أخبار ملوك بني عبيد وسيرتهم لأبي عبد الله محمد بن علي بن حماد
____________________
(1/1)
المخطوط الحمد لله
قال الشيخ الفقيه الأعلم الأعرف الأوحد العالم القاضي أبو عبد الله محمد بن علي بن حماد
____________________
(1/33)
الحمد لله الذي لا يزال ملكه ولا ينتقل ملكه وصلى الله على سيدنا محمد الذي نسخت ملته الملل وفسخت دولة ملته الدول
فهذه جملة من أخبار بني عبيد الله قيدتها في هذا التأليف فبعضها التقطته من مفرقات التواليف وبعضها عرفني به من وثقت منه بالتعريف ودعاني إلى هذا التأليف ما دعا المؤلفين المؤرخين إلى أمثاله وما من شيء إلا وقد أفرغ في قالبه ونسج على منواله ولله الحمد من قبل ومن بعد ومنه يسأل العون والقصد
____________________
(1/34)
عبيد الله
اختلف الناس في نسبه إلى الحسين بن على عليهما السلام فمن مسلمين ما ادعاه ومقرين بما حكاه ومن دافعين وما نعين ما انتحله ولا يزالون مختلفين إلا من رحم الله فالذي ادعاه هو أنه عبيد الله بن محمد بن الحسين بن محمد بن إسماعيل بن جعفر ابن محمد بن علي بن أبي طالب رضى الله عنهم والذي ادعاه الناس لا برهان عليه فلا حاجة لي إليه
ولد عبيد الله بسلمية من بلاد الشام وقيل ببغداد
____________________
(1/35)
سنة 260 ووصل إلى مصر في زي التجار وهو يطلب الأمور الكبار سنة 289 والطلب عليه من بني العباس حثيث والكتب تنفذ إلى سائر الأمصار وعامة الأقطار باسمه وصفته وزيه وهيئته وبأن يقبض عليه متى عرف وأن يثقف متى ثقف فلم يزل بكل بلد تذكى عليه العيون وتظن بأشياعه الظنون ويخلص من أيدي الحكام وولاة الأحكام خلاص الأمن من نسج المرام إلى أن وصل إلى سجلماسة إما بعلم سبق وإما بشيء اتفق
فظهر بها في يوم الأحد السابع من ذي الحجة سنة 296 فأخذ هو وابنه أبو القاسم واعتقل وقيد كلاهما بالحديد وأثقل وفي خلال هذا أقام أبو عبد الله هو والحسين بن أحمد بن محمد ويعرف بالمحتسب يقال إنه كان محتسبا بسوق الغزل بالبصرة ويقال إن
____________________
(1/36)
المعروف بالمحتسب هو أخوه أبو العباس ويعرف أبو العباس بالمخطوم أيضا ويعرف أيضا أبو عبد الله بالمعلم لأنه كان يعلم الناس مذهب الإمامية الباطنية وفيهم ألف الإمام أبو حامد الغزالي كتاب المستظهري بأمر المستظهر صاحب بغداد
فلما تم لأبي عبيد الله ما أراد قاد الأجناد والأنجاد واستفتح المدن وملك البلاد وبنى بموضع يعرف بإيكجان على مقربة من قسنطينة مدينة وسماها دار الهجرة وسمى أتباعه وأشياعه من
____________________
(1/37)
كتامة وغيرهم المؤمنين وإذا ركب نادى مناديه في الجيش يا خيل الله اركبوا وكتب على أفخاذ الخيل الملك لله وكتب في بنوده سيهزم الجمع ويولون الدبر وآيات كثيرة من القرآن ونقش في خاتمه الذي يختم به فتوكل على الله إنك على الحق المبين وفي خاتمه الذي يختم به على السجلات تمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم
ثم وطئ إفريقية وملكها عنوة وكان زيادة الله آخر ملوك بني الأغلب من عمال بني العباس فيها وأمرائهم عليها فلما فل الشيعي على ملك بني الأغلب جموعه وملك عليه ملكه جميعه شمر أذياله وضم أثقاله واتخذ الليل جملا وسار من رقادة
____________________
(1/38)
قبيلا متحملا وكانت رقادة دار ملك بنى الأغلب وتوجه إلى الشرق متخلصا بحريعة الذقن في سنة 296 هـ
وأقبل الشيعي إلى رقادة في سبعة عساكر فيها ثلاثمائة ألف بين فارس وراجل فدخل رقادة وبين يديه رجل يقرأ { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر } الآية و { كم تركوا من جنات وعيون } الآية
فنزل بالقصر المعروف بقصر الصحن وأمر بقتل السودان من موالي بني الأغلب فقتلوا عن آخرهم وكبوا على مناخرهم
____________________
(1/39)
ووجه إلى طرابلس فأوتي منها بأخيه أبي العباس المخطوم وكان محبوسا بها وبأم أبي عبيد الله وكانت هناك مع الحوزان
ثم توجه بملء الأرض من الخيل والرجال إلى سجلماسة في سنة 296 المذكورة واستخلف على إفريقية أخاه أبارك تمام بن معارك فوصل إلى سجلماسة وأحاط بها وحازها وافتتحها واستنقذ عبيد الله وابنه أبا القاسم وقاد له فرسا عتيقا فركبه وخرج من الموضع الذي اعتقل فيه وقد لبس ثيابا نفيسة فاخرة وتردى
____________________
(1/40)
برداء سرب وانتعل نعلا عربية وكان ملبسه أبدا سريا وطيبه كثيرا وسلم عليه بالإمامة في شهر ربيع الآخر سنة 297
وتوجه إلى إفريقية فنزل رقادة وأقام بها إلى أن بنى المهدية ونسبها بالمهدية إلى نفسه وكانت تسمى حمة وجزيرة القار وكان له بصر بعلم النجوم فاختطها بطالع الأسد لأنه برج ثابت ولذلك ثبتت ولأنه بيت الشمس الذي هو دليل الملوك ولذلك كان الملك فيها وعاد بعد استيطانه القيروان إليها بإذن الله عز وجل وعلى رأي أهل الصناعات النجومية وفي وضعها ببرج الأسد يقول أبو عبيد الله بن حبوس الفاسي في سيدنا الخليفة الإمام الأول أمير المؤمنين رضي الله عنهم ** بطالع الأسد اختط البناء بها ** لكنك الأسد الدامي الأظافير **
____________________
(1/41)
وبنى بها قصره المعروف به وهو باق إلى الآن وبنى قصرا لأبنه أبي القاسم وبنى دار الصناعة الموجودة فيها إلى اليوم وأمر بهدم قصور بني الأغلب بجميع بلاد إفريقية وتخريبها وطمس معالمها ومحو آثارها ورسومها وجعل للمهدية أبراجا من جهة البر وهي الجهة الغربية وليس البر منها إلا من هذه الجهة وجعل لها بابين من حديد صرف وفي ذلك يقول ابن حبوس من القصيدة المذكورة ** باب حديد وأبراج ثمانية ** تسخر العقل فيه أي تسخير **
ورمى عبيد الله بسهم من الباب إلى موضع المصلى وقال إلى ها هنا يبلغ صاحب الحمار يعني أبا يزيد مخلد بن كيداد الأباضي الخارج عليهم في أيام أبي القاسم القائم بن عبيد الله وقال أنا بنيتها لصيانة ألف رياضة فيها ولو ساعة من نهار يعني
____________________
(1/42)
ساعة وصول أبي يزيد مخلد بن كيداد إلى المصلى وانحياش الناس منه في المهدية وكذلك كان الأمر بلغ إلى المصلى ثم انهزم ولم يزل منهزما من جهة إلى جهة والناس كلهم له حرب إلى أن نقض وانقرض على ما يأتي ذكره في أيام إسماعيل المنصور
واستقر عبيد الله بالمهدية سنة 38 وقتل أبا عبيد الله الداعي وأخاه أبا العباس بن زنادة يوم الثلاثاء سنة 298 ببستان في القصر وأمر بهما فغسلا وكفنا وصلى عليهما وأقبل على أبي عبد الله فقال رحمك الله أبا عبد الله وجزاك الله في الآخرة بتقديم سعيك والتفت إلى أبي العباس فقال ولا رحمك الله يا أبا العباس فإنك صددته عن السبيل وأوردته موارد الهلاك ثم قرأ { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا } الآية وأمر بدفنهما في موضعهما الذي قتلا فيه من البستان ثم قتل جميع من والاهما من شيوخ كتامة وقيل لأنهما ارتدا عليه وقالا لكتامة إنا غلطنا فيه وأن الإمام الذي دعونا إليه له علامات ويأتي بآيات ويطبع بخاتمه في الحجر كما يطبع في الشمع
وخلص لعبيد الله الأمر وصفا له الملك فملك إفريقية كلها
____________________
(1/43)
والمغرب بأسره وأطرابلس وجربة وصقلية ووجه ابنه وولي عهده أبا القاسم إلى ديار مصر دفعتين الأولى منهما في سنة 301 فملك الأسكندرية والفيوم وجبى خراجهما وخراج بعض عمال الصعيد والثانية في سنة 306
وكان المقتدر بن المعتضد بن الموفق المتوكل صاحب بغداد
____________________
(1/44)
قد وجه لمدافعته ومحاربته في الدفعتين مؤنسا الخادم الذي يعرف بالفحل ويدعى المظفر وكانت بينه وبين حسابة بن يوسف الكتامى وهو أحد قواد كتامة حروب ووقائع كثيرة مبيدة مبيرة وكان جيش أبي القاسم في الدفعة الأخيرة خمسمائة ألف فعرضه عند رجعته فوجده خمسة عشر ألفا أفناهم القتل والجوع والوباء وخرج أبو القاسم إلى المغرب في جيش عظيم لتسع ليال مضين من صفر سنة 315 وقد كان محمد بن خزر الزناتي من زعمائهم وكبرائهم وعظمائهم قبل ذلك أوقع بعسكر كتامة عليه أبو عروس وإسحاق بن خليفة قائدان منهم وعظم الخطب في المغرب وتفاقم الأمر مع ما تقدم قبل ذلك له من قتل مصالة بن حبوس وغيره من قوادهم أيضا فلما وصل أبو القاسم إلى المغرب توغل أبو خزر في الصحاري على المهاري وهدن أبو القاسم المغرب وقضى منها المأرب وانصرف وفي انصرافه هذا مر بوادي سهر فاختط مدينة المسيلة رسمها برمحه
____________________
(1/45)
وهو راكب على فرسه وأمر على بن حمدون الجذامي المعروف بابن الاندلسية أن يبنيها ويحصنها ويحسنها وسماها المحمدية باسمه
وهذا يدل على أن اسمه محمد بخلاف من يقول أن اسمه عبد الرحمن فبناها وجعل لها بابين وسمى أحدهما باب القاسمية منسوبة إلى أبي القاسم وسمى الثاني باب الأمور ووصلت هذه المدينة من العمارة والحضارة وملك علي بن حمدون فيها وابناه جعفر ويحيى إلى الغاية القصوى والأمد الأقصى وأمر أن يدخر فيها الأقوات وأنواع المأكولات وكل ما تنضم إليه الضرورة ففعل وزاد فاحتفل وكان إذا ارتفعت الأسعار وأغبت الأمطار يكتب إلى أبي القاسم وهو ولي عهد أبيه وبعد إفضاء الأمر إليه يستأذنه في البيع ويعلمه بما في ذلك من الزيادة والنفع فيأباه وينهاه ويأمره بالاستكثار والادخار ويعلمه أنه سيحتاج إليه ويضطر نحوه فلم تزل تلك الأطعمة مصونة مختزنة
____________________
(1/46)
إلى فتنة أبي يزيد وخرج إسماعيل المنصور إليه وأتباعه فكانت عونا له ولأنجاده وإمداده عند وصوله إلى جبل كياتة وحصره أبو يزيد فيها وبين المسيلة والجبل الذي حصره فيه وهو المطل على القلعة وسيأتي ذكره بعد هذا اثنا عشر ميلا فكانت ميرتهم منها وارتفاعهم بها ولم يكن في تلك الجهات إذ ذاك مدينة غيرها
وكان أبو القاسم يركب بالمظلة في أيام أبيه وباسمه كانت تنفذ الكتب والعهود وإليه ترفع المسائل وعليه تفد الوفود وكان أبوه كلفا به شديد المحبة له متيمنا لكل ما عسى أن يفعله وكذلك هو كان لأبيه بارا به ممتثلا لأمره مغتنما لمرضاته والمظلة التي اختصوا بها من دون سائر الملوك شبه درقة في رأس
____________________
(1/47)
رمح محكمة الصنعة رائقة المنظر ظرف من الصناعة في الصياغة ونظم الأحجار الغالية ما يروق مرآه ويدهش من رآه يمسكها فارس من الفرسان يعرف بها فيقال صاحب المظلة وكانت عندهم خطة يتداولها من يؤهل لها فيحاذى بها الملك من حيث كانت الشمس يقيه حرها بظلها وفيه يقول محمد بن هانئ الأندلسي من قصيدة يمدح بها معد المعز الذي يأتي ذكره ** وعلى أمير المؤمنين غمامة ** نشأت تظلل تاجه تظليلا ** ** نهضت بمثل الدرع ضوعف نسجه ** وجرت عليه عسجدا محلولا **
ولا يعلم أحد من الملوك اتخذ هذه المظلة إلا بنو عبيد خاصة
____________________
(1/48)
ثم ملك الروم بصقلية وحسب أنهم أهدوها إليه في بعض هداياهم وكأني سمعت هذا
وتوفى عبيد الله يوم الاثنين الرابع عشر من شهر ربيع الأول سنة 322 وكسف القمر في تلك الليلة كسوفا كليا وكان عمره اثنتين وستين سنة أو ثلاثا وستين سنة وكانت وفاته من دواء سقاه إياه ابن الجزار يقال إنه حب السورنجان لنقرس كان يشكوه وكان إسحاق الإسرائيلي نهاه عنه
____________________
(1/49)
وأعلمه أنه يجد على أثره إفاقة ثم يشتد عليه وقد يهلكه فلم يقبل قوله لشدة ما يجده فوجد تلك الإفاقة ثم مات
وكتم أبو القاسم موته شهرا وقيل عاما كاملا حتى نفذ جيشا لبرقة ليشغل المشرق وجيشا إلى تاهرت ليشغل المغرب ثم أذاع موته وأظهر وفاته ووجد عليه وجدا شديدا وحزن حزنا ظاهرا وأمر بالبكاء عليه بالقيروان وغيرها من الأمصار ولم يركب دابة بالمهدية منذ مات إلى أن توفى هو حزنا وبرا وتكرمة لتربة دفن فيها
وكان مما أحدث عبيد الله أن قطع صلاة التراويح في شهر رمضان وأمر بصيام يومين قبله وقنت في صلاة الجمعة قبل الركوع وجهر بالبسملة في الصلاة المكتوبة وأسقط من أذان صلاة الصبح الصلاة خير من النوم وزاد حي على خير العمل محمد وعلى خير البشر ونص الأذان طول مدة بني عبيد بعد التكبير والتشهدين حي على الصلاة وحي على الفلاح مرتين حي على خير العمل محمد وعلى خير البشر مرتين مرتين لا إله إلا الله مرة ثم يقول
أحياك الله يا مولانا حافظ نظام الدنيا والدين جامع شمل
____________________
(1/50)
الإسلام والمسلمين وأعز بسلطانك جانب الموحدين وأباد بسيوفك كافة الملحدين وصلى عليك وعلى آبائك الطاهرين وأبنائك الأكرمين صلاة دائمة إلى يوم الدين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وفي أيام بني عبيد في سنة 17 بطل الحج وأخذ الحجر الأسود وذلك أن أبا طاهر سليمان بن الحسن القرمطي دخل مكة حرسها الله تعالى يوم التروية فقتل الحجاج قتلا ذريعا ورمى القتلى في زمزم وأخذ الحجر الأسود من الكعبة وقلع بابها وبقى الحجر عندهم اثنتين وعشرين سنة إلا شهرا ثم ردوه لخمس خلون من ذي القعدة سنة 39
وفي أيام عبيد الله قتل المقتدر ببغداد في الحرب التي كانت بينه وبين مؤنس الخادم وأظهر عبيد الله عندما بلغه الخبر أن
____________________
(1/51)
دعاته قتلته بأمره وجلس لذلك مجلسا هنئ فيه ويشبه أن يكون ذلك صحيحا والله سبحانه أعلم لأن الذي قتله كان بربريا ولم يكن من أهل المشرق وذكر الصولي أن الذي قتله رجل من أهل المغرب بربري يقال له غلبون الصنهاجي رماه بحربة وهو على فرسه يصلح بين الجند في ظهره فخرجت من صدره فوقع ميتا
وكانت بالمهدية قبة مديدة بنيت ببنيانها وسقطت عند انقراض دولة بني عبيد
وخلف عبيد الله سبعة ذكور وهم محمد أبو القاسم وأحمد وأبو علي وأبو طالب محمد وقيل اسمه أبو عبيد الله الحسين وأبو الحسين عقيل الأعمى وأبو سلمان وثماني بنات وكان قضاته أبو جعفر المروزي وإسحاق بن المنهال ومحمد بن محفوظ القمودي ومحمد بن عمران النفطي تداولوا القضاء ثم عاد القضاء إلى إسحاق وحاجبه جعفر بن علي وحامل مظلته مسعود الفتى ثم غرس الفتى ومتولي بيت المال أبو علي أحمد بن الحسين ثم ابنه أبو الحسن
____________________
(1/52)
محمد القائم
كنيته أبو القاسم بن عبد الله ولد بسلمة من بلاد الشام سنة 308 هـ وبويع يوم مات أبوه عبيد الله وعمره إذ ذاك اثنتان وأربعون سنة وقام عليه أبو يزيد مخلد بن كيداد في سنة 332 وهو الذي كان أنذر به أبو عبيد الله على ما تقدم وهو من بني جعفر من بني جانا الذي تقول له البربر أجانا وأجانا هو بنفسه زنات الذي تنسب إليه زناتة وكان كيداد والد أبي يزيد من سكان تقيوس من بلاد قصطيلية وكان يختلف في التجار إلى بلاد السودان فاشترى بتادمكت أمة تسمى سبيكة فحملت منه وولدت أبا يزيد وهو أعرج وفي لسانه شامة فذهب به أبوه كيداد
____________________
(1/53)
إلى عراف بمدينة كوكو فأراه فقال له ليكونن له شأن وليملكن ثم رجع كيداد إلى تقيوس فمات وقيل إن أبا يزيد نشأ بتوزر بدرب الغلامسسيين بقرب توزر فلما كبر وشب قرأ مذهب الأباضية ففقه فيه ومهر في الجدل عليه ثم سار إلى مدينة توزر فكان يعلم الصبيان القرآن ويدعو من وثق إليه وقدر عليه إلى القيام على أبي القاسم بن عبيد الله
وينكر ما هو عليه حتى استجاب له نحو ثلاثمائة رجل واتصل ذلك بابن فركان مقدم توزر فاستدعاه وتهدده فأنكر ما رمى به وتبرأ منه فخلى عنه وخاف أصحابه الذين أجابوه فتفرقوا عنه وهجروا مجلسه وتركوا الحضور فيه ومعه فخرج من بلاد قصطيلية كلها وسار إلى جبل أوراس وفيه قوم من هوارة
____________________
(1/54)
يقال لهم بنو كملان من أهل مذهبه فقام فيهم وقوي بهم واشتدت شوكته واستفحل أمره وعمره إذ ذاك ستون سنة وبه علل كثيرة وصحبه رجل يقال له أبو عمار بن عبد الله الحميدي الحجري وكان مقدما في الأباضية وكان يقول أبو يزيد لأهل القيروان إذا دخلها لم لا تجاهدوا بني عبيدها ها أنا رجل أعرج وصاحبي أبو عمار أعمى وقد عذره الله سبحانه ورفع عنه حرج القتال والجهاد فلم نعز أنفسنا وكانت له امرأة تسمى تاخيريت على مذهبه ورأيه وبنون أربعة يزيد الذي يكنى به ويونس وأيوب وفضل وكان يقدمهم على الجيوش ويخرجهم في السرايا وأيوب هزم جيشا كان أميره وقائده علي بن حمدون صاحب المسيلة وكان لقيه بفحص على وادي وجرة ومع علي بن حمدون أبو الفضل بن أبي سلاس قائدا أيضا فاقتتلوا قتالا شديدا وانهزم علي بن حمدون في الطريق جهلا به منه فأوى إلى موضع وعر ليلا ومعه ابن أبي سلاس قائدا أيضا فانحل وثاق فرس من خيولهم فوثب على فرس آخر فتضاربا وصهلا فوثب القوم بعد أن هجعوا وظنوا أن أيوب غشيهم فركبوا الخيل في ظلام الليل وتبددوا
____________________
(1/55)
في تلك الأوعار فسقط على بن حمدون من جوب عال فانكسرت يداه ورجلاه وظهره وأكثر عظامه
وكان أبو يزيد في أول أمره يلبس خشين الصوف ويمسك العصا ويسمى شيخ المسلمين ثم انتقل عن ذلك وركب عتاق الخيل ولبس الديباج وكان يرى الجمع بين الأختين بملك اليمين ويستبيح نساء المسلمين فيمن خالفه ويسفك الدماء وكان أصحابه البربر يقتلون كل من ظفروا به من الناس كائنا من كان غبنا وعبثا خاصة من خرج من المهدية عند حصارهم إياها فرارا من الجوع والحصار ويشقون بطونهم أحيانا فتشا على المال وتوهما أنهم ابتلعوه ويشقون بطون الحوامل واستولى أبو يزيد على إفريقية كلها إلا المهدية ودخل القيروان ووصل إلى مصلى العيدين في أيام المنصور ثم انهزم كما ذكر عبيد الله
____________________
(1/56)
ولم يثبت له قدم ولا نصر له علم حتى هلك وذرى أية سلك وكان قد سمى من بايعه وأقام به العزابة ومن بايعه وانصرف عنه عدة المسلمين وكان كثير الانتزاع لآي القرآن عند المناظرة والمحاورة مثل انتزاعه لما عوتب على لبس الحرير بعد الصوف وركوب الخيل بعد الحمير بقوله تعالى { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل } وكان كثير التمثيل بآية الشعر كقوله وقد شكا إليه أهل إفريقية ما نالهم منه ومن جنده وأصحابه ** إذا أبقت الدنيا على المرء دينه ** فما فاته منها فليس بضائر **
وفي شهر رمضان من سنة 334 هـ ولي أبو القاسم إسماعيل ولي عهده وفوض إليه أمره وأدخل جماعة من وجوه كتامة ورؤسائهم إلى نفسه فقال هذا مولاكم وهو ولي عهدي والخليفة من بعدي وهو صاحب هذا الفاسق وقاتله يعني أبا يزيد
وتوفى أبو يزيد يوم الأحد الثالث عشر من شوال سنة 334 وسترت أيضا وفاته وأخفيت فكانت خلافته اثنتي عشرة سنة وسبعة أشهر وعمره خمس وخمسون سنة وخلف من الولد أبا الطاهر
____________________
(1/57)
إسماعيل ولي عهده وأمه أم ولد تسمى كريمة وكان ترشح لولاية عهد أبيه حاجبه جعفر بن علي قضاته إسحاق بن المنهال إلى أن مات وأحمد بن يحيى وأحمد بن الوليد ولته العامة فأقره صاحب بيت ماله أبو الحسن بن علي الداعي
____________________
(1/58)
المنصور
هو أبو العباس إسماعيل بن أبي القاسم ولد بالمهدية سنة 299 وقيل سنة 302 وولى وله اثنتان وثلاثون سنة ولم يكن في بني عبيد مثله وكان بطلا شجاعا بليغا فصيحا يخترع الخطبة لوقته وخطب في عيد الأضحى بالمهدية فقال في خطبته اللهم إنك قلدتني أمر عبادك في بلادك اللهم فأصلحني لهم وأصلحهم لي وارزقني حج بيتك الحرام ثم ذكر مناسك الحج فانصرف فأمر للناس بالطعام فأكلوا وانصرفوا ونفذت كتبه بسلامة العيد وكماله وتمام النعمة فيه وتلك سنتهم لم يزالوا عليها إلى أن انقرضوا وقد رأيت بعض كتبهم بذلك وكان في هذا العيد قد أنهض من أهل القيروان ألف شيخ وألف حدث فلما وصلوا خيرهم في التعييد معه أو الانصراف فعيد البعض وانصرف البعض وعيد عيد الفطر وهو مجاهد لأبي يزيد بقلعة كياتة وخطب فقال في خطبته اللهم إنك أخرجتني من المهاد والوساد وجنبتني الرقاد وحالفتني السهاد وسلكت بي مفاوز البلاد اللهم احكم لي على مخلد بن كيداد { وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا } اللهم أنزلهم بالمرصاد اللهم إنك تعلم أني سلالة نبيك وابن رسولك وبضعة من لحمه ونقطة من دمه ما قلت فغرا ولا لددا اللهم
____________________
(1/59)
إنك تعلم من أين أقبلت وإلى أين انتهيت وما فيك لاقيت اللهم إني بذلت مهجتي ونفسي في سبيلك مجاهدا لعدوك طالبا الثأر لنبيك وابتغاء مرضاتك حتى تعبد في الأرض حق عبادتك ويحكم فيها بحكمك إنك أهل المن والطول ثم انصرف إلى منازله وأمر للناس بالطعام
وكان في أيام حروبه مع أبي يزيد وقد انهزم عنه الناس وبقي معه صبابة فقال لهم صبرة يا عبيد أمير المؤمنين فسمى ذلك الموضع صبرة وكان يعرف بصلب الجمل وهو فيما بين القبلة والغرب من القيروان
وفي سنة 334 بني صبرة وهي مدينة بناها بقربها سماها
____________________
(1/60)
باسمه المنصورية فاستمر عليها الاسمان إلى الآن وصبرة أشهر وكانت دار ملكهم وملك من بعدهم إلى أن أتى عليها الزمان ونال منها الحدثان وذهبت كما ذهب الأبدان وغمدان وبنى سورها بالطوابي وجعل لها أربعة أبواب باب قبلي وباب شرقي سماه باب زويلة وباب جوفي سماه باب كتامة وباب غربي سماه باب الفتوح ومنها كان يخرج للحروب ونصب عليها أبوابا ملبسة بالحديد ولم يبن فيها غير ذلك إلا بعد الفراغ من أمر أبي يزيد ثم بنيت فيها بعد ذلك القصور الشامخات والأبنية الرفيعة وغرست فيها الغرس البديعة وجلبت إليها المياه المنيعة ومن قصورها الإيوان بناه المعز لابنه الذي يأتي ذكره ومجلس الكافور وحجرة التاج ومجلس الريحان وحجرة الفضة وقصر الخلافة والخورنق وقصور بين ذلك كثيرة ومصانع صنيعة كبيرة
____________________
(1/61)
ولما أتى أبو يزيد إلى المصلى بالمهدية نزل بها وصلى فيها ثم انهزم ولم يزل إذ ذاك في حروب أكثرها عليه لأن جل أتباعه قد خلوا به وخذلوه كما ذكر عبيد الله وعلى ما يأتي إن شاء الله وكانت هزيمته في أيام القائم أبي القاسم كما ذكر في يوم الاثنين في ثلاث خلون من جمادى الأخيرة سنة 333 هـ وتوفى أبو القاسم في سنة 334 كما تقدم وخرج إسماعيل المنصور بعد ذلك من المهدية إلى سوسة فلم يلقه بها أهل القيروان وسألهم عن تأخرهم وما منعهم من لقائه بسوسة فقيل له الخوف فتبسم وقال إن أمير المؤمنين اختارني لهذا الأمر وكلفني بمحاربة هذا القوم ودفع إلى سيف جدي ذا الفقار وأومى إليه وهو إلى جنبه وأمرني بالعفو عن الناس كافة وعن أهل القيروان إلا أصحاب الخصوص
وتوجه من سوسة إلى القيروان فاستخلف بالقيروان مداما وأمره ألا يقطع دون القاضي محمد بن أبي المنظور
____________________
(1/62)
وتوجه إلى المغرب لأربع بقين من شهر ربيع الأول سنة 335 فنزل على ساقية ممس وأدركه هناك عسكر قدم عليه من برقة من آله فيه جماعة من وجوه كتامة وفيه بعض أهل المشرق في ألف فارس ومعهم هدية نجب وبخت وخيل وغير ذلك
ونادى منادي إسماعيل تلك الليلة أن لا يصحبه الزمني ولا الجبناء فانصرف جماعة منهم تلك الليلة من القيروان ودفع عن ساقية ممس وجعفر بن علي الحاجب على طلائعه فنزل بوادي الرمل ورحل منه إلى بلاد سبيبة ففرق فيها الأرزاق ورحل منها إلى برنامجة ومنها إلى ملاق ثم توجه إلى
____________________
(1/63)
باغية فلما قرب منها ركب نجيبا وتقدم إليها مع طلائع عسكره فخرج إليه أهلها فهنوه ودعوا له وكانوا قد أغلقوا أبواب مدينتهم في وجه أبي يزيد عند انهزامه و مروره عليهم فشكرهم على ذلك وفرق في ضعفائهم دراهم كثيرة وأنشده أبو يعلي المروزي ** لقد تاهت بطلعتك الغروب ** كما ابتهجت بدولتك القلوب ** ** لقد زهت الخلافة إذ حذاها ** نجيب راح يحمله النجيب **
وسار إسماعيل فنزل بموضع يقال له أبو حميل ومنه إلى فحص طاقة ومنه إلى مدينة بلزمة ومنه إلى مدينة نقاوس وإلى طبنة فأقام بها أياما كثيرة وورد عليه كتاب
____________________
(1/64)
جعفر بن علي بن حمدون صاحب المسيلة والزاب يخبر بمحبوس عنده ثأر بجبل أوراس واجتمعت عليه قبائل كثيرة من زواوة وصنهاجة وعجيسة فأعطى بطبنة الأرزاق ووسع على الرجال وأسقط جماعة من الزمني ومن لم يرض صحبته ورجع من طبنة فأتاه جعفر بن حمدون بهدية منها خمسة وعشرون فرسا ومثلها نجباء وأربعة من النجباء وفارة شريفة موجهة
وأتاه بالثائر المذكور وكان غلاما أمردا جميلا مقيدا راكبا جملا وعلى رأسه طرطور مشهر وكان من أهل القيروان من أبناء الصاغة وكان ينظر كتب الصوفية ويقرؤها ومعه أربعة نفر مقيدين وجدهم جعفر في بعض الحصون المجاورة لأوراس بمن اتبع هذا الغلام وزعم أنه الإمام القائم بالحق فأمر إسماعيل بسلخه حيا وحشا جلده قطنا وجعله في تابوت وكان يصلبه في كل موضع يحل به وكذلك كان يفعل بأمثاله
____________________
(1/65)
ممن يبالغ في الانتقام منه حتى سمي السلاخ وقطع أيدي أصحابه وأرجلهم وصلبهم وقال في ذلك أبو يعلى المروزي ** يا خير من وهب العهود بعهده ** وحكى لنا بالعهد سيرة جده ** ** عجبا لمعتوه حدثته نفسه ** بوساوس فيها شقاوة جده ** ** عاداك وانسلخ الشقي من الهدى ** حتى أمرت بسلخه من جلده **
وسار إسماعيل فنزل بسكرة ودخلها وانتقمها مرارا وقتل قوما من اهلها وفرق فيها الأرزاق ورحل منها إلى مقرة وحشد أبو يزيد من بني زروال قبائل جبل سالات عددا كثيرا وجندا كبيرا وجاءت لإسماعيل القبائل من كل جهة واستنفرهم من كل وجهة واستمالهم بالطعام والكسي ووسع على كل
____________________
(1/66)
من جاءه وأحسن إلى كل من أطاعه وكاتب زيري بن مناد وماكسن بن سعد وبعث إليهما أموالا جمة وثيابا جملة ومن الذهب والعين واللجين ومن التحف والطرف ما استمال به النفوس واستلان به القلوب فأجابه وحشدا الجم الغفير من صنهاجة وعجيسة ووصلا إليه بكل ما قدرا عليه
ونزل إسماعيل المسيلة فأقام بها أياما تعدل أعواما بما فرق فيها من الأموال وسدد من الأحوال وجند من الجنود وعبأ من العساكر وجهز من الجيوش وكتب إلى هوارة الذين كانوا بالغدير يأمرهم بأخذ أبي عمار الأعمى وأصحابه وكانت
____________________
(1/67)
قبل ذلك على أبي يزيد هزيمة عظيمة بموضع يعرف بعين السودان بين جبل كياتة فانهزم أبو يزيد وتبدد أصحابه فأخذ يزيد نحو صحراء مدينة بني خزر وأخذ أبو عمار الأعمى وأبو مدكول الأعمى صاحب آخر له نحو الغدير ووجه محمد بن خزر ابنه يعقوب إلى إسماعيل وهو بالمسيلة فأكرمه وحمله على فرس من مراكبه بسرج من سروجه ولجام من لجومه ووصله بعشرة آلاف دينار وتوجه إسماعيل من المسيلة في طلب أبي يزيد وقد بلغه أنه بجبل سالات وهو جبل وعر شامخ دونه قفر ومفاوز ورمال ودكادك لم يدخلها جيش قط فمشى أحد عشر يوما في تلك القفار والأوعار ثم نزل بسفح الجبل المذكور وأتاه أهل الجبل مهطعين طائعين فسألهم عن أبي يزيد فلم يجد عندهم خبرا عنه فأمرهم إن مر بهم راجعا أن يأخذوه ووعدهم على ذلك بأموال ووصلهم في الحال وكر راجعا يريد بلاد صنهاجة فبات ليلته تلك هو وأصحابه ودوابهم بغير علف وليسوا على ماء ولا معهم ماء وبلغت الجرة تلك الليلة ثلاثة دراهم وشربة ماء كذلك ومات كثير من أصحابه جوعا وعطشا وتراءت لهم نار في سفح الجبل
____________________
(1/68)
فوجه من يتعرف خبرها فإذا هي نار أبي يزيد وأصحابه فعزم أن يصحبهم فلما كان الغد افترق عنه أصحابه واختلفت عليه كلمتهم فقال له جمهورهم يا مولانا أعظم الفتح وأجل الغنيمة التخلص مما نحن فيه فرحل يريد صنهاجة وأصابهم مطر عظيم من ثلج كبير فمنعهم ذلك من ضرب الأخبية ونصب الأبنية واشتعال النيران
ونزل إسماعيل في طرف صنهاجة في خباء لطارق الفتى ثم توجه إلى حائط حمزة هناك وفرق الأرزاق وأجزل العطايا ووصل إليه زيري بن مناد في عساكر صنهاجة فوصله وفضله وخلع عليه ثيابا كثيرة من لباسه وأعطاه من الطيب والطرائف الملوكية ما لا يحيط به الوصف ولا يعمه الحصر وحمله وحمله وحمل أولاه وإخوته وبني عمه ووجوه أصحابه على الخيل العتاق بالسروج واللجم المحلاة بالذهب والفضة وأفاض عليهم وعلى كافة صنهاجة الواصلين معه الأموال إفاضة استسلم بها قلوبهم واستخلص عيونهم فصفت نياتهم وخلصت طوياتهم وحسنت فيه معتقداتهم ورحل من حائط حمزة فنزل على وادي لعلع في شعار كذلك فمرض به نحو شهرين وعميت عليه
____________________
(1/69)
أخبار أبي يزيد وعزم على المسير إلى تاهرت فتوجه إليها وبلغ أبا يزيد ذلك فخالفه إلى المسيلة فحصرها واتصل الخبر إلى إسماعيل وكر راجعا فأغذ السير وطوى المراحل ووصل إلى الإدلاج والتأويب بالإنشاد فلما قرب من أبي يزيد ارتفع إلى جبل عقار وكياتة ودخل إسماعيل المسيلة فأقام بها ووجه مسرورا إلى سطيف لاستنفار كتامة ووجه خفيفا الفتى إلى ميلة لمثل ذلك وقتل هبتون بن محمد الكاتب وكان خرج مع شفاء الفتى فبغى عليه وجاءه رسول الخير بن محمد بن خزر الزناتي في نحو مائة فارس يقال إنه أقام عودته بمدينة الأغواط وغيرها من عمله وسأله أن يبعث إليه بالخطبة والسكة ليضربها على اسمه فأكرم رسله ووصلهم وجاوبه وبعث إليه بما طلب وأمر أن يأمر رفاق زناتة بالاختلاف إلى المسيلة والقيروان بالأطعمة والمرافق
____________________
(1/70)
وكتب إلى مدام الفتى يأمره بحفظ من وصل إليه من زناتة ولا يمنعهم من شراء السلاح ولا يكلفهم قبالة ولا مغرما وصار أبو يزيد محصورا في جبل كياته غير أن الطعام كان عنده رخيصا كانت الرفاق تأتيه به من سدراته وبطيوس وهي من بلاد بسكرة فكتب إسماعيل إلى رناتة يأمرهم بالإغارة على سدراتة والاستئصال لهم ففعلوا ذلك وقتلوهم وسبوا حريمهم وانتهبوا أموالهم فتوقف الناس عن المسير إلى أبي يزيد بالأطعمة وكانت بين أبي يزيد وإسماعيل وقعة بفحص باتنة وباتنة اسمها القديم باذنه مدينة عظيمة خربت بينها وبين المسيلة أثنا عشر ميلا قتل فيها من أصحاب أبي يزيد نحو عشرة آلاف بين راجل وراكب أكثرهم من بني كملان وزناته ويعرف يوم هذه الوقعة بيوم الرؤوس وانهزم أبو يزيد وعقر فرسه وسقط إلى الأرض فقرب له أصحابه فرسا آخر فركبه فعقره تحته أيضا زيري بن مناد وسقط إلى الأرض فترجل إليه يونس ابنه وابن أخت له وجماعة من قرابته وأصحابه وجرح بين كتفيه وبين وركيه واستنقذه سائر أصحابه عن جهد جهيد وبعد قتال شديد وكتب إسماعيل إلى مدام بذلك كتابا فقرأ كتابه بالقيروان وذكر في كتابه أن رسول محمد بن علي بن الجراح وفضل بن العباس وصل إليه بكتابيهما وأنهما قاما بدعوته بالعراق
ولحق أبو يزيد بكياتة ورحل إسماعيل من المسيلة غرة
____________________
(1/71)
شهر رمضان يوم الجمعة سنة 335 فنزل بموضع يعرف بالناظور وهو موضع معروف بأروسن من جنات القلعة محاصرا لأبي يزيد ثم صعد يوم السبت الثاني من رمضان إلى جبل كياتة وصعد في وعر بين صخور ومشى فيها راجلا في أماكن كثيرة فكانت بينه وبين أبي يزيد وقعة عظيمة تعرف بوقعة الحريق وأحرق فيها إسماعيل أخصاصا كثيرة لأصحاب أبي يزيد وقتل منهم عددا كثيرا ثم انهزموا في آخر النهار وسبى إسماعيل نساءهم وذراريهم وأخذ لهم من الخيل والجمال وصنوف الحيوان ما يفوت الإحصاء ويستغرق الاستقصاء وارتفع أبو يزيد ودخل قلعة كياتة وهي تاقربوست المطلة على قلعة حماد
____________________
(1/72)
ورجع إسماعيل على الناظور وبعث قيصر الفتى وزيري بن مناد الصنهاجي في جمع كثير إلى أهل غديروان وهي المتقدمة ذكرها وهي على نحو الخمسة عشر ميلا من القلعة من الجهة الشرقية وكان بناها وسورها لبني حماد مملوك لهم رومي يقال له بونياس فقتلهم وسبي ذراريهم وأحرق ديارهم وأظنه نقم عليهم أبا عمار الأعمى وأصحابه ثم سار قيصر إلى قلعة المري وهي قلعة كياتة بجبل القلعة وجبل القلعة معروف وهذا الاسم له كالعلم الموقوف وسمتها البربر المري وإنما هو المرآة كانت منصوبة عليها في الزمان الأول فنزل إليه أهلها بأمان ثم توجه إلى أوسجيت وهي بسفح جبل القلعة وهي من جهة الشمال مما يلي بلاد عجيسة فهربوا منه وصاروا مع أبي يزيد ثم توجه إلى بني عوسجة وهي من عجيسة فقاتلهم في وعر شديد وجبال متمنعة حتى تغلب عليهم وتمكن منهم وحارب قلعة تناكر وتقول البربر للموضع الآن شيكر فاستأمنوا إليه ثم نهض إلى كياتة فكان قيصر هذا يقاتلها من جهة غربها وإسماعيل يقاتلها من جهة شرقها وجاء الفطر فصلى إسماعيل وخطب على ما تقدم وتمادى على حصار أبي يزيد وحفر خندقا حول
____________________
(1/73)
معسكره بأسفل جبل كياتة وهو الذي يسمى الآن خندق الديباج لأخبية ديباج كان إسماعيل ظهر بها في ذلك المكان وبنى تنورا كبيرا وأضرمه نارا وعلق عليه بكرة فإذا أخذ أحدا من البربر علقة برجليه إلى البكرة ثم مالاه في التنور إلى موضع يناله حر النار فيه فإذا أشرف على الموت روح شيئا فإذا رجعت إليه نفسه أعاده حتى يموت وعمل ففصا من خشب وأدخل فيه قردين ذكرا وأنثى وقال لأصحابه لا بد من مخلد بن كيداد من دخول هذا القفص ومقارنته فيه مع هذين القردين ونصبه قبالة أبي يزيد فقال محمد بن المنيب في ذلك ** حل البلاء بمخلد ** وجميع شيعته النواكر ** ** أمسى بأرض كياتة ** قد بان منه كل ناظر ** ** يرنو بطرف خاشع ** نظر المحاصر للمحاصر ** ** يرنو إلى عدد الحصى ** والرمل من تلك العساكر ** ** يا مخلد ابن سبيكة ** يا شر بيت في العشائر ** ** ذق ما جنته يداك قبل ** من الكبائر والصغائر ** ** ذق هول شقك للبطون ** وما ارتكبت من الجرائر ** ** ياشر من بكياتة ** وكياتة شر البرابر ** ** انظر إلى القفص الذي ** لا بد فيه أنت صائر **
____________________
(1/74)
** وانظر إلى أيديك فيه ** ومؤنسيك ومن تجاور ** ** قد طال شوقهما إليك ** فزرهما ياشر زائر **
وكتب إسماعيل إلى أبي يعقوب بن خليل فأتاه بخمسة وعشرين مركبا ووصل بها إلى موسى الدجاج وتمادى على حصار أبي يزيد ومحاربته
وكان يقول دار ملكي منزلتي ومحاربتي أين ما كنت من البلاد حتى يقطع الحابي الفساد وزحف إلى قلعة كياتة يوم الأحد من المحرم سنة 336 وصعدت العساكر بين يديه من الزريليين وغيرهم فأحاطت بأبي يزيد وأصحابه وكانت بينهم حروب كبيرة عظيمة من أول النهار إلى آخره فلما كان الليل أشعل إسماعيل النيران وتمادى على الحرب فخرج أبو يزيد ومن معه فحملوا حملة رجل واحد فقتل أكثرهم وتخلص أبو يزيد بحرحين على جبهته وترقوته إلى أسفل الجبل وأحاط إسماعيل بالقلعة وتغلب عليها ودخلها وألفى بها عمار الأعمى وجماعة من وجوه النكار فضرب أعناقهم تلك الليلة ولما أصبح يوم الأحد أمر بطلب أبي يزيد فلم يوجد واغتم بذلك وأمر بطلبه فأصابه قوم من الزويليين في بعض شعاب الجبل المسمى به الذي تقدم ذكره فأرادوا قتله فلم يعرفوه فعرفهم بنفسه فأعطاهم مالا كثيرا كان معه وخاتمه وثيابه فتركوه
____________________
(1/75)
ووجده آخرون فأتوا بأبي يزيد إلى إسماعيل فأعطاهم ألف دينار وأعطى جماعة آخرين ادعوا أخذه عشرين مثقالا فقال لأبي يزيد ما حملك على ما فعلت فقال أردت أمرا فأباه الله فكساه وأمر بمداراته والإحسان إليه طمعا أن يصل به إلى القيروان فكان عند جعفر الحاجب إلى أن مات من جراحه يوم الخميس لليلة بقيت من محرم وقيل إن الدم نزفه وهو يكلم إسماعيل فمات بين يديه فأمر إسماعيل بسلخه وحشو جلده قطنا وخيطت وصاله حتى تمت جثته وصار كأنه نائم وقدد لحمه وملح وأمر بحمل جميع ذلك وبعث برؤس القتلى وبكتاب إلى مدام الفتى فقرأ الكتاب على المنبر وطوفت الرؤس بالقيروان وقال بعض الشعراء في سلخ أبي يزيد ** أما النفاق فقد نسخ ** وأبو الكبائر قد سلخ ** ** كان الفويسق مخلد ** فردا ولكن قد مسخ ** ** لو قد رأيت محله ** وبنو الحداية تسطرخ ** ** لرأيت ما عقد اللعين ** بلطف ربك قد فسخ **
____________________
(1/76)
وقال من قصيدة ** فسلخته من جلده ** وحشوته حشو المزاود ** ** وضربته مثلا يسير ** في الأقارب والأباعد ** ** وردت به أطماعه ** وظنونه شر الموارد **
ثم انصرف إسماعيل إلى المسيلة وتوجه منها إلى تاهرت يوم الثلاثاء لست بقين من صفر من هذه السنة فلما وصل إليها أمر بنبش عظام مصالة وفضل بن حبوس وأحرقها بالنار وأحرق منبر جامعها لكونه خطب عليه لعبد الرحمن بن محمد وأقام بها أياما وولى عليها وانصرف إلى القيروان بعد أن كتب كتابا قرئ بالقيروان أن والده القائم بأمر الله كان توفي في شوال سنة 334 وأنه ستر ذلك من أجل الحرب ولئلا يسر بذلك الدجال اللعين مخلد ابن كيداد وأمر أن يسمى هو المنصور بأمر الله وأن يكتب ذلك في الطرز ثم وصل إلى إفريقية ووصل كتابه إلى قرطاجنة يوم السبت لسبع بقين من جمادى الأخيرة يخبر بقدومه فقرئ على المنبر
____________________
(1/77)
وأخرجت إليه الطبول والبنود والنجائب فلما كان يوم الخميس لليلتين بقيتا من هذا الشهر خرج القاضي محمد بن أبي المنظور في جماعة من وجوه القيروان فتلقوه وسلموا عليه وهنوه بالفتح ووصل إلى قصره بصبرة وصلى صلاة الظهر من هذا اليوم ودخل من باب الفتوح وعليه ثوب ديباج سفر جلي مصمت فلما انتهى إلى مجلسه ونزل سجد لله عز وجل ولما كان يوم الجمعة يوم وصوله جلس في مجلسه ودخل عليه القاضي فأدناه وقربه وأجلسه وأذن للناس كافة فدخلوا عليه أفواجا وسلموا عليه وهنوه بالقدوم والفتح ونهض من مجلسه فحجب الناس وصعد إلى قبة مشرفة فجلس فيها مع خاصته وأمر بأبي يزيد فأخرج من تابوت كان فيه وألبس قميصا وقلنسوة بيضاء وأركب جملا وأردف خلفه من يمسكه وألصق إلى جنبه عودان وربط إليهما وجعل عليهما قردان قد علما فكانا يصفعانه ويعبثان بلحيته وأخرج من صبرة من الباب الشرقي فطوف بالقيروان وبصبرة
____________________
(1/78)
ثم صرف إلى التابوت وفي هذا اليوم قدم عليه صاحب القستطينية مع السرد عوس في نحو ثلاثمائة رجل وظفر بفضل بن أبي يزيد وقد حشد واحتفل فخرج إليه إسماعيل فهزمه وهد ركنه وهدمه ورجع ودخل صبرة وبنوه واخوته يمشون بين يديه وقرب إليه ولد صغير فأخذه من الفتى وجعله في السرج قدامه حتى دخل عليه من باب وعليه ثوب فرفري أبيض بصنائف عراض وعلى كمية مثل ذلك وهو متوشح بخز أحمر وبيده اليسرى رمح وهو يسلم على الناس باليمين وبعد ذلك توجه إلى المهدية بأهله وإخوته وأطلق من الحبس عشرين رجلا من بقايا بني الأغلب ووصل كلا منهم بعشرين مثقالا ونفاهم إلى مصر وفي يوم السبت لثلاث عشرة بقين من ذي القعدة سنة 336 طيف بالقيروان برأس الفضل بن أبي يزيد
____________________
(1/79)
بعث به باطيط بن يعلى الزناتي مع ولده وكان قتله إياه غدرا بجوار باغية فأعطى ولد باطيط ألف مثقال ووصله وحمله ووصل أصحابه وبعث برأس فضل وجثة أبيه أبي يزيد إلى صقيلية مع حسين بن علي بن أبي الحسين فعطب الموكب وذهب رأس فضل وطفت جثة أبي يزيد على الماء فردت إلى المهدية وصلبت على مجرى الخابية
وفي هذه السنة مات القاضي محمد بن أبي المنصور بن حسان الأندلسي الأنصاري
وفيها انصرف إسماعيل من المهدية إلى صبرة فاستوطنها وسماها المنصورية واستقر إسماعيل بالقيروان فصلى بهم ركعة ثم كبر وقام إلى الثانية فكبر خمسا ثم صعد إلى المنبر فحول رداءه وحول وجهه إلى القبلة وكبر مائة تكبيرة ثم حول وجهه إلى اليمين فسبح مائة تسبيحة ثم حول وجهه إلى اليسار فهلل مائة تهليلة ثم استدبر
____________________
(1/80)
القبلة فخطب خطبتين فجلس بينهما ودعا وانصرف وذكر أنها صلاة أهل البيت عليهم السلام
وفي سنة 333 زحف يزيد بن أبي يزيد إلى باغية محاربا لها وانهزم عنها
وفيها قتل أيوب بن أبي يزيد بعد انصرافه من الأندلس وكان وفد على عبد الرحمان ابن محمد فقتله عبد الله بن بكار غيلة
وفيها استأ من بنو كملان بإسماعيل فأمنهم على سكنى عيالهم بالقيروان
وفي سنة 340 توفي أبو كنانة بن أبي القاسم بن عبد الله
وفيها طهر إسماعيل أولاده وطهر معهم ألف صبي من أهل القيروان من أبنائهم وكساهم وأعطاهم ما ينفقون وأمر كتامة أن يطهروا أولادهم
وتوفي إسماعيل يوم الجمعة سلخ شوال سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة أو سنة تسع وثلاثين وكانت ولايته سبع سنين وسبعة عشر
____________________
(1/81)
يوما مرض بإسهال من فرحة كبده وخلف خمسة ذكور وحاجبه جعفر بن علي وقضاته أحمد بن الوليد ثم محمد بن أبي المنظور ثم عبد الله بن هاشم
____________________
(1/82)
المعز
هو معد بن تميم ولد بالمهدية يوم الاثنين في رمضان سنة 319 وولي وله اثنتان وعشرون سنة وكان هوارة هم الذين قاموا بأبي يزيد ولم يزالوا قائلين لأبي عبيد مقيمين على حربهم والخلاف فخرج المعز في جيش عظيم إلى جبل أوراس فلما سمعوا بخروجه جمعوا له بسفح غزالة على مقربة من مدينة باغية فلما وصل الأوراس جهز بلكين بن زيري بن مناد ووجهه إليهم ورجع هو إلى القيروان فهزمهم بلكين وفرق جموعهم وشتتهم فتمزقوا أيادي سبأ وتبددوا في بلاد الزاب وغيرها ومنهم من وصل إلى بلاد السودان فأقام بها فما التقى رائح منهم بمبتكر وتوفي كافور
____________________
(1/83)
الإخشيدي بمصر سنة 356 وقدم المعز القائد أبا الحسن جوهرا الكاتب مولى أبيه إسماعيل المنصور إلى مصر وجوهر هذا رومي جلبه خادم يعرف بصابر ثم انتقل إلى خادم يعرف بجزان ثم انتقل إلى الخادم خفيف فوهبه إلى المنصور فتوجه إلى مصر فافتتحها وكان فتحه لها يوم الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من شعبان سنة 358 وهرب أعيان الإخشيدية من مصر إلى الشام قبل وصول جوهر وأقيمت الدعوة للمعز في يوم الجمعة لعشرين من شعبان بالجامع العتيق ودعا له أبو مسلم العلوي بالمدينة وسار جعفر بن فلاح إلى الشام فقبض على الحسين بن عبيد الله وأنفذه إلى جوهر ثم أنفذه جوهر مع جماعة من الإخشيدية بقوا بمصر إلى المعز مع ولده جعفر ومعه هدية في سنة 359 وفي يوم الجمعة الثاني من جمادى الأولى سنة 359 راح القائد جوهر إلى جامع ابن طولون وأذن المؤذنون وخطب عبد السميع العباسي وقنت
____________________
(1/84)
عبد السميع قبل الركوع وسجد ونسي الركوع فصاح على ابن الوليد قاضي عسكر جوهر بطلت الصلاة أعد ظهرا أربعا ثم أذن بحي على خير العمل بالجامع العتيق لأربع بقين من جمادى الأولى وجهر في الصلاة بالبسملة وكتب جوهر إلى أهل الريف والصعيد
بسم الله الرحمن الرحيم من عبد أمير المؤمنين جوهر لجماعة أهل الريف والصعيد هذا أمان لكم على أنفسكم وأموالكم وأولادكم من أمير المؤمنين المعز لدين الله لتقرؤه وتقفوا على ما فيه من جميل رأي أمير المؤمنين لكم وحسن نظره إليكم وتحمدوا الله تعالى على أموالكم وتشكروه وتسارعوا إلى الطاعة العاصمة لكم العائدة بالسعادة المفضية إلى السلامة بكم ولم يرد بإخراج هذه العساكر المنصورة والجيوش المظفورة الإمامية إلا إعزازكم وحمايتكم والجهاد عنكم إذ تخطفتكم الأيدي واستمال عليكم من طمعت نفسه الاقتدار عليكم فشمل المسلمين الذل واتصل عندهم الخوف وكثرت استغاثتهم وعلا صراخهم وأبكى عينه ما نالهم وأسهرها ما حل بهم ومولانا أمير المؤمنين يرجو من الله سبحانه وتعالى بفضله عليه وإحسانه الجميل إليه وما عوده وأجراه عليه استنقاذهم من الذل المقيم والعذاب الأليم وأن يؤمن
____________________
(1/85)
من استولى عليه الوهل ويفرج فزع من لم يزل في خوف ووجل وإجراء إقامة الحج الذي تعطل وإهمال العباد فروضه وحقوقه للخوف المستولى عليهم إذ لا يأمنون على أنفسهم ولا على أموالهم واعتماده لإصلاح الطرقات ونفي الفساد منها وقطع عبث العابثين فيها لينصرف الناس آمنين وينبسطوا مطمئنين وليتخلفوا إلى مدينة مصر بالأطعمة والأقوات إذ كان قد انتهى إليه إفساد القرامطة لعنهم الله في الأرض وبغيهم بغير الحق ولم يقم للمسلمين ناصر ولا أعانهم قاهر على من أذلهم وإذ لا زاجر للمتعدين ولا قامع للظالمين وقد أمر بتحويل السكة وردها إلى العيار الذي عليه السكة الميمونة المباركة وقطع الغش منها ثم ما عهد به سيدنا ومولانا أمير المؤمنين من نشر العدل وبسط الحق ورفع الظلم وقطع العدوان ونفي الأذى والمساواة في الحق وإعانة المظلوم وقمع الظالم وأن أحكم في المواريث على كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأمرني أن أضع ما كان يؤخذ
____________________
(1/86)
من تركة موتاكم لبيت المال من غير وصية للمتوفى ولا استتحقاق وتصييرها إلى بيت المال وأن أتقدم في رسم مساجدكم وتنزيهها وتزيينها بالفرش وإعطاء مؤذنيها وقومتها ومن يؤم فيها أرزاقهم وإدرارها عليهم ولا أقطعها عنهم ولا أدفعها إلى بيت المال وإقامة من شاء على ملته إذ كان الإسلام سنة واحدة وشريعة متبعة وأن تبقوا على ما كنتم عليه من أداء الفروض في العلم والاجتماع عليه في جوامعكم ومساجدكم على ما كان عليه سالف الأمة من الصحابة والتابعين بعدهم وفقهاء الأمصار الذين جرت الأحكام بمذاهبهم وأن تجري فروض الأذان والصلاة والصيام لشهر رمضان وفطره والزكاة والحج والجهاد على أمر الله عز وجل في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجراء أهل الذمة على ما كانوا عليه ولكم أمان الله التام العام الدائم المتصل الشامل الكامل المتجدد المديد على مرور الليالي والأيام وتكرر الأعوام في أنفسكم وأهليكم ونعمكم وأموالكم ورباعكم وضياعكم وقليلكم وكثيركم لا يتعرض عليكم متعرض ولا يتعقب عليكم متعقب وعلى أنكم تحرسون ويذب عنكم ويمنع منكم من يريد أذاكم ولا يسامح أحد في الاعتداء عليكم ولا يترك إلى الاستطالة على قلوبكم مظلا على ضعيفكم ولا أزال مجتهدا فيما يعمكم صلاحه ويشملكم نفعه ويتصل بكم خيره وتتعرفون بركته وتغتبطون بطاعة سيدنا ومولانا أمير المؤمنين
____________________
(1/87)
وعليكم الوفاء ما ألزمته نفسي وأعطيكم به عهد الله وغليظ ميثاقه وذمته وذمة نبينا محمد مولانا وسيدنا صلى الله عليه وسلم ورسله وذمة الأئمة موالينا أمراء المؤمنين فدس الله أرواحهم وذمة مولانا أمير المؤمنين أعزه الله تعالى فتخرجون إلي وتسلمون علي وتكونون بين يدي إلى أن أعبر الجسر وأنزل في المناخ المبارك وتحافظون على الطاعة وتبادرون وتسارعون إلى فروضها ولا تخذلوا وليا بمولانا وسيدنا أمير المؤمنين ولا تنصروا له عدوا وتقيمون على ما عهدتم عليه وفقكم الله وأرشدكم أجمعين وكتب هذا الأمان في شعبان سنة 358 وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما قال جوهر الكاتب مولى أمير المؤمنين المعز لدين الله كتبت هذا الأمان على ما نفذ به أمر مولانا وسيدنا أمير المؤمنين على الوفاء بجميعه لمن أجاب من أهل البلد وغيرهم إلى ما شرط فيه والحمد لله رب العالمين وحسبنا الله ونعم الوكيل وكتب جوهر المذكور فيه وأشهد فيه الشهود
وبنى جوهر القاهرة وسماها بهذا الاسم ووصل المعز إلى الأسكندرية لست بقين من شعبان سنة 362 هـ وتوجه إليه من مصر القاضي والشهود والأعيان واستقر بقصره بالقاهرة يوم الثلاثاء السابع من شهر رمضان سنة 363 ه
____________________
(1/88)
وكان جوهر قد هيأ له هدية وتلقاه بها وهي أربعة أقفاص منحوتة من عود محكمة الصنعة بحلية من فضة بمسامير فضة يحمل كل قفص منها أربعة رجال فيها أواني ذهب وفضة ويتبع ذلك أربعة خدم يحمل كل واحد منهم خمسة أسياف بحمائل إبريسم محلاة بالذهب وخادمان بأيدهما أدراج فضة فيها خواتم فضة فصوصها يواقيت وجوهر كثير وغلام يحمل غلاف خيزران فيه تاج مرصع والمعز أول من تتوج منهم وفيه يقول ابن الأندلسي ** وعند ذي التاج بيض المكرمات وما ** عندي له غير تمجيد وتحميد **
وتسع من النوق عليها أجلة ديباج ملونة وثلاثون قبة على ثلاثين ناقة بمناطقها ولبها ومقاودها وأثفارها فضة على كل ناقة منها حلتان من ديباج ومنها خمس عشرة ناقة قبابها مذهبة مرصعة
____________________
(1/89)
بالزجاج وخمسمائة رفاص على يد كل واحد منهم سفطان أو تختان من خز العراق ومن كل نوع من أنواع الأمتعة وأربعة أفراس بسروجها ولجمها ومقاودها حرير تجتنب إلى كل منها ناقة بسرج ذهب مفرغ ولجام ذهب مرصع بالياقوت وفرس عليه سرج ذهب مرصع بالعنبر وأربع بغلات بسروجها ولجمها ولها مقاود من هذا النوع وست وثلاثون بغلة بأجلة ديباج وبراقع ديباج ملونة ومائة وثلاثون بغلا بالأكف وخلفها من الجمال والنجيب فوق الخمسمائة ومن العين ستمائة ألف دينار وجربان فيهما فرشان أقام الصناع في عملهما سنتين وأنفق عليهما في الأجرة عشرة آلاف دينار
وكان الحسين بن أحمد القرمطي قد وصل إلى دمشق وتغلب عليها وقتل جعفر بن فلاح واستولى القرامطة على البلاد وصاروا إلى الرملة فخرج المعز إليهم وكانت بينهم الوقعة المشهورة في اليوم الأحمر فانهزم القرمطي وقتل من أصحابه خلق كثير وأسر منهم فوق الألف ورجع المعز إلى مصر وأقيمت الدعوة
____________________
(1/90)
في مصر وديارها والشام والحجاز مع إفريقية كلها والمغرب باسمه
ولما استوثق له الأمر بهذه الأقاليم تم الأمر وجاء الذي لابد منه ولا محيص عنه فأصابه مرض نفساني كان سببه الخولادة رسول ملك الروم بالقسطنطينة فحم منه وتوفي في القاهرة في يوم الجمعة الحادي عشر من شهر ربيع الأخير سنة 365 وكانت ولايته ثلاثا وعشرين سنة وخمسة اشهر وأربعة أيام وكانت ولاية جوهر بمصر أربع سنين وسبعة عشر يوما وفي فتح مصر يقول محمد بن هانئ الأندلسي ** تجهز إلى بغداد قد فتحت مصر ** ** وأنجز صرف الدهر ما وعد الدهر ** ** وقد جاوز الإسكندرية جوهر ** ** تطالعه البشرى ويقدمه النصر ** ** وقد أوفدت مصر إليه وفودها ** ** وزيد إلى المعقود من جسر هاجسر **
وهو الذي بنى الإيوان بالمنصورية وبنى المعزية بها وبنى
____________________
(1/91)
قناطر في الماء عليها وله آثار وأخبار أغناني عنها الاشتهار وأن مقصودي الاختصار والملك لله الواحد القهار
أبناؤه نزار العزيز ولي عهده والخليفة من بعده وعبد الله وتميم وهو تميم بن المعز الشاعر والذي يحاذي أبا العباس عبد الله بن المعتز المتوكل في التشبهات والتوجيهات ويحاذيه في سلوك ألفاظ الملوك وكان أبوه قد ولاه العهد ثم خلعه لأنه كان لا يولد له وكانوا لا يولون الخلافة إلا ابن خليفة وعقيل وسبع بنات حاجبه جعفر بن علي ثم عمار و حامل مظلته شفيع الفتى نقش خاتمة ( توحيد الإله الصمد ) دعى الأمير معد والأمير بإفريقية والمغرب بلكين بن زين بن مناد الصناجي وكان قد سماه يوسف وكناه أبا الفتوح ولقبه عدة العزيز بالله يعني ابنه
____________________
(1/92)
العزيز
هو نزار أبو المنصور ولد بالمهدية يوم الخميس الرابع عشر من محرم سنة 344 وولى العهد بمصر يوم الخميس العاشر من ربيع الأخير 366 وولى الخلافة في الحادي عشر من هذا الشهر وسترت وفاة المعز إلى يوم النحر من هذه السنة فسلم عليه بأمير المؤمنين وركب إلى المصلى وصلى بالناس في المصلى وخطب فقرن نفسه وجميع الناس ورجع إلى قصره فدخل عليه عمه حيدرة وهاشم وعم أبيه أبو الفرات وكان نزار هذا أسمر طويلا أصهب غير سفاك للدماء جيد البصر بالخيل والجوارح والجوهر والتبر محبا للصيد والركوب حسن الخلق وسار إلى مدينة الرملة وظفر بأنتك التركي غلام معز الدولة الديلمي وزير صاحب بغداد في محرم سنة 368 بعد أن كانت له وقائع وأنفق عليه أموالا وعفا عنه واصطنعه
____________________
(1/93)
قال إبراهيم بن أبي القاسم الكاتب المعروف بابن الرقيق في أخبار إفريقية توفي العزيز ببلبيس وكان بها مبارزا للروم في جميع عساكره وجيوشه وكانت به علة الحصى وكان الطبيب يطب له دخول الحمام فيجد له راحة فدخله يوم الثلاثاء لثلاث بقين من شهر رمضان من هذه السنة وعمل له دواء وشربه في حوض الحمام فأدركه أجله فمات من ساعته وليس معه من الرجال إلا ابن النصير النصراني الطبيب وغلامه ابن جوان الخادم فأخرج من الحمام ميتا وحمل إلى القاهرة فدفن بها وقال القاضي مؤلف الشهاب في تاريخه توفي وهو مبارز بعد الظهر يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من رمضان سنة 386 وله اثنتان وأربعون سنة فكانت ولايته خمسا وعشرين سنة وخمسة أشهر وخمسة وعشرين يوما قال القاضي ولم يلقب في خلافته كلها إلا أربعة العزيز يعقوب بن كلس وبلكين ابن زيري سيف العزيز بالله والمنصور عدة العزيز بالله وابنه باديس ناصر الدولة نقش خاتمه بنصر العزيز الجبار ينصر الإمام نزار الحاكم
هو أبو علي منصور بن العزيز بالله ولد عند آخر الليل بمصر ليلة الخميس الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول سنة 375 وولاه أبوه العهد سنة 383 وولى الخلافة يوم الخميس سلخ شهر
____________________
(1/94)
رمضان سنة 386 وعمره إحدى عشرة سنة وستة أشهر فلم يزل خليفة إلى شوال سنة 411 فخرج ليلة الاثنين السابع والعشرين من شوال فطاف ليلة كلها على رسمه فقيل إنه كان يخلو بنفسه في الجبل المقطم لاستنزال الروحانية وزحل وكان صاحب نجوم ورصد له الزنطجا الحاكمي المعروف
وحدثني الشيخ الفقيه الشيخ المعمر أبو الحسن علي بن محمد بن عثمان التميمي القلعي رحمه الله تعالى أنه رأى بمصر الآلة التي رصد بها مرفوعة على برجين اثنين بنيا لها آلة من نحاس على هيئة الإسطرلاب قال فقست بشبري في أحد بيوت البروج الأثنى عشر وهو برج الحوت ثلاثة أشبار
فطاف الحاكم ليلته كلها ثم أصبح عند قبر الفقاعي ثم توجه إلى شرقي حلوان ومعه ركيبان فأعاد إحداهما مع تسعة من العرب السويديين إلى بيت المال لأخذ جائزة أموالهم فضال ثم أعاد الراكبي الآخر فذكر هذا الراكبي أنه خلفه عند القبر والمقصبة وبقى الناس على رسلهم يخرجون في كل يوم يلتمسون رجوعه ويخرجون معهم فرسا مسروجا ملجما مبرقعا من مراكبه ينتظرونه ولم يزل هذا رسمهم إلى آخر أيام بني عبيد وكانوا يسمون هذا
____________________
(1/95)
الفرس النوبة وهذا الرسم من خروج المركوب غدوة كل يوم هو الذي اتبعه ملوك صنهاجة بإفريقية وبالقلعة وبجاية وكانوا يسمونه تسايست أي استايست إلى آخر أيامهم يخرج القائد كل يوم بالجيش عن البلد فيمشي مسافة معلومة إلى موضع معلوم فيقف برهة ثم يرجع إلى باب السلطان فيقف إلى أن يؤذن له في الانصراف فلما كان في يوم الأحد الثالث من ذي القعدة خرج مظفر صاحب المظلة وحضى الفتى ونسيم متولي السر وابن سنكين التركي صاحب الرمح وجماعة من الأولياء الكاتميين وهم الخاصة فبلغوا دير القصير ثم الموضع المعروف ببسلان ثم أمعنوا في الدخول إلى الجبل فبينما هم كذلك إذ بصروا بالحمار الذي كان راكبا عليه على قنة من الجبل فوجدوه قد ضربت يداه بالسيف فأثر السيف فيهما وعليه سرجه ولجامه فتتبع الأثر فإذا أثر الحمار في الأرض وأثر رجل خلفه ورجل قدامه فلم يزالوا يقصون هذا الأثر حتى انتهوا إلى البركة التي في شرقي حلوان فنزلها رجل من الرجال فوجد فيها ثيابه وهي سبع جباب صوف ووجدت مزرة لم يحل أزرارها وفيها أثر السكاكين فأخذها ماضي وجاء بها إلى القصر فلم يشك في قتله هذا قول القضاعي في مقتله وقال غيره إن شبانا من أهل القيروان والأندلس كمنوا له في الجبل فلما ظفروا به قتلوه وألقوه في النيل وقيل إنهم كانوا من المصادمة
____________________
(1/96)
والله سبحانه أعلم أي ذلك وكيف كان وإن كان كما قيل يستنزل كيوان فلما غفل عنه كيوان يقضون بالأمر عنها وهي غافلة ما دار في فلك منها ولا في قطب وكان عمره يومئذ ستا وثلاثين سنة وسبعة أشهر وكانت ولايته خمسا وعشرين سنة وشهرا واحدا وكان ولي عهده عبد الرحمن بن إلياس بن أحمد بن عبيد الله فلما قتل الحاكم قبض عليه وقتل
وكان الحاكم جوادا بالمال سفاكا للدماء قتل عددا كثيرا من أماثل أهل دولته وغيرهم صبرا وكانت سيرته من أعجب السير وبنى الجامع براشدة والجامع بظاهر القاهرة المعزية وأنشأ عدة مساجد بالقرافة وغيرها وحمل إلى الجامع من المصاحف وآلات الفضة والستور وحصر السمار ماله قيمة طائلة
وجرت في أيامه أمور كثيرة عجيبة منها أنه كان في صدر خلافته أمر بكتب سب الصحابة على حيطان الجوامع والقياسير والشوارع والطرقات وكتب السجلات إلى سائر الأعمال بالسب وكان ذلك في سنة 395 ثم أمر بقلع ذلك ونهى عنه وعن فعله في سنة 397 وتقدم بعد ذلك بمدة فضرب من يسب الصحابة وشهره وكان في شهر رمضان من سنة 399 يمنع الناس من صلاة التراويح واجتمع الناس في الجامع وتخوف من سوء العاقبة فلم يصل التراويح وتقدم أبو الحسن بن جد الدقاق فصلى بالناس الشهر كله أجمع وقتل بعد ذلك في اليوم الثاني من ذي القعدة في
____________________
(1/97)
السنة ولم تصل التراويح إلى سنة ثمان وأربعمائة فخرج المعز في هذه السنة بالأمر فيها وقرر بالمساجد والجوامع بمصر والقاهرة ومن يصلي فيها ولم يزالوا يصلون التراويح إلى آخر خلافته
وكان أمر بقتل الكلاب في سنة 395 فلم يكن يرى كلب في الشوارع والأزقة إلا قتل وكان نهى عن بيع الفقاع والملوخيا وكبب الترمس المتخذة والجرجير والسمك الذي لا قشر له وأمر بالتشديد في ذلك والمبالغة في تأديب من يتعرض لبيع شيء منه وظهر على جماعة أنهم باعوا شيئا من ذلك فضربهم بالسياط وطيف بهم وضربت أعناقهم
وفي سنة 402 منع من بيع الزبيب قليله وكثيره على سائر أنواعه وأصنافه ذكر أن مبلغه ألف وثمانمائة قطعة وأحرق جميعها بظاهر الجرا على شاطئ النيل وذكر أن مقدار النفقة على إحراقها خمسمائة دينار
وفي هذه السنة منع بيع العنب وأنفذ الشهود إلى الجزيرة حتى قطع كثيرا من كرمها وشيدت بالمصر وجمع ما كان في المخازن من جرار العسل ذكر أنها كانت خمسة آلاف قطعة
____________________
(1/98)
وحملت في محرم سنة 403 بمحضر الشهود إلى وسط الجسر وكسرت وقلبت في البحر
وفي هذه السنة رفعت المكوس على جميع الغلات الواردة إلى السواحل والأسواق ثم رفعت بعد ذلك مكوس الرطب ودار الصابون والحرير والشرطتين وعدة مواضع
وفي هذه السنة أمر النصارى واليهود إلا الحبابرة بلبس العمائم السود والطيالسة السود وأن تحمل النصارى في أعناقهم من الصلبان ما يكون طوله ذراعا ووزنه خمسة أرطال وأن تحمل اليهود في أعناقهم قرائن الخشب على مثل الوزن المذكور وأن لايركبوا شيا من المراكب المحلاة ولا يستخدموا أحدا من المسلمين وأن لا يركبوا حمارا إلا أن كان مسلم ولا سفينة يؤتيها مسلم وأن يكونوا في النصارى إذا دخلوا الحمام الصليب وفي أعناق اليهود الجلاجل ليتميزوا بها عن المسلمين ثم أفردت الحمامات لليهود والنصارى عن حمامات المسلمين وخط على حمامات النصارى صور الصلبان وعلى حمامات اليهود صور القرامين ونهى عن تقبيل الأرض لأمير المؤمنين وعن الدعاء له بالصلاة في
____________________
(1/99)
الخطب عليه وأن يجعل عوض ذلك السلام على أمير المؤمنين ونهى عن التكلم في علم النجم ومنع النساء من الخروج إلى الطرقات والحمامات مدة سبع سنين إلى خلافة الظاهر هذا كله قول القضاعي في تاريخه وهذا التطور والتغير والتأثر لم كان والله سبحانه أعلم بجبلات الإستنزالات والسخافات الموجودات في تلك الخرافات ولو صح بعض ذلك لعصمه الله من المهالك وهيهات هيهات الأمر كله لرب السماوات
ويقال إن الذي وجد في خزائن بني عبيد عند انقراض دولتهم واستواء المعز على مملكتهم من الأموال والذخائر والأعلاق والجواهر لم يوجد مثله عند القياصرة والكياسرة ثم إن الجند كانوا يقتسمون الجواهر النفيسة بالمكايل والكبار مثل اللوبيا ونحوه وكانوا يقطعون
____________________
(1/100)
العنبر والكافور بالفرس من الجرارات البادهنجات ويقول أصل هذه الأموال لا يفي بها خراج المعمور من المعمور على مر الدهور على ما كانوا يخرجونه من تجهيز الجيوش وعمارة المدن وإقامة الرسم وحفظ الهمم وإجراء الأرزاق وإنما هي من الكنوز التي استخرجها الحاكم من أرض مصر التي هي محل الهياكل القديمة والمدائن العظيمة وإنه مما أفاء من تلك الألحاد
وذكر أن رجلا استأذن عليه فلما دخل ومثل بين يديه إذ هو قد تغير وجهه وشحب لونه وهو أشعث أغبر وعليه أثر السفر فلما سلم أمره بالجلوس وتركه حتى سكن وتأنس ورجعت إليه نفسه ثم قال له من يكون الرجل فقال له أنا رجل من أهل حوران وكنت خرجت من بلادي فوقعت البجا فكنت عند رجل منهم وللقوم جمال يتراهنون بها ويتسابقون عليها وتعلمت ركوب تلك الجمال والمسابقة عليها فكان الرجل الذي كنت عنده يأمرني بالمسابقة عليها فركبت يوما فلما استويت على ظهره ضربته فاندفع بي كأنه البرق فما علمت هل أنا في بر أو في بحر ولم أقدر على إمساكه فلما كان آخر النهار برك بي على عين تجري فنزلت وشربت من مائها وإذا حصى العين ياقوت أحمر وأنا لا أدري في أي موضع أنا من بلاد الله فبت بذلك الموضع فلما أصبحت ملأت مخلاة
____________________
(1/101)
كانت معي كنت لا أفارقها لأسباب كانت فيها فأزلت الأسباب وملأت المخلاة من ذلك الياقوت وركبت الجمل وسرت به بين مشي وجري طول النهار ولم أزل على ذلك شهرا أقتات بنبات الأرض وأرعى الجمل منه إلى أن وصلت مدن عدن فدخلتها وبعت من ذلك الياقوت بمائة دينار وسرت مع أهل اليمن إلى الحجاز وقدمت الآن من الحجاز وأخرج له المخلاة فإذا فيها أحجار ياقوت نفيسة كثيرة فأرسل إلى الجوهريين وأراهم ذلك وذكر لهم المسألة فقال له رجل منهم يا أمير المؤمنين عندي خبر تلك العين وهي في أقصى بلادهم المجاورة لأرض الهند وقليل من رأى تلك العين فوصل الحاكم الرجل وأحسن إليه وأجازه وخيره في الانصراف أو الإقامة بمصر فاختار الإقامة فأمر له بدار سرية ومن الفروش ما يليق بها وأجرى عليه ما يليق به
ذكر الوسائط في أيامه كان أبو القاسم أحمد بن علي الجرجرائي يخدم في بعض الدواوين فنقم عليه الحاكم شيأ فأمر بقطع يديه معا فما التاع ولا ارتاع مما أصابه ولا هلع ولا جزع وعصب يديه إثر قطعها ثم انصرف من وقته إلى موضعه من الديوان فجلس لخدمته على عادته فلما رأى الناس يعجبون ولا يصرفون أبصارهم قال لهم إن أمير المؤمنين لم يعزلني وإنما عاقبني لخيانتي فلما بلغ ذلك الحاكم استعظمه وشرف لديه ورفع به إلى الوزارة فوزره هو وابنه الظاهر وابنه المستنصر نحو ثماني سنين وكانت سيرته محمودة وآثاره
____________________
(1/102)
مأثورة ومات سنة 486 هـ وهو الذي أدخل العرب إلى إفريقية عندما خلع المعز بن باديس الصنهاجي لبني عبيد على ما ذكر القضاة في أيامه ابن النعمان وزاد قضاء الشام وسائر أعماله إلى دمشق وبيت المقدس إلى الشريف أبي طالب الحسن بن جعفر المعروف بابن بنت زيري وكان الحاكم هذا ولي عهده عبد الرحمن بن إلياس بن عبيد الله فلما فقد الحاكم قبض على عبد الرحمن وقتل وولى على ابن الحاكم الظاهر
هو أبو الحسن وقال أبو حزم هو أبو الأشبال علي بن منصور الحاكم ولد بمصر يوم الأربعاء سنة 395 وبويع له بالخلافة يوم عيد النحر سنة 411 وكفلته عمته سيدة الملك وكانت المؤيدة للملك والقائمة به ومات ليلة النصف من شعبان سنة 427 وله من العمر اثنتان وثلاثون سنة إلا أيام وكانت ولايته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وخمسة أيام وكان وزيره والغالب على أمره الجرجرائي الأقطع الذي تقدم ذكره وجرجريا بالعراق وخرج على الظاهر رجل من بني أمية وهو الوليد بن يزيد زعم أنه من ولد هشام بن عبد الملك بن مروان وكان يعرف بأبي ركوة وكان القائمون به بني مرة غلب على كثير من بلاد فزان في سنة 415 ودخل مدينة لك وسلم عليه بالخلافة وكتب إلى بني هذيل يدعوهم إلى كسر منبر بني أبي عبيد ولعنتهم وخطب له على منبر لك وترحم على آبائه
____________________
(1/103)
بني أمية وضيق على مصر فصالح صاحب مصر بني مرة بالأموال الكثيرة وخسر لأميرهم ماضي بن مقرب عشرة آلاف دينار وعشرين تختا من رفيع الثياب فوثبوا على الأموي وأوثقوه وحملوه على جمل فلما رأى ذلك شرب الزرنيخ فمات فحملوه ميتا إلى مصر وصلب على شاطئ النيل المستنصر
لما مات الظاهر نصب الجرجرائي مكانه ابنه معدا طفلا صغيرا أسمر اللون يسمى معدا مثل جده أخذ المعز وكناه أبا تميم لكنيته ولقبه المستنصر بالله ودبر سلطانه الجرجرائي وكان موصوفا بالسياسة وجميل المذهب وكثرة العفو وفي أيامه خلع المعز ابن باديس الصنهاجي صاحب إفريقية لبني عبيد ودعا لبني العباس فقال الجرجرائي لا تكلف له ولا تجهز له جندا ودبر إجازة العرب النيل إلى إفريقية فلما وصلوا إليها ودخلوها كان ذلك سبب خرابها وذهاب ملك صنهاجة منها إلا ما تدركه حسبما هو مذكور في تاريخ إفريقية ولم يملك من بني عبيد من بني المستنصر
____________________
(1/104)
ملك وفي سنة 464 من ملكه كانت بمصر وقعة كوم الريش بين الأتراك والمغاربة فمات فيها في يوم واحد بين الفريقين اثنا عشر ألفا وقامت الفتنة بينهم أربع سنين وامتنع الناس من الحرث والعمارة وغلت الأسعار وفقد الطعام بمصر فمات أكثر الناس جوعا ولم ير بمصر جوع مثله من زمن يوسف الصديق عليه السلام وهذا الذي وجدت من أخباره فيما ذكر ابن حيان المستعلي
هو ابن المستنصر على ما يقال ولم أجد له خبرا ولم ألحق له اسما وقيل إن اسمه أحمد ورأيت كتابا عنه وفيه علامته وهي الحمد لله على آلائه الآمر
لم أعرف له أيضا اسما ولا وجدت له خبرا إلا ما حدثني الفقيه القاضي أبو المكارم هبة الله المصري رحمه الله تعالى قال اجتمع عشرة من الحشيشية ودخلوا فرن خباز على طريق الأمر في يوم خرج فيه إلى بعض نزهه فأكلوا في الفرن خبزا بعسل وتباطؤا إلى أن مر بهم راجعا من منزهه وقد حصل في طريق ضيق عند الفرن وصار رجاله الذين بين يديه واحدا بعد واحد لضيق الطريق فوثبوا على الخليفة بسكاكين وصار أحدهم خلفه على كفل مركوبه فأنفذوا مقاتله وقتل منهم تسعة ووصل إلى قصره وبه رمق الحياة ثم مات من يومه
____________________
(1/105)
الحافظ عبد المجيد
كان الحافظ من بيت الخلافة ولم يكن ابن خليفة وكان ابن رئيسهم ومذهبهم ألا يولوا الخلافة إلا ابن خليفة فمات الأمير ولا ولد له إلا ما يتوهم في البطون ولذلك بالحافظ فلما لم يظهر حمل قال عبد المجيد الحافظ لداعيه وهو الذي يأخذ لهم البيعة ويقوم بالدعوة بايع لي فأبى وامتنع وخلى عنه ودفع فعزلوه وقدموا داعيا آخر فبايع له وهذا أيضا حدثني به أبو المكارم رحمه الله تعالى وليس عندي سواه الظافر
وهو يوسف بن عبد المجيد الحافظ كان وزيره المعروف بالعادل وكان ابن العادل حسن المنظر بديع الجمال وكان الظافر إليه مائلا وكان يتنكر ويمشي معه في الليل أزقة مصر فرميت للعادل بطائق في الظافر وفي ابنه ينزونه به فذكر ذلك لابنه وقد خرج ليلة على عادتهما ويصرفون سهام المكر إليهما فلما قرب من
____________________
(1/106)
داره رغب إليه أن يشرفه فأدخله عنده وأن يؤكد بذلك حبه له وود الاستعفاء بدخوله وأراد تضمن مسرته والمبالغة في مبرته فلما تمكن به في الدار ضرب عنقه وأعناق فتيان كانوا معه وأفلت فتى صغير السن فاستخفى عند فتيان ابن العادل فلما أصبح أطلع أباه على الخبر وأعلمه أنه قطع الأمر فحصن العادل القصر وأخذ يغالط الأمر فاستأذن فيما أظهر على الظافر وطلب خروجه وكان من عادة أهل مصر في تلك الدولة يسلمون على الخليفة في كل يوم اثنين وخميس على طبقاتهم الوزراء أولا ثم الكتاب ثم القضاء ثم الفقهاء ثم القواد والأجناد ثم أعيان العامة واتفق ذلك أحد اليومين فاعتذر اخوة الظافر عنه وكان المتكلم عنهم أخ لهم يسمى جبريل فلما اشتد عليهم ولم يقبل منهم قال القوم ابنك خرج به البارحة ولم يرجع فقال لهم العادل إنما قتلتموه لتكونوا مكانه وقتلهم كلهم وأخرج ولده الفائز وهو ابن سبع سنين أو نحوها فأجلسه مجلسه وبايعه وانتهى خبر مقتل الظافر على لسان الفتى الصغير المذكور الذي سلم من القتل إلى أخت الظافر وإلى الأولياء والقواد الرؤساء في كافة أعمال مصر تخبرهم بذلك وتستصرخهم وأحس العادل ذلك فأخذ مائة ألف دينار وفر من مصر فكتبت الأخت إلى النصارى فقطعوا به الطريق وأسروا له ولدا فاشترته منهم بجملة مال وعذبته إلى أن مات وانقرض العادل وبنوه وهذا حدثني به أبو المكارم أيضا رحمه الله
____________________
(1/107)
الفائز
هو كما تقدم ابن الظافر ولم أجد له خبرا ولا عرفت له اسما العاضد
ما أعجب هذا اللقب العاضد هو القاطع وعليه انقطع أمرهم وانحل عقدهم وانثر عهدهم وأين الذي بنى الإيوان وغمدان ومن الذي يبقى على الحدثان هو عبد الله ابن يوسف الظافر وكان فتى صغير السن أسمر اللون وكان وزيره يسمى سابور واتفق لهم أن استدعوا الغز ليتخذوهم ويستظهروا بهم فوصلوا ورئيسهم أسد الدين ومعه ابن أخيه يوسف بن أيوب المعروف بصلاح الدين ووقعت فتنة تنافروا في الوزارة التي هي كالإمارة قتل فيها الوزير سابور وجلس أسد الدين مكانه وولى خطته والعاضد في الأمر كواو عمرو ثم توفى أسد الدين عن قليل فولى ابن أخيه يوسف بن أيوب وهجمه العاضد وهاجر من أهل بيته الأقارب والأباعد وكان يعتقد ويسر فيهم حشوا في ارتقاء الناس إلى أن ألغز عليهم في الخطبة باسم المستنجد صاحب بغداد إذ ذلك وكأنه جعل ذلك صفة للعاضد فقال خطيبه اللهم
____________________
(1/108)
اصنع كذا وكذا للعاضد المستنجد بالله وقصد بذلك أن يذوق الناس ويدفع بالإيحاش الإيناس فلم يتحرك لذلك ولا استنطح عنزان وفي خلال هذا مات العاضد ومن قائل يقول مات حتف أنفه ومن قائل يقول بلسان الحال بيدي لا بيد عمرو سم بيده وقيل إن يوسف ابن أيوب سمه وانسلخ من لوح الحياة اسمه ولما مات سجى برداء أشرب وغطى ودخل عليه يوسف بن أيوب وأدخل الشهود و الأعيان فرأوه وقلبوه فلم يروا به مأثر قتل ومشى ابن أيوب في جنازته راجلا مشقوق العباء وقد لبس البياض وذلك في آخر سنة 564 ونسخ يوسف دولة بني عبيد وأحكم دولة بني العباس ثم انقضت تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام وهكذا الدهور وأهل الدهور وإلى الله تصير الأمور وتتبع بنو عبيد فمن عثر عليه سجنوه بدار القاهرة بقيتهم فيها إلى اليوم وهو سنة 617 فكانوا يتناسلون ثم منعوا النكاح لينقطع النسل ويذهب الفرع والأصل وكان قد أراد أن يطلقهم منذ سنين ويلحقهم بغمار المسلمين ثم أراد أن يستفتي في ذلك ويشاور ويطالع ويوامر فكتب إلى الفقهاء بالإسكندرية فاجتمعوا وأجمعوا أن كتبوا بقوله عز وجل { ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم } الآية إلى قوله { بغيظكم } وكتبوا بذلك إليه فأنفاهم حيث أنفاهم ( وعند الله تجتمع الخصوم ) ويلتقي الظالم والمظلوم إذ يلتقي كل دائن بما طله منا ويجتمع المشكو
____________________
(1/109)
والشاكي وحدثني بعض الطلبة الحجاج عن رجل كان فيهم يسمى داوود أسمر أنه لو اطلع إلى أهل مصر لسجدوا
وكانت دولتهم كلها منذ بويع عبيد الله بسلجماسة إلى أن مات العاضد عبيد الله مائتي سنة اثنين وثماني وستين سنة انتهى ما وجدناه وفي الأصل تحريف كثير لأن ناسخها وجد بالأصل تحريفا كثيرا ونبه عليه
وكان الفراغ من نسخها يوم الجمعة أوائل ذي الحجة عام 1265 هـ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
____________________
(1/110)