أثر معاملة الرسول - صلى الله عليه وسلم -
في نشر الدين الإسلامي
د. يحيى بن عبد الله البكري
أستاذ الحديث وعلومه المساعد ورئيس قسم الدراسات الإسلامية
بكلية المعلمين بأبها
إنَّ التعمُّق في دراسة السِّيرة النبوية من خلال نصوص السُّنة ، وإبراز جوانب شخصية النبي - صلى الله عليه وسلم - الإنسانية ، والاستفادة من مواطن العبر والدُّروس فيها ، حري أن يحيي في الأمَّة روح العزَّة والسُّؤدد ، ويُصلح ما فسد من أخلاقها وآدابها ، بسبب الزحف الحضاري للأمم المختلفة التي سيطرت بقوتها وثقافاتها وإعلامها على وسائل التوجيه والتربية في شتى المجالات .
وواسطة العقد في السيرة النبوية الشَّريفة يكمن في شخصية النبي الفذَّة التي أسرت الألباب ؛ بما أوتي من جمال الصُّورة ، وتمام الخلقة ، وحُسن الهيئة ، وما جُبل عليه من حسن الخلق ، والرِّفق في المعاملة ، والعدل في الغضب والرِّضا ، والحلم والأناة ، وكل هذا أثر أثرًا بالغًا في إقبال الناس على دعوته ، والسَّماع له ، ولا غرو فقد زكَّاه الله - عز وجل - من فوق سبع سماوات ، فقال : { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } (1) .
وهذا البحث على قصره يُلقي الضوء على حسن معاملته - صلى الله عليه وسلم - للنَّاس على اختلاف دياناتهم ، وما أوتيه من أخلاق شريفة ، وأثر ذلك في نشر دين الإسلام ، لنرد بهذا على ما يروج في هذه الأيام في مجتمعات الغرب من أن ديننا الإسلامي دين الهمجية والإرهاب ، وأنه لم يبن على أساس أخلاقي في دعوة الناس إليه .
ويبين من وجه آخر الصورة المشرقة لدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، التي شوهت بسبب تصرفات كثير من أبناء المسلمين اليوم ، لدى كثير ممن لا يعرف الإسلام على حقيقته .
1 - رأفته ورحمته وشفقته :
__________
(1) القلم : 4 .(1/1)
كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - أرأف النَّاس وأرحمهم ، قال تعالى : { فَبِمَا رَحْمَة مِّنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَو كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } (1) .
وكان لهذا الخلُق الرَّفيع أكبر الأثر في الإقبال على الدِّين الإسلامي ، وذلك أنَّه - صلى الله عليه وسلم - كان بعيدًا عن أساليب العنف والشِّدة والغلظة ، فاستطاع بحسن عرضه وكمال خلقه وصدقه ، أن تتسلل دعوته إلى بيوت مكَّة شيئًا فشيئًا ، حتَّى غزت بيوت كبار كفَّار مكَّة؛ فاتَّهمه حينها كفَّار مكَّة بأنَّه ساحر : يفرق بين المرء وابنه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وعشيرته(2) .
ونلمح في سيرته الشَّريفة مواقفَ معبِّرةً ، تدلُّ على كمال شفقته ورحمته بأمته ، نجملها في الصُّور التالية :
الصورة الأولى : شفقته ورحمته بعمه أبي طالب .
__________
(1) آل عمران : 159
(2) السيرة لعبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري (2/105-106) ، تحقيق د. همام سعيد ، ومحمد أبو صعيليك ، م المنار ، الأردن ، الطبعة الأولى ، 1409هـ/1988م .(1/2)
كان عمه أبو طالب من أشدِّ مناصري دعوته ، ولأجل هذا حرص على إسلامه ، لكن سبق في علم الله أنه يموت كافرًا ؛ فعن سعيد بن المسيب ، عن أبيه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا عم قل : لا إله إلا الله ، كلمة أشهد لك بها عند الله ، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ، فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرضها عليه ، ويعيد له تلك المقالة ، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم : هو على ملَّة عبد المطلب ، وأبى أن يقول : لا إله إلا الله ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( أما والله لأستغفرنَّ لك ما لم أنه عنك )) ، فأنزل الله - عز وجل - : { مَا كَانَ للنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَّسْتَغْفِرُوا لِلمُشْرِكِينَ وَلَو كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيمِ } (1) .
وأنزل الله تعالى في عمه أبي طالب مخاطبًا رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَّشَاءُ ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ } (2) .
__________
(1) التوبة : 113
(2) أخرجه البخاري في صحيحه (1/457) في كتاب الجنائز ، باب إذا قال المشرك عند الموت لا إله إلا الله برقم (1294) ، ومسلم في صحيحه (1/54) في كتاب الإيمان ، باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت ما لم يشرع في النزع وهو الغرغرة ونسخ جواز الاستغفار للمشركين والدليل على أن من مات على الشرك فهو في أصحاب الجحيم ولا ينقذه من ذلك شيء من الوسائل برقم (24) واللفظ له .
والآية من سورة القصص : 56(1/3)
ومع هذا فقد نفعته مواقفه هذه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد قال العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ما أغنيتَ عن عمِّك؟ فإنه كان يحُوطك ويغضبُ لك ، قال : (( هو في ضحضاحٍ من نار ، ولولا أنا لكان في الدَّرك الأسفل من النَّار ))(1) .
والمعنى أنه - صلى الله عليه وسلم - شفع له عند ربِّه حتَّى خفف له كما ورد في بعض الرِّوايات .
الصورة الثانية : شفقته ورحمته بخادمه الغلام اليهودي .
نلمح في هذا الباب هذا المثال الرائع من تواضعه - صلى الله عليه وسلم - ورحمته بهذا الغلام ، ودعوته له للإسلام وشفقته عليه من أن يموت كافرًا . . فعن أنس - رضي الله عنه - قال : كان غلامٌ يهوديٌّ يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فمرض فأتاه النَّبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده ، فقعد عند رأسه ، فقال له : أسلم ، فنظر إلى أبيه ، وهو عنده ، فقال له : أطع أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - ، فأسْلَمَ فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول : (( الحمد لله الذي أنقذه من النار ))(2) . وهذا يدلُّ على رحمة النبي - صلى الله عليه وسلم - ورأفته بالنَّاس على وجه العموم ، حيث استبشر بإسلام هذا الغلام . . وإن تعجب فاعجب من موقف والده هذا؟! .
الصورة الثالثة : شفقته ورحمته بقومه قريش .
كان - صلى الله عليه وسلم - يأسى على قومه ، ويأسف أشدَّ الأسف عليهم ، قال تعالى : { عَزِيزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (3/1408) في كتاب فضائل الصحابة ، باب قصة أبي طالب برقم (3670) .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه (1/455) في كتاب الجنائز ، باب إذا أسلم الصبي ومات ، هل يُصلى عليه ، وهل يُعرض على الصبي الإسلام برقم (1290) .
(3) التوبة : 128 .(1/4)
وكان يخشى أن يموتوا على الكفر ، وتتجلى رأفته ورحمته في أبهى صورها في دعوته لهم ، وإصراره على إنقاذهم من النار ، مع ما جابهوه به من الأذى والاستهزاء والسُّخرية . . فعن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } (1) .
صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصَّفا ، فجعل يُنادي : (( يا بني فهر ! يا بني عدي ! )) لبطون قريش حتى اجتمعوا ، فجعل الرَّجل إذا لم يستطع أن يَخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو ، فجاء أبو لهب وقريش فقال : (( أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تُريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيَّ؟ )) قالوا : نعم ، ما جربنا عليك إلا صدقًا .
قال : (( فإنِّي نذير لكم بين يدي عذابٍ شديدٍ )) فقال أبو لهب : تبًا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا فنزلت : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب وَّتَبَّ ، مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ } (2) .
__________
(1) الشعراء : 214
(2) أخرجه البخاري في صحيحه (4/1887) في كتاب التفسير ، باب { وأنذر عشيرتك الأقربين } واخفض جناحك : ألن جانبك برقم (4492) .
والآيات من سورة المسد : 1 ، 2 .(1/5)
ومن مواقفه معهم ما رواه عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حدثته : أنها قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا رسول الله ! هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال : (( لقد لقيت من قومك ، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة ؛ إذ عرضت نفسي على عبد يا ليل بن عبد كلال ، فلم يُجبني إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب ، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني ، فنظرتُ فإذا فيها جبريل ، فناداني فقال : إنَّ الله - عز وجل - قد سمع قول قومك لك ، وما ردُّوا عليك ، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم ، قال : فناداني ملك الجبال وسلَّم عليَّ ، ثم قال : يا محمد! إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال ، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك ، فما شئت ؛ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين . فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( بل أرجو أن يُخْرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا ))(1) .
وفي هذا الموقف الشَّريف منه - صلى الله عليه وسلم - دليلٌ على فرط رحمته وشفقته بهم ، رغم الأذى الشديد الذي لقيه ، والقدرة على الانتقام .
واستمرَّ عليه الصَّلاة والسَّلام في دعوته ولم ييأس ، صابرًا مُثابرًا ، وأحزنه عدم استجابة كثيرٍ منهم فأنزل الله عليه : { لَعَلَّكَ بَاخِع نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } (2) .
قال ابن كثير : (( وهذه تسليةٌ من الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في عدم إيمان من لم يؤمن به من الكفَّار كما قال تعالى : { فَلاَ تَذهَبْ نَفْسُكَ عَلَيهِمْ حَسَرَاتٍ } (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (3/1180) في كتاب بدء الخلق برقم (3059) ، ومسلم في صحيحه (3/1420) باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - من أذى المشركين والمنافقين برقم (1795) واللفظ له .
(2) الشعراء : 3 .
(3) فاطر : 8 .(1/6)
وكقوله { فَلَعَلَّكَ بَاخِع نَّفْسَكَ عَلَى آثَرِهِم } (1) الآية .
قال مجاهد وعكرمة وقتادة وعطية والضحَّاك والحسن وغيرهم : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ } أي قاتل نفسك ، قال الشاعر :
ألا أيهذا الباخع الحزن نفسه لشيءٍ نحته عن يديه المقادر ))(2) .
وإنَّما سلاَّه الله - عز وجل - بهذا ؛ لأنه كان شديد الحزن والأسف على قومه ، يحبُّ إسلامهم ، ويخشى عليهم العذاب الأليم ، وقد اقتضت حكمته - تعالى - أن يكون الإيمان مبنيًّا على الاختيار ، ولذا قال تعالى : { وَلَو شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } (3) .
وهذا موقفٌ عظيمٌ منه - صلى الله عليه وسلم - ؛ فمع ما ناله منهم لم ينتقم وصبر وتحمل الأذى ، في سبيل أن يسلموا . . وكان كذلك فقد دخلوا بعد فتح مكة في دين الله أفواجًا كما قال الله - عز وجل - : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ ، وَرَأَيتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا ، فَسَبِّح بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } (4) .
الصورة الرابعة : رحمته وشفقته على أمته عمومًا :
عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا قول الله - عز وجل - في إبراهيم : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } (5) .
وقال عيسى - عليه السلام - : { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } (6) .
__________
(1) الكهف : 6 .
(2) تفسير القرآن العظيم لأبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي (774هـ) . 3/331 ، طبعة دار الفكر ، بيروت ، 1401هـ .
(3) يونس : 99 .
(4) النصر : 1-3 .
(5) إبراهيم : 36 .
(6) المائدة : 118(1/7)
فرفع يديه وقال : اللهُمَّ أمَّتي أمَّتي ، وبكى فقال الله - عز وجل - : يا جبريل اذهب إلى محمد - وربُّك أعلم - فسله ما يُبكيك ؟ فأتاه جبريل - صلى الله عليه وسلم - ، فسأله فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قال - وهو أعلم - فقال الله : يا جبريلُ اذهب إلى محمد فقل : إنَّا سنُرضيكَ في أمَّتك ولا نسُوءك(1) . ويؤيِّده قوله تعالى : { وَلَسَوفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } (2) .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1/191) في كتاب الإيمان ، باب دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته وبكائه شفقة عليهم برقم (202) .
(2) الضحى : 5 .(1/8)
ولعلَّ من أبلغ مظاهر شفقته ورحمته - صلى الله عليه وسلم - بأمته موقفه في عرصات القيامة ، في يوم يشيب لهوله الولدان ، عندما يشفع الشفاعة العُظمى ، كما في حديث أنس بن مالك الطويل وفيه : (( فأنطلقُ فأستأذنُ على ربِّي فيُؤذن لي ، فأقومُ بين يديه ، فأحمدُهُ بمحامِدَ لا أقدر عليه الآن ، يُلهمُنيه اللهُ ، ثمَّ أخِرُّ له ساجدًا ، فيقال لي : يا محمد ارفع رأسك ، وقل يُسمع لك وسل تُعطه ، واشفع تُشفَّع ، فأقول : ربِّ أمَّتي أمَّتي فيقالُ : انطلق فمن كان في قلبه مثقالُ حبَّةٍ من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منها ، فأنطلق فأفعل ، ثمَّ أرجع إلى ربِّي فأحمده بتلك المحامد ، ثمَّ أخر له ساجدًا ، فيقال لي : يا محمد ارفع رأسك ، وقل يُسمع لك وسل تُعطه واشفع تُشفَّع فأقول : أمَّتي أمَّتي ، فيقال لي : انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبَّةٍ من خردل من إيمان فأخرجه منها ، فأنطلق فأفعل ، ثمَّ أعود إلى ربي فأحمده بتلك المحامد ، ثمَّ أخر له ساجدًا ، فيقال لي : يا محمد ارفع رأسك وقل يُسمع لك ، وسل تُعطه واشفع تشفَّع ، فأقول : يا ربِّ أمتي أمتي ، فيقال لي : انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبَّةٍ من خردلٍ من إيمان ، فأخرجه من النَّار فأنطلق فأفعل ))(1) .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1/182-183) في كتاب الإيمان ، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها برقم (193) .(1/9)
هذه الصور المشرقة تعطينا جانبًا عظيمًا من جوانب رأفته ورحمته وشفقته على أمته - صلى الله عليه وسلم - ، فها هو يقول - صلى الله عليه وسلم - : (( مثلي كمثل رجل استوقد نارًا فلما أضاءت ما حولها ، جعل الفراشُ وهذه الدَّواب التي في النَّار يقعن فيها ، وجعل يحجُزُهُنَّ ويغلبنَهُ ، فيقتحمنَ فيها ، قال : فذلكُم مثلي ومثلُكُم ، أنا آخِذٌ بحُجَزِكُم عن النَّار ، هلمُّ عن النَّار ، هلمُّ عن النَّار . . فتغلبُوني تقحَّمون فيها ))(1) .
وصدق عليه الصلاة والسَّلام ؛ فكم واجهه من أذى قريش ، حين ضربوه وسبوه ، وأخرجوه من أحب البلاد إليه وما زال يدعوهم ويدعوهم ، ويعفو عن مُسيئهم ، ويحلم عليهم حتى أنقذ الله به الكثير منهم من النَّار .
2 - تواضعه ولين جانبه :
كان - صلى الله عليه وسلم - متواضعًا ، لم يرد الدُّنيا وزينتها ، ولو أرادها لكانت له ، بل أراد ما عند الله والدار الآخرة ، فأناله الله شرف الدُّنيا والآخرة ، فاسمه قرين اسم الله - عز وجل - قال مجاهد في قوله تعالى : { ورفعنا لك ذكرك } (2) : لا أذكر إلا ذُكرت : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله(3) . وسنده صحيح .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1789) في كتاب الفضائل ، باب شفقته - صلى الله عليه وسلم - على أمته ومبالغة في تحذيرهم مما يضرهم برقم (2284) .
(2) الضحى : 4 .
(3) أخرجه الإمام محمد بن إدريس الشافعي ( 204هـ) في مسنده (ص233) ، رواية أبي العباس محمد بن يعقوب الأصم (346هـ) عن الربيع بن سليمان المرادي (270هـ) ، دونه أبو عمرو محمد بن جعفر بن مطر النيسابوري (360هـ) ، دار الكتب العلمية ، بيروت .(1/10)
وقد كان ابن عباس يحدث : أن الله - تبارك وتعالى - أرسل إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - ملكًا من الملائكة ومعه جبريل ، فقال الملك : إنَّ الله يُخيِّرُكَ بين أن تكون عبدًا نبيًّا ، وبين أن تكون ملكًا ، فالتفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جبريل : كالمستشير ، فأشار جبريل بيده : أن تواضع ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( بل أكونُ عبدًا نبيًّا )) .
قال : فما أكل بعد تلك الكلمة طعامًا مُتكئًا(1) . ويمكن أن نضرب أمثلةً على تواضعه في عدة صور :
الصورة الأولى : من مظاهر تواضعه في دعوته - صلى الله عليه وسلم - :
كان - صلى الله عليه وسلم - يدعو في مكة إلى الإسلام ، وكان أكثر من استجاب له ضعفة ومساكين مكَّة ، والسبب في ذلك لين جانبه لهم ورفقه بهم ، وتعليمهم ، حتى وقر الإيمان في قلوبهم . . وهكذا هم أتباع الأنبياء . ، وقد أمره الله بالجلوس معهم ، وامتدحهم بقوله : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَينَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا } (2) .
__________
(1) أخرجه الحافظ أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي (303هـ) في الكبرى (4/171/ برقم 6743) . تحقيق د. عبد الغفار البنداري ، وسيد كسروي حسن ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ط1 ، 1411هـ/1991م .
(2) الكهف : 28 .(1/11)
عن سعد قال كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ستة نفر فقال المشركون للنبي - صلى الله عليه وسلم - : اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا ، قال : وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما ، فوقع في نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شاء الله أن يقع ، فحدَّث نفسه فأنزل الله - عز وجل - : { وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } (1) .
وكان مرَّة مشغولاً بأحد عظماء قريش يدعوه إلى الإسلام ، وجاءه ابن أم مكتوم الأعمى ، فأعرض عنه وأقبل على هذا السَّيد فعاتبه الله فيه(2) .
هكذا أدَّبه ربه فأحسن تأديبه ، فتواضع - صلى الله عليه وسلم - للنَّاس فأقبلوا على دعوته وآمنوا به ، وصدَّقوه وعزَّروه ، ونصروه ، حتَّى كان الإسلام في سنوات معدودة مسيطرًا على جلِّ جزيرة العرب سلمًا ، ثم تمدد في عهد الخلفاء الراشدين خارج الجزيرة العربية ، ففي بضع سنين دخل إلى الشام والعراق ومصر وكانت حواضر الدنيا في ذلك العصر .
الصورة الثانية : عدم تميزه على أصحابه :
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1878) في كتاب الفضائل ، باب في فضل سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - برقم (2413) .
والآية من سورة الأنعام : 52 .
(2) أخرجه ابن حبان في صحيحه (2/293) ذكر ما يستحب للمرء الإقبال على الضعفاء والقيام بأمورهم وإن كان استعمال مثله موجودا منه في غيرهم برقم (535) .(1/12)
من مظاهر تواضعه - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يكن يتميز على أصحابه بملبس ، ولا مجلس ، ولا غير ذلك ، وكان الغريب إذا أتاه لا يعرفه من بين أصحابه ، فهذا ضمام بن ثعلبة دخل على جمله فأناخه في المسجد ثم عقله ، ثم قال لمن كان في المسجد : أيكم محمد والنبي - صلى الله عليه وسلم - متكئ بين ظهرانيهم . فقالوا : هذا الرجل الأبيض المتكئ(1) .
ويبدو أنَّ هذا تكرَّر دائمًا ، فرأى الصحابة أن يُظهروا مكانه - صلى الله عليه وسلم - ؛ حتى يُعرف ، لئلا يحوجوا كلَّ من لا يعرفه للسؤال عنه - صلى الله عليه وسلم - ، فعن أبي ذر وأبي هريرة قالا : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجلس بين ظهري أصحابه ، فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل ، فطلبنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نجعل له مجلسًا يعرفه الغريب إذا أتاه ، قال : فبنينا له دُكَّانًا من طين ، فجلس عليه ، وكُنَّا نجلس بجنبتيه(2) .
ولم يكن شخصٌ أحبَّ إليهم رؤيةً منه - صلى الله عليه وسلم - ، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لِما يعلمون من كراهيته لذلك(3) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (1/35) في كتاب العلم ، باب ما جاء في العلم برقم (63) .
(2) أخرجه أبو داود في سننه (4/225) باب في القدر برقم (4698) . وهو صحيح كما قال الألباني في صحيح أبي داود (3/890) .
(3) أخرجه البخاري محمد بن إسماعيل (256هـ) في الأدب المفرد برقم (946) . تحقيق د. علي عبد الباسط ، وعلي عبد المقصود ، مكتبة الخانجي ، القاهرة ، ط1 ، 1423هـ/2003م .
وأخرجه الترمذي في سننه (5/90) في كتاب الأدب/ باب ما جاء في كراهية قيام الرجل للرجل برقم (2754) ، تحقيق أحمد محمد شاكر وغيره ، المكتبة التجارية ، مكة المكرمة .
وأخرجه وفي الشمائل برقم (328) ، بتحقيق عزت عبيد الدعاس ، دار الحديث ، بيروت ، ط3 ، 1408هـ/1988م . قال أبو عيسى : (( هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه )) .(1/13)
الصورة الثالثة : جلوسه مع الأرملة والمسكين والصغير :
كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يمشي في حاجاتهم ويُساعدهم ، فعن عبد الله بن أبي أوفى ، قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يأنف ، ولا يستنكِف أن يمشي مع الأرملة والمسكين ، فيقضي لهُما حاجتَهُما(1) .
وهو بهذا يضرب لأمَّته أروع الأمثلة في التواضُع ولين الجانب ، فهو يقول - صلى الله عليه وسلم - مُرشدًا ومُعلِّمًا : (( ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله ))(2) .
وهذا أنس يُخبر : أنَّ امرأةً كان في عقلها شيءٌ ، فقالت : يا رسول الله ! إنَّ لي إليك حاجة ؟ فقال : يا أم فلان ! انظُري أي السِّكك شئت ، حتى أقضي لك حاجتك ، فخلا معها في بعض الطُّرق ، حتى فرغت من حاجتها(3) .
وعنه قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلَّى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء ، فما يؤُتى بإناءٍ إلا غمس يده فيها ، فربما جاءه في الغداة الباردة ، فيغمس يده فيها(4) .
فظهر بهذه الصور الرائعة ما كان عليه الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام من كمال الخُلُق ، وروعة التواضُع ، حتى ألفه الصغير والكبير ، والخادم والمرأة .
__________
(1) أخرجه الدارمي في مسنده (1/48) باب في تواضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برقم (74) . بتحقيق حسين سليم أسد ، دار المغني ، الرياض ، ط1 ، (1421هـ/2000م) .
وأخرجه ابن حبان في صحيحه (14/334) في ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن يحيى بن عقيل لم ير أحدًا من الصحابة برقم (6424) .
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (4/201) في كتاب البر والصلة والأدب ، باب استحباب العفو والتواضع برقم (2588) .
(3) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1812) باب قرب النبي - عليه السلام - من الناس وتبركهم به برقم (2326) .
(4) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1812) باب قرب النبي - عليه السلام - من الناس وتبركهم به برقم (2324) .(1/14)
الصورة الرابعة : زيارته لأصحابه وإجابته للدعوة وأكله من كل الطعام :
كان - صلى الله عليه وسلم - يجيب دعوة من دعاه ، ولا يتردد في ذلك وإن كان على شيءٍ يسير ، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - : أنَّ خياطًا بالمدينة دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على خبز شعير وإهالة سنخة ، وكان فيها قرعٌ ، قال أنس : فكنتُ أرى النبي - صلى الله عليه وسلم - يُعجبه القرع . قال : فكنت أقدِّمه بين يديه ، فلم يزل القرع يعجبني منذ رأيته يعجبه - صلى الله عليه وسلم - (1) .
ومن مظاهر تواضعه - صلى الله عليه وسلم - زيارته لذلك الغلام اليهودي الذي كان يخدمه - كما سبق - ، حيث مرض فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده ، فقعد عند رأسه ، فقال له : (( أسلم )) ؟! فنظر إلى أبيه - وهو عنده - فقال له : أطع أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - ، فأسلم فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول : (( الحمد لله الذي أنقذه من النار ))(2) .
الصورة الخامسة : خدمته لأهله في بيته :
كان - صلى الله عليه وسلم - في بيته بشرًا كغيره ، يقوم على حاجات نفسه ، وربما ساعد أهله في شؤونهم ، وهو في هذا يضرب المثل والقدوة للناس بفعله . . بقوله (( خيرُكُم خيرُكُم لأهله وأنا خيركُم لأهلي ))(3) .
__________
(1) أخرجه ابن حبان في صحيحه (12/103) ذكر إباحة إجابة المرء إذا دعي على الشيء الطفيف برقم (5293) .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه (1/455) في كتاب الجنائز ، باب إذا أسلم الصبي ومات ، هل يُصلى عليه ، وهل يُعرض على الصبي الإسلام برقم (1290) .
(3) أخرجه ابن حبان في صحيحه كما في الإحسان (9/491) ذكر الزجر عن ضرب النساء إذ خير الناس خيرهم لأهله برقم (4186) .(1/15)
قال الأسود : سألت عائشة : ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصنع في بيته ؟ قالت : كان يكون في مهنة أهله - تعني خدمة أهله - فإذا حضرت الصَّلاةُ ، خرج إلى الصَّلاة(1) .
وفي رواية قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخصِفُ نعله ، ويَخيطُ ثوبه ، ويعملُ في بيته كما يعمل أحدكم في بيته(2) .
وفي رواية عنها : ما كان إلا بشرًا من البشر : كان يفلي ثوبه ، ويحلب شاته ، ويخدم نفسه(3) .
3 - كرمه وسخاؤه وجوده :
كان جوده - صلى الله عليه وسلم - مضرب المثل ؛ فلم يعرف العرب في تاريخهم رجلاً أكرم منه عليه الصَّلاة والسَّلام ؛ إذ كان يؤثر على نفسه ، ولا يلتفت إلى الدنيا ، وهذا غاية الكرم والسخاء ، فعن ابن عباس قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجودَ النَّاسِ ، وكان أجودَ ما يكونُ في رمضانَ حين يلقاهُ جبريلُ ، وكان يلقاهُ في كلِّ ليلةٍ من رمضانَ فيُدارسُهُ القُرآنَ ، فلَرسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أجودُ بالخير من الرِّيح الْمُرسلةِ(4) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (1/239) في كتاب الأذان ، باب من كان في حاجة أهله فأقيمت الصلاة فخرج برقم (644) .
(2) أخرجه ابن حبان في صحيحه (14/351) ذكر البيان بأن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - كان يكون في مهنة أهله عند دخوله بيته برقم (6440) .
(3) أخرجه ابن حبان في صحيحه (12/488) ذكر ما يستحب للمرء أن لا يأنف من العمل المستحقر في بيته بنفسه وان كان عظيما في أعين البشر برقم (5675) . والبغوي في الأنوار في شمائل النبي المختار (1/301/ برقم 390) .
(4) أخرجه البخاري في صحيحه (1/6) في كتاب بدء الوحي ، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برقم (6) . ومسلم في صحيحه (4/1803) في كتاب الفضائل ، باب كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس بالخير من الريح المرسلة برقم (2308) .(1/16)
وعن عائشة رضي الله عنها ، قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلُ الهديَّة ويُثِيبُ عليها(1) .
وعن جابر بن عبد الله قال : ما سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا قطُّ فقال : لا(2) .
ولكرمه وجوده مظاهر كثيرة نختار منها الصور التالية :
الصورة الأولى : موقفه مع رجل حديث عهد بالإسلام :
عن أنس قال : ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام شيئًا إلاَّ أعطاهُ ، قال : فجاءهُ رجلٌ فأعطاهُ غنمًا بين جبلين ، فرجعَ إلى قومه ، فقال : يا قومِ ! أسْلمُوا ؛ فإنَّ محمدًا يُعطي عطاءً ، لا يَخْشَى الفَاقَةَ(3) .
وفي رواية أخرى عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - غنمًا بين جبلين ، فأعطاهُ إيَّاه فأتى قومه ، فقال : أي قوم ! أسلِمُوا فواللهِ إنَّ محمدًا ليُعطي عطاءً ما يخافُ الفقْرَ .
فقال أنس : إن كان الرجلُ ليُسلِمُ ما يُرِيدُ إلا الدُّنيا ، فما يُسلِمُ حتَّى يكُونَ الإسْلامُ أحبَّ إليه من الدُّنيا وما عَلَيهَا(4) .
الصورة الثانية : قصة إسلام صفوان بن أمية :
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (2/913) في كتاب الهبة وفضلها ، باب المكافأة في الهبة برقم (2445) .
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1805) في كتاب الفضائل ، باب ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا قط فقال لا وكثرة عطائه (2311) .
(3) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1805) في كتاب الفضائل ، باب ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا قط فقال : لا ، وكثرة عطائه (2312) .
(4) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1805) في كتاب الفضائل ، باب ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا قط فقال : لا ، وكثرة عطائه (2312) .(1/17)
كان صفوان بن أمية من سادات قريش ، ولما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة فرَّ خوفًا منه ، فأرسل في ردِّه وأمَّنه ، فعن مالك ، عن ابن شهاب : أنه بلغه أنَّ نساءً كُنَّ في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسلِمن بأرضِهنَّ وهُنَّ غير مُهاجراتٍ ، وأزواجهن حين أسلمن كفَّارٌ ، منهنَّ بنت الوليد بن المغيرة ، وكانت تحت صفوان بن أمية ، فأسلمت يوم الفتح ، وهرب زوجُها صفوان بن أمية من الإسلام ، فبعث إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن عمه وهب بن عمير برداء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمانًا لصفوان بن أمية ، ودعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام ، وأن يقدِمَ عليه ، فإن رضيَ أمرًا قبله ، وإلا سيَّره شهرين ، فلمَّا قدم صفوان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بردائه ، ناداه على رؤوس النَّاس ، فقال : يا محمد ! إنَّ هذا وهب بن عمير جاءني بردائك ، وزعم أنَّك دعوتني إلى القدوم عليك ، فإن رضيت أمرًا قبلته ، وإلا سيَّرتني شهرين ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( انزل أبا وهب ! )) فقال : لا والله لا أنزل حتَّى تُبيِّن لي ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( بل لك تسير أربعة أشهر )) فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قِبَل هوازن بحُنين ، فأرسل إلى صفوان بن أمية يستعيرهُ أداةً وسلاحًا عنده ، فقال صفوان : أطوعًا أم كرهًا ، فقال : (( بل طوعًا )) فأعاره الأداة والسِّلاح التي عنده ، ثم خرج صفوان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو كافرٌ فشهد حُنينًا والطَّائف ، وهو كافرٌ(1) .
__________
(1) أخرجه إمام دار الهجرة مالك بن أنس الأصبحي (179هـ) في الموطأ (2/543) في كتاب النكاح ، باب نكاح المشرك إذا أسلمت زوجته قبله ، برقم (1132) ، رواية يحيى بن يحيى الليثي ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ، دار الحديث ، القاهرة .(1/18)
وروى مسلم(1) : عن ابن شهاب ، قال : غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوةَ الفتح فتح مكَّة ، ثمَّ خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمن معه من المسلمين ، فاقتتلُوا بحنين ، فنصر اللهُ دينَهُ والمسلمينَ ، وأعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ صفوان بن أميَّة مئةً من النَّعم ، ثم مئةً ، ثم مئةً .
قال ابن شهاب : حدثني سعيد بن المسيب : أنَّ صفوان قال : والله لقد أعطاني رسول الله ما أعطاني وإنه لأبغضُ النَّاس إلَيَّ فما بَرِحَ يُعطيني حتى إنَّه لأحبُّ النَّاس إلَيَّ .
وهذا الموقف الكريم منه عليه الصَّلاة والسَّلام ، كان سببًا في إسلام صفوان وإنقاذه من النَّار .
الصورة الثالثة : موقفه من غنائم حنين :
هزم الله هوازن وثقيف في غزوة حُنين ، وبلغت غنائم حنين مبلغًا عظيمًا : ستة آلاف من السبي ، ومن الإبل أربعة وعشرين ألف بعير ، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة ، وأربعة آلاف أوقية فضة ، فاستأنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسبي أن يقدم عليه وفدهم(2) .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1805) في كتاب الفضائل ، باب ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا قط فقال : لا ، وكثرة عطائه (2313) .
(2) انظر الطبقات الكبرى لكاتب الواقدي محمد بن سعد بن منيع البصري الزهري (ت23هـ) (2/152) ، تحقيق جماعة من المستشرقين الألمان ، ط1 ، (1903هـ) ، (مصورة) دار صادر ، بيروت .(1/19)
وفي هذا دليلٌ على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحبُّ إسلامهم ، حيث لم يبادر بقسمة الغنائم ، ثم إنه بعد ذلك بدأ بالأموال فقسمها وأعطى المؤلفة قلوبهم أول الناس : فأعطى أبا سفيان بن حرب أربعين أوقية ومئة من الإبل ، قال : ابني يزيد ، قال : أعطوه أربعين أوقية ومئة من الإبل ، قال : ابني معاوية ، قال : أعطوه أربعين أوقية ومئة من الإبل ، فأعطاه إياها . وأعطى حكيم بن حزام مئة من الإبل ، ثم سأله مئةً أخرى ، فأعطاه إياها . وأعطى النضر بن الحارث بن كلدة مئة من الإبل . وأعطى أسيد بن جارية الثقفي مئة من الإبل . وأعطى العلاء بن حارثة الثقفي خمسين بعيرًا . وأعطى مخرمة بن نوفل خمسين بعيرًا . وأعطى الحارث بن هشام مئة من الإبل . وأعطى سعيد بن يربوع خمسين من الإبل . وأعطى صفوان بن أمية مئة من الإبل . وأعطى قيس بن عدي مئة من الإبل . وأعطى عثمان بن وهب خمسين من الإبل . وأعطى سهيل بن عمرو مئةً من الإبل . وأعطى حويطب بن عبد العزى مئةً من الإبل . وأعطى هشام بن عمرو العامري خمسين من الإبل . وأعطى الأقرع بن حابس التميمي مئةً من الإبل . وأعطى عيينة بن حصن مئةً من الإبل . وأعطى مالك بن عوف مئةً من الإبل . وأعطى العباس بن مرداس أربعين من الإبل .
فقال في ذلك شعرًا ، فأعطاه مئةً من الإبل ، ويقال : خمسين ، وأعطى ذلك كله من الخمس(1) .
قلت : قصة عباس بن مرداس في مسلم(2) . . عن رافع بن خَديج ، قال : أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس كل إنسان منهم مئة من الإبل وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك ، فقال عباس بن مرداس :
أتجعل نهبي ونهب العبيد ... بين عيينة والأقرع
__________
(1) انظر الطبقات الكبرى (2/152) .
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (2/737) في كتاب الزكاة ، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمان برقم (1060) .(1/20)
فما كان بدر ولا حابس ... يفوقان مرداس في المجمع
وما كنت دون امرئ منهما ... ومن تخفض اليوم لا يرفع
قال : فأتم له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئة .
والحكمة في إعطائه لهؤلاء الزعماء ظاهرة في قوله - صلى الله عليه وسلم - للأنصار - عندما عتبوا عليه - صلى الله عليه وسلم - أنه لقي قومه فأعطاهم وترك الأنصار - : فإنِّي أعطي رجالاً حديثي عهد بكُفرٍ أتألَّفُهم ، أفلا ترضون أن يذهب النَّاس بالأموال ، وترجعون إلى رحالكم برسول الله ؟!! فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبُون به : فقالوا : بلى يا رسول الله قد رضينا(1) .
ثم لم يلبث - صلى الله عليه وسلم - أن قدم عليه وفد هوازن مُسلمين فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم ، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( أحبُّ الحديث إلي أصدقُهُ ، فاختاروا إحدى الطَّائفتين : إما السَّبيُ ، وإمَّا المال ، وقد كنت استأنيت بهم )) .
وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتظرهم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف ، فلمَّا تبين لهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير رادٍّ إليهم إلا إحدى الطَّائفتين ، قالوا : فإنَّا نختارُ سبينا ، فسأل النَّاس أن يعيدوا لهم سبيهم فأعادوه(2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (3/1147) باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه برقم (2978) ، ومسلم في صحيحه (2/733) في كتاب الزكاة ، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوى إيمانه برقم (1059) .
(2) أخرجه البخاري في الصحيح (2/810) في كتاب الوكالة ، باب إذا وهب شيئا لوكيل أو شفيع قوم جاز لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لوفد هوازن حين سألوه المغانم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - نصيبي لكم برقم (2184) .(1/21)
وهكذا ظهرت حكمته - صلى الله عليه وسلم - في تقسيم هذه المغانم ؛ إذ أصبح هؤلاء المؤلفة قلوبهم من قادة جيوش المسلمين في الفتوحات الإسلامية في عهد أبي بكر وعمر ، فمن ينسى مواقف عكرمة وصفوان وأبي سفيان بن حرب ، وابنه يزيد بن أبي سفيان ، في معارك اليرموك وفتوحات الشام .
الصورة الرابعة : موقفه من الأعراب حديثي الإسلام :
روى جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال : أتى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجعرانة منصرفه من حنين ، وفي ثوب بلال فضة ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبض منها يُعطي الناس ، فقال : يا محمد ! اعدل ، قال : (( ويلك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل ، لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل )) . فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق ، فقال : (( معاذ الله أن يتحدث الناس أنِّي أقتل أصحابي ))(1) .
وضايقه الأعراب و ازدحموا عليه وهو يقسم الغنائم ، وألحُّوا عليه في ذلك ، حتى اضطرُّوه إلى سَمُرة فخطفت رداءه ، فوقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : (( أعطُوني ردائي فلو كان عدد هذه العضاه نعَمًا لقسمته بينكم ، ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذوبًا ولا جبانًا ))(2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (3/1321) في كتاب المناقب ، باب علامات النبوة برقم (3414) ، ومسلم في صحيحه (2/470) في كتاب الزكاة ، باب ذكر الخوارج وصفاتهم برقم (1063) .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه (3/1147) برقم (2979) .(1/22)
وروى أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، قال : كنت أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه رداءٌ نجراني غليظ الحاشية ، فأدركه أعرابيٌّ فجبذه بردائه جبذة شديدة ، نظرت إلى صفحة عنق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أثَّرت بها حاشية الرداء؛ من شدة جبذته ، ثم قال : يا محمد ! مُر لي من مال الله الذي عندك ، فالتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضحك ، ثمَّ أمر له بعطاء(1) .
الصورة الخامسة : موقفه من الرجل الذي سأله البردة :
عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال جاءت امرأة ببُردة - قال : أتدرون ما البردة ، فقيل له : نعم هي الشملة منسوج في حاشيتها - قالت : يا رسول الله ! إني نسجتُ هذه بيدي أكسوكها ، فأخذها النبي - صلى الله عليه وسلم - مُحتاجًا إليها ، فخرج إلينا وإنَّها إزاره ، فقال رجل من القوم : يا رسول الله ! اكسنيها ، فقال : (( نعم )) ، فجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - في المجلس ، ثم رجع فطواها ، ثم أرسل بها إليه ، فقال له القوم : ما أحسنت سألتها إياه ، لقد علمت أنَّه لا يردُّ سائلاً ، فقال الرجل : والله ما سألتُه إلا لتكون كفني يوم أموت . قال سهل : فكانت كفنه(2) .
1 - شجاعته وقوة بأسه :
الشجاعة من الأخلاق الفاضلة ، والخلال الشريفة التي تميز بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهي من لوازم القيادة ، ولا أدلَّ على ذلك من تكليف الله - عز وجل - له بالقتال لوحده ، وتحريض المؤمنين فحسب { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ المُؤْمِنِينَ } (3) .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (2/673) في كتاب الزكاة/ باب إعطاء من سأل بفحش وغلظة برقم (1057) .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه (2/737) في كتاب البيوع/ باب ذكر النساج برقم (1987) .
(3) النساء : 84 .(1/23)
وقد شهد له علي - رضي الله عنه - بالشجاعة ، فقال : كنَّا إذا حمي البأس ولقي القومُ القومَ اتَّقينا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلا يكون أحد منَّا أدنى إلى القوم منه(1) .
ونكتفي بذكر بعض مظاهر شجاعته ، من خلال الصور التالية :
الصورة الأولى : موقفه من كفار قريش عندما آذوه :
__________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك (2 : 155/ برقم 2633) ، وقال : (( هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه )) .(1/24)
عن عروة ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : قلت ما أكثر ما رأيت قريشًا أصابت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما كانت تظهر من عداوته ؟ قال : قد حضرتهم ، وقد اجتمع أشرافهم في الحِجر ، فذكروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا : ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قطُّ !سفَّه أحلامنا ، وشتم آباءنا ، وعاب ديننا ، وفرق جماعتنا ، وسب آلهتنا ، لقد صبرنا منه على أمر عظيم ، أو كما قالوا ، فبينا هم في ذلك إذ طلع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأقبل يمشي حتَّى استلم الرُّكن ، فمرَّ بهم طائفًا بالبيت ، فلمَّا أن مرَّ بهم غمزوه ببعض القول ، قال : وعرفت ذلك في وجهه ، ثمَّ مضى - صلى الله عليه وسلم - ، فلما مرَّ بهم الثانية غمزوه بمثلها ، فعرفت ذلك في وجهه ، ثم مضى - صلى الله عليه وسلم - ، ومرَّ بهم الثالثة غمزوه بمثلها ، ثم قال : (( أتسمعون يا معشر قريش ، أما والذي نفس محمدٍ بيده لقد جئتكم بالذبح )) ، قال : فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلاَّ لكأنَّما على رأسه طائر واقع ، حتَّى إنَّ أشدَّهم فيه وطأة قبل ذلك يتوقَّاه بأحسن ما يجيب من القول ، حتَّى إنَّه ليقول : انصرف يا أبا القاسم ، انصرف راشدًا ، فوالله ما كنت جهُولاً ، فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، حتَّى إذا كان من الغد ، اجتمعوا في الحِجر ، وأنا معهم فقال بعضهم لبعض : ذكرتم ما بلغ منكم ، وما بلغكم عنه حتَّى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه ، وبينا هم في ذلك إذ طلع عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فوثبوا إليه وثبة رجُلٍ واحدٍ ، وأحاطوا به يقولون له : أنت الذي تقول كذا وكذا ، لما كان يبلغهم عنه من عيب آلهتهم ودينهم ، قال : (( نعم أنا الذي أقول ذلك )) ، قال : فلقد رأيت رجلاً منهم أخذ بمجمع ردائه ، وقال : وقام أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - دونه ، يقول : وهو يبكي أتقتلون رجلاً أن يقول : ربي الله ، ثم(1/25)
انصرفوا عنه ، فإن ذلك لأشد ما رأيتُ قريشًا بلغت منه قطُّ(1) .
وهذا الموقف ينبئ عن شجاعته - صلى الله عليه وسلم - ، ووقوفه في وجه قريشٍ كافَّة ، وتحمُّله الأذى في سبيل إيصال دعوته .
الصورة الثانية : موقفه عند سماع صوت بالمدينة :
عن أنس بن مالك ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشجع النَّاس ، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة ، فانطلق ناسٌ قِبَل الصَّوت ، فتلقَّاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راجعًا ، وقد سبقهم إلى الصَّوت ، وهو على فرس لأبي طلحة عري ، في عنقه السَّيف ، وهو يقول : (( لم تُراعوا ! لم تُراعوا ! )) . قال : (( وجدناه بحرًا - أو إنَّه لبحر - )) ، قال : وكان فرسًا يبطَّأ(2) .
الصورة الثالثة : موقفه في غزوة أحد :
__________
(1) أخرجه ابن حبان في صحيحه (14 : 526) ذكر بعض أذى المشركين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند دعوته إياهم إلى الإسلام برقم (6567) .
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1802) في كتاب الجهاد والسير ، باب في شجاعة النبي - عليه السلام - وتقدمه للحرب برقم (2307) .(1/26)
أصيب رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الغزوة عدَّة إصابات ، وقتل بين يديه جماعة من الأنصار ، ومع ذلك لم يتزحزح عليه الصَّلاة والسَّلام من موقفه ، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ، ورجلين من قريش ، فلمَّا رهقوه قال : (( من يردُّهم عنَّا وله الجنة ، أو هو رفيقي في الجنة )) فتقدم رجل من الأنصار ، فقاتل حتَّى قُتل ، ثمَّ رهقوه أيضًا ، فقال : (( من يردهم عنا وله الجنة ، أو هو رفيقي في الجنة )) فتقدَّم رجلٌ من الأنصار ، فقاتل حتَّى قتل ، فلم يزل كذلك حتَّى قُتل السَّبعة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لصاحبيه ما أنصفنا أصحابنا (1) .
وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - ، وهو يُسْأَل عن جرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : أما والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومن كان يسكُب الماء ، وبما دووي ، قال : كانت فاطمة - عليها السلام - بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تغسله ، وعلي بن أبي طالب يسكُب الماء بالمجنَّ ، فلما رأت فاطمة أنَّ الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير ، فأحرقتها وألصقتها فاستمسك الدم ، وكسرت رباعيته يومئذٍ ، وجرح وجهه وكسرت البيضة على رأسه(2) .
الصورة الرابعة : موقفه في غزوة حنين :
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (3/1415) في كتاب الجهاد والسير ، باب غزوة أحد برقم (1789) .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه (4/1496) في باب ما أصاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجراح يوم أحد برقم (3847) .(1/27)
عن العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - ، قال : شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين ، فلقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما معه إلا أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، فلزمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم نفارقه ، وهو على بغلة شهباء ، وربما قال : بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي ، فلمَّا التقى المسلمون والكفَّار ، ولى المسلمون مُدبرين ، وطفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يركضُ على بغلته قبل الكفار ، قال العباس : وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكفَّها ، وهو لا يألُو يُسرع نحو المشركين ، وأبو سفيان بن الحارث آخذٌ بغرز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا عباس ! ناد يا أصحاب السَّمُرة ! وكنت رجلاً صيِّتًا ، وقلت بأعلى صوت : يا أصحاب السَّمُرة ! فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها ، يقولون : يا لبيك يا لبيك ! فأقبل المسلمون فاقتتلوا هم والكفار ، فنادت الأنصار : يا معشر الأنصار ! ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج ، فنادوا : يا بني الحارث بن الخزرج ! قال : فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم ثمَّ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( هذا حين حمي الوطيس )) ، ثم أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حُصيات فرمى بهنَّ وجوه الكفَّار(1) .
__________
(1) أخرجه ابن حبان في صحيحه كما في الإحسان (15/523) في ذكر العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - برقم (7049) .(1/28)
وقال رجل للبراء بن عازب - رضي الله عنهما - : أفررتم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين ؟! قال : لكنَّ رسول الله لم يفر؛ إنَّ هوازن كانوا قومًا رُماةً ، وإنَّا لما لقيناهم ، حملنا عليهم ، فانهزموا ، فأقبل المسلمون على الغنائم واستقبلونا بالسِّهام ، فأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يفر ، فلقد رأيته وإنَّه لعلى بغلته البيضاء ، وإن أبا سفيان آخذ بلجامها ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( أنا النبي لا كذب ! أنا ابن عبد المطلب ))(1) .
الصورة الخامسة : موقفه في أحد من أبي بن خلف :
ذكر أهل السِّير أنَّ أبيَّ بن خلف كان يتوعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمكة بأنه سيقتله يومًا ما ، فيقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (( بل أنا أقتلك إن شاء الله )) .
فلمَّا أصاب المسلمين ما أصابهم يوم أحد ، نهض المسلمون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحو الشعب ، معه علي بن أبي طالب ، وأبو بكر بن أبي قحافة ، وعمر بن الخطاب ، وطلحة بن عبيد الله ، والزبير بن العوام ، والحارث بن الصمة ، في رهط من المسلمين ، فلمَّا أسند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الشعب ، أدركه أبي بن خلف ، وهو يقول : أين محمد ؟! لا نجوت إن نجا ، فقال القوم : يا رسول الله أيعطف عليه رجل منَّا ؟ قال : (( دعوه )) ، فلمَّا دنا تناول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحربة من الحارث بن الصمة ، قال : يقول بعض النَّاس : فيما ذُكر لي فلمَّا أخذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشَّعَراء عن ظهر البعير إذا انتفض بها ، ثمَّ استقبله ، فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مرارًا .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (3/1051) في كتاب الجهاد والسير ، باب من قاد دابة غيره في الحرب برقم (2709) ، ومسلم في صحيحه (3/1400) في المغازي ، باب في غزوة حنين برقم (1776) .(1/29)
فلمَّا رجع إلى قريش ، وقد خدشه في عنقه خدشًا غير كبير فاحتقن الدم ، قال : قتلني والله محمد ، قالوا : ذهب والله فؤادك والله إن بك بأس ! قال : إنه قد كان بمكة قال لي : أنا أقتلك ، فوالله لو بصق علي لقتلني ، فمات عدو الله بسَرِف ، وهم قافلون به إلى مكة(1) .
2 - عفوه عند المقدرة :
العفو هو ترك المؤاخذة عند القدرة ، قال تعالى : { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } (2) .
فامتثل عليه الصَّلاة والسَّلام لأمر ربِّه ، وهناك مواقف كثيرة في سيرته - صلى الله عليه وسلم - ، نذكر منها الصور التالية :
الصورة الأولى : موقفه من تمثيل قريش بشهداء أحد :
عن أبي العالية ، قال : حدثني أبي بن كعب - رضي الله عنه - ، قال : لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وسبعون ، ومنهم ستة من المهاجرين ، فيهم حمزة ، فمثَّلوا بهم ، فقالت الأنصار : لئن أصبنا منهم يومًا لنُربين عليهم ، فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ، وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيرٌ للصَّابِرِينَ } (3) .
فقال رجل : لا قريش بعد اليوم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( كفُّوا عن القوم غير أربعة ))(4) . فأخذ عليه الصَّلاة والسَّلام بمبدأ العفو ، ولم يقتصَّ من المشركين عندما انتصر عليهم ، مع أنَّ الله قد أباح لهم ذلك ، ولكن اختار عليه الصلاة والسلام الأفضل : { وَلَئِن صَبَرْتُم لَهُوَ خَيرٌ لِلصَّابِرِينَ } .
__________
(1) انظر السيرة لابن هشام (4/33) ، وتاريخ الطبري (2/67) .
(2) الأعراف : 199 .
(3) النحل : 126 .
(4) أخرجه ابن حبان في صحيحه (2/239) في ذكر الإخبار عما يجب على المرء من استعمال العفو وترك المجازاة على الشر بالشر برقم (487) . وانظر التفسير الصحيح (3/212) .(1/30)
وعفا عن هند بنت عتبة ، وبايعته فيمن بايع من النساء ، وهي منقبة ، وقَبِل إسلامها ، مع ما صنعته بحمزة - رضي الله عنه - ، وقالت : يا رسول الله ! ما كان على ظهر الأرض من أهل خباء أحب إلي أن يذلُّوا من أهل خبائك ، ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي أن يعزُّوا من أهل خبائك ، قال : وأيضًا والذي نفسي بيده(1) .
الصورة الثانية : موقفه من غورث بن الحارث حين أراد قتله :
عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - : أخبره أنه غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قِبَل نجد ، فلمَّا قفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قفل معه ، فأدركتهم القائلة في وادٍ كثير العضاه ، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتفرَّق النَّاس في العضاه يستظلُّون بالشَّجر ، ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت سَمُرة فعلَّق بها سيفه ، قال جابر : فنمنا نومة ، ثم إذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعونا فجئناه ، فإذا عنده أعرابي جالسٌ ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إنَّ هذا اخترط سيفي - وأنا نائم - فاستيقظت وهو في يده صلتًا )) فقال لي : من يمنعك مني ؟ قلت : (( الله ! فها هو ذا جالس )) ، ثم لم يعاقبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) .
وهذا مصداق للعناية الإلهية له - صلى الله عليه وسلم - فقد قال تعالى وجل : { وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (3 : 1390) في كتاب المناقب/ باب ذكر هند بنت عتبة بن ربيعة رضي الله عنها برقم (3613) ، ومسلم في صحيحه (3 : 1339) في كتاب الأقضية/ باب قضية هند برقم (1714) .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه (4 : 1515) في كتاب المغازي/ باب غزوة ذات الرقاع وهي غزوة محارب خصفة من بني ثعلبة من غطفان ، فنزل نخلا وهي بعد خيبر برقم (3905) .
(3) المائدة : 67 .(1/31)
ودلت هذه القصة على ثقته بربه سبحانه وتعالى وأنه يحميه كما وعده ، ثم يأتي فيها دليل على عفوه وعدم مجازاته بالسيئة .
الصورة الثالثة : موقفه من بني المصطلق .
بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ سيد بني المصطلق الحارث بن ضرار يجمعُ لحربه ، فخرج إليه في سبعمئة من المسلمين ، فأظفره الله بهم على ماء يقال له : المريسيع ، فلم يفلت منهم أحد ما بين قتيل وأسير ، واستاقوا إبلهم وأغنامهم غنائم(1) .
__________
(1) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية (ص431-434) ، (دراسة تحليلية ) ، د . مهدي رزق الله أحمد ، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية ، ط الأولى (1412هـ/1992م) .(1/32)
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : لما أصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث - رضي الله عنها - في سهم ثابت بن قيس بن شماس - رضي الله عنه - أو لابن عمٍّ له ، قال : فكاتبته على نفسها ، وكانت امرأة حُلوة ملاحة ، لا يكاد يراها أحد إلا أخذت بنفسه ، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تستعينُه على كتابتها قالت : فو الله ما هو إلا أن رأيتها على باب الحُجرة فكرهتها ، وعرفتُ أنَّه سيرى منها ما رأيتُ ، فقالت : يا رسول الله ! أنا جُويرية ابنة الحارث بن أبي ضرار سيِّدُ قومه ، وقد أصابني من الأمر ما لم يخف عليك ، فوقعت في السَّهم لثابت أو لابن عم له ، فكاتبته على نفسي ، فجئتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أستعينه على كتابتي ، قال : (( فهل لك في خير من ذلك )) ، قالت : ما هو يا رسول الله ؟! قال : (( أقضي كتابتك وأتزوجك )) ، قالت : نعم ، قال : (( قد فعلت )) ، وخرج الخبر في الناس : أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوَّج جُويرية بنت الحارث ، فقال الناس : أصهار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرسلوا ما في أيديهم من سبايا بني المصطلق ، فلقد أعتق تزويجه إيَّاها مئة أهل بيت من بني المصطلق ، فلا نعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها(1) .
__________
(1) أخرجه الحافظ أبو محمد عبد اللَّه بن علي الجارود النيسابوري (307هـ) في المنتقى (ص 176/ برقم 705) ، تحقيق السيد عبد اللَّه هاشم اليماني المدني ، حديث أكادمي ، نشاط آباد ، باكستان ، ط1 ، 1403هـ/1983م .
وأخرجه ابن حبان في صحيحه كما في الإحسان (9/361) ذكر الإباحة للإمام أن يزوج بالمكاتبة إذا جعل صداقها أداء ما كوتبت عليه برقم (4054) .(1/33)
فكان هذا التصرف النبيل منه - صلى الله عليه وسلم - في إكرام هذه المرأة سببًا في العفو عن قومها كلهم ، فلو أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصطفيها لحسنها ، لفعل قبل قسمة الغنائم ؛ ولكن الزواج منها كان لأمر أبعد من ذلك وأسمى ، وهو الطمع في إسلام قومها ؛ وبذلك يكثر سواد المسلمين ، ويعز الإسلام . . إنه الحكمة الدينية البعيدة ، وليست الغرض النفسي القريب(1) .
الصورة الرابعة : موقفه من عبد الله بن أبي بن سلول :
كان عبد الله بن أبي بن سلول مُنافقًا معلوم النفاق ، ولكنه كان من سادات الخزرج ، وله مواقف سيئة من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وكان يُداريه ، رغم مواقفه السيئة الكثيرة ، ففي غزوة أحد رجع بثلاثمئة من الجيش ، معترضًا على قرار القتال خارج المدينة(2) .
وفي غزوة المريسيع ، حدثت حادثة الأفك المشهورة ، وكان له فيه أكبر الدور ذكر الله ذلك في قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَة مِّنْكُمْ ، لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُم ، بَّل هُوَ خَير لَّكُمْ ، لِكُلِّ امْرِئ مِّنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ ، وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (3) .
__________
(1) صور وعبر من الجهاد النبوي (ص200) للدكتور محمد فوزي فيض الله ، دار القلم ،ـ دمشق ، الدار الشامية ،ـ بيروت ، الطبعةـ الأولى ، 1416هـ/1996م .
(2) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية (ص382) .
(3) النور : 11 .(1/34)
وله موقف آخر في هذه الغزوة يرويه جابر بن عبد الله ، قال : كنَّا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزاة ، فكسع رجلٌ من المهاجرين رجلاً من الأنصار ، فقال الأنصاري : يا للأنصار ! وقال المهاجري : يا للمهاجرين ! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( ما بال دعوى الجاهلية )) ، قالوا : يا رسول الله ! كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار ، فقال : (( دعوها فإنها منتنة )) فسمعها عبد الله بن أبي ، فقال : قد فعلوها ، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلُّ ، قال : عُمر دعني أضرب عنق هذا المنافق ، فقال : (( دعه لا يتحدَّث النَّاسُ أنَّ محمدًا يقتل أصحابه ))(1) .
وإنما أبى - صلى الله عليه وسلم - أن يقتله؛ لئلا تتأثر الدعوة إلى الإسلام ، ويسبب ذلك فتنةً بين المسلمين .
ولما بلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي ما قاله والده ، أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسول الله ! إنه بلغني أنك تُريد قتل عبد الله بن أبي؛ فيما بلغك عنه ، فإن كنت لا بد فاعلاً ، فمُرني به فأنا أحمل إليك رأسه ، فوالله لقد علمت الخزرج ، ما كان لها من رجل أبر بوالده منِّي ، وإنِّي أخشى أن تأمر به غيري ، فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس ، فأقتله ، فأقتل مؤمنًا بكافر ، وأدخل النار ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا )) .
الصورة الخامسة : موقفه من قريش يوم الفتح :
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (3/1296) في كتاب المناقب ، باب ما ينهى من دعوى الجاهلية برقم (3330) ، مسلم في صحيحه (4/1998) في كتاب البر والصلة والأدب ، باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما برقم (2584) .(1/35)
لما اتجه النبي - صلى الله عليه وسلم - لفتح مكة أصاب قريش ما أصابها من الرعب والخوف ، فتلقاه جمع منهم بالطريق وأسلموا قبل دخوله عليهم عنوةً ، منهم : أبو سفيان بن حرب في آخرين ، ففتح الله عليه ودخل مكة من أعلاها من جهة كداء ، خاشعًا شاكرًا يقرأ سورة الفتح يرجع قراءتها وهو على راحلته(1) .
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دخل مكة سرح الزبير بن العوام وأبا عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد على الخيل ، وقال : يا أبا هريرة اهتف بالأنصار ، قال : (( اسلكوا هذا الطريق فلا يشرفنَّ لكم أحد إلا أنمتموه )) ، فنادى مناد لا قريش بعد اليوم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( من دخل دارًا فهو آمن ، ومن ألقى السلاح فهو آمن )) ، وعمد صناديد قريش ، فدخلوا الكعبة ، فغص بهم ، وطاف النبي - صلى الله عليه وسلم - وصلى خلف المقام ، ثم أخذ بجنبي الباب ، فخرجوا فبايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام .
وفي رواية : ثم أتى الكعبة فأخذ بعضادتي الباب ، فقال : ما تقولون وما تظنون ؟ قالوا : نقول : ابن أخ وابن عم حليم رحيم ، قال : وقالوا ذلك ثلاثًا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أقول كما قال يوسف : { قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيكُمُ اليَومَ ، يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } (2) )) .
قال : فخرجُوا كأنما نشروا من القبور فدخلوا في الإسلام(3) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (4/1560) في كتاب المغازي ، باب أين ركز النبي - صلى الله عليه وسلم - الراية يوم الفتح برقم (4031) .
(2) يوسف : 92 .
(3) أخرجه أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي (321هـ) في معاني الآثار (3/325) تحقيق محمد زهري النجَّار ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ط2 ، 1407هـ/1987م .
وأخرجه البيهقي في الكبرى (9/118/ برقم 18054) . وإسناده لا بأس به .(1/36)
وفي رواية لابن إسحاق(1) ، قال : (( ما تظنون أني فاعلٌ بكم؟ )) قالوا : خيرًا أخ كريمٌ وابن أخٍ كريمٍ .فقال : (( لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم )) . وفي رواية : (( اذهبوا فأنتم الطلقاء )) . ولذا عرفوا في التاريخ بالطلقاء(2) .
وهذا موقفٌ فريدٌ في التاريخ يدخل في مفاخر نبيِّنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - ، وأمَّتنا الإسلامية ؛ وبهذا فتح الدُّخول للناس في دين الله أفواجًا ، ووفدت عليه العرب فيما يُعرف بعام الوفود في السنة التاسعة من كل بلاد الجزيرة العربية ، وانتشر الدين الإسلامي في أرجائها(3) .
3 - بره ووفاؤه بالعهود والمواثيق :
الوفاء بالعهد من شيم الفضلاء ، وكرام النَّاس ، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يبرُّ ويصلُ ذوي رحمه ، ويفي لهم بحقوقهم عليه . . حتى وإن كانوا مشركين ، وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن حُسن العهد من الإيمان(4) ، ويفسر ذلك ما روت لنا أم المؤمنين عائشة من صنعه مع خديجة أم المؤمنين - رضي الله عنها - ، فقالت : ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة - ولقد هَلَكَت قبل أن يتزوجني بثلاث سنين - لما كنت أسمعه يذكرها ، ولقد أمره ربه أن يبشرها ببيت في الجنَّة من قصب ، وإن كان ليذبح الشَّاةَ ثمَّ يهدي في خلتها منها(5) .
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام (5/74) .
(2) انظر السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية (569) وسمُّوا بهذا في الصحاح . انظر صحيح البخاري برقم (4078) ، وصحيح مسلم برقم (1059) .
(3) انظر السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية (ص639-673) .
(4) أخرجه الحاكم في المستدرك (1/62/ برقم 40) .
(5) أخرجه البخاري في صحيحه (5/2237) في كتاب الأدب ، باب حسن العهد من الإيمان برقم (5658) .(1/37)
وفي رواية : ما غرتُ على أحد من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ما غرتُ على خديجة ، وما رأيتها ، ولكن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُكثر ذكرها ، وربَّما ذبح الشَّاةَ ، ثم يُقطعها أعضاءً ثم يبعثُها في صدائق خديجة ، فربما قلت له : كأنه لم يكُن في الدُّنيا امرأة إلا خديجة ، فيقول : (( إنها كانت وكانت ، وكان لي منها ولد ))(1) .
وعن عائشة - رضي الله عنها - ، قالت : استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فعرف استئذان خديجة ، فارتاع لذلك فقال : (( اللهمَّ هالة )) قالت : فغرتُ ، فقلت : ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشِّدقين ، هلكت في الدَّهر ، قد أبدلك الله خيرًا منها(2) .
وهذه المواقف تنبئ عن شخصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووفائه العظيم ، لأمِّ المؤمنين خديجة التي آمنت به ، ووقفت معه تشدُّ أزره في دعوته ، وواسته بمالها ونفسها .
ويمكن أن نلحظ بعض جوانب هذا الوفاء المؤثرة في مسيرته الدعوية للإسلام من خلال الصور التالية :
الصورة الأولى : موقفه من قرابته المشركين .
من أشهر مواقف بره ما حصل منه تجاه عمه أبي طالب ، إذ بقي عند رأسه وهو في النزع ، وهو يقوله له : (( يا عم ! قل : لا إله إلا الله كلمه أشهد لك بها عند الله )) . فلم يكتب الله له أن يموت على الإسلام .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (3/1389) كتاب فضائل الصحابة ، باب تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - خديجة وفضلها رضي الله عنها برقم (3610) .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه (3/1389) كتاب فضائل الصحابة ، باب تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - خديجة وفضلها رضي الله عنها برقم (3610) .(1/38)
ومع هذا فقد قال : قال : (( أما والله لأستغفرنَّ لك ما لم أنه عنك )) . فنُهي عن ذلك(1) .
ومن ذلك موقفه من قرابته ودعوته لهم ، فعن أبي هريرة قال : لما أنزلت هذه الآية : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } (2) .
دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشًا ، فاجتمعوا فعمَّ وخصَّ ، فقال : (( يا بني كعب بن لؤي! أنقذوا أنفسكم من النَّار ، يا بني مرة بن كعب ؛ أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد شمس ؛ أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد مناف ؛ أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني هاشم ؛ أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد المطلب ! أنقذوا أنفسكم من النار ، يا فاطمة ! أنقذي نفسك من النار؛ فإنِّي لا أملك لكم من الله شيئًا غير أن لكم رحمًا سأبلُّها ببلالها ))(3) .
قوله : (( سأبلها ببلالها )) : يعني أصلها بصلتها الواجبة لها .
الصورة الثانية : موقفه من القتيلين العامريين :
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (1/457) في كتاب الجنائز ، باب إذا قال المشرك عند الموت لا إله إلا الله برقم (1294) ، ومسلم في صحيحه (1/54) في كتاب الإيمان ، باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت ما لم يشرع في النزع وهو الغرغرة ونسخ جواز الاستغفار للمشركين والدليل على أن من مات على الشرك فهو في أصحاب الجحيم ولا ينقذه من ذلك شيء من الوسائل برقم (24) واللفظ له .
(2) الشعراء : 214 .
(3) أخرجه مسلم في صحيحه (1/192) في كتاب الإيمان ، باب في قوله تعالى : { وأنذر عشيرتك الأقربين } برقم (204) .(1/39)
عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاه رعل وذكوان وعصية وبنو لحيان فزعموا أنهم قد أسلموا واستمدوه على قومهم فأمدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبعين من الأنصار قال أنس كنا نسميهم القراء يحطبون بالنهار ويصلون بالليل فانطلقوا بهم حتى بلغوا بئر معونة غدروا بهم وقتلوهم فقنت شهرًا يدعو على رعل وذكوان وبني لحيان(1) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (3/1115) في كتاب الجهاد والسير ، باب العون بالمدد برقم (2899) .(1/40)
وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري ورجل من الأنصار أحد بني عمرو بن عوف فلم ينبئهما بمصاب إخوتهما إلا الطير تحوم على العسكر فقالا : والله إن لهذه الطير لشأنًا فأقبلا لينظرا فإذا القوم في دمائهم فإذا الخيل التي أصابتهم واقفة فقال الأنصاري لعمرو بن أمية : ما ترى ؟ قال : أرى أن نلحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنخبره الخبر ، فقال الأنصاري : لكني ما كنت أرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو ، وما كنت لتخبرني عنه الرجال ، ثم قاتل القوم حتى قتل ، وأُخِذَ عمرو بن أمية أسيرًا ، فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل وجز ناصيته وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه ، فخرج عمرو بن أمية حتى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة أقبل رجلان من بني عامر حتى نزلا معه في ظل هو فيه ، وكان للعامريين عقد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجوار ، فلم يعلم به عمرو بن أمية ، وقد سألهما حين نزلا : من أنتما ؟ قالا : من بني عامر فأمهلهما حتى إذا ناما عدا عليهما فقتلهما وهو يرى أنه أصاب بهما ثأره من بني عامر لما أصابوا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما قدم عمرو بن أمية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبره الخبر ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لئن قتلت قتيلين لأدينهما ))(1) .
__________
(1) أخرجه الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني (360هـ) في المعجم الكبير (20/385/ برقم 841) تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي ، الطبعة الثانية .(1/41)
ولم يكن معه - صلى الله عليه وسلم - ما يدي به هذين القتيلن ، فذهب لبني النضير يستعينهم في ذلك ، وكان بينهم وبين المسلمين عهد ، ولكنهم أرادوا الغدر به وقتله ، فأتاه الوحي ، فانقلب إلى المدينة ، وناجزهم بعد ذلك وأجلاهم من المدينة ، ونص على هذا البخاري بقوله : باب حديث بني النضير ومخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم في دية الرجلين وما أرادوا من الغدر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال الزهري عن عروة : كانت على رأس ستة أشهر من وقعة بدر قبل أحد(1) .
وهذه صورة عظيمة من صور الوفاء ، حيث يُصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه ، ثم يسعى لدية قتيلين مقترضًا من يهود ، فلا يمهل ولا يعطل ولا يُرجئ ، بل يسعى ليقترض في دفع الدية ، وفاءً بما التزم - وليتصور كيف تحاك ضده وهو في أنبل طرق الوفاء ، وصدق التعاقد - ففي هذا الوقت كان اليهود يُبيتون الغدر به ، وبينه وبينهم عهد وميثاق .
يا لله للوفاء العجيب المتسامي إلى القمة ، ولنقض العهد في أبشع صور الخسة والجبن والحقارة(2) .
الصورة الثالثة : موقفه في صلح الحديبية :
__________
(1) صحيح البخاري (4 : 1478) .
(2) صور وعبر من الجهاد النبوي (ص161-162) بتصرف .(1/42)
خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة يريد العمرة ، وذلك بعد غزوة الأحزاب ، التي أراد فيها الكفار القضاء على المسلمين ، انطلق مسالمًا لا يُريد حربًا ، معلنًا استعداده للمهادنة ، حتى كانوا ببعض الطريق ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (( إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة ، فخذوا ذات اليمين )) ، فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش ، فانطلق يركض نذيرًا لقريش ، وسار النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها ، بركت به راحلته ، فقال الناس : حل حل فألحت ، فقالوا : خلأت القصواء . . خلأت القصواء ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل ، ثم قال : والذي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ))(1) .
وكان كذلك فقد صالحهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على شروط لم يرضها بعض المسلمين .
ومما قال عمر بن الخطاب : فأتيت نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : ألست نبي الله حقًّا ؟ قال : بلى . قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال : (( بلى )) ، قلت : فَلِمَ نعطي الدنية في ديننا إذًا ، قال : (( إنِّي رسول الله ، ولست أعصيه ، وهو ناصري )) ، قلت : أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ، قال : (( بلى ، فأخبرتك أَنَّا نأتيه العام ؟ )) ، قال : قلت : لا . قال : (( فإنك آتيه ومطَّوِّف به ))(2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (2 : 978) في كتاب باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط برقم (2581) .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه (2/978) في كتاب باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط برقم (2581) .(1/43)
وقد سمى الله هذا الصلح فتحًا ، إذ نزلت سورة الفتح منصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية ، مفتتحةً بقوله تعالى : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ، لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ، وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا } (1) .
نعم ؛ كان فتحًا ولم يكن ذُلاً ولا دنية ، كما كان يتصور بعض كبار الصحابة ، لأمور منها :
1 - أن هذا الصُّلح أنهى الحرب المستمرة التي بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وكفار قريش ، وهذا هيَّأ المجال للدعوة الإسلامية في مواطن أخرى .
2 - أن قريش اعترفت في هذا الصلح بوجود النبي - صلى الله عليه وسلم - وبدولته .
3 - أنه كان تمهيدًا لفتح مكة ، وكسر شوكة المشركين .
4 - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تفرَّغ لليهود في المدينة ، فطهرها من رجسهم .
5 - فيه اعتراف بحق المسلمين بقصد البيت الحرام وأداء الشعائر فيه .
6 - إقبال الناس على هذا الدين في ظل هذه الهُدنة؛ لأمنهم من الحروب ، والدليل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمئة ، ثم خرج في عام الفتح في عشرة آلاف(2) .
الصورة الرابعة : موقفه من أبي عزة عمر بن عبد الله الجمحي :
__________
(1) الفتح : 1-3 .
(2) انظر صور وعبر من الجهاد النبوي ص (290-292) ، السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية (ص494-496) .(1/44)
عن أبي هريرة قال : قال أبو عزة يوم بدر : يا رسول الله ! أنت أعرف الناس بفاقتي وعيالي ، وإني ذو بنات ، قال : فرقَّ له ومنَّ عليه وعفا عنه ، وخرج إلى مكة بلا فداء ، فلما أتى مكة هجا النبي - صلى الله عليه وسلم - وحرض المشركين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأُسر يوم أحدٍ ، وأتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأمر بضرب عنقه ، قال : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يقول : (( لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ))(1) .
ونلمح في هذا ما كان عليه الصلاة والسلام من الرحمة والرأفة ، ولكنه اتخذ موقف القائد الشجاع ، الذي لا يمكن أن يُخدع مرتين ، ويمثل هذا التربية الصارمة والشدة في موضعها .
الصورة الخامسة : موقفه من حاطب بن أبي بلتعة :
__________
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (6/320/ برقم 12618) . وقال البيهقي : هذا إسناد فيه ضعف وهو مشهور عند أهل المغازي . قلت : وأصل الحديث في الصحيحين دون القصة . أخرجه البخاري في (5/2271) في باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين برقم (5782) . ومسلم في (4 : 2295) باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين برقم (2998) .
والآية هي الأولى من سورة الممتحنة .(1/45)
عن علي - رضي الله عنه - قال : بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا والزبير والمقداد ، فقال : (( ائتوا روضة خاخ؛ فإن بها ظعينة معها كتاب ، فخذوه منها )) ، فانطلقنا تعادي بنا خيلنا ، فإذا نحن بالمرأة ، فقلنا : أخرجي الكتاب ؟ فقالت : ما معي كتاب ، فقلنا : لتخرجنَّ الكتاب أو لنلقينَّ الثياب ، فأخرجته من عقاصها ، فأتينا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة ، يخبرهم ببعض أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( يا حاطب ما هذا ؟! )) قال : لا تعجل عليَّ يا رسول الله ؛ إني كنت امرءًا مُلصقًا في قريش ( قال سفيان : كان حليفًا لهم ولم يكن من أنفسها ) وكان ممن كان معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم ، فأحببتُ إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يدًا يحمون بها قرابتي ، ولم أفعله كفرًا ولا ارتدادًا عن ديني ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( صدق )) ، فقال عمر : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق ، فقال : (( إنه قد شهد بدرًا ، وما يُدريك لعل الله اطلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم )) ، فأنزل الله - عز وجل - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } (1) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (3/1095) في كتاب الجهاد والسير ، باب الجاسوس وقول الله تعالى لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء التجسس التبحث برقم (2845) . ومسلم في صحيحه (4/1941) في كتاب الفضائل ، باب من فضائل أهل بدر - رضي الله عنهم - وقصة حاطب بن أبي بلتعة برقم (2494) واللفظ له .(1/46)
ونلمح في هذه القصة عفوه - صلى الله عليه وسلم - عن حاطب لسابقته في الإسلام ولشهوده بدرًا ، ولكن لم يمنعه ذلك من عتابه على صنيعه ، وكف عنه عمر بن الخطاب الذي طالب بقتله .
ولم يكن - صلى الله عليه وسلم - وهو القائد الرحيم بقاتل رجلاً له سابقة في الإسلام ، فشيمته الوفاء والبر بكلِّ من ناصره .
وفي ختام هذا البحث ، يمكننا إجمال الدروس المستفادة من منهجه الدعوي وحسن تعامله مع الآخرين في الأمور التالية :
1 - ينبغي على الدعاة التأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما لقيه من تكذيب وإيذاء ؛ لأن حكمة الله اقتضت ألا ينتصر الدِّين إلا بتقديم التضحيات الجسام .
2 - لقد كان في حسن معاملته - صلى الله عليه وسلم - للكفار ، وفرحه بإسلام من أسلم منهم ، وعفوه عما بدر منهم في جاهليتهم ، أكبر الأثر في إقبالهم على الإسلام ، وفي هذا عبره لنا جميعًا فيما ينبغي سلوكه مع غير المسلمين في دعوتنا لهم .
3 - لقد كان ما جُبل عليه - صلى الله عليه وسلم - من جميل الأخلاق ، وكريم الخصال ، من صدقٍ في الوعد ، وأداءٍ للأمانة ، ووفاء بالعهد ، سببًا لدخول كثير من النَّاس في الإسلام ، وفي هذا دروس للدعاة إلى الله في وجوب التحلي بأخلاق الإسلام الذي يدعون إليه ، ليكون ذلك أحرى في قبول دعوتهم .
4 - في تواضعه - صلى الله عليه وسلم - وبساطة عيشه ، دليلٌ على أنَّه لم يُرد الدُّنيا وزينتها وصدَّق بفعله دعوته للنَّاس إلى العمل للآخرة ، حيث كان أول العازفين عنها ، ولنا فيه الأسوة الحسنة .
5 - مواقف النبي - صلى الله عليه وسلم - وشجاعته في الحرب كانت سببًا في انتصار المسلمين على الكفَّار في مواطن كثيرة ، حيث كان يثبِّتُهم ويدعو لهُم ، ويُشاركهُم القتال ، فقويت بذلك قلوبهم ، مما جعلهم يفيئون إليه ، وهكذا ينبغي أن يكون القائد المسلم شجاعًا ، لا يخاف ولا يهاب .(1/47)
6 - كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يُريد العلو في الأرض ، ولا الإفساد فيها؛ يدلُّ لذلك تواضعه حال هزيمته للكفار ، فقد دخل مكة متخشعًا متواضعًا شاكرًا لله تعالى ، وفي هذا درسٌ عظيم لما ينبغي أن يكون عليه المسلم ، وأن لا يأخذه الكبر والبطر حال النصر ، أو التفوق في أي ميدان كان .
7 - إنَّ في ما أنفقه عليه الصلاة والسَّلام من أموال في سبيل جلب الناس إلى هذا الدين ، دليل على أن المسلم ينبغي عليه أن يوظف ما آتاه الله من مال لخدمة هذا الدين ، وألاَّ يدَّخر وسعًا في توظيفه في أبواب الخير ، وخاصةً دعوة غير المسلمين .
-(1/48)