقينا كانت "السكرة" الكبرى بين سكرات الموت وأمي تحتضر، سؤال تلجلج في صدرها وذهب معها إلى قبرها، ماذا عسى أن يكون مصير "أحمد"، هذا الطفل اليتيم، بعيدا عن أهله وذويه، بل بعيدا عن أبيه.
... وأذكر أن أمي حملت إلى المقبرة ودفنت في طرف من أطرافها، فالفقراء يدفنون في جنبات المقابر وفي ذلك المكان أحرق فراش أمي وغادرنا المقبرة والنار مشتعلة، وفي فؤادي ما هو أشدّ حرقة ولظى، فقد أصبحت وحيدا، طفلا صغيرا في السابعة من العمر، أنتظر مشيئة القدر!!
... وقضيت أياما في بيت الجيران، أنام مع أولادهم، وآكل وألعب، وأذكر أن عيد الأضحى أقبل علينا بعد فترة وجيزة من وفاة أمي.
... وفي ضحى ذلك اليوم رأيت نفسي على سطح بيتنا وأنا بملابس العيد، وكان النهار على غير هيئته، والشمس في غير طلعتها، كل شيء أجمل وأبهى، تغير كل ما في الكون إلى ما هو أكمل وأتم، إنه يوم العيد، ولكن كنت حزينا منقبضا: لقد ماتت أمي..
... وبعد بضعة أيام جاء موظفو الحكومة إلى بيتنا فأخذوني معهم، حملوا من بيتنا صندوقا من الخشب المطعم بالمعدن، وانتهى بنا المشي إلى ساحة صغيرة، إلى جوار الشارع في وسط المدينة، فوقفنا، ووضع الصندوق(1/44)
على الأرض، وفتحه الموظفون وأخذوا يخرجون منه ملابس أمي، ومعها قطع من القماش، وراحوا يبيعونها للمارة، وأحسست أن أمي أصبحت تباع في السوق!!
... وكانت الملابس تلتقط من الصندوق قطعة قطعة، فتعرض وتباع، ولم أكن أعلم ما يجري، ولماذا يجري، ولكني علمت فيما بعد أن مخلفات المتوفى، إذا ترك قاصرين، تباع بالمزاد العلني، ويودع ثمنها في صندوق الأيتام، تنمو وتربو، وتدفع للقاصر حين يبلغ رشده.
... وهكذا بيعت ثياب أمي واشتري بها، على ما قيل لي، سندات في البنك العثماني، وكان أن ذهبت الدولة العثمانية وذهب معها مال اليتيم ...
... وقضيت أياما بعدها وأنا أسمع الجيران، وهم يقولون لي، أن لي أبا عظيما في عكا، وأن أهلي على ثراء كبير، وحياة عظيمة وجاه عظيم، وأن عكا مدينة أكبر من طولكرم، وفيها مدارس كثيرة، وأنني سأسافر قريبا إلى أهلي وأبي، وأنني سأعيش حياة سعيدة، وسأتعلم، وسأخلص من الفقر إلى النعيم.
... كانت صورا جميلة رائعة رسمها الجيران في نفسي. وأنا اتطلع للسفر إلى عكا. حيث أهلي وأبي، والحياة الناعمة ... وقضيت في بيت الجيران أياما تتنازعني مشاعر الحزن والفرح، حزينا لفراق أمي، فرحا للقاء أبي، وأنا اتطلع إلى مستقبل غامض، وكنت مع الحرب العالمية الأولى مثل غيري سواء بسواء، لا ندري ما العاقبة وما المصير.
وبت أستعجل الأيام لأسافر حيث الأماني والآمال ... حيث أبي وأهلي.(1/45)
ليلة في مستعمرة يهودية
... في ضحى يوم من أيام الصيف، لعله صيف سنة 1916، كنت على ظهر حصان، رديفا وراء "محمود" ابن الجيران، يطارد بي في طرقات مدينة طولكرم فنجتازها إلى سهلها الغربي، تاركا المدينة التي نشأت فيها فقيرا محروما، مخلفا فيها أعزّ ما في دنياي، أمي وعمي، ثاويين في المقبرة – قبر في الغرب، وقبر في الشرق ...
... ومضى محمود يطارد بحصانه، ووراءنا سحابة متعرجة من الغبار تحاول اللحاق بنا، وكنت ألف ذراعي حول محمود، وأنا أصعد وأهوي على ظهر الحصان، وفي حضني صرة صغيرة فيها بعض ملابسي، ولو أنها وقعت مني ونحن في هذا الطراد، لما فقدت شيئا، فهي على عكس المثل: ثقيلة الحمل عديمة الثمن!!
... وظل محمود يطارد بحصانه، وكوفيته تتطاير في الهواء وأنا أحسب أن طولكرم لم تخرج مثله فارسا، ولم تخرج مثل حصانه جوادا، ذلك كان شعوري وكفى ...
... ووصلنا إلى قرية قاقون، وأنزلني محمود عن الحصان، ولا أكاد أستطيع الوقوف، فقد تخلخل جسدي، فلم يكن تحتي سرج يقي عظامي الناحلة وهي تتلوى وتتأوه على ظهر الحصان.(1/46)
... وقرية قاقون كانت محطة مواصلات بين يافا وحيفا، تقف فيها العربات الغادية والرائحة لتنقل المسافرين بين البلدين.
... وكانت العربة المسافرة من يافا إلى حيفا تقوم بهذه الرحلة مرة في الأسبوع، وكان في قاقون "خان" تقف فيه العربة، لتأخذ الركاب القادمين من الجهات المجاورة.
... وفوجئنا في قاقون حين قال صاحب الخان أن العربة وصلت في الصباح وسافرت إلى حيفا، ولست أعلم ما دار بين محمود وصاحب الخان من حديث، ويبدو أنه رؤي أن أنتظر في قاقون إلى الأسبوع التالي انتظارا للعربة، وعاد محمود إلى طولكرم، وحملت صرتي على كتفي ودخلت الخان ...
... ولعلي كنت في رعاية صاحب الخان مع أولاده تلك الأيام السبعة التي قضيتها في قاقون، أنام في ساحة الخان مع أولاده ليلا، وألعب معهم نهارا.
... وفي عصر اليوم السابع، وأنا مغمور بلعب الطفولة مع رفاقي، وقد نسيت في غمرته حزني بفراق أمي وفرحتي للقاء أبي، و إذا بالصائح ينادي من الخان بأن أقبلت العربة من يافا وحان وقت السفر.
... وسارعت أعدو إلى الخان أحمل صرتي وأقفز إلى العربة، وبودي لو تأخرت العربة ساعة أخرى حتى أكمل لعبتي مع رفاقي.
وانطلقت العربة من القرية التي لم أرها ثانية في حياتي، وعيناي مشدودتان إلى ساحتها التي كنت ألعب فيها، وإلى رفاق فارقتهم إلى الأبد، لقد تعارفنا وتصادقنا، وأكلنا من طبق واحد، وشربنا من إناء واحد. ثم كانت(1/47)
الأقدار فنشأوا في القرية وأصبحوا فلاحين، ولعلهم، فيما بعد، صاروا نازحين لاجئين، ومضيت أنا في طريقي إلى قدر آخر لأصبح إنسانا آخر!!
وواصلت العربة سيرها على الطريق الترابي شمالا في اتجاه حيفا بين السهول والمروج، وكان سائق العربة رجلا بدينا يلبس الجزمة حتى ركبته، وهو من أهالي حيفا، وفي ذاكرتي حتى الآن أن لقبه "زكو".
وكانت العربة يجرها حصانان، لها سقف من القماش ولها صفان من المقاعد، الأول يجلس عليه السائق والثاني يجلس عليه الركاب، مفروش بالجلد، ولم يكن في العربة إلاّ راكب واحد اسمه الدكتور زعرب من أهالي حيفا، وكان في مقتبل العمر، أزال عني وحشتي ووحدتي بأنسه ولطفه، وكان إلى جانبه علبة مملوءة بالحلوى يتناول منها حينا بعد حين، ولا يأكل حتى آكل معه، وكان ذلك هو أول عهدي بالحلوى، فلا أذكر أني تذوقتها قبل ذلك، وخطر لي أن مثل هذه الحلوى لا يأكلها إلاّ الموسرون من أهل المدينة، وأنىًّ لطفل فقير مثلي يعيش في بلد صغير مثل طولكرم أن يتذوقها، أو أن يراها!!
وفي الطريق عرف الدكتور زعرب شيئا من قصتي، لقد عرف أنني ابن الشيخ أسعد الشقيري من كبار رجال الدولة العثمانية في ذلك العهد، وإنيّ لأذكر أنني أخرجت من جيبي "ورقة نفوس" وهي أشبه ما تكون بشهادة الميلاد أو الهوية، مكتوبة باللغة التركية، وعلى رأسها "الطغراء الهمايونية (1) " الصادرة باسم السلطان محمد رشاد، مكتوبا فيها اسمي واسم والدي، وقد
__________
(1) * الطغراء الهمايونية: خاتم السلطان العثماني أو الترويسة الرسمية .(1/48)
أوصاني الجيران في طولكرم أن أحرص عليها، وكنت في الواقع أقدر قيمتها فهي التي تثبت نسبي وصلتي بوالدي وعائلتي، وزاد من حرصي عليها، أنني أصبحت بعد وفاة والدتي، طفلا وحيدا في هذه الدنيا، وبدت لي "ورقة النفوس" أنها كل رأس مالي في هذه الحياة.
... ولقد أطلعت الدكتور زعرب على "ورقة النفوس" لأثبت له أنني حقا ابن الشيخ أسعد الشقيري، فإن حالي ومظهري لا يدلان على ذلك، أو كما تعلمت في مدرسة الحقوق فيما بعد، أن ظاهر الحال يكذب الادعاء!!
... وكيف يمكن لهذا الطفل الصغير، النحيل الهزيل، بثيابه الرثة ومظهره القروي، وقد تعلق بالعربة من قرية قاقون، كيف يمكن لمثل هذا الولد الحقير أن يكون ابنا لمثل ذلك الوالد العظيم..
... كان ذلك، هو ظاهر الحال الذي يكذبه الادعاء، ولكن ورقة النفوس تؤيد الادعاء.
... وتفرسًّ الدكتور زعرب في وجهي ورأى فيه ملامح والدي وقسماته، وقال: سآخذك حين نصل إلى حيفا إلى ابن عمك الدكتور محمد علي الشقيري، فهو زميلي وصديقي ويعمل طبيبا في دائرة الصحة، فغمرني الفرح وأحسست كما لو أن أبواب السماء قد انفتحت في وجهي وأيقنت أني لاحق قريبا بأهلي، وإني سأودع قريبا حياة اليتم وكل ما جناه علي تعدد الزوجات والطلاق، من أذى وحرمان.
... ومضت العربة في طريقها، وأنا أجيل النظر في السهول الحبيبة من حولي، والحصانان تتعاقب حوافرهما على التراب في جلجلة رتيبة، لا(1/49)
يقطعها إلاّ صهيل الخيل حينا بعد حين، والدكتور زعرب يسليني بالحلوى تارة وبحديثه مرة أخرى.
... وآذنت الشمس بالمغيب و إذ بنا نصل إلى قرية "زمارين" وهي مستعمرة يهودية، فوقفت العربة عند مبنى ذي طابقين، أظن أنه فندق أو خان، وحط السائق "زكو" رحاله، وحل الخيول من عقالها، فأطعمها وسقاها، وذهب الدكتور زعرب إلى حيث لا أدري، وبقيت أنا في العربة لا أدري ماذا أفعل!!
... وحين أقبل الليل ألقيت بجسدي على المقعد الخلفي، ونمت ليلة هادئة لم يكن يقطعها إلاّ شخير الخيل، ونام السائق على المقعد الأمامي، وكان قدري أن أنام في مستعمرة يهودية لأول مرة في حياتي، وجاء الصراع مع الصهيونية عبر جيلنا، ليجعلها آخر مرة أدخل فيها مستعمرة يهودية.
... ونهضت في الصباح المبكر على مشهد أذهلني، كدت أطير له فرحا، ذلك أنني رأيت سيدة تصعد سلم الفندق الذي أنخنا بجواره، ووثب فؤادي وبصري إليها: ما أشبه هذه السيدة بأمي، هذه طلعتها وهذه مشيتها، هذا هو طولها، وهذا هو وجهها، كل شيء فيها هو أمي، لولا أن هذه السيدة تسير من غير حجاب، والعهد بأمي أنها محجبة دائما إلاّ حين تكون في البيت.
... و أخذت السيدة تصعد السلم درجة درجة، وقلبي يتابعها ويتأملها ويتفحصها، و أنا أتمنى أن أقفز إليها وألقي بنفسي بين أقدامها وأضمها وأشمها، كانت تلك مشاعري وخواطري، تجددت معها فجيعتي بوفاة أمي، ودخلت السيدة إلى المنزل، وكان المشهد كله كأنه رؤيا في اليقظة، في(1/50)
النهار، وسرعان ما أفقت على الحقيقة الأبدية، أن الأم في هذه الدنيا واحدة، ولا ثاني لها، مهما تشابه الناس في اليقظة أو في المنام ...
... وعاد الدكتور زعرب إلى العربة، وأعد "زكو" العربة للسفر، وخرجنا من مستعمرة زمارين لأشاهد عربات زراعية طويلة، فيها المعاول والفؤوس والأدوات الزراعية، يسوقها يهود بعضهم طاعن في السن، يلبسون الملابس الأوروبية والقبعات على رؤوسهم، لقد كانوا فلاحين مزارعين بملابس أجنبية، وكان عهدي بالفلاحين أنهم يلبسون "القمباز" (1) والكوفية والعقال ...
... ولكن هذه الفوارق لم تثر انتباهي ولا استغرابي، كما أن وجود هذه المستعمرة اليهودية بين القرى العربية لم تكن له معان خاصة في نفسي، وكل ما في الأمر أن هؤلاء الناس يهود، وأن هذه القرية مستعمرة يهودية، ولست أذكر أن الدكتور زعرب قد تحدث شيئا عن المستعمرة اليهودية ولعل أحدا لم يكن يدري أن القدر يخبئ في ثناياه صراعا رهيبا بين العرب واليهود، وأنه سيكون لي دور في هذا الصراع.
... و أخذت العربة طريقها على الدرب الترابي متعرجا مرة ومستقيما أخرى، والسائق يلتمس المسارب الصلبة مبتعدا عن الجهات المتربة ليخفف عن الخيل وعثاء السفر، حتى إذا كانت الظهيرة وصلنا حيفا، ولشد ما كانت دهشتي.
... لم تكن حيفا كبيرة في ذلك العهد، ولكنني أخذت بشوارعها المبلطة، وأين منها شوارع طولكرم بترابها ووحلها، وراحت العربة تسير بين البيوت
__________
(1) * القمباز:هو اللباس المعتاد للرجال من الفلاحين ويسمى أيضاً : هِدِمْ وقطنية وكبِر.(1/51)
الجميلة، والدكتور زعرب يشير إلى السائق يمينا ويسارا وأماما، بحثا عن بيت ابن عمي إلى أن بلغنا المنزل المنشود.
... وسارعت إلى المنزل، ودخلت على ابن عمي وكانت ساعة عجيبة غريبة. الدكتور محمد علي الشقيري كانت له سلطة كبرى في حيفا يستمدها من نفوذ عمه الشيخ أسعد الذي كان في ذلك العهد مفتي الجيش الرابع ورفيق جمال باشا صاحب الصولة والدولة، ومن أجل هذا كان الناس يهابون الطبيب الشقيري، وكان هو حريصا أن يبدي لهم الهيبة، ومن يكون هذا الطفل المهلهل يدخل على "الدكتور الشقيري" ولم يكن أحد يجرؤ على الوصول إلى عتباته..
... وبادرت فورا إلى جيبي وسللت "ورقة النفوس"، ودفعتها بين يديه، قبل أن يمضي أي وقت للسؤال والجواب.
... وقرأ الدكتور الشقيري "ورقة النفوس" ورأى نفسه أمام ابن عمه، ويقينا لولا ورقة النفوس، لم يكن يتردد الدكتور الشقيري في أن يلقي بهذا الطفل من النافذة، فقد كان الزمن زمن المظالم، رخصت فيه الأرواح، واستبيحت الحرمات، ناهيك عن ظروف الحرب وقسوتها، وهوان الرجال قبل الأطفال.
... وبعد حديث قصير، قال لي ابن عمي إنه سيرتب أمر سفري إلى عكا في صبيحة اليوم التالي، فسّرى عن نفسي، حتى إذا أقبل الليل استغرقت في نوم عميق، فها أنا في غرفة نظيفة وعلى فراش وسرير وغطاء، ولم أكن قد ألفت شيئا من ذلك، لا قليلا ولا كثيرا..(1/52)
... ولم يعكر صفو نومي إلاّ أنني كنت طيلة الليل أستشعر نفسي و أنا في العربة، تميد بي على التراب، صلبا ولينا بين منعرجات ذلك الطريق الوديع..
... وقد استيقظت في الصباح، و أنا اتطلع بلهفة وشوق إلى عكا، كما لو كان الطفل الصغير قد حفظ "الحديث" النبوي "طوبى لمن رأى عكا".
... ويكاد ينعقد الإجماع أن هذا "الحديث" ليس له سند صحيح.. إلاّ عند أهل عكا.. فهو عندهم صحيح أيما صحيح !!(1/53)
المساعي الحميدة مع خالتي
... وفي الصباح غادرت حيفا وقد سبقتني أحلامي وآمالي إلى عكا، ورأيت نفسي أركب حمارا، وأنا أشدّ ذراعي حول وسط رجل من آل الزفري من حيفا، ولا أعرف عنه شيئا غير ذلك.
... ومضينا نحن الثلاثة، أنا والزفري والحمار، على ذلك الخليج الفاتن بين حيفا وعكا، على ميمنتنا كثبان الرمال النقية البيضاء، تنعكس عليها أشعة الشمس، فتغدو كأنها روابٍ من الفضة، انبثق من آكامها نخيل هنا "وطرفة" هناك، وعلى مسيرتنا البحر الرحب الفسيح، بلونه الأزرق، والأمواج الهادئة تتكسر بأناقة ورشاقة على الشاطئ فتؤنس المسافرين في وحشتهم ووحدتهم.
... وكان على الحمار أو سائق الحمار – لا أدري – أن يتخير سيره على الشاطئ، يلامس في حوافره زبد الموج المتكسر على الرمال، ثم ينحرف يمينا دون أن يغوص في الكثبان.
... ولم يكن الزفري مشفقا عليًّ في هذه الرحلة فقد كان مستريحا على السرج، وأخذ يهمز الحمار يحثه على الركض، غير مبال بالرديف الصغير الذي وراءه "ينطنط" على لحمه وعظامه.
... ولكني كنت مأخوذا بروعة البحر وجماله، وأنا أراه لأول مرة في حياتي، فنسيت الساعات الأربع التي انقضت على الطريق ونسيت معها المشقة والعناء..(1/54)
... ووصلنا عكا، فلم تستوقفني أسوارها وقلاعها وحصونها وأبوابها، فقد كنت في شغل شاغل عن ذلك، تواقا إلى لقاء أهلي، وكل همي أن أصل إلى البيت، لآكل أحسن الطعام وألبس أحسن الكساء وأنعم بالحياة الرغيدة التي طالما حدثني عنها الجيران في طولكرم.
... وسار بنا الحمار في الطريق لا يدله أحد، فهو طريق واحد، لا يضل فيه الإنسان ولا الحيوان، حتى إذا وصلنا "حمام الباشا" شد الزفري باللجام فتوقفنا عند منزل يفصله عن الزاوية اليشرطية الطريق العام.
... ودخلت المنزل أحمل معي صرتي الصغيرة، ورحت أركض في المعبر، وأصعد السلم إلى الطابق الأعلى، واقتحمت قاعة الدار لأجد فيها سيدة بدينة، منحنية على ذاتها، وهي تنظف البلاط، ومن غير سلام ولا كلام قبلت يدها ثلاث مرات، فلقد أوصاني الجيران في طولكرم بأن أكون أديبا، وأتجنب الشقاوة، حين أصل إلى أهلي في عكا، وأن أبادر إلى تقبيل أيديهم واجتذاب عطفهم ورضائهم، فأنا ذاهب إلى بيت فيه زوجة أبي، خالتي، ضرة والدتي!!
... وظننت وأنا أقبل يد السيدة البدينة أنها "خالتي" وقد بالغت بالتخضع والمسكنة بين يديها، ولكني سرعان ما اكتشفت أنها الخادمة "ماريانا" وأن البيت الذي أنا فيه هو بيت العائلة القديم يسكن فيه عمي وعائلته، وأن والدي وعائلته يقيمون في بيت خارج السور، أعظم وأفخم، فغمرتني السعادة والبشر، وأصبحت أستبق الساعات لأصل إلى البيت السعيد.
... وقضيت في بيت عمي يومين أو ثلاثة، وأنا أستمتع بطعام شهي لم أكن قد عرفته ولا تذوقته، وصرت أتساءل في نفسي: لم يكن لي عهد بهذا(1/55)
الطعام اللذيذ وهذه الفاكهة الحلوة، أهو الفقر الذي كنت فيه، أو أن المدينة التي نشأت فيها لا تعرف شيئا من ذلك؟
... ورحت أتساءل في نفسي كذلك، ِلمَ لمْ أذهب إلى بيت والدي، وهو بيت أعظم وأفخم، إنه لا يضيق بي، وهو يتسع للخدم والحشم.
... علمت بعد ذلك ما لم أعلم، علمت أن الأهل وأصدقاء العائلة كانوا يحاولون أن يجدوا مدخلا لطيفا ومناسبة حسنة ليكاشفوا خالتي أنني قدمت إلى عكا، وأحسب أنهم أخبروها بوفاة والدتي، وأنه لا يليق بالشيخ أسعد الشقيري أن يكون ولده عالة على الناس ...
... ويبدو أن المساعي الحميدة قد أفلحت، فقد قبلت الخالة أن أذهب إلى بيت والدي. وفي اليوم الرابع تركت بيت عمي إلى دار والدي، فوجدت نفسي في منزل كبير يفصله عن البحر الطريق العام، له حديقة كبيرة محاطة بسور، وفيه قاعة كبيرة وغرف فسيحة ومن حوله غرف الخدم والحشم.
... وجلست في مدخل البيت بعض الوقت، وأصبحت "فرجة" للداخلين والخارجين، وكان الباب يفتح علي من حين إلى حين، لتتفرج علي النساء والبنات والأولاد، وكلهم يريد أن يرى هذا الطفل الوافد عليهم من القرية، ولم أكن أدري، أهؤلاء إخوتي وإخواتي وقريباتي، أم أنهم من الخدم والحشم!!
... وأحسب أن منظري كان مزريا، فقد كنت هزيلا، ووجهي نحيلا ليس فيه إلاّ عينان جاحظتان وجبهة عريضة، وكان يزيد من حالي المهلهل أن لهجتي كانت فلاحية قروية، ليست كلهجة أهل المدينة رقة وعذوبة!!
... وما أن انتهت فترة "الفرجة"، حتى أدخلت إلى إحدى الغرف ومعي صرتي، وأحسست أن الجميع من حولي يسخرون مني، ويتغامزون علي،(1/56)
ولعل الخدم قد شاركوا في هذه السخرية، ليزدادوا زلفى إلى "خالتي"، وهي سيدة البيت، الآمرة الناهية.
... وما هي إلاّ هنيهة حتى أدخلت الحمام، وتولت أمري إحدى الخادمات فغسلتني ونظفتني، وعدت إلى غرفتي، وأنا أحسّ أنني قد خلعت عن جسدي أوساخا عمرها ثماني سنوات.. أو هكذا خُيِّل إلي.
... وكان ذلك الوقت آخر عهدي بالصرة التي رافقتني في سفري من طولكرم إلى زمارين إلى حيفا وإلى عكا، فلعلها رميت مع النفايات والقمامات، وألبست ملابس لم تكن جديدة، ولكنها كانت نظيفة وجميلة، وأحسب أنها من ملابس أخَوَيّ لأبي، "عفو" و "أنور"، وأولهما يكبرني بخمسة أعوام وثانيهما يصغرني بعام واحد. وما أكثر الملابس عندهما، يوزعون منها على أولاد الفقراء. فلم لا يكون لهذا الطفل الوافد نصيب منها؟!
... وقد اضطجعت على الوسادة، نظيفا مستريحا، سعيدا بالملابس النظيفة، وبصري مشدود إلى سقف الغرفة، أنظر في اللوحة الخشبية بألوانها الجميلة، فانقطعت صلتي بالماضي، وأصبحت أعيش من جديد أنتظر ما يأتي به القدر من شؤون وشجون ... والعمر كله.. شؤون وشجون.
...(1/57)
دقيقة واحدة مع أبي!
... في بيت والدي في عكا، على ذلك الشاطئ الساحر، وعلى مقربة من القلعة التاريخية، بدأت لي حياة جديدة، في بيئة جديدة، وأمام ظروف جديدة، كأنني انتقلت عبر عشرة قرون أو يزيد، وفي لحظة من الزمان.
... لم أر والدي في تلك الفترة فقد كان مسافرا إلى تركيا، وكان لا يكاد يصل إلى عكا حتى تصل إليه برقية من جمال باشا يستدعيه فيسافر لتوه.
... وكان في البيت خالتي وإخواني "عفو وأنور"، وشقيقات ثلاث. وكانت في البيت سيدة أخرى طاعنة في السن، تقية صالحة، هي خالة خالتي، كانوا يطلقون عليها لقب "نانا" على عادة الأتراك.
... وكان البيت مملوءا بالخدم والحشم رجالا ونساء، بالإضافة إلى العجائز من فقيرات المدينة، اللائي كن يقصدن بيتنا طلبا للصدقة أو لتناول الطعام. فقد كانت الحرب العالمية الأولى في أواخر عهدها، وعم الفقر وانتشرت المجاعة، حتى غدا الناس يأكلون ما يجدون في الشوارع، من قشور البطيخ وما شابهها، هذا إذا وجدوه.
... وكانت حياتي الأولى في بيت والدي حياة مواطن من الدرجة الثانية أو الثالثة، أقضي معظم الوقت مع الخدم، فآكل في المطبخ وأنام في غرفة مجاورة، معزولا محروما، فلا أختلط بإخوتي ولا يختلطون بي، وكان(1/58)
وجودي في البيت وجود يتيم، بل لعل اليتيم أسعد حالا، ذلك أنه يلقى الحب والعطف.
... وكيف ألاقي الحب والعطف، وخالتي صاحبة الأمر والنهي، لا تطيق رؤيتي وأنا ابن ضرتها. وكانت خالتي من "أضنة" من بلاد الأناضول، صارمة قاسية، لا تقبل التعايش السلمي ولا الحلول الوسط، والمرأة يهون عندها كل شيء إلاّ الضرة وأبناء الضرة، تلك طبيعتها الإنسانية التي فطرت عليها فلا لوم ولا تثريب.
... ولم يكن أحد في البيت يجرؤ على مخالفتها، فلا يستطيع أحد أن يتودد إليّ بحضورها، أو يذكرني بخير في مجلسها، والطامة الكبرى حين يمتدحني أحد في مجلسها، أو يطري تصرفي وسلوكي، والويل لمن يذكر لها تفوقي في المدرسة.
... وقد انتقلت مشاعرها هذه إلى الأسرة جمعاء، مع درجات في التفاوت. فقد كانت عائلة عمي تتودد إليّ ولكن في غيبتها، وكان إخوتي يعاملونني بالإهمال والإنكار، ما خلا أخي الكبير فقد كان بارا بي وعطوفا عليّ.
... وكان الخدم والحشم يبالغون في رعايتي، فالطبقات المُعذَّبة يواسي بعضها بعضا، وكانت العجائز حين أجلس معهن في المطبخ، يحاولن تسليتي وتعزيتي بكلمات حلوة وعبارات مؤنسة لا تزال ترن في أذني، وهن يهمسن إليّ:
"الله كريم"
"والله ستكون أحسن منهم كلهم"(1/59)
"الله سينصرك عليهم"
"إصبر أن الله مع الصابرين"
... وكانت العجائز يلذن بالصمت حين يسمعن وقع أقدام "الخالة"، وهي تسير إلى المطبخ في بعض شؤونها، عابسة مقطبة.
... غير أن الخادمة "أم درويش" كانت على خلاف ذلك، فهذه كانت أمور البيت بين يديها، وقضت مدة طويلة في المنزل وشاركت في تربية إخوتي.
... وكانت أم درويش أقسى علي من خالتي، في غلظتها وقسوتها، ولعلها كانت تفعل ذلك مرضاة لخالتي، أو تضامنا صادقا معها في مشاعرها وعواطفها، وأحسب أن هذه المشاعر طبيعية جدا، بالنسبة لخالتي أو حتى للخادمة أم درويش، تغمدهما الله بالمغفرة، وقد أصبحتا في ذمة الله، فالزوجة لا تطيق أن ترى بعلها يتزوج عليها وقد وهبته نفسها وجوارحها وحياتها، ولا تطيق بالتالي أن ترى أبناء ضرتها ينافسون أبناءها ويقاسمونهم الحياة.
... هذه مشاعر طبيعية حقا، من النساء من تتغلب عليها، ومنهن من لا تستطيع، ولله في خلقه شؤون، رحم الله خالتي وأم درويش وأفسح لهما في جنته ورضوانه.
... وكبرت عبر السنين، وكبر معي عقلي وقلبي، وازددت معذرة ومغفرة لخالتي، وازددت ترحما عليها وتساءلت: إذا كان الرجل يريد امرأته لنفسه ولا يريدها لرجل غيره، فلمَ إذاً ترضى المرأة أن يكون زوجها لامرأة أخرى ... لامرأة غيرها؟(1/60)
... ولكن "النانا" السيدة الصالحة التقية، كانت مثواي ومأواي، وإليها يعود الفضل في تنشئتي وتربيتي.. فقد كنت أنام معها في سريرها، وكانت تعنى بي عناية بالغة، كما لو كنت ابنها وأعز.
... حقا أن "النانا" لم تستطع أن تجعلني في مستوى إخوتي من حيث المعاملة والمكانة في المنزل، فقد كانت خالتي مصرّة على أن يكون لأولادها المقام الأول والحظ الأوفر، ولا أحسبها على باطل فذلك هو ابن آدم وآدم من تراب ... وهذه أخلاق التراب!!
... وكنت أقضي كثيرا من الوقت إلى جوار "النانا"، فقد كانت طاعنة في السن، تجلس القرفصاء إلى جانب "كانون النار" وهي تأخذ "بالملقط" جمرات النار لتضعها على "أركيلتها" التي لم تكن تفارقها ليلا ولا نهارا، حتى لتكاد أن تكون الأركيلة طعامها وشرابها.
... ومضت شهور وشهور وأبي غائب عن البيت، إلى أن سمعت ذات يوم أنه عاد من سفره، يحمل معه الهدايا الفاخرة من تركيا.
... وعجّ البيت بالزائرين من الأهل والأصدقاء وكبار رجال الحكومة في عكا، ليسلموا على والدي، فقد كان صاحب جاه عظيم في الدولة يقصده القاصي والداني للشفاعة أو الوساطة. وكان والدي لا يرد رجاء أحد، حتى أن جمال باشا قال مرة، كما علمت فيما بعد: عجبت لأمر الشيخ أسعد، ما أكثر كتب الشفاعة التي يرسلها إلي، وكثير منها يناقض بعضها بعضا، فهو يتوسط لأهل القاتل ولأهل المقتول، وفي وقت واحد.(1/61)
... ومضت أيام وأنا أنتظر أن أرى والدي ويراني، فقد كنت أتطلع إلى لقياه، وإلى نصيبي من الهدايا الفاخرة التي تسامع أهل البلد بأنبائها، وأخذوا يقصون حديثها، فلم يكن لي حظ في اللقاء، ولا نصيب في الهدايا!!
... وأذكر أنني ذات يوم. أُدخلت على والدي في غرفته، وأحسب أن خالتي كانت غادرت المنزل في ذلك اليوم لزيارة أو نزهة، فكانت فرصة للتعارف بين الولد وأبيه!!
... ولست أذكر الآن ما كان بيني وبين أبي. ولعل الجلسة لم تتجاوز دقيقة واحدة فقد كانت مختلسة وقصيرة، فلم تترك ذكريات محددة في نفسي، وقد بدا لي فيما بعد أن والدي، وهو ما هو عليه من شخصية كبيرة وألمعية نادرة، كان يخشى خالتي، أو على الأقل يريد أن يتجنب أن يقع معها في أي إشكال، أو قيل وقال.
... وكل ما أذكره، أن والدي قد دسّ في يدي بضعة قروش وهرولت من الغرفة، وكانت فرحتي عظيمة فهي أول "قروش" تصل إلى يدي.
... ولعل فرحتي بالقروش كانت أروع من فرحتي باللقاء، وماذا عساها أن تخلف في نفسي نظرات مختلسة في لقاء وجيز مع أبي.. بعد ثمانية أعوام بأيامها ولياليها، لم أنعم خلالها أن أكون في حجره أو حضنه!!
... غير أن هذه الفرحة لم تدم طويلا، فما أن انقضت ساعة أو بعض ساعة، وأنا أتفرسّ القروش بيدي، وأعدها واحدا واحدا، ثم أكرر عدها حينا بعد حين، حتى رأيتني "مطوقا" بأخي أنور ومعه فتيان العائلة وعدد من الخدم...(1/62)
... وكان أخي أنور يحمل مشاعر أمه، "الخالة"، ولا يفتر عن الحاق الأذى بي والتعرض لي بمناسبة وبغير مناسبة، ويظهر أن بعض الخدم قد نقلوا إليه النبأ الخطير، لقد دخل أحمد على والده ونفحه ببعض القروش!!
... فأخذني أخي أنور "وعصابته" إلى خارج المنزل، وبعد "معركة" قصيرة لم يكن فيها تكافؤ بيننا، انتزع القروش من يدي وعدت إلى البيت "معدما"، كما كنت طيلة عمري إلى ذلك الوقت ...
... ثم مضت أيام، وسرى الخبر في البيت، بأن والدي على أهبة السفر، فقد تلقى برقية من جمال باشا يستدعيه للسفر ...
... وصباح ذات يوم، خرج والدي من غرفته وهو في ملابسه، في جبته وعمامته، ووسام عثماني صغير على صدره، وهو يتمتم آيات قرآنية بهيبة ووقار.. يحيط به الأهل والأقرباء في سكون ورهبة..
... وحين همّ والدي بالانصراف، تقدم إخوتي فقبلوا يده وقبلهم، وأودع في يد كل واحد ورقة مكتوبة فيها آية قرآنية، وكانت هذه عادته حين السفر، وركب العربة ومضى إلى سفره.
... أما أنا فكنت واقفا بعيدا عن الجمع، فلم أجرؤ على الاقتراب من والدي لأقبل يده ويقبلني، وأحسب كذلك أن والدي لم يجرؤ على الاقتراب مني، فقد كانت الخالة موجودة، واقفة له بالمرصاد!!
... وعدت إلى غرفتي مغموما مهموما، لا يسليني ويعزيني إلاّ صوت عجوز، يهمس في أذني برفق وأناة، وفي سكينة مليئة بالإيمان: إصبر إن الله مع الصابرين..(1/63)
ليعش سلطاننا طويلا
... تلك كانت حياتي في البيت، أمّا خارج البيت فقد غمرتني حياة المدرسة، ولا شيء غيرها، وماذا عسى أن يكون في عكا لمن هو في مثل عمري، والحرب العالمية الأولى باسطة ظلها الثقيل على حياة الناس جميعا لا فرق بين فقيرهم وغنيهم.
... وكنت في طريقي إلى المدرسة، من خارج السور إلى داخل المدينة،
أحس أن البلدة خالية من أهلها، بعض الباعة المتجولين ينادون على الكعك، ونفر من الناس في طريقهم إلى السوق، وعدد من الموظفين في طريقهم إلى السراي، وقليل من الفقراء يتسولون في الشوارع، وطائفة من الضباط يسيرون بسيوفهم المزركشة، وجمع من الشرطة والأولاد يحيطون بأحد المنازل بحثا عن جندي هارب، أو شاب مختبئ من الجندية، والناس يصيحون "فرار"، "فرار"، وكان الترك يستعملون هذه اللفظة العربية للهاربين من التجنيد !!
... وأذكر أنه كان في بيتنا في الطابق الأسفل، شاب من سراة المدينة من آل ميري قضى شهورا طويلة وهو معتصم في منزلنا، فرارا من الجندية، وكان الخدم يدخلون عليه بالطعام في الوجبات الثلاث، وهو آمن مطمئن، فمن ذا الذي يجرؤ أن يقبض عليه، ومنزل الشيخ أسعد الشقيري، صاحب الدولة والجولة، أمنع من عقاب الجو!!(1/64)
... وكانت هذه المشاهد تتكرر أمامي في غدوي ورواحي، في الطريق إلى المدرسة، وكانت المدرسة في داخل المدينة بين أزقتها وشوارعها الضيقة، ولكن الطرق كانت مبلطة ومعظمها مسقوف لا يجعل للمطر والشمس سبيلا.
... وكان في المدينة مدرسة إعدادية، وعدة مدارس ابتدائية موزعة في أحيائها، وقد بنيت المدرسة الإعدادية خارج السور قريبا من بيتنا على أكتاف الطلاب الشبان، وكنت أراهم يحملون الحجارة والطين، ويناولون "معلم البناء" فيبني، ويبدو أن المدينة لم يكن فيها عمال أو أن الأموال لم تكن متوفرة، وبهذا استراح الطلاب من الدروس، وحملوا المعاول والفؤوس!!
... أما مدرستي الإبتدائية فقد كانت في مبنى قديم محكم الأبواب وله سور عال، ولعل الاختيار قد وقع على مثل هذا البناء حتى "يضبط" التلاميذ ولا يهربون، وقد كان بعض الآباء يأتون بأبنائهم إلى المدرسة ويدخلونهم الباب، ويسلمونهم إلى "بواب" المدرسة، وكان بعضهم يأتي في المساء "ليتسلم" ابنه ويعود به إلى البيت "ليذاكر" ويدرس، ولا يفلت إلى الشارع.
... وكنت مواظبا على المدرسة، مجتهدا في دروسي، وكثيرا ما كنت أبكر في الذهاب إلى المدرسة حتى قبل أن تفتح أبوابها، ومرات ومرات كان "البواب" يحضر إلى المدرسة ليجدني جالسا على العتبة، فيفتح الأبواب وأدخل معه.
... ولعل هذا الجد من جانبي، طبيعة في نفسي منذ صغري، ولعله قد تضاعف بقدر ما كنت أسمع من العجائز في بيتنا من النصح الملح، بالانكباب على الدرس، وأن الدرس وحده هو الذي سيأتيني بالفرج.(1/65)
... بل لعل ما كنت ألاقيه من الحرمان في البيت وما يلاقيه إخوتي من الدلال والعناية، كان حافزي على العلم، فلطالما همس الخدم والعجائز في أذني: "بالعلم ستصير أحسن من الجميع".
... وكانت دروسنا في هذه المدرسة الإبتدائية، باللغة التركية، وكان المعلمون عربا ومعظمهم من سكان المدينة، وكان القرآن أحد مواد الدراسة، و "التجويد" مادة مستقلة، وهو علم له قواعد صارمة في ترتيل القرآن.
... ولكن الغريب العجيب أن "الصرف والنحو" كانا يدرسان باللغة التركية، فقد كان المعلم ولقبه بالتركية "خواجه أفندي" يجلس على كرسيه وعمامته "جالسة" على رأسه، يميل إلى الأمام والوراء وهو يقرأ بأعلى صوته ونحن نكرر من ورائه:
... زرب، يزرب، إزرب، لا تزرب، إلى آخر أفعال الصرف.
... يقابل ذلك باللفظ الصحيح: ضرب، يضرب، إضرب، لا تضرب ... وشتان بين اللفظين، في النطق والمعنى، ولكن هذه هي اللهجة التركية، وكان على "خواجه أفندي" العربي العكاوي أن يعلمها للتلاميذ العرب في هذه المدينة العربية ... !!
... وكانت الكتب بين أيدينا باللغة التركية كالحساب والقراءة العامة، ولم أكن أجد مشقة في ذلك فقد كانت اللغة التركية هي لغتنا في البيت، وأذكر أن التلاميذ كثيرا ما كانوا يسألونني عن بعض الألفاظ التركية، ويستعينون بي في فهم دروسهم.
... ومع ذلك فقد كنت مولعا باللغة العربية والقرآن منذ نشأتي، وظل ولعي باللغة يرافقني في جميع مراحل التعليم حتى تمكنت من قواعدها(1/66)
وشواردها وأصبح الإعراب سليقتي، فما فسدت موسيقى الإعراب في أذني إلاّ بعد أن عملت في الجامعة العربية بعد ثلاثين عاما!! ويومها أصبح اللحن يملأ أذني بما أسمعه من أحاديث الرؤساء والوزراء والسفراء ... ونسيت اللغة التركية إلاّ قليلا، ولكني بقيت متمكنا من اللغة العربية أزداد مع العمر شغفا بها، وأنا أبتسم كلما ذكرت العربي (الفارسي) سيبويه وهو يدفع بكتابه "الكتاب في علم النحو" إلى جمع من علماء النحو والصرف حين قال: خذوا لغتكم من رجل أعجمي..
... حقا إنني عربي من أسرة عربية من الشرقية من مصر، جاء جد والدي "الشيخ محمد شقير" مع حملة إبراهيم باشا إلى عكا، وقبل ذلك نزحنا من الحجاز، واحد أجدادي أبو بكر بن شقير من الشعراء المجيدين، ولكن...
... ولكن هذا الطفل العربي، لو ظلت حملة التتريك تسير في مجراها كما أرادها غلاة الترك لأصبح "تركيا" ومعه ملايين الأطفال من الأمة العربية، ولفقدنا جميعاً خصائص العربية.
... ولم تكن مهمة التتريك عسيرة، ولا تحقيقها مستحيلا، فقد كانت الروح الدينية عميقة متأصلة وكانت الدولة العثمانية دولة الخلافة الإسلامية، وكان أكثر رجالات العرب يحسون بشعور صادق أنهم يعيشون في دولتهم ويقومون على خدمتها، وكان والدي واحدا بارزا من هؤلاء ...
... وكان أول ما نفعله في الصباح في المدرسة، أن نقرأ دعاء دينيا باللغة العربية، ثم نقف أمام العلم التركي الأحمر يتصدره الهلال والنجمة، ثم نصيح بأعلى صوتنا بالتركية:
... بادشاهم جوق باشا.. ومعناها "ليعش سلطاننا طويلا"..(1/67)
... ويذكر الراسخون في العلم أن الله سبحانه وتعالى يستجيب لدعاء الأطفال. فإن أبواب السماء مفتوحة لأصواتهم الناعمة، ولكن يبدو أن دعاءنا لم يجد قبولا عند الله جل جلاله، فما هو إلاّ عام أو بعض عام حتى هزمت الدولة العثمانية، وخلع سلطاننا، محمد رشاد عن العرش، وانتهت دولة الخلافة الإسلامية وقامت الجمهورية التركية لتعلن زوال الإمبراطورية العثمانية كواحدة من أعظم إمبراطوريات التاريخ، إن لم تكن أعظمها اتساعاً وشمولا.
... وبدأ الفلك دورة من دوراته، ودخل التاريخ في عطفة جديدة من منعطفاته، لتجد الأمة العربية نفسها أمام قدر جديد، يسير جيلنا كله في ركابه ... ولا نزال.(1/68)
الشباب
والوطن القومي اليهودي(1/69)
على عتبات التاريخ
... ومع الأيام بدأت أقتحم طريقي في حياة الأسرة، وبدأت أصعد من مستوى المواطن من الدرجة الثانية شيئا فشيئا، فقد تواتر الحديث في المدينة بين الأسر الوجيهة عن أحمد ... الفتى المظلوم المحروم!!
... وكانت هذه الأسر تتنافس الزعامة المحلية فيما بينها، وإن كان من المسلم به أن مقام والدي يتجاوز حدود المدينة، فالمناصب الرفيعة التي بلغها، عضوا في البرلمان "المبعوثان" العثماني، وتوليه أكبر منصب ديني في دولة الخلافة يلي "شيخ الإسلام"، وأخيراً "مفتي الجيش الرابع" مقربا من قائده المهاب جمال باشا، كل ذلك جعل من والدي شخصية خارجة عن ميدان المنازعات المحلية.
... ولكن الأسر الوجيهة، في عكا، مع ذلك ورغما عن ذلك، وجدت في سيرة أحمد ... الفتى المظلوم المحروم، قصة يتندرون بها في المجالس، ومطعنا يوجهونه إلى آل الشقيري، هؤلاء الذين لا يخافون الله في هذا اليتيم المسكين!!
... وكانت الزائرات من صديقات العائلة، ينقلن هذه الأحاديث إلى بيتنا وتأخذ النساء حريتهن الكاملة في التزيد في هذه الأحاديث أضعافا مضاعفة حتى تكوَّن "رأي عام" في المدينة بسبب هذا الموضوع.(1/71)
... وأحسب أن ذلك قد شق طريقي إلى حياة افضل في الأسرة، زد على ذلك أنه أصبحت لي "شهرة" في المدرسة عن جدي واجتهادي وتفوقي على أقراني، فلم لا أكون في مستوى اخوتي وإخواني ...
... وهكذا أصبحت أتناول طعامي على مائدة الأسرة، وإن يكن في طرفها الأخير، وأصبحت أجلس في "الديوان" حين يتجمع الزوار في بيتنا، وإن يكن على مقربة من الباب، وعلى الجملة فقد غدوت مع الزمن "أمرا واقعا" في المنزل وعضوا عاديا في الأسرة.
... وبهذا لم أعد معزولا، وأصبحت أكثر اتصالا بالمدينة التي نعيش بها، وأكثر معرفة بشؤونها وناسها، وأخبارها القريبة والبعيدة.
... وكانت كل أخبارها تدور حول شؤون الحرب وما جرّته من ضائقة وفاقة، وكان الناس يتحدثون أن البحر (مقطوع) فلا صادر ولا وارد. لقد انقطع الأرز فأصبح الناس يأكلون البرغل، وندر القمح فأكلوا الذرة، وانعدم السكر فشربوا الشاي وفيه حبة تمر أو تين مجفف، أمّا الكاز فقد استعاضوا عنه بخيوط مبلولة بالشمع.
... وباستثناء "شحنات" من المواد الغذائية كان يرسلها والدي من بيروت أو دمشق والآستانة، فقد عانينا هذه الأزمة في بيتنا. فما بالك بالأسر الفقيرة، لقد كانت أياما رهيبة وحالكة.
... وكانت عكا مركزا عسكريا. "ومتصرفية" تابعة لولاية بيروت، وكانت حيفا "قائممقامية" تابعة بدورها لعكا، وكانت التجارة والخطوط الملاحية مع بيروت مباشرة. وإني ّلأذكر أن رفيقا لي، وهو ابن أحد كبار التجار في عكا، دعاني إلى متجر والده في وسط السوق، فرأيت على طاولته(1/72)
مظاريفه التجارية مطبوعا عليها "عكا - بيروت" وكان طبيعيا لذلك أن ينشأ جيلنا كارها للتجزئة متعلقا بالوحدة.
... ولم يكن الجنود والضباط في عكا بأسعد حالا من المدنيين، وقد شحت الأقوات عليهم وعلى سكان المدينة، وأصبحت حالهم تدعو إلى الإشفاق والعطف.
... وإنه لمشهد لا أنساه، مضى عليه خمسون عاما من عمري، يوم كنت أسير بجانب القلعة المجاورة لبيتنا، وشاهدت "العسكري" يحملق بي وأنا أمد يدي إلى جيبي وأتناول الزبيب وآكله حبة حبة.
... لست أدري لم حدث وكيف حدث، أنني ملأت راحتي بالزبيب، وناولته إلى العسكري، فأخذ يلتهمه بنهم مفترس، وتكرر الأمر على هذا الحال مع "العسكري" غير مرة، وأصبح يؤدي لي التحية في غدوي ورواحي وتكاد أن تكون التحية العسكرية.
... ولقد زاد من إشفاقي عليه في ذلك الوقت، أنني لم أكن قد عرفت الشبع إلاّ منذ عهد قريب، وأن عهدي بالجوع قريب أيما قرب، والجياع يتعاطفون، وليس لهم ما يتنافسون عليه إلاّ الفقر!!
... وكانت أخبار الحرب تملأ المدينة كلها، فلم يكن للناس حديث إلاّ عنها، وكان المصدر الوحيد عن الأخبار رجال الحكومة، فلا صحف ولا راديو، ولا شيء من وسائل النشر التي تغمر حياتنا هذه الأيام.
... وحتى مجالس السيدات كانت مملوءة بأخبار الحرب، وقد كان في عكا عدد من الموظفين الأتراك مدنيين وعسكريين، وكانت نساؤهم يخرجن من بيوتهن محجبات حتى القدمين، تفوح منهن العطور الزكية، ويزرن(1/73)
صديقاتهن، فما يلبثن أن يجلسن في مقاعدهن، حتى يأخذن يتحدثن عن وقائع الحرب "بتركيةٍ" ذات رنين وتغريد، ولن تستطيع أن تتصور جمال اللغة التركية حتى تنصت إلى السيدات التركيات وهن يتحدثن بالتركية، إنها لغة فقيرة حقا في مفرداتها ولكنها غنية بموسيقى حروفها وألفاظها ...
... وكانت الأخبار تتوارد عن القتال في "جناق قلعه" في الجبهة التركية، وفي قناة السويس في جبهة سيناء، والتعليقات تتوالى عن انتصارات الأتراك وحلفائهم الألمان، وأنّ الإنجليز لا محالة منهزمون ومعهم حليفهم [الخائن] (الشريف حسين).
... وذات يوم سمعنا دويا هائلا يتجاوب في المدينة، وعلمنا بعد ذلك أن غواصة بريطانية اقتربت من شاطئ عكا وضربت جسر النعامين في ضاحية المدينة، ولقد أصابته إصابة مباشرة فانحنت قضبانه الحديدية، ولكنه لم يعطب وبقي على هذا الحال سنين طويلة.
... ومع ذلك فلم يخطر في بال الناس أن الترك سينهزمون، فقد كانوا يؤمنون بأن "المسلمين" لا يمكن أن ينتصر عليهم "الكفار" الإنجليز، خاصة أن الأخبار تواترت بأن الخليفة سيعلن "الجهاد". وكان لهذا الكلام رهبة في نفوسنا، وكنا على يقين أنه يوم يعلن الجهاد سيكون لنا النصر كل النصر.
... وفي غمرة هذه التعليقات كانت المدينة تشهد حركة عسكرية غير عادية، كان الضباط الأتراك والألمان والنمساويون يكثرون من زيارة المدينة، وأذكر أنه ذات أسبوع انقلب بيتنا رأسا على عقب، فقد قامت حملة تنظيف عامة في جميع الغرف والمعابر والساحات، وأخرج كل قديم من الأثاث والفرش والأدوات المنزلية ليحل محلها جديد، ثم خرجت العائلة بكاملها إلى(1/74)
منازل الجيران وأُخلي بيتنا انتظارا لمقدم "ضيوف كبار" ومن عسى أن يكون هؤلاء.
... وما هي إلاّ أيام حتى امتلأ بيتنا بالضباط الألمان والنمساويين وزوجاتهم وبناتهم وكان هؤلاء "ليمان فون سندرس باشا" وعائلته وحاشيته، فقد أصبح "سندرس" قائدا للجبهة وسيتخذ مركز قيادته في الناصرة.
... وكان قدوم هذا القائد وعائلته حدثا مثيرا في المدينة، فارتفعت الروح المعنوية وأيقن الناس أن النصر قد أصبح قريبا، وراحت عائلة القائد تتجول في أحياء المدينة فدهش الناس وهم يرون هؤلاء النساء الجميلات والفتيات الفاتنات غير محجبات وبالملابس الأوروبية، يسرن ووراءهن رتل طويل من العطور الفاخرة، وكانت نساء المدينة، بطبيعة الحال، أكثر اهتماما بعائلة الجنرال يراقبن خطواتهن ويتفرسن في ملامحهن، ويتشخصن في ملابسهن من النوافذ والشرفات.
... وقد بالغ أهلي في الحفاوة بالقائد الضيف وعائلته، وتولى عدد من السيدات المسيحيات من الأسر الوجيهة في عكا ترتيب شئون الضيافة في بيتنا، وبعضهن يتكلمن الإفرنسية والإنجليزية، وأذكر في جملة ما أذكر أن السيدات المسيحيات قد صنعن أنواعا من الحلوى والكعك مما لا تحسن صنعه المسلمات، ونعمنا نحن أطفال العائلة بهذه الحلوى الشهية ولم نكن قد أكلنا مثلها إلى ذلك العهد.
... وغادر الضيوف منزلنا وعدنا إليه، وروائح الألمان والنمساويين تملأ غرفه، وروائح الكعك تملأ قاعاته، وعشنا زمنا في "خضم" هذه الروائح الزكية.(1/75)
... ومضت أيام وبدأ القلق يساور النفوس، فقد أخذت تتسرب الأنباء عن هزيمة الأتراك وانتصار الإنجليز، وبدأت طوابير الجنود الأتراك تتراجع، وكنا نرى الجنود يعسكرون مساء في الساحة الكبيرة المجاورة لبيتنا ثم ما نلبث في الصباح حتى نراهم قد حملوا خيامهم وأسلحتهم وولوا منسحبين.
... ثم تدفقت بعد ذلك موجة من التفاؤل في المدينة فقد وصلت الأنباء أن ضابطا شجاعا اسمه "سانكو" قد بدأ يقصف قوات الإنكليز من جبل الكرمل، وراح الناس يتحدثون عن مناعة جبل الكرمل وشجاعة الضابط واحكام رمايته، وأن الأتراك سينتصرون والإنجليز سيهزمون.
... ومضت بضعة أيام على هذا الحوار فإذا بالنبأ يملأ البيوت: لقد سقطت المدينة بايدي الإنجليز وقد دخلتها فرقة استرالية بخيولها الضخمة، وفرقة هندية بقاماتهم الطويلة وذقونهم المصففة وعماماتهم المكورة.
... وكنت يومذاك طريح الفراش مريضا بالملاريا، وكان مرضا مستوطنا، لا يغادرنا حتى يعاودنا، وكنت في حالة تشبه الهذيان من شدة الحمى.
... وحين صحوت من مرضي، صحا الناس جميعا على الحقيقة، لقد انتصر الإنجليز وهزم الترك وتراجعت فلولهم شمالا في اتجاه بيروت. وكان من الطرائف التي بلغت أسماعنا في ذلك الوقت، أن القوات البريطانية التي احتلت الناصرة اقتحمت مركز قيادة "ليمان فون سندرس باشا" ودخلت مكتبه وسيجاره لا يزال مشتعلا.(1/76)
... وهكذا، وفي أيام معدودات أحسسنا أننا في عهد جديد وأمام تاريخ جديد، لا بالنسبة إلى مدينتنا الصغيرة الجميلة، ولا بالنسبة إلى فلسطين الحبيبة ولكن بالنسبة إلى الأمة العربية بأسرها.
... وقضى القدر أن يكون جيلنا العربي كله، وأنا واحد منه، صاحب هذا التاريخ الجديد، وسنرى كيف كان وكيف صار.
... كان ذلك في العام 1918 وما بعده، ووقفنا على عتبات التاريخ.(1/77)
نطالب بانتداب أمريكا
... لقد جاء الاحتلال البريطاني وجاءت معه حياة جديدة في كل شيء، لقد "انفتح" البحر بعد أن كان مغلقا على عكا طيلة زمن الحرب، وعكا ثغر تجاري قديم وله صلات تجارية مع الموانئ الأوروبية على سواحل البحر الأبيض المتوسط.
... وكان من مهماتي التي أسندت إليّ أو أسندتها إلى نفسي شراء الحاجيات المنزلية من السوق. فكنت أحمل السلة وأذهب إلى السوق في داخل المدينة وأعود بها مملوءة بالخضر والفاكهة واللحم.
... ولقد أصبح السوق "معرضا" زاهيا جميلا، فسرعان ما أصبحت الدكاكين مملوءة بالبضائع، والناس يقبلون على الشراء بشوق ونهم.
... ولقد غابت عن المدينة بضائع كثيرة أربع سنوات كاملة، فلما تهيأت وسائل الاستيراد أصبح الناس وكأنهم في عيد. فهذا الكاز أصبح متوفرا، وأشتعلت القناديل في البيوت والشوارع، والسكر والأرز وردت منه كميات كافية، ولا ترى الناس إلاّ ويحملون الأكياس إلى منازلهم، ثم جاءت بعد ذلك "الكماليات" من الفستق والجوز والصنوبر، وكان منظر ذلك كله بهيجا يتجمع الناس له فيشتري الموسرون ويتفرج المعسرون!!
... ولم تكن حاجة إلى زيت الزيتون، فإن قرى عكا مشهورة بزيتها الممتاز، وحدث في الأيام التي أعقبت الاحتلال أن كانت الشوارع في حي من(1/78)
أحياء المدينة " تتزلج" بالزيت، وذلك أن الناس اقتحموا بئرا مملوءة بالزيت، كان يملكه الشيخ إبراهيم العكي أحد أثرياء المدينة، فهاجمه المحتاجون واللصوص وكانوا ينقلونه إلى بيوتهم بالصفائح والجرار والأباريق وكل أشكال الآنية، وبقيت الشوارع أياما وهي مجبولة بالزيت.
... وزاد من سرور الناس وبهجتهم أن كثيرا من الشباب والرجال قد بدأوا يعودون إلى أهلهم، فقد انتهت الحرب وأخذ الجنود والضباط يتوافدون على بلدهم وامتلأت البيوت بالحديث عن الحرب، فكانت احاديث سمرهم إلى زمن طويل، يستذكرون شؤونها في بيوتهم وفي مقاهيهم.
... ثم أخذت الأفراح تنحسر أمام أنباء جديدة، تبعث على القلق، وأصبحنا نعيش في وجوم، وكانت قد أخذت بعض الصحف في الظهور.
... وكنت أجلس في الديوان في سهرات الليل وأنا أستمع إلى العم قاسم يقرأ الصحف ومن حوله وجهاء المدينة من الزائرين. ولشد ما كان الوجوم والذهول حين كانت الصحف تتحدث عن الصهيونية ووعد بلفور وهجرة اليهود إلى فلسطين.
... وكانت الصحف التي ترد إلى الديوان، المقطم، من مصر، والكرمل والنفير من حيفا، وفلسطين من يافا.
... وكان مما راعني أن أستمع إلى عمي وهو يقرأ في جريدة المقطم أخبارا عن ابتهاج يهود مصر، بصدور وعد بلفور، ولا زلت أذكر كيف أن الجالسين في الديوان قد عبسوا وقطّبوا جباههم حين كان عمي يتلو بصوت متهدج ما نشرته المقطم من أن اليهود قد أقاموا احتفالا كبيرا في الإسكندرية أشادوا فيه بدولة بريطانيا العظمى لعطفها على آمال اليهود في بناء الوطن(1/79)
القومي اليهودي، وأنهم بعد انتهاء الإجتماع طافوا شوارع الإسكندرية في مظاهرة كبرى مهللين فرحين.
... وقد ازداد التجهم في "الديوان" حين انتقل عمي إلى جريدة فلسطين فأخذ يقرأ أخبار زيارة ونستون تشرشل وزير المستعمرات البريطاني للقدس واجتماعه بزعماء اليهود وتمجيده للحركة الصهيونية، وكيف أنه غرس في احتفال كبير شجرة في الأرض التي ستقام عليها الجامعة العبرية.
... ولا زلت أذكر كذلك كيف صاح أحد الطاعنين في السن من بقايا موظفي الدولة العثمانية وهو يقول لعمي: أرأيت ماذا فعلت بنا ثورة الشريف حسين، هذه هي خيانة الإنجليز .. ليتنا بقينا مع الدولة العثمانية.
... ولم يكن والدي قد عاد بعد إلى عكا، وقد انقطعت أخباره، فلم نعلم ما جرى له مع رفيقه وصاحبه جمال باشا، وكنا في قلق بالغ من أمره، غير أن القلق العام الذي كان يملأ جو الديوان في منزلنا عن أخبار اليهود قد ملأ خواطرنا، وأشغلنا عن شؤون الوالد وما ولد..
... ومضت أيام وشهور، والمدينة في هرج ومرج، ولم يعد للناس من حديث إلاّ حديث هؤلاء اليهود الذين صرّحت لهم بريطانيا بالهجرة إلى بلادنا، وشراء أراضينا وإقامة وطن قومي لهم في وطننا.
... كانت الأمور يومذاك غامضة ومبهمة، وكان الشيوخ "المتضلعون" في السياسة الذين يفدون على ديواننا يتناقشون طويلا في هذه الشؤون، وكنت أستمع إلى حوارهم وهم بين مصدق ومكذب.
... وكان بعضهم يرى في وعد بلفور خيالا ومحالا، فنحن في مدننا وقرانا وأنّى لليهود أن يحتلوا بلادنا.(1/80)
... وكان البعض الآخر يرى أن الإنجليز لا يفرطون بصداقة العرب والمسلمين، على حين ينبري أحد الزائرين ليقول أن الشريف حسين لا يمكن أن يرضى ولا بد أن يثور على الإنجليز ، وأن لورنس سيقف إلى جانب العرب ولن يستطيع اليهود تحقيق أطماعهم، وما علينا إلاّ أن ننتظر ونرى.
... وإلى جانب هذه المخاوف كان هنالك خليط من مشاعر الطمأنينة، والتفاؤل. كان "المتضلعون" في السياسة من زوار ديواننا يتحدثون عن بريطانيا وصدقها وشرفها بالاستيلاء على فلسطين، بينما يعقب آخرون "متضلعون" في السياسة كذلك، بأن أمريكا دولة تحب الحرية ولا يمكن أن ترضى بالظلم يقع على شعب فلسطين، ويستند هؤلاء إلى تصريحات الرئيس ولسون ويشرحون عباراته ويدققون في كلماته.
... ولكن سرعان ما أخذ شعور القلق يتزايد يوما بعد يوم فقد أصبحت الصحف تنقل أخبارا عن الهجرة اليهودية، وبدأت في المدينة حركة وطنية فكانت أول تحرك سياسي في مقاومة الحركة الصهيونية وإنشاء الوطن القومي اليهودي.
... وإني لا أزال أذكر ما حييت، تلك الأيام (1919) التي كان فيها الشباب والرجال يطوفون بالأسواق يحملون بأيديهم العرائض وقد امتد طولها مترين أو ثلاثة، وهم يدعون المارة وأصحاب الدكاكين لتوقيعها، ولقد تكررت حملات التوقيع أياما وأياما.
... وكانت هنالك عريضة، تتدلى فوق أكتاف الرجال، تهافت الناس على توقيعها، وسألنا نحن الصبيان عن هذه العريضة "الفارعة" الطول، فقيل لنا إنها تفويض إلى السيد عبد الفتاح السعدي والشيخ إبراهيم العكي من أعيان(1/81)
المدينة لتمثيل عكا في المؤتمر السوري في دمشق (8 حزيران 1919) الذي قرر وحدة البلاد السورية واستنكار الحركة الصهيونية..
... وكان بعض هذه العرائض احتجاجا على وعد بلفور، وبعضها فيه تفويض لممثلين عن المدينة لحضور الاجتماعات الوطنية في القدس وفي دمشق، وكان بعضها الأخير أروع وأبلغ.
... هذه العرائض الأخيرة، وكان الإقبال على توقيعها منقطع النظير، كانت موجهة إلى اللجنة الأميركية (كنج كرين) (حزيران 1919) لتطالب بالاستقلال التام، أو بانتداب أمريكا، إذا لم يكن بد من الانتداب.
... وكانت سيرة أمريكا عطرة، وقد حلت في قلوب الناس محل بريطانيا، بل أعظم وأرفع، ولم يكن أحد يتردد في قبول الانتداب الأمريكي، فالشعب الأمريكي شعب ديمقراطي يساند حرية الشعوب، ولن يرضى عن الحق والعدل بديلا، هكذا كانت مشاعرنا، وهكذا كانت أفكارنا وخواطرنا.
... وانتقلت الحركة الوطنية إلينا نحن معاشرالتلاميذ ، فغدونا نتحدث في هذه الأمور وكنا نجتمع في الشارع الممتد على البحر حلقات حلقات بعد انصرافنا من المدرسة.
... وفي هذه الحلقات لم يكن حديثنا في تلك الأيام عن الدروس والدراسة
ولكنا نردد ما نسمعه في بيوتنا عن مجيء اليهود إلى بلادنا ومشروعاتهم
للاستيلاء على وطننا.(1/82)
... وبلغ مسامعنا ذات مرة أن بضع عائلات يهودية مهاجرة ستصل إلى عكا للإقامة فيها، وكنا يومها نتذاكر هذا الأمر في حلقة من الفتيان التلاميذ ، في الساحة المجاورة لبيتنا، وأخذنا نستعرض فيما بيننا، ما عسانا أن نفعل.
... وقفزت في خاطري فكرة بادرت بعرضها على رفاقي: قلت لهم إذا دخل المهاجرون اليهود إلى بلدنا فسنعمل على إخراجهم بالقوة، فتساءل رفاقي: وكيف ذلك؟ فقلت لهم: يشتري كل واحد منا "كرباجا" (1) ونترصد لأولاد اليهود وبناتهم بعد انصرافنا من المدرسة: ونهجم عليهم ونضربهم "بالكرابيج" ونكرر هذه "العملية" كل يوم حتى يضج آباؤهم وييأسوا من الإقامة عندنا، فيعودوا من حيث أتوا، ومعهم أولادهم!!
... ولقد وافق رفاقي على ذلك وعقدنا العزم على تنفيذه واشترى كل واحد منا "كرباجا" من الجلد السميك، وأخذنا ننتظر قدوم اليهود بأولادهم إلى عكا.
... ومرت الشهور تلو الشهور، فلم تشهد عكا هجرة يهودية في تلك الفترة، ولكن "قرارنا" الذي اتخذناه بالتصدي لأولاد اليهود كان يمثل في حوافزه العميقة بداية الصراع الطويل الذي خاضه شعب فلسطين لثلاثين عاما متعاقبة.
... وكان ذلك القرار حقا بداية الكفاح الوطني في براعمه الأولى.. فما
__________
(1) * كرباج: سوط.(1/83)
كان يجري في عكا نفسها كان يجري في فلسطين كلها، بمدنها وقراها.
... وأصبحنا نحن الأطفال، رجال فلسطين الذين حملوا راية الكفاح.. في عهد الانتداب البريطاني.. وبعده..(1/84)
مع جورج أنطونيوس في عكا
... بعد الاحتلال البريطاني بدأت مظاهر الحياة تتبدل شيئا فشيئا في جميع نواحيها، وكان عالمنا الصغير الذي نعيش فيه – المدرسة – وكانت حملة التغيير في داخله تنبئ عن التغيير في خارجه.
... لقد انتقلت مدرستنا إلى مبنى آخر بجوار "بوابة" المدينة الرئيسة، وكان هذا المبنى في زمن الدولة العثمانية مركزا للتعبئة العسكرية في عكا، وتحولت الساحة الرحبة المجاورة التي كانت ميدانا للتدريب العسكري فأصبحت ساحة للألعاب الرياضية، ولم تعد اللغة التركية لغة التدريس كما كانت، وبدأت اللغة الإنجليزية تدرس ولكن كمادة واحدة من إحدى مواد الدراسة. وصارت المواد الأخرى – التاريخ والجغرافيا والحساب والجبر – تعلم باللغة العربية. وأصبحت الكتب المدرسية كلها هي الكتب المصرية، وغدت المناهج عندنا أشبه ما تكون بالمناهج المصرية، حتى دفاتر "تحسين الخط" وفيها نماذج من الخط العربي الجميل كانت تستورد من مصر.
... وهذا التحول المفاجئ من العهد العثماني لم يصادف عقبات ولا صعوبات، بل جاء دليلا على عراقة اللغة العربية وأصالة الأمة العربية، حتى بعد أربعة قرون متوالية من الحكم العثماني ... !!
... وكان المعلمون من أهل عكا، المسلمون منهم الذين تعلموا فيما مضى في المدارس العثمانية، والمسيحيون منهم ممن تعلموا في المدرسة الروسية(1/85)
في الناصرة، ولكن اللغة الإنجليزية لم يكن يعرفها هؤلاء ولا أولئك، فقد كان مدرسها مسيحيا من لبنان.
... وكان نظام الدراسة يقوم على الحفظ، وخاصة في قواعد اللغة العربية والتاريخ والجغرافيا، وبعض المواد كان يمليها علينا المعلم فنكتبها في كراريسنا ونحفظها عن غيب، وكانت تملى علينا قوائم طويلة في تواريخ العظماء والأحداث: في أي سنة ولد الإمبراطور الفلاني، وفي أي عام سقطت العاصمة الفلانية وكم عدد أبواب مدينة القدس ...
... ولا تزال كثير من التواريخ عالقة في ذهني حتى اليوم. مرت السنوات بأحداثها الجسام وبقيت راسخة في ذاكرتي، والفضل في ذلك يعود إلى الصفعات المدوية التي كانت تتعاقب على رفاقي، وأحمد الله أني ما عرفتها إلاّ مرة أو مرتين في كل حياتي الدراسية، فقد كان الضرب في المدرسة عقابا للفاشلين ورادعا للناجحين ...
... وكان يزورنا المفتشون في إدارة المعارف من القدس، فقد أصبحت عكا تابعة للقدس لا لبيروت كما كان العهد في الماضي، وكانت فلسطين قطرا تابعا لولايتي دمشق وبيروت، حسب الترتيب الإداري العثماني ...
... ومن كبار الزوار الذين جاؤوا مدرستنا ذات يوم، السيد جورج أنطونيوس. ولم يكن منظره عندنا ينبئ على العلم، فقد كان يلبس قبعة على رأسه، ولم يكن اسمه الأعجمي يوحي بالتقدير وبالاحترام، في زمن كانت فيه مشاعرنا الوطنية ملتهبة، فهزئنا باسمه وقبعته.(1/86)
... وكان "النحو" موضوعنا يوم دخل أنطونيوس على "الصف"، واختارني أستاذي لأخرج إلى اللوحة، فقد كنت متمكنا من قواعد اللغة العربية ولا تفوتني أحاجيها وشواردها.
... وراح جورج أنطونيوس يملي علي بيت الشعر:
كن ابن من شئت واكتسب أدبا
يغنيك محموده عن النسب
... وطلب إليّ أن أعربه، فمضيت في سهوله.. ويسر "أعربه" كلمة كلمة، إلى أن بلغت "يغنيك" فقلت له جواب "كن" في أول البيت، فقال لي "الجواب" يجب أن يكون مجزوما ويجب أن يكون اللفظ "يغنك" لا "يغنيك" ...
... ولم يكن قد مر علي مثل هذا الشاهد اللغوي، فحرت في أمري، ثم خطر لي أن أقول له: إنه ضرورة الشعر، فقال أصبت، وكنت قد تعلمت القاعدة أن "الشاعر يصرف ما لا ينصرف" وكنت كلما وجدت خروجا من الشاعر على القاعدة في شعره أقول أنها ضرورة الشعر.
... وحين عدت إلى البيت وخلوت إلى نفسي، تذكرت أمرا يفوق النحو والإعراب في بيت الشعر الذي أملاه علي أنطونيوس.
... لقد كان صدر البيت – كن ابن من شئت واكتسب أدبا – وساءلت نفسي: ترى هل عرف أنطونيوس أنني ابن الشيخ أسعد الشقيري فأملى علي هذا البيت؟ حتى لا يأخذني الغرور بوالدي ... لست أدري .
... ولم أر أنطونيوس بعد ذلك كل حياتي، وكان له في الحقل الوطني دور فعال من وراء ستار، سأعرض له في حينه.(1/87)
... ولكني رأيته مرات ومرات في كتابه الفذ "يقظة العرب"، انقضت على كتابته عشرات الأعوام وما زال فريدا في موضوعه، يتجدد الشوق لقراءته مع الزمان.
... ومن الأحداث الطريفة في عهد الدراسة أن المطر قد انحبس عدة أسابيع وتأخر عن موسمه، فضج الناس بالشكوى، وراحوا يدعون في المساجد أن يغيثهم الله بالمطر، وخرجنا نحن الطلاب، ومعنا أساتذتنا، إلى ضاحية المدينة لندعو الله بطلب الغيث، وكنا ننشد ما علمنا أياه أساتذتنا.
... يا ربنا يا ربنا إبعث شتا لزرعنا
... هم الكبار قد أذنبوا نحن الصغار شو ذنبنا
... وكان الأساتذة على فطنة عظيمة، فقد خرجوا بنا في يوم مليء بالسحب، وما أن فرغنا من دعائنا وعدنا إلى المدرسة حتى "استجاب" الله، وأرسل علينا المطر مدرارا ... واستقر في ضميرنا أن الله قد عفا عن الكبار من أجل الصغار ...
... وكانت الامتحانات في المدرسة فترة عذاب ما بعده عذاب، وتزداد الرهبة في نفوسنا كلما اقتربنا من موعد الامتحانات، وكنا نحفظ ونحفظ، ومع هذا كنا نرتجف يوم الامتحان، وكان مما يزيد خوفنا ما كان يرويه لنا أستاذ التاريخ أن نابليون أفاق ذات يوم مذعورا وظن أنه مدعو للامتحان .
... وكنا على يقين أن الأسئلة لن تكون إلاّ من الكراسات والكتب التي بأيدينا، وكانت مواد الكتاب والكراسة في ذاكرتي من الأول حتى الآخر، بالعناوين والترتيب، ومع هذا فقد كنت أخاف، ولم أكن أهدأ وأستريح إلاّ بعد أن أقرأ ورقة الأسئلة وأشرع في كتابة الأجوبة ونفرغ من الامتحانات،(1/88)
وأشعر أنني كتبت الأجوبة، كما هي في الكتاب تماما حتى بأحرف الجر نفسها، وكنت أخشى أن يظن المعلم أنني كنت "أغش" وأنقل عن الكتاب كلمة كلمة.
... ومع هذا كنا دوما ينازعنا الشك واليقين، هل الأجوبة صحيحة، ولا نطمئن إلاّ حين تصلنا مظاريف النتائج من المدرسة ونمزقها بأنامل مرتجفة، ولا أطمئن إلاّ حين أرى علاماتي – 10، 10، 10 – إلاّ الرسم فقد كانت علامتي فيه 6 وهذه على حافة الاجتياز، ولعل المعلم كان يضع لي هذه العلامة إشفاقا لا استحقاقا، حتى لا أسقط.
... وبقي في ذاكرتي حتى اليوم تلك الليلة الطويلة التي قضيناها في بيتنا مع خمسة من رفاقي التلاميذ ونحن نشرب القهوة والشاي لنغالب النوم.
... قضينا الليلة كلها من غير نوم، ونحن نحفظ ونحفظ، يمتحن بعضنا بعضا شفويا بالسؤال والجواب، وكنا "حافظين" جميعا ولكن كنا خائفين، حتى إذا أقبل الفجر ذهبنا إلى جامع "الجزار" وصلينا ودعونا بحرارة، وكانت المرةالأولى التي صليت فيها الصبح "حاضراً" في وقته، وأحمد الله انها لم تكن المرة الأخيرة ...
... وذهبنا إلى المدرسة وكان موضوع التاريخ هو مادة الإمتحان، فجاء سهلا ونجحنا جميعا، ولست أدري هل كان السبب الصلاة أم الحفظ، أم كليهما معا.
... ولكن مادتين كنت كارها لهما، الموسيقى والرياضة.(1/89)
... كان مدير المدرسة الأستاذ قسطندي قنازع هو الذي يعلمنا درس الموسيقى وكان ممن تعلم في المدرسة الروسية في الناصرة وكان بارعا في علم الحساب، وكان يعزف على "الكمان" ويعلمنا بعض الأناشيد المدرسية.
... وكنت أستخف بالمدير في نفسي، كيف يعزف على الكمان وكيف يغني، هذه ليست شيمة الأستاذ ولا تليق بمكانة المدير.. عقلية متخلفة لم أدركها إلاّ بعد ذلك بأعوام..
... أما الألعاب الرياضية، فكانت كراهيتي لها تعود لسببين: الأول أنني كنت ضعيف البنية لا أقوى على الرياضة، ولم أدرك في ذلك الوقت أني يجب أن أحب الرياضة لأن بنيتي ضعيفة، فبالرياضة تقوى وتشتد.
... والسبب الثاني أنني كنت أدهش للعناية الفائقة والرعاية العظيمة التي يلقاها المتفوقون في الرياضة البدنية، ففي الحفلة الرياضية التي كانت تقام في ختام العام كان المتفوقون في الركض والقفز تعلق الأوسمة على صدورهم، وتصفق لهم الجماهير، ونحن، المتفوقين في الدراسة، جالسون مع التلاميذ في الصفوف الخلفية لا يدري بنا أحد !
... وقد أدركت فيما بعد أن هذا "الظلم" في التمييز والتقدير والمعاملة، يسود العالم بأسره، فالمغنون والراقصون والمصارعون والممثلون كانوا ولايزالون أعظم شأنا عند الجماهير من عباقرة العلماء وجهابذة المخترعين ...
... ولكن رياضة أخرى مارستها وأخذت أحبها وهي الكشافة، وكانت جاءت إلينا مع الاحتلال البريطاني في جملة ما جاء.(1/90)
... وبدأنا نسمع باسم "بادون باول" مؤسس الكشافة البريطاني، وقد كرهت بادئ ذي بدء أن أنخرط في كشافة مؤسسها بريطاني، وبريطانيا هي التي خانت الشريف حسين، ونكثت بعهودها للعرب وأعلنت وعد بلفور.
... وكانت هذه المشاعر قوية في نفوسنا، ولكن خفف منها أن الكشافة بدأت تتعرب، فليس علينا أن نلبس "القبعة" وهي في نظرنا لباس بريطاني، فنشأت بدعة جديدة في لباس الرأس، فقد احتفظنا بالطربوش ولكن خيط له غطاء من "الكاكي" تتدلى منه قطعة طويلة خلف الرأس وأخرى قصيرة فوق الجبهة، ولم يفتأ كجزء من حملة التعريب أن يكون البنطلون تحت الركبة بقليل، وكذلك تضاءلت كراهيتنا لهذه الكشافة البريطانية لأن "المعلم واصف" كان مدرب الكشافة وهو مصري قبطي، كان يروي لنا حكايات الوطنية في مصر، ويشيد بالثورة على الإنجليز بزعامة سعد زغلول ...
... فأقبلت على الانضمام إلى الكشافة بحماسة بالغة، وزاد من حماسي أن المعلم واصف قد اكتشفني "خطيبا" أو أنني اكتشفت نفسي، فأصبحت خطيب الفرقة في اجتماعاتها ورحلاتها ...
... وأذكر يوم قمنا بجولة في بعض القرى قريبا من عكا في رحلة امتدت أسبوعا، في الدامون والبروة وعبلين وشفاعمرو، وكنت أخطب في كل قرية خطبا حماسية، أبتدئها وأختمها بشعر حماسي من محفوظاتنا التي كنا نقرأها في الكتب المصرية، وما زلت أذكر كيف أن أهل القرية قد أخذتهم الحماسة الدافقة وانطلقت أكفهم بالتصفيق، وأنا أقف بينهم منتصب القامة أرسلها بصوت جهوري:
سواي يهاب الموت أو يرهب الردى وغيري يهوى أن يعيش مخلدا(1/91)
... وكانت أياما بهيجة وليالي رائعة قضيناها معززين مكرمين مع الفلاحين من شعبنا الطيب، وقد أصبح الآن كله أو جله شعبا من النازحين واللاجئين ...
... ولكن سرورنا بتلك الرحلة المثيرة لم يدم طويلا، فجاءت خاتمتها محزنة لنا جميعا.
... في آخر يوم من الرحلة، وكان التعب قد أخذ منا مأخذه، رأينا المعلم واصف يخرج من جيبه مسدسا ويطلق بضع طلقات في الهواء، ولعله أراد أن يبعث فينا الحمية والعزيمة.
... وصل الخبر فيما بعد إلى حاكم المدينة البريطاني "المستر لويك"، وكان حمل السلاح ممنوعا، وبقي كذلك إلى نهاية الانتداب البريطاني إلاّ على اليهود، فقد كانت السلطات البريطانية تسلحهم وتدربهم على حمل السلاح.
... وقبضت السلطة على المعلم واصف، ودعيت لتأدية الشهادة أمام المستر لويك وأقسمت اليمين ورويت الأمر كما جرى، وحكم على المعلم واصف ستة أشهر بالأشغال الشاقة.
... مسكين المعلم واصف، لقد رأيته مرات يلبس ثياب السجن يعمل في الطرقات ولكنه كان صابرا صامدا، غير منكسر ولا متهالك ...
... ولقد حزنت عليه أياما، وأصبحت أتجنب الطريق الذي يعمل فيه، ولم أكن أدري أن القدر يخبئ للألوف من رجالنا وشبابنا وطلابنا المصير نفسه، أضعافا مضاعفة ... فيسجنوا ويعذبوا لأنهم يحوزون السلاح.
... ولم أكن أدري يومذاك وأنا صبي في الرابعة عشرة من عمري أني سأصبح محاميا أدافع أمام القضاء البريطاني عن العديد من شبابنا، فيحكم(1/92)
عليهم بالموت أو السجن المؤبد لأن البوليس وجد في حوزتهم بندقية قديمة أو خرطوشة فارغة.. على حين كانت بريطانيا تسلح اليهود وتدربهم على فنون القتال.
... بل لم أكن أدري يومذاك أن اليهود لن يقنعوا بهذا التدريب والتسليح على يد بريطانيا، فقد عملوا بعد ذلك بسنين على تهريب السلاح في صناديق الأسمنت وفي خلايا النحل ..
... أجل ان خلايا النحل لم تكن شهدا ولا عسلا، ولكنها كانت دمارا وقتلا.(1/93)
أبو موسى اليهودي....
يصلي في الجامع
... إذا كان الاحتلال البريطاني قد شمل فلسطين بأسرها، فقد خصنا نحن آل الشقيري بألوان من وطأته وشدته، وكان أول ما جرى من ذلك أن السلطات العسكرية احتلت بيتنا القائم خارج السور، وطلبت إلينا في يوم أو بعض يوم أن نخليه ليكون مقرا للضباط الإنجليز ، فأسرعنا كل إلى خزانته وحملنا ثيابنا والقليل من متاعنا وغادرنا بيتنا إلى منزلنا القديم بجوار حمام الباشا. وكان منظرا يبعث على الشفقة ونحن خارجون من دارنا نساء وبنات وصبيانا، ولا أقول رجالا فلم يكن بيننا رجل، فقد كان شقيقي الأكبر في السابعة عشرة من عمره.
... وعدنا إلى بيتنا القديم في وسط المدينة العتيقة وقلوبنا منكسرة لا يخفف من لوعتنا وحزننا إلاّ ذلك الأذان العذب من حولنا يردد مرات ومرات الله أكبر، الله أكبر، وكأنما صيغ هذا الأذان لينزل على قلوبنا السكينة ويبعث فيها الطمأنينة.
... ولقد كنا في حاجة إلى العزاء، فوالدي قد انقطعت أخباره عنا، والحكم اليوم للإنجليز ونحن من جماعة العثمانيين، وأصبح الناس يخشون(1/94)
الاتصال بنا اوالاقتراب منا إلاّ الذين يعرفون معنى الوفاء في أيام الشدة ... وهؤلاء قليلون في كل زمان ...
... وكنا في بعض أيام الآحاد نخرج للنزهة على الشاطئ الغربي، ونمر بجانب بيتنا فنرى الضباط الإنجليز في بيتنا يرطنون ويغنون، ونحن نختلس النظرات إلى غرفنا وحديقتنا، ونتساءل متى نعود إلى بيتنا؟
... كان حزنا "صغيرا" ذاك الذي يعتمل في نفوسنا ونحن نسير في محاذاة بيتنا، إذا قيس بحزن الأحزان الذي نزل بشعبنا بعد ذلك بثلاثين عاما حين أجلي عن وطنه، وظل عشرين عاما بعد ذلك يتساءل <<متى نعود إلى وطننا>>؟..
... وفي بيتنا القديم أصبحنا نعيش في المجتمع الفاضل الذي كان طابع الحياة في عكا، بل وفي سائر المدن في فلسطين والوطن العربي كله.
... الحمّام على قيد خطوات منا وهو على شكل مستدير تعلوه قباب كبيرة وصغيرة، فيها مستديرات بلورية صغيرة ينفذ النور منها إلى داخل الحمام.
... وكان الحمام مخصصا صباحا للرجال، وبعد الظهر للنساء والأطفال، ويوم الحمام يوم سعيد هنيء، أشبه ما يكون بنزهة في هذا المبنى الجميل وقد رصف ببلاط الرخام تعلوه أعمدة وقناطر من المرمر.
... وقد دخلت الحمام صبيا مع النساء، ودخلته بعد أن كبرت مع الرجال، وأيامه حافلة بالذكريات العذبة حين كنا نقضي الساعات الطويلة ونحن نسبح على البلاط، والماء الحار يسيل على جنباته، ثم ندخل إلى الغرفة الصغيرة يتدفق من جدارها الماء والبخار فنستحم، ونخرج بعد ذلك إلى الساحة(1/95)
المجاورة لنأكل ما لذ وطاب من الفطائر والفاكهة والحلوى وقد تكدست في تلك السلة اللطيفة التي حملناها معنا من البيت...
... وقبل أن تنشأ الحمامات الخاصة في البيوت كان حمام الباشا مزدحما على الدوام وخاصة في أيام الأعراس، فقد كان من تقاليد ذلك الوقت أن تستأجر الأسر الموسرة الحمام كله "من بابه"، ويدعى الأهل وأسر المدينة إلى الحمام، وينقلب الحمام بغرفه وردهاته ودهاليزه ومعابره إلى "فرح"، وتلتف الصبايا والعروس معهن في دائرة في الردهة الرئيسة عند مدخل الحمام، فيرقصن ويغنين وهن ملتفات بالمآزر والمناشف. في جو كله مرح وبهجة وسرور ... أيام لم يكن في الدنيا منغصات ولا مشكلات..
... وكنا نحن الصبيان نراقب هؤلاء النسوة، الصبايا والعجائز، بعيون جاحظة ونظرات نافذة، نتابع حركاتهن وسكناتهن، وهن يرتدين ملابسهن ويخلعن.. ولم تكن النسوة تلبس "الكورسيه" للصدر أو الخصر، فقد كنّ في ذلك الوقت يعجنّ في البيوت ويقمن بالأعمال الشاقة، فاكتنزت عضلاتهن، ومن هنا فإن النهود نواهد.. والخصور خواصر..
... ولم يكن الشباب أقل كلفا من الصبايا، وهم يحتفلون بالعريس بالحمام، فيرافقونه في تفكه وتسليه...، يباسطونه ويدغدغونه، ويفرحون معه، وبعضهم قد تزوج من عهد قريب، فيهمسوا في أذنه كلمات، وتتبعها ضحكات ثم قهقهات ...
... ولم يكن الحمام للاستحمام والأفراح فحسب، ولكنه كان مستوصفا كذلك، فلا يخلو الحمام من مريض وصفو له الحمام ليبرأ من علته، وكنا(1/96)
نرى هذا المريض في مغطس ماء حار، أو ممددا على بلاط حار، أو مطروحا على وجهه، "والمدلك" من فوقه يدلك عظامه ومفاصله ...
... وكنا نحن الصبيان نتجمهر حول المدلك نراقب حركاته، ونراقب تأوهات المريض بين يديه، ولا ننفك عنه إلاّ بعد أن يرش علينا طاسا من الماء الحار.
... وعلى مقربة من حمام الباشا، كان هنالك جامع الباشا، وهو مسجد بديع الصنع تعلوه مأذنة جميلة وحول ساحته غرف صغيرة ذات قباب يقيم فيها طلبة العلم الذين يفدون على عكا لتلقي العلوم الدينية.
... وفي غرفة رحبة إلى جوار المكتبة كان الشيخ عبدالله الجزار مفتي عكا، يتصدر مجلسا للدرس الديني، وكان مهيبا تقيا ورعا غزير العلم، طليق اللسان.
... وكان الشيخ الجزار يجلس للدرس بعد صلاة العصر ومن حوله العلماء الكبار والصغار وطلاب العلم وبعض المريدين، وكان ذلك الوقت هو حين انصرافنا من المدرسة الثانوية.
... ولست أدري ما الذي جذبني إلى مجلس الدرس، مع أن الشيخ الجزار لم يكن على وفاق مع والدي على الدوام، وصرت أحضر الدرس وأستمع إلى النحو والفقه والحديث، وكان رحمه الله حافظا للنصوص، وكان وقاره لا أسلوبه هو الذي يجتذب الناس، وإليه يرجع الفضل فيما حفظته من اللغة والدين.(1/97)
... والواقع أن عكا كانت حافلة بالجوامع والتكايا، فلا يخلو الحي الواحد من مسجدين أو ثلاثة، أو زاويتين أو ثلاث، وكان أشهرها الزاوية اليشرطية ولا يفصلها عن بيتنا القديم إلاّ الطريق العام.
... وفي أيام الجمعة كانت تتصايح المآذن بالتذكير والآذان، فلا تكاد تميز من أي مسجد هذا الأذان أو ذاك، فالمدينة ذات أسوار، وأحياؤها ضيقة وبيوتها متلاصقة بل انه ليركب بعضها بعضا.
... وكان أكثر الناس يتوافدون للصلاة في جامع الباشا، لسعته وأناقته، وذكرياتي في الصلاة في هذا المسجد هي ذكريات كل مسلم، الأجيال الإسلامية يتعلم بعضها عن بعضها، الوضوء والصلاة وآداب العبادة، وإن كنا تلقينا كثيرا منها في المدرسة.
... غير أن "حادثين" جديران بالتدوين، الأول ملك للتاريخ، والثاني ملك للتاريخ والقضية الفلسطينية معا.
... الأول أن "عباس أفندي" كبير البهائية في ذلك الوقت كان يؤم جامع الباشا للصلاة في بعض أيام الجمعة، ولقد رأيته يدخل المسجد بقامته القصيرة ولحيته البيضاء وهو يتهادى في مشيته بكل هيبة ووقار.
... وكانت عكا "والبهجة" في الضاحية مقرا للبهائية بعد فرارهم من إيران. وكان عباس أفندي وأتباعه يعيشون في عكا زمن الدولة العثمانية كما يعيش المسلمون سواء بسواء، وإن كان الناس يتهامسون بعض الشيء عن أمر دينهم.
... وكان عباس أفندي من أصدقاء عائلتي، يزورنا في البيت ونستمع إلى حديثه، وكان يتكلم العربية باللهجة الفارسية، فخامة وغُنّة، كما كان يزور(1/98)
الأسر الوجيهة في عكا، ولم يترك وجيها إلاّ وأهداه سجادة فاخرة أو عباءة عجمية.
... وكنا حين نمر بمنزله نرى الفقراء والمحتاجين مصطفين عند بابه، ينتظرون خروجه ليوزع عليهم الصدقات.
... وقد ظل عباس أفندي يصلي حينا بعد حين في جامع الباشا، ولكنه انقطع عن ذلك بعد الاحتلال البريطاني بقليل، ولم يره المسلمون بعد ذلك في المساجد.
... ولقد غاب من ذاكرتي الكثير من حركات عباس أفندي وسكناته، ولكن مشهدا واحدا قد انطبع في ذاكرتي انطباعا عميقا وما زال ماثلا في ذهني، ذلك هو مشهد البهائية الذين كانوا ينحنون بما يشبه الركوع بين يدي عباس أفندي، حين يدخل ويخرج، وحين يقوم ويقعد، ولعل هذا المشهد وأمثاله مما كان يروى عن حياة عباس أفندي قد أشاع في المدينة الأحاديث عن "ألوهيته" أو "نبوته".
... أما الحادث الثاني، فهو أني كنت أرى بين المصلين رجلا متقدما في السن، يلتفت إليه الناس في صلاته، ولم يكن في الرجل ما يلفت النظر، فقد كان إنسانا عاديا يلبس القمباز والطربوش يصلي كما يصلي الناس، ويدخل المسجد معهم وينصرف معهم.
... وجاورت هذا الرجل غير مرة في الصلاة، أو كنت منه قريبا، وكنت أراه يسجد وكعباه مشققتان شأن كثيرين من فقراء المسلمين ...(1/99)
... وكان هذا الرجل اسمه "أبو موسى" وسرعان ما عرفت أنه كان يهوديا واعتنق الإسلام أثناء الحرب العالمية الأولى، وظل مسلما بعد الاحتلال البريطاني.
... وكان أبو موسى هذا "سمكريا" وقد كنا ندعوه كثيرا إلى بيتنا لإصلاح حنفية ماء أو تنظيم قنديل.
... وكثيرا ما كنا نحن "صبيان العائلة" نحيط به وهو يقوم بعمله، فنتحدث إليه ويتحدث إلينا، وكانت لهجته عربية عامية عادية.
... ومضت بضعة أعوام وأبو موسى مسلم من المسلمين، إلى أن حضرته الوفاة، وخشي الحاكم البريطاني المستر "لويك" أن يختلف اليهود والمسلمون على دفنه، وكان قد عرف أن ابنه موسى وزوجته وأولادهما لا يزالون مقيمين على دينهم اليهودية.
... فأرسل الحاكم البريطاني بعض موظفيه إلى بيت "أبو موسى" ليسألوه أين يريد أن يدفن وعلى أي دين يموت. وفي تمتمة هادئة قال أبي موسى "وهل هنالك أحسن من دين موسى" قالها ولفظ أنفاسه الأخيرة، فمات يهوديا ودفن يهوديا.
... والمجتمع في عكا مجتمع متدين، ولكنه لم يلق بالا إلى "أبو موسى" يمت يهوديا، بعد أن حفيت قدماه على سجادات جامع الباشا وحصيره، وتجلت الآية الرائعة في الرحابة الإسلامية والسماحة العربية، أن موسى اليهودي وزوجته وأولادهما قد عاشا في عكا عيشا هادئا آمنا، إلى يوم خروجنا من فلسطين في عام 1948.(1/100)
... ولقد أنشبت الصهيونية مخالبها في ذلك العهد، فتضاعف أمر الهجرة اليهودية، وتكشفت نوايا العدوان الصهيوني، مهددا العرب بالجلاء والفناء، وبقي موسى اليهودي وزوجته وأولادهما في أرغد عيش وأهنأ حال في عكا، المدينة العربية والثغر الإسلامي العظيم.
... وكانت في عكا أسرة يهودية صغيرة بقيت على دينها طيلة حياتها، وكان رب هذه الأسرة "عطارا" له دكان في وسط المدينة، وكان له ولد اسمه "يوسف" وبنت اسمها "تريز" ولم يكن يميزهما عن أبناء عكا سوى لونهما الأشقر وشعرهما الأحمر.
... وكان يوسف صديقا لأبناء عمي، وكانت تريز صديقة لشقيقاتي، والواقع أن الناس كانوا يحبونهما للطفهما ووداعتهما، ولم يكن أحد يحقد عليهما أو ينظر إليهما نظرة خاصة.
... وكان يوسف يلبس الطربوش والملابس الأوروبية شأن المتعلمين من أبناء عكا، وتريز كانت تلبس الملابس المحتشمة، من غير حجاب كشأن السيدات المسيحيات.. وإن كانت المسيحيات المعمرات كن يرتدين الحجاب، تماما كالمسلمات، إلاّ أن "ملايتهن" كانت بيضاء لا سوداء..
... ولقد عرفت كلا من يوسف وتريز لسنين طويلة صبيا وشابا ثم رجلا، وأحسب أن هذه الفترة قد امتدت حتى عام 1948 يوم خرج أهل عكا من مدينتهم الغالية.
... ولقد وقعت بين العرب واليهود مصادمات دامية خلال ثلاثين عاما، سقط القتلى خلالها بالآلاف.(1/101)
... ولكن يوسف وتريز بقيا في عكا سالمين آمنين، لم يلحق بهما أذى، في زمن كانت فيه النفوس ثائرة والأعصاب متوترة.
... ولم تكن عكا قد تفردت بهذه السماحة العربية، فقد كبرت وتكاثر معارفي وأصدقائي في صفد وطبريا والقدس ويافا حيث كانت تتكاثر الجاليات اليهودية، وعرفت منهم حكايات تروى على مر الزمان ... كيف عاش اليهود معنا في أمن وسلام، وصفاء وهناء..
... وهكذا قدر لجيلنا الذي عاش مع "اليهود" عيشا آمنا مطمئنا، أن يقضي عمره بعد الصهيونية في صراع دام مع اليهود، وستظل الأجيال الحاضرة والصاعدة والمقبلة في حلبة هذا الصراع حتى تعود فلسطين الحبيبة إلى أصحابها الشرعيين وأبنائها الحقيقيين..(1/102)
مأساة واحدة بين آلاف المآسي
... وجاءنا النبأ ونحن في بيتنا القديم أن والدي قد وصل إلى حيفا بالباخرة، وأن السلطة العسكرية قد بادرت إلى اعتقاله تمهيدا لمحاكمته.
... وماذا عسى أن يوجهوا إليه من تهم. لقد كان من رجال العهد العثماني وقام بواجبه كما يؤمن به زمن السلم والحرب، ولكن الإنجليز بذلوا كل جهدهم ليلفقوا له أية جريمة كيفما كان..
... واستبد بنا القلق في البيت، وسرت الإشاعات في المدينة أن الشيخ أسعد سينفذ فيه حكم الإعدام، واحتجب عنا كثير من أصدقاء العائلة، وحاول الإنجليز أن يحرضوا الناس على تقديم اي شكوى ضد والدي، وعقدت المحكمة العسكرية عدة جلسات، ولما لم تجد تهمة محددة أمرت باعتقاله في مصر، وهكذا كان. فقد قضى والدي بضعة عشر شهرا مع سجناء الحرب الذين اقتيدوا إلى القاهرة من كل أطراف البلاد العربية..
... وامتلأت قلوبنا بالفرحة والبهجة يوم عاد والدي من الاعتقال وجاء إلى بيتنا القديم، وبذلك تهيأت لي الفرصة لأبدأ معرفتي به وأنعم بلقائه..
... وكنت يومئذ قد اثبتُّ وجودي في العائلة، فقد كنت متفوقا في دروسي، أخطب في الحفلات المدرسية، وأصبحت لي "شهرة" في المدينة بأنني "خليفة" والدي في العلم والخطابة، وكان والدي من الخطباء المبرزين في الدولة العثمانية، بالعربية والتركية على السواء..(1/103)
... وكنت ألقاه أكثر ما ألقاه عند المساء، أحمل إليه الإبريق وأصب له الماء ليتوضأ، فيدعو لي بالتوفيق، وكان هذا الوقت من النهار فرصة له ولي، ذلك أن "الخالة" تكون خارج البيت إمّا لنزهة أو لزيارة الصديقات.
... وأذكر أنني أعربت له مرة عن رغبتي في الالتحاق بالأزهر، فكتب إلى السيد أمين سعيد وكان يومئذ محررا في جريدة المقطم، ولكن خاب أملي، فقد أجاب أنه لا ينصحني بذلك، لأن الأزهر "فوضى ووساخة" وأنني سأضيع مستقبلي في الأزهر..
... ومع هذا فقد بقيت مواظبا على حضور مجلس الدرس للشيخ عبد الله الجزار، وأصبحت لي صداقات مع طلبة العلم في المدرسة "الأحمدية" في عكا – نسبة إلى أحمد باشا الجزار – وهي أشبه ما تكون بالأزهر الصغير في نظامها، وكانت نتيجة هذه المدارسة أنني أصبحت "عالما" من غير عمامة..
... وقد زاد من تمكني من العلوم الإسلامية أن مجلس والدي كان ندوة علم، يحضرها العلماء وسراة القوم، فكنت أستمع إلى حوارهم في مختلف المسائل الدينية، وكان لوالدي مكتبة دينية قيمة، وأصبحت مع الزمن مسؤولا عن تنظيفها وتنظيمها حسب موضوعاتها، فعرفت ماهية هذه الكتب وأسماء مؤلفيها، وهي في جملتها مما يسميه "الناشئون" اليوم الأوراق الصفراء ... وليتهم عرفوا ما فيها من كنوز المعرفة ...
... وبدأ الناس يتصلون بنا شيئا فشيئا، فيزورون والدي بعد أن كانوا قد انقطعوا عنا زمنا، فها قد عاد والدي من الإعتقال سالما، ولم ينفذ فيه حكم(1/104)
الإعدام كما أرجفوا، وعرفت يومئذ معنى القول المأثور "لكل زمان دولة ورجال".
... وبهذا أصبحنا نشارك في حياة المدينة، ونعيش شؤونها، فنفرح معهم في الأفراح ونحزن معهم في الأتراح.
... ومن الليالي البهيجة التي كنت أتذوق حلاوتها عن كثب، ندوة القصاص الشعبي في المقهى، فقد كنت أمر بعد العشية بمقاهي المدينة شأن الكثيرين من الصبيان. وكان في إحداها قصاص شعبي، يقف في وسطها وبيده قضيب وأمامه طاولة يقرع عليها من حين إلى حين، ويقص بالشعر والنثر سيرة عنترة والمهلهل وأبو زيد الهلالي، وكان القصص متسلسلا يتعاقب مع الليالي، ويتوافد الشباب والرجال ليستمعوا إلى هذا القصص المثير، وصاحبنا ينشد الشعر ويرسل النثر فيثير الحماسة والنخوة في نفوس السامعين.
... وكان الجمهور ينقسم إلى فريقين مع أبطال القصة، وقد روى لي والدي أنه شهد في إحدى الليالي هذه الندوة الشعبية وكان الشباب يحملون الشموع إحتفاء بزواج عنترة على عبلة.. وروى لي كذلك أن القصاص قد أوقف حديثه ذات ليلة عند "عنترة أسيرا"، وما أن وصل الناس إلى بيوتهم حتى عادوا وتجمهروا أمام بيت القصاص وأخرجوه إلى المقهى، ليتابع السيرة ويفك عنترة من أسره.. فلن يكون عنترة أسيرا ولو ليلة واحدة..
... أما تسلية النساء فقد كانت لعبة "الودع"، يجلسن القرفصاء على الأرض وأمامهن قطعة مطرزة من القماش على هيئة صليب، فيتضاحكن ويلعبن، ويجلس بعضهن أمام بعض، وهن يحرصن أن لا تنكشف ركبهن(1/105)
وهي ملفوفة بملابسهن الطويلة، ونحن الصبيان نجلس من حولهن فيأخذن في جمع ملابسهن إلى الكعبين، وهن يقلن لنا "يا شياطين عيونكم عيون الحرامية" ولكن أنى لعيون الحرامية أن تنفذ من وراء هذه الملابس "الحصينة"..
... وكان هذا شأن عكا في أيامها، يفرح الناس معا ويحزنون معا، مجتمع واحد متماسك، كالجسد الواحد إذا اشتكى عضو واحد تداعى له سائر الأعضاء بالنجدة والهمة، شأن المدن العربية والإسلامية في ذلك العهد.
... وكان "العرس" في المدينة هو عرس لأهل المدينة. سواء من دُعي أو من لم يُدعَ. السيدات يفرحن مع العروس، والرجال يفرحون مع العريس، والأولاد أمثالي يفرحون مع العريس والعروس معا ...
... ويظل "العرس" حديث المدينة لعدة أيام، قبله وبعده، ولا تفتأ المدينة تفرغ من عرس، حتى تتمرس بعرس آخر ...
... وليلة الزفاف ليلة حافلة، ففي بيت العروس تتجمع النساء في أزهى ملابسهن وحليهن، وتتدافع الصبايا إلى الرقص والغناء، وتدار كؤوس الشراب بألوانه البريئة.
... والعريس يطاف به في شوارع المدينة. بالمشاعل ومن حوله رفاقه وأصحابه. ينشدون ويغنون. ويقف الجميع في ساحة هنا وساحة هناك ليلعب الرجال بالسيف والترس، وينشد الأطفال أمام هؤلاء الجبابرة الأقوياء، يتواثبون بعضهم على بعض، حتى يحجز بينهم "شيخهم" ونقيبهم ويصلح بينهم، ويربت على كتف هذا، وكتف ذاك.(1/106)
... وكانوا إذا بلغوا دار أحد الوجهاء وقف الجمع وصاح عريفهم محييا ذلك الوجيه "شوباش"، ويخرج الخدم بالعطور يرشونه على الناس، ويقدمون إليهم أكوابا من المرطبات.
... والبيوت الوجيهة معروفة وثابتة، كأنها مدونة في سجل مكتوب، فلا منافسة ولا مناقشة، ولا طمع ولا طموح. ورحم الله امرءا عرف حده ووقف عنده!!
... وكان موكب العريس يمر من أمام بيتنا، فيقف بعض الوقت وتنصب حلقة السيف والترس وتأخذنا هذه الوثبات بين المتصارعين، وقعقعة السيف وهو يهوي على الترس بضربات قوية، وكنا نحمل أكواب الشراب إلى الموكب، ولا يفوتنا ونحن عائدون إلى البيت أن نشرب بقية الكؤوس، وكنت في ذلك العهد قد حفظت القول المأثور: سؤر المؤمن شفاء.
... وهكذا يتدافع الموكب بعد ذلك من شارع إلى شارع، ومن حي إلى حي، وينطلق الأطفال حول الموكب يمدون أبصارهم ليروا كل شيء، وتطل النساء من النوافذ ليبصرن العريس وسط الحلقة وهنّ يرددن "الله يهنيها" إذا كان العريس جميلا، أو "الله يكون بعونها" إذا كان العريس دميما!!
... حتى إذا بلغ الموكب بيت العروس انطلق الجميع يرددون الأناشيد والتكبير والتهليل، ويدفعون بالعريس إلى المنزل لتبدأ حفلة أخرى تزف فيها العروس إلى عريسها بكل مظاهر البهجة والفرح.
... ولقد عشت هذا المجتمع الحبيب في الوطن الحبيب بكل مباهجه، والمدينة كلها تكاد أن تكون أسرة واحدة، فيها تقاليد الأريحية والنخوة وحسن الجوار، وعبرت بي السنون بعد ذلك لأشهد مجتمعات عربية، الأسرة الواحدة(1/107)
فيها ليست أسرة واحدة، ويعيش الجيران أعواما في عمارة واحدة، فلا يسلم بعضهم على بعض، ولا يكلم بعضهم بعضا، ولا يدري أحد في هذه العمارة من يموت ومن يولد ...
... ومن أيامنا التي لا أنساها عن هذا المجتمع الهنيء الذي كنا نعيشه حدث بهيج نعمت به المدينة، وظل حديث أهلها أياما وأعواما.
... وقد عاشت المدينة ذلك الحدث أسبوعا بأيامه ولياليه، وكان ذلك بمناسبة ختان الولد "بدر" ابن أحد وجهاء المدينة، السيد حسن بدر.
... وكان لهذا الوجيه مكانة مرموقة في المدينة وعند أهل القرى في قضاء عكا وغيره، وكان كريما يقضي للناس حوائجهم، فيتوسط لهم لدى الحكام.
... وكان "بدر" مدلل أمه وأبيه وقد عزموا على ختانه وأن يقيموا لذلك احتفالا كبيرا، فأرسل الوجيه الدعوات إلى أهل المدينة وإلى المدن والقرى المجاورة.
... وكان أسبوعا لم تشهد عكا مثيلا له لزمان طويل، فقد توافد القرويون والمدنيون بالألوف، يحملون معهم الهدايا من المواشي والأرز والسكر. وازدحمت الشوارع والساحات بالقادمين، وانفتحت البيوت لاستقبال الضيوف.
... وإني لأذكر أنني جلست مع أولاد الحي على عتبة بيتنا، ونحن نشاهد قوافل الجمال تمر أمام بيتنا إلى منزل الوجيه (أبو بدر) تحمل أكياس الأرز والدقيق والسكر.
... ولقد أناخت الجمال في الساحات ومنعطفات الشارع، بعد أن ضاقت بها الساحة الرحبة المجاورة لبيت ذلك الوجيه السري.(1/108)
... ومدت الموائد في الهواء الطلق، بعد أن ضاقت بها البيوت، وبدت لنا الأرض، وأبصارنا جاحظة، أنها مفروشة بالأرز المطبوخ والخراف المشوية، وشباب الحي قد شمروا عن سواعدهم يقطعون اللحم ويفرقون الأرز ليوزعوا على الأضياف ... والأحباب ...
... كأن المدينة كلها مضافة كبرى، وأصبحت كلها مطبخا كبيرا، وبقيت رائحة الشواء والقتر أياما، تملأ أزقة المدينة وحواريها.
... وقبل الطعام وبعده كانت حلقات الرقص تنتظم الفلاحين "فيدبكون" وكوفياتهم تتطاير في الهواء، وضربات أقدامهم تثير الغبار، والشعراء "الشعبيون" يثيرون الحماسة، بأهازيجهم في حلقات، يهجو بعضهم بعضا، فرحا ودعابة، ثم ينتهون إلى تصافح وتآخ وسلام.
... كل هذه المهرجانات الشعبية الضخمة من أجل ختان الولد المدلل "بدر" الذي كان موضع الأنظار وهو يلبس الرداء الحريري الأزرق، ينتظر "الحلاق" (1) ليقوم بعملية الختان.
... ولقد عشنا – نحن أولاد المدينة – تلك الأيام الحلوة بكل مباهجها، وعشنا كذلك لنرى بعد سنين الخاتمة المفجعة التي صار إليها أمر "بدر" مدلل الزمان..
... لقدأصبح بدر شابا وهاجر من عكا إلى بيروت في جملة من هاجر بعد كارثة 1948 وأصبح لاجئا في عداد اللاجئين.
__________
(1) * كان الحلاق حتى أواسط القرن الماضي متعدد الوظائف، (وربما استمر عمله هكذا في القرى والأرياف بعد ذلك) فهو يجري الختان ، وهو ينزع الأسنان ويقوم بالحجامة ونحوها إضافة إلى الحلاقة.(1/109)
... ولم يستطع بدر أن يجد عملا ولا رزقا، وعاش عالة، يحسن إليه المحسنون الذين عرفوه وعرفوا والده من قبل، وانتابته الأمراض، ومات في بيروت معدما، صريع الفاقة والعوز.
... والذين عاشوا في فلسطين في عز ورفاه مثل "بدر"، وماتوا في الهجرة في بؤس وشقاء، مثل بدر، ألوف وألوف.
... وما مأساة بدر إلاّ واحدة من ألوف المآسي التي نزلت بشعبنا البطل.
... ويكاد كل فلسطيني أن تكون له تراجيديا إنسانية، في حياته، توشك أن تكون أسطورة من أساطير الأولين.(1/110)
يوم مع هربرت صموئيل
... ولم تكن حياة المدينة، ونحن الآن في أوائل العشرينات، ختانا كلها وأعراسا كلها، فقد أخذت الشؤون الوطنية تشغل بال الناس، وتصرفهم عن الحياة العادية، إلى حياة أكثر جدية بل أشدّ قلقاً.
... وأصبحت المجالس والمقاهي والبيوت ولا حديث يشغلها إلاّ الوطن القومي اليهودي والهجرة اليهودية، وراحت الصحف تنقل أنباء المهاجرين اليهود الذين يفدون على البلاد بالمئات عن طريق ميناءي يافا وحيفا، وكان الحكم العسكري البريطاني قد انتهى وقام مقامه حكم مدني، فأعلن الانتداب البريطاني على فلسطين واصبح "هربرت صموئيل" مندوباً سامياً على فلسطين (1 تموز سنة 1920).
... وكان مما زاد في قلقنا حين علمنا أن "صموئيل" يهودي، وبدأنا نحس بالخطر يحيق في وطننا، وأن "حاكمنا" قد أصبح يهوديا، وهنالك ارتفعت اللائمة والشماتة من بقايا رجال العهد العثماني، ومضوا ينعون على الشريف حسين محالفته للإنجليز، ويتمنون لو هزم الحلفاء وانتصر الأتراك.
... وبدأت الأخبار تتوارد عن الحركات الوطنية في البلاد، لمقاومة وعد بلفور واستنكار الهجرة اليهودية، وجاءت معها أنباء المظاهرات في القدس ويافا ونابلس وغيرها من مدن فلسطين، وكان في رأس هذه الأنباء التي(1/111)
أثارت حماستنا وألهبت مشاعرنا ما قام به بحارة يافا من تفجير القنابل على المهاجرين اليهود وهم ينزلون من البحر في ميناء يافا.
... واجتاحت المدينة موجة من القلق، واكتظت الشوارع بالجماهير حلقات حلقات، وكنا نندس فيها لنسمع ما يدور من حوار ونقاش، لقد كانوا يتحدثون عن الثورة العربية في القدس لمناسبة الاحتفال بموسم النبي موسى حين تحرش اليهود بالمسيرة العربية وحاولوا انتزاع العلم العربي من أيدي الشباب، ووقعت معارك دامية كانت القوات البريطانية فيها إلى جانب اليهود.. إلى غير ذلك من أمثال هذه الأحداث.
... وتألفت في المدينة جمعية إسلامية مسيحية، على غرار ما جرى في سائر أنحاء البلاد، لتقود الحركة الوطنية وتعبر عن رفض الشعب للحركة الصهيونية وتكاثرت الاجتماعات والاحتجاجات، وبدأت الاتصالات بين عكا وسائر المدن لتوحيد العمل الوطني.
... وفي غمرة هذا القلق، راح الناس يتهامسون أن المندوب السامي سيزور عكا، وأن الشباب الوطني يعد العرائض للإعراب عن رفض الانتداب ووعد بلفور والمطالبة بالاستقلال.
... وفي عصر يوم من تلك الأيام القلقة، جمعنا مدير المدرسة قبل الانصراف، وأعلمنا أننا سنكون في استقبال المندوب السامي على الطريق العام، وعلينا أن نحرص أن تكون ملابسنا نظيفة وأن لا نتخلف عن الموعد.
... وكان صوت المدير متهدجاً وهو يقول "لا تتخلفوا عن الموعد" وبدت عليه إمارات الحزن، والمعلمون من حوله مطرقون برؤوسهم إلى الأرض.(1/112)
... وفي الساحة المجاورة للمدرسة، اجتمعنا نحن التلاميذ، واتفقنا فيما بيننا أن "نهرب" في ذلك اليوم، فلا نحضر إلى المدرسة ولا إلى الاستقبال.
... وهكذا كان، فلم نذهب إلى المدرسة في صبيحة اليوم الثاني، فمنا من بقى في البيت، ومنا من خرج إلى الشارع ليراقب استقبال المندوب السامي، وكنت مع هذا الفريق.
... ووصل "هربرت صموئيل" إلى مدينتنا التاريخية التي امتنعت على نابليون، فلم يكن في استقباله أحد غير حاكم المدينة وموظفيه ورئيس البلدية.
... وسار المندوب السامي ومعه عقيلته في الشارع الرئيسي للمدينة، وحوله المقاهي مملوءة بالناس بعضهم يلعب الطاولة، وبعضهم يدخن النارجيلة، وبعضهم مستمتع في إغفاءة حلوة هانئة.
... وحين اقترب المندوب السامي من المقاهي، راح رجال الشرطة ينتهرون الناس ويشيرون إليهم بالوقوف، والواقع أن الناس وقفوا قبل ذلك متفرجين مستطلعين.
... وبقي نفر من الشباب قاعدين على كراسيهم رجلاً على رجل، غير مكترثين بهذا القادم، إعراباً عن استنكارهم للحكم البريطاني، وكان بين هؤلاء الشباب القاعدين حمدي الحسيني من الوطنيين المعروفين.
... ولقد كان هذا العمل في حينه شجاعة فريدة ووطنية ممتازة، وباتت المدينة ولا حديث لها إلاّ ما أقدم عليه حمدي الحسيني، وكان يومئذ من أساتذة المدرسة وهي تابعة للحكومة.
... وقام المندوب السامي بزيارة القلعة والأسوار والآثار التاريخية، وغادرها دون أن يأبه له أحد، بل كانت علامات الصدود والوجوم بادية على(1/113)
وجوه الناس أجمعين فكان ذلك من بوادر "المقاومة السلمية" للانتداب البريطاني والحركة الصهيونية.
... وعدنا في اليوم الثاني إلى المدرسة كأن شيئاً ما كان، فلم يسأل مدير المدرسة عن "هربنا" من المدرسة وامتناعنا عن حضور الاستقبال، فكان ذلك تضامنا "سريا" بيننا وبين أساتذة المدرسة، ورمزا للتضامن الشعبي على الكفاح الوطني الذي خاضه شعب فلسطين عبر ثلاثين عاماً.
... وانقضى العام، وانقضت معه الامتحانات النهائية، وكنت في الصف الثانوي الثاني، ولم يكن بعده صف اخر، وكنت الأول في صفي "بعلامات ممتازة" ما عدا الرسم والرياضة البدنية.
... ومع ذلك كان علي أن أبقى في المدرسة وأعيد الصف، وكان غريبا أن يعود "الأول" في صفه إلى المدرسة ليكون في الصف نفسه، ويقضي عاماً آخر.
... وكان المفروض أن أكمل دراستي في أحد المعاهد في القدس، ففيها كانت المدارس العالية يتوافد إليها الطلاب من سائر أنحاء فلسطين.
... ولكن المفروض شيء والواقع شيء آخر، فقد ثار الجدال في بيتنا: كيف يذهب أحمد إلى القدس ولا يذهب أنور؟ وكان لا يزال أمام أخي أنور عام آخر قبل أن يتم دراسته في عكا.
... وكان للخالة رحمها الله الكلمة الأولى والأخيرة، وقد عز عليها أن أتعلم في القدس وابنها يتعلم في عكا، وارتأى الوسطاء والشفعاء حّلاً لذلك أن أقضي عاما آخر في عكا وأن أنتظر حتى يفرغ أخي من دراسته وأسافر معه إلى القدس.(1/114)
... ورضيت الخالة بهذا الحل على مضض، يعزيها بقبوله ما قاله الشفعاء والوسطاء من أنني سأقوم على رعاية أخي وخدمته.
... ومضى العام وأنا أعيد دروسي حتى صرت أعرفها أكثر من الأستاذ نفسه، وازداد ترددي على مجلس الدرس الذي يعقده الشيخ عبد الله الجزار حتى أصبحت كحمامة المسجد، تغدو وتروح ولكنها لا تلبث أن تعود إلى المسجد.
... وانشغل البيت وأهله في إعداد الترتيبات للسفر إلى القدس، والالتحاق بالمدرسة وكان حدثاً كبيراً في حياة الأسرة وحديثها.
... كان أخي أنور ذكياً محبوباً يتمتع "بنفوذ" واسع في البيت، يستمده من نفوذ والدته، وأخذ الخدم والحشم يعدون له ملابسه وفراشه ولوازمه في هذه الرحلة "العظيمة" إلى القدس، ولم ينسوا كذلك أن يهيئوا له صفيحة من الجبن وصفيحة من اللبنة و "مجامع" من الحلوى، فقد بلغهم أن المدرسة في القدس طعامها رديء، ويجب أن لا "يجوع" أنور.. وهو المدلل الحبيب.
... واستغرقت هذه "الحملة" في البيت ليالي وأياماً يعدون فيها كل شيء لأخي أنور، وأنا رفيقه ليس إلا..
... وخرجنا من البيت ذات صباح، ومعنا أحمالنا وأثقالنا إلى محطة سكة الحديد، ليقلنا القطار إلى حيفا ومنها إلى القدس، وخرجت الخالة ونساء العائلة والخدم والحشم، وكان الوداع حافلاً لأخي أنور، هذا يقبله وهذا يضمه، وهذا يشمه، وهذا يدعو له بالتوفيق، وهذا يبلل وجنتيه بالدموع، وقد أسرف الخدم والحشم في الآهات والحسرات وهم يحرصون أن تراهم الخالة على هذا الحال من التوجع والتفجع.(1/115)
... أما أحمد فلم يقبله أحد، وما بكى له أحد "فإنّ حمزة لا بواكي له" كما قال الرسول في رثاء عمه حمزة.. فحز ذلك في نفسي، ولكني حمدت الله أن لي أخا ذاهباً إلى المدرسة في القدس، لأذهب إلى المدرسة معه، فمن يدري.. لولاه لما ذهبت إلى القدس وما تعلمت، وما أدري ما يكون أمري ومصيري.
... تلك هي الخواطر التي جالت في ذهني حين ركبنا القطار، أنا وأخي، بل أخي وأنا.. لنقضي ثلاث سنوات في مدرسة صهيون في القدس وتبدأ بيني وبين أخي أُخُوة ومحبة، بعيداً عن خالتي ونظراتها.
... غفر الله لها عدد تلك النظرات وما كان أكثرها!(1/116)
ليلة مع جمال باشا
... ركبنا القطار من عكا إلى حيفا، أنا وأخي ومعنا أمتعتنا المحزمة، وصفائح المؤن التي أعدت لنا بعناية وإحكام، من الجبنة واللبنة "والمربى" وكان في القطار "أبو حسين الشامي" أحد وجهاء المدينة ليصاحب ابنه إلى القدس، ويدخله في مدرسة "تراسنت" الإيطالية.
... وقد بالغ أهلنا، حين كنا في فناء المحطة، في مناشدة العم أبي حسين بأن يرعانا في سفرنا، ولا يتركنا وحدنا في هذه السفرة "الخطيرة" إلى بيت المقدس، وما كان أخطرها!
... وراح أبو حسين يسلينا بحكاياته الطريفة ومؤانسته الظريفة ليذهب عنا الوحشة ويزيل من نفوسنا مشاعر "الغربة" وسار بنا القطار ومن حوله كثبان الرمال البيضاء، تنعكس عليها أشعة الشمس، فتتوهج وتتألق كأنها روابي من الفضة، والخليج الفتان على ميمنتنا في زرقته الأخاذة، يبعث بأمواجه المتعاقبة هادئة رتيبة إلى الشواطىء، فما تصلها إلاّ ويصبح زبدها المتناثر أشبه بأكاليل الورود البيضاء.
... وأخذ أبو حسين يروي لنا الأساطير الحلوة العذبة التي يتناقلها أهل عكا جيلا بعد جيل. كيف أن الموقعة الكبرى بين المسلمين واليهود ستكون في خليج عكا وأن كل حجر سينادي "يا مسلم هذا يهودي ورائي تعال واقتله"، واجتزنا نهر النعامين ثم نهر المقطع، وسرد لنا حكاية هذين النهرين مع(1/117)
الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولماذا سمي الأول "النعامين" لأنه استجاب له عليه السلام بنعمين بدل نعم، ولأن الثاني ما استجاب فدعا عليه بالقطيعة فسمي بالمقطع!
... وكنا ونحن نستمع إلى هذا القصص الظريف، نمد رؤوسنا من نافذة القطار، لنلقي النظرات "الأخيرة" على مدينتنا الجميلة، عكا، وقد خلفناها وراءنا بأسوارها الشامخة، وقباب مساجدها ومناراتها، وبيوتها يركب بعضها بعضا، فكانت مناسبة في حينها ليروي لنا العم أبو حسين، أن أهل عكا مولعون ببلدهم لا يطيقون فراقها ويشعرون بالغربة حين يغادرونها، ولو في سفر قصير، وأنهم لذلك يحلفون "بغربتهم" حين يبتعدون عن أسوار مدينتهم ولو ميلا واحدا أو ميلين.
... ووصلنا محطة سكة الحديد في حيفا، وكانت تعج بالقطارات، فهي المركز الرئيسي للمواصلات الحديدية في فلسطين، وانتقلنا إلى القطار الذي يسافر إلى القاهرة لننفصل عنه في محطة اللد ونأخذ قطاراً آخر إلى القدس.
... وفي محطة حيفا لم يكن أمر انتقالنا إلى قطار القاهرة سهلاً، فهذا أول عهدنا بالسفر ومشاكله، ويقينا أنه لولا العم أبو حسين لكان نصيبنا الضياع بين الخطوط الحديدية، لا نعرف قطار البضائع من قطار الركاب.. ولا الرائح من الغادي!
... وهكذا اندفعنا إلى القطار نلقي بأمتعتنا من النافذة، والحمالون ينقلون صفائح المؤن من قطار إلى قطار، والفزع يملأ قلوبنا خشية أن "يفوتنا القطار" أو تضيع إحدى صفائح المؤن، أو يضيع أحدنا بين جموع المسافرين.
... وحمدت الله والعرق يتصبب على وجهي، أن اجتمع شملنا في إحدى عربات القطار، أنا وأخي والعم أبو حسين وولده، وما أن أحسسنا بالاطمئنان(1/118)
إلى مقاعدنا حتى أخذنا نعد "بضاعتنا" قطعة قطعة، ونحن أشدّ ما نكون حرصا على صفائح المؤن، فهي زادنا في المدرسة الداخلية في القدس، فستكون المجاعة نصيبنا إذا ضاعت.
... وانطلق بنا القطار في رتل طويل من العربات، يرسل صفيره حينا بعد حين، وعلى ميسرتنا جبل الكرمل يردد الأصداء كأنما يرد التحية بأحسن منها.
... وما هي إلاّ دقائق حتى خرجنا إلى السهول، نبتعد عن الشاطيء حينا ونقترب منه حينا آخر، وعادت بي الذاكرة ثماني سنوات إلى الوراء حين مررت في هذه الأرجاء في العربة من طولكرم إلى حيفا.
... ولقد كانت المعالم هي المعالم من غير تغير يذكر، فالقرى العربية بأهلها وأصحابها، والسهول يعمل بها الفلاحون العرب وهم يهزجون رجالا ونساء، والرعاة يسوقون مواشيهم، والمزمار يرسل ألحانه عبر الفضاء، ولا ترى على امتداد البصر إلاّ يهودياً واحداً أو اثنين هنا أو هناك، وكذلك فإن القطار على تعدد عرباته وازدحام ركابه لم يكن فيه إلاّ نفر قليل من اليهود، جلهم أو كلهم من اليهود القدماء، فقد كان اليهود في ذلك العهد (1924) لا يتجاوزون سبعين ألفا، معظمهم من اليهود الأوائل.
... ووصلنا محطة اللد عند الظهيرة، فسارعنا إلى "بضاعتنا" وانتقلنا إلى قطار القدس بعد أن اجتزنا نفقاً صغيراً تحت الأرض، ونحن نسأل المارة واحداً بعد الآخر، "أين قطار القدس"؟ ولم تكن في المحطة إشارات ولا علامات، وكان على المسافرين أن يعتمدوا على ذاكرتهم أو فراستهم، أو كثرة السؤال!(1/119)
... وكان سرورنا عظيماً أننا وجدنا أنفسنا أخيراً في القطار الذي يقلنا إلى القدس، وكان شوقنا الذي يلهب مشاعرنا أن نرى المدينة أولاً، والمدرسة أخيرا.
... وانطلق القطار في سيره، وهو يتصاعد شيئاً فشيئاً، عبر التلال والهضاب متعرجاً متلوياً بين الوديان، حتى بلغنا مشارف القدس، بين هضاب تتناثر من حولها الصخور الصماء، لا شجر ولا زروع، والكروم الصغيرة منثورة في السفوح وفي أكناف الوديان.
... وكان كل شيء من حولنا هادئاً خاشعاً، كأنما الطبيعة تصلي، والروابي ساجدة .. منذ الأزل.
... وقد قدر لي مع السنين أن أسافر من القدس وإليها، في القطار في الليل والنهار، وكانت هذه المعاني تتأكد في نفسي وتلقي جذورها إلى أعماق الأعماق، وأنا لا أدري ما سر الجمال والجلال، وهما يشعان حول بيت المقدس في روابيها، وما سر البهاء والسناء يخيمان في وديانها.
... ولقد قدر لي كذلك في حياتي "المسافرة" في القارات القديمة والحديثة، أن أشهد أروع المشاهد وأبهاها، وكثير منها زادته يد الإنسان حسنا ورواء، ولكني كنت أرى أن "حول" بيت المقدس أبدع وأروع.
... وكنت أسأل نفسي عن السر المكنون في ذلك كله، وكنت أجد الجواب في ثنايا التاريخ عبر العصور، وما كان نصيب بيت المقدس وما حوله من هذا التاريخ. وما أحسّ إلاّ وشفتاي تتمتمان "سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا" ثم(1/120)
أردد بعد ذلك قول الرسول العظيم (ص) "إن الجنة لتحن شوقاً إلى بيت المقدس".
... وما أحسسنا كيف مضى بنا الوقت، والقطار يئن وئيدا وهو يتسلق الجبال حتى وصلنا محطة القدس، فتدافع المسافرون ونحن معهم من النوافذ والأبواب وتسابقنا إلى فناء المحطة، حتى نضمن لنا عربة تقلنا إلى المدينة، وركبنا في واحدة وأركبنا بضاعتنا في عربة أخرى.
... وأطلق السائق العنان لخيوله حتى وصلنا أسوار المدينة واجتزناها من أحد أبوابها إلى فندق "أفتيموس" ولعل هذا اسم صاحبه.
... وكان هذا الفندق على مقربة من كنيسة القيامة ومسجد عمر، وسط المدينة القديمة ومن حوله الأسواق والمتاجر.
... وكان لهذا الفندق ردهات واسعة وممرات طويلة وحجرات متعددة يحتاج المسافر إلى خريطة، أو دليل ليتعرف على مداخله ومخارجه.
... ومن الصدف الغريبة أنني وجدت على إحدى طاولات الفندق كتاب مذكرات "جمال باشا" مترجماً إلى اللغة العربية، وحملته وذهبت به إلى غرفتي، وألقيت نفسي على الفراش الوثير وهذا الكتاب بين يدي.
... ولم يكن بي ميل إلى النوم، وزاد من يقظتي أنني وجدت هذا الكتاب وأيقنت أنني سأجد فيه شيئاً عن والدي.
... و أخذت أقرأه صفحة بعد صفحة، ولكني رأيت أن الليل قد ينقضي دون أن أتمه، فرجعت إلى فهرس الأعلام في آخره، فوجدت اسم والدي في عدة مواضع فقرأت صفحاتها واحدة بعد الأخرى، ثم عدت إلى قراءتها مرة ثانية.(1/121)
... ولم أكن عشت طفولتي وصباي مع والدي، في حجره وحضنه كالعهد بالأبناء مع الآباء، ولكني كنت متضايقاً متحرجاً إلى حد لا يوصف من الحملة الشائعة التي كانت تدور – حول والدي، وما كان يقال حول الشهداء العرب الذين أعدمهم جمال باشا، أثناء الحرب العالمية الأولى حتى لقب "بالسفاح".
... وكنت أقرأ في بعض صحف فلسطين حملات متواصلة على والدي بهذا الصدد، وأنه أفتى بإعدام الشهداء، كما كنت أقرأ في بعض المناسبات مقالات مضادة من بعض المواطنين يشيدون فيها بشفاعات الشيخ أسعد لدى جمال باشا.
... وكان هذا "الجو السياسي" المحموم يملأ نفسي، فقد كنت أعتبر نفسي "وطنيا" بين صفوف الطلاب، وكان يضايقني أنني ابن ذاك الذي أفتى بإعدام الشهداء!
... وفي تلك الليلة في أوتيل أفتيموس سرى عن نفسي وأحسست أن "خراجا" في صدري قد انفقأ، وانبجس صديده واسترحت.
... لقد قرأت المذكرات وهي تروي كيف كان والدي يلح على جمال باشا بأن لا ينفذ حكم الإعدام في شهداء العرب، وكيف كان يتوسل إليه بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، حتى أنه جثا أمامه على ركبتيه فزجره "أن لا يتحدث عن هذا الأمر بعد اليوم".
... لقد هدأت نفسي وأنا أقرأ كل هذا، وكأنما حصلت على براءة تاريخية تنصف والدي فازداد اقترابي منه، وما هي إلاّ لحظات حتى سقط الكتاب من يدي، وسقطت يدي على الفراش، وتراخى رأسي على وسادة ناعمة وثيرة في نوم هانىء هادىء.(1/122)
... وما هي إلاّ بضع ساعات حتى استيقظ سمعي وفؤادي وكل جوارحي على "الآذان" المهيب الرهيب الحبيب "الله أكبر" يتجاوب في منعرجات بيت المقدس، لا يقطعه إلاّ خطوات المارة تضرب في الشوارع المبلطة، وهم في طريقهم إلى المساجد والدكاكين، يصلي من يصلي، ويفتح الحوانيت من يبيع ويشتري!
... ولم يكن المؤذن يرتل في صوت جميل فحسب، ولكنه في أذانه كان يتعبد في خشوع وخضوع، حتى لقد كان يرسل تكبيراته من فؤاده لا من حنجرته، وكان كل شيء هادئاً كأنما وقفت الدنيا لتستمع إلى هذا الأذان الرخيم.
... وجاءني صوت المؤذن "تهليلا" كما يجيء للأطفال ليناموا، فعدت إلى نومي العميق دون أن أسمع المؤذن وهو يصيح "الصلاة خير من النوم" فلم أكن قد نمت إلاّ قليلا، وقد أرقتني مذكرات جمال باشا ولم أستيقظ إلاّ وأخي أنور يقرع عليّ الباب، واستيقظت.. لنبدأ حياة جديدة في المدينة القديمة!(1/123)
المستحيلات قبل أربعين عاما
... قضينا يومين أو ثلاثة في مدينة القدس، قبل أن ندخل المدرسة، ونحن نطوف بالشوارع ونتسكع في الميادين العامة وأمام واجهات الدكاكين، فكان كل شيء رائعاً يأخذ بمجامع القلوب.
... ولقد أصبحنا أمام التاريخ وجها لوجه، نعيشه واقعاً حياً، بعد أن كنا نحفظه عن ظهر قلب ونحن في المدرسة في عكا، فها نحن الآن أمام الأسوار التي قرأنا تاريخها، وسيرة المعارك من حولها، وها نحن نجوس خلال بواباتها القديمة، وكنا نسردها غيباً بين يدي أستاذنا وبالترتيب الذي يصر عليه، وها نحن في جنبات المسجد الأقصى المبارك نستذكر كل تاريخه، وها نحن في كنيسة القيامة عامرة بالأسس والزوار، يجلس على بابها الشيخ المسلم بعمامته وجبته يحفظ مفاتيحها، وها نحن أمام جامع عمر قبالة القيامة، حيث صلى الفاتح العظيم، بعد أن فرغ من زيارة الكنيسة.
... وكان كل شيء ينطق بالتاريخ، حافلاً بأجمل الذكريات وأروعها، وكنا كلما وقفنا أمام هذه المعالم العظيمة، تقدم إلينا "الدليل" ليروي لنا طائفة من التاريخ والأساطير، في قصص حلو عذب، نعيش معه عبر القرون والأجيال، منذ الإسراء والمعراج، إلى الفتح العمري، إلى أيام صلاح الدين،(1/124)
إلى عهد الدولة العثمانية، حتى دخول المارشال "اللنبي" إلى بيت المقدس، وسقوط فلسطين على أيدي جيوش الحلفاء في عام 1918.
... وكنا، أخي وأنا نستمع إلى محاضرة الدليل بشغف وشوق، ونحن نتساءل، لِمَ لمْ يعلمنا أستاذنا في عكا تاريخ بيت المقدس كما سمعناه من الدليل، فكل الذي حفظناه في المدرسة أسماء الأبواب وعدد البرك التي تشرب منها المدينة، وقائمة طويلة بتواريخ السنين والأحداث، منذ الخليقة حتى العصور الحديثة.
... وكان أكثر ما أثار دهشتنا واستغرابنا ونحن نجوس في شوارع المدينة ونقف أمام معالمها كما يفعل السياح، زيارتنا لحائط "المبكى" وقد وصلنا إليه من زقاق متعرج خلف جدار المسجد الأقصى.
... ولم يدر بخلدي أنني أطأ بقعة من وطننا سيدور عليها صراع رهيب وتاريخ عجيب، وكل ما رأيته عند حائط "المبكى" بضعة عشر يهودياً يمدون أيديهم على الحجارة الضخمة لجدار المسجد الأقصى، وهم يبكون وينوحون، ويبتهلون ويدعون.
... وسألت الدليل ماذا يفعل هؤلاء اليهود هنا؟ فقال لي هازئاً، ساخراً، انهم يبكون على خراب هيكل سليمان ويدعون الله أن يمكنهم من إعادة بنائه.
... فقلت للدليل بحماسة الصبي واندفاعه، أليس المسجد الأقصى بجداره ملكا لنا نحن المسلمين، فأجابني الدليل بلهجة العارف الواثق: ان المسجد لنا، وحائط "المبكى" هو جدار المسجد، والأرض التي يطؤها اليهود وهم يبكون ويدعون هي ملكنا.. نعم انها ملك المسلمين!(1/125)
... ولكن جواب الدليل قد أثار في نفسي طائفة من الأسئلة تدافعت على لساني تدافع الرصاص من بندقية سريعة الطلقات، فأخذت أسأله: إذا كان ذلك كذلك، فكيف يجوز لليهود أن يصلوا إلى جدار المسجد الأقصى، وكيف سمح لهم أن يدخلوا هذا الحي وهم لا يملكون فيه شبراً واحداً، وكيف يجوز لهم أن يقيموا الصلوات ويرسلوا الابتهالات وهم يدعون الله أن يعيد بناء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى؟ ولكن وقت الزيارة لم يكن يسمح للدليل بالجواب.. وربما كانت الأسئلة عند الدليل، من غير جواب.
... وكان وراء هذه الأسئلة تاريخ طويل لم يكشف عنه النقاب إلاّ في العام 1929 يوم عرض الأمر على لجنة دولية في أعقاب صراع دموي بيننا وبين اليهود بصدد حائط "المبكى"، وما يزعمه اليهود من حقوق، وكان لي دور بصدد اللجنة الدولية سيأتي ذكره.
... ولكن الدليل عاد بنا أدراجنا من خلال أزقة التاريخ ومعابر الماضي، وهو يقول: هذه خرافات وخزعبلات يهودية ونحن لا نقيم لها وزنا، وهل يعقل أن يتغلب علينا هؤلاء اليهود، فقلت له: أبداً ليس من المعقول، إنه مستحيل..
... والواقع أن أحدا على وجه الأرض، حتى من غلاة اليهود أنفسهم، لم يكن يخطر على باله أو في خياله، وأضغاث أحلامه أنه سيأتي بعد خمسة وأربعين عاما، ذلك اليوم الذي يشهد فيه جيلنا القوات الإسرائيلية "تفتح" بيت المقدس، ويقيم اليهود الصلاة الكبرى أمام حائط "المبكى"، ويهدمون المباني(1/126)
من حوله ليجعلوا منها ساحة رحبة تتسع لجماهير المصلين انتظاراً لليوم الموعود لإقامة الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى.
... لم يكن يخطر على بال أحد أن يقع شيء من هذا، وفي الدنيا العربية مئة مليون من البشر (1) ، من حولهم في الدنيا الإسلامية ستماية مليون آخرون (2) يعرفون مقام المسجد الأقصى في حياة العروبة والإسلام، بوصفه أولى القبلتين وثالث الحرمين.. لم يكن ذلك يخطر في بالي وأنا أجوس خلال بيت المقدس مع الدليل العزيز.
... ثم كانت لنا جولة في القدس الجديدة، خارج الأسوار، وطفنا بأحيائها القائمة على الروابي هنا وهناك، والمنازل مبنية بأحجار القدس الفاتنة تتوهج مع الشمس نهاراً وتتألق مع ضياء القمر ليلا، وكان لليهود حيان أو ثلاثة تعرف بروائحها المنبعثة من أزقتها ومجاريها، على حين كانت الأحياء العربية بالغة الروعة في هندستها وجمالها وتناسق حدائقها كأجمل ما تكون أجمل الأحياء السكنية في العالم، ومع ذلك فقد كان يطيب للدعاية الصهيونية أن تشيد بالتقدم اليهودي وتنعى على العرب تخلفهم وتأخرهم في كل ميادين الحياة.
__________
(1) * أصبح العدد الآن نحو ثلاثمئة مليون نسمة.
(2) ** أصبح عددهم الآن نحو مليار ومئتي نسمة.(1/127)
... وكان "الوجود اليهودي" في بيت المقدس جديدا علي فلم يكن في مدينتنا "عكا" جاليات ولا منشآت يهودية، شأن كثير من المدن العربية في فلسطين.
... وكنت، لذلك أمُدّ بصري بنظرة فاحصة إلى هذا الوجود اليهودي في بيت المقدس، فكان يملأ نفسي حيرة وتساؤلاً.
... دخلت الأحياء اليهودية كما كان يدخلها أي عربي، ووقفت أمام المقاهي والمتاجر اليهودية كما يفعل أي عربي، في ذلك العهد، وكان معظم اليهود من الشرقيين وكثير منهم يتكلم العربية بلكنة يهودية، ومعظمهم من اليهود القدامى، ولم تكن المشاعر متجهمة بين العرب واليهود وهم يتجولون في الشوارع الواحدة، أو يجلسون في المقاهي الواحدة، ولكن مشاعر الصفاء لم تكن قائمة كذلك.
... لقد كان الجو غريباً حقا، وغامضاً حقاً، بالنسبة لنا نحن العرب على اختلاف أعمارنا وأجيالنا إزاء الصهيونية.
... لقد كانت خطط الصهيونية وأهدافها كما كنا نقرأ عنها في صحفنا واضحة لا لبس فيها ولا إبهام، لابد أن تؤدي إلى إجلائنا عن وطننا، تلك كانت النتيجة المنطقية للحركة الصهيونية.
... ولكننا لم نكن نصدق أن هذا المنطق يمكن أن يتحقق، بل كان يخامرنا اليقين أنه يستحيل أن يتحقق.
... ولقد مرت هذه الخواطر سريعة في نفسي وأنا أرى هذا الوجود اليهودي لأول مرة في بيت المقدس، وأخذ السؤال الرهيب يلح علي، هل سيتحقق المستحيل، هل ستقع المعجزة، هل سينكفىء التاريخ على وجهه(1/128)
وتقوم الدولة اليهودية في فلسطين ونخرج من مدننا التى بنيناها، وقرانا التي أنشأناها، وأرضنا التي عشنا في مرابعها عبر العصور والأجيال؟
... وكان الجواب يدوي في نفسي: مستحيل..
... أجل مستحيل، ألسنا أصحاب الوطن منذ فجر التاريخ، ألسنا أكثريّة واليهود أقلية، أليست هذه المدن والقرى والمزارع والمصانع والمروج والمراعي والجبال والوديان عربية، بنيناها وأنشأناها وصنعناها وملكناها، نحن وآباؤنا وأجدادنا منذ القدم، فكيف نخرج منها، ومن يستطيع إخراجنا منها؟
... وتتدافع هذه الأسئلة وعشرات مثلها، ثم أعود إلى نفسي فأستمع إلى الجواب الصارخ الصامت، مستحيل.. مستحيل.
... وخرجت من الأحياء اليهودية وعدت أدراجي إلى المدينة القديمة، وخلفت هذه الهواجس ورائي، لتحل محلها شؤوني في المدرسة، وما يقتضي لها من تحضير وإعداد.
... وانطلقنا أخي وأنا، إلى الأسواق نشتري ما يلزمنا من الملابس والكتب والأدوات المدرسية.
... ولقد أشبعنا نهمنا من كل جديد، وكانت الأسواق غاصة بالطلاب الوافدين من كل أنحاء فلسطين، ملأوا الدكاكين وهم يشترون لوازمهم، استعداداً للدخول إلى المدرسة، وكنا نمعن النظر فيما يشترون، ونسترق السمع لنعرف السعر الذي به يشترون، حتى لا يستغفلنا التجار، وبيت المقدس بلد سياحي، والتجار فيه لا يتورعون ولا يتعففون.(1/129)
... وحملنا متاعنا إلى فندق أفتيموس وكأنما كنا نحمل الدنيا بأجمعها، ولم تكن الدنيا عندنا إلى ذلك العهد، إلاّ الكتاب وقطعة الحلوى وجزمة اللعب، دون أن نعلم ما يخبىء القدر لجيلنا من كوارث وأهوال تصل بنا إلى تشريد شعبنا، والنزوح من وطننا.
... وأطبقنا أجفاننا تلك الليلة على الحقائب الصغيرة التي جئنا بها من الاسواق، فملأت نفوسنا سروراً وحبوراً.
... وكانت ليلة حالمة، عامرة بأحلى المنى، سرعان أن حل محلها الشعور بالانقباض والرهبة عند اليقظة في الصباح الباكر.
... وكيف لا تنتابنا مشاعر الانقباض والرهبة، ونحن نغادر الفندق إلى جبل صهيون.. إلى المدرسة.. إلى السجن الصغير.(1/130)
نشأت على جبل صهيون..
عدواً للصهيونية
... خرجنا من فندق أفتيموس، وأخذنا نصعد في شوارع المدرسة المبلطة بين الدكاكين، والجماهير تتزاحم مناكبها، صاعدين أو نازلين، كل في شأنه، هذا إلى المسجد الأقصى وذاك إلى كنسية القيامة، وآخر إلى متجره ومصنعه، وطوائف من الناس من كل بقاع الأرض وافدون على بيت المقدس ليجتلوا طلعتها البهية، وينعموا بآثارها الرائعة، ويسيروا في مواكب التاريخ تحف بهم نفحاتها القدسية.
... واجتزنا باب الخليل وأصبحنا في المدينة الجديدة، ثم أمسكنا بالطريق المؤدية إلى جبل صهيون، وألفينا أنفسنا وجها لوجه أمام مدرسة صهيون، وهناك عند بوابتها المقفلة ألقينا برحلنا: صفائح الجبن واللبنة، وحقائب الملابس، وجسدان ناحلان مبهوتان، ينتظران أن يفتح الباب، هما أنا وأخي أنور، غريبان بعيدان عن الأهل والبلد.
... ومضت برهة، وفتح لنا، فدخلنا ساحة المدرسة، ومنها صعدنا إلى قاعة للنوم فيها ما يقرب من ثلاثين سريرا. فوضعنا أمتعتنا في دواليب خاصة، وأحسسنا أخيراً أننا في مدرسة داخلية تملأنا مشاعر الوحدة في بيئة غريبة عنا، كل ما فيها وما حولها يوحي بالوحشة والرهبة. وأول ما نفرت(1/131)
منه نفسي أن يكون اسم هذه المدرسة مدرسة صهيون، فالصهيونية بغيضة على قلوبنا، وإن كانت في ذلك العهد لم تتشكف أهدافها ولا خطرها.
... ولقد مكثت في هذه المدرسة ثلاثة أعوام حتى 1926 ولم يغب عن ذهني يوما من الأيام أنني أقيم على الجبل الذي أعطى الصهيونية اسمها وتاريخها، وهكذا نشأت على جبل صهيون لأكون واحدا من الدّ أعداء الصهيونية.
... ولكني وجدت العزاء حين علمت أن هذه المدرسة قد أسست قبل أن تنبثق الصهيونية كحركة منظمة معروفة، وأن الجمعية التبشيرية المسيحية البريطانية Christian Missionary Society هي التي أسستها، وأن اسمها الأصلي مدرسة المطران كوبت Gobat .
... ولقد وقع اختيار والدي على هذه المدرسة لأنها تهتم بالعلم والنظام، خلافا للمدرسة التبشيرية الأخرى في بيت المقدس، مدرسة "المطران" الإنجليزية التي تجعل للألعاب الرياضية، دوراً بارزاً، أو هكذا كان الشائع من أمرها.
... وكان رئيس المدرسة قسيساً بريطانياً اسمه "الس" تخرج على يديه عشرات من رجال فلسطين، أصبحوا من كبار موظفي حكومة فلسطين،أمّا بقية الأساتذة فهم عرب معظمهم من أبناء القدس، وكان قسط المدرسة، عن المنام والطعام والتعليم، اثنين وأربعين جنيها فلسطينيا "استرلينيا"، ويعتبر هذا المبلغ في ذلك الحين كبيراً ولا يستطيعه إلاّ الموسرون، وكان حديث الناس في عكا أن الشيخ أسعد الشقيري يدفع عن ولديه في مدرسة صهيون مبلغاً(1/132)
كبيرا.. أربعة وثمانين جنيها، خلاف الكتب المدرسية ونفقات السفر، ومصاريف الجيب، وهذه لم تكن تتجاوز نصف جنيه في الشهر الواحد.
... ومضت أيام قاسية وأنا أحاول أن أتعرف على هذه البيئة الغريبة، فجميع التلاميذ يتكلمون باللغة الإنجليزية، والحديث بالعربية ممنوع منعاً باتاً، والأساتذة يندسون بين التلاميذ في ساحة المدرسة حتى "يقبضوا" على طالب يتكلم العربية، وكانت معرفتنا بالإنجليزية طفيفة جدا، وكنا نعجب أشدّ العجب لهؤلاء الطلاب الذين يتكلمون الإنجليزية بطلاقة عجيبة وبلهجة إنجليزية رنانة.
... ثم كانت حكاية النوم، فكنا ننام في قاعة يتزاحم فيها ثلاثون سريرا، وعلى بابها من الخارج "سطلان" كبيران، لا ينفك التلاميذ ليلا، غادين رائحين ليبولوا فيهما. ويجيء بعد ذلك الحمام، فهو قاعة مستطيلة تتسع لخمسين طالبا، ويعطي كل طالب "طستا" واحدا من الماء صباحاً ليغسل وجهه، وصفيحة واحدة من الماء الساخن ليغتسل بها مرة أخرى في الأسبوع، ذلك أن القدس كانت شحيحة الماء في ذلك الوقت.. قبل أن يجر إليها الماء من "راس العين" في سهل يافا.
... أما الطعام فقد كان قليلاً ورديئا، ولا أدخل في تفاصيله، ويكفي أن نعلم أن أجود أوقاته، عشاء يوم الأحد، بيضة واحدة مسلوقة وخبز وفنجان من الشاي، ثم صلاة بعد ذلك "خبزنا كفافنا أعطنا اليوم" وهذه الوجبة "الفاخرة" بعد نزهة عنيفة في روابي القدس تمتد بضع ساعات، صعوداً إلى الجبال ونزولاً في الوديان.(1/133)
... وكان يزيدنا حنقا كما يزيدنا جوعا، أننا كنا نرى مائدة الأساتذة في أول القاعة، وهي حافلة بأطباق الطعام، نحن جائعون وهم يشبعون، ولم أكن قد حفظت في ذلك الوقت قول الشاعر، فيا عطشي والماء يجري.. وكنا حين نغادر قاعة الطعام نتدافع إلى الرواق المجاور حيث دواليبنا، نفتحها، ونقبل على صفائح الجبنة واللبنة والمربى، نأكل حتى نشبع، وكان الطلبة يتبادلون ما عندهم، وكل واحد يفاخر أن ما عنده أجود وأدسم، وأن أمه، فيما صنعت، أبرع وأمهر.
... وما هي إلاّ أيام حتى ألفنا هذا الشظف بكل ألوانه، كما ألفنا حياة المدرسة الداخلية على هذا الجبل، بعيدا عن العمران ومن حولنا سور المدرسة نطل منه على الأودية من حولنا، وأحياء المدينة الجديدة على مقربة منا.
... ولم يكن يسمح لنا بالخروج من المدرسة إلاّ بعد عصر الأربعاء الثالث من كل شهر، لبضع ساعات، نقضي معظمها في المطعم لنأكل ما نشتهى، ونقضي الوقت الباقي في شراء البيض والفاكهة لنحملها معنا إلى المدرسة. وبذلك تكون الإجازة كلها طعاماً في طعام.
... وكانت صعوبة الصعوبات أمامنا هي اللغة الإنجليزية، فجميع الدروس تدرس بالإنجليزية، ولم يبق إلاّ أن ندرس العربية بالإنجليزية!
... والواقع أننا جئنا إلى هذه المدرسة لنتعلم الإنجليزية ونجيدها، فالحكم في البلاد بريطاني، وكان حديث الناس أن المستقبل هو لمن يجيد الإنجليزية، وكان مستواي العلمي فوق صف التخرج في العربية والرياضيات والتاريخ والجغرافيا.. كل ذلك باللغة العربية فقط.(1/134)
... ولم أستطع أن أجد مخرجاً من هذه "الأزمة" في الاستماع إلى محاضرات الأساتذة. فقد كانوا يدخلون إلى "الصف" ويلقون الدرس ويشرحونه بالإنجليزية، دون أن أصيب شيئاً إلاّ الضجر والسأم، لا العلم ولا الفهم.
... ورأيت أن خير وسيلة أن ألجأ إلى "الحفظ" فكنت أحفظ الدرس كله عن ظهر قلب، مستعينا بالقاموس لتفسير بعض الألفاظ، وبقيت على هذه الحال بضعة أسابيع.
... ولقد كانت هذه الطريقة قاسية ومريرة، خفف منها أنني كنت سريع الحفظ، حسن الذاكرة، ولكنني أحسست فيما بعد بفائدتها الكبيرة، فقد حشدت ذاكرتي بعبارات ومفردات وتعابير أصبحت نواة للغتي الإنجليزية في مختلف المراحل من حياتي، فكانت زادي، في مرافعتي بالإنجليزية أمام المحاكم الفلسطينية بضعة عشر عاما، وأهلتني لأرتجل كثيرا من خطبي في الأمم المتحدة وفي سائر المحافل الدولية.
... ولقد كنت أجد من الوقت ما ليس ميسوراً لسائر التلاميذ ، فقد أعفيت من حضور حصة اللغة العربية، فقد كنت حفظت شواردها ونوادرها على أيدي أساتذتي في عكا، وكنت، وغرور الصبا يملأ نفسي، أماحك أستاذ العربية في صهيون وأمطره بالاسئلة عن قواعد الصرف والنحو، ولم يكن "أزهريا" في مثل حالي، فرأى أن يتخلص مني فكان كريماً ولطيفا، فأعفاني من الدروس ومن الامتحانات أيضا.
... ومن هنا أصبح رفاقي يطلقون عليّ لقب "أستاذ" ينادونني به في ساحة الملعب بصوت عال، ولم يكن الأساتذة يظنون أن أحدا منهم هو(1/135)
المقصود بهذا النداء، ذلك أنهم كانوا يعرفون "مستر جورج" "مستر أسعد" "مستر وهبة" وهذه فعلا كانت أسماء بعضهم، رحمهم الله.
... ورغم أن مدرستنا كانت أشبه بسجن في بنائها ونظامها، فقد كانت شؤون الوطن تخترق الأسوار من حين إلى حين، بعضها عن طريق رفاقنا من طلاب القدس – الذين لم يكونوا داخليين- وبعضها عن طريق إحدى الصحف المقدسية التي كانت تصل إلى أيدينا في فترات متقطعة.
... وكان أهم ما أثار خواطرنا في ربيع 1925 زيارة اللورد بلفور إلى بيت المقدس، لمناسبة افتتاح الجامعة العبرية في أواخر حكم المندوب السامي الصهيوني هربرت صموئيل. فقد آلمنا أن نرى في وطننا ذلك الوزير البريطاني الذي صدر باسمه التصريح بإنشاء الوطن القومي اليهودي، وقد قمنا نحن الطلاب بدورنا القومي فاتصلنا برفاقنا في المعاهد العلمية الأخرى للإعراب عن استنكارنا لهذه الزيارة البغيضة.
... وكان أن أضربت البلاد ثلاثة أيام، ورُفعت الأعلام السوداء في البلاد، ورفضت دائرة الأوقاف في القدس أن تسمح للورد بلفور بزيارة الحرم الشريف، وألغيت كذلك صلاة كان يعتزم أن يؤديها في الكنيسة الإنجليزية، لأن رفاقنا طلاب مدرسة المطران رفضوا أن يرتلوا الأناشيد اللازمة في مثل هذه المناسبة.
... ولم يهدأ بالنا إلاّ حين غادر بلفور بلادنا إلى سوريا ليلقى مظاهرات هائجة صاخبة لم يستطع معها إلاّ أن يهرب إلى دمشق تحت جنح الظلام لينجو بحياته.(1/136)
... وكان بين رفاقنا طالبان يهوديان أخوان أرسلهما والدهما من أمريكا اللاتينية، ليتعلما اللغة العربية في مدرسة صهيون، وكانا يجيدان اللغة الإنجليزية إجادة تامة، وكان أحدهما عبوسا تبدو في وجهه أمارات الغدر والمكر، والآخر سمحا ضحوكا يغلب عليه اللطف والطيبة.
... ولم تكن الصهيونية قد كشرت عن أنيابها إلى ذلك العهد، ومع هذا فقد كان الطالبان اليهوديان وخاصة العابس منهما يتحدثان عن الصهيونية وأهدافها في وعي وإدراك، وهما يؤكدان أن اليهود يريدون العيش بسلام مع العرب!
... ولم يكن التلامذة يأخذون هذين الطالبين مأخذ الجد، وكان الحوار يدور معهما هادئا، وإن لم يكن يخلو من الخشونة أحيانا ولكن من غير عنف.
... وعلى عادة التلامذة، كان البعض يطارد هذين الطالبين اليهوديين في ساحة الملعب في مداعبة خشنة أو ما إلى ذلك، كان من عادة هذين الطالبين اليهوديين أن يحتميا بي، لأرد عنهما مطاردة المطاردين.
... ولم أكن أتردد في حمايتهما ورد "المغيرين" عنهما، ثم تعود الألفة إلى نصابها، وأثناء الثورات العربية، كانا يلجآن إلى البيوت العربية، فيجدان الأمن والسلامة، وقد لا يكون في البيوت إلاّ النساء العربيات، تؤويهما وتحميهما، فلا غرو أن أحمي طالبين اثنين في غمار حوار طلابي لا يصل إلى مرحلة "الصدام المسلح".
... ولقد شاء القدر أن يكون ذلك الحوار هو نواة هذا الصراع الرهيب الذي خاضته الأمة العربية مع الصهيونية لعشرات السنين، وما تزال حتى يومنا هذا، وستظل تخوضه إلى غدنا القريب أو البعيد، حتى يأذن الله "بفتح"(1/137)
فلسطين، وإعادتها إلى الحظيرة العربية، وعودة شعبها إليها حراً عزيزاً كريماً.
... ولن تعود فلسطين إلى أهلها بالسياسة، ولا بالدعاية، ولكن بواحدة من تلك "الفتوحات التاريخية" التي عرفها التاريخ الإنساني.
... وإنها آتية لا ريب فيها، ذلك إيماني، وذلك علمي وخبرتي وكل آت قريب، يرونه بعيداً ونراه قريباً.
... أجل إنه فتح قريب، ولكن بالوحدة.. وبالوحدة وحدها.(1/138)
لك الله يا غزة
... كان الطلاب في مدرسة صهيون من جميع أنحاء فلسطين، من المدن والقرى على السواء، وكانت أكثريّة الطلاب من المسيحيين ومعظمهم من الطائفة الإنجيلية، فقد كانت المدرسة تبشيرية بروتستانتية، وكان الطلاب المسلمون بضعة عشر بين مئتي طالب أو يزيد.
... وكانت المدرسة "مسيحية" في كل تقاليدها، يدرس الكتاب المقدس على الجميع، والصلوات المسيحية تتلى قبل الطعام وبعده، والأعياد المسيحية لا يحتفل بغيرها، والذهاب إلى الكنيسة أو حضور مدرسة الأحد بديلاً عنها، واجب لا مهرب منه إلاّ بالمرض أو التمارض.
... ورغماً عن هذا الجو المسيحي الخالص، فقد كانت العلاقة بين الطلاب المسيحيين والمسلمين على ود خالص، ولقد كنا نحن الطلاب المسلمين حين نخلو إلى بعضنا نبدي استياءنا ونعجب كيف يرسلنا أهلونا إلى هذه المدرسة التبشيرية، وكان رفاقنا المسيحيون "يتضامنون" معنا في هذه المشاعر.
... وكنت أذهب إلى الكنيسة يوم الأحد، كما يفعل غيري من الطلاب المسلمين، يحفزنا إلى ذلك أننا ننتهزها فرصة للخروج من المدرسة المسورة المحصنة، فقد كانت الكنيسة الإنجيلية على مسافة ساعة واحدة مشيا على الأقدام، وما أحلى السير في شوارع القدس في الأيام الصحوة الناعمة.(1/139)
... ولقد زاد من إغرائي على الذهاب إلى الكنيسة، أن راعيها كان القس صالح سابا، وكان خطيباً مفوهاً ينطق العربية بلهجة "أصمعية" وكان الذين يحسنون النطق بالعربية من"الإنجيليين" قلة قليلة.. وكانت الطقوس في الكنيسة عادية بسيطة تقتصر على الأناشيد الدينية وخطبة الأحد، خلافاً لما كنا نراه في الكنيسة الأرثوذكسية في عكا حيث كانت تقام الصلوات والطقوس باليونانية.
... وفي فصول الدراسة تعلمت الكتاب المقدس، العهد القديم والعهد الجديد، باللغة الإنجليزية القديمة، وحفظت كثيراً من الأمثال والقصص عن ظهر قلب، وأصبحت "مبرزا" في هذا الموضوع، متفوقاً على أقراني المسيحيين.
... وكان من المفارقات اللطيفة، أنني حزت جائزة التفوق في الكتاب المقدس في الأعوام الثلاثة التي قضيتها في المدرسة.
... وكم كان عجيباً وغريباً، في الاحتفال السنوي في كل عام، حيث توزع الجوائز، أن مدير المدرسة، وهو قسيس كبير، كان يصيح بأعلى صوته جائزة الكتاب المقدس تمنح إلى أحمد أسعد الشقيري، وهكذا كان "الشيخ" الصغير ابن الشيخ الكبير ينافس المسيحيين في دينهم، ويتفوق عليهم في كتابهم.
... وجاءت الأعوام بعد ذلك لألتقي بالمبشرين الذين كانوا يتوافدون كثيرا على فلسطين، لأعقد معهم حوارا في "الثالوث" و "الناسوت" و "الماكوت" و "اللاهوت" ومن نصوص الكتاب المقدس.(1/140)
... ولكن ما هو أهم من ذلك، أن دراسة الكتاب المقدس، فوق أنها مكنتني من اللغة الإنجليزية "العريقة" كانت لي زادا كبيرا في الأمم المتحدة وخاصة لدى وفود أمريكا اللاتينية، حتى ظن بعضهم أنني مسيحي من البلاد المقدسة، فلقد جاءت مناسبات عديدة فندت فيها مزاعم الصهيونية من ناحية دينية مسيحية، وكانت جولدا ماير (وزيرة خارجية إسرائيل) وزميلها من بعد "إيبان" يشيران من طرف خفي، إلى أنني مسلم أستغل الكتاب المقدس للدعاية السياسية.
... وعلى كل حال فقد كنا ننعم بالتقاليد المسيحية بسرور بالغ، ففي عيد الميلاد وعيد الفصح كانت الدراسة تعطل لأسبوعين أو ثلاثة، نعود خلالها إلى عكا لنستمتع بدفء شاطئها الجميل، ونخفف عنا البرد القارس الذي نعانيه في القدس على هذا الجبل الذي تتناوح من حوله العواصف القاسية.
... كان سفرنا إلى عكا بالقطار، ولم نكن ننام ليلة السفر، فالقطار يغادر القدس بعد منتصف الليل، وكنا نحمل حقائبنا على أكتافنا وننزل من "قدومية" (1) حادة من جبل صهيون إلى المحطة، ولست انسى تلك الليلة التي سقط فيها أحد الأساتذة في (القدومية) فكسرت ساقه، فقضى عطلة الميلاد في المستشفى، بدلا من أن يقضيها مع أهله وذويه في بلده. وكنا نملأ القطار الذي يقلنا بالمرح والفرح، ونحن في طريقنا إلى مدننا وقرانا، ولكنا حين العودة بعد انتهاء العطلة، كنا في صمت مطبق لا نكاد ننبس ببنت شفة، حتى إذا دخلنا المدرسة وألقينا حقائبنا عن أكتافنا عاودنا الحنين والشوق إلى الأهل والبلد.
__________
(1) * قدومية :أي مسربة ترابية في سفح جبل وهي ضيقة يجتازها المرء على قدميه.(1/141)
... وفي إحدى العطلات التي قضيناها في عكا، أذكر أن السيد شكري القوتلي وكان من قادة الحركة العربية في ذلك الوقت، جاء إلى المدينة ليدعو إلى إنشاء شركة "الكونسروة" لحفظ الخضار والفواكه وتعليبها – وكان أن عقد اجتماع في دائرة الاوقاف – في جامع الجزار- حضره أغنياء المدينة وتجارها، وقد حضرت هذا الاجتماع مستمعا، فقد كنت كثير التردد على الجامع ألتقي بالشيوخ وطلاب العلم.
... وكانت شهرة السيد شكري القوتلي تملأ أسماعنا، وتوقعت أن أستمع إلى خطاب وطني رائع، فقد كانت هذه هي روح تلك الأيام، ولكن خاب الظن.
... وقف القوتلي وتحدث حديثا عاديا، عن مزايا هذه الشركة ودعا الحاضرين إلى المساهمة.. وشرح فوائدها الاقتصادية، وانتهى الاجتماع على غير جدوى، ذلك أن التجار والموسرين لم يكونوا قد ألفوا الصناعات الوطنية وإنشاء الشركات المساهمة، وكل همهم أن يزاولوا التجارة التي وجدوا عليها آباءهم، والقناعة كنز لا يفنى!
... أما نحن الشباب والطلاب فلم يعجبنا شكري القوتلي ولا مشروعه، لأننا نريد خطاباً وطنياً، ومظاهرة حماسية، وكفى الله المؤمنين القتال.
... ومضت على جيلنا سنوات أدركنا بعدها أننا كنا جميعا على خطأ، وأن شكري القوتلي على صواب.. فإن الحماسة الوطنية من غير صناعة وطنية هي مصارعة مع الرياح..
... ومن طرائف الصبا التي كان يمارسها الطلاب بعد العودة من العطلة، أنهم كانوا يضعون في الدولاب كمية من الفول بعدد أيام الفصل الدراسي. وكان الطالب عند كل مساء يأخذ حبة فول ويضعها في زاوية معنية، وبهذا(1/142)
يحسب كم يوما مضى وكم يوما بقي، وكنت أراقب رفاقي وأمامهم حبات الفول وهم يطرحون ويجمعون، ولم أكن أمارس هذه الهواية ولكني كنت أشاطرهم لذتها وطرافتها.
... وكان الأساتذة عربا من فلسطين ولبنان، إلاّ سيدة بريطانية اسمها الليدي وطسن، كانت تعلمنا اللغة الإفرنسية، وكانت هذه السيدة في غاية اللطف والرقة، وكانت متدينة طاعنة في السن، تجيد اللغة الإفرنسية نطقا ولهجة، خلافاً للإنجليز الذين سمعتهم يتكلمون الإفرنسية في بعض مناسبات الأمم المتحدة.. حيث كنت أداعب بعضهم وأقول لهم: اذهبوا وتعلموا اللهجة الإفرنسية في باريس أو في بيروت.
... وكانت هذه السيدة متطوعة لا تتقاضى راتباً عن عملها، ولكني بدأت أبغض الإنجليز من غير تمييز، لأنهم احتضنوا الحركة الصهيونية وأصدروا تصريح بلفور.
... وانتقلت كراهيتي للإنجليز، إلى اللغة الإفرنسية التي تُدرسّها هذه السيدة الإنجليزية، وكنت ضعيفاً في هذه المادة، لا أحفظ ولا أدرس، ولعلي كنت أبلغ "علامة" الاجتياز، بلطف هذه السيدة ورحمتها لا بالاستحقاق.
... وقد زاد من كراهيتي للإنجليز، أننا كنا يوما في الصف، و إذ بزائر يدخل علينا، بريطاني في سحنته وملابسه، يلبس نظارة واحدة على عينه، معتدل القامة صارم الملامح، ولم يسأل أحدا منا شيئاً، جال ببصره في التلامذة والغرفة، دقيقة أو اثنتين، ثم خرج بكبرياء وغطرسة وعجرفة.
... وسألنا المعلم من هذا الزائر، فقال لنا: اللورد بلومر، المندوب السامي البريطاني، وهو واحد من الذين تعاقبوا على حكم فلسطين خلال ثلاثين عاما.(1/143)
... وعلمنا نحن الطلاب فيما بعد، أن بريطانيا قد اختارت هذا القائد العسكري حاكماً على فلسطين بعد الثورات التي نشبت في البلاد "ليؤدب" الشعب ويحفظ الأمن بقوة السلاح، وليبني الوطن القومي اليهودي على أسنة الرماح.
... وكان من رفاقنا بضعة طلاب من غزة، توثقت بيني وبينهم عرى الصداقة، وكان أحدهم يحدثني عن شؤون بلده، كما كنت أحدثه عن شؤون بلدي. فغزة مثوى جد الرسول عليه السلام، وبلد الشافعي عبقري التشريع الإسلامي، وعكا مدينة صلاح الدين التحم حول أسوارها مع ريكاردوس قلب الأسد، وهي البلدة التي ارتد عنها نابليون وقال قولته المشهورة "على أسوارك يا عكا أضعتُ مستقبل حياتي.." وكنا نتساجل التاريخ ونعدد المفاخر والمآثر مع زميلي الغزي، وكان يحدثني بحسرة ومرارة "عن الهجرة" ما قبلها وما بعدها، ويردد الحديث عن الهجرة في مناسبة ومن غير مناسبة.
... وبادرت زميلي الغزي مرة ونحن في ساحة الملعب واسمه جلال ترزي، وقلت له، ما هي هذه الهجرة التي تكثر من تردادها، ولولا أنك
مسيحي لحسبت أنك تشير إلى الهجرة النبوية، فضحك زميلي والفرح يملأ أساريره وقال: لا، انها هجرة غزية، فقد هاجر الكثيرون من أهالي غزة أثناء الحرب العالمية الأولى إلى شرقي الأردن "فراراً" من هول الحرب والزحف البريطاني من سيناء، ولقينا مثوى كريماً من إخواننا في شرقي الأردن.(1/144)
... وكان "جلال" عاطفياً يتحدث عن تلك الأيام بكل أحاسيسه وجوارحه، ولقد كرمه الله ومات في غزة في ميعة الصبا وشرخ الشباب. ولم تكن الأحداث الرهيبة على غزة قد وقعت.
... توفاه الله وأكرمه قبل أن يشهد الاحتلال الإسرائيلي لغزة عام 1956 حين نكلت العصابات الإسرائيلية بأهالي غزة ورفح وخان يونس ودير البلح فاستشهد من استشهد، وهاجر من هاجر وكانت الهجرة الثانية.
... ثم جاءت النكبة الكبرى في حزيران من عام 1967 فأبلى قطاع غزة بمدنه وقراه [ومخيماته] (1) ، جيشه وشعبه، بلاء مجيدا في وجه القوات الإسرائيلية، وجاءت الهجرة الثالثة من أهل القطاع إلى الأردن، وكانت الليلة أسوأ من البارحة لا أشبه.
... وشاء القدر أن أكون بعد أربعين عاماً رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأن تتوالى زياراتي لهذا القطاع العظيم، وأن أشهد أصالة الأمة العربية وبطولتها في شعبه الشجاع، مما سيأتي ذكره في حينه.
... ثم يشاء القدر أن أعود بذاكرتي أربعين عاما إلى الوراء لأذكر زميلي جلال الترزي وهو يروي أيام "الهجرة".
... وقد عشت بعده لأشهد الهجرة الثانية والثالثة، والصيحة تتداوى من أعماق فؤادي: لك الله يا غزة..
__________
(1) * المحرر.(1/145)
السؤال الذي بقي خمسين عاما..
من غير جواب
... وفي شهر تموز "يوليو" عام 1926 جرت الحفلة السنوية لتوزيع الشهادات على المتخرجين، وكان هو اليوم الوحيد الذي تفتحت فيه أبواب مدرسة صهيون على مصاريعها، وتحولت قاعة المطالعة والغرف المجاورة فأصبحت ردهة لاستقبال أولياء الطلاب وكبار الضيوف، وبدت المدرسة في ذلك اليوم صرحا من صروح "الحرية" تحطمت من حولها القيود والحدود، والتلاميذ بين غاد ورائح لا رقيب ولا حسيب، يدخن من يدخن في ساحة الملعب، بعد أن كان يختبىء وراء بيوت "الراحة".
... وكان طلاب الصف المنتهي، وأنا معهم نجلس في مكان بارز من القاعة والجميع يتفرس بنا بإعجاب وتقدير، والطلاب في الصفوف الأخرى ينظرون إلينا ونفوسهم تتطلع إلى يوم التخرج، ونحن نتطلع إلى يومنا وغدنا بالآمال الكبار الجسام.
... وكانت أنظارنا مشدودة إلى تلك الطاولة التي وضعت عليها شهادات التخرج ملفوفة بالشريط الأحمر، ونحن نعد الدقائق، لينادي علينا المدير ونقبض بأيدينا على شهاداتنا، ونحسب أننا سنقبض على الدنيا بأسرها.(1/146)
... وكانت فرحتنا كبيرة حين بدأ الاحتفال وأخذ مدير المدرسة يلقي خطابه التقليدي، ونحن لا نلقي إليه بالا ولا أذنا، فقد انتهينا من المدرسة ونود أن نمسك الشهادة بأيدينا وكفى.
... ونودي علينا واحداً بعد واحد، وتقدمنا لاستلام شهاداتنا، وأولياء الطلبة يلهبون أيديهم بالتصفيق، ثم يرطبونها بدموع الفرح والحبور، وهم يمسحون عيونهم الضاحكة الباكية.
... وأخيراً استلمنا شهادات التخرج، ونحن لا نبصر أحدا، ولا نحس بشيء، ذلك أن الشهادة الملفوفة بالشريط الأحمر ملكت علينا عقولنا وجوارحنا، وما أن انتهى الحفل حتى هرولنا إلى غرفنا، وكل واحد منا يفك الشريط الأحمر، ويفتح الشهادة، مزينة بالإطار الجميل مكتوبة بالأحرف المزركشة وفي صدرها اسم كل واحد منا.. وما أجملها ساعة من ساعات العمر، زاخرة بأحلى المنى وأبهج الآمال.
... وقضينا الليلة ولا ندري كيف قضيناها، أجسادنا على سررنا ولكن أرواحنا قد رحلت إلى الأهل والبلد، كل منا يروي في خاطره ماذا سيقول وماذا سيفعل..
... وانطلقنا في الصباح، وقد ملأنا المدرسة هرجاً ومرجاً، وهرولة وركضاً، فحملنا متاعنا وكتبنا، والشهادة الملفوفة بالشريط الأحمر في أيدينا، فقد كنا نحاذر أن لا تتسخ وأن لا تطوى طيا "يكسرها" وينقص في زينتها ويذهب بروائها وبهجتها، واحتوانا القطار بكل ما حوت أفئدتنا من مشاعر وأحاسيس.(1/147)
... ووصلنا إلى عكا ونفوسنا تطير فرحا، ودخلنا نخترق الشوارع والحارات ونحن نريد من الناس أن ينظروا إلينا ويسألونا عن مدرستنا وشهادتنا، ولكن أحدا لم ينظر، وأحدا لم يسأل، وأدركنا حينذاك أننا في عالم، والناس في عالم آخر.
... ولكن ما هي إلاّ أيام حتى أقبل الأصدقاء والأهلون على دارنا مهنئين بعودتنا إلى البلد والشهادة معنا، وكانوا يأتون وأبناؤهم معهم ويأخذ هؤلاء وأولئك يسألون عن المدرسة ودروسها، ونحن نقص عليهم بعزة وخيلاء عن شدة الامتحانات وصعوبة الدروس وما إلى ذلك.
... ولست أنسى ما حييت أن كثيرا من أولئك الأبناء كانوا يستمعون إلينا وفي قسمات وجوههم مشاعر وخواطر يصارع بعضها بعضا.
... إنهم فرحون بنا، ولكنهم حزينون أنه لم يتح لهم ما أتيح لنا، فهم لم يستطيعوا أن يذهبوا إلى مدرسة صهيون أو غيرها من المدارس العالية، وأحسب أنهم كانوا من ذلك في عذاب عظيم أو حسد مقيم.
... وكبرت لأعلم أن ملايين من الأطفال والصبيان لم تكن أمامهم فرص متكافئة ليتعلموا كما تعلمنا، فعاشوا في جهل وحرمان، ومضى نصف قرن من الزمان قبل أن يصبح العلم حقا مشاعا لكثيرين.. وإن كان كثيرون آخرون ينتظرون أن يطل قرن آخر..
... وأصبحت كلما رأيت أقراني من الشباب، أتحاشى أن أذكر لهم من أمر شهادتي شيئا، فقد غدوت أحزن لحزنهم، ولكنهم كانوا دوما يلحون علي أن أسرد لهم شيئاً من أيامنا في المدرسة، وكيف أصبحنا نتقن الإنجليزية، فأزداد حرجا ويزدادون حزنا..(1/148)
... ثم ضاعت هذه الخواطر في نفسي في رحاب العطلة المرحة وزحمة الرياضة والسباحة وحياة الأسرة، وأخذنا نعد العدة للسفر إلى بيروت للالتحاق بالجامعة الأمريكية.
... ومضى الصيف وأقبل موعد الجامعة، فسافرنا أخي وأنا، ولا نكاد نصدق أننا ذاهبان إلى الجامعة "الكبرى" التي تخرج منها الاساتذة والاطباء، والصيادلة والزعماء.. من كل أرجاء الوطن العربي.
... وسارت بنا السيارة في ذلك الطريق الجميل الفاتن في محاذاة البحر، ولكن أبصارنا لم تكن لتبصر، فلقد كنا نتطلع إلى لقاء بيروت والجامعة الأمريكية في بيروت، فتلك عندنا غاية المنى..
... ووصلنا بيروت وانطلقت بنا السيارة ورأينا أنفسنا في الجامعة الأمريكية في صميم ساحتها، أمام المبنى الذي سنقيم فيه. ولم أتمالك نفسي فانطلق لساني: الله الله.. ما هذا!
... أين نحن من مدرسة صهيون بأسوارها وبوابتها، على ذلك الجبل الأجرد.. نحن الآن في الجامعة تكاثرت فيها المباني والملاعب والساحات، وتعددت أقسامها بين الطب والصيدلة والزراعة والعلوم والآداب.
... ثم هذه الرابية، من رأس بيروت، المشرفة على البحر، تتخللها الشوارع ومن حولها أشجار الظلال حانية على المقاعد الخشبية لتستقبل الطلاب والطالبات، يدرسون أو يتداعبون أو يتأملون.
... لقد بهرتني هذه "المدينة الجامعية" بعد الباستيل في صهيون، وأحسست أنني أصبحت إنسانا حرا، أملك نفسي وإرادتي، وانني انتقلت عبر القرون، من جبل صهيون إلى رأس بيروت.(1/149)
... لقد تاقت نفسي يوم وصولي أن أتعرف على "الجامعة" وادخل قاعاتها وأتفرج على أقسامها وأطوف شوارعها وساحاتها، ولو اقتضاني ذلك ساعات وساعات، ولكني رأيت أن أعود إلى المبنى الذي سنقيم فيه لأرتب أموري.
... وجاء "المسؤول" عن غرفة نومي وسلمني مفتاحها، ففتحت ودخلت ووضعت ملابسي وكتبي في مكانها، ومكثت قليلاً أتأمل هذه الغرفة الأنيقة النظيفة، أنام فيها وحدي.
... ولم أصدق عيني، لم أصدق أنني سأنام وحدي في هذه الغرفة بعد الأعوام الثلاثة التي قضيتها في مدرسة صهيون، أستمع إلى شخير أربعين طالبا، يروحون ويغدون – إلى السطلين إياهما- طيلة الليل، ليصلحوا من شأنهم على مقربة من قاعة النوم.
... وخرجت بعد ذلك إلى الساحة المجاورة ومشيت قليلا و إذا بي أمام مطعم الجامعة، فدهشت وذهلت: أفي الجامعة مطعم يأكل فيه التلاميذ ، ما يشتهون؟
... ودخلت كما دخل الطلاب، ووقفت كما يقفون، أمام لوحة كبيرة مثبتة على الجدار كتب عليها ألوان الطعام وأسعاره.
... فقلت الحمد لله، لقد خلصت من طعام مدرسة صهيون، الشحيح الرديء، وآن لي أن آكل ما أشتهي، وقدر ما أشتهي.
... وحملت طعامي على صفيحة بين يدي وجلست على إحدى الموائد مع الطلاب، نأكل ونتحدث ونتسامر، وخرجت من قاعة الطعام إلى غرفتي، وأريج الخريف يفوح من الاشجار والأزهار، وخريف بيروت ربيع الزمان.(1/150)
... وكان تعب السفر قد أخذ مني مأخذه فألقيت نفسي على السرير الوثير، والغبطة تملأ فؤادي.
... واقتحم علي خاطر سهدني وأرقنى، ونغص فرحتي.
... تذكرت الشباب والصبيان من رفاقي في عكا، وعاودني منظرهم وهم يسألونني عن مدرسة صهيون، ينتابهم الأسف والحسد، أنهم لم يستطيعوا أن يكملوا دراستهم في المعاهد العالية.
... لقد كان ذلك حالهم يوم حدثتهم عن مدرسة صهيون، فماذا سيكون من أمرهم يوم أعود إلى عكا وأحدثهم عن الجامعة ومباهجها وعظمتها.
... وبت حزينا، وإن كنت لا أملك لهم ضرا ولا نفعا، ورحت أتساءل لم لا يتعلم هؤلاء الرفاق كما أتعلم؟ لم يكون العلم باهظ التكاليف لا يستطيعه المعسرون، بل لماذا لا يكون من غير نفقة، حرا مشاعا للجميع؟
... ولم يكن في وسعي ولا في طاقتي أن أجيب عن هذا السؤال، وكان مقدراً على أجيال وأجيال من الشباب والطلاب أن ينتظروا نصف قرن من الزمان، قبل أن يأتي الزمان بالجواب.. ويصبح العلم مجانا في بعض الوطن العربي لا في كله..
... ولكني وأنا أبحث عن الجواب في أعماق نفسي، غصت في نوم عميق لأصحو في اليوم الثاني وأبدأ الحياة الجامعية، والقدر يخبيء لي حدثا يعود بي إلى حيث أتيت.. إلى بيت المقدس مرة ثانية!(1/151)
أربع عشرة عقبة..
أمام الوحدة العربية
... كانت حياة الجامعة في بيروت غريبة علي، بعد الجو الصارم العابس الذي كنا نعيشه في مدرسة صهيون في القدس.
... لقد أصبحنا نملك كثيرا من حرية التصرف والسلوك، نخرج من حي الجامعة إلى حيث نشاء، بعضنا يذهب إلى دور السينما والملاهي والمراقص ويعود عند الفجر، والآخرون وأنا منهم كانت نزهتنا في رأس بيروت على شاطي البحر، وكانت علاقتنا بالأساتذة بعيدة عن الوقار والخوف والهيبة، يدخل المحاضر إلى "الصف" فيلقي درسه وينصرف، ويتعلم من يتعلم، ويلعب من يلعب، والحساب في نهاية السنة لينجح من ينجح ويسقط من يسقط.
... وكانت حصة اللغة العربية مرحة أيما مرح، فقد كان السيد جرجس الخوري المقدسي، أستاذ العربية: آية في اللطف والنكتة، حافظاً لمئات الطرائف والحكايات والنوادر.
... وكان يبتدىء درسه بشيء من الجد، ثم يلح عليه الطلبة أن يسرد عليهم أقاصيصه الطريفة، وما أسرع ما ينطلق من الجد إلى الطرافة، فقد كان ذلك يجد هوى في نفسه، فيأخذ في إرسال الحكايات واحدة بعد الأخرى، من غير طلب ولا تكليف.(1/152)
... وفي الحفلات العامة التي كانت تعقد في القاعة الكبرى في الجامعة كان الأستاذ المقدسي سيد الموقف بلا منازع، يتكاثر الطلبة للاستماع اليه، وينقلب الاجتماع إلى قاعة ضاحكة مقهقهة، تكاد جدرانها تتهاوى من التصفيق.
... ولو أن عهد التلفزيون قد سبق زمانه وأدرك الأستاذ المقدسي، لكان لدى الثقافة العربية ثروة ضخمة من الأقاصيص والحكايات والطرائف، مسجلة في حيوية بالغة الإشراق والمرح، يزينها أن صاحبها يهز الجماهير بالحبور والسرور، ساعات وساعات دون أن تبدو على وجهه، لثانية واحدة، لمحة واحدة، من الضحك أو الابتسام.
... وكان في الجامعة الأمريكية ناد له تاريخ معروف، اسمه "العروة الوثقى" نتجمع فيه لنتداول الشؤون العامة، وكان للسياسة حظ كبير في "العروة الوثقى".
... وكنت أشترك في ندواته مع سائر الطلاب من أرجاء العالم العربي كافة، وكانت روح الأخوة العربية سائدة بيننا، إلاّ حين تبدأ الحملة الانتخابية لأعضاء الهيئة الإدارية، فكان المرشحون يهمسون بالنعرات الإقليمية، عراقي وفلسطيني وسوري، وجماهير الطلاب بريئة من هذه النزعات، تماما كالحال التي عشتها لأربعين سنة بعد ذلك من عمري، حكام إقليميون وجماهير وحدوية، في الوطن العربي كله.
... وفي العروة الوثقى كان يلتقى الطلاب العرب فيتعرف بعضهم إلى بعض، وتزداد روابط الألفة بينهم وكانت هذه الاجتماعات بالنسبة لي ولغيري من الطلاب الفرصة "العملية" الأولى لنكتشف أننا أمة واحدة وأن الفوارق بين(1/153)
أقطارنا وشعوبنا لها مثل في الفوارق التي تسود القطر الواحد والشعب الواحد.
... وكنت إلى ذلك العهد قد عشت في فلسطين، في عكا وفي بيت المقدس، وكان شعار الحركة الوطنية في فلسطين "استقلال فلسطين في إطار الوحدة العربية" وكانت معاني الوحدة تملأ خواطرنا، ولكن حقائق هذه الوحدة ومقوماتها وجدتها حية قائمة في الجامعة الأمريكية حيث عشت بضعة أشهر مع طلاب سوريا والعراق ولبنان والسودان ومصر.
... وكانت هذه الأقطار عام 1927 كلها تحت الاحتلال الأجنبي، البريطاني أو الإفرنسي وكانت آمالنا، جيل ذلك العهد، وذلك ما كنا نتعاهد عليه، أن نخلص من الحكم الأجنبي وأن نقيم الدولة العربية الواحدة.
... ولم تكن هذه الخواطر أحلاماً عابرة، فقد كنا نعقد الندوات لبحث الوحدة وأسسها، ووضعنا ميثاقا يحدد أهداف القومية العربية وأسس الدولة العربية الحديثة، وقد ساهمت بنصيب وافر في هذه الحركة إلى جانب عدد من الطلاب الذين أصبحوا فيما بعد قادة في بلادهم، أذكر منهم فاضل الجمالي، وإسماعيل الأزهري.
... وفي غمرة هذه الندوات أقبل علينا يوم الشهداء 6 أيار، وهو ذكرى إعدام الشهداء في سوريا ولبنان عام 1916 على يد السفاح جمال باشا.
... وكان أن تجمع طلاب الجامعات والمعاهد العليا في بيروت، في ساحة الشهداء، وسرنا في مظاهرة كبرى حتى بلغنا قبور الشهداء في محلة الرمل، ولحقت بنا جماهير الشعب بالأعلام وصور الشهداء.(1/154)
... ووقع الإختيار علي، وعلى السيد يوسف الكيلاني من العراق (وكيل الخارجية العراقية) لنتكلم باسم الطلاب العرب، وكان احتفالاً مهيباً خطب فيه عدد من رجالات بيروت أذكر منهم رياض الصلح وجبران تويني.
... وحين جاء دوري للكلام لم أستطع بلوغ المنصة من زحمة الجماهير، وكنت قصيرا نحيلا. فحملني رفاقي على أكتافهم وارتجلت خطاباً حماسياً لاهباً أثنيت فيه على الشهداء، وحملت على جمال السفاح والعهد العثماني بمظالمه ومغارمه وأشدت بالوحدة العربية ودعوت إلى قيامها، وتضافر الجهود لبنائها.
... وتساءل الناس من هذا الفتى الذي أثأر كوامن الشجون وألهب حماس الجماهير، وكان عجيباً حقاً أن يعلموا أن ذلك الفتى، هو ابن الشيخ أسعد الشقيري، أحد رجال الدولة العثمانية، ورفيق السفاح جمال باشا وصاحبه.
... وعدت مع الطلاب إلى الجامعة الأمريكية، هم فخورون بي وأنا فخور بنفسي، دون أن أدري ماذا يخبىء لي القدر.
... وأصبح الصباح وإذا بالصحف البيروتية طافحة بأخبار المظاهرة الكبرى، في عناوين بارزة منها: الوالد يوافق على إعدام الشهداء، والولد يشترك في تأبينهم!
... وقد أحسست بحرج كبير إزاء والدي، ذلك أنني نبشت موضوعاً دفيناً طالما كان سبباً في التهجم عليه بمناسبة وغير مناسبة، وكانت أياما صعبة قاسية، على الوالد في ماضيه، والولد في مستقبله.
... ولم يطل أمد هذا الحوار في نفسي، فقد اغتفرت سلطات الإنتداب الإفرنسي خطابي الحماسي إلاّ ما جاء فيه عن الوحدة العربية والدعوة لها(1/155)
والتطلع لإقامتها، فذلك كله ما لا تتحمله الإدارة الإفرنسية، وما لا تطيق سماعه.
... وكان يوم الثالث عشر من أيار من عام 1927، فقد جاء رجال الشرطة إلى الجامعة، واقتادوني إلى سراي الحكومة، وأدخلت إلى إحدى الغرف المجاورة لمدخل السراي، وفي هذه الغرفة وجدت سيدة إفرنسية تطبع على الآلة الكاتبة، وتروح وتغدو إلى الغرفة المجاورة.
... وبقيت في الغرفة أنتظر على غير هدى، لا أدري ماذا ينتظرني، وقد غاظني أن هذه السيدة كانت تتوقف عن الطباعة من وقت لآخر، لتنظر في المرآة، ثم تخرج أدوات الزينة من محفظتها، وتعالج وجهها بالأحمر والأبيض، ولم يكن هذا المشهد مألوفا علي، واعتبرته فجوراً إفرنسيا وافداً علينا في ركاب الانتداب الإفرنسي.
... وما هي إلاّ دقائق، حتى دخل علينا ضابط إفرنسي من الغرفة المجاورة، وتناول الورقة المطبوعة من السيدة الإفرنسية وسلمني إياها وهو يقول "صدر الأمر بإبعادك من البلاد المشمولة بالانتداب الإفرنسي" وطلب إليّ أن أغادر البلاد في اليوم الثاني. ولم يزد على ذلك قليلاً أو كثيراً.
... ولقد أصابني الفزع والهلع، فهذه هي سنتي الأولى في الجامعة، وفيها ربطت مستقبلي، وسيبقى أخي "أنور" فيها يواصل دراسة الطب، ولولاه ما وطئت قدماي أرض بيروت، وأنا لا أدري ماذا سيحل بي حين أعود إلى عكا مطروداً.(1/156)
... غادرت السراي إلى الجامعة، وهذه المخاوف تملأ نفسي، وما أن علم الطلاب بالأمر حتى أخذوا يواسونني، ولم يعد في الجامعة وفي بيروت بأسرها إلاّ حديث إبعادي عن البلاد.
... ولقد تدخلت الجامعة في الأمر كما تدخل أعيان بيروت، أبو علي سلام، عمر الداعوق، عمر بيهم وهم من أصدقاء والدي. وحاولوا حمل السلطات الإفرنسية العدول عن القرار ولكن دوائر المفوض السامي بقيت على إصرارها وعنادها، وأعلنت أن الأمر يجب أن ينفذ، وأن علي الشقيري "الصغير" أن يغادر البلاد في أٌقرب وقت.
... وجاءت سيارة الشرطة الإفرنسية إلى الجامعة، فحزمت حقائبي وملابسي وتجمهر الطلاب من حولي يودعون صاخبين هائجين، وكان يوماً مشهوداً في حياة الجامعة، بقي الطلاب يذكرونه كلما أقبل اليوم السادس من شهر أيار من كل عام.
... وعدت الطريق نفسه بين فلسطين ولبنان وقد سلكته قبل بضعة أشهر، في محاذاة الشاطي الجميل، ينتابني الغم والهم حتى وصلنا الناقورة، عند المخفر الإفرنسي، وهناك قدمت جواز سفري الفلسطيني، وعلى صفحة من صفحاته كان الضابط الإفرنسي في السراي قد كتب عبارة بالإفرنسية حفظتها طيلة حياتي:
Entrée interdite en Syrie et au Liban. Nationaliste، Propagandiste. Expulse
وترجمتها: (ممنوع دخوله سوريا ولبنان، مطرود، داعية سياسي)
... وتجمع موظفو المخفر من حولي، وهم يتنادون ويتهامسون باللهجة اللبنانية: هذا الذي خطب عن المشانيق! وكان العجب باديا على وجوههم أن(1/157)
رأوا هذا الفتي الهزيل الذي أشغل صحف بيروت أياما وأياما، وحمل حكومة الإنتداب الإفرنسي على إبعاده من البلاد.
... ومكثت بعض الوقت أنتظر سيارة متجهة إلى فلسطين لتقلني إلى المخفر الفلسطيني، ووصلت سيارة شحن كبيرة فركبت إلى جوار السائق، ومضى بي حتى وصلت المخفر فقدمت جواز سفري وأتممت المعاملات المعتادة، وكانت أخباري قد سبقتني إلى المخفر، فسلّط الضابط البريطاني عليّ نظرات الإشمئزاز والازدراء، بينما استرق الموظفون الفلسطينيون العرب ثواني عابرة، تحدثت خلالها عيونهم وقسماتهم بالإعجاب والتقدير.
... وسارت بنا سيارة الشحن من الناقورة صوب عكا، دون أن التفت إلى القرى الوادعة والمزارع الجميلة على الميمنة والميسرة، فقد كان عقلي في شغل شاغل. وفؤادي في الهم المقيم المقعد، وأنا أهييء نفسي للدفاع عن مغامرتي القومية التي أقدمت عليها في يوم ذكرى الشهداء، حتى بت أتخيل أنني أصبحت واحدا من الشهداء.
... ووصلت بيتنا ونزلت بأمتعتي من سيارة الشحن وأنا أحسب أنني سأجد حساب الآخرة ينتظرني، ولشد ما كانت دهشتي حين رأيت أن أحداً لم يكلمني في قليل أو كثير.
... وقد رويت ما جرى، باستغفار واعتذار، إلى والدي وأخي الأكبر، وباقي أفراد الأسرة ومضى الأمر من غير عقاب ولا عتاب.
... وإني لأظن، وإنّ بعض الظن إثم، أن شعوراً من عدم الإكتراث واللامبالاة قد ساد جو الأسرة، فقد كنت مواطناً من الدرجة الثانية في الأسرة، وسواءٌ عند "الخالة" وأنصارها إذا تعلمت أو لم أتعلم، والمهم عند هؤلاء أن(1/158)
أخي "أنور" بخير، يواصل دراسته في الجامعة.. ولكني وجدت كثيرا من العزاء فيما كان يتحدث به أصدقاء العائلة وزوار المنزل، وهم يطرون (وطنيتي) ويثنون على خطابي "العظيم" الذي أقض مضاجع السلطة الإفرنسية.
... وكان والدي يستمع إلى هذا الثناء بارتياح وانشراح، فقد سّره أنني أصبحت خطيباً مرموقاً، وكان هو من أفذاذ خطباء الدولة العثمانية، ولعله رأى كذلك في خطابي عن الشهداء دليلاً جديداً على براءته من دم الشهداء.
... وفي هذه اللحظة التي أكتب فيها هذه المذكرات، بعد أربعين عاما من ذلك الحدث الأول في حياتي العامة، يدعوني الواجب القومي وأنا أكتب للتاريخ العربي، أن أنفي عن الشيخ أسعد الشقيري أية مسؤولية قومية بالنسبة للشهداء الأحرار الذين أعدمهم جمال باشا في الحرب العالمية الأولى.
... أقول هذا بعد أن قرأت ما كتبه الأمير شكيب أرسلان والدكتور عبد الرحمن شهبندر وسائر رجالات العرب الذين عاصروا تلك الحقبة، يضاف إلى ذلك ما خلفه رجال الترك في ذلك العهد، مدنيين وعسكريين من دراسات ومذكرات.
... ويبقى علي بعد ذلك أن أقول، أمانة للتاريخ العربي كذلك، وقد عاصرت الحركة العربية أربعين عاماً من حياتي، أن الذي أعدم بضعة عشر رجلاً في الحرب العالمية الأولى لم يعد يستحق لقب السفاح، بعد أن قام ساسة الاستعمار الغربي بإبادة أجيال عربية بكاملها في حروب التحرير العربية، ناهيك عن كارثة فلسطين التي أنزلت بالأمة العربية أكبر عار في تاريخها(1/159)
الطويل، وأجلت شعبا عن وطنه، وأودت بحياة الالوف من الشهداء، وما تزال.
... إن رجالاً مثل ترومان وتشرشل ممن كانوا سبباً في بلاء الأمة العربية أجدر بلقب السفاح، من كل سفاح عرفه التاريخ، قبل جنكيزخان وبعد هولاكو إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
... ولم تكن قد تجمعت عندي هذه الخواطر في عام 1927 وأنا في بيت والدي ألتمس الأعذار لنفسي فيما أقدمت عليه من التنديد بجمال السفاح والدعوة إلى الوحدة العربية، فقد كان همي أن أسترضي والدي، وأن أسترضي كذلك أخي الأكبر "عبد العفو" وإليه يرجع الفضل في العناية بي، وكان والدي قد ألقى إليه شؤون الأسرة.
... وحمدت الله، فقد ظفرت برضاء والدي وأخي، وسرّى عن نفسي، وأصبحت أرى فيما أقدمت عليه في بيروت مدعاة للفخر والاعتزاز، خاصة أن أهل المدينة كانوا يقابلونني بالتحية والترحاب، والمعروف عن عكا ولها ذلك التاريخ الضخم. أنها متعصبة لماضيها الحافل، وقد سرها أن واحدا من أبنائها قد أصبح يشار إليه بالبنان.
... ولكن هذه الغمرة من غرور الشباب لم تكن تنسيني أنني أمام أزمة بالنسبة لمستقبلي، وكان السؤال الذي يلح علي ما العمل؟ وما المستقبل؟
... ولم يكن في فلسطين دراسة جامعية، ولم أكن أستطيع أن أعرب عن طموحي بالسفر إلى أوروبا أو أمريكا، لكثرة التكاليف، فلم تكن أسرتنا على يسار وثراء، ذلك أن والدي كان مستقيماً وعفيفاً في زمن أثرى ثراء ضخماً(1/160)
من كان دونه مكانة في الدولة العثمانية، ولا أريد أن أذكر أسماء الذين أثروا من قوت الشعب أيام المجاعة في سوريا ولبنان أثناء الحرب العالمية الأولى.
... وقادني التفكير إلى الالتحاق بمعهد الحقوق في القدس لأصبح محاميا، ووجدت في هذا الرأي هواي ومناي، و أخذت أعد نفسي للسفر ثانية إلى بيت المقدس.
ولقد أشعل هذا الرأي أمامي طريقاً طويلاً من الحياة السياسية العامة امتدت أربعين عاماً بدأتها في بيت المقدس، معقل الحركة الوطنية إذ ذاك، وتنقلت بعدها في عواصم الدنيا، في واشنطن ونيويورك وباريس وموسكو وجنيف ولندن وطوكيو ونيودلهي وكراتشي وبكين وباندونغ، فضلاً عن العواصم العربية، وقد رحت اتنقل بينها كأنني أتنقل من حي إلى حي في المدينة الواحدة، كل ذلك في موكب القضية العربية بانتصاراتها وهزائمها.
... ولقد كانت الشرارة الأولى في هذه المسيرة الطويلة الشاقة، ذكرى الشهداء في 6 أيار سنة 1927، يوم دعوت إلى الوحدة العربية، ثم عملت مع العاملين على بنائها وإنشائها، فتقدمت وتأخرت، وخطت وتعثرت، وكان الظن أن تعمل الكوارث على قيامها، ولكن.. ولكن وما زلنا بعيدين عنها كما كنا قبل أربعين عاما.. بل لعلها كانت تذكر في ذلك العهد أكثر مما تذكر الآن.
... وحين أعود بذاكرتي إلى أيامنا في الجامعة الأمريكية في نادي العروة الوثقى يوم كان المرشحون لمجلس الإدارة يتهامسون بالإقليمية ليفوزوا بأصوات الناخبين، أجد أن سبب البلاء هو هو لم يتغير ولم يتبدل، لقد كنا في الجامعة جمهرة واحدة يمزقها المرشحون، ونحن الآن في الوطن أمة واحدة يمزقها الحاكمون.. ولله في خلقه شؤون.(1/161)
... ولست الآن أؤرخ للوحدة العربية ولا للتاريخ العربي، فهذه مذكرات عما عاصرت وما ساهمت، ولكني أقولها صريحة للأجيال العربية المعاصرة والآتية، بأن الوحدة العربية تواجه في عام 1969 أربع عشرة عقبة.
... هذه العقبات الأربع عشرة، هي الأربع عشرة حكومة عربية، تقوم من المحيط إلى الخليج، وكانت هذه الحكومات سبعاً يوم قيام الجامعة العربية، وأصبحت الآن أربع عشرة وما زلنا ننتظر المزيد (1) !
... وكلما نشأت حكومة جديدة قامت عقبة جديدة، ويظل "الزعيم" أي زعيم "مؤمنا" بالوحدة داعية لها إلى أن يصل إلى دفة الحكم ويكون رئيسا، وعندهايصبح انفصاليا في ثياب وحدودية، يندد بالانفصال، ثم يلقي بخصومه في غياهب السجون لأنهم من دعاة الانفصال، حتى إذا سقط عن الحكم عاد مرة ثانية وأصبح من أشدّ دعاة الوحدة وأشد خصوم الانفصال، وهكذا دواليك.
... وعلى الأجيال العربية القادمة أن تعي ذلك بكل صراحة وأمانة وإخلاص إذا كانت تعتبر الوحدة العربية جزءاً من رسالتها في هذه الحياة، أو جزءاً من حياتها.
__________
(1) * للأسف فقد أصبحت الآن (2004) اثنتين وعشرين.(1/162)
(أنا انتهيت) سعد زغلول
... كان إبعادي من لبنان على أيدي السلطات الإفرنسية نقطة تحول في حياتي، فقد ألهب هذا الحدث خيالي وحماستي، وألقى بي في ميادين العمل الوطني في وقت مبكر من عمري، وقد بلغت تسعة عشر عاماً، وهي السن التي يجب أن ينصرف فيها الشاب إلى تلقي العلم دون سواه.
... ولكن نوازع "السياسة" اجتذبتني إليها بسرعة مذهلة، وكان خطابي "المشهور" في ذكرى الشهداء في بيروت "الزناد" الذي انقدحت عليه خواطري ومشاعري، والنور الأخضر الذي حدد لي معالم الطريق في حياتي.
... وبدأ سؤال مخيف يتردد في نفسي، وما نفع العلم من غير وطن؟ وخطر لي أن جيلنا كله يجب أن ينصرف إلى السياسة والعمل الوطني من غير مبالاة بالدراسة، وكان الشعور بالخطر من الحركة الصهيونية يملأ جوانحي.. ولكن لم يخامرني الخوف بأنني سأعيش لأرى الكارثة الكبرى في احتلال وطننا وتشريد شعبنا، فتلك الصورة الرهيبة لم تكن وقتئذ قد وجدت طريقها إلى خاطري.
... غير أني اهتديت أخيراً إلى "هدنة" بيني وبين نفسي فقد استقر رأيي أن أعطي نصيباً من وقتي للسياسة ونصيباً آخر للدراسة، وأن أوفق ما استطعت بين حوافزالأولى وضرورات الثانية.(1/163)
... وكان في عكا جريدة تعرف باسم "الزمر" تصدر مرة في الأسبوع لصاحبها الشيخ خليل زقوت من مجدل غزة في فلسطين، وكان يطلق على نفسه لقب سفيه الشرق، ويطبع هذا اللقب على صدر الصفحة الأولى من جريدته، وبالأحرف البارزة على بطاقته.
... وكان الشيخ زقوت في مطلع حياته "سائحا جوالا" يطوف البلاد العربية، يتكسب من المديح والهجاء، فيمدح من يعطي، ويهجو من لا يعطي، وكان ظريفاً لَسِناً ذكياً، يمثل بحكاياته التي كان يرويها، شخصية معينة في المجتمع الإسلامي قبل الحرب العالمية الأولى.
... وحط الشيخ زقوت رحاله في عكا وأصدر جريدة الزمر، وكانت صحيفة فكاهية لا تتردد في الشتم والسب، وكان همها أن تتبارى مع جريدة أخرى، كانت تصدر في دمشق باسم "الحمارة" لصاحبها توفيق جانا من أهالي عكا، وسفيه عكا يصدر جريدته من دمشق، فكان ذلك آية أخرى.. أن وطننا واحد وأن شعبنا واحد، ولو في ميدان الشتائم والسباب!
... ورأيت في جريدة الزمر غايتي المنشودة، فأخذت أكتب فيها المقالات الوطنية بالدعوة إلى مقاومة الحركة الصهيونية والاستعمار، وقد أغراني بالكتابة في جريدة الزمر أنها كانت تنتشر إلى حد ما بين الجماهير لما فيها من النكات والطرائف، والشيخ زقوت لا يجد حرجاً في ما أكتب فقد هوّنت عليه عبء "تعبئة" الجريدة، ومجانا.
... وكان طبيعياً أن أركز بعض مقالاتي على الاستعمار الإفرنسي الذي حرمني الدراسة الجامعية في بيروت، وأعترف أن هذه المقالات كانت بذيئة في بعض جوانبها، ولعل بذاءة الشيخ زقوت قد انتقلت إلي، بل لعل السبب في(1/164)
ذلك ما كان يتردد من الشائعات عن التدهور الخلقي في فرنسا، فخطر لي أن أقابل الفجور بالبذاءة!
... وقد استاءت القنصلية الإفرنسية في حيفا لهذه المقالات وشاركها في ذلك بعض الأوساط الدينية التي تتعاطف مع فرنسا، وكان على رأسها المطران حجار مطران الطائفة الكاثوليكية في شمال فلسطين.
... وكان المطران حجار شخصية لبقة، على جانب وافر من الذكاء والعلم والمكانة، عرفته الجماهير خطيباً مفوهاً وكانت تربطه بوالدي صداقة متينة منذ العهد العثماني.
... وجاء المطران حجار إلى عكا ليشكو إلى والدي "عنف" المقالات التي حملت فيها على فرنسا، وشكا والدي بدوره حماقة السلطات الإفرنسية مع "طالب شاب" خطب خطاباً حماسياً.
... وتم الإتفاق أن أتوقف عن كتابة هذه المقالات، وأن يتولى المطران حجار الاتصال بباريس لأصدار "العفو" عني والسماح لي بالعودة إلى لبنان، وكأن شيئاً ما كان، وفي حضور المطران انتهرني والدي وقال: لا مقالات بعد اليوم.
... فامتثلت للأمر، وأنجز المطران وعده، فأخذ يكتب إلى باريس بالأمر، ويرسل إلينا صوراً عن مراسلاته، وامتلأت نفسي غروراً أنني أصبحت شخصية وصل أمرها إلى باريس.
... ولم يكن يخطر لي أن الأقدار ستحملني بعد عشرين عاما إلى باريس أثناء انعقاد الأمم المتحدة، لأصفي معها حسابي وحساب الأمة العربية مما سيرد ذكره في حينه لمناسبة بحث قضايا المغرب وتونس والجزائر.(1/165)
... ومضت أشهر والمطران حجار يكتب إلى باريس دون أن أصل إلى نتيجة ما، ثم جاء النبأ الصادع المثير الذي أشغلنا عن باريس والمطران حجار وجريدة الزمر، لقد مات سعد زغلول.
... لقد وقع النبأ كالصاعقة الساحقة على البلاد فعم الحزن والأسى، وكأنما الشعب كله قد أصبح أسرة سعد زغلول.
... وكانت الحركة الوطنية المصرية، بأحداثها ومظاهراتها وخطب زعمائها تملأ قلوبنا ونوادينا ومقاهينا، وكانت حركة الطلاب في مصر تأخذ بمجامع قلوبنا وتهز مشاعرنا إلى الأعماق.
... وكان الوفد المصري بزعامة سعد زغلول "قدس الأقداس" في حياتنا، وكنا ننتظر قدوم قطار مصر إلى حيفا حتى نتلقف صحف الوفد، ونجتلي طلعة الزعماء، ونقرأ خطب الخطباء.
... وكانت فلسطين كلها وفدية، وخاصة على صعيد الجماهير، وكنا نكره خصوم الوفد ونلعنهم، تماما كما لو أننا نعيش مع الشعب المصري وعلى أرض مصر.
وكنا نعرف عن شؤون مصر وأحزابها ورجالها وصراع قادتها، ما لا نعرفه عن شؤون بلادنا وأحوال رجالنا، حتى أصبحنا كأننا قطعة من أرض مصر ومن شعب مصر.
ولعل هنالك سبباً آخر كان يدعونا إلى التعاطف مع مصر، ذلك ما كنا نسمعه من شيوخنا عن آبائهم بصدد الحملة المصرية على فلسطين في عهد محمد علي باشا وأخبار إبراهيم باشا الذي قاد هذه الحملة.(1/166)
وكان الدم المصري غالباً في ساحل فلسطين من غزة جنوبا حتى عكا شمالاً وكانت أسرتنا، في شخص جد والدي الشيخ محمد شقير من مصر، من الشرقية، فيما كان يرويه والدي وأعمامي.
... والواقع أن أسرا كثيرة في عكا – آل الجراح. والعفيفي، وحبيشي، والأسود، وفضة، منحدرة من أصول مصرية من عهد حملة إبراهيم باشا، ومثل هذه الحال في حيفا ويافا، وكان في يافا سوق يعرف بسوق البلابسة، نسبة إلى بلبيس، وحي يعرف بسكنة أبو كبير، وهو الحي المعروف في مصر.
... وقد تضاعفت هذه العوامل في مجموعها فجعلت من وفاة سعد زغلول مأتما قومياً في جميع أنحاء فلسطين فتداعى الناس لإقامة حفلات التأبين.
... وفي عكا وجدناها كذلك فرصة للتحدث في الشؤون الوطنية، فأقمنا حفلة تأبين كبرى لسعد زغلول، وكنت عريف الحفل أقدم الخطباء، إلاّ خطيبين لم أقدمهما، والدي ونفسي.. وكان والدي أولهم وأنا آخرهم.
... وتحدث الخطباء عن مآثر سعد زغلول وأثر الحركة الوطنية المصرية، وأفاض والدي في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وكان آية في براعة الاستدلال والاستهلال وكان خطابي يدور حول الكلمات الأخيرة التي نطق بها سعد زغلول وهو يحتضر "أنا انتهيت" ولم أترك هذه المناسبة أن تمر دون أن أحمل على الاستعمار وأنبه إلى خطر الصهيونية.
... ولقد نقلت الصحف أخبار هذه الاحتفالات فألهبت حماس الجماهير، وأمتدت الحركة الوطنية في فلسطين بزاد جديد.(1/167)
... وفي السنين التي عقبت هذه الاحتفالات، جرت اجتماعات وطنية متعددة، أخطب فيها وحدي أو مع والدي، وبات من تقاليد الصحافة أن تشير إلينا "الشقيري الكبير" و "الشقيري الصغير" والأحاديث تتعاقب، جادة ومازحة أيهما أخطب: الكبير أم الصغير، وأبتسم أنا متطلعاً إلى المستقبل؟ ويبتسم والدي ناظرا إلى الوراء، إلى الماضي..
... وجاءت بعد ذلك حفلة تأبين أخرى في حيفا، ولكنها في هذه المرة إحياء لذكرى أحد وجهاء حيفا من آل الخوري، صدمته سيارة فقضى نحبه وكان معروفاً بالبر والإحسان.
... فدعيت لإلقاء كلمة، دون أن أعرف الفقيد، فلم أكن من معاصريه ولا هو من أصدقاء عائلتنا، ولكن أصبحت لي شهرة بأنني "خطيب" وقد حرصت أسرة الفقيد أن أخطب فيها، كما لو كنت مطربا يحرص أهل الفرح أن أغني لهم وأطربهم.
... فلبيت الدعوة ، بعد أن تعرفت على سيرة الفقيد، وكان الحفل في ساحة الكنيسة وكان معظم الحاضرين من إخواننا النصارى، يتقدمهم أعيانهم ووجوههم وعلى رأسهم المطران حجار.
... وتحدث الخطباء عن مآثر الفقيد، وكان المطران حجار آية في الفصاحة والبلاغة فأسهب وأطنب.
... وجاء دوري للكلام، فاستشهدت بما كنت حفظته من الأناجيل أثناء دراستي في مدرسة صهيون، عن البر والإحسان، ورويت حكاية "السامري" الذي سطا عليه اللصوص، فكان خطابا قومياً في إطار إنجيلي.(1/168)
... ودهش الحاضرون أن الشقيري الصغير ابن "العلامة" المسلم يستشهد بفيض من آيات الإنجيل، ولم يكن من المطران حجار إلاّ أن صافحني وهو يقول: لقد أصبحت تزاحمني على الصنعة ولم يبق إلاّ أن أخلع ردائي وأضعه على كتفيك. وكانت ساعة من الساعات شمخ فيها غروري إلى السماء، والجمهور رجالا ونساء يحملق بصره بهذا الشاب الذي يخطب دون أن يحمل ورقة بيده.
... حقا إنه كان خطاباً مرتجلاً، وقد ارتجلت مثله العشرات والمئات في حياتي الخطابية الطويلة، وكذلك في الأمم المتحدة ولكن ما أشقها وأشقاها، أن وراء هذه الخطب المرتجلة إعداداً ذهنياً ونفسياً، وقراءة ومذاكرة.. وما أيسر أن تكتب وتخطب!
... ذلكم كان الارتجال عندي، إلاّ مناسبات معدودة، دعيت فيها للكلام من غير "إنذار" سابق، وقال عنها أصدقائي أنها أجود من المرتجلات الأخرى.
... ولقد عدت من حيفا إلى عكا، بعد حفل التأبين، وأنا معتز بنفسي، أحدث خيلائي بما يرضيها ويشبعها، وفي خيالي خاطر جميل يداعبني – مهنة المحاماة.
... وأصبحت أردّد في نفسي: إذا كنت خطيباً فلم لا أكون محامياً، وهكذا رحت أعد نفسي للسفر إلى بيت المقدس لألتحق بمعهد الحقوق وأصبح محاميا، وأظل خطيباً كذلك.
... فقد كانت الخطابة هوايتي وسليقتي وبعض حياتي كل حياتي.(1/169)
فجر النضال الفلسطيني(1/171)
مع زعيم صهيوني كبير(1/172)
... سافرت إلى بيت المقدس، وكان سفري هذه المرة، ولأول مرة، بالسيارة فمررت بحيفا والناصرة، ثم هبطنا إلى مرج ابن عامر عبر العفولة ومنها إلى جنين ونابلس ثم أخذنا نصعد إلى رام الله فالقدس.
... وقد "ألفت" هذا الطريق فيما بعد، فقد سلكته قريبا من عشرين عاماً من عمري إلى يوم نزوحنا من فلسطين، ولكن هذه "الألفة" لم تنتقص من جمال هذا الطريق الجميل، لم يعد جماله مألوفا عندي ليوم من الأيام، ولا لساعة من الساعات، بل ظل يتجدد مع الأيام والأعوام.
... وفي كل مرة، وفي كل سفرة كنت أرى فيه جديدا من السناء والبهاء فيزداد روعة وجمالاً في فؤادي.
... الطريق من حول خليج عكا برماله الناصعة وأمواجه الوادعة عزّ نظيره في الدنيا. والصعود الهاديء إلى ربى الناصرة بأحراشها العطرة، نزهة رائعة تبعث في النفس كل معاني السكينة والراحة.
... والنزول إلى مرج ابن عامر، والبقاع السندسية تحت بصرك كأنها سجادة مطرزة هوت من السماء وافترشت كل هاتيك البقاع.. ذلك وحده رفاقة مع الجمال والجلال.
... واجتياز جنين ونابلس ورام الله والبيرة بين الروابي والوديان مرصعة بالزيتون والأعناب، غرسها الآباء والأجداد، متعة روحية بالغة الإمتاع والإيناس.
... والإطلال على بيت المقدس من حي الشيخ جراح، وأسوارها التي تلف "الأقصى" و "القيامة" بين ذراعيها في سكون و دعة، وانما هو إطلال على موكب رائع من التاريخ والقداسة والجلال.(1/173)
... ولقد أخذت بهذا الجمال وأنا أسلك ذلك الطريق لأول مرة في حياتي، وما سلكته مرة إلاّ ورأيت صفحة جديدة من الجمال، الرائع الفتان.
... ولقد قدر لي في أسفاري إلى أوروبا وأفريقيا وأمريكا وآسيا أن أشهد مواطن بارعة ومفاتن رائعة في هذه الدنيا، ولكني كنت على الدوام أرى أن هذا الطريق من عكا إلى بيت المقدس وما حوله من المدن والقرى، والهضاب والوديان، والمروج والسهول والزروع والضروع، أروع جمالاً وأرفع حسناً.
... ولقد سقطت هذه البقاع كلها في يد إسرائيل في حرب حزيران من عام 1967، كما سقطت شقيقاتها من قبل في حرب 1948، فغدونا نراها في منامنا وأحلامنا فردوسنا المنشود، بل فردوسنا المفقود.. ولكن إلى حين..
... ووصلت بيت المقدس وقد امتلأت نفسي روعة بهذا الجمال الأخّاذ، وما أن نزلت الفندق حتى بدأت اتصالاتي بأصدقاء والدي أستعين بهم للدخول إلى معهد الحقوق.
... وكان هذا المعهد ليليا يبدأ دروسه في السادسة وينتهي في الساعة التاسعة مساء، يدرس فيه بعض الأساتذة البريطانيين وبعض القضاة من المحكمة العليا، ويشرف على هذا المعهد المجلس القضائي، ويرأسه النائب العام لحكومة فلسطين.
... وكان النائب العام في ذلك العهد المستر نورمن بنتوتين وهو أحد زعماء الحركة الصهيونية المعروفين، وهو من علماء القانون الدولي، وله عدة مؤلفات قانونية وسياسية.
... وكانت للمستر بنتوتين اختصاصات تشريعية واسعة، كما كانت لزميل له، صهيوني آخر، المستر دوخان، اختصاصات إدارية كبرى في(1/174)
دائرة الأراضي، وبهذا كان لهذين الصهيونيين الكبيرين دور ضخم في إقامة دعائم الوطن القومي اليهودي.
... وما هو أهم من كل ذلك أن دائرة المهاجرة التي كانت ذات اختصاص مباشر بالهجرة اليهودية كان على رأسها المستر جايمسون، وهو صهيوني على جانب وافر من الكفاءة، وبهذا أصبح الفرسان الثلاثة، بنتوتين ودوخان وجايمسون، دعائم الوطن القومي اليهودي، يبنونه بكل ما يملكون من إيمان وحماسة وكفاءة.
... وكان عدد الطلاب في معهد الحقوق محدودا، فطلبت مقابلة المستر بنتوتين بوصفه رئيس المجلس القضائي لأعرض عليه شهاداتي العلمية وأطلب إليه أن أكون في عداد الطلبة المقبولين.
... وقصدت في الموعد المحدد لي دار الحكومة – في باب العمود- وصعدت من طابق إلى طابق في ذلك المبنى الفخم، وفي ذلك الجو الهادىء لا تسمع لأحد حِساً ولا ركزاً.
... وكان في هذا البناء المندوب السامي وعدد من رؤساء الدوائر وساءلت نفسي: من هنا تحكم فلسطين بأسرها، ومن هنا يبنى الوطن القومي اليهودي على أرضنا؟
... ولم أسترسل طويلا في هذه الخواطر، فقد رأيت نفسي في غرفة المستر كنترفيتش، معاون المستر بنتوين فانتظرت في غرفته بعض الوقت.
... وكان هذا المعاون صهيونيا متطرفا على خلاف رئيسه الذي كان صهيونيا معتدلا، وكان المعاون يتفرس بي من حين إلى حين بنظرات شزرة، مليئة بالحقد والمكر.(1/175)
... ودخلت بعد هنيهة على المستر بنتوين وشرحت له رغبتي في الالتحاق بمعهد الحقوق وقد استأنس حين علم أني متخرج من مدرسة صهيون، وهو يحسب أن عروبتي قد تروضت في هذا المعهد البريطاني.
... وكان المستر بنتوين يستمع إلى "مرافعتي" وعيناه الواسعتان من وراء نظارته الكبيرة تتفرسان بي وهو يصغي بهدوء واهتمام، يقلب بين يديه أوراقي وشهاداتي، وانتهت الجلسة دون أن يقول كلمة واحدة، وخرجت من غرفته وفي يقيني أن طلبي مرفوض.
... ومررت بغرفة معاونه "كنتر فيتش" و إذا فيها خمسة طلاب من اليهود جاءوا يلتمسون دخول معهد الحقوق، ولقد رأيتهم يجلسون من حوله يدخنون ويتباسطون ويشربون القهوة، ولكن "كنتر فيتش" عاد عابسا مقطبا متجهماً حين اقتربت من طاولته لأترك عنواني لديه، وانصرفت.
... وعرجت على موظف عربي يعمل في دائرة المستر بنتوتين لأستعين به في التذكير بموضوعي، وذكرت له ما جرى، فرفع رأسه عن الملفات التي أمامه وهو يقول: سيصلك قريبا كتاب بالقبول، اطمئن ولا تقلق!
... قلت له ويكاد قلبي يقفز من صدري على طاولته، وكيف ذلك؟ قال: لقد تقدم خمسة طلاب يهود بطلبات، وسيقبلون حتما، وستقبل في ركابهم.
... وهكذا كان، فقد تسلمت بعد بضعة أيام كتابا من المستر كنتر فيتش يعلمني فيه بالقبول، واتصل بي الموظف العربي وأخبرني أن اليهود الذين قبلوا كانوا سبعة لا خمسة، وأنني دخلت في "مرقة" السبعة وسأجتمع بهم في المعهد عند افتتاحه.(1/176)
... وإنني أروي هذا الحادث الصغير الذي كان جزءاً صغيراً من الحياة اليومية في فلسطين لثلاثين عاما في زمن الانتداب البريطاني، بنت حكومة الانتداب خلالها الوطن القومي اليهودي حجرا حجرا، مع كل يهودي بمفرده، المهاجر والفلاح، والطبيب، والمحامي، والطالب، والصانع، والسائق، والمرأة والطفل، حتى توافرت للمجتمع اليهودي كل مقومات الدولة، وحتى إذا جاء اليوم الرابع عشر من شهر أيار سنة 1948 كانت إسرائيل.. وكانت الدولة اليهودية.
... وكان الطابق الذي يشغله بنتوين وكنتر فيتش يمثل الحركة الصهيونية أصدق تمثيل، فقد كان الأول هادىء التفكير يمنح الوطن القومي عقله المخطط، وكان الثاني شديد الإندفاع، يمنحه عزمه المنفذ.
... ولقد استطاع جيلنا العربي في ظل الانتداب البريطاني، أن يجد له مجالا في الحياة، موظفا أو طبيبا أو محاميا، ولكن "الدولة" وقد تغلغلت في مراكزها الحساسة الشخصيات الصهيونية من أمثال بنتوين وكنتر فيتش فضلا عن الشخصيات البريطانية التي تسندها، كان كل همها أن تبني في فلسطين دولة يهودية، يكون العرب على هامشها وتحت رحمتها.
... وافتتح المعهد أبوابه، وكان يحتل جناحاً في "المسكوبية" حيث دور المحاكم، وأصبحت أتردد كل مساء لأستمع إلى محاضرات الأساتذة وكان مدير المعهد المستر جودبي وهو عالم كبير متخصص في القانون الدولي الخاص، وكان من الأساتذة العرب، القاضيان علي جار الله وفرنسيس خياط، والمحاميان عوني عبد الهادي وعادل زعيتر.(1/177)
... وتحت سقف واحد، وبين يدي المحاضر الواحد، كنا نحن طلاب الحقوق، العرب واليهود، نجتمع معا ونستمع معا إلى محاضرات الأساتذة وكلها تدور حول القانون بفروعه المختلفة.
... وفي ردهات المعهد كنا نحن الطلاب عربا ويهودا، نسير في الرواق جنبا إلى جنب في أحاديث قانونية وغير قانونية، ولم تكن تخلو الأحاديث من جوانب اجتماعية نتبادل فيها ما يجري بين الطلاب من شؤون خالية من الشجون.
... ولكن الاندماج والانسجام بيننا وبين اليهود لم يكونا متكاملين متصافيين، فسرعان ما كنا ننفض بعضنا عن بعض، حتى تعود إلينا نحن الطلاب العرب مخاوفنا وهواجسنا، وسرعان ما تتحرك البغضاء في نفوسنا إزاء هؤلاء الطلاب اليهود، وأكثرهم من المهاجرين الجدد، الذين جاءوا إلى وطننا ليحلوا محلنا.
... وقد زاد من إحساسنا بالظلم أننا كنا نعيش هذا الجو الروحي في معهد الحقوق، معهد الحق والعدل.
... غير أننا لم نكن نخشى أن يأتي يوم في عمرنا نخرج فيه من وطننا وديارنا من مدننا وقرانا ومزارعنا ومصانعنا- لم يكن ذلك يدور في خلدنا.. أبدا..
... وقد زاد من هذه الطمأنينة أن المحاضرات التي كانت تلقى علينا والكتب التي كانت بين أيدينا، كلها تجعل للحق حرمة كبرى، وللقانون سلطانا مهاباً، وللعدل قوة نافذة.(1/178)
... بل لعلنا أسرفنا في خداع أنفسنا في هذه المعاني، فقد نذرنا أن نجعل من ميدان "الحق والعدل" مهنة لنا نتكسب من ورائها، ونعيش في كنفها، ولم ندر أن وجودنا كله في وطننا إنما يستمد "وجوده" من "القوة" لا من الحق ولا من القانون!
... ولكن المعهد الليلي لم يكن يشغل كل وقتي، وأصبحت أجد في البحث عن عمل يملأ فراغي، وجاءت مصادفة غريبة نزلت من السماء.
... في ذات يوم زرت جريدة مرآة الشرق وكان مكتبها بجوار باب الخليل، وكانت جريدة أسبوعية لصاحبها السيد بولس شحادة، وكان "خطابي" في ذكرى الشهداء في بيروت، قد وصلت أخباره إلى جريدة مرآة الشرق.
... ودار حديثي مع صاحب الجريدة حول تخلف الصحافة الفلسطينية عن ركب الحركة الوطنية، وكانت الصحف الفلسطينية يومئذ، الجامعة العربية، ومرآة الشرق في القدس، وفلسطين والصراط المستقيم والجامعة الإسلامية في يافا، وجريدتا الكرمل والنفير في حيفا، وصدرت جريدة الدفاع بعد ذلك بسنتين أو ثلاث، وكانت جريدة الكرمل لصاحبها نجيب نصار (لبناني أصلا) أقدم عهداً في التصدي للصهيونية.
... وكان بولس شحادة متهما بأنه من المعتدلين، وله مع الموظفين البريطانيين اجتماعات وأحاديث، فأخذته الحماسة وراح يدافع عن نفسه ويعرب عن استعداده لجعل جريدته تحت تصرف الشباب الوطنيين.
... وهنا ابتدرني متحدثا وهو يقول: "أنا مستعد أن أسلمك الجريدة" ولم يكن من داع للتحدي، فقد كنت أبحث عن عمل أملأ به فراغي وأتكفل بعض نفقاتي.. فبادرته بالحديث وهو يحسب أنني وقعت في فخ التحدي، وقلت له(1/179)
إنني سأعمل على إصدار الجريدة مرتين في الأسبوع لأفتتح عهداً جديداً في عالم الصحافة، فوافق على ذلك مرحبا وهو يتطلع أن تحرز جريدته قصب السبق على الصحف الأخرى.
... وقد عرض علي، بولس شحادة، أن أقيم في منزله مع عائلته كواحد من أولاده، طعاماً ومناما.. وهذا هو كل الأجر الذي يستطيع أن يقدمه، فإن موارد الجريدة قليلة ومصاريفها باهظة، وأنه "سيكرمني" إذا فتح الله على الجريدة بخير..
... فرضيت بهذا العرض، وبدأت صفحة جديدة في حياتي، صحفيا في النهار وطالب حقوق في المساء.
... وهكذا وضعت قدمي على العتبات الأولى في ميدان الحركة الوطنية في فلسطين، لأنتقل بعدها بسنين إلى ميدان الحياة العامة على الصعيدين العربي والدولي.(1/180)
أطرد أباك من الميدان
... دخل عام 1928 على حياتي لأستقبل في العشرين من عمري عملي في الصحافة والسياسة نهارا وفي دراسة الحقوق ليلا، وهذه الجوانب الثلاثة متداخلة تداخل الليل بالنهار، فالصحافة لابد لها من السياسة، وكلاهما لابد له من ثقافة جوهرها الحق والعدل ومبادىء القانون.
... ولقد أقبلت على هذه الجوانب الثلاثة بكل جوارحي ووهبتها كل أوقاتي لا أعرف طعماً للراحة حتىأصبح أصدقائي ومعارفي يشفقون على هذا "الإدمان" المتواصل في النشاط الدائب.
... وواجهت حقائق الحياة الوطنية الفلسطينية، فراعتني وقائعها الأليمة ، وأيقنت أن الخطر الصهيوني ينشب مخالبه، دون أن يلقى منا مقاومة جدية أو يصعد بنا إلى مستوى الأحداث.
... لقد كانت الحركة الوطنية في فلسطين بدائية متخلفة، إذا قيست بالحركة الصهيونية، فقد كانت الصهيونية حركة منظمة عالمية لها اتصالات دولية، مجهزة بوسائل الإعلام، وتسندها مؤسسات مالية ضخمة لتشجيع الهجرة وابتياع الأراضي، وكانت الوكالة اليهودية في فلسطين أشبه بحكومة لها ميزاتها ودوائرها ونشاطها، ووراء ذلك الحكومة البريطانية تعلن بصراحة كاملة أن مهمتها الرئيسية هي تشجيع الهجرة اليهودية وتسهيل(1/181)
انتقال الأراضي لليهود ووضع "البلاد تحت ظروف تسهل إنشاء الوطن القومي اليهودي".
... ذلك كان جهاز الصهيونية في كلمات قليلات، فماذا كان الجهاز الفلسطيني العربي؟ كان شعبنا في مجموعه، شأنه اليوم بعد خمسين عاما من الكوارث، المثل الأعلى في الوطنية والإخلاص والاستعداد للبذل والتضحية كما شهدت بذلك ثوراته الخمس عشرة التي شنها على الصهيونية والاستعمار في مدى ثلاثين عاما خلال عهد الانتداب البريطاني.
... ولكن القيادة الوطنية لم تكن مؤهلة للمعركة الضخمة التي فرضت عليها، وللغزوة الطاغية التي كان عليها أن تتصدى لها.
... لم تكن الحركة الفلسطينية منظمة ذات خطة مدروسة واضحة، وكان "التحرك" الوطني عفوياً عاطفياً، تثيره أحداث الهجرة والاستفزازات الصهيونية، وفي معظم الأحوال كان الشعب هو الذي يقود الحركة الوطنية، ويقود معها زعماءه وقادته!
... وكان على رأس الحركة الوطنية يوم افتتحت حياتي الصحفية والسياسية موسى كاظم باشا الحسيني رئيس اللجنة التنفيذية، رجل وطني ومخلص استقال من رئاسة المجلس البلدي في القدس احتجاجاً على سياسة الوطن القومي اليهودي، وأصبح زعيم البلاد منذ أوائل العشرينات.
... وقد اجتمعت به غير مرة، وكان في أخريات حياته، وأشهد له بالتقوى وسلامة النية والوطنية، ولكن أنىّ له أن يكون كفؤا لوايزمن الذي كان يومئذ زعيم الحركة الصهيونية.(1/182)
... ولست أظلم موسى كاظم الحسيني، فقد وهب وطنه كل ما يملك من قدرات ومواهب، ولا ذنب له أن قدراته محدودة، فهو ابن جيله وابن بيئته الفلسطينية، وتلك كانت حال البيئة العربية بأسرها، فلا لوم عليه ولا تثريب.
... وكذلك كانت حال القيادات الفلسطينية في مختلف مدن فلسطين: وجهاء محترمون، مخصلون، محبون لوطنهم، وقد وهبوا شعبهم كل طاقاتهم، ولا لوم عليهم أن طاقاتهم محدودة، فلقد نشأوا هكذا، وهكذا كانوا.
... وفي الوقت الذي كانت فيه الصهيونية مسنودة باليهودية العالمية والدول الإستعمارية، كان العالمان العربي والإسلامي من حول فلسطين، لا طول لهم ولا حول، تحت الاحتلال والنفود الأجنبي.
... وقد زرت مكاتب اللجنة التنفيذية في القدس، وهي مقر القيادة الفلسطينية، وكانت بلغت يومئذ "أوجها" في التنظيم، فملك الحزن كل مشاعري وخواطري.
... كانت اللجنة التنفيذية "فقيرة" في مالها وكفاءاتها ونظامها: المكاتب مهلهلة، والأوراق مبعثرة، والملفات فيها بعض المراسلات العادية، ولا أظلم أحدا ولا ألوم أحدا، فتلك كانت حالنا وأوضاعنا، وفاقد الشيء لا يعطيه.
ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار
ولم يكن اليهود على كمال كامل، فقد كانت بينهم مشاجرات وخصومات وأحزاب، ولكن ذلك كله كان يسيطر عليه نظام، وتضبطه ضوابط.
... ففي خارج بيت المقدس كانت تقيم الوكالة اليهودية بدوائرها: الهجرة، الأراضي، المعارف، الدفاع، الدعاية، وعلى رأسها كفاءات ذات خبرات غنية.(1/183)
... تلك حالة الحركة العربية والحركة الصهيونية في فلسطين، وكان طبيعياً أن لا يقوم تكافؤ بين الحركتين، بل ان التفوق الصهيوني كان طاغياً بالغ الطغيان.
... ولو كان للحقائق الحسابية العلمية أن تقرر المصير، لوجب أن يقوم الوطن القومي اليهودي ومعه إسرائيل في سنوات قليلات، لا بعد ثلاثين عاما في سنة 1948. ولكن أصالة الشعب العربي الفلسطيني وعراقته، ووطنيته الفطرية هي التي تغلبت على تلكم الحقائق، وصمد الشعب الفلسطيني ثلاثين عاما يقاوم ويغالب، إلى أن جاءت الكوارث العسكرية العربية في عام 1948، 1956، 1967 فكان أن وقع وطننا كله تحت الاحتلال، وأصبح شعبنا بين أسير ونازح، وشريد وشهيد.
... وغداة أصبحت أمارس الصحافة والسياسة، كانت الحركة الوطنية فاترة، وكانت الخلافات على أشدِّها بين رجالات البلاد، مجلسيين ومعارضين، المجلسيون يقودهم الحاج أمين الحسيني والمعارضون يقودهم راغب النشاشيبي.
... وكنت أجلس في مكتبي في جريدة مرآة الشرق أفكر طويلاً في هذا الشقاق الناشب بين رجالات البلاد، وكان يؤم مكتبي عدد من الشباب من أبناء القدس والوافدين عليها من المدن الأخرى، حتىأصبح مكتب مرآة الشرق ندوة سياسية نتذاكر فيها تفاقم الخطر الصهيوني وتردي الحركة الوطنية.
... واستقر رأينا، هؤلاء الشباب وأنا، أن ننفخ روحا جديدة في الحركة الوطنية، وأن نشق خطا وطنيا مستقلاً، لا مجلسيا ولا معارضا، وأن ندعو(1/184)
إلى مصارحة الاستعمار البريطاني بالعداء باعتباره مصدر الداء ورأس البلاء.
... وكانت الحركة الوطنية في معظم الأحوال، متعايشة مع الإدارة الإنجليزية إلى حد غير قليل، فالسيد أمين الحسيني بدأ حياته الوطنية شابا ثائراً ثم أصبح رئيساً للمجلس الإسلامي الأعلى بموافقة السلطة البريطانية ويتقاضى نصف راتبه من خزانتها.. وقد حدث ذلك في عهد السير هربرت صموئيل، المندوب السامي اليهودي البريطاني! والسيد راغب النشاشيبي رئيس بلدية القدس وسائر أعوانه رؤساء البلديات في فلسطين كانوا يعينون لمناصبهم بموافقة السلطات البريطانية، وبهذا أصبح هذان الحزبان "الوطنيان" الكبيران، يعيشان في كنف السياسة البريطانية.
... وكان حزب المجلسيين أكثر اندفاعا، كما كان حزب المعارضين أكثر اعتدالا.. ولكن الحركة الوطنية إلى ذلك العهد كانت تتصدى للسياسة الصهيونية، وتغض الطرف عن السياسة البريطانية.
... وقد أوحى إلينا هذا التردي القومي، نحن مجموعة الشباب، أن ننبه الشعب إلى هذه الحالة المفجعة، وهكذا جعلت مرآة الشرق منبرا لهذه الدعوة المستقلة.
... وكتبت أولى مقالاتي – وكانت تضج بالثورة والحماسة، وكان عنوانها "تقدم أيها الشاب واطرد أباك من الميدان" وواضح من العنوان أني دعوت إلى نبذ الزعامات التقليدية لتحل محلها قيادات شابة، لا تهادن السياسة البريطانية ولا تجاملها.(1/185)
... وقد أثار هذا المقال المحافل الوطنية وأوساط الشعب، وأصبحت جريدة مرآة الشرق جريدة وطنية بعد أن كانت جريدة تنطق بلسان المعارضين، وأصبح الشباب يتوافدون على مكاتب الجريدة ليلا ونهارا.
... على أن هذا المقال قد جعل منه زعماء المعارضة مجالا للتفكهة والتندر، فكانوا كلما لقوا والدي وهو زميلهم في المعارضة، بادروه بأعلى أصواتهم "تقدم أيها الشاب واطرد أباك من الميدان".
... واشتد الضغط على صاحب الجريدة، بولس شحادة، ليقصيني عن العمل، ولكنه كان ضعيفاً أمام جموع الشباب فلم ينبس ببنت شفة.
... ولما لم يفلح هذا الضغط استعان "بعضهم" ولا أستطيع أن أتهم أحدا بالذات، بحاكم القدس كيث روث "باشا" الذي خلع على نفسه هذا اللقب تقليداً لبعض حكام القدس في زمن الدولة العثمانية.
... ووجد الباشا البريطاني ضالته في قانون المطبوعات العثماني، الذي ينص على أن المحرر المسؤول في الجريدة يجب أن يكون قد تجاوز الحادية والعشرين من عمره، وكنت في ذلك الوقت على عتبات العشرين.
... فوجه الباشا إليّ كتابا ينذرني بالتوقف عن العمل في الصحف، فثارت ثائرة الشباب، وأعدوا "عريضة" تحمل تواقيع الأطباء والأعيان تؤكد أنني "تجاوزت الحادية والعشرين" وأرسلت العريضة إلى مكتب الباشا، ودفنت الفتنة "رحم" الله من أيقظها، ومضيت في الجريدة أكتب مقالاتي غير هياب ولا وجل.
... وتصديت بعد ذلك للحاج أمين الحسيني في عدة مقالات، أندد بسياسته في المجلس الإسلامي، وأنعي عليه تعيين أقاربه وأهله في المحاكم الشرعية(1/186)
ودوائر الأوقاف، وكان أشدّ هذه المقالات بعنوان "اتعظ بعثمان بن عفان يا حاج أمين".
... وقد سردت في هذا المقال تصرف عثمان رضى الله عنه مع أقربائه، وقد ولاهم المناصب وأغدق عليهم الرواتب، وكيف تألب عليه الناس وقتلوه في داره والقرآن بين يديه.
... وكان المقال قاسيا من غير شك، وفيه تحريض وإثارة، ولكني كنت أقصد إلى غير ذلك.
... كنت أقصد إلى إحراج الحاج أمين الحسيني وإخراجه، ليخرج من المجلس الإسلامي ويقود الحركة الوطنية مباشرة وعلانية، فقد كنت أراه مؤهلاً للزعامة، ولكن الحاج أمين لم يحرج ولم يخرج، وقنع أن يبقى في منصبه، يسند الحركة الوطنية من وراء ستار، دون أن يثير حفيظة الإنجليز.
... وقد عقد المؤتمر الوطني السابع في ذلك العام 1928 وكانت قد سبقته ستة مؤتمرات منذ أوائل العشرينات، فازدادت ثورتنا نحن الشباب، وازدادت مرآة الشرق نقمة على الأوضاع السائدة.
... لقد حضرت هذا المؤتمر، صحفيا، وقد شهده جميع رجالات فلسطين، وقد حضره الحاج أمين وأعوانه، وراغب النشاشيبي وأعوانه وترأسه الرئيس موسى كاظم باشا.
... وكاد أن يتصدع المؤتمر وينفرط على غير نتيجة لولا الصيحة الاستقلالية التي تغلغلت في نفوس الشعب، التي كان يقودها مجموعات الشباب الذين اتخذوا من مرآة الشرق، منبراً لآرائهم ومقرا لقيادتهم.(1/187)
... وانتهى المؤتمر إلى مصالحة بين المجلسيين والمعارضين واقتسموا مقاعد اللجنة التنفيذية وجعلوا لها ثلاثة أمناء، المحاميين عوني عبد الهادي ومغنم إلياس مغنم، وجمال الحسيني.
... ولقد شاء القدر أن أكون محامياً متمرناً لدى الأول والثاني أثناء دراستي للحقوق، وزميلاً للثالث في العمل الوطني، بعد ذلك بسنين.
... ولم أقنع أن يكون نشاطي في بيت المقدس، بل امتد إلى عمان والأمير "الملك عبد الله" في قصر رغدان.
... فلقد كانت في إمارة شرقي الأردن معارضة وطنية يقودها عدد من رجالات البلاد بينهم طاهر الجقة وحسين باشا الطراونة وسالم باشا أبو الغنم: وكانوا ينددون بالنفوذ البريطاني على الأردن، وكان من زعماء المعارضة الذين توطدت بيني وبينهم الصلة السيد عادل العظمة – السوري الدمشقي- وكان عضوا في البرلمان الأردني عن منطقة عمان، وأصبح وزيرا للداخلية في سوريا بعد الاستقلال غداة عودته إلى دمشق.
... وإني لأتساءل الآن، بعد أربعين عاما من ذلك العهد، عن ذلك البرلمان العربي الذي يكون أحد أعضائه من غير المواطنين.. من غير أبناء البلد!
... وكان زعماء المعارضة الأردنية يترددون على القدس، وزاروني في مرآة الشرق وتحدثوا إليّ في أمورهم فأخذت أناصرهم وأكتب المقالات الطوال في تأييدهم وشجب سياسة الأمير عبد الله، وقد حاول غير مرة اجتذاب الشركات اليهودية إلى البلاد والتفاهم مع زعماء الحركة الصهيونية.(1/188)
... ومن غرائب المصادفات أن والدي كان في ضيافة الأمير عبد الله في عمان عام 1928 – وكانت بينهما صداقة وطيدة منذ كانا معا في الآستانة في العهد العثماني- فأخذت أكتب تفاصيل مثيرة عن لقاء الأمير عبد الله بممثلي الشركات اليهودية، والاتفاقات التي تمت معه على بيعهم 100 ألف دونم من الأراضي التي يملكها، وتهجير اليهود إليها، مما حمل الشعب الأردني على إحباط هذه الصفقة.
... وكانت المجالس الوطنية تتندر بهذا "الفراق" السياسي بين الشقيري الكبير والشقيري الصغير، الأول في عمان في ضيافة الأمير عبد الله، والثاني في بيت المقدس يهاجم الأمير في جريدة مرآة الشرق، وكانت ظاهرة سياسية لم تكن مألوفة إلى ذلك العهد في المجتمع العربي.. ولعلها ليست مألوفة حتى اليوم.
... ولقد أحسست منذ ذلك العهد بالترابط العميق بين فلسطين وشرقي الأردن، واستنكرت أن يكون هذا المجرى المسمى نهر الأردن فاصلاً بين عمان والقدس. ولم أكن أدري أن كارثة ستقع في عام 1948 لتجمع بينهما وتتوالى عليهما بعد ذلك الكوارث، واحدة بعد واحدة.
... بل لم أكن أدري أن القدر سيجعلني في خضم هذه الكوارث، أساهم في حمل بعض أثقالها وأحمالها..
" وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا.."(1/189)
الحاج أمين..
على صهوة جواده الأبيض
... شهدت فلسطين في عام 1928 نشاطاً قومياً عاماً على كل صعيد، فقد كانت الاجتماعات تتوالى في جميع أنحاء البلاد، وكان للشباب دور بارز في إيقاظ الشعور الوطني وتحريك الجماهير لمقاومة الاستعمار والصهيونية.
... وكان من آيات ذلك إنشاء جمعيات الشبان المسلمين، على غرار ما قام في مصر، وكان قد زار البلاد الدكتور عبد الحميد سعيد الرئيس العام لجمعيات الشبان المسلمين وطاف في معظم مدن فلسطين وخطب في المساجد داعيا إلى تأسيس هذه الجمعيات شارحاً أهدافها ومبادئها.
... وكان معروفا لنا أن هذه الجمعيات قد تأسست تحت رعاية الملك فؤاد لتكون قوة إسلامية تدعمه في ظروف كثر فيها الحديث عن الخلافة الإسلامية، واتخاذ القاهرة مقراً لها، وفؤاد على رأسها.
... وقد راقتنا فكرة إنشاء هذه الجمعيات، دون أن نبالي بالخلافة أو بمقاصد فؤاد من ورائها، بل كان همنا أن تكون لنا أندية نتجمع فيها، ونتدارس شؤوننا ونعمل لقضيتنا.
... وكان من الحوافز على ذلك قيام جمعيات الشبان المسيحية في فلسطين، وكانت هذه تحت رعاية السلطة البريطانية، وهكذا مضينا في الدعوة إلى عقد المؤتمر في يافا للاتفاق على التدابير اللازمة.(1/190)
... واستجاب عدد كبير من رجالات البلاد وشبابها لهذه الدعوة، وعقد المؤتمر في جو حماسي رائع، وقد رأسه راغب الإمام أحد المحامين المعروفين، وكان وفد القدس مؤلفا من أحمد سامح الخالدي من رجال التربية ومن المحامين عمر الصالح البرغوثي وفائز الحداد وصبحي الخضراء، وكنت عضوا في هذا الوفد.
... وقد أثار استغراب المؤتمر أن أكون عضوا في وفد القدس، فقد كانت القدس معروفة بتقاليدها وعنعناتها العائلية، ولكن التفكير الوطني الحر كان قد شق طريقه، وأخذ يجرف من أمامه هذه النعرات.
... وصادف في ذلك الوقت أن وفد عكا كان فيه أكرم زعيتر من نابلس (وزير البلاط في الأردن) وكان معلما في مدرستها، فجاءت بادرة طيبة تنبىء عن تلاحم القوى الوطنية بعيدا عن الاعتبارات الضيقة، وأن يكون ابن عكا ممثلا للقدس وابن نابلس ممثلاً لعكا.
... ونجح المؤتمر نجاحاً باهراً وقرر تأسيس جمعيات الشبان المسلمين في كل أنحاء البلاد، ولقد حرصنا أن تظل الجبهة الوطنية في فلسطين الإسلامية – المسيحية، قوية متماسكة، وبات مفهوما لدى الأوساط المسيحية أن تأليف جمعيات الشبان المسلمين هو قوة جديدة للحركة الوطنية، وليس انفصاماً للجبهة القومية.
... و أثناء اجتماعات المؤتمر، أعلنت في عدة مناسبات تماسك المسلمين والمسيحين في فلسطين في حركتهم الوطنية، لا يضيرها وجود أندية إسلامية وأخرى مسيحية. وأيدني في هذه الدعوة عدد من رجال المؤتمر.(1/191)
... وقد استقبلت الأوساط الوطنية في يافا، وفي البلاد عامة، هذه التصريحات بترحاب وتقدير، وكانت يافا مركز الحركة الفكرية لفلسطين كلها، فقد كان فيها نواد متعددة على مستوى راق، وكانت فيها كبريات الصحف الفلسطينية، فلسطين، والصراط المستقيم، والدفاع، والجامعة الإسلامية، وصوت الحق، فضلا عن أنها كانت قبل نمو حيفا، العاصمة التجارية وفيها المرفأ المعروف.
... ولم أكد أصل إلى القدس حتى تلقيت الدعوات من أندية يافا لإلقاء محاضرات وطنية ولم أتردد في الاستجابة للدعوة.
... وسافرت من القدس إلى يافا، عبر الطريق التاريخي القديم، بمنعطفاته الحادة، ومنها إلى باب الواد فالسهول السندسية، فبيارات البرتقال بعطرها الفواح، حتى بلغت يافا ومنها إلى النادي الارثوذكسي.
... وكانت القاعة مليئة بالجمهور، رجالا ونساء، وكان موضوع المحاضرة "ربيع الحياة" فأخذت أتحدث وأتحدث قريبا من ساعتين، وأنا أشرح مراحل الحياة ودور الإنسان في كل منها، معتبرا أن الشباب هو ربيع الحياة، مستطردا إلى القول أن الإنسان يستطيع أن يظل شابا في ربيع الحياة، إذا امتد نشاطه في خدمة وطنه بفكر جديد متجدد وعزيمة متقدة.
... وكانت المحاضرة وطنية في طابعها العام، في الدعوة لتجميع قوى الشعب للوقوف في وجه الإستعمار والصهيونية، بعيدا عن النزعات العائلية والطائفية والمحلية.(1/192)
... وكانت البلاد يومئذ تمزقها الخلافات العائلية، هؤلاء حسينيون وأولئك نشاشيبيون، وكادت جدران القاعة تتهاوى من التصفيق وأنا أدعو إلى التفكير الوطني الخالص، مبرأً من هذه الحزازات.
... وخرج الجمهور راضيا، فأُعجب الشباب بالدور الذي رسمته أمامهم، ووجد الشيوخ مكانهم إذا واكبوا مسيرة الشباب ولم يتقاعدوا أو يتقاعسوا.
... وفي اليوم التالي خطبت في النادي الرياضي الإسلامي، وصادف أن كان عيد المولد النبوي الشريف، فتحدثت عن الرسول العظيم، ثائرا على الظلم، مجاهدا في سبيل إعلاء كلمة الحق، وجعلت للحركة الوطنية استطرادات متعددة، وفي حياة الرسول الكريم رحاب فسيحة في كل منافسة وفي كل موضوع.
... ومن يافا ذهبت إلى الرملة استجابة لدعوة الشباب، وألقيت محاضرة عنوانها "الكنيته" (1) وقد أثار عنوانها جدلا وصل إلى درجة حادة، اشترك فيه اللغويون، وهم يتساءلون عن هذا العنوان العجيب الغريب.
... ولقد وصلت الرملة، والشوارع تعج بالناس وهم في طريقهم إلى النادي، ولم يعد يهمهم من أمر المحاضرة إلاّ أن يعرفوا معنى العنوان العجيب الغريب.
... وعزمت أن أريح الناس من "الأزمة" من بداية المحاضرة، فشرحت لهم أن العرب يقولون فلان "كنتي" إذا كان يكثر من القول، كان أبي وكان جدي..
__________
(1) يقصد بها النسبة إلى (كنت)... و (كنت) ولعل في ذلك إشارة لقول الشاعر <<ليس الفتى من يقول كان أبي...>> [المحرر].(1/193)
... وضجت القاعة بالتهليل والتكبير، وأنا أدعو أن نهجر الحديث عن ماضي الآباء والأجداد، وأننا في حاجة إلى أنفسنا وإلى حاضرنا لنصمد أمام الغزوة الصهيونية الخطيرة التي تواجهنا، وأن نهجر كنت وكنا، وأن نصبح بعد اليوم صرت وصرنا..
... ومضت سنون على هذه المحاضرة، والناس يتحدثون عن هذا التعبير الجديد "الكنيته" (1) وهم بين جاد ومستظرف.
... وصادف أن كان في الرملة يومئذ بعض شباب الخليل، جاءوا لتفقد أقاربهم، فألحوا على أن أزورهم في الخليل لمناسبة موسم النبي موسى حيث تحتشد الجماهير، وتكون مناسبة عظمى للتحدث في القضية الوطنية.
... ولم يكن هنالك حاجة إلى الإلحاح، بل لم تكن حاجة للدعوة، فقد كنت مستعداً أن أذهب من غير دعوة، ويكفي أن يكون هناك اجتماع كبير لأخطب فيه.
... وعدت إلى القدس، وأنا فخور ومغرور، فقد أرسلتها صيحة داوية نددت فيها "بالعائلية" التي كانت تنخر كالسوس في جسد القضية الوطنية وروحها.
... ومضت أيام وأقبل موسم النبي موسى وما هي إلاّ ساعة أو بعض ساعة حتى كنت عند أصدقائي في الخليل.
__________
(1) يقصد بها النسبة إلى (كنت)... و (كنت) ولعل في ذلك إشارة لقول الشاعر <<ليس الفتى من يقول كان أبي...>> [المحرر](1/194)
... وكان موسم النبي موسى، واحدا من المواسم الوطنية التي أنشأها وأحياها صلاح الدين الأيوبي لإذكاء الروح الوطنية في وجه الحملة الصليبية، وإظهار قوة العرب أمام الإفرنج.
... ثم جاء الاحتلال البريطاني، فرأت الحركة الوطنية أن تحيي هذه المواسم، وكان للحاج أمين الحسيني يد طولى في تنشيطها، بما كان له من سلطة على الشؤون الإسلامية بوصفه رئيساً للمجلس الإسلامي.
... وكانت هذه المهرجانات الشعبية تمتد أياما في القدس، ويفد إليها الناس من نابلس يتقدمهم علمهم، ومن الخليل يتقدمهم علمهم.
... وسرت مع الجموع في الخليل، والشباب يهزجون وينشدون، والصنوج تضرب والطبول تقرع. والنساء تزغرد على الأسطح ومن النوافذ، وحملني أصدقائي على أكتافهم، فراعني أن أشهد الجماهير تملأ الشوارع والساحات على امتداد البصر وأنا أرى أمامي الأعلام الخفاقة والسيوف المشرعة.
... وكان مشهدا حماسيا بالغ الروعة، زاد من حماستي وألهب قريحتي، فانطلقت أخاطب الجماهير عن الاستعمار والصهيونية، داعيا إلى وحدة الكلمة ونبذ الخلافات العائلية، والإعداد للثورة المسلحة، وأنا أقول: "إن هذه السيوف لا ينقصها إلاّ أن تسيل منها الدماء" إلى آخر ما أوحاه مشهد الساعة.
... فسادَ الهرج والمرج، ورأى بعض "العقلاء" أنني تجاوزت الحدود، وأنه لا داعي لهذا الكلام، فصاح بهم الشباب ينعون عليهم تخاذلهم، وتحرك رجال الشرطة، وانتزعني أصدقائي من بين الصفوف وأخذوني إلى المقبرة(1/195)
بعيداً عن العيون، إلى أن جاؤوني بسيارة نقلتني إلى القدس، وهم فخورون أنهم استطاعوا تضليل رجال الشرطة، وإنقاذي من مطاردتهم.
... ورأيت أن ألتزم السكينة في القدس، فقد كفى ما كان في يافا والرملة والخليل، وقد حان الوقت لاستئناف الدراسة ليلاً والصحافة نهاراً فرحت أكتب المقالات الطوال، ثم أطيل فيها وأطيل حتى تبلغ الصفحة الأولى بكاملها، فقد كان ذلك ما يتبارى فيه الصحفيون في ذلك الوقت، وكان الإيجاز عجزاً يدل على أن صاحبه ليس له النفس الطويل.
... وقد دعوت في هذه المقالات إلى تنظيم هذه المواسم الشعبية وجعلها فرصة للتوعية القومية.
... وحدث أني قضيت يوماً بكامله عشته مع النبي موسى في القدس، فقد ذهبت إلى المسجد الأقصى، ولم يكن فيه مكان لقدم، سواء في ساحاته الرحبة أو أروقته، أوالأزقة والحارات من حوله.
... ولم يكن ما يشغل الجماهير، إلاّ الدبكة حلقات حلقات، والأطفال والنساء والرجال متفرجين أو آكلين وشاربين، ولم يكن هناك وعظ ديني أو توجيه وطني.
... وانتقلت إلى خارج السور، إلى الطريق المؤدية إلى قبر النبي موسى- طريق أريحا- وكانت الجماهير على الروابي والسلاسل من حول هذا الطريق بمنعرجاته، بأغواره وأنجاده، والكل ينتظرون مقدم الحاج أمين الحسيني رئيس المجلس الإسلامي الأعلى.. ووقفت على نشز من الشارع وسط الجماهير المتراصة. وجاء الحاج أمين في موكبه، يركب حصانا أبيض، ومن حوله الشباب بسيوفهم وهراواتهم، وهو يمتطي صهوة جواده(1/196)
بقامة منتصبة، يلتفت يمنة ويسرة، يحيي بيده جماهير الشعب، بكل تؤدة وأناقة، وابتسامته الحلوة تستدرج الجماهير إلى الهتاف وتوحي إليهم بالتصفيق!
... وقد وقع هذا الموكب في نفسي موقعاً بارداً فاتراً، ولم أكن أكره الحاج أمين كما كان والدي، ولم أكن آخذ عليه تزلفه للجماهير، فالزعيم في الحركات التحريرية الوطنية لابد له من إثارة حماسة الشعب وتوثيق صلته به- بمختلف الأسباب والأساليب.. ولكني عبت عليه أنه جعل موسم النبي موسى لمجده، لا لمجد الوطن، حتىأصبح موسم الحاج أمين، لا موسم صلاح الدين وكان من اليسير أن يكون لهما معا.
... ومع الأيام والسنين، ازدادت معرفتي وصلاتي بالحاج أمين الحسيني وخاصة بعد أن اضطلع بقيادة الحركة الوطنية مباشرة سنة 1936 وما بعدها، فعملت معه في الحقل الوطني، وتصادقنا إلى حين.
... وكنت أحدثه بعد النكبة وقبلها، عن سقطات الحركة الوطنية ومزالقها، وما يحمل من مسؤوليات النكبة، وكان موسم النبي موسى واحدا من هذه الأحاديث. ولقد كان الحاج أمين مؤهلاً للزعامة من غير شك، وكان وطنياً مخلصاً من غير شك، ولكن أمجاد "سماحته" كانت تفوق أمجاد الوطن، فسقط الوطن وسقطت معه الأمجاد.
... وكان في موسم النبي موسى هتاف رائع مجيد: سيف الدين الحاج أمين: فسقط الموسم، وسقط معه الهتاف.
... وقد أورث الحاج أمين في نفسي منذ ذلك الوقت خوفاً كبيراً من الزعامة ومسؤولياتها.(1/197)
... ويوم جاءت الأقدار في عام 1963 لأتولى قيادة الحركة الوطنية، تمكنتني عقدة "الخوف" من مسؤوليات القيادة، وبقيت تلازمني رهبتها حتى عام 1968 حين اعتزلت ولذلك حديث طويل سيأتي ذكره في مكانه وزمانه.(1/198)
خمسة عشر ألف جنيه..
رأس مال الحركة الوطنية
... نشطت الحركة الوطنية في أواخر العشرينات – 1928، 1929، 1930- نشاطاً كبيراً، والتهبت مشاعر الحماسة في جميع أرجاء البلاد فعمت جميع طبقات الشعب، وكان وراء هذا التحرك الوطني عاملان أساسيان، الأول انعقاد المؤتمر الصهيوني في زيورخ والثاني العدوان اليهودي على ساحة البراق الشريف.
... وكأنما جاء عملي في الصحافة والسياسة ودراستي للحقوق لازداد التحاما بالأحداث الوطنية في تلك الأيام العصيبة، وكانت ما تزال جريدة مرآة الشرق، عند باب الخليل في القدس، دار ندوة للشباب ومركزاً للنشاط الفكري والتوجيه القومي في صفوف الجيل الصاعد.
... و أخذت وكالات الأنباء تنقل إلينا خطب زعماء الصهيونية في مؤتمرهم في زيورخ وتكشف عن أهدافهم التوسعية والعدوانية، وأعلنت قرارات المؤتمر فإذا بها تدعو إلى مزيد من الهجرة اليهودية وشراء الأراضي ودعم المؤسسات العسكرية والمالية وتقوية الوكالة اليهودية.
... فزاد ذلك من نشاطنا نحن الشباب، وازدادت دعوتنا إلى بعث الحياة في الحركة الوطنية، وأصبح لدينا وقود جديد نلهب به حماسة الجماهير.(1/199)
... وسرت في هذا الطريق خطوات عملية، فاتصلت بالشباب الناشئين من أبناء العائلات والأسر الوجيهة، محاولاً تجميعهم في إطار وطني خالص، ولكنني أخفقت فقد كانت العصبية العائلية قد ترعرعت في الشباب اليوافع حتى الأطفال الرضع، وكان اللقاء بينهم مستحيلا، ولم يكن أمامنا ما نعمله، فتلك كانت البيئة التي صنعتها عهود التخلف والانحلال، تقابلها في الطرف الآخر البيئة اليهودية التي لا تعرف العائلية، وتقوم الخلافات فيها على أسس سياسية وفكرية.
... ورغم ذلك كله فقد كان الشعب في الطليعة، شأنه دائما، وجاءت ثورة البراق 1929 لتكشف عن أصالته وبطولته.
... وساحة البراق هي المكان الذي تتحدث الروايات الإسلامية أنه البقعة التي ربط فيها الرسول الكريم فرسه – البراق- ليلة إسرائه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وفي جوار هذه البقعة حائط "المبكى" وهو جزء من جدار المسجد الأقصى.
... وجاء عيد الغفران عند اليهود فإذا بالأخبار المثيرة تشد حواسنا وتفتح أمامنا صفحة أخرى من الاعتداءات اليهودية، لها ما بعدها.
... أصبحنا في ذلك اليوم لنرى جموع اليهود شباباً وشيوخاً، رجالاً ونساء، يتدفقون على المدينة القديمة في طريقهم إلى حائط "المبكى"، في مظاهرة شبه عسكرية.
... وكانت تقاليد اليهود إلى ذلك العهد قاصرة على البكاء والدعاء، وكفى. ولكنهم في ذلك اليوم تجاوزوا – الستاتكو- فنفخوا في الصور(1/200)
ووضعوا الطاولات وأقاموا الستائر ورفعوا أصواتهم، وكانت حركاتهم ومظاهرهم آية في التحدي والاستفزاز.
... ولم تكن الطاولات والستائر والأبواق ذات أهمية بذاتها، لولا ما كنا نحسه من الخطر الصهيوني على المسجد الأقصى والمقدسات الدينية عامة. بل على فلسطين بأسرها، فقد كنا نتابع التصريحات اليهودية وما تهدف إليه من إقامة هيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى، وزاد من مخاوفنا الصور الزنكوغرافية التي نشرت حينذاك وهي تمثل هيكل سليمان قائماً مقام المسجد الأقصى يرفرف عليه العلم الصهيوني.
... وكانت السلطة البريطانية ترقب هذه التحديات اليهودية من غير اكتراث ولا مبالاة، وكان في ميسورها أن تقمعها في مهدها، ولكن أنى لها ذلك، وهي قائمة في فلسطين من أجل قيام الوطن اليهودي وحمايته وحراسته.
... بل أن السلطة البريطانية حشدت قوات كبيرة لتقف إلى جانب اليهود، إمعانا في الكيد للجماهير العربية العزلاء، وراح سرب من الطائرات البريطانية مؤلفا من اثنتي عشرة طائرة يحلق فوق المسجد الأقصى وأحياء المدينة القديمة، في حملة إرهاب وحرب أعصاب.
... فأخذنا نحن الشباب في توعية الجماهير وتبصيرها بالخطر الداهم، واتصلنا بمجموعات الشباب في أنحاء البلاد كافة، وكررت الدعوة إلى قيام قيادة وطنية جديدة تتولى زمام الحركة الوطنية بعد أن أصبحت البلاد أسيرة العائلتين الكبيرتين- الحسينية والنشاشيبية- وهؤلاء أصبحوا أسرى مناصبهم التي تشرف عليها السلطة البريطانية.(1/201)
... فاهتاجت الخواطر والمشاعر وابتدأ الصدام في القدس القديمة، فتصدى الشعب للمسيرة اليهودية، وتصدى رجال الشرطة للجماهير العربية وسقط القتلى والجرحى بالمئات، وكانت معظم إصابات العرب على أيدي رجال السلطة (1) .
... وتجاوزت الأنباء الحدود إلى الأقطار المجاورة، فانتشر القلق وهب أهالي شرق الأردن للزحف على فلسطين لحماية المقدسات الدينية من طغيان اليهود وعدوانهم، ولم يكن ذلك عجيبا فشرق الأردن وفلسطين بلد واحد منذ أقدم عهود التاريخ، ولم يفصلهما إلاّ بريطانيا، فجعلت الإمارة الأردنية في الشرق، وفلسطين في الغرب، وكلتاهما تحت الانتداب.
... وقررنا نحن الشباب أن نوزع أنفسنا على مناطق البلاد المختلفة لنشعلها حامية على الإستعمار والصهيونية، وكان نصيبي أن أعمل في بلدي –عكا- وفي لواء الجليل في شمال البلاد.
... وتألفت في البلاد جمعيات – حراس المسجد الأقصى- على غرار الجمعيات اليهودية التي ألفها اليهود تحت اسم "حراس "المبكى"" وكان للحاج أمين الحسيني ودوائر المجلس الإسلامي دور كبير في إيقاظ الشعور والتنبيه للخطر الصهيوني والاتصال بالبلاد العربية والإسلامية في مناشدتها النصرة والعون، ولكن الحاج أمين كان حريصاً على الاحتفاظ بمنصبه في كنف السلطة البريطانية، ولم تكن هذه تشعر بخطر على وجودها ما دام نشاطه
__________
(1) * وتلك كانت بداية ثورة البراق التي عرفت باسم (هبّة البراق) وذلك ابتداء من 15 آب1929.(1/202)
بعيداً عنها محصوراً في دائرة محدودة ضد الحركة الصهيونية، فكان توازنا وتهادنا غير مكتوب، قدر له أن يعيش بضع سنوات حتى عام 1936.
... وعم الاضطراب جميع مدن فلسطين وقراها، فقامت المظاهرات وتوالت الاجتماعات، ووقع الاصطدام بين القرى العربية والمستعمرات اليهودية، وقامت العصابات الصهيونية بضرب المناطق العربية العزلاء، فتفردت في البطش بها- وهي السياسة الإرهابية التي كبرت ونمت وأصبحت من تقاليد الجيش الإسرائيلي وخططه، قبل نكبة حزيران وبعدها.
... وكنت دائم الحركة في شمال البلاد مع إخواني الشباب، نحض الشعب على وحدة الصفوف ونبذ الخلافات، والجهاد للذود عن حمى الوطن.
... ولا أعرف يوما مر علي في تلك الفترة، إلاّ ووقفت في أحد المقاهي أو الميادين أو الشوارع أخطب في الجماهير لأشرح خطورة الموقف، وأدعو إلى مقاومة الاستعمار والصهيونية معا، والتخلص من الزعامة "الزائفة" وكان جامع الجزار في عكا وساحاته الرحبة مركزا للحركة الوطنية، فقد كانت تحتشد الجماهير ليلاً ونهاراً، وأصبحت "خطيب" الجامع، بدلا عن الخطيب المعين الذي لا يشق له غبار!
... ولقد ضاقت السلطة البريطانية ذرعا بهذا النشاط المثير الذي كنت أقوم به مع إخواني الشباب، فاعتقلني رجال الشرطة ونقلوني إلى قرية الزيب في ضاحية عكا، في إقامة إجبارية في بيت آل السعدي.
... ولم أكن أدري يومذاك أن اعتقالا مدى الحياة ينتظرني في بيت آل السعدي، فقد جاء عام 1933 ليجعلني صهراً لآل السعدي في عكا،(1/203)
وأصبحت "عقيلاً" للآنسة نسيبة بنت عبد الفتاح السعدي رئيس بلدية عكا، وأصبحت السيدة نسيبة "عقيلتي" ثم أم أولادي الستة والحمد لله.
... ونشطت السلطات البريطانية في طول البلاد وعرضها، تعتقل الشباب، تفرض على البعض إقامة جبرية وتزج الآخرين في السجون، وأعلنت الأحكام العرفية، وساد البلاد جو مشحون من القلق والاضطراب لم يسبق أن شهدت له مثيلا.
... وأفاقت القيادة الوطنية من سباتها، وكانت ممثلة في اللجنة التنفيذية فأخذت في تنظيم شؤونها، وعملت على استعادة ثقة الجماهير بها، بعد أن كاد الزمام أن يخرج من يدها إلى أيدي الشباب، وتوالت الإعانات والتبرعات على صندوق اللجنة التنفيذية حتى بلغت خمسة عشر ألف جنية فلسطيني، وكان ذلك رأس مال الحركة الوطنية كله وأجمعه!
... وتباهت اللجنة التنفيذية أن ورد عليها هذا المال الوفير بعد أن لم تحصل إلاّ على مئات من الجنيهات من حين إلى حين لتغطية نفقات وفد فلسطين حين يسافر إلى لندن أو جنيف أو الهند.
... ولقد حزنت وأنا في معتقلي في الزيب- في الإقامة الإجبارية- حين جاءتنا الأخبار أن مجموع التبرعات قد وصل إلى قمته – خمسة عشر ألف جنيه- فقط، وكنت إلى بضعة أشهر مضت أكتب في جريدة مرآة الشرق عن المؤسسات اليهودية: - الكيرن كايمت وأموالها، والكرن هايسود ومخصصاتها، والوكالة اليهودية وميزانيتها، فضلا عن البنوك والمصارف والتعاونيات اليهودية التي تؤلف في مجموعها شبكة الحياة الرئيسية للمجتمع(1/204)
اليهودي في زراعته وصناعته، وفي مستعمراته وعصاباته، وفي إعلامه وسياسته..
... وسألت نفسي، لم لا تكون لنا جباية شعبية منظمة كما يفعل اليهود، ولم لا تكون لنا "عربية عالمية" و "إسلامية عالمية" تمدنا وتقوي صمودنا وثباتنا في وطننا، وتكون درعا وحصنا لنا على غرار ما تفعل الصهيونية العالمية في بناء الوطن القومي اليهودي وحمايته ورعايته؟
... ومضت أيام وأسابيع فهدأت الحركة الوطنية، فلم تكن لها قوة دافعة في قيادتها، ولا سند عربي وإسلامي من حولها، ومشاعر الغضب الثائرة لابد أن تهدأ مهما عصفت واضطربت إذا لم يكن وراءها ما يكفل الدوام والاستمرار.
... وانتهت مدة اعتقالي وعدت إلى القدس وتركت جريدة مرآة الشرق، وأفقت من أحزاني لأرى أن النشاط الدائم الباقي، وهو الحركة الصهيونية دائمة السعي والعمل، دائمة النمو والتكامل، وأن النشاط الفوار المتقطع، هو الحركة العربية، حركة عربية شعبها بطل أصيل، وقيادتها عليلة وهزيلة.
... وها قد مضت على ثورة البراق ثمان وثلاثون سنة، فجاء حزيران من عام 1967 فاحتلت إسرائيل القدس القديمة مع باقي فلسطين بأسرها، ورفع العلم الصهيوني على حائط "المبكى"، وعملت الجرافات على هدم المنازل والزوايا والتكايا الإسلامية المجاورة، وأنشأوا ساحة رحبة أمام حائط "المبكى"، وراح علماء الآثار اليهود يحفرون وينقبون تحت المسجد الأقصى بحثا عن بقايا هيكل سليمان.(1/205)
... وأصبح العويل والبكاء من نصيب العرب والمسلمين، الملايين الملايين، وعلى رأسهم أصحاب الجلالة والسمو والفخامة الملوك والأمراء والرؤساء، فقد أنتقل إليهم دور اليهود في النواح والصراخ.
... إنهم جميعاً يبكون ويولولون ولكن دون أن يكون لهم ما كان لليهود – حائط "المبكى".. وها نحن نبكي ولكن من غير حائط!(1/206)
فيصل لا يذكر
... اعتزلت العمل في جريدة مرآة الشرق لأعطي "الحقوق" وقتا أكثر وجهدا أكبر، فأصبح لا بد لي وقد بلغت السنة الثالثة في معهد الحقوق أن ألتحق بمكتب أحد المحامين لأتمرس بتقاليد المهنة وأصولها، سواء في المرافعة أمام المحاكم أو التعامل مع أصحاب القضايا.
... وكنت على صداقة مع عدد من المحامين فلم أشأ أن أقضي مدة التمرين في مكاتبهم، وكانوا مستعدين أن يوقعوا لي على شهادة الانتظام معهم دون أن ألتزم بالدوام والحضور.
... ولكني آثرت عليهم محاميا آخر، تربطه بوالدي صداقة، هو السيد مغنم الياس مغنم من أبناء رام الله، وكان قد هاجر إلى الولايات المتحدة، ودرس فيها الحقوق ثم عاد إلى فلسطين وافتتح مكتباً له في بيت المقدس.
... وكان النظام القضائي البريطاني قد أخذ يحل محل النظام العثماني الذي كان سائدا في فلسطين، فقد بدأت حكومة فلسطين تبدل التشريع العثماني بقوانين مأخوذة عن المستعمرات البريطانية، بعد تعديلها بما تقتضيه الظروف المحلية، أو تفرضه المصالح الصهيونية.
... وكان المحامي مغنم إلى ذلك العهد 1930 أحد المحامين القلائل الذين يستطيعون المرافعة باللغة الإنجليزية، وكنا نحن الجيل الصاعد من المحامين المتمرنين نتطلع إلى المرافعة بالإنجليزية وحسب الأنظمة الإنجليزية، فقد(1/207)
كانت المحاكم العليا يرأسها قضاة بريطانيون ومعهم قضاة من العرب واليهود.
... وزرت المحامي مغنم في مكتبه وعرضت عليه أن أقضي مدة التمرين في مكتبه، وكان جوابه بالقبول، ثم سألت عن الأجر الشهري فكان جوابه الرفض.
... فقلت له أن فلانا وفلانا من المحامين المتمرنين يتقاضون رواتب شهرية أثناء فترة تمرينهم، وهم يؤدون خدمات كثيرة في معاونة المحامي الأستاذ في إعداد القضايا.
... فقال لي: المحامي المتمرن يتعلم في مكتب الأستاذ وعليه أن يدفع الأجر عن هذا التعلم، وذلك ما يجري عليه الحال في الولايات المتحدة، وكان المحامي مغنم يتكلم جادا غير مازح، ويتكلم بلهجة أمريكية تجارية.. وبعد أخذ ورد وافق على أن يدفع لي ستة جنيهات شهريا، وأنه يفعل ذلك إكراما لوالدي، ولقد رضيت بهذا العرض متظاهرا بالتردد "وكظمت" سروري فهذا أول مال أتقاضاه عن عملي، وكان أجري في جريدة مرآة الشرق الطعام والمنام، وكان الله يحب المحسنين.
... ولقد كان سروري عظيما حين جاء الشهر الأول، فقبضت راتبي فدفعت منه إيجار غرفتي وحساب المطعم، وجزءاً من الدين الذي كان متراكما علي في هذا الدكان أو ذاك.
... وأصبحت أتردد على المحاكم مع أستاذي مغنم أجلس إلى جانبه، أعد له الملفات والمراجع، وقد دهشت أول العهد أن أراه في "الروب" وطاقية الشعر على رأسه يناقش الشهود بحرارة، ويجادل القضاة بحزم وشجاعة،(1/208)
على حين كان المحامون الآخرون الذين تمرسوا بالنظام العثماني يتكلمون باحتشام واحترام، بلغة عربية مليئة بعبارات المناشدة في التماس العدالة والإنصاف.
... وقضيت بضعة أشهر بين المكتب والمحكمة أتمرن على يدي الأستاذ مغنم ولم يكن يبخل علي بكل أسرار "الصنعة" إلاّ موضوع التعامل مع الزبون.. صاحب الدعوى، فذلك ما لم يكن يطلعني عليه ولا أحضر مجلسه.. فلم أكن أعلم كيف يتفق مع "الموكل" على الأجور، المقدم والمؤخر.
... وكان مغنم من المحامين الكبار في فلسطين، وكان يتقاضي أجورا عالية تكاد أن تكون خيالية في حساب ذلك العهد، وكان صارما في تعامله وأجوره، يستوي عنده الأصدقاء والغرباء، وكانت تقاليد العمل الأمريكية تسود تصرفاته، وهذا ما لم أستطع أن أتعلمه منه، فالبيئة العربية في فلسطين كأية بيئة صغيرة في أول مراحل نموها، متشابكة متلاحمة بين الصداقات والعلاقات، وكانت المهن الحرة كالطب والمحاماة لا تستطيع أن تفرض نظام الأجر في جميع الأحوال والظروف، فهذا صديق، وهذا قريب الصديق، وذلك وجيه بلده، وذاك كبير قومه.. وكل أولئك لابد أن يخدموا دون أن يدفعوا..
... وقضيت أياما طريفة في المحاكم وأروقتها في بيت المقدس فتعرفت على طائفة من القضاة والمحامين وعشت جو القضاء بمرافعاته وحواره فوجدت في ذلك متعة ولذة أشغلتاني عن السياسة بعض الوقت.
... غير أني رأيت نفسي مرة أخرى في صميم الميدان السياسي إلى الأذقان، وكانت المحاماة مفتاح هذا النضال السياسي، فقد حدث أن أوفدت الحكومة البريطانية – تشرين أول سنة 1929 لجنة تحقيق برلمانية عرفت(1/209)
باسم رئيسها "ولترشو"، وخولت صلاحية دراسة الأسباب التي أدتّ إلى الاضطرابات التي وقعت في البلاد في صدد إعتداء اليهود على ساحة البراق- حائط "المبكى"، ولتقدم التوصيات التي تراها لمنع تكرار هذه الأحداث.
... وقد هبت اللجنة العربية والوكالة اليهودية، كل من جانبها في إعداد العدة لعرض وجهة نظرها وشرح مطالبها.
... وكان المحامي مغنم أحد الأمناء الثلاثة للجنة العربية، وكان على القيادة الوطنية أن تتولى بسط القضية نيابة عن شعب فلسطين، ومن هنا كان دوري، وأنا في مكتب مغنم، في المساهمة بالإعداد للقضية.
... وكان الأسلوب الذي اتبعته لجنة "شو" شبيها بالنظام القضائي البريطاني، معتبرة نفسها محكمة قضائية تستمع إلى الطرفين المتنازعين، وما يقدمانه من وثائق وبيانات، وما يستدعيانه من شهود.
... وقد استعدت الوكالة اليهودية استعدادا ضخما بقدر ما هي مؤهلة لذلك من مال وفير وخبرة واسعة، ودراسات مستفيضة، جاهزة في ملفاتها لا ينقصها إلاّ أن تفتح وتقدم عند الطلب.
... ولم يكن عند اللجنة العربية شيء.. لا مال وفير، ولا خبرة واسعة، ولا دراسات مستفيضة، فقد كان كل ما عندها وطنية لا حدود لها وإخلاص متناه، ومجموعة المطالب الوطنية المعروفة، وكفى الله المؤمنين القتال.. والجدال.(1/210)
... فاندفعت الكفاءات العربية في البلاد في الإعداد على عجل.. واشترك كبار الموظفين العرب، بصورة سرية، بتقديم ما يستطيعون تقديمه من دراسات وآراء..
... وقد تولى عرض القضية الصهيونية نخبة من المحامين اليهود وعلى رأسهم "السير مريمان" وهو من أكبر المحامين البريطانيين اللامعين، وعلى جانب وافر من الذكاء وحضور البديهة، وذي شخصية قوية ترجح شخصية اللجنة البرلمانية برئيسها وأعضائها.
... وقد بدأ "مريمان" في بياناته ومرافعاته ملما "بالقضية" في دقائقها وتفاصيلها، كأنه عاشها منذ نعومة أظفاره.
... وتولى عرض القضية العربية المحامون مغنم وعوني عبد الهادي وفخري الحسيني وعلى رأسهم محاميان بريطانيان "ستوكر وسلي" كانا يعملان في المحاماة بالإسكندرية.. ومن هنا جاءت صلتي بإعداد "القضية" باعتباري محاميا تحت التمرين في مكتب المحامي مغنم.
... ومنذ الجلسة الأولى وضحت الصورة بكل معالمها، الحق العربي بوسائله الهزيلة، والباطل اليهودي بأساليبه البارعة.
... لقد كان "مريمان" يصول ويجول أمام لجنة التحقيق، بين يديه وثائقه ومقتبساته، يناقش الشهود بألمعية خارقة، وفي الطرف الآخر كان "ستوكر" المحامي البريطاني العجوز يعرض القضية العربية، ونحن المحامين العرب من ورائه ومن حوله نمده ببعض البيانات وبعض الوثائق من حين إلى حين، ولولا ما قدمه كبار الموظفين العرب حين استمعت اللجنة في جلسات خاصة إلى ممثلي الحكومة، لكانت القضية العربية فقيرة حقا.(1/211)
... ولكن الباطل لا بد أن يقع في حبائله مهما كانت براعة أصحابه، فقد ارتكب اليهود حماقات وجهالات وغطرسات أثناء عرضهم لقضيتهم، فكان ذلك شرا عليهم، وخيرا ساقه الله إلى العرب من حيث لا يرجون.
... وكان على رأس هذه الحماقات أن محامي اليهود ركز القضية كلها على رأس الحاج أمين واتهمه بأنه المحرض على "الفتنة" وأنه ومعه طائفة "الأفندية" سبب الثورة، وأن شعب فلسطين وخاصة الفلاحين يريدون العيش بسلام مع اليهود.
... والحماقة الثانية وكانت مليئة بالغطرسة، أن الحكومة البريطانية لم تقم بالتزاماتها التي فرضها عليها صك الانتداب بالنسبة إلى الهجرة اليهودية وامتلاك الأراضي، وأن حكومة فلسطين لا تعير اهتماما كافيا لمطالب الوكالة اليهودية وما إلى ذلك.
... وقد كشفت القضية اليهودية وهي تعرض لأول مرة بصورة "قانونية" عن المطامع الصهيونية، وبذلك وجدت القضية العربية سندا جديدا لمخاوف الشعب الفلسطيني على مصيره في وطنه.
... وكان للتوعية القومية التي سادت البلاد في الأعوام الثلاثة الماضية فضل كبير في وضع الأسس الصحيحة لعرض القضية أمام لجنة التحقيق البرلمانية، وانتهى الرأي بين القادة والسياسيين والمحامين أن نبرز قضيتنا على أنها قضية تحريرية، نكافح الاستعمار والصهيونية معا، وقد أسند إليّ أن "أسهر" كل ليلة مع "ستوكر وسلي" لأدرس عليهما تاريخ القضية الفلسطينية وأشرح وثائقها من مراسلات حسين - مكماهون فصاعدا.. أو نازلا.(1/212)
... والواقع أن اللجنة البرلمانية قد تجاوزت اختصاصها بعض الشيء، فاستمعت إلى أصول القضية الفلسطينية، ما لنا وما علينا، وليس علينا إلاّ وثائق استعمارية مثل صك الانتداب ووعد بلفور والتشريعات البريطانية التي تدور في فلكهما.
... وفي صدد الوثائق التي علينا تحدث "مريمان" عن اتفاق وايزمن- فيصل وما يشير إليه من اعتراف بالوطن القومي اليهودي "وحق" اليهود في فلسطين.
... وتحدث عوني عبد الهادي، وكان سكرتيرا للأمير فيصل في عهد الشريف حسين، عن مضمون الكتاب وظروفه وشروطه، وقد أبرقت اللجنة العربية إلى الملك فيصل في بغداد تطلب إيضاحا للموقف، وكنا نتوقع أن يصلنا جواب صاف شاف ولكن أسقط في أيدينا حين جاء الرد من بغداد من رئيس الديوان وفيه يقول أن مولاي لا يذكر أنه أعطى اليهود شيئا مما يدعونه".
... وقد واجهت هذا "الاتفاق" (وايزمن - فيصل) مرات ومرات في الأمم المتحدة، فقد أبرزته "جولدا ماير" "وايبان" في مناسبات متعددة، وجرى بيني وبينها حوار وجدال حول هذا الموضوع، ولم أعتمد جواب رئيس الديوان عن "مولاه" بل وجدت في نصوص الاتفاق جوابا أصح وأكرم.. "واستخرجت" من فقراته ما يقيد بعضها بعضا.. ويناقض بعضها بعضا ولكني في سريرتي لم أستطع أن أبرىء فيصل من هذه الخيانة العظمى! ففي هذا الاتفاق اعتراف صريح بالوطن القومي اليهودي..و..(1/213)
... وقد انتهت اللجنة البريطانية من تحقيقاتها، وقامت بزيارة مناطق فلسطين المختلفة، وكانت قد تأثرت بشهادة المهندس الزراعي سليم فرح عن مشاكل الأراضي، ولعلها الشهادة الفنية الوحيدة التي تقدم بها الجانب العربي، أمام حهابذة الفنيين والخبراء من اليهود.
... وعادت اللجنة إلى إنجلترا وقدمت تقديرها إلى "حكومة جلالته" فكان أٌقرب ما يكون إلى الإنصاف والحياد والعدل، وأقر وجهة النظر العربية في أمور كثيرة منها:
1- أن الثورة وراءها مطالب سياسية قومية وليست من صنع المفتي وطبقة الأفندية.
2- أن الهجرة اليهودية وامتلاك الأراضي العربية من قبل الشركات اليهودية هو السبب المباشر للثورة، وسيظل سببا لكل اضطراب في المستقبل.
3- أن مخاوف العرب على مصيرهم ومستقبلهم إزاء الحركة الصهيونية لها ما يبررها.
4- أن الفلاحين العرب أصبحوا بلا أراض كافية، وأن العمال العرب أصبحوا محرومين من أسباب العمل والعيش.
... وقد غضبت الأوساط الصهيونية ونددت بتوصيات اللجنة البريطانية، واعتبرتها مخالفة لصكك الانتداب الذي فرض على الحكومة البريطانية تسهيل الهجرة اليهودية وبناء الوطن القومي اليهودي..أمّا العرب فمن بعدي الطوفان..(1/214)
... وقابلت الأوساط العربية تقرير اللجنة بكثير من الارتياح، فقد تكلم الضمير الإنساني وبسط ظلامة العرب وأنصفهم في كثير من مطالبهم القومية.
... وكان تقرير اللجنة رائعا حين أعلن "أن الفلاحين العرب مهتمون اهتماماً حقيقياً وشخصياً بسياسة الوطن القومي اليهودي.. وأنهم يهتمون بالأمور السياسية أكثر بكثير من أهالي أوروبا".
... لقد أنصفهم التقرير في "الوطن" وفي "البراق" وفي حق تقرير المصير، وأنصفهم في الكشف عن طغيان الصهيونية وأطماعها التي لا حدود لها.
... وكان الظن أن يكون عام 1930 عام إنصاف وحق، فيه نهاية الظلم وبداية للعدل. وكان الظن أن تعطي فلسطين حكما دستوريا ولو ذاتيا، وأن "تلجم" الوكالة اليهودية التي أصبحت دولة في داخل الدولة.
... ولقد عشنا وراء هذه المنى والأحلام زمنا، ولكن مسيرة التاريخ كانت تجري في فلك آخر.
... لقد كانت الحركة الصهيونية قوة عالمية منظمة، قوة ديناميكية نامية متطورة، متحركة مندفعة، وكانت الحركة العربية تتراجع أمامها شبرا شبرا.
... وقدر لتقرير اللجنة البرلمانية أن يكون مصيره مصير عشرين تقريرا أو يزيد ، بعضها سابق وبعضها لاحق، وكلها إلى سلة المهملات.. ومعها جواب الملك فيصل من بغداد يعلن فيه رئيس الديوان "أن مولاي لا يذكر.."(1/215)
سنعود إلى بيت المقدس..
ولكن حجرا على حجر
... أصبحت في أوائل الثلاثينات أساهم بنصيب وافر في الحركة الوطنية، وازدادت صلتي بقادة الحركة الوطنية، مجلسيين ومعارضيين ومستقلين، وكانوا جميعاً يكبرونني بأعوام، ولعلي كنت واحدا من الشباب القلائل القريبين من القيادة الوطنية.
... وأثناء عملي في التحضير "للقضية" أمام لجنة التحقيق البرلمانية "شو" ازدادت صلتي برجال الحركة الوطنية أمثال الحاج أمين الحسيني وعوني عبد الهادي وصبحي الخضرا ورشيد الحاج إبراهيم ومعين الماضي وحمدي الحسيني،أمّا رجال المعارضة فقد كنت ألتقي بهم في منزل والدي وكان من قادتهم، وكنت الاقي حرجا شديدا في التوفيق بين الصلات الشخصية بالمعارضين والصلات الوطنية بالمجلسيين والمستقلين. وكنت أميل إلى هذا الفريق الأخير، فقد كان يعمل في الحقل الوطني – رغما عن أخطائه وتردده- ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
... و أثناء عملنا في لجنة "شو" عرض علي عوني عبد الهادي أن أعمل في مكتبه، فرحبت بهذا العرض وتركت مكتب المحامي مغنم شاكرا.
... ولم يكن انتقالي إلى مكتب عوني عبد الهادي قائما على أسباب فنية تتصل بالمحاماة، فقد كان مكتب مغنم أنفع لي من ناحية المهنة، ولكن مكتب(1/216)
عوني عبد الهادي كان أصلح لي من ناحية قومية، فقد كان عوني عبد الهادي من رجال الحركة العربية الأوائل وله صلات وصداقات في البلاد العربية، فآثرت أن أشبع نزعاتي السياسية فاستخرت الله وحملت كتبي إلى غرفة صغيرة في مكتب عوني عبد الهادي، وارتقى راتبي من ستة جنيهات إلى ثلاثة عشر جنيها، وأصبحت أكثر قدرة على سداد ديوني.
... ولم يكن والدي راضيا عن هذا الانتقال من مكتب إلى مكتب، فقد رأى فيه انتقالاً سافرا إلى صفوف المجلسيين، وتحديا للمعارضين وهو شيخهم، وبدأ بيننا الفتور، هادئا حينا، وعنيفا حينا آخر.
... وفي المكتب الجديد كان حظ المحاماة غير وافر، فقد كان للزبائن غرفة، ولرجال الحركة الوطنية غرفة أخرى وكثيرا ما كانت الثانية تطغى على الأولى.
... وجاءت تواصي لجنة "شو" مشجعة، وقررت اللجنة العربية إرسال وفد إلى لندن لعرض المطالب الوطنية، وتشكل الوفد برئاسة موسى كاظم الحسيني وعضوية الحاج أمين الحسيني وراغب النشاشيبي وعوني عبد الهادي وجمال الحسيني والفرد روك.
... وأخذنا نعد في المكتب ملفا عن القضية الفلسطينية، ورحت أواصل الليل بالنهار وأنا أجمع الوثائق وأهيىء المذكرات على عجل، فقد سقطت حكومة المحافظين وحلت محلها حكومة العمال. وكنا نرى الأولى استعمارية بغيضة وفيها أمثال تشرشل وايمري والثانية متحررة يرئسها مكدونالد.
... وسافر الوفد إلى لندن في أوائل 1930 ومكث فيها قرابة شهرين، فأجتمع بأركان الحكومة البريطانية واتصل برجال الصحافة وشرح تقرير(1/217)
لجنة شو، وقدم مذكرة رسمية عرض فيها المطالب الوطنية، وكأنما تحدثت المذكرة بلسان القدر وكشفت حجاب الغيب حين قالت: وإن الاستمرار في هضم حقوق العرب إكراما للسياسة الصهيونية يؤدي إلى إبادتنا وإجلائنا عن بلادنا وأن المسألة عندنا هي مسألة حياة أو موت.. وكنت كتبت هذه العبارة بيدي، وجرى نقاش حاد حولها بين أعضاء الوفد، فقد كان يرى راغب النشاشيبي أن هذه العبارة مبالغ فيها.. وليته كان صادقا في فراسته، وليتني كنت كاذبا في نبوءتي..
... ولكن مهمة الوفد لم تلق نجاحا فقد تمسكت حكومة العمال "التحررية" بسياسة حكومة المحافظين "الاستعمارية" وعاد الوفد إلى الوطن يجر أذيال الخيبة، وأذاعت حكومة فلسطين بلاغا جاء فيه "ان المخاوف التي أعربت عنها الدوائر العربية من أن سياسة حكومة جلالته قد تعرض كيان الشعب العربي في فلسطين للخطر لا مسوغ لها.."
... ولقد كنا نحن جيل الشباب في حيرة من أمرنا ومصيرنا ومستقبلنا، نتساءل في أعماق نفوسنا: أيهما أصدق؟ التحذير العربي، أم التكذيب البريطاني؟ وهل سيأتي يوم يتم فيه الجلاء عن وطننا كما قالت المذكرة العربية، أم أننا سنبقى آمنين في وطننا وديارنا كما يؤكد بلاغ الحكومة البريطانية؟
... وقد كنا نرى الخطر ماثلا أمام أعيننا من غير شك، ولكن كان يصعب علينا أن نصدق وقوع المستحيل.. كان يصعب علينا أن نصدق أننا سنخرج من وطننا وأن جيلنا بذاته هو جيل الجلاء، الجيل الشريد الطريد.(1/218)
... ولقد جاء عام 1948 ثم بعده عام 1967 ليثبت التاريخ أن التحذير العربي صادق وأن التكذيب البريطاني كاذب.
... ولم يكد يعود الوفد إلى فلسطين حتى جاءنا الخبير البريطاني المعروف- سمبسون، فطاف في البلاد و أجتمع بالفلاحين، والمختصين من موظفي الحكومة وقدم تقريرا إلى لندن مليئاً بالإحصاءات والدراسات عن الأراضي العربية والحيف الذي لحق بالفلاحين العرب، فكان إلى جانب تقرير لجنة شو حجة قوية تبرز مخاوف العرب وتفند مزاعم الصهيونية وتدحض موقف الحكومة البريطانية.
... وأصبحنا في موقف أقوى من ناحية سياسية ولم يسع الحكومة البريطانية أمام الدراسات العلمية والتحقيقات العادلة التي تولاها بريطانيون مختصون إلاّ أن تتحرك بعض الشيء في تحقيق مطالب العرب فكان الكتاب الأبيض لعام 1930 (تشرين أول) الذي أصدرته حكومة العمال بعد أن نشر تقرير سمبسون.
... ولم نستطع أن نكتم سرورنا، فقد كان الكتاب الأبيض خطوة على الطريق، فقد نص على إنشاء مجلس تشريعي ووضع قيود على الهجرة وبيع الأراضي، ولم تكن هذه كل مطالبنا الوطنية، ولكن كنا في حاجة إلى وقف "النمو" الصهيوني، ريثما نستطيع أن نجد لنا سبيلاً للخلاص.
... وأخذت أعد المذكرات في المواضيع التي عالجها الكتاب الأبيض، فقد أصبحت متمرسا في هذا العمل. وكانت الوقائع والتواريخ والأرقام طوع ذاكرتي، وعلى أطراف أناملي..
ولكن فرحتنا لم تدم طويلا..(1/219)
... لقد غضبت الصهيونية وزمجرت، وأرغت وأزبدت، وحسبنا أن السماء قد سقطت على الأرض، فلقد استقال وايزمن من قيادة الحركة الصهيونية احتجاجا على الحكومة البريطانية، وانهمرت الاحتجاجات على الحكومة البريطانية في لندن وعصبة الأمم في جنيف، وقام اليهود بمظاهرات صاخبة في أرجاء العالم، وهبت الصحافة الأمريكية والبريطانية مستنكرة الكتاب الأبيض.
... وكان حزننا عظيما يوم أصدرت الحكومة البريطانية في الشهر التالي (نوفمبر سنة 1930) بيانا إيضاحيا تراجعت فيه عن الكتاب الأبيض، في لهجة كلها اعتذار واستغفار بين يدي الحركة الصهيونية، فسحب وايزمن استقالته، واحتجب موضوع المجلس التشريعي إلى غير رجعة، وعادت الأمور إلى سابق عهدها، حكم بريطاني مباشر في خدمة الوطن القومي اليهودي.. وكأن شيئاً لم يكن.
... و إذا كنا لم نجد الإنصاف في حق الوطن كله، فقد وجدنا شيئاً من الإنصاف بصدد البراق – حائط "المبكى"- ولو إلى حين، فقد وفدت على البلاد لجنة دولية لفصل النزاع القائم بين العرب واليهود.
... وكنا نحن الشباب مع اهتمامنا بحائط "المبكى" من الناحية القومية والدينية، قد أردناها فرصة للدعوة للقضية الفلسطينية في العالمين العربي والإسلامي ، فوضعنا كل طاقاتنا وكفاءاتنا بين يدي الحاج أمين الحسيني بوصفه رئيساً للمجلس الإسلامي الأعلى، ومن واجبه الدفاع عن حق المسلمين في مقدساتهم الدينية.(1/220)
... وتداعت الوفود من كل أنحاء العالمين العربي والإسلامي للمثول أمام اللجنة الدولية للإدلاء بشهاداتها وآرائها حول ملكية المسلمين لحائط "المبكى" وما حوله.
... وقد أصبحت مدينة القدس تعج بقادة العرب والمسلمين، وكان فندق بالاس أوتيل في شارع ماملا- مأمن الله- مركز القيادة العربية الإسلامية للدفاع عن أرض البراق الشريف.
... وكان عوني عبد الهادي أحد المحامين الذين يتولون الدفاع عن هذه القضية، ومن هنا جاءت مساهمتي فيها، وجاء لقائي وتعارفي بعدد وافر من رجالات العرب والمسلمين من أمثال محمد علي علوبة وأحمد زكي باشا "شيخ العروبة"، ومزاحم الباجه جي وغيرهم.
... ولم تكن القضية صعبة من ناحية قانونية فقد كانت وثائق المحاكم الشرعية وسجلات الأوقاف كفيلة بأن تثبت حق المسلمين وتزهق باطل اليهود.
... وجاء تقرير اللجنة الدولية مؤيدا لحقنا فقد أعلن الملكية للمسلمين وأعطى اليهود حق الزيارة في أضيق الحدود، من غير زيادة لمستزيد ولا حدث جديد.
... ولقد ذهلت أيما ذهول، وأنا أغوص بين الوثائق والسجلات القديمة لأرى حرص ملوك المسلمين وأمرائهم على تعاقب الأجيال والعصور، وهم ينشئون المدارس والزوايا والرباطات حول المسجد الأقصى إلى مسافات بعيدة، صونا لحرمة أولى القبلتين وثالث الحرمين، وذودا عن موطن الإسراء والمعراج.(1/221)
... ولقد سكت اليهود عن تقرير اللجنة الدولية حين رأوا تكاتف العرب والمسلمين للدفاع عن مقدساتهم الدينية، وقد دام صمتهم سبعة وثلاثين عاما كأنهم على موعد مع القدر، وكأننا على موعد مع النكبة.
... ففي حرب حزيران من 1967 احتلت القوات الإسرائيلية بيت المقدس وجاست خلال المسجد الأقصى وساحاته، ورفع العلم الصهيوني على حائط "المبكى"، ونفخ اليهود في الصور، وتجمعت الدولة اليهودية في ساحة البراق الشريف لتعلن عودة القدس عاصمة أبدية إلى إسرائيل.
... واهتز قرار اللجنة الدولية من مكانه في مكتبة الأمم المتحدة، واهتزت معه السجلات والوثائق الشرعية والوقفية، واهتزت مع هذه وتلك عظام الملوك والأمراء الأوائل يتساءلون عن النبأ العظيم، ماذا حل ببيت المقدس؟
... وعجبت للقدر.. لقد ساهمت في الدفاع عن حائط "المبكى" وحسبت الأمر قد انتهى، فإذا بى أرى نفسي بعد سبعة وثلاثين عاما مع الملك حسين والفريق عبد المنعم رياض وقادة الجيش الأردني في غرفة العمليات في السادس من حزيران سنة 1967 ولأسمع النبأ الصادع: لقد سقطت القدس- لقد دخلها الجيش الإسرائيلي.
... وعدت ظهر ذلك اليوم إلى الفندق لأبكي.. لأبكي لأن القدس سقطت سليمة من غير قتال ولا دفاع، لأن رجالها الشجعان ونساءها البواسل لم يكن عندهم سلاح ولا عتاد.
... أجل لقد بكيت لأني كنت أؤثر أن تدخل إسرائيل إلى بيت المقدس على أنقاضها حجرا على حجر من المسجد الأقصى إلى كنيسة القيامة، وأن(1/222)
نخوضها معركة ضارية – ستالنجراد الثانية، فنقاتل من بيت إلى بيت ومن قنطرة إلى قنطرة، ولتقصفها إسرائيل بالطائرات والمدافع.. ونحن لو فعلنا هذا لسلمت القدس لنا إلى يومنا هذا..
... وما زلت أبكي كلما تذكرت بيت المقدس لأني أعلم أن إسرائيل لن تخرج منها عن طريق الأمم المتحدة ولا بالمساعي السياسية ولا بالحلول الدبلوماسية.. وسأعرض في مذكراتي إلى كارثة بيت المقدس، ليعرف التاريخ العربي الجناية والجاني.
... أجل لن تخرج إسرائيل إلاّ إذا خضناها حربا طاحنة لا تبقي ولا تذر، تترك بيت المقدس حجرا على حجر، من المسجد الأقصى إلى كنيسة القيامة.
... و إذا كان هذا هو الثمن، فليكن هذا هو الثمن، فإن الأرض الطهور في بيت المقدس ستبقى، ويومئذ سنبني عليها مسجدنا وكنيستنا، وسنعيد بناء التاريخ.(1/223)
عرس في غرفة الإعدام
... كانت أوائل الثلاثينات عندي مزيد من المراس بمهنة المحاماة، ولكن في الحقل الوطني الثوري، فقد خلفت ثورة البراق الشريف لعام 1929 عددا كبيرا من القضايا الوطنية رفعتها السلطات البريطانية أمام المحاكم ضد الشباب الأبطال الذين قاموا بعمليات مسلحة في مختلف أنحاء البلاد.
... ولقد قضيت بضعة أشهرامّا في أروقة المحاكم مع القضاة والمحامين، أو في الشارع مع جماهير الشعب، في المحاكم مرافعات وفي الشارع تظاهرات..
... ومن القضايا البارزة التي شهدتها تلك الحقبة محاكمات الأبطال الثلاثة فؤاد حجازي من صفد، وعطا الزير ومحمد جمجوم من الخليل، وانتهت بإصدار أحكام الإعدام عليهم، وكانت قد وقعت حوادث دامية في كل من صفد والخليل أبدى خلالها الشباب المناضلون بسالة خارقة.
... وكانت التهم الموجهة إليهم "الاعتداء على اليهود بالسلاح" وكانت هذه القضايا مثار اهتمام الرأي العام، وأبلى المحامون العرب فيها بلاء مجيدا، وكانت إلى جانب هذه المحاكمات عشرات من القضايا المماثلة، وكاد المحامون والمحامون المتمرنون من أمثالي أن يبيتوا في دور المحاكم ونحن نعد المرافعات، كلنا متطوعون في سبيل الوطن.(1/224)
... وقد تسنى لي أن أشهد محاكمة البطل فؤاد حجازي وأن أعمل مع رهط كبير من المحامين للدفاع في هذه القضية، ورأيت فيها العجب العجاب من كذب الشهود اليهود وتباكي نسائهم، وتمثيليات رجالهم وأطفالهم، استدرارا لعطف القضاة البريطانيين وإشفاقهم، يقابل ذلك في الجانب العربي، رجولة وشجاعة وصراحة في أداء البينات وعرض المرافعات.
... ولم تفلح جهود المحامين في قضايا الأبطال الثلاثة، فقد حكم القضاة البريطانيون عليهم بالموت شنقا في سجن عكا، وتدخل عدد من رجالات العرب في الأقطار المجاورة لدى السلطات البريطانية لإبدال الحكم ولكن من غير جدوى، وتحدد يوم السابع عشر من شهر حزيران موعدا لتنفيذ حكم الإعدام.
... وكانت السلطات البريطانية قد سمحت بزيارة الأبطال الثلاثة، في "زنزانتهم" قبل تنفيذ الإعدام بأيام.
... وكنت في تلك الفترة في عكا – وهي بلدي- وقد تكاثرت فيها الوفود من كل أنحاء فلسطين ليؤدوا واجب التحية للابطال الشجعان، قبل أن ينفذ فيهم حكم الموت.
... ولقد زرت الأبطال الثلاثة غير مرة مع مختلف الوفود، ذلك أنهم ضيوفي وضيوف بلدي، فضلا عن أن السجناء والمعتقلين من كل أنحاء فلسطين كانوا "ضيوفا" علينا في سجن عكا، منذ أن كان الانتداب في فلسطين.
... وكان السجناء الثلاثة في زنزانات متجاورة، يقفون وراء القضبان الحديدية، ويمر عليهم الزائرون صفوفاً صفوفاً لتحية قصيرة.(1/225)
... ومررنا بالإخوان الثلاثة، رؤوسهم مرفوعة ووجوههم مشرقة، ومن عجب أنهم كانوا يشدّون من عزمنا وإيماننا، وأصبحوا يواسوننا بدلا من أن نواسيهم، وكان جمجوم والزير قد خضبا أيديهما بالحناء، كما يفعل أهل الخليل في أفراحهم.. يؤكدان ابتهاجهما بأنهما فداء فلسطين، كما كان حجازي، ولم يتجاوز اثنين وعشرين عاما، المثل الأعلى في الشجاعة ورباطة الجأش، وهكذا بدت غرفة الإعدام ساحة عرس مؤنس بهيج.
... وأبدت السلطات البريطانية كل إبداع وإتقان في تنفيذ حكم الإعدام.. في الساعة الثامنة نفذ حكم الإعدام في "حجازي" وفي الساعة التاسعة نفذ الحكم في "الزير" وفي العاشرة نفذ في "جمجوم" وذهبت أرواحهم الثلاثة إلى بارئها راضية مرضية، تشكو إلى الله ظلم الدولة البريطانية وعسفها وجورها.
... وكانت عكا تعج بالخلائق من كل أنحاء فلسطين كأنه يوم الحشر، وراحت المآذن تهلل وتكبر، والكنائس تقرع أجراسها، ودفن الأبطال الثلاثة في موكب مهيب في مقبرة عكا، وكان أهل صفد والخليل يلحون أن يدفنوا أبطالهم في مقابرهم، ولكن عكا وهي التي شهدت مصارع الرجال الأبطال على كل العصور والأجيال، قد أبت إلاّ أن يرقد الأبطال الثلاثة في رحاب أرضها الحافلة بالأمجاد فكان لها ما أرادت.
... وتفجرت مشاعر الشعب في كل مكان، تمجد الأبطال الثلاثة، حجازي والزير وجمجوم، حتىأصبح ذكرهم أسطورة شعبية يرددها الرجال والنساء، والشيوخ والأطفال وراح الشعراء، ينشدون فيهم القصائد، والقصاصون يرددون أخبارهم في المآتم والأفراح.(1/226)
... وقد انطلقت قريحة شاعر فلسطين إبراهيم طوقان، فجاءت بآيات رفيعات من الشعر خلدت الشهداء وخلدته مع الشهداء، وكان مما قاله في وصف الساعات الثلاث:
الساعة الأولى – الساعة الثامنة – فؤاد حجازي
أنا ساعةُ النفسِ الأبيَّهْ ... الفضلُ لي بالأَسبقيَّهْ
أنا بِكْرُ ساعاتٍ ثلاثٍ ... كلها رمزُ الحميَّهْ
قسماً بروح (فؤاد) ... تصعدُ من جوانِحِهِ زكيهْ
الساعة الثانية – الساعة التاسعة –محمد جمجوم
أنا ساعةُ الموت المشرِّف ... كلَّ ذي فعلٍ مجيدِ
بطَلي يُحطِّمُ قيدَهُ ... رمزاً لتحطيم القيودِ
قسماً بروحِ (محمد) ... تَلْقى الردى حُلْوَ الورودِ
قسماً بأُمِّكَ عند موتِكَ ... وهي تهتفُ بالنشيدِ
الساعة الثالثة – الساعة العاشرة – عطا الزير
أنا ساعةُ الرّجل الصَّبورِ ... أنا ساعةُ القلبِ الكبيرِ
بطَلي أشدّ على لقاءِ الموتِ ... من صُمِّ الصّخورِ
يَلْقى الإله (مُخَضَّبَ الكفَّيْن) ... في يومِ النّشورِ
قسماً بروحك يا (عطاء) ... وجنَّةِ الملِكِ القديرِ
... ولم يكن إبراهيم طوقان "شاعرا" فحسب حين تحدث عن "صم الصخور" فقد صنعناها حقيقة لا مجازا، وتولينا بناء القبور للأبطال الثلاثة، لا من الرخام المزخرف، ولكن من صم الصخور، وانطلق البناؤون إلى مقالع الحجارة في كل جبل وواد، واختاروا من الصخور الصماء اشدِّها وأصلبها،(1/227)
ومنها بنيت القبور.. ولم يكن يمضى عيد ديني أو مناسبة قومية إلاّ ونخرج نحن أهل عكا نقرأ الفاتحة على أرواح الأبطال الثلاثة أولاً، ثم على موتانا ثانيا.
... وكانت القبور الثلاثة، زاهية الورود فواحة الرياحين، حتى خرجنا من فلسطين، وأحسب أنها ذبلت وأصبح ما حولها بلقعا خرابا وعالما يبابا بعد أن هاجر أهل عكا من مدينتهم الباسلة.
... ومن يدري فلعل عجوزا طاعنة في السن، ممن بقين في عكا، تخرج إلى المقبرة على عادتها، تتسلل لواذا إلى الأضرحة الثلاثة لتبكي أبطالنا، نيابة عن الشعب الشريد الطريد بأسره.
... ولقد أطلت قليلا في تذكار "حجازي وجمجوم والزير" تمجيدا لروح الاستشهاد التي تجلت في شعب فلسطين خلال ثلاثين عاما من الكفاح في عهد الانتداب البريطاني، وإكبارا للبطولة التي تتجسد في نضاله الحاضر بعد كارثة حزيران من عام 1967.
... وفي هذه الحقبة الطويلة التي امتدت خمسين عاما سقط الألوف من رجالنا ونسائنا في ساحة الشهادة والشرف، وضمهم ثرى الوطن الطهور، بين تهليل الآباء والأصدقاء، وزغاريد الأمهات والبنات، وما تزال قوافل الشهداء تتعاقب وتتلاحق إلى يومنا هذا.
... وستظل تتلاحق وتتعاقب إلى غدنا المرتقب، حتى نعود إلى الوطن الحبيب السليب، ونعود إلى أضرحة الشهداء، فتعود زاهية الورود، فواحة الرياحين.(1/228)
مكماهون وحسين..
يدفنان في وادي الحوارث
... حاولت جاهدا بعد انهماكي في الإعداد لقضية البراق أمام اللجنة الدولية، أن أتفرغ ما استطعت إلى معهد الحقوق، وإن كان نشاطي السياسي لم يكن يخلو من الدراسات القانونية، وقضيت بضعة أسابيع في الحياة العلمية المحضة مع أساتذتي وزملائي.
... وكانت فترة وجيزة انغمست بعدها في الحياة العامة، فقد واجهت البلاد مرحلة جديدة تحمل بوادر الخطر، وزهدت في الدراسة وراحت الأحداث تجرني إلى ميدان النشاط العام.
... ففي أوائل الثلاثينات وما بعدها استفحلت الهجرة اليهودية إلى فلسطين نتيجة للسياسة الهتلرية في المانيا، وقد صاحبتها موجات من الهجرة المهربة، وبتنا نرى أنفسنا أمام غزوة يهودية تجتاح وطننا.
... وزاد من خطورة الموقف أن تولى منصب المندوب السامي في ذلك الوقت" آرثر واكهوب" فجاء من لندن يحمل بين أنامله خيوطا سياسية جديدة تستهدف" تمييع" الحركة الوطنية.
... وأخذ المندوب السامي غداة وصوله يطوف البلاد ويجتمع بالفلاحين ويعرب عن عطفه ويعدهم بالقروض وتخفيف الضرائب وما إلى ذلك من الأساليب التي كان يرمي من ورائها أن يصرف الجماهير عن النضال(1/229)
القومي ويشغلهم بالحياة اليومية. فتنادينا نحن الشباب لمقاومة هذا الخداع السياسي، واجتمعنا في فندق ماجستيك في القدس، حيث كنت أقيم في ذلك الوقت، واتفقت كلمتنا أن نقوم بحملة توعية كبرى لإيقاظ الشعور الوطني، وكانت القدس وما حولها من نصيبي كميدان للنشاط، وانصرف إخواني إلى سائر أنحاء البلاد.
... ولكن المندوب السامي كان أسبق منا في نشاطه، وهو يملك من السلطة والوسائل ما لا نملك، فأخذ يطوف المدن ويجتمع بالتجار وأصحاب الأعمال الحرة يبحث معهم التدابير الكفيلة بالتنمية الاقتصادية.وزاد على ذلك بأن أخذ يتصل بالعائلات المعروفة في فلسطين لتعيين أبنائها في مناصب مغرية في الحكومة، ولقد أفلح "واكهوب" في مسعاه واستطاع أن يجتذب عددا من أبناء الأسر: الحسينية والنشاشبية والدجانية والتاجية وآل عبد الهادي وسواهم، وكان هؤلاء الشباب هم النخبة الممتازة الذين يستطيعون قيادة الحركة الوطنية وتنظيمها بما لهم من خبرة وكفاءة، ولكن هذه الخطة من جانب المندوب السامي قد انتزعت إلى دوائر الحكومة" زبدة" البلاد، وربطت العائلات الكبرى بالسلطة البريطانية.
... والواقع أن هذه الإجراءات في مجموعها قد ساعدت المندوب السامي على تهدئة الحركة الوطنية" وتمييع" النضال القومي ... . ولكن إلى حين.
... ومضينا نحن الشباب الذين بقينا خارج المناصب الحكومية. نوقظ الشعور الوطني، ولم يكن يخلو يوم أو ليلة إلاّ وأعقد فيها الندوات والاجتماعات في " دائرتي"- القدس- كما كان يفعل باقي زملائي في المناطق(1/230)
الأخرى في فلسطين، وهكذا عادت الحركة الوطنية إلى نشاطها" الشعب في جانب، والقيادة الوطنية في الجانب الآخر.
... وكان من مظاهر هذا النشاط في ذلك الوقت أن تأسس حزب الاستقلال- فنفخ في الحركة الوطنية روحا جديدة، وكان من مؤسسي الحزب عوني عبد الهادي، عزة دروزة، معين الماضي، رشيد الحاج ابراهيم، صبحي الخضراء، أكرم زعيتر، فهمي العبوشي، وعجاج نويهض.
... وكانت لي صداقة مع مؤسسي الحزب وقد عرضوا علي أن أنضم إليهم فاعتذرت بعد تردد طويل. فقد كنت مؤمنا بمبادئهم وهي المبادئ التي كنت أدعو إليها، ولكني كنت أنفر من الحزبية والأحزاب، ولا أرى مبررا لقيامها قبل أن تصل البلاد إلى الاستقلال، فضلا عن أن عددا من أعضاء الحزب كانت لهم روابط بالحاج أمين الحسيني، وكنت أخشى على حزب الاستقلال أن يكون غير قادر على الاستقلال، بالتخطيط والتنفيذ، والتفكير والتدبير!!(1/231)
... ولقد نشط الحزب في أوائل عهده بالدعوة لمقاومة الاستعمار والصهيونية معا، وعقد اجتماعات وطنية كبرى في القدس ونابلس ويافا وحيفا في مناسبات وطنية كثيرة ومثيرة، مثل ذكرى موقعة حطين، واحتلال القدس، غزوة بدر وغيرها.
... وقد اشتركت في معظم هذه الاجتماعات الوطنية وخطبت فيها، حتى ظن الكثيرون أنني عضو في حزب الاستقلال، والواقع أنني كنت على لقاء دائم بأعضاء الحزب، ولم يبق إلاّ أن أحضر اجتماعاتهم الرسمية، كواحد من مؤسسي الحزب.
... وكان الشعار الذي طرحه الاستقلال: الاستعمار البريطاني أصل الداء وأساس البلاء (1) . فقد كانت الحركة الوطنية إلى ذلك الحين تبدو وكأنها خلاف بين العرب واليهود، وأما بريطانيا فهي الحكم الفصل، وكان النشاشيبيون في مجالس البلدية يجاملون السلطة البريطانية، والحسينيون في المجلس الإسلامي الأعلى لا يجاهرونها العداء، والحاج أمين الحسيني وراغب النشاشيبي يتخاصمان حينا ويتهادنان حينا آخر، ويجران البلاد وراءهما في الخصام وفي السلام!!
... و أخذت اجتماعات حزب الاستقلال فعلها في نفوس الشعب، وأصبحت المعركة موجهة ضد الاستعمار والصهيونية والزعامة التقليدية،
__________
(1) * في الأصل :أصل البلاد وأصل الداء (المحرر).(1/232)
وبات الحوار في كل مدينة وقرية، بل وفي كل بيت: الاستعمار البريطاني، أم الصهيونية العالمية أم كلاهما معا.
... وفي اجتماع عقده الحزب في نابلس، كنت أخطب عن الخطر الذي يهدد البلاد من جراء الهجرة اليهودية المتدفقة، و إذا بأحد الشباب يصيح وسط الجمهور متسائلا هل تقاوم الصهيونية أم الاستعمار؟ فبادرته على الفور ببيت من الشعر.
لاتقطعن ذنب الأفعى وترسلها
أن كنت شهما فأتبع رأسها الذنبا
... ونشرت أخبار ذلك الحدث في الصحف وأصبح بيت الشعر هذا شعارا وطنيا يحفظه الرجال والنساء والأطفال والشيوخ على السواء.
... وبينما كانت تتعاظم هذه الموجة العارمة من المشاعر الوطنية الفياضة وقع حادث خطير اهتزت له البلاد من أقصاها إلى أقصاها.
... في الوقت الذي كان فيه المندوب السامي يزور الفلاحين ويأكل على موائدهم ويباسطهم ويجالسهم، كان رجال الشرطة يحيطون بعرب وادي الحوارث، يطوقونهم ويحاصرونهم، ليخرجوهم من الأرض التي عاشوا عليها، وترعرعوا فيها هم وآباؤهم وأجدادهم.
... كانت هذه الأراضي مسجلة باسم أسرة" تيان" اللبنانية، وإن كانت في الواقع تحت تصرف أهلها من بدو" الحوارث" وكانت مساحتها أربعين ألف دونم. وقد بيعت هذه الأراضي الخصبة إلى اليهود من قبل" المالكين" المسجلين الذين لا يعرفون من أمرها شيئاً.(1/233)
... وذهبت مع نفر من المحامين، لنحقق في هذه الكارثة على " الطبيعة" فكان منظرا رهيبا، وقفت أمامه مذهولا حائرا.
... لقد تمت المراحل القضائية كلها في دور المحاكم، وهذه المئات من العائلات العربية مشغولة في فلاحة أراضيها ورعي مواشيها، وفي صبيحة يوم ما جاء رجال البوليس ينذرونهم بالخروج من منازلهم واقتلاع خيامهم، والجلاء عن الارض.
... رأيت جموع النساء والشيوخ والأطفال لا يدرون ما يفعلون،وسألت شيخ العشيرة عما جرى بينهم وبين البوليس، فقال لقد طلبوا إلينا أن نترك الأرض خلال ثلاثة أيام، فقلت له إلى أين؟ قال لا أدري.
... قلت ألم تحدد لكم الحكومة أرضاً تذهبون إليها؟ قال: لم تفعل الحكومة شيئا وكل ما طلبه البوليس، اخرجوا، اخرجوا.
... وسألني شيخ العشيرة ما العمل؟ وكان إلى جواري المحامي صبحي الخضرا من صفد، من الضباط الأحرار الذين التحقوا بثورة الشريف حسين في الحرب العالمية الأولى، فسألته ماذا نقول لشيخ العشيرة.
... فقال لي صبحي الخضرا، والحزن يعقد لسانه ولساني، لست أدري، وبماذا نشير؟ فقلت له: لست أدري، ولا أشير بشيء.
... وودعنا العشيرة وشيخها بكلمات التعزية والمواساة، فذلك ما كنا نملكه وما تملكه الحركة الوطنية بأسرها.
... وركبت السيارة، وعدنا كل منا إلى شأنه، وودعت صبحي الخضرا وأنا أقول له: أعزيك يا أخي. قال بماذا؟ قلت بثورة الشريف حسين وأنت أحد ضباطها، فهذه وعود الحلفاء، وهذه مراسلات حسين - مكماهون، انتهكت(1/234)
كلها في وادي الحوارث ... وكأنما دفن الرجلان في وادي الحوارث ... الحسين ومكماهون دفنا هنا معا.
... ومضت مهلة الإنذار فخرج عرب وادي الحوارث من منازلهم وحملوا خيامهم على دوابهم، وأطفالهم على أكتافهم، وهاموا على وجوههم، ليكونوا قافلة من قوافل الجلاء عن أرض الآباء والأجداد.
... ولم يكن تشريد عرب الحوارث الطليعة الأولى في قافلة التشريد الطويلة، فقد سبقته ولحقته حملات رهيبة من التشريد كان الفلاحون الكادحون ضحاياها الأليمة، ففي أوائل العشرينات استولى اليهود على أراضي الغور في بيسان التي كانت مسجلة" اسميا" باسم السلطان عبد الحميد، وكانت مساحتها 165 ألف دونم يقيم فيها خمسة عشر ألف عربي، هدم اليهود قراهم وأجلوهم عنها..
... ثم جاء بعد ذلك تشريد 2546 أسرة عربية كانت تقيم في عشرين قرية عربية في مرج ابن عامر، كانت مسجلة باسم آل سرسق، فاشتراها اليهود وأجلوا أهلها عنها، وأقاموا مكانها المستعمرات اليهودية على أنقاض القرى العربية بمنازلها ومساجدها.
... وها قد جاءت حادثة وادي الحوارث فاضطربت البلاد، وازدادت النقمة على القيادة الوطنية والزعامة التقليدية، واستنفد حزب الاستقلال زمانه واستهلك دعوته وطاقاته، فلم يكن حزب الاستقلال يملك إلاّ الفكر الصحيح والكلمة الشجاعة، على حين كانت الصهيونية تملك شركات الأراضي والبنوك وأجهزة الدعاية، والتنظيم الشعبي، والجباية القومية، يقف على رأس(1/235)
ذلك كله الصهيونية العالمية والاستعمار البريطاني بقواته العسكرية وسلطاته التشريعية والإدارية والتنفيذية.
... ولم يكن أمام الشعب ليعرب عن سخطه إلاّ سبيل المظاهرات الوطنية والتصدي لليهود بالسلاح من حين إلى حين ... وشتان بين طاقات الفريقين المتصارعين وقدراتهما ... وكان أن نشطت الدعوة للقيام بمقاومة سلبية ضد السلطة البريطانية تبتدئ بسياسة اللاتعاون مع الحكومة، وتداعت القوى الوطنية لمؤتمر قومي عقد في سينما أبولو في يافا في آذار سنة 1933، وقد شهده الرجال الوطنيون من كل أنحاء البلاد. كما حضره رجال حزب الاستقلال التسعة واتخذوا مقاعدهم في الصف الخلفي يراقبون ويستمعون ... وهم يعتبرون أن دعوتهم قد بلغت غايتها ... فقد اتجهت الحركة الوطنية لمصارحة بريطانيا بالعداء، وكفى ... ولم يكن عندهم ما يقدرون عليه بعد ذلك.
... وكان جو المؤتمر بالغ الحماسة، وتعاقب الخطباء على الكلام، وكان الزعماء ومنهم الحاج أمين الحسيني يستمعون ويراقبون ، كأنما المعركة بينهم وبين المؤتمر.
... وطلبت الكلمة فشرحت خطورة الموقف وتحدثت بتفصيل عما شاهدته في وادي الحوارث وأن هذا المصير ينتظر الشعب بأسره، وختمت بالقول أن الأمر يستدعي قيام جبهة وطنية تضم كل" الزعماء" شريطة أن يتخلوا عن مناصبهم الحكومية ويتفرغوا لقيادة الحركة الوطنية، ووجهت في النهاية دعوة صريحة إلى كل من الحاج أمين الحسيني وراغب النشاشيبي بالاستقالة من منصبيهما والنزول إلى الميدان مع الشعب ... وغدا جو المؤتمر(1/236)
مشحونا بالتوتر، وتطلعت الأبصار إلى قادة المجلسيين والمعارضين، وغادرت المنصة إلى مقعدي وسط عاصفة لاهبة من الحماسة.
... ووقف عاصم السعيد رئيس بلدية يافا، من قادة المعارضين، أعلن باسم راغب النشاشيبي رئيس بلدية القدس وسائر رؤساء البلديات أنهم مستعدون لتقديم استقالاتهم والأخذ بسياسة اللاتعاون ...
واشرأبت الأعناق إلى الحاج أمين الحسيني رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، وحسب الجمهور أنه سيعلن استقالته، فأخذ يخطب ويخطب عن أهمية المجلس الإسلامي والمحاكم الشرعية ودوائر الأوقاف والأيتام ثم راح يتساءل: من لهذه الدوائر إذا استقال؟ وما هو مصيرها؟ ومضى يقول إنه قبل مجيئه إلى يافا وصلته أنباء" بأنهم" سيورطونه" في المؤتمر وسيطالبونه بالاستقالة"، وأن هذا الأمر دسيسة استعمارية ومؤامرة صهيونية على المؤسسات الإسلامية، أنهى خطابه بأنه لن " يورط" وأنه باق في مناصبه رغم كيد الكائدين وحسد الحاسدين!!
... وما أن عاد الحاج أمين إلى مكانه على المنصة الرئيسية حتى ساد المؤتمر جو من الهرج والمرج، بين مؤيد للاستقالة ومعارض لها، وكان الحاج أمين قد حشد لهذا الاجتماع حشدا من أنصاره، فشهروا عصيهم يلوحون بها، وهم يصيحون لا رئيس إلاّ الحاج أمين.
... ولاحت بوادر الشر من جانب أعوان الحاج أمين، فأحاط بي عدد من شباب يافا، وكادت أن تقع المعركة داخل المؤتمر، بالأيدي والعصي والكراسي، ولكن سرعان ما أعلن انتهاء الاجتماع بعد أن تقرر مقاطعة اليهود والامتناع عن حضور الحفلات مع الإنجليز سرا أو علانية.(1/237)
... وخرج الناس وهم ساخرون بهذه الزعامة، يتندرون بما سمعوا،وتعاقبت أيام و أعوام وهم يتحدثون عن" مؤتمر التوريط" وعن الزعامة التي أبت" التوريط".
... وكانت مأساة وطنية اكتوى الوطن بنارها، وكانت المأساة حقا في زعامته التي اعتبرت مواجهة الاستعمار مكيدة استعمارية ومؤامرة صهيونية.
... ولقد عاش جيلنا ليشهد النكبة في حياته، وليرى ضياع الوطن ومعه المجلس الإسلامي والمحاكم الشرعية ودوائر الأوقاف وبقيت ذكريات مؤتمر التوريط، والزعامة التي أبت" التوريط".(1/238)
مرافعات- مظاهرات- أحزاب-
صدقي باشا وبو رقيبة
... اقترب عام 1933 من نهايته، واقترب معه انتهائي من الدراسة في معهد الحقوق، فقد اجتزت الامتحان وفرغت من مدة التمرين، وصنعت عند الخياط روب المحاماة، وعرجت على المصور في باب الخليل ليلتقط لي صورة في ثوب المحاماة،فأجلسني وأوقفني، وشد رأسي على كتفي، وساعدي على جنبي ، فجاءت صورة للمحامي لا تنقصها إلاّ النبرات والمرافعات.
... وكان سروري عظيما وأنا أشقّ طريقي إلى مباني "المسكوبية" أصعد السلالم قفزا ووثبا حتى بلغت مكتب قاضي القضاة البريطاني، وفي مشهد مهيب وقفت أمامه أقسم اليمين للحفاظ على شرف المهنة والالتزام بواجباتها وتقاليدها.
... وما هي إلاّ أيام قلائل حتى رأيت نفسي أحنث بالقسم. فلم أستطع أن ألتزم بشرف المهنة، وكانت أول قضية ترافعت فيها، قضية كاذبة كلها زور، أقدمت عليها راضيا مختارا، مسرورا منشرحا، وربحت القضية من غير عناء.
... وتتلخص وقائع هذه القضية أن القانون لا يسمح للمحامي بممارسة المهنة إلاّ إذا كان قد تجاوز الخامسة والعشرين من عمره، وكانت سني دون ذلك، وأصبح لا بد لي أن أنتظر عاما أو بعض عام من غير عمل حتى يحل(1/239)
الأجل ... أو أن "أرفع" قضية أمام المحكمة أثبت فيها أنني تجاوزت السن المطلوبة.
... وبعد التشاور مع "كبار" المحامين من زملائي اتفقت الكلمة على الخيار الثاني، التزوير، فرفعت قضية على النائب العام أمام المحكمة المركزية، ولعلها كانت القضية الوحيدة التي شهدتها محاكم فلسطين خلال العهد البريطاني كله.
... وفي اليوم المحدد دخلت المحكمة" بالروب" لأترافع في قضيتي، وقدمت شهودي: مختار الحي، طبيب المدينة، وثلاثة من الجيران، وكلهم شهدوا" بالله العظيم" أنني تجاوزت الخامسة والعشرين، ولم يناقشهم النائب العام في شهادتهم ولم تستوضحهم المحكمة شيئاً، ومال رئيس المحكمة البريطاني إلى عضو اليمين عزيز الداوودي وإلى عضو اليسار شفيق الدجاني، وتلا القرار بأنه ثبت بالأدلة المقدمة للمحكمة بأن المحامي السيد أحمد الشقيري قد تجاوز الخامسة والعشرين من عمره، وأنه يستطيع أن يمارس مهنة المحاماة، ولقد نطق الرئيس البريطاني بالحكم جادا كعادته، أمّا العضوان العربيان فلم يستطيعا الإمساك عن الابتسام، في سكينة وهدوء.
... وخرجت من قاعة المحكمة منتصرا، وقد ربحت أول قضية زور أقدمت عليها، ولم أجرؤ على مثلها في عمر المحاماة كله ... والحمد لله.
... وما أن وصلت إلى مكتبي حتى توافد علي الأصدقاء مهنئين فرحين، بهذا النجاح" العظيم" ومضيت في عملي، جادا مثابرا، وبدأت أقاسي عناء التعامل مع المتقاضين، والشهود والقضاة، والزملاء. والمحاماة عالم بذاته حافل بالمكايدة والتجارب المريرة.(1/240)
... وشر ما في المحاماة، وهو جوهر شرفها إذا كان صاحبها ذا ضمير حي، انها عناء وبلاء، فقد كنت أعيش "قضيتي" بكل جوارحي وعواطفي، خاصة إذا كانت قضية جنائية كبرى.
... ففي مثل هذه القضايا التي يتعرض المتهم فيها للإعدام، كنت أعيش في جو من الهم والغم، أثناء نظر القضية، بل قبلها بأيام ... فلا يهنأ لي طعام ولا يطيب لي منام ... واجم أبداً وساهم دائما، لا أكلم أحدا في البيت، وفؤادي في شغل شاغل مع المتهم في زنزانته.
... وفي يوم المحاكمة أحاول أن أروح عن نفسي بالرياضة، لأذهب إلى المحكمة مستريحا بعض الشيء فلا أستطيع، وأحمل معي ملفاتي وكتبي بها لأزحزح "جبال الهملايا" عن أكتافي.
... وحسبت أن هذا "الهم" سيمضي مع الزمن بالعادة أو الممارسة، ولكنه بقي معي على الدوام، وكان علي أن أبغض المهنة وألعن الساعة التي اخترتها- ولكني لم أفعل، فقد كنت أحب "مهنتي" حبا جما، وزادني شقاؤها وعناؤها، حبا لها وكلفا بها، وأدركت معها لوعات المحبين المدنفين.
... ولم أكن "مكثارا" في استلام القضايا، كما يفعل المحامون عادة، بل كنت أعمد إلى اختيار أجلها وأدناها إلى النجاح، ولو بأجر غير كبير، وذلك أني كنت أحب القضية الصعبة المراس، وكان يلذ لي فتح مغلقاتها وتحطيم صعوباتها، وكنت أزهد في القضايا الروتينية البسيطة حتى ولو كبر أجرها، وكان لي ولع بمناقشة "الشاهد" حتى يخر صريعا في حبائل كذبه، وقد ابدأ في مناقشته في الصباح وقد أعياه الكذب عند المساء، ولا أعف عنه حتى يعترف بزوره وبهتانه.(1/241)
... وأغرمت كذلك بقضايا الأراضي، إذ كانت المنازعات ناشبة بيننا وبين اليهود حول ملكية الأراضي، فقد كانت الشركات اليهودية بما لديها من ثراء ونفوذ لدى الدوائر الرسمية تعرف كيف" تصطاد" ملكية اسمية للأراضي العربية، وكثيرا ما تطوعت للدفاع عن حقوق الفلاحين في عديد من القرى العربية، ولكم قضيت الليالي الطوال في سهر مع الفلاحين في قراهم النائية وأنا أبحث معهم في صبر وأناة مواقع القرية وسجلاتها وحدودها من أيام الدولة العثمانية إلى يومنا ذاك.
... ولقد كنا " نقاتل" من أجل كل شبر من الأرض، ولقد ربحنا كثيرا من القضايا انتزعناها من أيدي الشركات الصهيونية وحققنا في هذا المجال انتصارات وإنجازات.
... وأعود بذاكرتي الآن، ثلاثين عاما إلى الوراء، إلى تلك القرى العزيزة وأهلها الأعزاء، أسائل نفسي ماذا جرى ... أين ذهبت تلك الانتصارات القضائية؟ ولقد حلت محلها انتصارات عسكرية إسرائيلية، ذهب معها الوطن كله وذهبت جهود الأيام والليالي هدرا، ذلك أن الحق لا محالة ضائع إذا لم تكن وراءه قوة تصونه وتحميه.
... ولم يكن يخلو عملي من طرائف المهنة، وإنيّ لأذكر أن فلاحا من إحدى قرى جنين قد جاءني إلى مكتبي في عكا يعرض علي أن أترافع عنه في قضية اصطدام مسلح جرى في قريته وأدى إلى قتل وجرح كثيرين، وكانت لدي مشاغل كثيرة في ذلك الوقت فاعتذرت عن قبول القضية وأحلته على زميل في نابلس أقرب إلى المنطقة.(1/242)
... وأخذ الفلاح يتوسل إليّ بكل حرارة أن أقبل قضيته بأي أجر أطلبه، وعجبت لإلحاحه وسألته عن سبب ذلك فأخذ يقص عليّ حكاية طويلة انتهى منها إلى أنهم عائلة "مصرية" في قريتهم، وأن "الفلاحين" في القرية يكرهونهم، وأنه لا يثق بالمحامين في منطقتهم، وأنه لجأ إليّ لأني"مصري" الأصل مثله، وأنه لهذا السبب يستطيع أن يثق بي.
... ولم يستطع أن يثير"عصبيتي الإقليمية" فهدأت من روعه وأفهمته أن المحامين في منطقته مستقيمون وأمناء، وأنه لا فرق بين مصري وفلاح، وأن آخر فوج من المصريين في فلسطين منذ عهد إبراهيم باشا مضى عليهم ما يزيد على قرن من الزمان فلا داعي للقيل والقال، ثم لاطفته وجاملته وزودته بكتاب توصية إلى أحد زملائي وخرج من مكتبي راضيا مسرورا أو هكذا ظننت.
... وفي تلك الفترة وصل إلى البلاد صدقي باشا رئيس الوزارة المصرية يومئذ، وحل ضيفا على المندوب السامي، وكان في استقباله عدد من وجوه البلاد، خاصة أصحاب السيارات وقد توسلوا إليه أن يأذن بدخول البرتقال الفلسطيني إلى أسواق مصر، فأجابهم بأنه سوف يصدر أمرا بذلك على أن يدخل برتقال فلسطين بعد أن يستهلك البرتقال المصري في الأسواق المحلية، وكان معنى ذلك المنع والحرمان، لأن برتقال فلسطين يكون عندئذ قد انتهى موسمه!!
... وجاء صدقي باشا وبات ليلة في ضيافة رئيس البلدية في عكا وطلبت إلى الأهلين أن لا يستقبلوه، فقد كنا وفديين في مشاعرنا الوطنية، وكنا نأخذ عليه بطشه وتنكيله بالحركة الوطنية في مصر.(1/243)
... وعقد اجتماع وطني في ذلك المساء وأثنى الخطباء على الوفد ورئيسه مصطفى النحاس باشا وهتفوا بسقوط صدقي باشا.
... وصحت في الجمع بأعلى صوتي: لا تقولوا صدقي باشا، بل قولوا كذبي باشا، وهتف الجمع لهذه الكلمة وأغنتني عن خطاب طويل ...
... وصادف كذلك أن جاء إلى عكا في ذلك الوقت الحبيب بورقيبة، فاستقبلته مع جمع من كرام الوطن، وأكرمنا وفادته بضعة أيام، وشرح لنا ظروف الكفاح التونسي، فتبرعت له مع عدد من الإخوان بمبلغ من المال يعينه في نضاله وأسفاره، وغادر عكا معززا مكرما وهو يدعو الله أن يقدره على مكافأتنا في قضية فلسطين.. ولي مع أبو رقيبة ذكريات من باريس وتونس والقاهرة سيأتي تفصيلها في حينه.
... وكانت الحركة الوطنية تقتحم علي مكتبي حينا بعد حين، فقد كانت عندي هي القضية الكبرى الجديرة بالأولوية في جهدي ووقتي، إذ ما طعم الكسب والعمل والرزق إذا كان المرء مهددا في وطنه، وفي بقائه في وطنه.
... وكان أن تدفقت الهجرة اليهودية وتفاقم خطرها، فبعد أن كان المهاجرون اليهود في عام 1932 عشرة آلاف، إذا بهم يتضاعفون ثلاث مرات في عام 1933 فيصبحون ثلاثين ألفا ومعهم ثلاثون ألفا آخرون من الهجرة غير الشرعية، أو هكذا كانوا يسمونها، وهم الذين يدخلون البلاد خلسة.
... وعم القلق في النفوس وازداد السخط الشعبي على القيادة الفلسطينية، فتوالت اجتماعات الشباب في كل مكان ورأت اللجنة التنفيذية العربية أن تخرج من عزلتها وفتورها فدعت إلى مظاهرة كبرى تقام في بيت المقدس(1/244)
( 13 أيلول سنة 1933) وكأنما كانت الشرارة التي ألهبت المشاعر، فهبَّت الوفود من جميع أنحاء البلاد إلى بيت المقدس للاشتراك في المظاهرة، وقدمت وفود من الاردن وسوريا للإعراب عن تأييدها.
... وغادرت مكتبي، والموكلين والقضايا من غير سابق إنذار، إلى بيت المقدس مع وفود الشمال لنشترك في المظاهرة الوطنية، وكان لقاؤنا في ساحات الحرم الرحبة حيث تجمعت الوفود من كل أنحاء البلاد ومن كل أحزابها وفئاتها، وكان يوما جليلا تجسدت فيه الوحدة الوطنية فجمعت بين رجال الحزب العربي، وحزب الاستقلال والمعارضين، والمستقلين ...
... وبعد أن صلينا الجمعة، خرجت الجماهير متدفقة كالسيل العرم، يرئسها الشيخ الجليل موسى كاظم باشا الحسيني، تنساب إلى شوارع المدينة القديمة، ولم يشترك الحاج أمين الحسيني في المظاهرة وكان يطل عليها من شرفة مكتبه في دار المجلس الإسلامي الاعلى، وأحسب أن الحاج أمين كان إلى ذلك الوقت يمسك العصا من وسطها، يد مع الحكومة البريطانية ويد مع الشعب.
... وسارت المظاهرة في طريقها حتى بلغت الباب الجديد عند أطراف السور، فتصدى لنا رجال الشرطة بهراواتهم وانهالوا على الشعب يريدون تفريق المظاهرة فوقع عدد من الجرحى، وأصيب بعض أعضاء اللجنة إصابات بالغة، وكان يوما وطنيا مشهودا تجلى فيه إيمان الشعب بقضيته.
... وعدت إلى بلدي ومكتبي، أتثاقل في مشيتي في طريقي إلى المحكمة، لما أصابني من رضوض، وصيحات المتظاهرين ما تزال ترن في أذني.(1/245)
... ثم أعلنت اللجنة التنفيذية أنها قررت المظاهرة الثانية في يافا، في 13 تشرين أول سنة 1933 فغادرت مكتبي مرة ثانية مع الوفود، وبلغنا يافا فإذا بها وقد أصبحت وكأنها فلسطين الصغيرة، تجمع الناس فيها من كل أنحاء البلاد، وكانت جماهير الفلاحين بأثوابهم الفضفاضة تملأ الساحات والميادين، والحناجر تتشقق بالهتاف والنشيد.
... وخرجنا من صلاة الجمعة، سيلا متدفقا، والشيخ الجليل موسى كاظم باشا الحسيني يتقدم الصفوف، فكان مشهدا جليلا اكتملت فيه الوحدة الوطنية، وانصهرت فيه الخلافات الحزبية، حتى إذا بلغنا ساحة السراي انقض الخيالة على الشعب بهراواتهم وبنادقهم وأصيب الكثير من المتظاهرين ومنهم موسى كاظم باشا، وقد تهاوت شيخوخته الوقورة على الأرض تحت العصي والهراوات، وحوله ثلاثون بين قتيل وجريح.
... وعادت الوفود إلى بلادها، وكأنما مس الشعب كله تيار كهربائي،فجر كبرياءه وإباءه، فعمت المظاهرات أنحاء الوطن واشتد ساعد الحركة الوطنية، فأخذت السلطة البريطانية تشدد إجراءاتها التعسفية فتفرض الغرامات على المدن والقرى، وتزج الشباب في المعتقلات والسجون.
... وجاء دوري مع المحامين في الدفاع عن المعتقلين، وقضيناها أسابيع متعددة في دور المحاكم أمام القضاة البريطانيين نترافع في ظل قوانين الطوارئ، ليس فيها مكان للعدل والإنصاف.
... وفي واحدة من هذه القضايا" حشر" النائب العام عددا من الزعماء بتهمة القيام بنشاط غير مشروع بسبب مظاهرتي القدس ويافا، فحكم القاضي البريطاني على المتهمين بأن يقدموا كفالة لحسن السلوك، فقدموها جميعا إلاّ(1/246)
الشيخ عبد القادر المظفر فقد رفض بكل إباء وقضى في السجن ستة أشهر، وكانت نكسة وطنية جاءت دليلا جديدا أن نكبة شعبنا كانت في الانتداب ووعد بلفور، ثم في قيادته الوطنية.
... وترددت الحركة الوطنية حينا من الزمان وانهارت اللجنة التنفيذية للمؤتمر الوطني السابع، فقامت الأحزاب"، الحزب العربي ويرئسه جمال الحسيني، وحزب الاستقلال وعميده عوني عبد الهادي، وحزب الدفاع ويرأسه راغب النشاشيبي، وحزب الشباب ويرئسه يعقوب الغصين وحزب الإصلاح ويرئسه الدكتور حسين فخري الخالدي وحزب الكتلة الوطنية ويرأسه عبد اللطيف صلاح.
... ولم يكن بين هذه الأحزاب خلاف على المبادئ الوطنية، فقد كان ميثاق كل حزب هو ميثاق الحزب الاخر،وانما هي" الشهوة" في الزعامة والقيادة، ولم تكن لهذه الأحزاب قواعد شعبية عريضة، يقابل ذلك كله في الطرف الاخر، لدى اليهود، أحزاب ذات مبادئ وعقائد، ولها أنصار منظمون في طول البلاد وعرضها.
... وقد عرض رؤساء هذه الأحزاب علي وعلى غيري الانضمام اليها، فاعتذرت وشكرت لأني كنت أرى أن عهد الاستعمار والاحتلال لا تصلح له إلاّ الجبهة الوطنية الواحدة، ومضيت أسند كل فكرة وطنية من أي حزب جاءت، وإن كان نشاطي بصورة عامة كان إلى جانب الحزب العربي وحزب الاستقلال وحزب الشباب، فقد كانت هذه المجموعات أقرب إلى النشاط الوطني، ولم أكن أفهم للأحزاب سببا قوميا يبرر وجودها.(1/247)
... وقد مضت بضعة شهور والبلاد تترنح بين دعوات الأحزاب ومهاراتها حتى أقبل عام 1935 وانطلقت الثورة والجهاد، على يد عالم جليل ومجاهد كبير خط بدمه الزكي صفحة جديدة في تاريخ الكفاح، وذلك ما تزدان به مذكراتي في صفحاتها المقبلة.
... ذلكم هو الشهيد البطل الشيخ عز الدين القسام، برد الله مرقده ونور ضريحه.(1/248)
يوم مع القسام
... في اليوم الحادي والثلاثين من عام 1933 كسرت التقاليد العتيقة في المدينة العريقة.. في عصر ذلك اليوم وقفت عند المدخل الرئيسي في بيت آل السعدي في عكا، استقبل المدعوين من أنحاء البلاد كافة، أصافحهم وأحييهم، فيهنئونني ويتمنون لي السعادة والسرور، وكان ذلك اليوم عقد قراني على الآنسة نسيبة كريمة عبد الفتاح السعدي، رئيس بلدية عكا.
... وكان هذا المشهد مغايرا التقاليد، فقد جرت العادة أن لا يكون"الشباب" حاضرا حفلة" العقد"، ولا بد أن ينوب عنه والده أو أحد كبار العائلة، وكان حضوري ثورة على هذا التقليد القديم الذي تواضع عليه المجتمع العربي الإسلامي بعد عهود التخلف والانحلال.
... ثم جاءت وقت" العقد" بكل مقدماته، فجلست وسط الجمع على كرسي يقابلني خال" الفتاة" بصفته وكيلا عنها، وجلس الشيخ عبد الله الجزار كبير علماء المدينة، يتلو الصيغة الشرعية في الإيجاب والقبول لعقد النكاح، وأنا أردّد وراءه عباراته مقطعا مقطعا.. وكان ذلك ثورة "وقحة" على التقاليد، فإن "الشاب" لا يعقد النكاح لنفسه وإنما يعقده وليه أو وكيله، وانصرف الجمع وفيهم الأعيان والمحامون والأطباء والتجار وعامة الناس، والكل مستهجن ومستغرب ... ولكنها مرت وعبرت وأصبحت تقليدا حميدا يطغى على التقاليد البالية.(1/249)
... وكنت قد عانيت لمناسبة خطوبتي شيئا غير قليل من العناء. فقد كانت "الفتاة" نسيبة السعدي محجبة، ولم يكن من سبيل إلى رؤيتها، وعبثا حاولت أن أقنع أهلها بأن الشرع يبيح للخاطب أن يرى مخطوبته، فقد كانت التقاليد فوق أحكام الدين الحنيف.
... وكان والدها، ولم يكن على قيد الحياة إذ ذاك، محافظا شديد المحافظة، وكان خصما لدودا لوالدي أثناء العهد العثماني، تعاقبا على عضوية مجلس المبعوثان "البرلمان" وكان من حزب الائتلاف العثماني على حين كان والدي من حزب الإتحاد والترقي، وشاءت الأقدار أن تنقلب الخصومة إلى مصاهرة- ومع الزمان تزول العداوات وتلتئم الجراحات.
... وأستعنت بشقيقاتي لأرى "آنستي" ورحنا نقلب الأمور ونتحين الفرص، إلى أن جاء يوم وجاءت معه سيدات آل السعدي في زيارة لبيتنا وكانت "الآنسة" معهن، فوجدت ضالتي، فوقفت وراء باب الصالة ورحت أنظر من فرجته، أتفرسّ في خطيبتي وأتبين ملامحها، ثم خرجت: الصبايا إلى حديقة البيت يمشين بين الزهور والأشجار، فكانت فرصتي الثانية لأرى خطيبتي وهي تمشي وتتكلم وتتضاحك مع صديقاتها. ولكني لم أكتف بذلك كله فقد كانت النظرات مختلة. وكنت أخشى أن يكتشفني أحد وأنا أقوم بهذه المغامرة الجريئة. فطلبت إلى شقيقاتي أن يسعين في تدبير آخر، وليكن في دار السينما مثلا.. حيث أستطيع أن ألقي النظرة الهادئة المليئة.
... وتمت الخطة محكمة في ترتيب دقيق، فقد ذهبت شقيقاتي مع "آنستي" إلى دار السينما في حيفا في سيارة خاصة. وذهبت في سيارة اخرى، وجلست(1/250)
في القاعة على مقربة قريبة من جلوس شقيقاتي، هن في شرفة وأنا في الشرفة المجاورة.
... وحينما أُطفئت الأنوار كشفت السيدات والأوانس عن وجوههن وأخذن يتفرجن على مشاهد الفيلم، و أخذت بدوري أتفرج على "آنستي" لا أرفع عنها بصري إلاّ حين ينتهي الفصل الأول من الفيلم، ثم أضيئت الأنوار وعادت السيدات والأوانس إلى الحجاب، وحولت بصري، وعدت أتفرسّ وجهها إياها بكل روية وأناة.
... ثم أكملت "المغامرة" في الفصل الثاني والثالث. وعدنا إلى البيت، وقد امتلأت نفسي رضاء عن الآنسة وقلت لشقيقاتي "على بركة الله" فلتكن الخطوبة.
... وما أن تمت الخطوبة حتى أصبحت أتردد على بيت آل السعدي، فالتقي بخطيبتي، بحضور والدتها وباقي أفراد الأسرة، و إذا بالمدينة تضج بالقيل والقال، وتجأر بالاحتجاج والاستنكار، والكل يتساءلون كيف يجوز لي أن التقي" بخطيبتي" قبل"العقد" حتى ولو على مشهد من أهلها- اللهم ان هذه بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
... ولكن هذه البدعة مرت وعبرت، وأصبحت مع الأيام بدعة حميدة لا ضلالة في النار ... وجاء يوم الزواج فكان ثورة أخرى على التقاليد البالية، فقد رفضت كل تقاليد "العرس" من "الزفة" إلى الأناشيد إلى المغنين والمغنيات، وجعلت الأمر في غاية البساطة، بلا وليمة ولا صخب ولا ضجيج، ولا زغاريد، ولا طبل ولا زمر.(1/251)
... وفي مطلع نيسان من عام 1934 انطلقت سيارة صغيرة من عكا إلى حيث نقضي شهر العسل، وكانت زوجتي إلى جانبي من غير حجاب، وقد رضيت ذلك شريطة أن تعود إلى الحجاب حين نعود إلى عكا وكان لها ما أرادت. ولازمها حجابها إلى أن وقعت النكبة في عام 1948 وسقطت فلسطين وسقط الحجاب.
... ومضت بنا السيارة إلى منطقة طبريا وكان ذلك أول سفري في تلك الناحية، فعبرنا قرانا الجميلة في شرق عكا بين المروج، والسنابل ما تزال خضراء، ثم أخذت السيارة تصعد بنا في جبال صفد وهي تبعث نسماتها العطرة من خلال أشجارها وأزاهيرها البرية، وما أن أشرفنا على المدينة حتى راحت السيارة تهبط بنا بين التعرجات والوديان إلى روابي طبريا، إلى ما تحت سطح البحر، حتى بلغنا الفندق الألماني على شاطئ البحيرة، بعيدا عن المدينة سبعة كيلو مترات أو يزيد.
... وكنت خلال هاتين الساعتين مبهوتا أمام هذا الجمال الرائع الذي خلقه الله على هذه البقعة الفاتنة من وطننا الفاتن، وأحسب أن زوجتي قد ضجرت في ذلك اليوم وأنا أقول لها من حين إلى حين: انظري إلى هذه الرابية الجميلة، انظري إلى هذا الوادي الرائع، وهذه الأشجار البرية ما أروعها، وهذه الأزهار ما أحلى شذاها.
... وفي الفندق الألماني الذي قضينا فيه أيامنا، كانت البحيرة حديثنا ونجوانا، في سكونها وسحرها، ومن حولنا الروابي الخضراء، والصفراء، والسمراء، والسماء من فوقها بزرقتها الصافية ترسل إلينا شعاعا من الدفء، وإلى الأرض فيضا من الخير والسخاء.(1/252)
... وقضيت أياما حلوة في تلك البقاع الأخاذة، نسير على روابيها وقد جثمت فوق السهول الخضراء، وبين غدرانها الوادعة تصب في البحيرة الآمنة المطمئنة، والرهبان منتشرون في كل مكان يقرأون الإنجيل هنا وهناك ... حيث عاش السيد المسيح و تلاميذه ... والفلاحون يفلحون ويزرعون ويحصدون في الوهاد نفسها. والأنجاد ذاتها التي حصد فيها صلاح الدين جحافل الصليبيين في معركة حطين..
... وعدنا إلى مدينتنا عكا، والغبطة تملأ قلوبنا، ويتساءل الناس لم لم نقضِ شهر العسل في أوروبا حيث يذهب أبناء" الذوات" ولم أستطع أن أقدم جوابا يرضي فضول الناس.
... ولقد أتاحت لي أسفاري الكثيرة، أن أرى أجمل ما في هذه الدنيا من مشاهد رائعة، في سويسرا بجمالها، وفي فرنسا بمفاتنها، وفي إيطاليا بمغانيها وفي ألمانيا بغاباتها، وفي أمريكا بعظمتها وفخامتها، وفي اليابان والهند والباكستان بكل بدائعها، وفي أميركا اللاتينية بجزائرها الخلابة، ولكني ...
... ولكنني كنت دائما أقيس وأفاضل وأشبه، فأرى أن بقاع "الجليل" من شواطئ عكا إلى جبال صفد إلى وهاد طبريا إلى روابي الناصرة، أجمل ما في الوجود، وأبدع ما في هذا الوجود، ومن هنا صنع السيد المسيح أعجز معجزاته، وأرفع عظاته.
... أقول هذا لا لأنها وطني، وموطن شبابي وذكرياتي وأحلامي، بل لأنها حقا وطن الجمال، ولأنها حقا موطن الجلال، ويا ضيعة الجمال والجلال وقد أضحى هذا الوطن تحت الاحتلال.(1/253)
... وقضيت العام- 1934- في عمل متواصل، أربط الليل بالنهار، سعيا وراء الكسب والرزق، فقد أصبحت زوجا أترقب البنين،وابتعدت عن النشاط الوطني العام، وأنا أجد "الفتوى" في ذلك، أن الوطن في حاجة إلى المواطن القادر الصالح.
... وفي الأيام الأخيرة من شهر مارس، وكنت غارقا في مكتبي إلى الأذنين، إذا بجرس التلفون وكأنه في رنين حزين... فقد نعى الناعي وفاة رئيس اللجنة التنفيذية، موسى كاظم باشا الحسيني.
... فسارعت صبيحة اليوم التالي إلى بيت المقدس، حيث الحشود والوفود تجمعت في ساحة الحرم الشريف، وكان يوما مشهودا في تاريخ فلسطين، فصلينا على الفقيد، وحمل الشباب نعشه عاليا على الأكف وانطوت الصفحة الأخيرة في حياة زعيم البلاد، وقد وهب وطنه كل قدراته في إخلاص وتجرد وتقوى.
... لقد قاد موسى كاظم الحسيني الحركة الوطنية بضعة عشر عاما بفكره المحدود وثقافته الضيقة، ولكن ما حيلته فقد كان هكذا ... ولا يستطيع أن يكون غير ما كان ... واستلم الحاج أمين قيادة الحركة الوطنية بضعة عشر عاما أخرى وقعت خلالها النكبة الكبرى، وبين الرجلين فروق كثيرة سيرد ذكرها، ومنها أن موسى كاظم بكاه الناس كثيرا، والحاج أمين أبكى كثيرا من الناس ... وسيرد ذكر ذلك فيما بعد.
... وأودعنا الفقيد مرقده الأخير، وعدت إلى عكا في اليوم ذاته لاستقبل مولودا، وتلك سنة الحياة، وداع ولقاء.(1/254)
... ودخلت المنزل وصعدت السلالم درجتين درجتين، فقد كانت معالم البيت ومظاهره تنبئ أن الله قد رزقني أولى أولادي، ولم أكن في حاجة أن أسأل أحداً عن المولود، ذكراً كان أم انثى، فقد كانت حماتي، وهي تركية الاصل، مطرقة على كرسيها وخدها على يدها، فأدركت أنها أنثى، فأقبلت على زوجتي أهنئها بالسلامة وعلى ابنتي أضمها ملء حبي وحناني، وظلت حماتي أياما ساهمة واجمة، وأنا أواسيها وأسرِّي عنها ... حتى رضيت بقضاء الله وقدره.
... واستشعرت منذ ذلك اليوم أنني أصبحت رب أسرة، تطالبني مسؤولياتي أن أعطي مزيدا من وقتي لعملي ومكتبي، وقضيت بضعة شهور غارقا بين المراجع القانونية وملفات القضايا ومناقشة الشهود ومحاورة أرباب القضايا في الأجور، ما تقدم منها وما تأخر، وكان لي من ذلك مورد كبير ... وحسبت أن الحياة ستجري على هذه الوتيرة، حياة عائلية ناعمة، ومهنة ظريفة تدر خيرا كثيرا، و إذا بالأحداث العامة تخرجني من دنياي الصغيرة بين بيتي ومكتبي، إلى دنيا الوطن بكل حوافزه المثيرة المريرة.
... لقد جاء يوم 20 تشرين ثاني من عام 1935 يحمل إلينا نبأ خطيرا اهتزت له البلاد من أقصاها إلى اقصاها: لقد استشهد الشيخ عز الدين القسام.
... وكان النبأ مفاجأة لكثيرين من الناس، حتى لقادة الحركة الوطنية في القمة، وكل ما عرف في ذلك اليوم أن الشيخ القسام سقط شهيدا مع بعض رفاقه في أحراش يعبد من قضاء جنين في اصطدام مسلح مع القوات البريطانية، فقتل من قتل، وجرح من جرح..(1/255)
... وفي بضع ساعات انتشر الخبر في مثل وميض البرق في جميع المدن والقرى، وتقاطرت الوفود إلى حيفا حيث شيعت جنازته (1) في احتفال مهيب بلغت فيه المشاعر الوطنية ذروتها، وكنا غداة خروجنا من جامع الاستقلال يسأل بعضنا بعضا عما يعلم، وما أوتينا من العلم إلاّ قليلا، وارينا جثمانه الطاهر في تراب الوطن الطاهر في مقبرة حيفا (2) ، مضى قرير العين تملأ وجهه بسمات الشهادة، وأحسب أنه عبس يوم سقوط حيفا عام 1948 ولا يزال عابسا إلى يومنا هذا.
لقد كان هذا الحدث الخطير، غريبا على كثير من الناس، غير مألوف في مسيرة الحركة الوطنية إلى ذلك الوقت. فقد كان النضال القومي إضرابات ومظاهرات تقع خلالها مصادمات يذهب ضحيتها كثير من القتلى والجرحى، ولكن..
... ولكن أن يخرج نفر من المواطنين بالسلاح ليصطدموا بالقوات البريطانية على غير تكافؤ ولا استعداد كبير، فذلك ما لم يكن قد بلغه الكفاح الوطني، إلى ذلك اليوم، ولم يخطر على بال.
... وقد كنت على معرفة وطيدة بالشيخ عز الدين القسام، عرفته تقيا ورعا، خطيبا دينيا صالحا، واجتمعت به كثيرا في مؤتمرات جمعيات الشبان المسلمين في حيفا وغيرها، ولم يكن يدور في خلدي أو في خلد غيري حتى من أصدقائه المقربين، أن هذا الشيخ المعمم، امام الجامع، كان يهيئ نفسه
__________
(1) * وجنازات إخوانه (المحرر).
(2) * مقبرة حيفا: مقبرة بلد الشيخ وتبعد سبعة كيلو مترات عن حيفا .انظر عبد القادر قاسم ، الشيخ المجاهد عز الدين القسام، دار الأمة للنشر، بيروت 1984،ص 72.(1/256)
لقيادة ثورة مسحلة ضد السلطات البريطانية مباشرة.. وبات الأمر محفوفا بالأسرار، لها ما قبلها وما بعدها..
... وتكشفت الحقائق فيما بعد، وتكشفت لي أكثر من غيري، فقد تطوعت للدفاع عن بقية أفراد هذه العصبة المؤمنة الباسلة، طليعة الجهاد المقدس في سبيل الله والوطن.
... وراحت "مذكراتي" تروي للأجيال العربية، وللتاريخ العربي، صفحة من أروع صفحات الجهاد وآية من أجل آيات الاستشهاد.
... وسأدع المجاهدين الجرحى يتحدثون عن المجاهد الشهيد.. والوطن الشهيد.(1/257)
المجاهدون الجرحى..
يتحدثون عن المجاهد الشهيد
... كنت أقود سيارتي وسط السهول المترامية الاطراف في مرج ابن عامر.. وأنا مشدوه مذهول، أحرِّك مقود السيارة بين يدي في طريقي إلى جنين.
... كان ذلك في شهر كانون أول سنة 1935، وكان إلى جانبي معين الماضي أحد المحامين الوطنيين المعروفين في حيفا.
... لقد تطوعنا للدفاع عن" الشهداء" الاحياء من رفاق الشيخ عز الدين القسام، وكنا في حيرة من أمرنا ما عسانا أن نقول من ناحية "قانونية" في هؤلاء الذين قبض عليهم متلبسين" بالجريمة" في وسط المعركة، وهم بكامل أسلحتهم وعتادهم، من كان منهم جريجا ومن كان سليما.
... ووسط هذا الطريق الطويل الرتيب كسر صاحبي معين الماضي مسيرة الصمت وقال: مالي أراك صامتا؟
... قلت: ومالي أراك صامتا كذلك؟
قال: أفكر في أمر هؤلاء الموكلين وما عسى أن نقول في شأنهم.
... قلت: ذلك ما أفكر فيه منذ أن تطوعت في هذه القضية.
... تبادلنا هذه الاسئلة ولم نتبادل عنها جوابا، وزاد من حزننا أن هذه القضية الوطنية الكبرى قد لقيت من الشعب كل مظاهر الاهتمام، على حين(1/258)
كان حظها من "القيادة" الوطنية الحذر والصمت، فلقد كانت "حركة" القسام أول مواجهة مسلحة جريئة لسلطة الانتداب البريطاني، والقيادة" الوطنية لم تكن لتخلو من الروابط والصلات والمصالح بالسلطة البريطانية، فكيف تكون مجاهرتها بالعداء والسلاح؟
... والشعب ... . الشعب كان مع حركة القسام ويود لو كان يستطيع أن يفتديه بروحه، فهذه الثورة تعبر عن مشاعره الوطنية، في الصميم، ولكن الشعب، من غير قيادة ثائرة مثيرة، شأن كل شعب، سرعان ما تهدأ عاطفته مهما تكن جارفة، وسرعان ما يعود إلى حياته اليومية.
... وكان ذلك ما رأيته، فقد دخلنا جنين، فرأينا البلدة هادئة ساكنة، الناس يبيعون ويشترون، ويروحون ويجيئون، كأنما ذلك اليوم لا تجري فيه محاكمة الأبطال الذين افتتحوا مرحلة الكفاح المسلح،" وقصوا" الشريط الأحمر بدمائهم الزكية.
... ودخلنا السراي وتهيأت لنا فرصة طويلة خلونا خلالها إلى المتهمين ... . وكان اللقاء العظيم ... مع: معروف الحاج جابر من يعبد، ونمر السعدي من غابة شفا عمرو، واسعد المفلح من أم الفحم، وحسن الباير من برقين، وأحمد عبد الرحمن جابر من عنبتا، و عربي البدوي من قبلان، ومحمد يوسف من سبسطية،وهذه بعض قرى فلسطين.
... وبدأنا الحوار معهم، معين الماضي وأنا، لنحدد معالم خطة الدفاع، و إذا بنا نرى العجب العجاب ... كان "المتهمون" في حالة نفسية هادئة، لا يشوبهم القلق والجزع، وكانت سكينة الإيمان والتقوى ترتسم على وجوههم(1/259)
وتتحكم في سلوكهم وتصرفهم، ولم يكن فيهم ما ينبئ أنهم خرجوا من المعركة بالأمس، ولا حرج عليهم أن يعودوا إليها غدا.
... لقد كانوا أشخاصا عاديين، من الكادحين، من عامة الشعب، ليست لهم ثقافة عامة، ولا محدودة ولا غير محدودة، إلاّ ما تفقهوه من الدين على يد الشيخ عز الدين القسام.
... كانوا جميعا مقيمين في حيفا، وكانت حيفا المدينة التجارية الأولى ومرفأ فلسطين الكبير، وفيها يتجمع الكادحون والعمال من كل أرجاء البلاد، وكان هؤلاء "المجاهدون الأبطال" من الكادحين الفقراء "خبزنا كفافنا أعطنا اليوم"، أحدهم حمال، والثاني بقال متجول، والثالث صاحب دكان أو بعض دكان، والرابع عامل يومي، وهكذا دواليك ...
... ولم تكن بنا حاجة لأن نستدرجهم إلى الكلام، فقد تحدثوا بطلاقة وسهولة، كما يتحدث الفلاح في المضافة، والعامل مع رفاقه، والحجار مع البنائين.
... لم تجر على ألسنتهم تعابير "الكفاح المسلح"" والحركة الوطنية"" والاستعمار والصهيونية"، فقد كانت تعابيرهم على بساطتها تنبع من ينبوع أروع وأرفع الإيمان، والجهاد في سبيل الله.
... لقد كانوا قوما مؤمنين، صنعهم الإيمان، فصفت نفوسهم وتألقت إرادتهم، وتعاظمت عزائمهم، وأحسوا أن حبلهم مع الله قد أصبح موصولا، وأن الباب بينهم وبينه قد بات مفتوحا.(1/260)
... وفي بساطة وإيجاز روى لنا المتهمون أنهم كانوا يصلون الفجر مع الشيخ عز الدين القسام، ثم يجلسون حوله في حلقة صغيرة، ويتحدث الشيخ عن فضائل الجهاد في الإسلام وثواب الاستشهاد في الآخرة.
... ثم يروون كيف توثقت عرى المحبة بينهم، المحبة في الله، وكيف توطدت بينهم معاني الأخوة، أُخوُة بالله ... والجهاد في سبيل الله.
... ومضت الأيام والليالي، فيما روى لنا هؤلاء المؤمنون، والشيخ عز الدين القسام يصطفي إخوانه، ويلتقي بهم في بيته بعد صلاة العشاء أو في الجامع بعد صلاة العصر، ولا يدري أحد ما تصنع هذه العصبة المؤمنة، وكل الذي يعرفه الناس من حولهم أن الشيخ القسام امام الجامع، يصلي بالمسلمين ويجتمع إليهم ويجتمعون إليه.
... وراح الشيخ في اجتماعاته وحلقاته يشرح لأتباعه ومريديه الخطر الذي يهدد وطن الإسلام، حيث أولى القبلتين وثالث الحرمين وموطن الإسراء والمعراج ويبين كيد الإنجليز- أعداء الإسلام. وأن هذا الخطر قد استفحل ولم يعد يدفع إلاّ بالجهاد، وأن الجهاد فريضة الله على عباده.
... ولم يكن الجهاد عند الشيخ دعوة فكرية حماسية، بل كان السلاح والمعركة، وكان هو قد حمل السلاح وخاض المعركة ضد الافرنسيين في شمال سوريا ونزح بعدها لاجئا إلى فلسطين، ينتظر الدور في تحرير فلسطين.
... وبلغ أتباع الشيخ خمسين رجلا كلهم من عامة الناس، آنس فيهم الإيمان والعزيمة، وقام بتدريبهم على حمل السلاح، وجمع لهم بعض المال(1/261)
باسم الإحسان والخير- كل ذلك في كتمان كامل، حتى عن "الزعماء" الكبار والصغار ... وكان عددهم في البلاد كبيرا.
... وتواعدوا وتعاهدوا على الخروج في سبيل الله، وكان لقاؤهم في أحراش يعبد، والشيخ على رأسهم مدجج بسلاحه، يتصل بالقرويين يحثهم على الجهاد.
... وكان أن وصل خبرهم إلى السلطة البريطانية فجندت قوة عسكرية ضخمة أخذت تجوس خلال الأحراش وتتنسم أخبار هذه العصبة المؤمنة لتقضي عليها قبل أن يستفحل أمرها وخطرها.
... وفي صبيحة يوم الأربعاء طوقت القوات البريطانية الشيخ عز الدين القسام ورفاقه، ونشبت المعركة شديدة وقاسية، قبل أوانها ومن غير تكافؤ، فسقط الشيخ عز الدين شهيدا وسقط معه رفيقاه يوسف الزيباوي من قرية الزيب وحنيفة المصري من غابة شفا عمرو، وقبض على الباقين بين جريح وأسير.
... ولقد استمعنا إلى هذه القصة البطولية، يرويها لنا "المتهمون" وهم في سجن التوقيف في جنين، ونحن على وشك الدخول إلى المحكمة للشروع في التحقيق القضائي..
... وقلت" للمتهمين" وماذا كانت إفاداتكم في تحقيقات البوليس؟
... قالوا: بعد أن قبض علينا الإنجليز سلمونا للبوليس، فحكينا لهم الحكاية..
قلت: ما هي الحكاية؟ هل حكيتم كل الحكاية؟
... قالوا: نعم حكينا كل الحكاية، أخذوا إفاداتنا ووقعنا علينا ببصماتنا.(1/262)
... قلت: هل اعترفتم أنكم حملتم السلاح واشتبكتم مع الإنجليز ... وبالسلاح.
... قالوا: نعم .. حكينا كل ما جرى من الألف إلى الياء.
... قلت: وبماذا سندافع عنكم في المحكمة، هل ضربكم البوليس ... هل قام بتعذيبكم، هل أخذ إفاداتكم بالوعد والوعيد؟
... قالوا: أبداً . لم يفعل بنا البوليس شيئا ونحن أعطينا إفادتنا برضائنا..
... قلت: وماذا سنفعل في المحكمة، ماذا تريدوننا أن نقول؟
... قالوا: نحن سنحكي للمحكمة ما جرى معنا ونحن مجاهدون في سبيل الله" ولن يصينا إلاّ ما كتب الله لنا".
... وسكت أنا وزميلي معين الماضي وأنا أقول "صدق الله العظيم".
... ودخلنا قاعة المحكمة، وجيء بالمتهمين إلي قفص الاتهام، ودخل القاضي البريطاني الأصلع "هبرد" بكل وقار واتزان، وجلس على الطرف الآخر من المنصة منير أبو فاضل ممثلا للنائب العام. وملت إلى منير أبو فاضل وطلبت إليه أن يطلعنا على ملف التحقيق، فقال: لا تتعب نفسك في ملف التحقيق، لقد اعترف المتهمون بكل شيء.
... وشرع القاضي البريطاني في التحقيق ، فتعاقب الشهود واحداً بعد واحد يصفون تفاصيل المعركة من أولها لآخرها ثم تعاقب الضباط المحققون "وأبرزوا" إفادات المتهمين واحدا واحدا، دونوها بلغتهم الفلاحية الركيكة، وفيها اعترافات كاملة شاملة، لا تدع حاجة للنيابة أن تترافع، ولا للدفاع أن يدافع.(1/263)
... وكان القاضي "هبرد" يتولى التحقيق في القضية، وهو يتفرس بإعجاب وتقدير في وجوه هؤلاء الأبطال من عامة شعبنا البطل، وأحال القضية إلى محكمة الجنايات الكبرى ... وفي قراره، في السطور وبين السطور لمحات من التكريم والإكبار ...
... وكان ممثل النائب العام منير أبو فاضل، أمينا مستقيما ووطنيا، في عرضه للقضية وتقديم البيانات.
... أما نحن محامي الدفاع، معين الماضي وأنا، فقد كفانا الموكلون الأبطال مؤونة الدفاع، فليس بعد الإقرار الصريح والاعتراف الكامل مجال.. أي مجال.
... وانعقدت محكمة الجنايات الكبرى فيما بعد، وانضم إلينا عدد من المحامين المتطوعين، وكانت وقائع القضية تبرر الحكم بالإعدام من ناحية قانونية، ولكن الأحكام صدرت لتتراوح بين خمسة عشر وسبعة أعوام بالأشغال الشاقة، ولم يكن الفصل في هذه الأحكام "الخفيفة" لمرافعاتنا بقدر ما كان لرغبة السلطات البريطانية في أن تتجنب مزيدا من الإثارة في تلك الأيام الثائرة.
... ولقد وقفت طويلا بعض الشيء عند قضية الشيخ عز الدين القسام وصحابته الماجدة، لأبرز للأجيال الحاضرة والمقبلة، المعاني الرفيعة التي تجسدت فيها، وكان في طليعتها:
... أولاً: أن الاسلام دين جهاد، يستهين معه المؤمن بحياته في سبيل الله والوطن، وهؤلاء عصبة القسام لا أمل لهم في جاه، ولا مطمع في منصب، بذلوا حياتهم في معركة الجهاد تاركين نساءهم وما عندهم إلاّ قوت يومهم.(1/264)
... ثانيا: أن الإيمان المطلق بأن المؤمن لن يصيبه إلاّ ما كتب الله له، وأن الحياة أجل لا يتقدم ولا يتأخر، كل ذلك قد جعل من هؤلاء البسطاء أبطالا ميامين نزل ذكرهم في التاريخ.
ثالثا: أن مصير الإسلام والعروبة واحد، مترابط متشابك، وهذا الشيخ القسام استشهد على أرض فلسطين ومن أجل فلسطين بعد أن فاته القدر في سوريا "وما تدري نفس بأي أرض تموت".
... رابعا: أن الجهاد في سبيل الله والوطن هو أعلى مراتب الحياة، وهذا القسام، الإمام العالم، لم يقتصر على الخطابة والتدريس تحت قبة المسجد ولكنه حمل السلاح على كتفيه، وحزام الذخيرة بين جنبيه، تماما كما فعل العلماء والزهاد في ضاحية دمشق يوم قاتلوا الصليبين ثم التتار..
... من أجل ذلك كان شاعر العربية، الشيخ فؤاد الخطيب على حق كل الحق حين رثاه بقصيدته الرائعة:-
أولت عمامتك العمائم كلها شرفا تقصر عنده التيجان
ان الزعامة والطريق مخوفة غير الزعامة و الطريق أمان
يا رهط عز الدين حسبك نعمة في الخلد لا عنت ولا أحزان
شهداء بدر والبقيع تهللت فرحا وهش مرحبا رضوان
... وما أن انتهت قضية القسام وعصابته الباسلة حتى بدأ الحوار بين "المفكرين" وأهل "الكلام"..ماذا فعل القسام؟ وماذا أفاد الوطن؟ ألم يذهب ضحية رخيصة رحمه الله؟ ألم يغرر بأولئك البسطاء السذج من غير خطة مدروسة ليتحدوا السلطة البريطانية في معركة غير متكافئة؟(1/265)
... ولم يكن الشعب، سواد الشعب، يخوض مع الخائضين في هذا المجال العقيم" المسكين"، ذلك أن الشعب يمجد البطولة في جميع الظروف والأحوال، ولكنه جدل المجادلين الذين لا يؤمنون بالكفاح حتى ولو جعلت السماء في قبضة أيديهم، ونحمد الله أن هؤلاء كانوا قلة في شعبنا على الدوام.
... وكنت أروي لهؤلاء المجادلين قصة رفاق القسام، وكيف واجهوا القضاء بشجاعة منقطعة النظير، وكنت كذلك أحكي لهؤلاء كيف أن الحركات التحريرية تبدأ كما بدأها القسام.. ورفاق القسام.
... ولكن هذا الحوار قد انتهى، ودخل القسام وصحبه إلى رحاب التاريخ، وقد تفتحت الأبواب على مصاريعها، ولقد سقط القسام شهيدا ولكن راية الكفاح لم تسقط.
... فقد استلم الشعب، شعب فلسطين راية الجهاد من الشيخ عز الدين القسام، وكانت الثورة الكبرى التي بدأت عام 1936، وما هدأت إلاّ يوم وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، ولم يكن من سبيل أمامها إلاّ أن تبدأ يوم ذاك.
... ولقد كانت أكبر ثورات الأمة العربية حقا، إذا قيست الأشياء بالأشياء، والظروف بالظروف.
... ذلك ما صنعه القسام وصحب القسام في تاريخ الكفاح، ولو أن قادة العرب قد استلهموا روح القسام في عام 1948 لما وقعت الكارثة الأولى.
... أجل ! لو أن قادة العرب قد استلهموا روح القسام في عام 1967 لما وقعت الكارثة الثانية.
... وسيعلم الذين هزموا أي منقلب ينقلبون.(1/266)
شعب يقود زعماءه
... في أواسط الثلاثينات- 1934، 1935- كان شعبنا يتحفز للثورة على الحكم البريطاني، وكانت أسباب الثورة تطالعنا صباح مساء. حتى تفجرت في عام 1936 وامتدت إلى أن نشبت الحرب العالمية الثانية في خريف 1939، ودخلت ثورتنا في فصل "الخريف".
... وكانت ثورة شعبية، قادها الشعب بادئ ذي بدء، وقاد معه" القيادة الوطنية"، وهكذا كانت مسيرتنا النضالية خلال ثلاثين عاما، يتحرك الشعب، وتتحرك" القيادة" من ورائه.
... وكان الباعث على الثورة هو الخوف المخيف.. فقد بتنا في تلك الأيام نخاف على مصيرنا كأمة، ونخشى على وجودنا كشعب، وكنا نحن الشباب وطلائع المثقفين تضطرم في نفوسنا النزعة القومية لبلوغ الحرية والاستقلال في وطننا، والأوطان العربية من حولنا تشق طريقها إلى السيادة القومية بكل خطى ثابتة، وكان لنا أن نتساءل: ألسنا نحن من طينة الأمة العربية وجبلتها، فلماذا تتاح لهم فرص الحكم الوطني ونحرم حتى من الحكم الذاتي ... ؟
... غير أن الخوف المخيف على المصير والوجود قد حجب مطلب السيادة والاستقلال، واندفعنا بطاقاتنا الوطنية نكافح في تلك المرحلة لدفع ذلك الخوف المخيف أولاً وقبل كل شيء، ومن هنا كان شعار ثورتنا في ذلك(1/267)
العهد" أن تعمل بريطانيا على تبديل سياستها تبديلا أساسيا تظهر بوادره في وقف الهجرة اليهودية وقفا باتا".
... وتوالت اجتماعاتنا نحن الشباب المستقل في معظم مدن فلسطين، وكنت دائم التنقل في تلك الفترة، ثم أن عملي في المحاماة كان يقتضيني السفر من بلد إلى بلد، وخاصة في الشمال، وكنت كلما فرغت من المحكمة غادرتها إلى النوادي والجمعيات لنبحث ونتشاور في أمرنا ومصيرنا، ونبصر شعبنا بالخطر الذي بات يحيق بنا.
... وكان الخطر في الواقع يمد مخالبه إلينا يوما بعد يوم، وبرزت الهجرة كأكبر مصدر لهذا الخطر، ففي عام 1935 بلغ عدد المهاجرين اليهود ستين ألفا، وهذا رقم مخيف على بلد صغير كفلسطين، فقير الموارد الطبيعية، ولا تتجاوز مساحته عشرة الآف ميل مربع.
... وقد رأينا في هذا العدد الضخم من المهاجرين اليهود، غزوة يهودية تهددنا بالجلاء، خاصة أن معظمهم من القادرين على حمل السلاح.
... وقمنا نحن الشباب بحملات توعية في طول البلد وعرضها، نندد بالسياسة البريطانية وما تهدف إليه من إغراق البلاد بالهجرة اليهودية،واقترحت يومئذ على إخواني، بديلا عن المنشورات الطويلة التي كنا نوزعها على الشعب، أن نضع بين يديه بيانات صغيرة تقتصر على الأرقام على الوجه الآتي:-
30 ألفا في عام 1933 ...
42 ألفا في عام 1934
61 ألفا في عام 1935(1/268)
355 ألفا مجموع عدد اليهود في فلسطين حتى عام 1935.
... وقد وزعت هذه البيانات بأوراقها الصغيرة بالألوف على المدن والقرى، وأحسب أنها كانت من أهم البواعث للثورة، وخاصة أن هذه الأرقام مأخوذة عن المصادر الرسمية، ولا تتضمن ما كان يسمى بالهجرة اليهودية غير المشروعة، وكانت بالآلاف أيضا..
... والواقع أن شعبنا يملك فطرة سليمة وإحساسا مرهفا، وقد أظهر دائما وعيا وطنيا أصيلا، وكان دائما متابعا للأحداث العامة يواصل مراقبته للوطن القومي اليهودي ينمو عاما بعد عام.
... ففي عام 1922 جرى أول إحصاء رسمي في فلسطين، وإني لأذكر أن المدارس قد تعطلت، وبقينا في بيوتنا الليل والنهار تسهيلا لإجراء عملية الإحصاء، وأُعلنت الأرقام بعد ذلك لتقول لنا أن عدد اليهود 83 ألفا.
... وجاءت عملية الإحصاء مرة ثانية في عام 1931، ولزمنا بيوتنا الليل والنهار، وأَعلنت الأرقام الرسمية بعد ذلك أن عدد اليهود 174 ألفا.
... وها نحن الآن في عام 1935 لنعلم أن عدد اليهود قد بلغ 355 ألفا، أصبحنا ونحن نتأمل تصاعد هذه الأرقام نتوقع لا أن نلتزم بيوتنا في الإحصاء المقبل بل أن نخرج من بيوتنا ونجلو عن وطننا.
... تلك كانت الصورة الرهيبة التي صارت تطالعنا، وجعلتنا نقف وجها لوجه أمام الخوف المخيف.
... وقد زادنا رهبة ما كنا نعلمه من أن اليهود قد أصبحت لهم "قواتهم المسلحة"، وخاصة في المستعمرات اليهودية حيث لا تمارس السلطة البريطانية أي سلطة، بل أي وجود.(1/269)
... وأصبحت هذه الرهبة حقيقة واقعة يوم اكتشفت الصدفة العجيبة، شحنة ضخمة من الأسلحة والذخائر مغلفة في صناديق الأسمنت، مستوردة من بلجيكا ... وتلا ذلك ما اكتشف من كميات كبيرة من الأسلحة المكدسة في جوف الأرض، في المستعمرات اليهودية..
... فهب الشعب، في حماسة وغضب، وأعلن الإضراب ليوم كامل احتجاجا على الهجرة اليهودية، والأسلحة اليهودية،وكان إضرابا عفويا تداعى له الشباب، بالتلفون من بلد إلى بلد، وقيادتنا الوطنية في بيت المقدس لا تدري من أمره شيئاً.
... وأدركت الحكومة البريطانية أن البلاد مقبلة على أحداث خطيرة تقتضي شيئا من التهدئة، فأعلنت وزارة المستعمرات في شهر كانون ثاني سنة 1936 أنها تدرس بصورة جدية إحداث تغييرات دستورية واتخاذ تدابير معينة بالنسبة إلى الهجرة اليهودية وبيع الأراضي.
... وما أن أخذت موجة من السكينة" تغزو" خواطرنا، حتى اقبل شهرا شباط وآذار من ذلك العام، يحيلانها إلى موجة من الغضب الثائر.
... لقد بدأ مجلسا العموم واللوردات يناقشان هذا البيان الصادر من وزارة المستعمرات وكأنما انهدت السماء على الأرض.. فقد قامت الصهيونية بحملة مركزة شملت الصحافة البريطانية والأوساط السياسية، وشهد البرلمان البريطاني معركة طاغية على الحكومة البريطانية من جميع الأحزاب حتى من قبل حزب الحكومة، فتساقطت المقترحات الدستورية على الأرض شذر مذر.(1/270)
... وكنت مشتركا في بعض الصحف البريطانية،فأخذت أترجم إلى العربية تفاصيل المناقشات التي دارت في البرلمان البريطاني، وأرسلها إلى صحفنا الوطنية في يافا والقدس.. ليقرأ الشعب ما فعل بنا الحلفاء..
... حتى إذا جاء شهر نيسان من عام 1936 جاءت معه الثورة بكل دوافعها، الهجرة اليهودية- بيع الأراضي- تسليح اليهود- سقوط المقترحات الدستورية- وأخيراً لا آخرا حركة الشهيد عز الدين القسام ورفاقه الأبرار- و أصبحت الثورة تنتظر الشرارة الأولى.
... وجاءت الشرارة الأولى في 15 نيسان، فقد تصدت جماعة من المسلحين العرب لسيارة يهودية (1) وقتلت ثلاثة من ركابها وجرحت الباقين، وفي الليلة التالية قتل اليهود اثنين من العرب بجوار إحدى المستعمرات اليهودية ... وبدأت الأحداث تتوالى في هجمات مسلحة بيننا وبين اليهود، وقد وقع معظمها بادئ الأمر في قطاع يافا- تل أبيب.
... وفي أوائل شهر نيسان، دق جرس التلفون في مكتبي وكانت المكالمة من جمعية الشبان المسلمين من يافا، و إذا برئيسها علي الدباغ يشرح لي الحالة القلقة المضطربة في يافا، وما وقع من القتلى والجرحى وإحراق المنازل في الأحياء القريبة من تل أبيب، وأن المدينة قد أعلنت الإضراب وان لجنة تمثل جميع الأحزاب قد تألفت للإشراف على الحركة الوطنية، واقترح علي في نهاية الحديث باسم اللجنة أن نحذو حذوهم، فبادرته على الفور أننا سنعلن الإضراب غدا أو بعد غد تضامنا مع يافا، وستضرب معنا كل مدن الشمال، وما أن انتهى الحديث ووضعت سماعة التلفون حتى دعوت نخبة من
__________
(1) * قرب نور شمس على طريق طولكرم نابلس.(1/271)
أعيان المدينة وشبابها إلى مكتبي، وما هي إلاّ بضع ساعات والمنشورات توزع في المدينة ندعو إلى الإضراب احتجاجا على سياسة الحكومة، وأمضينا تلك الليلة إلى الفجرفي مكتبي والاتصال مستمر بالتلفون مع حيفا- الناصرة- طبريا- صفد- بيسان-، ونحن نشرح لإخواننا الإجراءات التي اتخذناها وندعوهم إلى إعلان الإضراب.. وهكذا عم الإضراب جميع مدن فلسطين.
... ولم يكن الإضراب في البداية محددا بأجل، ولا معلنا بهدف معين.. فقد كان إعرابا عن استنكارنا لسياسة الحكومة، وكان الأمر كله يومئذ غضبة شعبية تريد أن تعبر عن ذاتها وتنفس عن مكنونات نفسها، والقيادات الوطنية مشغولة في مهاتراتها الحزبية.
... وفي يوم 20 نيسان سنة 1936 وصلتنا برقية بتوقيع "اللجنة القومية بنابلس" تعلن تأليف هذه "اللجنة" لتنظيم الإضراب ولم يكن في البرقية توقيع آخر.. وقد حسنت لدي هذه التسمية وهذه الفكرة، فدعوت إلى اجتماع كبير في منزلي- فقد كان مكتبي مقفلا مع بقية مرافق المدينة، وجرى في هذا الاجتماع انتخاب لجنة قومية تتولى شؤون الإضراب في المدينة، واتصلنا بالمناطق المجاورة ليفعلوا ما فعلنا، وهكذا كان.. و إذا باللجان القومية تتألف في كل مدن فلسطين، لتجمع بين صفوفها كل العناصر الوطنية من مختلف الألوان والأحزاب.
... وجاء الإضراب شاملا كل مظاهر الحياة، فقد اقفلت المدن إقفالا تاما وتوقفت حركة المواصلات وتعطلت المدارس والمحاكم ودور السينما(1/272)
والمقاهي، حتى الأفران والصيدليات حرصت على أن تمارس أعمالها من الأبواب الخلفية أو النوافذ الجانبية.
... وأخذ الفلاحون يترصدون على مفارق الطرق، ويتربصون بالقوافل اليهودية يهاجمونها بالسلاح، وبالحجارة حين لا يوجد السلاح ... و أخذت بوادر الثورة الشعبية تنطلق في كل مكان.
... وكان أن التقينا: صبحي الخضراء، معين الماضي، رشيد الحاج إبراهيم وأنا، وكلنا نقيم في عكا وحيفا، وتناولنا بالبحث شؤون الإضراب وما يقتضيه من رعاية وتنظيم، واستقر رأينا أن أمامنا فرصة ذهبية، والشعب على هذه الحال من المشاعر الثائرة، للقيام بثورة شعبية تحريرية.
... وكنا نحن الأربعة في صبيحة اليوم التالي في طريقنا إلى القدس، للاتصال بالزعماء والعمل على توحيد الصفوف وإنشاء جبهة وطنية تقود النضال القومي ... وكنت أقود سيارتي وعليها العلم العربي حتى لا يتعرض لها شباب الإضراب الذين يشرفون على تنفيذه في جميع المدن والقرى..
... وكان مشهدا لا أنساه.. الطريق خالية من عكا- إلى حيفا- إلى جنين- إلى نابلس- إلى رام الله حتى القدس.. فلم تكن هنالك مواصلات، والمدن مقفلة، والمرافق العامة موقوفة، أخلوا سبيل السيارة، من غير كلام ... إلاّ الهتاف بحياة فلسطين..
... وقضينا يومين أو ثلاثة في القدس نواصل الليل بالنهار في اجتماعات متواصلة مع رؤساء الأحزاب ندعوهم إلى التآلف، وإلى إنشاء جبهة وطنية، وأن يقتدوا بالشعب وقد تجمع في" لجان قومية" في جميع مدن فلسطين.(1/273)
... وفي هذه الاجتماعات الطويلة، تهيأت لي أول فرصة وافية لأكون في جلسات " عمل" مع رؤساء الأحزاب، وفيهم الحاج أمين الحسيني رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، وكان يومئذ في منتهى الحذر والتحفظ.
... وفي 25 نيسان سنة 1936 تنفسنا الصعداء، فقد اتفقت الكلمة على تأليف "اللجنة العربية العليا" الحاج أمين الحسيني رئيسا، وأحمد حلمي عبد الباقي أمينا للمال، وعوني عبد الهادي سكرتيراً، والاعضاء، جمال الحسيني رئيس الحزب العربي، وراغب النشاشيبي رئيس حزب الدفاع، والدكتور حسين الخالدي رئيس حزب الاصلاح، وعبد اللطيف صلاح رئيس حزب الكتلة، ويعقوب فراج عن المسيحيين الارثوذكس، والفرد روك عن المسيحيين الكاثوليك. ولم نغادر بيت المقدس إلاّ بعد أن صدر بيان من اللجنة العربية العليا يدعو البلاد إلى "استمرار الإضراب إلى أن تغير الحكومة الإنجليزية سياستها ... على أن يكون وقف الهجرة هو البادرة العاجلة لذلك التغيير..".
... وعلى هذا فقد تشكلت القيادة الوطنية لتلك المرحلة تحدد هدف الكفاح بأن يكون "وقف الهجرة هو البادرة العاجلة" لتغيير السياسة البريطانية ...
... وعدنا نحن الأربعة إلى الشمال، معين ورشيد إلى حيفا، وصبحي وأنا إلى عكا، والغبطة تملأ نفوسنا أن قد أدينا واجبا قوميا جليلا يمهد الطريق أمام ثورتنا المجيدة.
... ولكن الفضل كل الفضل كان لشعبنا الأصيل، شعبنا البطل الباسل، فهو الذي "قاد" الحركة أولاً، ومن بعده تألفت القيادة،ومن بعده تحركت(1/274)
القيادة.. ولكن الزمام بقي بيد الشعب على الدوام، فهو الذي حمل السلاح، ومنه سقط الشهداء.
وانفتح التاريخ على دفتيه، يشهد ويخلد.(1/275)
بريطانيا وأصدقاؤها..
يوقفون الإضراب والثورة
... بدأ الإضراب في أول أيامه سلميا- توقف عن العمل والنشاط وكفى- ولم يكن أمام الجماهير إلاّ أن تحتشد في الساحات العامة تستقي الأخبار وتتداول الآراء، ثم تطور الأمر إلى مظاهرات صاخبة تجوب أحياء المدينة شارعا شارعا حتى تبلغ قبور الشهداء، ولا تخلو مدن فلسطين من قبور الشهداء، سقطوا منذ أن دخل" اللنبي" إلى القدس في عام 1917.
... وكان جامع الجزار بساحاته الرحبة، معقل الحركة الوطنية في عكا، تتجمع الجماهير في رحابه فيخطب الخطباء، ويلقي الشعراء قصائدهم، وتعيش المدينة جوا حماسيا بالغ الروعة، فلا مجلسي ولا معارض، ولا مسيحي ولا مسلم، ولا قروي ولا مدني، الشعب كله وراء قضيته، وكذلك كل الحال في جميع أرجاء فلسطين.
... وكانت اللجنة القومية في عكا في اجتماع دائم، ومقرها في مكتب دائرة الاوقاف في الجامع، وكنت أقضي النهار وطرفا من الليل مع إخواني في ساحات الجامع نشرف على الإضراب ونعالج الأمور الطارئة، وكنت كلما مررت بالجمهور، لا بد لي من وقفة أخطب فيها، محييا ومشجعا، وداعيا إلى الاستمرار في الإضراب إلى أن تستجيب الحكومة البريطانية لمطالبنا الوطنية، وقد ضربت رقما قياسيا في تلك الفترة في عدد الخطب التي(1/276)
ألقيتها، دون أن تنفد طاقتي. فإن مجال القضية الفلسطينية تتسع آفاقه للحديث من غير ملل ولا كلل.
... وأخذ الإضراب يشتد، وتشتد معه العزائم، وقامت اللجنة العربية العليا بجولة في جميع أنحاء البلاد، وجاءت إلى عكا فاستقبلناها استقبالا شعبيا عارما، وكان سير الحاج أمين الحسيني مع راغب النشاشيبي وباقي رفاقهما، في الشارع في طريقهم إلى جامع الجزار، مظهرا من مظاهر التضامن الوطني ألهب مشاعر الجماهير، وكان الحاج أمين بطلعته الجميلة وأناقة عمامته وجبته محط الأنظار.
... وخطبت في الجموع الحاشدة مرحبا بمقدم الهيئة العربية العليا، داعيا إلى المزيد من التلاحم والتساند بين القوى الوطنية، مناشداً الزعامة أن تبادر إلى الكفاح المسلح لإنقاذ البلاد من الخطر الداهم الذي يتهددها، وكانت حماسة الشعب في ذروتها، وخطب من بعدي الحاج أمين الحسيني.
... فكان خطابه فاترا على غير ما يتطلع إليه الشعب، والحاج أمين يملك الكثير من مؤهلات الزعامة.. إلاّ القدرة على مخاطبة الجماهير ومس عواطفها وأحاسيسها.
... وإنيّ لأذكر في تلك المناسبة أن عوني عبد الهادي سكرتير اللجنة العليا، قد مال الي، بعينيه الغمازتين وشفتيه الهمازتين اللمازتين، وقال: ليتك تكلمت بعد الحاج أمين ...
... وكانت السلطة البريطانية تقف من الإضراب موقف المراقب إلى أن بدأت الأعمال المسلحة، ولم يكن طبيعياً أن تظل الجماهير متسكعة في(1/277)
الساحات العامة تروح وتجيء، فانطلق الشعب بعفويته الأصيلة، مع استمراره بالإضراب وإصراره عليه، ليقوم بالنضال المسلح ما وجد إلى ذلك سبيلا.
... فأعلنت السلطة البريطانية قوانين الطوارئ، وقامت بحملة اعتقالات واسعة فأنشأت معتقلا في عوجة الحفير وصرفند زجت فيهما المئات من الشباب والعاملين في الحركة الوطنية وعددا وافرا من أعضاء اللجان القومية، ثم اكتظت معسكرات الاعتقال فقبضت على الكثيرين من رجالات البلاد وفرضت عليهم الإقامة الجبرية في أماكن نائية.. وقد نقلتني السلطة البريطانية إلى سمخ وفرضت علي إقامة جبرية إلى أن انتهى الإضراب.
... وكانت ريح السموم قد بدأت تضرب بلدة سمخ على شاطئ بحيرة طبريا، وأحسست يوم وصولي برفقة مفرزة من الجيش البريطاني، إنني أقبلت على جهنم التي أعدت للمجرمين، وعبثاً حاولت أن أنتقل إلى صرفند أو عوجة الحفير حيث الجو ألطف وأرحم.
... وبعد بضعة أيام وصل إلى سمخ كل من جميل وهبه مدير دار الايتام الإسلامية بالقدس ويوسف سماره من كفركنا( الناصرة) وشاب آخر من الطيرة لم أعد أذكر اسمه- في إقامة جبرية كذلك- وكانت سمخ مضربة كغيرها من مدن فلسطين، والطلاب والشباب يسيرون في الشوارع في مظاهراتهم..
... وقد فرضت علي السلطة في بداية الأمر أن" أثبت وجودي" إحدى عشرة مرة في اليوم الواحد، ومعنى هذا أن أكون في مركز البوليس مرة في كل ساعة من النهار.. فقلت لضابط البوليس ليتني أبيت عندكم، فتستريحون وأستريح.(1/278)
... وهنا أنجدني رئيس بلدية سمخ، سليم الترعاني، وهيأ لي بيتا يقابل مركز البوليس على قيد خطوات، ومضيت أغدو وأروح بين بيتي ومركز البوليس إحدى عشرة مرة في اليوم الواحد.. فكانت لي رياضة لم أكن أنعم بها في عكا وسط مشاغلي..
... وكان جاري في البيت شيخ طاعن في السن كنت أجد في غدوه ورواحه تسليتي في تلك الايام" المضربة" عن كل تسلية.. فقد كان هذا الجار يخرج من بيته في الصباح ليعود في الظهر وفي" وسطه" مفتاح قديم طويل يبلغ ربع متر، يستله من زناره ويفتح بابه ويغلقه بعناية كاملة، ثم يهز الباب ليتأكد أن الباب مغلق.. وسألت رئيس بلدية سمخ" الترعاني" في إحدى زياراته لي عن هذا الجار العجوز، فقال: هذا مغربي مثلنا نحن أهل سمخ، هاجر آباؤنا إلى هذه الديار أيام الأمير عبد القادر الجزائري.
قلت: وما عمل جاري العجوز؟
قال: إنه لا عمل له، إنه يذهب لزيارة أصدقائه كل صباح ثم يعود في الظهيرة.
قلت: أراه شديد الحرص على بابه ومفتاحه- فهل هو من الاغنياء؟
قال: لا ، إنه فقير الحال، وله زوجة في السبعين من العمر.
قلت: ولِمَ يقفل بابه بهذا الحرص الشديد؟.
قال: إنه يقفله على امرأته، وهي لم تخرج كل عمرها من البيت..
قلت: وهل يغار هذا العجوز على" العجوزة" وكلاهما تجاوز السبعين؟
قال: لا أدري أهي العادة، أم الغيرة، أم غير ذلك.(1/279)
... والواقع أن" المغاربة" وقد عرفتهم فيما بعد في قراهم محافظون أشداء.. فقد كنت وكيلا عن أهالي معذر وعولم في قضاء طبريا في قضايا ضد اليهود، فرأيت فيهم المحافظة على التقاليد المغربية إلى النهاية، حتى أن بعضهم وهم من الجيل الثالث كانوا يتكلمون اللهجة" الجزائرية" إلى جانب اللهجة الفلسطينية.
... وجاءت تصاريف الأقدار لأجتمع بأهل معذر وعولم في الأردن بعد النكبة، فقد هاجروا في جملة من هاجر من أهل فلسطين، وأصبحوا في عداد اللاجئين، فكانت هجرتهم الثانية.
... ولكن إقامتي الجبرية في سمخ لم تجعلني في عزلة عن أبناء الحركة الوطنية وما كانت تتخذه السلطات البريطانية من إجراءات ظالمة.. فقد راحت السلطة تطوق القرى العربية بحثا عن الأسلحة، وتداهم المنازل، وتعذب أصحابها، وتفرض عليهم الغرامات الباهظة، وتتلف أثاثهم ومؤنهم، ولكن الشعب بقي صامدا، لا تثنيه الإجراءات التعسفية والأحكام العرفية عن مسيرته الوطنية.
... وكانت حول سمخ عدة مستعمرات لليهود تعرضت لهجمات قوية قام بها المناضلون العرب، فأحرقوا بياراتهم ومزروعاتهم، وأنزلوا بهم خسائر فادحة. وظنت السلطة أن لي يدا في التحريض على هذه الأعمال.. فبادرت إلى نقلي إلى قرية الحمّه على الحدود بين الأردن وسوريا، وكان ذلك في شهر تموز، حيث يغلي الماء في الكوز.. كما تقول الأمثال العامية.(1/280)
... وقد انضم إليّ في الحمّة طائفة من الإخوان الوطنيين أذكر منهم يوسف الفاهوم وصالح عون الله من الناصرة، فرضت عليهم السلطة إقامة جبرية، بعد أن اشتدت الحركة الوطنية في الناصرة وما حولها.
... ولكن الإخوان المناضلين قد أشغلوا منطقة الحمّة بأعمالهم البطولية، وكانوا كل ليلة يهاجمون مخفر البوليس، ونقضي الليل ونحن في" سمر" على أزيز الرصاص..حتى أصبحنا نحس" بالوحشة" والأرق إذا لم نسمع صوت الرصاص ليلة واحدة..
... وفي سمخ والحمّة كان مدير الأمن العام يتفقدنا ليلا، ليطمئن إلى أننا ننام في فراشنا، ولا نغادر منازلنالأي نشاط مشبوه، وفي تلك الفترة- شهر حزيران- زارني قائمقام طبريا العربي حنا بولص وهمس في أذني أن مذكرة وطنية قومية عليها تواقيع كبار الموظفين العرب، قد مرت عليه وأنه وقعها، وقد ترك لي نسخة منها، فكانت في الواقع معبرة أصدق تعبير عن مشاعر شعبنا البطل ورأيت فيها بوادر العصيان المدني يقوده كبار الموظفين العرب..
... ولقد حسبت السلطة البريطانية أنني في سمخ والحمة سأكون نائياً عن مركز الحركة الوطنية، ولكن الأقدار قد جرت على غير ذلك، ولم يدر في حسبانها أن تلك المنطقة ستكون معبر المجاهدين الوافدين من سوريا والعراق، وأنّ سلاح المجاهدين ومؤنهم وذخائرهم ستمر في هذا الطريق.
... وهذا ما وقع فعلا فقد جاءني رسول من فوزي القاوقجي، يسر إليّ النبأ البهيج، بأنه يقود قوات من المجاهدين للدخول إلى فلسطين" وحبذا لو أمكن مراقبة ضفاف الأردن واليرموك إلى أن تدخل قوات المجاهدين إلى(1/281)
البلاد". وغدونا نحن المعتقلين في تلك المناطق النائية كأنما أرسلنا الله إليها لنؤدي هذه المهمة، فدعوت رفيقي يوسف الفاهوم وصالح عون الله، وهما أكثر خبرة في مثل هذه المهمة، فقاما بها أحسن قيام، وكأننا على موعد مع فوزي القاوقجي ورفاقه الميامين.
... ودخلت قوات القاوقجي في أمان وسلام، ووصل الشيخ محمد الاشمر وسعيد العاص، من أبطال الثورة السورية التي قامت ضد السلطة الفرنسية، على رأس المجاهدين السوريين.
... وبمقدمهم اشتد ساعد الثورة الفلسطينية ونشبت المعارك بينهم وبين القوات البريطانية، وكان أهل القرى كلما علموا بإحدى المعارك هبوا لنجدة الثوار فيطوقون القوات البريطانية ويصلونها نارا حامية، وهكذا اندلعت الثورة المسلحة في كل أرجاء البلاد وأصبحت تعرف باسماء مواقعها فكانت معارك بلعا- بيت امرين- دير شرف- جبع- عزون- نرشيحا- وراح الفلاحون يتفاخرون أي المعارك أشدّ بأسا وأعظم نصرا.
... وكانت تصلني منشورات الثورة موقعة بتوقيع القائد العام فوزي القاوقجي، فأسلمها إلى رفاقي وهم يتولون توزيعها في جميع مناطق الشمال، وبذلك أصبح معتقلنا الإجباري معقلا من معاقل الثورة، وبعد أن كنا نتمنى أن ننقل إلى صرفند أو عوجة الحفير فرارا من هذا الجو اللاهب، حمدنا الله أن إقامتنا الجبرية قد فرضت علينا في بقعة" استراتيجية" بين سوريا والاردن تجعلنا نواصل نشاطنا الوطني.
... وامتد الإضراب أسبوعا بعد أسبوع، ثم شهرا بعد شهر، والشعب صابر صامد، يتحمل كل أنواع التضحيات ويكابد كل صنوف العناء، ولم يبق(1/282)
مواطن إلاّ وله دور في المعركة، ولو إلقاء المسامير على قارعة الطريق لتعطيل قوافل الجيش البريطاني.. ونزل هذا الإضراب في تاريخ الكفاح الإنساني، لا مثيل له في شموله واستمراره. منذ كان الكفاح الإنساني،وما أظن أن إضرابا في العالم سيجاريه أو يدانيه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
... وفي شهر يوليو أعلنت الحكومة البريطانية عزمها على تأليف لجنة ملكية للتحقيق في أسباب الثورة والنظر في ظلامات العرب، على أن تشرع اللجنة في أعمالها بعد أن يستتب الأمن. ولكن الشعب لم تخدعه هذه البادرة، فقد ابتلي بسبع لجان تحقيق قبل ذلك، وكانت تواصيها في معظمها إلى جانب العرب، ولكن لم ينفذ شيء منها، بل ضرب بها عرض الحائط، وعلى ذلك فلم يبال الشعب بتأليف اللجنة الملكية ومضى في إضرابه وثورته.. لا تلين قناته ولا تثني عزيمته.
... واستقدمت الحكومة البريطانية قوات إضافية لإخماد الثورة حتى بلغت خمسين ألف جندي بكامل أسلحتهم، ومنها أسراب الطائرات، وعينت على رأس هذه القوات الجنرال "ديل" مدير العمليات والاستخبارات في وزارة الحربية البريطانية.
... وفشلت القوات البريطانية في اخماد الثورة،وأنزل المجاهدون العرب خسائر جسيمة في العدو، في الأرواح وفي السلاح، وسقط الشهداء بالعشرات والمئات من أبناء الأمة العربية إلى جانب رفاقهم في الجهاد والاستشهاد من أبناء فلسطين. وكان استشهاد البطل القائد سعيد العاص في معركة الخضر(1/283)
إلى جانب القائد عبد القادر الحسيني، وقد سقط جريحا في هذه المعركة، عنوانا على وحدة النضال العربي، حيثما كان النضال في الوطن العربي.
... وازداد الموقف خطورة حين أقدم المجاهدون العرب على ضرب أنابيب البترول وإشعالها بالنار، وكان الظن أن هذا الأمر عسير، فلما بدا يسره صار الشباب يجربون بنادقهم ورصاصهم في أنابيب البترول، ويتباهون أي البنادق أشدّ رميا، وأي الرصاص أشدّ نفاذا.
... ولما لم تفلح بريطانيا في حمل الشعب على العدول عن إضرابه وثورته، بالوعد والوعيد، اتصل الأمير "الملك" عبد الله باللجنة العربية العليا ليقنعها بالعدول عن الإضراب، وشاركه في ذلك نوري السعيد رئيس وزراء العراق الذي زار فلسطين في تلك الفترة و اجتمع إلى عدد من الزعماء وهم في معتقلاتهم.
... ووجهنا نحن المعتقلين في الحمّة رسالة إلى اللجنة العربية العليا نناشدها عدم قبول تدخل الأمير عبد الله ونوري السعيد إلا "إذا كان بيدهما عهد واضح من الحكومة البريطانية بوقف الهجرة اليهودية إذا أوقفنا "الإضراب" وفعلا فقد صمدت اللجنة العربية العليا، واستمر الإضراب ومعه الثورة بضعة أسابيع أخرى.
... وفي الأسبوع الأول من شهر تشرين أول سنة 1936 بدأت الاتصالات بين بغداد وعمان والرياض من جهة واللجنة العربية العليا من جهة ثانية لوقف الإضراب والثورة، لتمكين اللجنة الملكية من أن تقوم بمهمتها في البلد في جو من السكينة والهدوء. وكانت تتردد "الهمسات" بأن هذه اللجنة" ملكية" على مستوى رفيع، وأن وعوداً قاطعة صدرت من(1/284)
بريطانيا إلى عمان وبغداد والرياض بأن المطالب القومية لشعب فلسطين ستتحقق بصورة تدريجية، وأنه لا داعي لمزيد من الخراب والدمار وسفك الدماء.
... فاعتراني الهم والقلق من هذه البوادر التي بدت في الأفق، وأيقنت أن بريطانيا أخذت تضغط على العواصم العربية حتى "تضغط" هذه بدورها على الشعب الفلسطيني. وكانت ليلة حامية شديدة الوطأة في الحمّة، حين سهرت إلى الفجر وأنا أعد رسالة مطولة إلى الحاج أمين الحسيني رئيس اللجنة العربية العليا أحذره من "أن تقع البلاد في الفخ البريطاني ونوقف الثورة من غير ضمانات صريحة" ثم سردت للحاج أمين خبرة الشعب مع لجان التحقيق السبع التي "لم تسمن ولم تغن عن جوع"، وأنّ التلميحات التي تلوح بها بريطانيا لإنصاف العرب لن تكون أقوى من وعود مكماهون للشريف حسين في الحرب العالمية الأولى، وكان مصيرها الحنث والغدر.
... وختمت رسالتي أناشد اللجنة العربية العليا أن تقبل كحل وسط بوقف الإضراب على أن تستمر الثورة. "فالإضراب عمل سلبي لا يمكن أن يدوم طويلا، أمّا الثورة فهي عمل إيجابي نستطيع أن نمدها بالمزيد من الغذاء بعد أن نتوقف عن الإضراب". واستنفرت أحد شبابنا البواسل أن يحمل رسالتي إلى الحاج أمين ويسلمها إليه شخصيا.. وعاد الرسول بعد يومين وقد استقبله الحاج أمين باشا وهو يقول له: سلم على أخينا الشقيري وسنعرض رسالته على اللجنة العربية اليوم أو غداً.
... وفوجئت في صباح الحادي عشر من شهر تشرين أول سنة 1936، وهو يوم يجب أن لا تنساه الأمة العربية، بنداء من اللجنة العليا العربية،(1/285)
استنادا إلى رسالة من الملك عبد العزيز آل السعود والملك غازي والإمام يحيى والأمير عبد الله، بدعوة الشعب الفلسطيني إلى" الإخلاد إلى السكينة وإنهاء الإضراب والاضطراب".
وكانت الرسالة العربية بالنص الاتي:
" إلى أبنائنا عرب فلسطين
... لقد تألمنا كثيرا للحالة السائدة في فلسطين فنحن بالاتفاق مع إخواننا ملوك العرب والأمير عبد الله، ندعوكم للإخلاد للسكينة حقنا للدماء، معتمدين على حسن نوايا صديقتنا الحكومة البريطانية ورغبتها لتحقيق العدل، وثقوا بأننا سنواصل السعي في سبيل مساعدتكم."
... وفي صباح اليوم الثاني عشر من شهر تشرين أول سنة 1936 استجاب الشعب فتوقف الإضراب، وعادت الحياة عادية في التجارة والزراعة والصناعة وجميع مرافق الحياة انتظارا لحسن نوايا "صديقتنا الحكومة البريطانية ورغبتها المعلنة لتحقيق العدل".
... وبعد فترة وجيزة خرج من البلاد القائد العام فوزي القاوقجي وقواته المسلحة، ثم خرج المجاهدون السوريون وعلى رأسهم الشيخ محمد الاشمر، وعاد المناضلون الفلسطينيون إلى مدنهم وقراهم بعد أن طمروا تحت الأرض أسلحتهم وعتادهم.
وتململ الشهداء في مضاجعهم وهم يتساءلون عن المصير.
... وعاد المعتقلون إلى بلادهم، وعدت إلى عكا، إلى مكتب المحاماة أنفض الغبار عن كتبي، وإلى المحكمة أتابع قضايا الموكلين بعد طول الغياب.(1/286)
... وعلمت أن غيري من رجالات البلاد، كانوا قد حذروا اللجنة العربية العليا من وقف الثورة والاطمئنان إلى وعود بريطانيا وأصدقائها.
وكانت المرحلة صراعا بين جيلين، جيل الحرب العالمية الأولى الذي واكب الحلفاء واستمر يصدقهم ويعتمد على وعودهم.. وجيلنا نحن الشباب، نحن ضحية وعود الحلفاء ومكرهم وخداعهم، وبريطانيا في الطليعة. وكانت نتيجة الصراع أن انتصر الجيل الأول على الثاني وبهذا استطاعت بريطانيا وأصدقاؤها أن يوقفوا الإضراب والثورة.
... ولكن فترة الامتحان لم تكن طويلة، فقد نكثت بريطانيا مرة أخرى في" رغبتها المعلنة لتحقيق العدل" وانتصر الجيل الثاني ... وعاد الشعب إلى السلاح ليخوض غمار ثورة ثانية أشدّ ضراوة و أحسن بلاء.(1/287)
ثورة شعب(1/289)
"تعال عندنا إلى عمان..
"الأمير" الملك عبد الله"
... وقف الإضراب ووقفت معه الثورة، ولم تستطع الحكومة البريطانية أن تكتم فرحتها، وبدا ذلك واضحا في تعليقات الصحف البريطانية وأحاديث الساسة الإنجليز. وفي فلسطين وجه المندوب السامي رسالة عن طريق إذاعة فلسطين أعرب فيها عن ارتياحه وسروره ، وأعلن أن اللجنة الملكية ستصل إلى فلسطين في اليوم الحادي عشر من شهر تشرين ثاني سنة 1936. وأذاع القائد العام للقوات البريطانية من جانبه بلاغا أعلن فيه وقف جميع الإجراءات العسكرية وراح الجنود البريطانيون "المساكين" يصافحون المواطنين العرب ويعانقونهم في الشوارع ... كأنما جرى توقيع الصلح بين الإنجليز وشعب فلسطين، أو كأنما انسحبت بريطانيا من فلسطين واعترفت لشعبها بالحرية والاستقلال وحق تقرير المصير.
... وقبل ذلك، كان خطاب العرش البريطاني في أواخر تشرين أول سنة 1936 قد أشار إلى الإضراب والثورة فقال" إني آسف أسفا عميقا للاضطرابات الخطيرة التي حدثت في فلسطين أثناء الشهور الستة الأخيرة والتي أدتّ إلى ضرورة إيفاد قوات إضافية، وأرحب بالتحسنّ الاخير، وإنّ اللجنة الملكية التي عينتها ستبرح إنجلترا هذا الأسبوع للقيام بمهمتها. وإنيّ(1/291)
لأرجو بإخلاص أن يؤدي بحثها للمشاكل الصعبة التي ستعرض عليها إلى تسوية عادلة دائمة".
... وإنه لمن سخرية القدر أن شعار"تسوية عادلة دائمة" ظل يتردد على الألسنة والأقلام، عبر السنين والأجيال.. وها أنا أكتب هذه المذكرات في عام 1969 ومناقشات الأمم المتحدة ومجلس الأمن تسير في فلك هذه العبارة الشهيرة" تسوية عادلة دائمة" كما صيغت في شهر تشرين من عام 1936، قبل ثلاث وثلاثين عاما لا تنقص ولاتزيد ... والظلم لا يزال يتعاقب على شعبنا العظيم.
... وصدق أولئك الذين يلدغون من الجحر مرات ومرات فلا يتعظون ولا يعتبرون ... لقد صدقوا أن اللجنة الملكية ستكون، كما أعلنها رئيس الوزارة البريطانية "غير متحيزة" "ومستقلة استقلالا تاما لا سيطرة للحكومة عليها ولها الحرية الكاملة في وضع تقريرها على الصورة التي تراها ملائمة ... ".
... وكان في طليعة المصدقين اللجنة العربية العليا، فراحت تعد العدة لعرض القضية الفلسطينية على اللجنة الملكية، فتجمع الوثائق والبيانات، والخرائط والمعاهدات والدراسات القانونية والاقتصادية.. وكل ما تتسع له المجلدات ...
وفي اليوم الثالث من شهر تشرين ثاني 1936، وهو يوم لا أنساه، دق جرس التلفون في بيتي، وكانت المكالمة من القدس، فقال لي عامل التلفون: تكلموا مع المجلس الإسلامي الأعلى. وكان منيف الحسيني على(1/292)
الخط، فقال لي: سماحة الافندي يريد أن يكلمكم ..وجرى الحديث على الوجه الآتي:
الحاج أمين: كيف الحال، عسى أن لا تكون تضايقت في الحمّة
قلت: لا .. الحمد لله صحتي جيدة وقد عدت منها خيرا مما ذهبت.
الحاج: طيب.. نحن مشتاقون لكم.. نريد أن نراكم في القدس.
قلت: ان شاء الله.. سأسافر إلى القدس قريبا أن شاء الله.
الحاج: لا.. أنا وكل جماعتنا نريد ان تأتوا غدا أو بعد غد، والكل متفقون على أن تشرفوا ونحن بحاجة إلى جهودكم، ونريد مساهمتكم في اللجنة الملكية.
قلت: يا سماحة المفتي، ان جهودي للوطن دائما، ولكني لا أستطيع الحضور إلى القدس لهذه المهمة.. ولا أرى خيرا في اللجنة الملكية.
الحاج: لماذا؟
قلت: بصراحة.. الشعب متعطش إلى الجهاد، وقد شبع من لجان التحقيق، وإنّ الحق واضح ولو كانت بريطانيا تريد أن تنصفنا فما أهون الطريق.
الحاج: وهل نترك قضيتنا في هذه الظروف الحرجة، وهل نتخلى عن الميدان يا أستاذ أحمد.
قلت: لا لا أبدا.. لا نترك قضيتنا.. ولكن قضيتنا في الجبال والوديان وليست أمام لجنة التحقيق،أمّا أنا فلا أتخلى عن الميدان.
الحاج: لا فائدة من الكلام بالتفلون، سأرسل واحدا من جماعتنا للتفاهم.(1/293)
وانتهت المكالمة التفلونية، ولم أستطع أن أنام تلك الليلة وقضيتها مهموما، أُقلب وجهي بين السقف والجدران.
ولم يأتني أحد من "جماعة" سماحة المفتي.. لسبب بسيط وعظيم..
ففي اليوم الخامس من شهر تشرين ثاني 1936 أي بعد يوم ونصف من المكالمة التلفونية أعلن وزير المستعمرات البريطاني في مجلس العموم أنه "لا مجال لوقف الهجرة اليهودية، أثناء تحقيقات اللجنة الملكية، سواء لأسباب اقتصادية أو غيرها.. وان تغيير السياسة المتبعة في الهجرة قبل أن تضع اللجنة الملكية تقريرها يمكن أن يؤدي إلى إجحاف بالتحقيق". ثم أعلنت الحكومة على أثر ذلك أن جدول الهجرة للعمال للستة أشهر التي تبتدئ بأول تشرين الأول سيكون ألفاً وثمانماية شهادة، وذلك غير أصناف الهجرة الأخرى التي تستمر وفقا للقانون.
سمعت بيان وزير المستعمرات في الإذاعة وتناولت التلفون، وفي طلب مستعجل، كنت أتحدث بالتلفون مع "سماحة الافندي" في المجلس الإسلامي الأعلى، و كان حديثنا .. حادا وحارا.
... قلت: السلام عليكم كيف حال سماحتكم.. هل سمعتم بيان وزير المستعمرات عن الهجرة؟
الحاج: نعم سمعته الآن.. قبحهم الله. هؤلاء الإنجليز لا أمان لهم..
قلت: ان غدر الإنجليز ليس جديدا يا سماحة المفتي، أنت رافقت الحركة العربية، والشريف حسين مدفون في جدار المسجد الأقصى، على مقربة منكم، وتعرفون غدر الإنجليز به..(1/294)
... الحاج: أنت تعلم .. أن الإنجليز تفاهموا مع نوري السعيد، ووعدوا الرياض وبغداد أن يوقفوا الهجرة بعد أن نوقف الإضراب.
... قلت: هذا كلام في الهواء.. إلى متى سنظل نصدق الإنجليز؟
... الحاج: تعال إلى القدس في أقرب وقت لنتفاهم، وجماعتنا يريدون أن يتشاوروا معك.
... قلت: سأحضر إلى القدس، ولكن بعد أن تقرر اللجنة العربية العليا مقاطعة اللجنة الملكية، واستئناف النضال،وما عندي غير ذلك..
... الحاج: سنجتمع بعد ساعة، وفي اللجنة رأيان حول هذا الموضوع، وأنا من رأيكم ونرجو أن نصل إلى اتفاق.
... قلت :على بركة الله.. وانتهت المكالمة.
... وفي اليوم الثاني- في 6 تشرين أول سنة 1936- أذاعت اللجنة العربية العليا بيانا مقتضبا أعلنت فيه، بعد الديباجة والأسباب، قرارها "عدم التعاون مع اللجنة الملكية وتدعو الأمة الكريمة التي برهنت للعالم أجمع عن نضوجها السياسي وقوة إيمانها الوطني أن تعمل بهذا القرار والله ولي التوفيق".
... ومع أمتنا التي أثبتت "نضوجها السياسي وقوة إيمانها الوطني" تنفست الصعداء، وقلت في نفسي ها أن قيادتنا الوطنية قد أثبت كذلك نضوجها السياسي وقوة إيمانها الوطني.. والحمد لله.
... وفي 11 تشرين ثاني سنة 1936 سافرت إلى القدس وقضيت فيها قرابة شهر في اجتماعات ومداولات، وأقبل فصل الشتاء ليغسل قباب المدينة(1/295)
الزاهية بماء السماء، ويجلو شوارعها المبلطة، ويبعث في آفاقها نسمات تزيدنا تعلقا بمدينتنا الخالدة.
... وكنت في تلك الفترة كثير التردد على مكاتب اللجنة العربية العليا أطلع على ما يرد إليها من رسائل من العالم العربي والإسلامي تضامنا مع شعب فلسطين وإعجابا ببطولته. وتعددت اجتماعاتي بالحاج أمين الحسيني رئيس اللجنة ورئيس المجلس الإسلامي الاعلى، في بيته مرة،وفي مكتبه مرات.
... وكان أول لقائنا عتابا.. عاتبني على لهجة حديثنا التلفوني قبل بضعة أسأبيع، ثم أخذ يثني على وطنيتي وإخلاصي، مدللا على ذلك "بالانفصال" السياسي بيني وبين والدي.
... وكان بين الحاج أمين ووالدي خصومة شخصية وسياسية، وكلا الرجلين صلب عنيد، وكان الحاج أمين حريصا على أن يكسبني إلى جانبه لعلاقاتي وروابطي بمجموعات الشباب وجماهير الشعب، وللكيد من والدي.. فقد كان الحاج أمين في مجالسه يردد القول على الدوام (لو كان الشيخ أسعد الشقيري وطنيا حقيقيا لما اختلف مع ولده.. هذا هو الأستاذ أحمد وطني وكل جماعتنا يحبونه..)
... ولقد كنت أُبغض هذا الأسلوب المشين من الحاج أمين، كما كنت أبغض فيه كثيرا من أساليبه الخطرة في معالجة المشاكل الوطنية، ولكني كنت، أنا وغيري من المثقفين المشتغلين بالحركة الوطنية ومنهم رجال حزب الاستقلال، نرى أن الحاج قد أصبح زعيم البلاد ولا سبيل لتبديله أو التخلص من زعامته، وأنّ من الخير أن نسير وراءه. إنه شر لا بد منه.(1/296)
... وكان محور حديثي مع الحاج أمين في تلك الأيام يدور حول ضرورة التفرغ للقيادة الوطنية، وكنت أؤكد له أن جماهير الشعب معه، وأننا نحن طلائع الشباب والمثقفين معه، وأنه خير من يصلح لقيادة هذه الأمة، وأن خطورة الظروف التي تمر بها قضيتنا المقدسة تقتضي منه التفرغ الكامل لقيادة الحركة الوطنية، فليس معقولا ولا مقبولا الجمع بين زعامة الشعب ورياسة المجلس الاعلى بصلاتها مع الحكومة،وكنت أختم حديثي معه في هذا الصدد أن الذين تتوافر فيهم شروط رياسة المجلس الإسلامي كثيرون،أمّا زعامة الأمة فليس لها" إلاّ سماحتكم".
... وكان الحاج أمين يصغي إليّ باهتمام وعناية، ولكني كنت ألمح في قسمات وجهه وثنايا حديثه تعلقا كبيرا بالمجلس الإسلامي الأعلى. فقد كان يرى فيه "دولة صغيرة" عاش فيها السنين الطوال ومارس من خلالها أمجاده الشخصية، وأنه من الخير الجمع بين الاثنتين.
... وحدثت مصادفة عجيبة في تلك الآونة: لقائي الأول بالأمير "الملك" عبد الله في فندق الملك داود بالقدس.. وكان قد جاء إليها واجتمع باللجنة الملكية ورحب بها وتحدث إليها ودعاها إلى زيارة عمان.
... وكنت أذهب كل صباح إلى فندق الملك داود لأشتري الصحف البريطانية.. فقد كانت تصل إليه بانتظام، وبينما كنت أُقلب الصحف وإذا بإبراهيم باشا هاشم رئيس وزراء الأردن يربت على كتفي وهو يقول تعال سلم: "سيدنا"، فالتفت و إذا به وهو يقول للأمير بلهجة نابلسية: هذا ابن صديقك الحميم، يا سيدنا.
فقال الأمير: من هو صديقنا الحميم، الحمد لله أصدقاؤنا كثيرون.(1/297)
قال إبراهيم باشا: ابن الشيخ أسعد الشقيري- سيدنا-.
فقال الأمير: أي والله، الشيخ أسعد صديقنا من أيام استانبول، كيف حاله وكيف صحته منذ زمن لم أقرأ مقالاته على الحاج أمين.
قلت: الوالد بخير وصحته طيبة.
قال الأمير: وأنت لماذا لا تكتب مقالات مثله، الولد سر أبيه.. هذه لجنة التحقيق الملكية لماذا تقاطعونها يا شعب فلسطين، خير لكم أن تسيروا ورائي يا شعب فلسطين وأنا اخلصكم من اليهود ومن الحاج أمين.
قلت هذا موضوع طويل يا سمو الأمير، واللجنة الملكية لا خير فيها و..
... الأمير "مقاطعا": وقتنا الآن ضيق، تعال عندنا إلى عمان وهناك نتكلم ونتفاهم ... أنت ابن صديقنا الحميم- سلم عليه..
... فسكتّ، وانصرف ولم أذهب إلى عمان، ولم أجتمع بالأمير إلاّ بعد النكبة.. بعد ثلاثة عشر عاما، وفي مهمة سياسية سيأتي ذكرها.
... وفي أوائل العام ( 1937) عاد إلى القدس وفد اللجنة العربية العليا الذي كان قد سافر إلى بغداد والرياض لاطلاع الملك غازي والملك عبد العزيز آل السعود على مجريات الأمور والأسباب التي دعت إلى مقاطعة اللجنة الملكية،وكان الوفد مؤلفا من عوني عبد الهادي وعزت دروزة ومعين الماضي.
... واجتمعت بالوفد في جلسة طويلة، وكانت بيني وبينهم صداقة وزمالة، فإذا بهم يعودون بخيبة الآمال ومن غير خفي حنين، فلقد سبقتهم المساعي والضغوط البريطانية لحمل الشعب الفلسطيني على الاتصال باللجنة(1/298)
الملكية والعدول عن مقاطعتها.. ووجدوا بغداد والرياض مشبعتين بالحجج البريطانية التي تدعو إلى الاجتماع باللجنة الملكية.
... وقد شكا أعضاء الوفد أن حقائق القضية الفلسطينية لم تكن واضحة أمام الملك عبد العزيز، وأن مستشاريه لا يجهدون أنفسهم بتعريفه بتفاصيل الامور. وأنه لو كان على علم تام بكل ما يجري في فلسطين لكان له موقف آخر.
... وخلال الحديث أخرج عوني عبد الهادي من حقيبته نسخا من رسائل وبرقيات وجهها الأمير "الملك" عبد الله إلى الملوك والامراء، يخطئ فيها موقف اللجنة العربية العليا من مقاطعة اللجنة الملكية، ويدعوهم إلى التدخل في الأمر لإلغاء قرار المقاطعة من أجل مصلحة القضية الفلسطينية.
... وفي ختام الحديث، مدَّ عوني عبد الهادي يده إلى جيبه وفي لهجة عابسة ساخرة، قال: تفضل يا سيدي.. وكانت رسالة أخرى من الملوك إلى الرؤساء تقول".. لما لنا من الثقة بحسن نية الحكومة البريطانية في إنقاذ العرب فقد رأينا أن المصلحة تقضي بالاتصال باللجنة الملكية والإدلاء إليها بمطالبكم العادلة ... ونحب أن تكونوا على ثقة بأننا لن نألو جهدا في سبيل مساعدتكم لإصلاح الحال بقدر إمكاننا..".
... وكانت الرسالة مؤرخة في 1 كانون الثاني سنة 1937، فقلت للإخوان أعضاء الوفد، نحن الآن في أول العام، وأخشى أن يكون هذا العام بداية لتطور خطير في القضية الفلسطينية يسقط معه الزمام من يد الشعب الفلسطيني وقيادته، ولا يصبح قادرا على وضع خطته وسياسته وتقرير مصيره.(1/299)
... وذهبنا جميعا إلى دار الحاج أمين الحسيني لنتداول في الأمر، وكانت الكلمة متفقة على الاستمرار في مقاطعة اللجنة الملكية ولكن الحاج أمين كان يتساءل عن مخرج أمام الملوك والأمراء ...
... ودخل علينا في هذه الأثناء الشيخ حسن أبو السعود مفتش المحاكم الشرعية، وأخذ يسرد طائفة من الاخبار"الرائجة" في البلاد عن مساعي الأمير عبد الله مع الأحزاب، وخاصة مع حزب الدفاع للعدول عن قرار المقاطعة وضرورة عرض القضية على أقوى ما تكون.
... وعدت إلى الفندق متعبا مرهقا، وقد اعتراني الحزن والأسى، وأشفقت على اللجنة العربية العليا وقد وضعت نفسها بين حجري الرحى ... الملوك والأمراء في جانب، والشعب ومطالبه في جانب آخر.
... ونهضت في الصباح المبكر إلى سيارتي، دار نجواي في أسفاري- ومررت برام الله والبيرة ونابلس وجنين وحيفا- والفلاحون في حقولهم ومزارعهم وأهل المدن في متاجرهم ومصانعهم ومكاتبهم، وجميعهم لا يثقون باللجنة الملكية، ولا يؤمنون بحسن نوايا الحكومة البريطانية.
... ولزمت بيتي ومكتبي، وفؤادي يقول في أعماقه : الشعب في واد ... والملوك والأمراء في واد ... وشتان بين مشرق ومغرب.(1/300)
إلى السلاح، يا رجال!
... أفاق الشعب في صباح اليوم السادس من شهر كانون ثاني من عام 1937ليقرأ في صدر الصفحة الأولى من صحف فلسطين بيانا صادرا من اللجنة العربية العليا يعلن فيه أنه استنادا إلى " ... كتابي صاحبي الجلالة ملك العراق وملك المملكة السعودية لم يسع اللجنة العربية العليا إلاّ أن تستجيب للطلب السامي فقررت الاتصال باللجنة الملكية وبسط القضية العربية لها.."
... وقد ذهل الشعب لموقف قيادته التي قررت قبل شهرين بالضبط- 6 تشرين ثاني سنة 1936- مقاطعة اللجنة الملكية وعادت اليوم تلغي قرارها السابق، من غير أسباب جديدة، سوى رغبة الملوك والأمراء في جو من الضغوط البريطانية ... ليس إلا.
... ولو كان الشعب يملك الوسائل يومئذ لخلع قيادته وثار عليها وسحب ثقته منها ... ولكن أنىّ له ذلك والموقف حاد خطير، والوقت لا يتسع لأي شيء إلاّ للوحدة وللتماسك، فسكت الشعب على مضض وترك للقيادة الوطنية ومن ورائها الملوك والأمراء أن يتحملوا مسؤوليتهم أمام التاريخ.
... وبعد يومين أو ثلاثة جاءني كتاب موقع من الحاج أمين الحسيني رئيس اللجنة العربية العليا، يطلب إليّ أن أمثل أمام اللجنة الملكية، مع جملة المندوبين العرب الذين ستختارهم اللجنة العربية، لأتحدث عن قضية فلسطين من ناحية القانون الدولي.(1/301)
... وما هي إلاّ ثانية واحدة حتى سطرت إلى الحاج أمين الحسيني كتابا أشكر للجنة العربية ثقتها، متمنيا للمندوبين العرب كامل التوفيق والنجاح في مهمتهم، ومعتذرا عن الإدلاء بأي بيان أمام اللجنة الملكية.. وقلت في نهايته،" فإن رأيي معروف لدى سماحتكم وقد أبديته في اجتماعنا الأخير، وعلى كل حال فإن القانون الدولي لن ينقذ فلسطين من خطر الصهيونية والاستعمار.."
... وقدمت اللجنة العربية العليا مذكرة قوية ضافية، عرضت فيها القضية الوطنية أحسن عرض وأوفاه، ومثل أمام اللجنة الملكية الحاج أمين الحسيني وعدد من رؤساء الأحزاب، وقالوا كل ما يتمنى أن يقوله أي فلسطيني وأي عربي وأي إنسان ...
... وكانت الوكالة اليهودية قد عرضت قضيتها، أثناء المقاطعة العربية، ومثل أمامها وايزمن وجابوتنسكي وشارتوك وغيرهم من ساسة اليهود وخبرائهم، فحملوا حملات قاسية على الدولة المنتدبة، واتهموها بالتهاون في واجباتها كدولة منتدبة، وطالبوا بإقامة دولة يهودية، وأسهبوا وأطنبوا في جرأة لا سابق لها في تعداد مطالبهم وأطماعهم في فلسطين وشرقي الاردن..
... وغادرت اللجنة الملكية فلسطين حوالي منتصف شهر كانون ثاني سنة 1937. و أخذت الشائعات تروج في الأوساط السياسية أن الحكومة البريطانية تفكر في حل للقضية الفلسطينية على أساس التقسيم. والناس بين مُصدق ومُكذِّب. وطالت مداولات اللجنة الملكية في لندن قرابة ستة أشهر دون أن تصدرعنها كلمة واحدة ... ولم يكن الأمر يحتتاج إلى هذه المدة الطويلة فإن القضية الفلسطينية واضحة كل الوضوح وقد تناولتها لجان التحقيق مرات ومرات، ولكن محاولة الحكومة البريطانية "طبخ" الحل(1/302)
السياسي مع اللجنة الملكية-"المستقلة غير المنحازة"- هو الذي اقتضى تلك الشهور الطوال.
... وازدادت هذه الشائعات ضراوة في شهر نيسان سنة 1937 لمناسبة سفر الأمير "الملك" عبد الله إلى لندن، ودخل في روع الجميع أن الحكومة البريطانية تهيئ حلا للقضية يكون للأمير فيه دور بارز.. وإلا أي معنى لسفر الأمير إلى لندن حيث تواصل اللجنة الملكية مداولاتها.
... وقد حرص الأمير قبل سفره أن يقوم بجولة في فلسطين، كأنما يعد نفسه ليكون وليّ الأمر في فلسطين. فزار القدس ونابلس وحيفا، وهيأ له أركان حزب الدفاع استقبالات ضمت بعض الوجهاء ولم يكن لها أي طابع شعبي.. وقد تلقيت الدعوة لشهود هذه الاحتفالات فلم أحضر ولم أعتذر.. بل سعيت مع غيري من الرجال الوطنيين لمقاطعتها في كل مكان.
... ثم عاد الأمير "الملك عبد الله" من لندن عن طريق تركيا ونشط أركان حزب الدفاع لاستقباله والحفاوة به. ولكن الشعب أعرض عن ذلك كله، وكأنما أحسّ بفطرته السليمة أن الأمير عبد الله سيكون المحور الذي يدور حوله الحل المقترح.. وقد أثبتت الأيام أن الشعب لا تخونه فراسته ولا تخطيء فطرته.. وقد دعيت للاشتراك في استقباله، وألحّ علىّ سليمان طوقان رئيس بلدية نابلس "حضور" وليمة أقامها على شرف الأمير، مجرد حضور بلا خطابة ولا كلام.. فاعتذرت وشكرت وقلت له لم أشترك في الوداع ولا أشترك في الاستقبال.. ولن أشترك فيما ستخبئه الأيام.. وانتهت المحادثة التلفونية..ولم أرَ سليمان طوقان بعدها إلاّ حينما أصبح وزيرا للبلاط في(1/303)
عمان، بعد أن وقعت النكبة وألحقت بقايا فلسطين إلى شرقي الأردن وأصبحت تعرف بالمملكة الأردنية الهاشمية.
... وبدأ القلق والتوتر يسودان الجو يوم أعلنت الحكومة البريطانية جدولا جديدا لهجرة العمال اليهود بمقدار 770 نفسا عن أربعة اشهر، فكانت سببا لمقاطعة حفلات التتويج لملك بريطانيا فقاطعنا نحن العرب، واشترك اليهود.
... وفي اليوم السابع من شهر تموز سنة 1937 نشرت الحكومة البريطانية تقرير اللجنة الملكية، وأرفقت به بيانا بسياسة حكومة جلالته بالموافقة على التقرير.
... وكان يوما جعل الناس سكارى وما هم بسكارى.. مِن هول الصدمة وخيبة الأمل، فقد أوصت اللجنة الملكية بإقامة دولة يهودية، ومنطقة تحت الانتداب تشمل القدس وما حولها، وضم المناطق الباقية إلى شرقي الأردن في دولة عربية.
وأخذ الناس في الشوارع والساحات والمنازل ينددون باللجنة العربية العليا، والملوك والأمراء، ويعتبرونهم سببا في هذه الكارثة.. ويحملونهم مسؤولية وقف الثورة والإخلاد إلى السكينة استنادا إلى حسن نوايا "الصديقة" بريطانيا العظمى.
... وهبت البلاد من أقصاها إلى أقصاها في هياج لا مثيل له، تستنكر التقسيم وتصرخ في وجه الزعماء.. وتستصرخ الملوك والأمراء.. أن يهموا لدفع هذه الكارثة وأن ينجزوا ما وعدوا من العون والتأييد في تحقيق المطالب الوطنية.(1/304)
... وأعلنت اللجنة العربية العليا رفضها لقرار التقسيم واستنكارها كل ما جاء في توصيات اللجنة الملكية ودعت الشعب إلى رفضها، ولم يكن الشعب في حاجة إلى هذه الدعوة فقد كان السخط والغضب يعم المدن والقرى قبل أن تفوه اللجنة العربية العليا بكلمة واحدة.. فقد صدر تقرير اللجنة الملكية في السابع من شهر تموز وأذاعت اللجنة العربية العليا بيانها بعد أسبوعين كاملين.. وعلى التحديد في 23 تموز ...
... وحدث في تلك الأيام أنني كنت أتناول العشاء مع والدي، وكنت قبل ذلك قد تركت بيت والدي وأقمت في منزل لي، ودار الحديث- بيني وبين والدي- عن كارثة التقسيم، وذكرت له أن الأمير عبد الله لا بد أنه" طبخ" مشروع التقسيم الذي أوصى بضم القسم العربي من فلسطين إلى شرقي الأردن ليصبح ملكا عليهما معا.. فقد طال الأمد عليه "أميرا" وأخواه "فيصل" و"علي" قد تمتعا بلقب صاحب الجلالة.. منذ زمن.
... ولم أجد والدي- رحمه الله- أكثر انفتاحا معي وانشراحا لحديثي من تلك الجلسة على مائدة الطعام، ولم نكن على وفاق في كثير من الأمور السياسية. ولقد جئته في اليوم التالي فإذا به وقد أعد رسالة إلى الأمير عبد الله، بأسلوبه القرآني المعروف يقول في مقدمتها "ان الله ورسوله والمؤمنين يأبون الموافقة على التقسيم وإنشاء دولة يهودية ما أنزل الله بها من سلطان" وأحدثت هذه الرسالة ضجة في الأوساط الوطنية لما بين الرجلين من وداد قديم أيام الخلافة العثمانية.
ومن النوادر التي تناقلتها الألسنة في أعقاب هذه الرسالة، والنوادر تترعرع في رحاب الكوارث، أن الأمير عبد الله [خان](1/305)
صديقه القديم الشيخ أسعد الشقيري ووافق أن تكون بلده- عكا- ضمن الدولة اليهودية.
... والواقع أن هذه النادرة كانت تنبئ عن فجيعة عميقة في دخيلة والدي.. فقد كان يردد لزواره في مجلسه قوله "لقد قضي علينا في آخر العمر أن نكون تحت علم إسرائيل بعد العلم العثماني.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.." ولعله لا يدري وهو في مضجعه اليوم، رحمه الله أن فلسطين كلها لا عكا فحسب يرفرف عليها العلم الإسرائيلي.
... واندلعت نيران الغضب إلى سائر أنحاء الوطن العربي والعالم الإسلامي، فنشبت موجة عارمة من الاحتجاج والاستنكار- من الهيئات الوطنية والمجالس النيابية والمنظمات الشعبية والحكومات ... وكذلك من الملوك والأمراء الذين رأوا في تقرير اللجنة - الملكية صفعة على وجوههم أمام شعوبهم.
... وعلى الصعيد الدولي انبرى توفيق السويدي مندوب العراق وواصف غالي مندوب مصر، فعرضا قضية فلسطين أمام عصبة الأمم في جنيف عرضا قويا ونددا بالتقسيم،وطالبا بعدم الموافقة عليه.
... وتداعت الشخصيات العربية في الوطن العربي إلى مؤتمر قومي يعقد في بلودان لمقاومة التقسيم وتأييد مطالب الشعب الفلسطيني، وقد انعقد المؤتمر في 8 أيلول 1937. وكان شامخا شموخ قمم بلودان في الروح القومية التي تجلت في جلساته من البداية إلى النهاية.
... ورأس المؤتمر ناجي السويدي فأبدى براعة وحصافة في توجيه المناقشات الوجهة الصحيحة، وقد اشترك في هذا المؤتمر كل رجالات(1/306)
العروبة من المشرق والمغرب، وانقسم إلى عدة لجان قدمت دراسات وتوصيات قيمة. وقد اشتركت في المؤتمر وكنت عضوا في لجنة الإعلام والتوعية وكان من رفاقي فيها الدكتور ناظم القدسي، " رئيس الجمهورية السورية فيما بعد" والدكتور فريد زين الدين" نائب وزير خارجية الجمهورية العربية المتحدة" وعدد من المثقفين السوريين والعراقيين واللبنانيين.
... وكان لهذا المؤتمر أثر عظيم داخل فلسطين وخارجها وتجسد في قراراته التضامن العربي للدفاع عن فلسطين والذود عن عروبتها.
... وكان مؤتمر بلودان عام 1937 خيرا من مؤتمر بلودان الرسمي الذي عقد بعد ذلك بتسع سنوات- 1946- وخرجت عنه "المقررات السرية" وأصبحت سخرية الندوات وتفكهة المجالس.. إلى يومنا هذا.
... وشق الشعب طريقه مسوقا بفطرته وتدبيره. فقد استنفد وسائل الاحتجاج والاستنكار، واستشعر بوادر التأييد العاطفي تنهال عليه من العالمين العربي والإسلامي ، بألوف البرقيات والرسائل، ومئات الاجتماعات وعشرات المظاهرات. ولكنه رأى أن يأخذ بزمام النضال المسلح بين يديه، قدر الوسائل التي يملكها، ولم يكن يملك من وسائل النضال إلاّ النزر اليسير.. وما غنمه من العدو في المعارك الماضية.
... ومن غير أن يكون للجنة العربية العليا يد من قريب أو بعيد، تداعى المجاهدون من عصبة القسام وغيرهم، وتشاوروا فيما بينهم وتعاهدوا على النضال، فقد أيقنوا أن العمل السياسي فاشل لا محالة إذا لم تدعمه قوة السلاح، و أيقنوا كذلك أن النضال المسلح يجب أن يبدأه شعب فلسطين وعلى أرض فلسطين..و أيقنوا أخيراً لا آخراً أن اللجنة العربية العليا، شأنها يوم(1/307)
أُنشئت، تقاد ولاتقود، مدفوعة غير دافعة، ولا بد أن توضع أمام الواقع، لتخرج من المكاتب والدوائر إلى الميدان- ميدان الشعب والنضال.
... ذلك ما حدثني به "الإخوان" من القساميين، حين جاؤوني ليلا إلى بيتي. فقد كانت لي صلة حسنة بعدد منهم، ثم توطدت يوم توليت الدفاع عن رفاقهم الذين وقعوا أسرى بيد السلطة البريطانية في أعقاب معركة أحراش يعبد في قضاء جنين.
... ولم يكن هؤلاء الإخوان من المثقفين، العارفين بالأمور السياسية ومضاعفاتها سواء في الوطن العربي أو في العالم الدولي، ولكنهم كانوا عصبة مؤمنة، وقد أدركوا بفطرتهم السليمة أن فريضة الجهاد قد آن أوانها واقترب موعدها، وأنّ الجهاد ليس في حاجة إلى "ترخيص" أو مشورة من اللجنة العربية العليا أو من الملوك والأمراء.
... وكان الأمر كذلك. فقد هبَّ "الإخوان" القساميون إلى كهوفهم ومغاورهم ينبشون ما طمروا من السلاح والعتاد يوم وقف الإضراب والثورة.
وتنادى المجاهدون الأبطال من شعب فلسطين البطل:
... هيا يا رجال إلى السلاح.
وما هي إلاّ أيام، حتى كان شعبنا كله تحت السلاح ...(1/308)
افرجها علينا يا رب..
حتى نلتحق بالثورة
... انتصف العام- 1937- و إذ بالعصابات المسلحة من رفاق القسام وغيرهم منتشرة في البلاد تقوم بعمليات عسكرية جريئة ضد السلطات البريطانية. فعهد إلى "الجنرال ويفل" المعروف بتجاربه الشهيرة في مقاومة الثورات بأن يتولى جميع المسؤوليات العسكرية بدلا من الجنرال "ديل" الذي أخفق في مكافحة إضراب الستة أشهر والثورة التي رافقته.
... وجاء شهر أيلول- 1937- فانفجر الموقف، وانفجرت معه السلطة البريطانية بكل إجراءات الطوارئ، وذلك أن أربعة من القساميين قد ترصدوا للمستر أندروز حاكم لواء الجليل فأطلقوا عليه الرصاص وأردوه قتيلا، ومعه مرافقه العسكري، دون أن يرسل صرخة واحدة.
... ولقد جن جنون السلطة البريطانية، فأعلنت حل اللجنة العربية العليا واللجان القومية، وعزلت الحاج أمين الحسيني من جميع مناصبه في المجلس الإسلامي الأعلى والأوقاف الاسلامية، واعتقلت أعضاء اللجنة العربية العليا: أحمد حلمي باشا والدكتور حسين الخالدي ورشيد الحاج إبراهيم ويعقوب الغصين وفؤاد سابا، ونقلوا على باخرة بريطانية إلى جزر سيشل، وواصلت اجراءاتها فقبضت على المئات من رجالات البلاد واحتجزتهم في معسكر في ضاحية عكا، عرف فيما بعد بمعتقل المزرعة.(1/309)
... وقد سُرّ خصوم الحاج أمين "بخلعه" من جميع مناصبه وسلطاته التي كان يحاربهم بها حربا لا هوادة فيها.. وقد سررت معهم ولكن لسبب آخر، ذلك أن القضية الوطنية ستجد قائدها متحررا من ارتباطاته بالحكومة البريطانية.. فقد كان الحاج أمين حتى ذلك الوقت حريصا على أن يقود الحركة الوطنية، ولكن من مكتبه في المجلس الإسلامي الاعلى. وكنت أتمنى له وللقضية أن يقودها مع الشعب، بعيدا عن اية صلة بالمندوب السامي البريطاني وأعوانه.. وأن يقودنا جهارا في عداء سافر لبريطانيا، لا للصهيونية فحسب كما كان يفعل طيلة الوقت.
... وكان رجال الأمن يبحثون عن ثلاثة: الحاج أمين الحسيني وجمال الحسيني وأحمد الشقيري ليضموّهم إلى قافلة المبعدين إلى سيشل.
... وقد اعتصم الحاج أمين في الحرم الشريف في بيت المقدس بضعة أيام، ثم غافل السلطة البريطانية وهرب إلى لبنان في قارب صغير، ليقود الحركة الوطنية طيلة أيام الثورة.. وفعل فعله جمال الحسيني فهرب إلى لبنان ليصبح قريبا من الحاج أمين الحسيني.أمّا أنا فقد اختفيت بعض الوقت، وقدرت أنني أستطيع أن أموِّه على رجال الامن العام، فهربت إلى القدس ولجأت بضعة أيام في بيت المحامي عمر الصالح البرغوثي، ثم رأيت أن أنتقل إلى بيت المحامي مغنم في حي الطالبية، حيث لا يمكن أن يخطر ببال البوليس أن ألجأ إلى هذا الحي الارستقراطي.. وفي بيت محام كبير، كان لا يزال يحمل الجنسية الأمريكية.(1/310)
... وقضيت عشرة أيام في "ضيافة" مغنم وأسرته، وأنا أراقب تطورات الأحداث في صميم "العاصمة"، والبوليس يبحث عني في عكا، وفي مدن الشمال وقراها، وقريبا من معابر البلاد ومخارجها.
... وكانت السيدة مغنم تعنى بالامر عناية بالغة، وتتولى بنفسها فتح الباب كلما دق الجرس خشية أن يكون البوليس قد علم بأمري ... والسيدة مغنم تجيد الإنجليزية الأمريكية كزوجها، وكان لها نشاط بارز في ميدان الدعاية وفي الميدان النسائي.
... واستقر رأيي أن ألجأ إلى مصر واتخذها مركزا لنشاطي، وأن أكون على اتصال بالحاج أمين في لبنان، وبهذا لا ينحصر جهدنا كله في بلد واحد. وحملت السيدة مغنم جواز سفري "الفلسطيني" إلى القنصلية المصرية في القدس وكانت في حي الطالبية نفسه، ولم تغادر القنصلية قبل أن تحصل على تأشيرة دخول- من غير استئذان من وزارة الداخلية في مصر. وكان الحصول على تأشيره الدخول لمصر دونه خرط القتاد..
... وكنت قد أطلقت لحيتي وأصبحت جاهزا للسفر، ولبست قبعة الأستاذ مغنم ووضعت نظارة على عيني، وخرجت من دار مغنم "خواجا" لا يستطيع أحد أن يتعرف شخصيته أو هويته، ولقد اخترت أن يكون سفري في يوم أحد، حين يحرص الإنجليز على الراحة والصلاة، فركبت قطار القدس إلى اللد. لأركب منها القطار المتجه إلى مصر.
... وأفلحت الخطة تماما.. وقد وصلت اللد ومنها أخذت قطار القاهرة، وكنت كلما أجتاز محطة فلسطينية أتنفس الصعداء، وأحسب أن القاهرة قد أصبحت قاب قوسين أو ادنى.(1/311)
... وتجاوزنا غزة، وتناول ضابط المهاجرة الفلسطيني جواز سفري وختم عليه ... وواصلت سفري حتى وصلنا إلى محطة دير البلح، وأنا أُطمئن نفسي أني قد نجوت، وما هي إلاّ محطة أخرى وأصبح على الأرض المصرية وتحت السيادة المصرية!!
... وطال وقوف القطار في محطة دير البلح.. ولا يتوقف فيها عادة إلاّ خمس دقائق.. فمددت رأسي وقبعتي من النافذة و إذا ببضع سيارات عسكرية واقفة في فناء المحطة، ولم تخامرني الريبة فقد كنت على يقين أني نجوت.. وانتهى..
... وبينما كنت أراجع نفسي وأفكر، وأحسب وأقدر، وإذا "بالميجر هارنجتون" من كبار رجال الأمن البريطانيين، يدخل على غرفتي في القطار، وهو يقول بعنجهية بريطانية: يا مستر شقيري، تعال نشرب الشاي معا في غزة.
... فلم أنبس ببنت شفة، وحملت حقيبتي ونزلت معه من القطار، وركبت السيارة، "وركَّب" الجنود القيد في يدي، ومضينا ننهب الرياح إلى غزة، وتجري الرياح بما لا تشتهي السفن.
... وصلنا إلى غزة، والميجورهارنجتون لا يكلمني قليلا ولا كثيرا، وكنا على معرفة وطيدة حين كان يعمل في الشمال والتقى بي كثيرا في المحاكم ... وأصبح الآن لا يعرفني.
... ووقفت بنا السيارة عند سجن غزة. ولم أكن قد عرفت غزة قبل ذلك. ودخلت السجن وتقدم أحد الجنود ففك القيد من يدي. وانصرف هارنجتون(1/312)
ومن معه، واستلمني ضابط السجن محمد الجاعوني وأخذني إلى زنزانة يطل بابها الحديدي على ساحة السجن.
... وكان الجاعوني لطيفا معي، وتمنى أن لو كان سجينا بدلا عني، وكانت هذه روح جميع الموظفين العرب في حكومة فلسطين، مدنيين أو عسكريين.
... وجاءني الضابط الجاعوني قبيل المساء وفتح الباب، خلافا للتعليمات، وخرج بي إلى ساحة السجن لأتنفس قليلا من الهواء ... ووجدت حلقة من السجناء يفترشون الأرض فجلست معهم ... وفي حياتي في المحاماة توطدت صلاتي "الروحية" بالسجناء المجرمين منهم والأبرياء.
... وكان هؤلاء السجناء يقضون مدة "محكوميتهم"، بعضهم سنة وبعضهم خمسا وبعضهم سبعا، وكانوا مجرمين حقاً، أدينوا في جرائم النهب والسلب، أو محاولة القتل أو ما شابه ذلك.
... ودار الحديث بيننا عن الحركة الوطنية والاجراءات العسكرية التي أقدمت عليها الحكومة البريطانية في مكافحة الثورة،وكانت عند السجناء معلومات تفصيلية عنها، فالحراس المناوبون الفلسطينيون كان همهم أن يخبروا السجناء بالأحداث اليومية، قبل أن يقولوا لهم صباح الخير.
... وسادنا الصمت قليلا من الوقت، وأطرقت إلى الأرض وأنا أفكر في المغامرة الفاشلة التي قمت بها، وانتهت بي إلى سجن غزة مع اللصوص والقتلة.. ورفعت رأسي لأستمع إلى المؤذن من جامع قريب، وهو يرتل بصوت جميل: الله أكبر الله أكبر.(1/313)
... وكانت ساعة صفاء الروح، ووقع الأذان من نفسي موقعا رائعا، وكأني لم أسمع في حياتي أبدع ولا أروع من هذا الأذان في ذلك المساء، وأنا الذي ربيت وترعرعت في الأحياء القديمة على صدى الأذان، ورجع التهليل والتكبير. ونهضنا جميعاً، وتوضأنا، وفي تلك الساحة المكشوفة ليس بينها وبين الله حجاب، وقفنا للصلاة، ودفعني السجناء إلى الأمام، فصليت فيهم إماما.. وكانت إمامتي الأولى والأخيرة في حياتي ... وفرغنا من الصلاة، ودعونا الله، كل بما يشاء، وصاح أحدهم من خلفي وهو يدعو: يا رب افرجها علينا حتى نلتحق بالثورة.
... وهنالك ازداد إيماني بهذا الشعب الباسل وقلت في نفسي: يا رب، لم هذا البلاء العظيم على هذا الشعب العظيم؟
... وتفرقنا بعد الصلاة، السجناء إلى "الكاووش" حيث يبيتون، وأنا إلى زنزانتي. ففرشت "البطانية" على الأرض وتوسدت حقيبة ملابسي واستغرقت في نوم عميق لا عهد لي به منذ زمان طويل، فقد سكنت كل مخاوفي وأصبحت في السجن.. ولم أعد أخشى شيئاً، "فإن الذين تخشين قد وقعا".
... وانتشر خبر اعتقالي في غزة بسرعة البرق- ويكفي أن تضع "السر" في أذن الحراس الفلسطينيين المناوبين حتى يفشوه قبل أن يرتد إليك طرفك.. ووجدت في زنزانتي طعام الفطور مرسلاً إليّ من بيت فهمي الحسيني من الوطنيين والمحامين المعروفين في غزة، وكذلك جاءني طعام الغداء وطعام العشاء.
... وكان الطعام شّهياً، فليس لي ما أفعله في السجن إلاّ الأكل، وزاد من لذته أنه كان "مفلفلاً" بكمية كبيرة، على عادة أهل غزة في طعامهم، وأحسست(1/314)
في اليوم الثاني بلاء الفلفل في معدتي وأمعائي.. فدفعت بورقة صغيرة إلى فهمي الحسيني أرجوه أن يتلطفوا بالفلفل، فإن السجن يكفي.. عناء وعقابا..
... وقضيت في سجن غزة خمسة أيام وأنا لا أدري ماذا سيصير إليه أمري، وجاءني الضابط الجاعوني وأسّر في أذني: أحمد الله، فقد قبضوا عليك بعد أن أقلعت المدمرة البريطانية من مياه حيفا وعليها المبعدون إلى سيشل: حلمي باشا ورفقاه، وكان مقررا أن تكون معهم..
... وقلت للأخ الجاعوني وماذا بعد ذلك، هل سأظل في سجن غزة وما هو مصيري؟ فقال لا أدري..
... ولم يكن الضابط الجاعوني يدري حقا، فلم تكن السلطة البريطانية تأتمن الموظفين العرب على أسرارها ... . وهذا ما كان فعلا.. فقد نمت تلك الليلة في غرفتي كعادتي، ليس في ذهني شيء، فقد طرحت كل هواجس خارج السجن، والسجن والموت إحدى الراحتين.
... وفي الهزيع الأخير من الليل استيقظت على الجندي البريطاني وهو يفتح باب الزنزانة، في جلبة وقعقعة، فركلني برجله وهو يدعوني إلى النهوض بألفاظ "العساكر" البذيئة ...
... ارتديت ملابسي كيفما اتفق، وحملت حقيبتي وأنا لا أدري إلى أين. وسارت بنا سيارة عسكرية إلى القطار يقلني إلى حيفا، ولست أدري بعد ذلك إلى أين.
... وفي غرفة صغيرة في القطار، تحت السلاح الكامل، قضيت خمس ساعات لا يجرؤ أحد أن يكلمني وأنا أستمع إلى "الركاب" وهم يقولون: الشقيري اعتقلوه.(1/315)
... وكان يجلس إلى جانبي جندي فلسطيني برتبة جاويش، فخطر لي تسلية واستطلاعا أن اسأله كيف قبض علي في دير البلح، وكيف عرفت السلطة بي، مع أني احكمت خطتي كل الإحكام؟ فقال لي الجاويش الفلسطيني إنها الصدفة ولولاها لنجوت.
قلت: وكيف ذلك؟.
... قال: في ذلك اليوم كان الجاويش البريطاني "ماكريكر" يستقل القطار معك، منقولا من عكا إلى غزة، وهذا الشاويش يعرفك معرفة جيدة،وقد رآك في القطار فاتصل بدائرة الأمن العام، ولحقوا بك في محطة دير البلح.
... فقلت: لا بأس، وكم من صدفة شر من ميعاد
... ووصلنا إلى حيفا، وكانت سيارة عسكرية تنتظرني في ساحة المحطة، وفي نصف ساعة أصبحت في سجن عكا، في غرفة صغيرة عند مدخل الباب الرئيسي، فتنفست الصعداء أن إبعادي إلى سيشل لم يعد واردا، وحمدت الله أنني في سجن عكا، حيث أعرف مديره "الكابتن جرانت" معرفة وطيدة أثناء عملي في المحاماة وزياراتي المتعددة للحبس للاجتماع بالموقوفين الموكلين.
... وبينما كنت أروح وأغدو في غرفة السجن، و إذا بصديقنا الكابتن جرانت يدخل علي بعجرفة طاغية، ويتقدم إليّ وهو يسأل: من أنت؟ وما اسمك؟.. وكدت لا أصدق عيني وأذني، هو الكابتن جرانت الذي يتجاهلني ويصيح في وجهي ثم يسأل عن اسمي؟..(1/316)
... فهدأت من روعي على مضض، وأنا الآن في قبضة السجان وقلت له مبتسما: أنا المحامي أحمد الشقيري من مدينة عكا. فحملق بي الكابتن جرانت من وراء نظارته، ثم خرج من الغرفة لا يقول شيئاً.
... ومضت ساعة من الزمن و إذا بصديقنا الكابتن جرانت يقتحم علي غرفتي مرة ثانية، وكأنما يقود حملة عسكرية ظافرة وهو يصيح: من الذي يدخن هنا؟ هل أنت الذي يدخن هنا؟ ألا تعلم أن أنظمة السجن تمنع التدخين؟ وأيقنت ان "الكابتن جرانت" يريد أن يستدرجني إلى الشر، حتى يتسنى له تطبيق أنظمة السجن الصارمة، فقلت له في هدوء أنا لا أدخن، ولم أذق طعم التدخين في حياتي ... فخرج من الغرفة وكأنما أسقط في يده ... . ومع ذلك فقد ظل الغدر ينتظرني ...
... وعند الظهيرة، نقلت إلى داخل السجن إلى جناح المجرمين، إلى" كاووش" فيه ما يقرب من ثلاثين من القتلة واللصوص وأصحاب السوابق الرهيبة،ودفعني الجندي البريطاني إلى "داخل الكاووش" ولو لم يتلقفني السجناء لهويت إلى الأرض على أم رأسي.
... وقضيت في هذا "الكاووش" عشرين يوما مع "زملائي" السجناء، لا نخرج إلاّ فترات قصيرة إلى ساحة السجن التماسا للهواء والشمس ... أمّا باقي النهار والليل ففي هذا الكاووش كتفا إلى كتف مع "إخوان الصفا والوفا"، من القتلة واللصوص.
... أقول إخوان "الصفا والوفا" لأنهم والحق جعلوا أيامي صفاء أيما صفاء، بما كانوا يبذلون لي من كريم الرعاية والعناية.. فقد هيأوا لي مكانا أبيت فيه بجانب الباب ... حتى لا أختنق في أنفاسهم، ثم أعفوني من دوري(1/317)
في تنظيف الغرفة وحمل "كردل" القاذورات وإلقائه في المرحاض، وعلى الجملة فقد جعلوني سجينا ممتازا مرفها بكل معنى الكلمة.
... وكانت أخبار البلاد تصل إلينا تباعا عن طريق الحراس الفلطسينيين الذين كانوا يهمسون إلينا بالأخبار من وراء القضبان، والسرور يملأ "وجوههم" اليوم ضربت أنابيب البترول- اليوم هاجم الثوار قافلة بريطانية وأبادوها- اليوم نسفت الخطوط الحديدية من طولكرم إلى اللد- وهكذا..
... وكانت تصل إلينا هذه الأخبار فنجلس في "الكاووش" في حلقة فيسألوني عن القضية الوطنية وشؤونها، ثم تنتهي هذه "الندوة" الحلوة، وهم يرددون الدعاء الذي سمعته قبل أيام في سجن غزة.. يا رب افرجها علينا حتى نلتحق بالثورة ... ـ وأنا أقول في نفسي: يا رب، ما أعظم هذا الشعب العظيم.
... ووصلت أخبار اعتقالي في السجن إلى أهل عكا، وهم قومي وعشيرتي، فبلغ الاستياء والسخط مبلغه، وتساءل الناس لماذا يكون الشقيري في السجن مع المجرمين، وجميع المعتقلين الوطنيين موجودون في معتقل المزرعة في ضاحية عكا، حيث يعاملون معاملة المعتقلين السياسيين؟
... وازداد القلق والاضطراب لهذا الظلم السافر من غير داع ولا مبرر ... فتألف وفد من أعيان المدينة وشبابها برئاسة حسني خليفة رئيس البلدية واجتمعوا إلى الحاكم البريطاني، محتجين مستنكرين، وطالبوا بنقلي من السجن إلى المعتقل، فأوضح لهم الحاكم البريطاني أن هذه تعليمات من القدس، وسيجري الاتصال اللازم ويأمل الاستجابة لمطالبهم.(1/318)
... ومضى أسبوع على ذلك، وبينما كنت مع الزملاء السجناء في حلقتنا اليومية نتداول الأخبار، و إذا بضابط السجن يفتح علينا الباب ويقول: الشقيري تفضل.. وصاح السجناء: إفراج، إفراج.. فقال الضابط لا ... إلى معتقل المزرعة..
... وأعددت حقيبتي، وهي على الدوام وسادتي، وأقبل عليّ السجناء مودعين وفي عيونهم دموع الوفاء، فكانوا حقا إخوان الصفا والوفا.
... وانطلقت بي سيارة السجن، إلى معتقل المزرعة في ضاحية عكا، وما أن انتشر الخبر بين المعتقلين حتى تجمعوا عند الباب وراء الأسلاك الشائكة، فدخلت إليهم.
... وكانت مظاهرة وطنية كبرى، حملني الشباب على الأكتاف وطافوا بي في ساحات المعتقل في الهواء الطلق وهم يهتفون "أهلا وسهلا "باللي" طل، بالشقيري حبيب الكل" ولم أكن أستحق هذه المظاهرة وهذا الهتاف، ولكن المعتقلين أرادوها نكالة بالجنود البريطانيين وهم يقفون حول المعسكر شاكي السلاح ... فكانت كما أرادوا ...
... وكذلك هنا، التقيت بإخوان الصفا والوفا، فقد كانت فلسطين كلها في المعتقل ... ويا روعة تلك الأيام..ويا حسرة هذه الايام..
... وللحديث شؤون وشجون.. في المعتقلات وفي السجون.(1/319)
ليتني متّ قبل هذا..
وكنت نسياً منسياً
... دخلت معتقل المزرعة فلم أجد فارقا بين الحرية والاعتقال إلاّ بهذه الأسلاك الشائكة تحيط بنا حتى ساحل البحر، فقد كانت فلسطين كلها في المعتقل.
... وفي هذا القول تجاوز على الحقيقة من حيث العدد، ليس إلا، فلم يكن الشعب كله بأفراده في هذا المعتقل، ولكنّ أعيان البلاد، وشبابها، وأعضاء لجانها القومية، وممثلي المدن والقرى، وقضاتها وعلماءها،ورجال طوائفها- كل هؤلاء كانوا في معتقل المزرعة، ساقتهم السلطة البريطانية من مدنهم وقراهم وحشدتهم في هذا "المعسكر" لا يجاوره إلاّ البحر الأبيض المتوسط.
... وكان معتقل المزرعة مؤلفا من بضعة عشر "عنبرا"، وسقفه وجدرانه من الخشب، مبنية إلى جانب بعضها بعضا على الرمل، وبين بعضها البعض شوارع ومعابر، حتى غدا المكان مدينة صغيرة، يقيم فيها هذا "العالم الصغير" من الشعب الفلسطيني.
... وقد أقمت في واحد من هذه العنابر، وقد شاءت العصبية الإقليمية أن أكون في "عنبر" كل من فيه من عكا وقراها، فاحتفوا بي، وأكرموني ... ، ولست أدري كيف دبروا لي فرشة نعمت بها طيلة اعتقالي.(1/320)
... ولم تكن حياة المعتقل قاسية بصورة عامة، وإن كانت الحياة بدائية فيه إلى أقصى الحدود، فقد كنا في "العنبر" الواحد قرابة مئة، وننام ممدين، الواحد في وجه الاخر ... ننام في وقت واحد ونستيقظ في وقت واحد، ونجلس القرفصاء في الصباح ليمر علينا الضابط البريطاني وبيده عصاه يلكزنا بها على أكتافنا وهو يعدنا واحدا واحدا، حتى إذا بلغ النهاية، ولم يجد نقصانا، قال بالعربية وفي لكنة بريطانية "تمام" ...
... ولم يكن في المعتقل ما يشغلنا سوى المطالعة،- مطالعة الكتب- فالجرائد كانت ممنوعة، والتدخين كان ممنوعا، ولذلك فقد كنا نجلس حلقات نتحدث عن أمورنا..
... وفي يوم الجمعة كانت السلطة تسمح للأقرباء والأصدقاء بزيارة المعتقلين من وراء الأسلاك، فكنا نقف صفا طويلا وأمامنا صف طويل من الزوار، فتتعالى الأصوات وتختلط الأحاديث وليس فيها شيء عن الأهل والأولاد، بل كلها أخبار عن الثورة: المجاهدون ضربوا معسكرات العدو، هاجموا المستعمرات اليهودية في الجليل، أزالوا قضبان السكك الحديدية لعدة كيلومترات، فجروا عدة قنابل في قلب تل أبيب، أشعلوا النار في أنابيب البترول وألسنة اللهب تضيء القرى المجاورة، الإنجليز نسفوا دار رافع الفاهوم بالديناميت، قبضوا على الشيخ فرحان السعدي وحاكموه وأعدموه ... وما شاكل ذلك من أنباء الثورة مما يملأ المجلدات.
... ولا ينقضي يوم جمعة حتى ننتظر الجمعة المقبلة. وما يحمل زوارنا من أخبار الجهاد، وقد انتشر في كل أنحاء البلاد، وتزداد مع هذه الأخبار أفواج المعتقلين يتوافدون علينا يوما بعد يوم، ويئن المعتقل: هل من مزيد؟(1/321)
... ولم تكن حياة المعتقل تخلو من التندر، والفراغ أبو النوادر.
... فهذا الشيخ أديب الخالدي مفتي جنين، وكان صاحب نكتة، حلو الحديث، يروي لإخوانه أنه رأى في منامه أن السلطة البريطانية قد نقلت المعتقلين إلى الهند، وانه تزوج في الهند، الثالثة أوالرابعة، لم أعد أذكر.
... وهذا صبحي الخضراء( صفد) صاحب القامة الطويلة والجسد المتكامل، يقضي وقته وهو يرفع يديه ويمد رجليه في رياضة شاقة، فيمازحه أحد أصدقائه ويقول له: هل تطمح أن تصبح أطول مما أنت؟
... وهذا إبراهيم درويش- القدس- يطوف على العنابر وقت الغداء ليأكل هنا وهناك وهو يقول : قبح الله (عوض) إنه لم يرسل إليّ الطعام.
... وكان إلياس عوض صاحب مطعم في عكا أوشك على الإفلاس أيام الإضراب الكبير، فلما اكتظ معتقل المزرعة أقبلت عليه الدنيا، وأصبح يقدم الطعام للمعتقلين مشاهرة (1) ، وعوّض الله على عوض كل خسائره السابقة- ومصائب قوم عند قوم فوائد.
... وطالت إقامتنا في معتقل المزرعة فقد انتهى الخريف وأقبل الشتاء يحمل معه شعور الضجر والملل، وبدا لنا أن نتصل ببعض قادة الثورة لنقترح عليهم أن يهاجموا المعتقل، ويحملونا معهم، كل لما يصلح له، وكان بيننا بعض القساميين فاتصلوا بإخوانهم في الخارج ليحكموا الخطة.
... وشاءت صدفة أن تحول دون ذلك، فقد عسكرت بجانبنا مفرزة بريطانية ولم يعد ممكنا أن تنفذ الخطة، فإن المغامرة في مثل تلك الظروف
__________
(1) * مشاهرة: أي شهرياً مقابل مبلغ متفق عليه.(1/322)
تؤدي حتما إلى إطلاق سراحنا، ولكن جثثا هامدة تسلم إلى أهلينا ومنهم إلى المقابر.
... ولقد تمنيت وأنا أكتب اليوم هذه المذكرات، أن لو حدثت المغامرة وهلكنا جميعا في عام 1937، وان لا نكون قد عشنا هذه الثلاثين سنة لنشهد العار والنكبة في الخامس من حزيران من عام 1967- ليتنا هلكنا قبل ذلك. ليتنا ... ولا يزال على قيد الحياة كثيرون من أبناء فلسطين الذين ضمهم معتقل المزرعة، ويقيني أن كل واحد منهم يردد الآن قول الله تعالى( يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا).
... وأقبل الربيع والثورة تزداد شدة واتساعا، والمجاهدون يستبسلون في كل مكان، وينزلون الرعب في قلوب القوات البريطانية، وأدركت السلطة أنّ" أسلوب" الاعتقال لم يعد مجديا، فأخذت تفرج عن المعتقلين فوجا فوجا.
... وجاء دوري بين أفواج المسرحين، وخرجت من المعتقل إلى بيتي وبينهما بضعة كيلو مترات، وزارني في بيتي في اليوم التالي حسن الكاتب مدير البوليس- (أحد وزراء الحكومة الأردنية، فيما بعد) وطلب إليّ بناء على التعليمات العليا أن ألتزم الهدوء والسكينة وأن لا أقوم بأي نشاط.
... ومضت بضعة أيام تلقيت بعدها دعوة لمقابلة المستر كيركبرايد حاكم لواء الجليل في الناصرة، وذهبت في الموعد المحدد إلى سراي المسكوبية، و إذا بي أجدها مملوءة بالأعيان والوجهاء من جميع أنحاء لواء الجليل ومعهم عدد من الذين أفرج عنهم أخيرا.(1/323)
... ودخلنا على الحاكم البريطاني فألقى علينا بيانا مكتوبا، كله تهديد ووعيد بنسف المدن وتدمير القرى وفرض الغرامات الباهظة وو ... وو.. إذا لم تتوقف الثورة وأمهلنا ساعة لنعطيه الجواب ... !!
... ولم يكن الأمر في حاجة إلى هذه المهلة، فقد كان كل شيء واضحا في أذهاننا. هذه ثورة شعبية تسعى لتحقيق مطالب وطنية ولا سبيل لوقفها قبل أن تتحقق مطالب الشعب، كان ذلك هوموقفنا، وقد أنابني المجتمعون أن أتكلم بلسانهم في هذا الإطار.
... وعاد الحاكم البريطاني إلينا، فتحدثت إليه بما اتفقنا عليه، شارحا تاريخ الكفاح الوطني وثوراته في 20 و29 و1936 وأنّ الشعب سيظل ماضيا في كفاحه الوطني حتى تتحقق آماله القومية، شأنه في ذلك شأن الشعوب العربية، من حوله.
... وما أن انتهيت من حديثي، حتى أخذ الحاكم البريطاني، وكان يحسن العربية، يوجه سؤاله إلى الحاضرين واحدا واحدا، ما رأيك يا رئيس البلدية؟ ما رأيك يا حضرة المختار؟ ما رأيك يا فلان؟ ...
... وكان جواب الجميع: أن ما قاله الشقيري يعبر عن رأينا، وأنّ رأينا هو رأي الشعب، ونحن لا نملك أن نوقف ثورة الشعب.
... وبدا أن الحاكم البريطاني يكظم غيظه، فصمت وانتهت الجلسة،وذهبنا جميعا إلى دار يوسف الفاهوم لتناول الغداء، وللمداولة في الموقف.
... وإنّا كذلك.. و إذا بالسيد جرجوره من كبار الموظفين في الناصرة يدخل علينا ثائراً، يجلس إلى جانبي ويهمس في أذني بكل رفق أن لا أسافر(1/324)
إلى عكا، فقد صدرت التعليمات بإلقاء القبض عليّ فور وصولي اليها، وأنّ علي أن أتدبرّ أمري.
... فتلقيت النبأ بسكينة وهدوء، وما أن انتهينا من الغداء والاجتماع حتى خرجت بسيارتي من الناصرة إلى طبريا ... لا إلى عكا.. وكنت بيَّت أمرا.. ومن طبريا واصلت سفري إلى سمخ ومنها إلى الحمّة، وكنت أثناء اعتقالي في الحمة خلال الاضراب، عرفت طريقا عسكريا يصل الحمّة بالقرى السورية، فيق وكفر حارب، ومنها إلى دمشق.
... وأخذت أتسلق الجبل من الحمّة، وكان الطريق وعرا، ولا يصلح إلاّ للسيارات العسكرية، وقبل أن أبلغ القمة توقفت السيارة وأصبح يستحيل مواصلة السير.. فعدت أدراجي إلى الحمّة وأنا لا أدري ما أصنع.. ... وفي اللحظات الحرجة تنفتح منابع الذاكرة، فتذكرت أن لي في تلك المنطقة صديقاً من موظفي الحكومة هو السيد روحي الخطيب (رئيس بلدية القدس فيما بعد)، اتصلت به، فكان حصيفا وجريئاً، فرتب أمر سفري بالقطار من الحمّة إلى دمشق من غير جواز سفر، وظللت أذكر له تلك المكرمة كلما لقيته في القدس الخالدة.
... وصلت إلى دمشق، إلى أوتيل اوريان بالاس وتناولت التلفون لأطلب رقم 30 عكا. وبعد ساعتين كانت زوجتي على التلفون ... وأنا أقول لها: أبو مازن يكلمك ، الحمد لله أنا بخير وعافية.. لقد وصلت إلى دمشق وسأكتب إليك قريبا.. ولقد كانت مفاجأة لزوجتي أن أكلّمها من دمشق وهي تحسب اني أكلّمها من الناصرة، ولكن حياتنا في فلسطين كانت كلها مفاجآت حتى باتت(1/325)
المفاجأة هي الأصل، هي طبيعة الأمور، وأصبحت طبيعة الأمور هي المفاجأة.
... وبدأت صفحة جديدة من حياتي في سوريا ولبنان، أساهم خلالها بقسط متواضع في خدمة الثورة، ثورة الشعب، إلى جانب إخواني العاملين.
ولكل حادث حديث.(1/326)
الثورة، الثورة وحدها..
... قضيت بضعة أيام في دمشق، بعد هروبي من فلسطين، اجتمعت خلالها بعدد من العاملين الوطنيين منهم ]محمد[ عزة دروزة، معين الماضي وصبحي الخضراء وكانوا قد لجأوا إلى دمشق قبلي، وتداولنا الرأي فيما وصلت إليه أمور الثورة داخل البلاد وضرورة تنظيمها وتدعيمها مع الاهتمام بجوانبها السياسية والإعلامية، واقترح علي الإخوان أن أجعل بيروت مقرا لي على مقربة من الحاج أمين، فنتعاون ونعمل معا.
... وجئت إلى بيروت فسكنت في بيت متواضع في حي رأس النبع، فقد اعتذرت عن قبول أي راتب من صندوق الثورة، وكان عليّ أن أكون مقتصدا في الإنفاق حتى يحقق الله لنا النصر ونعود إلى البلاد.. ولا ينفد الرصيد المحدود الذي نعيش منه أنا وعائلتي.
... ولم أكن قد نفضت غبار السفر حتى بادرت لزيارة الحاج أمين الحسيني، وكان يقيم في قصر فخم في ذوق ميكائيل من ضواحي بيروت، وحوله عدد من البيوت استأجرها للاقرباء، اسحق درويش ومنيف الحسيني وسعد الدين عبد اللطيف، عدا الأعوان والأنصار.
... وقد استقبلني الحاج أمين استقبالا حارا، بالدموع والعناق، وكانت الصالة غاصة بالزوار، فكان حديثنا عاما عن شؤون البلاد، وخرجت دون أن أجد وقتا لكلمة جدية.(1/327)
... وانصرفت بكل ما لدي من جهد وطاقة في هذا المجال، أجتمع بالصحفيين الأجانب، وسفارات الدول الصديقة، أشرح تباعا تطورات القضية الفلطسينية وشؤون الثورة، وفيما يبقى لي من وقت بعد ذلك أكتب المقالات التوجيهية- في جريدة النهار- بيروت- اليوم، وكان السيد أحمد الإمام (من يافا) يستلم مني هذه المقالات- بقلم عربي- ويسلمها بدوره إلى الصحف العربية.
... ولكن مقالات "النهار" كنت أسلمها باليد إلى جبران التويني في مكتبه، فقد كنت أجلس في مقهى العجمي في بيروت، وكان مكتب النهار في ذلك الحي، وكنت إذا لمحت جبران التويني قادما إلى مكتبه، سرت معه، وسلمته المقالة، وهو يسلمها بدوره إلى الموظف المختص قائلا: على الصفحة الأولى، ثم يوجه إلي الكلام ليقول "قضية فلسطين لها المقام الأول"، فأعرب عن الشكر من جانبي، وأذكره بلقائنا القديم، على مقابر الشهداء في 6 أيار 1927- وانصرف عن هذه الذكريات ...
... ولقد لقيت في هذا العمل- بظروفه لا بطبيعته – عناء كبيرا، فإن التعاون مع الحاج أمين عسير للغاية إذا كان المرء يريد أن يعمل بنظام..
... وفي خلواتي الكثيرة بالحاج أمين كنت أدعوه إلى التنظيم، لا أطمع بأن أجعله على مستوى الوكالة اليهودية، ولكن ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.
... فقد كنت أذهب إليه، فأجد غرف القصر مشغولة كلها، جماعة هنا في هذه الغرفة، وجماعة هناك في تلك الغرفة، وهو ينتقل بلا كلل ولا ملل من غرفة إلى غرفة، يخلو بهذه الجماعة حينا، وبتلك الجماعة حينا آخر، ولا يدري بعضهم عن بعضهم شيئا ... وربما دخل هؤلاء وخرج أولئك من(1/328)
الأبواب الخلفية ... والحاج أمين يحسن اختيار البيوت التي تكثر مداخلها ومخارجها.
... وقد صارحته غير مرة أن قيادة الثورة تتطلب تنظيمها وأنّ الثورة ليست فوضى ولكنها نظام في ظل الثورة، وأنّ الكفاءات الكثيرة يجب الانتفاع بها، كل بما تصلح له.
... وصارحته كذلك أنه أصبح قائد الشعب بلا منازع، خصوصا بعد أن فعل به الإنجليز ما فعلوا، وأنّه ليس له أن يخشى منافسة أحد، وليس عليه إلاّ أن يحيط نفسه بالمخلصين من أبناء الشعب، بدلا من ذلك الجيش من الأعوان والأنصار، وما يتقاضون من رواتب، وليس لهم عمل إلاّ الجلوس في الصالون للتعقيب على الأحداث وتطييب المواقف، والإكثار من تمجيد سماحته ... وتعداد مناقب سماحته..
... وقد خطر لي أكثر من مرة أن أعتكف في بيتي، حين أخفق مسعاي في أن أحمل الحاج أمين على العمل الوطني المنظم ... ولكني لم أستطع إلى ذلك سبيلا، وقد كان شعبنا في البلاد يخوض معارك البطولة والشرف، ويتساقط الشهداء بالمئات، فليس لي أن أتقاعد واتقاعس.
... ولم تكن شكواي وحدي، فقد كان عدد من العاملين في الحقل الوطني يلحّون إلحاحي، ومنهم جمال الحسيني وموسى العلمي، بل كانوا أكثر مني تبرما وضجرا.
... ومع الوقت "ألفت" أسلوب الحاج أمين، وجعلت أعصابي في ثلاجة، فقد أيقنت أن الحاج أمين لا علاج له، فإما أن تعمل معه "بأسلوبه" أو لا تعمل. ولا وسط بينهما.(1/329)
... أجل، لقد ألفت هذا الأسلوب، لأنّ الثورة ضرورة قومية ولا بد لها من قائد.
... ولقد كان الحاج أمين هو ذلك القائد الذي صنعته ظروف متعددة، وسنون طويلة، وقد أصبح معبود الشعب، فلا مكان للتغيير ولا مكان.. للتبديل وهو فوق ذلك شجاع جسور، مخلص صلب، وفيه كثير من مؤهلات الزعامة ... وهكذا كنت أسلّي نفسي مرة، وأعزّي نفسي مرة، وأنا أعمل معه في بيروت ،ووالدي- خصمه اللدود- ينظر إليّ من عكا نظرة استهجان واستغراب.. غفر الله لي وله.
... وبهذا العزاء وهذا السلوان مضيت في عملي أعالج الأمور السياسية والإعلامية، وورائي فيض زاخر من أنباء الثورة، إذ أيّة قيمة للسياسة والإعلام إذا لم يكن وراءهما كفاح مسلح تتعاقب أخباره الليل والنهار.
... وكان ذلك العام- 1938 أحلى أعوام عمري، لأن أحلى أخبار الثورة كانت تصلني فأزداد نشاطا.. فلقد قام المجاهدون في ذلك العام ب5708 بين هجمة أو حملة أو عملية عسكرية، هذا حسب الاحصاءات الرسمية.
... ولقد شملت الثورة كل أنحاء البلاد، واستطاعت أن تمارس "سيادة" وطنية في جميع القرى وفي كثير من المدن، وبقيت القدس القديمة تحت سيطرة الثورة زمنا طويلا حتى جهز لها الإنكليز حملة عسكرية، واستقدموا لها قوات من مصر وإنجلترا.(1/330)
... وفي جنين استطاع نفر من المجاهدين أن يقتحموا سراي الحكومة ويقتلوا المستر موفات الحاكم البريطني، وهو وسط حراسة شديدة ثقيلة، وعاد "القاتل" سالما غانما.
... وفي بئر السبع اقتحم الثوار دور الحكومة وأشعلوا النار فيها وهاجموا السجن وأطلقوا سراح السجناء، وتوالت هجمات الثوار في طول البلاد وعرضها، وانتشرت محاكم الثورة في كل مكان ، وتعززت القوات البريطانية، وحل الجنرال هايننج محل الجنرال ويفل، وأنشأت قوات الجيش البريطاني سورا من الأسلاك الشائكة المكهربة يمتد على حدود البلاد من الشمال والشرق، لقطع المدد عن الثورة.
... هذه نماذج صغيرة عن الأحداث الكثيرة التي كانت تقع في البلاد، فتصل إليّ عن طريق الرسائل والرسل، فنطبع منها البيانات والكراسات، وندفع بها إلى السفارات وإلى وكالات الأنباء الاجنبية.
... وكان بعض قادة الثورة يصلون إلى بيروت في بعض شؤونهم، فأجتمع إليهم وأتداول وإياهم شؤون الكفاح المسلح وأخباره.
... وإنيّ لأذكر تلك الليلة التي جاءني فيها عبد الله سماره (طولكرم) وكان لاجئا في لبنان، ليقول لي أن معه ضيفا لا يطمئن إلاّ إذا بات عندي ... قلت مرحبا بك وبالضيف ادخلوا..
... وكان الضيف القائد الشجاع عبد الرحيم الحاج محمد (طولكرم) فدخل، وقضى عندنا ثلاث ليال وهو يروح ويغدو عند الحاج أمين، شاكيا متبرما، وأنا أقول له: إصبر وما صبرك إلاّ بالله.(1/331)
... وقد كنت أتردد كذلك على دمشق، وكانت مقر قادة الثورة،لأكون على صلة دائمة بالأحداث، وفي حي الميدان كنت التقي بالقائد خليل عيسى" أبوإبراهيم الكبير" وصحبه وأصحابي من القساميين، ونتناول الغداء معا على الحصيرة في منزله، ببساطة المؤمنين وتقشف المجاهدين، على غير ما كنت أرى من حال الزعماء الصغار من أعوان الحاج أمين، الذين كانوا يعيشون في بيوتهم من أموال الثورة والجهاد..
... وأخيرا ، وبعد أن عجزت الحكومة البريطانية، لجأت إلى أسلوبها التقليدي فأعلنت بأنها ألفت لجنة فنية" لجنة وودهد" لتبحث الإمكانات العملية لمشروع التقسيم، وقد وصلت هذه اللجنة إلى فلسطين في شهر نيسان 1938، واستمرت في عملها قرابة خمسة أشهر .
وقمنا في ذلك الوقت بحملة واسعة للتنديد بسياسة اللجان البريطانية ، ولم يكن تحت تصرفنا إذاعة ، ولكن بياناتنا كانت تصل إلى كل أرجاء البلاد ، فاشتدت الثورة ورأت اللجنة الفنية من بسالة شعبنا العجب العجاب ... وامتنع الشعب عن التعاون معها، ولم يتقدم إليها عربي واحد بكلمة واحدة.
... وعادت اللجنة الفنية إلى إنجلترا فأصدرت تقريرها في شهر تشرين ثاني سنة 1938 ومعه بيان بسياسة الحكومة البريطانية، يقول بعد سرد الاحصاءات والدراسات ... في" الصعوبات السياسية والإدارية والاقتصادية التي تتمثل في إقامة دولة يهودية، وأخرى عربية في فلسطين، عظيمة جدا بحيث تجعل مشروع التقسيم غير عملي ولا يمكن" تطبيقه".. ثم أعلن البيان السياسي أن بريطانيا ستدعو زعماء العرب واليهود إلى مؤتمر يعقد في لندن لبحث مستقبل فلسطين السياسي.(1/332)
... ولم تكن جديدة تلك الصعوبات السياسية والإدارية والاقتصادية التي جعلت بريطانيا تعدل عن مشروع التقسيم، بل لم تكن خافية على بريطانيا حتى جاءت اللجنة الفنية واكتشفتها بسحر ساحر، ولكن كان هناك سبب أعظم من الاحصاءات والدراسات: انه الثورة المسلحة وليس غيرها.
... الثورة، والثورة وحدها، هي التي تصنع الأمر الواقع، ماله من دافع.
... وإنّ الثورة، والثورة وحدها، في عام 1938 هي التي أحبطت التقسيم.
... لقد أحبط شعبنا التقسيم في 1938، ولكن ... ولكن بعد عشر سنوات، 1948 أخفقت سبع دول عربية في إحباط مشروع التقسيم..
وكان لذلك أسباب ... وأسباب..
وما أشقى مذكراتي حين ترويها..(1/333)
العرب والإنجليز واليهود..
اتفقوا على شيء واحد؟
... لقد وقع ما كنت أخشاه، فقد غاصت البلاد في بركة من الدماء، لا بالنسبة للكفاح المسلح بيننا وبين الصهيونية والاستعمار، فذلك أمر لا محيص عنه، والحرية لا تأتي رخيصة من غير ثمن، ولكن بالنسبة لحملات الاغتيالات والثارات التي وقعت في صفوفنا، فأجهضت ثورتنا المقدسة وألحقت بها عارا لا ينسى.
... وكانت الثورة في بدايتها انفجارا ذاتيا، يجهز المناضلون أنفسهم بأنفسهم، سلاحا وعتادا وتموينا، بأموالهم وبما يجمعونه من أهل المدن والقرى، حتى إذا اشتعلت الثورة أخذت اللجنة العربية بمساندتها من بيروت ودمشق.
... ثم اندست في صفوف الثورة عناصر متعددة الأهداف، بعضها للسلب والنهب فيبتزون الأموال باسم الثورة، وبعضها الآخر لإشباع الأحقاد وإرواء الخصومات فيغتالون الأبرياء، باسم الوطن- يا شقاء الوطن..
... وكانت دوافع الاغتيالات تتسم بالشعارات الرائجة، هذا جاسوس يعمل لحساب الإنجليز، وهذا سمسار بيع الأراضي لليهود، وهذا عدو الثورة، وذاك ... وذاك.(1/334)
... وسقط الكثير من الأبرياء، في المدن والقرى، وكثير من هؤلاء كانوا خصوم الحاج أمين، أو خصوم أعوانه وانصاره، كما سقط من يستحقون العقاب- ولكم في القصاص حياة يا أولي الالباب.
... وكنت كلما سقط واحد من الأبرياء، أبادر إلى قصر الحاج أمين، أحذره من عواقب الفوضى، وأثرها على مسيرة الثورة.. وكان على الدوام يعرب عن أسفه لهذه الأحداث..
... ولكني كنت أصارحه دوما أن الإعراب عن الأسف لا يكفي.. ثم أدعوه إلى تناسي الأحقاد والعمل على تماسك الوحدة الوطنية، وأن يؤلف قلوب المعارضين وخصومه السابقين، فقد أصبحت البلاد كلها شعبا واحدا، وضع كل طاقاته في الثورة، وأصبح كل فلسطيني في الميدان..
... وكان يسألني على الدوام ما العمل؟ وكنت على الدوام أجيبه:أنت زعيم البلاد وبيدك مقاليد الأمور، الأموال بين يديك والسلاح بين يديك، وتستطيع أن تمنع عمن تشاء وتعطي من تشاء.. وعليك أن تؤلف لجنة تحقيق نزيهة، ومن ثبت انحرافه عن أهداف الثورة، أعلن ذلك، وافصله عن العمل، وابعث بفصيلة من المجاهدين تؤدب المنحرفين وتجردهم من السلاح وتعتقلهم و ... و ... ، وإنّ أضعف الإيمان أن تصدر منشورا باسمك تدعو فيه إلى استنكار الإغتيالات، ووقفها وقفا تاما، رحمة بالثورة وإشفاقا على قضية فلسطين.
... ولكن الحاج أمين لم يفعل شيئا مما اقترحته حتى ولا أضعف الايمان ...(1/335)
... وكان أهل القتلى، ويعدون بالمئات، يتساءلون عن دور الحاج أمين في هذه المآسي، بعضهم يدينه وبعضهم يبرئه، ولكن الجميع يتساءلون لم لا يستنكر؟ لم لا يرسل برقية تعزية لأهل الفقيد؟.
... وأظن أن الحاج أمين لم يُعزِّ أحدا سواي.. فقد جاءني إلى بيتي يوم غدر الغادرون في أخي أنور وكان طبيب الثورة، وعقلها وقلبها، في شمال البلاد، فدعاه "أحدهم" لمعالجة أحد الجرحى، وفي طريقه لأداء هذا الواجب القومي، أطلق عليه النار فأرداه قتيلا فبكاه الشعب، وكان والده الشيخ ذروة في الصبر وآية في الإيمان.
... وقلت للحاج أمين وهو يعزيني، أن أخي قد ذهب شهيدا، ولكني أخشى على الثورة أن تصبح شهيدة وينتهي أجلها،وكان في بيتي أحد سفراء الدول الصديقة فقال الحاج أمين عبارة خالدة: ان العرب واليهود والإنجليز قد اختلفوا في كل شيء، إلاّ في أمر واحد قد اتفقوا عليه وهو قتل العربي، فالإنجليز يقتلون العربي، واليهود يقتلون العربي، والعربي يقتل العربي ... وكانت هذه الكلمة ختام الجلسة وانصرف الحاج أمين دون أن يتفوه بكلمة واحدة.
... وقضيت مدة العزاء في بيتي في بيروت، يمزقني الولاء للوطن والثورة، وواجب الوفاء لأبي وأخي، ولم يدم هذا الصراع طويلا فقد استخرت الله، واستأنفت نشاطي القومي، وأنا أدعو الله لأخي الشهيد أن يسكنه رحاب جنته، ولأبي أن يسبغ عليه الصبر الجميل.
... وعدت إلى النشاط القومي كسابق العهد، وسافرت إلى تركيا لاستطلع إمكانية العون والتأييد للقضية الفلسطينية وخاصة فيما يتعلق بالسلاح.. وكان(1/336)
قد وقع الاختيار عليّ في هذه المهمة، لأنّ رئيس الجمهورية التركية مصطفى كمال كان صديقا لوالدي، وبينهما أيام وذكريات، كما كان عصمت انينو من أعزّ معارفه.
... وقضيت ثلاثة أسابيع في تركيا، اتصلت خلالها بالصحافة التركية، وجددت لغتي التركية باللهجة الإستانبولية، وبعثت برسالة إلى مصطفى كمال شرحت فيها، لقائد الثورة الكمالية، ظروف الثورة الفلسطينية وما تعانيه من نقص في السلاح ... . ورجوته أن يمد الشعب الفلطسيني بمعاونته، فإن "فلسطين هي موطن ذكرياتك يا فخامة الرئيس، أثناء الحرب العالمية الأولى، في جبهة نابلس، ولا يزال شعبنا يذكر بطولتك بالتقدير والإعجاب..".
... ولكن مصطفى كمال كان يعاني مرضا خطيرا في كبده، وهو المرض الذي مات فيه فيما بعد. وأصبح الناس في قلق على حياته، فلم أعد أجد أذنا تسمع ولا عقلا يعي. فسارعت بالعودة إلى بيروت لأجد النشاط القومي أمامي وقد بلغ ذروته.
... وقد تركز النشاط القومي في ذلك الوقت على المؤتمر الذي دعت إليه الحكومة البريطانية، وكان أن أفرج عن الزعماء الفلسطينيين المعتقلين في سيشل فوصلوا إلى القاهرة، وبعدها ببضعة أيام- كانون ثاني سنة 1939- وصلوا إلى بيروت.
... وتصاعد النشاط السياسي في ذلك الاسبوع، وتوالت الاجتماعات في قصر الحاج أمين، وفي الفندق الذي كان يقيم فيه الزعماء المبعدون، حلمي باشا ورفاقه.(1/337)
... وكانت الحكومة البريطانية قد أعلنت أنها لا توافق على حضور الحاج أمين إلى لندن للاشتراك في المؤتمر، فكان موقفا سخيفا ... . ورافقه موقف سخيف آخر من بعض أعوان الحاج أمين، يقول: يجب أن نقاطع المؤتمرإذا لم يشترك سماحته ... وكان الحاج أمين يصغي إلى كلام الأعوان ويشكر لهم عاطفتهم الوطنية. وكاد هذا الرأي أن يسود، لولا أن القادمين من سيشل وقد قضوا قرابة ثلاث سنين بعيدين عن الأجواء المحلية والنزعات الحزبية، قد رجحوا الاشتراك في المؤتمر وقرروا أن يكون "سماحته" رئيسا للوفد ولو بالإسم ... وكان في هذا الحل إرضاء لسخافة بريطانيا وأمجاد الحاج أمين!!
... وقضيت عدة ليال حتى الفجر وأنا أعد المذكرات والدراسات لتكون بين يدي الوفد المسافر إلى لندن، وكان فيها ملف كبير عن مراسلات حسين-مكماهون- تموز 1915- آذار 1916.
... وسافر الوفد الفلسطيني إلى القاهرة، وعقد عدة اجتماعات مع رؤساء وفود الحكومات العربية، ومنها سافروا جميعا إلى لندن.. وافتتح المؤتمر في قاعة سانت جيمس( 7 شباط سنة 1939) فكان أول مظهر رسمي للتضامن العربي في الوصول إلى حل سياسي يحظى بموافقة الفريقين.
... وخلال هذه الاجتماعات، أثير موضوع مراسلات الحسين-مكماهون، واعترفت بريطانيا لأول مرة بصورة رسمية بهذه المراسلات، ولأول مرة نشرتها بصورة رسمية، بعد انقضاء ثلاثين عاما عليها ... على حين أن وعد بلفور قد حملته الطائرات البريطانية بعد صدوره بأيام ( تشرين ثاني سنة 1917) وألقته على الجاليات اليهودية وراء خطوط الألمان.(1/338)
... وتألفت لجنة مشتركة- عربية بريطانية- لدراسة المراسلات، وكنت في مذكرتي التي أعددتها في بيروت قد أشرت إلى الخلاف بين النصوص العربية والإنجليزية، وأنّ العربية يجب أن تكون هي الأصل، خصوصا بالنسبة للشريف حسين ... ولكن اللجنة المشتركة لم تصل إلى اتفاق، وتمسك كل فريق بتفسيره، وعادت مراسلات الحسين-مكماهون مرة ثانية إلى مرقدها في وزارة الخارجية البريطانية.
... وتوالت الرسائل والتقارير والمكالمات التلفونية بين بيروت ولندن بصدد جميع الأبحاث التي كانت تدور في المؤتمر، وكنا الحاج أمين وأنا، نزود الوفد الفلسطيني بكل ما يطلبه وكان الرأي واحدا بين الوفد الفلسطيني وسائر الوفود العربية الأخرى، بل ان زمام المباحثات كان بيد الوفد الفلسطيني على الدوام.
... وكان هذا هو الأمر الطبيعي، فإن شعب فلسطين هو الذي يقرر مصيره، مسنوداً بالأمة العربية، فقد كان شعبنا في وطنه، وكان شعبنا ثائرا ومقاليد الثورة بين يديه، وحين وقعت الكارثة في فلسطين سنة 1948 سقط الزمام من يد الشعب الفلسطيني وأصبح آخر من يعلم عن قضيته.. ثم جاء وقت آخر سيأتي الحديث عنه، وهو أيام مؤتمرات القمة ولياليها.
... ووصل المؤتمر إلى نهايته- 27 آذار سنة 1939- وانفض على غير نتيجة، وبتنا ننتظر عودة الوفد لنقف على التفاصيل، ونعرف ما تعتزم الحكومة البريطانية أن تصنعه.
... وجاء اليوم السابع عشر من شهر أيار سنة 1939 فنشرت الحكومة البريطانية بيانا مفصلا بالسياسة التي ستتبعها في فلسطين- الكتاب الأبيض.(1/339)
... وكان الإطار العام للحل الذي وضعه الكتاب الأبيض إنشاء حكومة فلسطينية بعد فترة انتقالية، وتحديد الهجرة اليهودية ثم وقفها بعد فترة الانتقال، وربط بيع الأراضي بشروط. ولم يكن الكتاب الأبيض محققا لمطالبنا الوطنية بكاملها ، بل لم يكن يخلو من فجوات وسقطات لكنه كان "خطوة" على الطريق .
... وكانت جميع الدول العربية، برسلها وسفرائها في بيروت تلح على اللجنة العربية العليا بقبول الكتاب الأبيض كحل مرحلة يضع زمام الأمور بأيدينا، معظمه أن لم يكن كله وقد كانت "الحكومة الفلسطينية" المقترحة، ثلثها من العرب وثلثها من اليهود .
... ولقد انقسمت اللجنة العربية العليا حول الكتاب الأبيض، فريق وهو الأكثرية يرى أن نقبل الكتاب الأبيض ونعمل على تحقيقه حتى تصير بيدنا مقاليد الأمور في بلادنا، وفريق آخر هو الأقلية وعلى رأسه الحاج أمين يرى أن يرفضه لأنه لا يحقق مطالبنا الوطنية.
... ولم أكن عضواً في اللجنة العربية العليا، ولكني كنت أحضر اجتماعاتها الهامة كمواطن عادي، متطوع لخدمة وطنه..
... وقد أعددت دراسة وافية عن الكتاب الأبيض ما له وما عليه، رجحت فيها بالنهاية قبول الكتاب الأبيض.
... وفي ختام الاجتماعات اشتدت معارضة الحاج أمين للكتاب الأبيض وكان معروفا يومئذ في الأوساط الرسمية، أن الحكومة البريطانية مستعدة أن تتعاون في تنفيذ الكتاب مع جمال الحسيني لا مع الحاج أمين الحسيني بوصفه "مسؤولا عن الإرهاب والثورة".(1/340)
... وكان هذا الموقف سخيفا من غير شك من جانب الحكومة البريطانية، شأن الاستعمار على الدوام، ولكني أحسب أن الحاج أمين الحسيني قد ضعف في تلك الفترة أمام نوازعه الشخصية ، فازداد عداء للكتاب الأبيض.
... ولكن ما هو أخطر من ذلك، أن الحاج أمين قد ازداد عداء لأنصار الكتاب الأبيض، وبات يشير إلى ان "المجاهدين" لا يوافقون على الكتاب الأبيض، على حين أن قادة المجاهدين لم يدعوا إلى أي اجتماع ، ولم يصدر عنهم أي رأي.
... ولكن أكثريّة اللجنة القومية العربية العليا (1) : جمال الحسيني وأحمد حلمي باشا وعوني عبدالهادي والدكتور حسين الخالدي وغيرهم قد رفضوا أمام" رفض المجاهدين" كما عبر عنه الحاج أمين.
وفي 29 أيار سنة 1939 أعلنت اللجنة العربية العليا قرارها " بالإجماع" برفض الكتاب الأبيض، وسكتت الدول العربية، تاركة للحاج أمين أن يتحمل مسؤوليته التاريخية.
... ومن المفارقات المعزية المسلية، أن أكثريّة لجنة الانتدابات الدائمة في عصبة الأمم في جنيف قالت انها "لا تستطيع أن تعتبر أن الكتاب الأبيض ينسجم مع صك الانتداب".
... ثم جاء المؤتمر الصهيوني الذي انعقد في جنيف" آب سنة 1939" فأعلنها حربا على الكتاب الأبيض مع صداقته لبريطانيا).
__________
(1) * هكذا في الأصل ، ومن واقع الأسماء التي أوردها المؤلف لاحقاً فإنه يقصد اللجنة العربية العليا ]المحرر[.(1/341)
... ثم نشبت الحرب العالمية الثانية- أيلول سنة 1939- فذهب الكتاب الأبيض إلى مرقده الأخير في وزارة الخارجية البريطانية.
... ودخلنا مرحلة جديدة، الثورة، والشعب والقضية، وحسبنا أن الحرب العالمية سيكون فيها خلاصنا، دون أن ندري ما وراءها من كوارث ونكبات.(1/342)
مع الملك فاروق..
والإمام المراغي
... نشبت الحرب العالمية الثانية- أيلول سنة 1939- فبادرت السلطات الإفرنسية في بيروت إلى إبلاغنا- نحن الفلسطينيين اللاجئين- أن اقامتنا في لبنان لم تعد مرغوبة، وأنّ علينا أن نغادر البلاد في أقرب وقت..
... وكانت ثورتنا قد بلغت مراحلها الأخيرة، وجاءت ظروف الحرب العالمية لتشل نشاطنا، ولم يعد أمامنا إلاّ أن ندبر لنا ملجأ نأوي إليه، حتى تنتهي الحرب ويقضي الله أمراً كان مفعولا.
... وأطل علينا شهر تشرين أول سنة 1939، و إذ بالحاج أمين الحسيني والصفوة المختارة من أعوانه وأنصاره قد وصلوا إلى بغداد، و إذ بالصحافة تنقل أنباء استقباله بحفاوة بالغة، ويتولى رجال الدولة وعلى رأسهم نوري السعيد العناية به وبصحبه، ويرصدون لهم ميزانية كريمة.وعجبت في نفسي لهذا التصرف من جانب الحاج أمين، وعجبت أن يخفي عني نبأ سفره، وقد كنت عنده تلك الليلة وهو يبالغ في تقدير جهودي، مؤكدا أنني في منزلة ابنه صلاح الدين..وأعّز..
... ثم زال العجب من نفسي بعد أن علمت أن كل الذين رافقوه في سفره هم من الذين يقولون له "نعم" على الدوام، وما قالوا له "لا" مرة واحدة في(1/343)
حياتهم ... .. ولم يكن الشاعر العربي قد عنى أحداً منهم حين قال: ما قال لا قط إلاّ في تشهده.
... وعزمت أن أجعل القاهرة دار هجرتي: ألجأ إليها حتى يأذن الله بالفرج، وقد كان في القاهرة بعض اللاجئين الفلسطينيين: عوني عبد الهادي، رشيد الحاج إبراهيم والدكتور مصطفى بشناق وغيرهم.
... وكان مما أغراني على الإقامة في القاهرة ما كان من يسر الحياة فيها، وقد أشرف رصيدي على النفاد، حتى أصبحت اقرأ صحف بيروت بالأجرة، أقرؤها ثم أعيدها لبائع الصحف بخمسة قروش لبنانية، وخرجت على لساني: من نوادر الهجرة قراءة الصحف بالأجرة.
... وركبت الباخرة الإيطالية" ماركوبولو" من بيروت إلى الاسكندرية، ولم أدرِِِِِِِِ كيف مرت تلك الرحلة، وأنا أُقلب بصري بين الماء والسماء، أسأل نفسي أين المفر وأيان المستقر.
... ولقد صح ما توقعته، فقد وصلت القاهرة ووجدتها رخيصة ميسرة الحال، فقد سكنت في فيلا مع رشيد الحاج إبراهيم في شارع السنبلاوين في ميدان الإسماعيلية في مصر الجديدة، بمبلغ ستة جنيهات شهريا، طعاما ومناما وخدمة. وترعاها سيدة المنزل العجوز بكل عناية.
... وفي مصر لم أشأ أن أتناول راتبا كما كان يفعل كثير من اللاجئين الفلسطينيين، وآثرت أن أشدّ حزامي وأقتر على نفسي، حتى لا أوقع إيصالا(1/344)
في آخر الشهر: بأنني قبضت المبلغ المرقوم أعلاه ... وأنكسّ رأسي إلى أدناه.
... وقضيت بضعة أشهر في مصر حتى أواسط الشتاء- 1940- ولم تكن الحياة فارغة ولا رتيبة، فقد كنت أواصل النشاط السياسي قدر ما تسمح الظروف. وكنت أتردد على مكتب أسعد داغر في جريدة الأهرام، وكانت ملتقى رجالات العروبة، من المصريين والسوريين واللبنانيين، وهناك كان أول لقائي بالسيد عبد الرحمن عزام ... وكأنما كانت تخبئ الأقدار إنشاء الجامعة العربية بعد ذلك بخمس سنوات- 1945، وزمالتي له بعد عشر سنوات – 1951.
... وكانت شؤون الحرب طاغية من غير شك، ولكن شؤون القضية العربية في مجموعها، ومنها قضية فلسطين كانت محور الأحاديث والنقاش.
... وقد أشار عليّ أحد أصدقائي أن التقي بالسيد مكرم وأتحدث إليه في الشؤون العربية، فعملت على ذلك، والتقينا في منزل" البرنس محمود شوكت" من بقايا الأمراء العثمانيين في ميدان الفلكي، وكان مكرم هو الذي اختار المكان ولا أدري لماذا؟.
... وذهبت إلى منزل "البرنس" في الوقت المحدد، وجاء "مكرم" متأخرا ساعة بعدالموعد، وهو يشير في ثنايا حديثه أنه تأخر قصدا ... " لظروف الرقابة". ... ولم أشأ أن أعلق على ذلك، ومضيت أتحدث عن الوحدة العربية، تاريخها ومقوماتها ودور مصر فيها عبر التاريخ، وأنّ الأقطار العربية يكمل بعضها بعضا، وأنّ ... . وأنّ ... . وقضينا ساعتين في هذا الحديث،" ومكرم" يستوضح حينا ويصمت حيناً آخر دون أن يشارك مشاركة فعالة في(1/345)
الموضوع، ونهض مكرم وهو يعتذر أن لديه كثيرا من المواعيد، وأنّ الموضوع شيق جداً، ولا بد من لقاءات أخرى ... وكان ذلك اللقاء الأول والأخير.
... وتلقينا دعوة لحضور حفل لافتتاح مسجد في العباسية تحت رعاية الملك فاروق فلبيت الدعوة مع عدد من الاصدقاء: عوني عبدالهادي رشيد، الحاج إبراهيم وغيرهما، وكان لنا مكان خاص، نحن اللاجئين السياسيين، ودخل الملك فاروق، شابا وسيم الطلعة وديع الملامح، وكان لم يَفْجرُ بعد. ودخل معه شيخ الأزهر، وكانت الأنوار والزينات والأعلام في غاية الفخفخة والبهجة ... وابتدأ الحفل بتلاوة آي من الذكر الحكيم، وأخذ الشيخ المراغي يتحدث وهوجالس على منصة، والملك مقرفص على الأرض، ومطرق رأسه في جَوّ من الروعة والسكينة، وكان الشيخ المراغي يرسل حديثه في مثل سبائك الذهب، سلاسة وعذوبة.. وعلما وديناً..
وختم" المراغي" حديثه وهو " يعظ" الملك فاروق بتقوى الله،
والصلاح والعدل و ... .و ... .
... وإني لأذكر، وسأظل اذكر، الشيخ المراغي وهو يحدث الملك فاروق في غير ما تهيب أو خشية، وكأنما هو ليس جالسا أمامه في الحفل، وهكذا يكون العالم أمام الملوك والأمراء وخطر لي وأنا أتأمل الملك فاروق وهو يجلس خاشعا بين يدي "المراغي" أن أكتب رسالة أستنهض فيها همته وحماسته وشبابه ... وطموحه.
وقد أعددت الرسالة، ونمقتها ودبجتها، وزينتها بالتعابير التي يخاطب بها الملوك، وأشرت فيها إلى أن جده محمد علي باشا الكبير حقق(1/346)
إنجازات كبيرة في سبيل الوحدة العربية، وكادت أن تؤتي ثمارها لولا المطامع الاستعمارية.. ثم ناشدت الملك فاروق أن يتم رسالة جده الكبير، وأنهّا أمانة في عنقه، وأنّ العرب يتطلعون إلى مصر لتحقيق هذا الحلم الكبير، وسلمت الرسالة إلى الديوان الملكي في قصر عابدين..
وطلبني بعد أيام إلى الديوان، السيد كريم ثابت، وقال لي أن رسالتي جميلة جدا وإنّ "مولانا" مهتم بها، ولكنك تعرف الظروف الحاضرة"، فشربت القهوة وشكرت وانصرفت.
و أخذت الأخبار تصل إلينا من فلسطين بأن الثورة قد توقفت إلاّ من أعمالً صغيرة في بعض الجهات، ومعها ثارات وانتقامات في بعض المدن والقرى، وأن الهدوء أخذ يخيم على البلاد بسبب ظروف الحرب، وأنّ الناس مشغولون في لقمة العيش بعد الإضراب الكبير والثورة التي امتدت أربعة اعوام، وأنّ اللاجئين الفلسطينيين في سوريا ولبنان قد عادوا إلى بلادهم، بعد أن ألغت السلطة البريطانية قوانين الطوارئ، وبهذا عادت المياه إلى مجاريها.
ولبثت في القاهرة أنتظر مصير الحرب، وأنا أظنّها بضعة اشهر، فقد حسبت أن الانتصارات الساحقة السريعة التي حققها الألمان ستجعل أمد الحرب قصيرا وسيكون النصر حليف هتلر لا محالة. ...
وفي شهر شباط سنة 1940 وصلتني برقية من عكا بأن والدي قد توفي إلى رحمة الله، وأنّ السلطات البريطانية لا تمانع في عودتي إلى البلاد، فلم يبق أمامي إلاّ العودة إلى الوطن.(1/347)
وسارعت إلى "الفيلا" أحزم حقائبي استعدادا للسفر، وذهبت إلى بنك" كرد يد يه ليونيه" حيث كنت أودع حساباتي "الكبيرة"، وكان رصيدي مئة وخمسة عشر جنيها ... وضعتها في جيبي، وركبت القطار المسافر إلى حيفا، ومررت بمحطة دير البلح حيث اعتقلت قبل ثلاث سنوات، ثم بمحطة غزة حيث قضيت أيام السجن الأولى، وتزاحمت الذكريات على خاطري، وما أفقت منها إلاّ وأنا في حيفا ومنها إلى عكا.
وذهبت فور وصولي، إلى بيت والدي، إلى الحديقة التي تضم رفات أخي الشهيد، ووالدي الشيخ، وقد قضى جريح الفؤاد، أفجعه الغدر بأعز أبنائه على قلبه.
ووقفت خاشعا أمام الضريحين، وتكاد نفسي أن تذهب حسرات.
وأنا أكتب هذه المذكرات أذكر أن عكا في قبضة إسرائيل،ولا أعلم ما جرى للضريحين، وقد كانا يانعين، بالأزهار، ناعمين بالظلال، وأحسب أنهما الآن وسط قفر يباب وعالم خراب.
... وكذلك حال شعبنا بأسره، وحال مقابر الآباء ومضاجع الاجداد، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.(1/348)
حوار تاريخي مع كوهن العربي
... سارعت إلى مكتبي، فور وصولي لعكا، وقد مضى عليه قرابة أربع سنين، مقفلاً معطلاً، وباشرت عملي في المحاماة، متعطشاً إلى القضايا وإلى الأجور، فقد كنت خالي الوفاض ولم أعد أتمهل كثيراً في اختيار "الدعاوى"، ولا في التشدد في طلب الأجور.
... ولقد زاد من انصرافي إلى المهنة، بكل جهدي ووقتي، ما علمته بعد أيام من وصولي، أن والدي رحمه الله، قد خص أخي الكبير، عبد العفو، بكل ثروته بأربعة بساتين، والبيت الكبير خارج السور.
... وأحسب أن والدي قد فعل هذا، وهو يرزح تحت عوامل متعددة: زوجته - خالتي - وقد فجعت بحبيبها الشهيد أنور - الخلافات السياسية بيني وبين أبي - مزاملتي للحاج أمين خصمه اللدود والسير معه في ركاب الحركة الوطنية.
... وفي ساعة من التفكير في هذا "الحرمان" تذكرت أن بيتنا القديم - داخل السور - لم يكن مشمولاً بما خصه والدي لأخي، ولعل ذلك كان سهواً، فبادرت إلى الدائرة العقارية، وسجلت "نصيبي" في هذا البيت باسم عمي(1/349)
قاسم، حتى أخرج من هذه الدنيا وليس لي من والدي إلاّ اسمه الضخم .. وتاريخه الحافل بما له وما عليه..
... ولقد كنت دوماً أراجع نفسي: أينا كان على خطأ؟ أينا تجنىّ على الآخر؟ ثم رسا فؤادي على مستوى أعلى من المنطق والحق: إنه مستوى الإنسان بعواطفه وآماله وآلامه، مستوى الوالد وهو يؤمن بالقول المأثور: أنت ومالك لأبيك، وأنا أصبحت أباً لستة أولاد، أشعر بما أنتظره منهم وما أطمع فيهم.
... وعلى المستوى العاطفي الأبوي الإنساني، لا مستوى الحق والمنطق، أعترف بأنني كنت - أنا المخطئ وأنني تجنيَّت على والدي - رحمه الله وغفر لي .. بل لعلي اخترت أن أعترف هكذا .. دون أن يكون هذا الاعتراف قائماً على الحق والمنطق .. فإن أبوتي لأبنائي هي التي تتحكم اليوم في بنوتي لأبي .. وهنا يسكن الصراع العنيف الذي طال مداه: أينا كان على خطأ؟
... وجاء القدر فيما بعد يحمل على أكتافه كل سخرياته، فقد وقعت عكا تحت احتلال إسرائيل، ونزح أخي (عبد العفو) إلى لبنان مع النازحين تاركاً لإسرائيل البيت الكبير والبساتين الأربعة "محروماً" من خيرها وثمرها، وكان عليّ أن أبرّه من حين إلى حين، فقد كان يرعاني حين كنت طالباً في عكا والقدس ... وهكذا حرمني والدي من ماله،أمّا أخي فقد حرمته إسرائيل!!
... وغصت إلى أذني في عمل المحاماة، وتكاثرت القضايا وتعاظمت معها الأجور، فقد تدفق المتقاضون على المحاكم، بعد سنيّ الإضراب والثورة. وتدفقت الخيرات وانفرجت أزمتي المالية بحمد الله.(1/350)
... ولكن أنىّ لنا أن تكون حياتنا كلها كسباً ورزقاً، والوطن والمستقبل والمصير ظلمات بعضها فوق بعض .. وهذه الحرب العالمية الثانية، وإن كانت ساحاتها وجبهاتها بعيدة عنا، لا بد أن يكون مصيرها مصيرنا، شئنا أم أبينا ..
... ولم يكن لنا من دور نستطيع أن نعمله، فقد انتهت الثورة، وتفرق الزعماء بين هارب خارج البلاد ومعتزل في الداخل .. وكل ما كان ميسوراً لنا أن نلتقي في حلقات صغيرة داخل بيوتنا، نقلب الأمور ونستعرض سير الأحداث الحربية في مختلف جبهاتها في العالم.
... وكنت في عملي في المحاماة أتنقل بين حيفا والناصرة وطبريا وبيسان والقدس فألتقي بأصحاب الرأي والمكانة في البلاد ، ونتحدث في ما آلت إليه الأمور، خاصة أن الهجرة اليهودية غير "المشروعة" قد بدأت تطل برأسها، ونقلق لأخبارها.
... وفي الليل، وقد ساد نظام التعتيم وحجبت الأبواب والنوافذ، لم يكن لنا لقاء إلاّ مع الإذاعات الألمانية والإيطالية ننتقل من محطة إلى محطة سعياً وراء الأخبار، وكانت الانتصارات الألمانية في أوروبا تشعل في قلوبنا الآمال الكبار.
... وإني لأذكر ليالي رمضان، حين أنحني أمام جهاز الراديو، بعد السحور، وأنا أبحث عن إذاعة برلين، فأفتحها بصوت خافت حتى لا يسمعها عابر بالليل، ثم أنصت إلى البلاغات العسكرية، والخريطة أمامي والقلم بيدي، أشير إلى هذه القرية وتلك المدينة وقد سقطت بيد القوات الألمانية المظفرة ..(1/351)
حتى إذا أصبح الصباح والتقى بعضنا ببعض تهامسنا بما سمعنا عن الزحف الألماني الكبير، لنلتقي في اليوم الثاني على انتصارات أكبر وأخطر ..
... وكانت عواطفنا مع دول المحور، وعلى رأسها هتلر يقودها من نصر إلى نصر. ومع عواطفنا كانت دعواتنا بالظفر لألمانيا وحليفاتها، والهزيمة لبريطانيا وأخواتها ..
... وكانت هذه العواطف طبيعية، فلم يعد لنا أمل مع الحلفاء، وقد جربناهم في الحرب العالمية الأولى، ولا بد أنهم سيكونون شراً علينا إذا انتصروا في الحرب العالمية الثانية، هكذا كان تقديرنا وتلك كانت مخاوفنا وآمالنا .. وقد صحت، فيما بعد مخاوفنا، وما تحققت آمالنا ...
... وحين أعلنت الحكومة البريطانية رغبتها في إنشاء قوة فلسطينية تعين في المجهود الحربي، انطلقت منا "كلمة السر" إلى شبابنا: لا تنخرطوا في القوة الفلسطينية - وكانت الاستجابة أشبه بالإجماع ..
... وكان أن هرب الحاج أمين من بغداد بعد سقوط حكومة رشيد عالي الكيلاني، والتجأ إلى دول المحور، ونشطت الإذاعة العربية من ألمانيا وإيطاليا، فتصاعدت آمالنا، وأصبح الاستماع إلى "يونس البحري" من برلين بصوته القاصف، شغلنا الشاغل، نتناقل أخباره، ونتبادل نكاته، وتهريجاته وعربداته .. وقد تعلقت به الجماهير من المحيط إلى الخليج ..
... وامتد نشاط السلاح الجوي الإيطالي والألماني إلى فلسطين، ففي شهر أيلول سنة 1940 قصفت طائراتهم أهدافاً معينة في تل أبيب وحيفا، وبلغ الابتهاج والهياج في أوساطنا مبلغاً لا يوصف.(1/352)
... وحدث أن وقعت قنبلة إيطالية في الحي الذي أقيم فيه في عكا وحفرت في الأرض فجوة كبيرة، ولم تقع أية أضرار. وقد زارني السيد حنا بولس قائمقام عكا 00ليقول لي ان الحاكم البريطاني "جوردن" ذكر له في معرض الدعابة الساخرة: أن أحمد الشقيري هو المقصود بهذه القنبلة، فقلت له لا بأس: علي وعلى أعدائي يا رب.
... وأقبل عام 1942 يحمل معه أنباء الانتصارات الساحقة التي حققتها دول المحور في أوروبا وفي شمال إفريقيا، ولم يكن لنا من حديث إلاّ "رومل" وقد غدا يطوي البيد طيا - وأصبح يدق أبواب الإسكندرية .. وما مصر إلاّ مفتاح فلسطين ..
... ولقد عمنا الفرح ونحن نتابع هذه الانتصارات، وبتنا نتوقع وصول الجيوش الظافرة إلى مصر وفلسطين، وبهذا نخلص وإلى الأبد من الانتداب البريطاني والوطن القومي اليهودي، وتخلص معنا الأمة العربية من الاستعمار، ونقيم الوحدة العربية، أحلى أحلامنا وأعزَ آمالنا، وهكذا كانت الصورة المشرقة البهيجة في قلوبنا.
... أما الصورة المظلمة الأخرى فقد بدت على وجه الإنجليز واليهود، عبوساً وقلقاً واضطراباً.
... بالنسبة للإنجليز، كان يوم شماتة كبرى لي، وأنا أستمع إلى المندوب السامي يوم تحدث بالإذاعة عن النازية وشرورها والهتلرية وآثامها، وقد أفاض في الكلام عن قوى الشر والعدوان بلهجة مملوءة بالرعب والفزع.(1/353)
... وقد ذكر لي السيد حنا بولس القائمقام العربي، في إحدى زياراته، أن التعليمات قد صدرت إلى الموظفين البريطانيين بأن يكونوا جاهزين للسفر إلى الهند، إذا اشتد الأمر - وأن يكون معهم زادهم لثمان وأربعين ساعة ..
... أما اليهود فقد كان حالهم أفظع وأشنع، كانوا يرون أن هتلر قد اقترب من جلودهم وأعناقهم، وكنا، حين نلتقي بالمحامين والقضاة اليهود، نرى في وجوههم الفزع والهلع، وقد أخفضوا إلينا جناحهم ورطبوا لسانهم.
... وكنت ذات يوم في طبريا لأترافع في إحدى القضايا أمام المحكمة، وفي طبريا جالية يهودية كبيرة بعضها من المستوطنين القدامى وبعضها من المهاجرين الجدد، ودعيت لتناول الغداء في مطعم شاطئ البحيرة، يملكه ويديره أحد اليهود القدامى، وكان المضيف السيد شحادة الخوري من أعيان المسيحيين في الجليل.
... وجلسنا إلى مائدة الطعام، وأخذ كوهين صاحب المطعم يقدم لنا أطباق السمك على أشهى ما تكون جودة وطعماً، وكان يبالغ بالعناية بي.
... ولاحظت أن كوهين كان يضع الأطباق ويرفعها والدموع ملء عينيه.
... فقلت له: خيراً ان شاء الله، لماذا تبكي يا كوهين.
... قال: أبكي على حالي يا سيدي ..
... قلت: لماذا؟ ما جرى؟
... قال: أنا يا سيدي .. لست صهيونياً، أنا يهودي عربي، وعائلتي تقيم في طبريا منذ أربعمائة سنة، وقبلها كانت عائلتي في دمشق لثلاثماية سنة - وخنقته العبرات، وتوقف كوهين عن الكلام.
... قلت له: وماذا بعد ذلك: تكلم يا كوهين ..(1/354)
... قال: الألمان أصبحوا قريبين من فلسطين، وإخواننا المسلمون في طبريا قد اتفقوا "علينا".
... قلت له: كيف اتفقوا عليكم؟
... قال: لقد اجتمعوا في هذا الأسبوع وقرروا أن يذبحونا، حينما يصل رومل، ولقد وزعوا بيوتنا وأملاكنا على بعضهم بعضاً، وهذا المطعم الذي أنشأته بدم قلبي، قد خصصوه لآل الطبري.
... قلت له: لا تصدق هذا الكلام .. وآل الطبري لا يعتدون عليك ولا يطمعون في المطعم ولا يريدون شراً بصاحب المطعم.
... قال: وحياة ديني، وحياة موسى ومحمد هذا صحيح.
... قلت له: وماذا تريدني أن أفعل.
... قال: يا سيدي .. الصهيونيون اذبحوهم وخذوا بيوتهم وأملاكهم ..أمّا نحن اليهود العرب اتركونا .. ودخيلك .. نحن عرب .. نحن عرب .. مثلنا مثلكم.
... قلت له: هوّن عليك .. بعد الغداء تأتي معنا في السيارة.
... وهكذا كان، فقد ذهبنا بعد الغداء، الضيوف وكوهين وأنا - إلى ديوان آل الطبري وهم أعيان المدينة من العرب، وجلسنا في "المضافة" حول "النقرة (1) " وفيها أباريق القهوة العربية نحتسيها فنجانا بعد فنجان مع آل الطبري: صدقي، والشيخ نايف، وفائز، وغيرهم من شباب آل الطبري.
... وسردت لآل الطبري ما حدثني به كوهين، وناشدتهم أن يكون اليهود في "جوارهم وحماهم" حسب التقاليد العربية، وخاصة القدامى منهم، فلا
__________
(1) * موقد نار يُلقى على جوانبه دِلال (أباريق ) القهوة بنسق معين ، وتقاليد عربية دقيقة .(1/355)
يذبحونهم ولا يأخذون أملاكهم وبيوتهم، إذا وصلت حملة رومل إلى فلسطين وإلى طبريا ..
... وقد تعاهدنا على ذلك، وخرج كوهين من الديوان، وهو يكفكف دموعه ويدعو لي ولآل الطبري بطول العمر، ولا ينفك يتمتم: الله يعمر بيوتكم ويطول أعماركم.
... وكرت الأيام والليالي، وأطل القدر العجيب، وما أكثر سخرياته في قضية فلسطين، وجاء عام 1948، وقام اليهود في طبريا بحملات مسلحة على المسلمين والمسيحيين، العزَّل من السلاح، وهرب آل الطبري مخلفين وراءهم قصورهم الفخمة ينهبها اليهود، ومزارعهم اليانعة يسلبها اليهود، وكان في طليعة العصابات اليهودية المسلحة اليهود القدامى - اليهود العرب، كوهين وأضرابه وأمثاله ...
وكان من عجائب القدر أن تكون هجرة آل الطبري بعد كارثة 1948 إلى مناطق الغور في الأردن، وفي الجبال السورية المشرفة على طبريا .. وهم يرون كل صباح ومساء، عبر هذه السنين بيوتهم ومزارعهم على مرمى البصر، فلا يستطيعون الدنو منها، وكوهين وأضرابه وأمثاله ناعمون فيها فاكهون ..
... وهذه هي الصهيونية بلحمها.
... وهذه هي إسرائيل بدمها ..(1/356)
العروبة في المهجر(1/357)
الجامعة العربية ولدت كبيرة جداً..
وعاشت صغيرة جداً
... كنا نعيش أحلاماً كباراً وآمالاً عظاماً في المراحل الأولى للحرب العالمية الثانية، لقد كان هتلر أسطورة الزمان تهاوت أمامه الجيوش والحصون في أوروبا وشمال إفريقيا، وأصبحنا نعد الأيام لنشهد اليوم الأغر في عدونا الأكبر - بريطانيا التي مكنت لليهود في بلادنا، ومنحتهم أرضاً لم يطأوها وما عرفوها.
... ولكن الفلك قد أخذ يدور دورته، فبعد أن كانت الحكومة البريطانية تعد نفسها لتنقل مقرها إلى أمريكا أو كندا، و إذا بالحلفاء يفتحون على هتلر الجبهة الثانية في أوروبا، و إذا برومل ثعلب الصحراء مطوقاً بين فيافي الصحراء، و إذا بآمالنا تنقلب رأساً على عقب.
... وازدادت مخاوفنا في تلك الفترة بالذات، ونحن نرقب التطورات الخطيرة التي أخذت تتكشف لنا على الصعيد الدولي وعلى الصعيد الفلسطيني.
... على الصعيد الدولي كانت العاصفة تتجمع علينا، ولقد كنت دائم القراءة لجريدة "الباليستاين بوست" وهي الصحيفة اليهودية الرسمية باللغة الإنجليزية، وكنت أفزع لما اقرأ فيها من أنباء وتعليقات.(1/359)
... هذا المارشال سمطس يدعو لمناسبة ذكرى وعد بلفور، بفتح أبواب فلسطين للهجرة اليهودية (2 نوفمبر سنة 1941).
... وهؤلاء أعضاء النواب والشيوخ في الكونجرس الأمريكي يبعثون للرئيس الأمريكي برسالة تتضمن تأييداً مطلقاً للحركة الصهيونية (نوفمبر 1942).
... وهؤلاء الصهيونيون الأمريكان يعقدون مؤتمراً كبيراً في نيويورك في أوتيل بلتمور، ويقررون إنشاء دولة يهودية، وإباحة الهجرة اليهودية، وإنشاء قوة يهودية، لها قيادتها الخاصة وعلمها الخاص (أيار 1942).
... وهذا حزب العمال البريطاني يقرر في مؤتمره السنوي العمل على تهجير عرب فلسطين خارج فلسطين (أيار سنة 1944).
... وهذا رئيس الولايات المتحدة يوجه رسالة جوابية إلى واجنر عضو مجلس الشيوخ الأمريكي يوافق فيها على إطلاق الهجرة اليهودية والاستيطان اليهودي وإقامة دولة يهودية (15 تشرين أول 1944).
... وهذا الرئيس ترومان يطالب بفتح أبواب الهجرة اليهودية لفلسطين (أغسطس 1945). ...
... وهذا .. وهذا .. من التصريحات الكثيرة التي كنت أجمع منها قصاصات وأضعها في ملف خاص.
... وقد كنا نجتمع أنا وإخواني في بيتي نفتح الملف، وأقرأ القصاصات، أترجمها وأعلق عليها وأشرح خطرها، وكان ذلك كل ما نستطيع أن نفعله، فنحن نعيش تحت "طوارئ" الحرب، والعالم العربي من حولنا يرزح تحت الاحتلال، والعالم الإسلامي لا حول له ولا طول.(1/360)
... أما بالنسبة للداخل، فقد كان الخطر الصهيوني أكبر وأخطر .. فقد كان الذي ينشر في جريدة الباليساين بوست ينبئ عما لا ينشر ..
... فهذه مستعمرة بن شمسن تكتشف فيها مخابئ تحتوي كميات وافرة من السلاح (كانون ثاني سنة 1940).
... وهذه كميات هائلة من الأسلحة الثقيلة والمتفجرات تسرق "بالظاهر" من مستودعات الجيش البريطاني في فلسطين وفي الشرق الأوسط (آذار سنة 1943).
... وهذه قضية تهريب الأسلحة الشهيرة التي يقول فيها القاضي البريطاني (إن هناك حركة يهودية منظمة كبيرة لتهريب الأسلحة من قوات جلالته ... ) أيلول سنة 1943.
... وهذه البواخر: السافيك، ميلوس، اتلانتيك، باتريا، وارين استروما "فيل دي ادران" ديمتريوس، وغيرها من البواخر تمخر البحار وتعبر المياه الإقليمية الفلسطينية وعلى ظهرها آلاف وآلاف من المهاجرين "غير الشرعيين" يدخلون البلاد عنوة أو خلسة بين سنة 1940 وسنة 1945.
... ثم ازدادت مخاوفنا بقيام العصابات اليهودية (اشترن) و (زفاي لومي) بأعمال القتل والتدمير في جميع أنحاء البلاد، وفتحت ملفاً لهذه الحوادث الدموية، ثم مللت وضجرت وأوقفت الملف عند اغتيال اللورد موين وزير الدولة البريطاني في القاهرة على أيدي العصابات الصهيونية (نوفمبر سنة 1944).(1/361)
... وكان اليهود يقومون بهذه الجرائم الوحشية بكل جرأة واستهتار، لأنهم يعلمون أنهم الولد المدلل، والمراهق المدلع، الذي يلقى كل تأييد وتشجيع في مجلس العموم البريطاني وفي الكونجرس الأمريكي وفي الصحافة الغربية ..
... وأخذنا - نحن الطلائع المثقفة الواعية، نجتمع من حين إلى حين، مرة في نابلس، وأخرى في يافا وحيفا وفي القدس، وحيناً آخر في حيفا، لنتدارس الحالة الخطيرة التي وصلت إليها البلاد والمصير المخيف الذي ينتظرنا وقدأصبح نصر الحلفاء قاب قوسين أو أدنى .. وكنت أحمل معي في أسفاري الملفات التي أعددتها، ملف الهجرة غير المشروعة، ملف التصريحات الأمريكية والبريطانية بتأييد الصهيونية، وملف الإرهاب اليهودي في فلسطين، وفي اجتماع أخير عقدناه في حيفا في أواسط سنة 1944 في بيت رشيد الحاج إبراهيم، وكان قد عاد من القاهرة مع غيره من اللاجئين السياسيين الفلسطينيين، عرضت على المجتمعين اقتراحاً بضرورة قيام قيادة للشعب الفلسطيني تتمثل فيها جميع العناصر الوطنية.
... ولم أكد أفرغ من حديثي حتى قفز واحد من أعوان الحاج أمين على قدميه وهو يقول: ان الحاج أمين هو زعيم البلاد، ولا يصح أن نبحث في شيء قبل أن يعود سماحته إلى الوطن.
... فضج الحاضرون بالاستنكار لهذا الحديث. وتولى رشيد الحاج إبراهيم شرح اقتراحي وختم حديثه بقوله "نحن الآن بلا قيادة وطنية طيلة أربع سنوات، والحاج أمين غائب في أوروبا، والبلاد مقبلة على أحداث هامة بعد انتهاء الحرب، وحينما يعود الحاج أمين يمكنه أن ينضم إلينا".(1/362)
... واتفقت الكلمة، بعد أخذ ورد، على أن يتصل رشيد الحاج إبراهيم برجال الأحزاب في البلاد للاتفاق على إنشاء هيئة تتولى قيادة الحركة الوطنية.
... ومضت أسابيع دعونا بعدها إلى اجتماع آخر في حيفا في بيت رشيد الحاج إبراهيم، ولخص نتائج اتصالاته بممثلي الأحزاب، وكانت إيجابية إلاّ ما كان من مخالفة ممثلي الحزب العربي الذي كانوا يصرون على الانتظار ريثما يعود سماحته إلى الوطن!!
... وهنا صاح معين الماضي: (حيفا) و إذا لم يعد سماحته، بل إذا مات سماحته، فما العمل؟ وكانت قنبلة وانفجرت، و أخذت وأنا أصغرهم سناً، أهدئ من روع "الشيوخ" الهائجين، وأعيد قراءة بعض الفقرات الخطيرة من الملفات التي بين يدي، لأضعهم في الجو الرهيب الذي وصلت إليه البلاد، ولكن الاجتماع انفض على غير نتيجة.
... وفيما نحن نفكر في هذه الأزمة "الذاتية" جاء فرج الله من خارج فلسطين، فقد بدأ التحرك العربي بين قادة العرب لتوحيد صفوفهم وتنسيق سياستهم لمواجهة "مستقبل" ما بعد الحرب.
... وتواصلت الزيارات بين العواصم العربية، ودب دبيب النشاط في الحياة السياسية العربية، واتفقت الكلمة على عقد اجتماع تحضيري في الإسكندرية لوضع الأسس اللازمة لذلك الموضوع المسكين الذي كان ولا يزال يسمى "الوحدة العربية".
... وقد كنا نتابع أنباء هذه الزيارات والاجتماعات التمهيدية باهتمام بالغ وفرحة كبرى، فإذا كانت تلك الخطوة العربية ضرورية للدول العربية، فقد(1/363)
كانت لنا نحن شعب فلسطين أعظم وأهم، ذلك أننا كنا نعيش في فراغ وطني، من غير نشاط ولا قيادة، والعدو الصهيوني، يعبئ كل طاقاته في ميدان المعركة - ونحن هدف هذه المعركة مصيراً ووجوداً ..
... وثار السؤال الكبير: وما هو مكاننا، وما دورنا في اجتماعات الإسكندرية، وقضية فلسطين هي التي تنادى أقطاب العرب من أجلها، بل هي اللغة المشتركة الوحيدة التي يستطيعون أن يتحدثوا فيها ..؟
... وكان: نريد للشعب الفلسطيني أن يكون له ممثل في اجتماعات الإسكندرية، ليشرح لقادة العرب الخطورة الخطيرة التي بلغتها قضية فلسطين خلال سني الحرب، وما حققته الصهيونية من إنجازات، وما أصيب به العرب من تَردٍ ونكسات.
... وعقدنا اجتماعاً في بيت أحمد حلمي باشا أحد الزعماء المستقلين، وكان الموضوع الوحيد،هو تمثيل عرب فلسطين في اجتماعات الإسكندرية، وتحدث الحاضرون وأطالوا، وتجادل ممثلو الأحزاب، وطرح السؤال مرة ثانية: هل يجوز أن نعمل على تشكيل قيادة وطنية في غياب الحاج أمين؟؟ ولكن حلمي باشا أفتى بكل رفق أن تشكيل وفد يمثل فلسطين في اجتماعات الإسكندرية لا يعتبر تشكيلاً لقيادة فلسطينية جديدة ...
... وكاد الاجتماع أن ينتهي على غير نتيجة لولا أن أقترح أحد الحاضرين أن تختار الأحزاب مندوباً عنها يكون معروفاً بحياده واستقلاله، ورشح لهذه المهمة السيد موسى العلمي.
... وقد وافق الحاضرون على الاقتراح واعتبروه فرجاً من الأزمة، فالسيد موسى العلمي كان من كبار موظفي الحكومة، تعلّم في إنجلترا، وكان(1/364)
على صلة وثيقة بالحاج أمين، وجاء اختياره مندوباً عن الأحزاب مفتاحاً للأزمة.
... وكانت هذه البادرة خطوة جديدة على طريق جديد في الحركة الوطنية، فقد ملَّ الناس الحزبية والأحزاب، وأصبحوا يتطلعون إلى قيادة جديدة تأخذ بأسباب التنظيم، وتداني الحركة الصهيونية ان لم تستطع مجاراتها ومنافستها.
... وجاءني موسى العلمي في أواخر شهر أيلول (1944) إلى بيتي في عكا ومعه رهط من الشبان المتعلمين يلح علي أن أسافر معه إلى الإسكندرية لحضور اجتماعات اللجنة التحضيرية فقلت له: هذا اقتراح غير دستوري، وأنت وأنا من رجال القانون.
... قال: ولماذا، وما هو دستورنا، نحن لم نضع دستوراً حتى الآن ..
... قلت له: أنت مندوب الأحزاب وليس لك أن تضم أحداً إليك من غير موافقة الأحزاب، ولا داعي لإثارة هذا الموضوع، ولكني سأعد مذكرة إضافية تشرح تطورات القضية الفلسطينية، فتستغني عن حضوري.
... وهكذا كان فعلاً، فقد ذهبت إليه في القدس قبل سفره إلى الإسكندرية وقدمت إليه "المذكرة" ومعها ملفاتي التي كنت أعددتها عن النشاط الصهيوني والهجرة غير المشروعة والمنظمات اليهودية الإرهابية.
... وفي تلك الفترة قام الشباب بجمع الأموال لسد نفقات الحركة الوطنية وهي الآن على أول الطريق، فأموال "بيت المال" التي كانت تحت تصرف الحاج أمين، قد سافرت معه إلى بيروت، وإلى بغداد، ثم إلى برلين .. وفي(1/365)
أيام قليلة وضع الشباب بين يدي السيد موسى العلمي خمسين ألف جنيه، وكان هذا المبلغ كبيراً في الظروف التي كانت تسود البلاد.
... وسافر موسى العلمي إلى مؤتمر الإسكندرية، واشرأبت آذاننا إلى قصر أنطونيادس في الإسكندرية، ووكالات الأنباء تنقل التصريحات العظيمة عن رجال العرب العظام، وهم يبحثون مصيرهم ومصيرنا، وإنّ مصيرنا لواحد ...
... وقد أتيحت لي فيما بعد، يوم أصبحت الأمين العام المساعد في الجامعة العربية أن أطلع على المحاضر السرية لاجتماعات الإسكندرية، وأقارنها بما طرأ على الأمة العربية إلى يومنا هذا، فأجد الصيحة الصارخة تخرج على لساني: ما أكبر كلامنا في الإسكندرية في عام 1944، وما أصغر واقعنا في عام 1969، بعد العار والنكبة في الخامس من حزيران!!
... وعاد السيد موسى العلمي من اجتماعات الإسكندرية، وانهالت الوفود على منزله يستطلعون الخبر، فيروي خلاصة ما جرى من المباحثات وما قدم من المشروعات وخاصة بصدد "الدولة العربية المتحدة" فتتعالى الدعوات من القلوب: يا رب حقق آمالنا ..
... وتوالت اجتماعاتي بالسيد موسى العلمي في تلك السنة 1944 - 1945، نخطط ونفكر، ونعقد الاجتماعات والندوات لبعث الحركة الوطنية من جديد، وكانت لي معرفة وطيدة بالسيد موسى العلمي فكلانا ينتمي إلى أسرة القضاء، هو في كرسي النيابة العامة، وأنا في المحاماة في الطرف الآخر ..
... وتعددت الاجتماعات العربية الدولية فهذه لقاءات بين روزفلت وتشرشل مع الملك عبد العزيز ومع الملك فاروق لبحث الروابط والعلاقات،(1/366)
ويعلن الرئيس روزفلت أنه لن يقوم بعمل عدائي ضد العرب، ولن يتخذ أي تدبير بشأن القضية الفلسطينية قبل التشاور مع العرب .. (شباط 1945).
... وجاء في أعقاب ذلك كله يوم - 22 آذار سنة 1945 -، وكنت يومها في القاهرة على مقربة من الاجتماعات العربية لنشهد مولد الحدث الكبير الخطير: جامعة الدول العربية.
... ولقد ولدت الجامعة العربية كبيرة، وجداً كبيرة، ومضت عليها عشرون سنة فباتت صغيرة، وجداً صغيرة، ويا ليتها ولدت كذلك، حتى لا تمنى الأمة العربية بخيبة الآمال وضيعة الأماني .. وسيطول الحديث عنها فيما بعد ..
... وفي أوائل الصيف جاءني السيد موسى العلمي وألقى إلي محاضر اجتماعات مجلس الجامعة لأقرأ فيها توصياته بشأن الدعاية العربية لقضية فلسطين وتخصيص موازنة لإنشاء مكاتب عربية للإعلام في واشنطن ولندن والقدس، وفرغت من قراءة المحضر وأنا أقول: الحمد لله هذه بداية صالحة، أرجو أن تتوافر لها الكفاءات والإمكانات، وأن يكون لهذه الخطوة ما بعدها بالنسبة لقضية فلسطين في عهد الجامعة العربية.
... قلت ذلك، وكأنما كنت أستجيب لأمر في نفس "موسى" لا في نفس "يعقوب" .. فبادرني قائلاً: ما دمت تتكلم عن الكفاءات فأرجو أن تتقدم ...
قلت: أتقدم في ماذا؟
... قال: أرجو أن تسافر إلى واشنطن لتأسيس مكتب عربي، وأنت تعلم أن مصير القضية الفلسطينية سيقرر بعد الحرب العالمية الثانية في واشنطن، لا في لندن كما كان الحال في الحرب العالمية الأولى.(1/367)
... قلت: ومكتبي .. وقضايا الموكلين ... و ...
... قال: إنها مهمة صغيرة، بضعة أشهر، للتأسيس فقط، تختار من تشاء معك من الشباب الأكفياء، وبعدها تعود ..
... قلت: على بركة الله .. وسارعت إلى عكا لأتهيأ للسفر، وتطوع عدد من زملائي المحامين لمواصلة قضاياي رحمة بالموكلين، وكنت أنا متطوعاً لهذه المهمة الجديدة من غير راتب ما خلا النفقات.
... وعدت إلى القدس، ومنها انطلقت إلى واشنطن، وانطلقت "مذكراتي" تسجل للأجيال العربية تجاربي، وأنا أتمثل بقول الشاعر المصري الكبير "حفني ناصف" في سؤاله الموجع المرير ...
أتقضي معي أن حان حيني ... ... تجاربي وما نلتها إلاّ بطول أناتي(1/368)
بن غوريون في القاهرة !
... أطل صباح 26-7-1945، ونهضت تجتاحني خواطر السفر تغشاها حُمّى السفر، فنحن نتهيب الأسفار البعيدة، ذلك أننا لم نألف أن نرى الدنيا صغيرة متقاربة، على حين أن الرجل الأجنبي يطوف العالم كأنه يؤدي عملاً عادياً لا يحس فيه جهداً أو رهقاً، وقد قضيت هذه الليلة يقظان نائماً، وأنا أستعرض مراحل هذه المهمة الشاقة الجديدة التي استقبلها بعزم وهيبة، وكان زملائي في هذه المهمة السادة: خلوصي الخيري وعوني الدجاني وعمر أبو خضرا وهم من خيرة المثقفين الفلسطينيين.
... وحول الظهر ركبنا السيارة إلى البحر الميت، فأخذنا نهبط من مشارف القدس إلى أغوار "الغور" تلهبنا الرياح المحمولة على أكف الوهج والوقد، ولكنني رددت جناني إلى الصبر والجلد حين تساءلت، كيف تكون حالي لو أني مواطن في دولة حرة فأدعى إلى الجندية، وأحمل سلاحي وعتادي وطعامي بين هذه الأخاديد يجري فيها اللهب؟ وهكذا تصابرت وسكت حتى بلغنا شاطئ البحر الميت.
... وكنا في طريقنا نشاهد السيارات الكبيرة تحمل وسوق المعادن المستخرجة من البحر الميت، بعد أن بقيت في جوفه أجيالاً. حقاً لقد كان البحر ميتاً، وإنه من الإسراف في الظلم أن نسميه البحر الميت، وهذه المعادن(1/369)
الحياة تخرج من جوفه الأبدي فتبدو خصائصها في صنع الحياة وصناعة الموت!
... ركبنا الطائرة المائية من قاعدتها في البحر الميت، وكانت أول خبرتي بركوب الطائرة من قواعد الماء واليابسة على السواء، ولعل المستقبل يطالعنا بقواعد في الهواء، وكدت أن أكون راجفاً واجفاً حين رأيتني أجتاز متون الفضاء، والتمست شجاعتي أبحث عنها في أعماق نفسي، وأوشكت أن تخونني لولا أني رأيت بعض السيدات والأطفال يقتعدون أماكنهم برصانة وهدوء فقعدت وتصابرت.
... ومن الجو شهدنا رقعة الوطن بكامله، شهدنا بقاعاً لم يكن قد وقع بصرنا عليها، وإن كنا فيما مضى قد ضجرنا من مشاهدتها على الخرائط والأطالس بالألوان والرسوم، وأخذت الطائرة تختال بنا بين أطباق الفضاء كأنها تُدل بسيطرة العلم وجبروت العقل. وفي مكان ما من الجو استطعنا أن نرى في خفقة واحدة حدود فلسطين، مغارب البحر الميت ومشارق البحر المتوسط، وهذا هو القطر الذي يراد أن يكون دولة مستقلة، تجمع ببصرك مشرقها ومغربها في وقت واحد، ومن مكان واحد.
... أما مشهد زروع النيل المطرزة على الأرض، فبالغ حد الإعجاز في الروعة والفتنة، وهذه الصحارى المحيطة بالزروع الجميلة تبدو وكأنها فاغرة فاها، لتبتلعها وتعيدها إلى قديم عهدها بالصحراء. ولم تَنقضِ ساعتان على ركوبنا الطائرة حتى هبطنا مطاراً في النيل. وأكبر ظني أن أصدقائي في فلسطين، وقد حسبوا السفر من مطار اللد، كانوا في تلك اللحظة يغدون ويروحون على رصيف المطار ليودعوا راكباً قد وصل إلى حيث يريد منذ(1/370)
زمان !! ، وكانت إجراءات الدوائر المختلفة لدخول القطر المصري آية في اليسر واللطف لولا ما لقينا من الموظف المختص بمراقبة الكتب والمطبوعات، فقد وقعت يد هذا الموظف على كراريس وتقارير رسمية عن القضية الفلسطينية باللغتين العربية والإنجليزية، فأصر على إبقاء هذه الأوراق وإحالتها للمراقبة، وسألته أن يقرأها ليتحقق أنها تقارير رسمية وليس من المعقول أن تخضع للمراقبة، فقال لي إنه لا يعرف العربية، ثم رجوته أن يقرأ الأوراق بالإنجليزية فقال: إنه لا يعرف الإنجليزية أيضاً. وقد كان يحادثنا برطانة يونانية ولا يبالي بنا، على حين كان الموظفون المصريون من حوله يجاهدون لإقناعه بخطأ رأيه، ولكن هذا اليوناني قد انتصب أمامنا يملي إرادته في القاهرة، كأنما هو الإسكندر المقدوني يحكم في الإسكندرية.
... ثم توجهنا إلى أوتيل شبرد، وبعد أن أخذت بنصيب من الراحة ذهبت إلى السيد أسعد داغر محرر الشؤون العربية في جريدة الأهرام، فرحنا نتحدث في شؤون فلسطين، ولما انتصف الليل، عقدنا هدنة إلى حين، لنستأنف الحديث في صبيحة اليوم التالي.
... وكان أوتيل شبرد يعج بألوان الزائرين. والألوان هنا كلمة حقيقية لا مجازية، فقد وفد على هذا النزل عروق وأجناس وألوان من مشارق الأرض ومغاربها، وأصبحت القاهرة أرض الميعاد وموطن اللقاء. وكانت الصينيات بملابسهن المزركشة وخطواتهن اللدنة، موضع تفكهه وإيناس. وكان في النزل بعض الزعماء الصهيونيين وهم في طريقهم إلى لندن لشهود المؤتمر(1/371)
الصهيوني الذي ينعقد في آخر الشهر، ولم أكن لأدري من هؤلاء الناس لولا أن صديقاً مصرياً أشار بأن أخافت في الحديث حين مروا بجانبنا.
... ولكن زعيماً صهيونياً لم أكن لأخطئه، فقد عرفته وهو يغدو ويروح في ردهات الفندق بخطواته الثقيلة، وكان هذا هو بن غوريون بلحمه ودمه، وخصلتي شعره المحدبتين على صلعته كقرنين معقوفين، ولقد مر بن غوريون بجانبي غير مرة، وكان يرسل إليّ نظرة خاطفة من عينيه الصغيرتين، وكنت أرّد عليه بنظرة مماثلة من عيني الكبيرتين، فنحن نعرف بعضنا بعضاً أمام لجان التحقيق من غير كلام ولا سلام.
ولأن يكون بن غوريون في القاهرة نزيلاً لأوتيل شبرد - القديم - ويقضي أياماً في اجتماعات متصلة مع زعماء اليهود في مصر، فهذا ما لا يصدقه الناشئون من رجال الأمة العربية (1) ، ولكن ذلك كان حال الجاليات اليهودية في
الوطن العربي قبل أن تنشب النكبة مخالبها، وقبل أن تكشر الصهيونية عن أنيابها.
... وفي الصباح زارني السيد أسعد داغر فاستأنفنا الحديث الذي لا ينتهي، وقد ينتهي ولكن من حيث يبتدئ، حول قضيتنا وتنظيمنا الداخلي، ثم التفت السيد داغر إلى كهولة تختال بالفتوة والقوة، فإذا به السيد أرشد العمري وزير خارجية العراق العائد من مؤتمر سان فرنسيسكو ، فذهب بي صديقي وقدمني إليه، فاغتنمتها فرصة وشرعت أسأله عن مهمته في سان فرنسيسكو وعن رأيه في المكتب العربي وإنشائه في الولايات المتحدة، فلم يلق بالا إلى
__________
(1) * كان هذا هو الحال حين أعدّ الشقيري كتابه ولكن الواقع تبدل تدريجياً منذ معاهدة كامب ديفيد المصرية والإسرائيلية ثم أوسلو و وادي عربة مع فلسطين والأردن وإن كان على نطاق محدود ]المحرر[ .(1/372)
المكتب فقد أصبح لا يؤمن بالدعاية ولا يعلق عليها كبير أمل، مع أنه كان قبل سفره - كما قال - أول من آمن وأول من تفاءل ولكنه لم يَرَ بأساً أن نسافر ونجرب، وهكذا كان لا بد لي أن أسافر وأُجربِّ.
... وفي القاهرة زرنا المفوضيتين السورية واللبنانية، ولقد كان بهيجاً حقاً أن يصبح لدولتي الشام مفوضيتان ترفعان علمين يرمزان إلى الحرية والاستقلال، ويقوم بالعمل في هاتين المفوضيتين رجال كانوا إلى عهد قريب مطاردين مشردين، وها قد طاب لهم القرار، ولكن مضيا في الجهاد بالبناء والإنشاء.
... وكان الأمير نسيب شهاب قائماً بأعمال المفوضية السورية، والسيد تقي الدين الصلح قائماً بأعمال المفوضية اللبنانية، وكان أعيان الجاليتين السورية واللبنانية يدخلون إلى مفوضيتهم وهم لا يصدقون أن فرنسا قد خرجت من سوريا ولبنان، ولم يكن ينقص من فرحتهم إلاّ أن فلسطين لم تبلغ مرحلة الاستقلال. وكان بعضهم يسرف في التحليل والتعليل، والمقارنة والتشبيه بين فلسطين من جانب، وسوريا ولبنان من جانب آخر من ناحية دولية، وقد قال لي السيد حقي العظم من زعماء سوريا المعروفين:
- لماذا لم يقدم أهل فلسطين شكوى إلى محكمة العدل الدولية ... قلت: وما هو موضوع الشكوى؟
... قال: فلسطين مشمولة بانتداب (أ) (1) مثلها في ذلك مثل سوريا ولبنان، فإذا كان هذان القطران قد أصبحا مستقلين، فلماذا تحرم فلسطين من الاستقلال؟
__________
(1) في الأصل انتداب (1) والصواب انتداب "أ" [المحرر].(1/373)
... قلت: ذلك هو الحق والمنطق، وذلك هو القانون الدولي، ولكن منطق الاستعمار يقول بغير ذلك. أن الاستعمار مستعد أن يمنح الاستقلال لفلسطين ولكن بعد أن تصبح يهودية كما أن إنجلترا إنجليزية .. وذلك ما تعمل له الصهيونية ليل نهار، وما نحن فيه على غفلة، ليل نهار ..
... وتوالت الأعوام واستقلت أقطار إفريقية مصنفة تحت إنتداب (ج) وهي دون فلسطين بدرجتين، ثم استقلت بعدها أقطار أخرى ليست مصنفة في شيء .. وكان مقدراً لهذه الأقطار أن تبقى "مستعبدة" إلى الأبد، لا أمل لها بالحرية والاستقلال ..
... ولقد شهدت في حياتي في الأمم المتحدة هذه الأقطار جميعها تدخل الأمم المتحدة كدول مستقلة، وعملت مع العاملين على الدفاع عن حريتها واستقلالها، ولكن كان نصيب فلسطين أن تقع تحت الاحتلال، وأن يصبح شعبها أشتاتاً من اللاجئين يقتاتون من الأمم المتحدة، كالأيتام على مائدة
اللئام ..
... وكان بودي أن أزور السيد عبد الرحمن عزام الأمين العام للجامعة العربية وعدداً من الأصدقاء، غير أن نسائم الإسكندرية قد اجتذبت إليها الحكومة المصرية ومعها الجامعة العربية، ولا سبيل أن أفلت من القاهرة، فمكتب الطيران يلح علينا أن نكون غير بعيدين عن الاوتيل، فقد يخطرنا بالسفر ساعة بعد ساعة، وكان لا مناص من غشيان الأوتيل ساعة بعد ساعة. فأعاد ذلك إلى ذاكرتي شهر نيسان عام 1936 حين صدر الأمر بإبعادي إلى سمخ (طبريا) وطَلبتْ إليّ السلطة أن أثبت وجودي في مركز البوليس مرة(1/374)
في كل ساعة بين الشروق والغروب، فلم أجد حينذاك فرجاً من هذا الإرهاق إلاّ بعد أن اتخذت مسكناً لي في جيرة دائرة البوليس، ورحت كل ساعة أمدّ رأسي من النافذة لأشعر البوليس بوجودي!(1/375)
ما أعقل هذا الجنون!
... أعلمنا مكتب الطيران أننا مسافرون في مساء هذا اليوم 29-7-1945 فأخذنا نجهز أنفسنا للسفر، وطفنا بالأصدقاء نودعهم، وفي الوداع بعض التفريج عن وحشة السفر. وبعد المساء غادرنا الاوتيل إلى المطار الأمريكي (مطار القاهرة الدولي (1) حالياً) على مسيرة نصف ساعة بالسيارة مما يلي مصر الجديدة، وفي تمام الساعة العاشرة مساء حلقت بنا الطائرة في سماء القاهرة ومضت تشق طريقها في الفضاء عبر شمال أفريقيا من المشرق إلى المغرب، فلم يتح لنا الليل أن نرى تلك البقاع التاريخية التي كانت إلى عهد قريب ميدانا فاصلاً من ميادين هذه الحرب، ولم نستطع أن نتجلى معالم المواقع التي طفحت بها جغرافيا الحرب، ولم تكن جغرافيا التلمذة أيام الصبا لتذكرها في قليل أو كثير.
... والواقع أني كنت تواقاً أن أشهد، ولو في الجو، ساحات الحرب العالمية الثانية في الجبهة الإفريقية، حيث تجسدت العبقريات العسكرية بين الفريقين المتحاربين، كراً وفراً، ولم يكن ذلك حباً للاستطلاع فحسب، فقد كانت الحرب العالمية الثانية تستهدف وطننا ومصيرنا. وكان على جيلنا أن
__________
(1) * الاسم الرسمي هو: ميناء القاهرة الدولي ]المحرر[.(1/376)
يتعلم الجغرافيا من جديد، فيما سترسم هذه الحرب من خطوط ملونة على الأطالس، وحدود جديدة على الأرض.
... وظلت الطائرة تمزق سكون الفضاء من غير ارتجاج أو اهتزاز حين أقبلت علينا عاصفة ثائرة لعبت بالطائرة لعب مارد متجبر، وغدت الطائرة التي كانت حتى الآن تسيطر على الجو وتمزق آفاقه، موضع عبث وسخرية بين يدي العاصف الجبار. وقد استمر هذا العاصف ممسكاً بها ساعة أو بعضها ولم يفلتها إلاّ قبل هبوطنا في بنغازي، بعد أن قدم بين يديها آية من آيات القدرة الكامنة في هذا العالم الجبار.
... وهبطنا في بنغازي في أعقاب الليل فشملتنا رهبة المكان الذي تداولته الجيوش المحاربة مرات ومرات، وفيه احترب الناس حتى آخى بينهم الموت، ولقد أسفت أن حرمنا الليل زيارة هذه المدينة، فمن يدري لعل جحافل العرب قد سلكت هذا الطريق قبل اثني عشر قرناً، حين قذفتهم الجزيرة العربية ومشاعل النور بأيديهم.
... وفي بنغازي أخذنا بنصيب من الراحة وواصلنا سفرنا ميممين شطر طرابلس، وقد استشعرت إغفاءة نوم، بعد أن سلخت معظم الليل صريع الدوي والضجيج، وهبطنا في مطار بريطاني على مقربة من طرابلس، ذلك أن الطائرة قد أُنبئت بضباب كثيف في مطار طرابلس، ولا يستطيع القائد أن يتبين موطن النزول، فأنسنا باليابسة مرة أخرى، لننعم بالنسيم هادئاً ساكناً، وإن كان مثقلاً بالرطوبة ..
... ولقد طال انتظارنا أن ينجلي الضباب عن المطار في طرابلس، وأنا أعلل نفسي أن أطوف بالمدينة قدر ما يجود الوقت، حتى لقد رضيت أن(1/377)
تحملني إليها سيارة فندور من حولها ونجوس خلالها وكفى .. ففي ذلك ما يبل جانباً من الشوق، ولكن هذا الضباب قد حرمني هذه المتعة العزيزة.
... وقبل الظهر امتطينا الطائرة إلى طرابلس بعد أن أيقنا انكشاف الغمام، وما هي إلاّ فترة، حتى جالت بنا الطائرة في سماء هذه المدينة، فأشرفنا على زروعها المترامية ونخيلها المنظم، ومنازلها المبعثرة، فثارت في نفسي ذكرى مرابع دمشق وغوطتها، لولا أن النخيل هنا قد أضفى على المدينة لونا عجيباً من الجلال والجمال. ولكن غوطة طرابلس، وإن بعثت الفتنة فإنها تثير الحسرة واللوعة، فإن أكثر هذه الزروع قد خرج من أيدي العرب إلى أيدي الطليان. ودعوت الله أن يكون ذلك إلى حين، وحين قريب!
... وفي محطة المطار لقيت شابين يهوديين أحدهما عامل في المطعم، والثاني بائع جرائد ومجلات، وكلاهما من أهالي طرابلس.أمّا الأول فقد سمعني أكلم رفاقي بالعربية فسألني إذا كنت عربياً. قلت نعم. فمد رأسه من وراء حاجز المطعم وقال بالإمالة والغنة اليهودية المعروفة: أنا يهودي. فأردفت أني عراقي من بغداد. ثم مضى لبعض شأنه. ولكنه عاد إليّ وأمطرني أسئلة أخرى. فأجبته بلا ونعم، ثم لاحظ أني طلبت شراباً على حين طلب رفاقي طعاماً. فقال لي: أحسنت فيما طلبت من الشراب، لأن الطعام ليس جيداً. فقلت في نفسي هذه أول طلائع الدس .. ولكنه دس ماكر، ولست أدري أنصحني أم نصح صاحب المطعم، أم خدعنا نحن الإثنين، فقد يكون الشراب أسوأ من الطعام.(1/378)
... ورأيت أن أقابله بدس آخر فسألته: ألا تذهب إلى فلسطين؟ قال: ومن أين لي، ليس لدي جواز سفر؟ فقلت له لعلك تجد وسيلة ما، وأنت الآن في أرض المطار، فجحظ في وجهي فلم يجده ينم عن الجد، فمضى ومضيت.
... أما اليهودي الثاني فقد حشر نفسه في "كشك صغير" أتخمه بالكتب والجرائد والمجلات. ومن فضول القول، أو من لزوم ما لا يلزم، أن أقول إنه يعمل صرافاً أيضاً. وقد اقتضاه عمله في المطار أن يعرف اللغات كلها، فهو يعرفها كلها إلاّ اللغة العبرية، فهو يوقن أنه لا يحتاجها في عمله، إذ ليس يعقل أن يقصده، يهودي يصرف، فالصراف لا يقصد صرافاً، وأيّهم ليس بصراف؟ فمكرت لهذا الشاب أيضاً وقلت له إني بغدادي. فسألني عن تل أبيب فقلت له: لا أعرفها، وإن كنت قد سمعت بها. ثم سألته عن إقامته في طرابلس فقال: أن فيها مولده، ومولد أبيه وجده إلى آجال. قلت له: أي البلدين أحب إليك؟ تل أبيب، أم طرابلس. ولكن الشارين والمتفرجين قد أحاطوا حينئذ بالكشك الصغير وهموا بالشراء، فانصرف هذا اليهودي إلى البيع والمساومة وكفى نفسه عبء الجواب.
... ثم صاح بنا ضابط الطائرة فهرولنا إليها لتحملنا إلى تونس، فجالت وصالت ثم اقتحمت طريقها فوق البحر المتوسط لتقطع ذلك الخليج الجميل، من غير مجاملة ولا مهادنة. فأخذت ترتفع في أجواز الفضاء فوق الضباب والغمام.
... هذا البحر من تحتنا أشبه شيء بالسماء أو هو السماء، وتجلت الطائرة بين سماءين متباعدين، اتصلت آفاقهما بين أحضان الهدوء والسكون، وتناولت قلمي وورقي لأكتب وقائع اليوم، فالتمع في خاطري أن الإنسان في(1/379)
هذا الكون العجيب نقطة هندسية من غير طول ولا عرض ولا عمق، وأن هذا الإنسان وإن استفتح كثيراً من مغلقات هذه الدنيا فسيظل، مهما استفتح ومهما استكشف، النقطة الأولى في الألف الأولى "من الدنيا"، ومع هذا، فإن تلك النقطة لا طول لها ولا عرض ولا عمق.
... وظلت هذه الخواطر تنتابني حتى هبطت الطائرة في تونس، فإذا بها رقعة من اللهب، لا ينفع فيها ظل ولا شراب. وفي هذا المطار رأيت كثيراً من الفتيات اليهوديات يعملن في الأعمال المختلفة، ولم يتيسر لي أن أكاشفهن في حديث بريء أو خبيث، ذلك أن الجنود قد ضربوا حولهن ذراعي كماشة في شراء ودعابة، ولم يكن في مقدور المدنيين أن يخترقوا هذا الطوق!!
... وعقب الظهر امتطينا طيارتنا نستهدف "وهران" فأشرفنا على جبالها ومروجها، ولم تكن هذه المرحلة من السفر مريحة فهي مفاجآت بين الهبوط والارتفاع، بين الجفاف والرطوبة، وبين الحرارة والبرد. أضف إلى ذلك أن إعصاراً قد هب علينا بعد مغادرتنا تونس، فصهرنا حرها وأرهبنا إعصارها، وكم لقيت تونس من نار الظلم وإعصار السياسة.
... وكنت كلما ظفرت بالحر أعزي نفسي بهؤلاء الجنود، الناعمي الجلباب، غضاض الإهاب، ذوي الوجوه الشقراء والعيون الزرقاء، رجالاً ونساء، بل كنت كلما تخيلتهم على ظهور الدبابات ووراء المدافع يدفعون حمماً ويلقون شواظاً من نار في الظهيرة اللاهبة من اليوم اللاهب، رجع إليّ صبري وارتد إليّ عزمي.(1/380)
... ولكن خاطراً واحداً أقضّ مضجعي لم أجد له تعزية ولا تسلية، ذلك أن هذه الرحلة كلها، من البحر الميت حتى شمال أفريقيا قد كشفت عن مطارات ومطارات، مرصعة في الصحراء، وعلى مقربة من المدن، آخذة بالنمو والازدياد. هنا في مواطن العرب مطارات تنشأ وتبنى، وأنا ذاهب لأنشئ مكتباً عربياً في واشنطن، أحرك فيه لساني وقلمي. أنا أعنى بالكلام ليسمعوا، وهم يمضون في إقامة القلاع والحصون لنتفرج، فأين نلتقي؟ وكيف نلتقي؟ ومتى نلتقي؟ إذا ما مضينا في إنشاء المكاتب، ومضوا في إنشاء الحصون والقلاع. لعل الأجيال القادمة تجد لنفسها الجواب، فقد التمسته فما وجدته، ولست أبغي أن أكذب نفسي وقومي.
... ومضت بنا الطائرة ثلاث ساعات أو تزيد نقصد إلى وهران، وقد امتدت من تحتنا المزارع والإقطاعات الكبرى منتشرة في الأرض الرحبة، ومن حول وهران الكروم والزيتون والزروع، كل ذلك في تنسيق عجيب، والمنازل الريفية تتصدر المزارع وقد ازدانت بالبساطة والجمال. وليست هذه المنطقة مدينة كبيرة مزدحمة، ولا هي مجموعة قرى زراعية متجاورة، ولكنها إقليم بكامله مرصع بالمزارع المتباعدة، تربطها الطرق والمعابر من كل جهة، إلى كل جهة، ولا يقوم في المزرعة إلاّ بيت أو بيتان. وهذه المنطقة الواسعة عالم رحيب من هذه الإمارات الزراعية، تشبه إقطاعات القرون الوسطى ... كانت هذه هي الجزائر في ذلك الحين ...
... وهكذا فقد زالت معالم العروبة من هذه البقاع الفاتنة، وليس يبرر هذه المظلمة الفادحة أن الأرض قد عمرت بالكروم والأشجار، فإن كل كرمة، وكل شجرة قد أغمدت جذورها في فؤاد شهيد، أو صدر قائد صنديد.(1/381)
... ولم أمسك نفسي عن التمادي في هذه الشجون إلاّ حين هبطنا المطار، لتقلنا طائرة أخرى تحملنا إلى الدار البيضاء، فبلغناها أوائل الليل في جو منعش لطيف، يعقد الكرى في الأجفان، ويسبغ الهدوء والسكينة.
... ونهضت صبيحة اليوم التالي بعد نوم هادئ عميق، لم أنعم به قبل الآن، فإن حر القاهرة في الأيام التي سبقت سلبني النوم، فذهب النوم نهباً بين القاهرة والطائرة.
... ودعوت الخادم لبعض شؤوني، فسألته عن جنسيته، فقال انه "عربي" فأخذت أوضح له مطلبي فلم يفهمني، وبدأ يرطن لغة لم تكن عربية في جرسها ولا صيغتها، ثم رحت أستبين هل يكون هذا الخادم عربياً، فعاد وقال إنه عربي، فجعلت أكلمه بكل اللهجات التي أعرفها بين فلسطينية وشاملة ولبنانية ومصرية وبدوية لعله يفهم فلم يفهم، فاستعنت بكل المترادفات التي أعرفها فصيحة وعامية، وفي هذه اللحظة حمدت ولوعي بحفظ المترادفات أثناء الصبا. ولكن الخادم البائس أربكه عدم الفهم، كما أربكني عجزي عن الإفهام، وأفلتت من الخادم في هذه الأثناء كلمة إفرنسية كنت أسمعها في مصايف لبنان، ففهم وفهمت، وانشرح وتألمت.
... ولست أنكر مثل هذه الفروق في الأمم الكبيرة والصغيرة على السواء، ولكن أي داع أن تتأصل هذه الرطانة في اللغة العربية. وكل ما يحتاجه الشعب العربي الكبير تعليم إلزامي إبتدائي يقوم على كتب واحدة، وأصول واحدة، وفي لهجة واحدة.
... وخرجت بعد ذلك إلى المدينة أطوف شوارعها وميادينها وأستمع إلى ناسها، ووددت لو يفسح لي الوقت دراسة أكثر عمقاً وتحقيقاً، ففي هذه البقعة(1/382)
يقرأ المرء صفحة من صفحات الإستعمار الإفرنسي الملطخ بالعار الأبدي. وها أنا أرى المدينة تبدو وكأنها قطعة مختلسة من الشاطئ الإفرنسي، أو كأنما اتصلت اليابسة فلصق الشمال الإفريقي بشاطئ فرنسا الجنوبي، فتشابها وتشاكل الأمر.
... وهنا لا تسمع إلاّ اللغة الإفرنسية من المواطنين والإفرنسيين، ولم يبق للوطنيين إلاّ الأزياء المهلهلة و الأعمال الحقيرة. وكنت حين أقرأ أن زعماء فرنسا قد اعتزموا أثناء الحرب أن يناضلوا من شمال إفريقيا، لا أدرك بإحاطة شاملة كيف يقاتلون من إقليم أجنبي في شمال إفريقيا، ولكنني بعد الذي رأيت في الدار البيضاء أيقنت أن ذلك لا يتعدى انتقال حركة الحرب الإفرنسية من إقليم فرنسي إلى إقليم فرنسي، كما كاد أن ينقل الحكم الروسي من موسكو إلى "كويشيف" أثناء هذه الحرب الثانية.
... وحين يبلغ المرء الدار البيضاء يكون قد قطع أفريقيا من الشرق إلى الغرب، في خلال أربع وعشرين ساعة. ولقد وقفت على شاطئ الأطلنطي أفكر في هذا الخطف الطائر يحمل المرء من القاهرة ليكون مساء اليوم الثاني في الدار البيضاء، ينعم بالنسميات الوادعة إذ يرسلها المحيط الرهيب.
... ولم يكن هذا الخاطر يثنيني عن إكبار الحملة العربية الكبرى قبل ثلاثة عشر قرناً وقد قطعت الفدافد والصحارى، والوهاد والأنجاد، ثم ضربت سهمها في أحشاء أفريقيا الشمالية، وراح هذا السهم ينحني ليخترق إسبانيا وجنوب فرنسا.
... وعلى ضياء هذا الخاطر تنعكس صورة جميلة هي صورة المستقبل الذي نتطلع إليه، ولئن عجز الخيال عن إبرازها الآن بالروح والجسم فلا(1/383)
يعجز أن ينزلها بين حروف الهجاء وقوالب الألفاظ. وستظل هذه الصورة لوحة فنية رائعة، يراها كل عربي بفؤاده، وإن لم تخضع لقرطاسه ومداده، تلك هي صورة الوطن العربي الكبير حراً موحداً مستقلاً.
... ولكن أنىّ لهذه الصورة أن تتحقق، فقد ألقى الاستعمار الإفرنسي جذوره عميقة في المغرب والجزائر وتونس، والاستعمار الإيطالي، أغرز أنيابه في ليبيا، وكان الحديث عن استقلال هذه البلاد خرافة "يا أم عمرو"، والقائلون به يرمون بالخيال أو الخيال.
... ولكن معركة الحرية الإنسانية كانت أسرع من تشاؤم المتشائمين. فلم تنقضِ بضعة أعوام حتى انطلقت حركات التحرير في الشمال الإفريقي تشدد ضرباتها على الاستعمار فكان أن استقلت ليبيا وتونس والجزائر والمغرب، وكان لي شرف المساهمة بقدر متواضع، في الدفاع عن هذه الأقطار العزيزة كما سيأتي ذكره، وشهدت حفلات الاستقلال فيها "على الأرض" بعد أن رأيتها مستعبدة من الجو ..
... وفي عام 1945 كان الحديث عن استقلال هذه البلاد، جنوناً، ثم جاءت الأيام تثبت أن العقل كل العقل هو في بعض الجنون.
... وما أعقل هذا الجنون!!(1/384)
سذاجات أمريكية في جزر الخالدات
... ولقد كنت في الدار البيضاء ثملاً في فيض زاخر من هذه الخواطر والذكريات، ولم أَصحُ منها إلاّ عند الظهيرة حين تلقينا النبأ للاستعداد للتوجه إلى المطار، فعادت إلينا حُمّى السفر وهيبته، وأسرعنا إلى المطار وأنجزنا معاملات السفر، ثم دعانا الضابط إلى غرفة المحاضرات فاذ بنا نستمع إلى حديث عن سبل الوقاية إذا طرأ ما يحمل الطائرة على الهبوط في الماء. فتكلم المتحدث بجد، وأصغى المستمعون بجد، ولأمر ما لم أكن مكترثاً ولا سميعاً، وانصرفنا إلى الطائرة نأخذ أماكننا ولم يبدُ على أحد أي تردد في السفر، وخيل إليّ أن في قلب الإنسان إلى جانب الزاوية التي يستقر فيها الخوف، زاوية أخرى تعيش فيها المغامرة والمجازفة.
... ولعل مصدر شعوري بقلة الاكتراث ظني أن الأمر سيكون محاضرة، وكفى الله المؤمنين!! ولكني دهشت حقاً حينما تقدم إلينا ضابط الطائرة يأمرنا جميعاً أن نتدرع بجهاز الإنقاذ، فارتبكت وندمت أني لم أُصغ للمحاضرة ولا عرفت كيف يلبس، وخيل إليّ أني سأسقط في الامتحان، تمهيداً للسقوط في الماء، غير أني حاكيت وقلدت، فلبست كما يلبسون، وعلى الله فليتوكل المتوكلون!!
... ورأيت جماعة المسافرين ينصرفون إلى كتبهم يلتهمونها، والكتب زادهم في السفر،أمّا أنا فرجعت إلى مذكراتي و أخذت أكتب وأكتب، لا(1/385)
يشغلني إلاّ منظر آفاق الغيوم من تحتنا، تنعقد فوق سطح الأطلنطي، أخاديد وجبالاً، ووهاداً وسهولاً، يتصل كل ذلك بأفق السماء، وتسطع الشمس فتبدو الأرض كأنها أصبحت عهناً منفوشاً. وهنالك يهبط الرشد والتقوى بصمت وجلال، ولا يبقى غير وجه ربك ذي الجلال.
... وفي الطائرة فاجأنا جندي بتقدمة لطيفة: هي علبة جميلة تزيد على راحة الكف قليلاً، ألقاها الجندي وتكلم كلاماً جعله ضجيج الطائرة غير مفهوم، فآثرت أن أنقذ نفسي بالتقليد مرة أخرى لأدفع آفة الجهل والسخرية .. والتفتُ إلى جاري فإذا هو يفتح العلبة ويخرج منها علباً صغيرة متفاوتة في الحجم، هذه تحتوي السكر، وهذه تحتوي الخبز، وهذه تحتوي الجبن، وهذه تحتوي أربع سجاير، وهذه تحتوي حلوى وهذه تحتوي لحماً، وهذه ... يؤلف ذلك أجمعه طعاماً صحياً كاملاً ولذيذاً. إنها علبة صغيرة حقاً، ولكنها صنعت بالملايين، وانتقلت إلى معسكرات الدنيا، فأنتجها الملايين، واستهلكها الملايين، وهنا أصغر الدلائل على نهضة الأمة وعظمتها. فالتفت إلى جاري الأميركي وقلت له ليست هذه علبة وإنما هي مطبخ سيار، ولكنه سخر مني دهشتي وقال: إنك واجد في هذه الطائرة كل شيء، فاطلب أي شيء. وكدت أن أطلب شيئاً، حتى لقد بلغ هذا الطلب أطراف شفتي ولساني، غير أنه التمع في ذهني، بسرعة الوميض وفجأة الخاطر. أن هذا الطلب الذي أمسكت به شفتاي إنما يستجاب بزوال هذه الرفاهية الناعمة وأمثالها من الرفاهيات التي تستمتع بها الشعوب الكبيرة على حساب الشعوب الصغيرة، وكان الطلب الذي أوشكت أن أسأله في هذه الطائرة: الحرية، الحرية، لا تظلم أحداً، ولا يظلمها أحد.(1/386)
... وحين أشرفنا على جزر الخالدات (الأزور) أخذت الطائرة تدنو من سطح الغيوم، والدنو هنا يتم بالهبوط لا بالصعود. والقرب من هذه الغيوم التي افترشت مكانها في الآفاق يقضي بأن تهوي الطائرة قليلاً قليلاً بين أحضان الفضاء. فأخذت الطائرة تهبط رويداً رويداً، ونحن نقترب من هذه المشاهد العجيبة تزيدها أشعة الشمس بهاء ورواء .. ولقد مررنا في جيرة هذه الغيوم حتى يكاد المرء أن يدس يده في غلالات هذه الحياة الهائمة في الأزل، الحائمة إلى الأبد، كثيفة هنا شفافة هناك، ضاربة في السماء، هابطة إلى البحر، ممتدة في الآفاق منبسطة في الفضاء، بكل الأشكال الهندسية التي تعرفها حركة الخطوط وانطلاقة الخيال، من غير تشابه أو اتساق، حتى يبدو أن كل غائمة قد أفلتت من يد الوجود على غير نظام أو هدف.
... وهبطنا أرض المطار فإذا بالدنيا ماطرة، والجو مبتل رطيب، فأخذنا نضم معاطفنا الثقيلة إلى أجسادنا، وكنا إلى يوم واحد فقط، في تونس وغيرها، نود لو نستطيع أن نتسلل من جلودنا حين ألهبنا الحر.
... وحملتنا سيارة إلى (براكة (1) في المعسكر، نقيم فيها ما شاء الله حتى يأتي دورنا في طائرة أخرى تقصد الولايات المتحدة.
... وتعيد هذه البراكة إلى ذاكرتي (البراكة) التي استضافتنا بضعة أشهر حين اعتقلت مع المئات من المواطنين عام 1937. وليس بين البراكتين فرق
__________
(1) * البراكة أو البراكية: مستودع واسع نسبياً يبنى من الزينكو (الصفيح) وغالباً ما يكون في المزارع والبيارات ، ويتّسع أحياناً للدواب ومستلزماتها من تبن وأعلاف، ومستلزمات زراعية من سماد وأدوات حراثة والمنتوجات الزراعية..الخ لحين نقلها من المزرعة وفي بعض الأحيان يأوي إليها الزراع وعمال المزرعة .(1/387)
كبير، فبراكتي الآن فيها أسرة نظيفة، مبطنة جدرانها بما لا ينفذ معه البرد والحر، مفروشة أرضها بالخشب دفعاً للرطوبة، منورة بالكهرباء، يتوفر فيها الماء ينساب إلى كل المرافق.أمّا براكتنا القديمة فهي براكة وكفى، ولا بأس أن تكون محرومة من جميع المزايا التي ذكرتها، فللقديمة على الحديثة أفضال ومزايا، منها كثرة المجرمين النازلين فيها ممن عجزت العدالة عن الاقتصاص منهم لفقدان الدليل، فرأت السلطة أن تزجهم في براكاتنا مبالغة بالنكاية بنا، فجمعت بين المجرمين والسجناء السياسيين.
... وفي الليل مر بجانبنا ضابط أميركي، فسألنا شيئاً فأجبنا، ثم تعارفنا، وما أيسر سبل المعرفة بين المسافرين. وهذا الضابط ذكي الفؤاد لامع الذهن حاضر النكتة والبديهة، وإن كانت البساطة الأميركية لا تربأ أن تعيش إلى جانب علمه وثقافته. وتحدث هذا الضابط إلينا معظم الليل فتناول حديثنا كل شيء.. روسيا وبريطانيا والهند وبلاد العرب. ومن حسن حظ النجوم والأفلاك أن حديثنا لم يشملها بخير أو شر. ويبدو هذا الضابط عالماً وجاهلاً، عميقاً وساذجاً، محباً وكارهاً، واثقاً ومشككاً، مستقراً ورجراجاً، كأنما جمعت هذه الشخصية من جزءين متناقضين محتربين، كالكرة الأرضية نصفها ملفوف بالظلام ونصفها مغمور بالنور. وأمام مثل هذه الشخصية تبرع الدعاية الصهيونية والأساليب الصهيونية في تعبئة الأنصار والمؤيدين. وهنا في جزر الخالدات أشفقت على أولئك الذين يعارضون في الدعاية العربية وقيمتها، وفي ضرورة تعريف العالم بالأمة العربية وأقطارها.
... ووقعت بيني وبين الضابط الألفة، ثم رفعت الكلفة، ثم كان بيننا الحوار، مليئاً بالسذاجات والسخافات.(1/388)
... الضابط: من أين أنت؟
... قلت: عربي.
... الضابط: عربي؟ أنت عربي؟
... قلت: نعم أنا عربي.
... الضابط: أظنك مسلماً محمدياً؟
... قلت: نعم أنا مسلم محمدي.
... الضابط: أصحيح؟ أصحيح؟ أنت هادئ ووديع.
... قلت: نعم ولم الاستهجان؟
... الضابط: (مقهقهاً) المسلمون في شمال أفريقيا يملأون معابدهم (لعله يقصد الزوايا) بالضجيج والصياح فهل أنت مسلم؟
... قلت: هذا ليس صحيحاً، هذه ابتهالات ومناجاة، وهل تسمي الأناشيد والموسيقى في الكنيسة ضجيجاً؟
... الضابط: أعلمت عن آبار البترول التي يستنبطها الأميركان في بلاد العرب، بعد أن عجز الإنجليز عن إدراك مكامنها.
... قلت: نعم علمت.
... الضابط: ولكن السعودية العربية تجهل هذه القوة الكامنة في أحشاء الأرض، إنها الفلسفة الإسلامية التي لا تقدر مزايا هذا الجوهر الجاثم في أعماق الصحراء.
... قلت: ولكن ما شأن الفلسفة الإسلامية أو العقيدة الإسلامية، وأي تعارض بينهما وبين استغلال البترول وإنتاجه واستعماله؟ ان الفلسفة الإسلامية تحث على العمل، فوق الأرض وتحت الأرض.(1/389)
... الضابط: لا أدري، ربما، أظن أنها العقلية الإسلامية المتأخرة، ولكن قل لي: كيف تؤدون شعائر رمضان في المناطق المتجمدة التي ينطوي نهارها في ليلها، ولا تشرق الشمس معظم أشهر السنة.
... قلت: حين يدخل الإسلام إلى تلك الأصقاع سيصوم المسلمون في اليقظة، ويفطرون إذا أقبلوا على النوم، يصومون نصف اليوم ويفطرون النصف الآخر، فمن رأى القدرة في نفسه صام، ومن عجز أفطر، وإن أعجزتهم رؤية الهلال التمسوا الشمس، فإن لم يجدوها جعلوا الساعة، وقد اخترعها العرب، قاعدة صومهم وإفطارهم.
... الضابط: ان عملكم شاق، فأنتم تريدون إنشاء قومية عربية متعصبة تشمل مسلمي الهند والأفغان وغيرهم من الأقطار الأخرى.
... قلت: أنت مخطئ، لا علاقة لمسلمي الهند بالقومية العربية السياسية إلاّ من الناحية الروحية، ثم شرحت له مقومات القومية العربية.
... الضابط: هل تؤكد ذلك.
... قلت: بكل تأكيد، ومستعد أن أقسم على صحته.
... الضابط: أشكرك، لقد وضح لي الأمر الآن، ولكن، قال لي: لماذا لا تندمجون مع تركيا، وتجعلون الأحرف اللاتينية مكان الأبجدية العربية.
... قلت: تركيا دولة مستقلة، ونحن أمة تعمل لاستقلالها وحريتها. وأنتم لماذا لا تندمجون في كندا أو أية دولة أخرى؟ أمّا الأحرف العربية فنحن نكتبها وننطق بها، نفعل ذلك مسرورين مبتهجين، ولم نبثث شكوانا منها إلى أنفسنا أو إلى غيرنا، ولكن لماذا لا تكتبون أنتم بالأحرف الهيروغليفية القديمة أو بالأحرف الصينية الحديثة فهي جميلة الصور والرموز، تجعل الكتاب أو(1/390)
الرسالة مطرزة مزركشة!! على أننا إذا رأينا ضرورة قومية فلن نتأخر عن إبدال حروفنا بأحسن منها.
... الضابط: وما هي هذه الضرورة القومية؟
... قلت: الضرورة القومية هي حاجة اللغة للتطور والنمو، فحين نوقن أن آلافاً وآلافاً من أمثالك يرغبون أن يتعلموا اللغة العربية، وأنه لا سبيل إلى ذلك إلاّ بالأحرف اللاتينية فلن ...
... الضابط: إنك مخطئ لم يكن هذا قصدي.
... قلت: لقد كان ذلك قصدك من غير شك، ولكن لماذا لا تعرف أنت اللغة الألمانية أو الفرنسية وحتى الإنجليزية الصحيحة "باللهجة الإنجليزية دون الأميركية" مع أنها كلها تكتب بالأحرف اللاتينية ... !!
... هذه نماذج في غاية الإيجاز مما دار من الحديث الذي استغرق أكثر الليل، ويقيني أن الضابط قد انصرف وهو عازم أن يعيد النظر فيما ورث من العلم أو سمع من العلم،أمّا أنا فاستسلمت إلى فراشي، وقد أنساني هذا الضابط الشعور بأني أبيت في براكة ذكرتني بالأيام السالفات من السجون والاعتقال.
... وهكذا نمت على هذه السذاجات والسخافات في جزر الخالدات!!(1/391)
الدولة العربية المتحدة في إنسان
... نهضت في صباح اليوم التالي ووجدت جسدي في "البراكة" فعادت إليّ الصور المترادفة عن يقظاتي في المعتقل، وطاف في نفسي ذكر الرفاق القدماء من مدمني الاعتقال ومرتادي السجون، ولم أفطن لحاضري إلاّ حين أمعن إخواني الثلاثة في الشخير المتنافر، رقة وخشونة، علواً وهبوطاً، وهم يبثون من خلاله شكوى الجهد والإرهاق. وخرجت أجيل بصري في الجبال المحيطة بنا في هذه الجزيرة التي يقطنها بعض مئات من البرتغاليين. وأبصرت بالأطلنطي يحتضن هذه الجزيرة، ولكنه ما زال منذ القدم يضربها بأمواجه، ويظللها بغمامه، ويشدد الطوق من حولها، وينقص من أطرافها، ويأكل نواتئها، ويخلع عليها الفقر والفاقة حتى أعياها الكفاح الأزلي المتواصل. وبدا الأطلنطي من حولها وقد مل الصراع فتهادنا وتصالحا، فكانت جزر "الخالدات" وكان صلح وكان سلام.
... وفي عصر النهار ظفرت بضابط أميركي يلقي إلينا السمع ونحن نتحدث بالعربية، فأقبل علينا بجميع زيه العسكري وبعض كلماته العربية، فإذا هو لبناني من أسرة صعب، من قرية حول زحلة، وإن كان يصر أن اسمه "سيب" وهو في الخامسة والعشرين من عمره، وضعته أمه في الوطن الأميركي، يتكلم اللهجة الأميركية بمدها وقصرها، ورنَّاتها وغناتها، ويفكر بالتفكير الأميركي برشاقته وبداهته، وإن كانت المتناقضات الأميركية لم(1/392)
تصب من عقله شيئاً .. نعم إنه أميركي ولكن ما أجمل هذا الشباب، وما أقوى هذا الشباب وما أعظم هذا الشباب، هذا العظم الصليب ، وهذا الوجه الاسمر مرصع بالعيون السوداء ، ترسل الشعاع نفاذا أخاذاً، وهذا الشعر الأسود الأدكن يطل على جبهة تشع بالحزم والعزم. لله هذا العربي، بل لله هذا الإنسان الكامل، الدم العربي والسمت العربي تزينه الجندية المدربة. ورأيت في هذا العربي دليلاً على الاستعداد القومي الكامن في كل عربي، ومن يدري فلعله كان يظل فلاحاً جاهلاً فقيراً ومريضاً، ولعله ينقلب مجرماً يقطع الطريق ويستبيح الدماء، بل لعله يكون عالة على المجتمع، لو أن أبويه بقيا في الوطن القديم، لا ينعم بعناية الدولة، وتدريب الدولة، وجميع الفرص التي تفجر المواهب وتوجه الإبداع. وإن الملايين من شباب العرب من الذين يعيشون تحت كل سماء وكوكب، من الخليج إلى شواطئ الأطلنطي تكمن فيهم القوة والاستعداد الفطري، وتنطوي فيهم جميع المزايا، "الخام" التي تتألف منها شخصية هذا الشاب اللبناني الأميركي. ولو أن هؤلاء الملايين من شباب العرب قد شملتهم رعاية دولة واحدة في هذا الوطن العظيم لأمسكوا بزمام العظائم، وانتهت إلى أيديهم مشاعل الحضارة والعرفان، يرفعونها عالية وكريمة. فما أعظم هذه الصورة وما أكرم هذه الأهداف.
... ولقد عدت ولقيت هذا الشاب الأميركي مرة أخرى في أرض المطار حين كنا ننتظر الطائرة التي تقلنا إلى جزيرة "برسك" في شمال الولايات المتحدة، وكان لقائي إياه قصيراً هذه المرة، كان لقاء خاطفاً حقاً، ولكنه بسط أمامي ذكريات امتدت عشرات من السنين في تاريخ الأمة العربية، وأبرزَ حقيقة واحدة تقع في سدرة المنتهى من حياتنا السياسية، وهي أن الحكم(1/393)
الوطني، الفاضل العادل، هو وحده يصهر معايبنا، ويهذب من فرديتنا، ويوجه أنانيتنا الوجهة السامية، ويشعرنا بمواطن القوة فينا، ومكامن الإبداع المستقرة في نفوسنا.
... ولقد أثلج صدري أن أحسّ هذه المعاني الخالدات في جزر الخالدات، فقد أوحى إليّ هذا الشاب الأمريكي المتحدر من أصل عربي صورة الشاب العربي في الدولة العربية المتحدة، والوطن العربي الواحد من غير حدود ولا جسور، وأراد الله أن أرى في "صعب اللبناني" أبعاد الوحدة العربية، وأعماق الدولة العربية المتحدة، وما تستطيع أن تصنع من الملايين والملايين من شباب العرب: شخصية شجاعة، وجندية باسلة.
... و إذا كنت قد وجدت في "صعب اللبناني" رجائي، فقد رأيت فيه كذلك "عزائي" فأنا أخشى أن أقضي نحبي ومعي كل جيلنا، ولا نرى الدولة العربية المتحدة في حياتنا .. ولكن، الحمد لله، لقد عشت الدولة العربية المتحدة في إنسان - ذلك كان عزائي ... إنه صعب اللبناني العربي الأميركي ..
... وإني أكتب الآن في الطائرة التي تقلنا، وهي طائرة معدة لنقل الجنود وليس فيها رفاهيات الطائرات السابقات، يضاف إلى هذا أن الأماكن التي يقصدها معظم المسافرين من الجنود تقضي علينا بأن نحمل إلى أقصى الشمال كرهنا أم أحببنا. ولقد رفّه عن نفسي حين التفت إلى اثنين من الجنود، اقتعدا أرض الطائرة ومضيا يلعبان الورق، فأقاما مقهى جوياً، لعله أول مقهى في الجو، أقامه الإنسان!!
... ولقد خطر لي في هذه الطائرة أن أسأل أميركياً بجواري عن رأيه في الرئيس ترومان، فقال: إنه مستقيم ونزيه، ليس له ارستقراطية روزفلت. فقلت(1/394)
له: وما هي شارة الاستقامة؟ فقال: إنه قبل أن يتولى منصب الرئاسة قام بالتحقق من سلوك "المتعهدين" الذين تعاقدوا مع الحكومة على صنع بعض المواد والقيام ببعض الأعمال، فكشف النقاب عن ابتزاز أموال جسيمة من خزينة الدولة وأدى تحقيقه إلى محاكمة معظمهم، والحكم عليهم بالسجن.
... وهنا وثبت إلى السمع والإصغاء وثوباً، وانقلبت حواسي الخمس - إلى حين - حواس سمعية، لأستوعب هذا الحديث فلا يفوتني منه شيء. وحين فرغ من حديثه رجعت إلى نفسي وحمدت الله أن الأثرة والابتزاز، واصطياد المغانم، معايب شائعة بين الأمم، وهي أكثر ما تكون ضخامة وجسامة في الأمم الضخمة الجسيمة، وصغرت معايباً أمام نفسي، وتبددت الخرافة الشائعة هنا وهناك في أن العرب لا يصلحون للحكم، يحتاجونه أن تولوا أمره، والبقرة عندنا هزيلة غير حلوب!!
... و أخذت الطائرة تجوز بنا أطباق السماء، في ليل رهيب، فوق بحر مخوف انقطعت في سمائه كل معاني الأنس، فأبدلت بظلمات الوحشة والرهبة. والرحلة تستغرق ثلاث عشرة ساعة متمادية، وقد توسطتها عاصفة مدلهمة رجرجت الطائرة من غير رحمة ورفق. وأنذرنا الضابط بأن نأخذ الحذر لأنفسنا، فزاد ذلك من دهشتنا وخوفنا. وحين رأينا الجنود العائدين من ميادين الحرب يقطبون جباههم، وقد غاضت أشواقهم للأهل والوطن، ازدادت مخاوفنا، وطافت نفوسنا مذعورة في كل مجالي الفكر وآفاق الزمن. هنالك انقطعت أسباب المرء بالقدرة الإنسانية، فانخذلت شجاعته وانصهرت ذاتيته وأنانيته، ولم يجد ما يهدئ الروع إلاّ أن يسترخي في أحضان العناية الإلهية، وأن يستسلم للمشيئة القاهرة الحافظة، ثم بعث الله سكينته فزالت العاصفة،(1/395)
وعادت إلينا إنسانيتنا الناسية الجاحدة. وبلغنا أرض المطار في "برسك" وهي قرية في أطراف الحدود الشمالية للولايات المتحدة، وكنت أتمتم بالشعر خافتاً باسماً، فسألني أحد الرفاق: أشعر هذا؟ قلت شعر عربي قديم:
أنل قدمي ظهر الأرض إنّي رأيت الأرض أثبت منك ظهراً
... ووصلنا القرية، ووصلت معنا إنسانيتنا العابثة الواثقة، وذهبنا إلى فندق عسكري، وقد كانت الساعة السادسة صباحاً. الناس يكادون ينهضون من نوم عميق، ونحن نحاول أن ندخُل أجسامنا المجهدة في غلالة النوم، نصطنعه اصطناعاً، ونستدعيه بكل حيلة ووسيلة، ولو لساعة أو بعض الساعة.
... ولقد نمنا ساعة أو بعض ساعة، ثم انتزعنا أنفسنا من فراشنا انتزاعاً، لركوب الطائرة إلى نيويورك، ولكن لم يكن بد من اختلاس بعض الوقت للتعرف على هذه الضاحية الجميلة، فركبنا السيارة لنطوف في شوارع هذه القرية، التي قيل لنا بأنها قرية. أستغفر الله: ان هذا هو الفردوس الذي فقده الفلاسفة والشعراء، وها هو جاثم في هذه الروضة، وقد أحاطت بها المروج الجميلة وأطلت عليها الهضاب المكسوة بالفتنة والدلال.
... وهذه القرية، كما أرادوا، تعيش من الزراعة والتجارة، أنزلت فيها الطرقات نزول الأعصاب في الجسد، انها تصل إلى كل بيت وتمتد إلى كل حي، كما تبلغ الأعصاب كل طرف وكل حي. وحول هذه الطرق رصفت الأشجار الكريمة، تعانقت أغصانها بكل حنان وسكون، لتنصب قباب الظل الوارف يُرفّه عن العابرين والمتعبين. لله ما أجمل هذه البيوت المنسقة أبدع تنسيق، لكل منها حديقتها الزاهرة ومرجها الوادع، وملعبها الذي يمرح فيه(1/396)
الأطفال، ومن حولهم وطن يقدم بين أيديهم مفاتنه وحسنه، ليقدموا بين يديه دمهم وشبابهم ..
... هناك عرفت لمَ يستبسل هؤلاء الناس من أجل وطنهم، فليسوا حين يدعون إلى ركوب البحر والجو، يحاربون عن وطن جامد جاحد، ولكنهم يبادلون الوطن ما قدم لهم في الطفولة والصبا من نعماء الحياة. وإنهم ليبالغون في الفداء والبذل إبقاء لهذه النعماء الرضية الندية، وليس يهم بعد ذلك ان كانت هذه الحياة الندية هي خلاصة من حياة بقية البشر الذين يعيشون في الناحية الأخرى من الدنيا.
... ورجعنا من جولتنا إلى المطار لتقلنا الطائرة إلى نيويورك، فوثبت بنا بين أحضان الرياح تميل ذات اليمين وذات الشمال، غير أن هذه المرحلة من سفرنا قد امتازت بالباراشوت، حملناه على أكتافنا بعد أن شرح الضابط كيفية لبسه واستعماله، وتم لنا بالفهم والنظر، لا بالتدريب والممارسة، تقلد جهازين أحدهما الواقي حين الهبوط في البحر، والآخر الواقي حين الهبوط في اليابسة، ولقد خطر لي أن هذه الوثبة إلى الجندية من قمتها العليا، قبل أن ندرب على مبادئها الأولى، عمل مجيد حقيق بالحمد والثناء .. وهكذا يكذب المرء على نفسه، ليدفع عنها مرارة الحرمان ولوعة الجهل.
... وفي هذه الرحلة يشهد إنسان الجو الطبيعة تحتفل بذاتها، فتختال بكل زخرفها وزينتها، فهذا الإقليم الممتد من "برسك" جنوباً موطن فتنة ومبعث سحر وجلال. الأنهار تنساب هادئة بين مواطئ الربى وعلى صدر السهول، البحيرات الصغيرة والكبيرة مبثوثة هنا وهناك على غير نظام وانسجام بكل الأشكال الهندسية التي تعرفها حركة الخطوط وحرية الخطوط، أحراش(1/397)
الصنوبر بعثت ظلالها رسل محبة إلى البحيرات والأنهار، والطائرة ترسل دويها ليمزق ذلك الحنان يرف بين الأغصان وهذه البيوت الريفية تتربع مكانها في رؤوس الربى وعلى حواف الوديان، وقد حنت عليها الأغصان، لتكون أعشاش دعة وسكينة واطمئنان، وكأنما أودعت أفانين الجمال في هذه الأرض، رقعهَ رقعة، ثم جمعت إلى بعضها، فجاءت صورة حية تنطق بقدرة الله على ترصيع هذا الحسن وهذا البهاء.
... ولقد أرسلت بصري في هذا الإقليم فلم أشهد أرضاً معطلة أو مهملة، وخُيلّ إليّ أن الأرض هنا قد أعدها الله في قديم أزله لتكون زروعاً، أو أشجاراً أو مطاراً!!
... ومضت بنا الطائرة ثلاث ساعات فوق هذه المفاتن الفاتنة، إلى أن هبطنا في ضاحية نيويورك، وحملتنا سيارة إلى مدينة نيويورك فبلغناها عقب المساء وقد أبت أنوارها على الليل أن يلقي سدوله. وحملتنا المصاعد إلى مكاننا في الفندق، ورأيت من النافذة فُيوضاً من الأنوار تصعدها الأرض إلى السماء، كأنما نذرت هذه المدينة أن تنفي عن الأرض ما أرسلت إليها السماء من الأنوار في كل العصور والآجال.(1/398)
حزين .. في نيويورك
... استيقظت في هذا الصباح 3-8-1945 لا كما ألفت وعهدت، فقد رأيت نفسي في الغرفة السابعة والثمانين بعد الالف، في الطابق السابع عشر من أوتيل أديسون من مدينة نيويورك، ولا تزال فوقي عشرات من الغرف يصعد المصعد إليها متواضعاً وهادئاً.
... نزلت إلى المدينة وقضيت ساعة، مشدوه البصر في هذه العظمة والفخامة. وفي هذه المدينة عشرات الميادين نصبت فيها عشرات التماثيل وسط الحدائق والمروج، وقد مشى فيها من الخلائق من مشى، ووقف من وقف، واضطجع من اضطجع، شباباً وأطفالاً وكهولاً، رجالاً ونساء، وكل يعمل على شاكلته، ويأخذ بمتعته، لا يثير التفاتاً من أحد، أواستهجانا من أحد. وحين عدت إلى الاوتيل بين العمارات المتناطحة وقفت إلى جانب واحدة منها أحاول أن أبلغ ببصري أعلاها فخيل إليّ أن رأسي قد دار حول كتفي، وأنَّ كتفيَّ قد أخذا يميسان في الهواء، فأمسكت عن المحاولة وقنعت بما رأيت.
... ولما وصلت الفندق اتصلت تلفونياً من غرفتي بالمفوضيات العربية بمدينة واشنطن، وكان لا بد لي أن أستعين بدليل التليفون فإذا به بضعة مجلدات تضم الورق الرقيق، عبئت فيه الأحرف الدقيقة تعبئة كثيفة، ولم يكن ذلك للدولة كلها ولا للولايات التي تتألف منها الدولة، وإنما لمدينة واحدة.(1/399)
... وحول الظهر فاجأنا بعض "الأميركيين" المنحدرين من أصل عربي من أهالي فلسطين بزيارة كريمة، ودعونا إلى طعام عربي أو سوري "كما يريدونه" فالتف من حولنا بعض العرب، ودوت اللغة العربية في قاعة الطعام، وتراشقنا بالنكات العربية، ونسينا لساعة من الزمن أننا بعدنا عن الوطن قريباً من خمسة آلاف ميل مقيسة بالهواء .. ولكن عاودتنا وحشة الاغتراب، واذّكار الأهل والأصدقاء، حين عدنا إلى الفندق، وسرعان ما سمعنا اللغة الإنجليزية، من الأفواه الأميركية، بين مد وقصر، وابتلاع لبعض الأحرف، وإشباع لبعضها الآخر، وغنة وإمالة، بين المقطع والمقطع، حتى خلتني في حاجة إلى تعلم هذه الموسيقى، قبل الشروع في تأسيس المكتب العربي!!
... وخرجت في المساء لأرى هذه المدينة العظيمة، فإذا بالخلائق تملأ الميادين، و إذا بالشوارع تعج بالأمواج البشرية الهادرة، تسير في كل طريق وفي كل جهة، إلى السينما والملاهي والمطاعم. إنه سيل لا ينقطع، سيل من كل مكان وإلى كل مكان، وتساءلت: من أين اندلعت هذه الجموع؟ وكيف تكاثفت؟ من أين تجيء وأين تذهب؟ ولو وقفت في أي نقطة من هذه المدينة فلن يتيسر لك أن ترى "مصدر" هذه الأمواج البشرية، إلاّ إذا أشرفت عليها من الجو، ومن الجو البعيد ..
... ولقد وقفت برهة أتأمل هذه الحركة الدافقة، الدافعة، الذاهبة الآيبة، من الشبان والرجال والكهول، جميعهم في أحسن زينتهم وملابسهم، ملأوا الأفق أريجاً وعطوراً، جميعهم منصرفون إلى المرح والحبور، إلى الضحك عالياً وهادئاً، إلى الحركة رشيقة وعنيفة، لا ترى وجهاً عابساً متجهماً، أو بصراً شارداً مؤملاً. ولست ترى نفوساً تفكر في غدها أو أمسها، قريباً أو بعيداً.(1/400)
جميعهم يعيشون تلك الساعة، لتلك الساعة، في إشباع جوارحهم بكل ألوان المسرة والبهجة، ليس لأحد أن يراقب، أو يغتاب أو يحاسب، فكل معني بنفسه، وتجري بين يديه مسراته ومباهجه، وقد انتصبت هذه الحضارة أمامهم تقوم على خدمتهم وترفيههم، وتدلت عليهم هذه الليالي تضيئها المصابيح، والأفئدة والأحداق، بفيض من الأنوار، لا يحيط به خيال.
... وإنه من حق هذه الخلائق أن تغترف بكل حواسها ألوان اللهو والبهجة، بعد نهار أضنى العمل فيه كل جوارحهم. أجل من حقها أن تنعم بكل ذلك، وقد اطمأنت إلى نفر من الرجال يديرون شؤون الدولة، فيعملون على رفعة الوطن وإسعاده، والاستزادة من كنوز هذه الدنيا وخيراتها.
... وقد زادتني مشاهد البهجة والسرور، ألماً وحزناً، لا حسداً ولا حقداً، فنحن لا نحسد على الناس نعماءهم، ولكني تذكرت أني فلسطيني وأّني
عربي ...
... كفلسطيني، تنغصت أن شعبنا يعاني كل أنواع البلاء فلا يستطيع أن يفرح ويبتهج .. لا يطيب له أن يغني ملء فمه ولا أن ينشد ملء فؤاده.
... وكعربي، حزنت أن شعوبنا حزينة أبداً وباكية دائماً، ان أنشدت فنشيدها بكاء، وإن غنت فغناؤها دموع ...
... وفي فجر اليوم التالي، ولم أكن قد نفضت غبار السفر، أبكرت إلى المحطة لأستقل القطار إلى "ناراجنسيت" لزيارة السيد علي جودت الأيوبي الوزير المفوض للعراق، (رئيس وزارء العراق لاحقاً)، وكان في مصيفه. وأدهشني أني سألت بعض المارة عن المحطة فقالوا لي: أنت في المحطة،(1/401)
وظننت أنهم لم يفهموا لهجتي الإنجليزية أو أنني لم أفهم لهجتهم الأميركية، لولا أن المارين على التعاقب قد أكدوا أني في المحطة التي أبغيها.
... وكان طبيعياً أن أقع في هذه الحيرة، فقد رأيت نفسي وسط بناء عظيم تتشعب فيه الطرقات بحيث تحتاج إلى الترقيم، وتتكاثر فيه المطاعم والمتاجر وباعة الصحف والحلاقون، والأروقة والمكاتب والمصاعد، والسقوف المرصعة بالنجوم، والناس رائحون وغادون، يتحركون تحرك الآلة لا تباطؤ ولا تثاؤب. إلى العمل، إلى السفر، حتى لتؤمن أنك في مدينة كبيرة، توافرت فيها كل الأسباب.
... ركبت القطار ومضى بي أربع ساعات بين الأحراج والأرياف الجميلة، والمروج الساحرة، ولم أكن أدري شيئاً عن هذه الأحراج في هذه الدنيا الجديدة، وتساءلت: أقديمة هي؟ أم هي من زرع الإنسان الجديد؟ وأي مجهود بشري يقدر على هذا الغرس والتحريش يغطي الأقاليم بعد الأقاليم؟ وقد يبدو للمرء أن الأرض هنا كانت منذ الأزل كثيفة بالأحراج والأشجار، فجاء الإنسان وأخذ يسوي منها بعض الرقاع، فيرصع فيها القرى والمدن والطرقات والمصانع والمنتزهات.
... وحين بلغت ذلك المصيف الجميل قصدت أوتيل (كارلتون)، ولقيت الوزير العراقي، وحدثته بمهمة المكتب العربي وشرحت له أهدافه وخططه، وأفضت في بعض نواحي القضية الفلسطينية ورجوته أن يتعاون مع زملائه مفوضي الدول العربية للإشراف على أعمال المكتب. ولكني لم أكن قد أتممت حديثي حتى تجهم وجه الرجل، واحتشدت كل مشاعره وجوارحه في بريق عينيه، ولمعان أوداجه، واندفع يبدي عطفه على القضية الفلسطينية، وقال: إنه(1/402)
لا يحب إهراق الدماء ولكنه يشتهي أن يموت في الميدان صوناً لعروبة فلسطين. فرفعت رأسي لأحدق بالرجل بعد هذه العاطفة العاصفة، فإذ بعينيه تتألقان بالدمع يفيض من هذه الرجولة الكريمة، ثم سكت وسكت، كأنما هيمنت علينا روح فرضت السكينة المكبوتة. فودعته وانصرفت شاكراً له هذه الروح العربية وصدق العزيمة والقوة الكامنة في صدور الرجال.
... وفي السنين الماضيات، وقد مر على ربع قرن إلى يومنا هذا، لقيت عدداً من الملوك والرؤساء، والأمراء والوزراء، بكى بعضهم، وتباكى البعض الآخر، فما أجدانا البكاء ولا خدعنا التباكي، وضاعت فلسطين، ونزح شعب فلسطين تحت كل سماء وكوكب.
... وستروي هذه المذكرات حكاية البكاء، من بكى ومن تباكى ...(1/403)
الأمير فيصل .. ناظم القدسي
القنبلة الذرية
... كان الأسبوع الأول من شهر آب حافلاً بالأحداث، بدايتها عربية وقمتها دولية، فقد زرت الدكتور ناظم القدسي (رئيس الجمهورية لاحقاً) الوزير المفوض للجمهورية السورية في نيويورك في (فندق وولدورف استوريا) وقد كنت عرفته أيام المؤتمر العربي المنعقد في بلودان عام 1937، وكانت بيننا زمالة في العمل بلجنة الدعاية والنشر التي انبثقت من ذلك المؤتمر، وها نحن نلتقي الآن بعد سنوات للتعاون في حقل وطني يشبه ما اجتمعنا له سابقاً، وما تزاملنا فيه سابقاً، فكان توارداً لطيفاً. ولقد رأيته هذه المرة وقد ازداد اعتقاداً بفائدة الدعاية، فوق ما اكتسبته إقامته في أمريكا.
... وعلمت أن الأمير فيصل آل سعود ينزل في نفس الفندق فسارعت إلى زيارته والسلام عليه، وكانت أول معرفتي به، فألمعت إلى سبب مقدمي للولايات المتحدة، وأهداف المكتب، إلماعاً عابراً طمعاً في أن أكون مستمعاً وكفى.
... والأمير يكون قد قضى في هذا اليوم قريباً من أربعة أشهر اتصل خلالها بالأوساط الأميركية، فأخذ يتكلم عن مؤتمر سان فرنسيسكو، وأعمال الوفود العربية، وأحابيل الحركة الصهيونية، للدس على القضية العربية في(1/404)
فلسطين واستصدار تصريح سياسي يؤيد الدولة اليهودية والهجرة اليهودية، ثم تحدث عن العقلية الأمريكية والأساليب التي يؤخذ بها الأميركان.
... ولقد تحدث عن ذلك جميعه ببساطة وطلاقة لا تكلف ولا تزمت، كأننا على معرفة منذ زمن بعيد. يؤدي الرأي سهلاً واضحاً ثم يعزز حديثه بحركة من يده خفيفة ورشيقة وهو معتدل في مجلسه ينم وجهه عن الثقة والعزم فلا تجتاحه عاطفة ولا يهبط به برود أو فتور. ولو استطاع السامع أن يغيب ذاته ونفسه ساعة من الزمن لظن أنه بين يدي الصحراء الهادئة الوادعة.
... وقد تكاثر الصحفيون الأمريكان على الأمير فيصل يمطرونه بأسئلتهم
.. وللصحفيين الأمريكان طريقة بارعة في طرح الأسئلة المحرجة ... وكان الأمير فيصل يجيب على السؤال بسؤال .. أو يرد بجواب موجز مسكت، على غرار الأجوبة المسكتة التي عرفها الأدب العربي في تراثنا العظيم ...
... ومال إليّ أحد الصحفيين ليهمس في أذني: وأين تعلم الأمير ... .؟
... فأجبت: في أكبر جامعة في العالم.
... قال: وما هي؟
... قلت: الجزيرة العربية.
... قال: ألست مازحاً!!
... قلت: لا، بل أنا جاد .. أن الجزيرة العربية كلها نباهة وذكاء .. أو لم تعط الإنسانية تلك الحضارة الرفيعة التي تجنون الآن ثمارها.
... قال: نعم هذا صحيح ..
... وانصرف الصحفي الأمريكي يحمل أوراقه، وفيها أجوبة الأمير، وأجوبتي عن الجامعة الكبرى التي درس فيها الأمير ...(1/405)
... وتشاء الأقدار أن أزداد مع الأيام معرفة بالدكتور ناظم القدسي بعد أن أصبح رئيساً للجمهورية السورية، وأصبحت رئيساً للوفد السوري، ومساهماً في صنع الأحداث السورية، وأن تكون لي معه ومع غيره من رجالات سوريا شؤون وشجون ستجد لها مكانا في هذه المذكرات.
... وتشاء الأقدار كذلك أن ازداد معرفة بالأمير فيصل، وخاصة بعد أن أصبحت رئيساً للوفد السعودي في الأمم المتحدة، وتجري الرسائل بيني وبينه، ثم ازداد معرفة به بعد أن أصبح ملكاً، لألقاه في مؤتمرات القمة، ويصبح حوارنا وأحاديثنا ذكريات ومذكرات ...
... وجاء صباح اليوم الثامن من الشهر الثامن - 1945 - والتقينا نحن ثلاثتنا الأمير فيصل والدكتور ناظم القدسي وأنا، كأننا على ميعاد، وكان ميعاداً مع النبأ الرهيب، يدوي في الآذان، ويذهل البصائر والأبصار، الصحف طافحة به وحده وقد امّحت الأخبار الأخرى، لقد اختفت أخبار المحاكمات التي شطرت الدنيا إلى معسكرين حول إدانة بيتان، وأنباء الحرب وما تثيره في الأذهان، جميعها قد امحت وتقهقرت أمام أنباء "القنبلة الذرية" التي قذفت على المدينة اليابانية فصهرتها وأرجعتها إلى الأعماق، ثم أفشت في كل آفاقها حشوداً من الموت والنار والدمار ..
... ولقد تحدثت الصحف عن هذه القوة الرهيبة تنطلق من الذرة، وأخذ رجال العلم يكشفون بعض النقاب عن نتائج هذه القوة، وعن ثورة العلم وقدرته حينما تسير هذه القوة في خدمة المدنية الإنسانية. وأفاضت الصحف عن التجارب التي سبقت إطلاق هذه القنبلة في صحراء المكسيك. فعمت الدهشة(1/406)
أميركا، وأميركا لا يسهل أن تندهش فقد ألفت الاختراع، وطاوعها الاختراع، ولا تعيش أميركا إلاّ في جو من المشاريع الضخمة والأرقام الضخمة.
... أجل ليس يسهل أن تدهش أميركا فهي التي أقامت الجسور تحت الماء، وفوق الماء، وفي الفضاء، وأنشأت العمارات الذاهبة مع أطباق الجو، وأنتجت للحرب نصف ما أنتج الحلفاء والأعداء مجتمعين، وهي التي سارت بالقطار تحت الأرض المظلمة أربعين ميلاً، وهي التي جاءت بالمعجزات والمدهشات والمذهلات، تقف اليوم مشدوهة أمام القنبلة الذرية: أم المعجزات والمدهشات والمذهلات. ويزيد هذا البهر، وهذا الدهش ما يقوله العلماء من أن قنبلة الذرة إنما تؤلف العتبة الخارجية للكون الرحيب، فيما يحتويه من خارق القوى وعجيب الخصائص.
... ومع النبأ الرهيب جاء النبأ العجيب:
... لقد جثت اليابان على ركبتيها .. ولم تكن تجثو إلاّ للإمبراطور سلالة الآلهة وصفوة القداسة. لقد جثت وجيشها وعتادها متكامل متوافر، وما أصابها وهن ولا ضعف ولا كلل .. ولقد تجثو كل قوى الأرض قبل أن تجثو اليابان. ولقد تأخذ اليابان صاعقة ساحقة فلا تجثو .. ولقد تحيط باليابان الزلازل والبراكين تؤرجحها في كف الأقدار فلا تجثو .. ولكنها تجثو الآن تحت قدمي القنبلة الذرية، تخلع فؤاد الشعب الكبير، ولم يبق له إلاّ أن يطلب الأمن والسلامة لربه ومعبوده، إلى الامبراطور!! وتقاطرت جموع الشعب إلى قصره، نادبة باكية تجر أذيال الخذلان والخيبة.
... هاتان القنبلتان الصغيرتان قد حطمتا عبقريات الرجال في الحرب والسياسة والاقتصاد .. قنبلتان أنزلتا شللاً عاماً في أمة بكاملها فجاءت تطلب(1/407)
السلم من غير قيد ولا شرط، وانقلب معبودها عبداً، وسيدها مسوداً، وقائدها مقوداً. وللعلم على الإنسان آفات وآفات!!
... ولقد كانت القنبلة الذرية سراً مغلقاً يومذاك، لا يعلمه إلاّ الله والراسخون في العلم، وبدأنا نتحدث نحن الثلاثة، القدسي وفيصل وأنا، عن الموضوع حديث الرموز والطلاسم، ولم تعد ذكريات الأمير فيصل في سان فرنسيسكو عن الأمم المتحدة شيئاً جديراً بالكلام، ولا حديث القدسي عن اتصالاته بالخارجية الأمريكية ذا موضوع.
... وكان في الفندق كثير من الوفود العائدين من سان فرنسيسكو إلى بلادهم، في أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية، ودارت الأحاديث بيننا وبينهم عن القنبلة الذرية، حول ما كان وما سيكون ..
... وكان رئيس وفد بيرو السيد بلوندي، وقدأصبح صديقاً لي فيما بعد، يتحدث عن العبقرية الأمريكية وهو يقول:
- القنبلة الذرية هي التي ستصنع العالم الجديد والأمم المتحدة الجديدة.
قلت: وكيف ذلك؟
قال: لم نستطع في سان فرانسيسكو أن نجعل الأمم المتحدة دولة فوق الدول، ولذلك جاء ميثاقها رخواً. ولكن القنبلة الذرية التي ألقيت في اليابان ستنجح فيما أخفقنا فيه في سان فرنسيسكو ..
... قلت: وكيف ذلك، إني جاهل لهذا الأمر ..
... قال: أن امريكا هي التي ستكون الأمم المتحدة، دولة فوق الدول، فإن عندها أسرار القنبلة الذرية، وفي هذا كفاية.(1/408)
... قلت: والاتحاد السوفيتي وبريطانيا وفرنسا، ألن يكون لهم حظ، في أسرار القنبلة الذرية؟ ..
... قال: أبداً ستحتفظ أمريكا بالأسرار ..
... قلت: أنت رجل عالم، وعالم كبير، فهل يظل العلم وأسرار العلم حكراً على دولة واحدة؟..
... قال: نعم هذا سيكون بشأن القنبلة الذرية ..
... قلت له مداعباً: كلانا جاهل .. والحكمة جاءت على لسان شاعر عربي ... وهنا ترجمت له قول الشاعر ...
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تزود
... وافترقنا في عام 1945 على هذا الحديث، والتقيت بالسيد "بلاوندي" أعواماً وأعواماً في الأمم المتحدة، وخطبت وإياه أعواماً وأعواماً في موضوع واحد .. منع انتشار الأسلحة الذرية .. وكنت كلما فرغ من خطابه تقدمت منه لأهنئه وأقول له: أنت جاهل وأنا جاهل .. أو لم تصبح روسيا وبريطانيا وفرنسا دولاً ذرية .. والحبل على الجرار !!
... وإن أنس لا أنسى نيويورك وهي تميد بأخبار السلام أو بأخبار التسليم، بعد القنبلة، ونيويورك لم تنم تلك الليلة ولا رقدت شوارعها وميادينها، ولا هدأت سياراتها الصاخبة، لقد انطلقت نيويورك بكل جوارحها ومشاعرها، فلطالما انتظرت هذا اليوم وهي مكبوتة العاطفة.
... الملايين يزدحمون في ميدان "التايمز" ،الأكتاف لاصقة بالأكتاف، والرؤوس مرصوصة إلى جانب الرؤوس، والأقدام ملتفة بالأقدام، والرجال والنساء، والشيوخ والصبيان والجنود ينشدون ويمرحون ويهزجون، بالحناجر(1/409)
والعيون. الأوراق المذهبة تملأ الفضاء وتهوي على الرؤوس كالفراش المبثوث. المزامير بأنغامها في أفواه الوقار والصبا. الطبول الصغيرة على صدور الكبار والصغار. المصورون طائفون بالسيارات أو مطلون من الشرفات أو منتصبون على قواعد التماثيل. عصائب الشباب "عسكروا" في منافذ الطرق ومقاطع الشوارع ينتزعون الفتيات من الصفوف ليطبعوا على شفاههن القبلات، عميقة واجدة، فهذه راضية وتلك متراضية وأخرى متمردة، تسمع للقبلات صفيراً وزفيراً، والفتيات صارخات أو ضاحكات، أو مستنجدات، ويظفر الشباب بالقبلات وبأحمر الشفاه ...
... ولقد انتحيت جانباً أبصر هذه الخلائق، انطلقت من عقال الحرب فأطلقت عواطفها، ووقفت إلى جانب عصبة من مئات عصابات الشباب رصدوا شبابهم ذلك اليوم على المرح والجبور، ورأيت شاباً مرصعاً بأحمر الشفاه، على شفتيه وذقنه وجبينه وخديه، وقد آوى إلى ظل دكان ليأخذ بعض الراحة، فانتهره رفيقه ليرده إلى العصبة، فأبى وهو يقول "لقد انقضت علي خمس ساعات وأنا على عصب رجلي وعصب شفتي" فمضيت في طريقي وقلت: لو أن أميركا تستطيع أن تهيء لناسها بلوغ المتع الإنسانية وإشباع غرائزها بالآلة الميكانيكية، لفعلت ورضيت وابتهجت، في ذلك اليوم ...
... ولقد انقضى النهار كله، والليل يعقبه، وانقضى اليوم الثاني بنهاره وليله، وقد أفرغت نيويورك كل صباباتها، واستنزفت جميع خلجاتها، حتى القرار وحتى الثمالة. وقد ضجت أجواؤها بأبواق السيارات، أقامت عرسا في الأرض وفي السماء، ولكن الروح اليقظة الشاعرة الحية لا تغفل أن ترى وراء هذه الكتلة البشرية الضاحكة مئات من البيوت يخطر فيها الحزن الهادئ(1/410)
المقيم، وآلافاً من الآباء يطلون من النوافذ وقلوبهم جريحة لما فقدوا من فلذات الأكباد، وآلافاً من الأمهات والشقيقات والزوجات والخاطبات والعاشقات والرفيقات والصديقات حركت فيهن هذه المهرجانات لواعج الأحزان ومواجع الذكريات، ومنهن من لا ترى في النصر نصراً لآمالها، ومنهن من لا ترى في السلام سلاماً لأفئدتها، ومنهن من تتساءل عن الحرب وأهدافها: هل ذهب الأعزاء والأحبة، كما مضى الذين من قبلهم من غير عوض للإنسانية ولا تحقق لمثلها العليا؟.
... وحين أويت إلى غرفتي أنصت إلى الراديو يتكلم من خلاله أديب مرهف الحس، أذهلته ويلات الحرب وما التهمت من زهرات الأجيال، فبكى لشبابها الغض، وعزى الأقرباء والأصدقاء، ورأى في الويلات كلها سبيل الراحة للأجيال المتمخضة في صدر الغيب المقبل.
... ما أجمل الرؤى ولكن ما أمرَّ الخيبة عند اليقظة . وما أجمل السراب. ولكن ما أسوأ العقبى، حين ينقلك السراب إلى سراب.
... فما تزال الحرب هي الحرب، رابضة متربصة، تنتظر الشرارة الأولى!!(1/411)
يا مستر شقيري أنت متشائم جداً..
يا مستر شقيري أنت متفائل جداً
... وفي الأسبوع الأخير من شهر آب 1945 حضرت احتفالاً أقيم في فندق (وولدورف استوريا) تكريماً للمستر دودج عميد الجامعة الأميركية في بيروت وهو الآن في نيويورك لبعض شؤون الجامعة، وقد ضم الحفل نخبة من السوريين تصاحبهم نساؤهم وبناتهم الأميركيات، فكان مجلسي إلى مائدة أنيقة بين عقيلة الدكتور خير الله وهو من كبار الوطنيين العاملين وسيدة أخرى هي عقيلة السيد حمدان غنام من كرام مهاجري فلسطين، وكلتاهما أميركيتان أشبعتا حب البلاد العربية وأخلصتا في هذا الحب.
... وتعاقب الخطباء يثنون على الجهود العلمية والإنسانية التي بذلتها أميركا في الشرق العربي، فتكلم "توماس لويد" من الخطباء الأميركيين المعروفين، وكان طلق العبارة جميل الصوت رشيق المداخل والمخارج، كما كان الدكتور دودج آية من الآيات، قذف عواطفه كلها على أطراف لسانه، وأعجبتني إشارته إلى القنبلة الذرية في أن العالم شهد أكثر منها قوة وأثراً، فألمع في جملة ما ألمع إلى أن شخصية محمد (صلعم) كانت أعظم من هذا المقذوف توجيهاً للإنسانية والحضارة.
... وتحدث الدكتور حتي الأستاذ بجامعة برنستون بأميركا حديثاً قيماً، لولا أنه أكثر من ذكر "العالم الناطق باللغة العربية" تجنباً لجملة "العالم(1/412)
العربي" وتكلم الدكتور صروف وقد قدم من القاهرة في زيارة عاجلة، بصفاء ذهن وبديهة حاضرة ورد على الاقتراح القائل بتسمية الجامعة التي يعتزم تأسيسها في بغداد بجامعة ألف ليلة وليلة، مبدياً رأيه في أن تسمى "دار الحكمة" التي كانت منهل العلم في بغداد، وقلت له حين هنأته، ليتك وجدت سبيلك إلى أن تشير إلى أن بغداد تعرف بدار السلام.
... وخطب كذلك الدكتور قسطنطين زريق "مستشار المفوضية السورية في واشنطن" فامتدح جهود دودج والمعاهد الأميركية، وأبرز قيمة الأمة العربية وحضارتها وآمالها، ثم قرأ الدكتور شارل مالك (وزير لبنان المفوض في واشنطن) كلمة زانتها شؤون الاجتماع والفلسفة، لولا أنها جعلت لبنان يتيم النسيج والتكوين، وأنه لولا لبنان لا يكون شيء ولا كان !!
... وطلب إليّ الحاضرون أن أدلي بدلوي بين الدلاء، وقدمني إلى الجميع السيد خير الله من العاملين في الحقل الوطني في الولايات المتحدة، أمريكي من أصل عربي - لبنان بحمدون -، وطلب إليّ أن أقول كلمة "تناسب المقام".
... فوقفت على المنصة، وأنا لا أدري ما هي الكلمة التي تناسب المقام، ولكل مقام مقال .. وفي ذلك الجمع ثقافات متعددة واتجاهات متنوعة، ولا أدري ما هو المقال الذي يصلح لذلك المقام .. ولكن ذكريات الصبا قد أسعفتني وأوحت إليّ حديثاً يناسب المقام في أمريكا، ويناسب المقام في الوطن العربي.
... أثنيت في مطلع حديثي على جهود الدكتور دودج وشكرت له إشارته البارعة إلى أن الرسالة المحمدية كانت أعظم أثراً في توجيه الحياة الإنسانية،(1/413)
واستدركت إلى القول أن بيت المقدس وهي موطن الإسراء والمعراج ومولد السيد المسيح عليه السلام تهدده الصهيونية بأعظم الأخطار، إلى آخر ما يتصل بهذه المعاني، وشرحت للحاضرين كيف كانت مشاعر الجماهير العربية تقديراً وإكباراً لديمقراطية الولايات المتحدة، وما رأيته في صباي من إقبال الناس على توقيع عرائض تطالب بانتداب أمريكا بدلاً عن الاستقلال، إذا لم يكن ميسور المنال ..
... ثم عقبت على كلام الدكتور حتي معاتباً "المؤرخ العالمي" لأنه أشار إلى الأمة العربية بأنها العالم الناطق باللغة العربية، وعرجت بعد ذلك على كلمة الدكتور مالك منبهاً إلى أن لبنان، على كل مزاياه، لا يستطيع أن يكون له وجود في العالم من غير الأمة العربية، وهو جزء منها ومصيره مصيرها.
... وختمت كلمتي قائلاً، ان السنين المقبلة ستتجلى فيها آمالي ومخاوفي: سيثبت للدكتور حتي أن العرب أمة واحدة، لهم وطن واحد، وليسوا العالم الناطق بالعربية فحسب، وقد وقع هذا فعلاً، ويثبت للدكتور مالك أن حياة لبنان هي جزء من حياة الأمة العربية يتفاعل معها، وقد وقع هذا فعلاً، ويثبت للدكتور دودج أن استمرار الولايات المتحدة في سياستها سيفضي إلى أن تخسر كل رصيدها الضخم في العالم العربي، وسيصبح بيت المقدس بمقدساته الإسلامية والمسيحية فريسة العدوان اليهودي ... وهكذا انتهى الحفل في جو قاتم، وأحسب أن الكلمة لم تكن تناسب المقام ..
... وانفرط الاجتماع إلى حلقات حلقات، وأحاطت بي الأسر العربية "المتأمركة" وبعضهم يمثل الجيل الثاني والثالث ممن تأثروا بالحياة الأمريكية،(1/414)
وهم يقولون لي "يا مستر شقيري أنت متشائم ... ." قلت أرجو الله أن يكون المستر شقيري متشائماً، وأن تخيب ظنوني".
... وباتت هذه المخاوف في صدورنا أعواماً، وكانت لي لقاءات مع أولئك الأمريكيين المنحدرين من أصل عربي في جميع أسفاري إلى الأمم المتحدة، لأسمع منهم رجالاً ونساء: يا مستر شقيري، نحن متأسفون، لقد كنت على حق!!
... ومضت أيام على الحفل الصغير الذي شهدته في فندق ولدورف استوريا. لأشهد حفلاً أعظم وأكبر، بل انه من التواضع أن نسميه حفلاً، فقد كان حشداً بشرياً هائلاً، ذلك هو عيد العمال في أمريكا، والمفروض أن يقع أول "اثنين" من شهر أيلول من كل عام. وعيد العمال هنا عيد شعبي ينتفع به الشعب، العامل وصاحب العمل. وهو عيد رسمي أيضاً تعطل فيه جميع الدوائر الرسمية والشركات. باستثناء مصالح البريد والمواصلات وشؤون الطوارئ .. ومما يزيده قيمة أنه يسبقه الأحد وظهر السبت، فيتسع للخروج من المدن والانتقال بعيداً عن المصانع والمعامل ومراكز الحركة والضجيج. وهنا يتجلى التفكير الأميركي في تنسيق الأمور بما يجعلها أكثر انتفاعاً بالوقت، على أكمل ما يكون الانتفاع.
... وقد خرج الأهلون من نيويورك إلى الضواحي بالقطارات والسيارات العامة والسيارات الخاصة، وازدحمت الطرق الرئيسة بحركة المرور، وكان مثل ذلك يجري كما روت الصحف في جميع المدن الكبرى للولايات، وسجلت الإحصاءات الرسمية لهذه الأيام أربع ماية حادثة دهس مميت، نشأت(1/415)
عن هذا الزحام، ومع هذا فقد أبدت الأوساط الرسمية. ابتهاجها لهذا الموت، لأنه أقل في نسبته مما سبق من السنين.
... وقد خُيّل إلي، وأنا جالس إلى نافذتي أرقب هذه القوافل الخاطفة، أن نيويورك قد خلت من أهلها، وانها أصبحت كالمدن المهجورة التي تبدع الأساطير في وصفها، وخطر لي أن أتفقد ما جرى لهذه المدينة العظيمة بعد هذه الهجرة المرحة، فرحت أطوف ميادينها وبعض شوارعها، ولكني رأيت الأرض ما زالت تعج بخلائقها ولم ينتقص عيد العمال من عجيجها شيئاً، وأنّى لنيويورك أن تهدأ، ويعيش على رقعتها الصغيرة ثمانية ملايين من البشر ليلاً، وعشرة ملايين نهاراً ..
... وفي عصر النهار ذهبت مع رفاقي إلى "كوني ايلندز" على شاطئ الأطلنطي على مسافة نصف ساعة في قطار ما تحت الأرض. وهذه الجزر من أماكن النزهة العامة الشعبية، وتشد إليها الرحال في الأعياد العامة. وفيها منبسط جميل من الشاطئ، انتشرت فيه حمامات السباحة أقيمت على الرمال، ويلي ذلك رصيف طويل عريض فرشت أرضه بالخشب الثقيل المنسق، ثم يلي ذلك صفوف من الدكاكين وأماكن اللهو والبيع والشراء، بينها الأراجيح "الشقاليب" وهي مثل ألعاب بلادنا في الطريقة والأسلوب، وإن كان العلم هنا قد جعلها منظمة ونظيفة، عملية الحركة.
... وقد أمَّ هذه الجزر سواد الشعب، أبيضه وأسوده، العبيد والبيض، وأخذوا بكل أسباب اللهو رجالاً وأطفالاً ونساء، ولم يترك أحد ما يناسبه من الألعاب إلاّ وقد لعبها، فالصبيان على ظهور الخيل النموذجية، ركزت في القواعد الدائرة تدور بهم على نغمات الموسيقى، والفتيان في السيارات(1/416)
الشكلية مثبتة في القضبان الحديدية بالهواء، تصعد بها إلى الأعالي ثم تهوي إلى قاع هذه القضبان بين الضحك والصياح، والعجائز بين يدي رجل "يُبصِّر" عن الأعمار، فترضى بعضهن وتغضب أكثرهن، والرجال صاعدون هاوون في نموذج الباراشوت المعلق بأسلاك من الفولاذ، والمطاعم غاصة بالآكلين والشاربين. وأصحاب الأعمال (يدللون) يدعون المارين لمشاهدة ما لديهم، ورمال الشواطئ لا تكويها شمس ذلك اليوم ولا تسمها بشعاعها، ذلك أن العاريات من النساء والعراة من الرجال قد لصقوا بالرمال وانبطحوا عليها بالألوف، و ألوف الألوف، ومن الأجسام مختلف ألوانها، والشعور منشورة ومدلاة ومستشزرات،أمّا مآزر السباحة فأنواع وأحجام وألوان!!
... هذه الألوف قائمة وقاعدة، مضطجعة ونائمة، وجاثمة وحانية، ولاعبة وساكنة، ثائرة وفاترة، صور وصور، آفاقها فوق آفاق الخيال مهما سما واتسع هذا الخيال، ومن لم يستطع أن يشارك في شيء من كل هذا اللهو، كامرأة طاعنة في السن أو كشيخ فانَ على عكازه، أو كرجل مثلي "مثقل" بوقار الشرق ورزانة البلد المقدس - من لم يستطع أن يشارك فليس له إلاّ أن يتخذ مقعداً مطلاً على هذه الخلائق، يموج كما يموج الأطلنطي وهو عنها غير بعيد.
... إنه موسم كموسم بلادنا، وإنه الشعب في كل مكان بروحه ومرحه، وإنما يسود هنا النظام ويسود العلم وتسود النظافة، وإن لم تَسُدْ الأخلاق كما نفهم الأخلاق!!
... وبينما كنت أسير في أطراف هذا الحشد البشري، تصدى لي السيد زيادة من مهاجري رام الله فلسطين وكان من رفاقي في مدرسة صهيون(1/417)
بالقدس، "وجَرَّني" إلى حلقته الكبيرة التي كان يجلس فيها وكانت تضم عدداً من الأمريكان من أصحاب الأعمال والتجارة، فجلست معهم أستمع إلى أحاديثهم ونكاتهم الأمريكية، ثم أخذ الأمريكيون منهم يسألون عن شؤون البلاد العربية وعن قضية فلسطين، فأجبتهم على أسئلتهم وأفضت في شرح القضية الفلسطينية بأسلوب سهل مبسط يستجيب للسذاجة الأمريكية. وأمطروني وابلاً من الأسئلة عن اليهود وتصرفاتهم في فلسطين، وكانت الكراهية لليهود بادية في أسئلتهم، فرحت أصول وأجول في هذا الميدان الرحب فإن خبرتنا باليهود، نحن الأمة العربية - واسعة مترامية الأطراف، فذكرت كيف كان اليهود يعيشون في جوارنا الكريم في الوطن العربي، فكان منهم الوزراء والنواب والتجار ورجال الأعماليعيشون هانئين مكرمين، على حين كانوا يضطهدون في أوروبا فيذبحون ويعذبون .. و ... و ...
... وحسبت أني استطعت أن أكسب هذه الحلقة الأمريكية والمتأمركة إلى جانب قضية فلسطين بصورة عملية، تتجاوز التصور العاطفي، وقلت لهم: هل تستطيعون أن تفعلوا شيئاً لقضية فلسطين، حرصاً على العلاقات الأمريكية العربية، على الأقل، ان لم يكن حرصاً على الحق والعدل، قالوا: ماذا تقترح؟
... وظننت أني ربحت معركة صغيرة أمام هذا السؤال الصغير .. ولم أشأ أن أقترح الكثير والكبير، بل خطر لي أن يكون اقتراحي في أدنى الحدود، ورأيت أن أقلد اليهود في أبسط أساليبهم وأكثرها يسراً، فقلت لهم: لا اكلفكم كثيراً ولا أمراً خطيراً، كل ما أرجوه منكم أن يكتب كل واحد منكم(1/418)
بطاقة إلى البيت الأبيض يناشده فيها أن يتخذ موقف الحياد بين العرب واليهود، حرصاً على المصالح العربية الأمريكية.
... وساد الحلقة جو من العبوس والتجهم، وخشيت أنهم لم يفهموا "لهجتي الإنجليزية" وأخذوا كلامي على غير معناه، فكررت اقتراحي بعد أن يسرته وبسطته، فخرجت إحدى السيدات الأمريكيات عن صمتها وقالت: أنت متفائل جداً يا مستر شقيري، نحن لا نستطيع أن ننفذ هذا الاقتراح، ان زوجي يعمل في ميدان التجارة، ولا يتورع اليهود عن مقاطعته، ونحن لا نستطيع أن نفعل شيئاً.
... وقلت للأخوة الأمريكان المنحدرين من أصل عربي: وأنتم؟؟ .. الا تستطيعون أن تفعلوا شيئاً لفلسطين، فقالوا: لا نستطيع أن نفعل شيئاً، وكل ما نقدر عليه أن نقدم لفلسطين معونة مالية بصورة سرية، و إذا كنت تظن أننا نستطيع غير هذا، فأنت متفائل جداً يا مستر شقيري.
... وانتهى الحوار عند هذه الخاتمة، وودعتهم وانصرفت، ورحت، وأنا في طريقي أفكر في التناقض العجيب الذي يلف قضية فلسطين:
... في حفلة وولدورف استوريا قال لي القائلون. يا مستر شقيري أنت متشائم جداً.
... وفي يوم العمال قال لي القائلون: يا مستر شقيري أنت متفائل جداً ..
... وحرت في أمري، ماذا أصدق؟ وماذا أكذب؟ لا عن غيري ولكن عن شخصي ونفسي، وبدأت أتساءل هل أنا متشائم حقاً؟ هل أنا متفائل حقاً؟
... وبحثت في أعماق نفسي عن جواب أستريح إليه، وتوصلت بالنتيجة إلى الحقيقة الصارخة: لست إنسانا متفائلاً كما قال البعض، ولا متشائماً كما(1/419)
قال الآخرون، ولكن حديثي إلى هؤلاء وأولئك كان عن أمة لم تصل بعد إلى مستوى المعركة - أمة تملك كل القدرات وكل الطاقات التي تؤهلها للمعركة وللنصر في المعركة، في كل ساحة وميدان ولكن ..
... ولكن القدرات العربية مبعثرة
... ولكن الطاقات العربية مشتتة
... وبكلمة واحدة .. الوحدة العربية متعثرة، وولادتها متعسرة ...(1/420)
الكونجرس في مباذله
... في أوائل شهر أيلول 1945 قدمت إلى واشنطن لبعض أعمال المكتب، وواشنطن مدينة جميلة ما جئتها إلاّ وأوحت إليّ أنها مدينة الحدائق والرياض، ولولا شدة بردها في الشتاء وشدة حرها في الصيف، لكانت من حدائق العالم التي تجتذب الأفئدة والأبصار.
... وعلمت أن الكونغرس ينعقد لأول مرة بعد انتهاء الحرب، فانتهزتها فرصة، وذهبت بصحبة صديق أميركي إلى هضبة الكابتول التي يقوم عليها بناء الكونغرس، وهي شرف من الأرض يزدان بالأشجار والطرق الجميلة، وعلى هذه الأرض أقيم البناء الفخم الذي لعلعت في جنباته أصوات أنصار الصهيونية، وما أكثرهم ..
... وأجلست في الجناح الخاص برجال السلك السياسي، ورافقني أحد الموظفين ليشرح لي شيئاً عن سلطات الكونغرس وما إلى ذلك، ولشد ما كانت دهشتي حين رأيت أن سقف القاعة شبكة من جسور الحديد تعيد إلى الذهن صورة عن مخازن الاستيداع الكبرى المحملة سقوفها على الحديد والفولاذ، وقد قال لي حين سألت، أن شبكة الحديد هذه أقيمت لتحمل سقف البلور فوقها، وهو سقف القاعة القديمة، وقد لا يقوى هذا على حمل الثلوج في الشتاء، فأقيمت من تحته هذه الجسور حمالة له، فقلت له مازحاً: هذا(1/421)
إفراط في الحماية البرلمانية، تتعدى النواب إلى حماية السقوف، فضحك وضحكت.
... ولقد سألني صديقي الأميركي عن مجالسنا النيابية فشرحت له أقرب مجلس إلينا في "شرق الأردن" ولقد عجب أنه ليس فيها مجلس شيوخ، فقلت له ليس في تلك البلاد شيوخ، فهم جميعاً مثال الفتوة والشباب!!
... وبعد هنيهة أخذ أعضاء المجلس يدخلون القاعة ويتخذون مقاعدهم، يسلم بعضهم على بعض بمرح وسرور، وفي تمام الساعة الثانية عشرة أعلن الرئيس افتتاح الجلسة وأخذ يدس إلى الكاتب تقارير ومستندات يقرأها من المذياع، ولكن الصوت ظل خافتاً، والقاعة سيئة الهندسة من حيث إعدادها للصوت، واستمر الأعضاء يكلم بعضهم بعضاً، ويسلم بعضهم على بعض، ومضوا يجولون بين المقاعد، ويدخلون ويخرجون، والكاتب يقرأ غير مسموع ولا مفهوم، والرئيس في منصته يقلب الأوراق بين يديه، لا نظام ولا هدوء. وقد دخل أحد الأعضاء ومعه ابنته الصغيرة جلست إلى جانبه في مقاعد النواب، وملت إلى الموظف أسأله، أهذه نائبة صغيرة؟ قال: لا، وتولاه صمت ..
... وهنا تنفست طويلاً وطويلاً دون أن ألفت نظر رفيقي، فلقد التمع في ذهني أمر مجالسنا النيابية، فحمدت لها نظامها وهدوءها، ولكن المآخذ والمعايب لا ترى إلاّ في الضعفاء، من الأفراد والشعوب على السواء.
... وقلت لرفيقي الأميركي بعد ساعة من هذا الهرج: لقد اكتفيت، فنهضنا، فدَنا مني ونحن في طريقنا وقال: ماذا رأيت، فقلت له هذه قاعة أميركية تتمثل فيها إرادة الأمة الأميركية، وعلى شاطئ بيروت جامعة(1/422)
أميركية، فيها قاعة عامة، شهدت فيها كثيراً من الاجتماعات سنة 1927 حين كنت طالباً، ولكن ما أعظم الفارق بين القاعتين، قال: وما تعني؟ قلت: في الجامعة الأميركية نظام من غير برلمان، وهنا برلمان من غير نظام .. وتضاحكت لأخفف وقع هذه الصراحة، فضحك مسايراً وقال: هذا صحيح، ولكن العمل ماض، قلت له: أن العمل الماضي هو في الآلات الهائلة، القاهرة المسيطرة، المنتجة المبدعة. وهناك سر قوتكم وينبوع ثروتكم.
... ودخلت بعد ذلك إلى غرفة رئيس لجنة الشؤون الخارجية، وقد كنت أعلم أنه يهودي ومتعصب للصهيونية، فاستقبلني استقبالاً باشا وهو رجل في السبعين ولكنه فتي القسمات والبسمات. فسألني عن المكتب العربي وأجبته بما ينبغي. ثم سألني عن فلسطين. وأجبته بما ينبغي. ثم حدثني حديثاً أسوقه كمثال للعقلية الصهيونية وتفكيرها الخبيث، قال:
... "أنا يا عزيزي من الداعين إلى المبادئ الإنسانية والإخاء الإنساني، أن الله قد خلق الإنسان بجميع الألوان. ولكنّ الإنسان هو الذي ابتدع الأديان وصنع اللغات وأقام الدول والحدود. وأنا أحب الصراحة، ومتى وقعت الصداقة توطدت الثقة. وقد كنت في مؤتمر سان فرنسيسكو صديقاً للوفود العربية كلها. وكنت موضع ثقتهم جميعاً حتى أن ( ... ... ) كان لا يرفع يده شارة للتصويت إلاّ بعد أن يرى يدي مرفوعة. وأكون مسروراً حين تزول الفوارق الدينية، وعوائق الحدود القائمة بين الشعوب".
... وعقبت على حديثه بفلسفة من فلسفته. ولكن إلى ناحية أخرى وقلت له: يا عزيزي، ان فلسطين لا تحول دون تحطيم الفوارق القائمة بين الإنسان وأخيه الإنسان، ولا تمانع أن تزول هذه الحدود القائمة بين الممالك.(1/423)
مع أننا لم نتمتع بلذة الحدود ونعمة الدولة. وحين تأخذ الدول بإزالة حدودها وإعلان إنسانيتها، لا تتأخر فلسطين عن أن تكون في القافلة ولكن لا قبل ذلك".
... فابتسم الرجل وقال: أنت خبيث. قلت له: أشكرك على هذا الثناء، ونهضت أودعه فنهض وهو يقول: ستجد في مكتبي كل رعاية ومعاملة عادلة، شأنك شأن مديري المكاتب الأخرى في البلاد، نتعامل معهم على قدم المساواة. فترجمت له كلمة (إن شاء الله) ومدلولها، فقال: أنت خبيث، فقلت: أشكرك على هذا الثناء وانصرفت.
... وخلال إقامتي في الولايات المتحدة زرت الكونجرس غير مرة، وجلست في غرفة الدبلوماسيين، أستمع وأراقب وأدرس وأتفحص، فرأيت نفسي أمام الديمقراطية الغربية بكل مفاسدها ومساوئها .. لقد رأيت النظام البرلماني حيث يسيطر الحزب على العقل والضمير، انصر حزبك ظالماً أو مظلوماً .. لقد رأيت المداولات والمناقشات لا سلطان لها على القرارات، فالقرارات لا تتخذ على أساس صدق الوقائع وصواب المواقف، وإنما على أساس الوحي أو الضغط أو التهديد، ممن يملكون وسائل الوحي للضغط والتهديد، وما أكثرهم في الولايات المتحدة ..
... لقد رأيت أعضاء الكونغرس، إلاّ القلة القليلة، من الدرجة الثالثة أو الرابعة، شخصية وإدراكاً وعلماً، فالكفاءات الأمريكية تنفر من السياسة، بل تهرب منها إلى الجامعات و الأعمال الحرة أو الكنائس ..(1/424)
... ولقد رأيت على الجملة أن السياسة لا يقبل عليها في أمريكا إلاّ الناس الساذجون أو المغامرون، والرأسمالية "مصيدة" لهؤلاء الفريقين على
السواء ..
... هذا هو الكونجرس الذي أقر سياسة الوطن القومي في عهد الرئيس ويلسون.
... هذا هو الكونجرس الذي حمل لواء الصهيونية في عهد الرئيس روزفلت.
... هذا هو الكونجرس الذي صنع الدولة اليهودية في عهد الرئيس ترومان.
... هذا هو الكونجرس الذي أمد إسرائيل بالسلاح والمال في عهد الرئيس ايزنهاور.
... هذا هو الكونجرس الذي أنقذ الاقتصاد الإسرائيلي في عهد الرئيس كندي.
... هذا هو الكونجرس الذي دعا إلى إعطاء طائرات الفانتوم إلى إسرائيل في عهد الرئيس جونسون.
... وسيظل الكونجرس يفعل هذا وغير هذا في عهود الرؤساء اللاحقين .. إلى أن ينهض "الكونجرس العربي" المناضل، في عهد رئيس عربي مناضل .. في عهد الوحدة العربية.
... ولن يستطيع الكونجرس الأمريكي بعد ذلك، أن يقرر مصيرنا من واشنطن، ومن هضبة الكابتول ...(1/425)
دعاية ... معلقة في الهواء ...
وفي أوائل أيلول عدت إلى واشنطن، المدينة الجميلة التي تحتضنها الأحراش الفاتنة، عدت إليها لننشئ فيها المكتب العربي بعد أن أخفقنا، إذ لم نجد في نيويورك مكانا لائقاً، فلا تزال أزمة المساكن خانقة، وإننا لنرى الزمن يمضي بنا سريعاً، ونحن لا نستطيع لبلادنا عملاً، والحوادث طائفة من حولنا كالأشباح الرهيبة، ويكاد الأمر أن يدبر، والمصير أن يقرر.
... ولقد ولدت الحرب الأولى وعدا بإنشاء وطن قومي لليهود، ونخشى أن تلد هذه الحرب دولة يهودية، وكان الوطن القومي اليهودي خيالاً ومحالاً حين علمنا به، فانقضت عشرون عاماً فإذا به حقيقة قائمة، وأكاد أفزع حين تشمل هذه المقارنة صورة الدولة اليهودية التي نراها الآن وهماً باطلاً، وإني مطمئن أن هذه الدولة لا قبل لها بالحياة في قلب البلاد العربية، وأن الأمة العربية لا بد لها في مستقبل الأيام، مهما بعد العهد، أن تقتلع هذه الدولة اليهودية، ولكني أكره هذه الطمأنينة وأصر على محاربتها، وإن محاربة الدولة اليهودية، الآن وقبل أن تلد، في مقدور البلاد العربية ان هي أرادت، وإن هي عزمت فيما أرادت ... تلك كانت خواطري وهواجسي ...
... وفي واشنطن لم نجد مكانا للمكتب العربي، لائقاً أو غير لائق، إنه ليحرجني وقد مضى علينا شهران تقريباً ونحن نفكر في مكان يحتوينا، لنخدم بلادنا، وبلادنا تريد أن تطمئن إلى مكانها الذي يحتويها.(1/426)
... وفوق ذلك فإن الجو السياسي آخذ بالتلبد، فالجماعات الصهيونية تعبئ كل قواها لتلقي آخر جندها وعتادها في هذه المعركة الحاسمة، ففي هذه الأيام تقرر المصائر وتهبط الأقدار. والصهيونية تؤمن أنها ان لم تظفر ببغيتها الآن، فلن تظفر بها بعد الآن، وإنها لتجد الآن في الفوضى الأوروبية مناحة تستدّر بها عطف العالم لتهجير يهود أوروبا إلى فلسطين، والصهيونية ما تفتأ تلح وتلح خشية أن لا تلوح مثل هذه الفرصة أبداً.
... ولهذا السبب ذاته، أعدت الصهيونية كل عدتها لتلقي بها في الميدان، وحين أفكر أننا لم نجد حتى الآن مكتباً، ولا أعددنا قرطاساً ولا طابعة ولا ملفاً. حين أستعرض أمامي هذا الصمت الذي أمسك بأفواهنا وأقلامنا، وحين أرى هذه الحيرة في تسجيل مكتبنا في وزارة العمل، أنسجله تابعاً لجامعة الدول العربية، وهذه لم تقر بعد بأمرنا شيئاً؟ أَنَََُسَجّله برعاية الدول العربية وهذه مرتابة في نجاح المكتب، وفيما عسى أن يخطئ ويهفو، وفيما عسى أن يجر على الدول العربية من سقطاته وهفواته؟ أم نسجله كهيئة قومية شعبية؟ بل انني حين أستعرض مواردنا المالية التي ترشح علينا كما يرشح الماء من الصخور الندية، وحين أستعرض شؤونا أخرى متصلة بمعايبنا وأنانيتها، وفزعنا من الحقائق، وتوهمنا الضعف في أنفسنا، أرى أن الإيمان وحده هو الذي يحملنا على العمل، وأن مستقبل ذرارينا وأنسالنا هو الذي يصيح في وجهنا ويستحثنا أن نعمل، وأن نعمل دائماً ودائماً.
والويل للأمة التي لا تعمل، حين تلوح فرصة العمل .
وأصبحت تداهمنا الأحداث ونحن نهيئ أنفسنا للعمل، ففي الوقت الذي نؤثث مكتبنا ونعده بالمراجع العلمية وسائر وسائل العمل ومظاهره،(1/427)
والعمل الذي نحن في سبيله تسيطر عليه كثير من المظاهر، في هذا الوقت تفاجئنا الصحف الأميركية والإنجليزية بالمجهود الجبار، تقذفه الصهيونية كآخر احتياطي لها في المعركة.
... الصحف طافحة بالاجتماعات والمظاهرات والمقالات، جميعها تلح بفتح أبواب الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وجميعها تصر على إقامة الدولة اليهودية في فلسطين. إنه صياح صاخب، هائج مائج، يتردد في كل مكان، وإنك لتسمع هدير المعركة ودويها، حتى ليبدو أن هذا الهدير سيطغى على أي صوت آخر مهما كان قوياً. وها قد أخذ المستر ترومان رئيس الولايات المتحدة يكتب إلى الحكومة البريطانية طالباً السماح بهجرة مئة ألف من يهود أوروبا، معتمداً في ذلك على رأي الخبير الذي أوفده خصيصاً لأوروبا للنظر في مشكلة اللاجئين.
... ولقد نشرت الصحف تصريحات للمستر ترومان أكد فيها اقتناعه، بعد البحث الشخصي، بأن سلفه روزفلت لم يعِد الملك عبد العزيز آل سعود بعدم التدخل في قضية فلسطين، وراحت الصحف تنقل هذه الأخبار وتعلق عليها وتشير إلى مقابلات اليهود للمستر ترومان، وما أكد من عطف على اليهود، وقارئ الصحف هذه الأيام لا يرى في ترومان رئيساً للولايات المتحدة، رئيساً للأمة التي قدمت أعظم إنتاج في الحرب، ولكنه يرى فيه صحفياً تحت التمرين يبث الأحاديث الصحفية، كما يريده رئيس التحرير أن يقول، بل ربما كان الصحفي بين يدي رئيسه أكثر حرية في التفكير واستقلالاً في الرأي. ولعل الذين يصمون حكامنا وأمراءنا بنقيصة الخضوع للمؤثرات المختلفة،(1/428)
يرون كيف تغزو هذه المؤثرات، أمريكا، رمز الديمقراطية، وفي مهد الديمقراطية.
... ولكنه مهد في لحد؟
... وكدت أصعق حين رأيت أنه لا قبل لنا بهذه المعركة، فللصهيونية علينا تفوّق يتجاوز حساب الأرقام في كل شيء .. من المال إلى الخبرة إلى القدرة، إلى السيطرة على مفاتيح القوة في أوروبا وأمريكا.
... ثم ماذا كان بين يدي من الوسائل؟؟ ..
... كان الخلاف شديداً من ورائنا في الوطن بين السيد عبد الرحمن عزام أمين الجامعة من جهة، والسيد موسى العلمي ممثل الأحزاب الفلسطينية في الجامعة العربية، الأول يريد المكاتب تحت إشرافه مباشرة، والثاني يريدها فلسطينية مستقلة.
... وكان الجانب المادي أسوأ من الخلاف السياسي، فالجامعة العربية لم توفر النفقات اللازمة، وكل ما كان بيدي، لي ولرفاقي الأربعة وللدعاية العربية الكبرى مبلغ خمسة آلاف دولار، ووعداً بأن يصل المال اللازم يوم نصل!!
... ولقد وصلنا إلى أمريكا ولم يصل المال، ورحت أقف على عتبات المفوضيات السورية والعراقية والمصرية أستنجد وأستنجد، وأبرقت إلى الرئيس القوتلي في الشام وإلى رئيس الوزراء حمدي الباجه جي في بغداد، وجاء الرد قريباً من (200) ألف دولار .. بعد زمن ..
... ولكن ماذا تفعل هذه المبالغ أمام الصهيونية بثرائها الفاحش ..(1/429)
... لقد كنت طموحاً مرة وأردت أن أستأجر "ربع عمود" في جريدة النيويورك تايمس، أنشر فيه بعض الحقائق الفلسطينية، فكان الأجر المطلوب 25 ألف دولار وليوم واحد، وعدلت عن الفكرة لأسباب منها خشيتي من الألسنة البذيئة والأقلام السليطة في الوطن - وفي حياتي السياسية كنت "أرتجف" أمام الشؤون المالية.
... ولكن مشكلتي في حقيقة الأمر، لم تكن معنوية ولا مالية، لقد كانت مشكلتي الكبيرة أن "الدعاية" التي اوكلت إليّ لم يكن وراءها جذور أصلية عميقة ..
... ولم يكن وراء الدعاية شعب فلسطين منظماً مسلحاً، تقوده قيادة واعية مدركة ..
... ولم يكن وراء الدعاية دول عربية "تصدق" أن إسرائيل توشك أن
تولد .. وأن هذه الدولة ستكون خطراً حقيقياً لا على استقلالها فحسب بل على وجودها ..
... ذلك ما كان يقض مضجعي، وذلك كان يجعلني كالقابض على
الريح ..
... وذلك ما جعل الدعاية تقف في الهواء من غير جذور.
... ولا يزال أمرها كذلك إلى اليوم .. حتى بعد نكبة حزيران.(1/430)
أنباء ... . لا آراء
... لم يكد شهر أيلول 1945 يشرف على نهايته حتى أخذنا نعمل الآن في مكتبنا، وقد أمسكنا بزمام العمل، ولم يعد للقلق أن يتسرب إلينا لأننا نجد راحة في العمل وتتفتح أمامنا آفاق من الجد تغمرنا بالبهجة والفرح. وقد انقضى عهد الصمت والسكون، فستتحرك عقولنا وأقلامنا وألسنتنا وقلوبنا، في كل ميدان، وفي كل طريق.
... وفيما كنت أستعرض في نفسي أعمالنا في المستقبل القريب من مقالات ومذكرات واجتماعات واتصالات وما إلى ذلك. أبصرت السيد محمود فوزي مستشار المفوضية المصرية في واشنطن، وقدأصبح قريباً من طاولتي خطوة أو اثنتين. لقد جاء على غير ميعاد ودخل الغرفة خفيفاً رفيقاً. ودهشت لهذه المفاجأة فوثبت قائماً أستقبله، وفي نفسي كثير من الدهش، فتفرست في وجهه لأرى بشيراً أو نذيراً، فلم أفلح، فإن للرجل وجهاً وادعاً لا ينم إلاّ عن حالة واحدة، فجلس وأخذ مكانه، ثم جلست و أخذت مكاني.
... بدأ السيد محمود فوزي يسألني عن الحوادث فأجبت بما علمت وعرفت، ثم تجهم وجه الرجل وقال: ما جئت لهذا. إني أريدك أن تكتم هذا الحديث فقلت: سأفعل .
قال: أنا أرى الدبلوماسيات عقيمة وفي اعتقادي أن على العرب جميعاً بملوكهم وأمرائهم أن ينافحوا عن عروبة فلسطين بكل قواهم، وعلينا أن نبذل(1/431)
كل تضحية وكل فداء صيانة لعروبتنا وكرامتنا، وإني قانع أن فلسطين لم يعد ينقذها إلاّ تصميم البلاد العربية على الدفاع، حتى الرجل الأخير وإلى النفس الأخير ومن رأيي أن ..
... وساد الغرفة صمت رهيب غشيه جلال الموقف وخطورته، وعبرت في نفسي خواطر جهادنا في فلسطين أربع سنوات منذ 1936 واستسلمت للذكريات، وانصرف الضيف العزيز مقترحاً بعض الاقتراحات فودعته وأنا أقول في نفسي: اللهم ارزقنا إيمانا كإيمان العجائز، وإنه لدعاء نرجو أن ندعوه جميعاً.
... فيستجاب لنا جميعاً.
... واستمر تعاوني مع السيد محمود فوزي طيلة إقامتي في واشنطن وقد كنت أزوره في مكتبه ونتشاكى أحوال الحكومات العربية وما هي عليه من التفرق والتفكك، ثم عبرت السنون فوق أكتافنا فتزاملنا في الأمم المتحدة، في دورات متعددة، وتلاقينا في اجتماعات الجامعة العربية وفي مؤتمرات القمة، واستمر بنا الحال نتشاكى الأحوال العربية الرسمية. و إذا كانت الأوضاع الرسمية في كثير من مظاهرها لم تتغير عما كان عليه الأمر في عام 1945، فإن أمراً خطيراً قد تغير من غير شك بعد نكبة حزيران: لقد زاد وعي الأمة العربية وأصبحت تدرك بفطرتها السليمة مواطن الضعف في صفوفها القيادية، فإن نكبة حزيران لم تكن ِلوهن في ذاتها، وإنما ِلوهن في قيادتها.
... وكانت باكورة عملنا في المكتب أن أصدرنا نشرة حول الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وقد أوضحنا فيها إصرار العرب، حكومات وشعوباً، على مقاومة الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وإصرارهم على إقامة حكومة(1/432)
عربية ديمقراطية في فلسطين. وقد أرسلنا هذه النشرة إلى الصحافة الأميركية، وإلى الكُتاب، ومعلقي الإذاعات، وممثلي وكالات الأنباء العالمية.
... وكانت النتيجة أن أهملت أكثر الصحف ذكر هذه النشرة أو الإشارة إليها رغماً عن أن الصحف مملوءة هذه الأيام بالدعاية الصهيونية.أمّا الصحف الأخرى فأشارت إليها لماماً وعلى رأسها "نيويورك تايمس" التي ألمعت إلى محتوياتها، وكنت أخشى أن تدفنه النيويورك تايمس في أكداس مهملاتها، وهي جريدة يهودية من أطراف الرأس إلى أطراف القدم، ولعلها أكبر جريدة في العالم.
... ولقد بدا لي أن أبتئس من هذا الطغيان الصحفي، وسألت نفسي: كيف السبيل إلى الجمهور إذا كانت الصحف موصدة في وجوهنا؟ وكيف العمل إذا كانت صيحاتنا تفنى بين حجراتنا؟ و إذا كانت نشراتنا لا تظفر إلاّ بساعي البريد يحملها فلا تبلغ الأسماع؟ ولا تلفت الأبصار؟
... ولكن سرعان ما خطر لي أني لم أفِد على هذه البلاد لأجد الأمور طائعة بين يدي، فهذه السيطرة اليهودية المالية الجامحة التي تستأثر بالصحف، ورجال الأعمال، ورجال الكونغرس، ليس من الهين مغالبتها في وقت قريب، ومنذ الخطوات الأولى. فلا بد من العمل المتواصل، والجهد المتلاحق، ولا بد من شد العزائم، وربط القلوب.
... ولقد وجدت بعض العزاء أمام هذه الصعوبة التي تجابه المكتب، ولكنه عزاء يفتقر إلى عزاء. إنه عزاء أشدّ من المصيبة وأفدح من الكارثة، ذلك أن الوزراء المفوضين العرب الأربعة قد قصدوا هذا اليوم إلى وزارة الخارجية، وأعربوا عن وجهة نظرهم بالقضية الفلسطينية، بالنيابة عن(1/433)
الجامعة العربية ثم عادوا إلى مكاتبهم استدعوا الصحفيين، وأبلغوهم أنباء ما جرى، فارتقبت الصحف هذا اليوم لأرى شيئاً ما ففشلت، وفشلت، كأنما هذا الحادث السياسي لا يستحق سطراً واحداً، وكلمة واحدة.
... ومما راعني أن الصحف جميعها، بأجمعها على الإطلاق، قد حبست هذه الأنباء، فأقفلت عليها في غياهب العدم. ولكني ثُبت إلى نفسي وهدأت من روعي، إذ لا بد من العمل المتواصل، والجهد المتلاحق، ولا بد من شد العزائم وربط القلوب.
... إنما نجني الآن، ما أسرفنا من الإهمال قبل الآن.
... وبعد بضعة أيام عقدت مؤتمراً صحفياً في "واردمن بارك اوتيل" لمناسبة تأسيس المكتب العربي، وفي الساعة الخامسة دخلت قاعة الاجتماع و أخذت بتلاوة كلمة حول أغراض المكتب، وأهداف البلاد العربية، ختمتها بإيضاح القضية الفلسطينية وأعربت فيها عن رفض الهجرة اليهودية، وضرورة إقامة دولة عربية ديمقراطية، مشيراً إلى أهمية فلسطين العربية في حقل السلم العالمي.
... وبعد ذلك أخذت أجيب عن أسئلة الصحفيين، وقد انهمرت من كل ركن من القاعة، تتلاحق وتتصل، تلاحُق الطلقات من بنادق سريعة الطلقات، وكان معظم الأسئلة من الصحفيين اليهود، وطبيعي أن لا يكون القصد منها الاستطلاع وإنما الإحراج، والاستدراج إلى المزالق، فنجوت من كل هذه المآزق من غير أعجوبة، لأني خبرت الأساليب التي يبتدعها الصهيونيون لإلباس باطلهم بغشاء من ظاهر الصدق.(1/434)
... وقد حجبت معظم الصحف أنباء المؤتمر، مع أنه كان ناجحاً، ولعل نجاحه كان السبب في حجب أنبائه، ولو ظفر اليهود بالمزالق التي أرادوها لمنحوها أعظم نصيب من النشرة والإذاعة. وكان ممن علق على الاجتماع الصحفي الأميركي المعروف "بيتر ادسون" في جريدة "واشنطن ديلي نيوز" بكلمة رشيقة امتدح بها المؤتمر بالأسلوب الأميركي الأخاذ. وكان مما قاله:
... "وأخيراً جاء العرب إلى المدينة ونصبوا خيامهم في فندق واردمن بارك الارستقراطي وأنشأوا المكتب العربي. لن تجدهم مخيمين في الحديقة أو الصالة العمومية، بل جلوساً وراء مكاتب أنيقة في غرف فاخرة تجري المياه الساخنة والباردة فيها وأقاموا حفلة باذخة يوم افتتاحه أردفوها بمؤتمر صحفي من الطراز الأول.
... "أما رجل المكتب فهو السيد أحمد الشقيري، وكل من كان ينتظر أن يرى هذا الرئيس يرتدي القفطان والعباءة والكوفية الدمشقية كامرأة المملكة السعودية وينتقل في أميركا على جمل أشهب أو هجين سريع فقد خاب ظنه. إذ ظهر أن السيد أحمد الشقيري هو محام شاب، يرتدي بذلة زرقاء أنيقة وله شارب مهندم، يتوج رأسه بشعر أسود فوق جبهة عريضة، ويتكلم إنجليزية أحسن من الأميركيين - فيما عدا أنه أخطأ مرة باشتقاق أحد الأفعال - وكان يتلو بيانه بلهجة دراماتيكية ولكن دون إشارات ثم أخذ يرد سهام الأسئلة الموجهة إليه.
... "وقبل أن ينهي السيد أحمد بيانه وردوده بأسلوبه الرائق، دون حدة، كان في الحقيقة قد أعلن حربه الشعواء على كل امرئ يفكر بإرسال مهاجرين(1/435)
يهود إلى بلاده، وعلى كل امرىء اقترح التدخل في سير فلسطين نحو الحرية والاستقلال والسيادة.
... "واعترف السيد أحمد الشقيري أنه آت للدعاية، غايته تغذية الأمريكيين بالمعلومات الصحيحة وهدفه تفنيد دعاوى الصهيونية.
... "وأمطر الصحفيون السيد أحمد وابلاً من أسئلتهم منها سؤال
أحدهم: ... ما الذي سيفعله العرب لجعل فلسطين دولة عربية ذات سيادة. فرد مقتبساً قول المستر تشرشل "متى شعرت أمة أن مصالحها في خطر تتخذ الإجراءات الضرورية" وسئل عن هذه الإجراءات وهل تعني الثورة فامتنع عن الإجابة ثم أردف لا أستطيع أن أبوح بخطط الجامعة العربية.
... "الجامعة العربية ... إنها أصبحت شوكة مزعجة في جنب الدول الأوروبية التي لها مطامع وآمال في حوض البحر الأبيض" انتهى كلام الصحفي الأمريكي.
... ولقد غمرتني نشوة من الفرح والبهجة، لا للمديح الذي ساقه إلي الكاتب الأميركي، ولكن لأني رأيت أن الجهد قد أخذ يزهر وينمو، ولأني أصبحت أرى ضياء من خلال هذا الإعصار الصهيوني الهائل، المدلهم بالظلام. وهذا الضياء وإن يكن بصيصاً إلاّ أن وراءه تكمن الآمال المشرقة، تلهب ظهورنا للعمل والجد.
... لقد اغتاظت الأوساط الصهيونية حتى للقليل الذي نشر عن مؤتمرنا الصحفي، سلطت زبانيتها وأجهزتها ترغي وتزبد، وتهدد وتتوعد مطالبة بحجب الأخبار العربية مهما كانت!(1/436)
... ولقد وقع ما كنت أخشى، فقد أصبحت الصحافة الأميركية "مضربة" عن نشر أخبار وزرائنا الأربعة الذين ذهبوا إلى وزارة الخارجية للإعراب عن وجهة النظر العربية في ما يتعلق بقضية فلسطين، ولم يكتف وزراؤنا بالكلام فحسب، وإنما قدموا إلى وزير الخارجية الأميركية مذكرة تقع في خمس صفحات، ولم يكن أمر هذا المسعى سراً مكتوماً فقد علم به مراسلو الصحف والمخبرون المحليون، وحين خرج وزراؤنا من ردهة وزارة الخارجية أحاط بهم الصحفيون وأمطروهم وابلاً من الأسئلة، كأنما الشهوة الإخبارية الصحفية قد جمحت إلى ذروة قمتها. ولم يهدأ تلفوني في المكتب ذلك اليوم عن الرنين المتواصل من الصحفيين يسألون عن الاجتماع، وعن المذكرة، وعن المبادئ العامة التي احتوتها، وما إلى ذلك من الأسئلة. ويخيل للملاحظ البريء أن هذا التعطش الجامح سيكون له أثره في صبيحة اليوم الثاني أو في مساء ذلك اليوم، لتفصيل هذه الأخبار.
... ويأتي مساء ذلك اليوم فلا ترى في صحف المساء شيئاً ثم ينبلج الليل عن صحف الصباح فاذا بها تكتم أنفاس هذه الأخبار، تعتقلها، تصادرها فلا تجد كلمة واحدة، إنه إجماع عجيب على تجهيل هذه الأمة الديمقراطية، وإجماع عجيب على إنكار الوزراء ومسعى الوزراء. ولو وجد هؤلاء الصحفيون مأخذاً يأخذونه، أو تعِلَّة يتعللون بها، لطيَّروا بها في الآفاق، وأفشوها إلى أركان الأرض، والويل لهذه الديمقراطية من هذه الدكتاتورية الصحافية الطاغية.
... وسألت صحفياً، مازحاً وساخراً، عن هذا القرار الاجماعي بحجب أخبار الحركة العربية، فتلكأ في حيرة وارتباك وأراد أن يعتذر فقال: ان(1/437)
الرأي العام متخوم بأخبار المسألة اليهودية والمشكلة الفلسطينية، إنه متخوم، لقدأصبح مريضاً، لقدأصبح ملولاً، إنه لا يريد أن يسمع، إنه لا يريد أن يقرأ: قلت: ان التخمة والمرض والملل، كل ذلك يزول بطريقة واحدة هي إعطاء أخبار الجانب الآخر، ولكن إذا كان الجمهور قد أصبح مريضاً فلم التمادي في إعطاء الأخبار اليهودية التي تسبب التخمة والمرض والملال. لقد نشرت الأخبار اليهودية بالأمس وقبله، ونشرت اليوم وستنشر غداً وبعده .. قال: لا أدري، هذا صحيح، ولكن ... وأدار الحديث وجهة أخرى. وقال: لنتحدث في موضوع آخر، قلت: لك ذلك، سأحدثك عن اضرابات هذا الأسبوع الثلاثة. قال نعم، قلت: الإضراب الأول قام به عمال المصاعد يطلبون الأجور والامتيازات، والثاني عمال التلفون يطلبون الأجور والامتيازات، قال: والثالث؟ قلت: الثالث هو إضراب الصحفيين عن نشر الأخبار العربية، قال: أرانا عدنا إلى الموضوع ذاته؟ قلت: إنه جدير وجدير ...
... قال: لنترك هذا الموضوع ولتسمح لي ببعض الأسئلة ..
... قال: أتظن أن عبد الرحمن عزام بك أمين سرالجامعة قادم من لندن إلى واشنطن؟ ومتى تظن ذلك؟ وهل سيبحث المشكلة الفلسطينية؟ وهل لديه وثائق الحديث الذي جرى بين روزفلت والملك عبد العزيز حين تعهد روزفلت أن لا تتدخل أميركا في المسألة الفلسطينية، ذلك الحديث الذي أنكره الرئيس ترومان؟
... قلت: ليس هذا سؤالاً واحداً، ولكنه "كوكتيل أسئلة" وإن عندي كنوزاً من العلم هذا الموضوع سأ ...
... وهنا تلهف الصحفي متعطشاً وقال: نعم أرجوك، ما هي؟(1/438)
... قلت: لا، أنا مضرب عن إعطائكم شيئاً من الأخبار، هذا موقف يصح لي أن أثأر فيه لنفسي، وإضراب بإضراب.
... وحين أيقن أنني مصمم على هذا الإصرار، ومصر على هذا التصميم ودعني وانصرف، وأغلب ظني أني ثأرت بعض الشيء لنفسي، وأغلب ظني أنه ذهب غضبان أسفاً.
... وقد كان بوسعي أن أفضي إلى الصحفي الأمريكي بشيء من الأنباء عن مهمة السيد عبد الرحمن عزام في لندن، ولكني كنت على يقين من أنها لن تنشر، فإن ملوكنا "برؤوسهم" لم يكونوا يظفرون بأي حيز في الصحافة الأمريكية.
... وكان لهذا كله أسباب متعددة، منها أن الصحافة الأمريكية كانت ترى "الحكم العربي" تابعاً لا قيمة لتصرفاته وتصريحاته .. فلما تبدلت الحال بعض الشيء في ما تلا من الأعوام انفتحت الصحافة الأميركية بعض الشيء.
... ولكن ما هو أهم من ذلك أن نشاطاتنا في عام 1945 كانت على صعيد الآراء لا على مستوى الأنباء، فالصحافة تلهث وراء الأحداث .. فلما جاءت الأحداث وتعاقبت معها الأنباء أصبح للوطن العربي مكان بارز في الصحافة الأمريكية، بل وفي العالمية.
... وكانت حصيلة تجربتي منذ كنت مديراً للمكتب العربي في واشنطن، إلى أن خرجت من مؤتمرات القمة ومن موكب الملوك والرؤساء .. أن الدعاية الحقة تكمن في الأنباء .. لا في الآراء ..(1/439)
... ولقد انفتحت الصحافة العالمية، وأنفها راغم، على قضية فلسطين بعد نكبة حزيران، لا بالآراء ولكن بالأنباء ..
... إنها أنباء الكفاح المسلح، يخوضه شعب فلسطين بكل بطولة وشجاعة، وما أعظم قول المتنبي:
السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب(1/440)
العروبة في المهجر
... في منتصف تشرين ثاني سنة 1945 قدمت نيويورك لألقي كلمة إلى إخواننا المهاجرين، بلغة الوطن لا بلغة المهجر، ولم تكن مشاغلي لتسمح لي أن أعد هذه الكلمة قبل الآن فعكفت في حجرتي في الاوتيل لأكتب ... ورحت أعصر جوانب نفسي لأخرج دفينها وكمينها، وكان يخيل إلى أنني استمطر السماء أو استقطر السحاب، فإن الحديث للمهاجرين المغتربين زاخر بالشؤون والشجون.
... وفي المساء جمعت شتات أوراقي وذهبت إلى دار الإذاعة في بروكلن وكان بصحبتي بعض الأصدقاء من السوريين، فدخلت وسلمنا، وحين دنا الوقت المضروب تقدمت من جهاز الإذاعة، ولعبت ذكريات الوطن في قلبي وهز الاغتراب عميق حسي ووجداني، فألقيت كلمتي بجناني لا بلساني.
... وفرغت من الإلقاء فتقدم إليّ مهندس الإذاعة، وهو أميركي من أصل إيطالي، يومئ هندامه وقوامه إلى أنه فنان، فقال لي:
... أهنئك، أهنئك، إني لا أعرف العربية، ولكني سمعت موسيقى جميلة فيها تلحين وإيقاع فقلت له:
... تلك هي لغتنا ذات الموسيقى الجميلة، وليس لي في ذلك فضل.
... وهذه هي الكلمة أبثها في مذكراتي لأنها تمثل أدق تمثيل الأمل العربي قبل عشرين عاماً ويزيد:(1/441)
... أيها السادة المهاجرون.
... أنتم سادة، ولا أقولها جرياً على العادة، وقد ألف الخطباء أن يفتتحوا حديثهم بقولهم: أيها السادة، ولكني في موقفي هذا يطوف في ذهني عنكم معنى السيادة بأكمله، فأنتم قطعة من السيادة في الأمة العربية، نزحتم إلى هذه البلاد، قافلة بعد قافلة، كرهتم عبودية الظلم، وذل الفقر، وهوان الجهل فالتمستم سيادة الحق، وكرامة اليسر، وعزة المعرفة، فكان لكم ما أردتم، وما كانت الهجرة إلاّ طريق أصحاب العزائم، يهاجرون فراراً بدينهم أن يصيبه الأذى، أو هرباً بكرامتهم أن ينالها ضيم، أو نجاة بشرفهم أن يجرحه الظلم والاضطهاد، ولست أجد نداء بليغاً أتوجه به إليكم في حديثي في هذه الليلة إلاّ أن أناديكم: أيها السادة المهاجرون.
... حملت إليكم رسالة كريمة وها قد حان أداؤها. وأتُمِنت أمانة غالية، حل وفاؤها. ولقد أجهدت نفسي كيف يكون الأداء؟ وكيف يكون الوفاء؟ هل أزوركم في مدنكم ومنازلكم ومتاجركم؟ وليس في الوقت سعة. وقد تباعدت مهاجركم بين المشرق والمغرب وبين الشمال والجنوب .. هل أكتب إليكم أفراداً أو جماعات؟ ولكن الكتابة أداة السر الصامت، لا أداة الجهر الداوي. وفي الجهر معنى ليس في السر، ومن هنا كان إلهام شاعرنا القديم حين قال:
... "ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر".
... وهنا أنا أجهر إليكم بالتحية الصادقة، تحية المواطنين إلى المهاجرين. إلى الإخوان النازحين المغتربين، لقد بعدتم عن الوطن الأول وتقادم العهد بينكم وبين الأهل والصحب، ولكن التحية التي أحملها إليكم تفيض بالحياة وما يزيدها البعد إلاّ قرباً، وعطفاً وحباً.(1/442)
... وقد أودعت هذه التحية قلبي، وما هي من قلبي وحدي، ولكنها تحية خففت بها جميع القلوب، ونبضت بها جميع الأفئدة، من شواطئ الأطلنطي إلى الخليج، وما حملتها من إقليم بمفرده، ولا من قبيلة وحدها، أو مدينة بنفسها، ولا من ِملَّة في مسجدها، أو طائفة في كنيستها. ولكني حملتها من العرب في جميع أقطارهم وأمصارهم ملء قلوبهم وأبصارهم.
... تحية من الصحراء، ومن الفيحاء والشهباء، من لبنان وبغداد، من الأردن ووادي النيل، تحية أودعت فيها نسمات لبنان كل الفتنة والجمال، خطرت فوق غوطة الشام فتعلق بها أريج الشام، عبرت وادي الرافدين فنفحها لطف الظلال بين النخيل والسواد، مالت في ضفاف الأردن من مغربه ومشرقه فحملت قدس الوحي والإلهام، انسابت بين أحضان الصحراء فبعثت فيها سكينة الصحراء وهيبة الصحراء. هبطت مصر ففاضت عليها الأعطاف كما يفيض النيل على مصر بالأعطاف، ثم مضت بالشمال الإفريقي في أرجائه وأقطاره، تحمل فيض الشعور والإخاء، فهذه تحيتهم جميعاً إليكم جميعاً.
... وما حملت إليكم تحية وكفى، ولكنها تحية متوجة بالإعجاب، فلقد نزلتم هذا الوطن الكريم بعد أن قطعتم مخاوف البحر، فخرجتم من دياركم وخلفتم وراءكم أعزاءكم وأحباءكم، ولم يكن بين أيديكم إلاّ الأمل والعزم، فدانت لكم اللغة الغربية عنكم، وانقادت إليكم الخيرات، ونبغ فيكم العلماء، وأنشد منكم الشعراء، وأصبحت لكم صحافة وصناعة وتجارة، وبعثتم برجالكم وبشبابكم قادة وجنوداً، يحلقون في السماء، يمتطون القاذفات(1/443)
والنفاثات، يعسكرون فوق الأرض وتحت الأرض، فوق الماء وتحت الماء، سلاحهم وعتادهم الحديد والنار.
... وفي كل ذلك رفعتم عن وطنكم الأول، وعن شعبكم الأول، تهمة العجز وعدم الصلاح. فبكم أثبتت الأمة قدرتها في العلم والصناعة والتجارة والحرب، وقد كانت تتهم الأمة العربية إلى عهد قريب بأنها لا تحسن العلم، أو تجيد الصناعة، ولا تتقن التجارة، ولا تحذق الحرب. ولو أتيح لوطنكم الأول ولشعبكم الأول مثل ما أتيح لكم: حكم مستقل، صالح فاضل عادل، لتحركت المواهب من مكانها، ولانطلقت العزائم من عقالها، كما تنطلق قوة "الأتوم" قوة الذرة، وكانت في الوجود كامنة، فحركتها يد العلم وأطلقتها إلى أهدافها في جميع الأبعاد والآفاق.
... ولست أيها الإخوان ممن يقول بتفاضل العروق والأجناس، فإن لكل أمة معايبها ومحامدها، ولكن الثابت أن في الأمة العربية فيضاً من القدرة على البقاء، وطاقة عجيبة في مغالبة أسباب الفناء، فلقد اجتاحها اليونان والرومان والفرس والصليبيون والأتراك، ولكنها ظلت محتفظة ببقائها ولغتها وشخصيتها، ولقد تنازعتها عوامل الانحلال والضعف قريباً من ألف عام وصمدت، وفنيت أخوتها وبقيت، وغلب على أمرها وما سحقت، وهزمت وما هضمت، ولكن ذاب في ذاتها من بقي في أرضها من الغزاة والفاتحين، ذابوا بدمائهم ولغتهم وحضارتهم وتقاليدهم، فكان عليه الفناء، وكان لنا البقاء.
... وحين انطلقت الأمة العربية من جزيرتها قبل أربعة عشر قرناً، رأت حكم الفرس وعلم الرومان، وفلسفة الهند، ومنطق اليونان، وفنون البابليين وحضارة الأشوريين، ومدنية الفراعنة. وقفت أمام ذلك كله فأبت أن تكون(1/444)
ناقلة مترجمة، فعبأت العقول والألسنة والأقلام، ثم هذبت وأضافت، وحذفت وصهرت وخلقت وأبدعت في كل ما فعلت، وحملت ذلك كله حياً نامياً مشرقاً إلى آفاق الأرض تبذله حباً في بذله ونشره، فكان قاعدة هذه الحضارة التي تنعم بها دنيا اليوم ودنيا الغد، لا فرق بين العالم القديم الذي نعيش فيه، والعالم الجديد الذي تعيشون فيه.
... وإن أمة هذا شأنها في الحضارة، وهذا مكانها في التاريخ، أمة تحضن البحر الأبيض المتوسط بذراعيها، تلتقي عند ثغورها القارات الثلاث، آسيا وأوروبا وإفريقيا، وتنفذ إلى شواطئها أميركا من خلال مضيق طارق، أمة تنوعت أقاليمها بين السهول والجبال، والمروج والصحراء، والجفاف والرطوبة، والأنجاد والأغوار، ينساب منها الماء البارد الصافي والماء الساخن الشافي، وفي أقطارها من الخيرات والمعادن ما عرفه الإنسان في يومه، وما سيعرفه في غده، أمة هذا أمرها وخبرها ليس لها أن تقنع بالهدوء فكانت الحركة، ولا بالنوم فكانت اليقظة ولا بالضعف فكانت النهضة. وها هي ترغب أن تقتعد مكانها في الأسرة الإنسانية تعزز الأمن وتكرم السلم، ولكن وطنها عليها أعزّ وأكرم.
... وقد كانت الأمة العربية إلى عهد قريب لا ترفع رأس العربي العارف بقدره الواعي لتاريخه، فالمهاجرون القدماء منكم قد تركوا وراءهم أمتهم على غير قليل من الجهل والتفرقة والانحطاط، وما كان ذلك العهد قد زال ولن يعود، وقد انتظمت الدول العربية في الجامعة العربية، لتؤاخي شؤونها ومصالحها، فإذا سألتم أيها الإخوان عن أصولكم الأولى، ومواطنكم الأولى، فإن الشجرة المباركة قد أخذت ترسل أغصانها فتية نضرة قوية، وأن(1/445)
مواطنكم قد أصبحت معقد الأبصار والأسماع، ولكم أن تفاخروا ما وسعت الأفواه والقلوب، وإنكم أيها الإخوان ان عُرفتم بأصولكم الأولى ازددتم ولاء وارتباطاً بأميركا، بهذا الوطن الديمقراطي الكبير، فإن العربي مفطور على الولاء للخير وعرفان الجميل وحفظ العهد، بل ستزدادون عزماً وقوة في تمكين الروابط بين هذين الشعبين العظيمين، وكنتم خير وسيلة لخير هدف، تبادل بالمصلحة وتعاطف بالمودة على يقين من الاحترام والثقة والحق.
... وفي رأس هذه الشؤون العربية مسألة فلسطين، وقد أصبحت الشغل الشاغل للشعب العربي بأجمعه، وأمامه ملوكه وأمراؤه ورؤساؤه، وقد تعاهدوا فيما بينهم أن يصونوا عروبة فلسطين، فهي في البحر الأبيض المتوسط ثغر العراق وسورية والأردن، وهي ميسرة لبنان وميمنة مصر، وهي نافذة الجزيرة العربية وإلى جانب ذلك كله فهي قلب الشرق الأدنى ومفتاحه، فلن تفرط الأمة العربية في هذه البقعة الغالية، ذلك عهد الأمة العربية وميثاقها لا لبس فيه ولا إبهام.
... أما إخوانكم عرب فلسطين فإنهم ما برحوا منذ خمسة وعشرين عاماً يدافعون عنها ما وسعهم الدفاع والكفاح، فأرخصوا في سبيلها المهج والأرواح، ولا يزالون، وسيظلون، حتى تبلغ أكرم أمانيها في تحقيق سيادتها الوطنية واستقلالها التام ضمن أسرة الجامعة العربية .. وهذه تحية منهم جميعاً إليكم جميعاً".
... ولم تكن هذه الكلمة التي تحدثت فيها عن الوطن والمهجر تغزلاً ولا تشبباً، ولكنها كانت الحقيقة من غير زخرف ولا زينة .. فإنني لم أشك يوماً في جوهر الأمة العربية، ولا في أسرار قوتها وبسالتها، رغم ما أرى فيها من(1/446)
أعراض الوهن يبدو حيناً بعد حين، ولم تكن الأيام إلاّ لتزيد هذا اليقين رسوخاً، ولم تكن الحوادث إلاّ لتقوم دليلاً يتبع الدليل لإبراز هذه الحقيقة، ساطعة وسافرة.
... ولقد كان لي في هذا الصباح (14-10-1945) دليل جديد، وكلما امتد بي العمر سأرى دليلاً جديداً.
... زارني صبيحة هذا اليوم أخ عربي، أو كما يقولون هنا في المهجر، سوري، فتحدثنا عن شؤوننا القومية، آمالنا وآلامنا، وكان هذا الرجل تاجراً ناجحاً ولكنه يرتقب العودة إلى مسقط رأسه إلى حيث يحمل أسرته وأولاده لينعم بوطنه وأهله. ولما نهض يودعني استحلفني بمحرجات الأيمان أن لا أتردد في طلب معونته بأية خدمة للمكتب، فقلت: ان المكتب لا يريد إلاّ نصرتكم الأدبية، فقال: وماذا؟
... قلت: أريد نصرة أولادكم، قال: بماذا؟ قلت: أن يرثوا لغتكم، فهي الرباط المتين والسبيل المكين. قال: لقد جعلت في صك تأمين مبلغاً طيباً من المال، رصدته ليتعلم أولادي اللغة العربية، وفي الجامعات السورية، ترغيباً لأولادي بتعليمهم لغة الآباء والأجداد، وأن يتعلموها في وطن الآباء والأجداد. فأدهشني ومضى.
... وفي مساء هذا اليوم، زارني في مكتبي هندي مسلم فارع الطول، عريض المنكبين، تزينه السمرة الهندية والذكاء الهندي، قضى في أميركا عشرين عاماً وهو يعمل في التجارة، يقول بفكرة إقامة دولة إسلامية مستقلة. لقد عرف بأخبار مكتبنا في صحيفة أميركية أفلتت من عقال الصهيونية، فجاء إلينا يعرض جهوده وخدماته.(1/447)
... لقد تحدث عن الصهيونية وتاريخها، وآراء زعمائها، وطرائق دعايتها، وتحدث عن قوتها في أميركا وسيطرتها. تحدث حديث العارف الخبير البصير، فقد رافق أخبار هذه الحركة، واقتنى كتبها ورسائلها، ومقالات زعمائها. ولعل عنده من الكتب والرسائل بشأنها ما لم يجتمع لعربي واحد، أو لجماعة عربية. وقد انطلق يبدي رأيه في أحسن الوسائل لمكافحتها، تكلم عن عقل وحصافة، وتكلم بإيمان وحرارة، ولو أن سامعاً قد سمعه لأيقن أنه عربي فلسطيني وقف مواهبه على المعرفة والدرس. وإنَّ المرء ليتساءل بين يدي هذا التاجر الغارق في دنيا التجارة، بين يدي هذا الهندي الذي هاجر من وطنه طلباً للرزق، كيف يجد لنفسه من الوقت والمال مما هيأ له الدرس وثمن الدرس؟
... ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فلقد كتب الرجل مدافعاً عن القضية العربية، وقد ردت له الصحف بعض مقالاته، فعمل على طبعها كنشرة، ووزعها ما وسع له ماله ووقته أن يوزع.
... دهشت أن أرى في هذه القارة العاجَّة بالخلائق، هندياً نازحاً، مهاجراً، مكتسباً، يأبى عليه دينه إلا أن ينصر أولى القبلتين وثالث الحرمين، بحرارة ومثابرة وإيمان.
... وهذا الهندي سجل نفسه "كما يقضي القانون" في وزارة العدل ليستطيع طبع منشوراته وتوزيعها. ولقد كتب إلى جانب هذه المنشورات "كما يقضي القانون" إنه "مسجل لدى وزارة العدل، يعمل بالأصالة عن نفسه، ولصالح العالم الإسلامي" فكادت تنفجر نفسي عن صيحة داوية تبلغ مسامع(1/448)
المتخاذلين والمتراخين والمتواكلين في بلاد العرب، ليروا هذا الكنز الإسلامي لبس الحلة الهندية.
... ويا لضيعة هذه الروابط الإسلامية الآخذة بالانحلال والانفصام جيلاً بعد جيل!
... ولكن هذا الهندي المسلم وغيره من المهاجرين "السوريين" كانوا عزائي فيما أعاني من العمل في أمريكا، وفيما أرجو أن أنجزه في أمريكا. ذلك أن العمل مرهق ومضن، يتواصل ويتلاحق، تعترضه الصعوبات هنا وهناك، فيثور الحس ويكاد يثب المرء على أطراف أعصابه، أو على أعصاب أطرافه. غير أن الحوادث كثيراً ما تحمل الوحي والإلهام، وكثيراً ما تحمل الأمل والعزم، وذات يوم دخل علي واحد من هؤلاء المهاجرين، مُسَلماً باللغة العربية، وباللهجة الشامية، وكان رجلاً سموح القسمات فيه دماثة الشام، وفيه رقة الحاشية ولطف الحديث، وهما الخلتان البارزتان في عاصمة معاوية. فنهضت إليه أحييه، و أخذت بيده ليجلس قريباً مني. وكنت أشعر أنني أقترب من قطعة حية من الوطن. وبدأت أستمع إلى حديثه وإلى هجرته، وإلى عمله. ثم راح يسألني عن البلاد العربية وشؤونها. فشرعت أحدثه عن الشؤون العربية العامة ولكني جعلت أكبر همي أن أفيض في الحديث عن سوريا وكفاحها ومشاكلها. فلا بد لي أن أطفئ أشواق الرجل وحنينه إلى وطنه. وقديماً حدث أصيل الغفاري عائشة "رضي الله عنها" وهي مهاجرة في المدينة، فهاج حديثه أشجان الرسول العظيم فبكى وهو يقول: كفى يا أصيل كفى ..(1/449)
ومضيت في حديثي، والرجل غارق في الإنصات كأنما أصبحت حواسه كلها سمعاً وآذانا. ثم أخذ يبادلني الحديث، يذكر أيامه في قريته ويذكر أهله وصحبه. وكأننا لم نعد في واشنطن، أو كأنما اندثرت هيبة المكان والزمان، وتراءى لنا أننا نطوف شوارع دمشق بين الأنهار والأشجار.
... نهض يودعني فإذا يد راجفة تطوي في راحتها أوراق "الدولارات" يمدها إلي، وهو يعتذر أن أحواله المالية ليست كما يحب ويرضى، وأنه يقدم مبلغاً لا يليق بالمكتب ولكنه لا يستطيع الإفلات من واجبه، وألقى بثلاثة آلاف دولار على الطاولة.
... بصرت بالرجل وقد طفح وجهه بدمه، وتهدج صوته، وسرت في أعطافه نفحة من نفحات الإيمان، وكدت أتلعثم بين يدي هذه العاطفة الجارفة، بين يدي هذا الشامي وفد علينا من مهجره، يقدم لنا المال متطوعاً، غير مطالب ولا مسؤول.
... قلت له: ليس لنا بالمال حاجة أيها الأخ، وإن أهلك وإخوانك في الشام قد تفضلوا علينا بما يقوم بأمرنا، كما تفضل أهلك وإخوانك في سائر بلاد العرب، ونحن لا نريد منكم إلاّ عطفكم ومودتكم. ورأيت الرجل تكاد تذهب نفسه حسرات وحسرات، حين كنت أعتذر إليه. ورأيته قد صغر أمام نفسه. رأيته يظن المبلغ قليلاً، بل لقد حسب أنني رأيت فيه رجلاً متوسط الحال وأنه أولى بالمبلغ. فكان لا بد لي أن أرد إليه اعتزازه، وكان لا بد لي أن أقدر حميته في مكانها، وأحمله على الطمأنينة، فقلت: وما رأيك في أن أقدم هذا المبلغ باسمك إلى معهد الشؤون العربية الأميركية في نيويورك وهو يقوم بمثيل أعمالنا وواجباتنا، فعادت إليه فرحته، ومضى مجبور الخاطر. وكان(1/450)
يعمل في هذا المعهد السيد حبيب كاتبة من العاملين في المهجر، والسيد إسماعيل الخالدي من شباب القدس المتحمسين.
... وكنت في بعض عملي في نيويورك، فزرت رجال المعهد "للشؤون العربية الأميركية" وقصصت عليهم ما جرى وسلمتهم المبلغ. ولقد كان رائعاً حقاً حين فتحنا دفاتر المعهد فإذا بالرجل متبرع مزمن، يقدم المال من غير طلب أو سؤال. ومضى يومي بأجمعه والبهجة تملأ نفسي، تطيف بها الرؤوس الجميلة، والصور الماجدة.
... ولهذا الحادث مثيل في ذكرياتي لا يقل عنه مروءة ولا حمية، ولا أفتر أذكره كلما ساقني إليه الحديث، وكان ذلك في شهر حزيران 1936 حين كنت مبعداً إلى قرية سمخ في فلسطين لمناسبة الإضراب العام الذي أعلنه عرب فلسطين، واستمر قريباً من ستة أشهر، ولعله جاوز أي إضراب في العالم.
... في ذلك الشهر كنت في غرفتي، أستغفر الله في كوخي، الذي استأجرته في سمخ، وكان على قارعة الطريق، وقد قرع سمعي ضحى ذلك اليوم وقع حوافر الخيل ينزل عنها بضعة من الفلاحين، ويربطونها إلى حديد الشباك، ثم أخذوا يدخلون علي ويسلمون.
... جلست وإياهم على البسط الممدودة في الأرض، وعليها بعض الفرش والوسائد، وأخذنا نتحدث عن حركتنا الوطنية والشؤون الجارية في تلك الأيام، ثم أخذوا يهمسون بعضهم إلى بعض ويشيرون بالانصراف، وهم على تردد وحيرة، فتقدم أحدهم وكان أمام قرية العبيدية، تغمده الله برحمته، ومد يده تحت وسادتي ووضع صرة، فأدركت أنها مبلغ من المال، ثم نهض وهو(1/451)
يقول: لا تؤاخذنا نحن نعرف أنك ابن نعمة، وابن خير، وهذا مبلغ بسيط، ان فلاحتنا لم تكن ناجحة والعام عام إضراب، لعل زرعنا يكون حسناً هذا الموسم، فنقدم لك حاجتك، أنت الآن مضرب عن العمل ولا شك أنك في حاجة.
... ولقد سمعت في حياتي كلاماً بليغاً، ولكني لم أسمع أبلغ من هذا الكلام، بل لقد قرأت كلاماً بليغاً ولكن قليلاً منه كان أبلغ من هذا الكلام، فقلت لهم: أيها الإخوان ان المبلغ الذي تصفونه قليلاً هو أكبر مبلغ وصل إلى يدي، فهو على قلته يحتوي كنوزاً يعسر على الأرقام أن تحصيها، ولكني لست في حاجة إليه، وأعدكم أن أطلب منكم إذا التمست الحاجة.
... لقد وقع تصرفي اليما عند أحدهم فقال: نحن فقراء، ولعل ذلك ما يحملك على رفض المبلغ، قلت لا وأقسمت. وذكرني حرج الموقف أن في البلدة رجلاً مبعداً مثلي من قرية كفركنا، فدعوته إليهم، وحوَّلت المبلغ إليه وكانت به حاجة فأخذه، وما رأى في ذلك غضاضة، فالعربي يجير ويستجير، ويقولون في العامية القروية أن فلانا يعيش كالرماح، على أكتاف الرجال.
... فسررت وسر رفيقي في الإبعاد، وسر رجال القرية، وتعاقدت بيني وبينهم أواصر المودة، فكانوا لا يتخلفون عن زيارتي بعد صلاتهم كل جمعة، أتباسط وإياهم الحديث. فأعظمت هذه المروءة، ولم أكن أفلت فرصة إلاّ انتهزتها في تذكارها، حتى رأيتها اليوم في الرجل الشامي.
... المروءة تعبر الأطلنطي إلى دنيا الدولار والأعمال، ولكنها بقيت في جوهرها وصفائها وبهائها، فأكرم بالأمة العربية، وأعظم بطيب عنصرها.(1/452)
حوار مع القس..
ومناجاة في المسجد
... وفي الأسبوع الأخير من الشهر، قدمت إلى نيويورك تلبية لدعوة دار الإذاعة الأميركية، للاشتراك في حوار مع القس وندل فليبس حول القضية الفلسطينية، وكان موعد هذا الحوار الساعة الواحدة والنصف ظهراً. وكانت قد وصلتني الدعوة قبل ثلاثة أيام. ورهبت الموقف وترددت بين القبول والرفض، فهذا أول عهدي بالحديث من وراء المذياع بالعربية والإنجليزية على السواء. وكنت آنس في نفسي القدرة على الخطابة في بلادي، يشجعني طمعي في إحسان بني وطني، واغتفارهم سقطاتي وعثراتي. ولكنني في موقفي هنا في نيويورك بعيد عن العاذرين، قريب إلى العاذلين، ودار الإذاعة هذه تتصل بها مئتان وسبعون محطة ينصت إليها الألوف من الناس. ولكني لم أدر كيف أجبت بالقبول. إنه الحياء، بل لعله الإباء، حملني على القبول خشية عار الرفض، والانهزام أمام التحدي.
... ورحت في اليومين الماضيين ألتهم كل الكتب والمراجع، وما أكثر ما كتب في القضية الفلسطينية، وعاودت في ذاكرتي الأرقام والوقائع، متسلسلة مرتبطة، فلا بد أن يسمع إليّ قوم مأخوذون بالأرقام والوقائع، وكنت أخشى(1/453)
أن ينزل علي سؤال أثناء الحوار فيحتاج الجواب عليه إلى الاستظهار والحفظ.
... ووصلت دار الإذاعة قبل الوقت المعين، لأتعرف كيف تكون آلة المذياع، وكيف يكون الصوت إلى جانب المذياع، قريباً أم بعيداً، مرتفعاً أم خفيضاً، وسألت عن الصغيرة والكبيرة حتى لا أقع في أمر هجين أثناء الإذاعة، ولم يفتني أن أتظاهر بمعرفة بعض الأشياء، والسؤال عن البعض الآخر. وفيما أنا كذلك إذ دخل علينا القس المحاور، فكان تعارف، وكان سلام، وجلس مجلس الواثق المطمئن، فلعله زاول الإذاعة عشرات المرات، وكان إلى جانبه شاب يرافقه، قيل لي إنه موظف في الجمعية الصهيونية، جاء يحمل للقس بعض أوراقه وكتبه.
... وتقدم الفيصل (1) وأجلسنا إلى طاولة المذياع، وكدت أطلب إلى الفيصل أن أتكلم واقفاً، فهذا أول عهدي بالكلام جالساً، فالوقوف ينبه الفكر وقد ألفت الوقوف في المحاكم طويلاً كما ألفته على المنبر. فضاق صدري أن أرى نفسي حبيسة، وتراءى لي أن أفكاري قد غاضت في منابعها، وإنيّ مخفق ذلك اليوم لا محالة .. ولقد زاد من رهبة الموقف أن فشلي لن يكون فشلي وحدي، وإنما سيكون فشلاً للمهمة التي أنا قادم من أجلها. هنالك ضاقت علي الدنيا بما رحبت، وزلزل فؤادي، ولكن ما أعظم الخيال مسعفاً، وما أعظمه منجداً.
... وفي لمعة من لمعات الذهن تذكرت بلادي وما ينتظرها من بلاء الهجرة والدولة اليهودية، وتذكرت كفاح المكافحين ونضال المناضلين،
__________
(1) * الفيصل: هو مدير الندوة أو الحوار وسمي بذلك كونه يفصل بين المتحاورين ]المحرر[.(1/454)
ورجال القرى يبيعون نفوسهم بيع السماح من غير هيبة ولا رهبة. تذكرت أن كل خفقة من نفسي إلى الوطن مرجعها ومردها، فوثبت جميع جوارحي وتجدد ذهني وأصبح عقلي يطاوعني بسرعة الضياء، ورقة الماء، ولطف الهواء. فبدأت أعرض قضيتي بإيجاز وبسهولة، ومضى الوقت ولا أدري كيف مضى، ولكني شعرت أني فرغت مما رغبت في قوله، وخطر لي أني سمعت نفسي، وامتدحت نفسي ... .
... وأخذ القس يعرض قضيته، وجاء وقت السؤال والنقاش. ولم يكن بقي من الوقت إلاّ عشر دقائق، ولا أدري هل أستمر فيها ناجحاً أو أتعثر بأذيال الخيبة، وما أمرَّ الخيبة لامرئ تستمع إليه أمة عظيمة، وبين شفتيه قضية كريمة.
... ودار الحوار كما يدور الصراع، كرُّ وفرّ، صولة وجولة، مفاجأة ومباغتة، حتى أعلن الفيصل انتهاء الوقت، فشعرت أنني نزلت عن صهوة جواد أشعث، همه أن يصرع الفارس قبل أن يسبق الخيل. ولقد رضيت عن نفسي كما رضي عني السامعون، فقد حمل إليّ البريد ذلك الأسبوع كيساً من رسائل التهنئة.
... وذهبت إلى المدير في غرفته أشكره على هذه الفرصة، مشيراً إلى قصر الوقت وسعة الموضوع. ثم جاء القسيس يريد أن يتم ما بدأناه، ولكنه كان يتكلم من غير إيمان. وإن للمأجور وجهاً يفضح صاحبه، فقد كان خافت النبرة، باهت النظرة، مضطرب الحجة، وكاد المريب أن يقول خذوني ... ..
... وقد "انكشف" القسيس في هذا الصراع في جولتين حاميتين، أصيب خلالهما في المقاتل.(1/455)
... ففي الأولى ذكر القس الروابط التاريخية القديمة التي تربط اليهود بفلسطين، فأجبت "هذه هي النظرية الفاشيستية في ادعاء موسيليني لشواطئ البحر المتوسط بسبب امتلاك الرومان لها قرابة ثمانية قرون، أضعاف المدة التي دامت فيها الغزوة اليهودية لفلسطين".
... وفي الثانية قال القس "ولكن اليهود جلبوا الخير للبلاد وعملوا على تقدمها" فأجبت:أمّا هذه النظرية فنازية لأن النازية أرادت أن تفرض نظاماً جديداً يجلب الخير للعالم ويساعد على تقدمه، ولا ينسى القسيس قول السيد المسيح - ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان ... ".
... وهكذا سقط القسيس غافلاً عن أقوال السيد المسيح، فاشيستياً نازياً ...
... وهذه صورة تثير الأميركي وتحركه، وتفجر غضبه
ومقته .. ولكن ..
... ولكن الوصمة النازية الفاشيستية قد لحقت بنا في تلك الفترة بالذات، فبعد أن انتصر الحلفاء راحوا يتعقبون زعماء النازية "ومجرمي الحرب" ويطاردونهم في كل مكان، وقامت قيامة الصهيونية تطالب برأس الحاج أمين كمجرم حرب، وكان قد تعاون مع دولتي المحور أثناء الحرب العالمية الثانية. وكان بوسع مكتبنا أن يلوذ بالصمت أمام هذه الحملة لولا أن الصهيونية قد أرادت أن تسيء إلى الحركة العربية كلها وإلى قضية فلسطين بالذات، فأدليت بحديث صحفي إلى وكالات الأنباء شرحت فيه مقومات القضية العربية كقضية استقلالية، لا تدور في فلك النفوذ الأجنبي أنىّ كان ... ودفعت عن الحاج أمين تهمة النازية، وأن السياسة البريطانية ومطامع الصهيونية قد قذفته إلى المعسكر الآخر، مع تصميمنا على الاحتفاظ بحريتنا(1/456)
وسيادتنا، ثم أشرت إلى ما قاله تشرشل بصدد تفاهمه مع روسيا من أنه مستعد للتحالف مع الشيطان، إذا كانت مصلحة بريطانيا تقضي ذلك ... وأن ما يباح لتشرشل ليس حراماً على شعب فلسطين ومعه الأمة العربية ...
... ولقد كان من السهل أن يقال مثل هذا الكلام في الوطن العربي، ولكن الإدلاء به في أمريكا وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة مغامرة كبرى ... ولكن الواجب الوطني كان يقتضيها ..
... وبعد سنين جرت بيني وبين "جولدا ماير" وزيرة خارجية إسرائيل مساجلات عنيفة حول "نازية" الحاج أمين، قدمت خلالها الوزيرة الإسرائيلية ملفات ضخمة وصوراً فوتوغرافية وزنكغرافية عن نشاطات الحاج أمين في برلين وروما أثناء الحرب العالمية الثانية، وكنت أشرح وأوضح، لا دفاعاً عن الحاج أمين فحسب ولكن دفاعاً عن قضية بأكلمها، تريد الصهيونية أن تلوثها وتسيء إليها.
... ولكن الحاج أمين قد كافأني، وكافأ قضية فلسطين بالجزاء الأوفى ...
... فحين قامت منظمة التحرير الفلسطينية أعلن الحاج أمين بأنني أعمل لتصفية القضية الفلسطينية! وبأن المنظمة أداة صهيونية استعمارية .. وهذا ما كتبه إلى السيد أيوب خان رئيس الجمهورية الباكستانية، وما أعلنه في المؤتمر الإسلامي في الصومال ... في عام 1965.
... والحقد كالحب، يعمي ويصم!(1/457)
عيد الأضحى في الكنيس اليهودي!
... وما هي إلاّ أيام بعد حواري مع القس حتى أقبل عيد الأضحى يتهادى، فقصدت إلى بروكلين لأؤدي صلاة العيد في المسجد الذي ابتاعه المسلمون، وكان كنيساً يهودياً، وجعلوه مسجداً جامعاً تؤدى فيه الشعائر الإسلامية ويذكر فيه اسم الله. وكان لا يذكر فيه إلاّ إله إسرائيل وشعب إسرائيل، فأصبح الآن بيتاً لله رب العالمين، رب المشارق والمغارب، يصلي على نبيه المرسل للناس كافة، لا تفاضل بينهم إلاّ بالعافية والتقوى.
... أما الذين ابتاعوا هذا المكان ووهبوه لله، ووقفوه على عبادته، فلم يكونوا عرباً أخذتهم بلاغة القرآن وفصاحة النبي العربي، ولكنهم جماعة من الروس عمر قلوبهم الإيمان، فهاجروا إلى أميركا وحملوا معهم دينهم وتقواهم، ولم يصطبروا أن لا يكون لهم مسجد جامع، فاستجابوا إلى نوازع التقوى في نفوسهم، وكان لهم ما أرادوا، وزينوا المكان بصور الكعبة الشريفة، والمساجد الإسلامية في الآستانة، وجعلوا له محراباً ومنبراً، وفرشوا أرضه بما يقوم مقام السجاد.
... وفي ضحى العيد ركبت، مع عدد من الأصدقاء، القطار الذي يسير في جوف الأرض، من نيويورك إلى بروكلين حتى بلغنا حي المسجد ولم أكن في حاجة أن يرشدني أحد إلى مكانه. لقد دلني إليه سمعي قبل بصري، ذلك أني كنت أسير إلى ناحية الجلجلة التي تدوي: الله أكبر الله أكبر ولله الحمد:(1/458)
فرجعتْ في نفسي راجعة الذكرى، وقلت هل عبر الإسلام المحيط الأطلنطي، وركز منارته في القارة الجديدة؟ الله أكبر ولله الحمد. ورأيت في هذا التكبير والحمد معنى لم يكن قد خطر لي على بال على كثرة ما جرى به لساني. وحين أقبلت رأيت المنارة تعلو دار المسجد، وهي تطل على البحر يتطلع إلى الجزيرة العربية، التي تفجر من حجازها النور المحمدي.
... دخلت المسجد فرأيت الشيوخ والرجال والصبيان، بعضهم راكع في أرضه وبعضهم جالس على كراسي أثبتت في جدار المسجد، ورأيت النساء يدخلن من باب آخر إلى الركن الخلفي من المسجد ليكُنَّ وراء الرجال، وكان بعض المصلين يلبس البرانيط، وبعضهم حاسر الرأس، وآخرون يلبسون الطرابيش التركية القديمة، وكان في المصلين تتر الروس، وأميركان وسوريون وأتراك وعراقيون، ألسنة مختلفة وألوان متنوعة وعروق متباينة، جمعهم دين واحد في مسجد واحد.
... جلست في المسجد ولكن نفسي وثبت، فطافت وهامت، في المشرق والمغرب، فرأيتني أذكر صلاتي في المسجد الأقصى، وفي المسجد الأزهر وفي المسجد الأموي وفي مساجد أخرى عامرة بالقدسية والجلال ولكني في مسجدي هذا أراني أمام وحي لا عهد لي به، وأمام رهبة لم تكن قد اقتحمت نفسي فيما مضى.
... هؤلاء الأحداث الصغار والصغيرات، بوجوههم الفاتنة، وشعورهم المرسلة وملابسهم الزاهية، يتكلمون الإنجليزية، موزعين بين صفوف المصلين هنا وهناك، يسجدون ولا يعقلون، ويكبرون ولا يفهمون، إيمان على السليقة ودين على الفطرة.(1/459)
... وفوق هذا الجيل، الشبان، بأحسن هندام وقوام، يرددون مع آبائهم وأمهاتهم الحمد والتكبير، ويأخذون بالركوع والسجود، وأكبر ظني أنهم لا يفهمون ما يصنعون.
... وفوق هؤلاء جميعاً، المسلمون المهاجرون، الذين هاجروا من روسيا فراراً بدينهم فأخذوا بحظ قليل من هذا الدين يوم نشأوا في بيوتهم الإسلامية وورثوا الصلاح والتقوى، وأكبر ظني أنهم لو عرفوا كنوز هذا الدين لكانوا في طائفة الأولياء والصالحين.
... فرغنا من الصلاة وأمّنا فيها شيخ من التتر، فرتل القرآن ترتيلاً أعجمياً فسمعت القرآن غير القرآن، وكان نصيب الخطبة كنصيب القرآن، فقد قرأ الإمام الخطبة المدونة في آخر المصاحف العثمانية، دعا بطول العمر والبقاء إلى السلطان، خان بن خان. عبد الحميد الثاني، وشاء ربك أن يكون عبد الحميد عظاماً نخرة في تركيا، وسلطانا حياً في بروكلين، يدعى له على المنابر، بالعمر المديد والعهد السعيد.
... ولم أكن لأورد هذه الشؤون، وغيرها كثير أمسك عن إيرادها، لولا أنه خطر لي أن ملايين من المسلمين الأعاجم قد صاروا وسيصيرون إلى هذا الإسلام المسكين، ما بقي شيوخنا وعلماؤنا مسترسلين في الجدل حول الماء متى يكون جارياً ومتى يكون آسناً ومتى يصلح للوضوء ومتى لا يصلح، دون أن يعنوا بتجديد شباب الإسلام في نفوس الجماهير الإسلامية العربية والأعجمية، سواء بسواء ...
... ولاحت لي الفرصة فوقفت بعد الفراغ من الصلاة وخطبت فيهم باللغةالاِنجليزية مشيراً إلى مبادئ الدين الإسلامي، فرأيت أني أكلمهم في أمر(1/460)
جديد، ورأوا أن هذا الإسلام الذي أحدثهم عنه دين عظيم، وأنهم لا حرج عليهم أن يفاخروا بدينهم وأن يعلنوا إسلامهم بين الناس، لا يحنون رؤوسهم ولا يستخفون. ولم أكد أفرغ من كلمتي هذه حتى تقدم مني المصلون يشكرون ويهنئون بالعيد، وخرجت السيدات من وراء الحاجز واختلطن بالرجال، يباركن ويعايدن، وجاءت بعضهن بالفاكهة والحلوى يطفن على المصلين، ويرسلن عبارات المعايدة والتهنئة بعذوبة فرحة ولطافة بريئة دمثة.
... وحين هممت بالخروج لقيت صبياً في الثانية عشرة من عمره يجحظ ببصره إلي، وقد ارتسم الفرح في وجهه، ذلك أنه أستمع إلى مسلم عارف "بعض" المعرفة بالإسلام، فقلت له بالإنجليزية.
... هل أنت مسلم؟ قال: لست مسلماً، قلت: ما هو دينك، أي شيء أنت؟ قال: أنا محمدي، أنا لست مسلماً!
... وهكذا كان عيدي هذا العام: بهجة لم يخفق بمثلها قلبي، وحسرة لم يفجع بمثلها فؤادي.
... اللهم رحماك بالقلب حتى تصطرع في جنباته نوازع البهجة والحسرة، جنباً إلى جنب، فما يدري أي النوازع يلبي، وإلى أيها يستجيب.(1/461)
الصخرة ... الصخرة
... أشرف العام 1945 على نهايته، وانتهى به عملي في أمريكا. فقد فرغت من تأسيس المكتب في واشنطن واستقرت أموره وأصبح بين يدي إخواني وزملائي يسير سيراً حسناً، وجاءتني الدعوة من الوطن بالعودة فقد تألفت لجنة التحقيق الأنجلو أمريكية وستصل إلى البلاد، ولا بد من إعداد القضية وأن أساهم في ذلك. فأخذت أُعِدُّ العدة للسفر، وما أشبه الليلة بالبارحة. فمنذ أربعة أشهر خلت كنت أحزم حقائبي، في القدس وها أنا أحزمها مرة أخرى، وكنت يومئذ أستقبل هذه الدنيا الجديدة، ولكني اليوم أعود إلى قبلتي الأولى. وهكذا الدنيا، مقام وارتحال، وقرار وانتقال.
... ولقد عبرت هذه الشهور الأربعة من حياتي ساعة ساعة ويوماً يوماً. ما مر جزء منها بغفلة، فلقد كانت حافلة بالعمل والحياة، ورأيتها طويلة أحصيت فيها أجزاءها، ولكني أستعرضها اليوم فأراها طرفاً من طرفة عين أو برهة متضائلة. وإنّ عين الفكر لقادرة أن تضم أطراف الزمان، وحوافل الأيام من أقدم العهود، في خاطرة فكر، أو خفقة جنان، أو طرفة عين.
... وغادرت الأوتيل 29-11-1945 في طريقي إلى المرفأ في بروكلن لأستقل الباخرة المسافرة إلى بورسعيد، وكان الثلج يتساقط كالعهن المنفوش يهوي من السماء في أطباق الهواء متهادياً مترنحاً. وكان الطقس بارداً جداً حتى لقد خيل إليّ أن هذا الثلج المتهادي من السماء قد صعقه البرد فنزل(1/462)
راجفاً مرتعشاً، يلتمس الدفء على الأرض حتى إذا ما وجد قراره، أخذ يصعد أنفاسه وجرى ماء سلسبيلاً.
... وراعني مشهد الثلج في أبهى صوره وأجمل تقاطيعه. فهنا أكوام تكدست على غير هيئة ونظام، وهناك أكداس منه بدت رصيفاً متصلاً بين الطرقات ومقاطع الطرقات. واكتست الأشجار، أغصانها وسوقها، بغلالات من الجليد، فإذا بالجليد نابت من الأرض، أو ساقط من السماء. ولم تنج الناطحات في رؤوسها وشرفاتها وجدرانها من هذا الكساء الأبيض يلف المدينة لفاً رقيقاً. ويبعث فيها هذا المنظر البهيج، فالطريق بيضاء، والمصانع، والمداخن .. بيضاء!
... وفي هذا اليوم انقلبت المدينة القاتمة بمصانعها ودخانها وقتامها وضبابها، ناصعة الرقعة، وفي يقيني أن هذه المدينة الجبارة التي فتنتها الآلة المنتجة المبدعة، هذه المدينة التي تحيا لتصنع وتصنع لتحيا، هذه المدينة التي استهوتها قدرة الإنسان في الاختراع لا بد لها بعض الأيام من السنة أن يرسل إليها ربنا بعض آياته وبيناته لتظل واعية لعجز الإنسان، وقدرة الله.
... ودخلت الباخرة إلى حجرتي ورفيقي فيها الوزير السوري ناظم بك القدسي، وكان جارنا في الحجرة الأستاذ وهيب بك دوس عضو مجلس الشيوخ المصري، فأخذنا نسارع لإصلاح شؤوننا وكل منا طامع في أن يجلس إلى صاحبه، ويسامره، ويؤانسه وهو حامد لهذه السفرة البحرية. ولم يمض وقت طويل حتى كنا ثلاثتنا نجلس في زاوية من الباخرة نتسامر ما وسع السمر، لا يعكر صفوه موعد مضروب، فالزمن هنا رهين برغبتنا ومشيئتنا، نصرفه كيف نشاء.(1/463)
... وأخذ دوس بك بإلقائه الساحر يروي شعر شوقي، يرويه مرتلاً مرنماً يستعيد نغمه ويعيد. فكان راوياً وسامعاً، ومعيداً ومستعيداً. وراح ناظم بك يقصّ أيام الجهاد الوطني في سوريا وذكرياته السالفة في أوروبا أيام الدراسة، ومضيت في نصيبي المتواضع أستمع إلى هذين الصديقين الكريمين وأشاركهما شجون الحديث، حياً بالمرح وحافلاً بالمطارحات والدعابات.
... ولم يكن في الزمن ما ينبئ يمضيه، بل لم يكن ما ينبئنا بأفول النهار وإقبال الليل، بل لم يكن ما ينبئ أي هزيع من الليل بلغنا، فلقد كان الحديث رخياً وندياً، من القلوب وإليها، فنسينا مطالب الجسد وحاجة الجسد، ولولا أن النوم فيه هدأة للروح والجسم معاً، لاتصل منا الليل بالنهار، ومضينا في الحديث نضرب في أرجاء الزمان ما وسعنا الزمان، وما أجمل السمر في صفوه وأنسه، ولكن ليته ولعله.
... وقد عبرنا المحيط الأطلسي في سفر هادئ، وقضينا أسبوعاً لا نرى إلاّ السماء والماء، فانعدم الحس بالزمان، ومضى متصلاً لا أعرف تاريخ اليوم من الشهر ولا اسمه من الأسبوع. واستسلمت إلى أنني سأصل بعناية الله يوم جمعة من منتصف هذا الشهر، وأن ربان الباخرة سيعلن ميقات وصولنا، فلا داعي أن أرهق نفسي بالحساب.
... وكان رفيقي الوزير السوري ناظم بك على خلاف ذلك، يحسب ويوقت وكنا إذا خلونا إلى حجرتنا في الباخرة عند النوم أخذ يسألني عما مضى وعما بقي، فأقسم له غير حانث أنني لا أعلم ما مضى ولا أعلم ما بقي. ولكن شيئاً واحداً أعلمه أننا سنصل يوماً ما، فكان يغضبه مني هذا الاستسلام والتراخي إلى أن أنشدت له يوماً ما قاله الشاعر:(1/464)
يسر المرء ما ذهب الليالي ... ... وكان ذهابهن له ذهاباً
... فاعتبر وتذكر، ولولا أن قلوبنا قد سبقت إلى الوطن والأهل والولد لآثرنا أن نهادن الزمان، فيمتد إلى غير أجل من غير توقيت أو حسبان.
... ولم يشأ البحر أن يتركنا في هدوء وصفاء، فهاج وماج.
... وذات ليلة تناولنا عشاءنا على مائدة لعبت بها الأمواج، تكاد تنزل بها إلى قاع من القاع، وكانت أطباق الطعام وأواني الشراب تميد يمنة ويسرة حتى كادت أن تتداولها أيدي الآكلين والشاربين. وكان المسافرون يرتطمون ويصطدمون بعضهم ببعض حين ينزلقون عن مقاعدهم الطويلة كلما هاج البحر. وقد أصابت الجميع نشوة الفرح، أشاعته عصبة من الأميركيات اللعوبات، أطلقن لمرحهن العنان فألقين أكتافهن وسواعدهن وشعورهن، وسائر ما يتصل بالنون الثقيلة، حيثما تقع وحيثما اتفق.
... ولكن كهلاً من ركاب الباخرة كان قد اعتمد ظهره إلى جدار الباخرة واتخذ مجلسه في آخر هذه المقاعد الطويلة، ذلك الكهل انكمش على نفسه واجماً، يأخذه العبوس والانقباض كلما قذف اهتزاز الباخرة إلى جنبه وحضنه عجوزاً شمطاء عجفاء، لم تترك زينة ولا زخرفاً ولا ألوانا إلاّ وضربت منها على وجهها وملابسها وشعرها بأوفر نصيب، في قبيح عجيب!
... وسط هذا الهرج وقف ربان الباخرة، بقامته الفارعة من غير تكلف ولا عناء. وليس "الوقوف" ميسوراً في تلك الفترة التي انطلقت فيها عفاريت البحر تتجاذب الباخرة، وأخذ الربان يجيل بصره في المسافرين وجهاً وجهاً ليفشي فيهم الهدوء والثقة، فإنه يوشك أن يفاجئهم بنبأ يسلبهم الرقاد.(1/465)
... وباللهجة الأميركية، عامرة بالإمالة والغُنّة، اعتذر عن هياج البحر، ورجع إليهم أن لا يعتبوا أو يلوموا!
... فانطلقت الحناجر الناعمة والخشنة بالقهقهات، موقعات وغير موقعات، إلاّ حنجرة واحدة ظلت كاظمة أمرها ووترها، ذلك أن الرجل الكهل ما زال مغيظاً محنقاً من جارته العجفاء!
... ثم مضى الربان يقول: ستجربون حظكم هذه الليلة فنحن نوشك أن نبلغ مكانا من البحر، طريفاً وعظيماً، ولا أدري هل نمر به في الهزيع الأخير من الليل، أو سنطالعه في الصباح، والأمر على كل حال رهين بحظكم وطالعكم، أتدرون ما هو هذا المكان؟
... فصاحت أميركية باسلة، وقد نهدت على أطراف أقدامها: الصخرة ... الصخرة ... فردد القائد معها بصوت رزين وقور قائلاً: الصخرة الصخرة .. وستمتحنون طالعكم هذه الليلة وأتمنى لكم حظاً سعيداً.
... وانصرف الربان إلى حجرته ولم يكد يغادر قاعة الطعام حتى تناثر المسافرون من المائدة وانتظموا في حلقات حلقات، يتحدثون عن الصخرة، يطيلون الحديث فلا يملونه ثم ينفرطون أزواجاً أو فرادى، ويهرولون إلى ممرات الباخرة ودهاليزها وإلى الأرصفة والشرفات ليروا هذه الصخرة التي شغلتهم في ليلتهم هذه عن العالم الجديد الذي غادروه، وصرفتهم عن العالم القديم وقد استقبلوه.
... ولم يعد الأمر مكنوناً، أو أحجية غامضة، فإنها صخرة طارق بن زياد، عابر المضيق، مضرم النار في السفن، قاهر الفرنجة، وفاتح الأندلس.(1/466)
... ولقد نذرت هذه الباخرة نفسها ومن فيها أن لا يغمض جفن ولا يوطأ مقعد أو سرير، فالجميع أسبلوا أيديهم أو اعتمدوا صدورهم فوق قضبان الأرصفة، ووجههم صوب الشمال تستطلع أنوار المضيق، حديثهم الصخرة، أمنيتهم الصخرة، لهفتهم الصخرة!
... ولقد هبت الرياح رطبة باردة فلم يستشعر المسافرون البرد إلاّ بعد زمن، فتساقطوا إلى حجراتهم يخطفون ما وقعت عليه أيديهم من غطاء أو رداء، ثم يتزاحمون صاعدين إلى أماكنهم في الأرصفة وقد لفوا أجسادهم بما حملوا لفاً شديداً، واتجهوا بأبصارهم إلى ما وراء الأفق البعيد، إلى موطن الصخرة.
... ولو أن إنسانا قد هبط على الباخرة تلك اللحظة ورأى هذا الرتل الطويل من الرجال والنساء وهم جاحظون في الأفق البعيد، لأيقن أنه رتل من الرهبان وقفوا يتعبدون .. ما درى أنهم ناس يتفرجون!
... ويمضي الوقت طويلاً وهذه الأشباح الملفوفة، شدت أبصارها إلى هدف واحد، تغرق في الصمت العميق لا يقطعه إلاّ حديث واحد، هو الحديث عن الصخرة وكفى.
... ذلك كان شأنهم جميعاً. أمّا صديقنا الكهل فقد وجد في الحديث عن الصخرة أعظم العزاء فيما أصابه من بلاء، فقد أُنقذ من الجيرة لتلك العجوز العجفاء.
... وكنا نحن، معشر العرب، ثلاثة في الباخرة، ناظم بك القدسي ووهيب بك دوس وأنا، فأخذنا الزهو والعزة كلما استمعنا إلى حديث الصخرة وكلما رأينا لهفة هؤلاء الأجانب على أن تكتحل عيونهم بمشاهدة الصخرة، وكان(1/467)
أكثر الركاب ينظرون إلينا كلما تحدثوا عن هذه الصخرة، وأنا موقن أنه لم يكن في أحد منا ما يلفت النظر. وكنا إلى ذلك العهد ثلاثة من المسافرين وانتهى، ليس لنا شأن ولا ذكر. فإذا بالصخرة تفيض علينا النباهة والذكر، حتى لقد خيل إلي أن هؤلاء الأجانب قد أصبحوا يرون فينا أحفاد طارق بن زياد!
... وقد أفلت من صديقي، و أخذت أطوف بهذا الرتل من الناس المشدوهين المأخوذين لأرى فيهم ساعة أو بعض ساعة، أشبع فيها خيلائي وكبريائي وشماتتي، وحمدت الله أني وجدت صهيونياً أميركياً كان كثير المماحكة والجدل، لا يفتر عن التعريض بالعرب، وجد أو لم يجد إلى الحديث سبيلاً. فدنوت من هذا الماكر وهو يحاول أن يتوارى بغطائه وقلت له: هل أنت كورنفيلد؟ فقال: نعم، فقلت له: وهل أنت أيضاً سهران؟ فكابر وقال: لست سهران .. إنني أشعر بالأرق لأني نمت كثيراً في النهار ولست أطيق أن أكون في حجرتي الآن. فقلت له: وعساك أنت ترقب الصخرة؟ فمكر وقال: لا، الصخرة صخرة، ولكن الطبيب نصحني أن أطيل الانتفاع بهواء البحر لمرض أشكوه، فضحكت هازئاً وقلت له حين هممت بالانصراف:
هاها .. يجوز .. ولكني أظن أنك تشكو مرضاً آخر .. الحقد على العرب!
... ولقد انتصف الليل واشتدت حلكة الظلام و أخذت الباخرة تقترب من المضيق تسترشد بالأنوار المبثوثة على الضفاف، فاشتد لصوق المسافرين بالقضبان الحديدية كما اشتد امتداد الرؤوس وأحداق الأبصار، وأمسكوا عن الحديث وودوا لو يمسكون عن الأنفاس فلا يفوتهم من مشهد الصخرة ذرة أو بعض الذرة.(1/468)
... وطال الصمت ودام النظر فلم يبصروا شيئاً، ذلك أن الأبصار قد باتت متعبة، وكثر تعاقد السحاب واشتداد الظلام، ثم جاءهم الربان ونبأهم أن الباخرة قد جاوزت الصخرة .. وتجري الرياح بما لا تشتهي السفن ..
... هناك خاب الرجاء وتبدد الأمل، فانفرط هذا الصف الطويل من الأشباح، وانسل المسافرون إلى مضاجعهم وقد أضناهم الوقوف وأعياهم الانتظار.
... ورأيت أني وحدي، كالعابد الزاهد ليلة القدر يقلب بصره في السماء، وغشيتني رهبة ما غشيتني من قبل وما أظنّها تغشاني من بعد، في ما بقي لي من العمر. و إذا بالتاريخ العربي ينشر الصفحات، و إذا بالذكريات تنهض أمام بصري، حوادث ووقائع، منها ما يقر العين ومنها ما يقض المضاجع.
... لقد ألقى المسافرون بأجسادهم فوق فراشهم، ونفوسهم تفيض بالحسرة والخيبة، ذلك أنهم لم يروا شيئاً من الصخرة، ولكني رأيت جحافل النصر وراء القائد العربي عقبة بن نافع ممتطياً صهوة جواده، يمضي في الشمال الإفريقي من نصر إلى نصر حتى يبلغ المحيط الأطلسي، وهو يصيح في أذن الزمان (والله لولا هذا البحر لمضيت في سبيلك مجاهداً).
... ورأيت طارقاً بن زياد وفي ركبه الغطاريف من العرب يحرقون سفنهم بأيديهم التماساً للنصر أو القبر. ولقد سمعت صيحاتهم ونجداتهم، وسمعت طارقاً في خطبته التي تتوارثها الأجيال العربية كأعظم أنشودة للحرب، وأمجد فاتحة للنصر.
... ورأيت صقور قريش، وقوافل العلماء والشعراء والفقهاء، والأطباء والحكماء يجتازون المضيق، يحملون معهم مشاعل العلم والعدل والحضارة(1/469)
فتضيء في ذلك العالم السادر في الجهل، الغارق في الظلم، المتردي في الانحطاط.
... ورأيت مدنية عجيبة، وحضارة رفيعة، وعدلاً شاملاً، ورحمة رشيدة. كل أولئك في مجالس الخلفاء وقصور الأمراء ورياض المدائن ومعاهد العلم ودور المرضى ومنازل الناقهين والعاجزين .. كل ذلك في الأندلس ...
... وبدا هذا المُلك، كالفردوس الذي بحث عنه الفلاسفة وافتقدوه، تتآخى فيه نوازع الدين والدنيا، وتتجسم في مرابعه ومغانيه آيات العقل، وخلجات القلب، ورحى الروح.
... ولكني، رأيت بعد ذلك، هذا الفردوس العجيب، بالياً كالبلى، يحمله أهله وذووه كما يحملون الموتى، خاشعة أبصارهم، عبر المضيق إلى إفريقيا، وقد ملأوا الدنيا نحيباً ووجيباً، يلقون آخر النظرات، ويبعثون آخر الحسرات، ويرسلون آخر العبرات، صوب الأندلس، الأندلس وحدها، وهم يستمعون إلى الشاعر واعظاً وزاجراً، منتهراً وساخراً:
إبك مثل النساء مَلكاً مضاعاً ... ... لم تحافظ عليه مثل الرجال
... ورأيت بعد ذلك كله، عرباً يجوسون خلال الأندلس لا منتصرين ولا فاتحين، ولكن زائرين ومتفرجين. فيقفون عند الآثار يصعدون الأنفاس ويكفكفون العبرات، ورأيت بينهم شاعراً نصرانياً عربياً، ذكي الفؤاد مرهف الحس، يطوف بالمسجد في قرطبة، وها هو حين يشرئب بعنقه نحو مئذنته الفاتنة، يسمع أجراس النواقيس تبعث رنينها في الآفاق فتفيض الحسرة في نفس الشاعر يبعثها آيات من الشعر:
يا أيها المسجد العاني بقرطبة ... ... هلا تذكرك الأجراس تأذيناً(1/470)
... ولقد رأيت كثيراً غير هذا وسمعت كثيراً غير هذا، وأقسم أني رأيت وإني سمعت، ولكن بالفؤاد، وما كذب الفؤاد.
... ولقد عمر الفؤاد بهذه الرؤى والأطياف، أياماً صفا فيها البحر الأبيض المتوسط، وعشت في الذكريات مع أصحاب الذكريات، أستمع وأتكلم، ألوم وأستغفر، أبتهج وأبتئس حتى دنوت أول مرفأ من الوطن العربي في بور سعيد.
... فعدت إلى دنيا الحاضر، بلهفة المشوق إلى الوطن وأهله.
... ومن بور سعيد ركبنا القطار إلى حيفا، فسافر السيد ناظم القدسي إلى دمشق، وسافرت إلى عكا، كل إلى الأهل والولد، والدار والبلد.
... وبقيت حقائبي على حالها مهيأة للسفر، فقد وجدت نفسي بعد بضعة أيام في بيت المقدس في مهمة جديدة وجهاً لوجه أمام لجنة التحقيق الأنجلو أمريكية، والويل لنا من لجان التحقيق ..
...(1/471)
الدول العربية في المعركة(1/473)
اللقاء ... . في سوق الفراء
... وصلت إلى القدس في مطلع العام الجديد- 1946- وقد أثبتت الأحداث فيما بعد أنه عام جديد حقا بالنسبة إلى القضية الفلسطينية. فقد وضعت الحرب العالمية أوزارها ونشطت الصهيونية العالمية بنفوذها أضخم. كما انطلق الإرهاب اليهودي في فلسطين تملأ أخباره أسماع الدنيا. و أخذت الولايات المتحدة بزمام المبادرة في دفع القضية الفلسطينية إلى صعيد جديد يكون فيه للصهيونية حظ الأسد ... ويكون لبريطانيا الدور الثاني ولأمريكا الدور الأول.. ولا يزال الأمر كذلك إلى ساعتنا هذه..
... ذلك كان الوضع الدولي بالنسبة إلى قضية فلسطين يوم وضعت حقائبي في أوتيل كلاريدج في حي القطمون لاقضي بضعة أسابيع أعد العدة لعرض قضيتنا على لجنة التحقيق الانجلو أميركية.وبقدر ما كان الجو الطبيعي في بيت المقدس عذبا منعشا في نسماته الهادئة الصافية.كان الجو السياسي مكفهرا ملبدا بالضباب والغيوم بعضها فوق بعض.
... ونشطت الاجتماعات الوطنية للتداول في الأمر وتعددت لقاءاتي بالسادة موسى العلمي مندوب الأحزاب لدى الجامعة العربية، وجمال الحسيني رئيس اللجنة العربية العليا، وكان قد عاد من منفاه في سيشل. والدكتور حسين الخالدي وعبد اللطيف صلاح وعوني عبد الهادي ويعقوب الغصين. رؤساء الأحزاب في فلسطين.(1/475)
... وفي سياق المشاورات بدأ شيء من التحفظ والتردد بالنسبة إلى المثول أمام لجنة التحقيق الانجلو الامريكية. ولكن الإجماع انتهى إلى عدم مقاطعتها، وتم الاتفاق أن اللجنة العربية العليا تعرض القضية الفلسطينية بصورة عامة وان يقوم المكتب العربي بعرض الجوانب التفصيلية المتخصصة. وهكذا كان.
... وكان في مكتب القدس السادة البرت حوراني ورجائي الحسيني وبرهان الدجاني وروحي الخطيب ووصفي التل وناصر الدين النشاشيبي، فأخذوا يعدون الدراسات التفصيلية في جميع جوانب القضية الفلسطينية يعاونهم عدد من الشبان المثقفين في فلسطين، ومضينا نواصل الليل والنهار في إعداد البحوث والدراسات.وكانت لدى المكتب العربي ملفات وافية عن مختلف المواضيع بالقضية الفلسطينية.
... وكنت أقضي سحابة النهار وشطرا من الليل في مراجعة التقارير والوثائق، حتى انتهى بنا الأمر إلى إعداد ملف ضخم يزيد قليلا على الألف صفحة، مبوبا مفهرسا، مكتوبا باللغة الإنجليزية على أحسن ما يكون سردا وعرضا.
... وكانت لجنة التحقيق قد بدأت عملها في واشنطن ولندن وأوروبا فاستمعت إلى زعماء الصهيونية وأنصارها وزارت معسكرات الاعتقال لليهود، فجعلنا لذلك ردوداً وافية شافية..
... وباشرت اللجنة عملها في شهر شباط سنة 1946 في مبنى جمعية الشبان المسيحية في القدس وكانت من ستة أعضاء أمريكيين وستة أعضاء بريطانيين. فاستمعت إلى وجهة النظر العربية والصهيونية وزارت عدة مدن(1/476)
في فلسطين، كما استمعت قبل وصولها وبعده إلى عدد من رؤساء الدول العربية.
... وفي مبنى جمعية الشبان المسيحية جلسنا نحن الفريقين، العربي واليهودي، كل في جانب من القاعة، واللجنة على المنصة الرئيسية، كأننا أمام محكمة قانونية نتقاضى ونترافع.
... وكان في الجانب اليهودي حاييم وايزمن وبن غوريون وشرتوك ومعاونوهم وخبراؤهم، وفي الجانب العربي كان زعماء الأحزاب وطائفة من الشبان الوطنيين، ونحن رجال المكتب العربي.
... وعرضت اللجنة العربية القضية الفلسطينية عرضا قويا وقد تحدث السيد جمال الحسيني عن الأراضي والهجرة وشؤون الفلاحين العرب. كما تحدث السيد عوني عبدالهادي عن الجوانب السياسية.
... وجاء دور المكتب العربي فقدمنا إلى اللجنة "الملف الضخم" وادليت ببيان تفصيلي بأن لجنة التحقيق لا تملك تقرير مصير الشعب الفلسطيني وأنها ليست ذات اختصاص في تقرير مستقبلنا السياسي وأننا ننكر على أمريكا وبريطانيا مجتمعين الحق في التدخل في شؤوننا، وأننا نمثل أمام اللجنة لإفهام الرأي العام العالمي حقيقة الظلم النازل بنا على يد الاستعمار والصهيونية، وانهيت بياني بشرح مطالبنا الوطنية المعروفة. وما أن أشرفت على ختام حديثي حتى وثب علي رئيس اللجنة وأعضاؤها بالاسئلة منهمرة. غاضبة حانقة. وقد أكبروا على أنفسهم ووراءهم الدولتان العظيمان المنتصرتان أن يتصدى لهم عربي من فلسطين يضع الأمور في حدودها. ومن منطق الثورتين الأمريكية والبريطانية على السواء.(1/477)
... وانتصب الرئيس في مقعده، ضابطا أعصابه، متجملا بمهابة القضاة وقال: أين تعلمت؟
قلت: في الجامعة الأمريكية في بيروت وفي معهد الحقوق في القدس.
قال: أليس هذا فضل الانتداب عليك وعلى شبابكم.
قلت: ابدا.. قبل الانتداب كان آباؤنا على جانب وافر من العلم، وكان أجدادنا قبلهم حملة العلم والعرفان ... وعلى أيديهم تعلمت أوروبا، ومن أوروبا تعلمت أمريكا.
قال: ولكنك أحسن حالاً من أبيك علما ومكانة؟ أليس كذلك؟
قلت: العكس هو الصحيح، لقد كان والدي أحسن مني مكانة، فقد كان عضوا في البرلمان العثماني، هو والعشرات من العرب يشاركون في الحكم مع الأتراك.
قال: وانت؟ ماذا انت؟
قلت: أنا أعيش تحت الحكم البريطاني المباشر، فليس لدينا برلمان ولا نشارك في الحكم، وبدلا من أكون في البرلمان أجد نفسي على الدوام في السجون والمعتقلات.
قال: يبدو لي انك تنظر إلى الموضوع بجدية بالغة، أكثر مما يستحق.
قلت: ليس في الأمر مبالغة، نحن مهددون بالجلاء، وأخشى أن يكون والدي أسعد حالا مني حتى في مماته، فقد دفن في تراب الوطن، ولا أعلم أين يكون قبري وكذلك كل جيلنا.(1/478)
... وهنا توتر جو الجلسة، وتتطلع "كروسمان" العضو العمالي البريطاني ليقول: لا فائدة من استمرار هذه المناقشة، ونحن أمام محام يحسن صناعة الجواب.
... قلت: أنا أحسن صناعة التحدث بالحق والصدق وهذا ما جئت من اجله ... وانتهت المناقشة عند هذا الحد.
... وجاء من بعدي الأستاذ البرت حوراني، وهو من جديدة مرجعيون مولدا، ومن بريطانيا نشأة وثقافة، وكان يستعين به السيد موسى العلمي في شؤون الإعلام.
... وتحدث السيد حوراني حديث الأستاذ الجامعي بسلامة ورصانة محللا معللا، مناقشا ومفندا ... وكان يتكلم بالمنطق الغربي والعقل البريطاني في معزل عن العاطفة العربية، وحاورته اللجنة طويلا فصمد لها، ولم تستطع أن تجد في "مرونته" "وموضوعيته" "وإيجابيته" ذرة من التسليم بالأمر الواقع.
... ولست أحسب أن وجهة النظر العربية بشأن القضية الفلسطينية قد عرضت خلال عشرات الأعوام بأحسن ما عرضت أمام لجنة التحقيق الانجلو أمريكية في تلك الايام.
... ففي واشنطن استمتعت اللجنة إلى دكتور فيليب حتي وإخوانه الأمريكان المنحدرين من أصل عربي ، يتحدثون من زاوية الشعب الأمريكي والمصالح الامريكية.
... وفي لندن تحدثت الوفود العربية، وكانت يومئذ تشترك في اجتماعات الأمم المتحدة المنعقدة في العاصمة البريطانية، فكان حديثا من خلال ميثاق الأمم المتحدة وحق تقرير المصير، وساندهم في هذا أنصار العرب من(1/479)
البريطانيين وفي مقدمتهم الجنرال سيزر الذي كان سفيرا لبريطانيا في سوريا ولبنان.
... وفي القاهرة تحدث قادة العرب وفيهم السيد عبد الرحمن عزام باسم الجامعة العربية.
... وفي العواصم العربية تحدث الملوك والرؤساء والأمراء حديثا قويا، جامعا، مانعا.
وفي فلسطين تحدث الشعب الفلسطيني بإيمان وتصميم وعزم، بلسان اللجنة العربية العليا والمكتب العربي.
... ولكن لجنة التحقيق تجاوزت كل ذلك و أخذت بوجهة النظر الصهيونية فجاء تقريرها ليوصي بإدخال 100 ألف يهودي مهاجر فورا، وبإطلاق الهجرة اليهودية على مصراعيها، وإلغاء جميع القيود على ملكية الأراضي، وأن توضع فلسطين تحت الوصاية لمدة طويلة إلى أن يتكاثر اليهود ويصبحوا هم الدولة.
... والواقع أن تواصي اللجنة الانجلو أمريكية قد نسفت الكتاب الأبيض الذي صدر سنة 1939، ومهدت السبيل لاقامة دولة يهودية، وبادر الرئيس ترومان للترحيب بتقرير اللجنة مطالبا بالإسراع بالتنفيذ. وكنت يوم صدور التقرير- نيسان سنة 1946 في القاهرة وفي الجامعة العربية بالذات، في مقرها القديم في شارع البستان، وعند الظهيرة وصل السيد عبد الرحمن عزام الأمين العام للجامعة العربية، فهو يسهر معظم الليل، ويباشر عمله بعد الظهر بقليل- فدخلت عليه وأخذنا نتحدث عن تقرير اللجنة الانجلو امريكية ... وكان بيننا حوار وجدال.(1/480)
قال عزام: لقد خدعنا الإنجليز قبحهم الله.
قلت: ولماذا نسمح لهم أن يخدعونا، ولماذا نقبل الخديعة؟ أو ليس يكفي خداعهم الطويل منذ أيام الشريف حسين..
... قال: لقد أكدوا لي في وزارة الخارجية البريطانية أنهم سيكونون إلى جانب العرب، ثم ان الملك عبد العزيز قد تلقى تطمينات أكيده من جانب الأمريكان.
قلت: ان الخطر كل الخطر أن نطمئن إلى هذه التطمينات ... ولا أظن عربياً يعرف الإنجليز كما الملك عبد العزيز، وإنّ مكرهم لا يقاس شيئا إلى جانب دهائه ومكره ...
قال: الواقع أن قضية فلسطين عرفت هذه المرة كأقوى ما تكون ... وأنتم في المكتب العربي كان استعدادكم عظيما.
قلت: هذا لاينفع ... لقد كان جميع ما قلناه في واشنطن ولندن والقاهرة والقدس وسائر العواصم عظيما وقويا،ولكن.
قال: ولكن ماذا؟
قلت: اليهود في فلسطين وراءهم جيش الهاجاناه وعدد من العصابات الإرهابية، وقد زارت اللجنة قيادتهم السرية، واما نحن العرب فلسطين فشعب أعزل.
قال: سندرس هذا الموضوع في اجتماع المجلس القادم.
قلت وأنا أقف لأنهي حديثي: أريد أن أقص عليك قصة شعبية.
قال: وما هي؟ أنا أحب القصص الشعبية، ونحن في الصعيد عندنا قصص شعبية كثيرة.(1/481)
قلت: كان صياد يطارد غزالين وهما يعدوان أمامه، فقال أحد الغزالين لرفيقه، علينا أن نفترق عن بعضنا وليذهب كل في طريق لكي ننجو من هذا الصياد الماهر ... ولكن أين ترى أن نلتقي؟ فقال الغزال الاخر.. ما دام هذا الصياد يطاردنا فلا أظن أننا سنلتقي إلاّ في سوق الفراء.. فسنقع كلانا في قبضة الصياد، وتسلخ جلودنا لتعلق في سوق الفراء، وهناك سيكون اللقاء.
وقلت للسيد عبد الرحمن عزام إذا كانت ستظل "تدريساً"، وإذا كان الملوك والأمراء سيظلون يصرخون، فسيكون اللقاء في سوق الفراء.
... وكر الزمن بأيامه وأعوامه ووقعت كارثة 1948، وتزاملت بعدها مع السيد عبد الرحمن عزام، كمساعد له في الجامعة وتوالت لقاءاتي به بعد أن استقال من الجامعة، وكان آخرها في بيروت في شهر آب سنة 1968، وتذاكرنا الأحداث الماضيات، وحكاية سوق الفراء فقال لي، إنه لا ينسى تلك القصة المليئة بالعظات والعبرة.
... قلت له: ان القصة تغيرت معالمها بعد نكبة حزيران.
قال: وكيف؟
... قلت: لقد سقطت سيناء والجولان مع الضفة الغربية، وإنّ سوق الفراء لم يعد قاصرا على أبناء فلسطين فقد شمل أبناء العروبة وها قد أصبحت جلودنا جميعا معلقة في سوق الفراء.
... وافترقنا ونحن ندعو الله أن يهيئ لنا من هذه "السوق" مخرجا!
... وعدت إلى القدس من القاهرة في أوائل شهر أيار سنة 1946 فوجدت الشعب في هياج عارم، فقد جاء تقرير لجنة التحقيق الانجلو أمريكية مخيبا للامال، ونذيرا بشر مستطير، فقد تكشفت في سطوره المؤامرة(1/482)
الأمريكية البريطانية لتهويد فلسطين، فأضرب ليعرب عن نقمته واستنكاره ... وكان ذلك كل ما يملكه من الوسائل.
... وعلى الصعيد اليهودي أعربت المنظمات الصهيونية في أمريكا وبريطانيا عن الترحيب بتقرير اللجنة فقد استراحت من الكتاب الأبيض وقيوده على الهجرة وبيع الاراضي، وبدا لها أن الجو قدأصبح مواتيا لقيام دولة يهودية في فلسطين، ولتكن حدودها ما تكون.. فالمستقبل قادر على تحقيق الأهداف مرحلة بعد مرحلة " وتجديد" الحدود، يوما بعد يوم.
... وفي فلسطين نشطت المنظمات اليهودية العسكرية في أعمالها الإرهابية بصورة جنونية أقضّت مضاجع الإنجليز، وراحت الإذاعة اليهودية السرية تحض على إقامة الدولة اليهودية واباحة الهجرة اليهودية، والمطالبة بتوصية اللجنة القائلة بإدخال 100 ألف يهودي.
... وأما على الصعيد العربي فقد عم الإضراب العواصم العربية وتعالت موجة من الاحتجاج والاستنكار من قبل الأوساط الرسمية والشعبية، فاستدعى الملوك والرؤساء سفراء بريطانيا وامريكا وأعربوا لهم عن بالغ قلقهم.
... وقال الملك عبد الله، وقد نودي به ملكا يوم 25 مارس سنة 1946: إنه يعاهد الله على الجهاد المقدس دفاعا عن فلسطين العربية والعمل على أن تظل عربية.
... وأعلن الملك عبد العزيز أنه كان يظن أن إنجلترا وامريكا تقدران حقوق العرب وصداقتهم تقديرا يحول دون هذه الخيانة وهذا الغدر.(1/483)
... وصرح عبد الرحمن عزام وغيره من قادة العرب مثل هذه التصريحات.
... وكنا نستمع إلى هذه التصريحات ونحن نكبر الروح العربية التي وراءها، ولكنا كنا نتساءل هل هذه نهاية المطاف؟ هل نقف عند حدود الاستنكار والاحتجاج؟ هل يظل شعبنا أعزل من السلاح ... وعدونا ماض في تحقيق اطماعه بالسياسة والمال والدعاية، وبالسلاح أولاً وآخراً ...
... واجتمعنا في المكتب العربي في القدس، ودعونا إلى هذا الاجتماع نخبة من العاملين الوطنيين من كل أرجاء البلد وقلبنا الأمر على وجوهه وانتهى رأينا أنه لا بد من الكفاح المسلح ... لا بد من الإعداد للمعركة لا بد من التدريب والتسليح ... ولا بد للدول العربية أن تدعمنا.. تماما كما تفعل الصهيونية العالمية، ومعها الاستعمار الغربي في دعم يهود فلسطين.
... وفي اليوم الثاني دعوت مراسلي الصحف الفلسطينية والعربية إلى المكتب العربي واتفقنا أن نبدأ حملة صحافية تدعو إلى الكفاح المسلح، وإنشاء لجان طوارئ في البلاد، وجعل الوطن كله ثكنة عسكرية ... وإخراج النساء والاطفال إلى البلاد العربية المجاورة لنشعلها معركة لا تنطفئ حتى النصر ... وحتى الاستقلال.
... وهكذا كان، فقد انطلقت الحملة الصحفية تدعو إلى النضال، وبادرت الصحافة العربية والأوساط الشعبية إلى توكيد هذه الدعوة واتجهت الأبصار إلى الملوك والرؤساء وإلى الجامعة العربية، والجميع يناشدون وينادون، العمل العمل ... . السلاح السلاح.(1/484)
... وتنادى الملوك والرؤساء لاجتماع في زهراء أنشاص في 28 أيار سنة 1946. وقبيل هذا الموعد تلقيت رسالة من السيد شكري القوتلي رئيس الجمهورية السورية لأوافية ولم تمض ساعات حتى كانت الطائرة تقلني إلى القاهرة.
... وكانت القاهرة مهوى القلوب في تلك الأيام التاريخية، فهو أول لقاء عربي بين الملوك والرؤساء، بل هو أول تعارف بينهم، ومن يدري، لو لم تكن قضية فلسطين فمن أين يتيسر لهم لقاء والتعارف!
... وكان عبد الرحمن عزام هو" المترجم" الذي يتفاهم الملوك والرؤساء عن طريقه. فقد كان الملك فاروق لا يفهم لهجة الأمير سعود، ونائب والده الملك عبد العزيز، وكان الشيخ بشارة الخوري لا يفهم لهجة الأمير سيف الاسلام عبد الله نائب والده الإمام يحيى، وكان الملك عبد الله، والأمير عبد الإله الوصي على عرش العراق" يتجاهلان" لهجة السيد شكري القوتلي رئيس الجمهورية السورية.
وهكذا.
... وبدأت المحادثات سرية بين الملوك والرؤساء، وكانوا ينادون السيد عبد الرحمن عزام "ليترجم" بين بعضهم بعضا ... وكنت أنا وراء الكواليس مع الوفد السوري، أحاول أن أترجم لنفسي هذه" اللهجات" المتباينة، وهذه التناقضات المتعددة!
... وجاء دور إعداد البيان المشترك الذي سيصدر عن المؤتمر فكانت الصيغة المتعلقة بقضية فلسطين كما يلي.:" ... وتداولوا في قضية فلسطين من شتى نواحيها فرأوا أن قضيتها ليست قضية على دول العرب وحدهم بل(1/485)
هي قضية العرب جميعا، وأنّ فلسطين عربية يتحتم على دول العرب وشعوبها صيانة عروبتها وأنه ليس بإمكان هذه الدول أن توافق بوجه من الوجوه على أية هجرة جديدة ويعتبرون ذلك نقضا صريحا للكتاب الأبيض الذي ارتبط به الشرف البريطاني.ولهم عظيم الأمل أن لا يعكر صفو علائق المودة القائمة بين الدول والشعوب العربية من جهة والدولتين الديمقراطيتين الصديقتين من جهة أخرى أي تشبث من جانبهما يرمي إلى اقرار تدابير ماسة بحقوق عرب فلسطين حرصا منهم على دوام هذه الصداقة وتفاديا لرد فعل ينشأ بسبب ذلك" ...
... ودعاني السيد شكري القوتلي إلى غرفته وقرأ من البيان الصيغة المقترحة بشأن فلسطين وقال ما رأي فلسطين؟
... قلت: ان فخامة الرئيس يعرف رأي فلسطين كما أعرفه ، لقد عشت في فلسطين، وتعرف قضية فلسطين.
... قال ضاحكا: شعب فلسطين صعب المراس، هذا الذي أعرفه عنه، فما رأيك في البيان؟
قلت: هذه الصيغة حسنة ولكنها.
قال مقاطعا: ولكنها ماذا؟ نحن لم نتوصل إلى هذه الصيغة إلاّ بعد جهد.
... قلت: انها لا تخلو من ملاحظات.
... قال: عسى أن لا تخرب البيان بأكمله.
... قلت: إذن سأتجاوز الكلام عن الشرف البريطاني وعلائق المودة مع الدولتين الصديقتين، وسأحصر كلامي في رد الفعل وفي إغفال أي إشارة للدول الاخرى، ومنها الإتحاد السوفيتي. ثم أخذت أشرح وجهة نظري بأن(1/486)
رد الفعل يحسن التعبير عنه بالإشارة إلى البترول ... وإنّ الاقتصار على الدولتين الديمقراطيتين الصديقتين وهما أصل البلاء ورأس الداء، وتجاهل دولة عظمى كالاتحاد السوفيتي، وقد خرجت منتصرة في الحرب العالمية الثانية، سيؤكد مرة ثانية أننا ما زلنا نسير في فلك الدول الغربية،وهي التي احتضنت الصهيونية وما تزال.. وستظل.
... ولم أكن قد أكملت حديثي. حتى دخل السيد عبد الرحمن عزام ودعا السيد شكري القوتلي إلى الاجتماع. وهو يقول مداعبا، لا تصغ إلى أهل فلسطين، هؤلاء قوم مشاغبون. قلت نعم والعزازمة من قبائل بئر السبع وهم رؤساء المشاغبين.
... وفي هذه الفترة مر الملك عبد الله والأمير عبد الإله فوقف الجميع بضع دقائق في المجاملات المعتادة، ووضع الملك عبد الله يده على كتفي وقال:
... أي نعم يا ابن شيخنا، عسى أهل فلسطين راضين عن هذا الاجتماع.
... قلت: شعب فلسطين يدعو لكم بالتوفيق.
... وقال شكري القوتلي مقاطعا: يظهر أن شعب فلسطين له ملاحظات على صيغة البيان المشترك.
... قال الأمير عبد الاله: خيرا ان شاء الله، ما هي الملاحظات؟
... ولم أكد أوجز ملاحظاتي حتى اكفهر وجه الملك عبد الله، وبدا عليه الغضب، وأخذ بيد السيد شكري القوتلي إلى قاعة الاجتماع وهو يقول لي:
... أما تتقي الله ... هل تريد أن تنشر الالحاد والشيوعية ... أنت ابن شيخ الاسلام، وتريدنا أن نستنجد بروسيا، الشيوعية الملحدة الكافرة ال.. ال..(1/487)
وذهب الجمع إلى قاعة الاجتماع ... وبقيت في الغرفة وحدي كسيف البال والحال، ذلك أنني لم أستطع أن أشرح رأيي والموقف لم يكن يحتمل الجدال.
... وصدر البيان المشترك بصيغته، ولحمه ودمه، وقال لي السيد شكري القوتلي إنه قد تحدث بشأن الملاحظات فلم يجد من يؤيده ولم ير داعيا للإلحاح رغبة في الإجماع.
... والواقع أن "الإجماع" رغما عن كل مغرياته، كان دائما بالنسبة إلى العمل العربي المشترك نقمة لا نعمة، إذ يكفي أن "تفرمل" دولة عربية واحدة "وتفرمل" معها بقية الدول العربية، وتقف القافلة كلها عن السير ... حبا في الإجماع..
... وعلى كل حال فقد كان مؤتمر زهراء أنشاص أول تجربة في أول لقاء عربي على مستوى عال، يتجمع فيه البيت العلوي السعودي والبيت الهاشمي ليتركوا مشاكلهم القديمة والحاضرة وراء الكواليس ولو إلى حين ... . ولو في الظاهر. والله يتولى السرائر.
... وقد فاز الملك فاروق بنصيب الأسد من هذا المؤتمر. فقد وصفه البيان المشترك بأنه "صاحب بلاد النوبة والسودان وكردفان ودارفور" وقد وقع الملوك والرؤساء على هذا البيان ولا يدري بعضهم أين تقع "كردفان ودارفور" ... بل لم يسمع أين تقع؟
... وتنادت الجماهير العربية بالبشائر لهذه المعاني الرائعة التي تجلت في البيان المشترك، وأحس الشعب الفلسطيني أنه قد تكوّن تجمع عربي يتصدى للتجمع اليهودي الممثل في الصهيونية العالمية، وتطلعت الأمة العربية إلى تدابير عملية من وراء البيان المشترك خاصة أنها فهمت مغزى كبيرا في ما(1/488)
جاء في عبارته الأخيرة "أمّا فيما رأوا زيادة على ذلك فقد كلفوا الأمين العام لجامعة الدول العربية أن يحمل إلى مجلس الجامعة نتائج أبحاثهم ومداولاتهم وتوجيهاتهم في هذا الشأن ليتخذ أفضل الوسائل لصيانة مستقبل هذا الوطن العزيز على العرب أجمعين."
... وجاء اليوم الثامن من شهر حزيران سنة 1946 فانعقد الاجتماع" التاريخي لمجلس الجامعة العربية في بلودان، وذهبت في وفد فلسطين برئاسة السيد جمال الحسيني للاشتراك في أعمال المؤتمر.
... وغداة وصولي إلى بلودان تذكرت المؤتمر الشعبي الذي عقد قبل تسعة أعوام وبدت لي المقارنة بارزة بين المؤتمرين: الشعبي كانت تتجلى فيه المصارحة والمكاشفة والشجاعة،والرسمي اتسم بطابع التهامس وراء الكواليس والاجتماعات الجانبية، لا لدرء الخطر عن فلسطين ولكن لدرء" الخطر" الذي تلقيه قضية فلسطين على عاتق الدول العربية.
... لقد كان الشعب الفلسطيني يطالب بالمال والسلاح وكانت الأمة العربية تنادي بالنضال وقطع العلاقات السياسية والاقتصادية والبترولية مع الدول الغربية، وكانت إلى جانب ذلك أصوات "يسارية" في الوطن العربي تدعو إلى التفاهم مع الإتحاد السوفيتي.
... وفي داخل الاجتماعات الرسمية وخارجها أعلنا نحن وفد فلسطين أننا سنقدم في هذه المعركة أرواحنا، وهذا كل ما نملك، وعلى الدول العربية أن تيسر لنا أسباب المعركة، وأسلحة القتال.
... وتعددت الاجتماعات في الغرف الصغيرة ليلا ونهارا، وكل وفد يقول في الداخل غير ما يقول في الخارج- للصحافة والتجمعات الشعبية ... ولم(1/489)
تكن هذه المداولات تشغل في وضع خطة لإنقاذ فلسطين بقدر ما كانت تشغل في وضع خطة لإنقاذ الدول العربية من الورطة التي أنزلتها إليها قضية فلسطين.
... ومن أجل ذلك فقد كانت المشاورات تدور في فلك واحد: البحث عن مخرج، وكنت أداعب بعض الوفود المعروفة بدراستها الدينية، مثل الشيخ يوسف يسن ممثل المملكة العربية السعودية واضرامه بالدعاء كلما لقيتهم صباح مساء: اللهم هيئ لنا من أمرنا مخرجا.
... وانتهت الاجتماعات بمقررات علنية وسرية.
... وتتلخص المقررات العلنية:
1- الاعتراض على تقرير لجنة التحقيق الانجلو أمريكية ورفض أي شكل من أشكال التقسيم
2- طلب المفاوضة مع الحكومة البريطانية لإنهاء الحالة الراهنة بفلسطين.
3- عرض القضية على هيئة الأمم المتحدة.
4- تأليف لجنة دائمة خاصة بفلسطين في الجامعة العربية.
5- إنشاء مكاتب للمقاطعة في كل دولة عربية.
6- إنشاء لجان دفاع لفلسطين في كل دولة عربية.
... وأما المقررات السرية فإني لا ألخصها ولكني أنشرها بنصها وحرفها، كما دونتها:
1- إلغاء امتيازات البترول الممنوحة لكل من أمريكا وبريطانيا في البلاد العربية.
2- مقاطعة أمريكا وبريطانيا في جميع المجالات الاقتصادية.(1/490)
3- عدم السماح للدولتين أو أي منهما أو رعاياهما بأي امتياز اقتصادي جديد.
4- تقديم الشكوى عليهما إلى مجلس الامن والجمعية العامة للأمم المتحدة.
5- مقاطعتهما مقاطعة ادبية.
... ولقد سمحت لنفسي أن أنشر هذه النصوص لأنها ليست جديرة بأن تسمى سرية. ولأنها أصبحت الآن جزءا من التاريخ- وإن كان تاريخا مليئا بالسخرية المريرة-، فحتى قرار المقاطعة الأدبية، وهو قرار سخيف، ظل بعيدا عن التنفيذ.
... وقد حسب الرأي العام العربي، وأوله فلسطين، أن تلك القرارات السرية كانت على جانب من الجدية يبرر" السرية".
... وانفض المؤتمر في وسط هالة من الأهمية، وعادت الوفود إلى بلادها تجر وراءها قطارا من التصريحات المدهشة المذهلة، لتقرأها الأمة العربية.أمّا في غرف وزارات الخارجية العربية فقد كان الحديث مع سفيري بريطانيا وأمريكا" اعتذاراً" في حقيقته وجوهره يختمه الدبلوماسي العربي بقوله: أنتم تعرفون شعور الرأي العام العربي وكان لا بد لنا أن نقول شيئا ... ونحن على كل حال سنظل أصدقاء.
... أما على الصعيد الفلسطيني فقد واجه مؤتمر بلودان وفدين عن فلسطين. فقد أطلت الحزبية البغيضة بهامتها حتى بلغت ذرى جبال بلودان.. على حين كان الإرهاب اليهودي يبلغ الذروة في جبال فلسطين ... وقرر مؤتمر بلودان تأليف هيئة عربية عليا من " الفريقين" فتم اختيار السادة جمال الحسيني والدكتور حسين الخالدي وأحمد حلمي باشا وأميل الغوري، على أن(1/491)
تبقى الرياسة شاغرة للحاج أمين الحسيني حتى يعود من ألمانيا.وقد اعتذرت عن الاشتراك في هذه "الهيئة" فقد كان رأيي أن القيادة الفلسطينية لا يصح أن تعين في بلودان، بل يجب أن يتم الأمر في فلسطين، في مؤتمر قومي يختار القيادة الوطنية.
... وهكذا آثرت أن أعود إلى فلسطين أفكر وحدي، وأعمل في الحقل الوطني وحدي، حيثما وجدت إلى العمل سبيلا.
... ورحت أشرح لقومي قرارات مؤتمر بلودان العلنية،أمّا القرارات السرية فقد " هتكتها" الأحداث، فلم تجد الأمة العربية إنجازات جدية من ملوكها ورؤسائها.
... وأصبحت قرارات مؤتمر بلودان السرية" كان يا ماكان" وسخرية الزمان، وتفكهة العصر والأوان.. بين المثقفين والرعيان، وتلك المسيرة، من أنشاص إلى بلودان..(1/492)
لقاءات خاطفة..
الملك عبد العزيز - الأمير عبد الإله-
الرئيس القوتلي
... طال انتظارنا للعون والمدد، نحن شعب فلسطين، بعد الاجتماع التاريخي في زهراء أنشاص وبعد المقررات السرية في بلودان، ولقد كنا على أحرّ من جمر الغضى، ذلك أن الإرهاب اليهودي قد زاد نشاطه واتسعت رقعته وأخذ يتخذ صورا عديدة من الفتك والتدمير والبطش، في حملات منظمة متلاحقة ... من ذلك نسف الجسور العشرة التي تربط فلسطين بسوريا ولبنان ومصر وشرق الأردن حتى باتت فلسطين معزولة عن العالم العربي، وقد جاء هذا الحادث الرهيب بعد بضعة أيام (17 حزيزان سنة 1946) من اجتماع مجلس الجامعة العربية وقراراته التاريخية.
... وكنت في تلك الفترة أمارس عملي في المكتب العربي في القدس، في حركة ناشطة من الاتصال بالأوساط الوطنية في البلاد بالإضافة إلى الاجتماعات الصحفية بوكالات الأنباء والإذاعة وقد تقاطر ممثلوها بالعشرات على بيت المقدس.
... وكان مكتبنا في حي القطمون غير بعيد عن فندق الملك داوود، وحين كنت أودع جون كيمنش الصحفي اليهودي المعروف وأتهيأ لاستقبال السيد (محمد) حسنين هيكل الصحفي المصري ( رئيس تحرير الاهرام فيما بعد)(1/493)
اهتزت المدينة من قواعدها وكأنما جبالها طويت على وديانها في قعقعة تصم الاذان.
... وجاءتني التفاصيل بعد ذلك أن اليهود قد نسفوا فندق الملك داوود، وفيه مكاتب الحكومة، وسقط القتلى والجرحى بالعشرات من كبار الموظفين وفيهم الإنجليز والعرب واليهود.
... وخرجت ذلك المساء لأرى ما كان ... فإذا بي أشهد مجزرة بشرية التحم فيها الحديد بالحجارة بالتراب بالدخان ... بالأشلاء ... وبدا الجو مليئا برياح الموت.
... وعدت إلى غرفتي في فندق كلارديدج معقود اللسان، واجم الجنان، ولم أطق البقاء في غرفتي فسارعت إلى حي المصرارة حيث يقيم السيدان جمال الحسيني وموسى العلمي لنتداول فيما وصلت إليه الحال في البلاد، وقد استقر رأينا أن نسافر إلى الأقطار العربية نلتمس العون والمدد منها بصورة فردية، دولة دولة، إلى أن يأتي العون الاجماعي، ومعه الترياق من العراق وغير العراق.
... وفي يوم وبعض يوم حزمنا حقائبنا وسافرنا نحن الثلاثة، جمال وموسى وأنا، إلى الرياض للاجتماع بالملك عبد العزيز وطلب نجدته ... فإن الهوى نجد.
... وقضينا في الرياض أربعة أيام ونحن نشرح الأمور لحاشية الملك، الشيخ يوسف يسن، الشيخ رشدي ملحمي، وكانا عارفين بتطورات الأمور ولم يعوزهما الإيضاح، ولكنهما لم ينبسا ببنت شفة، فالكلمة الأولى والأخيرة للملك عبد العزيز وليست لسواه.(1/494)
... وتم لقاؤنا بالملك عبد العزيز في مجلسه، يحفه صفان طويلان من الحرس في أزيائهم الزاهية وسيوفهم المزركشة.
... فتكلم السيد جمال عن الاوضاع الداخلية بصورة عامة، وتكلم السيد موسى عن موقف الإنجليز والأمريكان وتحدثت عن انطباعاتي بعد عودتي من الولايات المتحدة.
... وكان الشيخ يوسف يسن،" يترجم" من حين إلى حين بعض تعابيرنا" الفلسطينية" إلى اللهجة النجدية، والعكس بالعكس.
... وأعرب الملك عن عطفه على قضية فلسطين وأشار إلى محادثاته مع روزفلت. وقال في ختام حديثه" أتريدون أن تسمعوا الحق؟ ان قضية فلسطين لا ينقذها الإ شعب فلسطين ... وليس لكم إلاّ أن تجاهدوا في سبيل وطنكم ونحن معكم.. نحن نقرأ تصريحات بعض قادة العرب أن على الجامعة وجيوشها أن تحرر فلسطين ... لا يخدعكم هذا الكلام.. نحن نرى أن تؤيدكم الدول العربية بالسلاح والمال.. اتصلوا بالدول العربية على هذا الأساس..ونحن حاضرون لتقديم المال والسلاح لشعب فلسطين؟.
... كان الملك عبد العزيز يتحدث بهذا الحديث على سجيته وفطرته، وبلهجته النجدية الصريحة، كأنما كان يتحدث إلى أنصاره من النجديين قبيل انطلاقهم إلى المعركة ... ونهض الملك من مجلسه إلى مخدعه التماسا للراحة، فقد كان متعبا بادي الايمان.
... وكان غذاؤنا ذلك اليوم على مائدة الأمير فيصل، واسترسلنا معه في الحديث عن القضية الفلسطينية ، وتحدثنا طويلا عن تطور القضية منذ مؤتمر لندن في عام 1939 إلى يومنا هذا.. وقال" أن الأخ أحمد يعرف رأيي منذ(1/495)
التقينا في نيويورك في صيف 1945 بعد مؤتمر سان فرانسيسكو". فقال له السيد جمال الحسيني: والآن ما ترى يا سمو الأمير؟
... قال الأمير "إذا كنتم تريدون إنقاذ وطنكم فما عليكم إلاّ أن تتبعوا رأي جلالته ... اطلبوا من الدول العربية المال والسلاح،ونحن حاضرون ... وإن احتجتم إلى الرجال فنحن حاضرون.."
... وكان الشيخ يوسف يسن من مستشاري الملك حاضرا المأدبة فقال: وأنا حاضر مع الرجال.
... قلت للشيخ يوسف عندها ... "أنت مقدسي، فليكن تطوعك أصيلا وصافيا فسأل أحد الموظفين السعوديين، وكيف ذلك؟
... قلت: ان الشيخ يوسف يسن كان معلما شابا في المدرسة الصلاحية في القدس، ولكنه قد ينكر ذلك خشية أن ينكشف عمره ثم تسألون عن سواد شعره.
... وانصرف كل منا إلى فراشه، في هذا الجو من الدعابة في قصر الضيافة في الرياض، على حين كان اليهود في فلسطين يخططون ويدبرون.
... ومال إلي السيد جمال ونحن في الطائرة في اليوم التالي في طريقنا إلى بغداد، وسألني هل تظن أن الملك عبد العزيز سيسارع إلى تقديم العون لنا؟
... قلت: ان الملك عبد العزيز جاد فيما يقول، وكذلك ابنه فيصل.. ولكني اخشى.
... قال: وماذا تخشى؟(1/496)
... قلت: أخشى أن تتباطأ الدول العربية الأخرى حتى تنعقد الجامعة،وينفقد إجماع الجامعة،وهنا الطامة الكبرى ... وفي اليوم التالي هبطنا مطار بغداد، ولقد فوجئت بل فجعت ببغداد، فلقد كانت عاصمة الرشيد في خيالي اسطورة رائعة رسمها الادب العربي والتاريخ العربي في ذهني، ولشد ما كانت دهشتني أن أرى بغداد قرية كبيرة كأن لا صلة لها ببغداد العباسيين ... ولكني قلت في نفسي ما جئنا لنستعيد المجد الغابر، ولكن جئنا لنتصدى للخطر الحاضر، الماثل على أرض فلسطين، الجاثم على أسوار بيت المقدس.
... وكانت لنا لقاءات مع رجالات العراق، نوري السعيد، حمدي الباجه جي، توفيق السويدي، فاضل الجمالي، صادق البصام، طه الهاشمي، مهدي كبه، كامل الجادرجي، وجميل المدفعي.. وغيرهم من زعماء البلاد من مختلف الاتجاهات السياسية، فشرحنا أمورنا شرحا مسهبا..
... وعقد اجتماع شعبي كبير في حديقة الملك فيصل، فعرضت حالة فلسطين وما وصل إليه الإرهاب اليهودي وأعلنت عن عزم الشعب الفلسطيني على الدفاع عن وطنه بما يملك من المهج والأرواح وناشدت العراق حكومة وشعبا أن يهب لنجدة فلسطين" وما نحن إلاّ ثغور العراق على البحر الأبيض المتوسط".
... وزرنا القصر الملكي فاستقبلنا الأمير عبد الإله الوصي على العرش، وكان الملك الصغير فيصل الثاني واقفا في حجرة منصتا وادعا، ونحيلا هزيلا ... ولم يتكلم الوصي إلاّ كلمات قليلات لم نفهم منها قبولا ولا رضا، ولا إبراما ولا نقضا.(1/497)
... واتجه سعينا مع رجال الحكومة ومع قادة الرأي العام، وكنت قد وجهت إلى الشعب العراقي كلمة ضافية في الاذاعة، تتسم بالاستنجاد والاستغاثة وتدعو العراق إلى أداء رسالته، وكان الشعار السائد يومذاك أن العراق هي بروسيا العرب، نواة وحدتهم وعنوان عزتهم.
... وفي جلسة خاصة ضمت وزيري الخارجية والدفاع هزتنا المفاجأة البهيجة حين أسَّر إلينا الوزيران: لقد أعددنا لكم خمسة عشر ألف بندقية مع ذخيرتها وكميات من القنابل والمتفجرات ... وستصلكم المساعدة المالية عن طريق القنصلية العراقية في القدس خلال بضعة أيام.
... قلت: وكيف تصلنا الأسلحة
... وقاطعني نوري السعيد وقال: دبروا أموركم مع سوريا وشرقي الأردن، ان الرئيس شكري القوتلي صديقكم، ولعل رئيس وزراء الأردن توفيق أبو الهدى يساعدكم في شرقي الأردن.
... وعدنا إلى فندق "ضيا" نلتمس الضياء.. لنسلك بقية الطريق. واتفقت كلمتنا أن نفترق. أنا أذهب إلى سوريا للاجتماع بالرئيس القوتلي، وموسى العلمي يذهب إلى الأردن، وجمال الحسيني إلى القدس نهيئ أمورنا وندبر أحوالنا فقد أصبح المال والسلاح بين أيدينا.
... ووصلت إلى دمشق وكأنني أحمل بشرى الزمان على كتفي، واكتفيت أن اطلع السيد عزة دروزة على الأمر بين إخواننا الفلسطينيين اللاجئين إلى سوريا.(1/498)
... وفي صباح اليوم التالي كنت أقفز على درج القصر الجمهوري في
"المهاجرين" وأنا أقول: صباح الخير يا فخامة الرئيس.. لقد وفقنا الله في العراق وأرجو أن نوفق في سوريا.
... قال: خيرا أن شاء الله ... ان سويا لكم على الدوام
... فرويت له ما جرى في بغداد ورجوته أن يصدر أوامره إلى الحدود لاستقبال شحنات الأسلحة العراقية وأن يضم إليها ما يستطاع من الأسلحة السورية تمهيدا لنقل كل ذلك إلى الحدود الفلسطينية "ونحن نتولى الباقي".
... ولم أكد أقفل شفتي على نهاية الحديث حتى تجهم وجه الرئيس القوتلي وأخذ يتكلم بحدة وغضب والزبد بن ثنايا شفتيه: أنتم تريدون أن تحرجوا سوريا.. وإن نوري السعيد لا يريد أن يهدأ بالنا.. الهاشميون يضمرون الشر لسوريا.. لماذا لا يرسلون الأسلحة عن طريق شرقي الاردن، الأمير عبد الإله في بغداد يستطيع أن يرسل الاسلحة إلى الملك عبد الله في عمان، نحن أوضاعنا في سوريا قلقة. نحن..نحن.
... ووقف القوتلي كالجمل الهائج، وقامته الطويلة تهتز بالغضب.. ولم يكن لي عهد بالقوتلي أن يكون في هذه الحال، وكنت أحسب أني "خبيره" الأول في قضية فلسطين، كما كنت أكن له احتراما وتقديرا كبيرين.
... ولقد حرت في أمري ... ولم أملك جوابا، فوقفت أمامه منكس الرأس كأنني جئت أمرا فّرياً ... وفي إلهام لا إرادي ولا شعوري، انثنيت على قدمي، وخرجت من غرفته وأنا أشبه شيء بجثة تسير على قدمين ... إلى الفندق إلى حجرتي ... وليت البكاء يسعفني.(1/499)
... وبينما كنت أتناول فطوري في صباح اليوم الثاني، أتجرعه زقوما وسموما، و إذا بالقصر الجمهوري يستدعيني، فقمت متثاقلا وأمري إلى الله.
... دخلت على الرئيس القوتلي واجما صامتا، كما خرجت بالأمس، من غير سلام ولا كلام ... فأخذ يباسطني ويجاملني وأنا صامت واجم ... و إذا به يبتدرني قائلا: يا سيدي.. لقد استخرت الله ... والأوامر صدرت كما تريد ... دبروا أموركم على الحدود وإن الله سيعين سوريا.
... قلت وقد تفتحت أسارير وجهي: هذا هو العهد بك يا فخامة الرئيس.
... وتقدمت إليه لأصافحه وأنا أكاد أقبل يديه.. وعدت إلى الفندق وكأن الأرض لا تقلني ولا السماء تظلني.. فالسلاح عند شعبنا هو الحياة ... والحياة هي السلاح.
... وخرجت بي السيارة من دمشق. إلى طبريا فالناصرة فجنين ونابلس والقدس في سفرة متواصلة، دون أن أعرج على بلدي واهلي.. في عكا.
... ولقيت السيدين موسى وجمال وأنا أقول لهما لا أحدثكما حتى أسمع منكما أولاً، فاطمأنا إلى أن مهمتي قد أفلحت في دمشق.
فقال جمال: لقد عملت جميع الترتيبات لتوزيع الاسلحة.
... وقال موسى: لم أفلح في عمان، بل نصحني الأصدقاء العارفون، أن لا أتحدث في هذا الامر، فلا يستبعد أن يصادر الملك عبد الله الأسلحة في عمان.
... ثم رويت لهم ما كان من الأمر مع الرئيس القوتلي، وبدت آفاق من العمل منفتحة أمامنا، ولم يبق علينا إلاّ أن نولي وجهنا شطر مصر لنستزيد(1/500)
العون والمدد، ووقعت علي "القرعة" للقيام بهذه المهمة، وأنا أتمتم في نفسي: موكل بقضاء الله يذرعه.(1/501)
عمان.. والكارثة
... لم أكد أصل إلى مصر لأتصل بالجامعة العربية والمسؤولين المصريين لتوفير أسباب القوة والمنعة للشعب الفلسطيني حتى هبط إلى القاهرة الحاج أمين الحسيني في رحلة مثيرة من ألمانيا وسارع إلى "رحاب الفاروق"، وشغلت الأوساط العربية والصحافة أياما في انباء هذه السفرة وأسرارها.. والحاج أمين بارع في الأسفار الخفية، مارسها بنجاح وافر حتى أصبحت جزءا من مؤهلاته القيادية.
... وحل الحاج أمين ضيفا مكرما على الملك فاروق وأنزله في سراي المنتزه في الاسكندرية في حالة من الرعاية والتكريم، ثم أقام بعد ذلك في حلمية الزيتون بالقاهرة وفي جواره مكاتب الهيئة العربية العليا.
... وتقاطرت الوفود العربية والفلسطينية للسلام على الحاج أمين وتحيته، فتهيأت فرص وافرة للحديث عن القضية الفلسطينية وما يتهددها من اخطار.
... وقد زرت الحاج أمين في سراي المنتزه في الاسكندرية، وامتد حديثنا إلى الفجر، وقد شكر لي دفاعي عنه في أمريكا يوم طالبت الأوساط الصهيونية بتسليمه إلى الحلفاء ومحاكمته كمجرم حرب، ثم انتقلنا إلى بحث موضوع الساعة.. الموضوع الخطير.. تنظيم الشعب الفلسطيني وتدريبه وتسليحه.. وشرحت لهم ما تم معنا في الرياض وبغداد ودمشق ... وأن فرص النضال متيسره في الجو الحماسي الرائع الذي يسود البلاد العربية، على(1/502)
الصعيدين الرسمي والشعبي، وأن الكفاح القومي يتطلب في هذه المرحلة بالذات الوحدة الوطنية ... وأنّ علينا أن نعتبر بما مضى من الخلافات الحزبية.. وأكدت له في النهاية أن الشعب مجمع على زعامته وكل ما يتطلبه الموقف هو تعبئة الطاقات والكفاءات الفلسطينية دونما نظر إلى الخلافات الماضية.
... وأسهب الحاج أمين في حديثه عن الخطر الذي يواجه الأمة، وأنه يعود إلى الوطن بقلب صاف ويد ممدودة إلى الجميع ... ، ثم تطرق الحاج أمين إلى أن العراق يريد أن ينتزع القيادة من بين يديه وأنه تحقيقا لذلك قد أخذ في مساندة موسى العلمي بالاموال اللازمة لإنشاء المكاتب العربية والمشروع الانشائي.
... فقلت للحاج أمين ان موسى العلمي هو من أصفى اصدقائك وقد كان ساعدك الأيمن في البلاد، بل كان عينك وأذنك لدى الحكومة الفلسطينية يوم كان من كبار موظفيها، ثم أكدت للحاج أمين أن موسى العلمي لا يطمع في الزعامة..وأنّ المصلحة تقضي بالتعاون معه ... والانتفاع بالعراق عن طريقه ... وبغير العراق عن طريق غيره. وانتهى الاجتماع بيني وبين الحاج أمين إلى موعد آخر، لنلتقي ثلاثتنا الحاج أمين وموسى العلمي وأنا لتوحيد الجهود الوطنية ومواجهة الخطر الصهيوني جبهة واحدة.
... وتم اللقاء، في شهر أيلول سنة 1946، في القاهرة، في منزل الحاج أمين الحسيني في حلمية الزيتون وكان العناق بين الرجلين، الحاج أمين وموسى، حارا عطوفا، وقلتها مازحا للاثنين: الحمد لله لقد تم كل شيء ولم يبق لي مكان بينكما..(1/503)
... ولكن ... ما تم شيء في تلك الجلسة ولا الجلسات اللاحقة التي اتصل فيها الليل والنهار، وعجزت عن التوفيق.. كما عجز كل الفلسطينيين العاملين الذي كانوا في القاهرة في تلك الفترة: عزة دروزة، أكرم زعيتر، واصف كمال،موسى الصوراني، كامل الدجاني وغيرهم.
... وقد كان الحاج أمين يدور حول نقطة واحدة وهي أموال العراق ... إنه يريد من موسى العلمي أن يسلمها اليه.. وكان موسى العلمي يبدي مئة سبب وسبب دون ذلك، منها أن العراق، بعد ثورة رشيد عالي الكيلاني التي ساهم فيها الحاج أمين، لا يطمئن إلى الحاج أمين ولا يدفع إليه شيئا.
... وحاولنا جميعا، أنا والاخوان الفلسطينيون، أن نصل إلى حل وسط، تظل المكاتب العربية والمشروع الانشائي بموجبها على صلة بالعراق تحت اشراف السيد العلمي ... مع الاتصال الأخوي الوثيق بالهيئة العربية العليا، ومع الحاج أمين بالذات، ولكن الحاج أمين بقي على موقفه بأعصاب باردة ساكنه، وبقي موسى على موقفه بأعصاب ثائرة هائجة ... وقضينا أسبوعا في حوار متواصل على غير جدوى، وطار موسى إلى القدس ... وطارت بعدها المكاتب العربية وتضاءل المشروع الانشائي حتىأصبح مدرسة لابناء الشهداء ... وعدت إلى الفندق حزينا منكسرا، وأنا معتزم في ذات نفسي أن لا أعود إلى النشاط العام حتى تبدو في الأفق بوادر الجدية، على الصعيد العربي، ومعالم الوحدة الوطنية على الصعيد الفلسطيني.. وبقيت في القاهرة بضعة أسابيع إلى أن اجتمع مجلس جامعة الدول العربية- تشرين أول سنة 1946- وكنت على اتصال دائم بالوفود العربية وخاصة بالوفد السوري الذي يرئسه السيد جميل مردم.(1/504)
... وقد زرت السيد عبد الرحمن عزام الأمين العام للجامعة العربية زيارة طويلة امتدت من العشية حتى الهزيع الرابع من الليل، والسيد عزام سهار الليل نائم النهار، يتصيد أصحابه ليلا ليسهروا معه- فسألني السيد عزام.
... ماذا عندكم من الأخبار يا أهل فلسطين؟
... قلت: أخبار السوء.. هي كل ما عندنا.
... قال: تفاءلوا بالخير تجدوه.
... قلت: لا ... الكلام الصحيح.. اعملوا للخير تجدوه.
... قال: وما هي أخباركم؟
... قلت: الهجرة اليهودية باسطة ذراعيها على شاطئ فلسطين تقذفنا بالألوف من شباب اليهود القادرين على حمل السلاح ... والعصابات الصهيونية تزداد كل يوم: عددا وعُددا، وتدريبا وتنظيما، بالأمس أرسل اليهود مئتي سيارة تحمل الخيام والمعدات والأسلاك والعمال إلى صحراء النقب ليشرعوا في بناء عشر مستعمرات يهودية، هي في الواقع عشر قلاع حصينة لتكون قواعد أمامية لليهود في وجه مصر، هذا بعض ما يفعله اليهود.. فماذا فعلتم أنتم في الجامعة.
... قال: سنقرر إرسال مذكرة احتجاج إلى بريطانيا ومثلها إلى أمريكا وسنعلن رفضنا لاي مشروع للتقسيم، وسنطالب الحكومات العربية بمعاونة شعب فلسطين.
... قلت: أرجو أن يصل الترياق من العراق قبل أن تكون أرواحنا قد بلغت التراق!(1/505)
... وانتهى الحديث بيننا تلك الليلة على غير نتيجة ملموسة يمكن أن أضع يدي عليها ، بل إنني أحسست أني كالقابض على الريح.
... وذهبت في ظهيرة اليوم التالي إلى السفارة السورية واجتمعت بالسيد جميل مردم رئيس الوفد السوري فرأيته حانقا غاضبا على غير عادته ... وكان في السفارة عدد من الزعماء العرب، والحديث دائر حول موضوع سورية الكبرى الذي أثاره الملك عبد الله في خطاب العرش الذي ألقاه في مجلس الأمة، وقد طلب إلي السيد جميل أن اتصل بالوفد الأردني وبالوفد العراقي لما لي من الصداقة مع بعض أعضاء الوفدين. وقد سارعت إلى فندق شبرد "القديم" حيث يقيم الوفدان وناشدتهما عدم إثارة الموضوع في الظروف الحاضرة فلا خير في سوريا الكبرى إذا افلحت الصهيونية في توطيد أقدامها في فلسطين. وقد اتفقت الكلمة أن لا يثار هذا الموضوع في مناقشة الجامعة، وأن يعتبر كأن شيئا ما كان.
... وهذا ما تم فعلا فقد أبلغت السيد جميل مردم بالأمر واستأنف مجلس الجامعة اجتماعاته في جو هادئ ... ولكن هذه الهدنة لم تدم طويلا فقد أثار الملك عبد الله هذا الموضوع مرة ثانية في سنة 1947 ... تماما حين كانت القضية الفلسطينية تنظر في أروقه الأمم المتحدة.
... ولم أستطع البقاء طويلا في القاهرة فقد كتب إلى إخواني بالعودة إلى الوطن يلحون، فإن العمل في الداخل أجدى، وأنّ الفراغ الوطني قد استفحل أمره في صفوف الشعب، وخاصة بعد أن اتخذت الهيئة العربية العليا مقرها في القاهرة، وضج الناس بالشكوى وهم ينادون بأن تكون قيادة الشعب من(1/506)
الداخل لا من حلمية الزيتون في القاهرة حيث يقيم الحاج أمين ... وعدت إلى البلاد، تاركا ورائي القيادة الوطنية خارج البلاد.
... و أخذت الطلائع المثقفة في البلاد تقوم بالتنظيم الشعبي قدر وسائلها وظروفها فتألفت اللجان الشعبية ومنظمات الشباب وتم توزيع السلاح الذي جئنا به من العراق وقد ظهر أن بعضه كان مطمورا في قبو غمره فيضان بغداد وأصبح غير صالح للقتال ولكن ما أعظم الفوارق بيننا وبين اليهود ... تنظيما وتسليحا.. ما أعظم الفوارق بين الصهيونية العالمية والجامعة العربية.. تخطيطا وتصميما ذلك موضوع كامل لكتاب قائم بذاته.
... وفي أوائل شهر مارس سنة 1947 م اتصلت بي القنصلية السورية بالقدس هاتفتني لتبلغني رسالة بأن أسافر إلى القاهرة لأكون مستشارا للوفد السوري في مجلس الجامعة في دورته المقبلة وأن أكون "تحت الطلب" لحضور سائر الاجتماعات العربية التي تبحث فيها القضية الفلسطينية، وسألت الدكتور عمر الجابري القنصل السوري إلى متى تستمر هذه المهمة؟ فقال إلى أن يتم استقلال فلسطين.
... وكنت "تحت الطلب" قرابة عشر سنين أعمل مع الحكومة السورية، مما سيأتي تفصيله في هذه المذكرات، غير أن شعار استقلال فلسطين سقط عام 1948 وحل محله شعار تحرير فلسطين.. وها نحن الآن في عام 1969 نعيش تحت شعار جديد: تحرير الأرض العربية.. ولسنا ندري ما تخبئه لنا الأقدار المقبلة من شعارات جديدة!
... وتلبد الأفق في الجو السياسي وتواترت الأنباء أن بريطانيا عازمة على عرض القضية الفلسطينية على الأمم المتحدة وأن لجنة تحقيق دولية(1/507)
ستنبثق عن الأمم المتحدة لحل القضية الفلسطينية، وفي هذا الجو انعقد مجلس الجامعة في شهر مارس سنة 1947 وباشرت مهمتي الجديدة مستشارا للوفد السوري، وسافرت إلى القاهرة لأكون على مقربة من الاجتماعات "تحت الطلب" في كل طلب.
... وغرق مجلس الجامعة في مجالات فقهية حول نصوص الميثاق وحق تقرير المصير.. وتكلم في هذه المواضيع القانونية من يعلم ومن لا يعلم، وكان الجدل قائما.. لماذا كان عرض القضية يجب أن يأتي من الجانب العربي، أو أن يترك الأمر لبريطانيا. ولم أنج من هذا الجدل فقد أعددت للوفد السوري عدة مذكرات بشأن هذه المواضيع شرحت فيها أحكام الميثاق شرحا وافيا، وأنا أحسب أن قرارات مجلس الجامعة " ستحدد" على ضوء الاعتبارات القانونية.
... ولكن الجامعة كانت في واد آخر ... كانت سياسة "المحاور" تمزقها من الداخل، والتصريحات العربية تطلق سحابا من الدخان، لتغطي الحقيقة عن عيون الجماهير العربية.
... وكان أسوأ ما وقع في تلك الجلسات التحفظ الذي ادلى به الوفد الأردني من "أن الحكومة الأردنية تحتفظ بحرية العمل المستقل في سياستها نحو فلسطين". ولم يكن الأمر في حاجة إلى عبقرية فذة للكشف عن خبايا هذا التحفظ، بل إنه ليس فيه خفايا فهو الأمر يفضح نفسه بنفسه.. فلقد كشفت" عمان" في هذا التحفظ عن خطة "انفرادية" لحل القضية الفلسطينية ... على أساس التقسيم أو ما يشبه التقسيم.(1/508)
... وكنا في ردهات المجلس نناقش هذا التحفظ فقلت للدكتور فوزي الملقي- وفد الاردن- هذا التحفظ هو طعنة في صميم القضية الفلسطينية.
قال: نحن نريد أن نحافظ على عروبة فلسطين وان نصون حق شعب فلسطين.
قلت: لو أنكم قادرون على العمل وحدكم، لبايعكم الشعب الفلسطيني في هذه الساعة.
قال: نحن نريد أن نحافظ على عروبة فلسطين وإنقاذها من الصهيونية؟
قلت: نحن نرحب بذلك ... ولكنا نرفض أن تنفردوا عن المجموعة العربية.
قال: القضية الفلسطينية تهمنا أكثر من غيرنا، فلسطين بلدنا.
قلت: ولكنكم لا تملكون "الحرية" حتى تحتفظا "بحرية" العمل لفلسطيني.
قال: وكيف ذلك؟
قلت: أنتم مرتبطون بالمعاهدة البريطانية، ونصف ميزانيتكم من الخزينة البريطانية، وجيشكم تحت القيادة البريطانية مباشرة، "وجلوب" هو حاكم البلد الحقيقي.
وهنا هاج فوزي الملقي وماج، وصاح وهو يقول: أنت تهين سيدنا، وتهين بلدنا واستقلالنا و ... و..
... "وحجز" الوفد اللبناني بيننا وحسم الجدال، وعادت الجلسة إلى الانعقاد بعد أن أصّر الوفد الأردني على تحفظه ... وصدرت القرارات(1/509)
التقليدية، بالاحتجاج والاستنكار، ومعارضة التقسيم، والتصدي للصهيونية ومساعدة عرب فلسطين.
... وجاءت الأيام لتعري التحفظ الأردني لحما ودما وعظما.. فحلّت النكبة عام 1948، وضمت الاشلاء التي بقيت من فلسطين إلى شرقي الأردن وأصبحت المملكة الأردنية الهاشمية، وهكذا ترجم " التحفظ" الأردني ترجمة صادقة، ولكن.. على حساب شعب.. وعلى حساب وطن.
... وهكذا وضعت عمان الحجر الاساسي في الكارثة الأولى- كارثة عام 1948.(1/510)
رقصت نيويورك..
ورقصت معها تل أبيب
... في 28 نيسان سنة 1947 انعقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورة غير عادية للنظر في القضية الفلسطينية بناء على الطلب المقدم من بريطانيا بوصفها الدولة المنتدبة على فلسطين.. وبعد المناقشات والمداولات المعتادة أصدرت الأمم المتحدة قراراها بانشاء لجنة تحقيق دولية من أحد عشر عضوا لدراسة القضية وتقديم التوصيات التي تراها.
... وقد وصلت اللجنة إلى فلسطين في 17 حزيران سنة 1947، فأعلنت البلاد إضرابا عاما إعرابا عن تمسكها باستقلال فلسطين واستنكارا للاسلوب التقليدي الذي امتد ثلاثين عاما في سياسة لجان التحقيق.. واستمعت اللجنة إلى الهيئات اليهودية المختلفة وتجولت في أرجاء البلاد.
... وفي 22 تموز سنة 1947 سافرت لجنة التحقيق إلى صوفر حيث اجتمعت بممثلي الحكومات العربية واستمعت إلى بيان تفصيلي عن القضية الفلسطينية ألقاه وزير خارجية لبنان باسم الوفود العربية، ثم غادرت اللجنة البلاد العربية، إلى جنيف لتضع التقرير ... تقرير المصير.
... ولقد سألت نفسي في تلك الفترة، مئة مرة ومرة، كما فعل غيري من ملايين العرب،ماذا قدمنا بين يدي لجنة التحقيق لنؤكد حقنا في الوطن وحقنا في الاستقلال؟ ثم ماذا قدم اليهود توكيدا لمطالبهم وأطماعهم؟(1/511)
... لقد قدمنا إضرابا إجماعياً في فلسطين، وقدمنا مذكرات رائعة في البلاد العربية فيها كل الأسانيد التاريخية والقانونية ... . وقد خرجت اللجنة بقناعة تامة أن الشعب الفلسطيني لم يكن منظما ولا مدربا ولا مسلحا.. وأنّ الدول العربية ليست جادة في معاداة أي اتجاه دولي لتقسيم فلسطين، وأنّ التصريحات العربية هي بضاعة تستهلك في الأسواق العربية.
... وعلى النقيض من ذلك كان لليهود في فلسطين جيش الهاجاناه وثلاث عصابات أخرى قوية التسليح والتنظيم والتدريب، وقد كشرت هذه القوات العسكرية عن انيابها وأبرزت عضلاتها حين كانت لجنة التحقيق تؤدي عملها في فلسطين.. ومنذ أن انعقدت الأمم المتحدة في ربيع سنة 1947 اشتد النشاط الثوري اليهودي في فلسطين وبلغ ذروته حين وصلت لجنة التحقيق إلى فلسطين، ولم تكن تستطيع التجول إلاّ تحت حراسة شديدة.
... وكنت أتابع قراءاتي لجريدة "البالسيتين بوست" اليهودية وفيها الأخبار المثيرة عن الإرهاب اليهودي، فها هم ينسفون نادي الضباط البريطاني المؤلف من عدة طوابق في مدينة القدس، وها هم يهاجمون قطارا عسكريا يحمل الكتائب البريطانية التي تغادر البلاد بما فيه من أسلحة ومؤن وعتاد ... وها هم يتصدون للقوافل العسكرية البريطانية فيوقعون فيها عشرات القتلى ومئات الجرحى.
... ذلك كله قرأته ... ولكني في بلدي رأيته، فقد هاجموا سجن عكا وهو قلعة حصينة وأطلقوا سراح الإرهابيين اليهود، ومعهم المجرمون العرب!
... ونحن ... أمّا نحن عرب فلسطين فقد كنا نتحرق الما ومرارة ولا نملك غير الاضراب، وقيادة الشعب في منزل الحاج أمين الحسيني في القاهرة،(1/512)
والحكومات العربية من حولنا يتربص بعضها لبعض، البيت العلوي والبيت السعودي والبيت الهاشمي.
... فإذا أضفنا إلى كل ذلك قوى الاستعمار العالمي والصهيونية العالمية كان من الطبيعي أن تأتي توصيات لجنة التحقيق في غير صالح العرب، وهذا ما وقع فعلا فقد أوصت بالتقسيم ... وبإنشاء دولة يهودية على شاطئنا الحبيب وسهلنا الخصيب.
... ولم يكد ينشر تقرير لجنة التحقيق حتى تفجرت "براكين" الاحتجاجات والاستنكار من الأمة العربية بأسرها، وكانت صادقة في غضبتها أمينة في مشاعرها القومية، وتود لو تفتدي فلسطين بالمهج والأرواح، ذرة ذرة، لو كان على رأسها حكومات مجاهدة تضع قضية فلسطين فوق كل اعتبار.. فوق الخلافات والمهاترات.
... واجتمعت الجامعة العربية في صوفر- منتصف شهر أيلول سنة 1947- ثم في عالية من 7 تشرين أول إلى 15 تشرين أول سنة 1947- وقد كنت" مستشارا" للوفد السوري في هذه الاجتماعات، وكنت أحسّ النسمات الباردة في صوفر وعالية "تلطف" ريح السموم التي تلف الوطن العربي في تلك الأيام الحالكة.
... ولست أفصل المناقشات والمباحثات فإن كل عربي، وكل أجنبي كذلك، يعرف جوهرها ومظهرها: احتجاج- مذكرات- مقابلة السفارات الاجنبية، وسيل من التصريحات ... وقيء من البيانات
... أما القرارات "العملية" التي أقرتها الجامعة العربية فتتلخص في ما يلي:(1/513)
أولاً: المبادرة إلى تنفيذ مقررات بلودان السرية في حالة تطبيق أي حل من شأنه أن يمس بحق فلسطين في أن تكون دولة عربية مستقلة.
ثانياً: تقديم أقصى معونة عاجلة من مال وسلاح لشعب فلسطين.
ثالثا: تأليف لجنة عسكرية لتهيئة وتنظيم وسائل الدفاع وتجهيز وتدريب الفلسطينيين.
... وخلال هذه الاجتماعات في لبنان كنت أرى شباب فلسطين من المدن والقرى يتجولون في لبنان يبحثون عن السلاح بأي ثمن ... من أموالهم، بعضهم باع أرضه وبعضهم باع مواشيه وبعضهم ألحق بناته خادمات في المدن.. ليشتري سلاحا يدافع به عن أرضه ويذود عن شرور التقسيم.. وكارثة الدولة اليهودية.
... وذهبت إلى دمشق بعد الاجتماعات فوجدت أبناء فلسطين يطوفون في أنحاء سوريا "يصطادون" السلاح، جديدا وقديما، صالحا أو رديئا.. مهما كان، إنهم يريدون أن يعودوا إلى الوطن والسلاح على اكتافهم ليخوضوا غمار الجهاد.
... ووجدت كذلك الحاج أمين في دمشق ... في غضب هادئ وحنق مكبوت ... ولقد أسَّر إلي أنه غير راض عن اللجنة العسكرية واختصاصها..وكان ينبغي، في رأيه، أن يوكل الأمر إليه.. المال والسلاح والقتال ... فقلت له: أن وجهة نظركم سليمة ... لو أننا أحسنَّا في الماضي قيادة الثورة ... وتجنبنا الأخطاء الكبرى التي غرقنا فيها إلى الأذقان.
... قال: هل من سبيل أن نقابل الرئيس القوتلي معا ونشرح له الموقف.(1/514)
... قلت: أن سماحتك على علم بأنّ وفودا عديدة من الفلسطينيين قد قابلوا الرئيس القوتلي وطلبوا إليه أن تكون الأمور العسكرية بعيدة عن الهيئة العربية العليا، وقد جاءت وفود أخرى من الفلسطينيين إلى صوفر وعالية وناشدوا الوفود العربية أن تكون الشؤون العسكرية بيد الجامعة العربية، لا بيد سماحتكم.
... قال: وماذا تقترح؟
... قلت: اقتراحي أن تتعاون مع اللجنة العسكرية وفيها عسكريون مخلصون ممتازون: طه الهاشمي وإسماعيل صفوت عن العراق، ومحمود الهندي عن سورية وشوكت شقير عن لبنان، ثم أن فيها صبحي الخضرا عن فلسطين وهو من إخوانك وأصدقائك.
... قال: أهذا هو رأيك؟
... قلت: نعم ... ونحن الآن أمام أحداث خطيرة فلا داعي للخلاف والشقاق.
... فصمت الحاج أمين، وقد حسبت أنه رضي بهذا الاقتراح، وانصرفت إلى الفندق، وأنا أدعو الله أن تنتهي هذه " التجربة" العربية إلى خير.
... وبقيت خلال تلك الفترة في دمشق، أتابع الأحداث العربية والدولية، في مكتب أعد لي في وزارة الخارجية.
... وانعقدت الأمم المتحدة في دورتها العادية وكانت قضية فلسطين أهم موضوعاتها وبدأت تقارير الوفد السوري ترد إلينا تباعا، وأتولى بدوري(1/515)
تلخيصها والتعليق عليها وإبلاغها إلى الرئيس القوتلي ورئيس وزرائه السيد جميل مردم.
... ونشطت الوفود العربية على الصعيدين السياسي والإعلامي، وشرحوا قضية فلسطين بما لا يدع مجالا لقائل، ووقف إلى جانبهم السر ظفر الله خان مندوب باكستان وقفة رائعة استنفد فيها كل جوانب الحجة والمنطق والبلاغة.
... ولكن الأمر لم يكن منوطا بالحق والعدل ... فقد ألقت الولايات المتحدة بكل ثقلها وحملت عددا من الأعضاء على التصويت لجانب التقسيم وإقامة دولة يهودية، ونقلت المترددين وبعض أنصار العرب إلى معسكر التقسيم، وبوسائل وضغوط فصلتها مراجع متعددة عربية وأجنبية.
... ولاحظت من سياق التقارير التي كانت ترد إلينا في دمشق أن الوفود العربية كانت دائمة الاتصال بالوفد البريطاني وكأنها على رجاء أخير بأن تقف بريطانيا إلى جانب العرب، ولو مرة واحدة لتكفر عن سياستها التي سلفت في الثلاثين عاما الماضية.
... واقترحت على الرئيسين القوتلي ومردم أن يبعثا ببرقية منهما مباشرة إلى الوفد السوري بأن تتصل الوفود العربية بالوفد السوفياتي للحصول على تأييده، أو حياده على الأقل.. وقد أرسلا البرقية فورا.
... وقد جاءت التقارير فيما بعد لتظهر أن معظم الوفود العربية قد عارضت هذا الاتجاه.. خشية أن يخسروا نهائيا عطف الديمقراطية الغربية ... وأن الاتصال بالاتحاد السوفيتي لا يخلو من خطر على النظم الاجتماعية في الدول العربية وأنّ ... وأنّ..(1/516)
... ولكن اليهود كانوا أكثر ذكاء وأكثر فهما للأوضاع الدولية فقد كانوا على اتصال وثيق بالاتحاد السوفيتي، وقد كانوا يغادرون مكتب الوفد الأمريكي إلى العمارة المقابلة حيث مكتب الوفد الروسي، دون أن يخشوا شيئا على النظام اليهودي الاجتماعي.
... وبعد مناورات وتأجيلات تولى قيادتها الوفد الأمريكي طرحت القضية على التصويت في 29 نوفمبر سنة 1947 فصدر القرار المشؤوم رقم(181) بتقسيم فلسطين وإقامة دولة يهودية.
... وقد صوت الوفد السوفيتي مع القرار، جنبا إلى جنب مع الوفد الامريكي، وقد دافع "غروميكو" الوزير الروسي عن التقسيم بحماسة بالغة، ولعلها كانت القضية الأولى والأخيرة التي التقت عندها سياسة الروس مع سياسة أمريكا، ولكن كل إلى هدفه، وكل من زاويته. واثبتت الأحداث فيما بعد، أن الأمريكان كانوا أغبياء، وأن الروس كانوا أذكياء فقد تحقق لهم في الكارثة الفلسطينية كل ما يريدون في الشرق الأوسط بل فوق ما يريدون.
... وانبرى رؤساء الوفود العربية يتعاقبون على المنبر يلقون كلماتهم الأخيرة يعارضون تنفيذ القرار ويهددون ويتوعدون، بالإضراب، وبالحصار، وبالمقاطعة .. وبالسلاح إذا اقتضى الامر.
... ورقصت نيويورك في الشوارع والساحات ليلا ونهارا ابتهاجا بهذا القرار، ورقصت معها تل أبيب.
... وعاد الوفد اليهودي ليبني الدولة اليهودية بقوة السلاح.
... وانتقلت المعركة من الأمم المتحدة إلى الوطن.(1/517)
... وتطلع العالم كله إلى فلسطين، كما تطلع في الحروب الصليبية قبل ثمانية قرون ليرى ما سيكتب التاريخ.
... ويا ويح ما كتب.. ويا بئس ما كتب.(1/518)
لن يهربوا من التاريخ..
ولا من الشعب
... صدر قرار التقسيم في 29 نوفمبر سنة 1947 فكان يوم حزن عام وحداد شامل في جميع أرجاء الوطن. وتجسدت مخاوف ثلاثين عاما سلفت كنا نعلنها عند كل مناسبة وفي كل فرصة، وظنها الناس حتى العديد من إخواننا العرب المسؤولين من حولنا أنها أضعاث أحلام، أو نزعات تشاؤم فطرت عليها نفس الشعب الفلسطيني، وها قد أصبحت في هذا اليوم مخاوفنا الماضية خطرا ماثلا أمام وجوهنا يهددنا بالاقتلاع من وطننا، من مدننا وقرانا.
... ومثل هذه المشاعر عمت الوطن العربي الكبير من مشرقه إلى مغربه، وتعالت صيحات الغضب على الحكومات العربية، تطالبها بتنفيذ مقررات بلودان السرية، فها أن الوقت حان.. وآن الأوان.
... ومقررات بلودان لا تحتمل التأويل والتفسير، إنها تدعو إلى شن حرب سياسية واقتصادية وبترولية على كل من أمريكا وبريطانيا باعتبارهما مسؤولتين عن كارثة التقسيم.
... وتطلعت وزارة الدفاع الأمريكية ومعها وزارة الخارجية إلى الدول العربية، ما عساها فاعلة لا قائلة.. فقد سبق أن أنذر وزير الدفاع الأمريكي من مغبة التقسيم وحذر الرئيس ترومان من التمادي في مسايرة الصهيونية..(1/519)
كما كانت وزارة الخارجية الأمريكية قد خشيت خطر السياسة" الترومانية" على المصالح الأمريكية في الوطن العربي.
... ولم تفعل الحكومات العربية شيئا مما قالت.. واستمرت العلاقات العربية الغربية على حالها كأن شيئا ما كان.. وصدقت توكيدات اليهود أن العرب لن يفعلوا شيئا وانها جعجعة من غير طحن..، بل ان تعاقدات بترولية جديدة قد عقدت بعد قرار التقسيم مع الشركات الأمريكية.
... وقد صاحت الأمة العربية ورفعت عقيرتها إلى الملوك والرؤساء تطالب بخوض المعركة، والحيلولة دون قيام الدولة اليهودية بقوة السلاح ... وتعاقبت التصريحات العربية الرسمية: سنحارب، سنحارب.
... وشق النضال الشعبي طريقه، فافتتحت مكاتب التطوع، وجمعت الأموال والأسلحة، وعقدت الاجتماعات القومية في كل عاصمة وفي كل مدينة وفي كل قرية.
... وفي فلسطين ازداد النشاط القومي في ميدان التسليح والتدريب، وساد جو الحرب، لا مناص منها ولا مهرب، فقد أعلنت بريطانيا أنها ستنسحب من البلاد في أيار سنة 1948. ولم يعد للشعب إلاّ أن يدافع عن وجوده.. وفي ضواحي دمشق أقيمت المعسكرات لتدريب الفلسطينيين وشباب العرب لإعداد "جيش الإنقاذ" وإرساله إلى ميدان المعركة قبل فوات الوقت.
... ومن خارج فلسطين نشط الحاج أمين في إعداد قوات المجاهدين في سائر مناطق فلسطين لتبدأ المعركة مع اليهود مهما كان الثمن.(1/520)
... وحول فلسطين حشدت القوات العربية لتكون على أهبة الاستعداد ... الاستعداد لهدف غير واضح، غير محدد.. فلا هو هجوم ولا هو دفاع.. ولكنه استنفار، وسنرى بعد ذلك ما يكون.
... إلا أن جيشا واحدا كان الأمر واضحا عند قيادته. ذلك هو الجيش الأردني فقد كانت بعض كتائبه في داخل فلسطين قبل انتهاء الانتداب وقبل انسحاب بريطانيا.
... ولقد بدأ الملك عبد الله في تنفيذ" تحفظه" الذي أعلنه في الجامعة العربية من أن الأردن سيعمل منفردا، وأنّه يبيت" الحل الأردني" لقضية فلسطين.
... وهكذا انطلقت من عمان" بطاريات" التصريحات العسكرية، فأعلن الملك عبد الله أنه سيحارب من أجل الحفاظ على عروبة فلسطين ولو أدّى ذلك إلى أن يكون وحده في الميدان.
... وبدا واضحا أن حربا يخوضها الجيش الأردني بقيادة" الجنرال جلوب" ستقف عند حدود التقسيم لا محالة. وأن الأمر لا يعدو أن تضم أراضى" الدولة العربية الفلسطينية" إلى شرق الأردن لتولد" المملكة الأردنية الهاشمية".
... وفي محادثاتي مع المسؤولين العرب في ذلك الحين، في دمشق والقاهرة وبيروت والرياض، كان جليا أن الدول العربية لم تكن راضية عن هذا" الحل الأردني" الذي يعتزم الجيش الأردني تحقيقه،ولكن تصريحات الحرب التي أطلقها الملك عبد الله قد وضعت الدول العربية أمام التحدي الكبير.. حرب.. أو لا حرب..، وقد كشفت الأيام أنّ" الحل الأردني" لم يكن(1/521)
وهما ولا خيالا، فقدأصبح حقيقة واقعة.كما كشفت الأيام صورا زنكوغرافية لمراسلات الملك عبد الله مع زعماء اليهود واجتماعاته بهم في" الشونة" على ضفاف الأردن.
... وتوالت الاجتماعات العربية الرسمية للخروج من" الورطة" التي دفعهم إليها قرار الأمم المتحدة، ولمواجهة التحديات الصارخة التي ألقاها الملك عبد الله" بقفازه" في وجوه الملوك والرؤساء..وخاصة بعد أن قام الوصي على عرش العراق الأمير عبد الإله بزيارة عمان وهو يرتدي ملابسه العسكرية
... وانعقدت الجامعة في هذا الجو الصاخب، الرهيب الغامض،وأنا ألهث وراء الوفد السوري أرافقه حيث يذهب،ومعي حقيبتي متورمة بالملفات والمذكرات والدراسات.
... وبدأت الاجتماعات خارج الاجتماعات، كما هي العادة في الجامعة العربية. واتضحت معالم الصورة: الأردن والعراق متحفزان للحرب ولا شيء غير الحرب.. و الأهداف مكتومة معلومة، وسوريا مستعدة أن تضع كل إمكاناتها لإنقاذ فلسطين وما أقل هذه الإمكانات..، ولبنان يسير مع القافلة حيث تسير ورياض الصلح يقول لا تنتظروا منا الكثير، والسعودية تفعل كما تفعل مصر.. ولا بد من الإجماع العربي، ومصر،ويقولها النقراشي صراحة: لا نستطيع أن نحارب ومشاكلنا مع بريطانيا كثيرة، وها هم الإخوان المسلمون حاضرون والمتطوعون المصريون يتدربون، واليمن لم يسألها أحد ما تستطيع أن تقدم.. وما لا تستطيع .. فالمتطوعون اليمنيون فيهم الكفاية.(1/522)
... وكان السؤال الكبير الذي في أروقة الجامعة العربية هو ماذا سيحل بعرب فلسطين غداة انسحاب الجيش البريطاني من فلسطين؟ وسألني الأمين العام السيد عبد الرحمن عزام: وماذا سيحدث في البلاد بعد الانسحاب؟
... قلت: الوكالة اليهودية كاملة الدوائر، وهي في الواقع أصبحت الحكومة داخل الحكومة، حتى يوم كانت سلطة الانتداب في ذروتها.
... قال: وماذا عند العرب؟
... قلت: عندنا مجالس بلدية في المدن، ومحلية في القرى، وما أظن هذه قادرة أن تضطلع بأية مسؤولية عامة ... وليس لدينا جهاز مركزي عام في الداخل يقابل الوكالة اليهودية ولو بصورة محدودة.
... قال: وماذا تقترح؟ وما العمل؟
... قلت: يجب أن ننشئ حكومة عربية. أو إدارة عربية على الأقل لتملأ الفراغ وتكون قاعدة للنضال.
... قال: وهل هذا ممكن؟
... قلت: إنه ممكن ولكن بشرط واحد.
... قال: وما هو؟ أرجو أن لا يكون شرطا ثقيلا.
... قلت: على الجامعة العربية أن تدعم الإدارة العربية وان تمدها بالمال والسلاح.
... ولقد وجد هذا الاقتراح طريقه إلى التنفيذ. فقامت الإدارة العربية. مؤلفة من بعض الفلسطينيين، ولكنها اتخذت مقرها القاهرة وكان دعم الجامعة كالعادة، في حدود النزر اليسير، فلم تستطع الإدارة العربية أن تملأ الفراغ، وكانت أداة للجدال لا النضال.(1/523)
... وفي دمشق نشب صراع عنيف بين الحاج أمين الحسيني رئيس الهيئة العربية العليا وطه باشا الهاشمي رئيس اللجنة التابعة للجامعة العربية،وكانت لهما قوات من المجاهدين تعمل في فلسطين. وامتد هذا الخلاف إلى داخل البلاد على صعيد القيادات المحلية، وكان من رحمة الله أن هذا الخلاف لم يتطور إلى صدام مسلح ... وقد اقتصر على تنازع الاختصاصات، والاختلاف على المقاطعات، أيها خاضع للحاج أمين، وأيها تابع لطه الهاشمي!
... وقد نشطت أعمال المجاهدين في المدن والقرى، وكانت الروح المعنوية في مستوى رفيع إلى أن وقعت مذبحة دير ياسين، فسارع عضو الهيئة العربية العليا الدكتور حسين الخالدي إلى التشهير بالمذبحة في مؤتمراته الصحفية وبالبرقيات التي وجهها إلى الحكومات العربية، ولكن هذا التشهير أدّى إلى إفشاء الرعب والفزع في المناطق العربية العزلاء، وكانت العصابات اليهودية ماضية في سياسة البطش، فأخذت قوافل اللاجئين تتدفق إلى البلاد العربية المجاورة. وبهذا بدأت طلائع "الخروج" من الوطن، لتتكون فيما بعد المشكلة الكبرى التي عرفت بمشكلة اللاجئين.
... والواقع أن مذبحة دير ياسين قد وقعت في غمار معارك دامية بين قوات المجاهدين والعصابات اليهودية، كان النصر فيها في معظم الاحوال ... للمجاهدين.
... وكان السيد عبد القادر الحسيني بطل الجهاد في القدس وما حولها ... وقد لقيته في دمشق في ربيع سنة 1948 قبل أن يسافر إلى القدس سفرته الأخيرة ... وقد كان ينفث حمما من الغضب على الحاج أمين وطه الهاشمي معا، فقد قدم مطالبه العسكرية والمالية إلى الاثنين، وكان كل واحد يحيله إلى(1/524)
الآخر.. ولم يكن الجهاد ينتظر هذه المماطلات ... وأخيراً تفضل عليه الحاج أمين بالمال والسلاح ولكن في نطاق محدود، ليجعله تحت إمرته في رباط مقدس ... فقد أصبحت للبطل عبد القادر مكانة مرموقة في البلاد وأصبح لا بد من" احتوائه".
... وودعت البطل عبد القادر عند باب الفندق وأنا أدعو له بالتوفيق "سالما غانما" فقال لي: والله يا أخ أحمد، لا سلامة ولا غنيمة ما دامت الأمور بين طه الهاشمي من جهة، وعمي الحاج أمين من جهة اخرى.
... وما هي إلاّ أيام حتى وقعت المعركة الكبرى في "القسطل" وسقط البطل عبد القادر شهيدا، بعد أن نفدت ذخيرته، ونزل في سجل الخالدين، تاركا وراءه أطفالاً شبوا مع الأيام على طريق البذل والفداء وأصبح احدهم "فيصل" في مكتبي عام 1965 في منظمة التحرير الفلسطينية، حتى إذا حلت نكبة حزيران التحق بالثورة، في ميدان أبيه في القدس، وقبضت عليه إسرائيل، ليكون ذلك الشبل لذلك الاسد.
... ومرت الأيام سراعا ... وأقبل شهر أيار ... وبدأت بريطانيا تنسحب من فلسطين منطقة منطقة، وتسلم للوكالة اليهودية المناطق المخصصة للدولة اليهودية واحدة واحدة ... . والأقسام العربية في مكانها تنتظر رحمة الأقدار ... ومن لا يرحم نفسه لا يرحم..
... وأخذ اليوم الخامس عشر من شهر أيار سنة 1948 يطل برأسه، والجامعة العربية تعقد اجتماعاتها في القاهرة ودمشق وعمان، والسيد عبد الرحمن عزام لا يكاد ينزل من الطائرة حتى تقله طائرة أخرى، ويجر وراءه(1/525)
ذيلاً من التصريحات، تهدد وتوعد، وترغي وتزبد...وذلك كل ما كان يستطيعه عزام.
... وظل الموقف مبهما غامضاً، حائرا خائرا حتى اليوم الحادي عشر من شهر أيار ... إلاّ موقف العراق والاردن فقد كان مكشوفا على الهواء.. فقد كان الملك عبد الله في عمان والأمير عبد الإله من بغداد يعلنان الحرب على إسرائيل قبل مولدها، وينذران بوأدها في مهدها.
... وكانت الحكومات العربية الأخرى قد حشدت قواتها العسكرية على حدود فلسطين ولاتدري ماذا تصنع بعد ذلك،وكان موقف مصر واضحا في الكلمات الواضحة التي اعلنها النقراشي في اجتماع الجامعة العربية في عالية في أكتوبر سنة 1947 "أن مصر إذا كانت توافق على الاشتراك في هذه المظاهرة العسكرية فإنها غير مستعدة للمضي أكثر من ذلك".
... وفي مفاجأة غير متوقعة، حتى لدى أعلى المستويات العربية تحرك الملك فاروق، من فوق أكتاف الرئيس المصري النقراشي باشا وأصدر أمره إلى القيادة العسكرية المصرية بدخول فلسطين في اليوم الخامس عشر من شهر أيار وسارعت الحكومات العربية الأخرى بين مدفوعة ومندفعة.
... وهكذا قررت الجامعة العربية إعلان الحرب، وأرسلت مذكرة إلى الأمم المتحدة تشرح فيها أسباب التدخل العسكري "لحماية الأرواح والممتلكات ... ووقف الإرهاب والمذابح التي تقترفها العصابات الصهيونية.." وقد قضينا، السيد عبد المنعم مصطفى مستشار الجامعة العربية وأنا، ليلة بكاملها ونحن نضع أدقّ التعابير الدولية في إعداد هذه المذكرة مع الحفاظ على سلامة الموقف العربي من قضية فلسطين.(1/526)
... ودخلت الجيوش العربية إلى فلسطين في فجر الخامس عشر من شهر أيار سنة 1948 ووقعت معارك عنيفة أنزلت باليهود خسائر جسيمة في مستعمراتهم، وقد مد العالم أبصاره صوب فلسطين يتساءل من الغالب ومن المغلوب.
... وكانت الاجتماعات العربية متصلة في عمان، فقد كانت العاصمة الأردنية نقطة الضعف في الجبهة العربية، وكان السيد عبد الرحمن عزام يحيط الملك عبد الله بكل ضروب التفخيم والتعظيم حتى لا" يفلت" من الأسرة العربية.
... وكنت أتردد بين دمشق وعمان في تلك الفترة، و أجتمع إلى السيد عبد الرحمن عزام وأستزيده من التفخيم يسبغه على الملك عبد الله، فإن الجبهة الأردنية تتحكم في قلب البلاد، والجيش الأردني مدرب تدريبا ممتازا وضباطه وجنوده على غاية ما يكون من الشجاعة ... لولا ابتلاؤنا بقائده" جلوب باشا" وأركانه من الضباط الإنجليز.
... وقد اقترح عليّ عزام أن نزور الملك عبد الله معاً ليسمع أن أهل فلسطين يبايعونه قلت: أن الملك عبد الله لا يستريح الي، وهو يعلم أني أعمل مع سوريا، وأن بينه وبين الرئيس القوتلي وحقه كبيرة بصدد موضوع سوريا الكبرى.
... قال: أنا ذاهب إليه الآن، وسأنقل إليه "بيعتك" فإن انبسط لها فسأدعوك على التلفون، قلت: حبا وكرامة.. نحن نبايعه من النهر إلى البحر حلالاً طيبا ... فليحرر فلسطين كلها وهو ملك عليها إلى ابد الآبدين ودهر الداهرين والله على ما نقول شهيد.(1/527)
... وذهب عزام وبقيت في غرفتي، وأذني إلى سماعة التلفون انتطر الطلب، فما من داع ولا سارع، ولم ألق الملك عبد الله في ذلك اليوم.
... وحين كان قصف المستعمرات اليهودية بالمدافع العربية يجلجل في جميع أرجاء البلاد، كانت هناك مهاترات خافتة تدور في عمان.
... لقد أصبح الجيش المصري في الخليل على مقربة من القدس.. والجيش السوري يتقدم في الجبهة السورية رغم الخسائر الجسيمة في العشرات من ضباطه البواسل. وهنا بدأت القوات العربية الأردنية والعراقية تتباطأ وتتلكأ، وانطلقت العبارة التاريخية على ألسنة الضباط العراقيين حين لا يتقدمون "ماكو اوامر".
... وأخذ الملك عبد الله يندد بالمصريين ويطالب بأن يحل محلهم في الخليل والجنوب، وبدا واضحا أن القوات الهاشمية قد حققت" الخطة" فلا تتعدى خطوط التقسيم..
... وأما على الصعيد الدولي فكانت أمريكا وبريطانيا تمسكان بزمام الموقف، تحركان مجلس الأمن ليبحث وقف القتال.
... واجتمعت الجامعة العربية على عجل، وعلى عجل كنت مع الوفد السوري في القاهرة، وسارعت الوفود إلى قاعة الاجتماعات، وأقفلت الأبواب ودار البحث التاريخي في القرار التاريخي، قرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار.
... وكان الاجتماع عابسا متجهما، وكان مجلس الأمن رهبة وهيبة، وكان اليقين في "عقل" قادة العرب أن مجلس الأمن يؤدب ويضرب.. والويل لمن يقع تحت عقوبات مجلس الامن ... ووقف الوفدان الأردني والعراقي في(1/528)
جبهة واحدة يطالبان باحترام قرار مجلس الامن ... ويؤكدان أن الوضع العسكري ليس في صالح العرب، وأن جيشيهما لا يستطيعان الاستمرار في القتال.. وأنهما مستعدان أن يستأنفا القتال بعد أن يستكملا استعدادهما.. وأن ... وأن ... ...
... ورفض الوفد السوري وقف إطلاق النار وأصر على القتال..وأنّ الوضع العسكري طيب جدا وأنّ المقاومة اليهودية توشك على الانهيار ... وأنّ يهود القدس الجديدة- 100 ألف– مهددون بالهلاك عطشا وسيطالبون غداً أو بعد غد.
... ووقف الوفد المصري حائرا وهو يتساءل كيف نستمر في القتال إذا توقف الجيشان الأردني والعراقي. وقالت السعودية أنها مع مصر فهي الشقيقة الكبرى وعلينا أن نسير حيث تسير.. ونحن نفضل استمرار القتال".
... أما لبنان فقد ألقى بكل ثقله ليقنع الهاشميين بالعدول عن" خطتهم" والسير في المعركة. وامتد الاجتماع إلى الصباح، وكان أظلم صباح مر على الأمة العربية في تاريخها الطويل.. فصدر القرار بوقف إطلاق النار وقبول قرار مجلس الأمن ...
... وصاح عزام، وكان يعتبر المعركة معركته الشخصية، وكان بعلاقاته وصداقاته مع معظم الدول العربية حكومة فوق الحكومات، فهدد بالاستقالة.. ولكن لا سميع ولا مجيب.
... وانتهى الاجتماع وتسللت الوفود لواذا من الأبواب الخلفية إلى الفنادق، هربا من الصحافة، تاركين" لعزام" الشقي التعيس أن ينقل " النعي"(1/529)
إلى مراسلي الصحف ووكالات الأنباء.." قبلنا قرار مجلس الامن".. فأعلن قرار الجامعة بالقبول وكانت الهدنة الأولى.
وحين خرجت مع عزام في سيارة واحدة ليوصلني إلى الفندق قال لي:
لقد هربوا من الصحافيين.
... قلت له: لن يهربوا من التاريخ.. ولن يستطيعوا أن يهربوا من الشعب.
... وأثبتت الأيام أن السياسة الهاشمية في عمان وبغداد لم تعلن الحرب في فلسطين لتحرير فلسطين، وجاء الدليل الواضح الفاضح في كتاب "جلوب" "جندي في الصحراء" وهو الذي قاد المعركة في أخطر جبهاتها.
... كشف جلوب في كتابه هذا عن اجتماع سري جرى في لندن بين توفيق أبو الهدى باشا رئيس وزراء الأردن والمستر بيفن وزير الخارجية البريطانية في شباط سنة 1948، وتحدث فيه الرئيس الأردني بقوله:
... الانتداب البريطاني ينتهي قريبا عن فلسطين ... اليهود أعدوا العدة لتأليف حكومتهم عقب انتهاء الانتداب.. وإنّ اليهود قد لا يتقيدون بقرار الأمم المتحدة دخول الجيش العربي إلى فلسطين بعد انسحاب البريطانيين.
... وقال بيفن: ان هذا هو الحل الوحيد المعقول.. ولكن لا تذهبوا إلى أبعد من ذلك وتحتلوا المنطقة اليهودية.
... والذي أراده "بيفن" في شباط 1948 هو الذي جرى تنفيذه في شهر أيار 1948. على أرض فلسطين، وعلى يد القوات الهاشمية- الأردنية العراقية.(1/530)
... وهكذا كانت حرب فلسطين، لا للتحرير، ولكن لملء الفراغ بعد الانسحاب البريطاني، وللوقوف عند حدود التقسيم.. ولكن حتى هذا "الهدف" الذي أرادته بريطانيا لم تستطع السياسة الهاشمية أن تحققه، فقد تجاوز اليهود خطوط التقسيم، وتجاوزوا خطوط وقف إطلاق النار، وتجاوزوا ... وتجاوزوا ...
... وصح الذي قلته لعزام يوم قبول الهدنة: إنهم لن يستطيعوا أن يهربوا من الشعب.. ولا من التاريخ ...
... وأغتيل الملك عبد الله على عتبات المسجد الأقصى.. وانتحر توفيق أبو الهدى في غرفته، وخر الأمير عبد الإله صريعا إلى جانب فيصل الصغير، وهوى نوري السعيد في شوارع بغداد، وانخلع فاروق عن عرشه الفخيم.. وتعاقبت الانقلابات ولا تزال ...
... ولن يستطيع أحد أن يهرب من الشعب ولا من التاريخ.(1/531)
العرب في الأمم المتحدة(1/533)
رودس تصيح مع القدس..
الويل للمغلوب
... توقف القتال في جميع الجبهات في فلسطين في شهر حزيران سنة 1948 امتثالا لقرار مجلس الأمن، وتحول الجهد العربي إلى النشاط السياسي، فقد اختارت الأمم المتحدة الكونت برنادوت ليكون وسيطا دوليا يدرس القضية الفلسطينية في الظروف الراهنة ويقدم توصياته بشأنها.
... وقد أقنع الجانب العربي نفسه بنفسه أن هذا القرار فيه معنى العدول عن قرار التقسيم، ولعل الكونت برنادوت يجد للحكومات العربية مخرجا من "الورطة" الفلسطينية، ثم ان من فوائد الوساطة الدولية امتصاص نقمة الشعوب العربية على حكامها، وإلهاءها والاعتماد على نسيانها.. ففي الزمن شفاء من كل داء.. هكذا كان التفسير الذاتي عند حكام العرب.
... وكان اليهود من جانبهم قد أعلنوا في منتصف شهر أيار قيام حكومة يهودية مؤقتة بادر الرئيس ترومان إلى الاعتراف بها بعد أحدى عشرة دقيقة، ثم توالت الاعترافات من الإتحاد السوفيتي وعدد من الدول الأخرى.
... وهبط برنادوت على المشرق العربي ومعه حاشيته من المستشارين وعلى رأسهم الدبلوماسي الزنجي الدكتور رالف بانش، وقام باتصالات سريعة مع الجامعة العربية ودولها، ثم مع الحكومة اليهودية في تل أبيب، فسمع من الجميع ولم ينبس ببنت شفة.(1/535)
... وأعرب الكونت برنادوت عن رغبته في أن يوفد كل من الفريقين، العرب واليهود، وفدا من الخبراء ليشرح وجهة نظر بلاده في القضية وملابساتها، وان يكون اللقاء في جزيرة رودس التي اتخذها برنادوت مقرا" لقيادته".
... وقررت الجامعة العربية أن يمثلها وفد مؤلف من أربعة: عبد المنعم مصطفى مستشار الجامعة العربية، محمد الجليلي من وزارة الخارجية العراقية وهنري كتن المحامي الفلسطيني، وأنا مستشار الحكومة السورية.
... وفي العشرين من شهر حزيران سنة 1948 كنا نحن الأربعة نتسلق سلم طائرة الأمم المتحدة لتقلنا إلى جزيرة رودس، وحقائبنا مكدسة بالتقارير والمذكرات والكتب منذ فجر الحركة الصهيونية إلى عشية قيام الدولة اليهودية.
... وهبطنا مطار رودس في رحلة مريحة لم نستشعر معها مضي الوقت فقد كانت عقولنا وقلوبنا مع الكونت برنادوت، بماذا نحدثه، وكيف نحدثه.
... ونزلنا في طابق خاص في الفندق، وكان الوفد اليهودي قد سبقنا بساعات فنزل في طابق آخر، وانصرف كل منا إلى حجرته لنأخذ نصيبنا من الراحة استعداداً للعمل.
... وجلست في الشرفة في صباح اليوم التالي وأنا أستعرض تاريخ هذه الجزيرة التي تداولتها أيدي الفاتحين، وكيف غزاها العرب بأسطولهم البحري وغدا البحر الأبيض المتوسط كله بحيرة عربية، و إذا بالسيد عبد المنعم(1/536)
مصطفى يقتحم علي غرفتي وهو يقول: سنبدأ العمل في الساعة العاشرة فهل أنت جاهز؟
... قلت: إني جاهز من الفجر، وها أنت كما تراني وحقيبة المذكرات جاهزة معي.
... قال: ومالي أراك مكتئبا؟
... قلت: أنا الآن أعيش مع التاريخ وهذا هو سبب اكتئابي.
... قال: وكيف، ولماذا؟
... قلت: هنا في هذه الجزيرة كنا القادة والحكام، وها نحن نأتيها بعد قرون منكسرين منهزمين في وطننا، ونقف الآن على الأعتاب نلتمس العدل والإنصاف بين يدي الوسيط الدولي.
... قال: هَوِّن عليك لا بد أن نستعد للجولة الثانية.
... وحان موعد الاجتماع فذهبنا نحن الأربعة، وكان لقاؤنا الأول مع الكونت برنادوت والدكتور رالف بانش والمساعدين، وكانت جلسة "الافتتاح" هذه تعارفا وتحية وحديثا لا يتعدى نطاق المجاملات، فقد آثرنا أن نترك لهم زمام المبادرة في إثارة المواضيع التي يختارونها...
ووقفنا لننصرف، فراح الكونت برنادوت يتحدث بإنجليزيته السويدية ويقول اننا لسنا وفد مفاوضة، وليست هذه الاجتماعات على مستوى المفاوضات بينكم وبين اليهود، ولا أرى مانعاً من أن تلتقوا بالطرف الآخر على مائدة شاي للتحدث، بصورة عامة ومن غير أي التزام على أحد من الفريقين.(1/537)
... وكان الإخوان قد اتفقوا أن أكون الناطق باسم الوفد، فبادرت الكونت برنادوت بالرفض وقلت له: لا لقاء بيننا وبين اليهود، لا على مستوى المفاوضات أو المحادثات، وان سقف هذا الفندق يجمعنا كما يجمعنا مبنى الأمم المتحدة ليس إلا.
قال : ولكن زعماء العرب، وأنتم الفلسطينيين، التقيتم كثيرا مع زعماء اليهود.
قلت: هذا صحيح .. لقد كانت لقاءات بعض زعماء العرب وزعماء اليهود..ونحن في فلسطين كنا على صلات يومية باليهود، ولكن ذلك كان قبل قيام الدولة اليهودية.
قال: والآن؟
قلت: لا لقاء إلاّ بعد عودة الحال السابقة.
قال: كيف؟
قلت: أن تزول الدولة اليهودية.. وعندها سنلتقي باليهود وعلى مستوى المباحثات والمفاوضات ... أو قل ما تشاء.
... وتدخل الدكتور بانش، وعيناه الذكيتان تلمعان، وقال : أخشى أن يكون "المستر شقيري" قد لخص القضية الفلسطينية بأكملها في هذه الدقيقة الواحدة.
... وضحك الجميع وانصرفنا.. و إذا بالصحافيين ينتظرون في ردهات الفندق ليسألوا عما تم في هذا الاجتماع، فقلنا إنه اجتماع تعارف، وتنظيم لأسلوب العمل.
فصاح السيد زهير عسيران الصحفي اللبناني وقال:(1/538)
- هل ستكون بينكم وبين اليهود مفاوضات مباشرة؟
قلت: أبدا.. لن يكون هذا.. ونحن ما جئنا لهذا..ومن أخبركم بهذا؟
قال: الصحفيون الأجانب المتصلون بالوفد اليهودي، هم الذين أخبرونا بذلك.
قلت: لا تصدقوا.. هذه أول دسيسة يهودية على الوفد العربي، بل على مهمة الكونت برنادوت نفسه.
... وتسابق الصحفيون يركضون إلى مكاتب البرق "ليبطلوا" القنبلة اليهودية قبل أن تنفجر، ثم جاءت بعد ذلك جلسات العمل، يوما مع الوفد العربي، ويوما مع الوفد اليهودي، وتقاسمنا العمل فيما بيننا نحن الأربعة فتحدث كل منا في موضوع معين نتناقش فيه مع الكونت برنادوت ومعاونيه. فكان حديثنا عن الحركة الصهيونية- الإرهاب اليهودي- الأراضي- الهجرة- وعد بلفور- صك الانتداب- الثورة الفلسطينية- التقسيم- ميثاق الأمم المتحدة- إلخ- إلخ.
... وكانت هذه الموضوعات جاهزة في مذكراتنا وفي ذاكرتنا، فكنا نتحدث باستفاضة علمية موضوعية، نفند ذلك بالأسانيد والوثائق والإحصاءات، لا نترك شاردة ولا واردة.
... وعقدنا اجتماعنا الأخير لتلخيص الموقف فسردنا مطالبنا الوطنية:
1- إقامة حكومة وطنية ديمقراطية في فلسطين تمثل جميع المواطنين على اختلاف مذاهبهم، وتضمن الحقوق للجميع.
2- العدول عن التقسيم والدولة اليهودية.
3- وقف الهجرة اليهودية وبيوع الأراضي
4-(1/539)
السماح بعودة اللاجئين الذين نزحوا عن البلاد نتيجة للإرهاب اليهودي. كتدبير عاجل ومن غير انتظار للحل السياسي النهائي.
وكان الكونت برنادوت والدكتور بانش يصغيان باهتمام، وكنت أتفرسّ في وجه الدكتور بانش وملامحه لأتعرف على انطباعاته وإحساساته، فقد كان الكونت برنادوت شخصية مرموقة لها وزنها وقيمتها، ولكن الدكتور بانش كان "دماغ" هذه الوساطة الدولية، وكنت أحاذر أن أوجه إليه كل حديثي خشية أن يكون في ذلك إساءة للكونت برنادوت، ونحن أحوج ما نكون في ذلك الوقت إلى التودد حتى إلى التراجمة والمختزلين.
ولقد لقيت الدكتور بانش، بعد أيام رودس، في الأمم المتحدة، في اجتماعات عمل وفي مناسبات اجتماعية متعددة، وقد كان عندي لغزا محيرا، فلم أستطع أن اقطع على وجه اليقين إذا كان معنا أو علينا، أو إذا كان مع الصهيونية أو عليها.
لقد كانت تقاريره في غاية الدقة والبراعة، يحرص كيف يختار عباراته وألفاظه بل وفواصله، فلم يستطع أن يهاجمه العرب أو يهاجمه اليهود، وإن لم يكن يرضي هذا الفريق أو ذاك.
وكنت ضيفه في منزله في نيويورك مع عدد من الوفود أثناء دورات الأمم المتحدة وتقدمت زوجته لتسألنا: ما رأي العرب في زوجي؟
قلت: أن زوجك لغز محير، عيناه تلمعان ولا تدرين لمن، وشفتاه تتمتمان ولا تدرين مع من، وقلمه يتحرك ولا تعلمين في أي اتجاه، هو أمريكي وليس مع أمريكا، وهو في الأمم المتحدة وليس مع الأمم المتحدة.
... قالت: ولكنه مع من؟(1/540)
قلت: ان الدكتور بانش هو مع الدكتور بانش، شأن النابهين، الواحد منهم عالم بذاته.
فصاح الدكتور فاضل الجمالي بقهقهته العراقية: هذا مزاح أصدق من الجد.
وفي رودس، كانت لنا مناسبات اجتماعية، فقد زرنا آثارها التاريخية، وكان مفتي رودس واحدا من هذه الآثار.. وفي الجزيرة جالية إسلامية من بقايا العثمانيين وهي كذلك مجموعة من الآثار.
وذهبنا لزيارة المفتي في مكتبه فبالغ في الحفاوة بنا، واصطف الكشافة "المسلمون" عند المدخل تحية لنا، ودار الحديث بيننا بعربيته التركية، وبتركيتي الإستانبولية التي تلقنتها عن والدتي رحمها الله.
وقد زادت هذه الزيارة من أحزاني، فقد كان "مفتي افندي" منكسرا في حديثه، لا يكاد يرفع بصره.. فيه إحساس بالذلة والمسكنة، وكان الكشافة لا تبدو عليهم العزيمة والثقة بالنفس، وملابسهم المتواضعة لا يكاد الواحد منهم يشبه الآخر، وكان جو الجلسة كلها ينطق "الويل للمغلوب".
وكان السيد عبد المنعم مصطفى، بيده أموال الوفد، قد أحزنه حال المفتي، فأخرج من جيبه كل ما تبقى من "مخصصاتنا" ... ملايين الدرخما ... وإن لم تكن تساوي إلاّ القليل ... ولكن المفتي رآها كنزا هبط عليه من السماء.
وكان إلى جوار مكتب المفتي "مقبرة رايت" شواهدها إسلامية ، فنزلنا إليها نستنطقها التاريخ ما غبر .. وما فيه من العبر وكانت قبوراً جميلة شيدت من الرخام الناصع، وقد نقشت عليها بالخط "العثماني" الرائع الآيات(1/541)
القرآنية، وأسماء أصحابها الأتراك المجاهدين، الشهيد محمد بن مصطفى ... وهكذا.
ومن يدري فلعل في هذه المقبرة رفات مجاهدين وشهداء من الحجاز ومصر والشام من الذين اكتسحوا جزيرة رودس في صدر الفتوح الإسلامية.
ولقد وقفت طويلا أمام تلك القبور، وتفرست في سيماء المفتي وكشافته وأصحاب الوجوه المنكسرة من المسلمين في رودس.. ولكني لم أدرِ لماذا فعلت ذلك؟ ولم أدر لماذا بقيت تلك الخواطر السوداء تلازمني وأنا في الطائرة في عودتي إلى القاهرة، بل لماذا بقيت تلازمني بعد ذلك بزمن طويل.
لقد جاء حزيران 1967 يفسر لي تلك الأحاسيس، لقد سقطت القدس وأصبح المفتي فيها منكسرا، وأصبح أهلها "جالية إسلامية" وأصبحت القبور مزارا للسياح وأصبح الجو كله يصيح، الويل للمغلوب. وما أعظم الفرق بين رودس وبيت المقدس. ان رودس جزيرة في البحر الأبيض المتوسط ليس لها بتاريخ العرب صلة ونسب، غزاها العرب وانتهى.
أمّا القدس ... يا للعظمة والفخار، إنهّا مدينة عمر وأبي عبيدة وصلاح الدين، وهي قبيل ذلك فإنها أولى القبلتين وثالث الحرمين، وهي موطن الإسراء والمعراج. إنها الآن تئنّ تحت أقدام إسرائيل.
اللهم رحماك ان هذا فوق طاقتنا وفوق صبرنا.
اللهم نصرك الذي وعدتنا.
أن النصر في طاقتنا وقدرتنا.
إنه في وحدتنا .. في الوحدة وحدها.(1/542)
نفدت آخر خرطوشة من زمان
انعقدت الأمم المتحدة في خريف سنة 1948 في باريس في
"شايوه" ، القصر الشهير، تحت سحابة من الاكتئاب لم تشهد المنظمة العالمية مثيلا له منذ عهد عصبة الأمم.. وكانت الوفود في أروقة القصر ودهاليزه حلقات يوضحون ويستوضحون، فالمصاب جلل جسيم: لقد اغتالت العصابات الصهيونية الكونت برنادوت في شوارع القدس.
وقد شغلت الأمم المتحدة أياما في غمرة هذا الحادث الأثيم، وشاركت إسرائيل في دموع التماسيح، وحسبنا أن القيامة قامت على اليهود وأنّ هذه الجريمة قد اقترفت ضد الأمم المتحدة التي ولدت الدولة اليهودية، ولا بد أن تكون هذه بداية النهاية.
وكان اليهود قد علموا بمخابراتهم القادرة أن تقرير الكونت برنادوت ليس في صالحهم في بعض جوانبه ، فسارعوا إلى اغتياله في 17-9-1948 وجاء مساعده الدكتور بانش إلى الأمم المتحدة وقدم التقرير بكلمة مؤثرة هزت المشاعر .
وكانت الوفود العربية على مستوى عال بأشخاصهم: الأمير فيصل عن السعودية، خشبة باشا وزير الخارجية مصر، رياض الصلح رئيس وزراء لبنان، فارس الخوري وخالد العظم والأمير عادل ارسلان عن سوريا، والأمير سيف الإسلام عبد الله عن اليمن، ونجيب الراوي عن العراق، وكان(1/543)
وفد فلسطين مؤلفا منا نحن الثلاثة: المحامي هنري كتن، الدكتور يعقوب خوري وأنا.. وكان السيد شارل حلو " رئيس الجمهورية اللبنانية فيما بعد" رئيساً لمكتب الجامعة العربية للدعاية والإعلام في باريس أثناء انعقد الدورة، يعاون السيد عبد الرحمن عزام أمين الجامعة في الاتصالات السياسية والإعلامية.
وظننا أن اغتيال برنادوت سيكون اغتيالا "لحكومة إسرائيل المؤقتة" التي أعلنت في منتصف شهر أيار، وان الدول الاسكندنافية ومنها الكونت برنادوت، ستقود الحملة على الدولة اليهودية.
ولكن خاب ظننا، فقد اندلعت الخطب من جميع الوفود تستنكر الحادث الإجرامي، وكل مطلبها، وفي مقدمتها الدول الاسكندنافية، المزيد من التحقيق والقبض على الجناة وإنزال أقصى العقاب، وتعويض ورثة القتيل.
ولقد عرفت إسرائيل كيف تنحني أمام العاصفة، فبكت برنادوت مع الباكين، وناحت مع النواحين، وأعلنت أنها ماضية في التحقيق ... وطويت المناحة وكأن شيئا ما كان.
أمّا نحن الوفود العربية فقد كنا "أهل القتيل" استنكرنا وصرخنا ... ولكن الأمر قد انتهى عند هذا الحد، فكان ذلك أول درس لنا في أولويات القواعد الدولية. فإن أحاسيس الغضب والاستنكار أمور عابرة في الحياة الدولية وان الأبقى هو الأقوى ... وكنا نحن وفد فلسطين، وسط هذه الضجة العارمة من البكاء والعويل، نعد العدة لإلقاء بياناتنا "ومرافعاتنا" باسم شعب فلسطين.(1/544)
ومع أنني كنت متمرسا بشؤون القضية الفلسطينية مع الأيام والأعوام، غير أنّي في تلك الدورة قد أنفقت من الجهد في إعداد خطبي بما لم أفعله في أي وقت مضى، فقد كان أمام الأمم المتحدة، في ذلك الوقت قرار التقسيم وتقرير برنادوت وحكومة إسرائيل المؤقتة ... وهزيمة العرب، وقد تم الاتفاق مع الحكومة السورية أن أرأس وفد فلسطين، أخطب وأناقش، بدلا من أن أكون مستشارا للوفد السوري أعمل من وراء الكواليس.
وحبست نفسي في الفندق أياما وأنا أكتب وأشطب، وأُعَدلِّ وأُبدل، وأُقدم وأُؤخر، وأنا أحسب أن كل كلمة محسوبة علي ... بل محسوبة على الأمة العربية بأسرها.
وقضيت ليلة لم أنمها، وأنا في ثياب النوم، أعد خطابا عن القدس وقدسيتها، واستمساكنا بعروبتها، وبقيت حتى الصباح، وأنا أُنعم النظر فيها وأنا أحسّ أن خلاص القدس منوط بقلمي ولساني.
وذهبت إلى الأمم المتحدة ومعي رفاقي وأوراقي، ونودي علينا فجلسنا على المائدة المخصصة لغير الأعضاء.. فكنا ثلاثة، شرتوك وزير خارجية حكومة إسرائيل المؤقتة، والأمير عبد المجيد حيدر ممثل مملكة شرقي الأردن، وأنا ممثل الشعب الفلسطيني.. ولم تكن إسرائيل ولا الأردن قد أصبحتا من أعضاء الأمم المتحدة.
وكان جلوسي في الوسط وعلى يميني شرتوك "شاريت فيما بعد"، على يساري الأمير عبد المجيد، وسلطت علينا مصابيح المصورين يلتقطون هذه الصورة الفريدة في نهم عجيب: العرب واليهود على مائدة واحدة.(1/545)
ولقد حاولت أن أجعل جلوس الأمير عبد المجيد في الوسط، وبهذا أبتعد عن شرتوك، ولكن دائرة البروتوكول في الأمم المتحدة، هكذا رسمت وعلينا الطاعة والخضوع.
وأراد الأمير عبد المجيد أن يكلمني بالعربية فهمست في أذنه أن شرتوك يجيد العربية، فأراد أن يكلمني بالتركية فقلت له أن الرجل تعلم في الآستانة في معهد الحقوق وهو يجيد اللغة التركية، فقال لي فبماذا أكلمك؟ قلت له هامسا: بالعربيةوالواقع أن كثيرا من اليهود لا يعرفون اللغة العربية وقد تعلموها في سن متأخرة.
وجاء دوري في الكلام فألقيت بيانا مستفيضا عن القضية الفلسطينية منذ نشأتها إلى زمن عصبة الأمم عبر الانتداب البريطاني، مستعرضا مراحلها، ساردا الحجج والاسانيد، ثم ناقشت تقرير الكونت برنادوت مفندا جوانبه المختلفة، غير تارك أي قول يمكن أن يخطر على البال في هذا المجال، وقد كان الإصغاء كاملا وشاملا لجميع الوفود، وقلَّ أن تجد إصغاء بالمعنى الصحيح في الأمم المتحدة إلاّ حين يتكلم مندوبو الدول العظمى، فهؤلاء "يشنفون" الآذان لا بفصاحتهم ولا بلاغتهم، بل بالقوة العسكرية والاقتصادية التي يملكونها.
وقد أصاب الوفود العربية كثير من الزهو والخيلاء أنهم قدموا للأمم المتحدة واحدا من إخوانهم من أبناء فلسطين يستطيع حين يتكلم أن يفرض على الأعضاء إصغاءهم واهتمامهم.
وتكلم بعدي الأمير عبد المجيد حيدر ممثل الأردن وألقى بيانا عاما لم يتضمن تركيزا واضحا على تقرير برنادت، فقد احتوى التقرير في جملة ما(1/546)
احتوى ضم "الأقسام العربية" من فلسطين إلى الملك عبد الله.. وهذا ما دعا الأمير أن يكون بيانه مقتضبا
وتكلم أخيراً شرتوك وزير خارجية حكومة إسرائيل المؤقتة معلنا تمسكه بقرار التقسيم، معارضا لكثير مما ورد في تقرير برنادوت، مصرا على أن يكون حل قضية اللاجئين ضمن التسوية العامة.
وحاول شرتوك أن يرد على بياني فلم يستطع أن يجد منفذا سوى أن يقول انني نازي سابق وقد تعاونت مع "الحاج أمين المعروف بصلاته مع هتلر". وأنني لا أمثل أحدا.. سوى العناصر العربية المتطرفة التي تريد أن تلقي باليهود في البحر، ولم ينس شرتوك أن يثني على جلالة الملك عبد الله وجيشه.
وخرافة إلقاء اليهود في البحر ابتدعها اليهود وزيفوها على قادة العرب في كل مناسبة.. ويوم وقعت نكبة حزيران انطلقت أجهزة الدعاية الصهيونية في كل العالم لتقول أن الشقيري قد خطب في المسجد الأقصى قبيل حرب حزيران يدعو إلى إلقاء اليهود بالبحر ... وقد وقع "بعض" العرب فريسة لهذه الدعابة، فراحوا يرددونها ويسيرون في ركابها ويدورون في فلكها. وأصبحوا بذلك ببغاوات إسرائيل يعيدون كلماتها.
وقد رددت على شرتوك بما يجب، الحجة بالحجة، صارمة وقاطعة، مستندا في ذلك إلى أقوال زعماء الصهيونية وكتاباتهم.
وملت إلى الأمير عبد المجيد أطلب إليه أن يتكلم فقال:
بماذا أتكلم؟ ولماذا أتكلم؟(1/547)
قلت: هذا اليهودي يمدح الملك عبد الله وجيشه وكأنه يوحي بأن الأمور على ما يرام معكم.
قال: ليس لدّي تعليمات أن أتكلم غير البيان الذي ألقيته، وقد جاءني من عمان بالنص والحرف.
ونهضت إلى مقاعد الوفد اللبناني ورجوت السيد رياض الصلح رئيس الوزراء أن يبرق بذلك إلى الملك عبد الله فقد كان على معرفة قديمة به.. فبادر السيد الصلح إلى مناشدة الملك عبد الله أن يأمر ممثله بإلقاء البيان اللازم. ومضت الدورة بكاملها ولم يأت جواب البرقية من الملك عبد الله، وساد الشعور بين الدول الأعضاء أن عمان وتل أبيب بينهما وداد مكتوم.
ودارت المناقشات عنيفة بشأن تقرير الكونت برنادوت وما تضمن من توصيات وكانت خطب الدول الأعضاء غير متحمسة له ولا عليه، حتى أن الوفد الواحد: الأمريكي والبريطاني أو الافرنسي، كان منقسما على نفسه بشأن مقترحاته.
وكان بين الوفود العربية تساؤل- ولا أقول إنه أكثر من تساؤل – عن بعض توصياته: أليس وجود النقب عربيا فيه مصلحة للعرب باعتباره جسرا بين العرب في آسيا وفي أفريقيا؟ أم أن وجود الجليل الغربي عربيا أنفع استراتيجيا لانه يجعل إسرائيل تحت رحمة العرب في أي انقضاض عسكري على إسرائيل في المستقبل؟
وكان هناك تساؤل آخر- ولا أقول إنه أكثر من تساؤل- أيهما أهون الشرين، قرار التقسيم أم مشروع برنادوت للحاضر وللمستقبل؟ وكان الفارق الرئيسي بين الاثنين أن الأول جعل النقب إسرائيليا والجليل الغربي عربيا،(1/548)
على حين أن برنادوت قد عكس الاية.. ثم جاءت بعد ذلك حملة من الضغوط الغربية تطلب من الوفود العربية أن تمتنع عن التصويت أو تنسحب من القاعة عند عرض مشروع برنادوت حتى يفوز بأكثرية الثلثين.
وكانت الوفود العربية، رغما عن المستوى العالي الذي بلغته، لا تعرف الموقف العسكري العربي في الوطن على وجه التحديد ومدى قدراته، وكانت إسرائيل تصطنع ومشروع برنادوت لتضع الأمم المتحدة أمام أمر واقع..والأمم المتحدة لا تقر الأمر الواقع يوم يتعين اتخاذه.
من أجل هذه التساؤلات اجتمعت الوفود العربية برياسة الامير فيصل في دار السفارة المصرية واستقر رأيهم أن أسافر إلى القاهرة لأعرضها على مجلس الجامعة العربية ، وكان في حالة انعقاد دائم ، ظروف القضية في الأمم المتحدة في باريس والموقف الذي يتعين اتخاذه .
وصلت القاهرة في سفرة سريعة، ومن المطار ذهبت إلى الجامعة العربية وشرحت الموقف بكامله، موضوعا وتصويتا مع كافة الاحتمالات، وتأجل الاجتماع إلى اليوم الثاني.
وعشية ذلك اليوم دعيت إلى مجلس الوزراء المصري، فاجتمعت بالرئيس النقراشي وأخذ يستوضحني المزيد من الشرح حول احتمالات نجاح مشروع برنادوت.
وكان في الأفق السياسي تهامس في أن الملك فاروق يحبذ مشروع برنادوت لأنه يجعل النقب عربيا ولعل في ذلك حلا لازمة القواعد البريطانية في مصر، حيث تنقل القوات البريطانية إلى النقب.. يقابل ذلك همس آخر في(1/549)
أن الملك عبد الله، وهو الذي سيكون صاحب النقب لا يعارض في انتقال القوات البريطانية اليه. وهي موجودة في شرق الأردن بالذات.
وفي صبيحة اليوم التالي استأنف مجلس الجامعة اجتماعه، وبعد مداولة قصيرة قرر بالإجماع "رفض مشروع برنادوت.. مشروع التقسيم.. مع التمسك بعروبة فلسطين". وأضاف عزام، بصدد القتال الدائر في جنوب فلسطين، بأن العرب سيقاتلون حتى آخر "خرطوشه" وأمّن الباقون على ذلك.
وعدت إلى باريس أحمل معي قرار الجامعة العربية، واجتمعت الوفود العربية وسلمتهم الظرف المختوم بالشمع الأحمر.. وفضه خشبة باشا وتلاه على الحاضرين بلهجته العربية الفصيحة.. وكان يتأنق في تلاوته ويقلقل مقاطعه وعباراته ...
ثم شرحت للوفود ما دار في مجلس الجامعة، وقلت لهم ما قاله عزام من أن العرب سيقاتلون إلى آخر خرطوشة، فضحك خشبة باشا هازئا ساخرا وهو يقول:" آخر خرطوشة.. هذه ليست موجودة.. ان آخر خرطوشة قد أَطلقت من زمان.." وانتهى الاجتماع على الطرائف والحكايات التي كان يتبادلها خشبة باشا والسيد فارس الخوري عن الأيام الغابرة.. شأن الشيوخ كلما ضمتهم ندوة أو لقاء.
وخلف هذه المطارحات الفاكهة التي كانت تدور بين الشيخين: خشبة والخوري، كانت المعارك الضارية تدور في جنوب فلسطين، ولم تتورع إسرائيل أن تهاجم المواقع المصرية في صحراء النقب على حين كان موضوع النقب يناقش في الأمم المتحدة.(1/550)
وبدأت التقارير ترد إلى الأمم المتحدة عن زحف إسرائيل صوب الجنوب لأنها تريد أن تضع المنظمة العالمية تحت الأمر الواقع، ولم تكتف إسرائيل أن اغتالت برنادوت بل أرادت أن تغتال تقريره، فأخذت تشن على الجبهة المصرية الغارة بعد الغارة، ومجلس الأمن يصدر القرار بوقف إطلاق النار والرجوع إلى ما كانت عليه الحال في أكتوبر سنة 1948، وتوالت قرارات مجلس الأمن في 4 نوفمبر، 5 نوفمبر، 29 ديسمبر سنة 1948 و كلها تدعو إسرائيل إلى وقف إطلاق النار، فلم تذعن إسرائيل، ولم تتوقف عن إطلاق النار إلاّ بعد أن اجتاحت النقب كله.. وأصبح تقرير برنادوت عن النقب العربي كلاما في الهواء.
وفرغت الأمم المتحدة من المناقشة العامة بصدد تقرير الكونت برنادوت، وهنا جاء دور الصاغة البارعين، من الإنجليز والأميركان والافرنسيين، ليضعوا مشروع القرار. وكان جون فوستر دالاس، وزير الخارجية الأميركية، فيما بعد، واحدا من أبرع هؤلاء البارعين.
وكان الإتحاد السوفياتي يراقب هذه التحركات من بعيد دون أن يشترك فيها، لأن الكتلة الغربية كانت تحول دون مشاركته، ولأنّ بعض الوفود العربية تريد أن تبعد الإتحاد السوفياتي عن المشكلة، وأنّ الإتحاد السوفياتي نفسه كان حريصا أن يقع الإنجليز والأميركان في "وحل" هذه القضية "الموحلة".
واتجهت النية إلى إبدال الوسيط الدولي بتعيين "لجنة توفيق" ولم يكن عند العرب شك بذلك وهم يظنون أن أميركا تستطيع أن تضغط على اليهود!(1/551)
وكان لا بد من فرنسا، لأن حرص فرنسا على المقدسات الدينية هو في صالح العرب.
واقترح أن تكون تركيا هي العضو الثالث، فقد أسَّر الوفد التركي في اذن العرب أنه سيبذل كل جهده ليكون معهم.
وهكذا أُلفت لجنة التوفيق من أميركا، فرنسا، تركيا.
ولكن الأسوأ من كل ذلك أن اختصاص لجنة التوفيق، كما ورد في مشروع القرار كان غامضا قد يضّر ولكنه يقينا لا ينفع.. وخاصة فيما يتعلق بموضوع القدس ومشكلة اللاجئين.
وقد دعوت الوفود العربية إلى اجتماع خاص لبحث هذا المشروع وأوضحت بصورة خاصة أن الفقرة 11 من مشروع القرار خاصة باللاجئين.
أولاً: لا تتضمن إلزاما موجها لإسرائيل بعودة اللاجئين.
ثانيا: لا تحدد زمنا تتم خلاله العودة.
ثالثا: تشترط على اللاجئين "أن يعيشوا بسلام (؟) مع جيرانهم."
وقلت في النهاية ان المادة 11 هي أسوأ صيغة لأقدس حق، وهو العودة إلى الوطن. ولم تكن الوفود العربية تنقصها القناعة بصواب هذه الملاحظات، ولكن الموقف العربي في الوطن، لا في باريس،كان مهلهلا مخلخلا، والقوات الإسرائيلية تضرب حيثما تشاء.. وهكذا صدر القرار بصيغته كما أرادها الوفد الأميركي.
وقد جاءت مخاوفي في محلها، فقد عبرت هذه المادة خلال عشرين دورة للأمم المتحدة، وكانت إسرائيل تجد مهربا في منافذها وفجواتها ... وما أكثرها.(1/552)
وكان للوفود العربية، وأنا واحد منهم، في هذه الدورات كلها، حجج كثيرة تدعم فيها حق اللاجئين بالعودة، ولكن إسرائيل وأنصارها لم يعدموا الحيلة والوسيلة لتزييف المادة11 من القرار، من الألف إلى الياء.
وانتهت دورة الأمم المتحدة، وعادت الوفود العربية إلى الوطن لتتحدث عن قرار" العودة" ومهمة لجنة التوفيق في تنفيذ" العودة".
وتطلعت جماهير اللاجئين من الخيام إلى الأمل المنشود واليوم الموعود، تنتظر قدوم لجنة التوفيق إلى البلاد ، لتعيد اللاجئين إلى مدنهم ، إلى قراهم، إلى مزارعهم، إلى مصانعهم..إلى الوطن السليب..إلى الوطن الحبيب .
وتجاهلت حتى جهلت مع الجاهلين، وانتظرت مع المنتظرين ، وما أنا إلاّ واحد من اللاجئين.. أعيش آلامهم وأحلم أحلامهم.
وعشت أياما معدودات، أنتظر قدوم لجنة التوفيق، لأعود مع العائدين.(1/553)
بروتوكول لوزان..
ليس سمكة ولا ضفدعة
مضت بضعة أسابيع على القرار الصادر من الأمم المتحدة في
9 كانون أول سنة 1948 في مشاورات بين واشنطن وباريس وتركيا لاختيار ممثلي هذه الدول في لجنة التوفيق الدولية التي أنيط بها بحث قضية فلسطين. وكان أن وقع الاختيار على "اثردج" ممثلا لامريكا، ويوازنجيه ممثلا لفرنسا، وتوفيق رشدي ممثلا لتركيا، ومع كل منهم عدد من المعاونين.
وكان الممثل الأمريكي ممثلا حقا، فهو عمل في شركات السينما والأفلام، وكان الممثل الفرنسي دبلوماسيا في وزارة الخارجية الافرنسية،أمّا توفيق رشدي أرأس فهو من أتراك الدولة العثمانية وكان وزيرا للخارجية التركية في عهد مصطفى كمال- أتاتورك- وبهذا التأليف المتنافر أصبحت لجنة التوفيق ذاتها في حاجة إلى لجنة توفيق تؤلف بين شخصياتها المتباينة المتباعدة.
ووصلت اللجنة إلى البلاد في ختام شهر شباط سنة 1949 وكان طبيعيا أن تبدأ اتصالاتها في تل أبيب أولاً، فإن فيها مفتاح الموقف، ثم انتقلت إلى بيروت للاجتماع بوزراء خارجية الدول العربية.
وتم الاجتماع في إحدى صالات فندق "سان جورج" وحضر الاجتماع وزراء خارجية مصر وسوريا ولبنان والأردن فهي الدول التي تتركز فيها(1/554)
جماهير اللاجئين...وحضرت هذا الاجتماع مع السيد خالد العظم وزير خاجية سوريا ، فقد عدت مستشاراً للحكومة السورية بعد أن انتهت رئاستي للوفد الفلسطيني في الأمم المتحدة لدورة 1948.
وقد بدأ "اثردج" بوصفه رئيسا للجنة، والرياسة دورية بين الدول الثلاث، مرحبا بالوزراء، ولخص مهمة اللجنة بأنها " للتوفيق" بين الفرقاء، وأوجز موقف تل أبيب كما سمعه من بن غوريون رئيس وزراء الحكومة المؤقتة لإسرائيل.
أولاً: أن إسرائيل ترغب في أن تتحول اتفاقيات الهدنة إلى اتفاقيات صلح.
ثانيا: أن مشكلة اللاجئين لا يمكن أن تحل إلاّ في إطار تسوية عامة.
ثالثا: أن الأمم المتحدة وبالتالي لجنة التوفيق ليست لها سلطات تنفيذية.
رابعا: أن المادة 11 من القرار الصادر في سنة 1948 لا يعطي اللاجئين حقا مطلقا في العودة، و أن العودة مشروطة" في أول وقت عملي والعيش بسلام مع الجيران" وذكر رئيس اللجنة أنّه يريد أن يستمع إلى رأي الوزراء العرب في هذا الموضوع، فتكلم الوزراء بما فيه الكفاية وشرحوا حق اللاجئين في العودة إلى وطنهم كحق طبيعي وأسهبوا في تفصيل القضية الفلسطينية مع التوكيد على رفض قرار التقسيم وعدم الاعتراف بكل ما نشأ عنه.(1/555)
وفي صدد اختصاص لجنة التوفيق والشروط الواردة في الفقرة 11 ذكر السيد خالد العظم للجنة التوفيق أنّه يفضل أن تستمع اللجنة إليّ لأشرح هذه الجوانب لوقوفي على تفاصيلها في دورة الأمم المتحدة.
وتوليت الكلام مستعرضا ما قالته وفود الدول الاعضاء في الأمم المتحدة بصدد حق العودة، وأنه حق طبيعي وأصيل غير مقيد بشرط، وذكرت اللجنة بأن الأمم المتحدة قد أقرّت في تلك الدورة وفي اليوم التالي لقرار العودة- 10 كانون اول- ميثاق حقوق الانسان الذي صادقت عليه المنظمة العالمية بالإجماع- وينص على حق كل مواطن "في الخروج من بلده والعودة إليه متى شاء".. ثم ختمت حديثي بملاحظة استيقظ لها العضو التركي "ارأس" وكان يغمض عينيه تحت وطأة السنين.
قلت ان قرار العودة لم يذكر حكومة إسرائيل الموقتة من قريب أو بعيد، لقد تجاهل وجودها، وبالنسبة إلى اللاجئين فإن عبارة القرار أشارت إلى العيش بسلام مع "جيرانهم" والجيران شيء وحكومة إسرائيل شيء آخر. وكانت نكتة قانونية ضحك لها الجميع!
وقد أمسكت اللجنة ببياناتها ومداولاتها عن إبداء أي رأي في ايّ اتجاه، ولاذت بالصمت حتى في قضية اللاجئين التي أصرّت الوفود العربية أن تكون القضية الأولى في أبحاث اللجنة.
والواقع أن موضوع اللاجئين كان محور التكتيك بيننا وبين إسرائيل، فقد كنا نصرعلى أن تبادر اللجنة إلى اتخاذ التدابير العملية لإعادة اللاجئين إلى مدنهم وقراهم. فإن اللجنة في بيروت، واللاجئين في الخيام حول(1/556)
فلسطين، والامر لا يتعدى "السماح" بالعودة حتى يصبح كل لاجئ في منزله وعلى أرضه.
ولقد كان هذا المنطق بسيطا وسهلا وواجب التنفيذ، غير أن إسرائيل ومفاتيح البلاد بأيديها كانت تراوغ وتخادع، وتربط موضوع اللاجئين بالقضية الفلسطينية برمتها.. وهيهات أن تحل القضية الفلسطينية وكيف ومتى، وكما أعلنت أمام لجنة التوفيق يومئذ، أن إسرائيل تريد ان تربط موضوع اللاجئين بصخرة جبل طارق لا تتحرك إلاّ إذا تحرك الجبل.
ولقد تجنبت اللجنة أن تتخذ موقفا حاسما، ولم تلُقِ بالا إلى مطالب جماهير النازحين الذين كانوا يتأهبون للعودة إلى بلادهم سيراً على الأقدام، في الوديان وعلى الجبال.. وأعلنت اللجنة في النهاية أن المباحثات مع الفريقين كانت مفيدة جدا ولكن.
ولكن.. استدركت اللجنة بأن المشاكل التي تقع ضمن اختصاص لجنة التوفيق تتطلب بحثا تفصيليا مستفيضا من النواحي السياسية والقانونية والفنية.. و.. و.. وأن الأمر يقتضي اجتماعات متواصلة مع الفريقين في مكان محايد.. وأعلنت اللجنة أن المكان المحايد هو مدينة لوزان في سويسرا.
ولقد أوحت كلمة "لوزان" حيث عقدت معاهدة لوزان بعد الحرب العالمية الأولى، أننا سندخل في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل بغية الوصول إلى معاهدة الصلح، ولكن اللجنة بادرت إلى النفي القاطع. وأعلنت أن المباحثات ستكون مع اللجنة مباشرة.. فجاء هذا الإعلان يثلج صدورنا، وقبلت الوفود الدعوة ... وإلى لوزان شددنا الرحال.(1/557)
وأحسست أنني أمام طريق طويل المدى في العمل السياسي، ولا بد من شيء من الاستقرار في ذلك الجو العربي البعيد عن الاستقرار، فاعتزمت على الإقامة في مصر، على أن تظل الطائرة حجرتي في الجو تنقلني في العالم الدولي من عاصمة إلى عاصمة.. فانتقلت إلى القاهرة.. وكانت إقامتي في بيروت، ولم أكد أهيئ منزلي في القاهرة حتى بادرني الأمير نسيب القائم بأعمال السفارة السورية أمام لجنة التوفيق.
وانطلقت بي الطائرة في صباح اليوم التالي، عبر البحر الأبيض المتوسط بزرقته الصافية ثم فوق جبال الألب بقممها الناصعة الساطعة، وهبطت بي الطائرة في جنيف ومنها إلى لوزان،.. وأنا لا ألقي إلى هذه المفاتن العجيبة إلاّ نظرات خاطفة.. فإن الآمال الكبار للشعب الشريد تنتظرني وراء الباب، وأنا أحسب أنها بضعة أسابيع ونزف البشرى إلى أهل فلسطين: أن ادخلوا بسلام آمنين.
وانقضى يومان أو ثلاثة وتجمعت الوفود الأربعة: فكان الوفد المصري مؤلفا من السيدين عبد المنعم مصطفى وعبد المجيد اللبان وأُلحق بهما السيدان موسى الصوراني ورشدي الشوا من قطاع غزة..والوفد اللبناني من السادة فؤاد عمون ومحمد علي حمادة وجميل مكاوي. والوفد الأردني من السادة فوزي الملقي وخليل عبد الهادي ووليد صلاح وموسى عبد الله الحسيني، والوفد السوري من السادة عدنان الأتاسي وفريد زين الدين وعمر الجابري وأنا.. أمّا لجنة التوفيق فقد تغير تأليفها بعض الشيء، فقد تشكلت من مجموعة من المتقاعدين، فكان "بالمر" ممثلا للولايات المتحدة، ويوازنجيه(1/558)
ممثلا لفرنسا وحسين جاهين يالتشن ممثلا لتركيا، وكان " سكاراتي" السكرتير العام للجنة.
وعلى هذا فقد شهدنا صورا جديدة في لجنة التوفيق، فالمندوب الأمريكي محال على المعاش منذ زمن طويل.. والمندوب التركي من مخلفات حزب الإتحاد والترقي أيام الدولة العثمانية وكان يرأس تحرير جريدة "طنين" وكان وجوده في اللجنة من غير "طنين"، أمّا سكاراتي فقد كان لاجئا سياسيا من بقايا العهد الملكي في اسبانيا.
ومع هذا كله، فقد كنا نرجو الخير أو بعض الخير من لجنة التوفيق.. فنحن قوم منكسرون منهزمون،واليهود منتصرون وما علينا إلاّ أن نقول ما قال الشاعر:
منى أن تكن حقا تكن أسعد المنى وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا وبدأت اجتماعاتنا مع لجنة التوفيق ، فكان للجانب العربي مجتمعا يوم، وللوفد الإسرائيلي يوم آخر.. وكنا اكثر عددا من الوفد الاسرائيلي، ولكنه وفد واحد وراءه حكومة واحدة ، ونحن اربعة وفود ووراءنا اربع حكومات ..
وكنا نحرص أن نلتقي بلجنة التوفيق مجتمعين حتى لا ينزلق أحد بكلمة أو ينفرد بموقف. والواقع أننا كنا نخشى أن "يفلت" الوفد الأردني من ايدينا، فقد كان على رأس الوفد الإسرائيلي الدكتور ايتان، وكان قبل وصوله إلى جنيف قد سافر إلى عمان على رأس بعثة إسرائيلية، و اجتمع بالملك عبد الله، وقدم إليه هدية هي التوراة في غلاف من الفضة المزخرفة، وعلى الصفحة الأولى منها خريطة لإسرائيل تمثل فلسطين وسوريا ولبنان والاردن والعراق والحجاز، هدية "يتشرف رئيس الوزراء بن غوريون بتقديمها(1/559)
عربونا على الاحترام العميق الذي يكنه لجلالة الملك عبد الله بن الحسين ملك المملكة الأردنية الهاشمية".
وعل كل حال فقد كان "الاردن" في لوزان خيرا من الأردن في عمان. فقد استطعنا نحن الوفود العربية أن نحافظ على تماسكنا وأن نحتفظ بوحدتنا.
وكانت الاجتماعات في بادئ الأمر عرضا عاما للقضية الفلسطينية مع التركيز على التكتيك العربي في أن قضية اللاجئين يجب أن تحل أولاً، فهي القضية الملحة.. وهي القضية الإنسانية.. وهي القضية التي خصها قرار 1948 بالنص الخاص.
ثم اتجهت اللجنة إلى وضع "إطار عام" لمباحثاتها مع الفريقين، ليكون منطلقا للشروع في خطوات عملية، فاقترحت صيغة "بروتوكول" يوقعه كل جانب مع اللجنة مباشرة في وثيقة منفصلة.. وذلك تجنبا لأن يكون وثيقة مشتركة.
وامتدت اللقاءات وراء الكواليس في هذا الموضوع، وكان "يوازنجيه" ممثل فرنسا لولب هذا الاقتراح، وقد اخترنا السيد فؤاد عمون ممثلا للجانب العربي في هذه الاتصالات.
ودار الجدل حول الكلمة في موضعها، والنقطة في مكانها، والفاصلة في ترتيبها.. إلى أن وضعت الصيغة النهائية ووقعها الوفد الإسرائيلي أولاً في جلسة خاصة، ثم وقعت الوفود العربية في جلسة تالية..وهذه هي حكاية بروتوكول لوزان.(1/560)
وأخذنا بعد انقضاض الجلسة نتجاذب أطراف الحديث، وكانت اللجنة منشرحة كل الانشراح لهذا النصر العظيم الذي حققته، بتوقيع البروتوكول وراحوا يشيدون بمزاياه. وأنّه مفتاح الموقف، وأنّ فيه اعترافا بحق اللاجئين في العودة والتعويض ..وأنّ فيه.. وأنّ فيه.
وكنت أسمع إلى هذا الحديث في صمت عميق وإذا بالمندوب الأمريكي يسألني:
بماذا يفكر المستر شقيري؟
قلت: أفكر في" البروتوكول"
قال: وماذا ترى فيه؟
قلت: إنه لن يكون أقوى من قرار الأمم المتحدة سنة 1948 ولا أرى فيه جديدا.
قال: ولكن الفرق ... أن البروتوكول يحمل توقيع إسرائيل.
قلت:ان إسرائيل قد رقّعت.. على أن تبحث مع اللجنة "حق اللاجئين في العودة الخ". هذا التزام بالبحث.. وبالبحث فقط.. وإسرائيل قادرة أن تبحث إلى آخر الزمان.
قال: ولكن هذه خطوة مهمة.
قلت: في اللغة التركية تشبيه رائع، يعرفه العضو التركي، وينطبق على البروتوكول..
قال: وما هو؟
قلت:" انه شيش- إنه كباب- وترجمته بالعربية لا شيش شيخ لا كباب ... "(1/561)
قال: المثل بالإنجليزية : لا سمكة ولا ضفدعة.
قلت: لقد خرجت من فمك.. هذا هو البروتوكول.
قال: الدبلوماسي يجب أن يكون متفائلا دائما.
قلت: أنا لاجئ ... ولست دبلوماسيا وسنترك الأمر للأيام.
وانتهى الحوار.. لنبدأ العمل في الجلسات التالية ونرى مصير البروتوكول.
أهو شيش أم كباب؟
أهو سمكة أم ضفدعة؟
وراحت الأيام تثبت أنه لا هذا ولا ذاك.(1/562)
شاريت في المرحاض..
يرفض أمريكا
وُقّع "البروتوكول" على وثيقتين منفصلتين، واحدة تحمل تواقيع الوفود العربية، والأخرى تحمل توقيع الوفد الإسرائيلي، وكان أشبه باتفاق مباشر مع لجنة التوفيق لتحديد إطار العمل ومضمونه، وعرف فيما بعد "ببروتوكول لوزان" وهو يحتل مكانه الآن في سجلات الأمم المتحدة، كمعاهدة لوزان التي اتخذت مكانها في ادراج عصبة الأمم البائدة.
وبهذا هيأت اللجنة نفسها لتنفيذ اختصاصاتها التي نص عليها قرار 1948 في:
أولا: تسوية النزاعات المعلقة بين الطرفين.
ثانيا: وضع نظام دولي لمنطقة القدس وحماية الأماكن المقدسة.
ثالثا: عودة اللاجئين وتعويضهم.
وفي جلسة طويلة عقدناها مع لجنة التوفيق تقرر إنشاء ثلاث لجان فرعية تنبثق عن لجنة التوفيق: اللجنة العامة وتختص ببحث النواحي العامة للقضية وتدخل فيها الجوانب الإقليمية. اللجنة الثانية وتختص بموضوع التدويل، واللجنة الثالثة "الفنية" لبحث الاجراءات العملية لعودة اللاجئين والمحافظة على أملاكهم.(1/563)
وباشرت اللجان عملها، جلسة مع الوفود العربية، وجلسة مع الوفد الإسرائيلي، وكان لهذه الجلسات محاضر موجزة تلخص البيانات التي تدلى فيها.. وبدأنا نجمع المحاضر في ملفات.. ونناقش ونجادل كأننا في مرافعات.. وتضخمت الملفات وتورمت، والوفد العربية ماضية بكل جد في هذه التجربة.. فقد وقعت الدول العربية في ذلك الوقت تحت عقدة "لا" وغدت تبدأ تقول "نعم" حرفا حرفا.. وذلك أن العرب قد اتهموا على مدى ثلاثين عاما بأنهم رفضوا كثيرا من الحلول السياسية، إسرافاً وتطرفا، ولكنهم بعد فوات الوقت يعودون ليطالبوا بتنفيذ ما رفضوا.. ولهذا فقد سادت العالم العربي في أواخر الأربعينات موجة "الإيجابية" والابتعاد عن السلبية.
وكانت لجنة التوفيق والاتصال بها أولى الخطوات في هذه الإيجابية.. بل ان بروتوكول لوزان هو في صميم الإيجابية، فقد أُلحقت بهذا البروتوكول "خريطة التقسيم" لتكون أساساً للبحث، وهو التقسيم الذي رفضناه في عامي 1947 و 1948.
والوفود العربية، احتاطت وتحفظت وتحرزت حتى لا يكون ذلك اعترافا أو تسليما أو تنازلا.. ولكنها كانت خطوة على طريق "الإيجابية" لا جدال في ذلك ولا شك.
وطال الأخذ والرد وتبلورت مطالب الوفود العربية فيما يلي:
1- انسحاب إسرائيل إلى خطوط التقسيم والتخلي عن المناطق المخصصة للعرب.
2- عودة اللاجئين ، بلا قيد وشرط، إلى المناطق المخصصة للعرب.
3-(1/564)
إتاحة الفرصة ليعود من يشاء ويعوض من يشاء، من اللاجئين الذين نزحوا من المناطق المخصصة لإسرائيل.
4- في حالة رفض إسرائيل إعادة اللاجئين المنصوص عليهم في البند الثالث، تسلخ من إسرائيل الأراضي الكافية لإسكانهم، وتضم تلك الأراضي إلى المناطق المخصصة للعرب.
5- تدويل منطقة القدس او تجريدها من السلاح (تحفظ الأردن).
وكان الوفد الإسرائيلي يسوّف ويؤجل انتظارا للتعليمات، واستيفاء للبيانات، واستكمالا للإيضاحات.. فنحن الذين كنا على عجل، على جمر الغضى، فإن الجماهير تنتظر في الخيام.. وإسرائيل تأخذ الأمور على مهل فهي باسطة ذراعيها على وطننا، تستبيح خيراتنا ومواردنا.
وفي إحدى الجلسات انفجرت في ثورة، فقلت للجنة التوفيق: نحن هنا ناعمون في الفنادق الفخمة على ضفاف البحيرة الفاتنة، وأهلنا في الخيام يتضورون جوعا، يبصرون كل صباح مدنهم وقراهم، وإسرائيل تعيش على زيتونهم وأعنابهم وبرتقالهم.. وتقيم في مساكنهم.، وتنام على فراشهم .. و..
وكانت من غير شك، ثورة حق وعدل، ولكن لم يكن وراءها في الوطن إلاّ الحق والعدل يعشعشان بين انقاض الانكسار والهزيمة، واي جدوى من ثورة الكلام في لوزان، إذا لم تكن ثورة السلاح ناشبة في الجبال والوديان.
وقضينا ثلاثة أشهر في هذا الحوار، وبدا واضحا أن إسرائيل تعارض في تدويل منطقة القدس، وترفض عودة اللاجئين، ولا ترى مجالا لبحث(1/565)
الناحية الإقليمية إلاّ في نطاق "تجليس" الحدود، فتعطي قرية لتأخذ أخرى.. حذوك النعل بالنعل.
وشدَّدنا على لجنة التوفيق أن ترفع تقريرها إلى الأمم المتحدة، وتشير بإصبعها إلى الجاني.. إلى الذي يرفض تنفيذ قرار الأمم المتحدة.. وسيكون لنا في الأمم المتحدة مجال.. وسيكون لإسرائيل حساب.
هكذا كنا نتصور الأمور.. فنحن قوم مبتدئون في الحياة الدولية.. نحسب أن الأمم المتحدة قادرة على أن تعيد اللاجئين وتُدوّل القدس وتسحب إسرائيل إلى المناطق المخصصة لها.. وانصاعت لجنة التوفيق لرغبتنا، فقدمت تقريرا ضافيا إلى الأمم المتحدة، ثم شرحت فيه مراحل عملها "وإنجازاتها".. وأعلنت رفض إسرائيل لعودة اللاجئين وتدويل القدس.. تاركة الباب مفتوحا لتستأنف اللجنة عملها في المستقبل، ففي ذلك إلهاء للعرب من ناحية دولية، وفيه عمل جديد لهذه المجموعة من الدبلوماسيين المتقاعدين.
ووصل إلينا التقرير، مبوبا مفهرسا، فأخذنا في قراءته وإنعام النظر في فقراته، وضع إشارة هنا وإشارة هناك حيث نجد عبارة في صالحنا.. نتسلح بها "في جولتنا" القادمة في الأمم المتحدة، أمّا جولتنا في ميدان الكفاح فقد كانت تسبح في أفلاك التمنيات.
وسافرنا إلى الأمم المتحدة لحضور دورة سنة 1949، نحمل قلبا يفور بالحقد والمرارة. ولسانا أرهفناه لليوم الموعود.. وحقيبة مليئة بالتقارير والمذكرات.. ذلك كله كان رأس مال القضية الفلسطينية. عند شعب فلسطين وعند الدول العربية.(1/566)
وسافر وفد إسرائيل و على رأسه شاربت وزير الخارجية، يمثل واقعا إسرائيليا يتجسد في قيام حكومة لها جيشها، وتمارس سيادة إقليمية، معترفا بها من عدد من الدول في مقدمتها الدول الأربع العظمى.. وفي المقدمة أميركا والاتحاد السوفياتي.
وكانت الأمم المتحدة في ذلك العام تقيم في "ليك ساكسس" على مسيرة ساعة بالسيارة من نيويورك. وكنت أروح وأغدو كل صباح ومساء إلى مقر الأمم المتحدة، وسط هذه الاحراش الجميلة والغابات الفاتنة، أبصرها ولا أكاد أراها، فقد كان فؤادي في شغل في ما سأقول، وما سأكتب وما سأجادل، وكانت هذه الأحراش في فصل الخريف أشبه شيء بالامم المتحدة ... فقد كانت أوراق الشجر يتغير لونها كل يوم.. من الاخضر إلى الأحمر إلى القرمزي إلى الأسمر.. حتى إذا بهت لونها تساقطت على الأرض لتحملها الرياح من غابة إلى غابة ومن رابية إلى رابية.. وكذلك كانت الأمم المتحدة بأزياء وفودها من العالم القديم إلى العالم الجديد.. تتساقط فيها قضايا الشعوب.. إلاّ ما كان وراءه كفاح وسلاح.. وبدأت معاركنا في كل الجهات، وشحذت قريحتي وذاكرتي في كل مجال.. فلم أترك لجنة من لجان الأمم المتحدة إلاّ وأقحمت عليها موضوع فلسطين ، ولا بندا على جدول أعمال الأمم المتحدة إلاّ وذيلته بقضية فلسطين.
ولقد أسهبت في شرح القضية الفلسطينية على ضوء تقرير لجنة التوفيق، فتكلمت عن قضية اللاجئين بحرارة وإسهاب، ووقائع وأرقام.. وبكى كثير من الرجال والنساء الذين كانوا في جناح الزائرين.. وتحدثت عن قضية القدس مستعرضا تاريخها الجليل، ومقدساتها الحافلة بالذكريات، مشيرا إلى(1/567)
قرب أعياد الميلاد ورأس السنة وما تحمل من مشاعر الورع والتقى..وبكى كثير من أعضاء وفود أمريكا اللاتينية.
وفي اللجنة القانونية (السادسة) وكان البحث يدور حول موضوع حقوق الدول وواجباتها، تحدثت إلى تلك الجمهرة من رجال القانون في العالم عن " الحقوق والواجبات" واستدركت إلى السؤال: ولكن ما هو تعريف الدولة أولاً، قبل أن نمنحها الحقوق والواجبات؟ واستعرضت آراء رجال القانون في" الدولة" ونشوئها وتطورها ووفاتها، وأنكرت على إسرائيل أن تكون" دولة" لها المؤهلات والمقومات القانونية اللازمة ... وصافحني أعضاء اللجنة مهنئين بهذا البحث القانوني.. وهذا يسأل أين تعلمت القانون.. وذلك يسأل أين تعملت الإنجليزية.. والقاضي هدسون كبير علماء القانون الدولي في أمريكا يهنئني بكل حرارة وإعجاب وتقدير.. وأنا أقول له: أريد سلة ثمار.. لا باقة أزهار.
وهكذا مضت الدورة، كلها عمل متواصل، واتصالات مستمرة، وخطب متلاحقة.. وأنا أحسب أننا سنقيم الدنيا ونقعدها على إسرائيل.. وأن العالم المسيحي سيثور على إسرائيل..وان دول أمريكا اللاتينية ستكون نصيرة لنا في كل ما نطلب.. في إدانة إسرائيل.. في فرض العقوبات على إسرائيل.. في إلزام إسرائيل بمشيئة الأمم المتحدة، وقرارات الأمم المتحدة.
وبدأت تنجاب أمامي السحب وتبدو الأمم المتحدة على حقيقتها.. وبدأ المظهر يفضح الجوهر.. ولقد بدا لي لأول وهلة أن الأمم المتحدة مؤلفة من خمسين دولة (1) . وهكذا كان العدد أو يزيد قليلا، ولم أكن أرى هذا العدد مربوطا بالخيوط الخفية إلى دولتين عظيمين هما أمريكا والاتحاد السوفيتي..
__________
(1) * أصبح العدد الآن (2004م) 191دولة.(1/568)
وفرنسا وبريطانيا على الهامش ولكن الحقائق أخذت تتفّتح أمامي شيئا فشيئا بالأحداث والمواقف.
وكانت أول فجيعتي بدول امريكا اللاتينية. فإن وفودها متدينون، وكانوا لا ينقطعون عن الكنيسة يوم الأحد، وبعضهم كان يبدأ بالكنيسة صباحا قبل أن يذهب إلى الأمم المتحدة ... وهم كذلك من رجال القانون.. يفتنهم القانون ويأخذ بتلابيبهم.
واعتمادا على ذلك.. رحت أناشد دول أمريكا اللاتينية بصوت الدين وصوت القانون، لكي يحولوا دون تهويد القدس، بلد السيد المسيح وموطن ذكرياته ومسرح آلامه وعذابه.. وكنت أجد تجاوبا عميقا أصيلا في هذه الوفود اللاتينية، المؤمنة بالمسيح وسلطان القانون.. ولكن..
ولكن حين يأتي دور العمل والتنفيذ.. ودور التصويت.. كانت هذه الوفود المسكينة تقف في المعسكر الأمريكي، مقهورة لا حول لها ولا طول.
وقلت لكبيرهم السيد بلوندي مندوب البيرو، وهو شيخهم قدرا وعمرا، وعلما وإيمانا: إني استغرب تصرف دول أمريكا اللاتينية.
قال: لماذا؟
قلت: أنتم تخطبون في اتجاه، وتصوتون في اتجاه آخر، وفي الكافتيريا حيث نشرب القهوة تتكلمون في اتجاه مناقض للأول والثاني معا.. فما هو السر؟
قال: لا تعجب يامستر شقيري، هذه التعلميات جاءتنا من حكوماتنا منذ شهرين، وحكوماتنا تلقت التعليمات قبل ذلك بأسبوعين.
قلت: ومن أين تلقت حكوماتكم التعليمات؟(1/569)
قال: يا صديقي.. أنت خطيب عظيم.. ولكن تعليمات واشنطن أعظم.
قلت: نعم لقد فهمت.
قال: أريدك أن تفهم شيئا أهم.. اذهبوا إلى بلادكم، حاربوا وانتصروا. وستكون الأمم المتحدة معكم.
ولم تكن هذه الحقائق البسيطة غائبة عني، وعن كثير من العرب، ولكني أحببت أن "أستجلي" هذا الدبلوماسي العجوز على "كرسي الاعتراف" ليدلي إلي "بالخطايا الدولية" التي تقترف في "حرم" الأمم المتحدة وقدس أقداسها.
وبعد أن انتهت الخطب والمداولات جاء دور "القرار" الذي يحسن بالأمم المتحدة أن تتخذه بشأن القضية الفلسطينية وتقرير لجنة التوفيق، وكان الوفد الأمريكي فارس هذه الجولة.. يضع صياغة القرار ويعرضها على الوفود، ويضعها أمام الأمر الواقع.
ولكن إسرائيل لم تكن "الدولة" التي يستطيع الوفد الأميركي أن يضعها حيال الأمر الواقع.. فقد كانت وراء إسرائيل الصهيونية العالمية، وكان لإسرائيل "ترومان" نصيرها الكبير في البيت الأبيض، وكانت الخارجية الأميركية تضغط على يد إسرائيل بقفاز من الحرير..
ووقع حادث لا أنساه.. وكأني لا أزال الآن أسمعه وأراه.
كنت في المرحاض أصلح شأني.. وهو رواق كبير يتسع لعدد كبير من الذين يريدون أن يصلحوا شأنهم، ودخل شاريت وزير الخارجية الإسرائيلية ليصلح شأنه، ووقف أمام المرحاض يتخفف من البول.. وتبعه(1/570)
على الأثر "المستر بورتر" من أعضاء الوفد الأميركي .. ليتخفف من البول إلى جانبه.
وتحدث الأميركي إلى شاريت حديثا لم أفهمه.
فأجابه شاريت: أبداً هذا مستحيل
فأعاد الأميركي الأميركي الحديث.
وأجاب شاريت: هذا غير معقول.. نحن لا يمكننا أن نقبل، ان شعبنا يرفض هذا. وكان شاريت بادي الغضب والجد.. ويتحدث إلى هذا الأمريكي من غير مبالاة أو اكتراث.
ولقد أدركت أن المستر بورتر كان يحاول التماس موافقة شاريت على أمر ما في مشروع القرار الأميركي بشأن قضية فلسطين، وكان شاريت يرفض بعناد وتصميم.
ولم يكن الوفد الأمريكي، بطبيعة الحال، في حاجة إلى أن يلاحق بعض الوفود العربية إلى المرحاض ليقنعها بما يريد، فقد كانت بعض العواصم العربية تدور في فلك أميركا من غير ضغط ولا رجاء.. لا في المرحاض ولا خارج المرحاض..
ووافقت الأمم المتحدة على المشروع الأميركي، داعية لجنة التوفيق إلى أن تستأنف مهمتها، ومجلس الوصاية إلى وضع دستور لتدويل القدس.. ومناشدة الفريقين التعاون لتنفيذ القرار.
وكانت صيغة القرار هادئة وناعمة من غير شك، ليس فيها إدانة لإسرائيل، ولا تهديد بالعقوبات، ولا التزام بالحقوق والواجبات. لقد كان القرار كما عبرت في الجلسة الختامية.. قراراً بلا أسنان.(1/571)
وكان التفسير الوحيد لذلك القرار الهزيل.. أن شاريت قد رفض رجاء أميركا أجل لقد رفض رجاء أميركا وفي المرحاض.(1/572)
إيبان لم يهمس ولم ينبس
عادت الوفود العربية إلى بلادها في أخريات دورة لعام 1949، وعدت إلى دمشق لأقدم تقريرا إلى الحكومة السورية عما آلت إليه الأمور بصدد القضية الفلسطينية، وكانت أخبار الأمم المتحدة ومداولاتها قد سبقتنا إلى أسماع الأمة العربية، وإلى جماهير الشعب الفلسطيني خاصة.. وكان هم اللاجئين أن يتجمعوا حلقات في مخيماتهم ليستمعوا إلى الاذاعات وهي تنقل الأخبار عما يجري في قضيتهم في أروقة الأمم المتحدة.
وفي دمشق زارني عدد من وفود اللاجئين يستوضحون في نقمة وغضب.. عما كان وما سيكون ... . ولماذا ما قلنا هذا.. وما عملنا ذاك.. وإلى متى هذا الانتظار ... . وكان بعضهم يسأل لم لم ننسحب من الأمم المتحدة، ولماذا لم نطلب فرض العقوبات على إسرائيل.
وكنت أشرح وأوضح لوفود اللاجئين جهدنا في الأمم المتحدة- جهد المقل- وأنا أدعوهم إلى المزيد من الصبر، والثقة بالمستقبل، لم أكن انجو، وهم يردون عليّ، من ملاحظات موجعة وانتقادات لاذعة، كأنني المسؤول عن نكبتهم والعقبة دون عودتهم.. وكنت أصبر على ذلك، فما أنا إلاّ لاجئ مثلهم غضبتهم غضبتي، ونقمتهم نقمتي.
وأقبل ربيع عام 1950 وإذا" بالأمر" يصدر أن أسافر إلى سويسرا لأُمثل الحكومة السورية أمام لجنة التوفيق وهي تستأنف عملها من جديد،(1/573)
ولأمثلها كذلك في مجلس الوصاية الذي ينعقد في جنيف لوضع مشروع دستور لمنطقة القدس.. فاستخرت الله وصدعت بالأمر.
وغادرت حجرتي في الفندق إلى مقعدي في الطائرة، وحومنا فوق غوطة دمشق وهي تتنفس أريجا وعطرا، ومددت يدي إلى حقيبتي- إلى ملفاتي- أُقلبها وأقرأ المذكرات والتقارير، ولم أرفع بصري إلاّ حين سمعت قائد الطائرة يقول: هذه جبال الالب على يمينكم.
ومددت بصري من وراء النافذة إلى جبال الألب مكسوة بالثلوج يلفها رداء ذهبي من شعاع الشمس. وفي ومضة خاطفة عادت بي الذاكرة أحد عشر قرنا إلى الوراء، وكادت الكلمة أن تقفز على لساني: هنا كان العرب يقفون على ممرات الألب يفرضون على المسافرين الاتاوات.. وهنا كانت" مخافر" العرب تفتش حقائب الغادين والرائحين.
ورحت أضرع وأتوسل: فيم يا رب هذا العذاب، ولم هذا العقاب.. لقد كنا حكاما على هذه القمم الشماء، ونجيء اليوم نلتمس تدويل القدس في جنيف ... ونتوسل عودة اللاجئين من لجنة التوفيق.. لجنة الدبلوماسيين المتقاعدين.
ولم أَصحُ من هذه الاشجان والذكريات إلاّ حين هبطت بنا الطائرة في مطار جنيف وقد ألقت الثلوج من حوله غلالة ناصعة السناء والبهاء.
وقد اختارت لجنة التوفيق أن يكون مقرها هذه المرة في جنيف بدلا من لوزان.. ومن يدري فلعل المكان يفتح آفاقا جديدة من العمل.. وكان هذا الرأي متفقا مع رغبتنا فإن مجلس الوصاية سيعقد جلساته في جنيف في مقر عصبة الأمم البائدة وقد أصبح المقر الاوروبي للأمم المتحدة.(1/574)
وصرنا نتعاقب على العمل فترة مع لجنة التوفيق، وفترة أخرى في مجلس الوصاية، وصادف هذا التدبير هوى في نفوس أعضاء لجنة التوفيق، فكلما امتد العمل تعاقبت الشهور وتعاظمت معها الرواتب..أمّا اللاجئون . فهم في خيامهم مستقرون إلى يوم يبعثون.
وتجمعت الوفود العربية مرة ثانية في جنيف فأخذنا نتشاور ونتباحث..ماذا نعمل وكيف نعمل.. وجاء عن إسرائيل وفدان، واحد يمثل إسرائيل أمام لجنة التوفيق يرئسه "ايتان" والثاني يمثلها أمام مجلس الوصاية يرأسه إيبان.
ومرة ثانية كانت اجتماعات جنيف خطوة واسعة في الإيجابية ... والابتعاد عن السلبية.. ففي لجنة التوفيق قضينا الأسابيع تلو الأسابيع ونحن نكرر مطالبنا في إطار بروتوكول لوزان، وما ينطوي عليه من تطبيق عملي لقرار التقسيم..حتى لقد ذهبنا إلى الموافقة على تأليف لجنة فنية مشتركة من العرب واليهود لتنظر في المحافظة على البيارات العربية وصونها من التلف والهلاك ... واستلام ريعها ودفعه لأصحابها. والوفد الإسرائيلي يطلب التعليمات من تل أبيب، وينتظر التعلميات من تل أبيب !!
وبدأنا عملنا في مجلس الوصاية عامة وتكلم عدد من الوفود معبرين عن وجهة نظرهم بصورة إجمالية وجاء دور الوفود العربية وإسرائيل.. فأعلن الأردن وإسرائيل أنهما يرفضان التدويل رفضا باتا.. وأشار "ابيان" إلى أن الأماكن المقدسة هي في القدس القديمة في حوزة الأردن.. وأنّ القدس الجديدة ليس فيها مقدسات ذات شأن.. وأنّ إسرائيل على كل حال مستعدة لإعطاء التأكيدات القاطعة بحماية الأماكن المقدسة الموجودة في إسرائيل(1/575)
وتوفير حرية الزيارة والعبادة.. وفي ختام حديثه قرأ إيبان نص خطاب ألقاه بن غوريون رئيس وزراء إسرائيل في الكنيست يقول فيه "ان القدس هي عاصمتنا الخالدة.. كذلك كانت قبل ثلاثة آلاف سنة وكذلك ستكون إلى الأبد ... وإنّ الأمم المتحدة لن تستطيع أن تنفذ التدويل ... "وجاء دور الدكتور فوزي الملقي فألقى بيانا عارض فيه التدويل بصورة حاسمة.." وتكلم كل من السيدين عبد المنعم مصطفى وفؤاد عمون في شرح قرار الأمم المتحدة بالتدويل وأنّه تكليف من الهيئة الدولية إلى مجلس الوصاية وما عليه إلاّ أن يباشر عمله بوضع مشروع الدستور ورفعه إلى الأمم المتحدة لتنظر فيه من جديد ... وكان هذا الموقف منسجما مع قرار الجامعة العربية.. وجاء دوري في الكلام فأمسكت بخطاب بن غوريون، منددا بما قاله من أن القدس هي عاصمة إسرائيل الأبدية.. وما يحمل ذلك من تمرد على الأمم المتحدة.. وما إسرائيل إلاّ وليدها ولد على فراشها.. وتحدثت بعد ذلك بإسهاب عن تاريخ القدس، ودخول عمر بن الخطاب اليها، والعهد الذي أعطاه إلى نصارى القدس بالحرية والأمان.. وسردت الأرقام والاحصاءات التي تثبت أن اليهود لا يملكون حتى في القدس الجديدة أكثر من 28 بالمئة من أراضيها وممتلكاتها.. ثم لخصت الموقف بالنسبة للتدويل على الوجه الآتي:
أولاً: التمسك بالسيادة العربية الكاملة على فلسطين بأجمعها وعلى القدس، شطريها القديم والجديد، في جميع الظروف و الأحوال.
ثانيا: أن التدويل هو مرحلة انتقالية حتى يتم الوصول إلى حل نهائي للقضية الفلسطينية على أساس الحق والعدل وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره في وطنه.(1/576)
ثالثا: أن لا يكون التدويل مرحلة تمهيدية لتهويد القدس.
رابعا: تجريد القدس من السلاح وإعلانها منطقة محايدة.
خامسا: منع الهجرة اليهودية إلى القدس.
سابعا: أن تكون السلطة الفعلية للأمم المتحدة.
وثار إيبان وهاج وماج، فقد رأى في هذه التحفظات والشروط نسفا جوهريا للتدويل تحت شعار التدويل، وما هو أهم من ذلك فقد رأى في هذا الموقف إقصاء إسرائيل عن القدس، وإسرائيل ما فتئت تعلن أن إسرائيل من غير القدس جسد من غير رأس، وجثة من غير روح.
فأعلن إيبان رفضه للمقترحات التي تقدمت بها.. وأنّه يستحيل تنفيذها، وأنّ "المستر شقيري" لا شأن له في القدس وليس لسوريا شبر واحد فيها.. وأنّ القدس قديمها وجديدها بيد اثنين- الأردن وإسرائيل.. وهما يعارضان التدويل.
وسكت الدكتور فوزي الملقي .. ولم يُحِره جوابا.. لقد حشره إيبان في معسكره..وبرزت الصورة أمام المجلس وكأنما الأردن وإسرائيل متفقان.. وما شأن العرب الآخرين؟
وساد الصمت فترة من الزمن ومجلس الوصاية ينتظر كلمة، ولو نظرية، تكسر الثلج.. فرفعت يدي أستأذن بالكلام.. وحدّق بي رئيس المجلس واعضاؤه ماذا عساي اتكلم.. وحدّق بي الملقي وإيبان ماذا عسى أن اقول.
قلت إنني أريد أن اشرح موقف الأردن وعلى مسمع من وفد الأردن.. وأمسك الأعضاء بأقلامهم ينصتون باهتمام.." والمسكين" فوزي الملقي يتلظى في أسوأ موقف واجهه في حياته.(1/577)
وبدأت أتكلم عن بسالة الجيش الأردني وعن بطولة الشعب الفلسطيني وكيف أمكن صون القدس القديمة من الغزو الصهيوني والإرهاب اليهودي في عامي 1947 و 1948. وأنه لولا الصمود العربي لاستطاعت إسرائيل أن تحتل القدس القديمة وتجعل المسجد الأقصى وكنيسة القيامة ردما وأنقاضا.. وأنّ الأردن يرفض التدويل لأنه جزء من قرار عام ( 1947) رفضته إسرائيل.. فإذا واقفت إسرائيل على القرار العام فإن الأردن مستعد لأن يعيد النظر في موقفه من التدويل.
ورفع الملقي وجهه يتنفس الصعداء بعد هذا المخرج.. وهو لا يستطيع أن يقول فيه.. لا.. وبهت ايبان.. وأصبح في موقف الرفض وحده.. يواجه المجلس وحده..
وختمت حديثي وأنا أوجه إلى المجلس، السؤال الصارخ.
- هل إسرائيل مستعدة للعودة إلى خطوط التقسيم؟
- هل المستر ايبان، مستعد أن يعلن موافقة إسرائيل على الانسحاب من الأقسام المخصصة للعرب؟
وتحول المجلس، رئيسه واعضاؤه، إلى المستر ايبان.. ليجيب. ليقول كلمة.. وخيّم على المجلس صمت وسكون.. ولم يهمس إيبان ولم ينبس، وأعلن الرئيس تأجيل الجلسة" إلى الغد لنبدأ العمل".
وخرج إيبان وقد خسر الجولة الأولى.
وعدنا في اليوم التالي إلى العمل.. يضع المجلس مشروع الدستور مادة مادة.. ثم يجري النقاش حولها.. ومضت ثلاثة أسابيع ففرغ المجلس من المشروع بكامله.. ثم شرع في القراءة الثانية فناقشه، وعدل وبدل، وانتهى(1/578)
منه في القراءة الثالثة،وأقرّه بصيغته النهائية ليرفعه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها التي تعقدها في خريف عام 1950.
وقد جاء مشروع دستور القدس محققا لمطالب العرب في مجموعه، فقد نص على حياد المنطقة، وتجريدها من السلاح تحت إدارة دولية فعلية، ونص كذلك على حق العودة للنازحين من القدس، وأن يعودوا إلى منازلهم وأملاكهم، وعلى وقف الهجرة والاحتفاظ بالستاتكو- الوضع الراهن.
وعلى هذا حافظ مشروع الدستور على عروبة منطقة القدس تحت اسم التدويل..
وفي الجلسة الختامية ألقى إيبان بيانا مطولا فند فيه مشروع الدستور وأنذر المجلس بأن إسرائيل لن توافق على تنفيذه، وأنهّا باقية في القدس الجديدة تمارس سيادتها ولن تسمح لأية سلطة دولية بالدخول إليها.. وأنه يناشد المجلس أن يعيد الأمر إلى الأمم المتحدة لتضع تعليمات جديدة على ضوء معارضة إسرائيل والأردن للمشروع، وهما صاحبتا القول الفصل.
وتطلع الأعضاء مرة ثانية إلى السيد فوزي الملقي ليقول كلمة ، ولكن أنى له أن يتكلم والملك عبد الله في عمان يعلنها حرباً شعواء على التدويل . وليته أعلنها حربا على إٍسرائيل لاحتلالها القدس الجديدة.
ومرة ثانية طلبت الكلمة وقلت :انني أتكلم على مسمع من الأردن.. إذا كانت إسرائيل مستعدة للانسحاب إلى خطوط التقسيم فإن الأردن مستعد أن يعيد النظر في موقفه من التدويل.. قهل المستر إيبان مستعد لإعلان ذلك؟
غير أن إيبان لم يهمس ولم ينبس، وانتهت الجلسة وهكذا خسر إيبان الجولة الثانية.(1/579)
ولكن أي نصر لنا هذا.. وأي هزيمة لإسرائيل .. ان النصر في الوطن، والهزيمة في الوطن.
لقد انتصرت إسرائيل في الجولة الأولى في عام 1948 فوقعت القدس الجديدة تحت أقدامها، ثم انتصرت إسرائيل في الجولة الثانية في حزيران عام 1967 ووقعت- القدس القديمة تحت أقدامها.
وضج المسجد الأقصى وامعتصماه!ولا يزال
وصاحت كنيسة القيامة واقيامتاه! ولا تزال(1/580)
شاريت لم يهمس
ونوري السعيد لم ينبس
في ربيع 1950 كان عملنا ناجحا أمام مجلس الوصاية بالنسبة إلى موضوع " القدس" فقد جاء الدستور محققا للمطالبة العربية. على الورق، وهو أضعف الإيمان.
ولكن عملنا أمام لجنة التوفيق لم يحالفه التوفيق حتى على الورق ... فقد استمرت المباحثات في حلقة مفرغة تبتدي من حيث تنتهي.. ثم تعود لتنتهي من حيث تبتدي ... واليهودي العادي، بلحمه ودمه، مفاوض مساوم محاور مداور. منذ كان مرابيا إلى أن غدا صرافا.. وها هو الآن أمام لجنة التوفيق في جنيف صاحب "دولة" يضيف إلى تقاليده القديمة الألاعيب السياسية، تسندها الانتصارات العسكرية في الميدان.
ولم تكن إسرائيل تخفي ذلك بل إنها لم تكن تجد حرجاً لإعلان ذلك.. فقد حاولت أمريكا بقفازها الحريري، ولسانها المغموس بالشهد المصفى، أن "تضغط" على إسرائيل لتكون أكثر تعاوناً مع لجنة التوفيق في أداء
مهمتها.. واجتمع السفير الأمريكي في تل أبيب إلى بن غوريون رئيس وزراء إسرائيل، يلتمس ويرجو ويناشد ، فما كان من بن غوريون إلا أن أعلن للسفير الأميركي قوله: "نحن غير مستعدين أن نخسر على مائدة المفاوضات ما ربحناه في ميدان المعركة".(1/581)
كان ذلك لب الموقف الذي اتخذه الوفد الإسرائيلي أمام لجنة التوفيق لا يتنازل عن شيء إلاّ في مقابل شيء آخر.. يعلن أنه أعطى في جهة.. وإذا به يسلب أكثر مما أعطى في جهة أخرى.
والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، وقد أعلنت إسرائيل في بداية المباحثات مع لجنة التوفيق، أنها مستعدة لقبول جميع اللاجئين الموجودين في قطاع غزة، ويبلغون 350 ألفا.. وكانت هذه الخطوة باهرة ومذهلة.. لا يكاد يصدقها العقل.
ثم أردفت إسرائيل بعد ذلك.."وأنّ إسرائيل لكي تستطيع قبول اللاجئين لا بد أن يضم إليها قطاع غزة". وهكذا لتعود الصورة مظلمة تلفها الظلمات!
وأعلنت إسرائيل مرة أخرى أن خطوط الهدنة غير صالحة.. إنها تثير التوتر والقلق.. إنها متعبة للفلاحين العرب.. ان خط الهدنة يقسم بعض القرى إلى شطرين ... ان خط الهدنة يفصل الفلاحين العرب عن آبارهم ومراعيهم وأراضيهم ... ويجب إزالة هذه المتاعب والمصاعب.. ويبتهج السامع حين يسمع أن إسرائيل تشكو من مشاكل خط الهدنة..وتشفق على الفلاحين العرب مما يعانون.. المدرسة في القطاع الإسرائيلي والطلبة في القطاع الأردني.. البئر في القطاع الإسرائيلي والمواشي في القطاع الأردني.. المراعي في القطاع الإسرائيلي والراعي في القطاع الأردني. المستشفى في القطاع الأردني ومطابخه في القطاع الإسرائيلي. الميت في(1/582)
القطاع الإسرائيلي والجبانة (1) في القطاع الأردني.. تلك كلها حقائق نابضة على طرفي خط الهدنة..
ولكن إسرائيل تردف وتقول يجب أن تضم هذه المواقع الأردنية إلى القطاع الإسرائيلي ليستريح الفلاحون والرعاة والطلاب والمرضى.. ويكون الفلاحون والجنازة والميت على أرض واحدة، رحمة بالموتى وإشفاقا على الأحياء.
وطال الحوار بيننا في لجنة التوفيق، نريد أن نضع نهاية للمهزلة التي تمثل في جوف المأساة، فإسرائيل لم تبال بقرارات الأمم المتحدة، ولا بروتوكول لوزان.. بل ان بروتوكول لوزان كان "ورقة رابحة" بيد إسرائيل.. فقد حملتها وذهبت بها إلى مجلس الأمن تثبت التزامها بالواجبات الدولية متقدمة بطلب الانضمام إلى عضوية الأمم المتحدة.
وكانت فرصة حاسمة للولايات المتحدة.. لو أرادت أن لا توافق على قبول إسرائيل عضوا في الأمم المتحدة إلاّ حين تذعن لقرارات الأمم المتحدة وتوافق على عودة اللاجئين إلى بلادهم ولكن أنّى لأمريكا أن تفعل ذلك أو ما هو أقل من ذلك.. وإسرائيل هي الولاية الحادية والخمسون في جمهورية الولايات المتحدة !
وكل ما رضيت إسرائيل أن توافق عليه مع لجنة التوفيق هو" تجميع العائلات" والإفراج عن الأرصدة المجمدة.
وقد هللت إسرائيل لهذه الخطوة "العظيمة"، وطبّلت اللجنة مع إسرائيل وزمرت لهذا النجاح العظيم ووجدت فيه "مادة" تضعها في تقرير إنجازاتها
__________
(1) * الجبانة: المقبرة.(1/583)
ونجاحاتها لترفعه إلى الأمم المتحدة لتقرر استمرار مهمتها.. واستمرار الرواتب لمجموعة الدبلوماسيين المتقاعدين..
وصادف في ذلك الوقت أن جاء السيد فارس الخوري إلى جنيف ليكون عضوا في لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة، وكان قد تخلى عن رياسة الوزارة السورية.
ودعوت الوفود العربية إلى عشاء مع السيد الخوري وحضر المأدبة أعضاء لجنة التوفيق، وانقلبت المائدة إلى جلسة فأخذ السيد فارس الخوري يشرح الظروف التي صدر فيها قرار التقسيم وكيف أن الولايات المتحدة قد ألقت بكل ثقلها إلى جانب القرار وتحدث عن ذكرياته في فلسطين أيام كان معلما في عكا، وعن بياناته في البرلمان العثماني عن الحركة الصهيونية وغير ذلك وغير ذلك..
وهنا تساءل المندوب الأمريكي: وماذا تستطيعون أن تنصحوا لجنة التوفيق في سبيل أداء مهمتها.
فقال السيد فارس الخوري: إنني الآن مواطن سوري، وكنت بالأمس رئيس وزراء سوريا، وقدأصبح غدا.. ولكن الذي يمثل سوريا أمام لجنة التوفيق هو مضيفنا هذه الليلة- السيد الشقيري- وما يقوله يلزمني ويلزم سوريا بأكملها.
وأطرقت .. وحمدت الله في نفسي وقلت: العروبة في خير وها أن فلسطينيا "لاجئا" يمثل دولة بكاملها بما يقول ويفعل.(1/584)
وقضت اللجنة عامي 1950- 1951 وهي مشتتة في إطار "تجميع العائلات المشتتة" ومجمدة في سراديب "الأرصدة المجمدة" وتحسب ذلك كله أكبر انتصاراتها.
وقدمت اللجنة تقريرها إلى الأمم المتحدة وهي تفاخر أنها استطاعت أن "تفرج" للاجئين عن أموالهم.. وأن تضم ولدا إلى أبيه. وشيخا إلى ذويه..
وأقبل الخريف عام 1951 ومعه خريف الأمم المتحدة، حيث تتساقط أوراق الشعوب المستضعفة، وعقدت الدورة في قصر "شايوه" في باريس وعقدت معها الآمال الكبار، فستنجو الأمم المتحدة من تل أبيب الكبرى في نيويورك، وعسى أن تجد القضية الفلسطينية بعض الرحمة في شعار الثورة الفرنسية: الإخاء والحرية والمساواة.
وانطلقت خطوط الطيران من كل أرجاء العالم تحمل الوفود إلى الأمم المتحدة، ونفرنا نحن الوفود العربية، خفافا بعزائمها، ثقالا بأوراقنا، إلى باريس.. وكان اللقاء في قصر شايوه في باريس.
وكان مجلس الجامعة العربية قد أصدر قرارا بتعييني الأمين العام المساعد للسيد عبد الرحمن عزام (2-3-1951). وكانت الجامعة تحاول منذ زمن أن تختار مساعدا للسيد عزام الذي لم يكن يرغب في أن " يشاركه" أحد في الجامعة، وكانت كل دولة عربية تصر أن يكون الأمين العام المساعد من رعاياها، ولكن اختياري كان فيه إرضاء للسيد عزام وللحكومات العربيه معا، باعتباري فلسطينيا، ولأني للأمة العربية لا لدولة واحدة بالذات.
غير أن سوريا اشترطت غداة تعييني أن أعمل في الوفد السوري في الأمم المتحدة على سبيل الإعارة.. وهكذا كان فقد كنت مساعدا للأمين العام(1/585)
في الجامعة العربية في القاهرة، ممثلا لسوريا في الأمم المتحدة أثناء انعقاد دورتها. وقد استمر هذا الترتيب حتى عام 1957 حينما وافق الرئيس القوتلي على إعارتي إلى المملكة العربية السعودية، كما سيأتي ذكره في مذكراتي.
وحين انعقدت دورة الأمم المتحدة لعام 1951 في باريس أسندت رئاسة الوفد السوري إلى السيد فارس الخوري، وجئت معه نائبا له.. وما تزال كلماته تزن في أذني إلى ساعتي هذه.."والدك الشيخ أسعد صديقي وزميلي في البرلمان العثماني لقد مات منذ زمان.. ومن يدري فلعلها تكون آخر دورة أحضرها في الأمم المتحدة، أنت تباشر العمل.. ولي الرأي والمشورة، ويكفيني ما عملت لسوريا وللأمة العربية.. ولم يعد لي إلاّ أن أنتظر اليوم الموعود بكل رضاء وسكينة".
وقد هزتني هذه الكلمات السمحة وأصابت أعماق نفسي، وكان في الدورة عدد من رجال العرب المعروفين: محمد صلاح الدين وزير خارجية مصر ومعه الدكتور محمود فوزي والسفير عدلي اندراوس، وشارل مالك عن لبنان، وفاضل الجمالي عن العراق، بالإضافة إلى رهط كبير من ساسة العالم، فمضيت أواصل الليل والنهار،أعمل بعزم وحماسة، وكلمات فارس الخوري تضاعف من عزمي وحماستي.
وقد بالغت إسرائيل في الاهتمام بتلك الدورة فقد ألحقت بوفدها عددا من الخبراء والصحفيين والمستشارين، وحدث أني كنت أسير في أروقة قصر شايوه ولاحظت من بعيد شخصا يمد إلي ذراعيه ليسلم ويصافح، وتفرست به فإذا به المحامي اليهودي "سالمون" من حيفا وكان من" زملائنا" أمام المحاكم،(1/586)
وهو من أصل بريطاني وهاجر إلى فلسطين، منذ عهد غير بعيد، وكان يتقرب إلى المحامين والقضاة العرب ويظهر لهم المودة..
وأدركت، .. دون أن أتردد لحظة واحدة، أن أجهزة التصوير اليهودية تداعت لهذه المناسبة ... حتى إذا تصافحنا.. انطلقت الصورة في العالم أن الشقيري وسالمون عضو الوفد الإسرائيلي يتحادثان في قصر شايوه.
ولذلك سارعت.. دون أن أتردد لحظة واحدة.. إلى تغيير طريقي في رواق آخر، وما أكثر المداخل والمخارج في قصر شايوه.. وبهذا فاتت على إسرائيل واحدة من مئات "المصايد" التي كانت تعدها في هذه المناسبات الدولية، تعدها لي ولغيري من الوفود العربية.
وكانت قضية فلسطين أولى القضايا.. فانبريت في اللجنة السياسية أشرح القضية، في جميع مراحلها متناولا تقرير لجنة التوفيق بالتحليل والإيضاح، منددا بإسرائيل لأنها تمن على اللاجئين بأموالهم المجمدة فتفرج عنها.. وكان فارس الخوري يجلس ورائي كأنه يستمع ليحمل إلى رفاقه الذين سبقوه إلى جوار الله آخر ما وصل إليه الأمر في فلسطين.
وكان إيبان مندوب إسرائيل الدائم، يرد ويحاول، ويؤكد رغبة إسرائيل في السلام مع الدعوة إلى المفاوضات المباشرة، ويشيد بالقرابة التي تجمع الشعبين الساميين- العربي واليهودي- ويتطلع إلى المستقبل لعودة الصفاء بينهما- وكان شاريت وزير خارجية إسرائيل يجلس وراء مندوبه ايبان.
وجاءت فرصتي لأفضح هذه الأسطورة التي تكررها إسرائيل في كل مناسبة وكانت الوثائق والمقتبسات بين يدي- فأخذت أتكلم وأتكلم..(1/587)
بدأت أولاً بأن أعضاء الحكومة في إسرائيل معظمهم من أوروبا الشرقية وذكرتهم واحدا واحدا باسمائهم وأعمارهم والمواطن التي نزحوا منها من روسيا وأوروبا الشرقية.
ثم تلوت ما جاء بالنص في دائرة المعارف اليهودية من أن اليهود في روسيا وأوروبا الشرقية ليسوا ساميين وأنهم من "الخزر" اعتنقوا الديانة اليهودية بعد موسى عليه السلام بعصور وأجيال.
أمّا ايبان، قلت مستطردا، فإنه من جنوب افريقيا.. يحمل الجنسية البريطانية، وعمل في المخابرات البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية.. و أخذت أتحدث عن العلاقات العربية اليهودية قبل قيام الحركة الصهيونية.. وماذا كان مقام اليهود الرفيع في العهد الأندلسي الزاهر.. وتطرقت إلى ذكر أسماء اليهود اللامعين الذي أصبحوا وزراء ونوابا وصحافيين وأساتذه وماليين في الوطن العربي، مشرقه ومغربه.
ولاحظت وأنا أتحدث أن "شاريت" وزير خارجية إسرائيل، قد أزاح إيبان عن مقعده وجلس مكانه وهو يتأهب للكلام.
فقاطعت نفسي بنفسي وقلت: لقد شبعت الأمم المتحدة خطبا من إسرائيل عن السلام، وها إنّي أرى المستر شاريت يتأهب للكلام عن السلام.. وسنستمع منه خطابا طويلا عن السلام وعن المفاوضات المباشرة.. وسأتوقف عن الكلام لأوجه سؤالا حاسما إلى المستر شاريت:
- هل توافق إسرائيل على تنفيذ قرارات الأمم المتحدة؟ وهل تريد إسرائيل من وراء المفاوضات المباشرة تنفيذ قرارات الأمم المتحدة.. نريد أن نسمع الجواب من المستر شاريت- نعم أو لا؟ وتوقفت عن الكلام، وساد(1/588)
الجلسة جو مثير، فلقد ألقيت "بالقفاز" في وجه إسرائيل، وتطلعت الأبصار- الأعضاء والمعاونون والتراجمة والطابعون والحراس- كلهم- صوب شاريت لتستمع إلى الجواب..
وراح شاريت يخطب ويخطب عن الحركة الصهيونية.. واضطهاد اليهود وحرب فلسطين عام 1948 وكيف أراد العرب أن يهدموا قرار 1947 بقوة السلاح وكيف، وكيف..
ولم يجب شاريت عن السؤال.. محاولا أن يغرقه في خضم الكلام الطويل.. وطلبت الكلمة مرة ثانية وقلت: لا أريد أن أخطب طويلا كما فعل شاريت، أريد أن أوجه سؤالا مختصرا، هل إسرائيل تدعو إلى المفاوضات المباشرة، لتنفيذ قرارات الأمم المتحدة؟.. أريد الجواب: لا أو نعم.
وتطلعت الأبصار مرة أخرى إلى شاريت تنتظر الجواب.. ولكن شاريت لم يهمس ولم ينبس.. وانتهت الجلسة من غير جواب.. وخرجنا من الجلسة وقد أقبل علي وفود الدول الأعضاء مهنئين بهذا النصر "العظيم"، لأنني وضعت إسرائيل في القفص، وأنني أسقيها سمها بكأسها.
ولم يكن أعضاء الأمم المتحدة يملكون إلاّ التهنئة وعبارات التشجيع والتقدير، فلقد مرغت أنف شاريت وإيبان في الوحل، وفعلت ذلك مرات في السنين المتعاقبة، ومعهما الأنف الأحدب "لجولدا ماير" رئيسة وزراء إسرائيل فيما بعد.. ولكن إسرائيل مرغت أنوفنا ووجوهنا في الوحل بكل عفنه ونتنه، في الميدان.. وفيه فصل الخطاب.
وجاء دور إعداد مشروع القرار كما هي العادة عند انتهاء المناقشة في كل قضية، وتولى الوفد الامريكي، كما هي العادة كذلك، وضع صيغة(1/589)
المشروع وعرضها على الوفود العربية و الوفد الإسرائيلي في محاولة لإرضاء الطرفين.
وجرى النقاش حادا بيننا وبين الوفد الأمريكي حول الصيغة، فقد كان الدكتور "جسب" رئيس الوفد الأمريكي حريصا على أن يبرز في مشروع القرار ما يلي:
1- أن مسؤولية تسوية النزاع تقع على عاتق الفريقين.
2- على الفريقين أن يتعاونا مع لجنة التوفيق لتسوية النزاع القائم بينهما.
3- أن السلام في الشرق الأوسط يقتضي تسوية قضية اللاجئين.
وقد حاولنا جهدنا مع الدكتور "جسب" وهو من عائلة "جسب" ذات الصلة المشهورة بالجامعة الأمريكية في بيروت، أن يشير إلى قرارات الأمم المتحدة من قريب أو بعيد.. ولكنه كان يعتذر
وقلت للدكتور جسب: أن الولايات المتحدة هي التي وضعت قرارات الأمم المتحدة بشأن فلسطين، فهل تخلف عنها؟
قال: لا.. أن الولايات المتحدة لا تزال تعتقد أنها قرارات واجبة التنفيذ.
قلت: إذن.. لماذا لا تشيرون اليها؟
قال: لا أستطيع. ان التعليمات أن لا أضيف كلمة واحدة على المشروع.
وانصرف الدكتور جسب متحديا، أنه سيطرح "صيغته" سواء وافقت الوفود العربية أم لم توافق.(1/590)
وكان لا بد لنا أن نقوم بمناورة من وراء ظهر الدكتور جسب، فاتصلت بالسفير طبيبي "ممثل افغانستان وهو معروف بمناصرته للقضية الفلسطينية شأن الافغان كلها ملكا وحكومة وشعبا، وطلبت إليه أن يقترح- إضافة في نهاية كل بند من البنود الثلاثة: "بموجب قرار الأمم المتحدة".
وكانت مفاجأة للدكتور جسب، فلم يستطع لا هو ولا الوفود الموالية لأمريكا أن يصوتوا ضد قرارات هم أصدروها. فصدر مشروع القرار بالصيغة المعدلة.
وخرج الدكتور "جسب" من الجلسة غاضبا محنقا وهو يقول "العرب دمروا مستقبلي".
ولكن مخاوفه لم يكن لها ما يبررها، فلم يدمر مستقبله، وقدأصبح فيما بعد قاضيا في محكمة العدل الدولية.. وأي عدالة ترجوها الشعوب المظلومة من هذا القاضي الذي يفكر مثل الموظفين الصغار.. وكل همه الحفاظ على وظيفته..
وهكذا كسبنا نصرا على الورق، وخرجنا من قصر "شايوه" مزهوين بهذا النصر- في الهواء..
وجاءني الدكتور فاضل الجمالي يقول لي: لقد وصل نوري باشا إلى باريس، وقد دعوته إلى الغداء، فلنذهب سوية ونتغدى معا.
قلت: مالي شأن في نوري باشا أنت زميلي في الدراسة، أمّا نوري فلا تربطني به رابطة.
قال: وأي ضرر في ذلك؟ ان نوري مسافر إلى إنجلترا، فلعله يستطيع أن يفعل شيئا مع أصدقائه الإنجليز.(1/591)
قلت: لا بأس.. فلتكن هذه واحدة من تجارب الحياة.
وذهبنا إلى السفارة العراقية، وجاء السيد نوري السعيد هاشا باشا والمسبحة بين يديه.. وكان معه السيد توفيق (السويدي) وزير خارجية العراق.
وسرد الدكتور الجمالي ما كان من أمري مع شاريت.. وكيف انتصرنا عليه!
فقال نوري السعيد: يا أخي هذه "لقلقيات" قلنا لكم ماية مرة، لا فائدة من الأمم المتحدة، هذا كله كلام بكلام.. لا ينفع.
قلت: يا باشا، أنا مع فخامتكم.. ما هو الذي ينفع.
قال: إسأل إخوانك السوريين، أنت تعمل معهم، هم يعرفون ما الذي ينفع..
قلت: يا باشا، ان قضية فلسطين ليست قضية سورية للسوريين، هي عربية لجميع العرب، أرجو أن تقول لي ما الذي ينفع؟
فاتجه نوري باشا صوب السيد توفيق السويدي وقال له: تكلم.. تكلم.. أنت تعرف الموضوع.. وكان نوري كلما أعيته الحجة يستعين بأصدقائه ليشرحوا وجهة نظره.
ولكن السيد توفيق السويدي أرجع الكرة إلى نوري باشا وقال له: يا باشا، الشقيري يريد أن يسمع منك ... وأخذ الباشا يشرح وجهة نظره.. "الجامعة العربية تجربة فاشلة.. المصريون ليسوا عربا ولا خير فيهم.. السوريون سيخربون سوريا.. السعوديون غارقون في الصحراء والنساء(1/592)
وانتم الفلسطينيين تنادون- الاستقلال أو الموت الزؤام- ونحن العراقيين قادرون أن ننفذ ما يمكن إنقاذه لو أن العرب يسيرون معنا.."
- قلت: وكيف تريدون أن يسير العرب معكم.. إذا كنتم قادرين فإن العرب يسيرون وراءكم.
قال: يا حبيبي.. إذا كنتم معقولين فنحن مستعدون أن نجد حلا معقولا مع أصدقائنا في لندن. بالتعاون مع الدول الإسلامية المتضامنة معنا في ميثاق سعد اباد.
قلت: وما هو الحل المعقول الذي ترونه.. الحل المعقول الذي تستطيعونه؟
قال: التقسيم، والرجوع إلى خطوط التقسيم.. نحن نستطيع بواسطة أصدقائنا في لندن أن نرغم إسرائيل على قبول هذا الحل.
قلت: وإذا لم تقبل إسرائيل.. وإذا لم ينجح أصدقاؤكم في بريطانيا.. فما هو العمل؟
قال: أنا ذاهب إلى لندن غدا.. وسنبدأ بمحادثات في بريطانيا، وستكون قضية فلسطين هي الأولى في مباحثاتنا، وسنعمل على إقناعهم بوجهة نظرنا.
قلت: وإذا لم تقبل إسرائيل.. فما هو العمل.. ما هو العمل.. هذا هو السؤال يا باشا.
ولكن الباشا لم يهمس ولم ينبس.. واكتفى بالقول إنه سيرجع من لندن بالجواب.. ولكن الباشا كذلك لم يرجع.(1/593)
وكرت الأيام، ووقع الانقلاب في العراق، وقتل الباشا في جملة من قتل على ساحة القضية الفلسطينية وأصبح الآن جثة هامدة لا يهمس ولا ينبس.
وكانت دورة الأمم المتحدة في عام 1951 تجربة إيجابية على طريق السياسة الايجابية ففشلت وأخفقت.
كان التعاون مع لجنة التوفيق تجربة إيجابية.
وكان توقيع بروتوكول لوزان تجربة إيجابية.
وكانت المطالبة بتنفيذ قرارات الأمم المتحدة تجربة إيجابية.
وحتى إنشاء لجنة عربية يهودية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من البيارات العربية كان تجربة إيجابية.
ولكن هذه التجارب الإيجابية كلها جاءت بنتيجة سلبية. وفشلت معها كذلك كل التجارب الإيجابية التي بذلها نوري السعيد على مدى أربعين عاما من صداقته وتحالفه مع الإنجليز.
وعلى الأجيال العربية أن تعلم علم اليقين. أن الشعوب لا تبلغ حريتها وسيادتها لا بالإيجابية ولا بالسلبية.
الشعب، أي شعب، يستنقذ وطنه، ويبلغ حريته وسيادته، بكفاحه وسلاحه.(1/594)
ذكريات مع العرب الأربعة..
ابو رقيبة والسنوسي...
ومحمد الخامس والأندلس
كانت دورة الأمم المتحدة لعام 1951 الدورة الأم بالنسبة للقضايا العربية. أو الدورة "القمة" بين جميع الدورات التي تعاقبت على الأمم المتحدة حتى يومنا هذا. فقد كانت في هذه الدورة وحولها كل القضايا العربية.. وما تحمل من المصاعب الدولية والخلافات العربية التي يمكن أن تخطر على بال.
وكنا نحن الوفود العربية في تلك الدورة نضرب في جميع الجهات ونقاتل كافة القوى الاستعمارية معا بالإضافة إلى إسرائيل.. والقوى الصهيونية التي تسندها.
فإلى جانب القضية الفلسطينية، كانت بين أيدينا قضايا السودان والجزائر وتونس وليبيا والمغرب. وكانت القضايا الثلاث الأولى تحوم في أروقة الأمم المتحدة من غير أن تكون مدرجة على جدول الأعمال.. أمّا قضيتا ليبيا والمغرب فكانتا على الجدول، بل وفي صميم الجدول.
ولم نكن نحن العرب الذين اخترنا "حشر" قضايانا كلها في دورة واحدة.(1/595)
أجل لم نكن نحن الذين اخترنا أن نخاصم الصهيونية والاستعمار معا وفي جميع الجبهات.. لقد كتب علينا القتال ولم يكن لنا فيه خيار.
وكان بعض "العقلاء" من العرب يهزأون من السياسة العربية في عام 1951 التي أقدمت على منازلة أمريكا وبريطانيا وفرنسا والصهيونية في وقت واحد، وفي قصر شايوه في باريس.
والواقع أن هذه التهمة بعيدة عن الإنصاف.. فنحن لم يكن لنا الخيار في هذه الحرب الجماعية التي أعلناها على الجميع.. ولكن الجميع هم الذين أعلنوا الحرب علينا ولم يكن أمامنا إلاّ أن نتصدى للدفاع عن حرياتنا وأوطاننا.
وكانت قضية السودان أولى المشاكل العربية- خارج جدول الأمم المتحدة- وقد جاء الاهتمام بها حين كان تقرير المصير موضوع مناقشة وتعليق. وكان للسودان وفدان مراقبان أحدهما يدعو إلى الإتحاد مع مصر والآخر يدعو إلى الاستقلال وممارسة حق ]تقرير[ المصير.
وكان الوفد المصري، وفد المملكة المصرية، مشدودا إلى تطلعات الملك فاروق في أن يصبح ملك مصر والسودان.. ودارفور وكردفان.. وبأي آلاء ربكما تكذبان.. وكان وفد مصر يؤكد أن حق تقرير المصير يجب أن لا يكرس الانفصال، ولا أن يحول دون الوحدة أو العودة إلى الوحدة.. وأنّ وحدة وادي النيل هي حقيقة تاريخية وأنّ هذه هي رغبة الشعبين في مصر والسودان.. وحدة تحت تاج فاروق.(1/596)
وكان في السودان من يرى هذا الرأي.. ومن يعارض هذا الرأي.. وقد شاع أمر هذا الخلاف السوداني-السوداني، والسوداني-المصري في أروقة الأمم المتحدة.
وقد وصل إلى باريس في تلك الدورة عدد من الإخوان السودانيين أذكر منهم السادة عبد الله خليل ومحمد أحمد محجوب ومحمد أحمد الشنقيطي ومبارك زروق و إبراهيم المفتي وحماد توفيق، يدعو بعضهم إلى الوحدة، والبعض الآخر إلى الاستقلال.. وأصبح هؤلاء من كبار رجال الدولة في ظل الاستقلال.. بعد أيام "شايوه" بأعوام.
وقد ضمَّنا عشاء، نحن الوفود العربية، في دار السفارة المصرية، وبعد الانتهاء من الوليمة خرجنا نحن الثلاثة، الدكتور محمد صلاح الدين وزير خارجية مصر والسيد عبد الرحمن عزام الأمين العام للجامعة العربية، وأنا، إلى غابة بولونيا لنزهة قصيرة .. نتخفف فيها من عمل النهار وتخمة العشاء.
وفي هذه الغابة الجميلة رأيت الفرصة جميلة.. أن أتحدث في أمر السودان.. وقلت للدكتور صلاح الدين.
- أما تكفينا القضايا العربية الكثيرة حتى نزيدها بمشكلة السودان؟ وهذا وفد السودان يتصل بوفود الدول الاعضاء، ويتحدث عن الوحدة والاستقلال.
قال صلاح الدين: لا أكتمك أن المشكلة عويصة ... وإن كنت لا أستحسن أن نعالج هذا الموضوع في الأمم المتحدة وفي باريس.
قلت: وما هي المشكلة العويصة؟(1/597)
قال:ماذا نصنع بالملك فاروق، ان تعليماته قاطعة،وماذا نعمل بحكومة "الوفد" وأنا منها.."الوفد" أصبح فيه كثير من العفن والفساد.
قلت: ولكن الأجدر أن نبقي العفن في موطنه، وأن لا ننقله إلى باريس ... ثم ان الوحدة والاتحاد لا يصنعان في الأمم المتحدة وانما يصنعان في الوطن.
قال: أنا معك، سأعطي التعليمات إلى الدكتور محمود فوزي والسفير عدلي أن يكفا عن الإشارة إلى هذا الموضوع في أحاديثهما ... وربنا" يعدلها" حينما نعود إلى مصر ...
وتدخل السيد عزام وقال: أنا متفق مع هذا الرأي، ولكن إلى متى يظل الشعبان في وادي النيل متباعدين؟
قلت: أنا أعلم انك متعصب للوحدة ولمصر.
قالد مداعباً: يجب أن تكون الأمين العام المساعد باسم السودان.
قلت: لماذا تريدون للسودان ومصر، ما لا تستطيعونه لسوريا والعراق، وهذان القطران بينهما من روابط الوحدة ما لا يقل عن روابط وادي النيل ... وعلى كل حال لنترك هذه الأمور للسودان يقررها في السودان لا في الأمم المتحدة.
وعدنا أدراجنا من نزهة الغابة ليعمل السيد صلاح الدين وعزام كل في دائرة اختصاصه على طي هذا الموضوع وترك أمر السودان يدور في فلك المستقبل الذي ينتظره.. اتحادا أو انفصالا، ولكن ليكن الاستقلال هو البداية.. وليكن حق تقرير المصير بعيدا عن الجدال والقيل والقال.. ودارت(1/598)
المناقشة في الأمم المتحدة بصدد تقرير مصير ووفد لا يتحدث عن وحدة مصر والسودان.
ثم جاءت قضية الجزائر تسعى مكسورة الجناحين.. فللجزائر نضال قديم، لعله سبق أي نضال عربي في المشرق والمغرب على السواء.. ولكن في تلك الدورة كانت الجزائر تعيش في جدال .. لا في نضال..
كانت باريس مليئة بالجزائريين.. العمال والمثقفين.. وقد أقاموا للوفود العربية حفلة كبرى..وكان السيد مصالي الحاج الزعيم الجزائري القديم من الشخصيات البارزة في الحفل.. بهندامه الوسيم، وطربوشه القائم ولحيته الطويلة السوداء.
ولم يكن" الاستقلال" مطلب الجزائريين في ذلك العام. وحتى لا أظلم الشعب الجزائري العربي المسلم، أقول إنه لم يكن مطلب عدد من الجزائريين المثقفين الذين زاروني في الفندق غير مرة.
لقد جاءوني ليطلبوا إلي أن أثير قضيتهم في إحدى خطبي على أساس" المساواة" في الحقوق والواجبات مع الرعايا الفرنسيين.. وكانت حجتهم منطلقة من المنطق الإفرنسي.. وكان المنطق الإفرنسي يعتبر الجزائر أرضاً فرنسية، وللجزائر نواب في مجلس النواب الفرنسي.. والدستور الإفرنسي ينص على كذا.. وكذا.. ، وأنه يجب أن يعامل الجزائريون كرعايا إفرنسيين.. بالعدل والمساواة وتمنح لهم حقوقهم بنسبتهم العددية.. ذلك كان جدل أولئك الجزائريين.
وقد أفجعني هذا المنطق.. وأفجعني أن أرى الاستعمار الإفرنسي قد تسلل إلى هذا العمق في نفوس بعض الجزائريين .. فقلت لهم:
-(1/599)
أرجو إعفائي من هذه المهمة – أنا لا أطلب المساواة مع الإفرنسيين.
قالوا: ولم لا يكون ذلك مرحلة.. حتى إذا بلغنا حقوقنا كاملة انتقلنا إلى مرحلة أخرى؟
قلت: المنطق الإفرنسي لا يمكن أن يكون مرحلة.. إنه التسليم..، ولا مانع من السير بالمراحل.. بشرط أن لا يكون التسليم هو المرحلة الأولى.. بعد التسليم لا مجال لمراحل أخرى.. التسليم هو نهاية المطاف.
ولم أكن أخلو من الحدة والغضب حين كنت أجادل أولئك الجزائريين فخرجوا من غرفتي وهم يرطنون بالإفرنسية.. لقد صان الله القضية الجزائرية ذلك العام من ذلك العبث إلى أن جاءت أيام النضال في سنة 1954 وما بعدها، فساهمت مع الوفود العربية في عرض القضية الجزائرية ولكن على أساس الاستقلال، لا على أساس المساواة.
وعلى خلاف القضية الجزائرية، فقد دخلت قضية تونس إلى أروقة الأمم المتحدة في ذلك العام تمهيدا لأن تدرج على جدول الأعمال في الأعوام المقبلة.
وكان في تونس في عام 1951 وما قبله حركة وطنية ناشطة، إضرابات ومظاهرات، وسجون ومعتقلات، وكان السيد الحبيب بورقيبة محتجزا في إحدى ضواحي باريس.. وكان يرئس حكومة تونس السيد شينق، فجاء إلى باريس مع عدد من وزارئه منهم السيد صالح بن يوسف والسيد محمد بدره.. ليكونوا على مقربة من الأمم المتحدة.. فلعلهم يجدون فيها العون والنصرة.(1/600)
واتصلوا بي واتصلت بهم.. وأحبّ أن أعترف هنا أنني كنت أتصدى للقضايا الوطنية واتصيد المشاكل الدولية.. فلم أكن أشعر نفسي دبلوماسيا محترفا موظفا .. ولم أكن قد ربيت على تقاليد الوظائف في طلب التعليمات.. أو حتى التقيد بالتعليمات.. فأنا إنسان فقدت وطني.. ونشأت في نفسي عاطفة جارفة في أن أنجد كل من كانت له مصيبة في وطنه.. فما بالك إذا كان الوطن عربيا والشعب عربيا..
وكانت الوفود العربية الأخرى لا تتحرك إلاّ بالتعليمات من حكوماتها.. وكان هذا هو الأمر الطبيعي.. ولكني كنت.. وأنا أعترف للمرة الثانية، لا أشعر بولاء للحكومة التي أمثلها.. كان ولائي لأي قضية يتجاوز القطر الذي أمثله.
وكنت أعتمد على الدوام في مغامراتي في الأمم المتحدة، على أن القضية التي أعالجها هي قضية عربية أو متصلة بقضية عربية.. وهل تستطيع "حكومتي" أن تخالفني أمام الرأي العام العربي. وعلى هذا النهج عملت في الأمم المتحدة السنين الطوال رئيسا للوفد السوري ثم رئيسا للوفد السعودي إلى أن جاءت مشكلة اليمن في عام 1962، فكانت مغامرتي الأخيرة، فصلت من عملي، أو طردت من منصبي، كما أذاع راديو لندن !
وكان أن طاف الوفد التونسي على الوفود العربية يرجوها كلمة خير في الأمم المتحدة، فأبرقت الوفود إلى حكوماتها تطلب الموافقة، وتأخر جواب البعض، وتردد البعض الآخر..
- لا بأس عليكم، أنا أنوب عن الوفود العربية كلها.. تعالوا معي إلى الأمم المتحدة.(1/601)
وجاء الوزيران محمد بدره وصالح بن يوسف معي إلى الأمم المتحدة، ومن غير أن أطلب أية تعليمات من دمشق، دعوت إلى مؤتمر صحفي في "وسط" الأمم المتحدة للحديث عن القضية التونسية.
وتجمهر الصحفيون في القاعة،وتصدرت المؤتمر وعلى يميني الوزير بدره، وعلى يساري الوزير بن يوسف، ولم اقل إلاّ كلمة واحدة:
- أدعو سعادة الوزير صالح بن يوسف أن يحدثكم عن القضية التونسية.
وكانت "قنبلة" هائلة، ضج لها المؤتمر الصحفي. . ومضى الوزير بن يوسف في بيانه الصحفي "بحدته" المعروفة، واشاراته وصيحته..
وثارت الحكومة الافرنسية.. وتساءلت كيف استطاع الوزير التونسي أن يهاجم فرنسا، وفي قصر شايوه في باريس، وليس له مكان في الأمم المتحدة، وليست تونس عضوا في الأمم المتحدة؟ وثار تريجفى لي السكرتير العام للأمم المتحدة، وتساءل كيف استطاع شخص"غريب" أن يدخل الأمم المتحدة وأن يعقد فيها مؤتمرا صحافيا.
ولكن "الثورة" تنفست، حين أظهر التحقيق أنّ "الوفد السوري" هو الذي عقد المؤتمر الصحفي، فذلك حق.
وعاد رئيس الوزراء التونسي السيد شينق وزملاؤه وقد قضوا وطرهم، فقد بسطوا قضيتهم في باريس ولم يكونوا يطمعون بأكثر من ذلك.
وجاءني الوزيران بدره وبن يوسف يودعاني وبيدهما "توكيل" باللغة الافرنسية، باسم الحكومة التونسية، يفوضني الدفاع عن القضية التونسية أمام الأمم المتحدة.. وأنّ "الزعيم" الحبيب بورقيبه يبلغني التحية ويرجو الله أن(1/602)
يكون قادرا على مكافأتي في قضية فلسطين.. فاستلمت" التوكيل" وهو لا يزال بين أعزّ الاوراق التي أحتفظ بها..أمّا مكافأة الزعيم الحبيب بورقيبة فقد عرفها الشعب الفلسطيني يوم دعا الرئيس بورقيبة إلى الصلح مع اليهود.. حين يأتي ذكرها في مكانها..
ولكن هذا الحادث التونسي قد أحدث أزمة سورية فرنسية ولم يمض الأمر من غير عتاب أو حساب، فقد كان السيد أديب الشيشكلي صاحب الأمر والنهي في دمشق، قلب" انقلابا" عسكريا سابقا، وقد اتصل به السفير الفرنسي في دمشق محتجا على تصرفات هذا" الشقيري" الفلسطيني غير المسؤول.. وكانت بعض الصحف الإفرنسية وخاصة ذات الميول الصهيونية قد هاجمت هذا التصرف من "فلسطيني" غير مسؤول، موظف لدى سوريا، ولا يمثل أحدا إلاّ نفسه.
فأبرق السيد الشيشكلي إلى السيد فارس الخوري رئيس الوفد يطلب إليه أن يراعي عواطف فرنسا "لأننا نستورد منها الأسلحة" فأجاب رئيس الوفد بأن الموضوع قد انتهى وأن الوفد التونسي قد عاد إلى بلاده.. ولكن ذلك كان في نطاق البرقيات السرية، فإن أحدا لا يجرؤ أن يمنع تأييد قضية عربية.. وقلت للسيد فارس الخوري مداعبا، ليتك أبرقت للسيد الشيشكلي: إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من سلاح..
ومما عزز موقفي إزاء الشيشكلي أن الوفود العربية قد قاطعت الحفلة التي أقامتها وزارة الخارحية الإفرنسية على شرف وفود الأمم المتحدة، وكانت قد اتخذت قرار المقاطعة بسبب إجراءات القمع التي كانت(1/603)
تقوم بها السلطات الإفرنسية في تونس ... وكأنما جاءت هذه المقاطعة العربية "لتحميني" أمام الشيشكلي.
ولم تكد تنتهي هذه العاصفة التونسية التي هبّت على الأمم المتحدة حتى اجتاحتها عاصفة عربية أخرى.. هي القضية الليبية وكانت مدرجة على جدول الأعمال في صدور تقرير الدبلوماسي الهولندي "اوريان بلت" مندوب الأمم المتحدة في ليبيا.
وكانت القضية الليبية، بما وراءها من كفاح دام خاضه الشعب الليبي البطل لعشرات السنين، تتأرجح في المحافل الدولية بعد الحرب العالمية الثانية. وكان الخطر يحدق بها أن تقسم بين الدول الكبرى- مشروع سفورزا- لولا أن صلابة الشعب الليبي في الداخل والمد التحريري العالمي في الخارج قد حالا دون ذلك.. ولم يسع الأمم المتحدة إلاّ أن تعترف بحق الشعب الليبي في الحرية والاستقلال.
وكانت المشكلة القائمة في عام 1951 حول نظام الحكم في ليبيا، هل يكون فدراليا أم اتحاديا..حول القواعد الأجنبية هل تصفى أولاً ثم يعطى الاستقلال، أو يمنح الاستقلال ثم ينظر بعد ذلك في تصفية القواعد الأجنبية.
وكانت هذه الأمور كلها موضوع صراع بين أمريكا وروسيا وبريطانيا.. وكان موقف الإتحاد السوفيتي: الاستقلال الناجز وتصفية القواعد العسكرية معا.
وإلى جانب هذه المشكلات الداخلية والدولية كانت تحت سطح الماء مشكلة عربية يتحرك تيارها من حين إلى حين.. فقد كانت المملكة المصرية على خلاف مع ليبيا بشأن الحدود. أيُّ الواحات لمصر وايها لليبيا.. وكان(1/604)
رجال القصر في القاهرة يشيرون على الملك فاروق أن "يتقاضى" ثمنا لتأييد استقلال ليبيا وليكن الثمن تصحيح الحدود، يضاف إلى هذا أن الجامعة العربية نفسها لم تكن حازمة في معالجتها للقضية الليبية، ففي 31-3- 1949 أصدر مجلس الجامعة قرارا يقول فيه بلا مواربة ولا مداورة.."يرى المجلس ضرورة المطالبة باستقلال ليبيا.. فإذا هزمت الدول العربية في موقفها هذا وكان الاتجاه إلى وضع ليبيا تحت الوصاية فيرى أن تكون الوصاية في هذه الحالة للدول العربية أو أن تشترك فيها".
وفي قرارات لاحقة كان مجلس الجامعة يقرر تكليف مصر متابعة القضية الليبية، كما لو كانت قضية مصرية.. لا قضية مصيرية للشعب الليبي.
وفي خضم هذه "المشاكل" وصل الوفد الليبي، السيدان عمر منصر
(رئيس الوزراء فيما بعد)، وفتحي الكيخيا(وزير الخارجية فيما بعد)، ليدفعا السفينة إلى شاطئ السلامة، وكان مع الوفد السيد عوني عزيز الداودي المحامي الفلسطيني، مستشارا قانونيا.
وزارني الوفد الليبي عدة مرات طمعا في أن أؤيدهم بلا قيد ولا شرط. ولم تكن بي حاجة لأن يقنعني أحد.. فالقضية الليبية قضية عربية.. وشعبها قدم أعظم التضحيات في سبيل حريته.. ثم إنني كنت أبحث عن "صيد" وخاصة إذا كان الخصم بريطانيا وأمريكا.. فإذا كنت عاجزا عن أن أثأر من هاتين الدولتين في قضية فلسطين فلأثأر منهما في قضية ليبيا.. أو حتى في أية قضية دولية أخرى.(1/605)
وجاءني بعد بضعة أيام السيد فتحي الكيخيا ليقول لي: ان الملك إدريس السنوسي يرى أنك بعيد عن الخلافات العربية وهو يرجوك أن تعمل على تأييد القضية الليبية من غير قيد ولا شرط، وليكن الاستقلال أولاً، ثم تحل المشاكل الأخرى، فقلت له: وهذا هو رأيي بالتحديد.. وأرجو أن تتبناه الوفود العربية ونعمل معا على تأكيده في الأمم المتحدة صفا واحداً.
وعزمت أن أفاتح الوفد المصري حتى نزيل المشكلة العربية أولاً.. واجتمعت بالسيد عبد المنعم مصطفى وكان مكلفا بمتابعة الموضوع عن وفد مصر.. ولم أكد أبداً في شرح وجهة نظري حتى برزت "نرفزته" المعروفة، وهو لا يدري بأي لسان يتكلم في الأمم المتحدة ليقحم موضوع الحدود الليبية المصرية..وراح يناشدني أن أكاشف الدكتور محمد صلاح الدين وزير خارجية مصر، لأنقذ "عبد المنعم مصطفى" من هذه الورطة، وننقذ القضية الليبية معه.
وسارعت إلى وزير خارجية مصر فوجدته في "خلوة" مع السيد عبد الرحمن عزام في إحدى غرف الأمم المتحدة.. وقلت.. "الحمد لله لقد وجدتكما معا".
فقال صلاح الدين: ومتلبسين.
قلت: متلبسين بالخير ان شاء الله.. وقضية ليبيا محتاجة إلى الخير.. وإليكما معا. وأفضيت بوجهة نظري، شارحا ما ينجم من خطر على استقلال ليبيا إذا ترك أمرها للدورات المقبلة، حتى تحل مشاكل الحدود مع مصر، ومشاكل نظام الحكم ومشاكل القواعد الأجنبية.. ووافق صلاح الدين وأيدّه عزام دفعا للحرج في القاهرة، أن يتولى "الوفد السوري" قيادة القضية في(1/606)
الأمم المتحدة وأن تؤيده الوفود العربية الأخرى.. على أساس الاستقلال الفوري لليبيا من غير تحفظ ولا شرط.. وأن تترك مشاكل المستقبل للمستقبل.
ونهضنا وتعانقنا على هذه النتيجة السارة.. وضممت عبد الرحمن عزام مرة أخرى وقلت له: هذه قبلة أخرى لك.
قال: لماذا هذا التخصيص.
قلت:أنت متهم بأنك طامع في جمهورية ليبيا لتكون رئيسا لها.
قال: يكفيني أنني زوج السبعة- الدول العربية التي كانت سبعة يومذاك في الجامعة العربية.
وانصرفت إلى إعداد خطابي عن القضية الليبية وقد أصبحت "قائد" الميدان .. ولم تكن مهمتي يسيرة.. فإن إعداد الخطاب أمر سهل.. ولكن كان علي أن "أمسك" باستقلال ليبيا دون ان "يفلت" أمرها إلى الدورات المقبلة ولا ندري كيف تهب الرياح الدولية وإذا هبت رياحك فاغتنمها.. وكان علي كذلك أن لا أخون المبدأ في ضرورة تصفية القواعد الأجنبية كائنة ما كانت الظروف والأحوال.
وجاء اليوم الموعود للنظر في القضية، فانبرى الوفد الروسي يندد ببريطانيا وأمريكا ويطالبهما بالجلاء والانسحاب.. وراحت كل من بريطانيا وأمريكا في عباراتهما التقليدية بشأن (التدرج) و(التطور) في بناء الحرية والاستقلال.
ودخلت المعركة وهي على أشدِّها من الصراع بين الكتلتين- الشرق والغرب- وأكدت حق الشعب الليبي في تقرير مصيره واستقلاله بعد كفاحه(1/607)
الطويل، وأنّ نظام الحكم هو مسألة داخلية ليس للأمم المتحدة ولا لأي دولة فيها حديث أو كلام وأنّ أمرها موكول إلى الشعب الليبي وحده- وأنّ تصفية القواعد الأجنبية في ليبيا لا يختلف عليها في الأمم المتحدة إلاّ اثنان: بريطانيا وأمريكا.
وضجت القاعة بالضحك.. ثم أضفت بالقول ان "منح الاستقلال وقيام حكم وطني في ليبيا سيكون "القوة" التي تستطيع بها الأمم المتحدة أن تنفذ إرادتها في تصفية القواعد الأجنبية.. ومن غير هذه "القوة "فإن أي قرار تصدره الأمم المتحدة بصدد الجلاء سيكون حبرا على ورق".
وتطلع الأعضاء إلى الوفد الروسي ليروا انطباعه لهذا "التخريج" فهز رئيس الوفد الروسي رأسه بالموافقة.
وانتهت الجلسة وصدر قرار الجمعية العامة بتكليف" اوريان بلت" ممثل الأمم المتحدة باستعجال الخطوات نحو الاستقلال وقيام حكومة ليبية مستقلة.
وكان السرور بالغا بين الوفود العربية أن قضية ليبيا قد نجت من المزالق التي كانت تقف على عتباتها.
وأقبل الوفد الليبي يصافح الوفود العربية شاكرا جهدها وتأييدها، مبتدئين بالدكتور صلاح الدين وهو يقول لهم: اشكروا الأخ شقيري فقد عرف كيف يرضي الإتحاد السوفيتي ويستبقي مودته وتأييده.
قلت: بل اشكروا معالي الوزير الدكتور صلاح الدين الذي كان له الفضل الأول في حل أزمة.. بل اطلبوا له العون حينما يعود للقاهرة، للحساب(1/608)
والسؤال والجواب.. فقال صلاح الدين: لكل حادث حديث.. والله في عون الجميع.
وجاء الوفد الليبي يودعني قبل سفره وهو يبلغني دعوة من الملك إدريس السنوسي لزيارة ليبيا في أقرب فرصة.. وقد جاءت الفرصة فيما بعد وكانت استشارة قانونية سأتحدث عنها في حينها.
ولكن قصر"شايوه" في باريس شهد أمجد معارك الأمم المتحدة لعدة سنين وهي معركة القضية المراكشية.
وكانت القضية المراكشية في الواقع أروع القضايا الدولية وأرفعها على الإطلاق. فقد كانت أول قضية تحررية تفتح أبواب الأمم المتحدة على مصاريعها ، فلم تكن الأمم المتحدة قد "تعهرت" إلى ذلك الوقت على يد إسرائيل وجنوب افريقيا فلا تباليان بقراراتها، بل كان لهذه المنظمة العالمية هيبتها ومكانتها.
ومما زاد في روعة هذه القضية أن فرنسا كانت هي الخصم، وأنّ باريس ميدانها.. ولكن مما زاد في صعوبتها أن عددا كبيرا من الدول ستقف إلى جانب فرنسا إمّا مجاملة لها ورعاية لحسن ضيافتها.. أو تعاطفا معها.. أو تلاقيا معها في معركة المصير- معركة الحرية والاستقلال التي كانت تتأهب لها شعوب آسيا وافريقيا.
وقد بذلت جهود دولية كبيرة لتأجيل النظر في القضية إلى دورة أخرى تكون في غير باريس فتكون الدول أكثر تحررا وأقلّ تحرجا.. ويعطى الوقت للدرس.. كأنما قضايا الحرية تحتاج إلى درس الأيام والشهور.(1/609)
ولكن الشعب المراكشي المجاهد وعلى رأسه السلطان المناضل محمد الخامس لم يكن ليقبل هذه الأعذار، وكان يلح أن تقدم شكواه إلى الأمم المتحدة وأن تفضح فرنسا في فرنسا ذاتها، وان تهتك باريس في باريس ذاتها.
وجاء الوفد المراكشي إلى باريس وتألبت حوله الاجتماعات من قبل الطلاب العرب الذين يدرسون في باريس.. وخاصة الطلاب العرب من الشمال الافريقي الذين كانوا يريدون أن يمتحنوا الأمم المتحدة في هذه" التجربة" المراكشية.
وفي صمت وهدوء كنت أعد نفسي للقضية المراكشية، فدرست تاريخها ووقفت على تفاصيل كفاحها، وأنا أنتظر هذا "اليوم" لفرنسا- فقد كان بيني وبينها ثأر قديم في بيروت لمناسبة خطابي في ذكرى الشهداء في 6 أيار سنة 1917، يوم قررت السلطات الإفرنسية إبعادي عن سوريا ولبنان لمدة عشر سنوات..وها قد جاء يوم الثأر .. ولتكن القضية المراكشية ميدان الثأر.
ونشب الخلاف في داخل المجموعة العربية حول إدراج القضية المراكشية، هل تكون "الشكوى" المطالبة بالاستقلال أم خرق حقوق الإنسان؟.. وكان بعضنا يرى أن المطلب الأول صعب المنال وأنّ المطلب الثاني أقرب لتأييد الدول وموافقتها.
وكنت من أنصار المطلب الأول.. وكانت حجتي أننا لن نفوز لا بالأول ولا بالثاني، فلتكن هزيمتنا في المطلب الأكرم الأشرف وهو طلب الاستقلال.. وكان للطلبة العرب دور في اقتناع المترددين من الوفود العربية.(1/610)
ومرة أخرى وقع عليّ الخيار من قبل الوفود العربية لكي أتولى قيادة القضية في الأمم المتحدة، فهذا" الشقيري" لا يطلب تعليمات فيما يقول ويفعل، وسوريا يقودها الشيشكلي في حكم غير مستقر.. فلتكن كبش الفداء.
وحجزت نفسي مع الوفد المغربي، الليل والنهار، وأنا أناقشهم وأستوضحهم، وسافر السيد أحمد العلوي من بطانة السلطان محمد الخامس إلى مراكش ليأتيني ببعض الوثائق بنصها العربي.. وقد عاد السيد العلوي إلى باريس يحمل إليّ مستندات في غاية الطرافة.. من خزانة السلطان محمد الخامس.. ومعها تحياته وشكره..
ووضعت هذه المستندات بين أوراقي، أصونها كما أصون كنزا نبشته من جوف الأرض أو هبط علي من السماء..
وفي اليوم الثالث عشر من شهر كانون أول سنة 1951، ولن أنسى ذلك اليوم ما حييت، افتتحت الجمعية العامة المناقشة: هل تدرج القضية المراكشية على جدول الأعمال أو لا تدرج؟.. ونودي علي للكلام فغادرت مقعدي إلى المنبر وسط فيض من مصابيح المصورين، والأبصار متطلعة إلى هذا "الرجل" الذي وجد الجرأة في نفسه "ليحاسب" فرنسا على مسمع الشعب الفرنسي.
وجعلت أوراقي أمامي، وأنا أحرص أن لا تفلت من يدي، المستندات التي استخرجت من خزانة مكتوبة في ذهني.. وأستعين بتلاوة مقتبسات معينة.. هذه من عالم إفرنسي في القانون الدولي.. وهذه من قرار محكمة التمييز في فرنسا.. وهذه من أقوال الأحرار في فرنسا.. إلى أن جاء دور(1/611)
الوثائق المراكشية، فكانت "قنبلة" ألهبت مشاعر الأمم المتحدة، الأعداء قبل الأصدقاء.
واتجهت إلى الوفد الأمريكي وكان يتولى الدفاع عن وجهة النظر الإفرنسية نيابة عن فرنسا وقلت "أريد أن أذكر أمريكا بتاريخ أمريكا.. يوم أعلنت الولايات المتحدة استقلالها كانت مراكش أول دولة في العالم اعترفت بذلك الاستقلال"، وقرأت البيان المغربي بالاعتراف الامريكي.
ثم قرأت كتابا من رئيس الولايات المتحدة "الأول يشكر للمغرب هذا الاعتراف" .. وقرأت بعد ذلك كتابا آخر من الرئيس الأمريكي يناشد فيه ملك المغرب "أن تعمل أساطيله على حماية البواخر الأمريكية من القراصنة في البحر الأبيض المتوسط".. وذكرت الوفد الأمريكي في النهاية أن الأرض التي تقوم عليها السفارة الأمريكية في مراكش كانت هدية من سلطان مراكش.
وتساءلت في ختام ذلك كله.. ساخرا هازئا. هل يعارض الوفد الأمريكي في مجرد إدراج القضية المراكشية على جدول أعمال الأمم المتحدة، ومراكش هي التي اعترفت بك أول من اعترف.. وهل.. وهل، ونزلت عن المنصة أشقّ طريقي إلى مقعدي وسط الوفود وقد وقفت تقديرا وإعجابا، إلاّ الوفدان الأمريكي والإفرنسي ومن معهما من الدول الخائفة على مستعمراتها.. خشية أن يصلها الدور.
واقبلت علي الوفود العربية والآسيوية تصافح وتهنئ إلاّ شيخان من أشياخ الأمم المتحدة أغدقا علي ما لا أستحق: السيد ظفرالله خان يقبل يدي.. والسيد فارس الخوري يقول: وددت أن تكون هذه الساعة بكل عمري.(1/612)
وكان ذلك اليوم من غير شك أعظم أيام عمري.. ولكن كان كذلك أشدّ أيامي حزنا.. لقد قال لي الدكتور صلاح الدين يومها: أنت نجم هذه الدورة، وقلت له: ولكن ما نفع ذلك.. نجم في السماء ولا وطن على الأرض.
وتعاقب الخطباء في اليوم الثاني من وفود الدول الصديقة، فكانوا في غاية التوفيق والحماسة، وكانت القضية المراكشية هي "النواة" التي وجدت منها الكتلة الآسيوية العربية، ولم تكن يومئذ الدول الإفريقية قد ظفرت باستقلالها.
ووقف "موريس شومان" المندوب الإفرنسي يستعطف الوفود.. يناشدها أن لا توافق على طلب الإدراج.. ويذكر أمجاد فرنسا..و..
ورفض طلب الإدراج بصوت واحد .. ولكن كانت القضية في أيامها الثلاثة قد عرضت وشرحت.. وكانت فرنسا قد كشفت وفضحت..وفي ذلك العام كان هذا وحده نصرا عظيما.. وكأن القضية قد أدرجت ... ونوقشت وشرحت، وهذا كل ما في الأمم المتحدة.
تلك كانت ذكرياتي مع القضايا العربية الثلاث: التونسية والليبية والمراكشية، وتلك كانت ذكرياتي مع قادتها الثلاثة، بو رقيبة والسنوسي ومحمد الخامس.
وشاء الله أن تكون لي ذكريات أروع مع عربي أعظم هو: الأندلسي، والأندلسي شخصية عربية كبرى لا تزال تعيش معنا إلى يومنا هذا.
لقد انتهت دورة الأمم المتحدة في أخريات سنة 1951 وأوائل عام 1952 لتتركني متعبا مجهدا مكدودا، وتلطف بعض الإخوان من الوفد اللبناني(1/613)
ودعوني أن أصاحبهم في سيارتهم في رحلة إلى اسبانيا.. ولتكن الأندلس طريق عودتي إلى الوطن.
وانطلقت بنا السيارة من باريس، نحن الثلاثة، الاديب اللبناني شارل عمون والسيد موسى مبارك من كبار موظفي الحكومة اللبنانية وأنا..، وكان الرفيق الثالث كتاب الدليل السياحي، وخير" رفيق" في الزمان كتاب.
وشغلت بالرفيق الثالث، عن الرفيقين الآخرين.. ورحت كلما قرأت في الدليل شيئا أناشد السائق أن يتوقف هنا.. وأن يعرج هناك.. و إذا بالطريق جنوبي باريس حافل بالذكريات العربية منذ أن وطئ العرب جنوبي فرنسا.. فهذه آثار قلعة عربية ..وهذه بقايا سور عربي.. وتلك أنقاض مسجد عربي.
ولم تكن مصادر الدليل السياحي المراجع العربية التي نعرفها بل كانت مصادره إفرنسية في معظمها تتحدث كيف وصلت الحملة العربية إلى مائة ميل جنوبي باريس.. وكيف غزا العرب كربسون..وليون ...وماسون .. وتولوز.. وبوردو ..، وبيزانصون مسقط رأس الشاعر الإفرنسي العظيم فكتور هوجو.
واجتزنا جبال البرنس إلى إسبانيا...الجبال ذاتها التي اخترقها الأجداد وعدنا بالذاكرة إلى تلك القرون الثمانية التي أقامتها العرب في الأندلس ... ، وقضينا أياما من العمر في طليلطة وبرشلونة وفلنسية واشبيلية وقرطبة وغرناطة.. ولم تكن بي حاجة إلى دليل يرشدنا، فقد كان كل شيء حولنا ينطق في أروع منطق.(1/614)
ولقد كنا نحن الثلاثة سكوتا والاحجار تتكلم.. كانت تتكلم فنا وحضارة وروعة في هندسية بالغة الحسن والإبداع والجلال.
وليست هذه المذكرات مكانا لتفصيلها، إنها بحاجة إلى مجلد ضخم يتغنى بآياتها ومحاسنها.. وقد وقفت أمام معالمها وتمتمت بالأندلسيات والموشحات، وعشت ساعات من العمر في الفردوس المفقود فغدا في خاطري الفردوس الموجود.
ووقف الفريقان "اللبنانيان" المسيحيان مشدوهين أمام روائع الفن في مسجد قرطبة، وهما يتمنيان أن لا يكون نصارى اسبانيا قد أقاموا تلك الكنيسة في أطراف المسجد.. ووقفنا أمام كل مشهد من تلك المشاهد الجليلة في الأندلس وكأنما وجدا "عروبتهما" التي حجبتها عنهما ثقافتهما اللبنانية" القديمة".
ولقد كان كل شيء في الأندلس ينبئ أننا في أرض عربية. المنازل في شرفاتها والشوارع في منعرجاتها و الحدائق في تنسيقها والجماهير في مشيتها وتأملاتها وكأننا في مصر أو في ديار الشام.. وكتبت يومها إلى زوجتي كتاباً أقول فيه: لو أن الناس هنا أمسكوا عن الكلام ساعة واحدة لحسبنا أننا في حمص أو حماه.. اللغة الاسبانية هي الفرق ولا سواها.
ولقد عاش العرب هنا عيشا رضيا نديا، في جنات وظلال وعيون.. وفي أمتع وأبدع وأروع ما يخطر على البال، ولكن الحنين إلى الوطن كان يغالبهم على ذلك كله. وهذا صقر قريش، عبد الرحمن الداخل، الطريد الشريد من ديار الشام، يؤسس دولة في الأندلس ويطيب به الزمان، ولكنه مع ذلك يحنّ ويئن.. إلى ديار الشام ويقول:(1/615)
أيها الراكب الميم أرضي أقر من بعضي السلام لبعضي
ان جسمي كما علمت بأرض وفؤادي ومالكيه بأرض
وكنت أردّد هذه الأبيات عند كل مشهد.. فزاد حنينه من حنيني، وعدت إلى دمشق لأستيقظ من الماضي على الحاضر، وأصحو من الأحلام على الآلام.
ولم أكن أدري يومذاك أن نكبة كبرى ستحل بنا في فلسطين في حزيران من عام 1967، وستجعل نكبة الأندلس نسيا منسيا.
ولم أكن أدري كذلك أن فلسطين ستنشد البيت المشهور الذي أنشدته الأندلس قل خمسماية عام:
إبك مثل النساء مُلكا مضاعا لم تحافظ عليه مثل الرجال.(1/616)
في كل ساحة وميدان(1/617)
مع الشيشكلي وعبد الناصر..
والنظرة الأولى حمقاء
كان عام 1952 حافلا بالأحداث العربية والدولية على السواء، وقد عشت في خضم هذه الأحداث على الصعيد العربي بحكم منصبي في الجامعة العربية، وعشتها في الأمم المتحدة بحكم منصبي" رئيسا للوفد السوري" في المنظمة العالمية.
وكانت الأحداث العربية تموج في دمشق وفي القاهرة. وقد يكون هنالك بعض التباين في تفاصيل ما كان يجري في عاصمة الأمويين في سوريا وفي عاصمة الفاطميين في القاهرة، ولكن المد الثوري كان واحدا في البلدين. وكانت قضية فلسطين وراء تلك الأحداث.
وقد وقعت كارثة فلسطين الأولى في عام 1948، وتوقف القتال، ثم عقدت الهدنة في رودس في عام 1949 بين إسرائيل من جانب وكل من مصر والأردن ولبنان وسوريا من جانب آخر.. ولكن الشعور بالعار لم يتوقف، ومرارة الهزيمة لم تزدها "الهدنة" إلاّ حدة وشدة.. وراجت مراجل النقمة والغضب في صفوف الشعب والجيش. والأصابع تشير إلى الذين كانوا سببا في هذه الكارثة.. ولم تخطئ الأصابع إلاّ قليلا.(1/619)
ووقعت الانقلابات أول ما وقعت في دمشق، فأصابت الجاني والبريء.. ولكنها كانت على كل حال تعبيراً عن معنى كبير .. هو الثأر لشرف الأمة العربية، وأصبحت دمشق "مدرسة" الانقلابات، لنفسها ولغيرها من البلاد العربية، سواء بسواء.
ووصلت حلقات الانقلاب في دمشق في عام 1952 إلى أيدي السيد أديب الشيشكلي فأصبح رئيسا للجمهورية والتّف حوله عدد من الناقمين على الحكومات السورية السابقة.
وراح الشيشكلي يطلق الوعود بإصلاحات جذرية في الحياة السورية. وأنه سيعمل على تطهير أجهزة الدولة من الفساد والمفسدين..وكان تحرير فلسطين بطبيعة الحال رأس برامجه.. فإن قضية فلسطين هي شعار الحكم لكل حاكم، وديباجة البلاغ الأول في أي انقلاب تصحو عليه الجماهير العربية، حينما يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.
وكنت في الجامعة العربية في القاهرة أراقب من مكتبي الأحداث السورية، فإن لي في دمشق ذكريات وصداقات، وأنا معين في الجامعة العربية باسم سوريا، فالنظام الداخلي للأمانة العامة يحصر الوظائف الرئيسية في رعايا الدول الأعضاء، ولا بد لفلسطيني مثلي إلاّ أن يتسلح بإحدى الجنسيات العربية.
وقد تضاعف اهتمامي بهذا النظام الجديد في سوريا بعد المعركة التي وقعت بين القوات السورية وإسرائيل عند "المطلة" وتكبد اليهود خسائر جسيمة، وكان الشيشكلي هو واضع خطط المعركة بنفسه..(1/620)
وقرع جرس التلفون من السفارة السورية بالقاهرة.. فأبلغني السفير الأمير مصطفى الشهابي أن السيد أديب الشيشكلي يستدعيني على عجل إلى دمشق.
ولم يكن سفري إلى دمشق عسيرا، فإن بيتي في مصر الجديدة على قيد خطوات من مطار ألماظة وحقيبتي جاهزة على الدوام.
ووصلت إلى دمشق.. وسارعت إلى القصر الجمهوري.. وكان في هرج ومرج.. والداخلون والخارجون كثيرون.. وكذلك الحال على عتبات الحكام.
ودخلت على السيد أديب الشيشكلي، و إذا بورقة طويلة أمامه، وفيها قائمة بالأسماء.. صفوفا صفوفا.
كان السيد الشيشكلي يخطط لقيام حكم جديد.. وحكومة جديدة.. وابتدرني بالقول بدماثته المعروفة وسكينته الهادئة.
- أرجو أن لا نكون قد أزعجناك بهذا السفر العاجل. نحن في صدد إنشاء حكومة جديدة، وقد قررت أن أسند إليك منصب وزير الخارجية..
قلت: إني أشكر لك هذه الثقة الغالية.. ولكني أفضّل أن أبقى في الجامعة العربية.. وأن أكون ممثلا لسوريا في الأمم المتحدة أثناء الدورة.
قال: أنا لا أقبل منك هذا الاعتذار.. ان وجودك معنا كفلسطيني يحمل معنى الوحدة العربية، ولم تضع هذا أية حكومة عربية أخرى.. فضلا عن أنك تستطيع أن تؤدي خدمة لقضية فلسطين.. وماذا تريدون مني أن أفعل لفلسطين أكثر من هذا؟(1/621)
قلت ان لساني لعاجز عن الشكر.. وإن فلسطين هي سوريا الجنوبية.. ونحن لا ننسى أنك كنت من قادة جيش الإنقاذ في فلسطين في عام 1948.
قال: هل تفكر حتى الغد وتراجع نفسك. وأرجو أن تتأكد أنك ستكون حراً في رسم السياسة الخارجية التي تريدها.. وأعتقد أنك بصداقاتك في الوطن العربي ستكون قادرا على التهيئة للوحدة العربية.
قلت: لقد أسبغت علي فوق ما أستحق. أشكرك وأعتذر.. وأنا حاضر على الدوام لتقديم أي رأي أو مشورة على الصعيدين العربي والدولي. وأرجو أن تعتبرني وزيرك.. ولكن من غير تسمية ولا إعلان.
وانصرفت من حجرة السيد الشيشكلي، و إذا بالوزراء المرشحين في غرفة الانتظار يتفرسون في وجهي، ليروا ما إذا كنت أصبحت وزيرا.
ولكن ابتسامتي قد ضللتهم جميعا.. وهم يرحبون بي "معالي الأخ.."، وخرجت وهم لا يعلمون أنني لست صاحب المعالي الوزير.
ومضى يومان أو ثلاثة، وألفّ السيد أديب الشيشكلي وزارته وكان فيها مكاني الدكتور خليل مردم وزيرا للخارجية.
ودعيت إلى العشاء في القصر الجمهوري، وكانت الوليمة قاصرة على الوزراء، وأخذتني فترة من الوحشة على المائدة وأنا غريب فيها، ولكن السيد أديب الشيشكلي قد كسر "الثلج" في نفسي حين قال للوزراء:
- الأخ أحمد اعتذر أن يكون في الوزارة، ولكنه وعدني أن يكون وزيرا معنا من غير تسمية ولا إعلان.
قلت: نعم إنما وزير ولكن من غير إعلان.. الآن وفي كل زمان.(1/622)
ومضت الوليمة وسط هذه الدعابات والمطارحات، وخطر لي وقد اقترب فصل الصيف، وأنا قريب من لبنان، أن أسافر إلى الجبل لأختلس "إجازة" لم أنعم بها منذ زمن طويل، واستقر رأيي أن أتخذ من "نبع الصفا" مصيفا لي فهي وسط بين دمشق وبيروت، فلا أكون بعيدا عن الاتصال، ولو في فترة الراحة الاستجمام.
وذهبت إلى السيد فارس الخوري أزوره قبل سفري .. فرأيته ملتفاً في عباءته بين كتبه وذكرياته.. وتبادلنا التحية، والحديث في شؤون الجامعة العربية وأخبار "أبو الكلام عزام".. كما كان يحلو له أن يداعبه.. ثم أردف قائلا..
- لقد أحسنت باعتذارك عن ]عدم[ قبول وزارة الخارجية.
قلت: لماذا أحببت لي هذا الاعتذار.
قال: عندي لذلك سببان: الأول،أنت لا تستطيع أن تعمل مع هؤلاء " العسكر"،( أشار إلى الشيشكلي وضباطه)، ما الفائدة أن تكون وزير الخارجية في حكومة لا تفهمك ولا تفهمها.
قلت: هذا هو السبب الأول.. وما هو الثاني..
قال (وقد أطرق طويلا) أوصيك أن تظل ممثلا لسوريا في الخارج.. بعيدا في الخارج.. وبهذا يحبك الجميع. ولكن إذا عملت في الداخل أخشى أن لا يحبك الجميع.. هذه نصيحتي بعد ستين عاما من الحياة العامة في سوريا..وتباسطنا وتضاحكنا وحملت هذه النصيحة معي إلى مصيفي في لبنان، ولم أفهم مغزاها العميق إلاّ في عام 1956 حين رضيت أن أكون سفيرا لسوريا في القاهرة لأمهد للوحدة .. فجاءت حكومة السيد هاشم(1/623)
الأتاسي وأبطلت هذا التعيين وبقرار من مجلس الدولة..كما سأشرح أسبابه الحزينة في حينها.
وأقبل الصيف حارا ذلك العام وكأنما يحمل في جوفه رياحا حارة تهّب على العالم العربي بأسره،وتغير مسيرة تاريخه ومصير أقداره.
وجاء الشيشكلي إلى "فالوغا" لبنان، من لفحات دمشق اللاهبة، ودعينا إلى عشاء في نبع الصفا، وكان ذلك اليوم 22/ 23 يوليو 1952، وجلسنا إلى مائدة العشاء في الحديقة،ومن حولنا الحرس الجمهوري شاكي السلاح، والمارون من المصطافين والفلاحين يتفرسون في وجه فخامة الرئيس السوري.
وكان الراديو على مقربة منا، مفتوحا على إذاعة القاهرة.. و إذا بالاثير يتفجر بالخبر الكبير "وقع الانقلاب. خلع فاروق. قامت الثورة المصرية- ثورة الجيش والشعب.. "ورفعنا أيدينا عن الطعام، وابتلعنا ما في أفواهنا.. وأصبحت جوارحنا كلها آذاناً صاغية، تستمع إلى هذا النبأ الكبير الخطير.
وكان هذا الخبر مفاجأة كبرى لم أستشعر مقدماتها وأنا بعيد في هذه القرية اللبنانية، ولكن السيد الشيشكلي ذكر لي أن لديه معلومات سابقة عن تذمر في صفوف الجيش المصري غير أنه لم يتوقع أن يقع الانقلاب بمثل هذه السرعة.
وأخذ السيد الشيشكلي يفرك كفيه في عصبية وقلق.. فقد كان يخشى على هذه الثورة أن لا تنجح..وكان يخشى أن يكون ضباط الثورة قليلي(1/624)
التجربة والخبرة، فيفشل أمرهم ويقبض عليهم فاروق ... ولم يخرج فاروق من الاسكندرية بعد.
كان الشيشكلي يتحدث "كخبير" في صناعة الانقلابات، وهو خائف أن لا يكون ضباط مصر عارفين بفنون "الانقلاب" فتدور عليهم الدائرة، ويبطش فيهم فاروق ويقضي على الحركة في مهدها..ويا ضيعة الأمة العربية!
ولم يعد الجو صالحا لا للطعام ولا للكلام، وانصرف الشيشكلي إلى دمشق.. لا إلى مصيفه في فالوغا، وهو يتمنى في ذات نفسه لو كان قادرا أن ينقل "خبرته" في صناعة "الانقلاب" إلى رفاقه في مصر، ولو على أمواج الأثير.. وجاءت الأقدار فيما بعد "ليطير" الخبير من دمشق فيهرب الشيشكلي إلى أمريكا اللاتينية ويقتل فيها غريب الدار نائي المزار.. وما تدري نفس بأي أرض تموت.
وأبرق إليّ السيد عبد الرحمن عزام أمين الجامعة ليستعجلني العودة إلى القاهرة.. وظننت أن اجتماعا طارئا سيعقد للجامعة العربية، فقد كان هذا هو التقليد المتبع كلما وقع انقلاب أو حدث كبر في أي بلد عربي.. تجتمع الجامعة، وتدرس وتقرر، وتصدر بيانا.
وقد كان هناك انقلاب فعلا.. ولكن كان هذه المرة على عزام نفسه.. فلم أكد أصل القاهرة حتى بدأت أقرأ في جريدة الأهرام حملة مركزة على أمين الجامعة العربية، تتحدث عن أسفاره ونفقاته.(1/625)
ولقد كانت هذه الحملة ظالمة وباطلة، فلم يكن على عزام مأخذ في تصرفاته المالية..أمّا تصرفاته السياسية فهي موضوع نقاش، شأنه في ذلك شأن جميع قادة العرب في تلك الحقبة من حياة العرب السياسية.
وكانت الضجة الناشبة في ذلك الوقت أن الثورة المصرية وهي ثورة عربية، يجب أن تجدد شباب الحركة العربية، وأن تكون الجامعة العربية في المقدمة.
ومن هذا المنطلق فقد كانت تنحية عزام تتطلبها مقتضيات الثورة، ولكن لغير الأسباب الباطلة التي نشرت يومذاك..
وسألني السيد عزام : ما رأيك في حملة جريدة الأهرام.
قلت: إنها ضالة مضللة، ان لك نضالك الباسل، في حياة الأمة العربية، وهذه التهم المالية باطلة من أساسها.
قال: وماذا ترى؟
قلت: ان رجال الثورة كما يبدو من أحاديثهم يريدون حياة جديدة، وهذا يقتضي جامعة عربية جديدة، وقد يكون من الخير أن تفسح المجال لهذه التجربة الجديدة.
قال: ألا يحسن أن أستشير الحكومات العربية.. فهي أعضاء في الجامعة، وليست مصر هي الجامعة..
قلت: ان مصر هي المقر الدائم للجامعة، وهي أكبر دولة عربية، ولا تستطيع أن تستمر في عملك من غير تأييد حكومتك، وإن كنت أعلم أنك من أوائل المصريين الذين اعتنقوا الفكرة العربية.
قال: على بركة الله.(1/626)
وتناول قلما وورقة وكتبت استقالة "غير مسببة" بدأها "بسم الله الرحمن الرحيم" وختمها بقوله "وتفضلوا بقبول الاحترام".
و اجتمع مجلس الجامعة العربية على عجل.. وكان الظن أن أصدقاء عزام من الحكومات العربية، وخاصة المملكة العربية السعودية، سيردون الاستقالة، ولكن أحدا لم يفعل.. وأجلت بصري في وجوه أصدقائه من أعضاء المجلس واحدا واحدا، لأسمع كلمة.. ولكن هيبة "الثورة" في الخارج قد ألجمتهم جميعا.. وانتهى عمل المصري "العربي القديم" من الجامعة العربية بعد أن عمل على تأسيسها وعاش حلوها ومرها.. وأصبحت الأمين العام بالنيابة أصرّف أمور الجامعة حتى يتعين الأمين العام الأصيل.
وبدأت المشاورات بين الحكومات العربية "من يكون الأمين العام للجامعة العربية؟ ولم يكن إلاّ جواب واحد "الثورة في مصر عملت على إقصاء السيد عبد الرحمن عزام.. الأمين العام للجامعة يحسن أن يكون مصريا..وعلى الثورة في مصر أن تختاره.
ودعيت غير مرة إلى قصر عابدين، حيث كامت مجلس الوصاية على العرش، للبحث في شؤون الجامعة.. ومن يكون أمين الجامعة.
وكان الحديث يدور مع السيد رشاد مهنا أحد رجال الثورة.. والسيد بهي الدين بركات أحد أعضاء الوصاية..كما كانت لي لقاءات بعد ذلك مع السيد محمد نجيب نفسه رئيس مجلس ]قيادة[ الثورة..وكانت الآمال كباراً.. والتمنيات أعظم وأكبر، ففي هذه الأحاديث واللقاءات كان النقد المرير يتناول ماضي الجامعة العربية، وسياسة التكتلات داخل الجامعة، وإهمال قرارات(1/627)
الجامعة، والإكثار من الكلام في الجامعة، واستغلال "فاروق" للجامعة، إلى غير ذلك.. ومعظمه حق وصدق، لا شك فيه ولا ريب.
وكان جوابي على الدوام "أن ثورة مصر هي ثورة عربية، ويجب أن لا تقف شعارات الثورة وراء أسوار الجامعة العربية، ان رياح الثورة يجب أن تهب داخلها، أن الأمة العربية تريد جامعة عربية (ثورية) تهزم الهزيمة التي حلت بنا في فلسطين عام 1948".. وكان السيدان محمد نجيب ورشاد مهنا يصغيان إلى هذا الحديث، وهما على تصميم وعزم، بأن يجعلا من الجامعة العربية أداة "ثورية" تجمع طاقات الأمة العربية وتعمل على استرداد كرامتها وعزتها.
وقد تردد علي في تلك الفترة عدد من الضباط الأحرار، ليدرسوا أوضاع الجامعة العربية وميثاقها ونظامها الداخلي.. واجتمع مجلس الجامعة العربية لينظر في تعيين الأمين العام الأصيل.. ودعيت إلى قصر عابدين.. واستقبلني السيد رشاد مهنا عضو مجلس الوصاية وقال: سنرشح السيد عبد الخالق حسونة، وهو رجل طيب، ستكون مسرورا من التعاون معه.. ولكن خبرته في الشؤون العربية حديثة.. فأرجو أن تعاونه: قلت: إني أعرف الرجل.. فقد اجتمعت به حين كان وزيرا للخارجية وهو رجل مهذب ودبلوماسي..وسأعاونه وأضع بين يديه كل خبرتي وتجربتي.
وانصرفت إلى الجامعة، وطرح الترشيح أمام المجلس، فوافق بالإجماع على تعيين السيد حسونة أمينا عاما للجامعة. وبقي فيها منذ عهد الثورة في 1952 إلى ما بعد النكسة في عام 1967، تمدد خدمته فترة بعد فترة.(1/628)
ولا شك أن السيد حسونة يتمتع بمؤهلات جمة إلى جانب أخلاقه الفاضلة ولكنه ليس الرجل الذي كانت تطمع "الثورة" أن تجعل منه أداة" ثورة" في الجامعة ولا أظنّ أنه يرى في نفسه رجل "ثورة".
ولقد جاءت مسيرة "الثورة" عن غير طريق الجامعة.. لقد احتفظت "الثورة" بالجامعة لتؤدي ما تستطيع بهدوء، وكان "حسونة" مؤهلا لذلك الدور الهادئ وسارت "الثورة" في طريق آخر..في سياستها العربية.
وانفض مجلس الجامعة دون أن يثير انتباه أحد، ولم يسأل أحد لماذا أقصي عزام وحل محله حسونة، فقد كانت صيحات الثورة فوق كل سؤال.. وكان شعار "الإتحاد والنظام والعمل" الذي نادى به الرئيس محمد نجيب يعلو على كل كلام.
وأقيمت حفلة في وزارة الخارجية المصرية على شرف وفود الجامعة العربية وهي نهاية المطاف في اجتماعات الجامعة العربية.
وكنا في ذلك الحفل نتباسط حلقات حلقات، و إذا بضابطين مصريين يدخلان ويصافحان الحاضرين واحدا واحدا.. ولم أكن أعرف من هما !
وتصافحت معهما، وكان أحد رجال الخارجية يقدمهما ويعرفهما إلىالحاضرين ليقول: البكباشي جمال عبد الناصر، والصاغ صلاح سالم.
وكان الاهتمام بهما عاديا .. فقد عرف انهما من كبار قادة الثورة .. وفي ذلك الكفاية .. وتفرست في وجه السيد جمال عبد الناصر لأرى ذلك الرجل الذي صنع الثورة المصرية .. وسألت الصحفي المصري السيد حسنين هيكل وكان على مقربة مني :(1/629)
ما هي أهم صفات السيد جمال .. فقال السيد هيكل: ان جمال يمتاز بذكاء خارق ..
ولقد كان لقاؤنا عابرا خاطفا.. وبدا لي السيد جمال عبد الناصر يومذاك ببدلته الكاكية نحيلا، صارما.. جافا.. لا تتوافر فيه مؤهلات القيادة والزعامة.
ولقد قدرت يومذاك .. أن السيد عبد الناصر واحد من ضباط مصر الشجعان، وسيعود مع رفاقه إلى ثكناتهم، وسيمضي "صاحب المقام الرفيع" على ماهر باشا رئيس الوزراء في تولي أمور البلاد بدهائه المعروف وذكائه الخارق..
والتفت إليّ السفير السوري الأمير مصطفى الشهابي سائلا:
- أي الرجلين أقدر.
قلت: من تعني؟
قال: الشيشكلي أم عبد الناصر..؟
قلت: أرجو أن لا تغلبني عصبيتي السورية. أظن أن رجلنا الشيشكلي أمكر وأقدر.. وأدهى وأمرّ.
وانتهى الحفل على هذه الدعابة، لتمضي الأيام ويثبت صدق القول المأثور:
النظرة الأولى حمقاء.
فقد كرّت الأيام، وأصبح عبد الناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة.. وصنع بيديه أحداثا عظاما، لقيته مرات ومرات، ولي معه أسرار(1/630)
صغار وكبار.. وكانت له مع السنين كبوات.. ولكن أنىّ للشيشكلي أن يصل برأسه إلى كتفي هذا العملاق..
وحقا فقد كانت النظرة الأولى حمقاء.(1/631)
مع الرئيسين....
محمد نجيب وعلي ماهر
كانت "القضية العربية" من أهم مشاغل" الثورة" في مصر، فقي الوقت الذي كانت تنصرف فيه الجهود إلى تطهير الحكم من الفساد والفوضى في الداخل، كان الضباط الأحرار يوالون اجتماعاتهم لوضع الأسس التي يتعين على مصر الثورة أن تسير على هديها في علاقاتها مع البلاد العربية.
وكان عدد من الضباط الأحرار يفدون إلى بيتي في مصر الجديدة بعد انتهاء الدوام من الجامعة العربية، لنتدارس معا شؤون القضية العربية، وقضية فلسطين في المقدمة.
وكان هؤلاء الضباط يعرفون الكثير عن القضية الفلسطينية، إما لاشتراك بعضهم في حرب فلسطين أو لحوارهم وأحاديثهم مع زملائهم الآخرين.. ولكن معرفتهم بالشؤون العربية وأحوال البلاد العربية وتاريخ الحركة المعاصرة، فقد كانت غامضة ومشوشة.
وكان موضوع الجامعة العربية من أهم الموضوعات التي كنا نتناولها بالبحث، وكنت أحدِّث الضباط الأحرار عن نشوء الجامعة العربية والظروف الدولية والعربية التي رافقت قيامها.. وما يمكن أن تؤديه من الخير للأمة العربية إذا حسن حالها.(1/632)
وتوالت لقاءاتي برجال الثورة في بيتي وخارج بيتي، في الولائم والحفلات والاجتماعات، فقد كانت القاهرة في الأعوام الأولى للثورة تعج بالاجتماعات الشعبية، والمؤتمرات والندوات.. وكان السيد محمد نجيب رئيس مجلس الثورة، لا يكاد يخرج من اجتماع إلاّ ليذهب إلى اجتماع آخر، ولا يوشك أن ينتهي من خطاب حتى يبدأ خطابا آخر.
ودعيت في أوائل ربيع 1953 للاحتفال بغرس الشجرة في ضاحية قريبة من مصر الجديدة، وذهبنا في الصباح الباكر إلى "أرض" الاحتفال فوجدنا الحفر مهيأة والأغراس بجانبها فهوينا بالمعاول ضربة أو ضربتين وأنزلنا الغرسة في الأرض، ونحن نتطلع إلى اليوم الذي نرى فيه تلك "الأرض" وقد أصبحت غابة خضراء.. ومرت على ذلك خمس وعشرون سنة، أُحدّق ببصري في تلك الأرض، وأنا في طريقي إلى المطار، فلا أرى غابة ولا أشجارا.. شأن كثير من الأعمال العربية، لا تكون ألا "احتفالا" ليومها وتموت لساعتها.
وعدت من حفلة الغرس مع الصاغ عبد الحكيم عامر عضو مجلس الثورة" المشير ونائب رئيس الجمهورية فيما بعد" وأخذ يستعيد لقاء بيني وبينه في دار السفارة السورية في القاهرة، قبيل الثورة ببضعة أشهر.
فقال الصاغ عامر:
- هل تذكر اجتماعنا في السفارة السورية.
قلت: نعم: وكيف أنسى ذلك اللقاء.وقد حقق الله الثورة التي كنا نتمناها .
قال: وما هي تمنياتك الآن.(1/633)
قلت: ان لي أمنية كبرى.
قال: وما هي؟ وهل نحن قادرون عليها؟
قلت: إذا كانت جهودكم ستقتصر على تطهير الحكم من الفساد والفوضى وخلق مصر الحديثة، فلن تكونوا أكثر من إحدى دول افريقيا، تعيشون على هامش الحياة الدولية، وسيكون لكم مكان في التاريخ ولكن على هامشه.
قال: وماذا تعني بالضبط؟
قلت: ان مصر جزء من الأمة العربية، ذلك كان تاريخها منذ عهد الفراعنة.
وإنّ لكم من غير شك مكان الصدارة في تاريخ العرب الحديث.
قال: وماذا تقترح لهذا الغرض.
قلت: أقترح أن تخاطبوا الدول العربية جميعا بلغة واحدة ... وأن تحطموا سياسة المحاور والتكتلات داخل الأسرة العربية..وأن تعملوا على تطوير الجامعة إلى اتحاد عهدي بين الدول العربية.. ومن ثم إلى اتحاد فدرالي..وارجو أن ينتهي الأمر إلى إقامة الولايات العربية المتحدة.
قال: ما لي أراك لم تتحدث عن بلدك، عن فلسطين.
قلت: العمل للوحدة العربية هو عمل لفلسطين.. ان الوحدة العربية لازمة للأمة العربية ولكنها لفلسطين ألزم.. والوحدة هي الطريق إلى فلسطين ... و إذا بقيت الأمور العربية على حالها فإن إسرائيل ستبقى في فلسطين، وسنبقى خارجها.(1/634)
قال: هل اجتمعت بالسيد محمد نجيب.. أو بالسيد جمال عبد الناصر؟
قلت: السيد محمد نجيب اجتمعت به مرتين، أمّا السيد عبد الناصر فقد كان لي معه سلام وتحية.
قال: هذا حديث طيب..وسأرتب لك" جلسة" عمل قريبا .. ان شاء الله.
ووصلت إلى مبنى الجامعة في شارع البستان، فنزلت من سيارة الصاغ عبد الحكيم عامر شاكرا له صحبته،وجلست في مكتبي وأنا أستذكر ذلك اليوم الذي التقينا فيه: الصاغ عبد الحكيم عامر وأنا، في دار السفارة السورية في القاهرة، وكان الحديث همسا بين الجدران الأربعة. عن الحكم الفاسد في القاهرة.. وهزيمة الجيش المصري في النقب.. وما إلى ذلك.
ولقد استذكرت يومذاك أنني قلت للصاغ عبد الحكيم عامر:
- لا نفع في الشكوى.. ان مفتاح الموقف بيد الجيش.. والجيش يستطيع أن يفعل كل شيء.
قلت هذا وأطرق الصاغ برأسه.. ولم يعقب ولم يعلق.
وتمنيت وأنا أستعرض هذه الذكريات أن تحقق الثورة بقية رسالتها.. لقد استطاعت الثورة أن تنقذ مصر من فاروق. وليتها تنقذ العرب من خطر أعظم: الفرقة والخلاف .. وما هي إلاّ بضعة أيام حتى قرع جرس التلفون من رئاسة مجلس الوزراء.. لإبلاغي دعوة على الغداء في منزل "رفعة الرئيس علي ماهر باشا".(1/635)
وذهبت في الموعد، و إذا بالمنزل كأنه ثكنة عسكرية، بضعة عشر ضابطا من مختلف الرتب يتصدرهم السيد محمد نجيب رئيس مجلس الثورة. ولم يكن في الدار أحد من المدنيين إلاّ "رفعة الرئيس" وأنا .. وخطر لي أن هذا هو الاجتماع الذي اقترحه الصاغ عبد الحكيم عامر، فجمعت كل آمالي وأحلامي، وقلت في نفسي، ها قد لاحت الفرصة للتحدث في القضية العربية.. وجلسنا علىالمائدة وكان الحديث حديث مائدة.. وأنا أتطلع إلى الدقيقة الأولى لأفتح الكلام في غير الطعام والجو.. وأيام زمان.
وانتقلنا إلى الصالة الكبيرة، وأقفلت الأبواب، وبدا أننا في مؤتمر، وتنفست الصعداء،وحمدت الله أن حان الوقت لأضع أمام مصر" الثورة" ما يتمناه كل عربي على " الثورة".
وبدأ السيد علي ماهر بصوته الهادئ وعباراته السلسة يتحدث عن رغبة مصر في أن تبدأ" علاقات جديدة، مع البلاد العربية وأن يكون طابعها الود والمحبة للجميع.. وأنه يرغب أن يستمع إلى رأيي لتحقيق هذا الهدف" كعربي محب لمصر وخبير في شؤون البلاد العربية".
وصممت ألاّ ابدأ الحديث.. وإذا بالسيد محمد نجيب يعتدل في مجلسه وأخذ يتحدث بصوت أجش، فقد قضى أياما وهو يخطب، شارحا الشعارات الثلاثة "الإتحاد والنظام والعمل".
بدأ السيد محمد نجيب يتكلم، وبعض الضباط من ورائه يدونون، وهو يقول – أن عهد فاروق قد انتهى.. وأرجو أن ينتهي معه عهد الخلافات بين الدول العربية.. ونحن نريد أن نبني صداقة مع الجميع.. لخير الجميع.. نريد أن نبني الجامعة العربية.. نريد أن نعدل ميثاق الجامعة.. نريد أن(1/636)
ندرس قضية فلسطين جيدا.. أن تتحسن الأحوال في قطاع غزة.. نريد .. نريد".
ومضى السيد نجيب يسرد آراء "الثورة" في الجامعة العربية، وتطلعات "الثورة" إلى مستقبل العلاقات العربية في مصر.
وجاء دوري فتكلمت، وأخذ الضباط الأحرار يستمعون ويدونون: وكان موجز ما قلت "أن في ميثاق الجامعة فجوات من غير شك.. وإنّ لعزام هفوات من غير ريب.. ولكن ضعف الجامعة وتعثرها لم يأت من الميثاق ولا من عزام.. لقد كانت الدول العربية في الماضي تتسابق وتتنافس على العمل من أجل القضية العربية.. وأما بعد الجامعة فقد وقف السباق والتنافس.. وأصبحت الجامعة أداة للتخلص من المسؤوليات الفعلية وأصبحنا كلما طالبنا حكومة ما بعمل ما قالت: سننظر في الأمر في الجامعة، حتى إذا اجتمعت الجامعة تعطل العمل، أو تأجل، أو تمهل حتى ترضي هذه الحكومة..او تقنع تلك..وهكذا.." ثم قلت والجميع في إنصات واهتمام" ولقد بلغ من فداحة الأمر أن الحكومات العربية قد خلعت على الجامعة العربية شخصية مستقلة ذات احتصاصات مستقلة.. وأن تمارس مسؤولية مستقلة..وكنا إذا اقترحنا على أية حكومة عربية أية فكرة معينة قالت: سنرى ماذا ستقرر الجامعة..كأنما الجامعة شيء آخر غير الحكومات العربية.
وختمت حديثي بمقارنة بين الجامعة والأمم المتحدة وقلت: أن الأمم المتحدة على مشاكلها ومصاعبها، كانت لأعضائها خيرا من الجامعة العربية لأعضائها في المجالات الاقتصادية، والعملية والفنية..وإن الأنكى من ذلك كله أن الدول العربية تتعاون في نطاق الأمم المتحدة أكثر من تعاونها في(1/637)
نطاق الجامعة العربية.. وإنّ مشكلة الجامعة لا تكمن في الميثاق ولا في الأمانة العامة، وإنما تكمن في الدول العربية نفسها.. في نظرتها إلى الجامعة.. وفي تصرفها من خلال الجامعة.. وهنا بادرني السيد محمد نجيب بالسؤال الكبير، وما هو الحل؟
قلت: الحل أن تأخذوا بزمام المبادرة، عليكم أن تعملوا في الحقلين معا، الداخلي والعربي.. وأرى أن ترسلوا وفدا إلى البلاد العربية لتحملوا إليها رسالة الثورة. الأُخُوة مع الجميع- والتعاون مع الجميع- في سبيل تطوير الجامعة العربية إلى اتحاد عربي- وأخذت أشرح أفكاري بتفصيل وإسهاب. فقال السيد محمد نجيب:- هذه فكرة طيبة، سنرسل وفدا أو أكثر إلى البلاد العربية.. ونحن نرجو أن تعد لنا مذكرة مسهبة عن الجامعة العربية، وما تقترحه من تعديل في الميثاق وفي أجهزة الجامعة.
وانتهت الجلسة عند هذه النهاية السعيدة.. وخرج السيد محمد نجيب وصحبه، وخرجت معه أودعه.. فانتحى بي جانبا وقال: أنا أنتظر هذه المذكرة.. وسندرسها معا في بيتي، قلت: يومان أو ثلاثة، وسأكون أنا والمذكرة في بيتكم.
وعدت إلى الصالة مع "رفعة الرئيس" لبضع دقائق وهو يقول" لقد كانت جلسة مفيدة، وموفقة، وإنيّ آمل أن تعد لنا قريبا مذكرة حول الموضوع.
قلت: المذكرة جاهزة في رأسي، ولا يحتاج إعدادها إلاّ بضع ساعات، ولكن لدي اقتراح أرجو أن يجد قبولا عند "رفعتكم".
قال: ما هو؟(1/638)
قلت: يخطر ببالي أن نحدث منصبا جديدا في الجامعة، وهو أن يصبح للجامعة رئيس لمدة عامين أو أكثر، له مكتب رئاسة يضم الأمين العام للجامعة، ويعمل على تنفيذ قرارات المجلس، وينظر في الأمور الطارئة حينما لا يكون المجلس منعقدا.. وإنيّ أقترح أن تكون "رفعتك" رئيسا لمجلس الجامعة.. فإنّ هذه" الرياسة العربية" أشمل نفعا من رياسة الحكومة المصرية.
قال: هذا موضوع سابق لأوانه، سنفكر فيه وفي غيره.. ونحن بانتظار المذكرة ...
وكذلك انتهت هذه الجلسة الصغيرة عند هذه النهاية السعيدة..وانصرفت وخرج "رفعة الباشا" يودعني.. واستوقفني قليلا وقال:
- أن حسونة باشا رجل طيب.. وستتعاون معه تعاونا طيبا.. وعندي موظف كفء أرجو أن تضمه إلى الجامعة.. وهو الدكتور سيد نوفل..
قلت: ما دامت هذه توصيتكم فسأعمل على تعيينه.. وأرجو أن تفكروا مليا في موضوع منصب رئيس المجلس واختصاصاته.
وانصرفت إلى مكتبي.. وجاء الدكتور سيد نوفل في اليوم الثاني.. وحدثت الأمين العام السيد عبد الخالق حسونة بشأنه.. وتم تعيينه مديرا للدائرة السياسية.
وأصبح "نوفل" بعد ذلك أمينا مساعدا يكتب قرارات الجامعة العربية قبل أن يقررها مجلس الجامعة. فكانت شهادة علي ماهر بشأن كفاءته في محلها.
وقد أنجز السيد محمد نجيب ما وعد، فقد انطلقت وفود مصر إلى البلاد العربية. وانطلق صلاح سالم عضو مجلس الثورة ووزير الارشاد(1/639)
القومي ومعه معاونوه إلى العراق ولبنان وسوريا والسودان وغيرها من الأقطار العربية، يوضح رسالة الثورة وموقفها من القضية العربية.
وعكفت على كتابة المذكرة، فضمنتها كل خبرتي في الجامعة وقد رافقتها منذ مولدها يوم كنت مستشارا للحكومة السورية إلى أن أصبحت داخل جدرانها أمينا مساعدا.. ووضعت مشروعا للميثاق المعدل والأنظمة الداخلية للأمانة العامة واختصاصاتها وذهبت إلى منزل السيد محمد نجيب في" الحلمية" بضاحية القاهرة.
كان السيد محمد نجيب في "بجامته" متعبا.. وكان الضباط يروحون ويفدون .. وكانت الهمسات تدور حول خلافات داخل مجلس الثورة.. ولم أستطع أن أتحدث طويلا مع الرئيس محمد نجيب .. فسلمته المذكرة، ولكني أحسست أن عقل الرجل في شغل شاغل.. وأنّ موضوع الجامعة العربية والعلاقات العربية مع مصر قد أصبح على الهامش.. واستأذنت لأنصرف وخرج معي يودعني.. وقلت له:
- لقد أعطيت وقتا كثيرا لأمور مصر الداخلية، لقد حضرت الاجتماعات والمؤتمرات وخطبت فيها كلها.. ولكن بقي عليك أن تحضر اجتماعات أخرى وتخطب فيها..
قال: أين؟
قلت: أقترح عليك أن تسافر إلى البلاد العربية.. وأن تخطب على الشعوب العربية.. لتسمع منك رسالة الثورة بالنسبة إلى القضية العربية..
قال: ليتني أستطيع ذلك..
قلت: هي بضعة عشر يوما.. في جولة إلى البلاد العربية القريبة.(1/640)
قال: لا أستطيع.. أن مجلس الثورة عندنا كله من الشبان، وأخشى أن تدفعهم الحماسة "فيعملوا لنا عملية" تخرب الثورة، فسكت ولم أعقّب، ولكن التاريخ هو الذي عقّب، فلم تكن فراسة الرئيس محمد نجيب في محلها، فقد استطاع "الشبان" أن يبنوا دولة ويصنعوا تاريخا، وركبت سيارتي، واستأذن أحد الضباط أن يركب معي إلى القاهرة.
وفي الطريق قال لي الضباط:
- لقد كان حديثك في منزل رفعة الرئيس مفيدا ومقنعا.. ألا ترى أن تتحدث في هذا الموضوع مع السيد جمال عبد الناصر "إنه دماغ الثورة، و إذا اقتنع ينفذ حالا".
قلت: لقد اتصلت بمكتب السيد عبد الناصر أطلب موعدا.. ولكن يظهر أن السيد عبد الناصر مشغول جدا..
قال: نعم إنه مشغول جدا هذه الأيام.. هناك أمور داخلية خاصة بتدعيم الثورة تجعله يعمل ليلا نهار.. ولكني سأرتب لك موعدا لمقابلته.
ووصلت شارع البستان حيث مقر الجامعة "القديم" وذهبت سيارتي مع الضابط توصله إلى حيث يشاء.
ولم تتهيأ الفرصة إلى ذلك الوقت للقاء السيد عبد الناصر . فأنا إنسان "مسافر" والسفر عندي كان هو الأصل، والإقامة هي الإستثناء، كذلك كان حالي ثلاثين عاما طوالا.. وقدر لي أن ألتقي بالسيد جمال عبد الناصر بعد سنوات كانت تنتظرني.
وفي هذه المرة كان سفري إلى نيويورك، ثم إلى الفاتيكان، وبعدها إلى ليبيا، وبعدها إلى تطوان.. "موكل بفضاء الله يذرعه"..(1/641)
اشربوا معي..
نخب الإتحاد السوفيتي
... غادرت الوطن العربي في خريف عام 1952، وصيحات الثورة وشعاراتها تتعالى في القاهرة ودمشق، والسيد جمال عبد الناصر في سراي الجزيرة على النيل يوطد دعائم الثورة، والسيد أديب الشيشكلي في "رياسة الأركان" في دمشق يضع الخطط لحماية الانقلاب ... وصلت نيويورك لأجد قضية العرب الأولى، قضية فلسطين، تواجه أكبر خطر يتهددها، بعد خطر التقسيم في عام 1947.
... وقد استشعرت إسرائيل حينذاك ومن ورائها الولايات المتحدة، أن العرب مشغولون في أمورهم الداخلية، مستغرقون في هذه النظم الجديدة التي برزت في القاهرة ودمشق، والناس بين مندفع لحمايتها وبين مراقب لمصيرها.. وأنّ الفرصة مواتية لتسوية القضية، بصورة نهائية.. وعلى أساس الأمر الواقع.
... بل لعل الولايات المتحدة ومن ورائها إسرائيل قد استشعرت كذلك أن هذه "النظم الجديدة" في القاهرة ودمشق محتاجة إلى الاعتراف الدبلوماسي..ومحتاجة فوق ذلك إلى دعم اقتصادي وعون فني.. وأنّ الفرصة قد أصبحت ملائمة لاستخدام الأمم المتحدة لتصفية القضية الفلسطينية.(1/642)
... وكان مما دفع صانعي السياسة الأمريكية إلى هذه الاحتمالات، بل إلى هذه الأوهام.. أن الوجه السياسي الدولي لمصر الثورة لم يكن قد تحددت معالمه بعد.. وأنّ مصر ستنجح إلى بناء مصر اقتصاديا، ورفع مستوى المعيشة للعامل والفلاح، والانصراف إلى شؤونها المصرية الكثيرة.
... وكانت السياسة الأمريكية تلوح على الدوام بأن التنمية الاقتصادية في المشرق العربي هي خير حل لاستيعاب اللاجئين الفلسطينيين.. وأنّ الولايات المتحدة مستعدة أن تدفع.. وان تظل تدفع للدول العربية معونات مالية كبرى لتمويل مشروعات التنمية.. وصولا إلى تحقيق هذا الهدف- استيعاب اللاجئين.. وبعبارة أصح..توطين اللاجئين . والتعفية على فلسطين.
... ذلك كان تخطيط السياسة الأمريكية في أوائل الخمسينات وذلك كان حسابها.. ومن أجل ذلك كانت تسعى الولايات المتحدة أن تجعل من وكالة غوث اللاجئين..وكالة تشغيل اللاجئين بالاسم والواقع، ثم عززت هذا السعي والتصميم بإيفاد بعثة "كلاب" لدراسة الأوضاع الاقتصادية في البلاد العربية والمشروعات التي يمكن أن تؤدي إلى "توطين" اللاجئين في الدول العربية.. وقد أرادت السياسة الأمريكية أن تجعل من دورة الأمم المتحدة لعام 1952 وسيلة لتحقيق هذا الهدف.. فلقد أفلحت الولايات المتحدة عام 1947 في استصدار قرار التقسيم، واعترفت بإسرائيل في عام 1948 وأيدت دخول إسرائيل عضوا في الأمم المتحدة في سنة 1949، ولم يبق أمامها إلاّ أن تصفي ما بقي من قضية فلسطين في عام 1952.
... وتحركت أجهزة الإعلام الأمريكية والصهيونية للتحدث عن السلام بين العرب وإسرائيل.. وعن المفاوضات المباشرة بين العرب وإسرائيل..(1/643)
وبرز إيبان المندوب الدائم لإسرائيل يحمل راية السلام ويدعو إلى عقد صلح ينهي حالة الحرب بين العرب وإسرائيل"، " ويعمل الشعبان الساميان العربي واليهودي على تقدم الشرق الأوسط وازدهاره وتوفير أسباب الرفاهية والسعادة لشعوبه.."
... ثم جاءت الصحافة الأمريكية لتبرز عناوين ضخمة: إيبان يحمل مشروعا للسلام.. إسرائيل وضعت مشروعا مفصلا للسلام.. إيبان سيقدم مشروع السلام إلى الأمم المتحدة.. المشروع الإسرائيلي يحتوي جوانب إيجابية هامة.. إسرائيل تقدم حلولا بناءة لمشكلة اللاجئين.. المشروع الإسرائيلي يضمن حرية العبادة والزيارة للأماكن المسيحية المقدسة.. وهكذا.
... وعصفت هذه العاصفة الإعلامية في داخل الأمم المتحدة، وأصبحت حديث وفود الدول الاعضاء.. في اللجان .. في الأروقة.. وفي قاعة الطعام.. وراحت هذه العاصفة تلفنا نحن الوفود العربية من كل جانب، وكنا كلما انتشرنا في ردهات الأمم المتحدة يستوقفنا هذا الوفد أو ذاك، ليسأل.. وما رأيكم في مشروع ايبان.. يجب أن يتم الصلح بين العرب وإسرائيل..وكل حرب يجب أن تنتهي إلى صلح.. والصلح لا يتم إلاّ بمفاوضات مباشرة.. والمفاوضات المباشرة قد نص عليها ميثاق الأمم المتحدة.
... وجاء دور القضية الفلسطينية فافتتح المناقشة إيبان مندوب إسرائيل الدائم، وشخصت الأبصار وأرهفت الأسماع، فهذا اليوم يوم إسرائيل تمد يدها بالسلام إلى العرب.. والوفود تتمنى أن تفلح الأمم المتحدة في الوصول إلى تسوية نهائية للقضية الفلسطينية، وبهذا تشطب واحدة من المشاكل الدولية المدرجة على جدول أعمال الأمم المتحدة.. وعرض إيبان ما اسماه الخطوط(1/644)
العريضة لمشروع السلام بين العرب واليهود، وأخذ وفود الدول الأعضاء يلخصون ويدونون، والاهتمام باد على وجوههم، وفي حسابهم أن الأمم المتحدة ستستريح من هذه" اللعنة" التي تسمى القضية الفلسطينية، فكانت الخطوط العريضة على الصورة التالية:-
- أن إسرائيل تتطلع إلى سلام دائم بين العرب واليهود حتى يستطيع الشعبان الساميان القديمان أن يعيدا معا إلى الشرق الأوسط حضارته وازدهاره..
- أن إسرائيل والدول العربية يكمل بعضها بعضا، فالأولى بما عندها من خبرات علمية وفنية تستطيع أن تتعاون مع الثانية بما عندها من ثروات وإمكانات.
- أن إسرائيل مستعدة لأن تقدم أية ضمانات تطلبها الدول العربية لإثبات حسن نيتها، وأنّها لا تحمل أية أهداف عدوانية أو توسعية.
- أن إسرائيل مستعدة للموافقة على تعديل خطوط الهدنة بما يضمن مصالح الفرقاء المعنيين، ويجعل هذه الخطوط حدودا ثابتة.
- أن إسرائيل مستعدة أن تمنح الأردن تسهيلات فعلية للوصول إلى البحر الأبيض المتوسط عن طريق ميناء حيفا، وكذلك لوضع التسهيلات الملائمة بالنسبة إلى مطار اللد في إسرائيل.
- أن إسرائيل مستعدة لحماية الأماكن المقدسة التي في حوزتها، وضمان حرية الزيارة والعبادة فيها ...
- أن إسرائيل توافق على إعادة عدد معين من اللاجئين، ولكنها ترى أن مشكلة اللاجئين في مجموعها يجب أن تحلّ عن طريق مشروعات التنمية في(1/645)
البلاد العربية، ولا تتردد إسرائيل في أن تقدم خبرتها الفنية في هذا الصدد، كما طبقتها في مشروعات إسكان اللاجئين اليهود الذين قدموا إلى إسرائيل.
- أن إسرائيل مستعدة لأن تتقدم باقتراحات بناءة فيما يتعلق بتعويض اللاجئين عن أملاكهم وأراضيهم.
... وأخيرا فإن إسرائيل تدعو إلى عقد مؤتمر مائدة مستديرة من العرب واليهود تحت إشراف الأمم المتحدة لبحث تفاصيل هذه الخطوط العريضة، والوصول إلى معاهدة صلح تضع أسس سلام دائم في الشرق الأوسط.
... ولقد صاغ إيبان هذه الخطوط العريضة في عبارات مشرقة وفي قوالب دولية ناصعة، حتى لم يبق أمام الأمم المتحدة إلاّ أن تسمع من الوفود العربية كلمة "نعم" ويا ويلها إذا كانت الكلمة "لا".
... وكانت الوفود العربية مؤلفة على مستوى عال فقد حضر هذه الجلسات الأمير فيصل وزير خارجية المملكة العربية السعودية، والدكتور محمود فوزي وزير خارجية مصر، والدكتور ظافر الرفاعي وزير خارجية سوريا، والدكتور فاضل الجمالي وزير خارجية العراق، والدكتور فؤاد عمون عن لبنان، ورؤساء الوفود العربية الأخرى.
... وانتهى إيبان من بيانه الطويل عند المساء فتأجلت الجلسة إلى صبيحة اليوم الثاني، والأمم المتحدة لا حديث لها إلاّ إيبان ومشروعه، وموضوعيته، وعلميته، ورزانته، واتفقت كلمة الوفود العربية أن أتولى الرد على إيبان في اليوم التالي.
... ولم يكن هذا العبء ثقيلا علي، فإن ملفاتي جاهزة موضوعا موضوعا، والمقتبسات والمراجع معدة بفهارسها.. وكان وراء ذلك جهد لعله(1/646)
امتد بضعة عشر عاما.. وعزمت أن أعرض القضية الفلسطينية برمتها، بصورة علمية، وأن أردّ على إيبان بصورة موضوعية، وأن أحطِّم ذلك الصرح "الجميل" الذي بناه إيبان عن الصلح والسلام.
... وحملت ملفاتي وأوراقي، ومعها عزمي وإيماني، وذهبت إلى الأمم المتحدة، والوفود العربية مشفقة علي من هذه "المبارزة"، مع إيبان.. ووفود الدول الأعضاء بين شامت ينتظر عثراتي.. وصديق عطوف يرجو لي مخرجا كريما.
... وكانت جريدة النيويورك تايمس قد نشرت خطاب إيبان بكامله في صفحة بارزة تحت عناوين مثيره، فكانت الفرصة مهمة لأتحدث عن قوة الدعاية الإسرائيلية والإمكانات التي تملكها لتضلل الرأي العام الدولي، وقضيت الجلسة كلها وأنا أشرح أساليب الخداع والتضليل التي تتبعها الدعاية الصهيونية في التستر على أطماعها ومدى السيطرة على وسائل النشر في العالم، وكنت عبارتي الأخيرة، وسترون يا حضرات الأعضاء أن جريدة النيويورك تايمس لن تنشر كلمة واحدة من بياني هذا".
... وجاء اليوم الثاني فلم تنشر النيويورك تايمس كلمة واحدة من خطابي رغم تحدي الأمس، ومن هنا كانت بداية حديثي في اليوم التالي عن المؤامرة الصهيونية الاستعمارية في صدور وعد بلفور وصك الانتداب.
... وفي اليوم الثالث أوجزت أحداث الثلاثين عاماً من عهد الانتداب البريطاني، وما يتصل ببيوع الأراضي وشؤون الهجرة اليهودية..والثورات الخمس عشرة التي خاضها الشعب الفلسطيني دفاعا عن وطنه.(1/647)
... وفي اليوم الرابع تناولت بالتفصيل موضوع التقسيم، والجهود الضخمة التي بذلتها الولايات المتحدة لحمل المنظمة العالمية للموافقة على قيام إسرائيل، وما نتج عن ذلك من تشريد الشعب الفلسطيني عن وطنه.
... وفي اليوم الخامس، ختمت المناقشة بتنفيذ مشروع إيبان دون أن أترك له منفذاً أو منفسا.
... وقد جمعت الحكومة السورية فيما بعد هذه الخطب بنصها الإنجليزي في كتاب مستقل، وطلب إيبان الكلمة مبهوتا ليرد علي فجاء باهتا.. فقد اعتمدت في خطبي الخمس على المصادر الإسرائيلية من أقوال وايزمن، وشرتوك، وبن غوريون والكتاب السنوي لحكومة إسرائيل.. ولم يجد إيبان ما يرد علي إلاّ أن قال أن " الشقيري" فلسطيني لا يمثل أحدا.
... وكانت فرصة اخرى، فطلبت الكلمة وقلت: إنني رئيس الوفد السوري وهؤلاء وزراء خارجية الدول العربية من حولي يجلسون معكم في هذه القاعة.. وأنا أنوب عنهم جميعا في ما قلته بصدد القضية الفلسطينية..أمّا الذي لا يمثل أحدا ولا يمثل شيئا فهو ايبان، مواطن بريطاني من جنوب افريقيا، عمل في المخابرات البريطانية في الشرق الأوسط أثناء الحرب العالمية الثانية، وحصل على الجنسية الإسرائيلية مؤخرا، وتعلم اللغة العبرية حديثا.
... وهنا ضجت القاعة بالضحك.. وقارب وقت المساء وكان يوم الجمعة فتأجلت المناقشة إلى صباح الاثنين.. وكان السبت والأحد فرصة الوفد الأمريكي لمؤامرة جديدة تقارب مؤامرة التقسيم في سنة 1947.
... وجاء يوم الاثنين، فطلب الوفد الأمريكي التأجيل يومين لإعطاء مزيد من الوقت للمشاورات بين الوفود..وهو يعلن "لقد تقدم الفريقان بآراء مهمة(1/648)
جديرة بالدرس". فتمت الموافقة على التأجيل، وبهذا تيسر للوفد الأمريكي أن "يطبخ" مشروع قرار جديدا يصفي القضية الفلسطينية.. وجاء يوم الأربعاء، فإذا بنا أمام مشروع قرار مقدم من ثماني دول، اشتهر فيما بعد بمشروع الثمانية، يقترح في مجمله "مناشدة الفريقين الدخول في مفاوضات مباشرة بغية حل الخلافات القائمة بينهما والوصول إلى تسوية نهائية للمشكلة الفلسطينية".
... وقد تقدم بهذا المشروع عدد من الدول الغربية والاوروبية ودول أمريكا اللاتينية وقد تجنبت أمريكا أن تضع اسمها في المشروع، لتستطيع أن تلعب دورا أكثر أثرا في إنجاحه وجمع الأصوات حوله.
... ودارت معركة "تعبئة" الأصوات ولم يعد للخطب مجال، ولا للمنطق مقال، وأصبحت النتيجة بالأصوات.. ونحن في هذا الباب ضعفاء.. ومن أين لنا أن نقف أمام أمريكا، وهي تبذل المساعدات الاقتصادية الضخمة من غير حساب.
... وقد زاد من صعوبة الموقف أن السياسة العربية الخارجية إلى ذلك الوقت كانت مرتبطة بالعالم الغربي، ولم تكن مصر الثورة قد أوضحت سياستها العربية المستقلة، ولا عدد من الدول العربية الاخرى.
... وقد زاد من صعوبة هذه الصعوبة أن الإتحاد السوفيتي قد وجد نفسه في موقف حرج، فقد سبق له أن وافق على التقسيم واعترف بإسرائيل.. ثم ان المفاوضات المباشرة لحل المنازعات الدولية أسلوب ينص عليه ميثاق الأمم المتحدة. وما هو أهم من هذا التعديل الدولي أن العرب لا يزالون في(1/649)
ذيل الدول الغربية، وليس على الإتحاد السوفيتي أن ينجدهم .. فليذوقوا البلاء على يد أولئك الأصدقاء.
... وتجمعت هذه الأسباب كلها يوم التصويت، فاجتمعت اللجنة السياسية وطرح مشروع القرار ففاز بأكثرية الثلثين، وصفقت إسرائيل ومعها الأمم المتحدة لهذا النصر الكبير، وأصبح على العرب أن يذعنوا للقرار ويدخلوا في مفاوضات مباشرة مع اليهود.. وكفى الله المؤمنين القتال.
... وكان يوما بائسا تعيسا علينا جميعا.. لا نجد فيه مخرجا.. فبعد بضعة أيام تنعقد الجمعية العامة للتصويت على القرار بصورة نهائية، وراح أكثرنا يعد الخطب في بيان عدم مشروعية القرار.
... ولكن المصير قد أصبح مرهونا بالأصوات، وقد فات وقت الخطب، والوفود في الأمم المتحدة تحدد موقفها أولاً، ثم تعد الخطب لتبرير هذه الموقف .. ثانيا..
... ولو كانت الأمور في الأمم المتحدة تقرر في نطاق الخطب، وفي إطار الحق والعدل، لكان ميسورا علينا أن نهزم مشروع الدول الثماني، فقد عقدت للقضية أربع عشرة جلسة ألقي خلالها مئة وخمسة وثلاثون خطابا ما عدا الكلمات الموجزة والردود الآنية، ومع هذا حين جاء وقت التصويت كانت النتيجة أن نجح مشروع الثمانية بأكثرية 32 صوتا ضد 13 صوتا واستنكاف ثلاثة أصوات، وغياب من غاب، أو اصطنع الغياب.
... واجتمعنا في الوفد السوري لدراسة الموقف: ظافر الرفاعي وزير الخارجية، وأعضاء الوفد الدائم السادة رفيق العشا، صلاح الطرزي، أديب الداودي، ونجم الدين الرفاعي، وأنا، وبعد تدارس الموقف رأينا أن باب الفرج(1/650)
هو عند عتبات الإتحاد السوفييتي، ولا بد لنا أن نلجأ إلى فيشنسكي رئيس الوفد الروسي، عسى ان تغير الدول الإشتراكية تصويتها في الجمعية العامة.
... وكان فيشنسكي خطيب الأمم المتحدة بلا منازع، وكان له مقام كبير في الإتحاد السوفيتي، وليس رئيس وفد فحسب، وكنت في خطبي في الأمم المتحدة أطريه وأثني عليه ثناء كبيراً، كأنني أعده ليوم كريهة.. حتى أنني قلت عنه مرة، وكنا نناقش موضوع الطاقة الذرية، "أن فيشنسكي طاقة ذرية عظيمة، ولكن ليس لها إشعاعات ضارة". فابتسم لهذا المديح، وقلّ أن يهز الثناء حاجبيه أو شاربيه.
... وانطلقت إلى مكتب الوفد الروسي في "بارك أفينيو" ومن الذي يجرؤ أن يدخل هذا "الكرملين" الصغير .. فقد كان كثير من الوفود العربية يخشون أن يسيروا بجانب فيشنسكي في الأمم المتحدة، أو تجمعهم معه صورة واحدة، وهل يجرؤ عربي أن يصافح فيشنسكي بحرارة، بعد خطاب من خطبه النارية؟
... وتحدثت مع فيشنسكي طويلا في القضية الفلسطينية، وأنها محور عواطف الأمة العربية، وأوضحت الأسباب التي من أجلها نرفض المفاوضات مع اليهود.. وأنّ الأمة العربية تتطلع إلى نصرة الدول الإشتراكية وعلى رأسها الإتحاد السوفيتي.. وأنّ وأنّ..
... وكنت أتحدث مع فيشنسكي كأنني في محراب، أناجي وأصلي.. فكيف نحتمل هذا العار في سنة 1952، بعد هزيمة 1948.
... فوعد فيشنسكي أن ينقل رجائي إلى موسكو، وأن يضم إليه صوته وموافقته ولكنه طلب أن لا يعلم أحد من الوفود العربية بلقائنا" فإنّ بينهم من(1/651)
ينقل الأخبار إلى الأمريكان ولا داعي للكشف عن خططنا.." ذلك ما أكده غير مرة .
... وودعت فيشنسكي وأنا أقول له "هذا يوم من أيام العرب، وأنا أشرح له مدلول هذا القول ومغزاه.. وأثره على الأمة العربية ومداه".
... ومضت ثلاثة أيام ورفاقي من شباب الوفد السوري يعملون في صمت ومثابرة، في حملة كبرى من الاتصالات، وخاصة مع بقية الدول الإشتراكية.
... وجاء يوم التصويت في الجمعية العامة، وقبيل الجلسة دعاني أحد أعضاء الوفد الروسي إلى الجناح الخلفي من قاعة الجمعية العامة، فذهبت مع بعض أعضاء الوفد السوري، و إذا بفيشنسكي واقف ينتظرني ليقول لي كلمة واحدة: سنكون إلى جانبكم.. فشددت على يده بحرارة، البشرى تسري مع دمي في عروقي.. وقلت له: ستسمعني على المنبر.
... وتكتمنا الخبر، تكتم الحب القديم، وانعقدت الجمعية العامة، وبدأ التصويت بالأسماء، وكانت بولندا في أوائل من دعي للتصويت، فلم تصوت مع القرار.. وكانت دهشة وذهول.. فذلك ينبئ أن الدول الإشتراكية قد غيرت تصويتها. وذلك يعني أن القرار لن يحوز أكثريّة الثلثين.. وذلك يعني أن القرار سيهزم.. وتهزم معه إسرائيل والدول الغربية بأسرها.
... ومضى التصويت العلني بالاسم، وأعلنت روسيا أنها ليست مع القرار، وكذلك الدول الإشتراكية كلها، فانقلبت الموازين، وانقلبت معها الحسابات.. وأعلنت النتيجة: لقد سقط القرار لأنه لم يظفر بأكثرية الثلثين..(1/652)
... وجاء دورنا للتصفيق.. فألهبنا أكفنا بالتصفيق وصفق معنا الكثيرون من الذين كانت تعليماتهم في جانب، وضمائرهم في جانب آخر.. وقبل ثلاثة أيام كان التصفيق علينا لا لنا.
... وزادت عاصفة التصفيق وأنا أشقّ طريقي إلى المنبر.. في زهو وخيلاء، لألقي الكلمة أطماعها حول هذا الموقف الأخير.
... وكان رؤساء وفود الدول العظمى الأربعة: روسيا وأمريكا وبريطانيا وفرنسا، يجلسون في الصفوف الأمامية في أماكن متقاربة، وكانت قاعة الجمعية معبأة بحشود الوفود وجماهير الزوار، بما لم تشهد له المنظمة العالمية مثيلا.
... وقلت أمام هذا الحشد الحاشد، وأنا أحَدقّ بصري بوفود الدول العظمى مرة، وبوفود الدول الأخرى مرة أخرى: إننّي لا أقف الآن لأخطب في الموضوع، فقد خطبت أياما وأياما، ولست أقف الآن لاتكلم باسم سوريا حكومة وشعبا، ولكني في هذه الساعة أتكلم باسم الأمة العربية بأسرها من المحيط إلى الخليج، إنني أعلن من هذا المنبر شكر الأمة العربية للاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية، كما أعلن استنكار الأمة العربية لموقف الولايات المتحدة وحليفاتها".
... ثم أخذت أقارن بين الموقف الروسي العادل، والموقف الأمريكي الظالم، واسترسلت في إطراء الإتحاد السوفيتي والتنديد بموقف الدول الغربية.. وغادرت المنصة والجمعية العامة في ذهول من هذا" العربي" الذي يجرؤ أن يرفع يده بالتحية لروسيا.(1/653)
... وجاء إيبان من بعدي يحاول أن يلتقط أنفاسه، وهو" مفجوع أن ضاعت فرصة "السلام" وتحدث عن" الهستيرية" الشقيرية..وإني لأعترف أنني كنت في حالة من النشوة لم تكن بعيدة كثيراً عن نوبة" هستيرية" .. ولكن ماذا أصنع، إنه الوطن في الميزان.. تماما مثل الهستيرية الحامية في الميدان.
... وخرجنا من القاعة، والوفود تتوافد على الوفد السوري تعبر عن تهنئتها وتقديرها.
... وكانت الوفود العربية مبتهجة بهذه النتيجة البهيجة، ولكنها كانت خائفة كذلك.. كانت خائفة لأن مغامرة "الشقيري" مع الإتحاد السوفيتي خطرة.. فإن الأمة العربية لا "تهضم" الشيوعية.. وأوصى عدد من الوفود العربية ملحقيهم الصحفيين أن لا يبرزوا دور الإتحاد السوفيتي، ولا ينشروا "مدائح" الشقيري للاتحاد السوفيتي.
... ولكن عواطف الأمة العربية لا يمكن أن تحبس بهذه السهولة، وخصوصا في القضية الفلسطينية، فقد انطلقت عواطف التأييد لروسيا في كل أرجاء العالم العربي، وخرج التأييد الرائع من حيث لا يظن أحد أن يخرج.. من البرلمان الأردني، فقد وجه برقية شكر إلى الإتحاد السوفيتي لهذا الموقف العظيم..
... وكان ذلك الموقف من الإتحاد السوفيتي بداية لعهد جديد، أخذت بعده موسكو في سياسة جديدة، لم تكن عربية كاملة بالنسبة إلى القضية الفلسطينية، ولكنها كانت صمام الأمان، أنقذت الموقف العربي من أزمات كثيرة وخاصة في مجلس الأمن.. بما تملكه روسيا من حق الفيتو الذي مارسته لصالح العرب مرات ومرات في أحلك الساعات.(1/654)
... وكان هذا الموقف لي بصورة خاصة، بداية لتحالف مع الإتحاد السوفيتي في جميع القضايا الدولية، من غير تعليمات ولا توجيهات، حينما كنت رئيس الوفد السوري، وبعد ذلك رئيس الوفد السعودي.. مما سيأتي ذكره..
... وبعد انفراط عقد الجمعية العامة، خرجت الوفود إلى "الكافتيريا" التماسا للراحة والطعام والشراب..
... وخرجت مع الوفود، واصطنعت الجلوس مع الوفد الروسي والوفود الإشتراكية الأخرى، وطلبت لهم ولي شرابا، وأردت أن أبالغ في النكاية بالدول الغربية جهارا نهارا، فرفعت كأس العصير بيدي وأنا أقول: اشربوا معي نخب الإتحاد السوفيتي.
... وكانت ساعة مرح ومداعبة، فرفعوا جميعا كؤوسهم وشربوا نخب الإتحاد السوفيتي وقد غلبتهم روح المجاملة والزمالة.
... وانتهت تلك الدورة في هزيمة منكرة لإسرائيل ومن هم وراء إسرائيل.. ولم تعد المفاوضات المباشرة إلاّ كلاما "إعلاميا" لإسرائيل، ليس له حظ من النجاح في الأمم المتحدة.
... ومضى خمسة عشر عاما على تلك الدورة التاريخية حتى وقعت الهزيمة التاريخية في حزيران 1967، فعادت إسرائيل، بعناد وإصرار، إلى حكاية المفاوضات المباشرة..
... وهذه الحكاية لها كلام آخر.. وفي مكان آخر..(1/655)
آمال في موسكو..
ومخاوف في الفاتيكان
... في أوائل الخمسينات كان الوطن العربي في ثورة، في المشرق ثورة على "الحكم العربي، وفي المغرب ثورة على الحكم الأجنبي، في القاهرة ودمشق تقتلع "الثورة" أنظمة الاستعمار من جذورها، وفي تونس والجزائر ومراكش تناضل" الثورة" لتزحزح الاستعمار عن مواقعه، وتحرر الوطن والشعب.
... وكانت الجامعة العربية تراقب ثورة المشرق والمغرب دون أن تبدي حراكا، إلاّ ما يُشعر العالم بأنها ما تزال تلفظ الأنفاس.
... ولقد قامت الجامعة العربية من أجل فلسطين، أو هكذا قال الملوك والرؤساء يوم إنشائها.. وكان للمغرب العربي نصيب في ملحق ميثاقها فيه كلمات جميلات عن رعاية مصالح الشعوب العربية في الشمال الافريقي.
... وكل الظن يومئذ أن المغرب العربي لا أمل في شفائه.. فقد استفحل فيه داء الاستعمار وأنشب مخالبه.. ولا بأس في كلمات مؤاساة تقولها الجامعة العربية من حين إلى حين.. إلى شعوب المغرب العربي..
... أمّا فلسطين .. فقد كان الظن كذلك أن أمرها مع بريطانيا أيسر من أمر تونس والجزائر ومراكش مع فرنسا.. فلتمض الجهود في سبيل(1/656)
فلسطين ... ولنترك المغرب إلى الزمن، هذا كان خيال القادة والساسة.. من رجال الجامعة العربية.
... وجاءت أعوام 46، 47، 1948 فهزمت الجامعة العربية شر هزيمة في ميدان الحرب، وراحت تعالج القضية الفلسطينية ومعها قضايا تونس والجزائر وليبيا ومراكش معالجة هزيلة هي أقرب إلى الاستجداء منها إلى النضال والكفاح.. والجامعة تهرب من مواجهة الرأي العام وراء ستار كثيف من التصريحات اللاهبة والعبارات الطنانة الرنانة.
... وحدث في ذلك الوقت بالنسبة إلى القضية الفلسطينية، أن استعلى في الجو موضوع التعويضات الألمانية الإسرائيلية، وهذا موضوع خطير أثبتت الأيام أنّه كان شريان الحياة لإسرائيل أمدها بالبقاء بضعة عشر عاما.
... وعقدت الاجتماعات العربية على مختلف المستويات، وانطلقت التصريحات المدوية من العواصم العربية، وشهدت القاهرة اجتماعات" رائعة" في الجامعة العربية حضرها الوزراء والخبراء، وكان الشعار مقاطعة ألمانيا سياسيا واقتصاديا وثقافيا. واهتزت ألمانيا لهذه الانباء "المروّعة" وكانت ألمانيا ما بعد الحرب، دولة ناشئة تبني اقتصادها وحياتها من جديد.. ولها مع العالم العربي مصالح.. وهبط إلى القاهرة وزير ألماني كبير ليناشد الدول العربية أن لا تقدم على المقاطعة.. وأنّ ألمانيا مستعدة لاسترضاء الجامعة العربية وحكوماتها بالعون المالي والاقتصادي والفني.. وعاد الوزير الألماني من القاهرة وهو لا يعلم على وجه اليقين إذا كان العرب سيقاطعون أو لا يقاطعون.(1/657)
... وشهدت هذه الاجتماعات، بحكم منصبي في الجامعة العربية، وكانت فجيعتي كبيرة أن أقرأ في صحف الصباح تصريحات الوزراء العرب تحض على المقاطعة، والمقاطعة الشاملة "لألمانيا الغربية" حتى إذا انعقد الاجتماع وأقفلت الأبواب، بدأ الوزراء يتحدثون حديث الحكماء.. عن محاذير المقاطعة واستحالتها.. ثم يتساءلون بعد ذلك إلى متى سنظل ننساق وراء العواطف؟ إلى متى سننجر وراء جموع الجماهير. وننقاد إلى رجل الشارع ونسير في ركاب الغوغائية؟
... ولكن لم نكن لنفرغ من هذا الكلام "الحكيم" الرزين..حتى أرى الوزراء هم إياهم.. بعد انتهاء الجلسة، يصرخون ويعلنون إلى الصحفيين بأن مقاطعة ألمانيا أمر لا مناص منه.. إنه واجب قومي تفرضه دواعي الشرف والكرامة.. ولا بد أن نقبل كل تضحية من أجل فلسطين.
... وكانت آخر الجلسات التي عقدت لبحث هذا الموضوع قد تمت في رئاسة مجلس الوزراء المصري في مكتب الرئيس محمد نجيب وبحضوره..ودارت المناقشات طويلة وعريضة واستقر الرأي الحكيم الرزين أن الحكومات العربية لا تستطيع أن تقاطع ألمانيا..
... وقبل انتهاء الجلسة طرح الرئيس محمد نجيب السؤال التقليدي الذي يطرح في كل جلسات الجامعة، وماذا نقول للصحافة؟
... ودار كلام وحوار، وكأنما بدأت الجلسة من جديد.ماذا نقول للصحافة؟ وقدمت اقتراحات متعددة، وكان أيسرها أن تقول الأمانة العامة "أن مجلس الجامعة بحث جوانب هامة في قضية فلسطين وفي مقدمتها قضية اللاجئين واتخذ بشأنها القرارات اللازمة" واقترح السيد نجيب الراوي رئيس(1/658)
وفد العراق أن أعلن هذا القرار للصحفيين فرأيت نفسي أردّد لمجلس الجامعة العربية قول الشاعر:
و إذا تكون كريهة أُدعى لها و إذا يحاس الحيس يدعى جندب.
... وتطوع الأمير السفير مصطفى الشهابي فشرح بيت الشعر للذين لم يفهموه، ووقع العبء في النهاية على السيد محمد نجيب بوصفه رئيس الجلسة أن يفضي للصحفيين بذلك البيان الصادق الأمين.
... وكان هذا النهج الذي أصبحت تعالج فيه القضية الفلسطينية بعد هزيمة عام 1948، أمّا القضايا العربية في شمال افريقيا فقد كانت معالجتها على نحو أسوأ وأسوأ.
... ففي أوائل عهد الجامعة وقبل حرب فلسطين، كانت العواطف والتمنيات هي المنطلق الوحيد في معالجة القضايا العربية في شمال افريقيا، ففي 4-12-1945 قرر مجلس الجامعة "أن يعهد إلى الأمانة العامة اتخاذ التدابير اللازمة للقيام بمساع سياسية لاجل تخفيف العنف والاضطهاد والويلات التي تنزل بإخواننا العرب في شمال أفريقيا وان يكون من ضمن هذه المساعي زيارة الأمين العام لفرنسا".
... وفي 12-4-1946 تغيرت الصيغة الإنشائية بعض الشيء فقرر مجلس الجامعة "عطفه على إخواننا العرب في المغرب وتأييده لما يطلبونه من حق في الحرية والاستقلال".
... والواقع أن هذه العبارات المدبجة لم يكن لها معنى عملي، ولم يكن لها مضمون يتجاوز حدود الكلام.. فعلى الصعيد المالي كان كل ما اعتمده المجلس( 12-2-1951) مبلغ عشرة الآف جنيه، ثلاثة منها تخصص لليبيا،(1/659)
وسبعة الآف لأقطار المغرب العربي من خلال مكتب المغرب العربي الذي يعمل فيه زعماء المغاربة، فأصدر مجلس الجامعة العربية في 14-2- 1950 قرارا" يتمنى المجلس على الأمانة العامة رفع الإعانة المخصصة لمكتب المغرب العربي من 200 إلى 250 جنيها شهريا..".
... تلك كانت قرارات النضال- مظالم ومغارم على يد الاستعمار الافرنسي، وشح وتقتير على يد الجامعة العربية.. وكان من أسوأ ألوان الشح والتقتير ما اختبرته بنفسي، فقد جاءني مرة الشيخ محمد بشير الإبراهيمي كبير علماء الجزائر يناشدني، بنبره الصافي وشعره الرائق أن تقدم الجامعة العربية معونة مالية للطلبة الجزائريين الذين يدرسون في البلاد العربية.
... ولقد دعوت الدائرة المالية في الجامعة، بكل أركانها وقلت لهم:-
- هل عندكم وفر في الميزانية.
قالوا: نعم..
قلت: ادفعوا للشيخ الابراهيمي مبلغ مايتي جنيه كل شهر إعانة معاونة للطلبة الجزائريين.
قالوا: هذا يحتاج إلى توقيع الأمين العام وهو غائب.
قلت: أنا الأمين العام بالنيابة. وهذا توقيعي.
قالوا: هذه مسألة مالية تحتاج إلى نص.. ونحن في الجامعة لا نقدم معاونة للطلبة، ونخشى أن تصبح سابقة.
... قلت: يا إخوان.هذه حالة استثنائية. اللغة العربية في خطر في الجزائر.. وعلينا أن نشكر الشيخ الابراهيمي أنه يقوم بهذا الجهد لتعريب(1/660)
الجزائر.. وأي خطر على الأمة العربية أن تصبح سابقة.. وهل هي سابقة قبيحة حتى نخشاها..
قالوا: على مسؤوليتك؟
قلت: نعم.. على مسؤوليتي .. ادفعوا..
... وانتهت المعاملة المالية، وصار الشيخ الابراهيمي يأتي كل شهر وهو يتوكأ على عكازه، ليقبض المبلغ من أجل تعليم الطلبة الجزائريين.. ولكن لم تكن تخلو اجتماعات اللجنة المالية للجامعة من همسات حول "مخالفات" الشقيري المالية ومعها رتل طويل من الأسئلة المألوفة، أليس في البلاد العربية طلبة كثيرون محتاجون للعون؟ ولماذا هذا التخصيص للطلبة الجزائريين.
... أما على الصعيد السياسي فلا بأس من الكرم الكلامي ولو بقدر محدود.. ففي عام 1953 كان النضال الوطني في تونس والجزائر ومراكش يأخذ طريقه إلى المحافل الدولية، فلم تجد الجامعة العربية أمامها، استجابة للرأي العام العربي، إلاّ أن تقرر( 7-9-53) عرض القضية التونسية والمراكشية على الأمم المتحدة، أمّا قضية الجزائر..
... أما قضية الجزائر فقد كانت جوزة صلبة في نظر الجامعة العربية لا بد من أن تسير فيها بطريقة إنسانية ... وكانت اللجنة الثالثة في الأمم المتحدة هي المنبر الذي تعالج فيه الناحية الإنسانية.. بمنتهى الشفقة والرحمة.
... ومن هذا المنطلق المرتجف الهزيل قرر مجلس الجامعة في 9-4-1953" أن تثار قضية الجزائر أمام اللجنة الثالثة التابعة للأمم المتحدة في(1/661)
دورتها المقبلة، ويوصي أن تبذل المساعي منذ الآن لدى لجنة حقوق الإنسان للتمهيد لبحث هذه القضية للتمكن من إثارتها أمام اللجنة الثالثة".
... وكان "حكماء" الجامعة العربية لا حكماء صهيون يظنون وهم يدرسون هذه القضايا النضالية أنهم أمام قضية قانونية ترفع إلى محكمة قضائية ويجب أن تستوفى كل الشرائط قبل تقديمها.
... هكذا كانوا ينظرون إلى الأمم المتحدة.. وإلى ميثاقها.. وإلى العقوبات التي تستطيع أن تفرضها..كانوا يظنون أن الأمم المتحدة تقرر وتحرر.. وكان خصومنا الاستعمار الإفرنسي في شمال افريقيا.. والاستعمار العالمي في فلسطين، يعرفون يقيناً أن الأمم المتحدة لا تعدو أن تكون منبرا إعلاميا على مستوى عالمي ودولي وكفى..
... وكائنا ما كان الحال، فقد حملنا نحن الوفود العربية هذه القرارات النحيلة معنا، وذهبنا إلى الأمم المتحدة لنعرض قضايا الجزائر وتونس ومراكش على الأمم المتحدة.. وكانت الدورة في خريف 1953، وكنت رئيسا للوفد السوري.
... وكان في الدورة عدد من المغاربة جاءوا إلى نيويورك ليقوموا بما يستطيعون من الدعاية والاتصالات السياسية تأييداً لقضايا بلادهم.. وكان بينهم السيدان باهي الأدغم عن تونس (وأصبح فيما بعد نائبا لرئيس الوزراء) وأحمد بلافريج (أصبح فيما بعد ممثلا للملك الحسن الثاني) وكانت الصعوبةالأولى التي واجهها هذان المناضلان المغربيان: كيف يدخلان إلى قاعات الأمم المتحدة ويتصلان بالوفود؟(1/662)
... لقد كان الوفد الإفرنسي يراقبهما منذ أن وصلا إلى الولايات المتحدة.. ويعتبرهما "غريبين" ليس لهما أي حق في دخول الأمم المتحدة إلاّ زائرين يجلسان في جناح الزوار ببطاقة تصرف لهما يوما بعد يوم.
... وعقدت الوفود العربية اجماعا لبحث هذه المشكلة، واستقر الرأي أن أضمهما إلى الوفد السوري كمستشارين، وكانت "حجة" المزاح الجادة:" الشقيري لا ينتظر تعليمات من حكومته فيما يقول ... فليكن إخواننا المغاربة على قائمة الوفد السوري.
... ولم أتردد في الإذعان لهذا القرار من الوفود العربية، فقد كان همي أن أدخل في مشاكل مع الاستعمار ... و إذا جاء وقت الحساب مع حكومتي فإني أفوض أمري إلى الله.
... وجاء موعد بحث قضيتي تونس ومراكش، وجلس ورائي المستشاران السيدان باهي الأدغم وأحمد بلافريج.. وصعق الوفد الإفرنسي أن يرى العدوين اللدودين يجلسان في غير جناح الزوار، في داخل اللجنة السياسية وفي مقاعد الوفد السوري بالذات.
... ووثب الوفد الإفرنسي إلى مكتب المستر همرشلد الفخيم، في الطابق الثامن والثلاثين في مبنى الأمم المتحدة العظيم، يحتج على وجود هؤلاء "الغريبين" في اللجنة السياسية، وأعرب المستر همرشلد عن أسفه واعتذاره، وأعلن انه لا بد أن يكون هنالك خطأ، وتناول سماعة التلفون واتصل بدائرة البروتوكول مستوضحا عن الأمر الجلل، فقال له المسؤول: إنهما مستشاران بالوفد السوري، وقد جاءني كتاب بذلك من رئيس الوفد السوري قبل ثلاثة أيام.. فسكت المستر همرشلد وسكت معه الوفد الإفرنسي وانصرف إلى قاعة(1/663)
اللجنة السياسية ليسمعني وقد بدأت أتحدث عن الإستعمار الإفرنسي.. وعما يعانيه الشمال الإفريقي من بلاء الإستعمار الإفرنسي.. ونددت بما قامت به السلطات الإفرنسية من اعتقال سلطان مراكش سيدي محمد بن يوسف ونفيه إلى جزيرة كورسيكا.. وما قامت به من عسف وإرهاب على الشعب التونسي.. وكانت الكتلة الآسيوية العربية قد برزت شخصيتها في أروقة الأمم المتحدة فنشطت في مناصرة القضيتين العربيتين، التونسية والمراكشية، بوصفهما حركتين تحريريتين، وكان السيد "يوثانت" مندوب بورما "الأمين العام للأمم المتحدة" أشبه شيء بالناطق الرسمي باسم المجموعة الآسيوية فبذل جهودا صادقة في هذا الميدان..
... وجاء مندوب فرنسا ومعه مندوبو الدول الاستعمارية، وحركات التحرير تتربص بهم الدوائر، أن يردوا على وجهة النظر العربية الآسيوية فأشاروا إلى نظام الحماية في القانون الدولي وحقوق فرنسا باعتبارها دولة حامية على مراكش وتونس.
... وقد اغتنمتها فرصة لأهتك هذه الحجة الواهية، وقلت ان مراكش وتونس في حاجة إلى حماية من هذه الحماية، وانّ القانون الدولي، فيما خلا بعض مبادئ أساسية، إنما هو قانون الغالب على المغلوب، القوي على الضعيف، وما هو إلاّ مجموعة من الأعراف فرضتها الدول الأوروبية، وقالوا لها كوني قانوناً فكانت.. وأنّ شعوب العالم القديم في آسيا وافريقيا، لم يكن لها يد في صنع هذا القانون، وإنما كانت هدفه الرئيسي من أجل هدف واحد هو السيطرة والاستعباد.(1/664)
... وانطلقت حملة التصفيق من شرفة الزائرين وكان فيهم جمهور من الزنوج مست هذه الكلمات مكامن العذاب في نفوسهم.
... وأصابت قضيتا مراكش وتونس في ذلك العام والعامين التاليين نجاحا طيبا على صعيد الأمم المتحدة، ولم تكن خطب الوفود العربية ولا جهود الكتلة الآسيوية هي التي حققت لتونس ومراكش الحرية والاستقلال، ولكن الكفاح الدامي البطولي الذي خاضه الشعبان الباسلان في تونس ومراكش، هو الذي حمل فرنسا أن تعترف لهما بالاستقلال في أوائل عام 1956، وكان يوما عظيما في تاريخ العرب المجيد يوم أصبحت تونس ومراكش من أعضاء الأمم المتحدة، بعد أن كانت اللجنة التوجيهية في المنظمة العالمية "تعزف" ساعات وساعات في جدل بيزنطي مرير: هل تدرج قضيتا مراكش وتونس أو لا.
... وعلمت، ونحن غارقون في مناقشة قضيتي مراكش وتونس، أن السيد مولوتوف وزير الخارجية الروسية قد وصل إلى نيويورك، فهرعت ومعي الدكتور صلاح الطرزي عضو الوفد السوري "سفير سوريا في موسكو" إلى صديقنا "فيشنسكي" رئيس الوفد الروسي ليؤمن لنا مقابلة مع الوزير الروسي.
... ومضت بضعة أيام وإذا بالدكتور الطرزي يخبرني على التلفون بأن الموعد مع "فارس بك" سيكون غداً.."وفارس بك" هو الاسم الرمزي الذي كنا اصطلحنا عليه نحن الوفد السوري حين نتحدث بالتلفون عن الوفد الروسي..وكنا خلال تلك الفترة قد أبرقنا بالأمر إلى السيد خالد العظم وزير الخارجية السورية فجاءنا الرد مرحبا بالفكرة ومتمنيا أن تتاح الفرصة لطلب أسلحة للجيش السوري.(1/665)
... وفي الموعد المعين ذهبنا، الدكتور الطرزي وأنا، إلى الوفد الروسي في "بارك افنيو" واجتمعنا بالسيد مولوتوف، الوزير الصارم الصامت.
... وتحدثت طويلا عن الأوضاع العربية وما تعانيه من النفوذ الأجنبي وعن الأهداف الاستعمارية الكامنة في قيام إسرائيل وخطط الصهيونية العالمية في السيطرة على الوطن العربي، وانتهيت إلى القول، بأن الوقوف في وجه هذه الأطماع يحتاج إلى أمة عربية قوية لا تعتمد على الغرب في سلاحها..وان سوريا ترجو موسكو أن تزودها بالأسلحة بالشروط التي تراها مناسبة.. وإنّ ذلك سيكون بداية لعهد مشرق من الصداقة بين الأمة العربية والاتحاد السوفيتي.
... وصمت الوزير الصارم طويلا وقال: أعتقد أن موضوع السلاح لا يخلو من مصاعب.. والأسهل في رأيي أن نقدم لكم مساعدات اقتصادية..
قلت: لقد تكلمنا في الصعب، ولم نتكلم في الأسهل لأن أمره ميسور.. وأرجو أن تعتبر أن طلبنا ينحصر في الأمرين.. ولكن السلاح أولاً..
قال: ولماذا تؤكد السلاح أولاً؟
قلت: وما قيمة الاقتصاد الزاهر إذا كان معرضا للاجتياح والاحتلال.. المعول لا يحمي البندقية، ولكن البندقية تحمي المعول.
قال: وهل أصبحت إسرائيل من القوة العسكرية بحيث أنها تهدد اقتصادكم.
قلت: لو كانت إسرائيل وحدها لهان الأمر، ولكن إسرائيل أصبحت قلعة أمامية للاستعمار الغربي، وللولايات المتحدة خاصة..
قال: سأنقل طلبكم إلى موسكو "ولا أعدكم بأكثر من ذلك".(1/666)
... ونزلنا السلم من الطابق الثالث، ونزل معنا الوزير الصارم إلى الطابق الأرضي وإلى خارج الباب الرئيسي ليودعنا عند باب السيارة.. وهكذا يأسر الكبار الصغار.
... وأبرقنا إلى السيد خالد العظم بما جرى.. وتطورت الأمور فيما بعد، فكسرت مصر وسوريا طوق السلاح الذي كان مفروضا عليهما وتحقق بذلك أكبر آمالنا ولكن أقولها للتاريخ، كان لقاؤنا مع موتولوف في نيويورك أول خطوة عربية لطلب السلاح من الإتحاد السوفيتي.
... وقاربت دورة الأمم المتحدة على النهاية، وقضية فلسطين تتقلص إلى قضية إغاثة اللاجئين الفلسطينيين، وحاولت كل جهدي مع وفود أمريكا اللاتينية خاصة أن نحرك القضية بجوانبها السياسية ولكني لم أفلح.. وجاءني السيد بلوندي رئيس وفد بيرو، وهو رجل متدين، ليقول لي:
... - أنصحك أن تتصل بقداسة البابا لعله يقوم بمسعى لدى الدول الكاثوليكية لمناصرتكم وخاصة فيما يتعلق بالأماكن المقدسة.
قلت: سأفعل.. والفاتيكان في طريق عودتي.
... وأنتهت الدورة وسافرت إلى روما، وطلب لي السفير السوري لدى الفاتيكان الدكتور أنور حاتم موعدا..
... وذهبت إلى الفاتيكان في الموعد المحدد، فعبرت معابره، متنقلا من قاعة إلى قاعة حتى دخلت على الحبر الأعظم في مكتبه، فشكرت لقداسته أن استقبلني في تلك الأيام التي تزدحم فيها مواعيده لمناسبة الأعياد.. وحدثته عن المقدسات الإسلامية والمسيحية وما صارت إليه من العبث والهوان على يد إسرائيل.. وذكرت له مشاهد السيد المسيح وخاصة في الجليل، وأنا أعرفها(1/667)
كنيسة كنيسة، ومزارا مزارا، واستشهدت بما قاله السيد المسيح هنا وهناك مما حفظته عن ظهر قلب في المدرسة التبشيرية في القدس عام 1924، مشيرا في ختام حديثي إلى أنني فلسطيني مسلم يعمل لتحقيق السلام في أرض رسول السلام.. ورجوته أن يصدر توجيهاته إلى الدول الكاثوليكية لتقف إلى جانبنا.
... وتحدث قداسة البابا بكل وقار ورزانة ومهابة مؤكدا أنه سيبذل جهده في سبيل إقرار الحق والسلام في البلاد المقدسة، ومد يده إلى "علبة" على طاولته وقال "أقدم لك هذا الوسام تقديرا لجهودك في الدفاع عن القدس".
... فتناولت الوسام شاكرا وقلت: ان القدس ستظل مقدسة ما بقي أهلها فيها من النصارى والمسلمين، وإذا خرجوا منها فستكون معبدا مهجورا من غير عابدين.. وما قداسة كنيسة القيامة إلاّ بأهلها فإن خرجوا أصبحت متحفا للزائرين والسائحين..
... فقال قداسة البابا أرجو الله أن لا يقع ذلك، وسنبذل كل جهدنا للدفاع عن البلاد المقدسة، وانصرفت من حضرة قداسته، وكنت في الواقع، في قلبي وخاطري، في حضرة بيت المقدس وقد تذكرت فيها أيام صباي وشبابي.
... وخرجنا إلى الساحة التي يطل عليها قصر الفاتيكان، والدكتور أنور حاتم يقول:
- لقد كانت الجلسة موفقة للغاية ولكن..
قلت: ولكن ماذا؟(1/668)
قال: لقد أعطيت قداسته صورة كئيبة عن مستقبل القدس، وألقيت بين يديه مخاوف رهيبة، والدكتور حاتم كاثوليكي متدين وله علاقة طيبة بدوائر الفاتيكان.
... قلت: إنها صورة كئيبة حقا، وإذا كانت ستتحقق فأرجو الله أن لا أعيش لأراها.. إنها مخاوف رهيبة أدعو الله أن لا أعيش لأراها..
... وكانت ومضة من ومضات الزمن، فعبرت أربع وعشرون سنة على هذه الصورة الكئيبة حتى أصبحت في حزيران 1967 حقيقة كئيبة.
... لقد احتلت إسرائيل بيت المقدس من غير قتال، ولم يخدش حجر واحد من أسوارها وأبراجها.. ووقع المسجد الأقصى أسيرا، ومعه كنيسة القيامة.
... ونزح أهل المسجد فلا صلاة ولا تسبيح.. ونزح أهل الكنيسة فلا عبادة ولا تقديس..
... وأصبحتا مزارا للزائرين والسائحين. تحققت تماما، المخاوف الرهيبة والصورة الكئيبة التي وضعتها بين يدي الحبر الأعظم قبل ربع قرن من الزمان..
... وما أشقى الذين يرون عبر الزمان..(1/669)
حوار مع الملك إدريس..
ولقاء مع الجنرال فرانكو
... عدت إلى القضية الليبية مرة ثانية، فقد خلفتها ورائي في باريس في قصر شايوه عام 1951 لتنطلق في طريق الحرية والاستقلال، وها أنها تعود إليّ في عام 1954، ولكن من زاوية أخرى وفي موضوع آخر..
... كان الموضوع هو الممتلكات الايطالية في ليبيا، وما مصيرها، وكيف التصرف بها، واتصلت بي الحكومة الليبية لتقف على رأي قانوني من رجل واكب القضية الليبية منذ نشأتها في الأمم المتحدة.
... وركبت الطائرة إلى بنغازي وقضيت فيها ثلاثة أيام، اجتمعت خلالها بالموظفين المسؤولين عن شؤون الأراضي، واستعرضت معهم الوسائل المتعددة التي مكنت للإيطاليين "امتلاك" الأراضي في البلاد، واطلعت على السجلات في الدائرة العقارية، وكان السيد حسين مازق محافظ بنغازي "رئيس الوزراء فيما بعد" مضيفي ورفيقي.
... وتوجهنا في اليوم الرابع لزيارة الملك إدريس السنوسي، وكان في مدينة البيضاء المطلة على البحر، وقطعنا المسافة في أربع ساعات بالسيارة.. ويا روعة ما رأيت في هذا الطريق..
... لقد وجدت "الفتوى" القانونية في كل ما كنت أرى، وما كذب الفؤاد ما رأى، وكثيرا ما طلبت من السائق أن يتمهل لأتأكد مما أرى..(1/670)
... كانت المزارع الإيطالية قائمة من حولنا على امتداد البصر، إلى مئات الكيلومترات، كانت البيوت والمخازن والمنشآت الإيطالية منشورة وسط هاتيك المزارع..وكانت الأسماء والإعلانات الإيطالية لا تزال على الجدران البيضاء، بالخط العريض البارز، والحبر الأسود الفاحم..
... وقلت ماذا؟ ما الذي أراه؟ وكان السؤال عجبا واستغرابا، لا استفهاما ولا استيضاحا، وأدركت يومذاك براعة البلاغيين العرب حين قالوا أن السؤال قد يكون استنكارا لا استفهاما.
... وقال السيد حسين مازق: هذه ممتلكات الطليان..هذه قراهم.. هذه مزارعهم..
... ومضت السيارة تجتاز هذا السهل وذاك، ونصعد الجبل ثم ننزل إلى هذا الوادي، وأبصارنا مشدودة إلى المزارع.. إلى المنازل.. إلى المخازن.. بالمئات والمئات.. واللغة الإيطالية عليها تنبئ أنها ممتلكات إيطالية..
... وكانت هذه الممتلكات في معظم الأحوال خالية من أحد.. عدا الرعاة الليبيين. ومواشيهم الليبية تجوس خلال الممتلكات الإيطالية.. وكانت المنازل والحدائق من حولها متروكة مهجورة، وخيام الأعراب مشدودة إلى جدران البيوت، أو منصوبة وسط الحدائق مربوطة بأشجارها..
... وقال السيد حسين مازق كأنه يريد أن يعتذر: لقد حاولنا أن نقنع البدو أن يكونوا في المنازل بدلا من أن ينصبوا الخيام، ولم نفلح.
... قلت: إنّي أعرف من أمرهم الكثير.. إنهم يخشون من سكنى البيوت خوفا من البراغيث..
.. قال ضاحكاً: يظهر أنك عشت مع البدو وتعرف طباعهم..(1/671)
... قلت: لم تكن حياتي كلها "أمم متحدة" إنني أعرف البدو جيدا وقد كنت محاميا عنهم في قضاياهم في فلسطين، وإنّ ابن خلدون يعرفهم أكثر منا جميعا، فقد أنصف "البناء والعمران" فيما تحدث عن خرابهم وفسادهم..
... ومضينا على هذا النحو من الحديث وسط المروج والسهول، وخواطري مشدودة إلى اثنين لا ثالث لهما: هذا الوطن القومي الإيطالي في ليبيا وذاك الوطن القومي اليهودي في فلسطين، ورحت أفكر في أوجه الشبه بين الاثنين، وإن كان اليهودي أفدح خطرا من الإيطالي مرات ومرات..
... وصلنا إلى "البيضاء " ولم تكن إلاّ بضعة بيوت وفنادق، واللغة الإيطالية على هذا الجدار أو ذاك.. ونزلت في أحد هذه البيوت واسترحت قليلا وخرجت لأرى أين أنا..
... ومضيت مع الضابط المرافق أسير في ركاب التاريخ.. التاريخ الاستعماري.. فهذا الفندق المهجور كان مقر القيادة الايطالية.. وهذا مكتب القائد العام.. وهناك غرفة نومه، وعلى مقربة من الفندق نادي الضباط الطليان.. وكان كل شيء لا يزال في مكانه ولا يزال على حاله.. وكأن "الطلاينة" لم يخرجوا إلاّ بالأمس.. ولولا أنهم قد خرجوا يقينا ويقينا.. لخيل إلي أنهم ما خرجوا، فهذه منازلهم وفرشهم ومطابخهم وكتبهم وكلابهم أمام الأبصار، تكاد تقول: نحن هنا .. نحن هنا.. ولم أفُق من هذه الرؤى والأحلام إلاّ لأنتقل إلى عالم آخر من الرؤى والأحلام، فقد أطلقت بصري في البحر الأبيض المتوسط، وشواطئه الجميلة تضرب بأمواجها الهادئة أطراف الجبل الأخضر.. إنه البحر الأبيض ذاته الذي يحضن شواطيء فلسطين وثغورها الحبيبة.. وقضيت ساعة من النجوى عشت فيها مع فلسطين سارحا في(1/672)
كرومها وزيتونها وأعنابها، ناعما في جناتها وعيونها، أشُم أريج برتقالها، وأقطف ثمارها وأزهارها، و أنتقل بين مدنها وثغورها وقراها، وأصلي في مساجدها، وأقف عند مشاهدها، كما وقف قبلي امرؤ القيس، فناح على الأطلال وبكى واشتكى..
... ويا تعاسة الذين يرزقون الخيال المرهف، تكاد جوارحهم أن تلامس الأشياء وهم في دنيا الرؤى والأحلام، ولكن ما أبعد الواقع عن الذكريات .. وعن التمنيات..
... وذهبت في المساء عند "مولانا" الملك إدريس السنوسي وكان أول لقاء، ولقيته بعد ذلك بسنين في مؤتمرات القمة..
... وكان لقاء بسيطا عاديا خاليا من المراسم، وكانت الصالة كذلك عادية بسيطة خالية من الزخرف والزينة.. وابتدأ بالكلام شاكرا جهودي في القضية الليبية في الأمم المتحدة.. وقال: لقد دعوتك لأستشيرك في موضوع "الأملاك" الإيطالية فهل درست الأمر في الدائرة العقارية في بنغازي..
... قلت: لقد درست الموضوع على "الطبيعة" .. ولم تعد لي حاجة لدرس الأمر في الدائرة العقارية.. هذه ليست مسألة قانونية على الإطلاق.. إنها مسألة قومية سياسية.. والموضوع ليس "ممتلكات ايطالية" إنه موضوع وطن قومي ايطالي..
قال: ما هو رأيك؟
... قلت: رأيي، يا جلالة الملك، في غاية البساطة والوضوح. وأنا أكلمك كمحامٍ وكخبير في شؤون الأمم المتحدة، وكفلسطيني شرد من وطنه وفقد(1/673)
أراضيه وممتلكاته.. أرى أن تضعوا أيديكم على هذا الذي يسمى"بالممتلكات الإيطالية" إنّها أرضكم..
قال: وهل نستطيع أن نتصرف بها..
... قلت: نعم وبالتأكيد. لقد رأيت الأرض خالية والمنازل خاوية. خذوها وزعوها على الفلاحين.. على الأهالي.. فإن أرض الشعب يجب أن تعود إلى الشعب..
... قال: والقانون الدولي.. والأمم المتحدة؟؟
... قلت: القانون الدولي يكمن في القول العربي المأثور: الأرض لمن غلب.. وهذه أرضكم على كل حال استولى عليها "المستعمرون" الطليان..أمّا الآن فهذه أرضكم ردت إليكم..
... قال: ألا يحسن بنا أن نرجع إلى محكمة العدل الدولية..
... قلت: لا.. إذا شاء "الطلاينة" فليراجعوا هم محكمة العدل الدولية..
... ثم رويت لجلالته أن السلطان أبو عبد الله، آخر ملوك الأندلس، وقع معاهدة مع الاسبان في عام 1491 أكدوا له فيها حقه في أملاكه الخاصة في اسبانيا، ومنها الدور والحمامات والطواحين والبساتين.. وقد ورد ذلك كله في تفاصيل مسهبة في معاهدة موقعة من الطرفين.. وقد ذهبت هذه الأملاك كلها. والمعاهدة باقية إلى اليوم في المتحف الاسباني .. وهذا هو القانون الدولي..
... والواقع أن الملك في حواره هذا لم يكن جاهلا بهذه الأمور..ولكن الملك إدريس زعيم روحي متدين، وهو حريص أن يعرف كلمة القانون الدولي في الأمر.. وقد أحسست أنه قلق من ناحية الحقوق الخاصة.. فقلت في النهاية:(1/674)
... ومع هذا فإن الأبنية والإنشاءات التي أنفق فيها الطليان أموالا فيمكن الإتفاق بشأنها مع الحكومة الإيطالية.. وأظن أن جلالتكم متأثرون بسماحة الإسلام والأريحية العربية.. فافعلوا ما ترونه مناسبا، ولكن حكم القانون الدولي قد أوضحته لجلالتكم..
... وانتهت الجلسة عند هذه الخاتمة، وودعت الملك إدريس، وعدت إلى بنغازي وعبرت الطريق ذاته الذي سلكته أول مرة، وسط الممتلكات الإيطالية وأنا أقول في نفسي: ان الذي أخرج "الطلاينة" من ليبيا سيخرج الصهاينة من فلسطين، وإن كان الأول أيسر من الثاني ولكنه سيقع أو سوف يقع لا محالة..
... وحملتني الطائرة إلى القاهرة، إلى مكتبي، لأنظر في ملفات الجامعة العربية وأعالج شؤونها..ورأيت في بريدي المتراكم رسالة من مدريد من السيد عيسى البنك (سفير الأردن في إسبانيا) يتحدث فيها عن مشاعر الإسبانيين نحو العرب ورغبتهم في مساعدة الشعب المراكشي في كفاحه لنيل إستقلاله، ويتمنى علي أن أسافر إلى مدريد وأجتمع بالجنرال فرانكو "فإن الفرصة سانحة لدعم الجامعة العربية وتأييد قضايا المغرب".
... وكنت قد تعلقت بالقضية المراكشية منذ أن توليت عرضها في الأمم المتحدة في عام 1951 فوق تعلقي بها من ناحية قومية، فسارعت إلى استشارة الأمير عبد الكريم الخطابي وكان لاجئا في القاهرة منذ سنين، فقال: لا تدع الفرصة تفوت.. ولقد حاربت الافرنسيين والاسبان معا، ولا أرى مانعا أن نستعين بالواحد على الآخر و إذا هبت رياحك فاغتنمها..
... وذهبت إلى الرئيس محمد نجيب فعرضت عليه الأمر فرحّب بالإقتراح ترحيبا كاملا، وأعطاني كتابا إلى الجنرال فرانكو..(1/675)
... وعزمت وتوكلت وسافرت.. وحطت الطائرة وأثقالها في مطار مدريد، واستقبلني الجنرال فرانكو في اليوم الثاني لوصولي وسلمته كتاب الرئيس نجيب، وسألني عن صحة "الجنرال" ويعني بذلك السيد محمد نجيب، فقلت له إنه بخير وعافية، ولكن المشاغل كثيرة والمسؤوليات عظيمة والثورة في أوائل عهدها..
... قال:أنت فلسطيني، لست مصريا..(وكأنه يعجب أن يحمل فلسطيني رسالة الرئيس المصري)..
... قلت: نعم أنا فلسطيني.. وإنّ الوحدة العربية هي التي تجمعني بالرئيس محمد نجيب، والعرب سواء في العمل للأهداف العربية..
... ورأيت في هذا الحديث مدخلا لفتح الحديث الذي جئت من أجله.. فقلت.. ...
... - وها أنني أنا الفلسطيني جئت لأبحث معكم القضية المغربية..
... قال: ان القضية المراكشية عزيزة على العرب أجمعين، وإنّ فرنسا تقوم الآن بأعمال البطش والقمع في مراكش، وقد خلعت السلطان سيدي محمد بن يوسف، والشعب ثائر..
... وسردت للجنرال فرانكو الأحداث المراكشية، واستنكار الأمة العربية للفظائع الإفرنسية، وتأييدها للشعب المراكشي حتى ينال حريته واستقلاله، وإننا نتطلع إلى تأييده ومعاونته، وإنه آن الأوان لأن نخلص الشمال الإفريقي من فرنسا. وإنّ الفرصة سانحة لقيام تعاون إسباني عربي يمتد إلى صداقة مع دول أمريكا اللاتينية ومدريد عاصمتهم الروحية..
... وقد زها الجنرال فرانكو أمام العبارة أطماعها.. وقال:(1/676)
... - رأيي أن تسافر إلى تطوان وتجتمع بالجنرال "كارسيا فالينيو" وهو مفوض بالصلاحية الكاملة للشؤون المغربية.
... وودعته شاكراً وانصرفت إلى السيد عيسى البندك أخبره بما تم فقال لي: ان السادة علال الفاسي وأحمد بلا فريج وعبد الكريم الفاسي قد وصلوا إلى مدريد وهم يبحثون عنك.. وكان لقائي مع الإخوة المغاربة على العشاء فذكرت لهم ما كان بيني وبين الجنرال فرانكو فقالوا: إنها فرصة حسنة، وليتك تصل إلى اتفاق مع الجنرال فالينيو في تطوان.. ولنسارع إلى ذلك قبل أن تفوت الفرصة، فإن الثورة في البلاد في مسيس الحاجة، ويستطيع الأسبان أن يقدموا لنا العون الكثير..
... وفي صباح اليوم الثاني أقلتني طائرة عسكرية إسبانية من مطار مدريد إلى تطوان في هذه المهمة، وجناني قبل لساني يدعو الله بالنجاح والتوفيق..
... وكنا نحفظ في عهد الدراسة النشيد الذي وضعه الزعيم السوري، فخري البارودي:
بلاد العرب أوطاني.. من الشام.. إلى تطوان..
... وكان الزعيم مصطفى النحاس رئيس الوفد المصري، قد سمع هذا النشيد فسأل: "دي تطوان تبقى فين".. أو هكذا النكتة على زعيم مصر.. وها نزلت الآن إلى تطوان حاضرة المنطقة الاأسبانية أو المنطقة الخليفية، وسميت الاسبانية لأن إسبانيا اقتطعتها لنفسها من البلاد المراكشية يوم احتلت فرنسا مراكش، وسميت "الخليفية" لأن واليها يعتبر "خليفة" سلطان مراكش..(1/677)
... وعلم أهل تطوان بقدومي فتوافدوا عليّ وهم يحمدون الله أن عربيا جاءهم من المشرق يتفقد أمورهم، وكان على رأس الوافدين السيد عبد الخالق الطريسي، فاجتمعت به وأسررت إليه بالمهمة.. فأخذته النشوة وأقسم ليدعوني إلى منزله..
... وذهبت إلى داره في عصر اليوم التالي، وكانت المدينة قد أقفرت من أهلها وتوجهت صوب دار "الطريسي"، وفتح الشباب طريقي بصعوبة بالغة، وكانما كانت تطوان كالصحراء الملتهبة تنتظر هذا القادم من المشرق أن يبلّ عطشها إلى الحرية والإستقلال..
... وأقسم عليّ الطريسي أن أخطب، فوقفت لأتكلم، فتسلق الشباب والرجال جدران منزله وتعلقوا بشرفاته حتى بت أخشى أن يتهاوى المنزل بمن فيه وتكون الكارثة، فأوجزت حديثي وهدأت من " ثورة" الجماهير، فإن مهمتي تقتضي الجو الهادئ مع الأسبان..
... وقضيت أربعة أيام أطوف في تطوان، لقاء مع الشعب نهارا، ولقاء مع الجنرال فالينيو ليلا..
... وكانت لقاءاتي مع الشعب مثيرة للغاية، في المدارس والمؤسسات العامة، وكان السلطان سيدي محمد بن يوسف لا يعيش في منفاه، وانما يعيش في قلوب الشعب رجالا ونساء، وما أعظم الشعب حين يتعلق بزعيم عظيم.. وكان الشباب والشابات، حين يذكر السلطان، ينتابهم نحيب ونشيج، ليس البكاء إلى جانبه شيئا مذكورا..
... وكان المرافقون من الاسبان حين نخرج إلى الضواحي، يشيرون الي..هنا التقينا بالأمير عبد الكريم.. هناك التحمنا مع قوات الأمير عبد(1/678)
الكريم.. وهنا أنزل بنا الأمير عبد الكريم خسائر فادحة.. وهناك كدنا أن نحاصره وندمر جيشه ولكنه عاد وانتصر علينا، وكأن الجبال والسهول والوديان لا تزال يتجاوب فيها صدى الحوافر.. وجلجلة الفرسان.. حوافر الجياد العربية وفرسان الأمير عبد الكريم..
... خرجنا مرة إلى "شف شاون" وهي بلدة جميلة تبعد عن تطوان.. وتغدينا مع شيوخها الأجلاء.. فإذا بالحديث يفوق روعة الأساطير..
... تحدثوا أن أهل" شف شاون" هم من عرب الأندلس استوطنوا هذه البلدة القريبة ليكونوا جاهزين للعودة.. العودة إلى "وطنهم" في الأندلس..وكان في حديثهم ما ينبئ أن هذا الخاطر ما زال يراود أحلامهم..
... وفي الصالة الرحبة التي كنا نجلس فيها، نهض أحد الشيوخ إلى الجدران وأمسك بيده مسمارا كبيرا مثبتا في الجدار وصاح: هذا مفتاح بيتنا في الأندلس..
... وهزني هذا المشهد، ، وكانما اجتاحتني صعقة كهربائية من رأسي إلى قدمي..
... وتماسكت وتملكت مشاعري، ورويت لهم أن النازحين من أهل فلسطين لا يزالون يحتفظون بمفاتيح بيوتهم، وأنّ رب العائلة، وهو يحتضر، يمد يده المرتجفة إلى جيبه ليسلم إلى أولاده مفتاح بيته ويقول: هذه أمانتي إليكم ... ، ثم ذكرت لهم أنني ما زلت أحتفظ بمفتاح بيتي، وأرجو أن لا أسلمه إلى أولادي.. وأن أفتح بيتي بيدي.. .
... وجاءت كلمتي بلسما لجراحاتهم القديمة وجراحاتي الحديثة..(1/679)
وعاد الشيخ إلى حديثه ليقول: أن إخواننا عرب الأندلس منتشرون في الشمال الأفريقي، في المغرب وتونس والجزائر.. وهذا "الطريسي" صديقك ورفيقك هو من عرب الأندلس، وتدخل المرافقون الاسبان وقالوا: نعم ان كلمة "تورس" معناها القلعة.. وكان أجداد "عبد الخالق" هم أمراء القلعة في الأندلس!!
... وعدت إلى تطوان.. وأنا أقول في نفسي إنه تاريخ زاه جميل ولكنه تاريخ ماض. وقد جئت للحاضر والمستقبل.. ومضيت إلى عادتي في المساء، اللقاء مع الجنرال جارسيا فالينيو..
... كان الجنرال مهيب الطلعة، وله المقام الثاني في الدولة بعد فرانكو، وكان على رأس الإدارة الاسبانية في المنطقة الخليفية..
... ودار الحديث بيني وبين الجنرال في مكتبه" العسكري" في تطوان عما تستطيع اسبانيا أن تفعله في دعم الثورة المراكشية، وقد اقترحت السلاح.. والمال.. والدعاية، واقترحت إلى جانب ذلك إقامة حكومة مراكشية في تطوان لتقود الثورة..
... وكان الجنرال يصغي باهتمام، ويدون باهتمام..وكان معروفا بعدائه لفرنسا.. وأحسست في ملامح وجهه وتضاعيف حديثه انه موافق على هذه الاقتراحات" المهمة وأنه ينتظر موافقة مدريد..
... وكنت كلما خرجت من مكتب الجنرال أرى جميع الشباب والرجال ينتظرون في الخارج ليتفرسوا في وجهي، ذلك أنهم لم يكونوا يعلمون شيئاً عن حديثي وعن مهمتي، فيما خلا السيد الطريسي ونفرا من إخوانه، ولكنهم كانوا يحسون أنها مهمة من الجامعة العربية، وبهذا ارتفعت أسهم الجامعة(1/680)
العربية في تطوان وأخذوا يهتفون بحياتها.. على حين كان المشرق العربي يهتف بسقوطها..
... وزرت في خلال تلك الفترة" الخليفة مولاي الحسن"، (رئيس البنك المركزي في الرباط فيما بعد) وهو نائب السلطان في المنطقة الخيلفية، وكان قصره وحرسه، وتقاليده والاستقبال والضيافة، غاية في الدقة والنظام، وآية في عراقة "الحكم" المراكشي، وحضارته المشرقة.
... وكنت أفضي إلى "الخليفة، حديثي مع الجنرال، وأرى وجهه الذي ألف الحذر والكتمان، قد تفَتَّح على البهجة والسرور.
... وتم لقائي الأخير مع الجنرال.. وكدت أحسّ أن المناضلين المراكشيين سيضعون يدهم على السلاح والمال.. وسيقيمون حكومة مراكشية لتمضي في حرب التحرير حتى التحرير..
... وكان الجنرال هادئا صارما كعادته.. فشكر لي الزيارة وقال: لقد نقلت كل شيء إلى مدريد، وإنّ السينيور"ارتاخو" وزير الخارجية سيستأنف معكم الحديث في العاصمة.
... وبدأ الخوف يساورني.. فإن الجنرال فرانكو أوحى إليّ أن "فالينيو" بيده كل شيء.. وها أني أرى فالينيو يحيلني على "أرتاخو"..، فتباسطت مع الجنرال وشكرته على حسن ضيافته.. وفي اليوم التالي أقلتني طائرة عسكرية إلى مدريد.. وجاءني إلى الفندق السيد عيسى البندك السفير الأردني، وكانت له صلات قوية بالحكومة الإسبانية، فسألته ما عنده، فإذا به يحدثني أن المخابرات الإفرنسية قد وصل إلى علمها أن الجامعة العربية تقوم بمؤامرة مع أسبانيا لاختطاف سلطان المغرب وإشعال الثورة على فرنسا..، وأنّ(1/681)
فرنسا قد شددت على الولايات المتحدة أن تتدخل في الأمر، وأن لا تبرم الاتفاق الاقتصادي مع اسبانيا (وكان على وشك التوقيع) إلاّ بعد أن تتعهد إسبانيا بعدم التدخل في شؤون المغرب.. فهذه أمور من اختصاص فرنسا وحدها..، وهكذا تحققت مخاوفي التي أحسست بها بالأمس وأنا في مكتب الجنرال فالينيو..
... وفي المساء زرت وزير الخارجية ارتاخو في مكتبه وتحدثت طويلا طويلا، وأغريته كثيرا وكثيرا، ولكني وجدته كالثلج لا يزيد على القول: سندرس الموضوع ونخبركم.. حتى نصل إلى قرار..
... وأدركت أن الضغط الإفرنسي قد أفلح وأنّ مهمتي السياسية قد فشلت، فقلت: فلأنتهزها فرصة، وأقضي يوما مع : "العلم" فلعلي أفلح في هذا..
... وقضيت ذلك اليوم مع مستشرق إسباني معروف بدراساته الأندلسية، واسمه "خليل بن أمية" (1) وهكذا يكتب اسمه على بطاقته باللغة الإسبانية..
... والحق أن "ابن أمية" هذا، أموي من غير شك، بل إنه شامي كأنه هاجر بالأمس من سوق الحميدية في دمشق.. قامته ووجهه وحركاته ونظراته. كل ذلك ينبئ أنّه من أهل الشام.. بل إنه لا يكتم أصله العربي وأنه من بقايا الأمويين ... ويفاخر بذلك.. وفي غمرة الحديث عن الحضارة الأندلسية الرائعة، اقترب بن أمية إلى رأسي وهمس في أذني وقال: ولكني كاثوليكي مسيحي!!
__________
(1) * هكذا باللهجة المغاربية حيث يحذفون الألف وكسر الباء الساكنة (المحرر).(1/682)
... وحدثني "بن أمية" أن بقايا المسلمين في مدريد كانوا إلى عهد قريب يحتفلون في العيدين، وأنّ عجوزا من أقربائه كان يراها في صباه تذهب إلى مسجد قريب تصلي فيه، وأنّ المسجد لم يعد قائما..
... وحدثني كذلك أن أهل الأندلس قاموا في سنة 1922 بثورة "قومية" يطالبون باستقلال بلاد الأندلس.
... وحدثت ابن أمية من جانبي عن "الفردوس المفقود".. عن فلسطين.. وقلت- حقا لقد قضينا في الأندلس ثمانية قرون.. وأنت أموي من بقايا الأمويين ولكن لا خلاف أن الأندلس ليس وطنا عربيا في الأصل. ومع هذا فقد ضج شعراؤنا بالبكاء عليه وأطلقوا عليه الفردوس المفقود.. ولكن فلسطين بلد عربي منذ القدم وهي بكاء على فردوسه المفقود.. وانها عزاء.. ولكن على فردوسي المفقود..
... ومن يومها امتشق بن أمية قلمه في الدفاع عن فلسطين وعروبتها بحرارة لا تقل عن حرارة أي عربي.. أجل إنها حرارة أصيلة عريقة.. ولعلها بكاء وعزاء.. إنها الفردوس المفقود.. وانها عزاء. ولكن على فردوسي المفقود..
وعدت إلى القاهرة صريع الخيبة في تطوان..
وصريع الأحزان في فلسطين.
وأنا أدعو.. اللهم صبرك ونصرك..(1/683)
شجار مع نهرو.. عهد مع شوان لاي..
ونقاش مع عبد الناصر..
... في شهر نيسان من عام 1955 تفتحت أزاهير" باندونغ" لتستقبل العالم القديم ممثلا بقادته الذين حققوا لأوطانهم الحرية والاستقلال، وزعمائه الذين ما زالوا في الميدان يكافحون ويناضلون.. وتلاقت آسيا وأفريقيا لأول مرة بعد عصور الهوان والأغلال عند تلك المدينة الرشيقة- باريس الشرق- ولم تعد" باندونغ" اسما جغرافيا لمدينة في إندونيسيا، بل أصبحت عنوانا لحقبة تاريخية ترمز إلى الثورة والتحرير.. وسياسة الحياد الإيجابي..
... وأبرق إليّ السيد خالد العظم وزير الخارجية السورية يستدعيني للسفر إلى دمشق لاعداد العدة لمؤتمر باندونغ.. ووصلت دمشق واجتمعت بالسيد العظم وقلت له بعد التحية..
... -أنا حاضر لوضع المذكرات في مختلف المواضيع التي ينتظر إثارتها في المؤتمر. وأنا حاضر كذلك لكتابة الخطاب الافتتاحي الذي يلقى باسم سوريا.. ولكني أعتذر عن الذهاب إلى باندونغ..
قال: ولماذا تعتذر؟
... قلت: أنا فلسطيني لا أصلح لهذا المؤتمر، ويحسن أن يكون الوفد السوري من المواطنين السوريين.. مولدا ونشأة، وأبا وجدا!!
... قال: وهل بلغك الموضوع؟(1/684)
... قلت: لقد بلغني الموضوع وقد آلمني أن يصدر عن سوريا بالذات التي تعتبر فلسطين سوريا الجنوبية.
... قال: بالعكس ... يجب أن تذهب لأنك فلسطيني، ومن المنتظر أن تثار قضية فلسطين في باندونغ، فكيف يجوز لك أن تعتذر؟
... قلت: أمهلني بعض الوقت لأفكر..
... وانصرفت إلى مكتب كان مهيأ لي على الدوام في وزارة الخارجية السورية، ومعي ملفاتي ومأساتي..
... أقول مأساتي، وهي مأساة كل فلسطيني بعد كارثة 1948. والواقع أنني لقيت أثناء" هجرتي" كل رعاية في الوطن الكبير، وخاصة في سوريا، فقد كنت أمينا مساعدا في الجامعة العربية باسم سوريا، وأصبحت بعدها سفيرها المتجول، ثم استعارني الملك سعود لأكون وزير الدولة السعودي لشؤون الأمم المتحدة، ولقد أسندت لكثيرين من الفلسطينيين المناصب العالية في الدول العربية، وصلوا إليها عن جدارة واستحقاق.
... ولكن المأساة بقيت هي المأساة.. فلقد ظل الألوف والألوف من أبناء فلسطين يعيشون تحت ظروف قاسية وقيود صارمة، لا تليق أن تصدر من عربي إلى عربي ... كائنة ما كانت الأسباب.. ويكفي أن أشير إلى قيود السفر والانتقال والعمل، وغير ذلك من العقبات التي كان يعانيها اللاجئون مما يتجافى مع الأريحية العربية.. ولا يزالون!!
... وتجيء مأساتي"الصغيرة" وسط المآسي الكبرى التي ألمّت بقومي من أبناء فلسطين..(1/685)
... ولحكمة أرادها الله، تجيء مأساتي الصغيرة على هامش مؤتمر باندونغ لتجرح كبريائي، فاذهب إلى باندونغ، والثورة تتفجر في قلبي وتندلع على لساني..
... ووقائع هذه المأساة بإيجاز أن مصر وسوريا كانتا تتهامسان حول إنشاء اتحاد بينهما، وأصبح الهمس محادثات جرت بين السيد خالد العظم وزير الخارجية السورية والسفير المصري بدمشق محمود رياض "وزير الخارجية فيما بعد"، واقترح السيد خالد العظم أن أكون سفيرا لسوريا في القاهرة لأمهد لقيام اتحاد فدرالي بين البلدين..ووافقت القاهرة على ذلك.. ومضى خالد العظم في الاجراءات الشكلية، لاستصدار مرسوم جمهوري بتعييني سفيرا لدى الجمهورية المصرية.
... وقد قبلت هذا التكليف بسرور عظيم، وأصبحت أتردد على وزارة الخارجية المصرية وأقدم لها مشروعات الاتحاد.. وأنا أقول للدكتور محمود فوزي وزير خارجية مصر: ان مهمتي كسفير لسوريا في القاهرة هي أن أُصفي السفارة السورية في القاهرة، وان نبني الإتحاد بين سوريا ومصر، وعسى أن يحذو السفراء العرب حذوي، ونبني الولايات العربية المتحدة.
... ولكن أحلام النهار قد بددتها دسائس الليل.. فقد وقف مرسوم تعييني عند عتبات القصر الجمهوري.. فامتنع الرئيس هاشم الأتاسي عن توقيعه، ووقعت أزمة بين الحكومة والقصر، الحكومة تصر والقصر يعارض..
... وكان الرئيس الأتاسي رجلا عجوزا، خاضعاً لتأثير حزب الشعب في سوريا، وكان الرئيس الأتاسي صديقا لوالدي منذ عهد الدولة العثمانية، وكان يأخذني بالحضن كلما لقيته في دمشق في غدوي ورواحي إلى الأمم المتحدة..(1/686)
وكذلك فقد كانت لي مودة مع كثير من رجال حزب الشعب: ناظم القدسي، معروف الدواليبي، رشدي كيخيا، عدنان الأتاسي..
... ولكن المعزة والمودة شيء.. والحزبية العمياء شيء آخر..
... فقد أملت الخلافات السورية المحلية على حزب الشعب والرئيس الأتاسي أن يعارضوا في تعييني سفيرا لسوريا في القاهرة..وكان ذلك آخر ما كنت أتوقع..
... وغاص رجال حزب الشعب في ملف تعييني.. فعثروا على ضالتهم.. وكانت ضلالة.. لقد اكتشفوا أنني فلسطيني، وأنه لم يصدر مرسوم جمهوري بمنحي الجنسية السورية..
... وأحيلت القضية إلى مجلس الدولة.. فأفتى بأن رئيس الجمهورية على حق ... وأن الحكومة على باطل.. وأنّ تعييني سفيرا غير دستوري.. لأنني فلسطيني..
... وتحفزت الحكومة لإعداد مشروع لإعطائي الجنسية السورية بصورة دستورية لا يأتيها الباطل من أي جانب.. ولكني رفضت وثرت. وأعلنت أني أرفض الجنسية السورية من الرئيس الأتاسي..
... فكرت في هذه المأساة الصغيرة، وأنا جالس في مكتبي في وزارة الخارجية، وأمامي المراسلات المتعلقة بمؤتمر باندونغ، وتصفحت التقارير الواردة من السفارات السورية في جاكارتا ونيودلهي، وأفزعني أن أقرأ فيها أن هنالك محاولات من بعض الدول الآسيوية لمعارضة إدراج القضية الفلسطينية في جدول أعمال المؤتمر.. فاستصغرت مأساتي الصغيرة، وعزمت أن أسافر إلى باندونغ وأتصدى للمأساة الكبيرة..وحملتنا الطائرة(1/687)
ليلا، والغوطة نائمة على ثمارها وأزهارها، وربيع دمشق ينفحنا بأطيب تمنياته مع أعذب نسماته.. وهبطنا في"جاكارتا" في الضحى العالية.. من اليوم التالي..
... ونظرت من نافذة الطائرة وإذا بالمطار مزين بالأعلام والأزهار..وعشرات المراوح الكبيرة منصوبة في الهواء الطلق في أرض المطار.. تحاول عبثا أن تلطف من الجو اللاهب..
... وكانت مراسيم الإستقبال غاية في الدقة والنظام، ونزلنا نحن الوفد السوري: السيد خالد العظم وزير الخارجية، والسادة مأمون الكزبري وفاخر الكيالي وصلاح البيطار وأديب الداودي وأنا، وثلاثة من الصحفيين السوريين..
... وكان الجو لاهبا، وأخذ العرق يتصبب من أكمامنا وأرداننا، ورحب بنا رجال الدولة وقال أحدهم : الجو لطيف اليوم.. وهذا فأل حسن للمؤتمر..
... فقال السيد العظم وكان يجفف عرقه: إنه لطيف حقا!!
... وحمدنا الله اننا لم نبقَ طويلا في جاكرتا، فقد أقلتنا طائرة صغيرة إلى "باندونغ" وكانما انتقلنا من الجحيم إلى النعيم، وكانت باندونغ ماطرة، وما تزال أغصانها تميس بلآلئ السماء..
... ونزلنا في فيلات جميلة محاطة بالغابات والأحراش، والسيارات غادية رائحة، تنقل الوفود، ملابسهم وملفاتهم، وذخائر من الطعام المحفوظ، كل بلد وما يصنع وكل وفد وما يشتهي..
... وتكامل وصول الوفود، يمثلون تسعا وعشرين دولة من آسيا وإفريقيا، يؤلف سكانها ما يزيد على نصف سكان العالم.(1/688)
... وكانت الوفود العربية على مستوى عال: السيد جمال عبد الناصر رئيس وزراء الجمهورية المصرية، الأمير فيصل رئيس وزراء المملكة العربية السعودية، إسماعيل الأزهري رئيس السودان، محمود منتصر رئيس وزراء ليبيا، سامي الصلح رئيس وزراء لبنان، فاضل الجمالي وزير خارجية العراق، سيف الإسلام الحسن رئيس وفد اليمن، وليد صلاح وزير خارجية الأردن، والسيد خالد العظم وزير خارجية سوريا.. وكان مع الوفود العربية عدد من الوزراء والمستشارين والصحفيين.
... وقد انضم إلى الوفود العربية عدد من المناضلين العرب يمثلون تونس والجزائر.. ومراكش، منهم السادة صالح بن يوسف، وحسين آية أحمد، وعلال الفاسي وانضم إلى وفد اليمن الحاج أمين الحسيني رئيس الهيئة العربية العليا، .. وكان حول المؤتمر عدد من ممثلي حركات التحرير في آسيا وإفريقيا بملابسهم الزاهية المزركشة يتصلون بالوفود ليعرضوا قضاياهم، وكان قدس الأب مكاريوس رئيس أساقفة قبرص ناشطا يتنقل من وفد إلى وفد..
... وهرع ممثلو الصحافة العالمية ونصبوا أجهزتهم في ردهات المؤتمر يصورون من غير حساب، وآلاتهم الكاتبة تملأ الأسماع وهي تضرب الرسائل والبرقيات..
... وعقد المؤتمر جلسة الافتتاح فتكلم الرئيس أحمد سوكارنو، وعقبه رؤساء الوفود، وكانت مكبرات الصوت خارج المؤتمر تنقل إلى الشعب الأندونيسي صوت آسيا وإفريقيا داعيا إلى الحياد الإيجابي، والتعايش السلمي،(1/689)
واستنكار الاستعمار العالمي والتمييز العنصري، والتنديد بالأسلحة النووية، وتلك كانت المواضيع العامة التي تناولتها كلمات الإفتتاح.
... وإلى هنا فقد كان كل شيء سهلا، فإن الكلام في نطاق التعميم عمل يسير لا يثير خلافا أو نقاشا، ولكن "الدخول" في معالجة المشاكل الدولية موضوع هو المشكلة بعينها..
... فقد كان مؤتمر باندونغ في حقيقته الداخلية يمثل العالم في انقساماته، فقد تمثلت فيه الكتلة الغربية والكتلة الشرقية وكتلة الحياد المستقل، ويكفي أن تكون الكتلة الشرقية ممثلة في جمهورية الصين الشعبية برئيس وفدها اللامع السيد شوان لاي.. والكتلة العربية- مع تفاوت في عربيتها- كانت تتألف الدول المرتبطة بأحلاف ومعاهدات أو ميول مع الغرب، مثل إيران وباكستان وسيلان والعراق ولبنان وتركيا، أمّا الكتلة المحايدة المستقلة، مع تفاوت في قوة حيادها، فهي باقي الدول الأعضاء كالهند وأفغانستان ومصر وسوريا وغيرها..
... وعلينا أن نضيف إلى هذه الخلافات الداخلية، الضغوط الخارجية التي قامت بها كل من أمريكا وبريطانيا لإحباط المؤتمر، أو لشل فاعليته على الأقل..
... وكانت إسرائيل مشكلة أخرى من مشاكل المؤتمر، فقد كان هنالك اتجاه قوي بدعوة إسرائيل للإشتراك في المؤتمر، وكان نهرو يتبنى هذه الفكرة.. وكان المنطق الذي وراء هذا الرأي يتساءل: أليست إسرائيل دولة معترفا بها في الأمم المتحدة، ولها علاقات دبلوماسية مع عدد من الدول الإفريقية والآسيوية؟ اليست إسرائيل دولة قائمة في غرب آسيا؟ أليس من(1/690)
الأفضل حضورها ليجري الحوار بينها وبين الدول العربية أملا في الوصول إلى تسوية سلمية لهذه المشكلة العالمية؟
... ولقد جرى جس نبض العواصم العربية قبيل انعقاد المؤتمر.. فكان رد الفعل عنيفا ولم توجه الدعوة إلى إسرائيل، لكن اللحوحة الدؤوبة لم تغفل.. فقد راحت تتوسل إلى عدد من دول المؤتمر أن لا تثار قضية فلسطين في المؤتمر.. وهي تقول: أو ليس يكفي أن تحجب إسرائيل عن حضور مؤتمر للشعوب الآسيوية الإفريقية وهي واحدة منها.. وهكذا كانت إسرائيل عبئا يضاف إلى الأعباء الثقيلة التي كانت تدفع المؤتمر إلى حافة الفشل..
... وتسابقت وكالات الأنباء إلى التنبؤ بفشل المؤتمر، وهي تنقل التصريحات على لسان عدد من الوفود حول الخلافات العقائدية والسياسية التي تباعد بين أعضاء المؤتمر..
... وانتهت جلسات الافتتاح، وبدأت اللجان عملها وبات المؤتمر في يد القدر، وكنت اللجنة السياسية هي ميدان الصراع بين الكتل الثلاث، والكتل الثلاث راغبة إلى جانب ذلك أن ينتهي المؤتمر إلى وفاق ونجاح، فإن الشعوب لم تكن تحتمل من حكوماتها أن تفشل هذه التجربة الأولى، وتضام كرامتها وتهان عزتها، وهي ما تزال حديثة بالحرية والاستقلال.
... وجاء دور إعداد جدول الأعمال، فاقترح بعض الوفود وبينهم الرئيس نهرو أن يقتصر جدول الأعمال على المبادئ لا القضايا.. وأحسسنا نحن الوفود العربية أن هذا التدبير يقصد من ورائه تجنب إدراج قضية فلسطين.(1/691)
... ودار نقاش وجدال حول هذا الموضوع..وكشف رئيس وفد سيلان عن "الخطة" وأعلن انه لا يرى داعيا لبحث قضية فلسطين..وأنّ المؤتمر لم يجتمع لدرس قضايا إقليمية، ولكن لمعالجة مشاكل عالمية، أوسع نطاقا..
... وتوليت الرد بهدوء وموضوعية مشيراً إلى أن قضية فلسطين، هي قضية استعمارية وقد أصبحت "بفضل" مساندة الاستعمار قضية عالمية.. وأنّ الصهيونية نفسها هي حركة عالمية عدوانية..
... وتدخل "نهرو" رئيس وفد الهند، مؤيدا لوفد سيلان ولكن بلهجة هادئة، وكان كريشنا منون عضو وفد الهند يلقي في أذنه آراءه المعروفة- يومئذ- في العطف على إسرائيل..
... وعدت إلى الكلام مرة ثانية في مزيد من الشرح لقضيه كقضية فلسطين وخطرها على السلم الدولي، وأن فلسطين هي الجسر الذي يصل شعوب المؤتمر في آسيا وإفريقيا.. وتساءلت "وأي معنى لهذا المؤتمر إذا كان لا يناقش قضية فلسطين تقوم على الحرية وتقرير المصير".
... وغضب الرئيس نهرو أن يتصدى له من يناقشه ويحاسبه، وهو فارس المجالات البرلمانية، وبطل من أبطال التحرير، فراح يؤكد ولاءه لمبادئ الحرية والعدل والسلام ولكنه تساءل "هل من الفروسية العربية أن تناقش قضية فلسطين وإسرائيل غائبة عن المؤتمر.. أو ليس الواقع أن إسرائيل في آسيا.. أو لا يكفي العرب أن إسرائيل لم تُدع إلى المؤتمر".. واستمر الرئيس نهرو في سياق هذا المنطق وهو يتكلم بعصبية ظاهرة، يريد من ورائها أن يهيمن على المؤتمر، والتفت إليّ وهو يقول: إنني أعرف المبادئ وقد عشت كل حياتي لتحقيقها.. وأقولها بكل تواضع إنني فتى الثورة.(1/692)
... وساد المؤتمر صمت ورهبة، ورفعت يدي أطلب الكلام من رئيس وزراء اندونيسيا، السيد علي ساسترو أميجو جو رئيس اللجنة السياسية، "وكريشنا منون يرسل نظراته المزمجرة إلى هذا الذي يجرؤ أن يرد على الرئيس نهرو!!
... ووجهت كلامي إلى الرئيس نهرو مباشرة لأقول له "إنني أعرف الرئيس نهرو كما يعرف نفسه وقد قرأت ترجمة حياته بقلمه، وإن العالم العربي معجب بكفاحه المجيد من أجل الحرية والإستقلال، وإن ذلك يزيدنا استغرابا من هذا الموقف، موقف التأييد للإستعمار ممثلا في إسرائيل والصهيونية..وان ذلك يزيدنا أيضاً، تمسكاً بحقنا، ونحن هنا تسع دول عربية نصر بأن تدرج قضية فلسطين على جدول الأعمال، فهي قضية الأمة العربية بأسرها".
... واستأنفت كلامي مخاطباً الرئيس نهرو "لقد قلت با سيدي إنك فتى الثورة.. وأنا يا سيدي فتى النكبة"..
... والتفتّ إلى المؤتمر عضواً عضواً وقلت بصوت عال: وأي معنى لاشتراك الدول العربية في هذا المؤتمر إذا لم يكن لقضية فلسطين مكان في هذا المؤتمر..؟
... وقد خشيت الوفود العربية أن يؤدي هذا الإنذار إلى إحباط المؤتمر، وهو في أول الطريق، ولم نكن نتوقع أن تكون "الخطة" مدبرة إلى هذا الحد على قضية فلسطين.؟..ولكن الوفود العربية كانت إلى جانب ذلك لا تطيق أن ترى قضية فلسطين يلقى بها خارج جدران المؤتمر.. وانتظر الجميع مصير هذه المساجلة الحارة بيني وبين الرئيس نهرو..(1/693)
... وقد أفلح الإنذار، وأمسك الرئيس شوان لاي بالزمام بذكاء خارق.. وتدخل كمن يريد التوفيق بين وجهة النظر العربية واعتراضات رئيسي الهند وسيلان.. فراح يتكلم وكأنما جرس يرن بين أوتاره الصوتية، وقال: لا أظن أن هنالك خلافا أساسيا حول الموضوع، فنحن نستطيع أن نطمئن "مستر شقيري" أن المؤتمر سيبحث قضية فلسطين تحت مبدأ تقرير المصير، ونحن متفقون أن يكون هذا المبدأ من الموضوعات التي ستندرج على جدول أعمال المؤتمر.. واغتنمها الرئيس علي ساسترو فرصة لإنقاذ المؤتمر وهو ينعقد في إندونيسيا وقال: اعتقد اننا موافقون على الحل الوسط الذي اقترحه الرئيس شوان لاي..
... فسكت الجميع وابتسم الرئيس شوان لاي.. ورددت له الابتسامة مع التحية وكانت بداية لصداقة وطيدة سأتحدث عنها في حينها.. وتجاوز المؤتمر أولى عقباته.. وأقرّ جدول الأعمال ...
... وكانت قضايا المغرب العربي في طليعة القضايا التي ناقشتها اللجنة السياسية، وتكلم معظم الوفود منددين بالإستعمار الإفرنسي مشيدين بكفاح الجزائر وتونس ومراكش، معلنين تأييدهم لهذه الأقطار الثلاثة بحقها في الحرية والإستقلال.. ولم تجد قضايا المغرب أية معارضة فصدر القرار بالتأييد..وكان نصرا عربيا مهد لهذه القضايا أن تسير في زحفها في ردهات الأمم المتحدة..
... وجاء دور القضية الفلسطينية فعبرت بسهولة ويسر، وإن يكن على مضض وتردد، وتكلمنا نحن الوفود العربية وشرحنا القضية من مختلف جوانبها، واقترح الوفد الإندونيسي قرارا بتأييد حق شعب فلسطين في صيغة(1/694)
تقرب من صيغة قرارات الأمم المتحدة، فإن بعض دول المؤتمر كانت معترفة بإسرائيل ولم يكن ميسورا استصدار قرار بعيد المدى.. فقنعنا ورضينا.. واعتبرناها خطوة إلى الأمام على الساحة الأفرو آسيوية.
... وانفضت تلك الجلسة وقد سادها التراضي، وخرجنا إلى "فيلاتنا" للاستراحة وكنا أربعة: الرئيس نهرو والرئيس عبد الناصر والسيد خالد العظم وأنا، وكنت أتحدث مع الرئيس نهرو عن كتابه الرائع" اكتشاف الهند" فتدخل الرئيس جمال وهو يظن أننا في جدال فقال:
... السيد الشقيري سنمنحه وساما لما نعود إلى القاهرة، ما رأي المستر نهرو
قلت: ولكني أظن أن الثورة في مصر قد ألغت الألقاب والأوسمة..
... فقال السيد عبد الناصر: لقد ألغينا الألقاب، أمّا الأوسمة فلا تزال باقية ... قلت: لقد وصلني الوسام، وإنني أعتبر هذا الحديث هو الوسام..
... وركبنا سياراتنا- إلى فيلاتنا- والسيد خالد العظم يقول لي: أظن أن نهرو لو ترك وحده لكان في صفنا، ولكني ألاحظ أن" كريشنا منون" هو الذي دفعه إلى هذا الموقف.
... وكانت فراسة السيد خالد العظم في محلها، فلقد زاملت "كريشنامنون" وزير الدفاع الهندي حين كان رئيسا لوفد الهند في الأمم المتحدة، وكنا نناضل في كل القضايا الدولية إلاّ في قضية فلسطين، فقد كان يرى أن إسرائيل عضو في الأمم المتحدة وأنّ الميثاق يفرض احترام سيادتها واستقلالها، وبقي على هذا الرأي حتى العدوان الثلاثي عام 1956 فأخذ يغير رأيه شيئاً فشيئاً..(1/695)
وحتى حرب حزيران 1967، فبات يعلن أن إلقاء إسرائيل في البحر، يفسده ويلوثه.. فلتدمر عن طريق آخر..
... وتعاقبت جلسات اللجنة السياسية فإذا بالخلاف العقائدي يشغل الوفود كلها ويجرها إلى حلبة الصراع، فقد "دخل" البحث في صميم الاستعمار، والحياد، والأحلاف، والسلم العالمي، وما ينطوي تحت هذه المواضيع من مشاكل وقضايا.
... وبدأ الدكتور فاضل الجمالي، يندد بالشيوعية العالمية وأساليبها في التسلل والتخريب، وتعرض للاتحاد السوفيتي واضطهاده للمسلمين، وختم خطابه الطويل ممسكاً بالقرآن بين يديه وهو يتلو "ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
... وتلاه السيد محمد علي رئيس وزراء باكستان مبرراً الأحلاف العسكرية مع الغرب، وأنها أحلاف دفاعية مشروعة تقع في نطاق المنظمات الإقليمية التي نص عليها ميثاق الأمم المتحدة.
... وتكلم مندوب إيران، وبعده مندوب تركيا، وبعده مندوب سيلان، فتحدثوا عن الإستعمار الجديد، والشيوعية العالمية، وخطرها على السلم العالمي.. وبدا واضحا أن هذه الكتلة الغربية أخذت تشن هجوما مركزا على الإتحاد السوفيتي والصين الشعبية، وفي داخل مؤتمر باندونغ.
... ودخل الدكتور شارل مالك ( لبنان) في المعركة- وكان وراءه رئيس الوزراء السيد سامي الصلح- استعرض تاريخ المذهب الماركسي اللينيني ومجافاته للحرية الإنسانية، والمثل العليا، ودعا إلى محاربة ما يقوم عليه من فلسفة مادية تنكر وجود القيم الروحية..(1/696)
... وتعاقبت جلستان والحديث يدور في هذا السياق، فانطلق الرئيس نهرو يتحدث بطلاقة وحماسة عن الحياد الإيجابي ومقتضيات السلم الدولي، وشارك الرئيس عبد الناصر في توكيد المبادئ الخمسة التي كانت قد أقرتها اللجنة التحضيرية للمؤتمر..
... وكان السيد علي صبري، مدير مكتب عبد الناصر، يأتي إليّ من حين إلى حين ليهمس في أذني أن الرئيس عبد الناصر يقترح عليّ أن أرّد على "الدكتورين"، فاضل الجمالي وشارل مالك.. وكنت أرد عليهما الحجة بالحجة، حتى لقد بدا أن المجموعة العربية فيها معسكران يتمثل فيهما معسكرا العالم أجمع.. وملت إلى السيد سامي الصلح رئيس الوزراء وقلت له:
... - ألا توقف الدكتور شارل مالك عن الاسترسال في الحديث، فلقدأصبح المؤتمر في خطر، ومالنا وللشيوعية العالمية..كل ما نريده قضية فلسطين وقضايا تونس والجزائر ومراكش، وهذه قد انتهت كلها على خير..
... فقال السيد سامي الصلح: والله، يا عزيزي، أريد أن أستعين بكم على الدكتور شارل مالك ... .
قلت: ولكن لا يجوز للدكتور مالك أن يتصرف هكذا بحضورك، وأنت رئيس الوزراء..
قال: يا عزيزي.. أنت تعرف الأمور في لبنان.. وتعرف علاقة الدكتور مالك بالولايات المتحدة وفهمك كفاية.
ثم تحدثت إلى الرئيس الصلح باللغة التركية فقد كان يجيدها، وظننت اني سأكون معه أحسن حالاً من اللغة العربية، وناشدته أن يكبح جماح(1/697)
الدكتور مالك رحمة بقضية فلسطين، فلم يكن من الرئيس الصلح إلاّ أن أخرج "هويته" من جيبه وهو يقول لي بالتركية..
- أنا فلسطيني مثلك يا عزيزي، ها أنت ترى هويتي اللبنانية مكتوبا فيها أن مولدي في عكا.. عكا يا عزيزي، هي بلدي..
... قلت له: أن عكا يا عزيزي، تطالبك أن تجلس في المقعد الأول للوفد اللبناني، وتتناول الكلام بدلا من الدكتور مالك..
... وكان السيد فطين زوغلو وزير خارجية تركيا على مقربة منا، فسمع الحديث باللغة التركية بيني وبين الرئيس الصلح، فجاء إلينا وجلس خلفنا وهو يقول:
... - وماذا تتحدثون .. ان من حقي أن أعرف ما دمتم تتكلمون باللغة التركية..
... قلت له: كنا نترحم على السلطان عبد الحميد
... قال: ولماذا؟
... قلت: لقد رفض السلطان عبد الحميد إغراءات" هرتسل" وقال له: إنني أرفض إعطاءكم فلسطين، ولن تصلوا إليها إلاّ على جثتي..رحم الله السلطان عبد الحميد..
فانصرف الوزير التركي مقطبا، وضحك الرئيس الصلح..
... وتطلعت إلى السماء ألتمس الفرج، فقد أصبح المؤتمر على الحافة، وطلب الرئيس شوان لاي الكلام.. فغادر كرسيه ووقف وراء المذياع، وإلى جانبه المترجم ينقل عباراته من الصينية إلى الإنجليزية..(1/698)
... وتطلعت الأبصار إلى الرجل الذي تمرس بالنضال في أضخم حركة تحريرية في العالم، وراح الجرس بين أوتاره الصوتية يرن بنبراته وعباراته، في حديث تجاوز الوقت المحدد لأي وفد.. ولكن أي تحديد، وشوان لاي بدأ يخاطب المؤتمر في الداخل، والعالم في الخارج، عن سياسة الصين الخارجية وأثرها على السلم العالمي..
... قال شوان لاي ما موجزه "أن الصين تمنح الحرية الدينية لكل رعاياها.. وهذا واحد من أئمة المسلمين عضو في وفد الصين ... ومن حقها أن لا يتعرض أحد لشئونها الداخلية وأفكارها العقائدية، وهي مصممة أن لا تتدخل في شؤون أي دولة من الدول ولا في أفكارها العقائدية.." وكان شوان لاي يرد بهذا الكلام على الوفود الموالين للكتلة الغربية.. فاستل بهذا المنطق الهادئ كل الأسلحة التي استخدمها "الدكتوران فاضل الجمالي وشارل مالك وأعوانهما"..
... ولكن شوان لاي لم يكتف بهذا الموقف الداخلي، فتجاوز إلى تجريد الموقف الخارجي من الحرب الباردة التي كان الغرب يشنها على المؤتمر، فألقى شوان لاي البيان الآتي ترجمته كما دونته، ساعة إلقائه..
... "ان الشعب الصيني صديق للشعب الأمريكي ولا يريد أن يدخل في حرب مع الولايات المتحدة، وترحب الحكومة الصينية بالجلوس مع الحكومة الأمريكية والدخول في مفاوضات معها لتخفيف حدة التوتر.. في الشرق الأقصى وخاصة موضوع تخفيف حدة التوتر في منطقة تايوان".(1/699)
... وعاد شوان لاي إلى مقعده، وعاد معه "الفرج" إلى المؤتمر، ولم يبق لاحد في المؤتمر ما يشكو منه بعد هذا البيان، وكان ذلك في23 نيسان سنة 1953.
... وفي 24 نيسان أعلن المؤتمر قراراته بالإجماع واهتزت أسلاك البرق بهذا النجاح الكبير، وقد قفز من قاع الفشل إلى قمة النصر.. وحل مؤتمر باندونغ مكان الصدارة في تاريخ العلاقات الدولية كأعظم حدث سجله تضامن الشعوب الآسيوية الإفريقية.
... وكانت على هامش المؤتمر لقاءات امتد أثرها إلى ما بعد المؤتمر..
... وكان أول هذه اللقاءات المائدة الكبرى التي أقامها الرئيس شوان لاي تكريما للوفد السوري، وقد أقام مثلها للوفود الأخرى..
... وكانت الوليمة حافلة بألوان الطعام الصيني الشهي، فقد كانت قد وصلت طائرة صينية محملة بصناديق اللحوم والأسماك والخضار والفواكه والأطباق والأقداح. كلها صينية، طعما ولونا، وزرعا وصنعا..
... وامتدت الوليمة ساعات.. والأطباق الصغيرة ترفع عن المائدة لتوضع مكانها أطباق أخرى.. وشوان لاي مضيف ماهر وساحر. وكان الوفد الصحفي السوري قد بلغ منه السرور مبلغا أن أصبح يتكلم باللغة العربية كأنه في النادي العربي بدمشق..
... وانتهت الوليمة..وخلونا نحن الثلاثة: شوان لاي والسيد خالد العظم وأنا في حديث طويل عن الشؤون الدولية والقضايا العربية وقضية فلسطين، وتحدث السيد العظم بحرارة عن السياسة الغربية الظالمة، وشرحت القضية الفلسطينية في إطار الاستعمار العالمي، وانتهى الاجتماع "بعهد" من شوان(1/700)
لاي بتأييد القضايا العربية وقضية فلسطين، وأحسست أن صداقة توطدت بيني وبينه، تجسدت في زيارتي للصين الشعبية في عام 1965 سيأتي ذكرها في فصل مشرق من جزء لاحق من مذكراتي.
... وكان اللقاء الآخر على هامش المؤتمر اجتماع الوفدين المصري والسوري على مائدة أخرى في فيلا الرئيس عبد الناصر..
... وكان الاجتماع مخصصا لبحث العلاقات المصرية السورية وموضوع الإتحاد بين البلدين، وقد افتتح الحديث الرئيس عبد الناصر مرحبا بفكرة الإتحاد على أن تكون نابعة من إرادة الشعبين، وتكلم في الموضوع من جوانبه العامة ومبادئه الرئيسية، وإلى هنا كان النقاش مع السيد عبد الناصر هادئا وموضوعيا..
... وتحدث السيد صلاح سالم وزير الإرشاد القومي في مصر في الأمور التفصيلية وخاصة الناحية المالية للاتحاد.. وهنا دار نقاش طويل بين الوزير خالد العظم والوزير صلاح سالم، كل يؤيد وجهة نظره..وكان رأي السيد خالد العظم أن تتحمل مصر من ميزانية الإتحاد ما يناسب عدد سكانها وثروتها.. على حين كان السيد صلاح سالم يخالف في ذلك..ويشرح أن" الاتحاد" فكرة جديدة على مصر..وأنه لا بد من مضي وقت لإقناع المواطن المصري.. والفلاح المصري، والعامل المصري، بفوائد الاتحاد، قبل أن يساهم في ميزانية ضخمة للاتحاد..
... وحمي وطيس الجدال بين الرجلين: السيد صلاح سالم عصبي المزاج، والسيد خالد العظم فيه كبرياء آل العظم.(1/701)
... وكان السيد جمال عبد الناصر يمسك بلجام الحديث.. حتى لا يفلت الزمام بين الرجلين، فكان يتدخل من حين إلى حين ليقول: على مهل يا صلاح.. اسمع يا صلاح..يجب أن نبحث الموضوع بهدوء.. الموضوع خطير وكبير.. ويحتاج إلى مناقشة هادئة، ودراسة موضوعية..
... وامتد الاجتماع حتى الفجر، والتفاصيل الفرعية تباعد الرجلين صلاح سالم وخالد العظم، والإتحاد يتباعد عن التحقيق، .. فلم يكن قد اختمر موضوع الوحدة في الأذهان.. وانتهت الجلسة على غير جدوى.. لقد كان بحثا حرا عن المفهوم المشترك والمضمون المشترك للوحدة العربية، وشكلها ونظامها ودستورها ومؤسساتها العسكرية والسياسية.
... ولكن لم يكن مقدرا أن تولد الوحدة العربية في باندونغ، فقد ولدت في غير ذلك الزمان وفي غير ذلك المكان..
... لقد وُلِدَت في دمشق والقاهرة، ثم وُئدت في دمشق والقاهرة، وكان عزائي يوم حزنت على "الانفصال" أنني كنت بعيدا عن أحداثها فلم يكن لها مكان في هذه المذكرات، لا يوم ُوِلَدت.. ولا يوم ُوئَدت..
... ولكني وجدت في مذكراتي (أيلول 1961) قصاصة حزينة تقول:- ذهبت اليوم إلى الأمم المتحدة، ورأيت في ساحتها الأمامية، رئيس دائرة البروتوكول ومعه أعضاء الوفد السوري، يرفعون العلم السوري على ساريته القديمة، بين أعلام الدول الأعضاء، وهذا هو تكريس الانفصال في الأمم المتحدة.
... وكانت السارية تئن مثلي.. ومثلي كانت تندب الوحدة..(1/702)
دموع في الجامعة العربية..
وصلاة في مجلس الأمن..
... فرغنا من مؤتمر باندونغ وعادت الوفود إلى بلادها، الحكام إلى عواصمهم للاضطلاع بمسؤلياتهم، والمناضلون إلى قواعدهم لمواصلة معارك التحرير، وسرت في شعوب آسيا وأفريقيا شحنة ثورية ساخنة تقذفها إلى مواقع جديدة في ميدان النضال..
... وفي ما خلا قضية فلسطين التي كانت حتى ذلك العهد قضية إعلامية فحسب، فقد كانت الأمة العربية في شمال أفريقيا تخوض غمار معركة قاسية ضد عدو واحد: الاستعمار الإفرنسي.
... لقد كانت تونس والجزائر ومراكش في كفاح دموي سعيا وراء الحرية والاستقلال، ولم يكن هنالك تكافؤ في هذه المعركة التي تصدت لها فرنسا بكل قواتها العسكرية، وكانت منظمة حلف الاطلنطي تقف إلى جانب فرنسا، فإن كل حركة تحريرية في العالم هي "حركة شيوعية" وعلى حلف الاطلنطي أن يجند نفسه لقهرها ودحرها.. هكذا كان يفكر العالم الغربي ولا يزال.. ولكن ذلك لم يكن ليرد المجاهدين في الشمال الأفريقي عن الجهاد.. ولم يكن ليردهم عن الجهاد تقاعس الجامعة العربية واكتفاؤها بإصدار القرارات الإنشائية بديلا عن التأييد المادي الفعلي..(1/703)
... وعقدت الجامعة العربية اجتماعها التقليدي في عام 1955، بعد مؤتمر باندونغ، وهي تعيش على رصيده لتنظر في القضايا العربية.. ومثلت بين يديها وفود المغرب العربي، وتحدث ممثلو تونس والجزائر ومراكش عن كفاحها البطولي وما يقتضيه من مال وسلاح وعتاد.. وتحدثوا عن القرى المنكوبة والأسر الثاكلة.. وبكى السيد علال الفاسي وهو يحاول جاهدا أن يحبس دموعه.. وشكا السيد صلاح بن يوسف..وجأر الوفد الجزائري .. وانتهى مجلس الجامعة إلى قرار.. "يعلن تأييده المطلق" بعد أن كفكف عدد من الوفود دموعهم..
... وجاءني في اليوم التالي السيدان صالح بن يوسف والحبيب بورقيبة" الابن، وهما يقولان إنه قد وصل إلى السفارة الإندونيسية مبلغ سبعة عشر ألف جنيه، معونة مالية لتونس، وأنّ الأمر يقتضي موافقة الجامعة العربية، فطلبت إلى الإدارة المالية في الأمانة العامة للجامعة أن تقبض المبلغ من السفارة الإندونيسية وتدفعه إلى تونس، فتعللت الإدارة المالية أن الأمر يحتاج إلى قرار من مجلس الجامعة.. ومجلس الجامعة قد انفضَّ.. ولا بد من الانتظار إلى الدورة المقبلة.. ولكن الثورة في تونس لا تنتظر.. الثورة لا تخضع للروتين، فقلت للإدارة المالية سأتصرف على مسؤليتي. ليحاسبني مجلس الجامعة حين يجتمع..
... وذهبت إلى السفارة الإندونيسية، يرافقني السيدان صالح بن يوسف والحبيب بورقيبه.. وكان الحاج عبد القادر رادان سفير اندونيسيا، محبا للعرب عطوفا على القضايا العربية، فسلم الوفد التونسي شكا بالمبلغ.. بعد أن "رهنت" توقيعي.(1/704)
... ولم يكن ذلك المبلغ كبيرا.. ولكنه كان كبيرا جدا في حينه، فقد كانت الثورة التونسية تستغيث بالسماء طلبا للعون والنجدة.. ومثلها الجزائر ومراكش..
... وسافرت إلى الأمم المتحدة في خريف 1955 لأدافع عن القضايا الأربع، الجزائر وتونس ومراكش وفلسطين..وكان الكفاح الثوري المسلح متأججا في الأقطار الثلاثة الأولى، فكان حجتي البالغة على منبر الأمم المتحدة، وقطعت قضاياها شوطا حسنا في الطريق نحو الحرية والإستقلال..
... أمّا قضية فلسطين فلم يكن سندي فيها إلاّ قرار مؤتمر باندونغ وتمنيات الجامعة العربية، وأَنىَّ لقضية هذا حالها أن تشق طريقها في الأمم المتحدة اعتماداً على التاريخ والحق والعدل والمنطق وميثاق الأمم المتحدة.
... ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فإن قضية فلسطين كانت قد هانت على أصحابها فهانت على الأمم المتحدة.. فقد وكل أمرها إلى اللجنة السياسية الخاصة لتعالج على أنها قضية لاجئين تناشد الأسرة الدولية: الدواء والكساء والغذاء..
... ولقد مرت تلك الدورة- 1955- والدورات التي بعدها، دون أن يشترك وزراء خارجية الدول العربية في مناقشة القضية الفلسطينية، ولو كمستمعين .. على حين كان وزراء الخارجية الإسرائيلية شاريت وجولدا ماير وايبان، لا يفترون عن حضور الجلسات بأنفسهم، ويتحدثون بأنفسهم، ويحاورون ويجادلون..
... وحاولت جهدي، مع المندوبين العرب الدائمين، أن نجدد شباب القضية، وننفخ فيها الروح، ونجحت محاولاتنا، فقد تجاوزنا البند المدرج على(1/705)
جدول الأعمال اللاجئين، إلى بحث القضية الفلسطينية من جميع جوانبها، وحققنا بذلك نصرا ولو على الصعيد الإعلامي، وهذا ما نستطيعه في دهاليز الأمم المتحدة.. وكان الوفد الأمريكي يتصدى لنا، يدعو على الدوام إلى اقتصار البحث على موضوع الإغاثة وتجنب بحث الجوانب السياسية.. وعدم الرجوع إلى الماضي. والالتزام بالواقعية والموضوعية.. والعمل على خلق جو لحل الخلافات بالطرق السلمية..
... ولم يقف الوفد الأمريكي عند هذا الحد بل راح يصطنع من طرف خفي، التفسيرات والعقبات التي تحول دون تنفيذ قرار 1948 (1) بشأن عودة اللاجئين..
... ولم يكن ممكنا الصبر على هذا الموقف المشين، الذي يتصدره الوفد الأمريكي، وهو الذي وضع صيغة القرار في عام 1948، وجاء في عام 1955 يتنكر لموقفه..
... وصادف أن كانت الأمم المتحدة، قبل ذلك، قد احتفلت بيوم الأمم المتحدة، واحتفلت بعده بيوم حقوق الإنسان..فاتخذت من هاتين المناسبتين ركيزة للهجوم على الولايات المتحدة، وهي في الواقع سيدة الأمم المتحدة..
... وقلت لمناسبة يوم الامم المتحدة، وأنا أوجه حديثي إلى الوفد الأمريكي: "أن يوم الأمم المتحدة يذكرنا بذلك الاحتفال الفخيم بوضع حجر الأساس لهذا البناء الفخيم الذي يضمنا الآن.. وكلنا يذكر الرئيس ترومان يوم وضع بيديه ميثاق الأمم المتحدة تحت الحجر الأساس وسط عاصفة من
__________
(1) * المقصود القرار 194 الخاص بحق العودة والتعويض للاجئين الذي صدر في 11 كانون الأول 1948 ] المحرر[.(1/706)
التصفيق..وها نحن ندرك الآن بعد أن سمعنا كلام الولايات المتحدة عن قضية اللاجئين، أن الرئيس ترومان فد دفن الميثاق تحت الحجر الأساس في ذلك الاحتفال الفخيم، ولم يكن هذا عجبا على الرئيس ترومان ففي عام 1947 و1948 تولى كذلك "دفن" الحق والعدل في قضية فلسطين.
... وبالنسبة ليوم حقوق الإنسان، استأنفت حديثي إلى الوفد الأمريكي وأنا أقول "لقد كانت قاعة الجمعية العامة غاية في الفخامة ونحن نحتفل بيوم حقوق الإنسان.. الاوكسترا الأمريكية عزفت لنا في ذلك اليوم أروع الألحان.. وأكاليل الزهور تتقدمها الأكاليل الأمريكية قد ملأت منصة الأمم المتحدة..واليوم يجيء الوفد الأمريكي يخطب عن اللاجئين ليفسر لنا تلك المظاهر العظيمة.. لقد كانت تلك أكاليل الجنازة.. ونحن نتحدث عن حقوق الإنسان وهي في طريقها إلى مثواها الأخير..، ووجهت الطعنة الثالثة إلى حقوق الإنسان، وكانت تلك ... اوركسترا الجنازة، ونحن نسير في موكبها لوداع حقوق الإنسان إلى صدر الوفد الأمريكي لا إلى ظهره، فكانت أشدّ ايلاما.. وتناولت بالمقارنة قضية الطيارين الأمريكان الأحد عشر..
ولهذه القضية قصة مثيرة.. فقد احتجزت الصين الشعبية أحد عشر طياراً امريكيا اتهمتهم بالتجسس، فثارت الولايات المتحدة وثارت معها الأمم المتحدة تطالب بإطلاق سراحهم.. وعقدت الجمعية العامة عدة جلسات تكلم فيها الوفد الأمريكي وطلب من المستر همرشلد أن يتدخل لدى الصين الشيوعية "لإنقاذ السلم العالمي"، وذكر الوفد الأمريكي الطيارين باسمائهم ومدنهم وعناوينهم.. وأعرب عن قلق الشعب الأمريكي من أن هؤلاء(1/707)
الطيارين الأحد عشر ستقضي أسرهم عيد الميلاد وهم أسرى في معتقلات الصين.. ويا لفجيعة الإنسانية..
... ورحت بدوري أقارن بين الأحد عشر طيارا أمريكيا الذين كانوا يقومون بأعمال التجسس على الصين الشعبية، وبين مليون من اللاجئين أخرجتهم إسرائيل من ديارهم، ومرت عليهم عشرات من أعياد الميلاد والفصح وجميع الاعياد الإسلامية وهم يبتعدون عن ديارهم، دون أن يثير ذلك"عاطفة" الولايات المتحدة، وتساءلت بعد هذه المقارنة: هل المواطنون الأمريكان من طينة أخرى من البشر؟ !؟ .. وهل عواطف الولايات المتحدة في حاجة إلى مليون من الأمريكان يؤسرون في الصين الشعبية حتى تحس بكارثة الشعب الفلسطيني.. وما يعانيه من عذاب وبؤس وحرمان؟؟
... ولم تكن هذه مقارنات فحسب.، بل كانت صفعات موجعة لم يستطع أن يتحملها الوفد الأمريكي فقاطعني، واحتج أني خرجت عن الموضوع، وأنّ هذا الأمر خارج عن الصدد.. وفعلا فقد خرجت عن الموضوع والصدد.. ولكن فات الوقت على الوفد الأمريكي، فقد قلت كلمتي واستنفدت كل السهام في جعبتي..
... وحينما جاء دور إعداد مشروع القرار في موضوع إغاثة اللاجئين، لم يستطع الوفد الأمريكي تحت ضغط هذه الحملة الساخنة إلاّ أن يوافق على" إقحام" فقرة تقضي بتنفيذ قرار الأمم المتحدة الصادر سنة 1948 بشأن عودة اللاجئين.. وهكذا كان.. وكان في عداد وفود أمريكا اللاتينية البروفسور فابريكات، رئيس وفد البورجواي، ولعله من أقدم الأعضاء في الأمم المتحدة،(1/708)
وكان عضوا في لجنة الأمم المتحدة التي زارت فلسطين في عام 1947 وأوصت بالتقسيم.
... وكان " البروفسور فابريكات" من أكبر أنصار الصهيونية، وقد أطلقت إسرائيل اسمه على أحد شوارع تل أبيب " تمجيداً" لخدماته..
... وقد اختلفت الروايات، روايات زملائه من وفود أمريكا اللاتينية- بصدد" عقيدته الدينية" فمن قائل انه يهودي أصلا، ومن قائل إنه ملحد لا يدين بدين..
... وكان "فابريكات" عارفا بالتاريخ العربي والإسلامي، يسترسل في خطبه في هذا الباب، ليجعل ذلك مقدمة للكلام في تأييد إسرائيل، فكان يكيل المديح لنا ويكيل التأييد لإسرائيل..ولم يكن يكل عن التحدث في هذه المواضيع حتى قلت له في إحدى الجلسات: "أنت بروفسور فابريكات حقا" وفي اللغة الإنجليزية تعني كلمة "فابريكيشن" التزوير.. وضحك هو مع الضاحكين..
... وفي أخريات الدورة جاءني البرفسور فابريكات ليقول لي:
... - عندي خبر سار لك..
... قلت: وما هو الخبر السار.
... قال: لك صديق عزيز وصل إلى الأمم المتحدة وهو يريد أن يراك..
... قلت: ومن هذا الصديق ... يسرني أن أراه..
... قال: وهل يسرك أن تراه حقا؟
... قلت: إذا كان صديقي حقا، فإنه يسرني أن أراه حقا..(1/709)
... قال: أن السيد بخور شطريت.. قد جاء من فلسطين منذ يومين وهو يلح أن يلتقي بك في أي زمان وأي مكان.
... قلت: لا أريد أن أرى بخور شطريت في أي زمان، وفي أي مكان..
... قال: ان بخور شطريت يقول إنه يعرفك جيدا..
... قلت: إنني أعرفه جيدا وهو يعرفني جيدا، ولأزيدك علما.. أن بخور شطريت من اليهود القدامى في فلسطين أو من اليهود العرب كما يقولون.. وكان محاميا زميلا لي أثناء الانتداب البريطاني على فلسطين.. وكنا نلتقي به مع المحامين العرب في مزرعة لزميل لنا هو السيد محمود الماضي على مقربة من حيفا. وكان شطريت يعزف لنا على العود ويغني الأغاني العربية القديمة، وبعد خروجنا من البلاد علمت أن شطريت قدأصبح وزيرا في حكومة بن غوريون..
... قال: هذه معلومات جميلة.. وهذا ما يزيدنا إلحاحا في أن تلتقي مع شطريت بعيدا عن أي كلام في السياسة.. مجرد لقاء بين معارف..
... قلت: ان شطريت الذي كان يغني لنا قد مات في عهد الانتداب البريطاني، وماتت معه كل معرفتنا باليهود القدامى "العرب" الذين كنا نعرفهم.. لقد انضموا إلى الحركة الصهيونية تحت علم إسرائيل.. ولا لقاء بيننا وبينهم، وقد مضى الماضي وانتهى..
... وعاودني البرفسور "فابريكات" بالحاحه وإصراره أن ينقل إليّ رجاء شطريت في أن أراه، لعلنا نجد صيغة للوصول إلى تسوية سلمية.. فأجبت "البروفسور" أن الصيغة عندي هي ما قاله أحد قواد الثورة الفرنسية في مجلس الأمة الافرنسي: "نحن مستعدون أن نعطي كل شيء لليهود كأفراد..(1/710)
ولكن اليهود كشعب فلسنا مستعدين أن نعطيهم أي شيء.." وكانت هذه العبارة نهاية هذا الحديث ونهاية هذه المحاولة..
... وبدأت أعد أنفسي للسفر فقد أوشكت الدورة على النهاية.. ولكن يأتيك بالأخبار من لم تزود.. فقد جاءنا ساعي البريد ببرقية عاجلة طويلة من دمشق.. وقلت خيرا ان شاء الله..
... ودعوت الموظف المسئول عن "الرموز" وحل البرقية فإذا بها مليئة بالتفاصيل الرهيبة عن عدوان يهودي غادر على المخافر السورية شرقي بحيرة طبريا، وأدى إلى إصابة خمسين جندياً وضابطاً بين قتيل وجريح، وتطالبني البرقية بتقديم الشكوى أمام مجلس الأمن..
... ولم تكن البرقية مستوفية التفاصيل، ولكني بادرت بتقديم الشكوى (11 كانون أول سنة 1955) إلى مجلس الأمن، مستعينا بمعرفتي لمواقع العدوان معرفة شخصية، فقد كانت لي قضايا عقارية على مقربة من تلك المنطقة حين كنت محاميا في فلسطين..
... وكذلك فقد استعنت بما أعرفه من التكتيك الإسرائيلي في هذه الهجمات الغادرة.. فقد سبق لي أن زرت قرية" قبية" في الضفة الغربية بعد أن هاجمتها العصابات الإسرائيلية في 23 تشرين ثاني سنة 1953، ورأيت البلدة قاعا صفصفا تناثرت جدرانها وتهاوت سقوفها.. وأصبحت أطلالا، دونها أطلال امرئ القيس!!.
... وعقد مجلس الأمن جلسات متعددة للنظر في الشكوى السورية، وجاءتني بعد ذلك التفاصيل المروعة عن هذه المذبحة الغادرة التي اقترفتها العصابة الإسرائيلية تحت جنح الظلام.. وكان التكتيك العسكري الإسرائيلي(1/711)
على الدوام: قوة عسكرية كبيرة على منطقة صغيرة، وتدمير إلى وجه الأرض..
... وعدت إلى الاعتداءات الإسرائيلية السابقة فعرضتها، واستعرضت معها قرارات مجلس الأمن بإدانتها، ومضيت إلى القول بأن قرارات الإدانة لم تعد كافية ولا رادعة لإسرائيل.. واستشهدت بالمادة السادسة من ميثاق الأمم المتحدة التي تنص على فصل الدولة من عضوية الأمم المتحدة إذا كانت" تستمر في مخالفاتها"، وكان هذا الطلب يطرح لأول مرة أمام الأمم المتحدة، واعتبره مجلس الأمن مطلبا جريئا فريدا، وطلب الأعضاء التأجيل مرة بعد مرة لدرس هذه النقطة القانونية، ولأول مرة أبرزت جريدة النيويورك تايمس هذا المطلب العربي في صدر صفحتهاالأولى وبالعناوين الأولى..
... كان عيد الميلاد قد أوشك.. فلجأت إلى الدين، إلى جانب القانون والسياسة، وتحدثت في ما يشبه الابتهال الديني، عن بحيرة طبريا وذكريات السيد المسيح على شواطئها، حيث ترتكب إسرائيل أفظع جرائمها.. ورجعت إلى مداولات سان فرنسيسكو يوم وضع ميثاق الأمم المتحدة وتاريخ المادة السادسة.. ورجعت أبعد إلى الوراء، إلى ميثاق عصبة الأمم المتحدة فيما يماثل المادة السادسة، حتى أصبحت هذه المادة في مجلس الأمن شغله الشاغل، يفسرها الجميع ويحللها الجميع..
... وكنت على تشاور دائم مع السيد "سوبوليف" المندوب الروسي في مجلس الأمن، وكان يقوم بدور كبير في مداولات مجلس الأمن ويؤيد الشكوى(1/712)
السورية ويشدد أنه لا بد من بحث عقوبة أخرى غير الإدانة.. تفرض على إسرائيل من غير رحمة ولا تردد..
... ولكن الدين لم ينفع، والقانون لم ينفع، فلم يوافق مجلس الأمن على إصدار قرار بطرد إسرائيل من الأمم المتحدة، وأصدر قرارا بالتنديد، متوعداً بأنه سينظر في إجراءات أخرى إذا تكرر مثل هذا العدوان..
... وانتهينا من مجلس الأمن في 19 كانون الثاني سنة 1956 بعد أن ملأت محاضرة بأكبر حملة تشهير لإسرائيل، نشأة ووجودا وبقاء. وبعد أن جعلت مجلس الأمن معبدا يذكر فيه اسم الله..
... وتوالت اعتداءات إسرائيل بعد ذلك القرار، فلم يتخذ مجلس الأمن أية إجراءات أخرى غير التنديد.. وكان أكبر هذه الاعتداءات، العدوان الثلاثي عام 1956، وعدوان حزيران 1967.. وجاء فيما بعد العدوان على مطار بيروت، والقرى العربية في الأردن ولبنان..
... ولقد أدينت إسرائيل منذ قيامها بضع عشرة مرة، من قبل الجمعية العامة ومجلس الأمن.. ولكن المادة السادسة من ميثاق الأمم المتحدة لم تتحرك.. لأن الحكم في الأمم المتحدة هو لأمريكا، وليس للقانون، وإسرائيل ربيبتها وركيزتها..
... ولقد بلغت الفظائع الإسرائيلية ذروتها في عدوان حزيران 1967 وتلا ذلك فظائع أخرى بلغت ذروة ذروتها..
... وشكا العرب إلى مجلس الأمن من قنابل النابالم..
... وشكا العرب من تشريد اللاجئين..
وشكا العرب من نسف القرى وهدم المنازل..(1/713)
وشكا العرب من التعسف والإرهاب والتقتيل على النساء والشيوخ والأطفال..
... ومضت إسرائيل لا تبالي بمجلس الأمن وبالقانون الدولي وبالمبادئ الإنسانية ولكن العرب قوم بدائيون لا يعرفون حقيقة العلاقات الدولية ولا يعرفون "مفهوم" الحرب- والحرب تصيح في أسماعهم ووجوههم ..
... تعلموا صناعة قنابل النابالم وأحسنوا استعمالها ...
... وتمرسوا بأساليب النسف والإرهاب والتقتيل والتشريد..(1/714)
مصائب اليمن الثلاث..
ورابعها إمامها..
... شددت بريطانيا قبضتها على جنوب اليمن المحتل، و أخذت الطائرات البريطانية تقصف القرى الآمنة، وفرََّ زعماء القبائل إلى الإمام أحمد ملك المملكة المتوكلة اليمنية يشكون ما حل بهم من خراب ودمار، وشكا الإمام بدوره إلى الجامعة العربية، واجتمع مجلس الجامعة، وفكر وقدر وقرر.. وأعلن أن بعثة تمثل دول الجامعة ستسافر إلى اليمن وتدرس الحالة عن كثب وتقدم تقريرها وتوصياتها.. وكان ذلك في شهر آذار سنة 1957.
... وتألفت البعثة من ممثلي الدول العربية، وكان معظمهم من العسكريين، وكنت رئيسا للبعثة باعتباري الأمين العام المساعد للجامعة العربية..
... فجمعت كل ما في الأمانة العامة من ملفات ووثائق بشأن الجنوب اليمني المحتل، فلم أجد ما يزيد عن مذكرات من السفارة اليمنية في القاهرة تشكو من الاعتداءات البريطانية المتكررة، خالية من التفاصيل والوقائع، وخالية من أي طلب معين محدد.. "وتضع الأمر أمام مجلس الجامعة ليقرر بشأنه ما يراه مناسبا..".
... وعدت إلى المراجع العلمية، العربية والإنجليزية، التي عنيت بشؤون اليمن ومشكلاته في محمياته"، وكنت إلى ذلك الحين بعيدا عن القضية اليمنية،(1/715)
منصرفا إلى قضية فلسطين، وإلى الكفاح العربي في الجزائر وتونس ومراكش..
... وفي أوائل نيسان من عام 1957 كانت طائرة الخطوط المصرية تقلنا إلى اليمن "السعيد" يرافقنا السيد أحمد محمد الشامي مستشار السفارة اليمنية بالقاهرة "وزير خارجية الملكيين فيما بعد" وانضم إليه السيد عبد الرحمن البيضاني" نائب رئيس الجمهورية اليمنية فيما بعد".
... وهبطنا مطار الحديدة، وكاننا هبطنا قاع الجحيم، فقد كان الجو حارا مشبعا بالرطوبة، وحملتنا السيارات إلى قصر الضيافة، ووصلنا .. ولكن لم يكن هناك قصر ولا ما يقصرون..
... صعدنا السلالم إلى مبنى وضيع من غير تواضع.. ودخلنا غرفنا لنستريح فلم نجد غير سرر عادية، عليها فرش وأغطية تغري بالأرق. ودخلت الحمام لأنقذ نفسي من العرق الذي يتصبب من مفارق الشعر في رأسي حتى أخمص قدمي.. وكان "الدوش" صفيحة من التنك مثبتة في الدار، وقد نفد ماؤها ولم أكن قد تبللت.. ولم أكن قد عدت إلى الغرفة، حتى عدت أتصبب عرقا، ولبست ملابسي وذهبت إلى مائدة الطعام، وعلى كتفي "منشفة" أجفف بها عرقي من برهة لأخرى..
... وجلست "البعثة" إلى الطعام، وأنا مشفق على العسكريين بملابسهم العسكرية تشّد أعناقهم وخصورهم، وكان الفريق إسماعيل صفوت مندوب العراق يترحم على لهب بغداد، على حين كان إخواننا اليمنيون معنا يشيدون بالجو العليل في ذلك اليوم.. وأنّ ذلك فأل خير لمقدمنا.. وكان الطعام دسما للغاية، فأنفذت يدي في أطباق اللحوم كما ألفت مع البدو في مضاربهم، على(1/716)
حين وجم الزملاء المدنيون الناعمون، فأخذوا لقيمات لا تسمن ولا تغني من جوع !!
... ولكن المائدة كان فيها ما هان معه الحر اللاهب.. كان فيها الشاعر الحضراني وما أدراك ما الشاعر الحضراني..
... كان "الحضراني" اعجوبة حقا، يمثل الاعاجيب التي امتلأت بها كتب الأدب العربي، عن الشعراء الاقدمين.. وعن الرواة الحافظين..
... وكان الحضراني طويل القامة عظيم الهامة، وعلى رأسه عمامة، له وجه عربي كبير، فيه عينان نضاحتان، تحتهما شاربان مستويان، وتحتهما ذقن عريضة، تحتها لحية سوداء فاحمة..
... واعتدل الحضراني على كرسيه.. لا ليأكل، ولكن ليروي لنا الشعر القديم والحديث، والشعر العامي والفصيح..
... وقضينا ساعتين أو يزيد، والحضراني يلقي قصائد الشعراء وقصائده. ولكن أي إلقاء. لقد أوحى إلينا صوته الفخم، ولهجته البدوية، وإشاراته وتعبيراته وقسماته أننا في سوق عكاظ حقا، واننا بين يدي واحد من رواة العرب الأقدمين، يغرف من "ذاكرة"، ليس لها أبعاد ولا أعماق..
... ولقد جعلني الحضراني أُصدّق كل ما قرأته في الأدب العربي عن شعراء العرب الأوائل ورواتهم النوابغ.. أجل لقد جعلني أصدق كل هاتيك "الأكاذيب" وحزنت أن صناعة السينما العربية لم تظفر (بالحضراني)، بقية الزمان، ونادرة العصر والأوان.. ووقف الحضراني عن الإنشاد، وعدت إلى الإحساس بالحر، فسألت " لكابتن" المصري قائد الطائرة..
... -هل نستطيع أن نسافر الآن إلى تعز..(1/717)
... فقال الكابتن: بالتأكيد.. في أقل من ساعة نكون في تعز.. الحر هنا لا يطاق..
... وهكذا انضم صوت مصر إلى صوت العراق، يشكو من حر الحديدة في شهر الربيع.. وسارعنا إلى حقائبنا، وفي لهجة عسكرية دعوت البعثة إلى المطار.. ووصلنا إلى تعز.. إلى الهواء الناعم العليل.. إلى الجبال المعروشة المحروشة .. وتذكرت قول الصوفية: لله خواص.. في الأزمنة والأمكنة والأشخاص..
... وكان قصر الضيافة في تعز أحسن حالاً منه في الحديدة.. وإن كان كلاهما يذكرني " بالخانات والرباطات" التي كانت في طريق الحج في العصور الإسلامية المختلفة..
... وبدأت البعثة مهمتها التي جاءت من أجلها.. فاستمعنا إلى بعض "السلاطين" الذين فروا على أثر الإعتداءات البريطانية، وقلت لواحد منهم مداعبا: كيف يفر السلاطين.. ولمن تركتم الشعب!!
... وسافرنا في اليوم الثاني إلى منطقة "أب" واستمعنا إلى مشايخ القبائل، وسردوا لنا تفاصيل الاعتداءات، قصفا وإحراقا وتقتيلا..
... ثم انتقلنا بعدها إلى منطقة" البيضا" وهي أقرب ما تكون إلى المواقع التي كانت تقصفها الطائرات البريطانية، وتوغلنا إلى الأطراف الإمامية، وأطلقت المفارز البريطانية النار علينا وأصيب بعض مرافقينا من اليمنيين بجراح.. وحملناهم إلى مركز الهلال المصري في البيضا ليعالجوا مع جرحى الغارات..(1/718)
... وتجمعت الجموع في البيضا، واهتاجت الخواطر وخطب المشايخ منددين بالإستعمار البريطاني، ويطالبون الجامعة العربية بمدهم بالمال والسلاح!!
... وخطبت في الجموع الهائجة خطابا بدويا، لم يفهمه بعض رجال البعثة الذين لم يألفوا لهجة البادية.. وعجب مرافقا البعثة السيدان أحمد الشامي وعبد الرحمن البيضاني كيف أخطب في القبائل اليمنية وكأنني من أبناء اليمن، وهما يحسبان أن حياتي كلها هي" الأمم المتحدة" .. وأنيّ لا أحسن إلا الفصحى في العربية والإنجليزية..
... وقضينا يوما وبعض يوم في مأرب، وكان يوما مع التاريخ، فقد ذهبنا إلى موقع السَّد ولم يبق منه إلا" الأطلال" وأطرافه في أوله وفي آخره..، وسّد مأرب صنعته طبيعة اليمن والعبقرية اليمنية، فهذه التلال القائمة قبل السد كأنما صنعت ووضعت هكذا في مكانها، حتى يأتي السدّ بعدها، وبحجزه مياه الوديان تكون في خدمة الإنسان والحيوان.. وجاءت بعد ذلك "أسطورة" الفأر الذي قرض السد، وتفرق العرب أيدي سبا، وما زالوا متفرقين..
... وسافرنا بعد ذلك إلى صنعاء، وهي مدينة الجبال الشامخة، تعلوها " تشكيلات" من السحاب، هي آية من آيات الله في بديع صنعه..
... وفي صنعاء كان لقاؤنا مع الشعر والشعراء.. فقد جمعتنا الولائم بأدباء اليمن، وأصبحت صنعاء دار ندوة للعلم والأدب.. وأنشدنا الشعراء شعرهم.، في أخبار اليمن ووقائعها، وفي أيام العرب وأحداثها، فعشنا مع الماضي السعيد بأجوائه. أرضه وسمائه وحفظ العسكريون من البعثة أبياتا من الشعر في الحرب والحماسة..(1/719)
... وجاء دور "القات" فأنشدوا فيه المديح وأشادوا بمناقبه ومحاسنه، ووصفوا مجلس القات في الصالة الخاصة من المنزل يتوافد عليها القوم، فيجلسون صفين متقابلين ويتناولون القات مضغا، وهم يلوكونه ويعصرونه بأفواههم، حتى "يخزنوه" ملء أشداقهم.. فيسيل به لعابهم إلى أمعائهم، فينتشون ويطربون، وتهتاج خواطرهم وأفكارهم، وتزول همومهم، ويغمرهم السرور والحبور، ثم يتناولون حينا بعد حين أباريق الماء البارد، يرطبون به القات في أفواههم، فيزدادون سرورا على سرور، وحبورا على حبور..
... وإذا دخلت على هذا الجمع في مجلس القات، رأيتهم مضطجعين على الأرائك والوسائد، وأوداجهم منتفخة بالقات، يتسامرون ويتناومون، وهم في حالة من الوجد واجدون.. أو هكذا يقولون..
... وقد حاولت جهدي أن أناقشهم في مضار "القات" وإنه وإدمان الشراب سواء بسواء، في خطره على أبدانهم وعقولهم.. فكانوا يسخرون بقولي هذا، ويتفاخرون بأن أفاضل العلماء "يخزنون" ولا يجدون فيه ضررا وخطرا .. وسألت الإخوان اليمنيين، وماذا تفعلون عند السفر، فقالوا: ندس القات بين ملابسنا في حقائبنا، ولا ننقطع عن القات في السفر ولا في الحضر!!
... وأقام لنا الأمير محمد البدر ولي العهد وليمة في منزله. ورأيت الحرس على بابه وهم "مخزنون" القات في أفواههم، والسلاح على أكتافهم.. وسألت "البدر" في جلسة خاصة، بعد أن استوفينا حديثنا عن الاعتداءات البريطانية: وهل سموكم "تخزنون".
... قال: لا والحمد لله.. لقد تركته منذ ستة أشهر، وإنني أبذل جهدي مع الشباب لينصرفوا عنه.. بفتح النوادي الرياضية وبالنشاط الاجتماعي..(1/720)
... قلت: أن خير وسيلة للشباب لينصرفوا عنه.. ليس بالنهي والزجر، ولكن فسكت "سموه" ولم يعقب..
... وعادت بنا الطائرة في اليوم التالي إلى الحديدة وزرت الإمام أحمد في قصره.. وكان حرسه على الباب لا يجمعهم إلاّ شيء واحد: الأوداج المنتفخة بالتخزين.. وفيما عدا ذلك فهم مختلفون في كل شيء.. فيهم الطويل والقصير، فيهم الأسمر والأشقر، فيهم الحافي والمنتعل، فيهم الشاب والكهل، فيهم النحيل والبدين، فيهم المسلح والأعزل..
... وقلت للفريق إسماعيل صفوت: ان التخزين في أشداقهم يغني عن المخزن في بنادقهم .. ولا أظنهم "يخزنون" الرصاص في بنادقهم..
... فقال: أظُن أن فراستك في محلها.. ودخلنا على الإمام فصافحناه وجلسنا من حوله على مقاعد كجنوده، كل مقعد يمثل جيلا بذاته، ويرمز إلى "حضارة" بذاتها، وكأنّها جلبت بالأمس من متحف الآثار والعاديات..
... ومدَّ الإمام يده إلى "كوم" على الطاولة وقال: هذه العرائض التي جاءتنا من القبائل، وكلها تستنكر العدوان البريطاني وتطالب بالوحدة مع اليمن وتبايع الإمام فتناولت العرائض، فكانت كذلك كجنده ومقاعده، لا تتشابه اثنتان، ورقا وحبرا، ونصا ومعنى.. وطولا وعرضا!!
... وشكرت للإمام حسن ضيافته، وأثنيت على السلاطين والقبائل وما أبدوا من استعداد لمقاومة الاستعمار البريطاني، ورجوته أن يزودني بمطالبه لأضعها أمام مجلس الجامعة، فقال لي لقد رأيتم كل شيء، وسمعتم كل شيء، فانقلوا ذلك إلى مجلس الجامعة، وما يراه حسن فهو حسن..
... قلت: هل لدى جلالتكم اقتراحات محددة في كيفية معالجة الموضوع..(1/721)
... قال: نحن نترك الأمر للجامعة!! وما عندنا اقتراحات..
... ثم نهضنا وودعنا جلالته وغادرنا قصر الضيافة إلى المطار بعد أن قضينا في اليمن بضعة عشر يوما، كان الوطن والشعب خير ما فيها.. وقدمنا تقريرنا إلى مجلس الجامعة فلخصنا فيه ما رأينا وما سمعنا.. وأوصينا بمعونة مالية وعسكرية حتى يستطيع البلد الشقيق أن يصمد أمام الهجمات البريطانية، وشكر لنا مجلس الجامعة جهدنا، وطوى التقرير مع إخوانه ورفاقه من مئات التقارير، في التخزين مع المهملات، لا في تخزين القات..
... ولقيت السيد عبد اللطيف البغدادي، "نائب رئيس الجمهورية يومئذ" في إحدى الحفلات، وكان قد سبق له أن زار اليمن، بعد أن نشبت الثورة على الإمام يحيى حميد الدين فقال لي:
... -هل وجدت اليمن خيرا مما وجدته..
... قلت: وجدت في اليمن مصائب ثلاث: الإنجليز والقات ... .و
... قال: وما هي المصيبة الثالثة..
... قلت: المصيبة الثالثة هي الإمام، إنها الإمام..
... ولم تكن زيارتي هي نهاية المطاف، فقد زرت اليمن مرة أخرى وأنا أعمل في الأمم المتحدة رئيسا للوفد السعودي، فقد طلبني الإمام من الملك سعود "برقيا" ليستشيرني في النزاع البريطاني اليمني وفي ملاءمة عرضه على الأمم المتحدة.
... وقد استعجلني الملك سعود للسفر، وأمر بطائرة خاصة لتحملني إلى اليمن وهكذا كان..(1/722)
... ووصلنا مطار تعز.. فلم أجد في المطار أحدا.. وهبطت الطائرة في أرض المطار فلم نجد من يحمل إلينا سلما حتى ننزل إلى الارض.. وصحنا من باب الطائرة فلم يسعفنا أحد، وكان المطار مقفلا .. وكانت البرقية إلى تعز قد سبقتنا بيوم واحد..
... وأخذنا نصيح في المطار، و إذا بسيارة جيب تمر من حولنا، فسمعنا من فيها، فجاؤوا إلينا، وكانوا الطيارين السويديين الذين يستخدمهم الإمام في طائرته ... وسفراته..
... فشرحت لهم بالإنجليزية أنني وزير سعودي، وأنني في مهمة رسمية إلى جلالة الإمام.. وأنني جئت بصورة عاجلة ... فأنجدونا ونزلنا من الطائرة.. ثم كانوا كراما بررة، فقد حملونا بسيارة الجيب من المطار إلى تعز!!
... ووقفت سيارة الجيب بجانب قصر الضيافة، فصحت: يا أولاد، افتحوا للضيوف ودخلنا.. إلى الغرف التي وجدناها شاغرة، ووضعنا حقائبنا، وشكرنا الطيارين السويديين ...
... وقد عجب "الأولاد" أنهم لا يعلمون شيئا عن قدومي، وقد عرفوني وراحوا يعتذرون ويأسفون.. وكأنهم يعتذرون عن الإمام..
... وكان بيت القاضي العمري قريبا من دار الضيافة، فأرسلت في طلبه، فهرول إليّ بملابس المنزل ... وجرى الحديث بيننا فإذا بالوزير العمري، أقرب المقربين إلى الإمام، لا يدري، واتصل العمري بقصر الإمام فقيل له "أن مولانا مستريح"، ومولانا مستريح، معناها عندهم أن الإمام لا يقابله أحد،(1/723)
ولا يستطيع أحد أن يتصل به.. وكان قد مضى على ذلك الحال بضعة عشر يوما كما قال لي القاضي العمري..
... واتصلت بسمو ولي العهد الأمير البدر، فقال، إنه لا يدري من الأمر شيئا، ولا علم له لماذا طلب "الشقيري" على هذه الصورة العاجلة..
... وجاء وقت العشاء فالتقينا على المائدة.. بعض السفراء العرب والأجانب، وفيهم السفير المصري، وأخذنا نتسامر ونتحدث في الشئون العالمية، بعيدا عن أمور اليمن..
... وانتحى السفير المصري بي جانبا وسأل: خيرا ان شاء الله..؟
... قلت: ان شاء الله خير.. ولكني لا أعلم شيئا..
... قال: لعلك تكتم علي ... تجيء إلى اليمن ولا تعلم!!
... قلت: صدقني إنني لا أعلم .. كل الذي أعلمه أن الإمام أبرق الى الملك سعود في طلبي..
... وانصرفنا كل إلى غرفة نومه.. لا يدري من أمر صاحبه شيئا..
... وقضيت يومين وأنا لا أستطيع الاتصال بالإمام، و إذا كنت قد جئت على عجل، فإنه ينبغي أن أعود على عجل، فإن الأمم المتحدة توشك أن تنعقد، ولا بد لي من أن أسافر إلى نيويورك وأصل في الوقت المعين..
... وخرجت ليلة لأََُرَوح عن نفسي من هذا الأسر الذي وقعت فيه.. وبلغت كوخا صغيرا على حافة الطريق، مبنيا من ألواح الخشب والتنك، وفيه قنديل صغير، مرصوص بين أكداس صغيرة من الحلوى التي تباع للأولاد.. وكان هذا كله هو الدكان..(1/724)
... وكان صاحب الدكان رجلا عجوزا، لا يكاد يبصر فدخلت عليه وقلت:
... - الله بالخير يا عم..
... قال: أهلا وسهلا "تفظل"..
... قلت: ما هذا الراديو الذي أسمعه عندك؟
... قال: أتسلى فيه، وأسمع الأخبار..
... قلت: وماذا تسمع يا عم..؟؟
... قال: أسمع أحمد سعيد، أسمع صوت العرب..
... قلت: ومتى اشتريت هذا الراديو؟
... قال:اشتريته منذ شهر.. والثمن مقسط اثنا عشر شهرا..
قلت: ألا تسمع محطات أخرى..؟
قال: لا أعرف محطات أخرى..؟
قلت: وكيف عرفت محطة صوت العرب..؟
قال: "راعي" الراديو هو الذي ركز "الإبرة" -( راعي الراديو هو الذي يبيع الراديو).
قلت: وكيف كان ذلك.
قال: قلت لراعي الراديو "حط الراديو على أحمد سعيد"، وفعل ما طلبت، وفي كل ليلة أفتح الراديو وأسمع صوت العرب..
وكان صوت العرب في ذلك الوقت في ذروته، وكان صوت أحمد سعيد يجلجل من المحيط إلى الخليج..(1/725)
وعجبت لسحر الكلمة ماذا يفعل في الشعوب.. وعجبت لأصالة هذه الأمة كيف تسحرها آمالها، وعدت إلى قصر الضيافة، وقد امتلأت نفسي عزاء من الإمام ورجاء في الشعب..
... وجاء اليوم التالي فلم أسمع من الإمام ِحسَّا ولا ركزا، واتصلت "بسمو" ولي العهد لأقول له: ان طائرتي تنتظرني في المطار، وسأسافر غدا على أي حال، فأرجو أن تجدوا طريقة لإبلاغ "جلالته" بما عزمت عليه..
... وقضيت يومي أنتظر الموعد، فأفلح الإنذار.. وجاءني ولي العهد ليقول لي: ان جلالته سيستقبلكم غدا، وسمع السفير المصري بذلك فاقترب من أذني وقال: هامسا:
... - أرجو أن تذكر لجلالته أن السفير المصري موجود في تعز ينتظر منذ أسابيع.
... - قلت سأفعل، ان شاء الله- ولكني لم أفعل...
... وخرجت عصر ذلك اليوم في نزهة، وليتني ما خرجت.. فقد فجعت وما تزال ذكريات الفجيعة تملأ قلبي..
... مشيت في المسارب، بين الأشجار، وحول تعز رواب جميلة.. ورأيت قلعة على رأس الجبل، فأغراني ولوعي بالرياضة أن أمشي ..حتى بلغت القلعة على قمة الجبل، وهي مشرفة على مدينة تعز فكان منظرا بهيجا.. لولا أن أفجعني ما رأيت..
... لقيت ستة أولاد بين الثامنة والثانية عشرة، يلعبون بالحجارة والتراب. فلم أكترث بهم، ودخلت القلعة لم أجد فيها شيئاً، وعدت إلى الأولاد يلعبون ويركضون. فوقفت معهم وسألت:-(1/726)
... -ماذا تفعلون هنا..؟
... قالوا: نلعب.. بأي شيء..؟
... قلت: أوشك المساء، والبلدة بعيدة.. ألا تذهبون..؟
... قالوا: نحن لا نذهب إلى البلد..نحن ننام هنا!!
... قلت: وكيف تنامون هنا وحدكم..؟
... قالوا: لا ننام وحدنا- سوف يأتي "عمنا" بعد قليل..
... قلت: وهل أنتم إخوة.. ومن هو عمكم؟؟
... قالوا: لسنا إخوة، وعمنا- وأخذوا يتمتمون..
... قلت: وماذا تفعلون هنا..؟
... قالوا: نحن رهينة..
... قلت صائحاً: رهينة ايه؟؟
... وسردوا لي بعبارات الطفولة أنهم أبناء المشايخ من قبائل اليمن، وكل ما يعرفون من أمرهم أنهم في هذه القلعة "رهينة" وأنّ "عمهم" هو الجندي الذي يأتيهم ليلا ليبيت معهم..
... وإذا كان هؤلاء الأطفال لا يعرفون ما "الرهينة" فقد قرأت عن "الرهائن" في المراجع العلمية التي تصفحتها عن اليمن، وحسبت أن الأمر قد انتهى إلى غير رجعة في سالف العصر والأوان، فإذا به لا يزال قائما حتى العشية المظلمة، من ذلك اليوم المظلم..
... وعدت إلى قصر الضيافة، وبودي لو أستقل طائرتي وأخرج من اليمن فلا أرى الإمام ولا ضحايا الإمام.. وذكرت أولادي الستة ورفعت يدي(1/727)
إلى السماء وأنا أقول: أحمدك اللهم على الأمن والعافية ... أحمدك اللهم أن أولادي أحرار سالمون اللهم اجعل أولاد العرب جميعا أحرارا سالمين..
... وذهبت في اليوم التالي في موعدي لمقابلة الإمام، فدخلت عليه فلم يطق الوقوف وكان يتعسر في كلماته، ويتعثر في حركاته!!
... واستطعت أن أفهم من حديثه أنه يريد أن يقدم شكوى إلى مجلس الأمن بشأن الإعتداءات البريطانية على جنوب اليمن، فقلت له ان الأمر يسير، وكل ما أريده أن يرسل إليّ ملفا بالوقائع والأحداث والتواريخ ... وأنا أتكفل بالباقي..
... وكان ولي العهد يدخل علينا من حين إلى حين.. والإمام ينصرف إلى حديث آخر، وكان ولدان صغيران يحومان حولنا بملابسهم الزاهية، وهما الولدان اللذان يسألهما الإمام في كل أموره: أفعل أو لا أفعل؟
... وانتهى الأمام من حديثه ليقول لي: لا حاجة لأن تخبر "البدر" بما جرى بيننا من الكلام، قلت له: سمعا وطاعة..
... وخرجت من حضرة الإمام إلى دار الضيافة، إلى المطار، إلى جدة، فرويت للملك سعود، ما جرى لي مع الإمام من الألف إلى الياء، فقال الملك سعود:
... - يظهر أن الإمام مريض شفاه الله.. ولقد سمعنا عنه روايات كثيرة..
... وسافرت إلى نيويورك، وعرضت في خطابي أمام الجمعية العامة لجميع القضايا العربية ومنها قضية اليمن ... ولكني لم أعرض الشكوى أمام مجلس الأمن.. ذلك لأن الإمام لم يرسل إليّ الملف الذي طلبته..(1/728)
... ولعله سأل الولدين: أفعل أو لا أفعل..
... ولعلهما قالا له: لا تفعل- فلم يفعل..
... ورأيت وأنا أكتب هذه المذكرات أنني على خطأ في الحساب: ان مصائب اليمن أربعة لا ثلاثة: الإنجليز والقات والرهائن والإمام..(1/729)
معركة مع الثلاثة الكبار ... .
والملك سعود يرفض استقالتي..
... كانت الدورة الثانية عشرة للأمم المتحدة في خريف 1957 دورة القومية العربية، ولم تكن مدرجة كبند على جدول أعمال هذه المنظمة العالمية، ولكنها كانت ميدانا للحرب الباردة على منبر الأمم المتحدة، تجاوزت في حدتها موضوع نزع السلاح مشكلة المشاكل منذ عهد عصبة الأمم إلى يومنا هذا..
... وكانت القومية العربية في تلك الفترة عالية الصيحة داوية الشعارات، وتعالت معها مبادئ الحياد الايجابي السلمي، ومقاومة الاحلاف العسكرية.. فكان طبيعيا أن تتبوأ القومية العربية مكان الصدارة على منبر الجمعية العامة، وان تتركز حولها خطب الوزراء الأربعة.. وكان الأربعة الكبار يمثلهم: دالاس وزير خارجية الولايات المتحدة، وسلوين لويد وزير خارجية بريطانيا، وبينو وزير خارجية فرنسا، وجروميكو وزير خارجية الإتحاد السوفيتي..
... وقد تهجم الوزراء الثلاثة، الأمريكي والبريطاني والافرنسي على القومية العربية، ونسبوا إليها القلق الذي يعانيه الشرق الأوسط و..و، وقد أخذت على عاتقي أن أرد عليهم وأن أتحمل العبء كله، كما لو كنت أمثل(1/730)
الأمة العربية كلها.. من غير اعتبار أن في الأمم المتحدة دولا عربية أخرى ووفودا عربية أخرى..
... وكنت صادقا في هذا الشعور أمام نفسي.، وهذا يكفي ... فقد فقدت وطني الصغير، وتعاظم تعلقي بالوطن الكبير، وقد تضعضعت "قوميتي" الصغيرة، فتصاعد إيماني بالقومية الكبيرة..ومن هنا أصبحت أحسّ أن القومية العربية قضيتي، وأنّ الدفاع عنها مسئوليتي، ورحت أردّ للوزير الأمريكي الكيل كيلين، وللوزير البريطاني الصاع صاعين، وللوزير الإفرنسي الحجر حجرين..
... وقد أنساني هذا الشعور إنني لم أعد أمثل الجمهورية السورية، فقد" استعارتني" المملكة العربية السعودية التي لا تسمح ظروفها وعلاقاتها بأن تتصدى على منبر الأمم المتحدة لمعاداة الغرب، وموالاة الشرق، وعلى مرأى ومسمع من الرأي العام الدولي..
... وجلست في مقاعد الوفد السعودي في الجمعية العامة، واستمعت إلى الوزراء الثلاثة وهم يصبون جام غضبهم على القومية العربية.. فعزمت أن أتصدى لهم واحدا واحدا، ووضعت" استقالتي" في جيبي، وليكن بعد ذلك ما يكون..
... وكان "دالاس" أول المتحدثين فيما سماه الأزمة في الشرق الأوسط، وأعرب عن مخاوفه على شعوبها، وقلقه على أمنها ورخائها، واسترسل في الحديث عن تسرب الاتجاهات الخطرة، وتغلغل العقائد الهدامة، في تلك المنطقة التي اعطت العالم الرسالات السماوية، حتى لقد بدا دالاس أنه أصبح قديسا لا ينقصه إلاّ أن يلبس الكهنوت، ومسوح الرهبان!!(1/731)
... وجاء بعده سلوين لويد فأشار إلى الأسلحة الروسية التي" تزودت بها بعض البلاد العربية.. لتصبح قواعد أمامية للاتحاد السوفيتي، وخص سوريا بالذات بحملة مركزة كأنه يهيء لحملة تأديبية على هذا القطر الشقيق موجها إليها اتهامات واتهامات..
... وكانت تركيا قد حشدت قواتها على سوريا، وحشد الإتحاد السوفيتي بدوره قواته على حدود تركيا، ووجد سلوين لويد مادة دسمة في هذه الاحداث، لينادي بالويل والثبور وعظائم الأمور..
... وكان الوزير الافرنسي، بينو ينتظر دوره بفارغ الصبر، فقد كانت الثورة الجزائرية على أشدها، ووجدها فرصته الذهبية للطعن بالقومية العربية والشيوعية، متهما إياهما بمدّ الجزائر بالمال والسلاح..
... وهكذا أصبحت القومية العربية هي "بعبع" الدول الغربية في عام 1957.. وهكذا جاؤوا بهذه القضية على منبر الأمم المتحدة..
... ولقد أفادوا القومية العربية من حيث لا يريدون، فقد كانت أجهزة الإعلام الغربية مشغولة في ذلك العام في إلقاء التهم جزافا على الأمة العربية، وكانت الحركة الصهيونية تنفخ النار وتزيدها حطبا وضراما..
... وكانت المناقشة تدور في الجمعية العامة، حيث تتكامل الوفود، وتتزاحم جماهير الزائرين وتتضاعف وسائل الإعلام.. والإعلام العربي.. النحيل الهزيل، في حاجة إلى مثل هذه المناسبة، ليقول عربي كلمة العرب في هذا الموضوع الخطير..(1/732)
... وقد فشا الوهم في أذهان الكثيرين أن القومية العربية حركة عنصرية، لا تبعد كثيرا عن النارية، وأنّ الوطن العربي يوشك أن يصبح منطقة نفوذ الإتحاد السوفيتي..
... وجاء دوري في المناقشة العامة، وتطلّعت إليّ الوفود وأنا أغادر مقعدي في الوفد السعودي وكأنهم يتساءلون، ماذا عسى أن يقول "الوزير السعودي" الذي كان بالأمس القريب رئيسا للوفد السوري يتهجم على الغرب بمناسبة وبغير مناسبة..
... وبعد مقدمة وجيزة بادرت إلى الحديث عن القومية العربية وعناصرها ومقوماتها وأهدافها، وشرحت أنها "حركة بناءة خلاقة، ليست عدوانية ولا توسعية، تسعى إلى التعاون الدولي على أساس الإحترام المتبادل وتعمل للسلام على أساس الحق والعدل" ... وأسهبت في شرح هذه الجوانب الإيجابية، ونفيت أن تكون القومية العربية حركة خطرة، وأنّ الخطر كل الخطر هو في عدم فهمها أو في تشويه حقيقتها..
... ثم بدأت بدالاس، ففندت مزاعمه، ودعوته إلى احترام ميثاق الأمم المتحدة الذي يمنع التدخل في شئون الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، مؤكدا أنّ" أمريكا ليست وصية على الأمة العربية، وأنّ سوريا ليست صبيا يتيما مشردا يحتاج إلى كفالة الولايات المتحدة، وأنّ من حقنا أن نتزود بالسلاح من أي مصدر كان دون أن يكون لأمريكا كلام في هذا الموضوع.." وانتقلت بعد ذلك إلى موقف القومية العربية من الحرب الباردة بين الكتلتين المتصارعتين، الشرقية والغربية، فأعلنت أن موقفنا هو الحياد الإيجابي بين الفريقين من غير أن نكون كتلة ثالثة، وأنّ على المستر دالاس "أن يتذكر أن القومية العربية(1/733)
قديمة قدم الأمة العربية، وأنها سبقت العقائديات الغربية والشرقية بأجيال وأجيال..
... وفي سخرية لاذعة دعوت المستر دالاس أن يعود إلى محاضر الأمم المتحدة، 1947، حين أعلن الوفد الأمريكي، وهو يدافع عن التقسيم، أن الحدود بين إسرائيل والدول العربية، ستكون حدود صداقة وسلام، تماما كالحدود التي تمتد ثلاثة آلاف كيلومتر بين كندا وأمريكا..
وفي سخرية أشدّ مرارة وضراوة توجهت إلى المستر دالاس أسأله "أين هي الحدود الآمنة بين إسرائيل والدول العربية، وها قد مضى عشر سنوات على قضية إسرائيل، والصحافة الأمريكية تسمي خط الهدنة بأنه "خط الرعب والنار"، حسب التقتيل والدمار..
... ولقد كنت أنهال على المستر دالاس بهذه الحجج ووفود الدول الأعضاء يعجبون لهذا الفلسطيني السوري السعودي كيف يضع المستر دالاس في القفص، ويضع معه الولايات المتحدة بكرامتها وسمعتها.. وما هو أعظم.. بجبروتها وسطوتها..
... وازداد ذهول وفود الأمم المتحدة حين استعرضت تاريخ العلاقات الأمريكية العربية، وكيف كانت مشرقة زاهية بعد الحرب العالمية الأولى، وخاصة بعد أن أعلن الرئيس ويلسون مبادئه المعروفة، وتوكيده لحق الشعوب في تقرير مصيرها، و أخذت أسرد حدثا لم يكونوا ليعرفوه، فكان مصدر استغرابهم واستهجانهم..
... وكان طبيعيا في عام 1957 أن تستغرب وفود الأمم المتحدة، وخاصة الوفود الأفرو آسيوية التي استقلت حديثا، أن العرب قد طالبوا في(1/734)
عام 1919 بانتداب أمريكا إذا لم يكن الاستقلال ميسورا، ورويت لهم كيف أن الاستفتاء الذي قامت به لجنة كينج كرين في ذلك الوقت، قد أظهر أن الأكثرية الساحقة في البلاد "الشامية" اختارت الانتداب الامريكي، كمطلب ثان بعد الاستقلال، وهكذا كانت السمعة الأمريكية قد بهرت وسحرت..
... وانتقلت بعد ذلك إلى الوزير البريطاني سلوين لويد، فشرحت محالفة الشريف حسين لبريطانيا، وخروجه على دولة الخلافة الإسلامية- تركيا – سعيا وراء تأييد الحلفاء لحركة القومية العربية، وهي تناضل من أجل الحرية والاستقلال.. وما انتهى إليه الأمر من خيانة الإنجليز للشريف حسين وإبعاده إلى قبرص، والتنكر للعهود التي قطعها الحلفاء بالاعتراف بحق العرب في الحرية والسيادة والاستقلال..
... ثم استعرضت تاريخ الثلاثين عاما للسياسة البريطانية في فلسطين/ ابتداء من وعد بلفور عام 1917 حتى نهاية الانتداب البريطاني في عام 1948، وكيف مهدت بريطانيا لقيام الوطن القومي اليهودي ونشوء الدولة اليهودية، وما عقب ذلك ما تشريد الشعب الفلسطيني عن أرض آبائه وأجداده ...
... ووجهت حديثي بعد ذلك إلى المستر سلوين لويد وقلت "لقد أشرت في خطابي إلى أن الإتحاد السوفيتي يحرض الدول العربية على قطع صلاتها بالمعسكر الغربي، وما لا شك فيه أن الصلات بين الدول العربية والمعسكر الغربي آخذة بالانقطاع، هذه حقيقة واقعة.. ولكن المعسكر الغربي هو المسئول عن القطيعة.. أن الإتحاد السوفيتي لا يد له في ذلك.. ان الدول الغربية نفسها هي التي توقع الضرر بالدول الغربية..أمّا موضوع السلاح(1/735)
الذي يقدمه الإتحاد السوفيتي إلى بعض الدول العربية فهذا ليس من شأن بريطانيا أو أمريكا.. بل إنه ليس من شأن الأمم المتحدة.. ان السلاح مسألة داخلية تقع في صميم السيادة الوطنية لكل عضو من أعضاء الأمم المتحدة، والميثاق يحرم التدخل في شئون السيادة للدول الأعضاء.."
... انتقلت بعد ذلك إلى سرد الأسباب الحقيقية لأزمة الشرق الأوسط، وأعلنت للجمعية العامة أن التوتر في الشرق الأوسط حقيقة قائمة لا سبيل لإنكارها، وأن السياسة الغربية هي المسؤولة عن كل ما يعانيه الشرق الأوسط من متاعب وقلق.. وذكرت بالتخصيص أن سياسة أمريكا بالنسبة لفلسطين هي التي كانت السبب المباشر في نقل الحرب الباردة إلى ميدان الشرق الأوسط، وقلت: أن المستر سلوين لويد يعلم جيدا أن بريطانيا هي التي خلقت ما يسمى بأزمة الشرق الأوسط، تلك الأزمة التي بدأت في فلسطين بنزاع محلي بين الأقلية اليهودية والأكثرية العربية، ثم صعدته فأصبح نزاعا إقليميا بين إسرائيل والدول العربية، وهو الآن يبلغ ذروته فيغدو مشكلة عالمية.. وتأتي بريطانيا إلى الأمم المتحدة لتخلع المسؤولية عن أكتافها وتلقيها على القومية العربية..
... ولكن الصفعة الكبرى على وجه المستر لويد كانت من صميم منطقه، فقد تناول في خطابه موقف الإتحاد السوفيتي عام 1947 بالنسبة لقضية فلسطين في أنه وافق على التقسيم ثم راح بعد ذلك في سياسة انتهازية يستغل المشكلة لإفشاء القلق في الشرق الأوسط.."فكانت فرحتي الكبرى لأغرز أنيابي ومخالبي وأظافري في الوزير البريطاني وفي السياسة البريطانية، وقلت موجها خطابي إلى المستر لويد:(1/736)
... "أنت تقول يا سعادة الوزير أن روسيا قد حققت انتصارات في تغلغلها في الشرق الأوسط.. والواقع أن هذا الكلام يذكرنا بما قاله أحد الرومان حين انتصر على خصمه: ان انتصاراتي لم تكن بسبب عبقريتي ولكنها كانت بسبب غبائك وجهلك.." وان المستر لويد يعرف من هم الأغبياء الجهلاء..
... واستأنفت حديثي بعد ذلك مشيرا إلى أن السنين العشر الماضية "قد أثبتت أن توافق روسيا من جانب وأمريكا من جانب آخر على تصويت واحد بتأييد التقسيم، قد أظهر ذكاء الروس.. وغباء الأمريكان وحلفاء الأمريكان..".
... وتوجهت الأبصار إلى سلوين لويد تتفرس في وجهه، وقد وقع في حبائل منطقه ونحن نعجب أين ذهب الدهاء البريطاني، وكيف خانه التوفيق، فراح ينبش الماضي الأسود الذي اقترفته بريطانيا على القومية العربية !!
... وواصلت حديثي إلى المستر سلوين لويد، وأنا أجهز عليه بأسلحته التي سددها إلى الأمة العربية، ودعوت الوزير البريطاني أن يقبل نصيحتي فلا يتحدث بعد اليوم عن" الانتهازية الروسية "فإن" الانتهازية" كانت ولا تزال أبجدية السياسة البريطانية، \ وأنّ الذي فتح الباب واسعا لما يسمى "بالانتهازية الروسية" هما أمريكا وبريطانيا مجتمعتين، وعليهما تقع التبعة معا.. وعليهما معا أن يتحملا بلاء جهلهما، ونتائج حماقتهما، ... والقومية العربية براء ... ، ولم أكد أفرغ من "مداعبة" الوزيرين الخطيرين الأمريكي والبريطاني، حتى اشرأبت الأعناق إلى الوزير الثالث، السياسي الإفرنسي المسيو بينو، وكأنما الوفود تتساءل ماذا عسى أن يكون مصير الوزير الافرنسي، وحكومته غارقة في الحرب "القذرة" على أرض الجزائر الطهور،(1/737)
وكان كلام "بينو" يدور حول "شيوعية" الثورة الجزائرية، ومساعدة الجامعة العربية للثورة الجزائرية..
... وتهمة الشيوعية كانت تهمة شائعة، توجه إلى كل حرب تحريرية في آسيا وإفريقيا،وكانت الدول الاستعمارية- بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وغيرها- تلجأ إلى إشاعة هذه التهمة وإسنادها إلى الشعوب المناضلة في سبيل حريتها واستقلالها، لكسب دول المعسكر الغربي عسكريا وماديا، وخاصة الولايات المتحدة التي تندفع في أسرع من الصوت إلى تقديم العون المالي والعسكري لأية دولة غربية تكتشف خلية شيوعية ... ، حتى أن النكتة" الدولية "قد شاعت في أروقة الأمم المتحدة، أن اية دولة غربية تطمع في معاونة أمريكية ليس لها إلاّ سبيل واحد: أن تقول ولو كذبا أنها تواجه تسللاً شيوعيا!!
... ومن هذا المنطلق جاء الوزير الافرنسي "بينو" إلى الأمم المتحدة يستثير "ديمقراطية" الدول الغربية "ونصرانية" أمريكا اللاتينية، ليدعي على الثورة الجزائرية أنها ثورة شيوعية، وأنه إذا انسحبت فرنسا من الجزائر، فياللويل والثبور وعظائم الأمور، فستقع الجزائر والشمال الافريقي وافريقيا كلها فريسة الشيوعية العالمية، ويخسر المعسكر الغربي إحدى قارات العالم الاستراتيجية ... وفي ثنايا تهمة الشيوعية كانت التصريحات الإفرنسية الرسمية ومعها الصحافة الاستعمارية تتحدث عن "الجزائريين المسلمين" و "الثوار المسلمين" و"المتمردين المسلمين" لتثير الحماسة الدينية في نفوس المتزمتين المتعصبين.. الحاقدين على الإسلام، أينما وجدوا..
... ولم أجادل الوزير الإفرنسي طويلا في هذه "التهمة" الشيوعية والإسلامية، فلقد كانت سخيفة وتافهة، واكتفيت بالقول "أن المسيو بينو يقوم(1/738)
بدعاية للشيوعية من حيث لا يدري، ومن حيث لا يريد، إنه ينسب للشيوعية شرفا هي لا تدعيه، إنه يتهم الشيوعية بأنها تحرض الثورة الجزائرية.. ومعنى هذا أن الشيوعية شيء عظيم يجب أن تعتنقها جميع الشعوب المتطلعة إلى التحرير ... ، وأنّ من حق الشيوعية أن تعتبر نفسها رائدة الحرية تحت الشمس، ومن واجب الشعوب المستضعفة أن ترفع القبعات تحية للشيوعية و ... و
... واسترسلت على هذا النحو الساخر، أمجد بالشيوعية وأندد بالاستعمار إلى أن انتقلت إلى التهمة الثانية بشأن الجامعة العربية ومعاونتها للثورة الجزائرية..
... وفي أسلوب جاد غضوب خليق بثورة الجزائر، لا بالجامعة العربية، صارحت الجمعية العامة أن الثورة، ثورة أي شعب على أي مستعمر، هي حق أساسي من حقوق الانسان، مارسها منذ أن كان فريسة الاضطهاد وضحية الاستعباد، وأن معاونة الثورة والثوار هو عمل مشروع وواجب حضاري مقدس، وأن "الثورة" هي التي جاءت بهذا العدد الكبير من أعضاء الأمم المتحدة.. دخلوا المنظمة العالمية وجباههم معفرة بغبار معارك التحرير.. وأنه لولا "الثورة" لكانت الأمم المتحدة منظمة "الامبراطوريات العظمى.. "
... ومضيت أستعرض تاريخ الحركات التحريرية في الأمريكيتيين وآسيا أفريقيا، ووقفت عند حرب التحرير الأمريكية، وأنا أسدد الى وزير الخارجية الفرنسية آخر سهم في جعبتي، وقلت له أن وزير الخارجية يعرف بلاشك كيف هبت رياح النجدة الإفرنسية على شواطيء أمريكا الشمالية في القرن(1/739)
الثامن عشر أثناء حرب التحرير، وجعلت من أولئك "العصاة الثوار" جمهورية الولايات المتحدة، ستكون من أكبر مؤسسي الأمم المتحدة.. وأن وزير الخارجية الإفرنسية يعرف تاريخ بلاده من غير شك، ويعرف دور البطل الافرنسي "لافييت" الذي انضم إلى الثوار الأمريكيين، وراحت مذكراته تقول للعالم "حينما وصلتني الأخبار الأولى عن الثورة الأمريكية فقد التحم فؤادي بها وانضممت إليها.."
... واستأنفت حديثي إلى بينو أذكره بتاريخ لافييت وهو من أعظم أبطال فرنسا، كيف أن مجلس الأمة الأمريكي أصدر قرارا في 31 تموز سنة 1777 يعلن فيه "قبول خدمات لافييت، واعتباره قائدا في الجيش الأمريكي نظرا لشجاعته.."
... ودهش أعضاء الوفود في الأمم المتحدة، وأنا أسير معهم في موكب التاريخ، في أروع صفحاته، وغدت الجمعية العامة كأنها قاعة من قاعات الشعب في آسيا وافريقيا تهتف للحرية والإستقلال..
... ولكن مشاعر الوفود قد تعلقت بحدث أعظم، فقد قفزت إلى تاريخ الحرب العالمية الأولى، يوم بادرت أمريكا إلى رد الجميل القديم فارسلت الجيش الأمريكي إلى فرنسا بقيادة الجنرال برشنج ليعمل على تحرير فرنسا، فلم يكد يضع قدمه على الشواطئ الإفرنسية حتى ارسل صيحته العسكرية، بالنخوة والأريحية، وهو يردد بأعلى صوته" لافايت.. نحن هنا ... "
... وتحدثت عن العلاقات العربية الاوروبية منذ عهد شارلمان وهارون الرشيد، حين كانت في ازهى ايامها، وما انتابها من صداقات وعداوات عبر السنين، وأعلنت أن الأمة العربية هي صاحبة التقاليد السمحة، وربما كان ذلك(1/740)
نقطة ضعف في العلاقات الدولية، وأنّ الكراهية ليست من طبائعها، وأنّ العداء عندنا هو رد فعل، لا فعلا أصيلا بذاته ... وأنّ الأمة العربية راغبة في أن تقوم بينها وبين الدول الغربية علاقات الود والصداقة، ولكن.. ولكن على أساس الاحترام المتبادل والمصالح المتقابلة.. وان نقطة البداية في هذا العهد الجديد هي القضية الفلسطينية، وعلى أساس الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في وطنه وفي تقرير مصيره..
... وأوضحت بعد ذلك أن قضية فلسطين هي المحور الدائم للعلاقات العربية الدولية، وأن عدونا هو من يعاديها وأن صديقنا من يصادقها" وأشرت في هذا المقام إلى ما تكنة الأمة العربية من التقرير للاتحاد السوفيتي لأنه لا يسمح بالهجرة إلى فلسطين، ويحرم الصهيونية، ويعتبرها حركة غير مشروعة، ويحظر نشاطها وجمع الأموال لها..
... ولقد كنت أمتدح الإتحاد السوفيتي، وعيون الوفود جاحظة في هذا "السعودي" يكيل الثناء بلا حساب للروس "الملحدين" دون أن يخشى الحساب.
... وكان لا بد من اتخاذ هذا الموقف، فقد كانت وفود الدول الغربية تركز حملتها على الإتحاد السوفيتي "لأنه جعل من الشرق الأوسط قاعدة عسكرية" على حد تعبير بعضهم، و"لأنه زود مصر وسوريا بالسلاح" على حد تعبير البعض الآخر..
... وقد دافعت عن سوريا بوجه خاص، لأن التوتر كان يسود حدودها مع تركيا في ذلك الوقت كجزء من الحرب الباردة، وأعلنت أن أي عدوان على سوريا أو تدخل في شئونها الداخلية يعتبر عدوانا على الأمة العربية بأسرها.. حتى أن الصحف الأمريكية علقت في اليوم التالي على هذا الجزء(1/741)
من الخطاب بقولها ان "الشقيري قد نسي انه رئيس الوفد السعودي وتولى الدفاع عن سوريا، كما لو كان لا يزال رئيسا للوفد السوري..
... وجاءني السيد صلاح الدين البيطار وزير الخارجية السورية يشكرني وهو يقول: "لم يعد لي كلام بعد هذا الذي قلته عن سوريا.." وفيما أنا ارد له تحيته وشكره، و إذا برئيس وفد بيرو السيد بلوندي يمطرني بالأسئلة: قل لي كيف كنت سوريا وأصبحت سعوديا ... ؟ كيف كنت تمثل سوريا في الدورة الماضية وتمثل السعودية في الدورة الحاضرة؟ كيف تدافع عن سوريا، وهي التي رفضت وساطة الملك سعود لتخفيف حدة التوتر بين سوريا وتركيا؟؟
... واجهت رئيس وفد بيرو قائلاً: القومية العربية هي التي جعلتني رئيسا للوفد السعودي بعدان كنت رئيسا للوفد السوري.. صحيح أن هنالك عدة دول عربية، ولكننا امة واحدة، وما اسماء الحكومات العربية إلاّ اسماء اقطار، معظمها له معان في القواميس العربية، وليست اسماء شعوب..وان سرعة انتقالي من الجنسية السورية إلى الجنسية السعودية، وبهذه السهولة، هو دليل صغير على المعنى الكبير: القومية العربية.
... وقلت للسيد البيطار وهو من قادة حزب البعث: أظن أنني شرحت شعاركم.
... فقال السيد البيطار: هذا الشرح خير من الاصل..
... وكان على كتف "القومية العربية" التي جرها "الفرسان الثلاثة" أمريكا وبريطانيا وفرنسا، إلى منبر الأمم المتحدة، قضية اخرى، كانت جمرة ملتهبة، من بقايا العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956، اعني بها قضية خليح العقبة..(1/742)
... وقضية العقبة هذه، هي التي جاءت بي وزيرا سعوديا للأمم المتحدة، وللمملكة العربية السعودية مشاعر ومصالح في خليج العقبة والبحر الاحمر.. وقد استطاعت إسرائيل بعد العدوان الثلاثي أن تصبح دولة بحرية في خليج العقبة والبحر الاحمر، وان كانت قناة السويس بقيت مقفلة في وجهها.. ونرجو أن تبقى ما بقيت قضية فلسطين وما بقيت إسرائيل ...
... ولقد أحست العربية السعودية، ملكا وحكومة وشعبا، بالمهانة والذل ان "فتحت" إسرائيل خليج العقبة وأصبحت قاب قوسين وادنى من مكة والمدينة، حيث أحلام اليهود القديمة واطماهم الجديدة..
... وكنت قد لقيت الملك سعود غير مرة حين كنت سفيرا سوريا المتجول، فخطر له أن يستعين بي ولو لفترة قصيرة لمعالجة قضية العقبة، فطلب إلى الرئيس القوتلي "اعارتي"، ووافقت الحكومة السورية بعد جلسة طويلة، ووافقت بعد تأمل طويل.. وامتدت تلك الفترة القصيرة إلى سبع سنوات كنت فيها، بفخر ولا فخر، شوكة في حلق الاستعمار..
... وبصدد خليج العقبة كان المستر همرشلد في تلك الدورة قد أقترح في تقريره العام أن تطلب الجمعية العامة من محكمة العدل الدولية أن تدرس قضية خليج العقبة وتصدر "الفتوى" فيما إذا كان لإسرائيل حق "المرور البريء" في مياهه.
... وعلى أساس اقتراح المستر همرشلد مضيت افند اقتراح المستر همرشلد.. فشرحت الوضع القانوني لخليج العقبة، وانه خليج عربي مقفل ليس لإسرائيل فيه حق الملاحة ولا حق المرور البريء.. واستشهدت بالشواهد القانونية للخلجان الاقليمية في دول متعددة، وفصلت الرأي الذي ناديت به(1/743)
دائما وجعلت له دراسة قانونية شاملة مفصلة في أن خليج العقبة هو خليج تاريخي باعتباره طريقا للحج الإسلامي منذ القدم وقارنته، بامثاله من الخلجان التاريخية وخاصة في دول أمريكا اللاتينية.
... أمّا بشأن طلب الفتوى القانونية فقد نبهت الأمم المتحدة إلى أن الوفود العربية كانت قد اقترحت استفتاء محكمة العدل الدولية في عام 1947 لإعطاء رأيها فيما إذا كانت الأمم المتحدة تملك تقسيم الوطن، وعلى غير ارادة اصحابه الشرعيين، فرفض الاقتراح، واضفت إلى ذلك أن الوفود العربية كانت قد اقترحت في عام 1952، استيفاء محكمة العدل الدولية بشأن املاك العرب في إسرائيل، فلم يجد هذا الاقتراح أذنا صاغية..
... وقلت للجمعية العامة "انه عجيب أن تسد أبواب العدل حين تكون الفتوى مطلوبة للعرب، وان يفتح الباب حين تكون الفتوى مطلوبة لإسرائيل..أمّا بشأن المرور البريء لإسرائيل، فإنه كذلك عجيب عجيب أن تشغل الأمم المتحدة نفسها بمرور البضائع الإسرائيلية على حين يمنع اللاجئين من المرور والعبور إلى اراضيهم ومنازلهم ومزارعهم.. كانما أصبحت الأمم المتحدة "وكالة شحن" لنقل البضائع الإسرائيلية..
... ورأيت المستر همرشلد قد احمر وجهه وهو على منصة الرئاسة، وأنا التفت إلى الوراء من المنبر لأوجه إليه كلامي ... وسكت المستر همرشلد، ولم يعقب.. وسكت عن الاقتراح، وبقي خليج العقبة في مكانه ليقرر مصيره في الميدان..(1/744)
... وانتهت الدورة في ذلك العام – 1957- وكانت أول دورة حضرتها كرئيس للوفد السعودي، ولم يمض على تعييني لهذا المنصب إلاّ بضعة اسابيع، وتذكرت المثل العامي الشائع "من أول غزواته كسر عصاته".
... حقا لقد كانت الدورة مجموعة من الغزوات كأنني معها على ميعاد، وكادت "عصاتي" أن تنكسر.. فقد هاجمت الوزراء الثلاثة الكبار بشدة، وهاجمت زملاءهم الصغار برفق.. وهاجمت وزير خارجية هولندا في قضية ايريان الغربية تأييدا لاندونيسيا..وهاجمت فرنسا هجوما مريرا في قضية الجزائر.. وهاجمت المعسكر الغربي "بالجملة" في موضوع التعايش السلمي.. واضفت إلى هذا كله أنني ألقيت بصوت المملكة العربية السعودية إلى جانب الإتحاد السوفيتي في عدد من القضايا الدولية..
... وهاج المعسكر الغربي وماج.. وتقاطر سفراء الدول الغربية إلى قصر الملك سعود يشكون هذا "الشقيري" الذي يهدد سلامة العلاقات مع المملكة..
... وأمر الملك سعود، فترجمت خطبي إلى اللغة العربية وقرأ ما فيها من قسوة، وقرأ كذلك ما في خطب الثلاثة الكبار من قسوة.. فجاءتني البرقية الرمزية مذيلة باسمه، إشارة إلى اهتمامه، بانني "تهجمت" على الدول الغربية.. وانه يجب التقيد بالتعليمات وعدم التعرض لاية دولة صديقة..
... وأبرقت إلى المللك سعود راجيا اعفائي وقبول استقالتي.. ولم يمض يوم أو اثنان حتى ابرق إليّ بانني كنت على حق في موقفي، ولكن لهجتي كانت قاسية وأنه يرفض استقالتي..(1/745)
... والواقع أن "استقالتي" قد وقعت موقعا غريبا في اوساط القصر الملكي.. فلم يعرف عن احد، وخاصة من العرب الوافدين، أن استقال من خدمة المملكة العربية، حيث المرتبات الكبيرة والمكافآت السخية.. والفرص الأخرى للثراء..
ولعل الملك سعود ادرك أنني لست من تلك الحاشية، ولم أكن اتقاضى غير راتبي.. وأدرك كذلك أن الثلاثة الكبار قد تجاوزوا المدى إلى أبعد مدى..
... وأخيراً، لعل الملك سعود قد سره أن يصبح للمملكة العربية السعودية، وهي صاحبة الثروة الإسلامية والبترولية، صوت.. وصوت داو في الأمم المتحدة .. بعد أن لم يكن لها في المحافل الدولية كلمة تقال اوهمسة تسمع ... وكان كل ما تصنعه في الأمم المتحدة إلى ذلك العهد أن تقول عند التصويت: لا، نعم، استنكاف.. ... ولقد ظلت القومية العربية بعد تلك المعركة الضارية في عام 1957، مرفوعة الاعلام، تشق طريقها في الوطن العربي وفي المحافل الدولية، حتى أصبحت للمواطن العربي طعامه وشرابه، وللسياسي الغربي زقومه وسمومه، حتى جاءت حرب حزيران من عام 1967، فنكست أعلام القومية العربية، ولم يعد يردد اسمها على المنابر- ولا تهتف بها الحناجر.. تلك أعراض النكبات والهزائم في كل الشعوب والأمم..
... ولكن الأمة العربية الماجدة، باقية خالدة، ولا بد أن تستأنف القومية العربية سيرتها، وتظل باقية خالدة..
... وهذا هو الشعب الفلسطيني البطل، يخوض غمرات التضحية والفداء، ليرفع الراية من جديد، وتستعيد القومية العربية سيرتها، وتستأنف مسيرتها..(1/746)
ايزنهاور:
الشقيري لا يمثل العربية السعودية
... كان آب من عام 1958 شهرا شديد الحرارة في أروقة الأمم المتحدة، فقد بلغت الحرب الباردة في المنظمة العالمية ذروتها، ولم تستطع اجهزة( التبريد) الضخمة التي تملأ قاعاتها وردهاتها أن تخفف من حدتها أو تلطف من حرارتها.. وكان " الشرق الاوسط" مرة ثانية مصدر هذه الحرارة اللاهبة..ومرة ثانية انعقدت الجمعية العامة في دورة طارئة لتناقش الحالة الطارئة.. وكان الرئيس ايزنهاور فارس هذه الدورة، جاء ومعه عاصفة من الاراء والمقترحات، واستقرت العاصفة في فنجان..
... وخلاصة الموقف، ولا يزال حيا في الاذهان، أن الوطن العربي كان قد تفجر في عام 1958 عن أحداث جسام.
... ففي هذا العام قامت الوحدة بين مصر وسوريا وأعلنت الجمهورية العربية المتحدة، ورأت فيها الأمة العربية فجرا لاحلامها القديمة في الوحدة الكبرى، باسطة ذراعيها على الوطن العربي الكبير من المحيط إلى الخليج..
... وفي هذا العام ذاته انشيء مجلس الدولة العربية المتحدة بين الجمهورية العربية المتحدة والمملكة اليمنية، وكانت خطوة أخرى على الطريق..(1/747)
... وفي هذا العام سقطت الملكية في العراق، وحل محلها نظام جمهوري معلنا تحرره من التبعية والاحلاف..
... وفي هذا العام، نشبت أحداث خطيرة في لبنان والاردن، وكانت فرصة حفرت الولايات المتحدة إلى "انزال" قواتها العسكرية على الشواطيء اللبنانية، وتدافقت فرق المظليين البريطانيين إلى الاردن..
... وفي هذا العام اشتد ساعد القومية العربية وازداد السلاح الروسي انطلاقا إلى القاهرة ودمشق.. وأخيراً إلى بغداد..
... وبدا للمعسكر الغربي انه يخسر مواقعه، وسيخسر مصالحه، وهذا الإتحاد السوفيتي على الجناح الشمالي للوطن العربي، يقف على عتباته قريبا من أبوابه..
... ولمواجهة هذا الخطر كله، انعقدت الجمعية العامة في دورة طارئة، وعزم الرئيس ايزنهاور أن يخطب فيها، وقواته المسلحة على الأرض العربية في لبنان تقول للأمة العربية "نحن هنا".. والقوات البريطانية في عمان تقول: انا ههنا صامدون..
... وتعددت المقترحات الدولية وتنوعت، فهذا الاقتراح يدعو إلى حياد الشرق الأوسط، وذاك اقتراح يناشد سحب القوات الأجنبية من لبنان والأردن.. وذلك اقتراح يدعو إلى اشراف دولي على مصادر الزيت، ومع هذه الاقتراحات مشروعات متعددة للتنمية الاقتصادية في الشرق الاوسط.. وتخصيص مبالغ ضخمة تنفق على اللاجئين كحل لقضية فلسطين.. وبدا الشرق الأوسط وكأنه جثة التقطت من الطريق العام، ووضعت بين أيدي الجراحين على مشرحة الأمم المتحدة..(1/748)
... وسارعت وفود الدول الأعضاء من كافة أرجاء الارض، والطائرات تهبط في مطار نيويورك، فيتسابقون إلى مقر الأمم المتحدة على ضفاف النهر، ليعرفوا ماذا يريد الرئيس ايزنهاور من هذه الدورة الطارئة..
... وعقدت الجمعية العامة في الموعد المقترح، ولكن لم يكن قد مضى على موعدها السنوي المعتاد في شهر أيلول من كل عام إلاّ بضعة ايام.. ولكن الولايات المتحدة إرادتها دورة طارئة وقالت: كوني فكانت..
... وبدأت الجلسة الأولى، فازدحمت القاعة ولم يبق مكان لقاعد ولا لواقف، وأظل الحرس من الزنوج، رؤوسهم في الداخل واجسادهم في الخارج، وتلألأت انوار المصورين، ودخل الرئيس ايزنهاور ووقف على المنصة، وانصت العالم إلى القائد الذي انتصر في أوروبا أثناء الحرب العالمية الثانية وهم يتساءلون: هل ينتصر الرئيس ايزنهاور في ميدان الأمم المتحدة..
... وكان خطاب الرئيس ايزنهاور طويلا جدا وقصيرا جدا.. طويل لأنه تكلم كثيرا.. وقصير لأنه كان مركزا على الشرق الاوسط.. وكانما العالم ليس فيه إلاّ مشكلة الشرق الاوسط..
... وأصابنا نحن الوفود العربية شيء من الاعتزاز، إننا أصبحنا قضية كبرى وفي دورة طارئة.. وان الرئيس ايزنهاور حمل نفسه بذاته من البيت الأبيض ليواجه القومية العربية..
... لقد تحدث الرئيس ايزنهاور بعبارات دسمة حلوة عن الأمة العربية في ماضيها، مثنيا على حضارتها ودورها في التقدم الانساني، ولكنه جاء اليوم ليواجه القومية العربية في حاضرها، وما تتطلع إليه في مستقبلها..(1/749)
وتحدث عن الخلافات العربية، والتسلل الشيوعي إلى الشرق الاوسط، وحرب الاذاعات الناشبة بين العواصم العربية!!
... وكان الخطاب في مجموعة انذارا وتحذيرا في غلاف من العبارات الناعمة، وفيه اشارات غير ناعمة للاتحاد السوفيتي، كأنما الذي يتحدث أمامنا هو "الجنرال ايزنهاور".
... وبعد الرئيس ايزنهاور مباشرة، تحدث المستر سلوين لويد وزير الخارجية البريطانية فاعرب عن مخاوف العالم الحر مما انتهت إليه الأمور من "خلافات بين الدول العربية تحركها الأصابع الروسية"، وايد ما اعلنه الرئيس ايزنهاور من أن هذه الخلافات، وما رافقها من حملات اعلامية تعتبر عدوانا غير مباشر يتطلب التدخل من الأمم المتحدة لمنع تدهور الموقف، وتطوره إلى اصطدام مسلح..
... وتحدث المستر همرشلد، بعباراته الرشيقة المعروفة، عن القومية العربية فاثنى على اهدافها.. ولكن اقتراحاته، بين السطور، كانت تحتمل تأويلات وتفسيرات.. يحسبها كل فريق أنها لصالحه، وقد تكون لا لهذا ولا لذاك، ولكن لفريق ثالث يتربص الغنائم.. وكانت هذه المقترحات في مجموعها تدور في فلك السياسة الغربية..
... ووجه المقارنة بين همرشلد ويوثانت أن الأول محايد قريب من الغرب، والثاني محايد قريب من الشرق..
... وأعلن الرئيس انتهاء الجلسة، وانصرف الوفود ليفكروا وليتداولوا في ما سيخطبون وما سيقترحون .. وانصرفت أفكر في ما اخطب وما اقترح..(1/750)
... وقضيت ليلتي مع الرئيس ايزنهاور في خطابه، أُقلّب صفحاته، وامعن النظر في عباراته وكلماته، وبدأت أعد خطابي اقرع الحجة بالحجة.. ولم يكن الموقف سهلا، فان "الرجل" الذي سأرد عليه ليس سفيرا ولا وزيرا، ولكنه رئيس أعظم دولة في الارض، وله سمعة مشرقة عند الأصدقاء والاعداء على السواء..
... وفوق هذا، فقد كان الموقف خطيرا بذاته، ومن اليسير أن تندلع شرارة الحرب، وقد أصبحت القوات الأمريكية في البحر الأبيض قريبة من القوات السوفيتية في البحر الاسود، والويل للعالم إذا التحم الأبيض والأسود..
... وإلى جانب هذا وذاك فقد كانت بين الملك سعود والرئيس ايزنهاور مودة شخصية، وتوطدت اواصرها أثناء لقائهما قبل ذلك ببرهة وجيزة في واشنطون..
... فكرت في هذه الاعتبارات كلها.. ولكني "قررت" في نفسي أن القومية العربية أعظم من ذلك كله.. وان فلسطين أجلّ واكبر..
... وجاء اليوم الخامس عشر من شهر آب من عام 1958 فغادرت مكتبي إلى مقر الأمم المتحدة أحمل خطابي، واحمل معه الآم الأمة العربية على يد الاستعمار منذ أجيال..
... وضرب الرئيس المطرقة وانعقدت الجلسة، وغادرت مقعد الوفد السعودي إلى المنبر، وقد شدت إليّ الوجوه والأبصار والاسماع، بين غاضب وخائف..
... الولايات المتحدة وحلفاؤها واتباعها.. والمرتزقون والمنتفعون، غاضبون أن يستطيع واحد من "العرب" الرد على الرئيس ايزنهاور..(1/751)
... أمّا الخائفون فكانوا إخواني في الوفود العربية ومعهم الوفود الصديقة، فإن الموقف جد، ليس فيه هزل، والبحارة الأمريكان قد عسكروا في لبنان، وفوهات مدافعهم موجهة إلى المشرق العربي.. والمظليون البريطانيون يعسكرون في الاردن، ينتظرون إشارة التحرك حيثما كان.. وإنّى كان..
... ولم يكن يخفى علي غضب الغاضبين ولا اشفاق الخائفين، ووقفت على المنبر رابط الجأش، وقد استولى علي إحساس عميق بأن القضية العربية اعظم، وان قضية فلسطين اكبر..والقيت خطابي فكان خطاب الانسان العربي اودعت فيه كل آماله والآمه، شجاعا من غير عنف، مهذبا من غير ضعف، يضع القضية العربيةعند حدودها، ويضع الرئيس ايزنهاور عند حدوده..
... وعقد الرئيس ايزنهاور مؤتمرا صحفيا بعد ايام اعرب خلاله عن ارتياحه للعلاقات الودية بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة.. وهنا سأل أحد المراسلين: كيف توفق بين ذلك وخطاب المستر شقيري..
... فأجاب الرئيس ايزنهاور : هذا العربي لا يمثل المملكة العربية السعودية..
... وازداد الموقف حرجا ان "العربي" الذي لا يمثل المملكة العربية السعودية قد استمر يمثل المملكة العربية السعودية في تلك الدورة الطارئة، وفي الدورة العادية التي جاءت في اعقابها، وفي أربع دورات بعدها..
... وهنا بعض ما جاء في خطابي اثبته مترجما إلى اللغة العربية:
... "في خلال عامين تجتمع الأمم المتحدة في دورتين طارئتين لمعالجة أزمة الشرق الأوسط، وانه ليحزننا أن يضرب الشرق الأوسط هذا الرقم القياسي وفي فترة وجيزة، ولسنا ندري إذا كانت الدورة الطارئة الحاضرة(1/752)
ستفضي إلى العدل والحق في الشرق الأوسط أم أنها ستقود إلى دورة طارئة اخرى..
... "ولست أريد أن أعود إلى الماضي وأكشف عن الأحداث الدامية التي أدتّ إلى الدورة الطارئةالأولى التي عرفت في تاريخ الأمم المتحدة بدورة قناة السويس، فإن جميع الوقائع مدونة في محاضر الأمم المتحدة.. ولكن امرا واحدا يجدر بنا أن نؤكده، أن الشرق الأوسط لم يكن سببا في أزمة الشرق الاوسط..لقد شنت حرب عدوانية على الأمة العربية ووقع الاختيار على مصر لتكون ميدانا لها.. وكلكم تعرفون نهاية تلك الحرب.. لقد كسرت شوكة العدوان وانسحب المعتدون، وخرجت مصر من الازمة غير مسئولة عن العدوان ولا عن الدورة الطارئة.. وهكذا طويت صفحة تلك الدورة.. وفي هذه الدورة الطارئة الحاضرة يعيد التاريخ نفسه، وعلى الاصح، دفع التاريخ ليعيد نفسه، و إذا بنا نستمع إلى الخطب من منبر الأمم المتحدة تردد مرة ثانية أن الأمة العربية والقومية العربية هما السبب المباشر للازمة، وبالتالي، لانعقاد هذه الدورة الطارئة..
... "وأن الهدف واحد في الدورتين،وان كانت "المبررات" في هذه المرة تختلف عما كانت عليه في الدورة السابقة.. ففي الماضي كانت الصورة عدوانا ثلاثياً تجنيا على مصر..أمّا في هذه الدورة فقد تحدث الخطباء عن أزمة داخل الشرق الاوسط، حرب من الدول العربية على الدول العربية، وقد تبع هذه الأحاديث رتل طويل من المقترحات: لاعلان حياد الشرق الاوسط، لحماية الدول العربية من الدول العربية، لصيانة السيادة الاقليمية والاستقلال(1/753)
السياسي للبلاد العربية، وأخيراً لإنقاذ العرب من العدوان المباشر وغير المباشر..
... "لا أيها السادة.. هذا كله ظلم فاضح، مقرون بالبغي والأذى- بل أنه بهتان غارق في البهتان.. وان علينا أن ندحض هذا الباطل الآن وإلى الأبد..
... "ان الحالة القلقة التي تسود منطقة الشرق الأوسط يجب أن تبحث في اطارها الصحيح، وعلى هدي من الدراسة العميقة الاصلية، و إذا كانت هذه الدورة الطارئة قد وصلت إلى فهم أمين للأمة العربية وللقومية العربية تكون بذلك قد أدتّ خدمة عظمى لقضية السلام، لا بالنسبة للشرق الأوسط فحسب، بل للعالم أجمع..
... "وبهذا يتوجب علينا أن نواجه الحقائق بكل الصراحة التي نملكها، وان توكيدي للصراحة، لأن الوقت لا يأذن لنا بأن نزين الفاظنا أو ننادي بالعبارات المعسولة، ويكفي اننا مجتمعون الآن في دورة استثنائية طارئة..
... "ليس سرا- أيها السادة- أن القومية العربية كانت خلال السنوات الأخيرة محل اهتمام الأمم المتحدة، سواء كان ذلك همسا أو علانية، بصورة رسمية أو غير رسمية.. وقد صورت القومية العربية بادئ ذي بدء شيطانا شريرا، وان كانت المحاولات تبذل الآن لالباس الشيطان ملابس الملائكة ...
... "ولكن الذين يريدون أن يتجنبوا الأحلام المزعجة عليهم أن يروا الملاك في الملاك، والشيطان في الشيطان، ولعله من أجل هذا السبب، فان، المستر همرشلد قد تناول هذا الجانب بحصافة ونباهة، في خطابه الذي القاه في 8 آب، فاثنى على الجامعة العربية، والتراث الحضاري العربي، والقومية العربية.. ولست أريد أن اقتبس شيئا من خطابه، كلمة كلمة أو عبارة عبارة،(1/754)
فإن بيانات المستر همرشلد لا تقبل "الاقتباس" لا لأنا نخالفه في أكثر من موضوع، ولكن لأنها فريدة في ذاتها، متشابك بعضها ببعض، بحيث لا نستطيع أن نقرأها مجزأة، ... ويتعين أن تقرأ كاملة.. ولأن المستر همرشلد بذاته أصبح يمثل شخصية دولية..
... "وعلى كل حال فإن خطاب المستر همرشلد يجب أن يقرأ فيما بين سطوره، لا في سطوره فاننا مع اعجابنا بكفاءة المستر همرشلد، فاننا نراه في خطابه يعني أكثر مما يقول.. ونحن نختلف معه في ما يعني.. لا فيما يقول..
... "ولقد سرنا أن الرئيس ايزنهاور قد تعرض لموضوع القومية العربية ... وهو موضوع الساعة المطروح أمام الأمم المتحدة..
... "انني أعلن من هذا المنبر أن إشارة الرئيس ايزنهاور إلى "فضل العرب الكبير في حقل المعرفة الانسانية" تستحق منا كل تقدير واحترام..
... "والواقع أن هذه الإشارة من جانب الرئيس ايزنهاور يجب أن تعمل بذاتها على فهم القومية العربية، وتطلعها إلى الحرية والوحدة..
... "وهنا يبرز السؤال: ما هي هذه القومية العربية..
... ان الرئيس ايزنهاور قدم لخطابه بقوله: "دعوني احدد موقف بلادي بكل وضوح وصراحة" وانني استأذنكم أن استعير كلمات الرئيس ايزنهاور لاقول بدوري: دعوني احدد موقف بلادي بكل وضوح وصراحة، ونحن هنا مجتمعون في الأمم المتحدة بحثا عن الحقيقة، وحقيقة القومية العربية يفهمها اهلها، وأجدر الناس بالحديث عنها أصحابها..
... "واذن ما هي القومية العربية؟ .. هل هي شكل جديد من أشكال الاستعمار.. هل هي غصن من اغصان الشيوعية وامتداد لمذهبها، هل(1/755)
القومية العربية في يقظتها الحديثة من صنع الغرب أو ثمرة نهضته، هل هي حركة مليئة بالحقد على الغرب والحب للشرق، وهل هي حركة تنم عن البغضاء لكل ما هو اجنبي، وتقفل الباب في وجه التعاون الدولي؟
... أبدا، أن القومية العربية ليست على شيء من ذلك، انها حركة قائمة بذاتها ومن ذاتها.. وانها حركة ديناميكية من غير شك، غير أنها تدعو إلى السلام.. ولكنه سلام قائم على العدل والحق.. وان دوافعها واهدافها، وما تملك من وعي عميق وادراك خلاق، كل ذلك ينبع من ثقافتها وحضارتها، ومن أكرم تقاليدها التي تحلت بها في تاريخها الطويل..
... "أن الأمة العربية، مستلهمة وحدة ماضيها، ومستوحية وحدة حاضرها ومستقبلها، تناضل الآن في سبيل استكمال الوحدة والحرية، أيهما جاء أولاً ... والقومية العربية لا تضمر عدوانا على احد، وفي نفس التصميم فإن القومية العربية لن تتخلى عن شبر واحد من وطنها الكبير من المحيط إلى الخليج، ومن أقصى الشمال في الجمهورية العربية المتحدة إلى أقصى جنوب السودان في قلب افريقيا..
... "وان جميع أرجاء الوطن فيما تشتمله هذه الحدود هو وطن واحد لأمة واحدة، هي الأمة العربية، وسواء تحدثتم عنا كشعب أو امة، فلتكن التسمية ما تكون وما تشتهون، فنحن أمة واحدة، وأمة واحدة فقط.. وهذه الوحدة تتجلى في وحدة وجودنا، ووحدة تفكيرنا، ثم في وحدة تصميمنا على العمل المشترك..
... "وانني أعلم اننا لسنا هنا في ندوة علمية، وليس قصدي أن أحاضر عليكم في فلسفة القومية العربية، ولكن ها نحن نرى تضليلا واسعا للحياة(1/756)
العربية، والاسباب مختلفة، وإذا لم تستطيعوا أن تسبروا غور القومية العربية فلن تصلوا إلى النتائج الصحيحة في هذه المناقشة العامة في الأمم المتحدة، وإذا كنتم تتحدثون عن الأمة العربية أنها أمم وشعوب فلن تستطيعوا تحقيق السلام في ذلك الجزء من العالم.. وإذا كانت الأمم المتحدة تعتبر الأمة العربية أنها أمم وشعوب فستسقط إلى الأرض كل معاييركم" عن العدوان" وكل مفاهيمكم عن" التدخل"، وإنه يؤسفنا أن المستر همرشلد قد أشار إلى الأمة العربية مرة كأمم، ومرة أخرى كشعوب، وفي الحالين بصفة الجمع.
... "وعلى هذا النحو، فإن الرئيس ايزنهاور قد استخدم تعبيرا آخر، فوصف الأمة العربية بأنها" أمم الشعوب العربية" وانه لتعبير ظريف حقا، ولكنه يجعل من الأمة العربية خليطا من الشعوب والامم..
... "وإذا كانت المنظمة العالمية ستنظر إلى الأمة العربية على أنها أمم أو شعوب، فلسوف يترتب على ذلك اعتبارات سياسية معينة، و إذا كان سينظر اليها على أنها أمة واحدة، فستقلب تلك الاعتبارات رأسا على عقب.. ومن غير رجعة..
... "وكذلك فإن مشروعات التنمية الاقتصادية وغيرها التي لوّح بها الرئيس ايزنهاور، على أساس اننا "شعوب الأمم العربية" فإنها ستؤدي إلى دمار القومية العربية، كائنة ما كانت المقاصد الحسنة والنيات الطيبة..
... "وهناك ناحية هامة لا بد من إيضاحها، بصدد ما ورد من الإشارات في خطابي الرئيس ايزنهاور والسيد سلوين لويد وزير الخارجية البريطانية عن ما سمي "بالاستعمار العربي".(1/757)
... "ان الاستعمار العربي أمر لا يمكن تخيله في الحياة العربية، واستعمار العرب للعرب صورة لا تقبل التصور..
... "يستحيل على المرء أن يستعبد نفسه، وان يستولي على أرضه، وأن يخضع شعبه، وأن "يفتح" وطنه، ولكننا نستطيع أن نتصور المرء يستعبد غيره، وأن يستولي على غير أرضه، وأن يتغلب على غير شعبه، وأن يستولي على غير وطنه..
... "ليس العربي أجنبيا على أي عربي، وكذلك فليس أي قطر عربي غريباً على قطر عربي آخر..
... "وأننا ندعو الأمم المتحدة أن تفكر وتعمل.. ولكن على هذا الأساس وعلى هذا الأساس وحده.. وإلا فإن جميع جهودنا ستذروها الرياح..
... "وإلى جانب ذلك، فإني أرى من واجبي أن أبدِّد بعض الشكوى والمخاوف التي لا مبرر لها.. أن الرئيس ايزنهاور في معرض حديثه عن القومية العربية، قد طالب أن تكون (الأهداف العربية أهدافاً عربية حقا) ...
... "أنني أعلن إلى الرئيس ايزنهاور، وللعالم أجمع، من على هذا المنبر، وفي كل إخلاص وقدسية، أن أهدافنا القومية هي أهداف عربية في الصميم، وستظل كذلك إلى الابد.. نحن عرب أولاً وآخراً.. وسنظل دائما لأنفسنا من غير أن نفصم عن الأسرة الدولية.. إننا نضمر الصداقة لدول العالم أجمع.. الثمانين دولة التي تتألف منها الأمم المتحدة، ولا أزيد على ذلك دولة واحدة.. وأنا أعرف الحساب جيدا ... (الإشارة هنا تستثنى إسرائيل)..
... "وعلى هذا، فاني أؤكد لكم أن القومية العربية ليست من صنع الشيوعية، لأن وجودنا سبق الشيوعية بأجيال.. وكذلك فإني أؤكد لكم أن(1/758)
القومية العربية ليست من عمل الغرب، فإن وحدتنا القومية التي انتقلت عواصمها من مكة إلى المدينة إلى دمشق إلى بغداد إلى القاهرة، قد عبرت عن وجودها حين كان الغرب غارقا في ظلمات القرون المظلمة..
... "وإنّ العرب لا يضمرون أي عداء لأي اجنبي، فلا نعرف أمة تفوقنا ضيافة للغرباء، ووفادة للغرباء، نحن نفاخر بتقاليدنا هذه بكل تواضع..
... "وفي نطاق الأمم المتحدة، نحن نعلن عزمنا على التعاون مع الأسرة الدولية، ولكن على أساس المساواة التامة، سعيا وراء المصالح المشروعة المشتركة..
... "ومن هذا المنبر فإننا نعلن اننا لسنا شيوعيين ولا نريد أن نكون.. ونعلن كذلك اننا لسنا غربيين ولا نريد أن نكون ...
... "نحن مصممون أن نكون لذاتنا، الآن وفي كل زمان.. وإنّ اهدافنا عربية في الصميم وستبقى..
... "ونحن هكذا، وهكذا سنظل، وليس لأحد أن يستبد به الخوف والقلق.. و أنتقل الآن إلى صلب الموضوع.. ما هي حكاية الازمة؟
... "ان هنالك أمة تحفزها القريحة البناءة و الأهداف السليمة، فعلام هذا الموقف المتفجر؟..وإنه يبدو لغزا عجيبا أن تبدو الأمة العربية وكأنها مصدر خطر على الأمة العربية.. أو كأنها تريد إشعال الحرائق في الوطن العربي.. لقد حاول الرئيس ايزنهاور أن يزيل العجب من اللغز العجيب ... لقد تحدث في خطابه عن: القيادة العربية المتطرفة، العدوان غير المباشر، التخريب، التسلل، الحملات الإعلامية، واعتبر ذلك كله السبب في الموقف المتفجر في الشرق الاوسط..(1/759)
... "ونحن مدينون بالشكر للرئيس ايزنهاور أنه طرح الموضوع على هذه الصورة، فإنّ طرح أية قضية يتطلب طرح أسبابها، ولا بد للوصول إلى حلول سليمة من الوصول أولاً إلى تشخيص سليم.. ولنتحدث بصدق وصراحة.. وأحسب اننا مجتمعون هنا لهذا الغرض- الدول الكبيرة والصغيرة على السواء.. ...
... "إننا بكل احترام نخالف الرئيس ايزنهاور في التحليل الذي اختاره الرئيس ايزنهاور.. أن أزمة الشرق الأوسط أعمق.. أعمق بكثير من الأسباب التي أشار اليها، ان الأمر لا يكمن في "القيادة المتطرفة" أو في الأسباب الأخرى التي ذكرها .
... إن الأمر يتصل بشعب جريح.. شعب جرح في كرامته، شعب له ذلك التاريخ المجيد الذي اشاد به الرئيس ايزنهاور..
... إن الأزمة في صميمها، ليست نتيجة "أعمال التخريب والحملات الإعلامية" كما أشار المستر سلوين لويد في خطابه بالأمس، إنها النتيجة الطبيعية للاستعمار والاستيطان الاجنبي اللذين لا تزال جذورهما مستقرة في الوطن العربي حتى هذه الدقيقة..وهذه هي صورة الموقف كما هي قائمة الآن.. وهذه هي المشاكل التي نواجهها الآن..
... (وبعد أن استعرضت القضايا العربية التي كانت قائمة يومذاك: الجزائر، تونس، مراكش، وعمان، واليمن، والبريمي، انتقلت إلى قضية فلسطين)..
... "وأخيراً لا آخراً، هنالك القضية الفلسطينية التي تتمثل فيها أعظم كارثة أصابت الأمة العربية في كل ما أصابها من كوارث في تاريخها(1/760)
الطويل.. وليس هذا مبالغة أو تهويلا، فإذا كان المستر اتلي رئيس الوزراء البريطاني الأسبق قد أعلن في مجلس اللوردات قبل أسبوعين أن إنشاء إسرائيل يعتبر خطأ حتى من زاوية المصالح البريطانية، فماذا على العرب أن يقولوا؟
... "ان أقل ما يجب علينا أن نقوله، أن إنشاء إسرائيل في وطننا هو إهانة كبرى لشرفنا، وكارثة عظمى على شعبنا..
... "هذه هي المشاكل التي تكمن في جذور أزمة الشرق الأوسط، وهذه هي الأسباب الحقيقية للموقف الحاد الذي يؤذن بالانفجار حينا بعد حين..
... "ان عليكم أن تواجهوا المشكلة بكل صدق وأمانة إذا كنتم تريدون إقرار الأمن والسلام في الشرق الأوسط، ولا نفع في الاختفاء وراء حجج العدوان المباشر وغير المباشر، ولا طائل من الحديث عن التسلل والتخريب والحملات الإعلامية.
... "إنّ القضية هي قضية حرية بالنسبة للأمة العربية في الوطن العربي الكبير.. ولكنكم إذا كنتم تريدون أن تتحدثوا عن التسلل والعدوان والتخريب، فإني أقول بكل احترام إلى الرئيس ايزنهاور أن الأمة العربية هي فريسة هذه الجرائم الدولية، ترتكب في الولايات المتحدة ضد الأمة العربية.. ان الصهيونية العالمية قد قامت بحملات التخريب والتسلل والعدوان في فلسطين وما تزال.. ان الصهيونية قد شنت حملات إعلامية معادية للأمة العربية وقادتها وما تزال.. والصهيونية العالمية تقترف هذه الجرائم من هنا، وأكرر من هنا، من الولايات المتحدة.. نحن نضمر كل تقدير واحترام لشعب الولايات المتحدة، ولكن ذلك لا يمنعنا من القول أن المقر الرئيسي للصهيونية(1/761)
حيث تلقى العون كل العون، هو هنا في الولايات المتحدة..وإذا كنتم تريدون أن تجدوا حلا للأزمة فعليكم أن تصلوا إلى اعماق جذورها، و إذا ما استمرت الأسباب فلا بد أن تستمر الأزمة، ولا بد أن تكبر مع الزمان ويستحيل السيطرة عليها..
... "وقد آن الأوان أن يفيق الغرب من غفلته ويستيقظ على خطيئته.. أن المشكلة في تحليل صادق أمين، هي مشكلة مع الغرب.. ولا أقول هذا عن كراهية للغرب.. فليست الكراهية من تقاليدنا، ولكني اقولها كرد فعل طبيعي إزاء سياسة الغرب..
... " ولقد كانت لنا مع الغرب علاقات ليست ودية فحسب، ولكنها علاقات تحالف..
... " ولكن الغرب قد عمل على تمزيق الأمة العربية..
... " الغرب هو الذي دمر الحياة القومية لشعب فلسطين..
... " والغرب هو الذي فرض السيطرة على أقطار عربية أخرى..
... " وبعد أن فعل الغرب ما فعل، جاء إلينا هنا في الأمم المتحدة يسأل عن أسباب الازمة في الشرق الاوسط..
... " ولكن الحق كل الحق أن الغرب هو العلة، الغرب هو سبب المشكلة التي يشكو منها الغرب.. وليس على الغرب أن يشكو أحداً سوى الغرب..
... " والعجيب المفجع في الأزمة الحاضرة أن أصواتا صادقة قد انطلقت قبل عشر سنوات، تحذر منها قبل وقوعها.. أن قادة العرب خلال الحقبة الماضية قد حذروا الأوساط الرسمية الغربية، بكل مودة وإخلاص،(1/762)
بأن استمرار السياسة الغربية في تجاهلها للمطالب القومية العربية، سيؤدي إلى تهديد العلاقات المشتركة بافدح الأضرار وأكبر الاخطار..
( وبعد التبسط في هذا الجانب انتقلت إلى بحث الحلول)
... " ان الأزمة تتطلب موقفا شجاعا، والوقت وان كان قصيرا، غير أنه لا يزال يتسع لمواجهة الأزمة على مستوى سياسي عال. ان التنمية الاقتصادية وأمثالها، على ما تحتويه من مزايا عالية، إلاّ أنها ليست مفتاح الموقف، فالاقتصاد لا يترعرع إلاّ في ظل الأمن والطمأنينة.. ويجب علينا أن نعالج الناحية السياسية أولاً، فالإنسان لا يحيا بالخبز وحده، ومنذ عهد ارسطو عرف الإنسان أنه حيوان سياسي لا حيوان آكل.. وعلى الذين يتوقون إلى إقامة سلام دائم في الشرق الأوسط أن يغيروا سياستهم تغييرا أساسيا، وانني أعني الدول الغربية بذاتها.. أدعو الدول الغربية أن توافق على المطالب العربية قبل أن تتم من غير موافقتها..
... " ان عقدة الدول الغربية- عقدة الكراهية للرئيس عبدالناصر- يجب أن تستأصل من جذورها.. وليس عبد الناصر إلاّ مظهرا من مظاهر المد الثوري للقومية العربية.. وإن الملك سعود والرئيس عبد الناصر والرئيس عبد الكريم قاسم وغيرهم من قادة العرب، يجيئون ويروحون، ولكن الأماني القومية باقية، متحفزة ابدا، متوثبة دائما، حتى تتحقق للأمة العربية بأسرها.. ولقد تقدمت عدة اقتراحات وكان أحدها سحب القوات العسكرية- ونحن نؤيد سحب القوات الأجنبية لا من لبنان والأردن فحسب، ولكن من كل شبر من الوطن العربي..(1/763)
... "والاقتراح الثاني يتعلق بالزيت، ولا أريد أن أدخل في تفاصيل هذا المشروع أو ذاك، ولكني أريد أن أعلن ان البترول العربي هو لنا- إنه ملكنا- ان أمره يقع ضمن سيادتنا الكاملة المطلقة، ولا يمكن أن يكون محل بحث هنا في الأمم المتحدة.. ان الدول العربية المصدرة للبترول، والدول العربية التي يعبر في أراضيها هي وحدها التي تبحث ما تشاء، ومتى تشاء، وأينما تشاء، وليس للأمم المتحدة دخل في هذه الشؤون من قريب أو بعيد.. أن البترول العربي ليس سلعة سياسية دولية، ونحن مصممون أن نخرجه من نطاق الخلافات السياسية الدولية ... ( وبعد أن استعرضت العلاقات العربية الداخلية ودور الجامعة في معالجتها انتقلت إلى القضية الفسطينية).
... إنّ قضية اللاجئين على أهميتها وخطورتها، ليست هي القضية الفلسطينية، ان الموضوع يتصل بوطن اغتصب ووقع تحت احتلال أجنبي، وإن الاقتراحات المتعددة بشأن تعويض اللاجئين عن أملاكهم لا يمكن أن يعتبر حلا للمشكلة، لأسباب متعددة، منها أن اللاجئين أنفسهم مصممون تصميما قاطعا على العودة إلى وطنهم.. ونحن نعلن إننا غير مستعدين أن نتراجع عن هذا الموقف شبرا واحدا، وأنّ شعب فلسطين ومعه الدول العربية لا يتنازلون عن وطنهم مقابل كنوز الأرض كلها.. وإنّ عليكم أن تعلموا أن وطننا مقدس عندنا، كما هي أوطانكم مقدسة عندكم.. مثلنا مثلكم. أنتم لا تخونون وطنكم، ونحن لا نخون وطننا، فاحفظوا جيدا هذا في قلوبكم..
... "وفي كلمة واحدة أن العرب مصممون أن يكونوا سادة في وطنهم، وهذا هو الذي يفرق بيننا وبين العرب، وإن الخيار أمامكم هو بين السلام وإسرائيل.. وعلى الغرب أن يختار.."(1/764)
... وقد انتهيت من خطابي وتسابق مراسلو الصحف الأجنبية ووكالات الأنباء لينقلوا إلى العالم أنباء "الفضيحة" الكبرى "الشقيري يهاجم الرئيس ايزنهاور ودول العالم الحر!!".
... وتعاقبت وفود الدول العربية على المنبر، وكان بعضهم خيرا من حكوماتهم وراءهم، فالتأم الصف العربي، وتصدى لمختلف المشروعات التي كانت تستهدف التدخل في أمور العرب الداخلية..
... ونجح من كل منها مشروع واحد: أن يوكل الأمر إلى الجامعة العربية لتعالج الخلافات العربية داخل المنزل..وكان هذا أكرم الحلول.. وكان للسيد محمد أحمد محجوب وزير الخارجية السودانية دور كبير في بلوغ هذا الحل الكريم، وفي التوفيق بين وجهات النظر العربية المختلفة..
... وتناولت الصحافة العربية "أزمة الشقيري" مع الرئيس ايزنهاور بعناوين بارزة، كان أكثرها ايجازا وتعبيرا العنوان الذي جاء في مجلة آخر ساعة القاهرية:- الخطاب الذي هز ايزنهاور، وكان عنوان جريدة المساء القاهرية: أزمة في أمريكا بسبب موقف السعودية- السفير الأمريكي بجدة يطلب إيضاحات عن خطاب الشقيري وكان عنوان جريدة الشعب القاهرية: ايزنهاور يهاجم خطاب الشقيري بالامم المتحدة..
... ونشرت وكالة اليونايتدبرس برقية لمراسلها في واشنطن ذكرت فيها أن الرئيس ايزنهاور قد تلقى رسالة ودية من الملك سعود بعد خطاب الشقيري بساعات..".
... وبعد عودتي من الأمم المتحدة، سألت الملك سعود:(1/765)
... - هل صحيح ما ذكرته وكالات الأنباء من أن جلالتكم بعثتم برسالة إلى الرئيس ايزنهاور تعتذرون فيها عن خطابي..
... قال: هذا ليس صحيحا إطلاقا.. انني أتبادل الرسائل مع الرئيس ايزنهاور منذ مدة.. وكانت الرسالة الأخيرة قبل أن تلقي خطابك بثلاثة ايام..
... ودعا الملك سعود الشيخ يوسف ياسين، مستشاره للشؤون السياسية، فأحضر ملف المراسلات مع ايزنهاور، فكانت ثلاثا أو أربعا، وكان تاريخ آخرها كما ذكر الملك.
... وهكذا مرت أشدّ أزمة بين واشنطن والرياض، ولم يبق منها إلاّ الذكريات..(1/766)
مكاشفة مع محمد الخامس والحسن الثاني..
وسخرية مع السيد "سخرية"
... انعقدت الدورة الثانية والثلاثون لمجلس الجامعة العربية في أيلول 1959 في مدينة الدار البيضاء بالمغرب.. وهكذا انتقلت هذه" المسرحية" العربية من المشرق العربي إلى المغرب العربي..
... وقد أشفقت على مدينة الدار البيضاء أن ينصب فيها هذا" المنبر" العربي للكلام والجدال، بعد أن كانت إلى عهد قريب ساحة نضال وقتال..
... ولقد صحت مخاوفي حين تكامل وصول الوفود العربية، وانعقد مجلس الجامعة، وافتتحه الأمير مولاي الحسن الثاني (الملك الحسن الثاني فيما بعد) نيابة عن والده الملك محمد الخامس، وسط مظاهر رائعة من الحفاوة والنظام، والمملكة المغربية لها تقاليد عريقة لا تقل عن أرفع التقاليد الاوروبية.
... وكان جدول الأعمال طويلا كعادته، وكان مستوى الوفود عاليا، فقد حضره رؤساء وزارات، ووزراء ومعهم طائفة من المستشارين والمعاونين، وكنت في الوفد السعودي، وكان الأمير فهد ابن عبد العزيز رئيسا للوفد..
... وناقش المجلس جميع المواضيع المدرجة على جدول الأعمال العربية والدولية، وانتهى كعادته بإصدار قراراته المعتادة، وبالصيغة المعتادة.(1/767)
... ولقد فوجئ إخواننا المغاربة أنهم رأوا الجامعة العربية على غير ما كانوا يتوهمون.. فقد كان العرب في الشمال الافريقي مشغولين في كفاحهم البطولي، ولم يكونوا يعرفون الكثير عن الجامعة العربية، فلما جاءت الجامعة العربية إليهم في الدار البيضاء و وضحت الأمور على حقيقتها..
... وعقب انتهاء الجلسة الختامية وتبادل الكلمات، " وشرب الأنخاب" من غير شراب، خرجت مع الأمير مولاي الحسن وجلسنا في مكتب مجاور، فسألني الأمير الحسن:
... - ما هو تقييمك لهذه الدورة التي انعقدت عندنا..
... قلت: خير ما فيها أنها انعقدت عندكم في الدار البيضاء..
... قال: لا أراك متفائلا كثيرا.
... قلت: انني لست متفائلا ولا متشائما، ولكني أحب أن أرى الحقيقة، فإن كانت سوداء قلت إنها سوداء والعكس بالعكس..
... قال: أليس في هذه الدورة ناحية بيضاء..
... قلت: الناحية البيضاء الوحيدة هي أن عامل الدار البيضاء قرر أن يسمي حديقة البلدية حديقة الجامعة العربية..
... قال: لقد عملت في الجامعة العربية لعدة سنين، وأريد منك مقارنة حقيقية بين هذه الدورة والدورات السابقة..
... قلت: إنها امتداد كلامي للدورات السابقة، لا أرى فيها جديدا، بالنسبة إلى قضية فلسطين، مذكرات جديدة، وزيادة ميزانية حكومة عموم فلسطين مبلغ 26 جنيها.. لعام 1959، وزيادة 52 جنيها لميزانية 1960..أمّا بالنسبة للقضية الجزائرية فقد تقرر قبول الحكومة الجزائرية المؤقتة كمراقب في(1/768)
الجامعة العربية، مع توكيد القرارات السابقة بدفع الميزانية المتخلفة من الأعوام الماضية التي رصدت لمعاونة الثورة الجزائرية!!
... قال: هذا وضع غير سليم، ونحن في المغرب قدمنا اقتراحا لتعديل ميثاق الجامعة حتى تصبح أكثر فعالية..
... قلت: ان المشكلة ليست في الميثاق، ولكن المشكلة تكمن في الحكومات التي تتألف منها الجامعة؟ ان الميثاق في مجموعه وثيقة حسنة، والعرب بوصفهم أمة واحدة ليسوا في حاجة إلى ميثاق مكتوب ينظم علاقاتهم، وهذه مذكرتكم بشأن تعديل الميثاق تقرر إحالتها إلى اجتماع على مستوى السفراء.. وستظل تحال وتحال إلى أن يطويها النسيان..
... قال: ولكن هذا المجلس خصص لقضية فلسطين، لتبحث بصورة جدية..
... قلت: يا سمو الأمير، أنتم لا تعرفون ما لقيت قضية فسطين على أيدي الحكومات العربية في المشرق العربي بسبب خلافاتها، ان قضية فلسطين ليست كقضية المغرب ولا كقضية الجزائر.. لقد رحمكم الله أن قضيتكم لم تكن قضية الجامعة العربية.. إنّ "عروبة" قضية فلسطين نعمة ونقمة، نعمة لأنها قضية الأمة العربية على صعيد الجماهير، ونقمة لأنها قضية الحكومات على صعيد الملوك والامراء.. والرؤساء. والويل كل الويل للعربي إذا كانت له قضية في الجامعة العربية..
... قال: أراك ثائرا على الجامعة العربية..
... قلت: نعم، لأنني بلوت مشاكلها سبع سنوات "عجافا" وإنه أهون علي أن أمثل السعودية في الأمم المتحدة، من أن أمثلها في اجتماعات الجامعة(1/769)
العربية، لأن الحكومات العربية تهاب" جامعة" الأمم المتحدة، ولا تهاب جامعتها..
... وانتهى الحديث بيننا وقد أزف الموعد المخصص للقاء الوفود العربية مع الملك محمد الخامس..
... ودخلنا إلى القصر الملكي وسط حديقة، بارعة الجمال، وقادنا المرافقون إلى القصر، ورأينا فيه بدائع الفن الأندلسي في هندسته وعمارته، ودخلنا على جلالته فسلمنا وجلسنا وفق البروتوكول المغربي الدقيق..
... وتحدث الملك محمد الخامس عن التضامن العربي متمنيا للجامعة العربية أن تؤدي رسالتها التي أنشئت من اجلها، ورؤساء الوزارات العربية من حوله يسترسلون في ذلك التأييد من غير قيود ولا حدود.
... وأخذ الملك يتفرس في وجوه الحاضرين، وكان مقعدي بعيدا، بعد صف طويل من الرؤساء والوزراء.. إلى أن وصل الملك بعينيه إلي، ولم أكن قد لقيته قبل ذلك، فأومأ إليّ بيده وقال:
- الشقيري؟
قلت: نعم يا جلالة الملك..
... ودعا الملك واحدا من الحاشية وهمس في أذنه، فجاء بكرسي إلى جانب الملك، وأشار إليّ بالجلوس إلى جانبه- وقال موجها كلامه إلى الوفود..
- نحن مدينون إلى الوفود العربية كلها، ولكننا لا ننسى بصورة خاصة موقف الشقيري" في باريس في قصر شايوه في عام 1951،حين تولى الدفاع عن قضيتنا أمام الأمم المتحدة ...(1/770)
قلت: ان الفضل الأول والأخير هو لجلالتكم ولشعبكم فإن كفاحكم هو الذي حقق الاستقلال، ولم يكن جهدنا في الأمم المتحدة إلاّ رجع الصدى، فالمعركة انطلقت في المغرب، وكنا صداها في الأمم المتحدة.
... ومضى الملك يستذكر الرسائل التي كان يبعث بها إلي، وانتهت الجلسة، وتاريخ النضال المغربي قد ملأ جو الجلسة عزا وفخرا.. وودعنا الملك وانصرفنا..
... وما أن وصلت موقف السيارات في الحديقة، حتى جاءني أحد رجال البلاط يستدعيني إلى القصر "في مقابلة سامية مع جلالته"، فعدت وسلمت وجلست، وقال الملك:
... - دعوتك لأمرين، الأول قضية موريتانيا، وأنت تعلم أنها جزء من بلادنا، وتحاول فرنسا أن تجعل منها دولة مستقلة، والثاني موضوع التجربة الذرية التي ستقوم بها فرنسا في الصحراء.. وهذه قضية تهمنا بصورة خاصة كما تهم الدول الإفريقية والآسيوية، وقد أمرت وزارة الخارجية أن تطلعكم على جميع الوثائق، وسأكتب إلى الملك سعود اشكره على جهدك في هذا السبيل..
... قلت: لا داعي للشكر وسأبذل كل جهدي في الأمم المتحدة، والدورة قريبة، وسأسافر إلى نيويورك رأسا ولكن..
... قال: لكن ماذا؟
... قلت: بالنسبة إلى قضية موريتانيا فسأتولى دراستها، ولست أدري ما سيكون مصيرها في الأمم المتحدة، ولكن حتى لو جاء القرار لصالح المغرب، فلن يكون له فائدة عملية ما لم يكن الشعب في موريتانيا مصمما(1/771)
على الوحدة..، وقد عشت تجارب التجزئة في المشرق العربي، والأمم المتحدة لا تستطيع أن توحد أو تفرق، إلاّ إذا كان الوطن نفسه راضيا بالوحدة أو الفرقة..، أمّا قضية التجربة الذرية، فسأعمل على عرضها في الأمم المتحدة بالتعاون مع الوفود الصديقة، غير أني أشك أن ترضخ فرنسا لهيئة الأمم المتحدة، ولكنه نصر سياسي على كل حال..
... قال: علينا السعي والاجتهاد، والتوفيق بيد الله.
... واستأذنت جلالته وهو يوصي بالمزيد من الاهتمام بقضية موريتانيا، لأنها على حد كلماته الاخيرة "عزيزة علينا وعلى شعبنا".
... وعدت إلى الفندق فسألني الأمير فهد آل عبد العزيز، رئيس الوفد السعودي، عما كان بيني وبين الملك فرويت له ما جرى. وعادت الوفود إلى بلادها، وبقيت في المغرب أياما أبحث وأدرس فقد جاءتني قضايا جديدة بدلا من القضايا التي انتهت: ليبيا وتونس والمغرب. وقد فتنتني قضية موريتانيا، لأنني وحدوي الهوى والنشأة وكانني رأيت فيها ضالتي المنشودة، فلزمت وزارة الخارجية ساعات وأنا أدرس الوثائق والملفات، ولزمت المكتبات العامة والخاصة ساعات وأنا أدرس تاريخ "مراكش" وما تعاقب عليها من أحداث ووقائع، وقفت أمام الاطالس القديمة والحديثة وأنا أتأمل تلك الحدود المتراتية للدولة المراكشية في أيام سطوتها وأنعمت النظر في تلك الرقعة المتصلة من الارض، من البحر الأبيض المتوسط شمالا إلى نهر السنغال جنوبا، فازددت إيمانا بالوحدة، والتقى عقلي بفؤادي ... ولم يعد عندي شك في أن موريتانيا هي امتداد طبيعي للقطر المراكشي.(1/772)
... والواقع انني كنت أتعمق في هذه الأبحاث ليطمئن قلبي، فقد كنت أخشى أن تكون قضية موريتانيا عند الملك محمد الخامس هي قضية ملك فحسب.. وأنا كنت أريدها قضية وحدة، لأمة واحدة ...
... وتوافرت عندي الدلائل أنها قضية وحدة تسندها، وقائع التاريخ، قبل عهد الاحتلال وأثناءه وبعده، وتجاوزت ذلك إلى استنطاق الآثار والأحجار، فقد وقفت عند الأضرحة وكان بينها قبور ملوك المرابطين الذين جاؤا من إحدى ضواحي شنقيط في موريتانيا في القرن الحادي عشر الميلادي..
... فأعددت ملفاتي ؟ وأقلعت بي الطائرة إلى نيويورك، وإلى فندق" باركلي" الذي أصبح داري عبر السنين..
... وكانت قضية التجربة الذرية الإفرنسية هي أولى القضايا، ولم يكن في ملفاتي شيء عنها، إلاّ صورة عن الشكوى المغربية، موجزة بسيطة، كل ما تقوله "أن هذه التجربة تنطوي على خطر يهدد السلامة العامة..".
... أما فرنسا فقد أوفدت السيد "موك" من ساسة فرنسا المعروفين، وهو الخبير الأول لشئون نزع السلاح، وممثل فرنسا في جميع المؤتمرات الدولية التي تعالج هذه القضايا وما يتصل بها..
... وعرض الوفد المغربي شكواه عرضا حسنا، وجلس السيد موك في مقاعد الوفد الإفرنسي وحوله ووراءه العلماء والخبراء، وهو يسخر من الشكوى، وهو يتهيأ للانقضاض على الوفد المغربي بعلمه وخبرته !!
... وكان "موك" قد أعد واستعد، فألقى بيانا ضافيا زاخرا بالاراء العلمية والاحصاءات، وصوته الاجش وافرنسيته الصارخة تسيطر على الوفود، وكانه يقول هل من مبارز؟؟(1/773)
... وكنت أعرف موك من قبل، وسمعته يتحدث في الدورات السابقة.. ولكنه هذه المرة قد" عبأ" نفسه، فإن الشكوى هي ضد فرنسا بالذات، وهذه أول محاولة افرنسية للدخول إلى النادي ـ نادي الدول الذرية..
... ولقد ابتدأ "موك" بيانه بأن الموضوع يتطلب دراسة علمية.. بعيدا عن الشعارات العاطفية التي تسود الجماهير.. وتتعلق بها الدول الحديثة العهد بالاستقلال..
... وكان الخط الرئيسي في مرافعته أن التجارب الذرية لا تحدث ضررا على الصحة الانسانية، وأنّ الإنسان منذ كان وهو" يستحم" في عالم مليء بالإشعاعات الطبيعية، وأنّ الإشعاعات الناتجة عن مجموع التجارب الذرية من عام 1945 إلى 1959 لا تتجاوز الاشعاعات التي يتعرض لها الانسان إذا ارتقى إلى مرتفع بعلو 215 مترا فوق سطح البحر، وان إشعاعات التجربة الإفرنسية لا توازي أكثر من خطوة واحدة.
... وتأجلت الجلسة بضعة ايام، وموك مهيمن على الأمم المتحدة، وكثيرون مأخوذون بحججه العلمية والسياسية، وكان قد طرح سؤالا سياسيا في ختام بيانه: لماذا لا يجوز لفرنسا ما هو جائز لأمريكا ولروسيا، وكلتاهما قامتا بالتجارب الذرية من غير رقابة ولا حساب..
... وحملت بيانه وسارعت إلى غرفتي في الفندق، وكنت أميّا في هذا الموضوع، ولكن العلم لم يكن بعيدا عني.. فقد كانت مكتبة "دبلدي" في نفس مبنى الفندق الذي أنزل فيه، فنزلت من الدورالرابع، ودخلت المكتبة وقلبت الفهرست الضخم عن هذه المكتبة الضخمة، فوجدت المراجع العلمية التي ألفت حديثا عن مضمار الإشعاعات الذرية.. وحملت الكتب إلى غرفتي وأنا(1/774)
أقول لمدير المكتبة: أرسل الفاتورة إلى مكتب الوفد السعودي ... ، فلم يكن لدي وقت لأدفع!!
... وأقفلت غرفتي أياما.. وكنت أطلب طعامي إلى الغرفة، ورحت أعيش الليل والنهار مع علماء الطبيعة والكيمياء المشتغلين في شؤون الذرة، منذ أن ألقيت قنبلة هيروشيما إلى ذلك الحين.. وأعددت بياني "مجهزا بالمقتبسات العلمية والإحصاءات والوقائع..
... وانعقدت الجلسة الثانية، ورفعت يدي أطلب الكلام، و إذا بالسيد "موك" يتراخى بجسمه البدين على مقعده، وهو لا يبالي بهذا السعودي.. وما عسى أن يكون عند الشقيري من كلام في الموضوع، فمن السهل أن يتحدث الشقيري في المواضيع السياسية ومكافحة الاستعمار.. أما "الذرة" فهذه وقف على علماء الدول العظمى..
... وتناولت في صدر بياني هذه المسألة بالذات، وقلت ان احتكار العلم حتى في شئون الذرة قد أصبح أمرا مستحيلا، وإنّ علماء الذرة أنفسهم قد هتكوا أسرار الذرة.. وسردت طائفة طويلة من المراجع العلمية التي اعتمدتها، وبينها علماء الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وبريطانيا وفرنسا، وفي مقدمتها تقرير قد أعدته لجنة فنية اختارتها الأمم المتحدة، تضم طائفة من العلماء المعروفين..
... ووضعت هذه الكتب أمامي، وفيها قصاصات من الورق تدل على المقتبسات الهامة- تماما كما كنت أفعل في مرافعاتي أمام القضاء البريطاني في فلسطين..(1/775)
... و أخذت أسرد الحجج واحدة بواحدة أثبت فيها الأضرار الخطيرة التي تلحق بصحة "الإنسان" نتيجة للإشعاعات الذرية.. وكنت أتنقل في مقتبساتي من العالم الأمريكي إلى العالم البريطاني ومنهما إلى العالم الروسي والعالم الافرنسي.. وكلهم يدينون التجارب الذرية ويطالبون بوقفها..
... وكان السيد "موك" قد بدأ يتحرك من "تراخيه"، وأخذ يتململ وهو يرى أني قذفت في وجهه هذا الحشد العلمي، فرأيت أن ألقي بتلك الجثة الضخمة في مهاوي الهزء والسخرية.. وخاصة أن كلمة "موك" في إنجليزية معناها الهزء والسخرية..
... فصحت في وجهه وقلت: لقد طلبت أن يكون الحديث علميا.. فها قد جئتك بعلم العلماء.. وها قد وضح الآن" أن السيد" "سخرية" قد ألحق السخرية بنفسه وبالعلم وبفرنسا، واجتاحت القاعة موجة من الهرج والمرج، والوفود بين شامت بهذا "الصنم" الذي هوى، أو مشفق على "إله" نزع السلاح، وقد وقع في شباك تناقضاته..
... وثار السيد "سخرية" وطلب الكلام ليتحدث مرة ثانية، ولكن ماذا يقول: ميدان العلم قد استنفد، ولم يبق إلاّ أن يتحدث فيما نهى عنه، الميدان العاطفي وراح السيد "سخرية" بلهجة عاطفية يتحدث أنه والد اثنين، أحدهما سقط قتيلا في المقاومة الإفرنسية للاحتلال النازي، وثانيهما عالم شاب كرس مواهبه للعلم..، وإنه يعلن بامانه العلم، وإخلاص الوالد أن التجربة الذرية لا تحمل أي خطر أو ضرر وخاصة أن القنبلة الإفرنسية من النوع الصغير..
... ورأيت أن أجهز على السيد "سخرية" حتى في الميدان العاطفي، فأعربت عن حزني لفقد ولده في المقاومة الوطنية، وأعلنت أن ولده هو ابننا(1/776)
جميعا، لأن الكفاح التحريري هو ملك الانسانية، ومن يسقط في ميدانه فهو ابن الانسانية، وأردفت بعد ذلك أن إعزازنا لولده يدفعنا لأن نعز أبناء البشرية جميعا فنمنع عنهم أخطار الإشعاعات الذرية، ومضيت أقتبس أقوال العلماء في خطر الإشعاعات الذرية حتى على الأجنّة في البطون.. وقلت للسيد سخرية "ان التفجيرات الذرية خطر على الأجيال الحاضرة، والأجيال المقبلة، وهي حرب على الانسانية في زمن السلم، وفناء في زمن الحرب، ولكن السيد "سخرية" يجعل من عواطفنا سخرية"..
... وكانت هذه الإشارة الاخيرة، آخر جولة في هذه المصارعة الذرية، بين "الأميّ الفلسطيني- السعودي- الآسيوي الافريقي".. وبين الخبير العالم، طليعة الفكر في العالم الحر!!
... وأحسست أني بالغت بالجرح والإيلام، حين رأيت السيد "موك" وقد أغمض جفينه في محاولة أخيرة للتجلد وعدم المبالاة، فكان لا بد من كلمة أخيرة أرضي فيها الجنرال ديغول قائد فرنسا العظيم..
... وتحدثت عن المتاعب الاقتصادية التي تعانيها فرنسا، وأنّ الدخول إلى ميدان الاسلحة الذرية غالي الثمن باهظ التكاليف، ولكن ما الحيلة وما العمل، وفرنسا على رأسها رجل عظيم، طموحه فوق طاقات شعبه، وهذا ما يدفع الجنرال أن يجعل فرنسا دولة ذرية، وليكن ذلك ما يكون..
... وختمت بياني بمناشدة الدول الأعضاء أن يصوتوا جميعا إلى جانب الشكوى المغربية وأن تستنكف فرنسا.. عن هذه التجربة الخطرة القذرة..(1/777)
... وكان للمغرب ما أراد.. وكان لفرنسا ما ارادت، كل في ميدانه.. فاز القرار المغربي بالأكثرية المطلوبة في الأمم المتحدة.. وفجرت فرنسا تجربتها الذرية في الصحراء الافريقية..
... وخرّ الحق والعدل، والعلم والمنطق- كل ذلك خرّ صريعا أمام القوة. وسجلت الأمم المتحدة على نفسها أنها ندوة خطابية، ليس لها جلال الجامعة وقدسية المعاهد. لأن خطباءها ساسة لا علماء..
... وجاءت القضية الموريتانية في العام التالي في خريف 1960، فقد مضت دورة 1959 وفرنسا تطبخ الاستفتاء تمهيداً للإسقلال على أساس الإنفصال. وذهبنا إلى بلادنا وعدنا إلى نيويورك في خريف 1960، وجاء الأمير مولاي الحسن رئيسا للوفد المغربي وأمامه وفد جمهورية موريتانيا الإسلامية، وأنا أبحث طريقي للدفاع عن وحدة" التراب" المغربي..
... وافتتحت المناقشة في قضية موريتانيا، وانبرى المندوب الإفرنسي يقدم إلى الأمم المتحدة" جمهورية موريتانيا الإسلامية" ويشيد بما فعلت فرنسا حتى هيأت موريتانيا للاستقلال، ثم راح يسوق الدليل تلو الدليل، أن الدولة المغربية لا حق لها بالمطالبة بموريتانيا، وأن ذلك هو مظهر من مظاهر الحركة العربية" الاستعمارية" التوسعية، محذرا الدول الإفريقية من أن تخدعها شعارات الوحدة..
... وقال المندوب الإفرنسي هذا الكلام، وكأنما أصاب مواضع الآلام في كل جوارحي، ... فإن كل ما لحق بالأمة العربية من كوارث، وما وقعت فيه من مشاكل سببه فقدان الوحدة، ذلك ما أؤمن به بعقلي وفؤادي. وعرضت القضية الموريتانية من أولها لآخرها..(1/778)
... تحدثت عن مكان موريتانيا في تاريخ الكفاح المغربي ضد فرنسا، وذكرت على وجه التخصيص أن المعركة الدامية التي وقعت في الدار البيضاء في عام 1911 كانت معركة المغرب كله بما فيه موريتانيا، وكيف أن ابطال موريتانيا قد سقطوا في تلك المعركة دفاعا عن دولتهم" المغرب"، ويتحدثت عن القبائل العربية، شطرها في موريتانيا في الجنوب، وشطرها الآخر في المغرب في الشمال، وأنّ اسم موريتانيا تسمية جديدة استحدثها الافرنسيون، وأنها بالنسبة إلى المغرب، مثل مقاطعة نورمندي بالنسبة إلى فرنسا..
... وتحدثت عن مقومات الوحدة بين الشمال والجنوب، وأن الجيش المغربي يضم نخبة من خيرة شباب موريتانيا، وأن بن عمير، وهو موريتاني، هو وزير دولة في حكومة المغرب، وأنّ سفير المغرب في ليبيا هو من أبناء موريتانيا، وكان عضوا في المجلس الوطني عن موريتانيا!!
... وأسهبت في الحديث عن الوحدة شارحا للوفود الافريقية، أن القضية ليست نزاعا بين العرب والعرب، كما تصور فرنسا، وأنّ الوحدة العربية ليست حركة توسعية عدوانية، ولكنها تستهدف مقاومة التمزيق والتجزئة، وأن الوحدة ليست نظاما جديدا وابتداعا حديثا ولكنها عودة إلى الاصل، وأن القضية في مجموعها هي نزاع بين العرب من جانب، وفرنسا من جانب آخر..
... وختمت بياني مشيرا إلى أن فرنسا قد جعلت من "الاستقلال" مبررا للانفصال، وأعطت لهذا "الاستقلال "اسما براقا "جمهورية موريتانيا الإسلامية" وهي تريد بهذا أن تخادع الاسلام والمسلمين.. ولكن هذه الخدع(1/779)
الدينية لا تنطلي على المسلمين، فقد سبق لنابليون أن أعلن إسلامه في القاهرة وأنه حامي الإسلام، ولم يبق إلاّ أن يعلن نفسه خليفة من خلفاء المسلمين..
... وتبعتني الوفود العربية في الكلام، وبعدها عدد من الوفود الصديقة، ولكن "الاستقلال" في موريتانيا كان قد بني على أرض موريتانيا وقامت حكومة موريتانية، وجاء وفدها إلى الأمم المتحدة ليثبت وجوده..
... ولم يفلح الطلب المغربي، فقد قبلت موريتانيا عضوا في الأمم المتحدة، واعترفت بها الدول الأعضاء تباعا، وتوالت بعد ذلك الاعترافات العربية..
... ولقيني في تلك الأثناء السيد يوثانت "الأمين العام للأمم المتحدة" وقال لي:
- لقد ذكرتني بالرهبان البوذيين في بلادنا وأنت تخطب اليوم..
... قلت له: وكيف ذلك؟
... قال: لقد كنت تتحدث عن الوحدة حديث العابد في معبده..
... قلت له: نعم يا صديقي، الوحدة عندي عبادة.. نحن شعب فلسطين ضحية سبب واحد.. إنه فقدان الوحدة. وإن التجزئة أشدّ بلاء من الاحتلال..
... وبينما نحن في هذا الحديث مر بنا الأمير الحسن ولي عهد المغرب فسرت معه إلى الفندق، ثم ذهبت معه إلى المطار لأودعه، واستذكرنا الحديث الذي كان بيننا في الدار البيضاء.. وقلت له:
... - لقد أحسنت يا سيدي الأمير، ان خطابك عن موريتانيا كان في غاية الإيجاز، فإن الوحدة تبنى في الوطن لا في الأمم المتحدة..
... قال لي مداعبا: ولماذا لم تكن موجزا في خطابك؟؟(1/780)
... قلت له مداعبا: أنا محام وهذه صنعتي، لقد قمت بواجبي في الأمم المتحدة، وإن واجبكم ينتظركم في الوطن..
... وافترقنا على هذه المداعبات، ولكن الوحدة.. الوحدة في الوطن العربي كله كانت تتفجع وتتوجع..
... ومر عامان على هذه الأحداث، ولقيت السيد مختار ولد داده رئيس الجمهورية الموريتانية في القاهرة، واجتمعت به غير مرة.. وكان بيننا عتاب لطيف رقيق.. ولقيت سفراء موريتانيا في عدد من العواصم العربية فكانوا يهشون ويبشون..
... والحق أنهم جميعا، رئيسا ووزراء وسفراء، تحملوا "حملتي" بروح رياضية، بل لعلهم أيقنوا، وهم أبناء الجمهورية الإسلامية، أن الوحدانية ديني، وأن الوحدة عقيدتي..
اللهم أكمل علينا وحدانيتنا بوحدتنا..(1/781)
رؤساء وحذاء!
... كانت دورة فريدة حقا في خريف 1960 حين انعقدت الأمم المتحدة في نيويورك، ووفود الدول الأعضاء يرئسها رؤساء الدول ورؤساء حكومات الكتل العالمية الثلاث، الغربية، والشرقية، واللامنحازة..
... وكان في مقدمة هؤلاء جميعا الرئيس ايزنهاور، والسير هارولد مكميلان رئيس وزراء بريطانيا من العالم الغربي، والسيد خروشوف وعدد من رؤساء الدول الإشتراكية ومعهم السيد كاسترو من العالم الشيوعي، والسادة جمال عبد الناصر ونهرو وتيتو وسوكارنو من كتلة عدم الانحياز..
... وانعقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة على مستوى القمة، فكانت قمة في الجد وفي الطرافة على السواء.. ووقعت أحداث أصبحت جزءا من تاريخ الأمم المتحدة..
... فقد تبادل ايزنهاور وخروشوف أناشيد السلام، وعبارات الود والوئام.. وبحث كاسترو عن فندق يبيت فيه..
وتحدث عبد الناصر باللغة العربية..
... ودخلت في حوار متعدد الجبهات مع ايزنهاور ومكميلان ونيكسون وكندي ونكروما..
... وألغيت موعدي مع الملك حسين..(1/782)
... وأخيرا لوح خروشوف بحذائه إلى الأمم المتحدة ووضعه على طاولته..
... فكيف لا تكون الدورة قمة في الجد والطرافة على السواء؟
... افتتح المناقشة العامة الرئيس ايزنهاور بخطاب تحدث فيه عن أهوال الحرب الذرية، وأعرب عن تمنياته في أن يتحقق السلام للبشرية، وأن تقوم العلاقات الدولية على أساس الحق والعدل. وكانت سنة انتخابات في الولايات المتحدة، وكان كل من نيكسون وكندي يتبارى في نيويورك على تأييد إسرائيل بالمال والسلاح..
... وتحدث الرئيس السوفياتي خروشوف عن طائرات التجسس الأمريكية التي تقوم بمهمات استطلاعية في الأراضي الروسية ودعا أمريكا إلى التعايش السلمي والتخلي عن خططها العدوانية. وتحدث الرئيس اليوغسلافي تيتو عن مفهوم الحياد الايجابي شارحا القرارات التي اتخذتها الدول غير المنحازة في مؤتمر بلغراد..
... وتحدث الرئيس العربي عبد الناصر فتناول القضايا الدولية وأزمة الثقة بين الشرق والغرب، و استعرض القضايا العربية وفي مقدمتها قضية فلسطين..
... وتحدث الرئيس الهندي نهرو عن المشاكل الآسيوية الإفريقية وكانت تبدو عليه أثقال النضال وأعباء الاستقلال..
... وتحدث الرئيس الاندونيسي سوكارنو عن مشاكل الاستعمار وحظر التجارب الذرية..(1/783)
... وتحدث الرئيس الغاني الدكتور نكروما عن الوحدة الإفريقية ودعا الدول العربية، إلى التقيد بالسياسة الواقعية مع إسرائيل والاتفاق معها في معاهدة عدم اعتداء..
... وتحدث الرئيس الكوبي أربع ساعات من غير كلل ولا ملل عن إنجازات الثورة الكوبية، والمؤامرات الأمريكية ضد كوبا، مشيرا في سخرية لاذعة أنه كاد أن ينصب خيمة في حدائق الأمم المتحدة لينام فيها وأعضاء وفده، بعد أن رفضت الفنادق الأمريكية قبولهم فيها..
... وتحدث الملك حسين عن المؤامرات والاغتيالات التي تدبر من الخارج على الأردن، وكان السيد هزاع المجالي رئيس وزارته مع بضعة عشر من رجال الدولة قد لقوا مصرعهم في انفجار وقع في رئاسة مجلس الوزراء، فجاء الملك حسين إلى الأمم المتحدة وهو يصيح يا لثارات العرب.. ولهذا الأمر حكاية تأتي..
... وعاد الرئيس السوفياتي إلى الكلام مرة بعد مرة، وكان في خطبه المرتجلة خيرا منه في الخطب المكتوبة. تهدد وتوعد، وأنذر الغرب بالفناء والدمار إذا قام بأية محاولة للعدوان على روسيا وحليفاتها، وحين قام أحد الوزراء "الصغار" من الدول الغربية يجادل خروشوف، خلع الرئيس السوفيتي حذاءه من قدمه ولوح به في وجه الأمم المتحدة وضرب به المائدة أمامه وسط عاصفة من الهرج والمرج، لم تشهد الأمم المتحدة مثيلا لها..
... وكانت مقاعد الوفد السعودي خلف مقاعد الوفد الروسي مباشرة، فنهضت من مقعدي إلى الرئيس خروشوف وصافحته، وكان حذاؤه لا يزال(1/784)
على الطاولة أمامه، وأوداجه تهتز بالغضب، وتبادلنا التحية وعدت إلى مقعدي، ولا يزال الحذاء ناشرا خيوطه على الطاولة!
... وأصبح حذاء خروشوف قصة الأمم المتحدة ونزل كحادث مثير في تاريخ العلاقات الدولية، والواقع أنه حادث غير مألوف لا يتفق مع أدب الاجتماعات، ولكني أحسب أنه جاء قمة في الغضب الروسي، وقد انقضى على الأمم المتحدة يومذاك خمسة عشر عاما، كانت الدول الشيوعية الخمس تجد نفسها على الدوام مطوقة باكثرية غربية طاغية في جميع البنود المدرجة في جدول أعمال الأمم المتحدة.. فما من تصويت يجري إلاّ والدول الشيوعية (منبوذة) في أقلية صغيرة. والمعسكر الغربي يتباهى بأكثرية المتكاثرة.. ولم يعد أمام خروشوف بعد تلك التجربة الطويلة، وقد رأى " عملية" التكاثر تلتف حوله لتطوقه، إلاّ أن يقول للأمم المتحدة: هذا هو حذائي..
اخطبوا ما شئتم، وقرروا ما شئتم!!
... ولقد كان أسلوبا نابيا من غير شك.. ولكن المعسكر الغربي الذي يعتمد في الأمم المتحدة على الكثرة والكثرة فحسب، كان مستحقا للتأديب بأسلوب غير أديب..
... ولئن كان حذاء خروشوف قصة دولية، فقد كان لي مع الملك حسين قصة عربية في صميم شؤوننا العربية..
... كان اجتماع الأمم المتحدة في ذلك العام- 1960- مؤتمر قمة في مظهره وجوهره، وكانت الوفود العربية تتطلع إلى تحقيق مكاسب كبرى في ذلك التجمع الدولي الكبير بالنسبة إلى قضية فلسطين، وإلى قضية الجزائر(1/785)
وهذه كانت في ذروة تحركها على الصعيدين السياسي والنضالي.. وكنا حريصين أن يتجلى التضامن العربي بين الوفود العربية وأن نترك خلافاتنا وراءنا في الوطن العربي..
... ووقع قبيل انعقاد الأمم المتحدة حادث الانفجار في مبنى رئاسة الوزراء في عمان وراح ضحيته السيد هزاع المجالي رئيس الوزراء.. ووصلت إلينا الأنباء أن الملك حسين قادم إلى الأمم المتحدة لينشر الغسيل العربي على حبال الأمم المتحدة، وليتفرج من أراد أن يتفرج!
... ووصل الملك حسين إلى نيويورك ونزل في فندق وولدوف استوريا وأحاط به الصحفيون، والمراسلون المعروفون بحقدهم على القضية العربية، وراحوا ينشرون تصريحات الملك الأردني بالتهديد والوعيد.. وكان الموقف صعبا ومحزنا للذين تعيش القضية العربية في اعماق قلوبهم..
... وتحدثت إلى الرئيس عبد الناصر ونحن في قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة عن خطورة الموقف، واقترحت أن أجتمع بالملك حسين وأقنعه أن لا يتعرض في خطابه للخلافات العربية، وأن أرتب اجتماعا بينه وبين الملك حسين، فوافق الرئيس عبد الناصر على ذلك..
... ورحت من جانبي أتصل بالوفد الأردني.. فاجتمعت بالوزراء السادة بهجت التلهوني وهاشم الجيوسي وعبد المنعم الرفاعي وغيرهم، ورجوتهم أن يحملوا الملك حسين على أن لا يلقي خطابا مثيرا.. وأن نترك أمور الوطن في الوطن.. ورجوتهم أن يهيئوا لي موعدا لمقابلة الملك والتحدث إليه في الموضوع..(1/786)
... ومضى يومان دون أن يتحدد الموعد. وفي صباح الويم الثالث اتصل بي الوفد الأردني ليخبرني أن الموعد مع جلالته" غدا" ظهرا، وعلى الغداء..
... فسررت لهذه البادرة، وقلت في نفسي لعل الله يهدي العرب في المهجر بعد أن ضلوا في الوطن.. ولكن سروري لم يدم طويلا.. فدق جاء الملك حسين إلى الجمعية العامة وألقى خطابه الموعود.. فإذا به إدانة وانذار وتهديد، من غير أسماء، ولكن كان واضحا أن الملك حسين كان يشير إلى الجمهورية العربية المتحدة وإلى الرئيس جمال عبد الناصر..
... وكان الرئيس عبد الناصر يستمع إلى خطاب الملك حسين.. ولكن بالتلفزيون من مكتب الوفد المصري. وفد أخبرني أن" العدسة" كانت تنتقل من الملك حسين إلى مقعدي في الوفد السعودي لتسجل للملك إشاراته ونبراته، وتسجلّ لي حركاتي وانطباعاتي..
... وفرغ الملك حسين من خطابه، والوفود المعادية شامتة، والصديقة مشفقة، ونهض آخر عضو على قائمة الوفد المصري، مبالغة في النكاية والزراية، فرد على خطاب الملك حسين وفند كلامه تهمة تهمة، دون أن يشير إلى اسمه.. وللجمهورية العربية المتحدة براعة وخبرة في الرزاية حينما تريد..
... وأصبح لقائي بالملك حسين "غدا" وعلى الغداء غير ذي موضوع فقلت لمدير مكتبي:
... - اذهب إلى السيد بهجت التلهوني وقل له انني ألغيت موعدي مع الملك حسين.. فذهب إلى السيد التلهوني وأبلغه الرسالة. وعاد الملك حسين إلى عمان ولم يكن في وداعه أحد من العرب إلاّ الوفد الأردني..(1/787)
وكان عليّ بعد أن صفيت حسابي مع الملك حسين، أن أصفي حسابي الكبير مع المجموعة التي تصدت للقضية العربية ولقضية فلسطين، ايزنهاور وكندي ونيكسون مكميلان ونكروما.
وأحسب أن خير ما أستطيع أن أسجله في مذكراتي عن حواري مع هؤلاء الأقطاب، أن أثبت ردودي الرئيسية عليهم مترجمة إلى اللغة العربية، فإنها تلقي الضوء على الأجواء التي أحاطت بتلك "القمة التاريخية". :
... " ان مؤتمر القمة الذي تشهده الأمم المتحدة في دورتها الحاضرة، بمن توافد إليها من الرؤساء، يهيئ فرصة فريدة لعرض القضية الفلسطينية من بعض جوانبها الهامة، وخاصة أن حملة التضليل الكبرى التي تقوم بها الصهيونية العالمية قد نشطت من حولكم نشاطا ملحوظا..
... "ومما تجدر الإشارة إليه أن عددا من الشعوب المستعبدة قد بلغت حريتها واستقلالها، وشقت طريقها إلى الأمم المتحدة، وبهذا تضاعف عدد أعضائها، وبعد أن كانت مؤلفة من خمسين عضوا فقط أصبح عدد الأعضاء مئة دولة (1) ، وبهذا فإن الأمم المتحدة التي أنزلت بنا الظلم الفادح في عام 1947 لم تعد قائمة الآن.. ان الكثرة أصبحت الآن للدول الآسيوية الافريقية، وهذه باتت مصممة لا على إزالة الظلم فحسب ولكن على إقرار العدل والحق..
... " ولقد استمتعتم إلى خطاب السيد ماكميلان رئيس الوزراء البريطاني وهو يتحدث عن الحق والسلام والعدل، بالنسبة إلى القضايا العالمية وإلى قضية الشرق الاوسط، ولقد نسي السيد ماكميلان أن السياسة البريطانية هي
__________
(1) * العدد اليوم (191) دولة .(1/788)
التي كانت السبب المباشر في كارثة فلسطين وتشريد شعبها، ونحن لا نعود الآن إلى اعماق التاريخ لنسأل السيد ماكميلان، من الذي أصدر وعد بلفور عام 1917، بإقامة وطن لليهود في فلسطين؟ ومن الذي وضع فلسطين خلال ثلاثين عاما في ظروف هيأت لقيام إسرائيل؟. ولكننا نريد أن نسأل رئيس وزراء بريطانيا، وهو يتحدث عن الحق والعدل؟، أين هو الشعب الفلسطيني الذي تعهدتم بحمايته وصيانة حقوقه السياسية والدينية؟ و إذا كان السيد ماكميلان لا يريد أن يخبركم فأنا أخبركم.. ان شعب فلسطين يعيش في الخيام بعيدا عن مدنه وقراه، وعن وطن آبائه وأجداده..
... "وكذلك فإني لا أريد أن أضع عرضا كاملا للقضية الفلسطينية أمام الرئيس الغاني الدكتور نكروما، ويكفيني أن اؤكد لفخامته أن قضية فلسطين هي قضية شعب يريد أن يعيش بسلام وكرامة وسيادة في وطنه، تماما كما يعيش الشعب الغاني بكرامة وسلام وسيادة في وطنه، تحت قيادة زعيمه البطل نكروما..
... " ولست أريد أن ألفت انتباه الدكتور نكروما إلى ميثاق الأمم المتحدة الذي ينص على تقرير المصير للشعوب كبيرها وصغيرها، ولا إلى قرارات الأمم المتحدة التي تؤيد حق اللاجئين بالعودة إلى ديارهم، ولا إلى إعلان حقوق الانسان الذي يؤكد حق المواطن في العودة إلى وطنه متى شاء، ولكني سأقصر حديثي إلى الدكتور نكروما على الجانب الواقعي الإنساني الذي يدركه كل إنسان، من المستوى الأعلى حتى رجل الشارع.(1/789)
... " هذه قضية شعب عاش في وطنه عصورا متطاولة في القدم وأصبحت فلسطين وطنه منذ فجر التاريخ فأحبها حب العبادة، وعبدها عبادة الحب، وأضاف إلى قداستها قداسة التضحية والفداء..
... " ولقد عاش هذا الشعب حياته في وطنه، فبنى مساجده وكنائسه ومعابده، وأنشأ مدنه وقراه، وأقام مصانعه وزراعته، وفي هذا الوطن ترعرت آمال هذا الشعب وأمانيه، فتغنى بأمجاده وبكى لهزائمه وغنى لأفراحه وترنم في صلواته، وعلى الجملة فقد ساهم هذا الشعب في صنع التاريخ الإنساني حين لم تكن كثير من الأقطار في سجل التاريخ..
... " وليعلم الدكتور نكروما أن هذا الشعب يعيش الآن عامه العاشر في الخيام وهو يرى على مرمى البصر الآلاف من المهاجرين اليهود يحتلون منازله، ويصادرون مزارعه ويستولون على مدنه وقراه، ويضعون أيديهم على كنوز من ثرواته التي جمعها بالجهد والعرق عبر الأجيال والأجيال.
... " و إذا كان الدكتور نكروما قد تحدث عن الحالة الواقعية، فهذه هي الحالة الواقعية التي تستأثر بالعقول والقلوب، ولست أحسب أن بينكم رجلا يتمتع بضمير نقي يستطيع أن ينكر على اللاجئين حقهم في العودة إلى وطنهم.
... " ولا شك أن كثيرا منكم يدرك، ما معنى أن يكون الإنسان لاجئا، فقد كان الكثير منكم في عداد اللاجئين شريدا طريدا، يقاسي وحشة الغربة وآلام الحرمان بعيدا عن الوطن.. واللجوء ينطوي على مشاعر عميقة، إنه الحنين الملتهب إلى الوطن، إنه العداء الإنساني المشروع لكل من يقف في طريق(1/790)
العودة، إنه الحرب المقدسة في سبيل تحرير الوطن وتحطيم الحواجز التي تحول دون الرجوع إلى الوطن..
... وقد أشار الدكتور نكروما إلى ميثاق عدم الاعتداء بين الدول العربية وإسرائيل، وقد فات الدكتور نكروما أن قضية فلسطين هي قضية شعب فلسطين.. صحيح أن الدول العربية تؤيد القضية الفلسطينية، ولكن المشكلة أولاً وآخرا تتعلق بشعب فلسطين، إنه صاحبها وسيدها، وصاحب الكلمةالأولى فيها..
... " وأود أن أذكر الدكتور نكروما أن شعب فلسطين ليس قطيعا من الماشية يقاد إلى المراعي من غير إرادة، ان شعب فلسطين عريق ولا يمكن أن تتجاهلوا إرادته بهذه السهولة. لقد ساهم شعب فلسطين في بناء الحضارة العربية التي كانت قاعدة من قواعد الحضارة الانسانية.. ولقد هام هذا الشعب بنضاله الوطني ضد الاستعمار قبل أن تقف كثير من الشعوب الممثلة في الأمم المتحدة على قدميها..
... " وليسمح لي الدكتور نكروما أن أذكر له أن نضال الشعب الفلسطيني قد شمل الصعيد العالمي، فقد بعث بوفوده إلى مختلف أنحاء العالم لبسط ظلامته وشرح قضيته، وكانت له وفود إلى لندن وجنيف في عهد عصبة الأمم، وكانت له وفود إلى نيويورك في عهد الأمم المتحدة، وفي كثير من قرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن وجهت المنظمة العالمية إلى شعب فلسطين النداءات والطلبات.. ولو سألت المستر ماكميلان لأنبأك أن شعب فلسطين كافح الاستعمار البريطاني خلال ثلاثين عاما بكل شجاعة وبسالة.(1/791)
... " هذه هي قضية فلسطين في بساطتها العذراء، إنها قضية شعب يريد أن يعيش في وطنه كما تعيشون، وان يقيم في مدنه وقراه كما أنتم تقيمون، وأن يمارس الحياة القومية كما تمارسون، ويتعبد في معابده كما تتعبدون. ليحذر كائن من كان أن يقف على هذا المنبر وينكر على الشعب الفلسطيني حقه في الوجود وحقه في العيش في وطنه، وليصمت من لا يستطيع أن يتكلم بالحق والعدل..
... " ولقد تحدث الرئيس نكروما ووفود من المعسكر الغربي عن سيادة إسرائيل وحقها في أن تمنع من تشاء من دخول أراضيها، وعن أمن إسرائيل وما يقضيه ذلك من عدم السماح لمن تشاء من دخول بلادها.
... " وبالنسبة إلى اللاجئين فإن هذا الحديث باطل، وليس له أساس في مبادئ القانون الدولي ولا في ميثاق الأمم المتحدة.. ان اللاجئين فد وجدوا في وطنهم قبل وجود سيادتها.. وقد تمارس السيادة في منع الأجانب والغرباء، ولكن لا سيادة على أهل البلاد..
... " ومثل ذلك حكاية الأمن.. ان حق الفلسطينيين في وطنهم لا تحجبه دواعي الأمن لإسرائيل.. فإن "الدولة" التي لا يتوافر لها الأمن إلاّ بطرد المواطنين الاصليين، ليست لها مقومات الدولة ولا تتمتع بأخلاقيات الدولة، وليست مؤهلة بأن تكون دولة من هذه الدول التي تحتل مكانها في الأمم المتحدة..
... "أمّا الرئيس ايزنهاور فقد تناول موضوعا يكشف عن مقارنة مفجعة بالنسبة إلى قضية فلسطين، لقد تحدث الرئيس ايزنهاور عن قضية الطيارين الامريكيين الاثنين اللذين سقطا بطيارتهما في أراضي الإتحاد السوفيتي في(1/792)
شهر تموز الفائت.. ولقد اعتبر الرئيس ايزنهاور هذا الحادث بأنه مبعث قلق للشعب الأمريكي وللشعوب الأخرى المحبة للسلام.
... " ولكن ما هو هذا الحادث "الرهيب"؟ انه ببساطة حادث تجسس قامت به الولايات المتحدة على المنشآت العسكرية الروسية، ولقد أطلق الإتحاد السوفيتي النار على الطائرة الأمريكية فسقطت، ووقع الطياران الامريكيان أسيرين في يد الإتحاد السوفيتي. فإذا كان الرئيس ايزنهاور اختار أن يأتي إلى الأمم المتحدة ليعرب عن قلق أمريكا والعالم الغربي لهذا الحدث "الخطير" فماذا تقول الأمة العربية وهي ترى الشعب الفلسطيني يقتلع من وطن آبائه وأجداده ثم يطالبه بعد هذا أن يواجه الأمر الواقع؟
... "وان الأمر الواقع لا يمكن قبوله من غير تحقيق دقيق. إذا كان الأمر الواقع قائما على الباطل فلا يمكن قبوله، وان شعار الأمر الواقع، هو في الواقع شعار استعماري نابع من "فلسفة" الاستعمار الغربي، وقد تسلل إلى أذهاننا وأحاديثنا في غفلة عن مخاطره ومعانيه!
... " ان على الدول الصغيرة أن لا تخدع بمثل هذه الشعارات.. ان العدوان يمكن أن يصبح واقعا سياسيا، وحقيقة قائمة.. ان خرق حقوق الانسان، أن انتهاك الحريات الاساسية، بل ان الاستعمار نفسه، كل ذلك يمكن أن يصبح واقعا سياسيا وحقيقة قائمة، فهل علينا أن نقبل بالأمر الواقع، كما أراد لنا الدكتور نكروما والرئيس ايزنهاور، وهل علينا أن نقبل انتهاك الحق والعدل، وأن نخضع للاستعمار وأن نرضى بالعدوان تطبيقا لسياسة الأمر الواقع؟(1/793)
... " ومن غير هذا المنبر تصدى السيدان نيكسون وكنيدي على المنابر الأمريكية للقضية الفلسطينية، فلقد دعا هذان السيدان وهما يتنافسان في حملة الانتخابات لرئاسة الولايات المتحدة إلى تأييد إسرائيل بالمال والسلاح، وقد بدا لنا أن هذه الانتخابات هي انتخابات إسرائيلية وليست أمريكية، كما بدا لنا أن السيدين نيكسون وكنيدي يخطبان في تل أبيب لا في نيويورك، وان أمريكا قد أصبحت هي إسرائيل الكبرى.. وفي هذه الحملة الانتخابية أعرب المرشحان الفاضلان، كنيدي ونيكسون، عن برامجهما السياسية في الشؤون الخارجية، وقد كانا مختلفين في كل شيء.. ولكنهما اتفقا على شيء واحد: تأييدهما لإسرائيل من غير تحفظ.
... " لقد أعلنا أن إسرائيل موجودة في الشرق الأوسط لتبقى.. وإن لنا أن نسأل هل إسرائيل تبقى لتعتدي على شعب فلسطين وعلى الأمة العربية؟ وهل لإسرائيل أن تبقى من غير مبالاة بالأمة العربية بأسرها، وما تملك من مواقع استراتيجية وثروات ضخمة وإمكانات هائلة..
... بل ان لنا أن نسأل الولايات المتحدة، إلى متى هذا الحديث عن إسرائيل كأنما هي الدنيا بأسرها؟ وهل علينا أن نغسل أيدينا من الولايات المتحدة وإلى الابد. ومن العدالة الدولية وإلى أبد الآبدين.
... " وها أنتم تبحثون الآن أزمة الشرق الاوسط، ثم تتساءلون عن حل لهذه الأزمة يعيد إلى الشرق الأوسط أمنه وسلامته.. وأحبّ أن أقولها لكم بكل صراحة ووضوح.. لا سلام مع الأمر الواقع.. و إذا كان الأمر الواقع هو نقطة البداية في الحلول التي تفكرون بها، فلن تكون هنالك حلول، ولن يكون هنالك سلام.. لأن الأمر الواقع هو سبب الأزمة التي تشكون منها.(1/794)
والتي اجتمعتم من أجلها، ومن أجلها جاء الرئيس ايزنهاور ليعرض المشكلة على منبر الأمم المتحدة..
... " وإن الخيار أمامكم واحد من اثنين لا ثالث لهما. لن يكون هناك تعايش مع العدوان، ولا تعايش مع الصهيونية، إننا لا نريد أن نلقي اليهود بالبحر، ولكننا لمن نرضى أن يظل اللاجئون في الخيام في الصحراء.. وأن تظل إسرائيل الدولة في وطننا، ليس لإسرائيل الدولة مكان في الشرق الأوسط..
... " ان مفتاح الأزمة، هو في العودة، عودة أبناء فلسطين إلى فلسطين، وعودة اليهود إلى مواطنهم الأولى.
... " وإن السلام القائم على العدل كما دعا إليه الرئيس ايزنهاور لا يتحقق إلاّ بهذا، وبغير هذا لا يتحقق.." ...
... كانت هذه ردودي في مجملها على أقطاب المعسكر الغربي.. وعلى الدكتور تكروما الذي وقع في الفخ الصهيوني عن علم أو غير علم..
... وقد تناولتني الصحافة الغربية كعادتها بالتهجم والسخرية، وأشارت لمناسبة انتقادي للرئيس ايزنهاور وماكميلان، والمرشحين كنيدي ونيكسون، أنني وضعت نفسي في" حذاء" خروشوف.. وقد فاتهم أن دورة القمة بأسرها قد أدرجها التاريخ في لحده، ولم يبق منها إلا حذاء خروشوف..
... وفي الزيارة التقليدية التي تقوم بها الوفود إلى المستر داج همرشلد قبل عودتها إلى بلادها قلت للأمين العام للأمم المتحدة وأنا أودعه: لقد باء مؤتمر القمة بالفشل، بل انه كان قمة الفشل، وكنت أتمنى لو أن هذه الدورة انتهت إلى" حصيلة" واحدة..(1/795)
... قال المستر همرشلد: وما هي؟ لعلنا نستطيع أن نعمل على تنفيذها..
... قلت: ليت الجمعية العامة تقيم متحفا عالميا..
... قال: من أجل ماذا؟
... قلت: نقيم متحفا نضع فيه حذاء المستر خروشوف ومعه ميثاق الأمم المتحدة.. فاكفهر المستر همرشلد، واحمر واصفر، وكان آخر اجتماعي به، فقد لقي مصرعه العام التالي على أرض الكونغو كما لقي مواطنه الكونت برنادوت مصرعه في شوارع بيت المقدس..
... وهوى مؤتمر القمة للأمم المتحدة إلى القاع، قاع التاريخ..
...(1/796)
مع الغرب والشرق(1/797)
حوار السنين مع..
ملك بريطانيا ووزرائه..
والرئيس ترومان وحلفائه
... نشأت منذ نشأت محبا للإنجليز، مفتونا بتقاليدهم معجبا بأخلاقهم... ثم كبرت وأصبحت مبغضا لهم، ناقما عليهم، كارها لتصرفاتهم في الحق والباطل، وكبرت عداواتي لهم، وحملتها معي إلى الأمم المتحدة عبر خمسة(1/798)
عشر عاما، فلم أسترح منهم ولم يستريحوا مني، إلاّ حينما انتهى عملي في الأمم المتحدة، أو كما أذاع راديو لندن شامتا مبتهجا، حينما "طرد الشقيري من خدمة المملكة العربية السعودية"!
... ونشأت منذ نشأت كارها للترك، لما كنت أسمعه صبيا عن مظالم الترك على العرب، ومحاولاتهم "تتريك" العرب، وطمس معالم لغتنا وديننا وحضارتنا ...
... ولم تكن هاتان الظاهرتان، حب الإنجليز وكراهية الترك، تخلوان من مفارقات عجيبة، فبالنسبة للترك، هم أخوالي، فقد كانت والدتي تركية من الآستانة، تزوجها والدي حينما كان يعمل في دولة الخلافة الإسلامية، شأن الكثيرين من رجالات العرب وخاصة أهل الشام والعراق، وكانت لغتي الرسمية في البيت اللغة التركية، ولم أتعلم اللغة العربية إلاّ كما يتعلمها الغرباء، وإلى جانب ذلك فقد كان والدي من كبار رجال الدولة العثمانية وبلغ أعلى منصب ديني يستطيع أن يبلغه رجل عربي، وفوق هذا وذلك فقد كانت الدولة العثمانية دولة الخلافة الإسلامية، وتدين لها الجماهير العربية بأعمق مشاعر الولاء... ولكن نوازع القومية العربية التي أخذت طريقها إلى أفئدتنا، أنا وجميع الجيل العربي المعاصر، قد تغلبت على جميع هذه العوامل..
أما الحب للإنجليز، فقد كان مصدره حبنا أنا وجيلي العربي المعاصر، لأمتنا العربية واستقلالها وحريتها، ولم نُبال أن الإنجليز- ليسوا من ديننا، ولم يكن بيننا وبينهم تاريخ أربعماية عام من الحياة المشتركة، كالعهد بيننا وبين الترك.(1/799)
... وفي تلك الفترة من صباي المبكر، بين 1916 – 1920، تسربت.. وتفتحت أسماعنا على حكايات بارعة عن الإنجليز، فيها سحر الخرافات الخلابة!
... وصل إلى أسماعنا في ذلك العهد نبأ ثورة الشريف حسين على الدولة العثمانية وتحالفه مع بريطانيا، ثم تواترت الأخبار بعد ذلك عن انضمام ضباط العرب الأحرار إلى ثورة الشريف حسين، وراحت قلوبنا الوديعة قبل ألسنتنا الناعمة تدعو الله أن ينصر الشريف وحلفاءه، ويهزم دولة الخلافة ومن معها، تطلعا إلى دولة العرب الكبرى، لتعيد لنا المجد والحرية والوحدة.
... وعلى أكناف هذه الأحلام الحبيبة تجمعت أقاصيص جميلة عن الإنجليز. في عدلهم وصدقهم ووفائهم، وساد اليقين بين سواد الناس أن الشرف الإنجليزي والذهب الإنجليزي لا يرقى إليهما انتقاض أو انتقاص!
ولم تكن هذه "الحقائق" تملأ وجداننا نحن الصبيان فحسب، بل كانت تعيش في ضمير الكبار من الرجال والنساء، والعامة والمثقفين على السواء.. إلى درجة اليقين والإيمان، بكل وضوح وبساطة ..
... ثم أخذت بعد ذلك تترامى إلى أسماعنا أن الإنجليز قد أصدروا وعد بلفور، وكانت تركيا أول من أفشت هذه الأخبار وما وراءها من الأسرار .. فقال كبارنا الراسخون في العلم أن هذه دعاية معادية "لحلفائنا" الإنجليز، وأنه حتى لو صحت، فإن الإنجليز أهل عدل ووفاء، ولابد أن يصدقوا عهدهم إلى الشريف حسين.
... ووقع الاحتلال البريطاني على فلسطين، وانهزمت الدولة العثمانية، وأخذت المخاوف تنساب إلى نفوسنا ونحن نرى طلائع الهجرة اليهودية تتدفق(1/800)
على فلسطين ... ولكنا رحنا نعلل أنفسنا بأن الشريف حسين سيثور على الحلفاء، وأن لورنس صديق العرب سيحمل بريطانيا على إنصاف العرب.
... وكان لورنس بنفسه نسيجا من الخرافات ومزيجا من الأساطير، ذلك ما ملأ أسماعنا، ونسبت إليه أنه وراء كل ثورة وأنه صانع الأحداث وتداعى إلينا حانق على دولته لأنها نقضت عهودها مع العرب، وأنه سيعيد أوسمته إلى ملك الإنجليز، وسيحرك الشعب البريطاني على حكومته .. وسيقيم الدنيا ويقعدها .. وأنه .. وأنه ..
... وكشفت الأيام أن لورنس لم يكن أسطورة ولا خرافة، ولكن العرب أنفسهم كانوا هم الخرافة والأسطورة، فقد مضى الإنجليز في نكث عهودهم للشريف حسين، وحملوه إلى المنفى في جزيرة قبرص تحت رحمة حاكمها - ستورس- الذي كان أثناء الحرب العالمية الأولى أحد البريطانيين الناشئين الذين عملوا في التمهيد للاتفاق بين الإنجليز والشريف حسين نفسه ..
... وتكشفت لنا بعد ذلك المؤامرة الاستعمارية الكبرى، فنصَّب الإنجليز أنفسهم "دولة منتدبة" على فلسطين، عن طريق عصبة الأمم، وحملت لثلاثين عاما، من سنة 1918-1948، العبء الأكبر في إقامة الوطن القومي اليهودي في فلسطين، بتشجيع اليهود في مجالات الإدارة والهجرة وامتلاك الأراضي، وقهر العرب، بقوانين الطوارئ، والسجون والمعتقلات، وأعواد المشانق .. والوعود المعسولة بأن بريطانيا ستحافظ على الحقوق السياسية والدينية لعرب فلسطين ..(1/801)
... ولم يأت عام 1948 حتى كانت كل مقومات الدولة اليهودية قد ألقت جذورها على أرض فلسطين، وتناوحت معها رياح النزوح والرحيل، وهي تصيح إلى خيامكم أيها العرب .. فكان رحيلنا ونزوحنا ..
وكنت واحدا من الشعب النازح، خلفت ورائي الوطن بأغلى ذكرياته وأقدس مقدساته، وامتلأت نفسي بكل أحاسيس النقمة والبغضاء والحقد على الإنجليز .. وبهذه الروح، وبهذه الروح وحدها، دخلت معترك الحياة الدولية في أواخر الأربعينات، وكانت ساحتي الكبرى الأمم المتحدة بكل قضاياها الدولية، وفي الحروب الباردة حيثما كانت ميادينها ..
... وكنت في هذه الفترة رئيسا للوفد السوري. ثم رئيسا للوفد السعودي. فلم أترك موضوعا على جدول الأعمال إلاّ تدخلت فيه، من القضية الكورية، إلى نزع السلاح، إلى الإشعاعات الذرية، إلى قضايا الاستعمار والتمييز العنصري، إلى القضايا العربية، إلى القضية الكوبية ... وكان همي الأول والأخير أن أتصدى للإنجليز، وأمريكا وفرنسا وإسرائيل، بمناسبة وغير مناسبة، ثم أذهب أبعد من ذلك، فأتصدى للإتحاد السوفييتي بالتأييد والمديح، بمناسبة وغير مناسبة !
... وفي اليوم الأول الذي مارست فيه عملي في الأمم المتحدة في ليك سكسس، أجلت بصري في مقاعد الوفود من حولي، لأرى أين يجلس الوفد البريطاني لأراقب حركاته وسكناته وأترصد لكلماته.
... وكان أول اصطدامي بالوفد البريطاني في اللجنة القانونية (السادسة)، وكانت تضم صفوة القانونيين في العالم، وكان السيد فيتيز جرالد موريس على رأس الوفد البريطاني وهو من كبار علماء القانون الدولي في بريطانيا،(1/802)
كما كان القاضي هدسون على رأس الوفد الأمريكي .. وكان الموضوع المدرج على جدول الأعمال: حقوق الدول وواجباتها .. وكان القانون الدولي لا يزال طريا في ذاكرتي، والمراجع بين يديّ متوافرة، فحبست نفسي في الفندق ليالي متواصلة، وأنا أعد دراسة مستفيضة في الموضوع.
... وحملت خطابي معي وذهبت إلى الأمم المتحدة، واسترسلت في سرد حقوق الدول وواجباتها، مستعرضا تطور الموضوع منذ نشأت الدولة ونشأ القانون الدولي، مستندا في كل ذلك إلى المراجع الإنجليزية، وكان أعضاء اللجنة في عجب من أمر هذا "الفلسطيني" الذي جاء من "المستعمرات البريطانية" ليجادل السيد موريس، العالم البريطاني الأول.
... وانثنيت بعد ذلك أشرح تعريف الدولة ومقوماتها، وأنّ إسرائيل لا تنطبق عليها مبادئ القانون الدولي، وأنّ نشوءَها، والاعتراف بها، وعضويتها في الأمم المتحدة، كل ذلك يقوم على السياسة الاستعمارية، لا على مفهوم المبادئ القانونية؟
... وثارت ثائرة السيد موريس، وخرج عن وقاره ورزانته، وانضم إليه "روبنسن" رئيس الوفد الإسرائيلي، ودارت بيني وبينهم ملحمة قانونية؟، استنجد خلالها السيد موريس برئيس اللجنة، مناشدا أن نتكلم بروح الإنصاف.
... ولاحت فرصتي فاستنفدتها إلى نهايتها، فتحدثت عن مظالم الإنجليز في فلسطين، ووجهت حديثي إلى السيد موريس في ختام كلامي، مقتبسا المبدأ القانوني الإنجليزي الشهير "من أراد الإنصاف فعليه أن يأتي بيديه نظيفتين" .
... وجاءني السيد موريس بعد ختام الجلسة وهو يقول "ألا ترى أنه كان للإنجليز فضل كبير في فلسطين، وها قد أصبحت في المحافل الدولية تجادل(1/803)
عن معرفة واسعة في القانون الدولي" قلت له: وما نفع القانون الدولي إذا كان صاحبه قد أصبح لاجئا، فانصرف السيد موريس لا يملك جوابا.
... ومضيت على هذه السيرة في الأمم المتحدة، أحمل بين جنبيّ الحقد الشريف والبغضاء الكريمة على الإنجليز ومعها أمريكا وإسرائيل، أتعقب آثارهم في كل لجان الأمم المتحدة في جميع دوراتها..
... وانتقلت هذه المعركة من نيويورك إلى جنيف في عامي 1958-1960، حين انعقد المؤتمر الدولي لقانون البحار لوضع مشروع متكامل عن المياه الاقليمية، ومداها وما يتصل بهذا الموضوع .
وكان المستر "هير" وزير المصايد البريطاني يرأس وفد بلاده إلى المؤتمر والسفير "دين" يرأس الوفد الامريكي ، ومعهما عدد كبير من خبراء القانون الدولي .
وموضوع قانون البحار له أهمية بالغة بالنسبة للدول العربية ، فقد كنا حريصين أن يوافق المؤتمر على أن تمتد المياه الاقليمية اثني عشر ميلا ، بدلا عن الأميال الثلاثة التي تواضعت عليها الدول البحرية في الماضي ، وكنا كذلك نحرص أن نضع نصوصا قانونية بالنسبة إلى موضوع الخلجان ، بما يكفل لخليج العقبة أن يكون مياها داخلية عربية ، لا مياها دولية مفتوحة للملاحة الدولية .
وكنت قبل سفري إلى جنيف قد اغتنمت فرصة زيارة السيد سمير الرفاعي رئيس الورزاء الاردني للرياض ، فتحدثت إلى الملك سعود بشأن مؤتمر البحار وخليج العقبة ، واقترحت أن يصدر بلاغ مشترك يعلن فيه الجانبان ، السعودي والأردني ، الالتزام بمبدأ الاثني عشر ميلا ، واعتبار(1/804)
خليج العقبة مياها عربية ، فوافق الملك سعود على ذلك وصدر البلاغ المشترك .
وفي طريقي إلى جنيف سافرت إلى القاهرة ، واشتركت في اجتماع مجلس الجامعة العربية ممثلا للمملكة العربية السعودية ، واقترحت أن تصدر الجامعة قرارا بتوكيد هذه المبادئ ، وأن تلتزم بها الوفود العربية المشتركة في مؤتمر البحار في جنيف ، فصدر القرار بالإجماع ، وكان الأردن في مقدمة الدول العربية موافقة على القرار .
وبكّرت في السفر إلى جنيف وقضيت أياما في قصر الأمم المتحدة ، أنبش المراجع القانونية القديمة والحديثه ، في كل ما له صلة في الموضوع .
وافتتح المؤتمر جلساته ، وكانت الدراسات القانونية متوافرة بين يديّ ، وقضيت شهرين كاملين في ربيع 1958، وشهرين آخرين في عام 1960، وشغلي الشاغل المياه الاقليمية وخليج العقبة ، وكانت المعركة تشتد ضراوة بيني وبين الوفد البريطاني ومعه الوفد الامريكي ، وفي ذيلهما الوفد الاسرائيلي ، وكان هؤلاء ومعهم بعض الدول البحرية يصرون على الأخذ بمبدأ الأميال الستة ، واعتبار خليج العقبة مياها دولية مفتوحا للملاحة الحرة .
وكان الإتحاد السوفيتي في الجانب المعارض ، وكان طبيعيا أن يقوم بيننا وبينه تحالف في هذه المعركة البحرية .. على اليايسة ، في قصر الأمم المتحدة في جنيف .
وأمطرت الوفد البريطاني وابلا من الأبحاث القانونية ، طبعها مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير فيما بعد في كتاب مستقل باللغة الانجليزية ،(1/805)
ولم أعِفَّ عن الوزير البريطاني المستر هير ، أرشقه بالسخريات اللاذعة ، واضعا وزير المصائد في المصائد !
... وأقام الوفد الروسي حفلة للوفود ، فجاءني المستر هير ومعه والدته، ليصافحني ، والسيدة الوالدة تقول لي بكل رزانة ومرارة :
- لقد كنت قاسيا في حديثك عن بريطانيا .
قلت : نعم إني اعترف بذلك .. وكنت كذلك قاسيا على السيد الوزير .
قالت : هلا أصلحت بينكما ؟
قلت : إني أُقدِّر فيك عاطفة الأمومة للسيد الوزير .. وإني أعتذر إليك عن قسوتي .. ولكن أرجو أن تشعري معي .
قالت : بماذا ؟
قلت : في فلسطين ، في عهد الانتداب البريطاني ، فجعت ألوف الأمهات بأبنائهن والزوجات بأزواجهن ، والأخوات بإخوتهن ، وهذا هو سبب قسوتي ومرارتي.
ورأيت السيدة الوالدة ، وقد اغرورقت عيناها بالدموع ، فتركتها وانصرفت ..
وبعد معركة الجدال ، والاستشهاد بالمراجع القانونية ، أخذ الوفدان البريطاني والأمريكي يعملان في معركة الأصوات ، فهذه المؤتمرات الدولية يقرر مصيرها في النهاية أصوات الاعضاء ، لا أقوال العلماء .
وقامت الولايات المتحدة بحملة ضغط هائلة في كل أرجاء العالم ، تناشد هذه الدولة ، وتغري تلك ، وتهدد وتتوعد هنا وهناك ، والأمر له أهميته عند(1/806)
الولايات المتحدة من ناحية اقتصادية وعسكرية ، فوق ما فيه من معارضة لروسيا وتأييد لاسرائيل ..
واتصلت أمريكا بالدول العربية واحدة واحدة .. وأصابت منا مقتلا .. لقد كنت أخشى على الدوام أن تخذلنا الأردن ، وتخذل نفسها ، فإن خليج العقبة يجب أن يهم الاردن في المقدمة .
ولم ينفع البلاغ المشترك مع الرئيس الاردني السيد سمير الرفاعي ، ولا نفع القرار الاجماعي الذي صدر عن مجلس الجامعة العربية في هذا الشأن.
وجاء يوم التصويت ، فاذا بالسيد شكري المهتدي من القدس ممثل الأردن غائب عن الجلسة ، فاتصلنا به في الفندق ، فقيل لنا إنه غادر جنيف قبل يومين .. وعمان تعتمد على الدوام أن تدفع إلى المآزق واحداً من أبناء فلسطين ، لتلوث سمعة فلسطين ..
وطرح الامر للتصويت ، فسقطت وجهة نظرنا بصوت واحد ، وكأن القدر الساخر أراد أن تكون الهزيمة العربية على يد الاردن ، وبصوت واحد هو صوت الاردن !!
وانتهى المؤتمر ، وأنا أتميَّز بالغضب على عمان ، وحكام عمان ، ولكن ذلك لم يخفف من حقدي على "حلفائنا الإنجليز والامريكان " ومضيت في الأمم المتحدة أشد حقدا ، لأنَّ استسلام عمان كان وراءه الإنجليز والامريكان .
وانعقدت الأمم المتحدة في دورتها الثالثة عشرة ، ولاحت لي الفرصة لأُنَفِسَّ عن حقدي على بريطانيا مرة أخرى ، وقد حدث في تلك الفترة أن "أسطول" الصيد البريطاني قد مخر البحار العالية ، حتى وصل شواطئ(1/807)
آيسلندا ، وبدأ يصطاد في المياة الاقليمية لهذه "الدويلة" المسكينة .. وعبثا حاولت آيسلندا أن تستصرخ وتستنجد، لتحمي مصايدها ومورد رزقها من هذا العدوان البريطاني "وتصيَّدت" هذا الحادث على منبر الأمم المتحدة، وليس بيننا نحن العرب وآيسلندا أية رابطة من قريب أو بعيد، وأخذت أشَنِّع على بريطانيا عدوانها وطغيانها، واتهمتها بأنها تطبق على اليابسة شريعة الغاب، وشريعة البحار في البحار، حيث تلتهم الحيتان الكبيرة مع الأسماك الصغيرة ، ودعوت الاسطول البريطاني أن يجرب مغامراته لا مع ايسلندا الزميلة في حلف الاطلنطي، ولكن مع دولة أخرى في حلف وارسو!! ومضت الدورة من أولها لآخرها دون أن يستطيع الوفد البريطاني أن يجيب بكلمة واحدة وأصبح الحديث عن "شريعة البحار" سخرية تلك الدورة .
وفي تلك الدورة بالذات تناولت موضوع "الحزام البريطاني" الذي أنشأته بريطانيا حول الجزيرة العربية ، وفي هذا الموضوع تصاعد الحقد والحق معا . فشرحت تاريخ الاستعمار البريطاني حول الجزيرة العربية ، من الكويت حتى عدن ، وكيف أن الامبراطورية البريطانية قد بسطت سيطرتها على الإمارات والمشيخات العربية في شرق الجزيرة العربية وجنوبها ، لحماية قناة السويس ، وللحفاظ على الهند ، درَّة التاج البريطاني ، ثم دعوت بريطانيا أن "تفك" هذا الحزام من حول الجزيرة العربية ، فقد باتت قناة السويس في قبضة مصر ، وأصبحت "الهند" مستقلة بدولتيها ، وليس على بريطانيا إذا كانت مفتونة "بالحزام"إلا أن تنصبه حول الجزر البريطانية، لا حول الجزيرة العربية !! وفي هذا الموضوع كذلك لم يجد الوفد البريطاني(1/808)
ما يقوله ، فقد أصبح الاستعمار لا يملك لسانا يتحدث به أمام الرأي العام العالمي .
ومع اعترافي بأن قلبي كان مملوءاً بالبغضاء – البغضاء العمياء – على بريطانيا غير أني لم اتخذ الأمم المتحدة منبرا للتجني على بريطانيا او ميدانا للمهاترة بالباطل ، ولكني كنت أحرص أن أهاجمها بالحق ولا شيء غير الحق .. وموضوع نزع السلاح مثل حي على ذلك .. وهذا الموضوع يدرج كل عام على جدول أعمال الأمم المتحدة باعتباره قضية دولية مزمنة ، من مخلفات عصبة الأمم البائدة .. وكنت أخوض في هذا الموضوع من كل جوانبه ، ومراجعه العلمية كثيرة ، كأنني أُمثِّل دولة لها شأن كبير في موضوع نزع السلاح ، وكنت أحوم حتى أصل إلى شحنات الأسلحة التي ترسلها بريطانيا إلى اسرئيل .. وأتساءل هل هذا هو نزع السلاح ، هل هذه هي مساهمة بريطانيا في موضوع نزع السلاح ؟ وهل هذه هي مساهمتها في إقرار السلام في الشرق الأوسط ؟ وكان كل غرضي أن أبقي قضية فلسطين "حية" أمام الرأي العام العالمي، وأن "أفضح" السياسة البريطانية في المنظمة الدولية ، على الدوام ...
ونشأت بيني وبين الوزراء البريطانيين عداوة تقليدية في معالجة مختلف القضايا الدولية ، وكان سلوين لويد وزير الخارجية البريطانية واحدا من أولئك الساسة الإنجليز الذين وقعت بيني وبينهم ملاحم قاسية ، زاد من ضراوتها أني كنت اعرف "مقاتل" السياسة البريطانية ، معرفة علمية دقيقة.
وجاءت قضية قبرص ، في صراع بين بريطانيا وتركيا واليونان والمطران مكاريوس .. وقد تصدّى وزراء الخارجية بأشخاصهم في معالجة(1/809)
الموضوع، وكان المستر سلوين لويد فارس المناقشات والمداولات وحوله الخبراء والمستشارون يحملون له في ملفاتهم ما بقي للاستعمار من حجج وأسانيد. وتصديت للمستمر سلوين لويد ، أُزيف حججه وأُسَخِّف أسانيده واحدة واحدة والوفود شامتة ساخرة...
ولقد أسهب المستر سلوين لويد في بداية دفاعه بأن قضية قبرص لا تمثل مشكلة استعمارية ، وأن سيرة بريطانيا "الاستعمارية " كانت على الدوام تحضرا وتمدينا للشعوب المتخلفة ، وأنها سرعان ماكانت تمنح الاستقلال حين تبلغ تلك الشعوب النضوج الذي يؤهلها للاستقلال .. ولم يكد يفرغ سلوين لويد من هذه "الديباجة" حتى طرحت على الأمم المتحدة سيرة الاستعمار البريطاني في العالم ، وما قاسته الشعوب المقهورة من ألوان العسف والجور على يد بريطانيا ، واستعرضت تاريخ حروب التحرير التي قامت بها تلك الشعوب ضد بريطانيا لنيل حريتها واستقلالها وأن بريطانيا لم تخرج من تلك الأقطار مختارة إلاّ حين تكون قد فقدت قيمتها التجارية أو موقعها الاستراتيجي ، أو أنها أصبحت عبئا على الخزانة البريطانية ، وأنَّ الشعوب التي خلعت النير البريطاني عن كاهلها قد شقت طريقها إلى الأمم المتحدة بالحديد والنار، بعد أن تعفرت بغبار الحروب ونزفت في ميدان النضال ، وختمت بعد ذلك بأن دعوت وفود الأمم المتحدة لأن ترجع إلى كتاب المستر نهرو "اكتشاف الهند" لتطلع على الفظائع التي ارتكبتها بريطانيا في مقاومتها لحركة التحرير الهندية .. والمستر نهرو ، كما قلت يومذاك – قد أصبح رئيسا لوزراء الهند ، وبهذه الصفة فإنه يحضر اجتماعات مؤتمر(1/810)
الكومنولث البريطاني .. فهل يستطيع المستر سلوين لويد وزير الخارجية البريطانية أن يكذبه !
وأثار المستر سلوين لويد بعد ذلك حجة انقلبت عليه ، بدلا من أن تكون له ، لقد أراد أن يجُر إلى جانبه الدول الغربية ، فأعلن أن جزيرة قبرص لها أهمية خاصة في الدفاع عن مصالح الغرب ودول حلف الأطلنطي، فرددت عليه مرة ثانية مطالباً بأن لا تخونه ذاكرته " فلسنا في مجلس العموم البريطاني ، ولكننا في الأمم المتحدة ، ونحن هنا نبحث ميثاق الأمم المتحدة ، ومصلحة الأسرة الدولية في مجموعها لا مصلحة الدول الغربية ودول حلف الاطلنطي ، وكان الرد على عنفه وقوته ، مستمدا من ميثاق الأمم المتحدة ، فلم يستطع الوزير البريطاني أن يعلق أو يعقب .
ولكن "المطب" الكبير الذي وقع فيه المستر سلوين ، وجعله أضحوكة الأصدقاء قبل الأعداء ، هو ما أكدته من أن جزيرة قبرص "لازمة لبريطانيا للدفاع عن أصدقائها في البلاد العربية وخاصة شرقي البحر الأبيض المتوسط" ولم أتمالك أمام هذا الهراء البريطاني إلاّ أن صحت في وجه الوزير البريطاني أسأله "ضد من تريدون الدفاع عن البلاد العربية "ثم استطردت إلى القول: ان البلاد العربية ، إذا كانت في حاجة للدفاع عنها ، فإنه دفاع ضد بريطانيا .. بريطانيا التي خانت العرب في الحرب العالمية الأولى .. بريطانيا التي قسّمت الوطن العربي .. بريطانيا التي أنشأت الوطن القومي اليهودي في فلسطين وغرست إسرائيل في قلب البلاد العربية .. بريطانيا .. بريطانيا ..
واتجهت الأبصار إلى سلوين لويد .(1/811)
وأردفت قائلا : إذا كان الوزير البريطاني يريد أن يدافع عن العرب ضد الإتحاد السوفياتي فإنه يرتكب خطأ كبيرا .. ان الإتحاد السوفياتي لم يعتقل عربيا واحدا ، ولا قتل مواطنا واحدا ، ولا احتل من أرض العرب شبرا واحدا ، ولا .. ولا وإذا كان العرب في حاجة إلى دفاع ، فانه دفاع ضد بريطانيا ومظالمها، ودفاع ضد الغرب وسياسته الاستعمارية " وقد ذهل أعضاء الأمم المتحدة وهم يستمعون إلى هذا الغزل المكشوف مع الإتحاد السوفياتي ، ولم يسبق لأي مندوب في الأمم المتحدة ، عربيا كان أو غير عربي ، أن هاجم الدول الغربية بهذا العنف ، وأثنى على الإتحاد السوفييتي بهذا السخاء ..
وجاءت الدورة الرابعة عشرة للأمم المتحدة في خريف 1959 لأجد نفسي في مواجهة مكشوفة هذه المرة بالنسبة للملك "جورج السادس " بشخصه .. ومن فمه وكلامه ..
وكنت أتحدث في قاعة الجمعية العامة ومن على منبرها ، لا في إحدى لجانها ، كنت أتحدت عن ازدواجية الولاء التي ينطوي عليها قيام إسرائيل والحركة الصهيونية فقرأت ما رواه والتر ايتان أحد سفراء إسرائيل، من أن الملك جورج السادس قد قال للحاخام الأكبر في بريطانيا وهو يستقبله في قصر باكنجهام بالاس "إنني قد اجتمعت بسفيركم بالأمس .." وجلالته يعني سفير إسرائيل .
وأجلت بصري في قاعة الجمعية العامة على سعتها ، وهي مكتظة بالوفود والزائرين ، وقلت مستهجنا "اية ازدواجية أسوأ من هذه ، حين يصف جلالة الملك جورج السادس السفير الاسرائيلي في لندن بانه سفير الحاخام(1/812)
الأكبر في لندن ..سفير اليهود الإنجليز في إنجلترا .. و.. و.. وعبس الوفد البريطاني لأني تعرضت لجلالة ملك بريطانيا الذي يقول فيه القضاء البريطاني "إن الملك لا يخطئ " وعبس عدد كبير من وفود الدول الأعضاء الذين لا يقرون التعرض لرؤساء الدول .. ولكن جميع العابسين لم يترددوا لحظة واحدة في أن كلام "جلالته" كان طعنة قاتلة للاستعمار والصهيونية وإسرائيل مجتمعين ومنفردين ..وكان أفظع دليل على ازدواجية الولاء . وفي ردهة من ردهات الأمم المتحدة مرّ بي أحد أعضاء الوفد البريطاني ، وقال " ليتك تقتصر خطابك على وزراء بريطانيا بدلا عن ملك بريطانيا .."
قلت : وليت ملك بريطانيا يقتصر احاديثه على المجاملات فلا يتعرض لقضية فلسطين .. ومع هذا فاني منتظر ما سيقوله المستر سلوين لويد في خطابه في الجمعية العامة .. وسأرد عليه إذا كان في خطابه ما يستحق الرد .. وهذا هو وعدي إليك .."
وقد صح التقدير ، فقد انتصب المستر سلوين لويد على منبر الجمعية
العامة ، وتحدث طويلا عن مبادئ الأمم المتحدة وميثاقها ، ورثا لحال دولة لاوس التي "يجب المحافظة على سيادتها واستقلالها وان ُيضمن لشعبها أن يعيش في أمن وسلام" ثم بكى كذلك لحال التبت التي "يتعرض شعبها الشجاع الصديق للعدوان الجائر من غير شفقه ولا رحمة .." وكان سلوين لويد يشير إلى الصين الشعبية .
وعاد الوزير البريطاني إلى مقعده ، ولا ينقصه إلاّ أن يتناول منديلا ويمسح دموعه إشفاقا على "لاوس" و"التبت" فنهضت إلى منبر الجمعية العامة لأقول للمستر سلوين لويد .."أن الحرية لا تتجزأ .. ونحن نريد أن تنعم التبت(1/813)
بالحرية والسيادة ، وان تتمتع لاوس بالأمن والسلامة .. ولكن كيف أجاز الوزير البريطاني لنفسه أن يتحدث عن سيادة الشعب وأمنه وسلامته ، وحكومته هي التي دمرت حياة "الشعب " في فلسطين بل هدمت وجوده ، وكانت سببا في تشريده وتشتيته .. ، واسترسلت في هذا الحديث مشيرا إلى ما صنعته بريطانيا من التجزئة في الوطن العربي .. وما أوقعته من البلاء على شعب فلسطين ..
وفي الردهة إياها من ردهات الأمم المتحدة ، مررت بالوفد البريطاني لأقول له : "لقد أنجزت ما وعدت .. لقد رددت على الوزير البريطاني من كلامه وفمه ..واذا تحدث جلالة الملك مرة ثانية فسأرد عليه من كلامه ومن فمه .."
ولكن الدورة الخامسة عشرة ، خريف عام 1960، كانت هي الدورة العظمى التي أفرغت فيها كل سمومي وأحقادي وثاراتي على بريطانيا ..
ففي تلك الدورة طرح الإتحاد السوفيتي مشروعه الشهير بإنهاء الاستعمار، وكأنما سقط هذا المشروع من السماء فتلبست بريطانيا من الرأس حتى القدمين ، عارية مكشوفة ، مفضوحة بمخازيها عبر السنين والأجيال .
ونهض رئيس الوفد البريطاني ، وتحدث في تيه وخيلاء عن تاريخ الاستعمار البريطاني وأنه سيرة تحضر وتمدين .. وأنَّ بريطانيا قد أعدت شعوبا كثيرة للاستقلال ، وانه يسرها أن ترى هذه الشعوب وقد أصبحت أعضاء في الأمم المتحدة !
وكان عدد من أعضاء الأمم المتحدة ينظرون إلي حين كان الوزير يتحدى بهذا الكلام الهراء . وهم يعلمون أنني لن أفلت هذه الفرصة ..(1/814)
والواقع انني ما خيبت ظنهم ، فلم يفرغ الوزير البريطاني من خطابه الطويل، حتى غادرت مقعدي إلى المنبر والدول الإفريقية والاسيوية ومعها الدول الامريكية اللاتينية تنتظر لبريطانيا تلك الساعة السوداء .
ولم يكن عسيرا أن أرد على "السيد النبيل " الوزير البريطاني ، فان موضوع الاستعمار خصيب رحيب ، وكيفما ضربت أصبت ، وبعد مقدمة ، وجهت حديثي إلى الوزير البريطاني ، باني لن أرد بمقتبسات صحفية أو مقالات تاريخية ، مما تكتبه الصحف والمجلات الروسية ، وانما سأرد على الوزير البريطاني من فم " السيد سيسل رودس " صانع الاستعمار البريطاني في افريقيا ، وهو الذي سمِّيت روديسيا على اسمه .
وسردت للأمم المتحدة ، ما قاله سيسيل رودس : " نحن البريطانيين اسمى امة في العالم ، وكل ما استوطناه في هذا العالم ، كان من أجل خير البشرية جمعاء .. ان العالم يكاد أن يكون مقسما .. وما بقي منه فقد تم توزيعه أو فتحه أو استعماره ؛وإذا كان هنالك إله ، فانه يريد مني أن ألوِّن أكبر رقعة في خريطة افريقيا باللون البريطاني الأحمر .. وسأضم الكواكب إذا استطعت ، وإنه ليحزنني أن أرى الكواكب صافية أمام ناظري ، بعيدة عن متناول يدي " وعلقت على ذلك أن الاستعمار البريطاني كان يتطلع إلى امتلاك الفضاء في القرن التاسع عشر ولكنه الآن وفي القرن العشرين يتحدث في الأمم المتحدة عن استخدام الفضاء في الأغراض السلمية.. ولعل بريطانيا تدعو الآن إلى "سلام الفضاء " لا رغبة في السلام ، ولكن لأنها مقصِّرة عن اللحاق بأمريكا وروسيا في غزو الفضاء .. ، وقد طرب الآسيويون لهذه السخرية اللاذعة تنصب على وجه الوزير البريطاني .(1/815)
ثم عرجت على ما زعمه الوزير البريطاني في خطابه ، من أن بريطانيا قد عملت على التقدم الاقتصادي للشعوب التي حكمتها ، وخرجت صيحتي عالية في القاعة : أي تقدم اقتصادي هذا الذي يتحدث عنه الوزير البريطاني ؟ ألم يقل السياسي البريطاني الشهير ، شمبرلن ، أن الامبراطورية البريطانية هي التجارة ..، ألم يقل هنري ستانلي ، الاستعماري المعروف ، في خطاب ألقاه في غرفة التجارة في مانشتسر أن وراء الكونجو أربعين مليونا من البشر ، ينتظرون من الصناعة في مانشسترأن تهيئ لهم الكساء.. وينتظرون من مصانع برمنجهام ، أن تمدهم بكل ما يحتاجون اليه في حياتهم اليومية : وهذا دزرائيلي رئيس الوزراء البريطاني، ألم يعلن في خطابه الشهير في قصر كريستال أنه يعتبر الاستعمار أهم
أهدافه .. ، وهذا دزرائيلي ألم يقترض أربعة ملايين جنيه استرليني من روتشيلد ليساهم في شركة قناة السويس .. وكان ربح روتشيلد عن الأربعة ملايين مئة مليون جنيه استرليني !
ومضيت في هذه الاقتباسات ، أُفند خطاب الوزير البريطاني بأقوال رؤساء بريطانيا السابقين واللاحقين .. ، ودعوت الوزير البريطاني أن ينظر حوله في الوفود الجالسين في الأمم المتحدة ، فإن كثيرا منهم " قد جاؤا إلى المنظمة العالمية من المعتقلات والسجون ، بعد أن قادوا معارك التحرير في بلادهم ... كانت بريطانيا هي التي اعتقلتهم وسجنتهم .. وهذا هو السيد نهرو يحتل مقعده على رأس الوفد الهندي تحدثكم خطبه وكتبه كيف قضى أقسى أيام عمره في السجون والمعتقلات .."(1/816)
وحدث حين كنت أتكلم ، أن انتقل وزير الدولة البريطاني "اورمبسي غور" من مقعده إلى مقاعد وفدي نيجيريا والكونجو ، وقرفص على ركبتيه أمامهما ليتحدث إليهما ، فأطلقتُ صيحة ثانية في القاعة ، وقلت للوفود : انظروا كيف دار الفلك دورته .. انظروا كيف يركع الوزير البريطاني بين يدي وفدي الكونجو ونيجيريا ، ليستجدي منهما ما يريد أن يستجدي ! ولقد أحسست إنني أشبعت كل حقدي وثأري .. فقد كان الوزير البريطاني
الشاب ابن اورمبسي غور الوزير البريطاني الوالد الذي كان معروفا بصهيونيته الطاغية ، وعدائه السافر لشعبنا وقضيتنا ، ولم يبقَ أحد من الوفود والمتفرجين ، إلاّ وقد وقف على قدميه ليرى الوزير البريطاني راكعا على ركبتيه منحنيا أمام "الإفريقيين" من وفدي نيجيريا والكونجو ، وأبصروا فعلا أن الفلك قد دار دورته..
وكانت الدورة السادسة عشرة لعام 1961، غنية خصبة ، وجدت فيها كل "الخامات" التي أستطيع أن أصنع منها "المتفجرات" ألقيها في وجه الوفد البريطاني .. وفي ذلك العام كانت موجة عالمية للاحتجاج على الأسلحة الذرية ، فقامت المظاهرات في كل أنحاء العالم تطالب الدول العظمى بوقف التجارب الذرية ، وفي بريطانيا قامت حملة اعتصام كبرى ، كان يقودها الفيلسوف البريطاني برتراند رسل، مما أدى إلى محاكمته وسجنه: وكان اللورد هيوم رئيس الوفد البريطاني، فألقى خطابا "فصيحا" عن السلام ، وندد بالحرب كوسيلة لحل المشاكل الدولية ، ونهضت أعقب على خطابه، وأنا أشير إلى اعتقال الفيلسوف البريطاني برتراند راسل بانه عمل تعسفي ، حتى ولو كان منطبقا على "القانون" في انجلترا ، وأعلنتُ أن "قانون" الأمم المتحدة(1/817)
لا يدينه بل يشكره ويكرمه ، وأن الجدير بالإدانة هو "سَّجانه" الوزير البريطاني الجالس في قاعة الجمعية العامة.. ذلك أن "برتراند رسل قد خدم قضية السلم أكثر من جميع وزراء خارجية الدول الغربية
مجتمعين " .
وكان اللورد هيوم قد تعرض في خطابه إلى "المآسي" التي يقاسيها شعب برلين بسبب الحائط الذي يقسمها إلى شرقية وغربية ، وما يلاقيه التجار والطلاب وأصحاب المصالح من عناء في الانتقال عبر هذا "الحاجز المصطنع" .. وكان صوت اللورد هيوم يتهدج ويتلجلج حينما كان يذكر تفاصيل الوقائع "الدامية" التي وقعت على الألمان الأبرياء .. الذين أطلقت عليهم النار من قبل جنود برلين الشرقية ..
"هذه دموع التماسيح يذرفها الرئيس البريطاني أمام الأمم المتحدة" ذلك ما بدأت به جوابي على اللورد هيوم .. واستأنفت حديثي قائلا "نحن نتألم لآلام الإنسان أينما كان .. ولكن ما للوزير البريطاني ينسى مدينة القدس ، التي تقدسها الأديان السماوية الثلاثة .. ألم يفصلها خط الهدنة إلى القدس والقدس الجديدة على حال أسوأ من برلين ؟ ولماذا لا يبكي اللورد هيوم لحال أهالي القدس القديمة الذين لا يستطيعون الوصول إلى أحيائهم ومنازلهم ومتاجرهم ومصانعهم في القدس الجديدة؟ وإذا حاولوا الدنو منها أطلق الإسرائيليون عليهم وابلا من النار يبدو لنا أن اللورد هيوم قد اتخذ من حائط برلين حائط مبكى ، يذرف دموع الشفقة والرحمة على شعب برلين ، في حين أن الحكومة البريطانية قد أنزلت بالشعب العربي في فلسطين على مدى(1/818)
ثلاثين عاما ما هو أحق بالدموع .. ولكن عين بريطانيا عازمة أن تبكي في برلين وكفى ، وعلى حائط برلين وكفى !
وكان موضوع تقرير المصير الميدان الفاصل الذي وقع فيه الصراع بيني وبين اللورد هيوم ، فقد تحدث الوزير البريطاني بإسهاب وإطناب عن حق تقرير المصير .. وكان يعني بذلك شعوب أوروبا الشرقية وما "تعانيه" من سيطرة النفوذ الروسي وأخذت الوزير البريطاني بتلابيبه وقلت : هذا "تعهير" لتقرير المصير .. أن الوزير البريطاني ينسى شعب عُمان وحقه في تقرير المصير ، وينسى شعب المحميات وحقه في تقرير المصير ، وينسى شعب عدن وحقه في تقرير المصير .. لقد كان الوزير البريطاني يتحدث عن تقرير المصير بكل ورع وتقوى .. حتى أصبح تقرير المصير عظة دينية تلقى في الكنيسة يوم الأحد .. وبهذا استحق اللورد هيوم أن يرسم "صاحب النيافة مطران الأمم المتحدة " وتفجرت قهقهات الوفود وضحكات الزائرين ، وخرج رئيس الدورة عن حيائه ووقاره واسترسل في ضحك طويل ..
تلك كانت سيرتي ومسيرتي في الأمم المتحدة مع بريطانيا ، تصديت لجلالة الملك ، ورئيس وزرائه ووزرائه في كل مناسبة وعند كل موقف ، حتى أصبحت في الأمم المتحدة العدو الأول للسياسة الغربية متمثلة في بريطانيا وأمريكا ، كما أُعرف بالحليف الأول للسياسة الروسية .. وإني لأذكر أن الوفد البريطاني قد أراد مرة أن يهنئني على الطريقة الإنجليزية الباردة ، فوقف على المنبر ليقول "إنني لا أريد أن أجيب السيد الشقيري وزملاءه الشيوعيين .." وقد أراد بهذا أن يعتبرني شيوعيا وفي المقدمة ..(1/819)
فأجبت على الفور ومن على المنبر " إنني لست شيوعيا بالتأكيد .. ولكني أشكر الوفد البريطاني أنَّه لم يقل : "السيد الشقيري وزملاءه الاستعماريين .."
أما الأمر مع أمريكا فقد كان حالي فيه كالأمر مع بريطانيا ، بل أقسى وأشد ..
ولقد نشأت أول ما نشأت مُحبا لأمريكا مفتونا بالأمريكان . وكنت مع جيلي في أوائل العشرينات ، يملأ أسماعنا أن الولايات المتحدة دولة ديمقراطية تناصر الشعوب الضعيفة ، وأنها على خلاف بريطانيا ليس لها مستعمرات ، وأنها حاربت الاستعمار البريطاني ، وليس من المعقول أن تؤيد الاستعمار .. وجاءت مبادئ الرئيس ولسون الأربعة عشر، فبهرتنا بما أعلنت من مبادئ الحرية والعدل وتقرير المصير ..
وفي خلال الثلاثين عاما التي شهدنا فيها مظالم الانتداب البريطاني ، كنا ما نزال نعلق الآمال الكبار على عدالة السياسة الأمريكية وميلها إلى الإنصاف ، وإن كنّا نعلم أن الولايات المتحدة قد وافقت على وعد بلفور وعلى صك الانتداب .
وما أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها ، حتى انطلق ترومان في تأييده للسياسة الصهيونية ، فانقلب ولاؤنا إلى عداء .. وأصبحنا نرى في الولايات المتحدة العدو اللدود ، يمد الصهيونية بقوة وفتُّوة ، حين شاخت السياسة البريطانية ، بنت الوطن القومي اليهودي ، تاركة لأمريكا العبء الباقي .. إقامة الدولة – إسرائيل .(1/820)
وقامت الولايات المتحدة بذلك الدور الرهيب ، في الأمم المتحدة وخارجها ، بإقامة إسرائيل والاعتراف بها ، ومدِّها بكل أسباب الحياة سياسيا وعسكريا واقتصاديا ، بقاء وعدوانا وتوسعا..
وبات جيلنا الذي فتح عينيه على حُبّ الأمريكان والتغني بعدلهم وإنصافهم ، حانقا حاقدا ، مبغضا كارها ، وقد حملت بين جنبي مشاعري ومشاعر جيلي بأسره، إلى الأمم المتحدة، أفجّرها حمما على الولايات المتحدة وأنصارها، ما وجدت إلى ذلك سبيلا.. وكان طبيعيا أن أبدأ حملاتي على الرئيس ترومان.. العدو الأول للأمة العربية ولشعب فلسطين ..
... ولم أغفل دقيقة واحدة عن فرصة واحدة، فقد جاء الرئيس ترومان عام 1950 إلى ساحة الأمم المتحدة في نيويورك ليضع الحجر الأساسي في مقرها الحاضر.. في احتفال ضخم مهيب .. ، وتحت أضواء المصورين ووسط رتل طويل من أكاليل الزهور وضع الرئيس ترومان الحجر الأساسي.. ووضع تحته ميثاق الأمم المتحدة تذكارا لهذه المناسبة العظيمة..
... وما هي إلا أيام قلائل حتى كنت أتحدث في الأمم المتحدة في ليك سكس عن حقوق الإنسان ، وكيف جرؤت الولايات المتحدة على انتهاك حق الشعب الفلسطيني في وطنه ، مخالفة بذلك ميثاق الأمم المتحدة، وأردفت قائلا "ولكن الرئيس ترومان قد جنى على الأمم المتحدة نفسها، فقد تولى بيديه "دفن" ميثاق الأمم المتحدة تحت الحجر الأساسي في احتفال عظيم غير كريم.."
وقد انتهت ولاية الرئيس ترومان ، ولكن ما كان لأحقادي أن تنتهي، فقد كنت أتصيد مواقفه وتصريحاته ، حتى بعد أن خرج من البيت الأبيض،(1/821)
ففي 18 أيلول سنة 1961 ، وكانت دورة الأمم المتحدة في عشية انعقادها، أدلى الرئيس ترومان بتصريح صحفي بصدد التجارب الذرية قال فيه "إنني لا أبالي أين تقوم التجارب الذرية .. ان التجارب الذرية هي ضرورة للحرية الإنسانية .. "وضجت القاعة في استنكار لهذا التصريح .. وقلت حينها " لا تتعجبوا من هذا الحديث فإن الرئيس ترومان الذي كان السبب المباشر في تشريد شعب من وطنه في فلسطين ، لا يستبعد عليه أن يدلي بهذا التصريح من غير شعور بالمسؤولية ، أو ليس ترومان صاحب قنبلة هيروشيما ، التي لا يزال ضحاياها الأحياء يموتون موتا بطيئا .. وما تزال أخبارهم تملأ الصحف العالمية منذ عام 1945 إلى يومنا هذا .."
وفي أعقاب مؤتمر الدول غير المنحازة الذي انعقد في بلغراد في عام 1961 أدلى الرئيس ترومان بتصريح صحفي قال فيه "ان على الدول المحايدة أن تنحاز إلى العالم الحر لأننا نحن الذين جعلناهم أحرارا .. وفوق هذا فإن العالم الحر، وبالتخصيص الولايات المتحدة قدمت ما بين الحرب العالمية الثانية وأيلول سنة 1961 ما يقارب ستة بلايين دولار إلى أربع وعشرين دولة من الدول غير المنحازة.. "وخاطبت الوفد الأمريكي بلهجة غاضبة تحمل استنكار الدول غير المنحازة وأنا أقول له : أن العالم الحر لم يعمل على تحريرنا ، ولكننا تحررنا من العالم الحر .. بدماء شعوبنا، في معارك ضارية ، فانتزعنا استقلالنا غلابا ولم يمنح لنا عطاء .. ثم أصبحنا في مجموعة الدول المحايدة لأننا كرهنا أن نكون في المعسكر المسمى بالعالم الحر، لأنه عالم متحرر من الحرية.. أما المعونات الاقتصادية التي قدمتها الولايات المتحدة، فهل نسي الوفد الأمريكي ومعه الرئيس ترومان أن(1/822)
الولايات المتحدة قدمت إلى إسرائيل وحدها ثلاثة بلايين دولار، مساعدة مالية، ولو قيست إسرائيل إلى الدول المحايدة، مساحة وسكانا لكان نصيبها من العون الأمريكي 600 دولار.."
وفي عام 1960 كانت الأمم المتحدة تناقش موضوع الاستعمار ، والعمل على تصفيته ، وقد تنطعت الولايات المتحدة لبيان دعمها للحركات التحريرية في العالم ، ولكن الوفود قابلت هذا الحديث بالابتسامات الصفراء ، وتصديت بدوري للوفد الأمريكي أبيِّن بالوقائع المسلسلة منذ الحرب العالمية الثانية، أن الولايات المتحدة ، قد اصطنعت أسلوبا جديدا في السيطرة على مصائر الشعوب ، هو الاستعمار من غير حكم ... وأنَّ المعونات الاقتصادية التي بذلتها أمريكا بسخاء للشعوب المتخلفة، قد جعلت منها أسواقا مفتوحة للتجارة الأمريكية، وتبعية سياسية في الميدان الدولي، وهذا هو الاستعمار الجديد يملي إرادته بالمال بدلا عن الحديد والنار.. . ثم سردت القضايا الدولية التي وقفت فيها أمريكا إلى جانب الاستعمار البريطاني والإفرنسي والبلجيكي والهولندي .. ورجعت بعد ذلك إلى أيام سان فرنسيسكو يوم وضع ميثاق الأمم المتحدة، وكيف أن وزير الخارجية الروسية مولوتوف، قد اقترح أن ينص الميثاق على أن هدف " الوصاية " هو بلوغ الاستقلال .. وعارضه الوزير الأمريكي ستاتينيوس مصراً أن يكون الهدف "الحكم الذاتي"، وقد نهض الوفد الأمريكي إلى المنبر ليرد عليَّ، ولم يجد ما يقوله إلاّ أن " الشقيري يردد الأكاذيب الشيوعية"، وعاد المندوب الأمريكي إلى مقعده دون أن يكترث له أحد من الوفود حتى الذين امتلأت جيوبهم بالدولارات الأمريكية!(1/823)
وفي عام 1961 ألقى الرئيس كيندي خطابه الشهير في الأمم المتحدة ، فاستعرض القضايا الدولية ، مبتدئا بمشكلة برلين ، واستشهد بالأمر الذي أصدره القيصر بأنه "من هذه الساعة يجب أن تقفل الحدود ، بحيث لا يستطيع إنسان واحد أن يتجاوزها ، فلا يهرب أرنب ولا يطير غراب .." ومضى الرئيس كيندي مفاخراً بأنه منذ الحرب العالمية الثانية ، فقد تحقق استقلال 42 شعبا ودخلوا الأمم المتحدة .. وأنَّ الولايات المتحدة ليست لها سيرة استعمارية..".
... ولم يكن الرئيس كيندي "شريرا" مثل الرئيس ترومان .. ولكن الولايات المتحدة قد استمرت في عهده على مساعداتها لإسرائيل .. وقد غاظني من الرئيس كيندي قبل أن يلقي خطابه بأيام ات يرسل برقية إلى أحد المؤتمرات الصهيونية، تضمنت إطراء سخيا لإسرائيل، الدولة "الديمقراطية ذات التقاليد المشرفة"، في الحرية والعدل والسلام والالتزام بأقدس التعاليم اليهودية.." وقبل هذه البرقية بأيام كانت إسرائيل قد اعتدت على القرى الأمامية في الأردن !
... فلم أطق صبرا على الرئيس كيندي، وحين جاء دوري في المناقشة في الجمعية العامة تناولت خطاب الرئيس كيندي بالتفنيد والتنديد، وذكرت له أن اقتباسه من أوامر القيصر لا ينطبق على برلين .. فالذين في برلين الشرقية والغربية هم من الشعب الألماني صاحب الحق في وطنه، ولكنه ينطبق على بيت المقدس ، حيث يعيش في القدس القديمة أصحاب البلاد الأصليين ، وفي القدس الجديدة يقيم المهاجرون الذين وفدوا على البلاد ظلما وعدوانا .. أما بالنسبة لسيرة أمريكا فقد كانت عطرة إلى الحرب العالمية(1/824)
الأولى .. ولكن بعد ذلك ذلك أصبحت الدول الاستعمارية "شرطة" في خدمة السياسة الأمريكية في العالم .. وختمت بياني وأنا أسأل الوفد الأمريكي : إلى متى هذا التأييد الأعمى لإسرائيل ؟ إلى متى ستظل أمريكا هي إسرائيل الكبرى ؟ إلى متى تبقى الانتخابات الأمريكية كأنها انتخابات إسرائيلية ؟ لقد أعلنت الولايات المتحدة دعمها لإسرائيل في أربعة أيام متوالية من الشهر الماضي ، كما لو كان الأمر تمرينا رياضيا، ففي 6 آب أصدر المجلس التشريعي في كاليفورنيا قرارا بتأييد إسرائيل، وفي 7 آب أصدرت لجنة العلاقات الخارجية في الكونجرس قرارا بتأييد إسرائيل، وفي 8 آب أصدر حاكم نيويورك – روكفلر- بيانا بتأييد إسرائيل . وفي 9 آب أصدر السيد راسك وزير الخارجية بيانا بتأييد إسرائيل ، فأين العدل والإنصاف ؟ وأين جميع المبادئ التي تحدث عنها الرئيس كيندي بسخاء ..."
وكان جناح الزائرين مملوءا بالأمريكان ، البيض والزنوج ، فخرجت الصيحة من صفوفهم : لتسقط إسرائيل !! وامتدت أبصار الوفود إلى الوفد الأمريكي وقد "تسمَّر" في مقاعده لا يستطيع حراكا..
... وفي عام 1962، تقدمت كوبا بشكواها على أمريكا ، ولم تتردد أمريكا بالاعتراف بصحة الشكوى ، فقد نشرت الصحف الأمريكية صورا لمعسكرات الكوبيين الذين تدربهم السلطات الأمريكية على حمل السلاح ، للقيام بغارات على كوبا ، كما أن إدارة المخابرات الأمريكية وأوساط الكونجرس الأمريكي ، قد أيّدت دور أمريكا في دعم "اللاجئين " الكوبيين للقيام بأعمال عسكرية في داخل الأراضي الكوبية .. وكان الصراع شديدا بين الوفد الكوبي والوفد الأمريكي حول الخلافات القائمة بين كوبا والولايات(1/825)
المتحدة ، ولم يكن أحد يظن أن للعرب مكاناً في هذا الموضوع الخطير، وخاصة أن الولايات المتحدة قد كشَّرت عن أنيابها في تلك الفترة ، وكانت مستعدة أن تخوض حرباً نووية إذا اقتضى الأمر ، بسبب ما أقدمت عليه روسيا من تكديس الصواريخ الذرية في كوبا .. ولم يكن أحد يجرؤ على الاقتراب من هذا الحوار فقد كان الجو ساخنا!
... ولكن فلسطين أصبحت قضيتها متغلغلة في كل قضية دولية .. ورأيت أن الفرصة سانحة لكي "أنخس" الولايات المتحدة في أكثر قضاياها حساسية وخطرا ، وأبعدها أثرا .. علها تستيقظ وتصحو ، وترى مبلغ الظلم الذي أنزلته بشعب فلسطين وبالأمة العربية ، ورفعت يدي أطلب الكلمة ، وأرهفت الآذان ، وساد القاعة جو ساخن من الذهول : ماذا سيقول الشقيري في هذه المعركة الضخمة بين العملاقين الكبيرين الإتحاد السوفيتي والولايات المتحدة .. ولكني تحدثت .. وتحدثت..
قلت : ان الولايات المتحدة لا تنكر التهمة الموجهة اليها .. فإن حكومة الرئيس كنيدي قد اعترفت بأنها تدرب "اللاجئين" الكوبيين على حمل السلاح ، وتدفعهم للقيام بغارات هجومية على الأراضي الكوبية "لاسترداد" بلادهم .. وإني لأسأل الرئيس كنيدي ، لماذا لا يدرب "اللاجئين" الفلسطينيين على حمل السلاح ليستردوا بلادهم !! ان الأمم المتحدة قد اعترفت بحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم .. وقد رفضت إسرائيل عودتهم .. ولم يبقَ أمام الفلسطينيين إلاّ السلاح..
فلماذا لا يفعل الرئيس كنيدي للفلسطينيين ما يفعله للكوبيين وأخذ الذهول يهدأ تدريجياً .. فقد بات واضحاً أن "الشقيري" قد عقد مقارنة صحيحة بين(1/826)
الكوبيين والفلسطينيين ، ولم يقحم قضية فلسطين على القضية الكوبية
اعتباطا ..
... ثم انتقلت إلى الموضوع الخطير – موضوع الأسلحة الذرية الروسية المكدسة في كوبا وقلت صائحاً "ان كوبا، تبعد تسعين ميلا عن شواطئ الولايات المتحدة .. والولايات المتحدة ، وهي أول دولة ذرية في العالم ، قد خشيت على أمنها وسلامتها من الأسلحة الذرية المكدسة على أراضي كوبا .. ولكني أسأل الرئيس كنيدي ماذا يقول عن إسرائيل ، التي تواترت الأخبار عن استعداداتها الذرية ، وإسرائيل احتلت أرضنا ، وهي ليست بعيدة تسعين ميلا عنا ولكنها في قلب وطننا الكبير .. ان الرئيس كنيدي يتأهب الآن لغزو كوبا دفاعا عن أمريكا .. فهل أن للولايات المتحدة أن تفهم مخاوف العرب وقضية العرب .. وهل .. وهل.. "واسترسلت في هذا الحديث الضاري وسط هذا الحوار الضاري ، وأصدقائي من الوفود العربية والصديقة مشفقون علي أنني تصديت للولايات المتحدة في أخطر مشاكلها ..
... وقامت قيامة الصحف الأمريكية في اليوم التالي ، ونشرت جريدة النيويورك تايمس صورتي غاضبا، وأنا أصوب قلمي إلى الوفد الأمريكي متسائلا مستنكرا.. وقالت الهيرالد تريبيون: ان الشقيري لايمثل المملكة العربية السعودية في هذا التهجم على الولايات المتحدة .. لقد أصبح "الشقيري" بشخصه الدولة الثالثة بعد الماية في الأمم المتحدة، وكان أعضاء الأمم المتحدة في ذلك الوقت 102 .
... والواقع أن هذا الكلام صحيح ، فقد أصبحت الدولة الثالثة بعد المائة.. فإن جميع مناقشاتي في الأمم المتحدة كانت من غير تعليمات ..بل إنها(1/827)
تخالف التعليمات.. وصحيح أيضاً ، أنني لم أكن في مواقفي في الأمم المتحدة أُمثِّل المملكة العربية السعودية.. ولكن الصحيح أيضا إنني كنت أُمثِّل مشاعر الأمة العربية في جميع أقطارها وديارها.. وبهذا فقد أصبحت عبئاً ثقيلا على المملكة العربية السعودية ، وهي دولة لها مصالحها وارتباطاتها ونظرتها السياسية ، ولست أحسب أن دولة عربية أخرى كانت تتحمل أن يمثلها رجل يتكلم بعاطفة الجماهير ، لا بلغة الدبلوماسيين المحترفين .. أو السياسيين الموظفين .. ولست أحسب كذلك أن الجمهورية العربية المتحدة في ذروة "ثوريتها" كانت قادرة أن تتحمل مغامراتي الثورية في الأمم المتحدة . ذلك كان "ضعفي" الكبير .. وبذلك أعترف ..
وجاء موضوع آخر : سأتعرض له في مكان آخر ، فلقد فصلت من خدمة المملكة العربية السعودية ، وانطلقت الزغاريد من واشنطن ولندن ، جذلانة فرحانة ، بهذا الخبر البهيج ، وأعلنت نيويورك تايمس "طرد الشقيري من الأمم المتحدة " وأذاع راديو لندن " طرد الشقيري من المملكة العربية السعودية " .. ولم أكن أستبعد هذه النتيجة ، فقد كنت أتوقعها منذ زمن ..
... ولكني لا أنسى ذلك اليوم الذي جاءني فيه الدكتور بشير العظمة ، وكان رئيسا للوفد السوري في الأمم المتحدة ، ليبلغني برقية من السيد خالد العظم رئيس الوزراء "بأنَّ سوريا ترحب بك .. وأنَّ مكانك محفوظ في الحكومة السورية .." فشكرت وشكرت .. وكدت أعود إلى خدمة الحكومة السورية لولا أن "القدر" قد جرَّني إلى ميدان آخر .. لأُنشئ الكيان الفلسطيني ومنظمة التحرير الفلسطينية .(1/828)
... وأحمد الله أنني في عملي في الأمم المتحدة رئيسا للوفد السوري ورئيسا للوفد السعودي ، قد وقفت على الصعيد الدولي مع قضايا التحرير ، ومكافحا الاستعمار في كل مواقفه ، وعلى الصعيد العربي ناضلت كجزائري في القضية الجزائرية ، وتونسي في القضية التونسية ، وليبي في القضية الليبية ، ومغربي في القضية المغربية ، وعُماني في القضية العُمانية ، وفلسطيني في القضية الفلسطينية ..
ولكني أولاً وآخرا مثلت مشاعر الجماهير العربية ..
وبذلك أفتخر .. وبذلك أعتز .
أيام مع خروشوف وكوسيجن
وكما نشأت أول ما نشأت محبا للانجليز والأمريكان ، ثم انقلبت وأصبحت عدوهم الأول ، فكذلك نشأت أول ما نشأت كارها للاتحاد
السوفيتي ، ثم انقلبت وأصبحت صديقهم الأول ..
... وقد بدأت كراهيتي للاتحاد السوفيتي في أوائل العشرينات ، منذ أن كنت صبيا ، أستمع في "ديوان" بيتنا في عكا إلى عمي ، وهو يقرأ صحيفة "المقطم" القاهرية على جمع من الزوار المتقاعدين من بقايا موظفي الدولة العثمانية .. فقد كانت عناوينها البارزة مثيرة إلى حد بعيد ، وكانت أخبارها(1/829)
تتحدث عن المجازر البشرية التي يقوم بها الشيوعيون في أنحاء روسيا ، وما يلحق ذلك من هدم المعابد ، والدعوة إلى الإلحاد ، وإهدار الحرمات وإفشاء الحياة الإباحية ، وكان الزائرون المتقاعدون يستفظعون هذه الأخبار ويتوجسون خيفة أن تكون "القيامة " قد اقتربت ، فكل ما جرى في الإتحاد السوفيتي ، على حد قول عمي ورفاقه ، هو من أشراط الساعة .. والعياذ بالله ..
... وكنا نحن الصبيان ، نلتقي في المدرسة ونتناقل هذه الأخبار فيما بيننا ونتساءل عن حقيقتها ، وكان أهم ما يقلقني من الشيوعية كما وصلت إلى أسماعنا يومئذ أمور ثلاثة : أولاً: أن الشيوعية تستهدف إنشاء دولة عالمية واحدة ، ونحن لم نتمتع بعد بقوميتنا وحريتنا واستقلالنا ، ثانيا : أن الشيوعية دعوة إلحادية ، ونحن أمة متدينة ، وإلينا ينسب دين الإسلام، وهو تراثنا وحضارتنا وتاريخنا .. ثالثا : أن الشيوعية تدعو إلى الإباحية ، ونحن أمة محافظة ذات تقاليد ، والأسرة عندنا هي جوهر حياتنا .
ولكن .. حين بدا لنا أن حلفاءنا الإنجليز قد خانوا عهودهم ، وأخذوا في بناء الوطن القومي اليهودي في وطننا ، راحت عقولنا تتحرك بحثا عن النصير .. ليعيننا في حركتنا القومية .. ولم نجد هذا النصير في ألمانيا وتركيا ، فقد خرجتا من الحرب مهزومتين ، ولم تكن ألمانيا الهتلرية وايطاليا الفاشستية قد ظهرتا بعد على مسرح القوة الدولية .. وانتقلنا من الصبا إلى الشباب، الشباب المثقف القاريء.. ورحت مع جيلي من الشباب أبحث عن الحقيقة .. وعن النصير ..(1/830)
... وترامى إلينا في أوائل الثلاثينات أن السيد حمدي الحسيني صاحب جريدة "صوت الحق" في يافا هو شيوعي ، وأنَّ السلطة البريطانية تراقبه وتطارده ، وتعتقله من حين إلى حين .. وأنه يسافر إلى أوروبا لحضور مؤتمر "العصبة العالمية لمقاومة الاستعمار ".
... ولقيت السيد حمدي الحسيني عدة مرات ، واستمعت إليه وهو يخطب في النوادي عدة مرات .. وقد جرى بيني وبينه حوار عن الشيوعية وأهدافها وموقفها من القضية الفلسطينية .. وكان يؤكد لي أن الإتحاد السوفيتي هو العدو اللدود للاستعمار والحركة الصهيونية وبدأت أقرأ عن الإتحاد السوفيتي في المصادر المختلفة العربية والانجليزية ، وأخذت أرى أن ما كانت تنشره المقطم والصحف العربية الأخرى كان مملوءا بالمبالغات .. فالإباحية لا وجود لها إطلاقاً ، وكما كتب أسقف كنتربيري .. " أن حياة الأسرة في روسيا أكثر احتشاما من حياة الأسرة في الدول الغربية"، أما تهمة الإلحاد فصحيحة، لأنها في صميم العقيدة الشيوعية .. أما مقاومة الاستعمار وتأييد الحركات التحريرية ، فإن المراجع الشيوعية تؤكدها وتفلسفها وتعتبرها هدفا من أهدافها الرئيسية .
قلت في نفسي : ما لنا وللإلحاد .. لكم دينكم ولي ديني .. ، ان الإتحاد السوفيتي لا يستطيع أن يفرض علينا الإلحاد إذا كنا نأباه .. ولنبدأ التقارب مع الإتحاد السوفيتي ، لعله ينقذنا من هذا الخطر الكبير الذي يحدق بنا ، ويهددنا بالجلاء عن وطننا .(1/831)
وازدادت اتصالاتي بالسيد حمدي الحسيني وعصبة الشباب الذين أخذوا عنه، لأتعرَّف إلى مدى العون الذي يستطيع الإتحاد السوفييتي أن يمده لحركتنا الوطنية في كفاحنا ضد الاستعمار والصهيونية.
ووضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها على هزيمة ألمانيا
وإيطاليا ، فانهارت آمالنا فيها ، وخرجت روسيا دولة منتصرة ، فخطر لنا نحن الجيل الصاعد ، أنه لا بد لنا من الاتجاه اليها بالنصرة والتأييد ، فليس لنا أمل في الدول الغربية، وقد حفزنا إلى ذلك ما ردده تشرتشل أثناء الحرب العالمية الثانية ، حين تحالف مع روسيا من أنه مستعد للتحالف مع الشيطان لتحقيق النصر .. وغدونا نردد هذا الشعارلأنفسنا ، ونقول فلتكن روسيا هي الشيطان ، فلا حرج علينا أن نتحالف معها في معركتنا من أجل الوطن .
وازداد في ذلك الوقت ظهور الشباب اليساريين في فلسطين ، وخاصة في حيفا ، وأصدروا جريدة "الاتحاد " لتعبر عن آرائهم ، ومما ساعد في نشاطهم أن الإتحاد السوفيتي كان حليفا لبريطانيا في الحرب العالمية الثانية ، فكانت السلطات البريطانية في فلسطين تتجاوز بعض الشيء عن نشاطهم كما أنها كانت فرصة لمراقبتهم والتعرف على أشخاصهم وعلاقاتهم..
وحضرت ندوات هؤلاء الشباب اليساريين واستمعت إلى حوارهم ، وكانوا يتدرجون من الشيوعيين الحمر .. إلى اليساريين المفكرين .. إلى اليساريين الهاوين المقلدين!
وحدث في تلك الأثناء أن قدم إلى البلاد مطران موسكو ، وقام بزيارة لمختلف المدن والقرى .. وقد جاءني إلى بيتي في عكا ومعه الشباب(1/832)
اليساريون ، وامتدت الزيارة بضع ساعات .. وجرى حوار طويل بيني وبين المطران ، تناول الشيوعية وأهدافها ، ونظرتها إلى القضية
الفلسطينية ، قلت للمطران : أريد أن اسمع منك موقف الإتحاد السوفيتي من الدين .. قال المطران : لقد نشرت أشياء كثيرة في هذا الموضوع ، والحقيقة أن الإتحاد السوفيتي دولة علمانية ، تترك الحرية الكاملة للمواطنين ، دين أو لا دين ، فمن شاء أن يكون مسيحيا أو مسلما أو يهوديا أو بلا دين كان له ذلك .. والطوائف الدينية في الإتحاد السوفيتي تمارس حياتها الدينية .
قلت : وما هو موقفكم من المسألة اليهودية ؟
قال: ان موقفنا من المسألة اليهودية واضح كل الوضوح .. وتناول المطران من حقيبته كتاب "كارل ماركس عن المسألة اليهودية" وكتاب فلاديمير لينين "مكان الإتحاد العام للعمال اليهود في الحزب الشيوعي" .. فقد أكّد ماركس أن تحرير اليهود سياسيا ليس بكاف لحل المسألة اليهودية .. وأن اليهودية ظاهرة اجتماعية تنمو في المجتمع البرجوازي، وأن القضاء على الظروف الفاسدة في المجتمع يقضي على اليهودية كظاهرة اجتماعية، وفي هذا يكمن الحل للمسألة اليهودية.. أما لينين فإِنه يرى أن فكرة القومية اليهودية هي فكرة رجعية .. وهي فكرة غير ثابتة من الناحية العلمية.
قلت : هذا جميل جدا ! ونحن متفقون معكم أن اليهودية ليست قومية، وليس بين اليهودي الحبشي والقفقاسي والهندي والأمريكي واليمني إلاّ رابطة الدين، ولكن ما هو موقفكم من الحركة الصهيونية؟
قال : وهذا كتاب جوزيف ستالين عن الماركسية والمسألة القومية ، يعلن فيه أن اليهود لا يؤلفون أمة ، وأنَّ الصهيونية حركة شوفينية ..(1/833)
قلت : ان كتاب ستالين قد وضع في عام 1913، ونحن الآن في عام 1945، فهل لازلتم عند هذا الرأي ؟ وهل أنتم مستعدون لمساندة العرب في كفاحهم لمقاومة الوطن القومي اليهودي في فلسطين؟
قال : ان رأينا في الصهيونية والمسألة اليهودية لا يزال قائما .. أما بالنسبة إلى اليهود المقيمين في فلسطين ..فهذه مسألة سياسية تقررها الدولة في موسكو ، ولا أعرف عنها شيئا .
قلت : إنني مسرور لزيارتكم وأشكركم على إيضاحكم، ولكن بقي عندي سؤال أخير ..
قال : وما هو ؟ عسى أن أستطيع الإجابة عنه .
قلت : إنني مستعد أن أكون شيوعياً ، بشرط أن أبقى فلسطينيا عربيا مسلما .. فهل هذا ممكن حسب المذهب الشيوعي ؟
فضحك المطران والشباب اليساريون الذين معه ، ورحت في مزيد من الشرح لأقول : أريد أن أبقى فلسطينيا أكافح الوطن القومي اليهودي ، وعربيا أحافظ على قوميتي في دولة عربية ، ومسلما في مجتمع إسلامي .. فهل هذا مقبول في المذهب الشيوعي؟
فنهض المطران وهو يقول: ان هذا الموضوع يحتاج إلى "لينين" جديد .. وكانت جلسة طريفة ، فخرجنا إلى الحديقة لأودع المطران وصحبه اليساريين ، وأنا أشد على يده وأقول : لقد جعلتني صديقا للاتحاد السوقياتي وسأظل كذلك على الدوام .
ولم يكن في خاطري في ذلك اليوم أن الاقدار ستقذف بي إلى الأمم المتحدة لأنجز وعدي وعهدي .. ولأكون الصديق الأول للاتحاد السوفيتي(1/834)
بين جميع الوفود العربية والصديقة .. أخوض معاركهم فأحارب حربهم ، ولكن لا أشارك في سلمهم .. ولا أساهم معهم في التعايش السلمي .. فلم أكن أستطيع أن أهادن الاستعمار والصهيونية ، أو أن أتعايش معها ..
وازداد نشاط الشباب اليساريين ، بازدياد نشاط الإرهاب اليهودي في فلسطين وأخذوا يكتبون ويخطبون ، داعين إلى طرح القضية الفلسطينية على الرأي العام ، والشيوعيون بارعون في صياغة الشعارات وإطلاق العبارات، وكثرت زيارتهم لي في مكتبي وبيتي في عكا ، في محاولة لتجميع كل العناصر في جبهة واحدة لمكافحة الاستعمار .. وذلك هو أسلوبهم التقليدي في إنشاء "جبهة وطنية" والعمل من خلالها ثم توجيهها .. ثم السيطرة عليها ثم الانفراد بمقاليد الأمور .. والتخلي بعد ذلك عن رفاق الطريق، رفاق الجبهة .. ورفاق النضال !
وبرزت فكرة عرض القضية على الأمم المتحدة في أُخريات عام 1946، وانبرى اليساريون إلى الدعوة لهذه الفكرة ، وتكاثرت زياراتهم لي، لأنظِّم معهم اجتماعات وطنية شعبية في ارجاء البلاد ، لمساندة هذا الاقتراح.
قلت : وما ترجون من وراء الأمم المتحدة ؟
قالوا :إنَّ القوى التقدمية في الأمم المتحدة ستأخذ بناصرنا ، وهي مناسبة تكشف الاستعمار العالمي .
قلت : هل الغرض أن نكشف الاستعمار العالمي ، أم الوصول إلى نتيجة حسنة لصالح قضيتنا ؟
قالوا: إذا لم نصل إلى نتيجة حسنة ، نكون قد كشفنا الاستعمار العالمي على حقيقته!!(1/835)
قلت : وما تظنون أن يكون موقف الإتحاد السوفيتي ، إذا عرضت القضية على الأمم المتحدة ؟
قالوا : أن الإتحاد السوفيتي يعتبر الحركة الصهيونية حركة رجعية ، وهو يؤيد حركات التحرير الوطني في كل بقاع العالم ، ونحن واثقون من النصر.
قلت: ان الأمم المتحدة هي امتداد لعصبة الأمم، وأخشى أن تكون المنظمة العالمية الحاضرة خاضعة للولايات المتحدة، وتكون الطامة الكبرى..
قالوا: إذا لم ُتلاقِ قضيتنا نجاحا، فيكفي أننَّا عرضنا قضيتنا على الرأي العام العالمي وفضحنا الاستعمار العالمي على حقيقته .
وامتد الحوار بيننا طويلا على هذا النحو ، دون أن نصل إلى نتيجة قاطعة ..
وتعاقبت الأيام والأسابيع والشهور ، وشعارات اليساريين تنطلق من جريدة "الاتحاد" بالدعوة إلى الالتجاء إلى الأمم المتحدة ، حتى أصبح الرأي العام الفلسطيني مشبعا بالفكرة ، وقد دخل في روعه أن الإتحاد السوفيتي سيأخذ بناصر الشعب الفلسطيني .. وكل ما في الأمر أن نوافق على قيام حكم ديمقراطي متحرر في فلسطين ، حتى يطمئن اليهود أن العرب لا يريدون إلقاءهم في البحر !!
وكان من المفارقات العجيبة ، أن بريطانيا الاستعمارية هي التي تولت عرض القضية الفلسطينية على الأمم المتحدة .. وانتهت المسيرة المعروفة في أروقة الأمم المتحدة ، بالضغوط الأمريكية الرهيبة ، إلى(1/836)
إصدار قرار بتقسيم فلسطين .. وكان الإتحاد السوفيتي في جانب هذا القرار بكل قوة وصراحة وعناد ..
ووصلت إليّ محاضر الأمم المتحدة ، وقرأت خطب السيد أندريه غروميكو رئيس وفد الإتحاد السوفيتي، فكانت مليئة بالحماسة والاندفاع في إقامة دولة يهودية في فلسطين ..
وانكمش اليساريون في فلسطين إلى خلوتهم بعد ذلك "الانتشار" ورأيت أن أرُدّ لهم زياراتهم الكثيرة ، فأخذت "أبحث " عنهم في حيفا ، والتقيت بهم غير مرة .. وسألت : لماذا وقف الإتحاد السوفيتي هذا الموقف وبهذه الحماسة ؟
قالوا : ان العرب هم المسئولون عن هذا الموقف .
قلت :لماذا ؟
قالوا:إنَّ الوفود العربية لم تتصل بالوفد الروسي ، ثم ان عددا من الحكومات العربية لا تزال تسير في فلك الدول الاستعمارية .
قلت: ان هذا صحيح .. ولكن ما ذنب الشعب الفلسطيني .. والأمة العربية .. وما ذنب العدل والحق .. وتقرير المصير .
قالوا : هذه نتيجة مسايرة العرب للدول الاستعمارية .
قلت : لا أظُن أن بينكم واحدا أشد مني عداء للدول الاستعمارية .. ولكن قولوا لي.. لماذا سار الإتحاد السوفيتي في ركاب الدول الاستعمارية ..
قالوا : ان الإتحاد السوفيتي لا يسير مع الاستعمار .. الإتحاد السوفيتي ينادي بالمبادئ الديمقراطية التحريرية .. وعلى كل حال ان اليهود بشر مثلنا ولهم حق في الحياة ..(1/837)
قلت : إني لا أجد خيرا في الاستمرار في الحوار معكم .. لقد كنت أتمنى أن تحملوا تفكيرنا إلى موسكو ، لا أن تحملوا تفكير موسكو إلينا .. أنتم أصبحتم مواطنين سوفيات ، ولم تعودوا فلسطينيين ولا عربا ..
وانتهى الحوار بيننا وكان اللقاء الأخير .. فقد بقي معظم أُولئك اليساريين في فلسطين بعد قيام إسرائيل ، وأصبح بعضهم أعضاء في الكنيست "البرلمان" الإسرائيلي ..
وجاء بعد ذلك عملي في الأمم المتحدة رئيسا للوفد السوري ، وبدأت أتصل بالوفد السوفياتي ، أتعرّف على رئيسه وأعضائه ، وأتحدّث اليهم بما تحمله الجماهير العربية من البغضاء للاستعمار الغربي، ثم أخذت أوافق على اقتراحاتهم في الأمم المتحدة ، وأثني على خطبهم .. وأنا أطمع أن يجدوا الفرصة في المستقبل لتأييدنا في قضية فلسطين ، فإن المواقف الدولية لا تثبت على حال .. وأصبحت هذه العلاقات تنمو مع الزمن ، كما فصلتها في مذكراتي عن مشروع الدول الثماني بصدد المفاوضات المباشرة مع إسرائيل وسائر القضايا العربية والدولية التي عرضت على مجلس الأمن والجمعية العامة.
... وتناقلت الأخبار أن السيد خروشوف قد أصبح الرجل الأول في الإتحاد السوفيتي ، فتابعت أحاديثه الصحفية ، فرأيت فيها نبرة جديدة ، تنم عن شخصية نامية متحركة ، فأخذت أصطنع المناسبات في الأمم المتحدة لأُثني على مواقفه الدولية وتصريحاته وكان السيد سوبوليف المندوب الروسي الدائم ، وكوزنتسوف النائب الأول لوزير الخارجية ينقلان إليّ تحيات رئيس الوزراء الرفيق خروشوف، وكان جروميكو وزير الخارجية(1/838)
السوفيتية، كلما جاء إلى دورات الأمم المتحدة ينقل إليّ شكر الرفيق خروشوف لمواقفي في الأمم المتحدة ..
وتوثقت عرى "الصداقة" بيني وبين وفد الإتحاد السوفيتي ، أُدعى إلى ولائمهم واحتفالاتهم فيحيطوني برعاية خاصة .. وكنت أرُدّ لهم ضيافتهم ، فأقيم في كل عام وليمة كبرى في الأمم المتحدة ، أدعو اليها جميع وفود الدول الشيوعية ، ومعهم المستر همرشلد ووفود الدول غير المنحازة .. فتكون مظاهرة سياسية ضد الدول الاستعمارية ، وعلى شرف الدول الإشتراكية ، وبأموال سعودية ، بعد أن أصبحت رئيسا للوفد السعودي ..
وحدث أن جاء السيد خروشوف إلى الأمم المتحدة لحضور "دورة القمة" فبالغت بالثناء عليه في خطابي في المناقشة العامة .. وزرته في مقر الوفد السوفيتي الدائم وجلست معه قريبا من ثلاث ساعات ، شرحت خلالها جميع القضايا العربية وفي مقدمتها قضية فلسطين .. ثم اجتمعت به في القاهرة لمناسبة قدومه للاشتراك في احتفالات السد العالي .. وفي قصر القبة تحدثت إليه طويلا ومليا في كل ما يهم الأمة العربية .. ولكن اللقاء الكبير كان في "سوجي" على شاطئ البحر الأسود في صيف 1961، تلبية لدعوة من السيد خروشوف نفسه .
وصلتني الدعوة عن طريق السفارة السوفيتية في بيروت ، وكنت مصطافا في لبنان .. فأبرقت إلى الملك سعود أعرض عليه أمر الدعوة وأستأذنه بالسفر .. وكنت أخشى أن لا يوافق على سفري .. فليس بين الرياض وموسكو علاقات دبلوماسية ، وليس للسعودية مصلحة في هذه الزيارة ..(1/839)
وجاءني جواب الملك سعود ، عن طريق السفارة السعودية في بيروت "لا مانع من قبول الدعوة بشرط أن تكون الزيارة شخصية "، فلم أجد حرجا في هذا القيد وعزمت أن لا أتحدث في موسكو عن السعودية شيئا من قريب أو بعيد .. وأن يكون حديثي عن الأمة العربية بأسرها .. وعن مشاكلها وقضاياها ، وفي مقدمتها قضية فلسطين .. وهذا ما أنا ذاهب من أجله .
وحملتنا الطائرة من بيروت ، زوجتي وأنا ، وفي بضع ساعات كنا نهبط مطار موسكو .. وكان في استقبالي نائب رئيس الوزراء ، والسيد كوزنتسوف نائب وزير الخارجية ، وكبار رجال الخارجية وعدد من زوجاتهم ، والصحفيون والمصورون .. وبعد مراسيم الاستقبال المعتادة أقلتنا السيارة إلى الفندق .. إلى جناح كبير وقضينا ليلة ناعمة في موسكو الهادئة .. بعد المدينة الصاخبة بيروت ..
وخرجت في الصباح ، لنعقد الاجتماع الأول مع السيد جروميكو وزير الخارجية السوفيتية ، واجتازت بي السيارة شوارع موسكو الرحبة الواسعة ، وسط مبانيها الذاهبة بالعرض لا بالارتفاع ، ووصلنا الكرملين ، ذلك المبنى الضخم ، مقر الدولة الفضائية الذرية الأولى في العالم، وسرت في المعابد الطويلة ، وحسبت أنيِّ في مسكوبية الناصرة ، حيث الحاكم الإداري للواء الجليل ، او "مسكوبية" القدس حيث القضاء العالي في فلسطين .. مع فارق الضخامة .. وفوارق السكان !!
ودخلت إلى صالة الاجتماعات في وزارة الخارجية ، واستقبلني السيد جروميكو ومعه معاونوه كبار موظفي الخارجية لشؤون الشرق الأوسط ..(1/840)
وبعد عبارات الترحيب والتحية ، راح الوزير يسأل عن الملك سعود وصحته مكررا كلمة "جلالته" في كل مناسبة ، مؤكدا أن الإتحاد السوفيتي يضمر الخير "لجلالته" وللمملكة العربية السعودية، وأنه يرغب أن تقوم بين الرياض وموسكو العلاقات الدبلوماسية، وأحسن صلات المودة والمصالح المشتركة ، وأنَّ "سعادة الوزير السيد الشقيري" يعلم يقينا أن الإتحاد السوفيتي يؤمن بمبدأ التعايش السلمي بين جميع الأنظمة الاجتماعية والسياسية ، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة ، ملكية أو جمهورية، اشتراكية أو غير اشتراكية .. وسكت الوزير تاركاً لي أن أفتح "المباحثات".
وشكرت الوزير على الدعوة والحفاوة، معرباً عن أملي في أن تكون زيارتي معززة لعلاقات المودة بين الإتحاد السوفييتي والأمة العربية وانتقلت بعد ذلك إلى التحدث عن كفاح الأمة العربية في سبيل حريتها وسيادتها ، منذ أوائل القرن التاسع عشر عشر، مستعرضاً شؤون الوطن العربي ، قطراً قطراً ، في مقاومة الاستعمار البريطاني والافرنسي والايطالي ، وما تم انجازه في ميدان السيادة الوطنية.. وانتقلت بعد ذلك إلى استعراض كفاح الأقطار العربية التي ما تزال تناضل من أجل حريتها: الجزائر، عدن، الإمارات، والمشيخات العربية وفلسطين .. وخلصت من ذلك إلى أن مرحلة النضال الحاضر تتركز على استكمال السيادة في الوطن العربي، والعمل للوحدة العربية .
ودخلت بعد هذا في حديث مسهب عن السياسة الأمريكية في الوطن العربي ، وما تهدف إليه من السيطرة على المصير العربي ، واستغلال الثروات العربية ، وجعل البلاد العربية داخلة في مناطق النفوذ الأمريكية ..(1/841)
وأنَّ هذه السياسة الأمريكية إنما تمثل استعمارا جديدا ، يلحق أكبر الضرر بالأمة العربية ، وبالاتحاد السوفيتي بوصفه صديق العرب وجارهم القريب .. وإلى هنا فقد كان الوزير السوفيتي يستقبل الحديث بكل إمارات الموافقة والرضا ..
ثم استطردت إلى القول : أن الولايات المتحدة قد عملت على إنشاء إسرائيل في قلب العالم العربي ، تحقيقا لسياستها ، ولتكون قاعدة أمريكية متقدمة ، شأن القواعد الأمريكية الاخرى في أوروبا والشرق الأقصى.
وبدا على المستر جروميكو ، وأنا أتحدث عن القضية الفلسطينية ، انه يستمع إليّ مجاملة لا اهتماما .. ، وأنا أعرف خطبه الشهيرة في الجمعية العامة ومجلس الأمن ، اندفاعا وتأييدا لاقامة دولة يهودية في فلسطين ..
وجاء دور الوزير جروميكو ، فتحدث بتقدير وإعجاب عن كفاح الشعوب العربية في سبيل حريتها واستقلالها ، وأثنى على جهودها لاستكمال سيادتها .. وأطرى نضال الشعب الجزائري ضد فرنسا ، وحركات التحرير في الجزيرة العربية ضد بريطانيا .. وأن الإتحاد السوفيتي لا يألو جهدا في سبيل مساعدة الدول العربية اقتصاديا وعسكريا وسياسيا ، داخل الأمم المتحدة وخارجها ، أما قضية فلسطين " فانت تعرف موقفنا منها ، ونحن نعرف مواقفك منها ، كما أعلنتها مرارا في الأمم المتحدة .. ونحن نصر على تأييد حق اللاجئين في العودة والتعويض ، ونندد بالاعتداءات الإسرائيلية كلما وقعت .. أما بالنسبة لقضية فلسطين في مجموعها ، فإنه يحسن أن تتحدث في الموضوع مع الرئيس خروشوف .. وسيستقبلك في "سوجي" في مصيفه على البحر الأسود ".(1/842)
ثم دخل الحديث في المجاملات وذكريات الأمم المتحدة ، وإذا بالوزير السوفيتي يبادرني بالسؤال:-
قال : وما رأيك في قضية الكويت ؟
قلت : أن الكويت قد أصبحت دولة مستقلة ، وقد انتهى النفوذ البريطاني..
قال : مارأيك في دخولها الأمم المتحدة؟
قلت:ذلك حقها كأية دولة أخرى .
قال : وما رأيك في موقفنا من عضوية الكويت في الأمم المتحدة ؟ (وكان الإتحاد السوفيتي معارضا في ذلك ، تعاطفا مع حكومة عبد الكريم قاسم ).
قلت : إنه موقف غير سليم .. ان عبد الكريم قاسم يعارض في ذلك استنادا إلى فكرة الوحدة العربية .. وأنَّ الكويت جزء من العراق .. إنني من أنصار الوحدة .. ولكن لماذا "تلتهم " الوحدة الكويت وحده .. هناك أقطار عربية تنطبق عليها فكرة الجزء من الكل ، ومبدأ الوحدة ، فلماذا يكون الانفصال في جهة . والوحدة في جهة أخرى .. وقد قيل إنكم لم تكونوا راضين عن الوحدة بين سوريا ومصر ، وغير راضين عن العودة إلى الوحدة بين هذين القطرين ..
وهنا تدخَّل الوزير جروميكو فقال : بالنسبة إلى سوريا ومصر ، نحن لا شأن لنا بأمور الوحدة او الانفصال ... أما بالنسبة لموضوع الكويت فإن موقفنا يستند إلى مبادئ وقواعد نحن نلتزم بها على الدوام ..(1/843)
قلت : ان موضوع الكويت والعراق هو مسألة داخلية ، ونصيحتي أن لا تقحموا أنفسكم في هذا الموضوع ، وخاصة أن دول الجامعة العربية
بأسرها ، قد اتخذت موقفا يخالف موقف حكومة عبد الكريم قاسم .
ودخلت الكويت الأمم المتحدة .. وبهذا انتهت واحدة من "حكايات " الأمة العربية في الأمم المتحدة .
وقضيت بضعة أيام في موسكو في برامج اجتماعية ، فزرت مسارحها الرائعة ليلا ، ومنشآتها العامة نهارا ، وذهبت إلى جامعة موسكو واجتمعت إلى الطلاب العرب الوافدين من كافة أنحاء الوطن العربي ، وجاء معهم عدد من الطلاب السوفييت ، وألقيت محاضرة عن الأمم المتحدة وميثاقها ، وما أنجزت وما فشلت في إنجازه .. وتناولت دور الأمم المتحدة في تقطيع أوصال الوطن الفلسطيني وتشريد شعبه .
وكنت أتفرّس في وجوه الطلاب العرب .. فرأيتهم في مجموعهم كالعهد بهم إيماناً وحماسة .. إلاّ بضعة طلاب قد لا يتجاوزون أصابع اليد ، كان الطلاب الروس أكثر منهم انفتاحا وانشراحا .. وانتهيت من المحاضرة وأقبل علي الطلاب العرب في تحية وسلام ، وأجبتهم على اسئلتهم الشيقة ، المشتاقة إلى الوطن العربي ، وسألت : من هم أولئك الطلاب العرب العابسون المتجهمون .. فقالوا ، وهم يلتفتون يمينا ويسارا ليتأكدوا أن غريبا لا يسمعهم : هؤلاء شيوعيون .. شيوعيون حمر .. ونحن معهم في خصام دائم وحوار مستمر ..
وانصرفت من جامعة موسكو إلى ضريح "لينين" فوقفنا ، زوجتي وأنا في رتل طويل يسير الهوينا إلى مدخل الضريح .. ومشينا خطوة خطوة مع(1/844)
الماشين ، حتى بلغنا مدخل الضريح ، فدخلناه مع الداخلين .. وكان المشهد رهيبا ومهيبا تحت أضواء خافتة مسلطة على وجه لينين ولا ينقصه إلاّ بريق الحياة .. ، وتفرست في وجه هذا الانسان الميت ، وأنا أُكبِر إنجازاته العظيمة كواحد من صانعي التاريخ ..
وتفرس الشباب والشابات الروس في وجه لينين في خشوع وتقديس .. وقلت في نفسي ان هؤلاء لا يخشعون لله ، ولكنهم يخشعون للإنسان الميت .. وأيقنت أننا أحسن حالا ، فنحن نتعلق بالحي الذي لا يموت ، وهم يتعلقون بمن لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا .. وتذكرت قولة عمر الشهيرة : كنا نصنع الصنم من العجوة ، فنعبده أياماً ، ثم نأكله ..!
وعدنا إلى الفندق ، وأنا أفكر في هذا الشعب العظيم ، الذي أنهكته المظالم القيصرية والطقوس الدينية في ماضيه الطويل العريق .. حتى كفر بكل ذلك .. وكان عليه أن يكفر ، ولكن بباطل الإنسان لا بوجود الله .. وخطر لي وأنا مسترسل في هذه النجوى النفسية أن روسيا الفضائية ستعود إلى الإيمان بالله ..فكلما توغلت بين الأفلاك والنجوم .. سيثور في عقلها وفؤادها السؤال الأكبر من صنع هذا العالم الأكبر ، وهذا السؤال هو بداية الايمان ..
وقضينا يومين آخرين في التعرف على معالم المدينة : ميادين الرياضة ، وبرك السباحة المكشوفة التي تدفأ في الشتاء .. والمترو تحت الأرض ، ومحطاته الجميلة التي هي أشبه ما تكون بالقصور الصغيرة ..
وأعدّ لنا برنامج لزيارة ليننغراد ، فإن زيارة هذه المدينة الخالدة لا بد أن تكون في برنامج كل زائر .. وركبنا القطار وقضينا الليل كله بين صحو(1/845)
ونوم ، وفي الصباح كنا في محطة ليننغراد ، يستقبلنا رئيس البلدية وكبار رجال الدولة بالتحية والترحاب .
وفي ليننغراد كانت لنا زيارات للمنشآت العامة ومصانع الصلب الضخمة .. وقد أذهلني ما وصلت إليه التكنولوجيا الروسية في الصناعات الثقيلة ورأيت بالعين المبهورة تلك الإنجازات الباهرة ، التي تكمن فيها القوة الذاتية للشعب الروسي .. وكنت أرى الآلات الضخمة وهي تهوي بكل ثقلها على الحديد ، الأحمر المحجر ، فتقومه وتلويه وتشكِّله .. وتصنعه كما تشاء.
وطفنا في ضواحي ليننغراد واستمعنا إلى أقاصيص البطولة الفذة على "الطبيعة " .. فهنا كانت المعارك الضارية ، وهناك تجلَّى استبسال الجيش والشعب و..و..
وذهبت في اليوم التالي إلى جامع ليننغراد ، والتقيت بالإمام ومعاونيه، وتحادثنا بالفصحى حول شؤون المسجد والمسلمين ..، وانتحيت جانبا فتوضأت وصليت .. وفي هذه الأرض الغريبة ولَّيت وجهي شطر المسجد الحرام ، إلى القبلة ، وأنا أدعو الله أن يصون المسجد الأقصى والقبلة الأولى .. وفرغت من الصلاة ، وفي خاطري أنه لا يزال بين الله وروسيا خيط من الإيمان .. ، ولا بد أن تكتشف روسيا موجد الوجود ، وهي تسبح في آفاق الوجود ، إذا كانت قد عجزت عن اكتشافه على هذه الأرض .
وسألت الإمام :
قلت : وهل يمارس المسلمون الشعائر الإسلامية ، ويؤدون الصلوات في هذا المسجد ؟
قال :العبرة بالأخلاق .. الأخلاق هي الأصل ..(1/846)
قلت : هذا صحيح .. والرسول يقول إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق .. ولكن هل يمارس المسلمون هنا العبادات ؟
قال : الأخلاق .. الأخلاق ..
فسكَتّ ولم أتابع الحديث .. وأدركت أنني أتحدث إلى "موظف" لا إلى إمام .. وأنَّ المسجد الذي صليت فيه ، إنما هو للزيارة لا للعبادة .
وفي صبيحة اليوم التالي ، غادرنا الفندق في طريقنا إلى المطار لتقلنا الطائرة إلى "سوجي" على شواطئ البحر الأسود ، حيث يصطاف الرئيس خروشوف وفي بضع ساعات انتقلنا من الشمال إلى الجنوب .وأصبحنا اقرب ما نكون إلى الوطن العربي ، في عصر السباق مع الصوت .. في رنَّته وسرعته !!
ولقد راعنا ما رأينا من مشاهد الحسن والجمال في هذه البقعة الخلابة، وفد خلعت عليها الطبيعة أجمل ما فيها من الروائع والبدائع .. فهذا الشاطئ الفتان ، قامت حوله القرى الصغيرة ، بمبانيها المنسقة وحدائقها المنظمة، وتلك السلسلة من الهضاب والجبال ، تطل بغاباتها و أحراشها على البحر لتلقي عليه ألوانا من الظلال الوارفة .. وغدوت أُسائل نفسي: أيهما أجمل ؟ - هذه البقعة الفريدة .. أم ما رأيت في كل عمري ، في سويسرا وألمانيا وإيطاليا والنمسا ، ولقد ملك الجمال والجلال لساني وجناني فلم أطق جوابا .
ونقلتنا السيارة، زوجتي وأنا، إلى فيلا الرئيس خروشوف على شاطئ البحر فوصلناها، ولم أصدق اننا وصلناها .(1/847)
ذلك انني لم أجد فيها وحولها، ما ينبئ باننا في منزل الرئيس العظيم للبلد العظيم ، لقد عطفنا من الطريق العام إلى درب فرعي ووقفنا أمام بوابة عادية، ففتح لنا البواب.. ودخلت سيارتنا ومن خلفنا سيارة المرافقين من رجال الخارجية السوفيتية ، ورأينا أنفسنا في غابة جميلة.. وأشجار الصنوبر حتى رمال البحر ..وفي الطرف الآخر من الغابة كانت هنالك فيلا بسيطة ، وقف على عتباتها الرئيس خروشوف ينتظر ضيوفه : زوجتي وأنا ..، وصافحنا الرئيس خروشوف ودخل بنا إلى صالة في الفيلا ، معتذرا أن زوجته مريضة في المستشفى في موسكو .. وتناولنا المرطبات .. وجاء التراجمة .. في العربية والإنجليزية ، فقد كنت أتحدث بالعربية ، ولكني الجأ إلى الإنجليزية ، حينما استشعر أن بعض التعابير الدولية بالإنجليزية أيسر على الترجمان .
وبدأ الرئيس خروشوف الحديث عن الجمهوريات الإسلامية في أواسط روسيا وانتشار الثقافة الإسلامية والمساجد والمدارس وما إلى ذلك .. ودعاني إلى زيارة تلك المناطق .. وأسهب في الحديث عن النشاط الإِسلامي فيها ، فأدركت أن الرئيس خروشوف قد وصلته ملاحظاتي التي أبديتها إلى إمام الجامع في ليننغراد .. فشكرت له دعوته واعتذرت لقصر الوقت ، وأنَّ موعد الأمم المتحدة قد أصبح قريبا ولعلي أستطيع ذلك في العام القادم .
وبدأت أتحدث إلى الرئيس خروشوف عن القضية العربية في إطارها العام ، جاعلا من القضية الفلسطينية محور الحديث ، وقلت ما أوجزه في الأمور التالية :-(1/848)
أولا : أن الاستعمار الغربي ، إدراكاً منه لإمكانات الأمة العربية وقدراتها البشرية والمادية والروحية ، ولما يتمتع به الوطن العربي من مواقع استراتيجية ومركز متوسط في العالم .. قد أنشأ إسرائيل على أرض فلسطين، لتكون قاعدة أمامية للاستعمار ، ولتمتص طاقات الأمة العربية، وتشل حركتها ، وتعطل نموها السياسي والاقتصادي والاجتماعي ، وتجعلها ضعيفة دائما ومفتقرة أبدا..
ثانيا : أن الاستعمار الغربي ، وقد ارتحل من آسيا وافريقيا يريد أن يجعل من إسرائيل بابا خلفيا يتسلل عن طريقها إلى الأقطار التي ارتحل عنها، وهذا ما يفسرالخبرات الفنية والمساعدات المالية التي تقدمها إسرائيل لعدد من الدول النامية .. باموال معظمها أمريكية.
ثالثا: أن إسرائيل هي واحدة من سلسلة مواقع "التطويق" التي تبنيها الولايات المتحدة حول الإتحاد السوفيتي ، لاستخدامها عند وقوع أي اصطدام مسلح .. وإن إسرائيل تعتبر أخطر هذه المواقع ، لأن مصيرها مرتبط بالاستعمار .
رابعا: أن الصهيونية حركة رجعية استعمارية ، كما أدانها كارل ماركس ولينين وستالين .. ولا أنسى كذلك الرئيس خروشوف ...
خامسا : أن شعب فلسطين هو شعب اشتراكي بتاريخه ، وطبيعة وطنه .. فليس في فلسطين اقطاعيات ولا سيطرة لرأس المال .. وكلنا مجموعة من الفلاحين والعمال .. والفلاحون يملكون أراضيهم .. وأهل المدن الذين يملكون أراضي زراعية ، أصلهم من الفلاحين ، والزراعة مهنتهم.(1/849)
سادسا : أن إسرائيل "دولة" رأسمالية ، ورأسمالها من مصادر استعمارية .. والكلام عن إشتراكية إسرائيل ، خال من الحقيقة ، والإشتراكية فلسفيا وعمليا تأبى أن تطرد شعبا آمنا في وطنه ، ليحل محلهم مجموعات من الغرباء ، لاتربطهم إلاّ رابطة الدين الواحد .. ، والأسطورة الواحدة عن "الحق" التاريخي في أساطير التاريخ ..
وأسهبت في سرد هذه الحجج وأمثالها ، والتراجمة يتعاقبون على الترجمة من العربية مرة، ومن الإنجليزية مرة أخرى ، والرئيس خروشوف، مطرق في اهتمام بالغ ..
ثم خلصت إلى القول أنه كان من الخطأ أن تقف روسيا الإشتراكية إلى جانب الإمبريالية والاستعمار في عام 1947، في الموافقة على قيام إسرائيل ..وأن ذلك الموقف كان امتحاناً لمدى صدق الأيدولوجية الشيوعية فكراً وتطبيقاً ..
واعتدل الرئيس خرشوف في مجلسه ، وبدأ يتحدث في صفاء ذهن ومنطق متسلسل، فاستعرض قيام الحركة الشيوعية ، والمصاعب الضخمة التي كانت تواجهها في الداخل وفي العالم الخارجي ، وتحدث عن انشغال الإتحاد السوفيتي في المراحل الأولى عن الشؤون العالمية، وعن مشاكل العالم العربي .. وأنه حين استتبت الأمور في روسيا الشيوعية، التفت الإتحاد السوفيتي إلى الشعوب المكافحة لنيل حريتها، فأخذ يعاونها، ما استطاع إلى ذلك سبيلا .. وسرد الرئيس خروشوف بالتفصيل ما يقدمه الإتحاد السوفيتي إلى عدد من الدول العربية في الميدانين العسكري والاقتصادي .. وأنه سيستمر في دعمه للشعوب العربية .. وأن ذلك سيؤدي إلى قوتها .. وأن قيام(1/850)
إسرائيل إنما كان عن ضعف في الدول العربية .. وأن ما يفعله الإتحاد السوفيتي في تأييد الأمة العربية هو في ذاته تأييد للقضية الفلسطينية .. وأنّ الدول العربية إذا تعاونت في الميادين العسكرية والاقتصادية ستكون قادرة على تحقيق حل عربي للقضية الفلسطينية ، دون أن تتيح أية فرصة لتدخل الدول الاستعمارية ..
وكنت أستوعب هذا الحديث في فؤادي عبارة عبارة وكلمة كلمة ، فلم أكن قد سمعت مثل هذا الكلام من روسي مسؤول ، على مدى خمسة عشر عاما من معرفتي بالمسئوولين السوفييت ، وحواري معهم في الموضوع إياه – قضية فلسطين .. ، فلم يبقَ للرئيس خروشوف إلاّ أن يقول لي نحن موافقون على تحرير فلسطين .. وإن كان قد قالها – فيما أحسست – بكل جوارحه دون لسانه ..
فشكرت للرئيس خروشوف هذا الحديث القوي الواضح الصريح .. وقلت له إنني أعتبر هذا الموقف تطورا كبيرا في سياسة الإتحاد السوفيتي ، عما كان عليه الحال في عام 1947، ثم سألته :
- إنّ الأمة العربية كلها تشكر موقفكم من القضية الجزائرية .. هل أستطيع أن أطلب معونتكم لشعب فلسطين في تأييد مطالبه القومية لاسترداد وطنه .
قال : هل هنالك حركة فلسطينية .. وقيادة فلسطينية .. الفلسطينيون موزعون في البلاد العربية ، منهم من يقيم في المدن ، ومنهم من يقيم في المخيمات .(1/851)
وسكتّ هنيهة .. فقد كان هذا الكلام صحيحا .. فلم يكن قد قام الكيان الفلسطيني ومنظمة التحرير الفلسطينية .. ثم قلت :
- هل تساعدوننا إذا قامت حركة فلسطينية وقيادة فلسطينية ؟
- قال : وقد فكر قليلا ، نحن نعتقد أن الشعب الفلسطيني قد وقع عليه ظلم كبير ، ومن حقه أن يعيش في وطنه وأن يقرر مصيره .. ونحن مع تقرير المصير .. ومع الشعوب المناضلة دائما .. ولن نتأخر عن معاونة شعب يكافح من أجل حقه ، ووطنه ، ولم أشأ أن أذهب أعمق أو أبعد من هذا ، فأنا أمام رجل يحمل بين شفتيه مسؤولية كبرى .. ولم أكن أطمع بأكثر من هذا الجواب الذي لم يقترب منه أي مسؤول روسي من قريب أو بعيد ..
وقلت للرئيس خروشوف : بقي عندي سؤال أخير للتاريخ ولراحة ضميري . كصديق للإتحاد السوفيتي :
- ولماذا وقف الإتحاد السوفيتي في عام 1947 مع أمريكا في تأييد تقسيم فلسطين وإقامة دولة يهودية.
قال : وقد أطرق رأسه طويلا ، ثم رفعه ووجهه يطفح احمرارا – كان هذا قرار ستالين ..
وأذهلني الجواب .. ولم يبقَ إلاّ أن يقول بلسانه أن ستالين مسؤول، وهذه خطيئة ستالين .. وإِن كان قد قالها ، فيما أعتقد ، بعينيه لا بشفتيه ..؟ ونهض الرئيس خروشوف ، ودعانا إلى الغداء ، وكانت الساعة قد بلغت الثانية ظهراً ، وسرنا في الغابة بجوار "البركة" وكأنما أراد أن يرفه عن نفسه ويخرج من الجد إلى المرح فقال:
-(1/852)
انا أسبح يوميا خمسة عشر دقيقة في هذه "البركة" قلت : وأنا أسبح ساعة من الزمن حينما أكون على شواطئ الاسكندرية أو ببيروت..
قال : يجب أن أثور على الطبيب ، انه لا يسمح لي بأكثرمن ربع ساعة ..
ومشينا إلى المائدة في وسط الحديقة ، وأقبل علينا ميكويان "رئيس الإتحاد السوفيتي فيما بعد" فتعارفنا وتصافحنا .. وجلسنا إلى المائدة ، ونادى الرئيس خروشوف على التراجمة والمرافقين ، وقضينا ساعتين على المائدة والرئيس خروشوف يتندر على "ميكويان" ويلسعه بالنكات اللاذعة ..
وكان الطعام شهيا، غنيا بأنواع متعددة من الأسماك .. وأخذ خروشوف وميكويان يشربان كل أنواع الشراب .. وأمامنا، زوجتي وأنا، عصير البرتقال، ولكن ميكويان طلب في النهاية زجاجة كونياك من صنع جمهورية أرمينيا ، وهو يقول إنه لا يملاأ رأسه إلاّ كونياك أرمينيا ..
وأحببت أن اشترك في المداعبات الدائرة ، والسيد ميكويان أرمني ، فقلت .. السيد ميكويان متعصب لجمهورية أرمينيا ، وهذا تمييز عنصري قائم على أساس الشراب ، والشيوعية ترفض التمييز على أي أساس ..
فضحك الرئيس خروشوف وقال :
- السيد الشقيري أدخلك في قفص الإِتهام ، كما يفعل مع الأمريكان في الأمم التحدة .. وانطلقت الضحكات العالية تتجاوب في الغابة بين حفيف الأشجار وتكسر الأمواج .. وفرغنا من الطعام ، وفرغوا من الشراب ، وتناولنا القهوة .. واستأذنت بالانصراف ، والرئيس خروشوف يفتح باب(1/853)
السيارة لزوجتي ، ويلوح بيديه مودعا ، وهو يقول : نرجو أن تعود إلينا في العام القادم لتزور الجمهوريات الإسلامية ..
وانطلقت بنا السيارة في ذلك الطريق الجميل ، والغابات على ميمنتنا والبحر على يسرتنا ، وقصور الشعب هنا وهناك مفتوحة للعمال والفلاحين والأطباء والمحامين ليقضوا فيها إجازاتهم .. وكانت في العهد الغابر قصور القياصرة والأمراء والإقطاعيين ..
وكنا على موعد مع الطبيب ، فقد كنت أشكو أزمة معوية حادة ، فنحن أبناء المشرق ، نحمل معنا مشاكلنا المعوية أينما ارتحلنا ، ودخلت على الطبيب الشاب ، فراح يفحصني فحصا دقيقا طويلا ، وما أحسب أنه كان يفكر في المرضى المنتظرين في الصالة المجاورة ، ذلك أنه لا يتوقع أجراً لا مني ولا منهم .. ولهذا فليأخذ الطب حقه من الوقت .. وتلك نعمة الطب المؤمم .. على الطب المؤجر ..
ووصلنا الفندق بعد يوم طويل .. وكان الوقت قد أزف على الغروب، وعلى مقربة منا في الساحة العامة كانت فرقة الموسيقي البلدية تعزف الالحان الشجية .. وأرسلت بصري بعيدا إلى ما وراء شواطئ البحر الأسود .. إلى الوطن العربي المجزأ .. الوطن العربي المبدد الطاقات والقدرات ..، وسألت نفسي ما الذي ينقصنا عن الإتحاد السوفيتي .. لقد كانت روسيا في العهد القيصري أكثر منا تخلفا وأشد منا فقرا ، تتوالى عليها الهزائم العسكرية زمانا بعد زمان .
ونطق كل شيء حولي ، الأمواج والغابات والصخور ، بأن الذي ينقص العالم العربي ، قيام "الدولة العربية المتحدة " لتنقذ الأمة العربية(1/854)
الواحدة والوطن العربي الواحد ، من ذلك الخطر الأكبر والعار الأفظع .. إسرائيل .. وجوداً وكياناً ..
وفي اليوم التالي سافرنا إلى موسكو استعدادا للعودة ، وفي المطار كان وداعنا حافلاً وحاراً .. وقد أقلتنا الطائرة إلى باريس ، فاتجهت زوجتي إلى بيروت حيث أولادي ، واتجهت إلى نيويورك ، إلى الأمم المتحدة ، حيث مشاكلي مع أمريكا وبريطانيا وربيبتهما إسرئيل..
وما أن وصلت إلى نيويورك حتى هبت الصحافة الأمريكية "تستقبل" هذا القادم من موسكو ، جريدة تقول "الشقيري أصبح عضوا مسجلاً في الحزب الشيوعي " ، وجريدة ثانية تقول "الشقيري موفد إلى موسكو من قبل الرئيس عبد الناصر " ، وكتبت جريدة ثالثة " أن الشقيري سافر إلى الإتحاد السوفيتي ليرجو الرئيس خروشوف أن يطلب من الرئيس عبد الناصر وقف الحملات الصحافية على المملكة العربية السعودية .."
ورددت للصحافة الأمريكية الصاع مئتين .. فقد قضيت تلك الدورة في حملات متلاحقة على الولايات المتحدة .. وبلغت ذروتها في خطابي عن الأزمة الأمريكية الكوبية كما ذكرت ..
وانقضى عامان ، وجاء الرئيس خروشوف إلى القاهرة ليشترك في احتفالات السد العالي في أسوان . ودعيت للاشتراك في الاحتفالات .. وكانت أياماً مثيرة شهد فيه الشعب المصري وفودا من مختلف أنحاء العالم ، جاؤوا ليروا باعينهم هذا الإنجاز العربي العظيم .
وخطب الرئيس خروشوف خطابا طويلا ضمنه اشارات قاسية عن الوحدة العربية ، خلاصتها أن الإشتركية تفهم وحدة العمال والفلاحين في(1/855)
جميع أرجاء العالم ، وحدة الكادحين الذين تيبست أيديهم من قبض المعاول .. ولا يفهم الإتحاد السوفيتي وحدة أخرى ..، وإِنه يحث الأمة العربية أن تنظر إلى الوحدة من خلال هذه المعاني ..
وكان من الخطباء عبد السلام عارف رئيس الجمهورية العراقية ، فأضاف خطابه في آخر لحظة عبارة تؤكد الوحدة العربية وضرورة قيامها في الوطن العربي .. فكانت ردا هادئا على الرئيس خروشوف ..
وعدنا إلى القاهرة بعد انتهاء الاحتفالات ، وزرت الرئيس خروشوف في قصر القبة .. ولم أكن وزير السعودية يومئذ، ولكني كنت رئيسا لمنظمة التحرير الفلسطينية وبعد المجاملة والتحية قلت له :
- لي بعض ملاحظات على خطابك في أسوان ، فهل تسمح لي كصديق للإتحاد السوفيتي أن أتحدث بها ..
قال : بكل تأكيد .. فنحن نؤمن بالنقد الذاتي .
قلت : الموضوع يتعلق بالوحدة العربية .
قال : نعم .. لقد فاتحني بذلك الرئيس عبد السلام عارف ، حين كنا في الفندق في أسوان .. ولكني أحب أن أسمع رأيك .
قلت : الوحدة العربية لها جوانب متعددة .. ولكني أريد أن أتحدث عنها من الزواية الإشتراكية المحضة.
قال: وهل هنالك صلة بين الإشتراكية والوحدة العربية؟
قلت : نعم وبالتأكيد .. ان أدوات الانتاج في الوطن العربي متفرقة متباعدة . الأرض الصالحة للزراعة في إقليم .. والماء الغزير في إقليم .. والمال الوافر في إقليم .. والكثرة البشرية في إقليم .. والبترول والثروات(1/856)
المعدنية في إقليم .. وإن الوحدة العربية تهدف إلى تجميع ذلك كله في خطة واحدة ، نحو تحقيق أهداف واحدة .. واهتز الرئيس خروشوف ببدانته ، ضاحكا مسرورا ، لهذا التفسير الإشتراكي للوحدة العربية .. ودخل الرئيسان عبد الناصر وعارف إلى الصالة ليصحباه إلى المطار ، وأمسك الرئيس خروشوف بالرئيس عارف وهو يقول له :
- السيد الشقيري أقنعني بالوحدة العربية .. وأنا مؤمن بها ..
قال الرئيس عارف : وكيف ذلك ؟
فكرر الرئيس خروشوف حديثي عن تجميع أدوات الإنتاج العربية في نطاق الوحدة العربية .
فقال الرئيس عارف : إنني موافق على هذا التفسير .. وإن بترول العراق في خدمة الوحدة العربية ..
وانطلقت بنا السيارات إلى مطار القاهرة الدولي .. ووقفت في صف الوزارء والسفراء ، حسب تقاليد الوداع .. ومر الرئيس خروشوف يصافح ويودع ، ووقف أمامي هنيهة مودعا ومصافحا وهو يقول :–
- إنني موافق على التفسير الاشتراكي .. أنا موافق على الوحدة العربية ..
وزمجرت الطائرة الروسية في الفضاء ، تحمل الرئيس خروشوف من الوطن العربي إلى غير رجعة .. فقد مضت فترة غير طويلة واعتزل الرئيس خروشوف الحكم وحل محله القادة الثلاثة ، بريجنيف – بودجورني – كوسيجن .(1/857)
وتجددت ذكرياتي عن الرئيس خروشوف في نكبة حزيران ، وافتقدته في الليلة الظلماء – ليلة الخامس من حزيران .. لقد افتقدنا مبادرته ومغامرته.
... وأقبل العام التالي -1965 – وجاء الرئيس كوسيجن في زيارة إلى القاهرة وتطلعت إلى لقائه والتحدث إليه .. فزرت السفير الروسي ورجوته أن يرتب لي موعدا ، ولكن جوابه كان فاترا .. وقال إنه سيبذل جهده فإن جدول الرئيس كوسيجن مشحون بالمواعيد .. وكررت الاتصال تلفونيا بالسفير مرة بعد مرة ، وأنا ألحّ وأرجو ..
وفي العشاء الأخير الذي أقيم للرئيس كوسيجن ، كان جلوسي إلى جانب السفير الروسي ، فذكرته بالموعد فقال :إنه يأسف لزحمة المواعيد، ولأن الرئيس مسافر غدا إلى موسكو ، وبعد انتهاء العشاء اقتربت من الرئيس عبد الناصر وقلت له :
لم أفلح في مقابلة الرئيس كوسيجن .. وإنني حريص على هذه المقابلة لأحدثه في شؤون منظمة التحرير الفلسطينية ، لعلنا نلقى من الإتحاد السوفيتي شيئا من العون .
قال : انتظر قليلا ..
ومال الرئيس عبد الناصر إلى الرئيس كوسيجن في حديث لدقيقة أو دقيقتين ، ثم التفت إليّ وقال : سيكون اللقاء غدا في الساعة العاشرة صباحاً..
وذهبت في صباح اليوم التالي إلى قصر القبة واجتزت حدائقها ، أحمل معي من عطورها وأريحها باقات من الثناء والتقدير بذلتها إلى الرئيس كوسيجن ، وأنا أحدثه عن معاونة الإتحاد السوفيتي للشعوب العربية .. إِلا..(1/858)
قال :إِلا ماذا ؟
قلت : إلاّ الشعب الفلسطيني .. وشرحت للرئيس كوسيجن قيام منظمة التحرير الفلسطينية قائدة لنضال الشعب الفلسطيني لتحرير وطنه ، وقلت له ان الإتحاد السوفيتي لم يقدم شيئا للشعب الفلسطيني .. وإذا كان لم يقدم شيئا للاجئين عن طريق وكالة الاغاثة ، لأن الامبريالية الأمريكية هي المسؤولة عن كارثة اللاجئين، فإن ذلك لا يمنع أن يتقدم الإتحاد السوفيتي بالمعاونة المباشرة إلى الشعب الفلسطيني ، وعن غير طريق الأمم المتحدة .. وهذه المعاونة يمكن أن تتدرج من المعاونة الثقافية إلى المعاونة العسكرية ..
قال : وما هي مطالبكم ؟
قلت : بإيجاز أن مطالبنا هي مايلي:-
أولاً : إيفاد بعثة من الخبراء الاقتصاديين والاجتماعيين السوفيت لزيارة مخيمات اللاجئين ، لدراسة أحوالهم ، وتقديم تقرير بشأن المشروعات المهنية والمدرسية التي يمكن للاتحاد السوفيتي أن يعاون فيها ماليا وفنيا..
ثانيا : قبول بعثات طلابية من أبناء فلسطين لتلقي العلوم العلمية في جامعات موسكو .
ثالثا : الموافقة على الحاق عدد من ضباط جيش التحرير الفلسطيني في الكلية الحربية في الإتحاد السوفيتي .
رابعا : تزويد جيش التحرير الفلسطيني بالأسلحة المتوسطة والخفيفة .
خامسا : إنشاء مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية في موسكو لتعريف الشعب السوفيتي بالقضية الفلسطينية .(1/859)
وكان سكرتير الرئيس السوفيتي يدون حديثي ومطالبي .. وسألني الرئيس كوسيجن :
- ماذا قدمت لكم الصين ؟
قلت : وافقوا على إنشاء مكتب للمنظمة في بكين .. أرسلوا لنا أسلحة .. ودربوا عددا من ضباطنا .. وهم لا يعترفون بوجود إسرائيل .. ويؤيدون كفاح الشعب الفلسطيني لتحرير وطنه .
وختمت حديثي بالرجاء ، أن أسافر إلى موسكو لأشرح إلى المسؤولين المرحلة الراهنة في القضية الفلسطينية ، وأبحث هذه المطالب .
وأجاب الرئيس كوسيجن ، بأنه سيقدم هذه المطالب إلى مجلس الإتحاد الأعلى ليدرسها ويقرر بشأنها ما يشاء ، وختم حديثه قائلا : بأن موسكو تحمل لي احتراما كبيرا .. وأن اصدقائي الكثيرين في الإتحاد السوفيتي ، يقدرون جهودي في الأمم المتحدة .. وانتهت المقابلة دون أن أرى في وجهه قبولا او رفضا ..
... واجتمعت بالسفير الروسي في القاهرة عدة مرات، مكررا المطالب ، ورغبتي في زيارة موسكو ..، ولقيت نائب وزير الخارجية السوفيتية السيد جاكوب ماليك في الجزائر أثناء احتفالات فاتح نوفمبر ، فكررت المطالب ورغبتي في زيارة موسكو ..
وزرت السفير السوفيتي في بيروت وكررت .. وعدت إليه بعد ثلاثة أسابيع وسألته عن جواب موسكو .. فأخرج من درجه ورقة ، وكأنه كان يقرأ منها كلمة كلمة " أن الإتحاد السوفيتي يحمل لكم كل احترام وتقدير .. ولكن الموقف الدولي في الوقت الحاضر ينطوي على ظروف صعبة .. وأن(1/860)
زيارتكم في هذه الفترة قد تثير تساؤلات واشكالات .. ونأمل أن تتهيأ الفرصة المناسبة .."
قلت للسفير :نترك الزيارة جانبا .. وما هو الموقف بالنسبة لمطالبنا ، وعلى الأقل ، بالنسبة لفتح مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية في موسكو ..
قال : هذه الأمور لا تزال قيد الدرس .
ومضت الشهور بعد الشهور ، ولقاءاتي تتوالى مع "اصدقائي " الكثيرين من المسؤولين السوفيت كلما حلوا في الوطن العربي ، من غير موافقة ولا جواب ..
وازددت يقينا على يقين ، أن السياسة السوفييتية ما تزال عند موقفها .. إسرائيل يجب أن تبقى .. وتحرير فلسطين غير قائم إطلاقاً .. ومنظمة التحرير الفلسطينية ليس لها مكان في السياسة السوفييتية ، وان أحمد الشقيري رئيس منظمة التحرير الفلسطينية هو غير أحمد الشقيري المندوب العربي في الأمم المتحدة ، وأن دعوته إلى موسكو ليست بذات موضوع في الوقت الحاضر ..
وتخليت عن عملي في منظمة التحرير الفلسطينية ، وخلوت إلى غرفتي الصغيرة أجمع مذكراتي ، وتجمعت أمامي ذكريات خمسة عشر عاما من الصداقة مع الإتحاد السوفيتي ، لأجدها "فاكهة" لذيذة تؤكل في موسمها .. ولا غرابة ولا عجب ، فذلك شأن "الصداقة الدولية" فإنها أشبه ماتكون بأزهار الربيع ، تنتهي بانتهائه ثم تصبح هشيما تذروه الرياح ..
كان هذا في الماضي .. وكائن هذا في الحاضر .. وسيكون هذا إلى الأبد .. وأبد الأبد .. ومن كان له أذنان للسمع فليسمع .(1/861)
الرئيس ديغول يخون الجنرال ديغول !!
الرئيس كندي يخون الشيخ كندي؟
في اليوم الأول من شهر تشرين ثاني عام 1954 أطلق الشعب الجزائري الرصاصة الأولى في الثورة الجزائرية ، في حقبتها الاخيرة من الكفاح القومي الطويل . وقد سبقه مئة وخمسة وعشرون عاما من النضال ضد الاستعمار الإفرنسي ، ما كان يهدأ مرة ، حتى يثور مرة أخرى ..(1/862)
ولم يكن للكفاح الجزائري صدى يذكر في المحافل الدولية ، سوى لمحات عابرة تتحدث عن "عصيان" في الجزائر ، وعبث في الأمن والنظام .. ذلك أن الجزائر ، كان معروفا عنها "كحقيقة " دولية أنها أرض فرنسية ، يفصلها البحر الابيض المتوسط عن فرنسا ، الوطن الأم ، ليس إلاّ .
ومنذ بدأت حياتي في الأمم المتحدة ، رحت أبحث عن مقاتل الاستعمار .. وكان طبيعيا أن تكون القضايا العربية هي أول اهتماماتي ، في مجال التصدي للاستعمار .
وكنت أحس في قرارة نفسي ، أن الجزائر يجب أن تلقى من الأمة العربية الاهتمام الأول ، لا امتيازا لها في شيء ، فالأقطار العربية سواء ... ولكني كنت أرى أنها في طريق الضياع ، فقد تقادم عهد الاستعمار الإفرنسي في الجزائر ، وأقام على ترابها كثيرا من معالم الحياة الإفرنسية .. وأصبحت فرنسا "تؤمن" أنها قطعة منها ، لا سبيل لانتزاعها ، على حين كانت الأقطار العربية الأخرى في طريقها إلى التحرر مهما طال الطريق ..
وفي قراءاتي عن "انجازات" الاستعمار الإفرنسي ، في "فرنسة" الجزائر ذهلت لما قرأت ... وخشيت أن تصبح الجزائر إفرنسية فعلا ، وتطمس فيها معالم العروبة والإسلام ..
وساقني هذا الخوف في أوائل الخمسينات ، وأنا أعمل في الجامعة العربية ، مساعدا للأمين العام ، أن أدخل في حوار مع الوفود العربية ، بصدد أولوية النضال في الوطن العربي ، بأي قطر نبدأ ، وضد أي استعمار نكافح أولاً.(1/863)
وكان رأيي على الدوام أننا يجب أن نبدأ بفرنسا ، وأن نبدأ بقضية الجزائر .. حتى قبل القضية الفلسطينية أو معها .. ولم تكن الصهيونية بالخطورة التي بدت لنا فيما بعد ... وقلت للسيد عبد الرحمن عزام الامين العام للجامعة العربية في سياق هذا التفكير :
- يبدو لنا أننا في الجامعة ننسى أن في الوطن العربي قطرا اسمه الجزائر .
قال : إن قضية الجزائر عويصة جدا .. وأنت تعرف مشاعر الإفرنسيين تجاهها .
قلت : إنه لهذا السبب ، يجب أن يزداد اهتمامنا بقضية الجزائر .. إن فرنسا تعترف أن تونس ومراكش تحت الحماية الإفرنسية .. ولا بد لهذه الحماية أن تزول ولكن الجزائر في نظر فرنسا مقاطعة إفرنسية ، "وعملية الفرنسة" جارية ومستمرة .. وأخشى أن يأتي يوم فلا نستطيع إنقاذها ،إن الوطن ليس بأرضه ، ولكنه بشعبه ، في لغته وثقافته ودينه .
قال : هذا صحيح لا شك فيه .. وأنت تعلم أنني متهم من قبل المصريين ، بأنني أريد أن أوجه الجامعة العربية نحو الاهتمام بالمغرب العربي أكثر من المشرق العربي .. ولعلك تفاتح بعض الوفود العربية وخاصة الوفد السوري في الأمر ، فقد نجد لنا طريقا إلى نجدة الجزائر .
... وفي إحدى دورات الجامعة تحدثت إلى السيد جميل مردم رئيس وزراء سوريا في الموضوع ، فلقيت منه انفتاحا واهتماما ، ووعدني أن يتصل ببقية الوفود العربية الأخرى .(1/864)
وتابعت اتصالاتي في هذا الصدد .. ولكن أثقال القضية الفلسطينية لم تكن لتسمح بالبحث في أية قضية أخرى .. فضلا عن أن "التعرض" لفرنسا لم يكن أمرا سهلا على الدول العربية السبع .. وأكثرها لا يزال واقعا تحت النفوذ ..
وفي خلال سبع دورات في الأمم المتحدة منذ 1950 ، كانت القضية الجزائرية تعيش معي ، ولم تكن قد أصبحت قضية دولية .. فما من مناسبة تأتي في الجمعية العامة أو إحدى لجانها إلاّ وأشير فيها إلى "الحالة" في الجزائر ، وما يلقاه الشعب الجزائري من مظالم وآلام .
وكانت عباراتي واشاراتي عن الجزائر تقابل بالاستخفاف حينا ، وبالاستنكار حينا آخر ، لدى الوفود الأجنبية ، وهي ترى أنه لا معنى للتدخل في الشؤون الداخلية لفرنسا .. كما كانت تبدو ثقيلة وممجوجة لدى بعض الوفود العربية .. فأي معنى لأن تدخل في "اشكالات" مع فرنسا.. على غير طائل أو جدوى ..
ولكني مضيت أنخس فرنسا من حين إلى حين ، وأذكر الجزائر .. بصدد حقوق الإنسان ، في تقرير المصير .. في الحريات الاساسية .. في .. في .. إلى أن أصبحت الجزائر قضية دولية في الأمم المتحدة .. وكأني "وجدتها" بعد انتظار طويل ..
وأطلت الجزائر برأسها على المنظمة العالمية في كانون ثاني من عام
1955 ، فقد وجهت المملكة العربية السعودية رسالة إلى مجلس الأمن ، تخطره فيها بالعمليات العسكرية الرهيبة التي تقوم بها فرنسا في الجزائر .. وتوالت بعد ذلك دورات الأمم المتحدة في معالجتها للقضية الجزائرية ، تشق(1/865)
طريقها فيها عاما بعد عام ، حتى ظفر الشعب الجزائري المجاهد بحريته واستقلاله في عام 1962 .. ودخل الأمم المتحدة عضوا كامل العضوية ، بعد أن كان أمره ، تتجاذبه المناورات والمشاورات ، في أروقة الأمم المتحدة ودهاليزها..
ولقد عشت القضية الجزائرية كل عمرها في الأمم المتحدة ، بروح الثورة الجزائرية ، وكأنني في ميدان القتال ..
وكذلك فقد حاربت الاستعمار الإفرنسي على منبر الأمم المتحدة ، بكل الأسلحة ، من غير مجاملة ولا دبلوماسية ، بالعنف المتطرف والقسوة المسرفة .. فتلك خصائص الحرب وطبيعة المحارب ..
وكان الرئيس شارل ديغول هو الهدف .. ولا هدف سواه .. أسدد إليه كل انتقاداتي ، غير عابئ بأنه رئيس دولة .. فإن شعبنا في الجزائر بكامله يقاتل آخر معاركه .. ووراءه ماية وثلاثون عاما من القتال ..
وكان يدفعني إلى الاشتباك الضاري مع الرئيس ديغول ، احساسي بقدرته الخارقة على حل القضية الجزائرية ، وقدرته على تعطيل القضية إلى جيل آخر. ومن هنا اصطنعت أمام الأمم المتحدة للمسيو شارل ديغول
شخصيتين : الرئيس ديغول رئيس الجمهورية الخامسة لفرنسا .. والجنرال ديغول بطل حركة التحرير الإفرنسية ، ومن هنا كذلك ، كنت أضع يدي على وجه الرئيس ديغول فأمسح به الأرض .. وارفع بالجنرال ديغول إلى مواقع الافلاك والنجوم ..
وشهدت الدورة العاشرة للأمم المتحدة عام 1955، أول صدام مكشوف مع فرنسا ، فقد تقدمت أربع عشرة دولة إفريقية آسيوية بطلب(1/866)
لإدراج القضية الجزائرية على جدول الأعمال، وقامت فرنسا وحلفاؤها وأنصارها .. وعلت الصيحة الاستعمارية في الأمم المتحدة كيف تقدم هذه الشكوى على فرنسا ، كيف يسمح بالتدخل في شؤون فرنسا الداخلية؟ كيف..كيف؟
ووقفت الولايات المتحدة ، صاحبة الثورة التحريرية الأمريكية ، ومعها بريطانيا ودول الأطلنطي ، والعالم "الحر" إلى جانب فرنسا ، يعارضون في مجرد إدراج الشكوى الجزائرية على جدول الأعمال وكانت كل السوابق في الأمم المتحدة تحتم إدراج أي قضية ، ويترك مصيرها بعد المناقشة والبحث إلى القبول أو الرفض ..ولكن اللجنة التوجيهية قد رفضت إدراج القضية الجزائرية .. وسرت ريح نتنة عفنة في أروقة الأمم المتحدة ، تنبىء بأن المنظمة العالمية قد أصبحت أداة متهرئة ، من غير كرامة ولا هيبة .
ونظرت الجمعية العامة في قرار اللجنة التوجيهية ، فناضلت مع الوفود الإفريقية الآسيوية بالإصرار على الإدراج .. وصحت في وجه الولايات المتحدة وبريطانيا والدول الغربية : أهذا هو "العالم الحر"يطعن الأمم المتحدة في أقدس مبادئها – حق الشكوى واستشهدت بقول فيكتور هوجو الشهيرة : اضربني ولكن اسمعني ..
وتكاتفت المجموعة الإفريقية الآسيوية ، وانضم إلى معسكرهم فريق من الكتلة اللاتينية والدول الاسكندنافية ، فوافقت الجمعية العامة على طلب الإدراج .. وأعلنت فرنسا أنها تنسحب من الجمعية العامة ولجانها الرئيسية(1/867)
.. وكان أول حدث من نوعه تقوم به دولة من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن .
وكأنما حل زلزال في الأمم المتحدة .. فتكاثرت الاجتماعات الجانبية .. واستنفرت الولايات المتحدة كل أنصارها وأعوانها . وعبأت خبراءها القانونيين ورجالها "الصاغة" البارعين، واهتدت إلى صيغة ماكرة تدعو "الجمعية العامة إلى عدم المضي في بحث القضية الجزائرية ، ودعيت الجمعية العامة للانعقاد لتنظر في هذا الاقتراح .. وكان الجو مكهربا ..وأسهبت الدول الغربية في الخطر الذي يهدد الأمم المتحدة بانسحاب فرنسا .. ورد عليهم ممثلو الكتلة الإفريقية الآسيوية ، ووقفت على المنصة ، وأنا أحمل في نفسي كل عواطف الشعب الجزائري وقلت : كان على فرنسا ،بدلا من أن تنسحب ،أن تواجه الأمم المتحدة ،وأن تجعل الرأي العام العالمي هو الفيصل .. بل إنه كان على فرنسا أن تنسحب من الجزائر ، قبل أن تنسحب من الأمم المتحدة .
وقاطعني المعسكر الغربي ..وكأنما أصبحنا ناديا يتحكم فيه العصاة .. وكانت الولايات المتحدة قد جاءت بجميع "الغائبين" عن الجلسة السابقة ، وحملت المستنكفين السابقين أن يصوتوا كما يُراد .. فطرح الإقتراح للتصويت ففاز بالأغلبية المطلوبة .. وشطبت القضية الجزائرية من جدول الأعمال في تلك الدورة ، فكان يوما اسْودّ فيه وجه الأمم المتحدة ..
وخرجنا من القاعة ، وكان السيد كابوت لودج رئيس الوفد الأمريكي يسير إلى جانبي فقلت له :
- موعدنا العام القادم .(1/868)
قال : في العام القادم ستكون الأمور هادئة في الجزائر ..
قلت : إنّ "مخابراتكم" فقيرة .. ستكون الثورة الجزائرية أشد وأقسى في العام القادم ..
قال :على كل حال .. أمامنا فرصة طويلة لنضغط على فرنسا "لتحسين" الحالة في الجزائر ..
قلت : كان أمامكم مئة وخمسة وعشرون عاما .. وعليّ أن أذكر أن دولة الجزائر كانت من أوائل الدول التي اعترفت باستقلال الولايات المتحدة.
قال : أوكد لك أننا سنبذل جهدنا لتحسين الحالة في الجزائر .
قلت :ليس المطلوب "تحسين الحالة" ... المطلوب هو التحرير ، الاستقلال ، السيادة الوطنية .
قال سنرى العام القادم ..
ومضت الحرب الجزائرية يخوضها الشعب الجزائري البطل .. ومضت فرنسا تعاونها دول حلف الأطلنطي في مقاومة الثورة الجزائرية .. واستدار العام وجاءت الدورة الحادية عشرة للأمم المتحدة فتقدمت خمس عشرة دولة إفريقية وآسيوية ، بطلب إدراج القضية الجزائرية على جدول الأعمال، وجرت محاولات متعددة لمعارضة إدراج الشكوى.. وتصدت الوفود الإفريقية والآسيوية للدفاع عن وجهة النظر الجزائرية .. وكان قد وصل إلى الأمم المتحدة ، وفد جزائري ، فزودني بملف كامل عن تفاصيل الحرب الجزائرية ، ووقائع حملة الإرهاب والتعذيب التي يقوم بها الجيش الإفرنسي على المدنيين في الجزائر .. فأخذت أسردها أمام الأمم المتحدة بتفاصيلها وتواريخها .. واحدة واحدة .(1/869)