أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم -
د. مهران ماهر عثمان نوري
http://www.saaid.net/
إن الحمدَ لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أما بعد ؛
فقد آثرت المشاركة بهذا الموضوع لسببين :
الأول : لأن الله تعالى أمرنا أن نجعل من نبينا - صلى الله عليه وسلم - أسوة لنا ، وذلك لا يمكن أن يتحقق إلا بالإلمام بمثل هذه النصوص المعرفةِ به - صلى الله عليه وسلم - .
الثاني : هذه الحملة الشرسة التي أضرم الغرب نارَها ، في الإساءة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، من أحسن ما تجابه به : التعريف بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد أصبحنا بين الفينة والأخرى نسمع بمن يسيء إلى نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، ونبينا - صلى الله عليه وسلم - لا يضره ذلك ، وقد قال الله تعالى في كتابه : { إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ } [الحجر :95] .
قال السعدي رحمه الله :" { إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ } : بك وبما جئت به ، وهذا وعد من الله لرسوله، أن لا يضره المستهزئون، وأن يكفيه الله إياهم بما شاء من أنواع العقوبة. وقد فعل تعالى ؛ فإنه ما تظاهر أحد بالاستهزاء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به إلا أهلكه الله وقتله شر قتلة" (1).
أقول : هذه الإساءات لا يمكن أن يتضرر منها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والمسلم الحق يشفق على أصحابها ، نعم .. يشفق عليهم من عذاب الله ، يشفق عليهم من الموت بدون توبة منها ، ولذا إذا عُرِّف هؤلاء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبمثل هذه المواقف فاعلم أنّهم إن لم يؤمنوا فلن تقوى أقلامهم على النيل –بعدُ- من ذاك الجبل الأشم - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) / تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص (435) .(1/1)
وإني لأسأل الله أن ييسر ترجمتها إلى لغات عديدة ، وأن يجعلها –قبل ذلك- خالصة لوجهه الكريم ، وأن يكتبني بها فيمن ذبّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
منهجي في البحث :
المنهج العام الذي قام البحث عليه استقرائيٌّ استنباطيٌّ ؛ فقد تتبعت النصوص المعرفةَ بأحواله - صلى الله عليه وسلم - ، واستنبطت منها ما قصدته من إيرادها.
وأما منهجي التفصيلي فيه فقد اتبعت في بحثي هذا ما يلي :
قمت بعزو جميع الآيات إلى مكانها من المصحف .
عزوت الأحاديث إلى مواضعها .
اكتفيت بالعزو إلى الصحيحين إن كان الحديث فيهما أو في أحدهما مالم تكن هناك زيادة في غيرهما .
إذا تكرر الحديث في مصدره لم استقص مُكرره في ذاك المصدر، واكتفيت بإيراد موضع واحد منه ، ما لم تكن في غيره زيادة أحتاج إليها .
إن كان الحديث في أكثر من كتاب من كتب السنن لم أكتف بعزوه إلى بعضها ، وإنما يكون العزو إلى جميع مصادره منها .
أحاديث المصادر التسعة : الصحيحين ، وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة ، ومسند الإمام أحمد وموطأ الإمام مالك وسنن الدارمي عزوتها بذكر أرقامها ، واعتمدت على ترقيم (العالمية) ، وأما أحاديث غيرها من الكتب فقد عزوتها بالصفحة والجزء .
ضبطت جميع الأحاديث بالشكل ؛ ليصان حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخطأ واللحن .
شرحتُ من النصوص ما غلب على ظني أنه مشكل .
ضبطت بالشَّكل كل لفظ يؤدي عدم تشكيله إلى إشكال .
إذا ورد حديث في السنن الأربعة فإنِّي أقدم في الذكر سنن أبي داود ، ثم الترمذي ، ثم النسائي ، ثم ابن ماجه . فإن كان مخرجه في المسند أيضاً فهو المقدَّم ، ولا شيء يُقدم على صحيحي البخاري ومسلم .
معلومات التوثيق - كسنة الطبع ومكانِه – اكتفيت بإثباتها في فهرس المصادر .
وقد تناولت فيه ما يلي :
حاله - صلى الله عليه وسلم - مع الأطفال
حاله - صلى الله عليه وسلم - مع الحيوان
حاله - صلى الله عليه وسلم - مع الجاهلين(1/2)
حاله - صلى الله عليه وسلم - مع أعدائه
حاله - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه
حاله - صلى الله عليه وسلم - مع أزواجه
حاله - صلى الله عليه وسلم - مع من يخدمه
حاله - صلى الله عليه وسلم - مع أرحامه
حاله - صلى الله عليه وسلم - مع إخوانه من الأنبياء
وأعلم أنّ ما تُرِك أكثر بكثير مما ذُكر، وعسى أن يكون هذا البحث نواةً لموسوعة كاملة ، ولم أرد الإطالة في التعليق على نصوصه؛ لئلا تُملَّ قراءته، وإنما هي إشارات تدل على كريم أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم -أردت بها ما أسلفت ذكره .
فالله أسأل أن يتقبل مني ، وألا يكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقل من ذلك ؛ فإنما أنا به .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
من أعظم ما جاء في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - قول الله تعالى : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم:4] .
و في المراد من قوله تعالى : { خلق عظيم } ثلاثة أقوال :
الأول : دين الإسلام .
الثاني : أدب القرآن .
الثالث : الطبع الكريم (1).
ومن المقرر في علم التفسير أنَّ المفسرين إذا اختلفوا في معنى آية وأمكن حمل الآية على جميع المعاني التي قيلت فيها فهذا هو الأولى (2).
__________
(1) / انظر زاد المسير لابن الجوزي رحمه الله (8/328) .
(2) / انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية رحمه الله (13/341) .(1/3)
فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أحسن الأديان، دين الإسلام، بل هو أول المسلمين كما قال تعالى : { وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [الأنعام :163] . وهو - صلى الله عليه وسلم - على خلق القرآن الكريم، ففي مسند الإمام أحمد (1) عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبِرِينِي بِخُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ : "كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ، قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } " .
وحقيقة «الخُلُق» : ما يأخذ به الإنسان نفسه من الآداب ، فسمي خُلُقاً ، لأنه يصير كالخِلْقة في صاحبه .
وفي هذه الآية الكريمة لم يقل الله : وإنك لذو خلق، بل قال: { لعلى خلق } ؛ لأن كلمة (على) للاستعلاء ، فدل اللفظ على أنه - صلى الله عليه وسلم - مستول على الأخلاق الفاضلة العظيمة متمكنٌ منها، وأنه بالنسبة إلى هذه الأخلاق الجميلة كالأمير بالنسبة إلى المأمور (2) .يقول سيد قطب رحمه الله :" تجيء الشهادة الكبرى والتكريم العظيم : { وإنك لعلى خلق عظيم } .. وتتجاوب أرجاء الوجود بهذا الثناء الفريد على النبي الكريم؛ ويثبت هذا الثناء العلوي في صميم الوجود! ويعجز كل قلم ، ويعجز كل تصور ، عن وصف قيمة هذه الكلمة العظيمة من رب الوجود ، وهي شهادة من الله ، في ميزان الله ، لعبد الله ، يقول له فيها : { وإنَّكَ لعَلَى خُلُقٍ عَظِيْمٍ } . ومدلول الخلق العظيم هو ما هو عند الله مما لا يبلغ إلى إدراك مداه أحد من العالمين. ودلالة هذه الكلمة العظيمة على عظمة محمد - صلى الله عليه وسلم - تبرز من نواح شتى :
__________
(1) / المسند (23460) .
(2) / انظر التفسير الكبير للرازي رحمه الله (30/71) .(1/4)
تبرز من كونها كلمة من الله الكبير المتعال ، يسجلها ضمير الكون ، وتثبت في كيانه ، وتتردد في الملأ الأعلى إلى ما شاء الله .
وتبرز من جانب آخر ، من جانب إطاقة محمد - صلى الله عليه وسلم - لتلقيها . وهو يعلم من ربه هذا، قائل هذه الكلمة : ما هو؟ ما عظمته؟ ما دلالة كلماته؟ ما مداها؟ ما صداها؟ ويعلم من هو إلى جانب هذه العظمة المطلقة ، التي يدرك هو منها ما لا يدركه أحد من العالمين " (1).
وإذا أردتُّ الحديث عن أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - أرى كأنني أقف أمام بحر لا ساحل له، ينتابني ما ينتاب فقيراً خيّم الجوع على أحشائه وقد دُعي إلى مأدبة ملك لا يدري من أين يبدأ!!
ولعلي أبدأ بحاله - صلى الله عليه وسلم - مع الصغار ..
هذه جملة مباركة من المواقف النبوية التي ترشد إلى حال نبينا - صلى الله عليه وسلم - مع الصغار ، وكيف كان يعاملهم ..
فقد كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - يصبر عليهم ولا يضجر ..
فعَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ رضي الله عنها قَالَتْ : أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ أَبِي وَعَلَيَّ قَمِيصٌ أَصْفَرُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :«سَنَهْ سَنَهْ» - وَهِيَ بِالْحَبَشِيَّةِ حَسَنَةٌ - قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، فَزَبَرَنِي أَبِي، فَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :«دَعْهَا». ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :«أَبْلِي وَأَخْلِقِي، ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي، ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي». فَبَقِيَتْ حَتَّى ذَكَرَ(2)-يَعْنِي مِنْ بَقَائِهَا-(3) .
إنَّ الانشغال بالعبادات ، ومناجاة رب الأرض والسماوات ، لم يكن ليمنع رسولنا - صلى الله عليه وسلم - من الإحسان إلى الطفل والترفق به ..
__________
(1) / في ظلال القرآن (7/288) .
(2) / أي : ذكر الراوي زمناً طويلاً .
(3) / البخاري (2842) .(1/5)
فعن شداد بن الهاد - رضي الله عنه - قَالَ : خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي إِحْدَى صَلَاتَيْ الْعِشَاءِ وَهُوَ حَامِلٌ حَسَنًا أَوْ حُسَيْنًا، فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَوَضَعَهُ ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ فَصَلَّى، فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِهِ سَجْدَةً أَطَالَهَا، فَرَفَعْتُ رَأْسِي وَإِذَا الصَّبِيُّ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ سَاجِدٌ، فَرَجَعْتُ إِلَى سُجُودِي، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الصَّلَاةَ قَالَ النَّاسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِكَ سَجْدَةً أَطَلْتَهَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ؟ قَالَ :«كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ» (1) .
فهنا نرى أنَّ نبينا - صلى الله عليه وسلم - يكره أن يُعجل هذا الصغير ، بل تركه حتى قضى نهمته من اللعب ..
إنّ الحسن أو الحسين لم يكن ليفعل ذلك لولا أنْ اعتاد حسن المعاملة والصبر من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لقد كان من الممكن أنْ يزيحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يفرغ من الصلاة ثم يلتفت إليه بعدُ .. ولكن لم يرد نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن يكسر بخاطر طفل حتى في حالٍ يناجي فيها ربه.
__________
(1) / مسند الإمام أحمد (26363) ، وسنن النسائي (1129) .(1/6)
وعَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ : رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَؤُمُّ النَّاسَ، وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ -وَهِيَ ابْنَةُ زَيْنَبَ بِنْتِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - - عَلَى عَاتِقِهِ، فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَهَا، وَإِذَا رَفَعَ مِنْ السُّجُودِ أَعَادَهَا (1) .
مع أنّه - صلى الله عليه وسلم - قال عن الصلاة :«جُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» (2) . أي : لم يكن له حال أهنأ من حاله وهو يصلي . ولهذا كان إذا قام إليها قال :« يَا بِلَالُ ، أَقِمْ الصَّلَاةَ ، أَرِحْنَا بِهَا» (3) . ومع ذلك كلِّه لم يترك هديه في معاملة الأطفال وهو متلبس بها .
ولقد كان رسولنا - صلى الله عليه وسلم - يخطب في الناس ، إِذْ جَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ، يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْمِنْبَرِ فَحَمَلَهُمَا وَوَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ :«صَدَقَ اللَّهُ : { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ? } (4) ، فَنَظَرْتُ إِلَى هَذَيْنِ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قَطَعْتُ حَدِيثِي وَرَفَعْتُهُمَا» (5) .
إنّه لم يكن أرحم بالصبيان من محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ..
__________
(1) / البخاري (5537) ، ومسلم (543) .
(2) / مسند الإمام أحمد (11845) ، وسنن النسائي (3879) .
(3) / سنن أبي داود (4333) .
(4) / سورة التغابن ، الآية (15) .
(5) / أبو داود (935) ، والترمذي (3707) ، والنسائي (1396) .(1/7)
فعن أنس - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : «إِنِّي لَأَدْخُل فِي الصَّلَاة أُرِيد إِطَالَتهَا ، فَأَسْمَع بُكَاء الصَّبِيّ ، فَأُخَفِّف مِنْ شِدَّة وَجْد أُمّه بِهِ» (1) . والْوَجْد يُطْلَق عَلَى الْحُزْن وَعَلَى الْحُبّ أَيْضًا وَكِلَاهُمَا سَائِغ هُنَا، كما ذكر النووي رحمه الله (2) .
وبين أنَّ من لا يرحم الصغير فليس منه بقوله : «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا» (3).
__________
(1) / البخاري (668) ، ومسلم (470) .
(2) / انظر شرح النووي على مسلم (4/187) .
(3) 4 / الترمذي (1842) .(1/8)
ولقد تجسدت هذه الرحمة بهم في أسمى صورها في هذه الحادثة التي أخبر بها صاحبه أنسٌ - رضي الله عنه -، قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :«وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ غُلَامٌ ، فَسَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ » ، ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَى أُمِّ سَيْفٍ ، امْرَأَةِ قَيْنٍ (1) يُقَالُ لَهُ أَبُو سَيْفٍ ، فَانْطَلَقَ يَأْتِيهِ ، وَاتَّبَعْتُهُ ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى أَبِي سَيْفٍ وَهُوَ يَنْفُخُ بِكِيرِهِ قَدْ امْتَلَأَ الْبَيْتُ دُخَانًا ، فَأَسْرَعْتُ الْمَشْيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ : يَا أَبَا سَيْفٍ أَمْسِكْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَمْسَكَ ، فَدَعَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِالصَّبِيِّ ، فَضَمَّهُ إِلَيْهِ ، وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ ، قَالَ أَنَسٌ : لَقَدْ رَأَيْتُهُ وَهُوَ يَكِيدُ بِنَفْسِهِ(2) بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَدَمَعَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ :«تَدْمَعُ الْعَيْنُ ، وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا ، وَاللَّهِ يَا إِبْرَاهِيمُ إِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ»(3).
وأذكر أنّ عالماً قيل له : فقد الفضيل بن عياض رحمه الله بنته فضحك، فلما سئل قال : رضيت بما قضى الله به ، وفقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابنه فبكى ؟ والمراد : هل كان الفضيل أصبر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟
فقال : إن الفضيل اتسع قلبه لعبودية واحدة ، هي عبودية الرضا بمرِّ القضا ، أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فلقد اتسع قلبه لأنواع من ذلك ، عبودية الرضا وعبودية الرحمة لهذا الصغير.
وكان - صلى الله عليه وسلم - يمازحهم :
__________
(1) / حدَّاد .
(2) / يجود بها في لحظة النزع .
(3) / البخاري (1220) ، ومسلم (2315) .(1/9)
فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ، فَكَانَ إِذَا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرَآهُ قَالَ :«أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ»؟(1).
ومن تأمل العبارة التي تفوه بها أنسٌ - رضي الله عنه - :" فَكَانَ إِذَا جَاءَ" علم أنّ ممازحة النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذا الصغير كانت متكررة .. وهذا يدل على تجذر هذه الأخلاق فيه عليه الصلاة والسلام، فما كان مُتَكَلَّفاً فلا يمكن أن يكون مستمراً ، قال الرازي رحمه الله :" المتكلف لا يدوم أمره طويلاً ، بل يرجع إلى الطبع " (2).
"والنغير -بالتصغير - هو طائر يشبه العصفور" (3) .
وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - إذا مرّ على الصبيان في الطريق سلَّم عليهم ..
فقد حَدَّثَ أَنَسٌ - رضي الله عنه - أَنَّهُ كَانَ يَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَمَرَّ بِصِبْيَانٍ ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ " (4) . وهنا أجدني أسائل نفسي : من منّا –أيها القارئ الكريم - يتواضع ويفعل ذلك اليوم؟!
وكان عليه الصلاة والسلام يقبِّل الأطفال ..
فعن أمِّ المؤمنين عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : قَدِمَ نَاسٌ مِنْ الْأَعْرَابِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا : أَتُقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ ؟ فَقَالُوا : نَعَمْ . فَقَالُوا : لَكِنَّا وَاللَّهِ مَا نُقَبِّلُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« وَأَمْلِكُ إِنْ كَانَ اللَّهُ نَزَعَ مِنْكُمْ الرَّحْمَةَ»(5) .
__________
(1) / البخاري (5664) ، ومسلم (2150) .
(2) / التفسير الكبير (30/71) .
(3) / فتح الباري (1/197) .
(4) / مسلم (2168) .
(5) / البخاري (5539) ، ومسلم (2317) .(1/10)
وحدَّث يَعْلَى بْنُ مُرَّةَ أَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى طَعَامٍ دُعُوا لَهُ، فَإِذَا حُسَيْنٌ يَلْعَبُ فِي السِّكَّةِ، فَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَامَ الْقَوْمِ وَبَسَطَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ الْغُلَامُ يَفِرُّ هَا هُنَا وَهَا هُنَا وَيُضَاحِكُهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَخَذَهُ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ تَحْتَ ذَقْنِهِ وَالْأُخْرَى فِي فَأْسِ رَأْسِهِ فَقَبَّلَهُ وَقَالَ:«حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْ حُسَيْنٍ، أَحَبَّ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ حُسَيْنًا، حُسَيْنٌ سِبْطٌ مِنْ الْأَسْبَاطِ»(1) .
ومن المهم هنا أن نعلم : أنّ عدم إعطاء الطفل نصيباً وافياً من الحنان والعطف –والتقبيل من مظاهر هذه المحنة- ربما تسبب في انحراف سلوكه ..
__________
(1) / أحمد (16903) ، والترمذي (3708) ، وابن ماجة (141) . والسِّبط : أمة في الخير كما في النهاية لابن الأثير (2/840) .(1/11)
يقول الدكتور على الزهراني (1) –في رده على أحد المرضى المنحرفين الشاذين-: "أعود لمشكلتك الجنسية وتعلقك بكبار السن للقيام بالعملية الجنسية، حيث يرى بعض علماء النفس أن الطفل الذي لم يحظ بالحنان الكاف من والده فإنَّ هذا الأمر سيلازمه للأبد بمطاردته لكبار السن بطلب الحنان منهم فهو، أحياناً يجد رغبة في مجامعتهم، لكنه في الواقع يبحث عن الحنان الذي طالما بحث عنه لكنه لم يجده في طفولته، حتى أن بعض العلماء يرى أن يقوم الأب بملامسة جسد الطفل في الصغر ؛ لإعطائه الحنان الذي يبحث عنه، وفي المراحل المتقدمة من الطفولة يقوم الأب بممازحة الطفل واللعب معه ؛ للتغلب على ظهور مثل هذا الانحراف، بل أن هناك دراسات وجدت أن الانحرافات الجنسية تكثر بين الأطفال الذين عاشوا بدون آباء، إما لانشغالهم المستمر خارج المنزل، أو لسفرهم لفترات طويلة، أو لفقدهم بالموت، أو الانفصال" (2) .
عجباً لأهل الكفر الذين يطعنون في دين الإسلام ، بدعوى أنه انتهك حقوق الإنسان ، أما قرأ أولئك عن حال النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الحيوان ؛ لتستبين لهم حرمة الإنسان في دين الإسلام ؟!
ومن ذلك ..
أنّه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن اتخاذ شيء فيه الروحُ غرضاً يُرمى ..
فقد مَرَّ عبد الله بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما بِفِتْيَانٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ نَصَبُوا طَيْرًا وَهُمْ يَرْمُونَهُ ، وَقَدْ جَعَلُوا لِصَاحِبِ الطَّيْرِ كُلَّ خَاطِئَةٍ مِنْ نَبْلِهِمْ ، فَلَمَّا رَأَوْا ابْنَ عُمَرَ تَفَرَّقُوا ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : مَنْ فَعَلَ هَذَا ؟ لَعَنْ اللَّهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَعَنَ مَنْ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا (3).
__________
(1) / استشاري الطب النفسي بالمملكة العربية السعودية.
(2) / رابط هذا النقل : http://www.alamal.med.sa/ask/details2.asp?id=508
(3) / صحيح مسلم (1958) .(1/12)
وفي البخاري عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَغُلَامٌ مِنْ بَنِي يَحْيَى رَابِطٌ دَجَاجَةً يَرْمِيهَا ، فَمَشَى إِلَيْهَا ابْنُ عُمَرَ حَتَّى حَلَّهَا ، ثُمَّ أَقْبَلَ بِهَا وَبِالْغُلَامِ مَعَهُ ، فَقَالَ : ازْجُرُوا غُلَامَكُمْ عَنْ أَنْ يَصْبِرَ هَذَا الطَّيْرَ لِلْقَتْلِ ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أَنْ تُصْبَرَ بَهِيمَةٌ أَوْ غَيْرُهَا لِلْقَتْلِ (1) .
والتصبير : أن يحبس ويرمى كما هو ظاهر.
ونهى عليه الصلاة السلام أن يحولَ أحدٌ بين حيوانٍ أو طيرٍ وبين ولده ، ونهى عن حرق كل ذي روح ..
قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ ، فَرَأَيْنَا حُمَرَةً (2) مَعَهَا فَرْخَانِ ، فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا ، فَجَاءَتْ الْحُمَرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ (3) ، فَجَاءَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:«مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا؟ رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا». وَرَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا فَقَالَ :«مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ»؟ قُلْنَا :نَحْنُ. قَالَ :«إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ» (4).
ونهى عن المُثْلة بالحيوان ولعن من فعلها ..
فعن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن مَنْ مَثَّلَ بِالْحَيَوَانِ (5).
والمعنى : أن يُقطع شيء من أطرافه وهو حي (6) .
__________
(1) / البخاري (5090) .
(2) / طائر صغير كالعصفور .
(3) / تبسط جناحيها وتبحث عن ولدها .
(4) / أبو داود (2300) .
(5) / البخاري (5091) .
(6) / انظر فيض القدير للمناوي (5/351) .(1/13)
وعن جَابِرٍ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ عَلَيْهِ حِمَارٌ قَدْ وُسِمَ فِي وَجْهِهِ (1) ، فَقَالَ :«لَعَنَ اللَّهُ الَّذِي وَسَمَهُ» (2) .
وأبان - صلى الله عليه وسلم - لنا أنّ الإحسان إلى البهيمة من موجبات المغفرة ..
ففي الصحيحين (3) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :«بَيْنَا رَجُلٌ بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ ، فَوَجَدَ بِئْرًا ، فَنَزَلَ فِيهَا ، فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ . فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ . فَقَالَ الرَّجُلُ : لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنْ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي . فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلَا خُفَّهُ مَاءً فَسَقَى الْكَلْبَ ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ ». قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّه ، وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ لَأَجْرًا ؟ فَقَالَ :«فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ » .
وأعجب من ذلك هذه القصة :
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :«بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ برَكِيَّةٍ (4) قَدْ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا، فَاسْتَقَتْ لَهُ بِهِ، فَسَقَتْهُ إِيَّاهُ، فَغُفِرَ لَهَا بِهِ» (5) .
امرأة زانية غفر الله لها بسقيا كلب .. ما أعظم رحمة ربنا بنا !
وأوضح حبيبنا - صلى الله عليه وسلم - أنّ الإساءة إلى البهائم ربما أودت بالعبد إلى النار والعياذ بالله..
__________
(1) / كُوي . انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/97) .
(2) / صحيح مسلم (2117) .
(3) / البخاري (2286) ، ومسلم (2244) .
(4) / بئر ، انظر القاموس المحيط ص (1664) .
(5) / البخاري (3208) ، ومسلم (2245) .(1/14)
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :«دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ، رَبَطَتْهَا، فَلَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا، وَلَا هِيَ أَرْسَلَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ حَتَّى مَاتَتْ هَزْلًا» (1) .
قال ابن حجر رحمه الله :" وفيه وجوبُ نفقةِ الحيوان على مالكه " (2) .
وأراد - صلى الله عليه وسلم - مرةً أن يشتري بعيراً ؛ لأن صاحبه أساء إليه ، ولقد شكا البعير هذه الإساءة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ..
فعَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ الثَّقَفِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ:بَيْنَا نَحْنُ نَسِيرُ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إِذْ مَرَرْنَا بِبَعِيرٍ يُسْنَى(3) عَلَيْهِ فَلَمَّا رَآهُ الْبَعِيرُ جَرْجَرَ (4) وَوَضَعَ جِرَانَهُ (5)، فَوَقَفَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:«أَيْنَ صَاحِبُ هَذَا الْبَعِيرِ»؟ فَجَاءَ، فَقَالَ: «بِعْنِيهِ». فَقَالَ: لَا بَلْ أَهَبُهُ لَكَ. فَقَالَ:«لَا، بِعْنِيهِ». قَالَ: لَا بَلْ أَهَبُهُ لَكَ؛ وَإِنَّهُ لِأَهْلِ بَيْتٍ مَا لَهُمْ مَعِيشَةٌ غَيْرُهُ. قَالَ :«أَمَا إِذْ ذَكَرْتَ هَذَا مِنْ أَمْرِهِ فَإِنَّهُ شَكَا كَثْرَةَ الْعَمَلِ وَقِلَّةَ الْعَلَفِ ؛ فَأَحْسِنُوا إِلَيْهِ» (6) .
واستصعب جمل على أصحابه ، فأعاده النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى حاله الأولى بالرفق واللين ..
__________
(1) / البخاري (3071) ، ومسلم (2619) .
(2) / فتح الباري (6/358) .
(3) / يُسقى عليه . قال في القاموس :" والقَوْمُ يَسْنونَ لأنْفُسِهِم: إذا اسْتَقَوْا " ص (1673) .
(4) / "جرجر الفحل إذا ردد صوته في حُنْجُرَته" فيض القدير (2/483) .
(5) / باطن العنق ، انظر النهاية في غريب الحديث والأثر (1/738) .
(6) / أحمد في المسند (16907) .(1/15)
فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال كان أهل بيت من الأنصار لهم جمل يَسنون عليه ، وإنه استصعب عليهم فمنعهم ظهره،وإن الأنصار جاؤوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : إنه كان لنا جمل نَسني عليه وإنه استصعب علينا ومنعنا ظهره وقد عطش الزرع والنخل فقال - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه :«قُومُوا»، فقاموا ، فدخل الحائط ، والجمل في ناحيته ، فمشى النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه، فقالت الأنصار : يا رسول الله ، قد صار مثل الكلب ، نخاف عليك صولته . قال :«لَيْسَ عَليَّ مِنْه بَأسٌ»، فلما نظر الجمل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبل نحوه حتى خرَّ ساجداً بين يديه، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بناصيته أذل ما كانت قط حتى أدخله في العمل، فقال له أصحابه : يا رسول الله هذا بهيمة لا يعقل يسجد لك ، ونحن نعقل ، فنحن أحق أن نسجد لك ؟ قال:«لا يَصْلُحُ لِبَشَرٍ أنْ يَسْجُدَ لبَشَرٍ، ولَو صَلُحَ لِبَشَرٍ أنْ يَسْجُدَ لبَشَرٍ لأمَرْتُ المَرْأةَ أنْ تَسْجُدَ لزَوْجِها لعِظَمِ حَقِّه عَلَيْها» (1) .
وأمر - صلى الله عليه وسلم - الإحسان إلى البهيمة حال ذبحها ، وأثنى على من فعل ذلك ..
فَعنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ - رضي الله عنه - ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :«إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» (2) .
وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ - رضي الله عنه - أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأَذْبَحُ الشَّاةَ وَأَنَا أَرْحَمُهَا.فَقَالَ :«وَالشَّاةُ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللَّهُ» (3).
__________
(1) / أحمد في المسند (12153) .
(2) / مسلم (1955) .
(3) 3 / مسند الإمام أحمد (15039) .(1/16)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً أضجع شاةً وهو يحدُّ شفرته، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -? :«أَتُريدُ أن تُميتَها مَوْتَاتٍ هَلاَّ أحددتَ شَفْرَتَك قبل أن تُضْجِعَهَا» ؟ (1).
ونهى - صلى الله عليه وسلم - عن قتل الطيور لمجرد القتل ..
فعن ابن عمر رضي الله عنهما يَرْفَعُه قال: «مَا مِنْ إِنْسَانٍ قَتَلَ عُصْفُورًا فَمَا فَوْقَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا إِلَّا سَأَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهَا» . قيل : يا رسولَ الله فما حَقُّها ؟ قال : «أَنْ تَذْبَحَهَا فَتَأْكُلَهَا ، وَلَا تَقْطَعْ رَأْسَهَا فَيُرْمَى بِهَا» (2).
وأما حاله وخُلقه - صلى الله عليه وسلم - مع الجاهل فقد كان :
رفيقاً بهم ..
قال أنس - رضي الله عنه - بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :مَهْ مَهْ. فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :«لَا تُزْرِمُوهُ (3)، دَعُوهُ». فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ :«إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ، إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ». فَأَمَرَ رَجُلًا مِنْ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ (4) عَلَيْهِ (5) .
__________
(1) / الحاكم في المستدرك برقم (4/257) .
(2) / النسائي (4274) .
(3) / لا تقطعوا بوله ، انظر شرح النووي على مسلم (3/190) .
(4) / فصبَّه .
(5) / البخاري (213) ، ومسلم (285) .(1/17)
وعند أهل السنن أنّ الأعرابي قال : اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا . فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :«لَقَدْ تَحَجَّرْتَ وَاسِعًا». ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ بَالَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، فَأَسْرَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ :«إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ، صُبُّوا عَلَيْهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ» (1) .
ولو لم ينه النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس عن زجر هذا الرجل لكان من المتوقع أن تحدث هذه المفاسد :
عدم اجتماع النجاسة في مكان واحد ، وتفرقها هنا وهناك .
تضرر الأعرابي بقطعه للبول .
صده عن الدين بسبب سوء المعاملة .
إبداء عورته إذا قام ولم يكمل بوله .
فما أعظمَ حكمةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فسبحان من كمّله !
__________
(1) / أبو داود (324) ، والترمذي (137) ، والنسائي (1201) .(1/18)
وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ. فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَا ثُكْلَ أُمِّيَاهْ! مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ ؟! فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ (1). فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِي (2) ، وَلَا ضَرَبَنِي، وَلَا شَتَمَنِي، قَالَ :«إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ» (3) .
__________
(1) / التقدير: تعجبت، لكني سكت .
(2) / ما نهرني .
(3) / صحيح مسلم (537) .(1/19)
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا. فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ، قَالُوا: مَهْ مَهْ. فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :«ادْنُهْ». فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا، فَجَلَسَ. قَالَ :«أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ»؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ:«وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ». قَالَ :«أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ»؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ:«وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ». قَالَ:«أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ»؟ قَالَ:لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ :«وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ». قَالَ :«أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ»؟ قَالَ : لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ :«وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ». قَالَ :«أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ»؟ قَالَ :لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ :«وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ». ثم وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ :«اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ». فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ (1) .
وكان - صلى الله عليه وسلم - يستر عليهم..
__________
(1) / أحمد (21185) .(1/20)
فعن عَائِشَةَ رضي الله عنها أنّ بَرِيرَةَ أتتها تَسْأَلُهَا فِي كِتَابَتِهَا ، فَقَالَتْ : إِنْ شِئْتِ أَعْطَيْتُ أَهْلَكِ وَيَكُونُ الْوَلَاءُ لِي ، وَقَالَ أَهْلُهَا : إِنْ شِئْتِ أَعْتَقْتِهَا وَيَكُونُ الْوَلَاءُ لَنَا ، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَّرَتْهُ ذَلِكَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :«ابْتَاعِيهَا ، فَأَعْتِقِيهَا ؛ فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ» ، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ وَقَالَ :«مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَلَيْسَ لَهُ وَإِنْ اشْتَرَطَ مِائَةَ مَرَّةٍ ، قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ ، وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» (1) .
وعن أَنَسٍ - رضي الله عنه - أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا آكُلُ اللَّحْمَ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، فَقَالَ :«مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا، لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» (2) .
__________
(1) / البخاري (436) ، مسلم (1504) .
(2) / البخاري (4675) ، ومسلم (1401) .(1/21)
وقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: صَنَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا فَرَخَّصَ فِيهِ، فَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَخَطَبَ، فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ قَالَ:«مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنْ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً» (1).
وكان - صلى الله عليه وسلم - يصحح أخطاءهم ..
فعن أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ مَرَّ بِشَجَرَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ يُقَالُ لَهَا ذَاتُ أَنْوَاطٍ ، يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ . فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :«سُبْحَانَ اللَّهِ ! هَذَا كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى : اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ»(2).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَتَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ؟ فَقَالَ: «ارْجِعْ عَلَيْهِمَا، فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا» (3).
لقد عامل النبي - صلى الله عليه وسلم - أعداءه في معامع القتال ومواقع النزال بالشجاعة والقوة ..
__________
(1) / البخاري (5636) .
(2) / جامع الترمذي (2106) .
(3) / أبو داود (2166) ، والنسائي (4093) ، وابن ماجة (2772) .(1/22)
ينعت علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - حالَه - صلى الله عليه وسلم - وشجاعته وإقدامه في يوم بدر فيقول :لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَنَحْنُ نَلُوذُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ أَقْرَبُنَا إِلَى الْعَدُوِّ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ بَأْسًا" (1) .
ولما أراد أبي بن خلف أن يلحق به بُعيد القتال في أحد لما انحاز إلى الجبل، أخذ - صلى الله عليه وسلم - الحربة من الحارث بن الصِّمَّة وقام وانتفض انتفاضةً تطاير منها شعره، ثم رماه في تَرْقُوَتِه ، فانقلب من على فرسه، فَلَمّا رَجَعَ إلَى قُرَيْشٍ وَقَدْ خَدَشَهُ فِي عُنُقِهِ خَدْشًا غَيْرَ كَبِيرٍ احتقن منه الدم ، قَالَ: قَتَلَنِي وَاَللّهِ مُحَمّدٌ. فقَالُوا لَهُ: ذَهَبَ وَاَللّهِ فُؤَادُك وَاَللّهِ إنْ بِك مِنْ بَأْسٍ. قَالَ: إنّهُ قَدْ كَانَ قَالَ لِي بِمَكّةَ :«أَنَا أَقْتُلُك» ، فَوَاَللّهِ لَوْ بَصَقَ عَلَيّ لَقَتَلَنِي. فَمَاتَ عَدُوّ اللّهِ وَهُمْ قَافِلُونَ بِهِ إلَى مَكّةَ (2) .
__________
(1) / أحمد (619) .
(2) / سيرة ابن هشام (2/83) .(1/23)
قَالَ رَجُلٌ لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يوم حُنَيْنٍ؟ قَالَ : لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَفِرَّ، إِنَّ هَوَازِنَ كَانُوا قَوْمًا رُمَاةً، وَإِنَّا لَمَّا لَقِينَاهُمْ حَمَلْنَا عَلَيْهِمْ فَانْهَزَمُوا، فَأَقْبَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْغَنَائِمِ وَاسْتَقْبَلُونَا بِالسِّهَامِ، فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يَفِرَّ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ وَإِنَّهُ لَعَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ وَإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ آخِذٌ بِلِجَامِهَا وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:«أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ» (1) .
وعاملهم نبينا - صلى الله عليه وسلم - –أيضاً - بالرحمة ..
فقد كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ:«اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا، وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَمْثُلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا» (2) .
ووجد امرأةً مقتولة في بعض المغازي –كما ثبت عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود - رضي الله عنه -- فَأَنْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ (3) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ : قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. فقَالَ :«إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً» (4) .
__________
(1) / البخاري (2652) ، ومسلم (1776) .
(2) / مسلم (1731) .
(3) / البخاري (2791) ، ومسلم (1744) .
(4) / مسلم (2599) .(1/24)
هذا هو الأصل، وإلا فقد دعا - صلى الله عليه وسلم - على من استطال شره كقتلة القراء، دعا عليهم شهراً كاملاً ، قال أنسٌ- رضي الله عنه - : "إِنَّمَا قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ الرُّكُوعِ شَهْرًا ، أُرَاهُ كَانَ بَعَثَ قَوْمًا يُقَالُ لَهُمْ الْقُرَّاءُ زُهَاءَ سَبْعِينَ رَجُلًا إِلَى قَوْمٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ دُونَ أُولَئِكَ ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَهْدٌ فَقَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -– يعني بعدما قتلوهم- شَهْرًا يَدْعُو عَلَيْهِمْ"(1) .
ولقد كان سيدنا ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - حريصاً على هدايتهم ..
قال تعالى له : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا } [الكهف:6] .
أي: لعلك قاتل ومهلك نفسك حزناً، من بعد توليهم عنك، بسبب عدم إيمانهم بك (2) .
وقال : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [الشعراء : 3] ، وقال: { فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } [فاطر:8] ، وقال: { وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } [النحل:127].
__________
(1) / البخاري (947) ، ومسلم (677) .
(2) / انظر الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي (10/348) .(1/25)
وتأمل هذه القصة التي تبين عظيم عنايته بهم وحرصه عليهم : عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ:«أَسْلِمْ». فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ : أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ -- صلى الله عليه وسلم - -فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَقُولُ :«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ» (1) .
ولما أسلم عبد الله بن سلام قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ فَاسْأَلْهُمْ عَنِّي قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي، فَجَاءَتْ الْيَهُودُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :«أَيُّ رَجُلٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ فِيكُمْ»؟ قَالُوا: خَيْرُنَا وَابْنُ خَيْرِنَا، وَأَفْضَلُنَا وَابْنُ أَفْضَلِنَا. فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :«أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ»؟ قَالُوا : أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ. فَأَعَادَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ. فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. قَالُوا: شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا، وَتَنَقَّصُوهُ، قَالَ : هَذَا كُنْتُ أَخَافُ يَا رَسُولَ اللَّهِ (2).
وإنما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك طمعاً في هدايتهم وحرصاً عليهم .
عاملهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعفو والحلم ..
__________
(1) / البخاري (1268) .
(2) / البخاري (3645) .(1/26)
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ ثَمَانِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ هَبَطُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ جَبَلِ التَّنْعِيمِ مُتَسَلِّحِينَ، يُرِيدُونَ غِرَّةَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابِهِ، فَأَخَذَهُمْ سِلْمًا، فَاسْتَحْيَاهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } [الفتح :24] (1) .
__________
(1) / مسلم (1808) .(1/27)
وبعث - صلى الله عليه وسلم - خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ سَيِّدُ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ :«مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ»؟ فَقَالَ: عِنْدِي يَا مُحَمَّدُ خَيْرٌ، إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ. فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ، فجاءه وكرر سؤاله وكرر ثمامة كلامه، حَتَّى كَانَ مِنْ الْغَدِ فكرر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سؤاله وأجاب ثمامة بما أجاب به من قبل، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :«أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ». فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنْ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ كُلِّهِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ فَمَاذَا تَرَى؟ فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ. فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ : أَصَبَوْتَ؟ فَقَالَ: لَا وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ مَعَ رَسُولِ(1/28)
اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَلَا وَاللَّهِ لَا يَأْتِيكُمْ مِنْ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -(1).
ولما اجتمع المشركون في المسجد بعد دخوله - صلى الله عليه وسلم - مكة فاتحاً ظافراً قال لهم : «ما تَرَوْنَ أنَّي صانِعٌ بِكُم»؟ قالوا : خيراً ، أخٌ كريمٌ ،وابنُ أخٍ كريم. قال : « اذهَبُوا فَأنْتُمُ الطُّلَقَاء » (2).
__________
(1) / البخاري (2244) ، ومسلم (1764) .
(2) / البيهقي (9/118) .(1/29)
قَالَتْ له عائشة رضي الله عنها : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ فَقَالَ :«لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ (1)، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ :إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رُدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ فَمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ»؟ فماذا كان رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال :«بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا»(2).
لا إله إلا الله ! بعد كل ذلك تعفو عنهم يا نبي الله ؟!
لا عجب .. لا غرو ..
فهو من قال الله له : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم:4].
__________
(1) / موضع بالقرب من مِنَى كانت الثعالب تأوي إليه ، انظر فتح الباري (3/385) .
(2) / البخاري (2992) ، ومسلم (1795) .(1/30)
ولِننتقل سوياً – أيها القارئ الكريم – إلى نموذج آخر من النماذج المبينة لعظيم أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولكيفية معاملته لأعدائه وحاله معهم لابد من ذكر شيء من تاريخ ابن سلول المليء بالغدر والخيانة ..
إنّ رأس المنافقين ، عبد الله بن أبي ابن سلول (1) أشاع الإفك وطعن في عرضه - صلى الله عليه وسلم -، هو الذي تولى كبر إشاعة الفاحشة، قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [النور:11] ..
لا خلاف بين المفسرين في أنّ الذي تولى كبره هو عبد الله بن أبي .
وهو وقومه من قال الله عنهم : { هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ } [المنافقون:7-8] ..
هو من قال الله تعالى عنه : { وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } [آل عمران: 167] .
__________
(1) / أثبتُّ همزة ابن لأن (سلول) أمّه .(1/31)
قال الطبري رحمه الله :" يعني تعالى ذكره بذلك عبدَ الله بن أبيّ ابن سلول المنافق وأصحابَه، الذين رجعوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه، حين سار نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين بأحد لقتالهم، فقال لهم المسلمون: تعالوا قاتلوا المشركين معنا، أو ادفعوا بتكثيركم سوادنا! فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لسرنا معكم إليهم، ولكنا معكم عليهم، ولكن لا نرى أنه يكون بينكم وبين القوم قتالٌ! فأبدوْا من نفاق أنفسهم ما كانوا يكتمونه" (1).
ولما حلّ الشيطانُ بساحة مهاجري وأنصاري ونادى كلٌّ منهما قومه وخرج عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - قائلاً : «مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ»؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَعَ (2) رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ. فَقَالَ :«دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ» (3). لما حدث هذا وبلغ الخبرُ رأس النفاق قال:"ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل : سمنْ كلبَك يأكلْك"(4).
هذا نذر يسير من تاريخ ذاك الرجل ، إنه تاريخ أسود قاتم .. ومع كل ذلك –وهنا الشاهد الذي نريده- يهلك هذا اللعين، ويأتي ابنه –وهو من خيار الصحابة- إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يطلب إليه أن يصلي على أبيه ، ويكفنه في ثوبه فيستجيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ..
أي خلق هذا الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - !!؟
__________
(1) / جامع البيان (7/378).
(2) / قال في الفتح :" وَكَسَعَ الرَّجُلَ: ضَرَبَ دُبُره بِظَهْرِ قَدَمه" (8/651) .
(3) / البخاري (4527) ، ومسلم (2584) .
(4) / تفسير ابن أبي حاتم (6/1844) .(1/32)
فعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ أَنْ يُكَفِّنَ فِيهِ أَبَاهُ، فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ بِثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاكَ اللَّهُ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : «إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ فَقَالَ: { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً } ، وَسَأَزِيدُ عَلَى سَبْعِينَ». قَالَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ؟ فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } (1) .
وأيم الله، لا يمكن أن يفعل هذا إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) / البخاري (4304) ، ومسلم (2400) .(1/33)
هذه الأخلاق جعلت الناس يدخلون في دين الله فرادى وجماعات، هذا عبد الله بن سلام- رضي الله عنه - يقول : "إِنَّ اللَّهَ لَمَّا أَرَادَ هُدَى زَيْدِ بن سَعْنَةَ، قَالَ زَيْدُ بن سَعْنَةَ: مَا مِنْ عَلامَاتِ النُّبُوَّةِ شَيْءٌ إِلا وَقَدْ عَرَفْتُهَا فِي وَجْهِ مُحَمَّدٍ حِينَ نَظَرْتُ إِلَيْهِ، إِلا اثْنَيْنِ لَمْ أُخْبَرْهُمَا مِنْهُ: يَسْبِقُ حِلْمُهُ جَهْلَهُ، وَلا يَزِيدُهُ شِدَّةُ الْجَهْلِ عَلَيْهِ إِلا حِلْمًا، فَكُنْتُ أَلْطَفُ لَهُ إِلَى أَنْ أُخَالِطَهُ، فَأَعْرِفَ حِلْمَهُ مِنْ جَهْلِهِ، قَالَ زَيْدُ بن سَعْنَةَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا مِنَ الْحُجُرَاتِ، وَمَعَهُ عَلِيُّ بن أَبِي طَالِبٍ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَتِهِ كَالْبَدَوِيِّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ بِقِرَايَ قَرْيَةَ بني فُلانٍ، قَدْ أَسْلَمُوا وَدَخَلُوا فِي الإِسْلامِ، وَكُنْتُ حَدَّثْتُهُمْ إِنْ أَسْلَمُوا أَتَاهُمُ الرِّزْقُ رَغَدًا، وَقَدْ أَصَابَتْهُمْ سِنَةٌ وَشِدَّةٌ وَقُحُوطٌ مِنَ الْغَيْثِ، فَأَنَا أَخْشَى يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ الإِسْلامِ طَمَعًا كَمَا دَخَلُوا فِيهِ طَمَعًا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُرْسِلَ إِلَيْهِمْ بِشَيْءٍ تُغِيثُهُمْ بِهِ فَعَلْتَ، فَنَظَرَ إِلَى رَجُلٍ إِلَى جَانِبِهِ أُرَاهُ عَلِيًّا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ، فاستدان من زيدٍ بعدما طلب زيدٌ إليه ذلك ، قال زيد : فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ مَحِلِّ الأَجَلِ بِيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاثٍ، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ، وَدَنَا مِنْ جِدَارٍ لِيَجْلِسَ، أَتَيْتُهُ، فَأَخَذْتُ بِمَجَامِعِ قَمِيصِهِ وَرِدَائِهِ،(1/34)
وَنَظَرْتُ إِلَيْهِ بِوَجْهٍ غَلِيظٍ، فَقُلْتُ لَهُ: أَلا تَقْضِينِي يَا مُحَمَّدُ حَقِّي، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُكُمْ بني عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بِمُطْلٍ، وَلَقَدْ كَانَ لِي بِمُخَالَطَتِكُمْ عِلْمٌ. وَنَظَرْتُ إِلَى عُمَرَ وَإِذَا عَيْنَاهُ تَدُورَانِ فِي وَجْهِهِ كَالْفَلَكِ الْمُسْتَدِيرِ، ثُمَّ رَمَانِي بِبَصَرِهِ، فَقَالَ: يَا عَدُوَّ اللَّهِ، أَتَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ مَا أَسْمَعُ، وَتَصْنَعُ بِهِ مَا أَرَى، فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ، لَوْلا مَا أُحَاذِرُ فَوْتَهُ (1) ، لَضَرَبْتُ بِسَيْفِي رَأْسَكَ. وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْظُرُ إِلَى عُمَرَ فِي سُكُونٍ وَتُؤَدَةٍ وَتَبَسُّمٍ، ثُمَّ قَالَ:«يَا عُمَرُ، أَنَا وَهُوَ كُنَّا أَحْوَجَ إِلَى غَيْرِ هَذَا، أَنْ تَأْمُرَنِي بِحُسْنِ الأَدَاءِ، وَتَأْمُرَهُ بِحُسْنِ اتِّبَاعِهِ، اذْهَبْ بِهِ يَا عُمَرُ فَأَعْطِهِ حَقَّهُ، وَزِدْهُ عِشْرِينَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ مَكَانَ مَا رَعَبْتَهِ». قَالَ زَيْدٌ: فَذَهَبَ بِي عُمَرُ فَأَعْطَانِي حَقِّي، وَزَادَنِي عِشْرِينَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ الزِّيَادَةُ يَا عُمَرُ؟ قَالَ: أَمَرَنِي بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أَزِيدَكَ مَكَانَ مَا رَعَبْتُكَ، قَالَ: وَتَعْرِفُنِي يَا عُمَرُ؟ قَالَ: لا، فَمَا دَعَاكَ أَنْ فَعَلْتَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا فَعَلْتَ ، وَقُلْتُ لَهُ مَا قُلْتُ؟ قُلْتُ: يَا عُمَرُ، لَمْ يَكُنْ مِنْ عَلامَاتِ النُّبُوَّةِ شَيْءٌ، إِلا وَقَدْ عَرَفْتُ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ نَظَرْتُ إِلَيْهِ، إِلا اثْنَيْنِ لَمْ أُخْبَرْهُمَا مِنْهُ: يَسْبِقُ حِلْمُهُ جَهْلَهُ، وَلا يَزِيدُهُ شِدَّةُ الْجَهْلِ عَلَيْهِ إِلا حِلْمًا،
__________
(1) / أي : أسبق إلى شيء لم يأمر به .(1/35)
فَقَدِ اخْتَبَرْتُهُمَا، فَأُشْهِدُكَ يَا عُمَرُ أَنِّي قَدْ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَأُشْهِدُكَ أَنَّ شَطْرَ مَالِي صَدَقَةٌ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، قَالَ عُمَرُ: أَوْ عَلَى بَعْضِهِمْ، فَإِنَّكَ لا تَسَعُهُمْ، قُلْتُ: أَوْ عَلَى بَعْضِهِمْ. فَرَجِعَ عُمَرُ، وَزَيْدٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ زَيْدٌ: أَشْهَدُ أَنَّ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَآمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ وَتَابَعَهُ، وَشَهِدَ مَعَهُ مَشَاهِدَ كَثِيرَةً، ثُمَّ تُوُفِّيَ فِي غَزْوَةَ تَبُوكٍ مُقْبِلا غَيْرَ مُدْبِرٍ، رَحِمَ اللَّهُ زَيْدًا" (1).
__________
(1) / الطبراني في الكبير (5/222) ، وقواه ابن حجر في الإصابة (2/606).(1/36)
ومن صور حلمه وعفوه عنهم ما رواه جابر بن عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَفَلَ مَعَهُ، فَأَدْرَكَتْهُمْ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ (1) فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْعِضَاهِ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَحْتَ سَمُرَةٍ (2) فَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ، فَنِمْنَا نَوْمَةً ثُمَّ إِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدْعُونَا، فَجِئْنَاهُ، فَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ جَالِسٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :«إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا، فَقَالَ لِي: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قُلْتُ: اللَّهُ، فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ» ثُمَّ لَمْ يُعَاقِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - (3).
وفي المسند (4) : فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ :«مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي»؟ قَالَ: كُنْ كَخَيْرِ آخِذٍ. قَالَ:«أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أُعَاهِدُكَ أَنْ لَا أُقَاتِلَكَ، وَلَا أَكُونَ مَعَ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَكَ. فَخَلَّى سَبِيلَهُ.
__________
(1) / شجر به شوك .
(2) / الجمع: سَمُر، وهو شجر الطلح .
(3) / البخاري (2694) ، ومسلم (843) .
(4) / برقم (14401) .(1/37)
وكان نبينا - صلى الله عليه وسلم - يدعو لهم بالهداية والمغفرة (1) ..
فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَحْكِي نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ:«رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» (2) . وهذا حدث يوم أُحد.
يأتي إليه الطُّفَيْلُ وَأَصْحَابُهُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ دَوْسًا قَدْ كَفَرَتْ وَأَبَتْ فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا. فَقِيلَ: هَلَكَتْ دَوْسٌ، فَقَالَ :«اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَائْتِ بِهِمْ» (3) .
كان - صلى الله عليه وسلم - يعاملهم بالرفق ..
__________
(1) / هذا في حياتهم، أما الدعاء للمشرك بالمغفرة بعد هلاكه وموته فحرامٌ بنصِّ القرآن الكريم ، قال تعالى : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } [التوبة :113] .
(2) / البخاري (3218) ، ومسلم (1792) .
(3) / البخاري (2720) ، ومسلم (2524) .(1/38)
سَارَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - -لما أراد العمرة التي منع فيها - حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِي يُهْبَطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، فَقَالَ النَّاسُ: حَلْ حَلْ (1) ، فَأَلَحَّتْ (2) ، فَقَالُوا: خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ (3) ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :«مَا خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ». ثُمَّ قَالَ :«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا» (4) .
ولما أرادوا أن يكتبوا بنود صلح الحديبية وأملى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على علي - رضي الله عنه - :«هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ»، قال المشركون : لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ تَابَعْنَاكَ، وَلَكِنْ اكْتُبْ :مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. فَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَمْحَاهَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا وَاللَّهِ لَا أَمْحَاهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :«أَرِنِي مَكَانَهَا»، فَأَرَاهُ مَكَانَهَا، فَمَحَاهَا (5) .
__________
(1) / تُقال لزجرها .
(2) / تمادت في عدم القيام .
(3) / خَلأَت الناقَةُ إذا بَرَكَت فلم تَبْرَح مكانَها. ويقال للجمل: ألحّ، وللفرس : حرَن . النهاية لابن الأثير (2/136) .
(4) / البخاري (2529) .
(5) / البخاري (2501) ، ومسلم (1783) .(1/39)
وتأمل هذه الحادثة : عن أم المؤمنين عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ. فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ: عَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :«مَهْلًا يَا عَائِشَةُ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ». فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :«فَقَدْ قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ» (1) .
وعاملهم نبينا - صلى الله عليه وسلم - بالوفاء ..
فلقد قال في أُسَارَى بَدْرٍ :«لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ» (2) . قالها وفاءً له ؛ فإنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما انصرف عن أهل الطائف ، ولم يجيبوه إلى ما دعاهم إليه من تصديقه ونصرته صار إلى حراء ، ثم بعث إلى الأخنس بن شريق ليجيره ، فقال : أنا حليف والحليف لا يجير . فبعث إلى سهيل بن عمرو ، فقال : إن بني عامر لا تجير على بني كعب . فبعث إلى المطعم بن عدي فأجابه إلى ذلك ، ثم تسلح المطعم وأهل بيته وخرجوا حتى أتوا المسجد ، ثم بعث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أن ادخل فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فطاف بالبيت ، وصلى عنده ، ثم انصرف إلى منزله .
ولما ذهب حُيَي بْنُ أَخْطَب النّضْرِيّ إلى كَعْبَ بْنَ أَسَدٍ الْقُرَظِيّ الذي عاهد النبي- صلى الله عليه وسلم - أراد حيي يوم الأحزاب من كعب أن ينبذ عهده ، فكان فيما قاله له كعب : " وَيْحَك يَا حُيَيّ فَدَعْنِي وَمَا أَنَا عَلَيْهِ ؛ فَإِنّي لَمْ أَرَ مِنْ مُحَمّدٍ إلّا صِدْقًا وَوَفَاءً " (3) .
__________
(1) / البخاري (5565) ، ومسلم (2165) .
(2) / البخاري (2906) .
(3) / سيرة ابن هشام (2/220) .(1/40)
ولما فتح مكة أخذ المفتاح من عثمان بن طلحة، وصلى في جوف الكعبة، جَلَسَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمَسْجِدِ ، فَقَامَ إلَيْهِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمِفْتَاحُ الْكَعْبَةِ فِي يَدِهِ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللّهِ ، اجْمَعْ لَنَا الْحِجَابَةَ مَعَ السّقَايَةِ صَلّى اللّهُ عَلَيْك ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - :«أَيْنَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ» ؟ فَدُعِيَ لَهُ ، فَقَالَ : «هَاكَ مِفْتَاحَك يَا عُثْمَانُ ، الْيَوْمُ يَوْمُ بِرّ وَوَفَاءٍ»(1).
ولما جاء إليه سراقة بن مالك بعد دخوله مكة بالكتاب الذي أمر بأن يُكتب له في طريق الهجرة قال - صلى الله عليه وسلم - :«هذا يَوْمُ وَفَاءٍ وَبِرٍّ» ، فأسلم سراقة (2) .
فياليتنا عاملنا إخواننا وأحبابنا بما عامل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعداءه وأعداءنا .
قال تعالى : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } [آل عمران :159] .
قال ابن كثير رحمه الله :" أي: برحمة من الله ، وقال الحسن البصري: هذا خُلُقُ محمد - صلى الله عليه وسلم - بعثه الله به. وهذه الآية الكريمة شبيهة بقوله تعالى : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رسولٌ من أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [التوبة:128]" (3) .
__________
(1) / السابق (2/412) .
(2) / الطبراني في الكبير (7/134) .
(3) / تفسير القرآن العظيم (2/148) .(1/41)
وقال السعدي رحمه الله :" أي: برحمة الله لك ولأصحابك، منَّ الله عليك أن ألنت لهم جانبك، وخفضت لهم جناحك، وترفقت عليهم، وحسنت لهم خلقك، فاجتمعوا عليك وأحبوك، وامتثلوا أمرك. { ولو كنت فظاً } أي: سيئ الخلق { غليظ القلب } أي قاسيه، { لانفضوا من حولك } لأن هذا ينفرهم ويبغضهم لمن قام به هذا الخلق السيئ. فالأخلاق الحسنة من الرئيس في الدين تجذب الناس إلى دين الله، وترغبهم فيه، مع ما لصاحبه من المدح والثواب الخاص، والأخلاق السيئة من الرئيس في الدين تنفر الناس عن الدين، وتبغضهم إليه، مع ما لصاحبها من الذم والعقاب الخاص، فهذا الرسول المعصوم يقول الله له ما يقول، فكيف بغيره؟! أليس من أوجب الواجبات، وأهم المهمات، الاقتداء بأخلاقه الكريمة، ومعاملة الناس بما يعاملهم به - صلى الله عليه وسلم - ، من اللين وحسن الخلق والتأليف؛ امتثالاً لأمر الله، وجذباً لعباد الله لدين الله؟ ثم أمره الله تعالى بأن يعفو عنهم ما صدر منهم من التقصير في حقه - صلى الله عليه وسلم - ، ويستغفر لهم في التقصير في حق الله، فيجمع بين العفو والإحسان" (1) .
ولقد كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - متواضعاً مع أصحابه ..
__________
(1) / تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي ، ص (154) .(1/42)
أمره الله بذلك فقال : { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } [الحجر:88] ، وقال : { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [الشعراء:215] ، وقال: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } [الكهف:28] ، وقال : { وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ } [الأنعام:52] .
" جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن الفزاري وغيرهما، فوجدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع صهيب، وبلال، وعمار، وخباب، قاعداً في ناس من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حول النبي - صلى الله عليه وسلم - حقروهم، فأتوه فخلوا به، وقالوا: إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا به العرب فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحيي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت ... فنزلت الآية : { ولا تطرد... } " (1) .
عاتبه الله تعالى لأنه تولى عن عبد الله بن أم مكتوم - رضي الله عنه - بسبب أنه شغله عن دعوة المشركين .
وهذه بعض صور تواضع النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه ، منها :
أنه كان لا يرضى أن يقومَ له أصحابُه..
__________
(1) / تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/260) .(1/43)
روى أنسُ بنُ مالكٍ - رضي الله عنه - قَالَ : لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَكَانُوا إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا؛ لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ (1) .
كان - صلى الله عليه وسلم - يمشي مع ذي الحاجة حتى يقضيَ له حاجته ..
ثبت في الصحيح أنه جاءت إليه امرأة كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً. فَقَالَ :«يَا أُمَّ فُلَانٍ انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ»، فَخَلَا مَعَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا (2) .
وكانت الأمة من إماء أهل المدينة تأخذ بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتنطلق به حيث (3) .
يقول عبد اللَّهِ بن أَبِي أَوْفَى في نعته :كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ الذِّكْرَ، وَيُقِلُّ اللَّغْوَ، وَيُطِيلُ الصَّلَاةَ، وَيُقَصِّرُ الْخُطْبَةَ، وَلَا يَأْنَفُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَ الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ فَيَقْضِيَ لَهُ الْحَاجَةَ (4) .
وكان لا يعجبه أن يُبالغ أصحابه في مدحه، أو أن ينزل منزلةً لا تَليق ببشرٍ ..
قال عمر - رضي الله عنه - : سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ :«لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» (5) .
__________
(1) / أحمد (11895) ، والترمذي (2678) .
(2) / صحيح مسلم (2326) .
(3) / البخاري (5610) .
(4) / النسائي (1397) .
(5) / البخاري (3189) .(1/44)
وعَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - غَدَاةَ بُنِيَ عَلَيَّ، فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِي كَمَجْلِسِكَ مِنِّي، وَجُوَيْرِيَاتٌ يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ، يَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبائها يَوْمَ بَدْرٍ، فقَالَتْ جَارِيَةٌ: وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم -:«لَا تَقُولِي هَكَذَا، وَقُولِي مَا كُنْتِ تَقُولِينَ» (1) .
وكان - صلى الله عليه وسلم - يجيب دعوة أصحابه ..
حدث - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه فقال:«لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ»(2) . والكُرَاع: ظِلْف البهيمة، فيجيب الدعوة ولو كانت كريمةً أو وضيعةً؛ فالذِّراع أحب الطعام إليه .
قال أنس بن مالك - رضي الله عنه - :كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعى إلى خبز الشعير والإهالة السَّنِخَة فيُجيب، ولقد كان له درع عند يهودي فما وجد ما يفكها حتى مات(3) .
"والإهالة السنخة : أي الدهن المتغير الريح "?(4) .
فمن منّا مثلُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟!
حدَّث عنه ابن عمه ابن عباس رضي الله عنهما فقال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَجْلِسُ عَلَى الأَرْضِ, وَيَأْكُلُ عَلَى الأَرْضِ, وَيَعْتَقِلُ الشَّاةَ, وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ عَلَى خُبْزِ الشَّعِيرِ(5) .
ويعتقل الشاة أي :" يجعل رجليه بين قوائمها ؛ ليحلبها ، إرشاداً إلى التواضع ، وترك الترفع " (6) .
بالله عليك أيها القارئ الكريم : من منَّا يرضى أن يُدعى على خبزٍ فقط؟ من منَّا يجيب دعوة رقيق إن وجد؟
__________
(1) / البخاري (3700) .
(2) / البخاري (2380) .
(3) / الترمذي في الشمائل ، ص (274) .
(4) / فيض القدير (5/205) .
(5) / الطبراني في الكبير (12/67) .
(6) / فيض القدير (5/205) .(1/45)
من صور تواضعه أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ، فَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَسَأَلَ عَنْهَا،فَقَالُوا مَاتَت. قَالَ:«أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي» ؟ فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا فَقَالَ : «دُلُّونِي عَلَى قَبْرِها»، فَدَلُّوهُ، فَصَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَ :«إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ» ، فجاء قبرَها فصلى عليها (1) .
ومن هديه - صلى الله عليه وسلم - أنّه كان يزورهم ..
فعن سهل بن حنيف - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتي ضعفاء المسلمين ، ويزورهم ويعود مرضاهم ، ويشهد جنائزهم(2).
وعن أنس - رضي الله عنه - قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزور الأنصار، فيسلِّمُ على صبيانهم، ويمسح برؤوسهم، ويدعو لهم(3).
وزار سعد بن عبادة - رضي الله عنه - واستأذن عليه فقال :« السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ». فقال سعد : وعليك السلام ورحمة الله، ولم يُسمِع النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حتى سلَّم ثلاثاً وردَّ عليه سعدٌ ثلاثاً ولم يسمعه ، فرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - واتَّبعه سعد ، فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما سلمت تسليمة إلا هي بأذني، ولقد رددت عليك ولم أُسمِعْك ؛ أحببتُ أن أستكثر من سلامك ومن البركة. ثم أدخله البيت فقرَّب له زبيباً فأكل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فلما فرغ قال :« أَفْطَرَ عِنْدَكُمْ الصَّائِمُونَ ، وَأَكَلَ طَعَامَكُمْ الْأَبْرَارُ ، وَصَلَّتْ عَلَيْكُمْ الْمَلَائِكَةُ» (4) .
__________
(1) / البخاري (440) ، ومسلم (956) .
(2) / الحاكم (2/506) .
(3) / صحيح ابن حبان (2/205) ، وسنن النسائي الكبرى (5/92) .
(4) / أحمد (1737) ، وأبو داود (3356) .(1/46)
كان - صلى الله عليه وسلم - لا يحب أن يُدفعَ عنه الناس ..
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان - صلى الله عليه وسلم - لا يُدفع?عنه الناس ولا يُضربوا عنه(1) .
كان إذا صافحه رجل لم يبدأ بنزع يده ..
فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صافحه رجل لَا يَنْزِعُ يَدَهُ مِنْ يَدِهِ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ يَنْزِعُ (2) .
كان - صلى الله عليه وسلم - لا يحب من أصحابه أن يهابوه ..
فعن أَبِي مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ، فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ، فَقَالَ لَهُ: «هَوِّنْ عَلَيْكَ؛ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ (3) » (4).
__________
(1) / الطبراني في الكبير (10/268) .
(2) / الترمذي (2414) .
(3) / قال في النهاية :" القَدِيد : اللَّحْم المَمْلُوح المُجَفَّف في الشمس فَعِيل بمعنى مفعول" (4/40).
(4) / ابن ماجة (3303) .(1/47)
اسْتَأْذَنَ عليه عُمَرُ - رضي الله عنه - وَعِنْدَهُ نِسَاءٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُكَلِّمْنَهُ وَيَسْتَكْثِرْنَهُ عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ، فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ قُمْنَ يَبْتَدِرْنَ الْحِجَابَ، فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَضْحَكُ، فَقَالَ عُمَرُ: أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ:«عَجِبْتُ مِنْ هَؤُلَاءِ اللَّاتِي كُنَّ عِنْدِي، فَلَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ ابْتَدَرْنَ الْحِجَابَ». قَالَ عُمَرُ: فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنْتَ أَحَقَّ أَنْ يَهَبْنَ، ثُمَّ قَالَ: أَيْ عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ أَتَهَبْنَنِي، وَلَا تَهَبْنَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. قُلْنَ: نَعَمْ ؛ أَنْتَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - .قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ قَطُّ سَالِكًا فَجًّا إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ» (1) .
وقول عمر - رضي الله عنه - : "أنت أفظ وأغلظ" أفعل التفضيل هنا على غير بابها، كقول الله تعالى : { آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ } [النمل:59] ؛ فإنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس بالفظ ولا بالغليظ كما جاء في القرآن والكتب السابقة، والمراد: أنت فظ غليظ يا عمر.
وكان - صلى الله عليه وسلم - عادلاً بينهم لا يحابي أحداً بغير حق ..
__________
(1) / البخاري (3051) ، ومسلم (2397) .(1/48)
قريشٌ أهمتها المرأة المخزومية التي سرقت في غزوة الفتح، فقالوا: من يُكلِّم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حِبُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فكلمه فيها أسامة بن زيد، فتلوَّن وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:«أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ»؟ ثُمَّ قَامَ، فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ كلمته الخالدة :«إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَأيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا» (1) .
وكان - صلى الله عليه وسلم - يسليهم ، ويعزيهم ..
من صور ذلك ما رواه أنس - رضي الله عنه - قال : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْخَنْدَقِ، فَإِذَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبِيدٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ لَهُمْ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنْ النَّصَبِ وَالْجُوعِ قَالَ:
«اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ»
فقالوا مجيبين له:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا (2) .
__________
(1) / البخاري (3216) ، ومسلم (1688) .
(2) / البخاري (2622) ، ومسلم (1805) .(1/49)
وقال قُرَّةُ بنُ إياس - رضي الله عنه - : كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا جَلَسَ يَجْلِسُ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ لَهُ ابْنٌ صَغِيرٌ يَأْتِيهِ مِنْ خَلْفِ ظَهْرِهِ فَيُقْعِدُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهَلَكَ، فَامْتَنَعَ الرَّجُلُ أَنْ يَحْضُرَ الْحَلْقَةَ؛ لِذِكْرِ ابْنِهِ، فَحَزِنَ عَلَيْهِ، فَفَقَدَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ :«مَالِي لَا أَرَى فُلَانًا»؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، بُنَيُّهُ الَّذِي رَأَيْتَهُ هَلَكَ. فَلَقِيَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلَهُ عَنْ بُنَيِّهِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ هَلَكَ، فَعَزَّاهُ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:«يَا فُلَانُ أَيُّمَا كَانَ أَحَبُّ إِلَيْكَ: أَنْ تَمَتَّعَ بِهِ عُمُرَكَ، أَوْ لَا تَأْتِي غَدًا إِلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إِلَّا وَجَدْتَهُ قَدْ سَبَقَكَ إِلَيْهِ يَفْتَحُهُ لَكَ»؟ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ بَلْ يَسْبِقُنِي إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَيَفْتَحُهَا لِي لَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ. قَالَ :«فَذَاكَ لَكَ». فقالوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَهُ خَاصَّةً أَمْ لِكُلِّنَا؟ قَالَ :«بَلْ لِكُلِّكُمْ» (1) .
وهكذا كان - صلى الله عليه وسلم - يجعل لهم من محنهم منحاً ، ومن الغموم فرحاً ، ومن الألم أملاً.
__________
(1) / النسائي (2061) .(1/50)
وعَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ - رضي الله عنه - قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - -وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ- قُلْنَا لَهُ: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قَالَ :«كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ. وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ. وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» (1) .
وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما :" لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لي :« يَا جَابِرُ مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا» ؟ قلت : يا رسول الله ، استشهد أبي ، قتل يوم أحد وترك عيالاً وديناً. قال :« أَفَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ» ؟ فقلت : بلى يا رسول الله . قال:« مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ، وَأَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا ، فَقَالَ : يَا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ ، قَالَ : يَا رَبِّ ، تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً . قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ : إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يُرْجَعُونَ» (2) .
من أحوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه أنه كان يستشيرهم ..
__________
(1) / البخاري (3343) .
(2) / الترمذي (2936) .(1/51)
إعمالاً لقول ربه : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } [آل عمران: 159] .
ومن ذلك أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما علم أنه سيقاتل في بدر -وكان الصحابة قد خرجوا للعير- استشارهم ، قال ابن هشام:" قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - :«أَشِيرُوا عَلَيّ أَيّهَا النّاس»، وَإِنّمَا يُرِيدُ الْأَنْصَارَ؛ وَذَلِكَ أَنّهُمْ عَدَدُ النّاسِ وَأَنّهُمْ حِينَ بَايَعُوهُ بِالْعَقَبَةِ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّا بُرَاءٌ مِنْ ذِمَامِك حَتّى تَصِلَ إلَى دِيَارِنَا ، فَإِذَا وَصَلْتَ إلَيْنَا ، فَأَنْتَ فِي ذِمّتِنَا نَمْنَعُك مِمّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا. فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَخَوّفُ أَلّا تَكُونَ الْأَنْصَارُ تَرَى عَلَيْهَا نَصْرَهُ إلّا مِمّنْ دَهَمَهُ بِالْمَدِينَةِ مِنْ عَدُوّهِ وَأَنْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ إلَى عَدُوّ مِنْ بِلَادِهِمْ . فَلَمّا قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ : وَاَللّهِ لَكَأَنّك تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ :«أَجَلْ». قَالَ: فَقَدْ آمَنّا بِك وَصَدّقْنَاك، وَشَهِدْنَا أَنّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقّ، وَأَعْطَيْنَاك عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا عَلَى السّمْعِ وَالطّاعَةِ، فَامْضِ يَا رَسُولَ اللّهِ لِمَا أَرَدْتَ فَنَحْنُ مَعَك، فَوَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ لَوْ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَك مَا تَخَلّفَ مِنّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا(1/52)
عَدُوّنَا غَدًا ، إنّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ صُدُقٌ فِي اللّقَاءِ . لَعَلّ اللّهَ يُرِيك مِنّا مَا تَقَرّ بِهِ عَيْنُك، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللّه . فَسُرّ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِقَوْلِ سَعْدٍ وَنَشّطَهُ ذَلِكَ . ثُمّ قَالَ :«سِيرُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنّ اللّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَنِي إحْدَى الطّائِفَتَيْنِ، وَاَللّهِ لَكَأَنّي الْآنَ أَنْظُرُ إلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ» (1) .
وفي حادثة الإفك لما فتر الوحي استشار النبي - صلى الله عليه وسلم - علياً وأسامة بن زيد وبريرة رضي الله عنهم جميعاً (2) .
وكان عليه الصلاة والسلام يجود عليهم مما عنده، مع شدة الحاجة ..
ولابد من لفت الانتباه إلى ما كان ينزل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من الحاجة والعوز أولاً ، ثم التذكير ببعض النصوص المبينة لجوده وكرمه ؛ فالنفقة من الحاجة دليل على صدق إيمان صاحبها ، وكمال ثقته بالله ، وعظيم شهامته ..
فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ: ابْنَ أُخْتِي، إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ، ثُمَّ الْهِلَالِ، ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَارٌ. فَقُلْتُ: يَا خَالَةُ مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قَالَتْ: الْأَسْوَدَانِ؛ التَّمْرُ وَالْمَاءُ (3).
بالله عليكم من منّا بلغ هذه الحال التي بلغها نبينا - صلى الله عليه وسلم - ؟
__________
(1) / سيرة ابن هشام (1/615) .
(2) / راجع القصة كاملة في صحيح البخاري (2467) ، وصحيح مسلم (2770).
(3) / البخاري (5978) ، ومسلم (2972) .(1/53)
وكان - صلى الله عليه وسلم - يربط على بطنه الحجر من الغَرَث (1) ، وهو حديث حسن يشهد له حديث أبي طلحة - رضي الله عنه -:شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجوع، و رفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حجريْن (2).
وعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ : «يَا عَائِشَةُ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ»؟ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ . قَالَ :«فَإِنِّي صَائِمٌ». قَالَتْ : فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَأُهْدِيَتْ لَنَا هَدِيَّةٌ ، فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أُهْدِيَتْ لَنَا هَدِيَّةٌ ، وَقَدْ خَبَأْتُ لَكَ شَيْئًا . قَالَ :«مَا هُوَ»؟ قالت: حَيْسٌ (3). قَالَ :«هَاتِيهِ». فجاءت بِهِ فَأَكَلَ ، ثُمَّ قَالَ :« قَدْ كُنْتُ أَصْبَحْتُ صَائِمًا » (4).
__________
(1) / حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1615) ، وقال : أخرجه ابن الأعرابي في معجمه (3/1) .
(2) / وهذا الشاهد في جامع الترمذي (2293) ، وهو ضعيف، ولكن يتقوى به الحديث السابق .انظر السلسلة الصحيحة للألباني رحمه الله (4/189).
(3) / تمر مع سمنٍ وأقط .
(4) / مسلم (1154) .(1/54)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : إِنِّي مَجْهُودٌ . فَأَرْسَلَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ ، فَقَالَتْ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إِلَّا مَاءٌ ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أُخْرَى فَقَالَتْ مِثْلَ ذَلِكَ ، حَتَّى قُلْنَ كُلُّهُنَّ مِثْلَ ذَلِكَ : لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إِلَّا مَاءٌ . فَقَالَ : « مَنْ يُضِيفُ هَذَا اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ » ؟ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ : أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى رَحْلِهِ فَقَالَ : لِامْرَأَتِهِ هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ ؟ قَالَتْ : لَا ، إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي . قَالَ : فَعَلِّلِيهِمْ بِشَيْءٍ ، فَإِذَا دَخَلَ ضَيْفُنَا فَأَطْفِئْ السِّرَاجَ وَأَرِيهِ أَنَّا نَأْكُلُ ، فَإِذَا أَهْوَى لِيَأْكُلَ فَقُومِي إِلَى السِّرَاجِ حَتَّى تُطْفِئِيهِ . فَقَعَدُوا ، وَأَكَلَ الضَّيْفُ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ :« قَدْ عَجِبَ اللَّهُ مِنْ صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ » (1) .
عجيب أن يصدر هذا الفعل من ذلك الصحابي ، وعجيب أن تكون الزوجة مثله في الكرم ، وأعجب من ذلك أن تخلو بيوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كل شيء إلا من الماء ، وهو سيد من لو أقسموا على الله لأبرهم .
إن نبينا - صلى الله عليه وسلم - كان لا يَجِدُ مِنْ الدَّقَلِ مَا يَمْلَأُ بِهِ بَطْنَهُ (2)، والدقل رديء التمر.
مع ذلك كان إذا وجد خيراً كان هذا الخير لأصحابه رضي الله عنهم ..
__________
(1) / البخاري (3514) ، ومسلم (2054) .
(2) / مسلم (2977) .(1/55)
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ " (1) .
وحدَّث جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ - رضي الله عنه - فقال : بَيْنَا هُوَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَعَهُ النَّاسُ مُقْبِلًا مِنْ حُنَيْنٍ عَلِقَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْأَعْرَابُ يَسْأَلُونَهُ حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ، فَخَطِفَتْ رِدَاءَهُ، فَوَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ :«أَعْطُونِي رِدَائِي، فَلَوْ كَانَ عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلًا وَلَا كَذُوبًا وَلَا جَبَانًا» (2).
وكان يغدق في العطاء لمن يتألفه ..
فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يتألف قلب من كان حديث عهد بكفر، قَالَ أنس - رضي الله عنه - مَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْإِسْلَامِ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ، قَالَ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَأَعْطَاهُ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: يَا قَوْمِ أَسْلِمُوا؛ فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لَا يَخْشَى الْفَاقَةَ (3).
ومن أحق بهذا البيت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
ما قال (لا) قطُّ إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعمُ (4) .
قال الإمام مسلم:" باب ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً قط فقال : لا" (5) .
__________
(1) / البخاري (5) ، ومسلم (2308) .
(2) / البخاري (2609) .
(3) / مسلم (2312) .
(4) / قاله الفرزدق في زين العابدين رحمه الله .
(5) / صحيح مسلم (4/1805) .(1/56)
ولتستمع إلى الصحابي الجليل أنس بن مالك - رضي الله عنه - وهو يخبر عن أثر هذه السياسة الرشيدة، يقول: إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُسْلِمُ مَا يُرِيدُ إِلَّا الدُّنْيَا، فَمَا يُسْلِمُ حَتَّى يَكُونَ الْإِسْلَامُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا (1).
وغَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - غَزْوَةَ الْفَتْحِ، فَتْحِ مَكَّةَ، ثُمَّ خَرَجَ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَاقْتَتَلُوا بِحُنَيْنٍ، فَنَصَرَ اللَّهُ دِينَهُ وَالْمُسْلِمِينَ، وَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ مِائَةً مِنْ النَّعَمِ، ثُمَّ مِائَةً، ثُمَّ مِائَةً. فقَالَ صفوان: وَاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا أَعْطَانِي وَإِنَّهُ لَأَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيَّ، فَمَا بَرِحَ يُعْطِينِي حَتَّى إِنَّهُ لَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ (2).
وإذا حلَّ الجوع بأصحابه فاعلم أنّ قد مرَّ قبلهم برسولهم - صلى الله عليه وسلم - ..
هل سمعتم بأكرم ثلاثة على الله أخرجهم الجوعُ من بيوتهم؟
__________
(1) / مسلم (2312) .
(2) / مسلم (2313) .(1/57)
قال أبو هريرة - رضي الله عنه - : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالَ :«مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ»؟ قَالَا: الْجُوعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ:«وَأَنَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا، قُومُوا»، فَقَامُوا مَعَهُ، فَأَتَى رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ، فَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ قَالَتْ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :«أَيْنَ فُلَانٌ»؟ قَالَتْ: ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنْ الْمَاءِ، إِذْ جَاءَ الْأَنْصَارِيُّ فَنَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَصَاحِبَيْهِ ثُمَّ قَالَ:الْحَمْدُ لِلَّهِ، مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيَافًا مِنِّي. فَانْطَلَقَ فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ، فَقَالَ: كُلُوا مِنْ هَذِهِ. وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :«إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ»، فَذَبَحَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا مِنْ الشَّاةِ وَمِنْ ذَلِكَ الْعِذْقِ وَشَرِبُوا، فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَوُوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ :«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ الْجُوعُ ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ» (1).
كان - صلى الله عليه وسلم - إذا أرسل الناس إليه بصدقة جعلها في الفقراء من أصحابه، وإن أُهديت إليه هدية أصاب منها وأشركهم فيها..
لما أهدت إليه يهوديةٌ شاةً أكل منها وأكل أصحابه (2) .
__________
(1) / مسلم (2038) .
(2) / سنن أبي داود (3912) .(1/58)
وجاء إليه سلمان الفارسي حين قدم المدينة بمائدة عليها رطب ، فوضعها بين يديه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :«ما هذا يَا سَلْمانُ» ؟ قال : صدقة عليك وعلى أصحابك .قال : «ارْفَعْهَا فَإِنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ» ، فرفعها ، فجاء من الغد بمثله ، فوضعه بين يديه يحمله ، فقال :« ما هذا يَا سَلْمانُ » ؟ فقال : هدية لك . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : «ابْسُطُوا» (1) .
__________
(1) / المسند (21919) .(1/59)
وهذا أبو هريرة - رضي الله عنه - يحدث عن نفسه فيقول: والله الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنْ كُنْتُ لَأَعْتَمِدُ بِكَبِدِي عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْجُوعِ، وَإِنْ كُنْتُ لَأَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنْ الْجُوعِ، وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا عَلَى طَرِيقِهِمْ الَّذِي يَخْرُجُونَ مِنْهُ، فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِيُشْبِعَنِي، فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ. ثُمَّ مَرَّ بِي عُمَرُ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِيُشْبِعَنِي، فَمَرَّ فَلَمْ يَفْعَلْ. ثُمَّ مَرَّ بِي أَبُو الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِي وَعَرَفَ مَا فِي نَفْسِي وَمَا فِي وَجْهِي. ثُمَّ قَالَ :«يَا أَبَا هِرٍّ». قُلْتُ : لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ : «الْحَقْ»، وَمَضَى فَتَبِعْتُهُ، فَدَخَلَ، فَاسْتَأْذَنَ، فَأَذِنَ لِي فَدَخَلَ، فَوَجَدَ لَبَنًا فِي قَدَحٍ فَقَالَ:«مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ»؟ قَالُوا: أَهْدَاهُ لَكَ فُلَانٌ أَوْ فُلَانَةُ. قَالَ:«أَبَا هِرٍّ». قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ :«الْحَقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لِي» قَالَ: وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الْإِسْلَامِ لَا يَأْوُونَ إِلَى أَهْلٍ وَلَا مَالٍ وَلَا عَلَى أَحَدٍ، إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا، وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَأَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا، فَسَاءَنِي ذَلِكَ، فَقُلْتُ وَمَا هَذَا اللَّبَنُ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ؟ كُنْتُ أَحَقُّ أَنَا أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا. فَإِذَا جَاءَ أَمَرَنِي فَكُنْتُ أَنَا أُعْطِيهِمْ وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَنِي مِنْ هَذَا(1/60)
اللَّبَنِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - بُدٌّ. فَأَتَيْتُهُمْ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَأَقْبَلُوا، فَاسْتَأْذَنُوا فَأَذِنَ لَهُمْ، وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنْ الْبَيْتِ. قَالَ :«يَا أَبَا هِرٍّ». قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ:«خُذْ فَأَعْطِهِمْ». قَالَ: فَأَخَذْتُ الْقَدَحَ فَجَعَلْتُ أُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ، فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ، فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ رَوِيَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ، فَأَخَذَ الْقَدَحَ فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ فَنَظَرَ إِلَيَّ فَتَبَسَّمَ فَقَالَ :«أَبَا هِرٍّ». قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ:«بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ». قُلْتُ: صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ : «اقْعُدْ فَاشْرَبْ»، فَقَعَدْتُ، فَشَرِبْتُ. فَقَالَ :«اشْرَبْ»، فَشَرِبْتُ، فَمَا زَالَ يَقُولُ :«اشْرَبْ»، حَتَّى قُلْتُ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا. قَالَ :«فَأَرِنِي»، فَأَعْطَيْتُهُ الْقَدَحَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَسَمَّى، وَشَرِبَ الْفَضْلَةَ (1).
لم يكن - صلى الله عليه وسلم - عنيفاً على أصحابه..
__________
(1) / البخاري (5971) .(1/61)
جاءه رجلٌ فَقَالَ: هَلَكْتُ. قَالَ:«وَلِمَ»؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى أَهْلِي فِي رَمَضَانَ؟ قَالَ:«فَأَعْتِقْ رَقَبَةً». قَالَ: لَيْسَ عِنْدِي. قَالَ:«فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ». قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ. قَالَ:«فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا» - لم يعنفه وأرشده إلى ما فيه خلاصه من عذاب الله - قَالَ: لَا أَجِدُ. فَأُتِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، فَقَالَ:«أَيْنَ السَّائِلُ»؟ قَالَ: هَا أَنَا ذَا. قَالَ :«تَصَدَّقْ بِهَذَا». قَالَ: عَلَى أَحْوَجَ مِنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ مِنَّا. فَضَحِكَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ قَالَ :«فَأَنْتُمْ إِذًا» (1).فلما رجع إلى قومه – وكأني بهم قد وبخوه- قال لهم : وَجَدْتُ عِنْدَكُمْ الضِّيقَ وَسُوءَ الرَّأْيِ، وَوَجَدْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - السَّعَةَ وَحُسْنَ الرَّأْيِ (2).
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ:«اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي». قَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي-وَلَمْ تَعْرِفْهُ-. فَقِيلَ لَهَا: إِنَّهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ، فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ. فَقَالَ:«إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى» (3).
فراعاها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يعنفها.
__________
(1) / البخاري (1800) ، ومسلم (1111) .
(2) / جامع الترمذي (3221) .
(3) / البخاري (1203) ، ومسلم (926) .(1/62)
في الحديبية أمر علياً - رضي الله عنه - أن يكتب :«هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ»، فَقَالَ لَهُ الْمُشْرِكُونَ: لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ تَابَعْنَاكَ، وَلَكِنْ اكْتُبْ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. فَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَمْحَاهَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا وَاللَّهِ لَا أَمْحَاهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:« أَرِنِي مَكَانَهَا»، فَأَرَاهُ مَكَانَهَا، فَمَحَاهَا (1).
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِأَصْحَابِهِ :«قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا»، فمَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ. حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنْ النَّاسِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ. فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ، نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ. فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا (2).
وكان - صلى الله عليه وسلم - أرفق بهم من أنفسهم ..
__________
(1) / البخاري (2501) ، ومسلم (1783) .
(2) / البخاري (2529) .(1/63)
فعن كَهْمَسٍ الْهِلالِيِّ، قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَأَقَمْتُ عِنْدَهُ ثُمَّ خَرَجْتُ عَنْهُ، فَأَتَيْتُهُ بَعْدَ حَوْلٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَا تَعْرِفُنِي؟، قَالَ:«لا»، قُلْتُ: أَنَا الَّذِي كُنْتُ عِنْدَكَ عَامَ أَوَّلٍ، قَالَ:«فَمَا غَيَّرَكَ بَعْدِي»؟، قَالَ: مَا أَكَلْتُ طَعَامًا بنهَارٍ مُنْذُ فَارَقْتُكَ. قَالَ:«فَمَنْ أَمَرَكَ بِتَعْذِيبِ نَفْسِكَ، صم شهر الصبر، ومن كل شهر يوماً». قلت : زدني . قال : «صُمْ شَهْرَ الصَّبْرِ، ومن كلِّ شَهْرٍ يَومَيْنِ » . قال : زدني؛ فإني أجد قوة. قال :«صُمْ شَهْرَ الصَّبْرِ، ومِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاثةَ أَيَّامٍ» (1).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: جَمَعْتُ الْقُرْآنَ فَقَرَأْتُ بِهِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ :«إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَطُولَ عَلَيْكَ زَمَانٌ أَنْ تَمَلَّ، اقْرَأْهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ». قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي أَسْتَمْتِعْ مِنْ قُوَّتِي وَشَبَابِي. قَالَ :«اقْرَأْهُ فِي كُلِّ عِشْرِينَ». قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَسْتَمْتِعْ مِنْ قُوَّتِي وَشَبَابِي. قَالَ :«اقْرَأْهُ فِي كُلِّ عَشْرٍ». قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَسْتَمْتِعْ مِنْ قُوَّتِي وَشَبَابِي. قَالَ :«اقْرَأْهُ فِي كُلِّ سَبْعٍ». قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَسْتَمْتِعْ مِنْ قُوَّتِي وَشَبَابِي. فَأَبَى (2).
__________
(1) / الطبراني في الكبير (19/194) .
(2) / أحمد (6229) ، وابن ماجة (1336) .(1/64)
آخَى بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا. فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ : كُلْ . قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ. قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ. فَأَكَلَ. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ: نَمْ. فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ: نَمْ. فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ: قُمْ الْآنَ فَصَلَّيَا. فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :«صَدَقَ سَلْمَانُ» (1).
صدق سلمان ، وصدق الله .. إذ يقول : { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [التوبة :128] .
كان - صلى الله عليه وسلم - ينزل –كثيراً- عند رغباتهم ..
وإذا لم يفعل فلمصلحتهم : { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ } [الحجرات: 7] .
__________
(1) / البخاري .(1/65)
ففي غزوة أحد قَالَ لِأَصْحَابِهِ:«لَوْ أَنَّا أَقَمْنَا بِالْمَدِينَةِ، فَإِنْ دَخَلُوا عَلَيْنَا فِيهَا قَاتَلْنَاهُمْ». فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا دُخِلَ عَلَيْنَا فِيهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَكَيْفَ يُدْخَلُ عَلَيْنَا فِيهَا فِي الْإِسْلَامِ؟ فَقَالَ:«شَأْنَكُمْ إِذًا». فَلَبِسَ لَأْمَتَهُ، فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ: رَدَدْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأْيَهُ، فَجَاءُوا فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، شَأْنَكَ إِذًا. فَقَالَ :«إِنَّهُ لَيْسَ لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يُقَاتِلَ» (1).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما: قَالَ: حَاصَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَهْلَ الطَّائِفِ، فَلَمْ يَنَلْ مِنْهُمْ شَيْئًا، فَقَالَ:«إِنَّا قَافِلُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ». قَالَ أَصْحَابُهُ: نَرْجِعُ وَلَمْ نَفْتَتِحْهُ؟ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :«اغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ»، فَغَدَوْا عَلَيْهِ فَأَصَابَهُمْ جِرَاحٌ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :«إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا». قَالَ: فَأَعْجَبَهُمْ ذَلِكَ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - (2).
لقد كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - حريصاً على تعليمهم ..
__________
(1) / المسند (14260) .
(2) / البخاري (3981) ، ومسلم (1778) .(1/66)
أساء رجل في صلاته ، فعلمه صفتها وسُمِّي حديثه بحديث المسيء صلاته، وقال : «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» (1)، وفي حجة الوادع قال :«لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ؛ فَإِنِّي لَا أَدْرِي، لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ» (2). قال أبو ذر- رضي الله عنه -: تَرَكْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَا طَائِرٌ يُقَلِّبُ جَنَاحَيْهِ فِي الْهَوَاءِ إِلا وَهُوَ يُذَكِّرُنَا مِنْهُ عِلْمًا،فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -:«مَا بَقِيَ شَيْءٌ يُقَرِّبُ مِنَ الْجَنَّةِ، ويُبَاعِدُ مِنَ النَّارِ، إِلا وَقَدْ بُيِّنَ لَكُمْ»(3).
وكان يصبر على أسئلتهم ويجيب عنها باذلاً نفسه لهم..
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: أَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِالصَّدَقَةِ فَقَالَ : رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي دِينَارٌ؟ فَقَالَ :«تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ». قَالَ :عِنْدِي آخَرُ؟ قَالَ:«تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى وَلَدِكَ». قَالَ:عِنْدِي آخَرُ؟ قَالَ :«تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى زَوْجِكَ». قَالَ: عِنْدِي آخَرُ؟ قَالَ:«تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى خَادِمِكَ». قَالَ:عِنْدِي آخَرُ؟ قَالَ :«أَنْتَ أَبْصَرُ» (4).
وكان - صلى الله عليه وسلم - يمزح معهم ..
وليس معنى ذلك أنّه كان يقول ما لا وجود له ! هذا كذب لا يمكن أن يصدر عن مؤمن فضلاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثبت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ :«إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا». قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ :فَإِنَّكَ تُدَاعِبُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ :«إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا» (5).
__________
(1) / البخاري (595) .
(2) / مسلم (1297) .
(3) / الطبراني في الكبير (2/155) .
(4) / أبو داود (1441) ، والنسائي (2488) .
(5) / أحمد (8125) ، والترمذي (1913).(1/67)
ومن صور مزاحه - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه :
أنّه رأى صهيباً وهو يأكل تمراً ، وبعينه رمد، فقال :« أتأكُلُ التَّمْرَ وبِكَ رَمَدٌ»؟ فقال-وكان حسن البديهة- : إنما آكل على شقي الصحيح ليس به رمد. فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1).
وعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِرًا كَانَ يُهْدِي لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الْهَدِيَّةَ مِنْ الْبَادِيَةِ، فَيُجَهِّزُهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :«إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ»، وَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُحِبُّهُ، وَكَانَ رَجُلًا دَمِيمًا، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ، فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَهُوَ لَا يُبْصِرُهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ : أَرْسِلْنِي، مَنْ هَذَا؟ فَالْتَفَتَ فَعَرَفَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَجَعَلَ لَا يَأْلُو مَا أَلْصَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ عَرَفَهُ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ :«مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ»؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا وَاللَّهِ تَجِدُنِي كَاسِدًا. فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :«لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ» (2).
__________
(1) / ابن ماجة (3434) .
(2) / أحمد (12187) .(1/68)
وأتت إليه عجوز فقالت : يا رسول الله، ادع الله أن يدخلني الجنة. فقال :«يا أمَّ فُلانٍ ، إنَّ الجنَّةَ لا تَدْخُلُها عَجُوْزٌ» قال : فولَّت تَبْكِي فَقَال :«أخْبِرُوها أنَّها لا تَدْخُلُها وهي عَجُوزٌ، إن الله تعالى يقول : { إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا } »[الواقعة: 35-37] (1).
ومن أحواله معهم أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يضاحكهم ..
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - اضْطَجَعَ عَلَى نَطْعٍ، فَعَرِقَ، فَقَامَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى عَرَقِهِ فَنَشَّفَتْهُ فَجَعَلَتْهُ فِي قَارُورَةٍ، فَرَآهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :«مَا هَذَا الَّذِي تَصْنَعِينَ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ»؟ قَالَتْ: أَجْعَلُ عَرَقَكَ فِي طِيبِي. فَضَحِكَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - (2) .
__________
(1) / الترمذي في الشمائل ، ص (199) .
(2) / النسائي (5276) .(1/69)
وكَانَ ابْنُ رَوَاحَةَ مُضْطَجِعًا إِلَى جَنْبِ امْرَأَتِهِ، فَقَامَ إِلَى جَارِيَةٍ لَهُ فِي نَاحِيَةِ الْحُجْرَةِ فَوَقَعَ عَلَيْهَا، وَفَزِعَتِ امْرَأَتُهُ فَلَمْ تَجِدْهُ فِي مَضْجَعِهِ، فَقَامَتْ وَخَرَجَتْ فَرَأَتْهُ عَلَى جَارِيَتِهِ، فَرَجَعَتْ إِلَى الْبَيْتِ، فَأَخَذَتِ الشَّفْرَةَ ثُمَّ خَرَجَتْ وَفَرَغَ، فَقَامَ فَلَقِيَهَا تَحْمِلُ الشَّفْرَةَ فَقَالَ : مَهْيَمْ (1) ؟ فَقَالَتْ: مَهْيَمْ ! لَوْ أَدْرَكْتُكَ حَيْثُ رَأَيْتُكَ لَوَجَأْتُ بَيْنَ كَتِفَيْكَ بِهَذِهِ الشَّفْرَةِ. قَالَ: وَأَيْنَ رَأَيْتِنِى؟ قَالَتْ: رَأَيْتُكَ عَلَى الْجَارِيَةِ. فَقَالَ: مَا رَأَيْتِنِى، وَقَالَ: قَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَقْرَأَ أَحَدُنَا الْقُرْآنَ وَهُوَ جُنُبٌ. قَالَتْ: فَاقْرَأْ. فَقَالَ :
أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ كَمَا لاَحَ مَشْهُورٌ مِنَ الْفَجْرِ سَاطِعُ
أَتَى بِالْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ
يَبِيتُ يُجَافِى جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ الْمَضَاجِعُ
فَقَالَتْ : آمَنْتُ بِاللَّهِ وَكَذَّبْتُ الْبَصَرَ. ثُمَّ غَدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرَهُ فَضَحِكَ حَتَّى بدت نَوَاجِذَهُ - صلى الله عليه وسلم - (2).
ومما لا ريب فيه أنّ مجيء عبد الله بن رواحة إليه ليحدثه بذلك دليل على أنسهم به، وبساطته معهم ، وبشاشته ، وخفة فؤاده .
__________
(1) / ما الخبر ، انظر القاموس المحيط ، ص (1499) .
(2) / سنن الدارقطني (1/120) .(1/70)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ - رضي الله عنه - قَالَ: أَصَبْتُ جِرَابًا مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَالْتَزَمْتُهُ، فَقُلْتُ: لَا أُعْطِي الْيَوْمَ أَحَدًا مِنْ هَذَا شَيْئًا. قَالَ: فَالْتَفَتُّ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُتَبَسِّمًا (1).
وعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ يَوْمَ حُنَيْنٍ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أُمِّ سُلَيْمٍ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَمْ تَرَ إِلَى أُمِّ سُلَيْمٍ مُتَقَلِّدَةً خِنْجَرًا؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :«مَا تَصْنَعِينَ بِهِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ»؟ قَالَتْ أَرَدْتُ إِنْ دَنَا مِنِّي أَحَدٌ مِنْهُمْ طَعَنْتُهُ بِهِ (2).
وفيه : كريم معاملة النبي لأصحابه ؛ رجالاً ونساءً ، وأنه لا بأس من تسلح المرأة لتدافع عن نفسها.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَوْمًا يُحَدِّثُ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ:«أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ، فَقَالَ لَهُ: أَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ. قَالَ: فَبَذَرَ، فَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ، فَكَانَ أَمْثَالَ الْجِبَالِ. فَيَقُولُ اللَّهُ: دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، فَإِنَّهُ لَا يُشْبِعُكَ شَيْءٌ». فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: وَاللَّهِ لَا تَجِدُهُ إِلَّا قُرَشِيًّا أَوْ أَنْصَارِيًّا؛ فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ، وَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا بِأَصْحَابِ زَرْعٍ. فَضَحِكَ - صلى الله عليه وسلم - (3).
__________
(1) / مسلم (1772) .
(2) / أحمد (12569) .
(3) / البخاري (2177) .(1/71)
فكان الصحابة يمازحونه؛ لعلمهم بتواضعه وكريم أخلاقه معهم .. قال عوف بن مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ - رضي الله عنه -: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، فَسَلَّمْتُ، فَرَدَّ، وَقَالَ:«ادْخُلْ». فَقُلْتُ :أَكُلِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:«كُلُّكَ». فَدَخَلْتُ (1).
لقد كان - صلى الله عليه وسلم - لا يرضى لأحدٍ أن يحتقر أو يسبَّ أحداً من أصحابه ولو كان صحابياً مثله ..
فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ؛ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :«لَا تَلْعَنُوهُ؛ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» (2) .
وهو دليل على أنّ الكبائر لا تخرج أصحابها من الإيمان ، وعلى حكمة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإن المراد استصلاح المخطئ لا إقصاؤه وإبعاده ، فما أعظم شفقته على أمته !
__________
(1) / أبو داود (4348) .
(2) / البخاري (6282) .(1/72)
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - أَنَّهُ كَانَ يَجْتَنِي سِوَاكًا مِنْ الْأَرَاكِ، وَكَانَ دَقِيقَ السَّاقَيْنِ، فَجَعَلَتْ الرِّيحُ تَكْفَؤُهُ، فَضَحِكَ الْقَوْمُ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :«مِمَّ تَضْحَكُونَ»؟ قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ. فَقَالَ :«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ» (1).
وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :« لَا تَسُبُّوا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِي ؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» (2).
وفي هذه الأخبار دليل على أنّ الذب عن الصحابة هدي سيد الأولين والآخرين- صلى الله عليه وسلم -، بل وهدي القرآن الكريم .. أما تجد فيه قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } [البقرة :13] ، فلما نال المنافقون منهم – وهكذا لا ينال منهم إلا منافق – ذبَّ الله عنهم (3).
__________
(1) / أحمد (3792) .
(2) / البخاري (3392) ، ومسلم (2540) .
(3) / هذه الآية فيها أربع فوائد : أنَّ سب الصحابة من خصال المنافقين ، وأنّ الدفاع عنهم هدي القرآن الكريم ، وأنهم مؤمنون لأنّ الله لا يدافع إلا عن المؤمنين ، وأنّ من ألصق بهم نقصاً كان أحق به.(1/73)
وكان - صلى الله عليه وسلم - يغضب إذا أُغضب أبو بكر - رضي الله عنه - ، قال أبو الدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه - :كَانَتْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مُحَاوَرَةٌ، فَأَغْضَبَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ، فَانْصَرَفَ عَنْهُ عُمَرُ مُغْضَبًا فَاتَّبَعَهُ أَبُو بَكْرٍ يَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ ، حَتَّى أَغْلَقَ بَابَهُ فِي وَجْهِهِ، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - -قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ :وَنَحْنُ عِنْدَهُ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :«أَمَّا صَاحِبُكُمْ هَذَا فَقَدْ غَامَرَ(1)». وَنَدِمَ عُمَرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ ، فَأَقْبَلَ حَتَّى سَلَّمَ ، وَجَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَقَصَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْخَبَرَ. قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء:ِ وَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ: يَقُولُ : وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :«هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي؟ هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي؟ إِنِّي قُلْتُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقْتَ» (2).
__________
(1) / خاصم أحداً .
(2) / البخاري (3388) .(1/74)
وكان َبَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وبين ربيعة الأسلمي كَلَامٌ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ كَلِمَةً كَرِهَهَا وَنَدِمَ، فَقَالَ: يَا رَبِيعَةُ رُدَّ عَلَيَّ مِثْلَهَا حَتَّى تَكُونَ قِصَاصًا. قَالَ : لَا أَفْعَلُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَتَقُولَنَّ أَوْ لَأَسْتَعْدِيَنَّ عَلَيْكَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، فَانْطَلَقَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال ربيعة: وَانْطَلَقْتُ أَتْلُوهُ، فَجَاءَ نَاسٌ مِنْ أَسْلَمَ فَقَالُوا لِي : رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ، فِي أَيِّ شَيْءٍ يَسْتَعْدِي عَلَيْكَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ قَالَ لَكَ مَا قَالَ؟ فَقُلْتُ: أَتَدْرُونَ مَا هَذَا؟ هَذَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، هَذَا ثَانِيَ اثْنَيْنِ، وَهَذَا ذُو شَيْبَةِ الْمُسْلِمِينَ، إِيَّاكُمْ، لَا يَلْتَفِتُ فَيَرَاكُمْ تَنْصُرُونِي عَلَيْهِ؛ فَيَغْضَبَ، فَيَأْتِيَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَيَغْضَبَ لِغَضَبِهِ، فَيَغْضَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِغَضَبِهِمَا، فَيُهْلِكَ رَبِيعَةَ. قَالُوا: مَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: ارْجِعُوا. قَالَ: فَانْطَلَقَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَتَبِعْتُهُ وَحْدِي حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَحَدَّثَهُ الْحَدِيثَ كَمَا كَانَ، فَرَفَعَ إِلَيَّ رَأْسَهُ فَقَالَ :«يَا رَبِيعَةُ، مَا لَكَ وَلِلصِّدِّيقِ»؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَانَ كَذَا كَانَ كَذَا، قَالَ لِي كَلِمَةً كَرِهَهَا، فَقَالَ لِي: قُلْ كَمَا قُلْتُ؛ حَتَّى يَكُونَ قِصَاصًا، فَأَبَيْتُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :«أَجَلْ، فَلَا تَرُدَّ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ قُلْ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ». فَقُلْتُ:(1/75)
غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، قَالَ الْحَسَنُ: فَوَلَّى أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - وَهُوَ يَبْكِي (1).
فعلى المسلم أن يعرف لذاك الشيخ قدره .. فوالله لا يفضله أحد إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وكان - صلى الله عليه وسلم - يثني عليهم ..
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :«أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَقْرَؤُهُمْ أُبَيٌّ، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ» (2).
ولا تعارض بين هذا الحديث وحديث أَبِي بَكْرَةَ - رضي الله عنه - الذي قال فيه : أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ :«وَيْلَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ -مِرَارًا- مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لَا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ فُلَانًا، وَاللَّهُ حَسِيبُهُ، وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا، أَحْسِبُهُ كَذَا وَكَذَا، إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ» (3). فالحي إن كان ممن يخاف عليه الفتنة بذكر ما فيه من المحاسن فهو ممنوع ، وإلا فلا بأس به . وإنما قال :« قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ » ؛ لأن في قطع العنق موت البدن، وفي المدح موت الدين بالعجب الذي يورثه المدح .
وكان - صلى الله عليه وسلم - ناصحاً لهم ..
__________
(1) / أحمد (15982).
(2) / أحمد (12437) ،والترمذي (3723) ، وابن ماجه (151) .
(3) / البخاري (2468) ، ومسلم (3000) .(1/76)
قالت فاطمة بنت قيس للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إنّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :«أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ، انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ»، قالت : فَكَرِهْتُهُ، ثُمَّ قَالَ :«انْكِحِي أُسَامَةَ»، فَنَكَحْتُهُ، فَجَعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا، وَاغْتَبَطْتُ (1).
أي: اغْتَبَطَتْنِي النِّسَاء لِحَظٍّ كَانَ لِي مِنْهُ .
قال النووي رحمه الله :" قوله - صلى الله عليه وسلم - :« فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ» : فيه تأويلان مشهوران : أحدهما أنه كثير الأسفار، والثاني أنه كثير الضرب للنساء ، وهذا أصح ، بدليل الرواية التي ذكرها مسلم بعد هذه أنه «ضَرَّابٌ للنِّسَاءِ» ، وفيه دليل على جواز ذكر الإنسان بما فيه عند المشاورة وطلب النصيحة ، ولا يكون هذا من الغيبة المحرمة ، بل من النصيحة الواجبة" (2) .
وكان - صلى الله عليه وسلم - يصلح بينهم ..
والله تعالى يقول : { لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء :114] .
فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَهَبَ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ؛ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ (3).
__________
(1) / مسلم (1480) .
(2) / شرح صحيح مسلم (10/97) .
(3) / والبخاري (643) ، ومسلم (421) .(1/77)
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَقَدْ ثَابَ مَعَهُ نَاسٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى كَثُرُوا، وَكَانَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلٌ لَعَّابٌ (1) ، فَكَسَعَ أَنْصَارِيًّا (2) ، فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ غَضَبًا شَدِيدًا حَتَّى تَدَاعَوْا، وَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ. وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ. فَخَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ :«مَا بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، دَعُوهَا فَإِنَّهَا خَبِيثَةٌ» (2).
كان - صلى الله عليه وسلم - يقوم على حمايتهم ..
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحْسَنَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَشْجَعَ النَّاسِ، وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَانْطَلَقَ نَاسٌ قِبَلَ الصَّوْتِ، فَتَلَقَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَاجِعًا وَقَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى الصَّوْتِ وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ فِي عُنُقِهِ السَّيْفُ وَهُوَ يَقُولُ :«لَمْ تُرَاعُوا، لَمْ تُرَاعُوا» (3).
قال ابن حجر رحمه الله :" وقوله :«لم تراعوا»: هي كلمة تقال عند تسكين الروع؛ تأنيساً، وإظهاراً للرفق بالمخاطب" (4).
وربما تحامل على نفسه - صلى الله عليه وسلم - ؛ لئلا يؤذيهم ..
__________
(1) / يلعب بالحراب كما تفعل الحبشة ، وكسع : ضربه في دبره . انظر الفتح (6/547) .
(2) / البخاري (4527) ، ومسلم (2584).
(3) / البخاري (2692) ، ومسلم (2307) .
(4) / فتح الباري (10/457) .(1/78)
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ } [الأحزاب: 53] .
قال السعدي رحمه الله :" يأمر تعالى عباده المؤمنين، بالتأدب مع رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في دخول بيوته فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ } أي: لا تدخلوها بغير إذن للدخول فيها، لأجل الطعام. وأيضًا لا تكونوا { نَاظِرِينَ إِنَاهُ } أي: منتظرين ومتأنين لانتظار نضجه، أو سعة صدر بعد الفراغ منه. والمعنى: أنكم لا تدخلوا بيوت النبي إلا بشرطين: الإذن لكم بالدخول، وأن يكون جلوسكم بمقدار الحاجة، ولهذا قال: { وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } أي: قبل الطعام وبعده. ثم بين حكمة النهي وفائدته فقال: { إِنَّ ذَلِكُمْ } أي: انتظاركم الزائد على الحاجة، { كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ } أي: يتكلف منه ويشق عليه حبسكم إياه عن شئون بيته، واشتغاله فيه { فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ } أن يقول لكم: اخرجوا كما هو جاري العادة، أن الناس -وخصوصًا أهل الكرم منهم- يستحيون أن يخرجوا الناس من مساكنهم، { و } لكن { اللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ } ؛ فالأمر الشرعي، ولو كان يتوهم أن في تركه أدباً وحياءً، فإن الحزم كل الحزم اتباع الأمر الشرعي، وأن يجزم أنَّ ما خالفه، ليس من الأدب في شيء. واللّه تعالى لا يستحي أن يأمركم، بما فيه الخير لكم، والرفق لرسوله كائنًا ما كان " (1).
__________
(1) / تفسير السعدي، ص (670) .(1/79)
وانظر إلى هذا الحس المرهف ، والتعامل الراقي ، الذي لا يريد صاحبه أن يخدش كرامة أحد من أصحابه .. يقول أبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - : دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المسجد فَرَأَى رَجُلًا جَالِسًا وَسَطَ الْمَسْجِدِ مُشَبِّكًا بَيْنَ أَصَابِعِهِ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يَفْطِنْ، فَالْتَفَتَ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ فَقَالَ :«إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلَا يُشَبِّكَنَّ بَيْنَ أَصَابِعِهِ؛ فَإِنَّ التَّشْبِيكَ مِنْ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَزَالُ فِي صَلَاةٍ مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ»(1).
إني لأعجب كيف لقلب رجل أن يستوعب كل هذه الحكمة والرحمة والرفق والشفقة؟!
كان - صلى الله عليه وسلم - لا يرضى أن يجد أحد منهم في نفسه عليه ..
__________
(1) / أحمد (10958) .(1/80)
فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا فِي قُرَيْشٍ وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِمْ الْقَالَةُ، حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَوْمَهُ. فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا الْحَيَّ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ؛ لِمَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْفَيْءِ الَّذِي أَصَبْتَ، قَسَمْتَ فِي قَوْمِكَ وَأَعْطَيْتَ عَطَايَا عِظَامًا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنْ الْأَنْصَارِ شَيْءٌ. قَالَ: «فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ»؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَنَا إِلَّا امْرُؤٌ مِنْ قَوْمِي. قَالَ :«فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ» ، فَخَرَجَ سَعْدٌ فَجَمَعَ النَّاسَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ، فَجَاءَ رِجَالٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَتَرَكَهُمْ فَدَخَلُوا، وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدَّهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا أَتَاهُ سَعْدٌ فَقَالَ: قَدْ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ. فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ ثُمَّ قَالَ : «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، مَقَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ، وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ، أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمْ اللَّهُ؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ؟ وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ»؟ قَالُوا: بَلْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ. قَالَ :«أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا(1/81)
مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ»؟ قَالُوا : وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ. قَالَ :«أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ، فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ، أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلًا فَأَغْنَيْنَاكَ. أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ (1) مِنْ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلَامِكُمْ، أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي رِحَالِكُمْ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ». قَالَ : فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ، وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّهِ قِسْمًا وَحَظًّا. ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَتَفَرَّقوا (2).
وأما حال النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أزواجه فهذا ما تقف عنده العبارة لنعته على عتبة الحيرة أمداً ، ولئلا أزجَّ بنفسي في امتحان بلاغة وتعبير أكتفي بسرد النصوص الدالة على حسن معاشرته لهم ، وكريم أخلاقه معهم .
وكيف لا يكون حاله كذلك وهو القائل في يوم عرفة :
__________
(1) / الشيء الحقير ، انظر النهاية في غريب الحديث والأثر (4/507) .
(2) / أحمد (11305) .(1/82)
«اتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ؛ فإنَّكمْ أخَذْتُمُوهنَّ بأمَانِ اللهِ (1) ، واسْتَحْلَلْتُم فُرُوْجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ (2)»(3).
وهو القائل - صلى الله عليه وسلم - : «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ» (4) . ولفظ مسلم :«إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ لَنْ تَسْتَقِيمَ لَكَ عَلَى طَرِيقَةٍ» . وعن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن المرأةَ خُلِقت مِن ضِلَع، فإنْ أقَمْتَها كسرتَها ، فدارِها تَعِشْ بِها» (5).
لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وفياً لأزواجه ..
فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ وَلَقَدْ هَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي بِثَلَاثِ سِنِينَ لِمَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ يَذْكُرُهَا ، وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ فِي الْجَنَّةِ ، وَإِنْ كَانَ لَيَذْبَحُ الشَّاةَ ثُمَّ يُهْدِيهَا إِلَى خَلَائِلِهَا (6) .
__________
(1) / ائتمنكم عليهن
(2) / الإيجاب والقبول .
(3) / صحيح مسلم (1218).
(4) / البخاري (3084) ، ومسلم (1468) .
(5) / ابن حبان (9/485) .
(6) / البخاري (3532) ، ومسلم (2435) .(1/83)
وعنها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ ، وَمَا رَأَيْتُهَا ، وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ ذِكْرَهَا ، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ : كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةُ ؟! فَيَقُولُ : «إِنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ» (1) .
وعَنْ مَسْرُوقٍ رحمه الله ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ ، فَغِرْتُ يَوْمًا ، فَقُلْتُ : مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا حَمْرَاءَ الشِّدْقِ ! قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا خَيْرًا مِنْهَا . قَالَ :«مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا ، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ» (2) .
ما أعظمَ وفاءَ نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - ! لقد كان من الممكن أن يُمِرَّ مقالة عائشة رضي الله عنها، أو يسكت عن ذلك ، ولكنه آثر الذب عن زوجه الأولى ، وهذا من وفائه صلوات الله وتسليماته عليه . وأرسل إلى أصدقاء خديجة مرةً من شاة ذبحها ، فأسمعته عائشة –رضي الله عنهما- ما يغضبه ، فقال :«إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا» (3) .
__________
(1) / البخاري (3534) .
(2) / أحمد (23719) .
(3) / مسلم (2435) .(1/84)
الوفاء .. لا يعجب الإنسان منه بقدر ما يعجب من لغة حوت معناه بكلمة ، هو رأس النبل ، وبه تستمد معاني الإنسانية بقاءها ، وحياة بدونه يفضلها انقطاعها ، قلِّب نظرَك حيث شئت ، فهل تجد من أهله إلا عظيماً كريماً ؟!
وكان - صلى الله عليه وسلم - يسأل عن حاجتهن ويتفقد أحوالهنَّ كل يوم ..
فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا انْصَرَفَ مِنْ الْعَصْرِ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ ، فَيَدْنُو مِنْ إِحْدَاهُنَّ من غير مَسِيْسٍ ، حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى الَّتِي هُوَ يَوْمُهَا فَيَبِيتَ عِنْدَهَا" (1) .
كان رسولنا - صلى الله عليه وسلم - يلاعب نساءه ..
فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَأَنَا جَارِيَةٌ لَمْ أَحْمِلْ اللَّحْمَ وَلَمْ أَبْدُنْ ، فَقَالَ لِلنَّاسِ :« تَقَدَّمُوا » ، فَتَقَدَّمُوا ، ثُمَّ قَالَ لِي :«تَعَالَيْ حَتَّى أُسَابِقَكِ » ، فَسَابَقْتُهُ ، فَسَبَقْتُهُ ، فَسَكَتَ عَنِّي ، حَتَّى إِذَا حَمَلْتُ اللَّحْمَ وَبَدُنْتُ وَنَسِيتُ خَرَجْتُ مَعَهُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ ، فَقَالَ لِلنَّاسِ :« تَقَدَّمُوا » ، فَتَقَدَّمُوا ، ثُمَّ قَالَ :« تَعَالَيْ حَتَّى أُسَابِقَكِ » ، فَسَابَقْتُهُ ، فَسَبَقَنِي ، فَجَعَلَ يَضْحَكُ وَهُوَ يَقُولُ :« هَذِهِ بِتِلْكَ » (2) .
وهو القائل عليه الصلاة والسلام :« إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ بَاطِلٌ ، إِلَّا رَمْيَةَ الرَّجُلِ بِقَوْسِهِ ، وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ ، وَمُلَاعَبَتَهُ امْرَأَتَهُ ؛ فَإِنَّهُنَّ مِنْ الْحَقِّ » (3) .
وكان - صلى الله عليه وسلم - يمازحهنَّ ..
__________
(1) / صحيح البخاري (4815) ، وسنن أبي داود (1823) .
(2) / أحمد (25075) .
(3) / أحمد (16697) ، وأبو داود (2152) ، والنسائي (3522) ، وابن ماجة (2801).(1/85)
فلقد تدافع يوماً مع عائشة للخروج من الباب على سبيل الممازحة (1) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : رَجَعَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ جَنَازَةٍ بِالْبَقِيعِ وَأَنَا أَجِدُ صُدَاعًا فِي رَأْسِي وَأَنَا أَقُولُ : وَا رَأْسَاهْ . قَالَ : «بَلْ أَنَا وَا رَأْسَاهْ» ، قَالَ:« مَا ضَرَّكِ لَوْ مِتِّ قَبْلِي فَغَسَّلْتُكِ وَكَفَّنْتُكِ ، ثُمَّ صَلَّيْتُ عَلَيْكِ وَدَفَنْتُكِ » . قُلْتُ : لَكَأَنِّي بِكَ وَاللَّهِ لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ لَقَدْ رَجَعْتَ إِلَى بَيْتِي فَأَعْرَسْتَ فِيهِ بِبَعْضِ نِسَائِكَ . قَالَتْ : فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ بُدِئَ بِوَجَعِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ (2).
وكان عليه لصلاة والسلام يعين نساءه في عمل البيت ..
سئلت عائشةُ : مَا كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ ؟ قَالَتْ :" كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ -تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ - فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ (3).
وسئلت : مَا كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ ؟ قَالَتْ : كَانَ يَخِيطُ ثَوْبَهُ ، وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ ، وَكَانَ يَعْمَلُ مَا يَعْمَلُ الرِّجَالُ فِي بُيُوتِهِمْ (4).
وكان - صلى الله عليه وسلم - يصبر على أذيتهنَّ ..
__________
(1) / زاد المعاد (1/152) .
(2) / البخاري والنسائي في الكبرى .
(3) / البخاري .
(4) / أحمد .(1/86)
ففي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فوجد الناس جلوساً ببابه لم يؤذن لأحد منهم ، قال : فأذن لأبي بكر فدخل ، ثم أقبل عمر فاستأذن ، فأذن له ، فوجد النبي - صلى الله عليه وسلم - جالساً حوله نساؤه واجماً ساكتاً ، قال : فقال : لأقولن شيئاً أضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فَوَجأْتُ (1) عنقَها . فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : «هنَّ حَولي كما تَرى يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَةَ» فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها فقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها ، فنهاهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كلاهما يقول : تسألن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ليس عنده ؟ فقلن : والله لا نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً أبداً ليس عنده . ثم اعتزلهن شهراً أو تسعاً وعشرين ، ثم نزلت عليه هذه الآية : { يا أيها النبي قل لأزواجك } حتى بلغ { للمحسنات منكن أجراً عظيماً } ، فبدأ بعائشة فقال : « يَا عَائِشَةُ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَعْرِضَ عَلَيْكِ أَمْرًا أُحِبُّ أَنْ لَا تَعْجَلِي فِيهِ حَتَّى تَسْتَشِيرِي أَبَوَيْكِ». قالت : وما هو يا رسول الله ؟ فتلا عليها الآية ، قالت : أفيك يا رسول الله أستشير أبوي ؟! بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة ، وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت . قال :«لَا تَسْأَلُنِي امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ إِلَّا أَخْبَرْتُهَا ؛ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا وَلَا مُتَعَنِّتًا ، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا» (2) .
__________
(1) / طعنت .
(2) / مسلم (1478) ، وأحمد (13991) .(1/87)
وتأمل هذه القصة ، مع أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تأذى من سؤالهنّ صبر عليهنّ ، وقام أبو بكر وعمر على ليقرع كل واحد منهما بنته فمنعهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتسأله عائشة أن لا يخبر واحدةً منهنّ بما اختارته فيعارضها؛ حرصاً منه على ما ينفعهنّ ..
إني لأسأل مراراً : كيف لقلب أن يتسع لكل هذه الرحمة ؟! وأيم الله إنّ التأمل في مثل هذه القصص لَمن أكبر ما يحمل على الرجاء في رحمة الله ، فإذا كان هذا حال من خلقه الله ، فكيف برحمة الله بعباده ؟!
كان - صلى الله عليه وسلم - سهلاً ليناً هيناً معهنَّ ..
لما أرادت عائشة أن تأتي بالعمرة بعد الحج أذن لها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال جابر - رضي الله عنه - : وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلًا سَهْلًا إِذَا هَوِيَتْ الشَّيْءَ تَابَعَهَا عَلَيْهِ ، فَأَرْسَلَهَا مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَأَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ مِنْ التَّنْعِيمِ (1).
لم يكن - صلى الله عليه وسلم - بالعنيف عليهنّ ..
فعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ ، فَضَرَبَتْ يَدَ الْخَادِمِ ، فَسَقَطَتْ الْقَصْعَةُ ، فَانْفَلَقَتْ ، فَأَخَذَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَضَمَّ الْكَسْرَيْنِ وَجَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ وَيَقُولُ :«غَارَتْ أُمُّكُمْ، غَارَتْ أُمُّكُمْ» ، وَيَقُولُ لِلْقَوْمِ :«كُلُوا» . وَحَبَسَ الرَّسُولَ حَتَّى جَاءَتْ الْأُخْرَى بِقَصْعَتِهَا ، فَدَفَعَ الْقَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الَّتِي كُسِرَتْ قَصْعَتُهَا وَتَرَكَ الْمَكْسُورَةُ لِلَّتِي كَسَرَتْ (2).
__________
(1) / مسلم (1213) .
(2) / صحيح البخاري (4824) .(1/88)
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : عَثَرَ أُسَامَةُ بِعَتَبَةِ الْبَابِ ، فَشُجَّ فِي وَجْهِهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :«أَمِيطِي عَنْهُ الْأَذَى» . قالت : فَتَقَذَّرْتُهُ ، فَجَعَلَ يَمُصُّ عَنْهُ الدَّمَ وَيَمُجُّهُ عَنْ وَجْهِهِ (1).
والشاهد مراعاته لها وعدم تعنيفه إذ لم تطق فعل ذلك .
وما كان - صلى الله عليه وسلم - يضرب نساءه ..
فعنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّه (2) .
وقال عليه الصلاة والسلام :« بِمَ يَضْرِبُ أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ ضَرْبَ الْفَحْلِ أَوْ الْعَبْدِ ثُمَّ لَعَلَّهُ يُعَانِقُهَا » (3) .
لوام رخّص النبي - صلى الله عليه وسلم - فِي ضرب النساء أَطَافَ بِآلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نِسَاءٌ كَثِيرٌ يَشْكُونَ أَزْوَاجَهُنَّ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :« لَقَدْ طَافَ بِآلِ مُحَمَّدٍ نِسَاءٌ كَثِيرٌ يَشْكُونَ أَزْوَاجَهُنَّ، لَيْسَ أُولَئِكَ بِخِيَارِكُمْ » (4) .
كان - صلى الله عليه وسلم - يعدل بينهنّ ..
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْسِمُ فَيَعْدِلُ ، وَيَقُولُ :«اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ» (5).
وقالت : "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا يُفَضِّلُ بَعْضَنَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْقَسْمِ مِنْ مُكْثِهِ عِنْدَنَا" (6).
__________
(1) / ابن ماجة (1966) .
(2) / مسلم (2328) .
(3) / البخاري (5582) .
(4) / أبو داود (1834) .
(5) / أبو داود (1822) ، والترمذي (1059) ، والنسائي (3882) ، وابن ماجة (1961) .
(6) / أبو داود (1823) .(1/89)
ومن عدله أنه كان إذا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا سافر بها(1).
وكان - صلى الله عليه وسلم - يوجِّهُهن ، ويأمرُهن بالمعروف ، وينهاهنّ عن المنكر ..
فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَيْقَظَ لَيْلَةً فَقَالَ :«سُبْحَانَ اللَّهِ ، مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنْ الْفِتْنَةِ ؟ مَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْخَزَائِنِ ؟ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ ؟ يَا رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الْآخِرَةِ» (2).
والمراد فتح الدنيا على العباد ، مما يفضي إلى تنافسهم فيها، والمراد بصواحب الحجر نساؤه، وإيقاظهن للصلاة في جوف الليل (3) .
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : قُلْتُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا - تَعْنِي قَصِيرَةً - فَقَالَ :«لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ» (4).
__________
(1) / البخاري (2404) ، ومسلم (2770) .
(2) / البخاري (112) .
(3) / انظر فتح الباري (1/210) .
(4) / أبو داود (4232) .(1/90)
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ، عَنْ جُوَيْرِيَةَ رضي الله عنها : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا ، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى وَهِيَ جَالِسَةٌ ، فَقَالَ :«مَا زِلْتِ عَلَى الْحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا»؟ قَالَتْ : نَعَمْ . فقال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : «لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ ، عَدَدَ خَلْقِهِ ، وَرِضَا نَفْسِهِ ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ» (1).
وكان - صلى الله عليه وسلم - يحوطهن ويغار عليهنَّ ..
فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ مِنْ جُحْرٍ فِي دَارِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَحُكُّ رَأْسَهُ بِالْمِدْرَى (2) ، فَقَالَ :«لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَنْظُرُ لَطَعَنْتُ بِهَا فِي عَيْنِكَ ، إِنَّمَا جُعِلَ الْإِذْنُ مِنْ قِبَلِ الْأَبْصَارِ» (3).
وكان عليه الصلاة والسلام يشاور نساءه ..
__________
(1) / مسلم (2726) .
(2) / مشط .
(3) / البخاري (5469)، ومسلم (2156) .(1/91)
لما فرغ من قضية الكتاب في الحديبية قال لأصحابه :«قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا»، فمَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ. حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنْ النَّاسِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ. فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ، نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ. فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا (1).
وبالجملة فقد كان - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خلقاً في بيته ..
ولم لا يكون كذلك وهو القائل : «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا ، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِكُمْ» (2) .
ومما يجلي ذلك :
أرادت صفية رضي الله عنها مرة أن تركب على ظهر بعيرها ، فوضع رجله على الأرض ، وصعدت صفية على ركبته إلى البعير (3) .
وكان ينادي عائشة رضي الله عنها ويقول : «يا عائش» بالترخيم (4).
وكان يسرب الجواري إلى عائشة رضي الله عنها لما كانت جارية ليلعبن معها (5).
__________
(1) / البخاري (2529).
(2) / الترمذي (1082) .
(3) / البخاري (2081) .
(4) / البخاري (2978) ، ومسلم (2447) .
(5) / ابن ماجه (1972) .(1/92)
تقول أمنا عائشة رضي الله عنها : قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَوْ خَيْبَرَ ، وَفِي سَهْوَتِهَا سِتْرٌ ، فَهَبَّتْ رِيحٌ ، فَكَشَفَتْ نَاحِيَةَ السِّتْرِ عَنْ بَنَاتٍ لُعَبٍ ، فَقَالَ :«مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ»؟ قَالَتْ : بَنَاتِي . وَرَأَى بَيْنَهُنَّ فَرَسًا لَهُ جَنَاحَانِ مِنْ رِقَاعٍ فَقَالَ :«مَا هَذَا الَّذِي أَرَى وَسْطَهُنَّ» ؟ قَالَتْ : فَرَسٌ . قَالَ :«وَمَا هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ» ؟ قَالَتْ : جَنَاحَانِ . قَالَ :«فَرَسٌ لَهُ جَنَاحَانِ»؟! قَالَتْ : أَمَا سَمِعْتَ أَنَّ لِسُلَيْمَانَ خَيْلًا لَهَا أَجْنِحَةٌ ؟ قَالَتْ : فَضَحِكَ حَتَّى رَأَيْتُ نَوَاجِذَهُ (1).
وعنها قال : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَّكِئُ فِي حِجْرِي وَأَنَا حَائِضٌ فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ (2).
وتقول كذلك : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّتِي أَسْأَمُ ، فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ الْحَرِيصَةِ عَلَى اللَّهْوِ (3).
__________
(1) / أبو داود (4284) .
(2) / البخاري (288) ، ومسلم (301) .
(3) / البخاري (4835) ، ومسلم (892) .(1/93)
وعَنْ شُرَيْحٍ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سَأَلْتُهَا : هَلْ تَأْكُلُ الْمَرْأَةُ مَعَ زَوْجِهَا وَهِيَ طَامِثٌ (1) ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدْعُونِي فَآكُلُ مَعَهُ وَأَنَا عَارِكٌ (4) ، وَكَانَ يَأْخُذُ الْعَرْقَ (2) ، فَيُقْسِمُ عَلَيَّ فِيهِ فَأَعْتَرِقُ مِنْهُ ثُمَّ أَضَعُهُ ، فَيَأْخُذُهُ ، فَيَعْتَرِقُ مِنْهُ ، وَيَضَعُ فَمَهُ حَيْثُ وَضَعْتُ فَمِي مِنْ الْعَرْقِ ، وَيَدْعُو بِالشَّرَابِ فَيُقْسِمُ عَلَيَّ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَشْرَبَ مِنْهُ ، فَآخُذُهُ ، فَأَشْرَبُ مِنْهُ ، ثُمَّ أَضَعُهُ ، فَيَأْخُذُهُ فَيَشْرَبُ مِنْهُ ، وَيَضَعُ فَمَهُ حَيْثُ وَضَعْتُ فَمِي مِنْ الْقَدَحِ (3).
تدخل عائشة على زينب رضي الله عنهما وهي غضبى ، وتقول زينب للنبي - صلى الله عليه وسلم - : أَحَسْبُكَ إِذَا قَلَبَتْ بُنَيَّةُ أَبِي بَكْرٍ ذُرَيْعَتَيْهَا (4) ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة :«دُونَكِ فَانْتَصِرِي» ، قالت : فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهَا حَتَّى رَأَيْتُهَا وَقَدْ يَبِسَ رِيقُهَا فِي فِيهَا مَا تَرُدُّ عَلَيَّ شَيْئًا (5) فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ (6).
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ ، وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ (7).
__________
(1) / حائض .
(2) / العظم الذي أُكل غالب لحمه .
(3) / النسائي (277) .
(4) / أي لا تتمالك نفسك من حب عائشة .
(5) / يعني أسكتتها .
(6) / أحمد (23479) ، وابن ماجة (1971) .
(7) / البخاري ومسلم.(1/94)
وَكَانَ الصحابة قَدْ عَلِمُوا حُبَّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَائِشَةَ ، فَإِذَا كَانَتْ عِنْدَ أَحَدِهِمْ هَدِيَّةٌ يُرِيدُ أَنْ يُهْدِيَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخَّرَهَا ، حَتَّى إِذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَيْتِ عَائِشَةَ بَعَثَ صَاحِبُ الْهَدِيَّةِ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَيْتِ عَائِشَةَ ، فقلن أزواجه لأم سلمة : كَلِّمِي رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُكَلِّمُ النَّاسَ ، فَيَقُولُ : مَنْ أَرَادَ أَنْ يُهْدِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هَدِيَّةً فَلْيُهْدِهِ إِلَيْهِ حَيْثُ كَانَ مِنْ بُيُوتِ نِسَائِهِ . فَكَلَّمَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ بِمَا قُلْنَ ، فَلَمْ يَقُلْ لَهَا شَيْئًا، فَسَأَلْنَهَا ، فَقَالَتْ : مَا قَالَ لِي شَيْئًا . فَقُلْنَ لَهَا : فَكَلِّمِيهِ . فَكَلَّمَتْهُ حِينَ دَارَ إِلَيْهَا أَيْضًا ، فَلَمْ يَقُلْ لَهَا شَيْئًا . فَسَأَلْنَهَا ، فَقَالَتْ : مَا قَالَ لِي شَيْئًا . فَقُلْنَ لَهَا : كَلِّمِيهِ حَتَّى يُكَلِّمَكِ . فَدَارَ إِلَيْهَا ، فَكَلَّمَتْهُ ، فَقَالَ لَهَا :«لَا تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ ؛ فَإِنَّ الْوَحْيَ لَمْ يَأْتِنِي وَأَنَا فِي ثَوْبِ امْرَأَةٍ إِلَّا عَائِشَةَ » . فَقَالَتْ : أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مِنْ أَذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . ثُمَّ إِنَّهُنَّ دَعَوْنَ فَاطِمَةَ بنته رضي الله عنها ، لتكلمه فَكَلَّمَتْهُ ، فَقَالَ :«يَا بُنَيَّةُ ، أَلَا تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ»؟ قَالَتْ : بَلَى . فَرَجَعَتْ إِلَيْهِنَّ ، فَأَخْبَرَتْهُنَّ ، فَقُلْنَ: ارْجِعِي إِلَيْهِ . فَأَبَتْ أَنْ تَرْجِعَ ، فَأَرْسَلْنَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ ، فَأَتَتْهُ ، فَأَغْلَظَتْ ، وَقَالَتْ : إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ اللَّهَ الْعَدْلَ فِي(1/95)
بِنْتِ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ ، فَرَفَعَتْ صَوْتَهَا حَتَّى تَنَاوَلَتْ عَائِشَةَ وَهِيَ قَاعِدَةٌ فَسَبَّتْهَا ، حَتَّى إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيَنْظُرُ إِلَى عَائِشَةَ هَلْ تَكَلَّمُ ، فَتَكَلَّمَتْ عَائِشَةُ تَرُدُّ عَلَى زَيْنَبَ حَتَّى أَسْكَتَتْهَا ، فَنَظَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى عَائِشَةَ وَقَالَ :« إِنَّهَا بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ » (1).
ودعا - صلى الله عليه وسلم - مرةً أبا بكر ، فاستعذره من عائشة ، فبينا هما عنده قالت : إنك لتقول : إنك لنبي ، فقام إليها أبو بكر فضرب خدها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَهْ يَا أبَا بَكْرٍ ! مَا لِهَذَا دَعَونَاك» (2) .
وأستسمح القارئ الكريم أن أطرح هذا السؤال قبل أن أغادر إلى محور آخر : لو تمثلنا بهذه الأخلاق في بيوتنا فهل يمكن للمشاكل الزوجية أن تعرف طريقاً إلى حياتنا؟
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وأما معاملة النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن يخدمه وحاله معهم :
فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يلوم ويعاتب خدمه ..
فعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ، فَأَخَذَ أَبُو طَلْحَةَ بِيَدِي، فَانْطَلَقَ بِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَنَسًا غُلَامٌ كَيِّسٌ فَلْيَخْدُمْكَ. قَالَ: فَخَدَمْتُهُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، مَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا ، وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذَا (3) .
فهل يمكن للواحد منّا أن يمر عليه يومٌ واحد فقط بدون أن يتوجه فيه بالعتاب للخادم ؟!
__________
(1) / البخاري (2393) .
(2) / مصنف عبد الرزاق (11/431) .
(3) / البخاري (2561) ، ومسلم (2309) .(1/96)
وكان - صلى الله عليه وسلم - يقيل عثراتهم ، ويضاحكهم ..
قَالَ أَنَسٌ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا، فَأَرْسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ، فَخَرَجْتُ حَتَّى مررت عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ، فلعبت معهم ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ قَبَضَ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي. قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ:«يَا أُنَيْسُ أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ»؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ أَنَا أَذْهَبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ (1) .
وكان - صلى الله عليه وسلم - يسأل الخادم عن حاجته ..
فعَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ مَوْلَى بَنِي مَخْزُومٍ، عَنْ خَادِمٍ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِمَّا يَقُولُ لِلْخَادِمِ: «أَلَكَ حَاجَةٌ»؟ قَالَ: حَتَّى كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَاجَتِي. قَالَ :«وَمَا حَاجَتُكَ»؟ قَالَ: حَاجَتِي أَنْ تَشْفَعَ لِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ :«وَمَنْ دَلَّكَ عَلَى هَذَا»؟ قَالَ: رَبِّي. قَالَ :«إِمَّا لَا فَأَعِنِّي بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» (2) .
وكان - صلى الله عليه وسلم - يراعي مشاعر من يخدمه ..
ومما يبين ذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :«إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ فَلْيُنَاوِلْهُ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ؛ فَإِنَّهُ وَلِيَ حَرَّهُ وَعِلَاجَهُ» (3) .
العجيب أن يلتفت إلى هذه المسائل التي نعدها أموراً صغيرةً، ولكنْ لها أثر كبير في النفس، وهو مشغول بقضايا أمة بأكملها !
__________
(1) / مسلم (2310) .
(2) / أحمد (15496) وأصله عند مسلم (489) .
(3) / البخاري (2370) ، ومسلم (1663) .(1/97)
وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يرضى أن يُضرب الخادم والمملوك ..
قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي بِالسَّوْطِ، فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِي :«اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ»، فَلَمْ أَفْهَمْ الصَّوْتَ مِنْ الْغَضَبِ. فَلَمَّا دَنَا مِنِّي إِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَإِذَا هُوَ يَقُولُ:«اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ». قَالَ: فَأَلْقَيْتُ السَّوْطَ مِنْ يَدِي، فَقَالَ :«اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلَامِ». فَقُلْتُ: لَا أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا (1) .
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:«مَنْ لَطَمَ مَمْلُوكَهُ أَوْ ضَرَبَهُ فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يُعْتِقَهُ» (2) .
وأوصى - صلى الله عليه وسلم - بهم خيراً ..
فمن آخر وصاياه وهو في فراش الموت :«الصلاةَ وما ملكت أيمانكم» (3) .
وأما حاله - صلى الله عليه وسلم - مع أرحامه فقد كان - صلى الله عليه وسلم - ناصحاً لهم ..
__________
(1) / مسلم (1659) .
(2) / مسلم (1657) .
(3) / ابن ماجة (1614) .(1/98)
نزلت الآية عليه : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } [الشعراء: 214]، فصَعِدَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِي : «يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي عَدِيٍّ» - لِبُطُونِ قُرَيْشٍ- حَتَّى اجْتَمَعُوا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولًا ؛ لِيَنْظُرَ مَا هُوَ، فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ فَقَالَ:«أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ»؟ قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا. قَالَ :«فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ». فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ : تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَنَزَلَتْ: { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَب } [أول سورة المسد] (1) .
كان يتجاوز عنهم وعن كل من أساء إليه ..
وقد سبق معنا أثر ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعبد الله بن أبي أمية بالأبواء (2) .
وانظر كيف كان - صلى الله عليه وسلم - يعامل بنته فاطمة رضي الله عنها ..
تقول عائشة رضي الله عنها: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَشْبَهَ سَمْتًا وَهَدْيًا وَدَلًّا مِنْ فَاطِمَةَ، كَانَتْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَامَ إِلَيْهَا فَأَخَذَ بِيَدِهَا وَقَبَّلَهَا وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ، وَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا قَامَتْ إِلَيْهِ فَأَخَذَتْ بِيَدِهِ فَقَبَّلَتْهُ وَأَجْلَسَتْهُ فِي مَجْلِسِهَا (3) .
ومن يشابه أبه فما ظلم .
__________
(1) / البخاري (4391) ، ومسلم (208) .
(2) / انظر ص ( ) .
(3) / أبو داود (4540) .(1/99)
ولكن هذه المحبة لم تكن لتحمله على أن يؤثرها بما ليس لها، فعنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه - أنّه دَخَلَ عَلَى فَاطِمَةَ رضي الله عنها، وَحَسَنٌ وَحُسَيْنٌ يَبْكِيَانِ، فَقَالَ:«مَا يُبْكِيهِمَا»؟ قَالَتْ: الْجُوعُ (1) .
وكلنا يعلم أَنَّ قُرَيْشًا لما أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ وشفع فيها أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلمته الخالدة :« أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ»؟ ثُمَّ قَامَ ، فَاخْتَطَبَ ، ثُمَّ قَالَ :« إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا» (2) .
وكان - صلى الله عليه وسلم - يبكي إذا فقد عزيزاً من أقربائه ..
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - على ابنه إبراهيم وهو يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ - رضي الله عنه - :وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ :«يَا ابْنَ عَوْفٍ، إِنَّهَا رَحْمَةٌ»، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - :«إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ» (3).
__________
(1) / أبو داود (1458).
(2) / البخاري (3216) ، ومسلم (1688) .
(3) / البخاري (1220) ، ومسلم (2315) .(1/100)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: شَهِدْنَا بِنْتًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - -وهي أم كلثوم- وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ، قَالَ : فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ (1).
وعن أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَرْسَلَتْ ابْنَةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَيْهِ إِنَّ ابْنًا لِي قُبِضَ فَأْتِنَا، فَأَرْسَلَ يُقْرِئُ السَّلَامَ وَيَقُولُ:«إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ»، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنَّهَا، فَقَامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمَعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرِجَالٌ، فَرُفِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الصَّبِيُّ وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا؟ فَقَالَ :«هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ» (2).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: زَارَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَبْرَ أُمِّهِ، فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ، فَقَالَ : «اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأُذِنَ لِي، فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ» (3).
وأما حاله مع إخوانه من الأنبياء فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر فضلهم ويُذكِّر أمته بذلك ، متواضعاً عند ذكره لهم ..
__________
(1) / البخاري (1205) .
(2) / البخاري (1204) ، ومسلم (923) .
(3) / مسلم (976) .(1/101)
فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَسْمًا، فَقَالَ رَجُلٌ : إِنَّهَا لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ. قَالَ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَارَرْتُهُ فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا وَاحْمَرَّ وَجْهُهُ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَذْكُرْهُ لَهُ، ثُمَّ قَالَ :«رَحِمَ اللهُ أَخِي مُوْسَى، قَدْ أَوُذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ» (1).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :«نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ: { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوْ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } ، وَيَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ يُوسُفُ لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ» (2).
ومما لا ريب فيه أنّ الأنبياء متفاضلون عند الله ؛ لقول الله تعالى : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } [البقرة :253] ، ولقوله: { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ } [الإسراء :55] .
كما أنَّ مما لا شك فيه ألبتة أنّ نبينا - صلى الله عليه وسلم - أفضل الأنبياء، وهذا من تواضعه عليه الصلاة والسلام .
__________
(1) / البخاري (5635) ، ومسلم (1062) .
(2) / البخاري (3121) ، ومسلم (151) .(1/102)
قال الحافظ في الفتح: " إِذَا لَمْ نَشُكّ نَحْنُ فَإِبْرَاهِيم أَوْلَى أَنْ لَا يَشُكّ ، أَيْ لَوْ كَانَ الشَّكّ مُتَطَرِّفًا إِلَى الْأَنْبِيَاء لَكُنْت أَنَا أَحَقّ بِهِ مِنْهُمْ ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي لَمْ أَشُكّ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَمْ يَشُكّ . وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ تَوَاضُعًا مِنْهُ ، أَوْ مِنْ قَبْل أَنْ يُعْلِمهُ اللَّه بِأَنَّهُ أَفْضَل مِنْ إِبْرَاهِيم» (1).
وفِي حَدِيث أَنَس عِنْد مُسْلِم " أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : يَا خَيْر الْبَرِّيَّة. قَالَ :«ذَاكَ إِبْرَاهِيم» (2).
وعن ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :«لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى» (3).
قال النووي رحمه الله :" قال العلماء : هذه الأحاديث تحتمل وجهين : أحدهما أنه - صلى الله عليه وسلم - قال هذا قبل أن يعلم أنه أفضل من يونس، فلما علم ذلك قال :«أنا سيد ولد آدم» ولم يقل هنا إنَّ يونس أفضل منه أو من غيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
والثاني أنه - صلى الله عليه وسلم - قال هذا زجراً عن أن يتخيل أحد من الجاهلين شيئاً من حط مرتبة يونس - صلى الله عليه وسلم - من أجل ما في القرآن العزيز من قصته. قال العلماء : وما جرى ليونس - صلى الله عليه وسلم - لم يحطَّه من النبوة مثقال ذرة، وخصَّ يونس بالذكر لما ذكرناه من ذكره في القرآن بما ذُكِر"(4).
…الحمد لله الذي وفق لإكمال هذا البحث ، وإن أردت أن ألخصه في جملة واحدة لأمكن ذلك ، ليس لبلاغةٍ ولا لقوةِ لغةٍ، ولكن لأن الله أجمل ذلك كلّه بقوله : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم:4].
__________
(1) / الفتح (6/412) .
(2) / مسلم (2369) .
(3) / البخاري (3144) ، ومسلم (2376) .
(4) / شرح النووي على مسلم (15/132) .(1/103)
فرسولنا - صلى الله عليه وسلم - كان أحسن الناس خلقاً ، يوقر الكبير ، ويرحم الصغير ، كان يلاعب الأطفال ، ويصبر على أذاهم ، أرحم بهم من أمهاتهم ، يقبلهم ، ويزجر من لا يفعل ذلك بولده ..
كان رحمةً بالإنسان والحيوان .. نهى أن يُتخذ شيء فيه الروح غرضاً ، وأن يحول أحد بين البهيمة وبين ولدها ، وعن المُثْلَةِ به ، وأنبأنا بأنَّ الإحسان إلى البهيمة من أسباب مغفرة الذنوب ، وأن الإساءة إليها قد تلقي بالعبد في نار جهنم ، فدين الإسلام منهج كامل لحياتنا ما فرط الله فيه من شيء ..
كان رفيقاً بالجاهلين ، يستر على المخطئ لا يفضحه ، ينصح ويوجه ويرشد ويأمر بالتي هي أحسن ..
عامل أعداءه بالقوة في معامع القتال ومواقع النزال ، وعاملهم بالرحمة في غيرها ، فحبَّب الكثيرين في الدِّيْن ، فازدحموا على باب الإسلام بعدما علموا صدقه وكريم خلقه ، كان حريصاً على هدايتهم ، يدعو لهم بالهداية ، يعفو عنهم ويحلم ، وفياً معهم ..
وإذا كان هذا حاله مع أعدائه فماذا يمكن أن أقول لبيان حاله مع أصحابه ؟!
ولقد كان - صلى الله عليه وسلم - خير الأزواج ، يكرم نساءه، وفياً معهنّ ، يمازحهنّ ويلاعبهنّ ويضاحكهنَّ ، يعفو ويتجاوز عن أخطائهنَّ ، ويصبر على أذيتهنَّ ، لم يكن عنيفاً عليهنَّ، شهد له أصحابه بأنه كان يتساهل معهنَّ في كل أمر ليس فيه معصية لله ، لا يضرب ، ولا يحقر ، ولا يشتم ، ولا يكثر اللوم والعتاب ، يعدل بينهن ، ويرشدهن إلى ما فيه صلاحهنَّ، ويشاورهن في كثير من أموره ..
وبالجملة .. فإنَّ الكلمة لتقف حائرة إذا أُريد منها نعت سيد الأولين والآخرين ، والله المسئول أن يسلك بنا سبيله ،،،
هذا ، وإني أتشوف لكل نقد يراد به إصلاحه ، وهذا عنوان مراسلتي
qqoopp231@gmail.com
وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين
كان الفراغ منه في 20 من ذي الحجة 1428هـ(1/104)
الإصابة في تمييز الصحابة ، لابن حجر العسقلاني ، دار الجيل ببيروت، الطبعة الأولى ، 1412هـ ، تحقيق : علي محمد البجاوي .
التفسير ، لابن أبي حاتم ، المكتبة العصرية بصيدا ، تحقيق : أسعد محمد الطيب .
تفسير القرآن العظيم ، لأبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي ، دار طيبة للنشر والتوزيع ، الطبعة الثانية ، تحقيق : 1420هـ - 1999 م ، تحقيق : سامي بن محمد سلامة
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، دار السلام ، الطبعة الثانية ، 1422هـ
الجامع لأحكام القرآن، للإمام القرطبي ، دار الشعب بالقاهرة .
زاد المعاد في هدي خير العباد - صلى الله عليه وسلم - لمحمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية ، مكتبة المنار بالكويت، الطبعة الرابعة عشر ، 1407هـ ، تحقيق شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط
السنن ، لأبي داود سليمان بن الأشعث ، المكتبة العصرية ببيروت .
السنن ، للإمام ابن ماجة القزويني ، دار إحياء التراث العربي .
السنن ، للإمام أبي عيسى الترمذي ، دار إحياء التراث العربي .
السنن ، للإمام الدارقطني ، دار المعرفة ببيروت ، 1386هـ ، تحقيق : السيد عبد الله هاشم يماني .
السنن ، للإمام النسائي ، دار إحياء التراث العربي .
السنن الكبرى ، أحمد بن الحسين بن علي بن موسى أبو بكر البيهقي، مكتبة دار الباز - مكة المكرمة ، 1414 هـ ، تحقيق : محمد عبد القادر عطا
السيرة النبوية ، لعبد الملك بن هشام الحميري ، دار الجيل ببيروت، الطبعة الأولى ، 1411هـ ، تحقيق : طه عبد الرؤوف سعد
شرح النووي على مسلم، للإمام النووي ، دار إحياء التراث العربي ببيروت ، الطبعة الثانية ، 1392هـ
الشمائل المحمدية ، للإمام الترمذي ، مؤسسة الكتب الثقافية ببيروت ، الطبعة الأولى ، 1412هـ ، تحقيق : سيد عباس الجليمي .(1/105)
صحيح ابن حبان ، لأبي عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن جعفر البستي المعروف بأبي الشيخ الحافظ ، مؤسسة الرسالة ببيروت ، الطبعة الثانية ، 1414هـ ، تحقيق شعيب الأرنؤوط
صحيح البخاري ، للإمام محمد بن إسماعيل البخاري ، دار ابن كثير باليمامة ، 1987م ، تحقيق د. مصطفى ديب البغا .
صحيح مسلم ، للإمام مسلم بن الحجاج ، دار إحياء التراث العربي ، 1972م .
فتح الباري ، لابن حجر العسقلاني ، دار المعرفة ببيروت ، 1379هـ .
فيض القدير شرح الجامع الصغير ، عبد الرؤوف المناوي ، المكتبة التجارية الكبرى بمصر ، الطبعة الأولى، 1356هـ
القاموس المحيط ، محمد بن يعقوب الفيروز آبادي، مؤسسة الرسالة ببيروت.
المستدرك على الصحيحين، محمد بن عبد الله أبو عبد الله الحاكم النيسابوري، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الأولى ، 1411هـ ، تحقيق : مصطفى عبد القادر عطا
المسند ، للإمام أحمد بن حنبل ، المكتب الإسلامي ، 1985 .
المعجم الكبير للطبراني، سليمان بن أحمد بن أيوب أبو القاسم الطبراني، مكتبة العلوم والحكم – الموصل، الطبعة الثانية ، 1404 – 1983، تحقيق : حمدي بن عبد المجيد.
النهاية في غريب الأثر والحديث، أبو السعادات المبارك بن محمد الجزري، المكتبة العلمية - بيروت ، 1399هـ - 1979م، تحقيق : طاهر أحمد الزاوى - محمود محمد الطناحي(1/106)