موسوعة الحروب الصليبية (4)
الحملات الصليبية
الرابعة، والخامسة، والسادسة، والسابعة
"الأيوبيون بعد صلاح الدين"
د. علي محمد محمد الصَّلاَّبيَّ(/)
الإهداء
إلى كل مسلم حريص على إعزاز دين الله تعالى اهدي هذا الكتاب سائلا المولى عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا أن يكون خالصاً لوجه الكريم
قال تعالى: "فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يُشرك بعبادة ربه أحداً" (الكهف: 111)
د. علي محمد محمد الصَّلاَّبي(1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
"يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تُقاته ولا تُموُتُنَّ إلا وأنتم مسلمون" (آل عمران: 102).
"يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثَّ منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا " (النساء، آية: 1).
"يا أيها الذين ءامنوا اتّقوا الله وقولوا قولاً سديداً * يُصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذُنُوبكم ومن يطع الله ورسوله فق فاز فوزاً عظيما " (الأحزاب، آية: 70، 71).(1/2)
أما بعد:
يا رب لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضى، هذا الكتاب امتداد لما سبقه من كتب درست عهد النبوة وعهد الخلافة الراشدة وعهد الدولة الأموية، وعهد السلاجقة وعصر الدولة الزنكية، ودولة المرابطين والموحدين، وعهد صلاح الدين الأيوبي، والدولة العثمانية وقد صدر منها: السيرة النبوية وأبو بكر وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب والحسن بن علي، ومعاوية بن أبي سفيان وعمر بن عبد العزيز، وفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم، والوسطية في القرآن الكريم، والثمار الزكية للحركة السنوسية، والسلطان محمد الفاتح، والشيخ عبد القادر الجيلاني، والإمام الغزالي، وحقيقة الخلاف بين الصحابة، وفكر الخوارج والشيعة في ميزان أهل السنة والجماعة وعقيدة المسلمين في صفات رب العالمين، وقد سميت هذا الكتاب: الحملات الصليبية الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والأيوبيون بعد صلاح الدين ويعتبر حلقة مهمة في سلسلة الحروب الصليبية والتي خرج منها: السلاجقة والزنكيون وصلاح الدين، والتي نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن تكون لوجهه خالصة ولعباده نافعة، ويطرح فيها القبول والبركة، ويرزقنا حسن القصد وإخلاص النية لوجهه الكريم، ويوفقنا لإكمال الموسوعة التاريخية التي نسعى لإخراجها وهذا الكتاب يتحدث عن استمرار صراع المشاريع بين المشروع الصليبي والمشروع الإسلامي، وظهور المشروع المغولي على مسرح الأحداث، فقد لخص الفصل الأول الأيوبيون بعد صلاح الدين، فتحدث عن أقاليم الدولة والنزاع بين خلفاء صلاح الدين وبين الأخوين الأفضل والعزيز، وتآمر الملك العادل على الأفضل، وجهود القاضي الفاضل في الإصلاح بين البيت الأيوبي والتحالف بين الملك العادل والعزيز ابن صلاح الدين، وجهاد الملك العادل للصليبيين وتشجيع القاضي الفاضل له على التصدي للغزاة وتعرض الكتاب لعهد الملك العادل بالتفصيل فذكر الأحلاف السياسية ضد(1/3)
الأيوبيين في الجزيرة والعلاقات مع الزنكيين في عهد الملك العادل والعلاقات السلجوقية الأيوبية في عهد العادل والعلاقات بين الخوارزميين والأيوبيين، وبين الأيوبيين والفرقة الإسماعيلية، والعلاقات مع الخلافة العباسية وآثار الكتاب الحديث عن الحملة الصليبية الرابعة وسقوط القسطنطينية، وإلى جذور الصراع بين الأمبراطورية البيزنطية وبابا الفتيكان، ومقتل الإمبراطور ميخائيل الثالث وتجدد العداء بين البابوية وبيزنطة والمشكلة الأنطاكية، وجهود البابا أنوسنت الثالث في الحملة الصليبية الرابعة، وبعض المصاعب والمشاكل التي أثرت في مسيرة الحملة، وسقوط القسطنطينية وإقامة إمبراطورية لاتينية والسياسة الخارجية للبابوية والحملات الصليبية، ومسؤولية سقوط القسطنطينية ونتائج الحملة الصليبية الرابعة، ومحاولة الصليبيين السيطرة على بلاد الشام، وفصل الكتاب مجريات الحملة الصليبية الخامسة وموقف أباطرة وملوك أوروبا من الحملة واستعدادت التجهيز، ونزول الصليبيين لدمياط، وبداية العمليات العسكرية والصراع على برج السلسلة ووفاة الملك العادل أخو صلاح الدين، وتحدثت عن دور العلماء والفقهاء في الجهاد في عهد الملك العادل وعن أهم معاهدات الملك العادل مع الفرنج وعن سياسة دول المدن الإيطالية تجاه الأيوبيين وعن أهم الدروس والعبر والفوائد والوفيات في عهد الملك العادل والتي من أهمها؛ غلاء وفناء ووباء بمصر عام 597هـ، وزلزلة عظيمة في سنة 597هـ في بلاد الشام والجزيرة والروم والعراق ووفاة الشيخ أبو الفرج بن الجوزي، ووفاة العماد الكاتب الأصبهاني والحافظ عبد الغني المقدسي وفخر الدين الرازي ومحمد بن أحمد بن قدامة وإبراهيم عبد الواحد المقدسي، وطبيعة البيت الأيوبي في الصراع الداخلي، وإعلان الباطنية رجوعهم إلى الإسلام عام 608هـ، وعمارة قلعة الطور عام 609هـ وتخلل عهد الملك العادل وقفات تربوية وعلمية وتأملات في بعض سنن الله في طبيعة الصراع بين(1/4)
المشاريع وفي الفصل الثاني كان الحديث عن عهد الملك الكامل بن العادل الأيوبي، وجهوده للتصدي للغزاة الصليبيين في الحملة الصليبية الخامسة ومرابطته في العادلية، ومساومات الملك الكامل على القدس، وإعداده لمصر والشام لقتال الصليبيين، وسقوط مدينة دمياط وإضطرار الصليبيين للصلح، وأسباب فشل الحملة الخامسة، منها توفيق الله للمسلمين ثم الخطط العسكرية الجيدة التي وضعها الكامل محمد ونفذها جنوده وتعاون الملوك الأيوبيين، ودعم الجبهة الإسلامية بالمال والرجال والعتاد وإقامة التحصينات الكافية في الأماكن المناسبة، والاختلاف بين الصليبيين، واعتدادهم بالنفس وجهلهم بالوضع الطبيعي لأرض مصر، وعدم استغلال عامل الوقت، والخلافات التي نشبت بين أفراد الجيش الصليبي وغيرها، وتكلمت عن السياسة الأيوبية الداخلية في عهد الملك الكامل ابن الملك العادل، وكيف تولى السلطة وما هي المحاولات التي بذلت لخلعه؟ كمؤامرة ابن المشطوب وتخوف الملك الكامل من الأمراء، وشرحت سياسة الملك الكامل الإدارية والأمنية والقضائية والاقتصادية والمالية وإصلاح النظام النقدي وسياسته التعليمية وأصول ثقافته الدينية، وترجمت لأبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامه من مشاهير عصر الدولة الأيوبية في عهد الملك العادل والملك الكامل، فذكرت علمه ومصنفاته وجهوده في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد النصارى ومكانته وثناء الناس عليه ومنهجه في باب الأسماء والصفات والمحبة عند ابن قدامة والنذر ومسألة الإمامة والجهاد والغزو معهم والصلاة خلفهم وتحريم الخروج عليهم والصحابة، ووصية ابن قدامة، وأشرت إلى الملك الكامل وسياسته العمرانية والحياة الاجتماعية وبعض رجالاته في الدولة وسياسته الخارجية مع الخوارزميين وسلاجقة الروم والأراتقة والتتار والخلافة العباسية وتمّ ترجمت الخليفة العباسي الناصر لدين الله وسياسته المالية والاقتصادية ونظام الفُتُّوة وصحوة الخلافة وتصديها(1/5)
للنفوذ السلجوقي وعلاقته بالخوارزميين والإسماعيلية الشيعية، وعلاقته بحكام بلاد الشام وترجمت للخليفة الظاهر بن الناصر، والخليفة المستنصر بالله في المبحث الرابع من الفصل الثالث تحدثت حديثاً مستفيضاً عن الحملة الصليبية السادسة، وعن شخصية الإمبراطور فردريك الثاني وطموحاته وسير الحملة الصليبية السادسة والمفاوضات بين الملك الكامل والأمبراطور فردريك الثاني وصلح يافا وزيارة الأمبراطور بيت المقدس، وردود فعل الأمة الإسلامية من تسليم بيت المقدس ومعالجة الملك الكامل لموقف المسلمين الرافضين للصلح، وموقف الصليبيين من صلح يافا وذكرت نتائج الحملة السادسة وفي الفصل الثالث تكلمت عن عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب وماذا حدث بعد وفاة الملك الكامل؟ وعن الأحلاف بين بعض الأيوبيين والصليبيين، والخوارزمية واسترداد بيت المقدس والصالح أيوب وتوحيد الدولة الأيوبية وعلاقة الملك الصالح أيوب بالخلافة العباسية، وتطوير الملك الصالح أيوب للجيش الأيوبي واهتمامه بتربية المماليك على تعاليم الدين الإسلامي ودخلت في المبحث الثاني من الفضل الثالث وتركت القارئ وجهاً لوجه مع الحملة الصليبية السابعة وسردت أحداثها بشيء من التفصيل مع وقفات تربوية واستخراج دروس وعبر وفوائد من هذا الحدث الكبير، كوقوع لويس التاسع في الأسر وشروط الصلح وأسباب هزيمة الحملة الصليبية السابعة، كالتطوير العسكري في الجيش الأيوبي ووحدة الصف الإسلامي وأهمية القيادة في أحراز النصر، ونزول العلماء والفقهاء أرض الجهاد، وجهل الفرنجة بجغرافية البلاد الإسلامية، وخطأهم في تقدير العامل الزمني والعصيان وعدم الطاعة في صفوفهم، وانحلال الحملة السابعة خلقياً، وفتور الروح الدينية عند الصليبيين، والتهور وقصر النظر ولخصت أهم نتائج الحملة الصليبية السابعة والتي كانت؛ عجز فرنسا عن تحقيق أهدافها، وأهمية دور المماليك في إفشال الحملة وسندهم التاريخي للوصول للحكم، تميز(1/6)
شجرة الدّر في قيادة الأحداث، تضرر الاقتصاد الأوروبي، والحزن العظيم الذي أصاب الأوروبيين واضطرابات سياسية في أوروبا، تخريب مدينة دمياط عدم الاستجابة للبابا أنوسنت الرابع، انقطاع الإمدادات ضعف الروح الصليبية، وذكرت مقتل تورنشاه وزوال الدولة الأيوبية وفي المبحث الثالث من الفصل الثالث كان الحديث عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام من مشاهير عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب، فتحدثت عن اسمه ونشأته وشيوخه في طلب العلم وتلاميذه ومؤلفاته وسمات التأليف عنده، وأعماله في التدريس والافتاء والقضاء والخطابة وأهم صفاته، كالشجاعة، والزهد والقناعة والورع والتقوى والبلاغة والفصاحة، وأهم محاور التجديد عنده، كسعيه لتقنين أصول الفقه، ومجالات التربية والآداب والتصوف وابداعاته الجميلة فيها وجهاده ثم وفاته وثناء العلماء عليه قديماً وحديثاً وفي المبحث الرابع كان الحديث عن الجدل الثقافي بين المسلمين والنصارى في عهد الحروب الصليبية، فتكلمت عن أهم موضوعات دعوة المسلمين للنصارى كالدعوة إلى التوحيد، وإعتناق الإسلام والإيمان بالقرآن الكريم، ومناقشة عقائد النصارى، كنقض الأمانة، واختلاف الأناجيل، ومناقشة قولهم في المسيح عليه السلام، وإبطال التثليث، ونفي الألوهية عن المسيح، ونفي بنوة المسيح لله سبحانه وتعالى، وإبطال الصلب، ومناقشة شعائر النصارى وطقوسهم، كالتعميد والاعتراف وصكوك الغفران وأعياد النصارى، وصلاة النصارى وصيامهم، وتشريع النصارى في الزواج ومناقشة النصارى في تركهم الختان، وتعظيم النصارى للصور والتماثيل، وحقيقة خوارق العادات لدى النصارى وأهم الشبه التي أثارها النصارى في عصر الحروب الصليبية، كدعوى خصوصية رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بالعرب ودعوى أن القرآن ورد بتعظيم النصارى والثناء عليهم، وشبهات تعدد الزوجات في الإسلام، ودعوى انتشار الإسلام بالسيف ودعوى عدم جزم المسلمين بصحة القرآن الكريم لإختلاف الصحابة(1/7)
في جمعه وتعدد قراءاته وانتقادهم للطلاق في الإسلام، ودعوى أن المسلمين وثنيون كفار، وذكرت جهود القائمين على دعوى النصارى في عصر الحروب الصليبية، من القادة والولاة، وجهود صلاح الدين ونور الدين والملك العادل، ويوسف بن تاشفين في دعوى النصارى ودور العلماء، مثل صالح بن الحسين بن طلحة الجعفري وأحمد بن إدريس القرافي، ومحمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي في قيادة المعركة الثقافية ضد الصليبيين، ووضحت وسائل الدعوة الإسلامية في عصر الحروب الصليبية، من الكتب كالإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام للقرطبي، والأجوبة الفاخرة للقرافي، ووسيلة الجهاد كالتي قام بها عماد الدين ونور الدين وصلاح الدين والملك العادل والمرابطون والموحدون، ووسيلة الرسل، والمسجد، والرسائل، وشرحت أساليب المسلمين في دعوى النصارى، كالأساليب العقلية، من السبر والتقسيم، وقياس الأولى، والقياس المساوي والمحاكمات العقلية، وأسلوب القلب وتناقض الخصوم وأسلوب المقاربة والاستدلال بمسلمات الخصم، والأساليب العاطفية، كأسلوب الترهيب، وأسلوب الاستهزاء والتهكم وأسلوب اللين والتلطف بالخطاب وأسلوب القسم، والأساليب الفنية، كأسلوب ضرب الأمثال، وأسلوب القصة وأسلوب التكرار، وأسلوب الأستفهام وأسلوب التعجب، وأسلوب استخدام الشعر في تأدية بعض المعاني، وبينت آثار دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية، كدخول أعداد كبيرة من النصارى في الإسلام، وتأثر النصارى بعادات المسلمين وأخلاقهم وتقاليدهم، وتحسن نظرة كثير من النصارى للإسلام والمسلمين ونجاح المسلمين في كسب بعض النصارى، وحسن معاملة النصارى لمن تحت أيديهم من المسلمين وظهور عزة الإسلام وتغير التكتيك الصليبي، وإعجاب بعض القادة الأوروبيين بالحضارة الإسلامية، واهتمام كثير من علماء الغرب بثقافة الشرق، وتأثر النصارى باللغة العربية، وفقدان الثقة بالبابا ورجال الدين ولخصت أهم الدروس والعبر(1/8)
والفوائد من دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية والتي من أهمها:
1 - وجوب الحذر من خصوم الإسلام في كل زمان ومكان وإن تغيرت الوسائل وتنوعت الأساليب.
2 - وجوب الدعوة إلى الله على بصيرة، ولا يكون ذلك إلا بوجود العلماء الربانيين.
3 - أهمية التدرج في الدعوة وعدم استعجال النتائج خاصة في المجال الدعوي.
4 - إن المقاومة الهادئة للغزاة على منهج سليم أساس النجاح والانتصار على الأعداء وتحصين الصف الداخلي.
5 - للأقليات الإسلامية في ديار الغرب رسالة هامة، ولذلك علينا الاتصال بها وتقوية العلاقة بيننا وبينها لتحقيق المقاصد المرجوة على المدى الطويل.
6 - إن ثبات المسلمين في ديارهم لمقاومة الغزاة من أهم أسباب بقاء الإسلام فيها، ومن ثم دحر العدو وهزيمته.
7 - كان لحركة التأليف التي قام بها علماء المسلمين أثر كبير في تقرير عقيدة الإسلام وبيان السنة وإبراز محاسن الدين وإبطال شبهات الأعداء حوله بمختلف اللغات.
8 - ظهر مبدأ التخصص في دعوة النصارى والتصدي لشبهاتهم وكان من أبرز العلماء القرافي والقرطبي.
9 - إن الالتزام بالإسلام وأحكامه له تأثير في نشر الإسلام وقبوله عند الآخرين.
10 - خطورة الاختلاف والتناحر على الأمة وأثر الوحدة في عزتها وقوتها وهزيمة أعدائها.(1/9)
11 - عدم القنوط واليأس مهما كبرت الرزايا وكثرت الفتن ونحب أن نبين أنه في الوقت الذي كانت تجري فيه رحى المعارك الحربية بين المسلمين والصليبيين، كان هناك معارك أخرى بين الطرفين في صورة السجال الديني والجدل الثقافي والردود المتبادلة ومحاولة كل طرف إثبات أفضلية معتقدة الديني وقد برز في هذا الجدال والسجال أعلام وقادة من أشهرهم القرطبي والخزرجي والقرافي، وغيرهم، فدافعوا عن ثقافة الأمة وعقيدتها وخلد الله ذكر مساعيهم الحضارية الرائعة التي لا تزال آثارها إلى يومنا هذا ونصر الله بهم الإسلام في المجال الفكري والدعوي وتحقق بهم قول الله تعالى: "ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولوكره الكافرين" (التوبة، 32) قول الله تعالى: "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون" (الصف، آية: 9).(1/10)
وقد لفت نظري أسلوب علماء الأمة في مناصرة الإسلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم في عهد الحروب الصليبية ونحن في أشد الحاجة إليه بحيث تكون مناصرتنا لرسول الله شاملة وفق رؤية استراتيجية متكاملة، ونخرج من موقع المدافع إلى الهجوم حيث أنه خير وسيلة للدفاع، فلنشغل القوم بأنفسهم، وندعوهم إلى الدين الصحيح، والعقيدة السليمة وخاتم النبيين والمرسلين، إن لدى أمتنا رصيداً زاخراً وتراثاً كبيراً، مما كتبه، القرطبي، والقرافي والخزرجي وابن تيمية وابن القيم والجهد المشكور الذي قام به الداعية أحمد ديدات – رحمه الله – وغير ذلك كثير، إذن فلتكن رؤيتنا واستراتيجيتنا لنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وديننا العظيم يقول الشيخ محمد الغزالي في كتابه قدائف الحق: أن القوم لو شغلوا بترهات دينهم، ومضحكات عقيدتهم، لأجهدناهم أي جهد، وشغلناهم كل مشغل (1) وهذا الكلام صحيح ولكنني أذهب إلى دعوتهم والحرص على سلامتهم، والأخذ بأيدي الباحثين عن الحقيقة منهم إلى بر السلام، وعلينا أن نترك أسلوب الدفاع ولنتقل إلى الهجوم على عقائدهم الفاسدة، يقول أبو الحسن الندوي – في تقديمه لكتاب العلامة رحمة الله الكيرانوي (إظهار الحق) مادحاً أسلوبه وخطته الهجومية: وهكذا ظهر هذا الكتاب إلى حيز الوجود ويمتاز بعدة ميزات منها: أن المؤلف آثر خطة الهجوم على خطة الدفاع، التي لا تزال أقوى وأكثر تأثيراً في النفس؛ فإنها تلجئ الخصم إلى أن يتخذ موقف الدفاع وأن يقف في قفص الاتهام ويدافع عن نفسه وينفي التهمة، لذلك لما طبع كتاب العلامة رحمة الله الكيرانوي أثار ضجة كبرى في الأوساط النصرانية والأوروبية ناهيك عما كتبته صحف إنجلترا تعليقاً على هذا الكتاب: لو دام الناس يقرأون هذا الكتاب لوقف تقدم المسيحية في العالم (2).
__________
(1) التنصير، الشيخ أكرم كساب ص 381.
(2) إظهار الحق (1/ 16، 17) التنصير ص 382.(1/11)
وقد اشترى القساوسة كميات كبيرة من طبعات الكتاب، وأتلفوها إحراقاً وإبادة، ليتغيب الكتاب عن السوق (1).
إننا اليوم في حاجة ماسة في إعادة النظر في التعامل مع المشاريع الغازية، سواء صليبية، أو غيرها، ولابد من المواجهة الشاملة وترتيب الأولويات في ذلك فالمشروع الصليبي الفكري والسياسي والاقتصادي والعسكري والثقافي والأعلامي ... إلخ بداية هزيمته في تحقيق انتصارات ساحقة في المجال الفكري والعقدي والثقافي، وهذا يسبق الانتصار العسكري والسياسي، كما بينا في كتبنا السابقة.
__________
(1) التنصير ص 382.(1/12)
هذا وفي المبحث الخامس والأخير، وقفت متأملاً ومتدبراً في أسباب سقوط الدولة الأيوبية والتي كان جامعها الابتعاد عن شرع الله في أمور الحكم، فقد وقع الظلم على الأفراد وتورط بعض السلاطين في الترف، وحدث بينهم نزاع عظيم، سفكت فيه الدماء بين المسلمين وأدى ذلك إلى زوالهم، فعندما يغيب شرع الله تعالى في أمور الحكم – كما حدث للدولة الأيوبية بعد وفاة صلاح الدين – يجلب للأفراد والدولة تعاسة وضنكاً في الدنيا وإن آثار الابتعاد عن شرع الله لتبدو على الحياة في وجهتها الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وإن الفتن تظل تتوالى وتترى على الناس حتى تمس جميع شؤون حياتهم قال تعالى " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم" (النور، آية: 63). لقد كان في ابتعاد سلاطين الأيوبيين بعد وفاة صلاح الدين عن تحكيم الشرع والعقل الذي يقود إليه في نزعاتهم وخلافاتهم آثار على أفراد البيت الأيوبي والأمراء والملوك والدولة، فقد أصيبوا بالقلق والجزع والخوف والشقاق والخلاف ونزع منهم الأمن وأصبحوا في ظنك من الحياة إن هلاك الأمم وسقوط الدول، وزوال الحضارات لا يحدث عبثاً في حركة التاريخ، بل نتيجة لممارسة هذه الأسرة الحاكمة، أو الدولة الظالمة، وأصناف الظلم والجور والانحراف وبعد أن يعطوا الفرصة الكافية حتى تحق عليهم الكلمة فيدفعوا ثمن انحرافهم وإجرامهم وطغيانهم وفسقهم والآيات صريحة في ذلك فالله إذا أنعم على دولة نعمة أيّا كانت فهو لا يسلبها حتى يكفر بها أصحابها قال تعالى: "ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" (الأنفال، آية: 53).(1/13)
والآيات في هذا كثيرة سواء ما يخص الفرد أو الأمة، بل إن القرآن الكريم ليذكر أن بعض ما يصيب الأمم والأفراد من استدراج حين يمهلهم الله تعالى وتواتيهم الدنيا وتفتح عليها خيراتها، فينسوا مهمتهم وما خلقوا له، بل ينسون المنعم جل جلاله وينسون ما عندهم لجهدهم وذكائهم وقد يفلسفون الأمر فيقولون: لو لم نكن نستحق هذه النعم لما منحت لنا وفي هؤلاء يقول تعالى: "فلما نسُوا ما ذُكرُّوا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون * فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين" (الأنعام، آية: 44 - 45). لقد نسى هؤلاء أن الله يمنح خيرات الدنيا لمن يطلبها ويجدّ فيها قال تعالى: "ومن يرُد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يُردِ ثواب الآخرة نؤته منها" (آل عمران، آية: 145) ولكن هناك من يريد الآخرة بحق ويسعى لذلك فهو الفائز: " من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلها مذموماً مدحوراً * ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا * كُلاَّ نُمدُّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظور " (الأسراء، آية 18 - 20).
وقال تعالى: "وضرب الله مثلاً قرية كانت ءامنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون * ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون" (النحل، آية: 112 - 113) ولنستمع لهذه الدعوة الكريمة "ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قّوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين" (هود، آية: 52). فكل إنسان وكل مجتمع وكل أمة مسؤولة عما يصدر عنها، ولا يتحمل أحد جريرة غيره (1) "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسئلون عمّا كانوا يعملون" (البقرة، آية: 134).
__________
(1) التفسير الإسلامي للتاريخ عماد الدين خليل ص 47.(1/14)
والمهم أن الله تعالى لا يحجب نعمة عن أحد، بل يوزعها على المؤمن والكافر، ثم يراقب تصرف الكل فيها، فمن طغى وظلم ومن كفر بها واستعملها استعمالاً سيئاً فإن العقاب العادل سينزل به في الوقت المناسب وقد يطول ذلك العهد قبل نزول العقاب ولكنه يكون في الطريق وبعد هذا وذلك فإنه: "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" (البقرة، آية: 86). ومثل هذا في الأمم والمجتمعات وعلى مستوى الأفراد، فإن الله خلق النفوس ملهما إياها طريق الخير والشر يقول تعالى: "ونفس وما سوّاها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكّاها * وقد خاب من دسّاها" (الشمس، آية: 7 – 10 وقال تعالى: "وهديناه النجدين" (البلد: 10) ومن الملاحظ في دراسة أسباب سقوط الدول والحضارات بأنها لا تسقط بسبب واحد، كما لا تقوم بسبب واحد، بل تتجمع عدة أسباب لقيامها، وعدة أسباب لتدهورها وسقوطها، بعضها يعمل ببطء بينما يعمل البعض بسرعة أكبر، ولا تسقط الدولة أو الحضارة بضربة واحدة، بل يتظافر جملة من العوامل، وهذا ما حدث للدولة الأيوبية التي زالت من الوجود في مصر عام 648هـ وأهم هذه الأسباب في نظري:
1 - توقف منهج التجديد الإصلاحي.
2 - الظلم.
3 - الترف والإنغماس في الشهوات.
4 - تعطيل الخيار الشوري.
5 - النزاع الداخلي في الأسرة الأيوبية.
6 - موالاة بعض الأيوبيين للنصارى.
7 - فشل الأيوبيين في إيجاد تيار حضاري.
8 - ضعف الحكومة المركزية.
9 - ضعف النظام الاستخباراتي.
10 - غياب العلماء الربانيين عن القرار السياسي.
11 - وفاة الملك الصالح أيوب وعدم كفاءة وريثه.(1/15)
وقد شرحت كل سبب من هذه الأسباب في هذا الكتاب وقد انتهيت من هذا الكتاب يوم الخميس الساعة السابعة إلا خمس دقائق ليلاً من تاريخ 25 ربيع الآخر/1429هـ/01/ 05/2008م بالدوحة والفضل لله من قبل ومن بعد، وأسأله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يجعل عملي لوجهه خالصاً ولعباده نافعاً ويشرح صدور العباد للانتفاع به ويبارك فيه بمنه وكرمه وجوده، وأن يثيب إخواني الذين أعانوني من أجل إتمام هذا الجهد المتواضع، ونرجو من كل مسلم يصله هذا الكتاب أن لا ينسى العبد الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه من دعائه "رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليَّ وعلى والديَّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين " (النمل، آية: 19).
وقال تعالى "ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم" (فاطر، آية:2).
وقال تعالى " سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد الله رب العالمين" (الصافات، آية: 180 - 182).
"سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين".
الأخوة الكرام: يسرني أن تصل ملاحظاتم وانطباعاتكم حول هذا الكتاب وغيره من كتبي من خلال دور النشر، وأطلب من إخواني الدعاء في ظهر الغيب بالإخلاص لله رب العالمين، والصواب للوصول للحقائق ومواصلة المسيرة في خدمة تاريخ أمتنا.
Mail: abumohamed2@maktoob.com(1/16)
بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل الأول
الأيوبيون بعد صلاح الدين:
المبحث الأول: خلفاء صلاح الدين:
عندما توفي صلاح الدين وأصبح في ظل رحمة الله، كانت الظروف التي أفرزته لاتزال قائمة، وكانت الأمة الإسلامية في مسيس الحاجة إلى شخصيته المتميزة، وإيمانه الكبير، وعبقريته العسكرية (1) الفذة، وقد ترك دولة مترامية الأطراف تشمل مصر والجزيرة العربية وبلاد الشام والجزيرة الفراتية وخلّف فراغاً لم يستطع أحد من أبنائه السبعة عشر أو إخوانه أن يملأه (2) وظهر خلفاء صلاح الدين الأيوبي على مسرح الأحداث التاريخية وكانوا مختلفين عنه سلوكاً وخلقاً وكان مستواهم العسكري والسياسي، لا يرقى إلى مستواه، ومن هنا ترك صلاح الدين الأيوبي فراغاً سياسياً كبيراً بموته (3).
أولاً: تقسيم أقاليم الدولة: اتسعت شقة الخلاف بين أبناء صلاح الدين الأيوبي على السلطة وتدخل بينهم أصحاب الرأي والمشورة لإصلاح ذات البين واستقر الأمر في البداية على تقسيم الأقاليم على النحو التالي:
1 - ملك الملك الأفضل بن صلاح الدين دمشق والقدس وبعلبك وصرخد وتبنين وبصرى إلى الداروم (4) (دير البلح) حتى حدود مصر (5).
2 - استولى الظاهر غياث غازي بن صلاح الدين على حلب وجميع أعمالها وشمال سوريا كحارم وتل باشر واعزاز ومنيج (6).
4 - أخذ الملك العادل سيف الدين أبو بكر شقيق صلاح الدين والكرك والجزيرة الفراتية (7)، أي حران والرها وسميساط وقلعة جعبر وميافارقين وديار بكر، وكانت هذه المنطقة لا تتناسب مع مكانته وقدراته (8).
__________
(1) صلاح الدين والصليبيون د. أحمد الشامي ص 161.
(2) القدس بين أطماع الصليبيين وتفريط الملك الكامل ص 30.
(3) الداروم قلعة قرب غزة على الطريق المؤدي إلى مصر.
(4) الكامل لابن الأثير (9/ 227).
(5) النجوم الزاهرة (6/ 103).
(6) القدس بين أطماع الصليبيين وتفريط الملك الكامل ص 30.
(7) مرآة الزمان (8/ 279) القدس بين أطماع الصليبيين ص 30.
(8) مفرج الكروب (2/ 378 (القدس بين أطماع الصليبيين ص 30.(1/17)
5 - احتفظ سيف الإسلام طغتكين أخو صلاح الدين باليمن وجزيرة العرب (1).
6 - أخذ الملك الأمجد مجد الدين بهرامشاه بن فرخشاه بعلبك وأعمالها.
7 - استمر الملك المنصور الأول محمد بن تقي الدين عمر في في حكم حماه.
8 - تولي الملك الظافر خضر بن صلاح الدين بصرى من قبل أخيه الملك الأفضل. وكان ثمة بعض البلدان والحصون بأيدي جماعة من أمراء الدولة فاحتفظ كل بولاية إذ استمر عز الدين مسعود الأول الزنكي في حكم الموصل، كما احتفظ أخوه عماد الدين زنكي الثاني في حكم سنجار (2)، وقطب الدين سقمان الثاني الأرتقي في حكم حصن كيفا وآمد (3)، وكذلك تولى ناصر الدين منكوريوس منطقة صهيون (4).
__________
(1) الفتح القسي ص 136 القدس بين أطماع الصليبيين ص 30.
(2) الكامل في التاريخ 09/ 243) القدس بين أطماع الصليبيين ص 31.
(3) القدس بين أطماع الصليبيين ص 31.
(4) المصدر نفسه ص 31 أبو الفداء، المختصر (3/ 63) ..(1/18)
ثانياً: النزاع بين خلفاء صلاح الدين: عندما توفي صلاح الدين حضر أخوه الملك العادل وشارك في تقبل التعازي مع أبناء أخيه، وكان صلاح الدين قد قدم ابنه الملك الأفضل لتولي السلطنة من بعده وبعد انتهاء العزاء طلب الملك الأفضل من بعض الأمراء والمماليك أن يجددوا مبايعته ويحلفوا له يمين الولاء والطاعة، فاشترط بعضهم (1)، أن يكون له خبز يرضيه، وامتنع قسم آخر عن البيعة قائلاً: أنا ليس لي خبز (اقطاع) فعلى أي شيء أحلف؟ وكان بعض العلماء ممن نشأوا في ظل الدولة الصلاحية يتخوفون من أن تصير حال الدولة بعد صلاح الدين إلى الشقاق والنزاع وممن أوجس خيفة من ذلك القاضي الفاضل، فقد كتب إلى الملك الظاهر غياث صاحب حلب، إثر وفاة السلطان، كتاب تعزية جاء فيه: إن وقع اتفاق بينكم، فما عدمتم شخصه الكريم، وإن غير ذلك فالمصائب المستقبلية أهونها موته وهو الهول العظيم (2) ولم تنفع وصية القاضي وأمنية الأصدقاء المخلصين، كما لم تنفع الملك الأفضل تلك المبايعة التي دعا إليها القادة والأمراء في دمشق، بينما كان أبوه يعاني سكرات الموت: معتذراً بأن المرض قد اشتد وما يعلم ما يكون، وما يفعل هذا إلا احتياطاً على جاري عادة الملوك (3)، وتهيأت فرص النزاع بين خلفاء صلاح الدين، وتتابعت مقدماتها فكان من الواضح أن يصيب الملك العادل من ذلك الإرث العظيم فقد كان داهية وليس في البيت الأيوبي من يدانيه في حسن السياسة وكثرة التجربة وبعد النظر (4) واغتنم الفرنج وفاة صلاح الدين وانشغال الأيوبيين بالعزاء فقاموا بخطوة استطلاعية جريئة للتعرف على مدى قدرة خلفاء صلاح الدين على الاحتفاظ بوحدتهم واستولوا على مدينة جبيل وقلعتها عام 590هـ/1194م (5)،
__________
(1) المصدر نفسه ص 31.
(2) خطط الشام (2/ 73) القدس بين أطماع الصليبيين ص 31.
(3) النوادر السلطانية ص 148.
(4) القدس بين أطماع الصليبيين ص 32.
(5) مفرج الكروب (3/ 26) ..(1/19)
وخرج الملك الأفضل وخيم على البقاع ليستخلصه فتعذر ذلك عليه، فقالت الأمراء للملك العزيز: توانيت، فطُرقت البلاد واستولى عليها الفرنج، فحينئذ صمم على الحركة وخرج بمضاربه وجحافله لقصد الشام (1)، وانتهز صاحب الموصل عزالدين مسعود بن مودود زنكي فرصة موت صلاح الدين فتحرك لإحتلال البلاد الشرقية، وعندما علم الملك العادل بذلك اتجه إلى الشرق، وأقام في قلعة جعبر، لشل أي حركة يحاول صاحب الموصل القيام بها (2) تقسيم أقاليم الدولة.
ثالثاً: النزاع بين الأخوين الأفضل والعزيز: خالف الملك الأفضل سيرة أبيه، وأقدم على عدة إجراءات أساءت إليه فكرهه الناس ومن هذه الإجراءات:
1 - خالف نهج والده صلاح الدين في الحكم، فأقصى أمراء والده ومستشاريه بتأثير الوزير ضياء الدين ابن الأثير أخ المؤرخ المشهور، فهربوا إلى القاهرة مستنجدين بالعزيز عثمان الذي رفعهم وأعزهم، فالتقوا من حوله، واعترفوا به زعيماً على الأيوبيين وزينوا له الاستيلاء على دمشق.
2 - بعد اختياره ضياء الدين ابن الأثير وزيراً، تركه يسيء التصرف في أمور الرعية وقد أثار سخط الأمراء بسوء تصرفاته ومضايقاته لهم، كما زين للأفضل التنازل عن بيت المقدس لأخيه العزيز عثمان بذلك وشكر للأفضل علي، ولكن الأمراء ولاة القدس خشوا من محاسبة العزيز لهم، فاتفقوا مع الأفضل علي على بقاء القدس بأيديهم دون الحاجة إلى أمواله، فوافق وكتب إلى أخيه بذلك، فتغير لذلك الملك العزيز عثمان وتكدَّر باطنه وبدأت العلاقة تسوء بين الأخوين.
3 - عجز "الأفضل علي" عن مجابهة الصليبيين الذين أخذوا جبيل (3).
__________
(1) المصدر نفسه (3/ 26).
(2) الكامل لابن الأثير (9/ 229) القدس بين أطماع ص 32.
(3) موسوعة تاريخ العرب العصر الأيوبي ص 246.(1/20)
ويبدو أن الأفضل ساءة سيرته، وضعفت إرادته ولا يصلح أن يتولى السلطنة بعد والده إذ أقبل على اللعب وسماع الأغاني وتظاهر بلذاته (1).
استاء الملك العزيز لسوء تصرف الملك الأفضل وتركه أمر الدولة في يد وزيره (2)، وهم بانتزاع الشام منه إثر تشجيع الأمراء الصلاحية له، وعندما علم الملك الأفضل بذلك هم بمراسلة أخيه العزيز يستعطفه فمنعه وزيره ضياء الدين ابن الأثير وحسن له محاربته، فمال الأفضل لرأي وزيره (3) وزادة الوحشة بين الأخوين (4). قصد الملك العزيز الشام عام 590هـ/1194م فنزل بالقصير من الغور ثم حاصر دمشق، وضيق الخناق عليها، فاستنجد الملك الأفضل بعمه الملك العادل (5) والواضح أن هذا الأخير لم يكن راضياً عن وضعه، ولاسيما وأن نصيبه من الإرث الصلاحي لم يتناسب مع أهمية الدور الذي أدّاه في خدمة الدولة الأيوبية، كما لم يشأ أن يتعجَّل الأحداث عقب وفاة أخيه صلاح الدين، بإعادة توحيد الدولة الأيوبية تحت حكمه، وهو الهدف الذي وضعه نصب عينيه لذلك اتجه بتمهل إلى تحقيق هذا الهدف، وأخذ يتصرف بأناة ريثما تتضح الأمور، وفعلاً أتيحت له الفرصة باستغاثة الأفضل علي، فاستجاب لنداء الاستغاثة، وساند كل من الظاهر غازي صاحب حلب، وناصر الدين محمد، صاحب حماة، وأسد الدين شيركوه الثاني، صاحب حمص، والأمجد، صاحب بعلبك، وكلهم ساندوا الأفضل علي، واتفق الجميع على منع العزيز عثمان من الاستيلاء على دمشق (6): علماً منهم أن العزيز عثمان إن ملكها أخذ بلادهم (7).
__________
(1) السلوك للمقريزي (1/ 36) القدس بين أطماع 33.
(2) كتاب الروضتين (2/ 227) القدس بين أطماع الصليبيين ص 33.
(3) القدس بين أطماع الصليبيين ص 33.
(4) القدس بين أطماع الصليبيين وتفريط الملك الكامل ص 34.
(5) المصدر نفسه ص 33.
(6) الكامل في التاريخ نقلاً عن القدس بين أطماع الصليبيين ص 33.
(7) مفرج الكروب (3/ 29،30).(1/21)
وهكذا تكّون حِلْف أيوبي مناهض لحركة التفرد التي قادها العزيز عثمان انطلاقاً من مصر، عندئذ أدرك العزيز عثمان أنه لا قِبَلَ له بمواجهة قوى التحالف فمال إلى التفاهم، واجتمع بعمه العادل في صحراء المزة غربي دمشق في 24 شعبان سنة 590هـ/15 آب عام 1194م، وقد نصحه عمه بالعودة إلى مصر قائلاً له: لا تخرَّب البيت وتُدخل الآفة، والعدوّ وراءنا من كل جانب وقد أخذوا جَبَلة، فارجع إلى مصر واحفظ عهد أبيك، وأيضاً فلا تكسر حرمة دمشق وتطمع فيها كل أحد، وعاد الملك العادل عنه إلى دمشق، وأقام في منزلته، وبعث العادل إلى العزيز في منزلته، وقدمت العساكر على الأفضل وبعث العادل إلى العزيز يقول له: إرْحل إلى مرج الصُّفَّرة، فرحل وهو مريض وكان قصد العادل أن يبُعده عن البلد ... واشتد مرض العزيز فاحتاج إلى المصالحة، ولولا المرض ما صالح، فأرسل الملك العزيز كبراء دولته فخر الدين إياز جَهَاركس وغيره يحلّف الملوك وطلب مصاهرة عمّه العادل فزوَّجه ابنته الخاتون، ورجع كل واحد إلى بلده، وذلك في شعبان سنة تسع وثمانين (1) وقال العماد الكاتب الأصفهاني: خرج الملوك لتوديع الملك العزيز إلى مرج الصُّفَّر واحد بعد واحد وأوّل من خرج إليه أخوه الملك الظاهر غازي صاحب حلب، فبات عنده ليلة وعاد، فخرج إليه أخوه الأفضل صاحب الواقعة، فقام إليه واعتنقا وبكيا، وأقام عنده أيضاً يوماً وكان قد فارقه منذ تسع سنين فلما عاد كتب إلى العزيز من إنشائه من عدة أبيات:
نَظَرْتُك نظرة من بعد تِسِع ... تقضَّت بالتفرُّق من سنين
وغَضَّ الدَّهُر عنها طرفَ غَدْرِ
مسافة قُربِ طَرْفِ من جبين ... وعاد إلى سَجيَّته فأجرىِ
بفرقَتناِ العيون من العيُون ... فويح الدَّهْرِ لم يَسْمَحْ بِوَصْلٍ
يُعيِدُ به الهُجوعَ إلى الجُفُون ... فراقاً ثم يُعقِبهُ بَبيْنٍ
يُعيدُ إلى الحشَا عَدمَ السُّكون ... ولا يُبْدي جيُوشَ القُرب حتى
__________
(1) النجوم الزاهرة (6/ 122).(1/22)
يُرتَب جَيْشَ بُعدٍ في الكمين ... ولا يُدْنى محلىَّ منك إلا
إذا دارت رحى الحرب الزَّبون ... فليت الدهُر يَسْمحُ لي بأخرى
ولو أمضى بها حُكم المنُون (1)
وقد تقرر وضع ترتيب جديد لحكم الأسرة الأيوبية ويقضي بأن:
- يحتفظ الأفضل علي بدمشق وطبريه وأعمال الغور.
- يتخلى الأفضل علي عن بيت المقدس وما جاوره لأخيه العزيز عثمان.
- يتخلىَّ الأفضل علي عن جبلة واللاذقية لأخيه الظاهر غازي.
- يعترف العزيز عثمان بسيادة الأفضل علي.
ولم يحظ العادل من الصفقة بشيء سوى ما جازه من مكانة بأن أصبح الحكم بين أفراد الأسرة الأيوبية (2).
__________
(1) مفرج الكروب في أخبار بني أيوب (3/ 239).
(2) الكامل في التاريخ نقلاً عن تاريخ الأيوبيين في مصر ص 233.(1/23)
ولما انفصل العساكر عن دمشق شرع الأفضل على عادته في اللهو واللعب، فاحتجب عن الرعية فسُمَّى "الملك النّوام" وفّوض الأمر إلى وزيره ضياء الدين الجَزّرِي وحاجبه الجمال محاسن بن العجميّ، فأفسد عليه الأحوال، وكانا سببا لزوال دولته وهذا الأمر من الآفات التي تصيب بعض الملوك، واستمر الملك العزيز هذا بمصر وأمره ينمو ويزداد إلى سنة تسعين (1) وفيها عاد الاختلاف ثانياً وسببه إغراء الجند والوسائط وكان أكبر المحرضين الأمير عز الدين أسامه - صاحب عجلون وكوكب - الذي فارق الأفضل وانضمّ للعزيز وهو من أجلاء الأمراء الصلاحية، فإنه لما رأى من الأحوال مالا يعجبه فارق الأفضل وتوجه إلى الملك العزيز، ففرح بوصوله إليه وأكرمه غاية الإكرام ولما استقر عز الدين أسامه عند الملك العزيز أخذ في تحريضه على الملك الأفضل، وتقوية عزمه على قصده وأخذ دمشق منه قال له: إن لم تَنصر الدولة الصلاحية خُذلت، وإن لم تصُنها ابتذلت، وأخوك (الملك الأفضل) قد غُلب على اختياره وحكم عليه وزيره الضياء الجزري، وقد أفسد أحوال الدولة، فهو يتصرف فيها برأية الفاسد، ويحمل أخاك على مقاطعتك ومباينتك، فإن أغفيت أُغفلت، وإن أمهلت أهملت، وإن لنت غلظوا، وإن نمت تيقظوا ولا تلتزم باليمين فإن من شرطها صفو الوداد وصحة النيَّة، ولم يوجد ذلك، فحنثهم في أيمانهم قد تحقق وبَرِئت أنت من العهدة، فاقصد البلاد فإنها في يدك قبل أن يحصل للدولة من الفساد مالا يمكن تلافيه (2)، ثم فارق الملك الأفضل الأمير شمس الدين ابن السلار وهو من أكابر الدولة الصلاحية.
__________
(1) النجوم الزاهرة (6/ 122).
(2) مفرج الكروب (3/ 39).(1/24)
وتوجَّه إلى الملك العزيز، فساعد عز الدين أسامة على التحريض على الملك الأفضل، وتقوية عزم الملك العزيز على قصده، ثم وصل إلى الملك العزيز القاضي محي الدين بن الشيخ شرف الدين ابن أبي عصرون، فاحترمه الملك العزيز وولاه القضاء بالديار المصرية، وضم إليه النظر في أوقافها (1) وحث القاضي بن أبي عصرون العزيز على ضم دمشق وقال له: لا تسلم يوم القيامة (2). وبلغ الأفضل قول أسامة وابن أبي عصرون فأقلع عمّا كان عليه وتاب وندم على تفريطه وعاشر العلماء والصلحاء، وشرع يكتب مصحفاً بخطّه وخطّه في النهاية، فلم يُغن عنه ذلك وتحّرك العزيز يقصده، فسار الأفضل إلى عمه العادل (3).
__________
(1) مفرج الكروب (3/ 40).
(2) النجوم الزاهرة (6/ 123).
(3) المصدر نفسه (6/ 123).(1/25)
رابعاً: تآمر الملك العادل على الأفضل:
استغل العادل هذه الفرصة للتدخل في شؤون أبناء أخيه، لتعزيز وضعه على الأرض، فغادر قلعة جعبر إلى دمشق ودخلها قبل عودة الأفضل علي من حلب (1) وبما عُرف عنه من مكر ودهاء راح يبذر بذور الشقاق بين صاحب مصر وأمرائه من الأكراد والأسدية الذين كانوا على جفاء معه بسبب ميله إلى الصلاحية واتفق معهم على نبذ طاعته والدخول في طاعة حكام بلاد الشام (2)، كاتب الملك العزيز سراً يخوفه من الأسدية ويغريه بإبعادهم، وكاتب الأسدية بالتنفير من الملك العزيز وتخويفهم منه واستمالهم إليه، فاستوحش الملك العزيز من الأسدية واستوحشوا منه، فكانوا إذا لقوه عرفوا في وجهه التنكر، وعرف في وجهوههم بمثله وتمادى الأمر إلى أن تمكن الخوف منه في قلوبهم والخوف منهم في قلبه، ولما تمكن الاستيحاش منهم، عزموا على مفارقته وحسَّنوا ذلك للأكراد المهرانية فوافقوهم عليه (3)، فلما علم الملك العزيز بذلك، فما تحلل ولا تزعزع من مكانه، ولا أظهر أرتياعاً لما وقع من هذه الحادثة، بل ثبت مكانه، فقالت الأمراء: الصلاحية دعنا نتبعهم ونقاتلهم ونتركهم عبرة للمعتبر (4). فقال لهم الملك العزيز: لا تُرهبُوهم واتركوهم يذهبوا أين شاءوا لعلنا نصفو من كدرهم، وهذا ليل، ولا يُؤمَنُ فيه الاختلاط، ولا يَعرف الإنسان فيه صديقه من عدوه والأولى الأخذ بالحزم والاحتياط (5).
__________
(1) الكامل لابن الأثير (9/ 492).
(2) تاريخ الأيوبيين في مصر وبلاد الشام ص 234.
(3) مفرج الكروب (3/ 47).
(4) مفرج الكروب في أخبار بني أيوب (3/ 48).
(5) المصدر نفسه (3/ 48).(1/26)
وكان المفارقون للملك العزيز معظم العسكر وثبت الملك العزيز في معسكره بالفَّوار ومعه خواص أصحابه على الخطر وبات تلك الليلة ثابت الجأش والجَنان، وما أظهر أسفاً على فراق مَن فارقه من عسكره، واستدعى رُسل الملوك الذي عنده وأجاب كُلاًّ منهم عن رسالته وخلع عليهم وسَّرحهم (1) وأصبح الملك العزيز راحلاً بمن بقي معه من عساكر إلى الديار المصرية وسار إليها على تيقظ وتحفظ - وحذر - وسلك طريق اللجون والرملة، وخاف من الأسدية المقيمين بالقاهرة، أن يوافقوا أصحابهم الغادرين ويسلكوا سيرتهم في الغَدر به، فقدم بين يديه أمراء على النُجُب وكان نائبه بالقاهرة الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدي فبقى على الصفاء للملك العزيز وخلوص النيّة وتبعه على ذلك من بقى من الأسدية، ووصل الملك العزيز إلى البلاد وأمّن كلَّ من وجده من مُخلفَّي الخارجين عليه وطيب قلوبهم وأكرمهم وأحسن إليهم وأستقر في كرسي مُلكْهَ ومدحه القاضي السعيد ابن سناء الملك بقصيدة ذكر فيها نفاق الأسدية وفراقهم له (2)، منها:
من فرَّ منك فلا يُلامُ ... وشَرِيُد بأسِكَ مَا يَنامُ
وجنابُ عِزَّك ما يُرام ... من الخطوب وما يُضاَمُ
فرت لخوفك غِلمةٌ ... ولربما خاف الغلام
هابوا مَقَامك ذا العظيم ... فلم يكن لهم مقام
وهُمُ الأسُودُ فما لهم ... طاروا كما طار النعام
سَخرِتَ بهم بهم أوهامُهُم ... هُزواً وبالأوهام هاموا
لا ينفعون ولن يَضُرُّوا ... إن مضوا أو إن أقاموا
فلإن عفوتَ فإنما يعفو ... عن الذنب الكرام
وإن انتقمت فإنّ ... أيسر ما استحقوا الانتقام
ما دراهم حَرَمُ ولا في ... الشام صَيْدُهُم حرام
وهم به سكرى وليس ... سوى الهُموم لهم مُدَامُ
إلى أن قال:
ونزيل راحتك الندَّى ... وحليفُ دولتك الدَّوام (3)
__________
(1) المصدر نفسه (3/ 48).
(2) المصدر نفسه (3/ 49).
(3) مفرج الكروب (3/ 50)(1/27)
1 - رحيل الملك العادل والأفضل إلى مصر: قرّر العادل والأفضل علي المضي في خطتهما القاضية في الاستيلاء على مصر، واتفقا على أن يملك الأفضل في مصر ويتخلىَّ عن دمشق إلى عمه العادل، وهذا مطمح طالماً تطلع العادل إلى تحقيقه، لأن دمشق كانت آنذاك قلب الدولة الأيوبية، ومحور العلاقات العامة في الشرق الأدنى الإسلامي، فاستوليا على بيت المقدس، وتابعا زحفهما إلى مصر بمن معهما من الأكراد والأسدية، فوصلا إلى بلبيس وحاصرها (1) وهنا توضحت نوايا العادل بشكل جليَّ، فهو الذي شجع الصراعات بين ولدي أخيه، ويبدو أنه خشي في هذا الدور أن يأخذ الأفضل علي مصر ولا يسلمَّه دمشق وفقاً لبنود الاتفاق المُبرم بينهما وبخاصة أنه كان يشك في نواياه، لذلك أرسل إلى العزيز عثمان سراً يشجعه على الثبات في موقفه، ويتعهد بأن يمنع الأفضل علي من مصر ولا يسلمَّه دمشق وفقاً لبنود الاتفاق المبُرم بينهما وبخاصة أنه كان يشك في نواياه، ولذلك أرسل إلى العزيز عثمان سراً يشجعه على الثبات في موقفه، ويتعهد بأن يمنع الأفضل علي من دخول مصر (2)، وتنفيذاً لهذا التوجه السياسي رفض العادل ما عرضه عليه الأفضل علي من مقاتلة الأمراء الصلاحية في بلبيس، أو تركهم والرحيل إلى مصر للاستيلاء عليها متذرعاً بأنه قد ينتج عن ذلك تشتيت القوى الإسلامية وإضعافها، فيطمع فيها الأعداء، ثم تدخل القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني في التوفيق بين الأخوين بإيعاز من العادل (3).
__________
(1) المصدر نفسه (3/ 52).
(2) الكامل في التاريخ (9/ 493).
(3) تاريخ الأيوبيين في مصر وبلاد الشام ص 234.(1/28)
2 - جهود القاضي الفاضل في الإصلاح: استمر الفقهاء والعلماء في دورهم القيادي البارز في الدولة الأيوبية بعد وفاة صلاح الدين ولم ينقطعوا عن العطاء، وواصلوا مسيرتهم لمساندة أبناء صلاح الدين وتأييدهم ونصحهم لتخطي العقبات التي تعترض طريقهم حفاظاً على وحدة الدولة الأيوبية وسلامتها لتقف صامدة متماسكة أمام التحدي الصليبي بعد فقد عاهلها وقائدها صلاح الدين فقد ظل القاضي ابن شداد بدمشق مع الملك الأفضل يشاوره في جليل الأمور ودقيقها (1)، ويعتمد عليه اعتماداً كبيراً ولكنه تنازل عنه إلى أخيه الملك الظاهر غازي الذي أخذ يرجوه أن يتحفه بالقاضي ابن شداد ليكون عنده بحلب ويتيمن برأيه ويستفيد من خبرته، ولما وصل ابن شداد إلى حلب استقبله الملك الظاهر أحسن استقبال، وفوض إليه قضاء بلاده، وصار أقرب الناس إليه منزلةً، وأعظمهم مكانةً عنده وأصبح له الإقطاع الجليل، والحرمة التي لم يصل إليها أحد من المعممين (2)، وكان ابن شداد طوال إقامته بحلب يعتني بترتيب أمورها وتنظيمها، وجمع بها الفقهاء، واهتم ببناء المدارس الكثيرة بها، حتى أصبحت حلب مقصد الفقهاء، والعلماء من البلاد (3) وكان القاضي الفاضل آنذاك مقيماً بدمشق عند الملك الأفضل، وقد رأى في تصرفاته ما استنكره، مثل وضعه لكل ثقته في وزيره الجديد القاضي ضياء بن الأثير (4)، الذي حسن للملك الأفضل أبعاد أمراء أبيه وأكابر أصحابه (5)،
__________
(1) مفرج الكروب (3/ 3،8).
(2) مفرج الكروب نقلاً عن دور الفقهاء والعلماء ص 172.
(3) دور الفقهاء والعلماء في الشرق الأدنى ص 172.
(4) دور الفقهاء والعلماء المسلمين في الشرق الأدنى ص 172.
(5) مفرج الكروب (3/ 10) ..(1/29)
ولكن الملك الأفضل لم يستجب لنصح القاضي الفاضل وعندئذ عزم القاضي الفاضل عن ترك دمشق والتوجه إلى الديار المصرية، فاستأذنه وتوجه إلى الملك العزيز عثمان بمصر الذي أحسن استقباله وجعله عنده في محل والده، احتراماً وتعظيماً له، لما يعرفه من مكانته، وصار الملك العزيز لا يصدر أمراً إلا عن رأيه ومشورته (1)، وعلى عكس ما كان الملك الأفضل يفعل من استبعاد أمراء الدولة أصحابه، قام الملك العزيز بتقريبهم إليه وأحسن إليهم، فعظم بذلك شأنه، وأجمعوا كلمتهم على نصرتهم وتقرير قواعد ملكه (2). بل شجعوه على أخيه الأفضل الذي وقف عاجزاً أمام تسلم الفرنج لثغر جبيل من بعض مستحفظيه (3)، وكان للقاضي الفاضل دور كبير في فض منازعات البيت الأيوبي في كثير من الأحيان، فكان يخشى عليهم من أطماع الأعداء فيهم، ويصف لنا ابن واصل حالة القاضي الفاضل قائلاً: وكان القاضي الفاضل قد تنزه عن ملابستهم ومخالطتهم، واعتزل بنفسه عنهم لما رأى من اختلال أحوالهم وفساد أمورهم وأحوجه الملك العزيز أن يلبي دعوة عمه الملك العادل ويخرج إليه ليفرج هذه الغمة (4) فركب من القاهرة وخرج إليه ولما علم بذلك الملك العادل، ركب وتلقاه أحسن تلقٍ، واجتمع به، واتفق معه على ما فيه المصلحة الشاملة للكل (5) واستقر الصلح على الشكل التالي:
- أن يقيم العادل بمصر عند العزيز ليقرر قواعد ملكه، وأن يرجع الأفضل إلى دمشق، وتعاهد الجميع على ذلك (6).
__________
(1) المصدر نفسه (3/ 12) دور الفقهاء والعلماء ص 173.
(2) كتاب الروضتين نقلاً عن دور الفقهاء ص 173.
(3) مفرج الكروب (3/ 53) دور الفقهاء ص 173.
(4) المصدر نفسه (3/ 53).
(5) المصدر نفسه (53، 54).
(6) المصدر نفسه (53، 54).(1/30)
وفي الوقت نفسه كان القاضي بهاء الدين بن شداد دور كبير في تهدئة الأمور وفض كثير من المنازعات بين العزيز عثمان صاحب مصر والملك العادل من جانب، والملك الأفضل من جانب آخر (1)، ومما يؤكد استياء القاضي الفاضل وتألمه من هذه الأوضاع وتلك المنازعات التي انجرف فيها أبناء البيت الأيوبي، ذلك الكتاب الفاضلي الذي ذكره أبو شامه، والذي جاء فيه: أما هذا البيت، فإن الآباء منه اتفقوا فملكوا، وإن الأبناء منهم اختلفوا فهلكوا، وإذ غرب نجم فما الحيلة في تشريقه، وإذا بدأ تخريق في ثوب فما يليه إلا تمزيقه، وهيهات أن يسد على قدر طريقه وقد قدر طروقه، وإذا كان الله مع خصم على خصم فمن كان الله معه فمن يقدر عليه (2). ويتضح مما تقدم أن الفقهاء والعلماء كانوا أكثر من أهتم بتصفية الخلافات والمنازعات بين أبناء البيت الأيوبي ليتفرغوا لقضية الجهاد ويكملوا ما بدأه والدهم الناصر صلاح الدين خاصة وأن هؤلاء الفقهاء والعلماء كانوا يدركون بثاقب بصرهم وبسريرتهم النافذة أن العدو الصليبي يراقب بكل دقة وبكل شغف ما يجري على الساحة الإسلامية من منازعات بعد وفاة صلاح الدين، ويترقب اللحظة المناسبة كي ينقض ليسترد البلاد وينتقم من المسلمين (3).
__________
(1) دور الفقهاء والعلماء في المشرق الأدنى ص 174.
(2) كتاب الروضتين نقلاً عن دور الفقهاء والعلماء ص 174.
(3) دور الفقهاء والعلماء في الشرق الأدنى ص 175.(1/31)
3 - التحالف بين الملك العادل والعزيز: عاد الأفضل علي إلى دمشق واستقر العادل في مصر، وقد جعل من نفسه حكماً بين الأخوين المتنازعين، ممّا ممكنه من فرض كلمته عليهما ليصبح سيد الموقف (1) ونزل الملك العادل بأحدى قصور القاهرة وأمر ونهي وحكم وتصرف في كبير الأمور وحقيرها وعزل القاضي محي الدين ابن أبي عصرون عن قضاء الديار المصرية وولى القضاء زين الدين يوسف الدمشقي (2). وأما الأفضل علي فقد لزم الزهد والقناعة، وأقبل على العبادة ولكنه للأسف لم يصحح الخطأ القاتل الذي وقع فيه سابقاً وضيع ملكه حيث أن الأمور كلها بقيت مفوضة إلى وزيره ضياء الدين بن الأثير الجزري، وقد اختلت الأحوال به غاية الاختلال، وكثر شاكوه وقل شاكروه وبلغ ذلك الملك العادل فأنكره وتقرر بينه وبين الملك العزيز الخروج إلى الشام لتمهيد العزيز الملك بمصر، وعَّين الإقطاعات وثمن الارتفاعات وعمَّر الأعمال ووفَّر الأموال (3)
__________
(1) مفردات في عهد الأيوبيين (2/ 916).
(2) مفرج الكروب (3/ 54).
(3) مفرج الكروب (3/ 54،55) ..(1/32)
وكان الملك العادل يؤثر مسير الملك العزيز ليتمكن من أغراضه ولأن العساكر مع اختلافها تجتمع مع الملك العزيز لعلو همته، وسمو قدره، وسماحة يده وسعة صدره، فاجتمع الملك العادل والملك العزيز وأشار عليه أن يسافر بنفسه وقال له ما معناه: إن الدولة الصلاحية بإدارتك صلاحها، وبفلاحك فلاحها، وبنهضتك ينهض جناحها، وبسعدك يسعد نجاحها وإن لم تجتمع الكلمة عليك لم تجتمع كلمة الإسلام، ولم تستقر العصمة من الكفر بالشام، وفي كل بلد من إخوتك سلطان، ما منه لأمرك إذعان، وغداً عند الحاجة إلى الاستنفار والاستنفار، وكلُّ منهم على سِمَةِ النفار، تنزل النوازل والدوائر بالديار، فاستخر الله تعالى وانشط ولدولتك احَتط، وسر مستقبل النصر سارّا، وللجحفل المجرّ جارّا وللدولة الناصرية ناصراً، ولأيدي المتعدي عنها قاصراً، وأنت سلطانناً ونحن الأتباع، والأنصار والأشياع (1)، وسار الملكان: العادل والعزيز إلى دمشق فنازلاها ولم يحدث قتالاً، والملك العادل مظهر أنه على عهده وميثاقه، لم يتغير عنه ولم يَحُلْ، وأنه ليس مقصوده إلا إصلاح ذات البين وانتظام الشمل وكتب الأمراء بدمشق والأكابر متواصلة إلى الملك العادل والملك العزيز، لأن بعضهم كانت قد حصلت عنده نفرة من الملك الأفضل لأسباب وقعت منه ومن وزيره توجب الاستيحاش وبعضهم كوتبوا من جهة الملك العادل والملك العزيز بما طيَّب به قلوبهم وبسط في آمالهم، فكتبوا يحثونهما على معالجة الزحف إلى البلد وانتهاز الفرصة ويعدون من أنفسهم المساعدة وفتح الأبواب لهم (2).
4 - استيلاء الملك العزيز على دمشق: ولما جرى ما ذكرناه من المخابرة، من الأمرءا المقيمين بدمشق وتوثق منهم الملك العزيز والملك العادل ولم يشعر الملك الأفضل إلا وقد دخل الملك العزيز وعمه داخل المدينة، فاضطر إلى قبول ما فرضه عمه وأخوه عليه بحيث:
__________
(1) المصدر نفسه (3/ 55).
(2) المصدر نفسه (3/ 62).(1/33)
- يأخذ الأفضل صرخد الواقعة شرقي بصرى (1).
- ويملك الملك العادل دمشق وأواسط الشام (2).
- يتولى الملك العزيز السلطنة ويذكر اسمه في الخطبة وينقش على السكة وتبقى له مصر وبيت المقدس (3).
ثم تحايل العادل على العزيز عثمان فأخلى له دمشق وأواسط الشام مقابل:
- حصوله على لقب سلطان بني أيوب.
- يستمر في حكمه في مصر وبيت المقدس.
- يذكر اسمه في الخطبة في البلاد الواقعة تحت سيطرة العادل، وينقش اسمه على السكة (4).
__________
(1) مفرج الكروب (3/ 62).
(2) كتاب الروضتين نقلاً عن القدس بين أطماع الصليبيين ص 37.
(3) السلوك (1/ 166) النجوم الزاهرة (6/ 126).
(4) الكامل في التاريخ عن موسوعة تاريخ العرب العصر الأيوبي ص 253.(1/34)
كان قرار الملك العادل مع الملك العزيز أن يقيم الملك العزيز بدمشق، وأن يكون الملك العادل نائباً عنه بمصر، ويفوَّض تدبيرها إليه، فلما ملك العزيز دمشق، وظهرت الأمور وانكشف المستور ندم على ما كان قررَّه مع عمه، فبعث إلى أخيه الملك الأفضل في السر وقال: إذا طلبناك فاثبت على الامتناع، ولا تبذل الرضى لنا إلا بإقامة الخطبة والسكَّة ولا تنزل عن رتبتك، فإني لك الرضا وأفعل ما تريد ويكون امتناعك عذراً عند عمي (1). فلما وصلت الرسالة بذلك إلى الملك الأفضل أظهر هذا السَّر لنصحائه المختصين؛ فقالوا: لا تنخدع بهذا القول، فربما كان هذا خديعة من أخيك .. وهلا كان هذا القول منه قَبلُ في أول الأمر؛ والمصلحة أن تطلع عّمك الملك العادل على هذا السر، فإنه كأبيك في الشَفقة، وعلى كل حال لا يترك بِرَّك، فإذا استشرته أشار عليك بالمصلحة وقد جاء لك من السعادة مالم يكن لك في حساب فإن الملك العادل يحصل له بإطلاعه على هذا الارتياب في الملك العزيز، وتتأكد نفاره منه (2)، فأرسل الملك الأفضل الحاجب جمال الدين محاسن بن عجم الموصلي إلى الملك العادل، فأعاد عليه ما ذكره الملك العزيز، فقامت قيامته وغضب غضباً شديداً، واجتمع بالملك العزيز، وعاتبه أشَّد العتب وقرَّعه التقريع، وقال: أنا أبني وأنت تهدم، وذكر له ما أنهى إليه، فأنكر الملك العزيز ذلك، وحقَّق عند عمه بطلان هذا القول، وأنه لم يرسل إلى الملك الأفضل، ولم يقل له من هذا القول حرفاً، وانحرف عن أخيه الملك الأفضل، وبعث إليه من أزعجه وأحرجه وإلى صَرْخَد أحوجه، وأخذ من الملك الظافر بُصْرى - وكانت بيده - فرحل إلى حلب، فأقبل إليه الملك الظاهر وأحسن إليه، وسار الملك الأفضل إلى صَرْخَد بأهله وحريمه (3)،
__________
(1) مفرج الكروب (3/ 66).
(2) مفرج الكروب (3/ 66).
(3) المصدر نفسه (3/ 67) ..(1/35)
ومعه أخوه الملك المفضل قطب الدين موسى فتسلموها واستوطنوها، وعندما دخل الملك العزيز دمشق، أظهر العدل وأبطل المكوس، وأزال المظالم، واعتقد الناس أن مقامه عندهم يطول، وفرحوا به لما كانوا يعرفونه به من الكرم والبذل، وإقامة منار العدل، ولم يشعروا به إلا وقد تقدم بالتبريز وأجمع على الرحيل إلى الديار المصرية (1).
وكان الملك الأفضل عندما خرج من دمشق بأهله وأصحابه أخرج معه وزيره ضياء الدين بن الأثير مختفياً في صندوق من بعض صناديقه، خوفاً عليه من القتل، وكان قد ترقبه أقوام ليقتلوه فلم يظفروا به (2). وقال عماد الدين الأصفهاني الكاتب: وكنا نظن أن للملك الأفضل مالاً مجموعاً فلم يظهر شيء لسوء تدبير وزيره، فأقام الملك الأفضل بعد خروجه من القلعة نازلاً بمسجد خاتون ووزيره مختفٍ عنده إلى أن هرب إلى الموصل (3) وقال: ومن العجب أن الملك الأفضل مع علمه بشؤم وزيره وأن كل ما هو فيه من النقص بادباره وسوء تدبيره، ضمه إليه وترفرف بجناحه عليه، فأخرجه في قماشه، وسّرحه بريشه ورياشه، وكان أدعى عليه بمال فأقَّر الملك الأفضل بوصوله إلى خزانته، وبرّأه من حسابه وخيانته، وانفصل إلى الموصل بمال دمشق وأعمالها ثلاث سنين، وجمع آلافا مؤلفة ولم يُفرقَّ الأفضل منها مائين (4). وقال: وعهدي بقوم دخلوا عليّ متأسفين على سلامته واستقامة أمره في ظعنه وإقامته، فقلت: إنما سألنا الله تعالى كفاية شره وسوءه لاسواه فقد أبعده الله فلا قرَّب نواه (5).
__________
(1) المصدر نفسه (3/ 67).
(2) المصدر نفسه (3/ 64).
(3) المصدر نفسه (3/ 64).
(4) مفرج الكروب (3/ 65).
(5) المصدر نفسه (3/ 65).(1/36)
5 - رجوع العزيز إلى مصر: سلّم الملك العزيز دمشق إلى عمَّه الملك العادل، ورجل من دمشق عشية يوم الاثنين تاسع شعبان من هذه السنة، (592هـ) فنزل بمسجد القدم ثم أرتحل إلى الكسوة (1)، وسافر بالعساكر إلى الديار المصرية وخرج الملك العادل لوداع الملك العزيز ولما عاد من وداعه أمر فقرئ منشوره بالجامع بتفويض دمشق وأعمالها إليه وكانت مدة مقام الملك العزيز بدمشق بعد أخذها أربعة عشر يوماً وكانت مدة مُلك الأفضل لها ثلاث سنين وأشهراً، وأبقى الملك العادل السكة بدمشق والخطبة للملك العزيز وأشاع أنه نائبه (2).
وفي سنة 593هـ تحركت الفرنج لقصد بلاد الشام، فخرج الملك العادل بالعساكر، فخيم بالقصبة، وهي قريب من صور، وجهَّز إلى بيروت جماعة من العسكر ومعهم الحجارون والنقَّابون، وأمرهم بهدم رَبضَ بيروت ففعلوا وحصَّن عز الدين الدين أسامة القلعة وترك فيها جماعة من الأجناد ليحفظوها (3).
6 - منازلة الأيوبيين للفرنج: كان عز الدين أسامة قد ترك جماعة من الأجناد في قلعة بيروت يحفظونها وذلك بعد أن خرَّب رَبَضها، فخافوا من الفرنج وانهزموا، وبقيت القلعة خالية ليس فيها من يذبُّ عنها، وعلم الفرنج بذلك فملكوها واستولوا عليها فلعن الناس أسامة لتفريطه فيها وقال.
عماد الدين الكاتب:
إن بيع الحصون من غير حرب ... سُنَّةٌ سنَّها ببيروت سامة
لعن الله كلَّ من باع ذا البيع ... وأخزى بخِزْيه من سَامَه (4)
__________
(1) قرية هي أول منازل تنزله القوافل إذا خرجت من دمشق إلى مصر.
(2) المصدر نفسه (3/ 69).
(3) المصدر نفسه (3/ 71).
(4) مفرج الكروب (3/ 74).(1/37)
وسير الملك العادل إلى الملك العزيز يطلب منه النجدة فوصلت إليه العساكر من مصر، ووصل إليه سنقر الكبير - صاحب القدس - وميمون القصرى - صاحب نابلس - ونزل بهم على تل العجول بالقرب من غزة وكان قبل ذلك قد وقع جمع من الفرنج بأجناد في أطراف بلد القدس فقتلوا منهم جماعة، وأسروا جماعة، ورجعوا بغنائم (1) كثيرة ثم قصد الملك العادل بالعساكر يافا، فدخلها عنوة بالسيف وقتل مقاتلتها وأعيان من بها من الفرنج، فامتلأت أيدي المسلمين بالسبى والغنائم وكان هذا الفتح ثالث فتح لها، لأنها فتحت أولاً في أول الفتوح وثانياً وجاء ملك الانكلتير في جموعه فاسترجعها وهذا الفتح في الأيام الناصرية وفتحت هذا الفتح الثالث على يد الملك وفتحت في زمن جمال الدين محمد بن سالم بن واصل صاحب كتاب مفرج الكروب في أخبار بني أيوب في سنة أربع وستين وستمائة على يد الملك الظاهر ركن الدين بيبرس - صاحب الديار المصرية والشام.
__________
(1) المصدر نفسه (3/ 74).(1/38)
ولما جرى ما قام به الملك العادل من فتح يافا عظم ذلك على الفرنج، فقصدوا تِبنْين، وكانت بيد حسام الدين بشارة، فنازلوها بفارسهم وراجلهم وأحدقوا بها وضايقوها ونزل الملك العادل قبالتهم، وبعث إلى الملك العزيز يحثه على الخروج إليه بنفسه، فتقدم الملك العزيز إلى من عنده من العساكر بالخروج وسار في آخرهم لا يلوي على شيء حتى وصل إلى تِبْنين واجتمع بعمه الملك العادل على مناجزتهم ساعة وصوله، فمنعه من ذلك عمّه الملك العادل، فلما جُنَّ الليل رحل الفرنج عن تبنين عائدين إلى صور وسار في أثرهم الملك العزيز والملك العادل بالعساكر يلتقطون من ظفروا به منهم وغنموا شيئاً كثيراً من عسكرهم وأمر الملك العزيز بنقل الغلال إلى تبنين وإصلاح ما تهدم بالمنجنيقات من أسوارها (1) ثم أبقى الملك العزيز العساكر برمتها عند عمه الملك العادل، وجعل إليه أمر الحرب والصلح وعاد إلى مصر في جمع قليل ولما قدم الملك العزيز مصر مدحه القاضي السعيد بن سناء الملك بقصيده هنأه فيها بالنصر والقدوم أولها:
قدمت بالسْعِد وبالمغنم ... كذا قدوم الملك المقَّدم
يا قاتل الكُفر واحزابه ... بالسيف والدينار والدرهم
قميصك الموروث عن يوسف ... ما جاء إلا صادقاً في الدمِ
أغثتَ تِبنْين وخلصَّها ... فريسة من مَاضِغَى ضَيْغَم (2)
ومنها:
ولا عدم الإسلام عثمانه ... مُصْطلَىِ الداهية الصَّيْلَمِ
شِنْشِنَةٌ تُعرف من يُوُسفٍ ... في النصرِ لا تعرف من أخزمِ
ثم انثنى من وجهه ظافراً ... والسيف لم يُثْلَب ولم يُثْلَمِ
وجاء لما جاءنا بالحيَا ... وعاد لما عاد بالأنعْمُِ
مَقْدِمُهُ صار جُمادى به ... كمثل ذي الحجة ذا موسم (3)
__________
(1) مفرج الكروب (3/ 76).
(2) المصدر نفسه (3/ 77).
(3) المصدر نفسه (3/ 77).(1/39)
وأقام الملك العادل يوالي الغارات على الفرنج، ويقصدهم بنفسه وجموعه مرة بعد أخرى، إلى أن أضجرهم وأسأمهم فراسلوه في طلب الصلح فأجاب إليه وحلّف أمراء عسكره لهم، وأنفذ إلى مقدمي الفرنج من استخلفهم واستقرت الهدنة ثلاث سنين، وأمن الناس شرَّهم، ورجع الملك العادل إلى دمشق، وتفرقت الجند جميعها إلى بلادها (1).
__________
(1) مفرج الكروب (3/ 78).(1/40)
7 - القاضي الفاضل يحث الملك العادل على الجهاد: عندما أعاد الصليبيون سيطرتهم على بيروت للمرة الثانية عام 593هـ/1197م، مما ترتب عليه إغارات شديدة ضدهم من قبل المسلمين بقيادة العادل سيف الدين انتقاماً مما فعلوه في بيروت - كما مرّ معنا - نجد القاضي الفاضل يبادر بإرسال رسالة من مصر إلى الملك العادل في دمشق يحثه فيها على مواصلة القتال ضد الصليبيين، ويشكره في نفس الوقت على جهوده في محاربتهم في البلاد الساحلية وهنا نرى القاضي الفاضل يقوم بدور تحريضي وتعبئوى، فقال: وقد تجدد من وصول العدو اللعين وحركته إلى جانب بيروت وخطر البلاد ما أذهل كل مرضعة، وأوقع في ضائقة نتفق الأفكار فيها من سعة، وللإسلام اليوم قدم، إن زلت زل وهمة إن ملت فإن النصر منه مل، وتلك القدم القدم العادلية، وتلك الهمة الهمة المسابقة السيفية، فالله الله ثبتوا ذلك الفؤاد، ودمثوا ذلك المهاد، وأسهروا في الله فليست بليلة رقاد، ولا ينظر في حديث زيد ولا عمرو، ولا أن فلاناً نفع ولا ضر، ولا أن من الجماعة من جاء ولا أن فيهم من مر، انظروا إلى أنكم الإسلام كله قد برز إلى الشرك كله وإنكم ظل الله فإن صححتم تلك النسبة فإن الله لا ناسخ لظله واصبروا إن الله مع الصابرين، ولا تهونوا وإن ذهب الناصر فإن الله خير الناصرين، فما هي إلا غمرة وتنجلي، وهيعة وتنقضي وليلة وتصبح وتجار وتربح (1)
__________
(1) كتاب الروضتين (4/ 438) ..(1/41)
ثم أعاد القاضي الفاضل وأرسل رسالة أخرى إلى الملك العادل يحثه فيها على عدم الملل من المرابطة أمام العدو ويهون عليه مشقة الحرب ضد الصليبيين، وما ينفقه من تكاليف على هذه الحرب مبشراً أياه بأن الله سوف يجزي خيراً المحسنين الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله فقال له: فلا يسأم مولانا نية الرَّباط وفِعلها، وتجشُّمَ الكُلفِ وحملها فهو إذا صرف وجهه إلى وجه واحد هو وجه الله صرف الله إليه الوجوه كُلَّها (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبُلنا وإن الله لمع المحسنين) "العنكبوت، آية 69).
ومن كتاب له آخر إلى الملك العادل يحثه على قتال الفرنج ويشكره على ما هو بصدده من محاربتهم، وحفظ حوزة الإسلام ويذكره بالله واليوم الآخر ويرغبه بالأجر والثواب من الله فمن ذلك قوله: هذه الأوقات التي أنتم فيها عرائس الأعمار، وهذه النفقات التي تجري على أيديكم مهور الحور في دار القرار، وما أسعد من أودع يد الله ما في يديه، فتلك نعم الله عليه، وما أسعد من أودع يد الله ما في يديه، فتلك نعم الله عليه، وتوفيقه الذي ما كلُّ من طلبه وصل إليه، وسواد العَجاج في هذه المواقف بياض ما سوّدته الذنوب من الصَّحائف، فما أسعد تلك الوقعات وما أعود بالطُّمأنيتة تلك الرّجفات (1)، فقد كان القاضي الفاضل حاضراً في تلك المشاهد بقلمه وتوجيهاته وحثه وتذكيره للملك العادل.
__________
(1) البداية والنهاية (16/ 676).(1/42)
8 - وصف القاضي لسحاب فيه ظلمات متكاشفة وبروق خاطفة:
في عام 593هـ ورد كتاب من القاضي الفاضل إلى ابن الزكي يخبره فيه أن في ليلة الجمعة التاسع من جمادي الأخرة أتى عارض فيه ظلمات متكاثفة وبروق خاطفة، ورياح عاصفة، فقوى لهُوبُها، واشتَّد هبُوُبها فتدافعت لها أعنّةٌ مطلقات وارتفعت لها صَعَقات فرجفت لها الجُدران واصطفقت، وتلافت على بُُعدها واعتنقت وثار بين السماء والأرض عجاج فقيل: لعلّ هذه على هذه قد انطبقت، ولا تحسب إلا أن جهنّم سال منها وادٍ وعدا منها عادٍ، وزاد عصف الريح إلى أن أطفأ سُرُجَ النُّجوم، ومزقت أدِيَم السماء ومحت ما فوقه من الرقوم فكنّا كما قال الله تعالى: "يجعلون أصابعهم في ءاذانهم من الصواعق" (البقرة:19) وكما قلنا: يَردُّون أيديهم على أعينهم من البوارق لا عاصم من الخطف للأبصار ولا ملجأ من الخطب إلا معاقل الاستغفار، وفَّر الناس نساءً ورجالاً وأطفالاً ونفروا من دورهم وخِفافاً وثقالاً لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، فاعتصموا بالمساجد الجامعة، وأذعنوا للنازلة بأعناق خاضعة بوجوه عانية ونفوس عن الأهل والمال سالية، ينظرون من طرفٍ خفي ويتوقعون أيَّ خطب جَلىَّ، قد انقطعت من الحياة عُلقَهم (1)
__________
(1) العُلَقُ: جمع علقه وهي ما يتبلغ به ..(1/43)
وعميت عن النجاة طرقهم ووقعت الفكرة فيما هم عليه قادِمون، وقاموا إلى صلاتهم وودُّوا لو كانوا من الذين هم عليها دائمون، إلى أن أذن الله في الركود وأسعف الهاجدين بالهجود، وأصبح كلُّ يُسَلَّمُ على رفيقه، ويُهنَيهَّ بسلامة طريقه ويرى أنه قد بُعث بعد النفخة وأفاق بعد الصيحة والصرخة وأن الله قد ردّ له الكرة، وأحياه بعد أن كاد يأخذه على غّرة ووردت الأخبار بأنها قد كسَرتِ المراكب في البحار والأشجار في القفِار وأتلفت خلقاً كثيراً من السُّفَّار، ومنهم من فرَّ فلم ينفعه الفرار إلى أن قال: ولا يحسب المجْلِسُ أنَّى أرسلتُ القلم مُحَرَّفا والقول مُجرَّفاً فالأمر أعظم ولكنّ الله سِلَّم ونرجو أن الله قد أيقظنا بما وعظنا ونبَّهنا بما وَلَّهنا، فما من عباده من رأى القيامه عياناً ولم يلتمسِ عليها من بعد ذلك بُرهانا إلا أهل بلدنا، فما قصَّ الأوَّلون مثلها في المثلات، ولا سبقت لها سابقة في المعضلات والحمد لله الذي من فضله أن جعلنا نُخبرُ عنها ولا تُخبُر عنَّا ونسأل الله أن يصرف عنا عارِض الحرص وَالغرور إذا عنَّا (1).
9 - وفاة ملك اليمن سيف الإسلام طغتكين: في عام 593هـ توفي سيف الإسلام أخو السلطان صلاح الدين وكان قد جمع أموالاً جزيلة جّداً وكان يسبك الذًّهب مثل الطواحين ويدَّخره كذلك (2)، وكان ملكاً جواداً ممُدَّحاً وممن مدحه من الشعراء، شرف الدين بن عُنَيْن ومن مدائحه فيه قصيدة منها:
دمشق وبي شوق إليها مبُرَّحُ ... وإن لام واشٍ أو ألَحَّ عذول
ب ... بلاد بها الحصباء دُرٌ وتربها
عبير وأنفاس الشمال شَمُولُ ... تسلل منها ماؤها وهو مطلق
وصَحَّ نسيم الروْضِ وهو عليل
ومنها:
وكيف أخاف الفقَر أو أُحرَمَ الغنى ... ورأىُ ظهير الدين فيَّ جميل
مِنَ القَوْمِ أما أحنفٌ فمُسَفَّهُ ... لديهم وأما حاتم فبخيل
فتى المجِد أما جارُه فممُنعٌ ... عزيزٌ وأما جندُّهُ فذليل
__________
(1) البداية والنهاية (16/ 675).
(2) المصدر نفسه (16/ 677).(1/44)
وأما عطايا ماله فمباحة ... عِذابٌ وأما ظِلهُّ فظليل (1)
وقد قام في الملك بعده ولده إسماعيل وكان أهوج قليل التدبير، فحمله جهلهُ على أن أدَّعى أنه قرشي أموِىُّ وتلقب بالهادي، فكتب إليه عمه العادل ينهاه عن ذلك ويتهدده بسبب ذلك، فلم يقبل منه ولا التفتَ إليه، بل تمادى في ذلك وأساء إلى الأمراء والرَّعيّة، فقُتِل وتولّى بعده مملوك من مماليك أبيه (2).
10 - محاصرة الفرنج لتِبنْين عام 594هـ: في هذا العام جمعت الفرنج جمُوعها وأقبلوا فحاصروا تِبْنين، فاستدعي العادل بنى أخيه لقتالهم، فجاءه العزيز من مصر والأفضل من صرخد، فأقلعتِ الفرنج عن الحصن وبلغهم موت ملك الألمان فطلبوا من العادل الهُدنة والأمان فهادنهم ورجعت الملوكُ إلى أماكنها، وقد عظم المعُظَّم عيسى بن العادل في هذه المدة واستنابه أبوه على دمشق وسار إلى ملكه بالجزيرة، فأحسن فيهم السيَّرة (3).
11 - وفاة عماد الدين زنكي بن مودود صاحب الموصل: 594هـ
كان من خيار الملوك وأحسنهم شكلاً وسيرة، وأجودهم طوية وسريرة وكان شديد المحبة للعلماء ولاسيما الحنفية وقد ابتنى لهم مدرسة بسنجار وشرط لهم طعاماً يطبخ لكل واحد منهم في كل يوم، وهذا نظر حسنٌ، والفقيه أولى بهذه الحسنة من الفقير، لاِشِتغال الفقيه بتكراره ومُطالعته عن الفكر فيما يُقِيته، فغدا على أولاده ابنُ عمَّه صاحب الموصل، فأخذ الملك منهم، فاستغاث بنوه بالملك العادل، فَردَّ فيهم الملك، ودرأ عنهم الضَّيْمَ واستقرت المملكة لولده قطب الدين محمد، ثم سار العادل إلى ماردين، فحاصَرها في شهر رمضان فاستولى على رَبَضِها ومُعَامَلتِها وأعجزته قلعتها، فصاف عليها وشتا وما ظن أحدُ أنه تَملكَّها، حتى هنَّته الشعراء بذلك؛ لأن ذلك لم يكُن مثبوتاً ولا مقدَّرا (4).
__________
(1) مفرج الكروب (3/ 72).
(2) البداية والنهاية (16/ 678).
(3) المصدر نفسه (16/ 680).
(4) البداية والنهاية (16/ 681).(1/45)
12 - وفاة الأمير عزُّ الدين جُرْديك عام 594هـ:
كان من أكابر الأمراء في زمان نور الدين وكان ممَّن شَرِكَ في قتل شاور وحظي عند صلاح الدين، وقد استنابه على القدس حين افتتَحها، وكان يَسْتنِد بُه للمُهّمِات الكبِار فيسدُّها بنهضته وشجاعته، ولما ولي الأفضل عَزله عن بيت المقدس، فترك بلاد الشام وانتقل إلى الموصل، فمات بها في هذه السنة (1).
خامساً: وفاة الملك العزيز بن صلاح الدين:
هو السلطان الملك العزيز، أبو الفتح، عماد الدين، عثمان بن السلطان صلاح الدين بن أيوب صاحب مصر، ولد في سنة سبع وستين وخمس مئة في جُمادى الأولى وحدّث عن: أبي طاهر السَّلفىَّ، وابن عوف، عاش ثمانياً وعشرين سنة، مات في العشرين من المحرَّم سنة خمس وتسعين وخمس مئة (2) وكان العزيز شاباً، حسن الصورة، ظريف الشمائل، قوياً، ذا بطشٍ، وأيدٍ وخفة حركة، حَييّاً، كريماً، عفيفاً عن الأموال الفروج بلغ من كرمه أنه لم تبق له خزانة ولا خاصٌّ ولا فرس وبيوت أمرائه تفيض بالخيرات وكان شجاعاً مقداماً (3) وكانت مدة حكمه لمصر أقل من ست سنين بست وثلاثين يوماً (4). ومن المعروف أن العزيز عثمان ولد بالقاهرة، فهو يمثل أول حاكم من البيت الأيوبي يولد بمصر ويتولى حكمها ومع أن مصر بقيت في عهد العزيز عثمان، كما كانت على عهد أبيه صلاح الدين الأيوبي، من حيث كونها قلب الأمة الإسلامية، إلا أنها تأثرت في أحوالها الاقتصادية إلى حد كبير لعدة أسباب من أهمها:
- انخفاض فيضان النيل 592هـ/1194م وما ترتب على ذلك من نقص في الغلال، وكثر الزحام في الأسواق طلبا للخبز ولكنه كان قليلاً.
__________
(1) البداية والنهاية (16/ 683).
(2) سير أعلام النبلاء (21/ 292).
(3) المصدر نفسه (21/ 293).
(4) كتاب الروضتين نقلاً عن صلاح الدين والصليبيون ص 171.(1/46)
- فشت الأوبئة والأمراض، فهلكلت المواشي، وكثرت الأموات طرحى على الطرقات، وزاد عددهم في القاهرة في كل يوم عن مائتي نفس وبقى بمصر من لم يوجد من يقوم على كفنه ودفنه، وكان أكثرهم يموت جوعاً (1) ويبدو لنا أن ما حدث من نزاع في البيت الأيوبي بين العزيز عثمان وأخيه الأفضل علي، ومكائد ودسائس عمهما الملك العادل التي زادت من شقة الخلاف بينهما لصالحه الذاتي، شغلت العزيز عثمان عن وضع حد لتلك الضائقة الاقتصادية، ولم تساعده على تفادي هذه الكارثة التي أثرت تأثيراً كبيراً في حياة المصريين اجتماعياً واقتصادياً (2).
1 - سبب وفاته: توفي الملك العزيز بداره بالقاهرة وكان على عَزْمِ الصَّيد في أعمال الفيُّوم، فخَيَّم تلك الليلة عند الأهرام فقيل، إنه أصبح وركض خلف صيد، فكبابه، الفرس مّرة بعد أخرى، .. فتفاقم ألمه، وأقام يومين أو ثلاثة لا يستطيع له مخلوق إعانة ولا إغاثة ثم حُمَّ حِمامُهُ، وأظلمت بفجيعته أيامه، وقبر في دار، لينقلَ منها إلى دار قراره (3).
__________
(1) صلاح الدين والصليبيون ص 172.
(2) المصدر نفسه ص 172.
(3) كتاب الروضتين (4/ 444).(1/47)
2 - تعزية الملك العادل من القاضي الفاضل: ورد كتاب القاضي الفاضل تعزية به للملك العادل: أدام الله سُلْطان مولانا الملك العادل، وبارك في عمره، وأعلى أمره بأمره وأعزَّ نصر الإسلام بنصره، وفدت الأنفس نفسه الكريمة وأصغر الله العظائم بنعمته فيه العظيمة وأحياه الله حياة طيبة، يقف هو فيها والإسلام في مواقف الفتوح الجسيمة وينقلب عنها بالأمور المُسَلَّمة والعواقب السَّليمة، ولانقَّض له رجالاً ولا عدداً، ولا أعدمه نفساً ولا ولداً، ولا قَصَّر له ذيلاً ولا يداً ولا أسْخَنَ له قلباً ولا كبداً ولا كدَّر له خاطراً ولا مورداً ولما قدّر الله ما قَّدرَ في الملك العزيز رحمة الله عليه وتحيَّاته مكرَّرة إليه من انقضاء مَهلِهِ، وحضور أَجَلِه، كانت بديهة المُصاب عظيمة، وطالعة المكروه أليمة، فرحم الله ذلك الوجه ونضَّره، ثم السَّبيل إلى الجنة يسره
وإذا محاسنُ أوجه بَليتَْ ... فعفا الثَّرى عن وجهه الحَسَنِ(1/48)
فأعْززْ على الملوك وعلى الأولياء، بل على قلب مولانا - لاَ سلبه الله ثواب العزاء - بسرعة مصرعه وانقلابه إلى مضجعه ولباسه ثوب البِلَى قبل أن يَبْلَى ثوبُ الشباب وزفَّه إلى التراب وكانت مدة المرض بعد العود من الفيُّوم أسبوعين، وكانت في الساعة السابعة من ليلة الأحد العشرين من المحَّرم، ووجع أطراف وغليل كَبدِ وقد فجع بهذا المولى والعهد بوالده - رحمه الله - غير بعيد والأسى عليه في كل يوم جديد (1). وقد وصل قبل هذا إلى العماد كتاب من القاضي الفاضل فيه: وأنا على ما يعلمه من العُزلة إلا أنّها بلا سكون، وفي الزاوية المسنوُنة لأهل العافية إلا أني على مثل حدَّ المنون، وكيف يعيش العاقل في الزَّمان المجنون؟ ونحن على انتظار البرق الشامي أن يمُطر، وحاش ذِِمَّةِ الوعد به أن تُخْفَر واشتغال سَيَّدنا في هذا الوقت باَلدَّرس والتدريس والتصوير والتكييف والتصانيف التي تُصرف فيها البلاغة أحسن التصاريف نعمة عين شُكرُها على العلماء، ويختص باللَّذة بها سادتهم من الفُقهاء (2).
__________
(1) كتاب الروضتين (4/ 445).
(2) المصدر نفسه (4/ 445).(1/49)
3 - الملك العزيز والقاضي الفاضل: لما قصد الملك العادل والملك الفاضل الملك العزيز ونازلاً بلبيس وحاصراها، وأشرف ملكه على الزوال بذلت له الرعية أموالاً ليذبَّ بها عن نفسه فامتنع مع شدة حاجته في ذلك الوقت إلى الملك وأشير عليه بأن يقترض من القاضي الفاضل، فإن أمواله عظيمة، وهو غير محتاج إليها، فامتنع من مخاطبة القاضي الفاضل في ذلك، فألحوا عليه في ذلك حتى أجاب وأرسل إلى القاضي الفاضل يستدعيه، فحَضر وكان الملك العزيز في منظره من دار الوزارة مطلة على الطريق، فلما رأى القاضي الفاضل مقبلاً لم يتمالك من شدة الحياء ودخل إلى دار الحرم فراسلت الأمراء الملك العزيز وشجعوه حتى خرج واستدعى القاضي الفاضل وقال له - بعد أن أطنب في الثناء عليه والتقريظ له -: قد علمت أن الأمور قد ضاقت عليّ وقلَّت الأموال عندي وليس لي إلا حسن نظرك وإصلاح الأمر لنا بمالك أو برأيك أو بنفسك. فقال له القاضي الفاضل: جميع ما أنا فيه من نعمتكم، ونحن نقدم أولاً الرأي والحيلة ومتى احتيج إلى المال فهو بين يديك (1).
__________
(1) مفرج الكروب (3/ 85).(1/50)
ولقد حُكي عنه ما هو أبلغ من هذا وأحسن، وهو أن عبد الكريم البيساني أخا القاضي الفاضل كان يتولى الحكم والإشراف بالبحيرة مدة طويلة، وحصَّل من ذلك أموالاً جليلة وكان الناس يحترمونه لأجل القاضي الفاضل، فجرت بينه وبين أخيه نَبْوةٌ أوجبت اتضاع حاله عند الناس، فصرف عن عمله وكان متزوجاً بامرأة من قومٍ ذوي قدر ويسار، يعرفون ببني ميسَّر، فلما صُرف عن عمله انتقل إلى الإسكندرية ومعه زوجته، فضايقها وأساء عشرته معها لسوء خلق كان فيه واتصل ذلك بأبيها، فتوجه نحو الإسكندرية، وأثبت عند حاكمها ضررها، وأنه قد حصرها في محل ضيق من داره، فمضى القاضي بنفسه إلى الدار التي فيها الزوجة، ورام فتح الباب الذي هي فيه فلم يقدر عليه، فأحضر شهوداً، وأحضر نقّابا، فنقب جانب الدار، واستخرج المرأة وسُلمت إلى أبيها ثم أحضر بنَّاءً فسد ذلك النقب واتصل ذلك بعبد الكريم فاهتاج إلى قاضي الإسكندرية بسببه وعزم على أن يبذل بذلاً، ويأخذ منه قضاء الإسكندرية، فقصد الأمير فخر الدين جهاركس ومعه خمسة وأربعون ألف دينار مصرية، وقال له: هذه خمسة آلاف دينار لخزانتك وهذه أربعون ألف دينار برسم خزانة السلطان، وأُوَلىَّ قضاء الإسكندرية، فأخذ جهاركس المال ووعده بقضاء الشغل، واجتمع بالملك العزيز ليلاً وأحضر المال بين يديه، والملك العزيز حينئذ في غاية الضرورة إلى بعض ذلك المال وقال: هذه خزانة مال أتيتك بها من غير طلب ولا تعب. فقال: من أي الجهات؟ فذكر له الحال فأطرق ملياً، ثم رأسه وقال: أعد المال إلى صاحبه وقل له: إياك والعود إلى مثلها، فما كل ملك يكون عادلاً وعرَّفه أنني إذا قبلت هذا القدر منه إنما أكون بعت به أهل الإسكندرية وهذا لا أفعله أبداً. قال فخر الدين جهاركس: فلما سمعت ذلك منه وجمت وجمعةً ظهرت سِمَتُها في وجهي، فقال لي: أراك واجماً، وأظنك أخذت شيئاً على الوساطة له؟ فقلت: نعم. فقال: كم أخذت؟ فقلت له: أخذَتُ خمسة آلاف دينار.(1/51)
فأطرق كإطراقه أولاً، ثم قال: أعطاك مالا تنتفع به إلا مرة واحدة، وأنا أعطيك ما تنتفع به مرات عديدة، ثم أخذ القلم، ووقَّع لي بخط يده بإطلاق جهة تعرف بطنبذا، كنت استغلها في السنة سبعة آلاف دينار (1).
4 - تمليك الملك المنصور بن الملك العزيز: لما مات الملك العزيز اتفقت كلمة الأمراء على تنفيذ ما وصَّى به الملك العزيز وهو إقامة الملك المنصور في الملك وقيام بهاء الدين قراقوش بأتابكيته: فأجلسوا الملك المنصور في مرتبة أبيه، وترتب بين يديه قراقوش، وحلفت الأمراء كلهم للملك المنصور وامتنع عمّاه: الملك المؤيد، والملك المعز من الحلف إلا بشرط أن تكون الأتابكية لهما، وجرت بينهما منازعة ومشاققة كثيرة وأجابا بعد ذلك إلى الحلف وحلفا، ثم وقع الاختلاف بين أمراء الدولة فقال قوم منهم: لابد لهذا الملك من رجل فحل مهيب يدبرهّ، وقراقوش مضطرب الآراء، ضيق العطن لا يصلح لهذا الأمر.
__________
(1) مفرج الكروب (3/ 86).(1/52)
وقال قوم: نرضى بهذا الخادم، فإنه أطوع وأساس مقادة ولا نحضر من يستطيل بسطوته وقدرته وقال آخرون: لا تحفظ هذه الديار إلا بملك مرهوب مخوف، وإن فيها بقايا من جند المصريين الذين انتزعت البلاد من أيديهم قهراً، ويقصدها أعداء الدين من جهة البحر، فمتى لم يقم بأمرها ملك قاهر لا تحفظ وطال النزاع بينهم في ذلك ففزعوا إلى رأى القاضي الفاضل فقال لهم القاضي الفاضل: إني لا أشير عليكم بعزل أحد ولا ولاية أحد أن ذلك مما لا يوافق بعضكم فأستجلب عداوته ولكن اجتمعوا بعضكم ببعض وامخضوا بينكم الرأي، فإذا رضيتم أمراً فاعرضوه عليّ، ففعلوا ما أشار به، وتحاولوا بينهم الآراء ثلاثة أيام، فاتفقت كلمتهم على مكاتبة الملك الأفضل على أن يقدم البلاد، ويكون أتابكا للملك المنصور سبع سنين، فإذا انتهى هذا الأجل سُلمَّ الأمر إليه والتدبير، ويشترط على الملك الأفضل أن لا يرفع فوق رأسه سنجق، ولا يذكر إسمه في خطبة ولا سِكَّة، ولما اتفقوا على ذلك عرضوه على القاضي الفاضل، فقال: قد أصبتم الرأي، وأخترتم الذي اختاره السلطان الناصر - رحمه الله - لكم وهو ألين عريكة، وأسهل تناولا من غيره، فأرسلوا القُصّاد إلى الملك الأفضل يستدعونه، فلما وصلته القُصَّادُ توجه إليهم مجدا (1).
__________
(1) مفرج الكروب (3/ 90).(1/53)
فلما حصل عندهم مُنع رفدهم، ووجدوا الكلمة مختلفة عليه، ولم يتَّم له ما صار إليه وخامر عليه أكابر الأمراء النَّاصَّرية وخرجوا من ديار مصر فأقاموا في بيت المقدس وأرسلوا يستحثُون الجيوش العادلية (1)، وكتب الملك الأفضل إلى عمه الملك العادل بأنه غير خارج عن الذي يأمره به، وأنه تحت حكمه ويستطلع أوامره ونواهيه فيما يعتمده، فورد جوابه عليه بأن الملك العزيز إن كان قد مات عن غير وصية فليكتب الأعيان خطوطهم له بذلك وشهادتهم له حتى يرى رأيه وإن كان قد مات عن وصية فلا يعدل عنها، ولا ينبغي له التعرض إلى ديار مصر (2).
__________
(1) البداية والنهاية (16/ 686).
(2) مفرج الكروب (3/ 93).(1/54)
5 - تحالف الأخوين الأفضل والظاهر ضد العادل: يبدو أن الملك الظاهر غازي صاحب حلب كان قد أدرك أهداف عمه الملك العادل في إبقاء الخلاف بين أخويه الملك الأفضل والملك العزيز، فقرر معاندة عمه ومحاولة التخلص منه، ولذلك غضب الظاهر غازي على أخيه الأفضل لأنه كتب لعمه أنه وصل مصر، ولن يخرج عن أمره، فكتب إلى الأفضل يقول: أخرج عمنا من بيننا، فإنه لا يجيء علينا منه خير وأنا أعرف به منك، وأقرب إليه، فإنه عمي كما هو عمك، وأنا زوج ابنته، ولو علمت أنه يريد لنا خيراً لكنت أولى به منك (1) وأشار عليه بقصد دمشق وأخذها من عمه العادل وأن ينتهز الفرصة لإنشغال عمه بحصار ماردين وارتاح الملك الأفضل لرسالة أخيه السابقة، واتفق الأخوان على القضاء على سيادة عمهما الملك العادل (2)، وتعاون معهما أسد الدين شيركوه بن محمد صاحب حمص، واغتنم الأفضل بُعد عمهما عن دمشق، وانشغاله في محاصرة ماردين، فسار بعساكر مصر إلى الشام، بعد ما استناب بمصر الأمير سيف الدين أركش وحاصر دمشق وسرعان ما وصلت عساكر حلب لدعم جند مصر، فضيقوا الخناق على المدينة، ولكنهم لم يحاولوا اقتحامها، وعندما علم الملك العادل بالأمر، ترك ابنه الملك الكامل على حصار ماردين، واندفع مسرعاً إلى دمشق، وأخذ يبذر بذور الشك والخوف بين الأخوين، فأرسل إلى الملك الظاهر غازي وقال له: أنا أسلم إليك دمشق وأنت السلطان فطمع الظاهر واختلف الأخوان ورحل الملك الأفضل إلى مصر (3). والظاهر إلى حلب بعد ما حرقوا ما عجزوا عن حمله (4).
__________
(1) النجوم الزاهرة (6/ 147) القدس بين أطماع الصليبيين ص 39.
(2) المختصر لأبي الغداء (3/ 97) المصدر نفسه ص 39.
(3) السلوك للمقريزي (1/ 81).
(4) القدس بين أطماع الصليبيين وتفريط الملك الكامل ص 40.(1/55)
6 - عزل الملك الأفضل: ولما سافر الملك الأفضل راجعاً إلى مصر لحقه عمّه الملك العادل ووصل الملك العادل، وضرب مع الملك الأفضل مصافاً فانكسر عسكر الملك الأفضل وولوا منهزمين لا يلوون على شيء ثم سار الملك العادل بالعساكر ونزل بركة الجُبّ، وسيَّر إلى الملك الأفضل يقول له: أنا لا أحب أن أكسر ناموس القاهرة، لأنها أعظم معاقل الإسلام ولا تحوجني إلى أخذها بالسيف، وأذهب إلى صرخد وأنت آمن على نفسك، فأستشار الملك الأفضل الأمراء فرأى منهم تخاذلا، فأرسل إلى عمه يطلب منه أن يعوَّضه عن الديار المصرية بالشام فامتنع من ذلك، فطلب أن أن يعوَّضه حّران والرُّها فامتنع، فطلب منه جاني وجبل حور، وميَّافارقين وسميساط فأجابه إلى ذلك وتسلم القاهرة (1) منه.
__________
(1) مفرج الكروب (3/ 109).(1/56)
7 - استقلال الملك العادل بالسلطنة الأيوبية: أصبح الملك العادل أتابكا لابن الملك العزيز، المنصور، ولكنه بعد مدة قصيرة كان قد أحضر جماعة من الفقهاء والقُضاء والولاة وقال لهم قول المستفتي المستثير: هل تصح ولاية الصغير؟ فقالوا: هذا مولىَّ عليه فلا يلي، وغيابات الحوادث بنظره لا تنجاب ولا تنجلي فقال فهل يجوز للمولّى الكبير أن ينوب عنه إلى أن يكبر، ويرتب الأمور بحكم النَّيابة ويدبر؟ فقالوا: إذا كانت الولاية غير صحيحة فلا تصح النيابة ومن رآه صواباً أخطأ به الإصابة لاسيما في السلطنة التي هي خلافة الخليفة، فلا حق منها إلا للكبير الذي يعيَّنُ على الحقيقة، وجرى منهم في هذا المعنى الإمعان فلما عرف الشرع أحضر الأمراء، والتمس منهم الطاعة والسمع، وخاطبهم في اليمين له والميثاق وألزمهم بالوفاء والوفاق ... وقال لهم: قد علمتم ما هو الواجب من التظافر على حفظ ثغور الإسلام وتدبير الممالك بمصر والشام وما هذا أمر يناط بالصبيان أو يُحاط بغير ذي القدرة والسلطان فأذعنوا وأطاعوا وحصل الإئتلاف ورفع الخلاف (1)
__________
(1) كتاب الروضتين (4/ 460، 461) ..(1/57)
أحضر الأمر وقال لهم: إنه قبيح بي أن أكون أتابكاً مع الشيخوخة والتقدم، مع أن المُلْكَ ليس هو بالميراث وإنما هو لمن غلب، ولقد كان يجب أن أكون بعد أخي السلطان الملك الناصر - رحمه الله - صاحبَ الأمر، غير أني تركتُ ذلك إكراماً لأخي ورعاية لحقه، فلما حصل من الاختلاف ما حصل خفت أن يخرج المُلْكُ من يدي ويد أولاد أخي، فمشًّيت الأمر إلى آخره، فلم أرَ الأمر يصلح إلا بقيامي فيه ونهوضي بأعبائه ولما ملكت هذا البلد وطنَّت نفسي على القيام بأتابكية هذا الصبي حتى يبلغ أشدَّه، فرأيت العصيان غير مقلعة والفتى ليست زائلة فخشيت أن يطرأ عليَّ ما طرأ على الأفضل، ولا آمن أن يجتمع جماعة ويطلبون إقامة آخر، وما أعلم ما يكون عاقبة ذلك وأنا أرى أن هذا الصبي يمضي إلى الكتُّاب وأقيم له من يؤديه ويعلمّه فإذا بلغ أشده نظرت في أمره وقمت (1) بمصالحه. ولما استقر المُلُك بمصر للملك العادل استدعى أبنه الملك الكامل ناصر الدين محمداً من الشرق وجعله نائباً عنه بالديار المصرية ولم يزل الملك الكامل ينوب عن أبيه بالديار المصرية إلى أن توفي أبوه وذلك قريب من عشرين سنة واستقل بالملك بعده عشرين سنة وكسراً فملكها نائباً ومستقلاً قريباً من أربعين سنة (2).
8 - دخول الملك المنصور صاحب حماة تحت سيادة العادل:
أرسل الملك المنصور - صاحب حماة - إلى عمه الملك العادل يعتذر إليه من مساعدته الأفضل والظاهر ويطلب رضاه عنه، وكان رسوله إليه زين الدين المعروف "بالمهيطليّة" فلما قدم عليه تلقاه بالترحيب والإكرام وخلع عليه وأحسن إليه، وأظهر الرضى عن الملك المنصور وكتب إليه هذه الأبيات الشعرية:
أتظننى من جَفْوَةٍ اتعتّبُ ... قلبي عليك أرقُّ مما تَحْسَبُ
لا يوُحِشَنَّك ما جنيت فتنثني ... مُتَجَنَّياً وهواك لا يُتجنَّبُ
__________
(1) المصدر نفسه (3/ 111).
(2) المصدر نفسه (3/ 113).(1/58)
ما أنت إلا مُهجتي وهي التي ... أحيا بها فترى عليها أغضب
أنت البريء من الإساءة كلَّها ... ولك الرضى وأنا المسئ المذنبُ
وقال لزين الدين هذا المولى الملك المنصور إن كان قدر صدرت منه هذه الزلة الواحدة فله من الحسنات ما يمحوها ويمحقها:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع
ثم حلف الملك المنصور، ووقعت الوُصلة بعد ذلك بين الملك المنصور وعمه الملك العادل، فتزوج ابنته عصمة الدين ملكة خاتون والدة الملك المظفر (1) رحمه الله وفي هذه السنة 596هـ وصل إلى مصر الأمير شمس الدين محمد بن قِلج، ونظام الدين محمد بن الحسين الأصفهاني - وزير الملك الظاهر - رسولين منه إلى الملك العادل في أن يحلف للملك الظاهر على مابيده من البلاد ويقيم الملك الظاهرُ على ما بيده من البلاد ويقيم الملك الظاهرُ للملك العادل بحلب الخطبة والسكَّةٍ، فركب الملك العادل إلى لقائهما وأكرمهما إكراماً تاماً، وقررَّ الملك العادل للملك الظاهر على ما بيده وحلف له عليه وألزمه خمسمائة فارس تكون في خدمة الملك العادل في كل سنة من خيار عسكر حلب فرجع الرسولان إلى الملك الظاهر، فأقيمت الخطبة والسِكّة بحلب وبلادها للملك العادل (2).
9 - وفاة الحاجب لؤلؤ في عام 596هـ:
توفي في هذا العام الحاجب لؤلؤ، وكان في الأيام الصلاحية أشجع الشجعان وأفرس الفُرسان، وله مقامات في الغزاة، ومواقف مع العُدَاة، وهو الذي نهض وراء مراكب الفرنج النّاهضة في بحر أَيْلَة إلى بَرَّ الحجاز، وأتى في كسرهم وأسرهم بالإعجاب والإعجاز وكانوا قطعوا الطريق في بحر عيذاب على التجار وحصلت أموالهم تحت الاستيلاء بعد حصولهم تحت الإسار فأنقذ واستنقذ، وما نزل حتى أخذ، وساق إلى القاهرة أولئك الكُفَّار مقهورين واعتقلهم بها مأسورين.
__________
(1) مفرج الكروب (3/ 114).
(2) المصدر نفسه (3/ 115).(1/59)
وقد قال فيه الرَّضي بن أبي حِصينه المِصري يخاطب الفرنج
عَدوُّكم لؤلؤ والبحر مَسْكنُةُ ... والدُّرُّ مُذ كان منسوبٌ إلى النُحُرِ (1)
وقال العماد الأصفهاني: ومن دلائل سماحه ما شاهدته بالقاهرة في سنة إحدى وتسعين من مبَّراته الظَّاهرة أنه لما حطَّ القَحْط رَحْلهَ ووصل المَحْلُ مَحَلَّه، وتمَّ الغلاء، وعمّ البلاء، ابتكر هذا الحاجب الكبير مَكْرُمة لم يُسبق إليها، وذلك أنهَّ كان يَخبزُ كل ليلةٍ اثني عشر ألف رغيف، فإذا أصبح جلس على باب الموضع الذي فيه حُشِرَ الفقراء ثم يفتح من الباب مقدار ما يخرج منه واحد، ويعلم أنه غير عائد، فيتناول كلُّ منهم قُرصَة ويرى ذلك من خيراته فُرصة، فما يزال قاعداً حتى يفرق الألوف على الألوف وكان هذا دابه في هذا الغلاء حتى هبَّ رخاءُ الرخاء، فحينئذ تنّوعت صدقاته، واستغرقت بالصَّلات أوقاته وكان بهيَّ الشَّيب نقيَّ الجيب، قد جعل الله البركة في عمره، وخصَّه مُدَّة حياته بإمرار أمره، فأنجده في أوان ضعفه بتضعيف برَّه (2).
__________
(1) كتاب الروضتين (4/ 466).
(2) المصدر نفسه (4/ 467).(1/60)
10 - وفاة القاضي الفاضل 596هـ: أبو علي عبد الرحيم بن علي بن الحسن اللخمي البيساني ثم العسقلاني ثم المصري محي الدين صاحب ديوان الإنشاء وشيخ البلاغة ولد سنة تسع وعشرين وخمسمائة، أصله من بيسان وكان يحب الكتابة، فقصد مصر لينشغل بالأدب، فاشتغل به، وحفظ القرآن، وقال الشعر والمراسلات، وخدم الأكابر فلما ملك أسد الدين احتاج إلى كاتب فأحضر إليه فأعجبه نفاده وسمته ودينه ونصحه، فلما تملكَّ صلاح الدين استخلصه لنفسه، وحسَّنَ اعتقاده فيه ووجد البركة في رأيه، ولذلك لم يكن أحد في منزلته وكان نزيهاً عفيفاً نظيفاً، وقليل اللذات، كثير الحسنات، دائم التهجد، ملازم القرآن، والإشتغال بعلوم الأدب، غير أنه كان خفيف البضاعة من النحو لا عريا منه، لكن قوة الدًّربه توجب له عدم اللحن وكتب مالم يكتبه أحد، ولما عظم شأنه أَنِفَ من قول الشعر، وكان لباسه لا يُساوي دينارين، وثيابه البياض، ولا يركب معه أحد ولا يصحبه سوى غلام له، ويكثر زيارة القبور، وُيَشَّيعُ الجنائز ويعود المرضى، وكان له صدقات ومعروف كثير في الباطن، وكان ضعيف البنية رقيق الصورة، له حدبة يسترها الطيلسان، وكان لأصحاب الفضائل عنده موقع، يحسن إليهم ولا يمنُّ عليهم، ويؤثر أرباب البيوت ومن كان خملاً من ذوي النباهة، ويحب الغرباء، ولم يكن له انتقام من أعدائه بل يحسن إليهم، وكان دخله كل سنة من إقطاعه ورباعه وضياعه خمسون ألف دينار، هذا سوى التجارات من الهند والمغرب، وغير ذلك وسوى ضيعة من السلطان تسمَّى تُرُنجه تعمل إثنى عشر ألف دينار، وكان يقتني الكتب من كل فنَّ ويجتلبها من كل جهة وله نُسَّاخ لا يفترون ومجلدَّون لا يَسأمون (1) وقد ذكر عبد اللطيف البغدادي في تاريخه: قال لي بعض من يخدمه في الكتب: إن عدد كتبه قد بلغ مائة ألف وأربعة عشر ألف كتاب، هذا قبل أن يموت بعشرين سنة (2)
__________
(1) شذرات الذهب (63/ 532).
(2) المصدر نفسه (6/ 532) ..(1/61)
ولم يزل معظَّماً بعد موت صلاح الدَّين عند ولده العزيز، ثم الأفضل، ومات فجأة أحوج ما كان إلى الموت عند تولي الإقبال واستيلاء الإدبار، كان أمر بإصلاح الحمَّام وقت السحر فأصلح وجاءته ابنته تخبره بذلك فوجدته جالساً ساكتا فهابته لأنه كان مُهَاباً، فطال سكوته حتى ارتابت فقدمت قليلاً قليلاً فلم تَرَ عليه أثر حركةٍ فوضعت يدها عليه فخرَّ صريعاً وأخذ في النزع وقبض وقت الظهر وقت رجوع عسكر مصر مهزوماً، ودخل الملك الأفضل فصلىّ عليه ودُفن بالقُرافة وكان له يوم مشهود (1).
__________
(1) شذرات الذهب (6/ 532).(1/62)
قال عنه العماد الأصفهاني عنه: ثم قضى سعيداً، ومضى شهيداً حميداً، فوقاه الله تعالى الوصية، فكانت له بسيد الأولين والآخرين أُسوة وأن يُعَرَّى عن راداء العمر فله من حُلل البقاء في علييَّن كُسْوَة ولأنه لم يُبْقِ في مُدَّة حياته عملاً صالحاً إلا قدمه ولا عهداً في الجنة إلا أحكمه ولا عقداً في البَّر إلا أبرمه فإن صنائعه في الرقاب، وأوقافه على سبيل الخيرات متجاوزة عن الحساب، لاسيما أوقافه لفكاك أسارى المسلمين إلى يوم الحساب وأعان طلبة العلم الشافعية والمالكية عند داره بالمدرسة والأيتام بالكُتَّاب والخيرات الدَّارَّة على الأيام فكانت حياة له ثانية إلى يوم البعث وإعادة حياة الأنام ... وكنت من حسناته محسوباً .. وكانت كتابته كتائب النّصر، وبراعته رائعة الدَّهر، وبراعته بارية للبرَّ وعبارته نافشة في عُقَد السَّحْر، وكانت بلاغته للدَّولَة مُجمَّلة، وللمملكة مُكمَّلة، وللعصر الصَّلاحي على سائر الأعصار مَفَضَّلة (1) ومفتتحاته في الفتوحات البديعة بديعة، ومخترعاته في الصنّائع المخترعة صنيعة، وإنما نسجت على منْواله ومزجت من جِرْياله (2) ورويت بزُلاله وهو الذي نسخ أساليب القدماء بما أقدمه من الأساليب وأغربه في الإبداع وأبدعه من الغريب وما ألفيته كرّر دعاء ذكره في مكاتبة، ولاردَّدَ لفظا في مخاطبة، بل تأتي فصوله مبتكرة مُبتدعة (3) وكانت الدولة بإدالته تُدال والزّلة بإزالته تُزال، والكرام في ظله يقيلون، ومن عثرات النَّوائب بفضله يستقيلون وبعزَّ حمى حمايته يَعِزُّون، ولهَزَّ عطف عطفه يهتزون، فإلى من الوفادة بعده؟ وممن الإفادة؟ وفيمن السَّيادة؟ ولمن السعادة؟ والحمد لله الذي له الغيب والشهادة و "إنا لله وإنّا إليه راجعون" ولأمره منقادون (4)
__________
(1) كتاب الروضتين (4/ 474).
(2) الجريال: الخمر الشديدة الحمرة (معجم متن اللغة (1/ 514).
(3) كتاب الروضتين (4/ 474).
(4) كتاب الروضتين (4/ 475) ..(1/63)
وللقاضي السعيد هبة الله بن سناء الملك فيه من قصيدة:
عبد الرحيم على البَرَّيةِ رحمة ... أَمِنَت بصُحْبَتِها حلولَ عقابها
يا سائلاً عنه وعن أسبابه ... نال السَّماء فَسَلْهُ عن أسبابها
والدهر يعلمُ أن فيصلَ خطبه ... بخُطا يراعته وفصلٍ خطابها
ولقد عَلَتْ رتبُ الأجلَّ على الورى ... بسموَّ منصبها وطيب نصابها
وأتته خاطبة إليه وزارة ... ولطالما أعْيَتْ على خُطَّابِها
ما لقَّبُوه بها لأن يعلوُ بها ... أسماؤه أغَنَتْه عن ألقابها
قال الزمان لغيره إذ رامها ... ترِبَت يمينُك لست من أترابها
أذهب طريقك لست مَن أربابها ... وأرجع وراءك لست من أصحابها
وبعز سيدنا وسيَّد غيرنا ... ذلت من الأيام شمسُ صعابها
وأتت سعادته إلى أبوابه ... لا كالذي يسعى إلى أبوابها
تعنُو الملوكُ لوجهه بُوجوهها ... لا بل تساقَ لبابه برِقابها
شُغِلَ الملوكُ بما يزول ونفسه ... مشغولة بالذكر من محرابها
في الصَِّوم والصَّلوات أتعب نفسه ... وضمان راحته على إتعابها
وتعجل الأقلاع عن لذّاته ... ثقة بحسن مالَها ومآبها
فلتفخر الدنيا بسائس مُلْكِها ... منه ودارس عِلْمها وكتابها
صّوامها قوّامها وعَلاَّمها ... عمّالها بذَّالِها وهّابها (1)
__________
(1) كتاب الروضتين (4/ 481).(1/64)
وكان السلطان صلاح الدين يقول: لا تظنُّوا أني ملكت البلاد بسيوفكم، بل بقلم الفاضل (1)، وقد اتفق يوم مات القاضي الفاضل دخول السلطان العادل إلى مصر وأخذها من ابن أخيه الأفضل، وقد دخل العادل من باب وخرج بجنازته من باب آخر (2) وقال الملك المحسن أحمد بن السلطان صلاح الدين سمعت قاضي القضاة ضياء الدين القاسم بن يحي الشهرزوري ببغداد أيام ولايته يحدَّث أن القاضي الفاضل لما سمع أن العادل أخذ الديار المصرية دعا على نفسه بالموت خشية أن يستدعيه وزيره صفي الدين بن شكر إليه، أو يجري في حقه إهانة، وكان بينهما مقارضة، فأصبح ميتاً وكانت له معاملة حسنة مع الله تعالى وصلاة بالليل كما ذكروا (3) وقال أبو شامة وأخبرني القاضي الشهيد ضياء الدين ابن أبي الحجَّاج صاحب ديوان الجيش - رحمه الله - أن القاضي الفاضل بعد صلاح الدين لم يخدم أحداً من أولاده وكانت الدولة بأسرها تأتي إلى خدمته إلى أن توفي (4) وفضل الفاضل وبلاغته وفصاحته أشهر من أن يذكر، ومن شعره قوله:
وإذا السعادة لاحظتك عيونها ... نم فالمخاوف كلهَّن آمان
واصطد بها العنقاء فهي حبائل ... واقتد بها الجوزاء فهي عِنَانُ
وقد استشهد علماء البديع بكثير من شعره:
كقوله:
أهذي كَفُّه أم غوتُ غَيْتٍ ... ولا بلغ السحاب ولا كرامة
وهذا بُشره أم لمع برق ... ومَن للبرق فينا بالإقامة
وهذا الجيش أم صرف الليالي ... ولا سبقت حوادثها زِحامة
وهذا الدهر أم عبدٌ لديه ... يُصَرَّف عن عزيمته زمامه
وهذا نصلِ غمد أم هلال ... إذا أمسى كنُونٍ أم قُلاَمه (5)
وكقوله:
وهذا الدرٌّ منثور ولكن ... أروني غير أقلامي نِظامه
وهذي روضة تندى وسطري ... بها غصِنٌ وقافيتي حمامة
وهذا الكأس رُوَّق من بَنَانىِ ... وذكرك كان من مسك ختامه (6)
__________
(1) النجوم الزاهرة (6/ 157).
(2) كتاب الروضتين (4/ 482).
(3) المصدر نفسه (4/ 483).
(4) المصدر نفسه (4/ 483).
(5) النجوم الزاهرة (6/ 158).
(6) المصدر نفسه (6/ 158).(1/65)
وكقوله:
سبقتم بإسداءِ الجميل تكرُّماً ... وما مثلكم فيمن تحدَّث أو حكى
وقد كان ظنَّ أن أسابتكم به ... ولكن بكت قبلى فهيبحَ لى البكا (1)
وله في بُدوَّ أمره:
أرى الكتّاب كلهَّمُ جميعاً ... بأرزاقٍ تعُمّهُم سِنينا
ومالي بينهم رزق كأنيَّ ... خُلقِتُ من الكرام الكاتبينا (2)
وذات يوم سأله الملك العزيز عثمان بن الناصر عن جارية من حظاياه أرسلت إليه زِرَّا من ذهب مُغلَّفٍ أسود، فأنشأ الفاضل يقول:
أهدت لك العنبر في وسطه ... زرُّ من التَّبرِ رقيقُ اللَّحام
فالزَّرُّ في العَنْبَرِ معْناها ... زُرْ هكذا مختفياً في الظلام (3)
والقاضي الفاضل له من الصدقات الجارية الشيء الكثير منها؛ أنه كان له بمصر (4) ربعُ عظيم يؤجَّر بمبلغ كثير، فلما عزم على الحج ركب ومرّ به ووقف وقال: اللهمَّ إنك تعلم أن هذا الرّبْعَ ليس شيء أحب إليَّ منه، اللهم فأشهد أني وقفته على فكاك الأسرى يقول ابن شهبه في تاريخه وهو إلى يومنا هذا وقف (5).
__________
(1) البداية والنهاية (16/ 700).
(2) المصدر نفسه (16/ 701).
(3) البداية والنهاية (16/ 702).
(4) شذرات الذهب (6/ 533) الربع: الدار وجمعها رِبَاع انظر مختار الصحاح.
(5) شذرات الذهب (6/ 533).(1/66)
المبحث الثاني: عهد الملك العادل: السلطان الكبير العادل سيف الدين أبو الملوك وأخو الملوك، أبوبكر محمد ابن الأمير نجم الدين أيوب بن شاذي بن مروان بن يعقوب الدُّويني الأصل التكريتي ثم البعلبكي المولد، كان أصغر من أخيه صلاح الدين الدين بعامين (1)، نشأ في خدمة الملك نور الدين، ثم شهد المغازي مع أخيه، وكان ذا عقل ودهاء وشجاعة وتؤدة وخبرة بالأمور، وكان أخوه يعتمد عليه ويحترمِه استنابه بمصر مدة ثم ملَّكَهُ حلب، ثم عوَّضه عنها بالكَرك وحرّان وأعطى حلب لولده الظاهر (2) قال عنه الذهبي: وكان سائساً، صائب الرأي، سعيداً، استولى على البلاد، وامتدت أيامه، وحكم على الحجاز، ومصر والشام، واليمن، وكثير من الجزيرة وديار بكر، وأرمينية، وكان خليقاً للملك، حسن الشكل، مهيباً حليماً، ديَّنا فيه عِفَّه وصفح وإيثار في الجمُلة.
أزال الخمور والفاحشة في بعض أيام دولته وتصدق بذهب كثير في قحط مصر حتى قيل: إنه كفن من الموتى ثلاث مئة ألف والعُهدة على سبط الجوزي في هذه (3) وسيرته مع أولاد أخيه مشهورة، ثم لم يزل يراوغهم ويلقي بينهم حتى دَحاهم، وتمكن واستولى على ممالك أخيه .. ثم إنه قسم الملك بين أولاده وكان يصَّيف بالشام غالباً ويشتو بمصر (4). نجب له عدة أولاد سلطنهم وزوّج بناته بملوك الأطراف وقد احتيل على الفتك به مرات، ويسلَّمُه الله (5) وحدّث العادل عن السَلفي وكان مائلاً إلى العلماء حتى صنف له الرازي كتاب "تأسيس التقديس" فذكر اسمه في خطبته (6).
__________
(1) سير أعلام النبلاء (22/ 116).
(2) المصدر نفسه (22/ 116).
(3) المصدر نفسه (22/ 117).
(4) المصدر نفسه (22/ 117).
(5) المصدر نفسه (22/ 118).
(6) المصدر نفسه (22/ 120).(1/67)
أولاً: الأحلاف السياسية ضد الأيوبيين في الجزيرة
بعد وفاة السلطان صلاح الدين انتقض الأمراء والملوك المعاهدين على خلفائه وكان أوّلهم بكتمر صاحب خِلاط ثم أيَّده صاحب ماردين وراسلوا أتابكة الموصل وسنجار وتحالفوا وأصبحت المناطق الأيوبية مهَّددة من الشمال ومن الشَّرق وتحركت الجيوش صوبها، وأرسلوا للعادل: أن أخرُج من بلادنا. وباتت السيطرة الأيوبية في الجزيرة مهّددة تماماً، وكان امتحاناً مُبكراً يتعَّرض له العادل، بل الدولة الأيُّوبيَّة بكاملها بعد موت مُؤسَّسها، لكن الإرادة الإلهية أوّلا، وعزيمة العادل، والتفاف الأيوبيَّة حوله ثانياً، حّول كل ذلك إلى نصر كبير للأيوبية وتأكيد على إحكام قبضتها في الجزيرة (1).
1 - في معسكر الحُلفاء:
كانت الضربة الأولى التي وجُهَّت للخلفاء هي مقتل بكتمر صاحب خلاط، إذ اغتالته الباطنية وهو في أوج تنمرُّه وشماتته بموت صلاح الدَّين، فقد ظهر شعار السَّلطنة، وتلقَّب بالملك النّاصر وراسل الأمراء والملوك، وعندما بدا وكأن السعد يجاريه، سقط بخناجر الباطنية، لتنهار دعامة قويّة من الحلف المناوي للأيوبية (2).
تردَّد عز الدَّين مسعود صاحب الموصل وتلكّا في التحرك العسكري ضَّد الأيوبيَّة لاحتلال بلادهم الجزرية، وعندما تحّرك في الجيش داهمه المرض، فعاد محمولاً في محفة إلى الموصل وتبعه جيش التحالف الأتابكي بدُون أن يحرز أيَّ نتيجة وجد صاحب ماردين نفسه وحيداً في الميدان "فتضرَّع، وتدّرع وتشفع، حتى عفا عنه العادل.
تحرك العادل بسرعة "فكتب إلى بني أخيه يستنجدهم، فأنجدوه وتحرّكت الفرق الأيوبية نحو الجزيرة من كُلَّ مكان وأوَّلها وأقربها نجدة حلب، ثم، حمص وبعلبك ودمشق.
__________
(1) العلاقات الدولية في عصر الحروب الصليبية (1/ 219).
(2) المصدر نفسه (1/ 220).(1/68)
ولم يعد هذا التجمع الأيوبي بلا مكسب، فقد استغلَّ العادل تجمَّع النجدات، وتراجع الأتابكة، فأمر ابنه الظافر بقيادة الجنُد، واحتلال مدينة سروج، وكانت لعماد الدين، فاحتلهَّا ثم احتلّ الرَّقة، واستولى على بلاد الخابور (1)، وتبلور الوضع السياسي بعد هذا الاختبار للدولة الأيوبية بتأكيد سلطنة العادل على كامل أراضي الجزيرة، كما تأكدت على الشام فملوك الجزيرة وأمراؤها إمَّا يتبعون مبُاشرة لولاة العادل أو مُخالفون له، خاضعون، يخطبون له على منابرهم ويسكُّون اسمه على نقودهم (2).
__________
(1) الموسوعة الشاملة (13/ 436).
(2) العلاقات الدولية في عصر الحروب الصليبية (1/ 220).(1/69)
2 - موقف حلب: وفي عام 594هـ - 1198م، أنجد الظّاهر عمَّه العادل في هجومه على ماردين ولمّا وقع الخلاف بينه وبين عمَّه إثر وفاة العزيز وتحرّك الظاهر مع أخيه الأفضل لأخذ دمشق، دعم الظاهر تحالف أتابكة سنجار والموصل، فهزموا جيش العادل، وأجلوه عن ماردين (1) وبعد فشل خُطَّة الظَّاهر بأخذ دمشق من عمَّه العادل راسل حسام الدين يولق صاحب ماردين وحاول تأليف حلف معه ومع أمراء الجزيرة بمن فيهم أخوه الأفضل، وعندما عاد العادل للهُجُوم على ماردين عام 599هـ - 1202م تدخَّل الظَّاهر إنما هذه المرّة بوساطة سلمية، كانت لمصلحة كل الأطراف فقد سار الأشرف نائب والده العادل في حَرَّان إلى ماردين وحاصرها عام 599هـ فأدرك صاحبها أنَّه سيكون الخاسر الأكبر باعتماده على حلف مُتفكَّك أصلاً، لا يجمعه إلا المصلحة، وتفرَّقه المصلحة، فأرسل للظاهر صاحب حلب، الذي وافق على السعي بالصُّلح موافقة العادل تدلُّ على عدم تأكُّده من النجاح العسكري، فقد فشل ابنه الأشراف بتحقيق نصر عسكري تجاه ماردين (2)، ورُبمَّا لا العادل ولا الأشراف كانا يتوقّعان نصراً عسكرياً ضدَّ بلدة محصنة كماردين، وقلعتها الشهيرة (3)، وبالمقابل ضمن العادل حُصُوله على 150 ألف دينار نقداً، والخطبة والسَّكة في ماردين مع نجدة عساكر له عند الطلب، وحصل الظَّاهر على عمولة هي 20ألف دينار، وإقطاع قرية القرادي (4)، من صاحب ماردين (5).
__________
(1) تاريخ ابن خلدون (5/ 588).
(2) العلاقات الدولية في عصر الحروب الصليبية (1/ 220).
(3) الإمارات الأرتقية عماد الدين خليل ص 164.
(4) القرادي: قرية من أعمال شيختان.
(5) مفرج الكروب (3/ 139) شفاء القلوب ص 213 العلاقات الدولية (1/ 220).(1/70)
3 - القوى السّياسية في الجزيرة الشّامية (مشكلة خلاط) (1):
لم يتمكَّن صلاح الدين من ضَّم أخلاط إلى مملكته، فقد كانت حكم سيف الدَّين بكتمر، الذي استولى على السُّلطة بها بعد موت شاهر - من شاه أرمن - بن سكمان ملك أخلاط واستطاع بكتمر حفظ مملكته من توسُّع السلطان صلاح الدين في الجزيرة، وعرف نواياه تجاه خِلاط لذلك حقد عليه، وعند وفاة السلطان أظهر الابتهاج، وتلقب بالملك النّاصر، وهو لقب صلاح الدين (2)، وتحالف مع أتابك الموصل، ويُقال إن بكتمر هُو مَن شَكَل الحلف ضّد الأيوبية ولكن قتله المفاجئ عام 589هـ /1193م بعد شهرين من وفاة صلاح الدين بأيدي الإسماعيليةَّ، أنهى كُلَّ خطر كان يشكله بكتمر على الأيوبييَّن (3)، ومقتله وفّر على الأيوبّية الكثير من المتاعب، وفكّك - فعليَّاً - تحالف ملوك الأطراف ضدهم بعد قتل المحَّرك والمدبر والأشد حقد عليهم، فملك خِلاط بعده مملوكه آق سنقر ولقبه هزاز ديناري، وتسمَّى: الملك بدر الدَّين، لكنه لم يعش طويلاً بعدها فقد توفي عام 595هـ، فتولىَّ الأمراء محمد بن صاحب خلاط السابق بكتمر وكان شاباً فاسداً (4) جاهلاً قتل أتابكة شجاع الدين قتلغ، الذي كان حسن السيرة مع الجند والرعية واشتغل هو باللهو والشراب، فانتقض عليه الناس، وملكَّوا سيف الدَّين بلبان، وكان مملوكاً لشاه أرمن وتسلم خلاط (5)،
__________
(1) يُفسر ناصر خسرو سبب تسميتها، فيقول: هي بين بلاد المسلمين والأرمن ويتكلمون بها ثلاث لغات، العربية والفارسية والأرمينية وأظن أنها سميت أخلاط لهذا السبب.
(2) الموسوعة الشاملة للحروب الصليبية (13/ 436).
(3) الفتح القِسَّي، العماد الأصفهاني الموسوعة الشاملة (13/ 436).
(4) تاريخ البغّداي ورحلته، الموفق عبد اللطيف الموسوعة الشاملة د. سهيل زكار (14/ 84).
(5) الكامل في التاريخ لابن الأثير (9/ 518،517، 518) ..(1/71)
فكتب جماعة ابن بكتمر للملك الأوحد ابن العادل صاحب مَيَّا فارقين يستدعونه إلى خِلاط، فسار إليه (1). وكان قد طلب النجدة من أبيه العادل، فأرسل له جيشاً كبيراً (2)، وتمكّن بواسطته الأوحد من هزيمة بلبان (3). لكن بلبان استنجد بمغيث الدَّين طغرل شاه بن قلج أرسلان السلجوقي (4)، صاحب أرزن الروم، فسار إليه بنفسه ومعه العسكر، فهزموا الأوحد (5)، فعاد إلى ميَّافارقين وطمع طغرل شاه بأخلاط، وغدر بلبان، فقتله، ليملك خلاط، لكنّ أهلها لم يُسلَّموها له، وقاوموه، فعاد إلى بلادَه، واستدعوا الملك الأوحد، وسلَّموه المدينة سنة 604هـ (6) وتخَّوف أصحاب المدن المجاورة من قّوة الأوحد التي تُعدُّ امتداداً لقوة والده العادل وأخيه الأشرف، وهي أكبر القوى العسكّرية والسَّياسَّية في الجزيرة، فحاولوا النيل منه، ولكنّ دعم أخيه الأشرف جعلهم يتراجعون (7) واستفاد الأوحد من وجود قّوات أخيه الأشرف، فهاجم قلعة أوان وهي للكرج فملكها (8)، فخاف ملوك المدن المجاورة واتفقوا على ترك طاعة العادل، وأعلنوا طاعة خسرو شاه بن قلج أرسلان سُلطان سلاجقة الرّوم، وخطبوا له، وراسلوا الكرج يُحَّرضونهم ضدَّ الأوحد (9)،
__________
(1) مفرج الكروب (3/ 176).
(2) المصدر نفسه.
(3) العلاقات الدولية في عصر الحروب الصليبية (1/ 222).
(4) مفرج الكروب (3/ 176) العلاقات الدولية (1/ 222).
(5) المصدر نفسه (3/ 176) المصدر نفسه (1/ 222).
(6) المصدر نفسه (3/ 176) المصدر نفسه (1/ 222).
(7) المصدر نفسه (3/ 176) المصدر نفسه (1/ 222).
(8) المصدر نفسه (3/ 176) المصدر نفسه (1/ 822).
(9) شفاء القلوب ص 274 المصدر نفسه (1/ 222) ..(1/72)
فتحرك ملك الكرج 607هـ/1210م، إلى خلاط وحاصرها بقُوَّاته، وفي إحدى الهجمات الجيشَ الكرج على أبواب خلاط سقط ملكهم عن جواده، فأسرع المدافعون عن الباب وأسروا الملك واقتادوه إلى الأوحد الذي فاوضه على إطلاق سراحه مقابل عدة شروط، منها: تسليم بعض القلاع، وإطلاق خمسة آلاف أسير مسلم، ودفع مائة ألف دينار، وتزويج ابنة الملك الكرج للملك الأوحد، وإقامة هُدنه بينهما مُدَّتها ثلاث سنوات (1).
فتخاذل مُلُوك المُدُن المجاورة لِخلاط المتُحالفين ضَّد الأوحد وأبيه العادل، وقصدوا العادل وهو في حَرَّان، واعتذروا إليه، وعادوا إلى طاعته (2)، وبعد مرض عُضال تُوفيَّ الملك الأوحد نجم الدَّين أيوب ابن العادل في مدينة ملاذكُرد، ودفن بها (3)، سنة 605هـ/1208م (4)، فتسلّمها أخوه الملك الأشرف صاحب الجزيرة، واستقرتَّ في ملكه (5)، وأُضيفت ميَّا فارقين إلى المظُفَّر شهاب الدين غازي (6)، فعظم شأن الأشرف بمُلكه خِلاَط وهي قصبة أرمينيا (7)، فعظم أمره، وتلقَّب شاهر من بعد أن ملكها (8)
__________
(1) العلاقات الدولية (1/ 222).
(2) المصدر نفسه (1/ 223).
(3) مفرج الكروب (3/ 175) العلاقات الدولية، منذر الجايك (7/ 223).
(4) الموسوعة الشاملة (20/ 158) العلاقات الدولية (1/ 223).
(5) تاريخ البغدادي ورحلته نقلاً عن العلاقات الدولية (1/ 223).
(6) مفرج الكروب (3/ 208) العلاقات الدولية (1/ 223).
(7) العلاقات الدولية (1/ 223).
(8) المصدر نفسه (1/ 223).(1/73)
4 - الملك الأفضل في الجزيرة: كان الأفضل أكبر أولاد صلاح الدين ووليّ عهده، وبعد وفاة والده كّون مملكة دمشق التي كانت إقطاعاً له في حياه والده السُّلطان، وهي تمتد من حدود حمص شمالاً إلى حدود العريش جنوباً يفصلها عن بعض السواحل المناطق المحتلة من قبل الفرنج وفي عام 592هـ تمّكن الملك العادل من إخراج ابن أخيه الأفضل من دمشق إلى صرخد وبعد موت العزيز ابن صلاح الدين صاحب مصر تمكّن الأفضل من الوصول إلى حُكم مصر عام 595هـ، لكن؛ نتيجة التحاسد بين الأخوة أبناء صلاح الدَّين وشخصية الأفضل غير القيادية فقد طرد الأفضل من مصر - كما مرّ معنا - وعاد إلى صرخد، ثم خسرها - أيضاً - بعد مُغامرته الفاشلة لأخذ دمشق 597هـ 1201م وأثناء حصار الأفضل وأخيه الظاهر للعادل بدمشق، راسل العادل الأفضل، ووعده بالبلاد الشرقية، فانسحب من الحصار وعمل على تفشيله وسلمَّه العادل مَيَّا فارقين، وسُمَيساط وسروج وقلعة نجم (1) ويبدو أن العادل كان يُدرك تماماً ما يفعل، فقد وضع الأفضل في الجزيرة، ليبعده أولاًَ عن مراكز القوى في دمشق ومصر وليضعه تحت إشراف ومراقبة ولده الأشرف صاحب إقطاع الجزيرة وكانت لدى العادل مخططات أخرى تتعلَّق بالأفضل، ربَّما لم يطلع عليها سوى ابنه الأشرف صاحب إقطاع الجزيرة الذي سُينفذها لاحقاً، ففي عام 599هـ، طلب الأشرف من الأفضل القدوم بعساكره للتوجه معه في الحملة ضَّد ماردين وبالفعل وصل الأفضل إلى حّران ورافقه الأشرف الذي كان يظهر الود والاحترام للأفضل، حتى إنَّه عندما استولى على رأس عين الخابور سلمها له وبعد الصلح مع ماردين والعودة إلى حرّان بلغ كرم الأشرف غايته مع ابن عمه، حيث أعطاه بلدين جملين (2)،
__________
(1) زبدة حلب لابن العديم ص 444 العلاقات الدولية (1/ 225).
(2) العلاقات الدولية (1/ 226) المنصوري ابن نطيف ص 38 ..(1/74)
إلا أن الملك العادل أرسل عسكره ونوابه واستعاد جملين من الأفضل وانتزع منه سروج وشبختان والموزر والسن (1)، ثم تابع الملك العادل وابنه الأشرف تنفيذ مخططهما، ضّد الأفضل فأخذوا رأس عين الخابور من الملك الأفضل وكذلك جملين بكذبه كذبوها عليه لاستعادة البلاد منه ولم يبُقوا عليه سوى سُمَيساط (2)، كانت محاولة الأفضل الأخيرة، قبل أن يفقد كُلَّ أمل له ضمن أسرته الأيوبيَّة، هي التذلُّل لعَّمه العادل، واستعطافه، فأرسل والدته إلى حماة، لتشفع صاحبها المنصور عند العادل لإبقاء بلاده عليه لكن العادل لم يلتفت إلى ذلك (3)، عندما وجد الأفضل نفسه وحيداً ضمن البيت الأيوبي فأعداؤه هم أخوه وعمّه وأبناء عمَّه، مما زاد الأفضل حنقاً ودفعه باتجاه معاكس، فالتفت خارج البيت ليجد كيكاوس (4) سلطان سلاجقة الروم قريباً منه، ومرحباً به وربما لأنه عدو البيت الأيوبي انتمى إليه وخطب له على منابر سُمَيساط (5)، فكان انتقام الضعيف من القوي (6) وعندما تُوفَّي الملك الظاهر صاحب حلب، في عام 613هـ - 1216م وجد كيكاوس في الأفضل ضالتهَّ، فهو وسيلته للسيطرة على الجزيرة، ومن ثمَّ الدخول إلى الشام (7)، فأثار مطامع الأفضل ووعده بأخذ حلب، وتسليمها له: وكان كيكاوس يُريد الملك لنفسه ويجعل الأفضل ذريعة للتوصل إليه (8)، ففي عام 615هـ طالب كيكاوس من الأفضل، أن يكاتب أمراء حلب الذين يميلون إليه، فكاتبهم، ووعدوه (9)،
__________
(1) العلاقات الدولية (1/ 226).
(2) العلاقات الدولية (1/ 226) المختصر أبو الفداء (3/ 104).
(3) المصدر نفسه (1/ 227).
(4) هو السلطان عز الدين سليمان بن قلج أرسلان صاحب الروم.
(5) العلاقات الدولية (1/ 227).
(6) المصدر نفسه (1/ 227).
(7) العلاقات الدولية (1/ 227).
(8) زبدة حلب (2/ 644) العلاقات الدولية (1/ 227).
(9) زبدة حلب (2/ 644) العلاقات الدولية (1/ 228) ..(1/75)
وكأن عدد من مستشاري عز الدين كيكاوس قد "حسَّنوا له قصد حلب وقالوا: المصلحة أن تستعين بالأفضل، فإنه في طاعتك، ويخطب لك، والناس مائلون إليه، فاستدعاه وأكرمه واتَّفقا على قصد البلاد، وأن حلب وأعمالها للأفضل وبلاد الأشرف لعز الدَّين (1) وساند الأفضل كيكاوس ورافقه في هجومه على ممتلكات حلب "وساروا فملكوا رعبان، وسُلمَّت للأفضل لكن؛ لمَّا مُلكت تل باشر أخذها عز الدين كيكاوس لنفسه، وكذلك منبج، فنفر الأفضل وقال: هذا أول الغدر، ونفرت أهل البلاد، فقد كانوا فرحين بُملك الأفضل (2) ولما تحقق الأفضل من سوء نيَّة كيكاوس، أشار عليه بقصد البلاد، وتأخير حلب، لمرور الزمن في غير فائدة، لئلا بتحصل لعزّ الدين مقصوده (3)، وكان تراجع الأفضل عن دعم كيكاوس من الأسباب القَّوية لهزيمته أمام قوات حلب والأشرف موسى (4)، فقد تراجع منهزماً واستردوا كُلَّ ما استولى عليه، وعاد الأفضل ليقبع في سُمَيساط ولم يتحرك - بعدها - في طلب مُلك، إلى أن مات عام 622هـ (5)، 1225م وكان موته فجأة وله من العمر سبع وخمسين سنة (6).
__________
(1) مفرج الكروب (3/ 263) العلاقات الدولية (1/ 228).
(2) مفرج الكروب (3/ 263) العلاقات الدولية (1/ 228).
(3) مفرج الكروب (3/ 265) العلاقات الدولية (1/ 228).
(4) العلاقات الدولية (1/ 228).
(5) المختصر، أبو الفداء (3/ 119).
(6) العلاقات الدولية (1/ 228).(1/76)
وهكذا أكمل العادل مُخططَّه تجاه الأفضل الذي كان يتصَّوره الأقوى بين أبناء صلاح الدين ولكنه كان - على ما يبدو - بعيداً عن مغاور السياسية وألاعيبها بسيطاً مع أنه جمع الفضائل والأخلاق الحسنة؛ وعلَّل أبو الفداء بأنه كان: قليل الحظَّ (1)، لكن الأرجح أنه سوء تدبير أكثر منه قلّة حظَّ، فله من الخبرة والتجربة في دولة أبيه، وربما ما يفوق ما كان لأخيه الظاهر غازي أو العزيز ونلاحظ أن العادل قد تجاوز صلاح الدين بحسن التدبير لتدريب أبنائه، وربما كان ذلك بسبب انشغال صلاح الدين الدائم بالجهاد، فقد أمضى جُلَّ عمره على صهوة جواده، وكان يرى أن تحرير ديار المسلمين رسالة عليه أن يُؤدَّيها، فلم يلتفت إلى ما سواها، بينما التفت العادل لترتيب شُؤون أولاده بعد موت صلاح الدين، وساعده على ذلك توقف الأعمال الحربية الكبرى مع الفرنج (2).
__________
(1) المختصر أبو الفداء (3/ 135).
(2) العلاقات الدولية (1/ 229).(1/77)
ويعتبر النزاع الداخلي في الأسرة الأيوبية من أسباب ضعفها واضمحلالها وزوالها، فمن سنة الله تعالى في الشعوب والأمم وأسباب زوالها وهلاكها الاختلاف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا، وفي رواية "فأهلكوا" (1). وعند ابن حيان عن ابن مسعود رضي الله عنه: فإنما أهلك من كان قبلكم الاختلاف (2). إن من الدروس المهمة في هذه الدراسة التاريخية أن نتوقى الهلاك بتوقي أسباب الاختلاف المذموم، لأن الاختلاف كان سباباً من الأسباب التي ساهمت في ضياع الدولة الأيوبية وكان لهذا الاختلاف الذي وقع في البيت الأيوبي أسبابه منها: الوازع الديني عند بعض أمراء الأيوبيين والأناينة وحب الذات والتكالب على المصالح الدنيوية، والتناحر من أجلها، والحرص على السلطان والجاه والمناصب وتحكيم بعض الملوك أهواءهم في الأمور، فهذه الأسباب كانت وقوداً للمنازعات والخلافات التي وقعت بين أفراد البيت الأيوبي، فكانت من أكبر معاول الهدم وأسباب الضعف وتلاشي الدولة وقصر عمرها وقد استقرأ هذه الحقيقة ابن خلدون حيث ذكر أن من آثار الهرم في الدولة انقسامها وأن التنازع بين القرابة يقلص نطاقها كما يؤدي إلى قسمتها ثم اضمحلالها (3).
__________
(1) صحيح البخاري يشرح العسقلاني (9/ 101، 102).
(2) المصدر نفسه (9/ 102) الدولة الأموية للصَّلاَّبي (2/ 582).
(3) العبر (1/ 517) الضعف المعنوي وأثره في سقوط الأمم ص 118.(1/78)
إن حوادث الخلاف والمنازعات الداخلية بين أبناء البيت الأيوبي - حول تقسيم التركة التي خلفها صلاح الدين - لتملأ معظم تاريخ الدولة الأيوبية، ويرجع ذلك إلى تطبيق مبدأ اعتبار المملكة إرثا خاصاً يقسم أنصبة متساوية وغير متساوية بين أبناء البيت المالك، كما يرجع إلى صلاح الدين نفسه، الذي فضل أبناءه، وأثرهم على أخيه العادل على الرغم من أنه أقدر القادرين على امتلاك ناصية الدولة بعده، فبينما حرص صلاح الدين على أن تكون أهم أقاليم المملكة لأبنائه، عين أخاه العادل على أطراف مبعثرة مثل الكرك والشوبك، على أن عوامل الانقسام والشقاق ما لبثت أن دبت بين أبناء صلاح الدين أنفسهم كما رأينا ولقد انتهز العادل تلك الفرصة ورأى أن يجمع هذا الشتات تحت إمرته، فلم يتردد في فرض سلطانه على مصر إلى جانب أملاكه في الشام، وهكذا لم يمضي على وفاة صلاح الدين سوى سبع سنوات حتى طوى العادل معظم أولئك الأبناء فحل محلهم في دولة موحدة (1)، وقد سلك العادل في سبيل تحقيق هذا الهدف الطرق المشروعة وغير المشروعة، ولم يعدم وسيلة إلا اتخذها، مادمت توصله إلى مأربه وتظهر لنا سياسته بوضوح في تصريحه الخطير الذي ألقاه على من حوله من أمراء الدولة الأيوبية بمصر، مبرراً خلعه الملك منصور بن العزيز بن صلاح الدين: إنه قبيح بي أن أكون أتابك صبي مع الشيخوخة والتقدم والملك ليس هو بالإرث وإنما هو لمن غلب (2).
__________
(1) قيام دولة المماليك الأولى في مصر د. أحمد العبادي ص 88.
(2) المغول في التاريخ ص 87، السلوك (1/ 155).(1/79)
5 - العلاقات الأيوبية الزنكية في عهد العادل:
دخلت العلاقات الأيوبية - الزنكية مرحلة جديدة عقب وفاة صلاح الدين في عام 589هـ/1193م) استغل خلالها حكام الموصل الصراع الداخلي بين ورثته لاستعادة نفوذهم المسلوب، وقضت مصلحتهم التحالف مع طرف ضد الطرف الآخر أثار تقسيم المملكة الأيوبية، مطامع عز الدين مسعود الأول، فاستغل الفرصة، وراسل أمراء الأطراف، وحكام المدن للتنسيق معهم، فلم يستجب له منهم سوى أخيه عماد الدين زنكي الثاني صاحب سنجار (1) ويبدو أن هؤلاء الأمراء لاسيما مظفر الدين كوكبوري صاحب إربل، وسنجر شاه صاحب جزيرة ابن عمر، خشوا من طموحاته، ووجدوا أنه ليس من مِصلحتهم أن يستعيد نفوذه وقوته، والأفضل أن يظل ضعيفاً حتى يستمر الوضع كما هو، فلا يطمع بما في أيديهم من البلاد التي كانت تابعة للنفوذ الزنكي من قِبل (2) ورأي عز الدين مسعود الأول أن يجتمع مع أخيه، لوضع خطة مشتركة تهدف إلى استعادة ما كان صلاح الدين قد اقتطعه من دولة الموصل لاسيما حران والرها، وكان بيد العادل، فخرج إلى نصيبين واجتمع بأخيه فيها (3)، لكن المرض سرعان ماداهم عز الدين وأجبره على العودة نحو الموصل، تاركاً جيشه مع أخيه عماد الدين لإكمال المهمَّة التي خرجا من أجلها وهي احتلال الجزيرة، لكنّ عماد الدين قرر الصلح مع الملك العادل رُبَّما لأنه كان مسالماً في طبعه، ليَّن العريكة، يؤثر السلامة أو لأن مرض أخيه جعله يفكر في مشاكل البيت الزنكي، ورأى أن عودته نحو سنجار غدت ضرورية، ومهما كان الأمر فقد قّرر الصلح (4).
__________
(1) مفرج الكروب (3/ 16 - 17) تاريخ الأيوبيين، طقوس ص 243.
(2) دولة الأتابكة في الموصل، رشيد الجميلي ص 170 - 170.
(3) الكامل في التاريخ نقلاً عن تاريخ الأيوبيين ص 243.
(4) العلاقات الدولية (1/ 273).(1/80)
أ- الاصطدام الأيوبي الزنكي في ماردين: تراوحت العلاقات الأيوبية الزنكية في عهد أرسلان شاه الأول 589هـ - 607هـ/1193 - 1211م والعادل بين التعاون والعداء وقد تابع العادل زحفه باتجاه الجزيرة بعد أن استدعاه قطب الدين محمد صاحب سنجار لمساعدته ضد ابن عمه أرسلان شاه الأول صاحب الموصل الذي هاجم نصيبين وانتزعها منه، وفي نيته (العادل) إخضاع المنطقة وتأديب بلك أرسلان الأرتقي صاحب ماردين الذي أوشك أن يحطم ما للأيوبيين من سلطان عليه، فحاصر المدينة واستولى على ربضها، وكادت تسقط في يده لولا أن تغيرت الظروف السياسية فجأة لغير صالحه ذلك أنه حدث أن توفي العزيز عثمان صاحب مصر، فسارع أخوه الأفضل علي إلى مصر وضَّمها إلى أملاكه، وكان بين الأفضل علي والعادل وحشة، فعمل الأول على عرقلة مشاريع الثاني في الجزيرة وتصّرف على محورين:(1/81)
الأول: استدعى العسكر المصري الذي كان يرافق العادل في مهمته في الجزيرة.
الثاني: كتب إلى صاحب الموصل، وصاحبي سنجار، وجزيرة ابن عمر، عارضاً عليهم التحالف معه لطرد العادل من الجزيرة (1). الواقع أن هؤلاء الأمراء كان يخشون من أن يغلبهم العادل على أمرهم، ويتمكن من بلادهم بعدما رأوا قواته تجوب المنطقة، فأجابوه إلى طلبه وتحرك الأفضل علي باتجاه دمشق، في حين تأهب آل زنكي في الجزيرة لمساعدته (2)، ونتيجة لهذه التطورات غادر العادل ماردين باتجاه دمشق مع بعض قواته لقطع الطريق على الأفضل علي تاركاً ابنه الكامل محمد على حصارها (3) وتوالت الأحداث سريعة بعد ذلك، فقد انتهز نور الدين أرسلان شاه الأول صاحب الموصل انهماك العادل بمشكلة دمشق فخرج بعساكره في شهر شعبان عام 595هـ/شهر حزيران عام 1199م قاصداً ماردين فنزل دُنَسيْر حيث وافته قوات صاحبي سنجار وجزيرة ابن عمر، وبعد أن نسَّقوا فيما بينهم ساروا إلى بلدة حرزم (4)، وعسكروا فيها استعداداً لبدء القتال مع جيش الكامل محمد، وإجباره على فك الحصار عن ماردين (5).
__________
(1) تاريخ الزمان ص 231 لابن العنبري، تاريخ الأيوبيين ص 245.
(2) الكامل في التاريخ نقلاً عن تاريخ الأيوبيين ص 245.
(3) تاريخ الأيوبيين ص 245.
(4) المصدر نفسه ص 245: اسم بليدة في واد ذات نهر جار وبساتين بين ماردين ودُنسير.
(5) تاريخ الأيوبيين ص 245 نقلاً عن الكامل في التاريخ.(1/82)
وكان أهل ماردين قد أجهدهم الحصار حتى أوشكوا على التسليم لولا وصول القوات الزنكية، فقويت نفوسهم وامتنعوا عن الدخول في الصلح، واشتبك الجانبان في رحى معركة شديدة انتهت بهزيمة الكامل محمد، وأسر عدد كبير من عسكره، وانسحب بمن معه إلى ميافارقين ومنها إلى حّران حيث استدعاه والده إلى دمشق، وعاد صاحب الموصل إلى دُنَيسر، ثم رحل عنها إلى رأس عين وفي نيته مهاجمة حّران لانتزاعها من يد الفائز إبراهيم بن العادل لكنه فوجئ برسل الظاهر غازي صاحب حلب يطلب منه أن يخطب باسمه في الموصل وأعمالها وأن يضرب السكة باسمه فيها (1)، فنفر من هذا الطلب، وتوقف عن مواصلة الزحف وكان قد أصيب بمرض فقررّ العودة إلى الموصل في شهر ذي الحجة عام 596هـ/شهر تشرين الأول عام 1200م وأرسل إلى كل من الظاهر غازي والأفضل علي يعتذر لهما عن عودته (2).
__________
(1) التاريخ الباهر ص 195 تاريخ الأيوبيين ص 246.
(2) تاريخ الأيوبيين ص 246 نقلاً عن الكامل في التاريخ.(1/83)
ب- التكتل الرباعي ضد العادل: شجع اشتداد حدة النزاعات داخل الأسرة الأيوبية، أمراء الجزيرة على خلع طاعة العادل وإخراج نوابه من ديارهم، وقد أثارت سيطرة هذا الأخير على مصر خوف الظاهر غازي صاحب حلب، فأراد أن يدعم موقفه بتكتل ثلاثي يضمه مع كل من صاحب الموصل وماردين على أن يكونا جميعاً يداً واحدة لمواجهة مطامع العادل، ومالبث أن انضم الأفضل علي إلى هذا التحالف بعد أن أزاحه العادل عن الحكم في دمشق، ولما توجه الأخوان، الظاهر غازي والأفضل علي، لحصار دمشق لانتزاعها من يد العادل، أرسلا إلى نور الدين أرسلان شاه الأول يحَّثانه على مهاجمة البلاد الجزرية التابعة للعادل وهي الرها وحّران، حتى يخفَّفا الضغط عنهما، أثناء مدة الحصار (1). وفعلاً سار صاحب الموصل في شهر شعبان عام 597هـ/شهر أيار 1201م إلى مدينة حّران، وكان يحكمها الفائز إبراهيم بن العادل، وسانده ابن عمّه صاحب سنجار، ونصيبين، وصاحب ماردين، ونزل في رأس عين (2) وكان الفائز عاجزاً عن الوقوف في وجه الحشود الضخمة، التي حشدها الخلفاء، فمال إلى الصالح، وكان المتحالفون قد تلقوا أنباء عن قرب عقد صلح بين الأمراء الأيوبيين المتنازعين، كما تفشَّت الأمراض في صفوفهم، فحصدت كثيراً من جندهم وكان الوقت صيفاً، فأصابهم الإرهاق، واضطروا إلى الموافقة على عقد الصلح (3) وكانت هذه الاستجابة نابعة من قناعتهم في إبقاء العلاقات الطيبة مع أولاد صلاح الدين لمناوأة مطامع العادل من جهة، والتخلص من المعاناة التي أصيبوا بها نتيجة تفشَّي الأمراض والإرهاق من جهة أخرى (4)، وتقَّرر الصلح على أساس احتفاظ الفائز إبراهيم بما في يده من البلاد الجزرية.
__________
(1) المصدر نفسه ص 246.
(2) الكامل في التاريخ نقلاً عن تاريخ الأيوبيين ص 246.
(3) ابن العبري ص 233 تاريخ الأيوبيين ص 246.
(4) تاريخ الأيوبيين ص 247.(1/84)
وافق العادل على هذا المبدأ وعاد نور الدين أرسلان شاه الأول إلى الموصل في شهر ذي القعدة/شهر آب (1).
ج- التعاون الأيوبي الزنكي في حصار ماردين: اتسمت سياسة نور الدين أرسلان شاه الأول تجاه الأيوبيين بالتقلبات السريعة وفقاً للمصالح المتبادلة بين الجانبين. وتطبيقاً للمبدأ السياسي الذي يقول بأنه لا توجد سياسات دائمة بل مصالح دائمة وهذا مبدأ قديم عند الكثير من السياسيين كما نرى وليس اكتشاف غربي كما يرى البعض؛ وتعاون صاحب الموصل مع العادل في مهاجمة الأراتقة في ماردين في شهر محرم عام 599هـ/شهر أيلول عام 1202م ذلك أن العادل لم ينس الهزيمة التي مُنيت بها قواته في ماردين في عام (595هـ/1199) ولم يغفر للماردينيين جرائمهم بحق جنده، لذا قرر الانتقام، وكان قد حصَّن موقفه نتيجة اتفاق الصلح الذي عقده مع أبني أخيه الأفضل علي والظاهر غازي من جهة، واستقطاب صاحبي الموصل وسنجار من جهة أخرى والراجح أن انضمام نور الدين أرسلان شاه الأول إلى جانب العادل من شأنه أن يكسبه بعض المغانم، وقد يؤدي إلى التوسع على الأرض على حساب الأراتقة وأرسل العادل عساكره إلى ماردين بقيادة ابنه الأشرف موسى، فحاصرت المدينة، وانضمت إليهم عساكر من الموصل وسنجار، ويبدو أن الحصار استغرق وقتاً طويلاً دون أن يحصل المتحالفون على مكاسب، فتدخل الظاهر غازي في الصلح الذي تَّم على الأسس التالية:
- يدفع صاحب ماردين مائة ألف دينار إلى العادل.
- يضرب السكة باسم العادل، ويخطب له في بلاده.
- يتعهد بإرسال العساكر إلى العادل متى طلب منه ذلك (2)
__________
(1) التاريخ الباهر ص 196، مفرج الكروب (8/ 127).
(2) تاريخ الأيوبيين ص 247.(1/85)
ح- تجُّدد الصراع مع العادل: لم يكف العادل عن محاولاته لعزل الموصل عن بقية الإمارات الجزرية، ومنع أي تحالف ينشأ بينها وذلك بهدف السيطرة عليها، وقد أثاره ذلك الاتفاق الذي تم بين نور الدين أرسلان شاه الأول وبين ابن عمه قطب الدين محمد صاحب سنجار ونصيبين في المدة الواقعة ما بين (595 - 600هـ/1199 - 1203م) فسعى إلى فصمه، وتمكَّن من استقطاب قطب الدين محمد واتفق معه بأن تكون الخطبة له في بلاده (1) مما أدّى إلى تدهور العلاقات مع الموصل وبدأ نور الدين أرسلان شاه الأول أعماله العسكرية ضد ابن عمه بمهاجمة نصيبين وما كاد يستولي عليها، ويتأهب لدخولها، حتى جاءته الأنباء بقيام مظفر الدين كوكبوري صاحب إربل بمهاجمة بلاده مستغلاً فرصة غيابه عنها، فاضطر إلى رفع الحصار عن نصيبين وعاد إلى بلاده للدفاع عنها، فلما وصل إلى مدينة بَلَد (2) علم أن كوكبوري عاد إلى إربل وأن ما بلغه من أخبار مبالغ فيها (3) وواجه نور الدين أرسلان الأول في عام 600هـ/1204م تكتلاً عسكريا ضمَّ الأشرف موسى بن العادل الذي عيَّنه والده نائباً عنه على شمالي الجزيرة، وأخاه الأوحد نجم الدين أيوب صاحب ميافارقين وقطب الدين محمد صاحب سنجار ومظفر الدين كوكيوري صاحب إربل، وصاحب جزيرة ابن عمر، وصاحب كيفا وآمد وادرا، وكان هدف هذا التكتل مساعدة صاحب سنجار (4) ومُني نور الدين أرسلان شاه الأول بهزيمة قاسية أمام الحِلف، وكان لذلك أثر كبير في أضعاف قوته، فلم يَسْعَ إلى استئناف القتال، وجنح إلى السلم، وتقَّرب من العادل، ومن مظاهر هذه السياسة اشتراكه مع قوات العادل في عام 604هـ/1207م في قتال الصليبيين في إمارة طرابلس (5)
__________
(1) المصدر نفسه ص 248 مفرج الكروب (3/ 156).
(2) بَلَد: مدينة قديمة على دجلة وفوق الموصل.
(3) مفرج الكروب (3/ 153).
(4) الكامل في التاريخ، تاريخ الأيوبيين ص 248.
(5) مفرج الكروب (3/ 172 - 173) تاريخ الأيوبيين ص 249 ..(1/86)
وحدث في العام التالي أن توثَّقت العلاقات بين الطرفين بالتقارب الأسري فقد زوَّج العادل أحد أبنائه من إبنة صاحب الموصل (1). وظن نور الدين أرسلان شاه الأول أنه، في ظل هذا التقارب، يمكنه أن يستعيد قوته ونفوذه على حساب قطب الدين محمد صاحب سنجار، ومحمود سنجر شاه صاحب جزيرة ابن عمر الدين تربطه بهما علاقات عدائية وتأثر بآراء بعض مستشاريه، فأجرى مباحثات مع العادل وعرض عليه اقتسام أملاكهما، على أن يأخذ هو جزيرة ابن عمر، ويأخذ العادل سنجار (2) وجاءت الفُرصة للعادل تسعى، فقد هاجم الكرج مملكة خِلاط واحتلُّوا أرجيش (3) وكانت للأوحد بن العادل الذي استصرخ أباه (4)، فأعلن العادل التعبئة ضّد الكرج،: وكتب إلى البلاد يطلب العساكر وأظهر أنه يريد قَصْد الكُرج فوصل إليه الملك المنصور صاحب حماة والملك المجاهد صاحب حمص والملك الأمجد صاحب بعلبك، وعسكر من الملك الظاهر صاحب حلب ونزل بحّران ووصل إليه ولده الملك الأوحد - صاحب خلاط وميّا فارقين والملك الأشرف والملك الصالح محمود بن محمد بن قرا أرسلان الارتقي صاحب آمد وحصن كيفا، ووصل إليه صاحب السويداء وصاحب دارا (5) وعندما وصل العادل رأس عين بلغه انسحاب الكرج (6)، وذلك: أن الكرج لّما عرفوا بحركته، خافوا، وكّروا عائدين إلى بلادهم (7).
__________
(1) تاريخ الأيوبيين ص 49، سبط ابن الجوزي ص 249.
(2) تاريخ ابن خلدون (5/ 593) تاريخ الأيوبيين ص 249.
(3) مفرج الكروب (3/ 183) العلاقات الدولية (1/ 278).
(4) العلاقات الدولية (1/ 278).
(5) مفرج الكروب (3/ 190، 191).
(6) زبدة حلب (2/ 630).
(7) مفرج الكروب (3/ 192) العلاقات الدولية (1/ 279).(1/87)
س- قصد الملك العادل سنجار وحصارها: عندما رجع الكرج إلى بلادهم خائفين، التفت العادل لتحقيق هدفه الرئيسي ولابد أنه قد حار في أمره، فكيف يتوجَّه نحو سنجار لأخذها وقّوات أميرها قطب الدين معه في حملته؟ وكيف يبُرَّر ذلك أمام الملوك والأمراء من آل بيته؟ فلم يجد أفضل من إعلان الغضب على قطب الديَّن، لأنَّه تخلَّف عن الحُضور بنفسه واكتفى بإرسال قّواته، وقال إنه: تّجدد له قصد سنجار لتخلفُّ صاحبها عن وصوله بنفسه (1)، مع أن الظاهر غازي - أيضاً - لم يصل بنفسه فالأمر مُبيَّت، وأساس جميع الجيوش، هو قصد سنجار، وعلى الغالب، فإن تحُّرك الكرج جاء عَرضَاَ فأحسن العادل استغلاله، وأعلن العادل أنه سيتوجهَّ لمعاقبة صاحب سنجار أوّلاً، وأرسل إليه يطلب تسليم سنجار مقابل عوض، فرفض ذلك وفي عام 605هـ/1208م كان العادل يتحرك صوب سنجار وفي طريقه أخذ نصيبين والخابور ثم نصب المجانيق وقاتل سنجار وأشرف على أخذها عنوة (2)
__________
(1) العلاقات الدولية (1/ 278).
(2) مفرج الكروب (3/ 193) ..(1/88)
وأرسل صاحبها قطب الدين نساءه وحرمه يضرعن إليه ويسألنه إبقاء المدينة عليهن، فلما حصل النسوة عنده أمر باعتقالهن إلا بتسليم سنجار، فاضطر قطب الدين إلى إلقاء المقاليد إليه، وأجاب على تسليم البلد على أن يعوض عنها الرقة وسروج وضياع من بلد حّران وأطلق الملك العادل النسوة؛ وأمر بإدخال علمه إلى البلد، فلما حصلت النسوة بالبلد ودخل عَلَمُ الملك العادل أمر قطب الدين بكسر العلم، وعُلقَّ على الباب واستعد للحصار، وأرسل إلى الملك العادل يقول له: غدرة بغدرة والبادي أظلم، فجّد الملك العادل في مضايقة البلد ومحاصرته، واصطلى أهلُ سنجار الحرب بأنفسهم وصبروا أحسن صبر وأمر الملك العادل بقطع ما على البلد من البساتين والجواسيق، ونصب على البلد عدة مجانيق وأخذ قطب الدين في مكاتبة الملوك والاستنجاد بالخليفة الناصر لدين الله وكان نور الدين صاحب الموصل قد عزم على تسيير عسكر نجدة للملك العادل مع ولده الملك الظاهر عز الدين مسعود (1)، لتنفيذ الاتَّفاق المسبق بينهما وإذ برسول مظفَّر الدين كوكبوري صاحب إربل، الذي كانت له وجهة نظر أخرى، فقد شعر بأن العادل قَّوة كُبرى في مجاورتها خطر شديد عليه، وعلى الموصل، فأنفذ رسوله إلى صاحب الموصل، وشرح وجهة نظره، وعرض عليه التحالف لإنقاذ سنجار، التي ستكون حاجزاً أمام أطماع العادل بممالكهم هُنا، وخاف نور الدين مغبة ما بعد سيطرة العادل على سنجار فوافق على طلب مظفر الدين كوكبوري وراسلا الظاهر في حلب فوافق وانضم إليهم (2)
__________
(1) المصدر نفسه (3/ 193، 194).
(2) العلاقات الدولية (1/ 280) ..(1/89)
ونقض ما كان بينه وبين العادل وكانت للملك الظاهر في عمل ماردين ضيعة يقال لها القرادي أعطاه أياها صاحب ماردين لما أصلح بينه وبين الملك العادل فصارت في يد الملك الظاهر يستغلها، فلما كانت هذه السنة والملك العادل على سنجار أقطعها الملك العادل للملك الصالح محمود الأرتقي - صاحب آمد، فجعل الملك الظاهر ذلك حجة في نقض ما بينه وبين الملك العادل وأحضر فقهاء حلب عنده، وقال: ما تقولون في رجل حلف لرجل يميناً على أشياء فخان أحد الرجلين في بعض تلك الأشياء، أينحل عقد تلك اليمين ويبطل حكمها، فأظهر لهم صورة الحال، فأفتوه بأن اليمين قد بطلت، ولا يلزمه إذا نقض ما بينه وبينه حنث وأجابهما سلطان سلاجقة الروم وأخوه إلى ذلك (1) وكان الملك الظاهر لديه شك دائم بنوايا عمَّه خاصة بعدما فعله بأخويه الأفضل والعزيز وراسل الحلفاء الخليفة ليشفع لدى العادل بصاحب سنجار وما ذلك إلا لزيادة الضغط على العادل، وعزله سياسياً (2) وأرسل مظفر الدين إلى العادل يشفع في صاحب سنجار "فلم يقبل، وقال: لا يجوز لي في الشرع تمكين هؤلاء من أخذ أموال بيت المال في الفساد وترك خدمة الأجناد وفي مصلحة الجهاد (3) فكانت حُجته هي المصلحة العامة التي لا يراعيها صاحب سنجار وفساده وإتلافه للأموال العامة، كما اتًّهمه بالتقصير بحقَّ الجيش، وبواجب الجهاد، إنَّها تهمة كبيرة وحُجَّة مسوغة في ذلك الزمان، وكان ردُّ مظفر الدين أن أفسد جماعة من عسكر العادل (4)، بأن استمالهم بالأموال والوعود بإقطاعات ففسدت نيّاتهم عن مناصحة العادل بالقتال معه، وهذه طريقة للتعامل كانت شائعة جداً، فمعظم الجند جاهز للاتَّفاق مع من يدفع أكثر (5)
__________
(1) مفرج الكروب (3/ 195).
(2) العلاقات الدولية (1/ 280).
(3) المصدر نفسه (1/ 280).
(4) زبدة حلب (2/ 630).
(5) العلاقات الدولية (1/ 281) ..(1/90)
واستمر حصار العادل لسنجار حتى عام 606هـ - 1209م، فطلب صاحبها قطب الدَّين مساعدة ابن عمَّه نور الدَّين بعساكرها نحوه (1) كذلك خرج الظاهر في حلب بقّواته وأرسل للعادل يشفع بصاحب سنجار وقال لرسوليه: إن لم يقبل الشفاعة، فأعلما، أني خارج إلى بلاده وأن يأمرا عسكر حلب أن يفارقوه إلى الموصل، أو إلى حلب (2)، وأرسل يُغري المجاهد صاحب حمص والمنصور صاحب حماة بالعادل، فكانت الضربة القاسمة لوحدة البيت الأيوبي واجتماعه في القتال على سنجار، فتخاذل قَّواد العادل على القتال، وتآمر ملوك الأيوبية الذين معه، لاسيما المجاهد الذي كان يُدْخِل من جانبه الأقَوات إلى سنجار (3)، وغالباً فقد كانت للمُجاهد دوافعه الخاصّة ضَّد العادل، ولم يتصَّرف بذلك من أجل الأتابكة، أو بتحريض الظاهر له (4)، وفي هذه الأثناء، أرسل الخليفة الناصر رسوله، أبو نصر هبة الله بن المبارك بن الضّحاك وهو أستاذ داره، والأمير آقباش وهو من خواصَّ مماليك الخليفة، للشفاعة بصاحب سنجار، وترك حصارها (5). فلاحت فرصة الخلاص من هذا المأزق للعادل، فأظهر قبول وساطة الخليفة ووافق شريطة احتفاظه بنصيبين والخابور (6).
__________
(1) مفرج الكروب ابن واصل (3/ 196).
(2) المصدر نفسه (3/ 196).
(3) مملكة حمص الأيوبية، منذر الحايك ص 167.
(4) الموسوعة الشاملة (14/ 355).
(5) مفرج الكروب (3/ 197) العلاقات الدولية (1/ 281).
(6) المصدر نفسه.(1/91)
ك- وقفة مع تحركات الحلفاء ضد العادل في حصار سنجار:
إن قبول العادل لوساطة الخليفة ما هو إلا مخرج حفظ به ماء وجهه، فقد أيقن بفشل الحصار وتأكد من تخاذل بني أيوب من حوله، وأن الأمور تكاد أن تنقلب عليه، فكانت وساطة الخليفة إنقاذاً له بالدرجة الأولى، ونستنتج من كل ذلك أن البيت الأتابكي (الزنكي) بعلاقاته السياسية والعسكرية لم يكن مُكافئاً للبيت الأيوبي، لا من حيث القوة والتأثير، ولا من حيث وحدة البيت الأتابكي، فلم يكن لهم وزن إقليمي مؤثَّر قادر على إحداث تغيُّرات جذرية في شمال العراق والجزيرة، حتى في حال استغلالهم خلافات البيت الأيوبي، ونجد - على الدوام - أن مُعظم أمراء الأتابكة يخضعون لسلطان الأيوبية ويدعمونهم بالنجدات ويخطبون لهم وينقشون اسمهم على السّكة في بلادهم في معظم هذه المرحلة من الزمن إلا أن عهد التفوق الأيوبي الكامل، والإنفراد بالزعامة قد تم بوفاة نور الدين أرسلان شاه صاحب الموصل عام 607هـ - 1210م واقتسام طفليه الصغيرين مملكته (1)، وبدء وصاية بدر الدَّين لؤلؤ مملوك أرسلان شاه (2)، على الموصل وبأبسط الطُّرُق زالت عقبة كأداء من أمام الملك العادل، وتحقَّق له الأطمئنان والراحة على حدوده الشَّرقيَّة (3).
__________
(1) العلاقات الدولية (1/ 283).
(2) المصدر نفسه (1/ 283).
(3) المصدر نفسه (1/ 283) الأيوبيون في شمال الشام للتكريني ص 152.(1/92)
ل - وفاة نور الدين صاحب الموصل: في سنة 607هـ توفي نور الدين أرسلان بن مسعود بن مودود بن زنكي صاحب الموصل في آخر رجب وكان مرضه قد طال ومزاجه قد فسد، وكانت مدة ملكه بالموصل سبع عشر سنة وأحد عشر (1) شهراً. كان رحمه الله - أسمر خفيف اللحية والعارضين جداً، مليح الوجه، قد أسرع إليه الشيب وكان شهماً شجاعاً عادلاً، ذا سياسة للرعية، شديداً على أصحابه يمنع بعضهم أن يتعدى على بعض، وكانوا يخافونه خوفاً شديداً، فلا يجسرون بسبب الخوف منه على الظلم والتعدي وكانت همته عالية، أعاد ناموس البيت الأتابكي ووجاهته وحرمته بعد أن كان قد ذهب، وخافته الملوك وكان سريع الحركة في طلب الملك، إلا أنه لم يكن له صبر، فلهذا لم يتسع ملكه ومن محاسن ما يُنقل عنه أنه لما توجه من الموصل في نجدة صاحب ماردين حين، كان الملك الكامل قد ملك رَبضَها وكا يستولي على قلعتها وضرب المصاف مع الملك الكامل وكسره، وكسرة قبيحة، وسافر الملك الكامل إلى حرّان، ولم يبق من عسكره بالمكان أحد، قال أصحاب نور الدين له؛ أصعد بعسكرك إلى رَبَض ماردين فما دونه مانع، وأملكه، وأملك القلعة ويكون هذا موضع المثل السائر: رب ساعٍ لقاعد: فقال حاشى لله أن يتحدث الناس أن ناساً اعتقدوا بي واستنفروا بي أغدر بهم: ثم قال لمجد الدين ابن الأثير - وكان من أكبر أصحابه: ما تقول يا مجد الدين؟ فقال: الغادرون كثير وقد أوعت غدراتهم الكتب، وهي باقية إلى الآن، ولم يؤرخ عن أحد أنه قدر على مثل ماردين وتركها وفاء وإنعاماً وإحساناً. وقال لمجد الدين: أرسل إلى صاحب ماردين ليرسل نوابه إلى ولاياته وكان قد أقطعها للعساكر التي معه وأمر بكفَّ أيديهم عنها، وتسليمها إلى صاحبها، فقال مجد الدين: إن أصحابنا لم يأخذوا درهما واحداً لتأخر إدراك الغلات، فلو بقي الإقطاع في أيديهم إلى أن يأخذوا ما ينفقون عليهم في بيكارهم (2).
__________
(1) مفرج الكروب (3/ 203).
(2) بيكارهم: في الحرب (3/ 204) ..(1/93)
فقال - رحمه الله -: لا نكدر إنعامنا وإحساننا إليهم، ونحن نكفي أصحابنا. قال مجد الدين: ما قلت له عن شيء قط من عدل وبذل مال وغير ذلك من الصلاح، فقال لا؛ وكنت معه في بعض أسفاره وله سرادار، قد سَرقَ ولده من داره قماشاً، وكانت مفاتيح الدارِ مع السرادار، فأرسل إلىَّ ليلاً فأمرني أن أكتب كتاباً إلى الموصل بقطع يده، فأعدت الجواب: أنني ما أكتب هذا الكتاب الليلة، وإذا اجتمعت به غداً عرفته في هذا فأعاد مرة ثانية وثالثة وأنا امتنع، فاستدعاني وقال لي: لم تكتب الكتاب؟ فقلت له: عادتي معكم أنني لا أكتب إلا ما تجيزه الشريعة فقال لي: هذا سارق، توجب الشريعة المطهرة قطع يده. فقلت: لا قطع عليه لأنه سرق من غير حرز ولأن المفاتيح بيده (1).
__________
(1) مفرج الكروب (3/ 205).(1/94)
6 - العلاقات الأيوبية - السلجوقية في عهد العادل:
عندما كان السُّلطان صلاح الدين يُوحَّد مصر والشَّام ويُركزَّ اهتمامه على محاربة الفرنج وتحرير الأرض، كان سلطان سلاجقة الروم في الأناضول، قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان (1)، يوزع مملكته على بنيه العشرة: فقوى كل منهم في ثغره، واستقل بأمره، ودبَّ في طبعه حُبَّ الاستيلاء والاستبداد، ومّد عينيه إلى ما في يد صاحبه من البلاد (2) وكان أكبر هؤلاء الأنباء قطب الدين ملكشاه وهو صاحب سواس: فهاجم قونية عاصمة أبيه وقتل أُمره، وأبقاه معه كالمعتقل، واستكتبه أنّه وليّ عهده، والقائم بالسلطنة معه ومن بعده وذهب لحصار أخيه سلطان شاه في قيسارية، فتمكّن الأب من الفرار إلى غياث الدين كيخسرو صاحب يرغلو، فجمع له، وحشد، وسار معه إلى قونية، فدخلها، ثم ماثت، فتولىَّ غياث الدَّين فيها (3) ويبدو أن أبناء البيت السلجوقي - أثناء صراعهم - قد طلبوا تدخل السلطان صلاح الدين فأرسل قاضي العسكر ابن الفَّراش يتوسط بين السلطان قلج أرسلان وأولاده، فتردد، يُسفر بينهم سنة (4) وبعد وفاة صلاح الدين، كان يلوح في أفق الشام أن ابنه الظاهر غازي صاحب حلب سيشكل أكبر قوّة أيوبية شمالية، وفي عهده تطابقت السياستان الحلبية، والسلجوقية، وغلب على علاقتهما التحالف والتعاون، وعندما هدَّد ليون ملك الأرمن أمن مملكة السلاجقة بقوته العسكرية وحصونه المنيعة، والأهّم من ذلك تمكنُّه من فتح ميناء بحري على المتوسط لاستقطاب التجارة العالمية (5)، وقدم الظّاهر غازي نجدة عسكرية قويّة فيها عدد من كبار أمراء حلب دعمت الجيش السلجوقي في هجومه على مملكة الأرمن (6)
__________
(1) الكامل في التاريخ (9/ 553) العلاقات الدولية (1/ 410).
(2) الموسوعة الشاملة (13/ 426) العلاقات الدولية (1/ 410).
(3) العلاقات الدولية (1/ 41).
(4) المصدر نفسه (1/ 410).
(5) هو ميناء أياس على البحر المتوسط.
(6) مفرج الكروب (3/ 187) العلاقات الدولية (1/ 410) ..(1/95)
وإزاء هذا التحالف سارع ليون ملك الأرمن - الذي لم يكن غريباً عن معرفة توزع القوى السياسية في المنطقة وتناقصاتها، فاتَّصل بالملك العادل صاحب القُوَّة الأيوبية الأكبر، فوجد العادل بهذا الطلب إقرار بقوتَّه وبفاعلِتَّها على مختلف الساحات فأجابه، وراسل كيخسرو، الذي لبّى طلب العادل وعقد صلح مع ليون بشروط يستفيد منها كل الأطراف (1) وفي عام 608هـ/1211م قُتل غياث الدين كخسرو في معركة الآشهر ضد تيودور لاسكاريس أمبراطور نيقية (2)، فتنازع ولداه عز الدين كيكاوس وعلاء الدين كيقباذ، فيمن يخلفه، فاستنجد الأول بالعادل، لمساعدته ضد أخيه وضد عمه طغرل شاه الذي دخل في غمرة الصراع على العرش وقد هاجم هذا الأخير أملاك عز الدين كيكاوس في سيواس، ورحَّب العادل بطلب المساعدة، ولما اقترب من حدود سيواس، خشي طغرل شاه، واضطر إلى فك الحصار عن المدينة (3)، بعد أن استقر عز الدين كيكاوس في الحكم حاول التوسع في منطقة كيلكية، فاصطدم بليون الثاني صاحب أرمينية الصغرى وحتى يقّوي موقفه جدَّد الحلف السابق، وإذ لا زالت أسباب التحالف مع الأيوبيين قائمة عرض الظاهر غازي، القيام بعمل مشترك ضد ليون الثاني، وانتزاع أنطاكية منه وكان هذا قد نجح في الاستيلاء على أنطاكية في عام 613هـ/1216م ونصَّب ريموند روبين، حفيد بوهيموند الثالث، أميراً عليها واتصل ببوهيموند الرابع صاحب طرابلس لتقديم يد العون على أن يأخذ أنطاكية (4)، واتفق الحلفاء على أن يدخل عز الدين كيكاوس إلى بلاد الأرمن من ناحية مرعش، ويدخل الظاهر غازي من جهة درساك، أما بوهيموند الرابع فيهاجم أنطاكية ومعه قوات من دمشق وحماة، وحمص لإغلاق الممرات الجبلية على قواته (5)،
__________
(1) العلاقات الدولية (1/ 411).
(2) تاريخ الأيوبين في مصر وبلاد الشام ص 254.
(3) مفرج الكروب (3/ 217).
(4) المصدر نفسه (3/ 234) تاريخ الأيوبيين ص 254.
(5) مفرج الكروب (3/ 234) ..(1/96)
أخذ الظاهر غازي يستعد للحملة وأرسل في الوقت نفسه رسالة جوابية إلى عز الدين كيكاوس حملها عبد الرحمن المنجي، فأدى الرسالة وحرّف فيها وزاد فيها شروطاً تضر الملك الظاهر وتوافق عز الدين لعدم كفايته، فسير الملك الظاهر، إلى الملك العادل يستثيره في ذلك، فهجَّن عليه الملك العادل رأيه، وأشار إليه بأن لا يجتمع إليه أصلاً، وعرّفه ما في ذلك من المفاسد، فوقع الملك الظاهر في حيرة عظيمة، بين أن يغدر بما وعد به عز الدين وبين أن يخالف عمَّه الملك العادل وترددت الرسل من عز الدين تستحثه على سرعة الحركة ووصل ابن لاون إلى الملك الظاهر برسالة مضمونها: إلى مملوك السلطان وغرس دولته وقد دخلتُ عليه دخول العرب، وأطلب منه إنقاذي من هذه الورطة، وأكون مملوكه ما عشتُ وقد حفظت بلاد السلطان غير مرة وخدمته، ومنها أن السلطان لما حاصر دمشق المرة الأولى وبقيت البلاد شاغرة من العساكر، ما شغلتُ قلبه ولا أذيت بلده، بل ساعدته وعاونته بمالي ورجالي (1)، وكذلك لما حاصر دمشق المرة الثانية، وقد بُذلت لي الأموال كلها لأشغل قلبه ويفتر عن الحصار فلم أفعل وإن كان الإبرنس قد خدم السلطان، فخدمتي أكثر من خدمته وسوف يبصر السلطان خدمتي وملازمتي بابه الشريف وقد أوصيت ابن أختي الذي نصبته بأنطاكية بملازمة خدمته (2). وبعث ابن لاون مع هذه الرسالة هدية عظيمة فاخرة، فمال الملك الظاهر، إلى قوله، وبقي متردداً (3)
__________
(1) مفرج الكروب (3/ 235).
(2) المصدر نفسه (3/ 235).
(3) المصدر نفسه (3/ 235) ..(1/97)
وأبطا الظاهر غازي في الخروج من حلب، وأرسل إليه كيكاوس قاضي آخراً يحثه على الإسراع بالخروج وفي الوقت الذي كان فيه القاضي مجتمعاً به، وصلت إليه أخبار بأن القوات السلجوقية المعسكرة في مرعش، أغارت على البلاط وهي من أعمال حلب وقتلت جماعة من الأرمن وأسرت جماعة أخرى، فأدرك عندئذ نصيحة عمه العادل، فانسحب من الحلف وامتنع عن مساعدة السلاجقة (1) وقال للرسول: أول الدية دُرْديّ؟ (2) لعجب أنكم تطلبون منا المعاونة وتخربون بلادنا (3). واهتم الملك الظاهر بتقوية علاقاته مع عمَّه وفي سنة 613هـ سيّر الملك الظاهر القاضي بهاء الدين بن شداد - إلى السلطان الملك العادل، وكان قبل ذلك قد أرسل القاضي نجم الدين بن الحجاج - نائب القاضي بهاء الدين في الحكم بحلب -، فوجد من الملك العادل قبولاً عظيماً، طيَّب قلبَ الملك الظاهر، وبسط أمله، فأنفذ الملك الظاهر القاضي بهاء الدين شاكراً لإنعامه وطلب منه أموراً ثلاثة: أحدها: أن يكون الملك العزيز محمد ولده ولىَّ عهد أبيه وقائماً بمُلك حلب وبلادها بعده. وثانيها: أن يزَّوج الملك العزيز ابنة الملك الكامل وثالثها: أن يكون صُلح الملك الظاهر وصُلح الملك العادل مع الفرنج واحداً، وفكسهما (4) معهم واحداً (5). قال القاضي بهاء الدين - رحمه الله -: فتوجهت إلى الديار المصرية، فأنهيت إلى السلطان الملك العادل هذه الفصول، فأجاب إلى تولية الملك العزيز عهد أبيه، وإلى الموافقة في الصلح والفكس مع الفرنج، وأما فصل الترويج فقال: هذا لا يتعلق بي، فاجتمع بالملك الكامل وتحدث معه فيه قال: فاجتمعت بالسلطان الملك الكامل، وخاطتبه فيه، فأجابني إليه وأخذت يده على ذلك (6).
__________
(1) تاريخ الأيوبيين ص 255.
(2) الدردي: هو السم.
(3) مفرج الكروب (3/ 236).
(4) فكسهما: نكثهما.
(5) مفرج الكروب (3/ 237).
(6) المصدر نفسه (3/ 237).(1/98)
أ- محاولة عز الدين كيكاوس التوسع باتجاه حلب: بعد أن أخضع مملكة أرمينية الصغرى، التفت عز الدين كيكاوس للتوسع باتجاه حلب وضَّم إمارتها إلى أملاكها وجاءته الفرصة التي طالما انتظرها بوفاة الظاهر غازي في عام 613هـ/1216م واعتلاء ابنه العزيز غياث الدين، البالغ من العمر سنتين وبضعة أشهر عرش الإمارة بوصاية والدته ضيفة خاتون ابنة العادل وأتابكة شهاب الدين طغرل (1) وتحركت رغبة التوسع في نفس عز الدين كيكاوس، وقرر الاستيلاء على حلب قبل ترسيخ الحكام الجدد أقدامهم في الحكم مدّعياً بأن المدينة كانت يوماً تحت حكم أعمامه (2)، وحتى يحكم الطوق على المدينة، استغل عز الدين كيكاوس النزاع الذي نشب آنذاك بين أمراء شمالي الشام لاقتسام تركة عز الدين مسعود صاحب الموصل الذي توفي في عام 615هـ/1218م وكان قد أوصى بالملك من بعده لابنه الأكبر نور الدين أرسلان شاه الذي لم يكن يتجاوز آنذاك العاشرة من عمره، على أن يقوم بالوصاية عليه بدر الدين لؤلؤ غير أن عمه عماد الدين طمع بالملك وبخاصة بعد وفاة نور الدين أرسلان شاه المبكرة واعتلاء أخيه ناصر الدين محمود سدة الحكم في الموصل، فهاجم بعض قلاعه بمساعدة مظفر الدين كوكبوري صاحب إربل، فاستنجد بدر الدين لؤلؤ بالأشرف موسى بن العادل، بينما طلب مظفر الدين كوكبوري مساعدة كل من عز الدين كيكاوس وناصر الدين محمود بن محمد بن قرا أرسلان الأرتقي، صاحب آمد وحصن كيفا، وصاحب ماردين، واتفق الجميع على الانضواء تحت راية عز الدين كيكاوس، وخطبوا باسمه في بلادهم تعبيراً عن هذه التبعية (3)
__________
(1) المصدر نفسه (3/ 237) تاريخ الأيوبيين في مصر وبلاد الشام ص 256.
(2) تاريخ الأيوبيين في مصر وبلاد الشام ص 256.
(3) مفرج الكروب (3/ 261 - 263) ..(1/99)
وسنحت لصاحب قونية فرصة البدء بالتحرك، فالأشرف موسى كان منهمكاً في محاربة الصليبيين في إمارة طرابلس حيث أغار على حصن صافيتا وحصن الأكراد، وأشار عليه بعض أتباعه بأن يصحب معه أحد ملوك الأيوبيين حتى يسهل انقياد الناس والعسكر فلا يشعروا بالتغيير فاستدعى الأفضل علي صاحب سميساط، وكان في طاعته ويخطب باسمه، فلما قدم عليه أكرمه وأهداه الكثير من الخيل والسلاح وتحالفا على التعاون والمسير إلى حلب، واتفقا على أن ما يستولي عليه عز الدين كيكاوس من حلب وأعمالها يكون للأفضل علي وهو في طاعته والخطبة له والسكة باسمه وما يستولى عليه من إقليم الجزيرة، مما في يد الأشرف موسى مثل حران والرها وغيرها، يكون لعز الدين كيكاوس (1)، واستدعى عز الدين كيكاوس أمراء الأطراف وأقام لهم احتفالاً عاماً سمّى خلاله لكل أمير بلدة بالشام تكون إقطاعاً له وذلك تشجيعاً لهم (2)، ثم عقد مجلساً حربياً لاختيار أنجع السبل للتحرك نحو حلب، فتقرَّر سلوك طريق راوندان - رعبان - حلب - نظراً لسهولة طبيعة الأرض (3)، والواقع أن صاحب قونية، عزم على ضّم كافة الأراضي التي سيستولى عليها إلى مملكته وإنما جعل الأفضل علي ذريعة لتحصيل غرضه على الرغم من أنه كان قد راسل جماعة من أمراء حلب يستميلهم واعداً إياهم بمنحهم إقطاعات (4) وتحّرك الجيش السلجوقي باتجاه قلعة رعبان واستولى عليها، ومنحها عز الدين كيكاوس إلى صهره نصرة الدين صاحب مرعش، بينما ذكر ابن الأثير أنه سلَّمها إلى الأفضل على حسب الاتفاق المبُرم بينهما (5)
__________
(1) الكامل في التاريخ نقلاً عن تاريخ الأيوبيين ص 57.
(2) تاريخ الأيوبيين ص 257.
(3) المصدر نفسه ص 257.
(4) ابن العديم (2/ 644) تاريخ الأيوبيين ص 257.
(5) الكامل في التاريخ نقلاً عن تاريخ الأيوبيين ص 257 ..(1/100)
وتابع الجيش زحفه فوصل إلى تل باشر وحاصرها حتى استسلمت وضمَّها إلى أملاكه ولم يسلمها إلى الأفضل علي، فقلق عندئذ هذا الأخير وفترت همته وقال: هذا أول الغدر، وخشي إن ملك عز الدين كيكاوس مدينة حلب أن يحرمه منها فيكون بذلك قد سعى إلى نقل الحكم من الأيوبيين إلى السلاجقة، لذلك أخذ يسعى لإبعاده عن بلوغ هدفه (1)، فاقترح عليه أن يهاجم بعض المدن والقلاع مثل منبج وغيرها، قبل مهاجمة حلب حتى يؤمن خطوطه الخلفية وهو بذلك يريد أن يشتَّت جهوده ويُضعف قواه (2)، وحتى يقطع الطريق عليه سار إلى منبج ودخلها سلماً، وشرع في ترميم سورها استعداداً لمواجهة محتملة معه (3).
__________
(1) تاريخ الأيوبيين ص 257.
(2) المصدر نفسه ص 257.
(3) المصدر نفسه ص 257.(1/101)
ولما علمت الملكة والأتابك طغرل بمسير السلاجقة اضطربا نظراً إلى أن القوات الحلبية ضعيفة لا تقوى على مواجهة الجيش السلجوقي القوي، كما خشي، الأتابك أن يسلم أهل حلب مدينتهم إلى الأفضل علي لميلهم إليه (1)، لذلك كتب إلى الأشرف موسى يستدعيه لنجدة ابن أخته العزيز وكان يعسكر على بحيرة قُذس في مقابلة الصليبيين ونصحه بالتعاون مع أخته لمواجهة الخطر السلجوقي، لأن السلاجقة سوف لا يقفون عند حلب، ووعده بأن يجعل الخطبة والسكة باسمه، ويعطيه ما يختار من أعمال حلب وفي رواية لابن العديم أن الأتابك أرسل إلى القاضي زين الدين إلى العادل يستصرخه على عز الدين كيكاوس والأفضل علي، فكتب العادل إلى ابنه الأشرف موسى يأمره بأن يرحل إلى حلب مع قواته، وأحلّ مكانه المجاهد أسد الدين شيركوه الثاني صاحب حمص في مقابلة الصليبيين (2)، جمع الأشرف موسى قواته وسار بهم إلى حلب، وخيّم بالميدان الأخضر واجتمع مع الأمراء والأعيان واستوثق منهم، ثم تابع طريقه فنزل وادي بزاعة (3)، وانضّم إليه الأمير العربي مانع بن حُدَيثة مع قواته وهو من عرب طي (4) وحارب الحلبيون على جبهتين عسكرية وسياسية وقاد الجبهة العسكرية الأشرف موسى، بينما قادة الملكة الجبهة السياسية بالدها والحيلة، فبذرت بذور الشقاق بين عز الدين كيكاوس وأمرائه (5)
__________
(1) الكامل في التاريخ نقلاً عن تاريخ الأيوبيين ص 258.
(2) زبدة حلب (2/ 644) تاريخ الأيوبيين ص 258.
(3) بزاعة: بلدة من أعمال حلب في وادي بطنان.
(4) تاريخ الأيوبيين ص 258.
(5) المصدر نفسه ص 258 ..(1/102)
واصطدمت طليعة الجيش السلجوقي بالجيش الأيوبي في رحى معركة انتهت بخسارتها وأسر قادتها ولما وصل عز الدين كيكاوس إلى ساحة المعركة على رأس الجيش السلجوقي البالغ أربعة عشر ألفاً، هاله انهزام طليعة جيشه، فتردَّد في خوض المعركة وأمر الجيش بالإنسحاب وانسحب عز الدين كيكاوس إلى البستان وهو يطوي المراحل هارباً لا يلوي على شيء خائفاً يترقب وطارد الأشرف موسى قواته المنسحبة يتخطف أطرافها حتى وصل إلى تل باشر فحاصرها واستولى عليها، كما استولى على رعيان، وتل خالد، وبرج الرصاص، ثم عاد إلى حلب (1).
__________
(1) تاريخ الأيوبيين ص 259.(1/103)
ب- وفاة الملك الظاهر صاحب حلب: في عام 613هـ هو سلطان حلب، الملك الظاهر، غياث الدين، أبو منصور، غازي ابن السلطان صلاح الدين يوسف ابن أيوب، مولده بمصر في سنة ثمان وستين وخمس مئة وسمع من: أبي الطاهر بن عوف، وعبد الله بن برّيَّ النحويَّ والفضل ابن البانياسي وحدَّث تملك حلب ثلاثين سنة وكان بديع الحسن في صباه، مليح الشكل في رجوليّته، له عقل ودهاء وفكر صائب كان يصادق الملوك الأطراف ويباطنهم ويُوهمهم أنه لولاه، لقصدهم عمه العادل، ويوهم عّمه أنه لولاه، لتعامل عليه الملوك، ولشقُّوا العصا، وكان كريماً معطاءً يتحف الملوك بالهدايا السنيَّة، ويكرم الرُّسُل والشعراء والقُصَّاد وكان عمُّه يرعَى له بمكان بنته، فماتت، فزوجَّه بأختها والدة ابنه الملك العزيز، فلما ولدت زُيَّنت حلب مدة شهرين، وأنفق على ولادته كرائم الأموال وكان قد انضَّم إليه إخوته وأولادهم فزَّوج ذكرانهم بإناثهم، بحيث أنه عقد بينهم في يوم نيفاً وعشرين عقداً وعمّر أسوار حلب أكمل عمارة. وكان مهيباً سائساً، فطناً، دولته معمورة بالعلماء مزينة بالملوك والأمراء وكان محسناً إلى الرعية، وشهد معظم غزوات والده، وكان يزور الصالحين، ويتفقدهم وله ذكاء مفرط وأوصى في موته بالملك لولده من بنت العادل، وأراد أن يُراعيها أخوتُها، ثم من بعده لأحمد، ثم للمنصور محمد ابن أخيه الملك العزيز وفوَّض القلعة إلى طغريل الخادم الروميَّ، توفي سنة ثلاث عشرة وست مئة عن خمس وأربعين سنة وكان في سكرات موته يفيق ويتشهد ويقول: اللهم بك استجير (1) وفي رواية: واشتد مرضه جداً، فذكُر أنه كان يفيق في بعض الأوقات، ويستشهد ويقرأ قوله تعالى: "ما أغني عَني مالية هلك عَنيَّ سُلطانية" ثم يقول اللهم بك أستجير وبرحمتك اثق (2) رحمه الله ورثاه شاعره راجح الحليَّ فقال:
__________
(1) سير أعلام النبلاء (21/ 297، 298).
(2) مفرج الكروب (3/ 240).(1/104)
سل الخطب إن أصغى إلى من يخاطبه ... بمن عَلقِت أنيابه ومخالبه
نشدتُك عاتبه على نائباته ... وإن كان لا يلوي على من يعاتيه
ج ... إلى الله أرِمي بطرفي ضلالة
إلى أُفق مجد قد تهاوت كواكبه (1)
وفي قصيدة أخرى قال:
منع التأسف قلبي المتبولا ... أن يستطيع إلى السُّلُّو سبيلا
ومنها:
يا دهر قد أسرفت فيما ساءني ... عمداً فخفَّف من أذاك قليلا
ألبستني ثوب الأسى وسلبتني ... عزَّا عدمت له العزاء ذليلا
وضعفتُ من نكبات صرفك بعدما ... قد كنت جلداً للخطوب حَمُولا
غازي بن يوسف لا وحقَّك ما خبت ... نازي ولا نقع البكاء غليلا
أبقيت لي من بعد فقدك أنّة ... تفري الضلوع ورنة وعويلا
مالي أرى الإيوان أصبح بابه ... قفراً وكان جنابه مأهولا
فإن اكتسى ذُلاَّ فكم قد ذُلَّلتْ ... للسائلين قطوفه تذليلا (2)
__________
(1) سير أعلام النبلاء (3/ 298).
(2) مفرج الكروب (3/ 246،247).(1/105)
7 - العلاقات بين الخوارزميين والأيوبيين:
كانت بداية العلاقات السياسية بين الدولتين الخوازمية والأيوبية بدأت في سنة (615هـ/1218م) قبل وفاة العادل، ففي هذه السنة وصل رسول خوارزم شاه علاء الدين محمد إلى الملك العادل وهو بمرج الصفر ولم تذكر المصادر عن الغاية التي قدم بها هذا الرسول ومن الراجح أن تكون غايته إقامة علاقة ودية بين الجانبين لأن الملك العادل، بعث بالجواب إلى خوازم شاه، فأوفد إليه جمال الدين محمد الدولعي الشافعي خطيب جامع دمشق، ونجم الدين خليل بن علي الحنفي قاضي العسكر (1)، وكان خوارزم شاه آنذاك في همذان وعندما وصل الرسولان إليهما لم يلتقيا به بسبب مغادرته المدينة إلى بخاري لمجابهة الخطا والمغول، ومع هذا فإنهما اجتمعا بولده جلال الدين الذي أبلغهما بوفاة الملك العادل فرجعا إلى دمشق دون أن تتحقق مهمة لقائهما بخوارزم شاه علاء الدين محمد (2)، وهكذا شاءت الظروف أن يموت الملك العادل في سنة (615هـ/1218م) فشغل خوارزم شاه بمشاكله وفي مقدمتها الغزو المغولي وكان لذلك أثره في عدم تطور العلاقات بين الخوارزميين والأيوبيين في عهد خوازم شاه علاء الدين محمد (3).
__________
(1) الدولة الخوارزمية، د. نافع العبود ص 146.
(2) المصدر نفسه ص 147.
(3) المصدر نفسه ص 147.(1/106)
8 - العلاقات بين السُّلطنة الأيوبية والفرقة الإسماعيلية:
اقتصرت العلاقات الأيوبية الإسماعيلية على علاقة الأيوبيين بإسماعيلية الشام فقط، ولم يكن لهم أي صلة بإسماعيلية فارس وكان زعيم الإسماعيلية في الشام - أو كما يسمَّونه صاحب الدعوة عندما أسَّس صلاح الدين الدولة الأيوبية - هو راشد الدين سِنان بن سلمان وكان أصله من حصن الإسماعيلّية الرئيسي في الموت بفارس فرأى منه صاحب الأمر هُناك نجابة وشهامة وتدبيراً، فسيره إلى حصون الشام، فوصلها، وجَدَّ في إقامة الدعوة واستجلاب القلوب أيّام السُّلطان، وعزم نور الدين على قصده، لكنه توفي قبل ذلك وفي عهد صلاح الدين حاولوا اغتياله عّدة مرّات ولذلك جعلهم همَّه الأول، وتوجّه نحو أكبر قلاعهم ومقّر قيادتهم في مصياف وألقى الحصار عليهم عام 572هـ، وكله عزم على استئصال شأفتهم من الشام، فشعر الإسماعيّليَّة أنهم أمام خطر حقيقي لم يمكن مواجهته بالاغتيال، ولن يمكن لقلاعهم الصمود أمام قوّاته، مما اضطّرهم لأن يعقدوا اتفقاً مع صلاح الدين بواسطة خاله شهاب الدين الحارمي وبعد ذلك الاتفاق لم نعد نسمع عن اغتيال، أو حتى محاولة الاغتيال أي أمير أو قائد أيوبي من قِبل الإسماعيلية منذ عام 572هـ/1177م، وحتى نهايت الدولة الأيوبية، وبالمقابل لم تُّجرَّد أيُّ حملة أيوبية ضَّد معاقل الإسماعيلية، بل على العكس، دعمت الممالك الأيوبية هذه المواقع كلما تعَّرضت إلى هجوم الفرنجة وعبّر الإسماعيلية عن تحالفهم للأسرة الأيوبية بعد صلاح الدين وذلك عندما تدخلت خناجرهم لتُنهي حياة بكتمر صاحب خلاط الذي أقام تحالفاً معادياً للأيوبيين مع صاحب آمد ومع أتابكة الموصل وسنجار، وساهم ذلك التدخل في إنهاء أخطر تحالف واجه الأسرة الأيوبية في الجزيرة بعد صلاح الدين (1).
__________
(1) العلاقات الدولية (1/ 343).(1/107)
9 - العلاقات مع الخلافة العباسية: ويبدو أن تقليد الخلفاء دخول الفرنج إليها، يعني تنصيبهم وُلاة حرب وقادة مجاهدين ضَّد الغزاة الفرنج، وربما لم يكن يُوجد ما ينص على ذلك لكنه الشائع والمتعارف عليه في ذلك الوقت، فعندما توفيَّ السلطان صلاح الدين عام 589هـ/1193م، قام ابنه وخليفته الملك الأفضل بتسيير رسول إلى الخليفة في بغداد يحمل له "لامة الحرب التي لصلاح الدين وفرسه وستة وثلاثين درهماً، لم يخلف من المال سواها (1)، إنها رسالة واضحة، فصلاح الدين الدَّين أُعيد إلى الخليفة بعد انتهاء مهمَّته الجهادية وما خلفَّه من مال أعيد - أيضاً - كرمز لولايته الإدارية على البلاد (2) وكان الخلفاء العباسيون غالباً ما يحُاولون استمالة الملوك والأمراء الأُيوبيون بالهدايا وغيرها (3) وكان ملوك بني أيوب يقومون بكل واجباتهم المعنوية تجاه منصب الخليفة، فعندما ما تُوفي علي ابن الخليفة الناصر عام 612هـ/1515م أرسل الخليفة يُعلم ملوك بني أيوب وكان الخليفة يحب ابنه المتوفي أبي الحسن علي حباً شديداً وقد رشحه لولاية العهد من بعده، وكان رحمه الله كثير الصدقة، كريماً كثير المعروف، حسن السيرة، محبوباً عند الخواص والعوام، وكان مرضه الإسهال، فحزن عليه الخليفة حزناً لم يسمع بمثله (4) ولما توفي أخرج نهاراً ومشى جميع الناس بين يدي تابوته إلى تربة جدته الخيزران وهي عند قبر معروف الكرخي، فدفن هناك وأغلقت الأبواب وسمع الناس الصراخ العظيم ويقال أن ذلك كان صوت الخليفة ودامت عليه المناحات في أقطار بغداد ليلاً ونهاراً أياماً، فلم يبق في بغداد محله إلا وفيها النوح ولم تبق امرأة إلا وأظهرت الحزن الشديد، ولم يُسمع ببغداد مثل ذلك في قديم الزمان ولا حديثه (5)
__________
(1) المصدر نفسه (1/ 303).
(2) العلاقات الدولية (1/ 306).
(3) المصدر نفسه (1/ 306).
(4) المصدر نفسه (1/ 306).
(5) مفرج الكروب (3/ 330) ..(1/108)
ولما سمعت الملوك بموته جلسوا في العزاء لابسين شعار الحزن خدمة للخليفة، ورثته الشعراء، فأكثروا؛ فمن رثاه شرف الدين الحليَّ عندما عمل الملك الظاهر غازي - صاحب حلب - عزاءه بقصيدة مطلعها:
أكَذَا يُهدُّ النّيراتُ وَينَطفي ... ويردُّ بالنكبات شاردة الورى
أكذا تغيبُ النيّراتُ وَيَنطَفي ... ما كان من أنوارها متوقَّدا؟
إلى أن قال:
لو كنت بالشهباء يوم تواترت ... أنباؤها لرأيتَ يوما أسودا
يوماً تزاحمت الملائكة العُلَى ... فيه فعزَّ عن عليّ أحمدا
قصدت أميَر المؤمنين رزيهٌ ... عادتُ وقع سِهامِها أن تقصد
هي ضعفت شُمَّ الجبال وأخضعت ... من لم يكن لمذلةٍ متعوَّدا
شنَّت على حرم الخليفة غارة ... شعواءَ غادرت الفخار معَّردا
فسقى أبا حَسَنٍ ثراك ضائعٌ ... لك ليس تَبْرَحُ غاديات عُوَّدَا (1)
ورثاه القاضي كمال الدين بن النبيه المصري لما عمل الملك الأشرف ابن الملك العادل عزاءه بقصيدة مطلعها:
الناس للموت كخيل الطِراد ... فالسابقُ السابق منها الجواد
والله لا يدعو إلى داره ... إلا من استصلح من ذا العباد
والموت نقّاد على كَفَّهِ ... جواهر يختار منها الجياد
والمرء كالظَّلِ ولابد أن ... يزول ذاك الظلُّ بعد امتداد
لا تَصُلُح الأرواح إلا إذا ... سرى إلى الأجساد هذا الفساد
ومنها:
خليفة الله اصطبر واحتسب ... فما وهي البيت وأنت العماد
بالحلم والعلم بكم يُقتدى ... إذا دجا الخطبُ وضَلَّ الرَّشاد (2)
__________
(1) مفرج الكروب (3/ 230).
(2) المصدر نفسه (3/ 232).(1/109)
وما فعله الخليفة العباسي من الحزن على ابنه بالصورة التي ذكرنها يتنافى مع الإسلام من إدامة المناحات في أقطار بغداد ليلاًونهاراً أياماً إلا وأظهرت الحزن الشديد ولم يسمع ببغداد مثل ذلك في قديم الزمان ولا حديثه، فمن آداب الإسلام في المصائب الصبر عليها لقوله صلى الله عليه وسلم: إنما الصبر عند الصدمة الأولى (1). واحتساب المصيبة والصبر عليها؛ فينبغي أن يلتمس الأجر من الله تعالى من هذا الصبر، فيصبر ابتغاء موعود الله من الأجر والثواب ويصبر لأن أمره بالصبر، فقال عز وجل "واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور" (لقمان:17) ويتذكر أن فقد عزيزاً لديه، قول النبي صلى الله عليه وسلم: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة (2)، ومن الآداب أيضاً: الاسترجاع ودعاء المصيبة، فيقول المرء عند نزول المصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خير منها، فقد قال الله عز وجل " وبشر الصابرين الذين إذا أصبتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون أولئَك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون" (البقرة، آية:155 - 157). وقال صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها إلا أخلف الله له خيراً منها (3). قالت أم سلمة: فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله (4)
__________
(1) البخاري رقم 1283.
(2) البخاري رقم 4624.
(3) مسلم رقم 918.
(4) المصدر نفسه رقم 918 ..(1/110)
وكذلك اجتناب كل ما يغضب الله من جنس الجهر بالسوء من القول، واللطم، وشق الجيوب، وحلق الشعور، والنياحة والشكوى إلى الناس والدعاء بالموت والويل والثبور وغير ذلك، فهذا كله يغضب الله تعالى، وينافي الصبر على، المصائب والرضا بها (1) ومن ذلك تذكر القضاء السابق، فإن المسلم متى ما أيقن إن هذه المصائب مكتوبة ومقدرة ومتى ما استحضر في ذهنه أن كل ما قدره الله فهو لابد كائن واقع لا محيد عنه وأن لله تعالى حكمة في تقدير هذه المصائب هانت عليه المصائب قال تعالى "ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما أتاكم والله لا يحب كل مختال فخور" (الحديد، آية: 22،23). هذا تعليق على موقف الخليفة العباسي الناصر من وفاة ابنه.
__________
(1) موسوعة الآداب الإسلامية (2/ 788).(1/111)
وكان ملوك بني أيوب يقومون بُكل واجباتهم المعنوية تجاه منصب الخليفة، وكان ملوك بني أيوب يُجدَّدون الولاء للخُلفاء العباسيين عبر أداء قسم الولاء أو ما كان يعرف بالتحليف (1)، ولم تنقطع الرّسل بين ملوك بني أيوب وبين ديوان الخلافة، فكان يندر أن يخلو عام من رُسُل تتردَّد برسائل وغيرها منذ أيَّام الملك العادل، فقد أرسل العادل إلى الخليفة الناصر عام 614هـ/1217م وعاد جوابها مع الشيخ صدر الدين بن حموية (2)، وكان رسول الخليفة - في ذهابه، وإيابه في أداء مهمته يقابل الملوك الواقعين على طريقه، فعندما مّر مرّ شهاب الدين السهروردي رسول الخليفة الناصر بحلب عام 601هـ/1205م يحمل التشريفات للملك العادل استُقبل فيها استقبالاً عظيماً، وجلس في مسجدها الجامع للوعظ، وحضر مجلسه كبار رجال حلب (3)، ولابد أن الاستقبال نفسه كان له في حماة وحمص (4) ولم تكن سفارات الخليفة إلى بني أيوب لأمور تتعلق بالخلافة ودولتها، فقط، بل كان قسم كبير من هذه السفارات يتعلق بأمور داخل البيت الأيوبي أو يتعلق بأمور بين الأيوبييَّن وملوك آخرين فعندما كان الملك العادل يُحاصر سنجار عام 606هـ / 1210م قِدم هبة الله بن المبارك بن الضحاك رسولاً من الخليفة الناصر يطلب منه ترك حصار سنجار، ويشفع في صاحبها (5)، فوافق العادل وانسحب، وفي الحقيقة، كانت استجابته لطلب الخليفة تغطية لانسحابه من حصار فاشل (6)،
__________
(1) العلاقات الدولية (1/ 307).
(2) السلوك للمقريزي (1/ 308).
(3) مفرج الكروب (3/ 180).
(4) النظم الدبلوماسية ص 59 صلاح الدين المنجد.
(5) السلوك للمقريزي (1/ 289).
(6) العلاقات الدولية (1/ 309) ..(1/112)
ومع انقسام دولة الخلافة العبّاسية الفعلي وسيطرة ملوك وأمراء وقادة وزعماء وشيوخ وغيرهم على مناطق مُتعددَّة من جسم الدولة، منها ما كان يشكل دول كبيرة جداً، ومنها إمارات صغيرة وأحيانا، قلعة أو بلدة لها حاكمها الخاص، وهو يتصَّرف بكل الشُّوُون السياسية والعسكرية والداخلية باستقلالية تامة، ومع كل هذا الانقسام بقيت هناك سلطةٍ اسمية للخليفة على كل الدولة والدويلات المستقلة، انطلاقاً من أن الخلافة هي منصب ديني والخليفة هو إمام المسلمين ومرجعهم الأعلى دينياً وسياسياً؛ لأن البلاد بكاملها كانت لدولة الخلافة، وكل سيطرة على أيّ منطقة منها ليست شرعية، وصاحبها لا يملك الحق الشرعي في الحكم، لذلك كان كل منهم مُضطرّّاً - بشكل أو بآخر - أن يُقرَّ سلطة اسمية للخليفة في بلاده، وكان خلفاء بني العبّاس المتأخرَّون يرضون بهذه السيطرة الإسمية التي لا تتعدَّى ذكر اسمهم في خطبة الجمعة على منابر المساجد، بحيث يسبقه اسم الملك المحلي، ونقش اسمهم على العملة التي يسكّها هذا الملك، أو ذاك، ضمن أراضي البلاد، التي كانت - فيما مضى - تسُمَّى أراضي الخلافة العبَّاسية وكان هناك شكل رسمي بُروتوُكُولي لموافقة الخليفة التي كانت مضمونة دائماً على أن يشمل بشرعية حكم الملوك المنتُفَّذين في أطراف الدولة (1).
__________
(1) العلاقات الدولية (1/ 313).(1/113)
أ- التقليد: ويعني التولية، وهي من قلَّدتُهُ أمر كذا؛ أي وليُتهُ عليه، فالتقليّد هو مرسوم سياسي يصدر من ديوان الخلافة لتكليف شخصي ما بالحكم في بلد، أو بلاد مُعينَّة وقد حرص الملوك الأيوبيون حرصاً كبيراً على أن يتولىَّ كُلُّ منهم عمله بمباركة شريفة من الخليفة تتجليّ بمنحه التقليد، ففي عام 604هـ عندما سيطر العادل على مملكة مصر وعلى دمشق والبلاد الجزرية أرسل أستاذه داره الدكز العادلي والقاضي خليل بن المصمودي قاضي العسكر إلى الخليفة في بغداد: لطلب التقليد على مصر والشام والجزيرة فأكرما، وأُجيبا (1)، وزيادة في التكريم أرسل الخليفة معهما الشيخ شهاب الدين السهروردي ونور الدين التركي الخليفتي (2)، يحملان من الخليفة إلى العادل: تقليداً بالبلاد التي تحت حكمه (3)، وقرأ صفي الدَّين بن شكر وزير العادل التَقليد الذي أرسله الخليفة على كرسي نُصب له (4)، مما يوضح لنا بأن التقليد هو مرسوم سياسي إداري ديني يصدره الخليفة بتولية جُزء من أراضي الخلافة إلى شخُص يذكر اسمه في التقليد مقروناً بصفات التقدير والتعظيم (5).
__________
(1) مفرج الكروب (3/ 180).
(2) الموسوعة الشاملة د. سهيل زكار (21/ 256).
(3) المختصر، أبو الفداء (3/ 109) العلاقات الدولية (1/ 314).
(4) مفرج الكروب (3/ 180).
(5) العلاقات الدولية (1/ 314).(1/114)
ب- التشريف: أو خلعة التشريف، وهو جُبَّة أو عباءة بلون أسود، لذلك قد يُسمى التشريف الأسود (1)، والسواد هو شعار بني العبّاس (2)، وتكون خلعة التشريف مُذهَّبة عادة، وتسمَّى التشريف الإمامي (3)، فهي تشريف من الإمام، أيْ الخليفة العَّباسي للشخص المُرسَل إليه. وكان رسول الخليفة يقوم بوضع التشريف على أكتاف الملك المُرسَل إليه، بعد قراءة التقليد فيلبسه، ويسير به في شوارع بلده أو بين خواصَّه (4) فعندما وصل إلى السلطان النَّاصر صلاح الدَّين التقليد والتشريف من الخليفة عام 576هـ 1180م "ركب الناصر بالتشريف (5) ". وفي عام 604هـ - 1208م، وصل تشريف من الخليفة النّاصر إلى السُّلطان العادل، وإلى أولاده ووزيره "فركب العادل وولداه ووزيره بالتشريفات إلى ظاهر البلد، ثُمَّ عادوا إلى (6) القلعة.
__________
(1) السلوك للمقريزي (1/ 425) العلاقات الدولية (1/ 315).
(2) رسوم دار الخلافة، الصابيء ص 93 العلاقات الدولية (1/ 315).
(3) مفرج الكروب (5/ 350) العلاقات الدولية (1/ 315).
(4) مفرج الكروب (3/ 180) العلاقات الدولية (1/ 315).
(5) الموسوعة الشاملة (21/ 256) العلاقات الدولية (1/ 315).
(6) مفرج الكروب (3/ 180) العلاقات الدولية (1/ 315).(1/115)
ج- الخلعة: وهي ما يخلعه الخليفة أو الملك على أحد من الناس وكان خلفاء بني العبّاس كثيراً ما يهبون الخلع لأتباعهم وأنواع الخلع التي كات تُرسل إلى ملوك بني أيوب كانت – غالباً – ما ترافق التقليد وتكمل التشريف وهي خلع أصحاب الجيوش وولاة الحروب، فملوك بني أيوب كانوا وُلاة دار الحرب في مواجهة الفرنج منذ أن قامت دولتهم والخلعة – في كثير من الأحيان – كانت تعني موافقة الخليفة على تقليد الملك في بلاده، وهي عادة – تتكون من عمامة سوداء ورداء فضفاض – عباءة – أسود مُبطَّن، مُوشَّى بالذهب، وسيف مُحلىَّ بالفضَّة والذهب، له حمائل مُوشَّاة أيضاً. ثم يأتي الحملان، وهو حصان، سرج مُزيَّن، وكانت هُناك زيادة على هذه الخلع المتعارف عليها تُزاد لأصحاب الفتوح من القُوَّاد وهي طوق وسوارين من الذهب (1)، وهذه الزيادة أُعطيت لقَّواد دولة الخلافة، ولم تُرسل مع الخلع إلى ملوك بني أيُّوب إلا نادراً، ففي عام 599هـ/1203م، أرسل الخليفة الخلعَ إلى الملك العادل، وأولاده فلبسوها (2)، ولم يُذكر أنها تضُّم الطَّوف والسوارَين. أمَّا في عام 605هـ، فقد وصل إلى بغداد من دمشق قاضي عسكر الشَّام ابن المعمودي (3)، رسولاً من الملك العادل، وتسلَّم الخلع للعادل وأولاده، وكان في خلعة العادل الطَّوق والسوارات (4)، وأرسل معهم الخليفة الشيخ شهاب الدَّين السهروردي رسولاً لحمل الخلعة، واهتَّم العادل كثيراً بهذا الخلعة، فقد أرسل العسكر للقاء الرسول، فتلقوه في الغسولة (5)، وخرج العادل وتلقّاه في القصير (6)
__________
(1) رسوم دار الخلافة الصابئ ص 93 العلاقات الدولية (1/ 316).
(2) الموسوعة الشاملة د. سهيل زكَّار (20/ 61).
(3) النجوم الزاهرة (6/ 348) العلاقات الدولية (1/ 317).
(4) الموسوعة الشاملة (20/ 122) العلاقات الدولية (1/ 317).
(5) الغسولة: قرية تقع شمال دمشق.
(6) القصيرة: قرية على طريق حمص، شمال دمشق ..(1/116)
مع ولديه الأشرف والمعظم، وغُلقَّت الأسواق وخرج الناس كلهم وكان يوماً مشهوداً "ثم جلس العادل بقلعة دمشق ولبس الخلعة" وطوَّق بطوق ذهب ثقيل (1). إنه تقدير كبير من الخليفة النَّاصر للملك العادل، واهتمام أكبر من العادل يدل على مستوى أهميَّة تقليده بالخلعة والطَّوق، فقام العادل وأولاده وملوك بني أيوب بإغداق الهدايا والتحف (2).
المبحث الثالث: الحملة الصليبية الرابعة وسقوط القسطنطينية:
دخلت الأسرة الأيوبية بعد وفاة صلاح الدين في نزاع وخلاف وصراع على السلطنة الأيوبية مما أضعف تنفيذ مشروع الدولة النورية ودولة صلاح الدين في تحرير بلاد الشام من الوجود الصليبي، وحاول الصليبيون الاستفادة من الصراع في البيت الأيوبي، وبالمقابل لم تخل هذه الفترة من ردود أيوبية على اعتداءات الصليبيين الموجودين في بلاد الشام أو المجموعات الصليبية التي كانت تزج بهم البابوية إلى ساحات الشرق الإسلامي بهدف إعادة السيطرة الصليبية على بيت المقدس وإذا كانت هذه الفترة قد شهدت نشاطاً صليبياً قادماً من الغرب الأوروبي إلا أنها لم تخل من محاولات صليبي الشرق من الاعتداء على مناطق مختلفة في بلاد الشام (3) وكانت القوى الصليبية رغم الظروف التي مرت بها، كانت تطبق جزءاً من استراتجيتها العامة والتي من خطوطها العريضة
__________
(1) العلاقات الدولية (1/ 317) القصير قرية على طريق حمص شمال دمشق.
(2) العلاقات الدولية (1/ 317).
(3) دراسات في تاريخ الأيوبيين والمماليك ص 149.(1/117)
1 - محاولة الصليبيين الدائبة للسيطرة على المواقع الإستراتيجية لإتخاذها نقاط ارتكاز لتهديد المناطق الإسلامية وقد وضح ذلك في غاراتهم المتكررة على منطقة حماه بهدف السيطرة على قلعة بارين (بعرين).
2 - منع وإعاقة أي أعمال تحصينية في الجانب الإسلامي وقد وضح ذلك من موقفهم المعادي من عمليات التحصين التي قام بها الملك المعظم عيسى صاحب دمشق حين عمل على بناء وتحصين قلعة على جبل الطور، رأى فيه الصليبيين تهديداً جديداً لمواقع سيطرتهم وعملوا على مقاومة ذلك بشتى الوسائل والسبل (1).
3 - محاول استغلال الهدن والإتفاقيات التي تعقد مع طرف آخر، كما وضح ذلك بعد توقيعهم هدنة مع الملك العادل سنة 601هـ/1203م فاستغلوا ذلك لمهاجمة حماه.
4 - حرص الصليبيون على إبقاء الروح الصليبية فاعلة على الساحة الأوروبية، وقد تمثل ذلك بنجاحهم في العمل على جعل الغرب الأوروبي يرسل حملات صليبية جديدة.
5 - عملت القوى الصليبية في هذه الفترة على تركيز جهودها على الجبهة المصرية، استمراراً للاسترتيجية الصليبية التي بدأت تتبلور بعد هزائمهم منذ أيام صلاح الدين، هذه الاستراتيجية التي ترى ضرورة السيطرة على مصر بما يشكل للصليبيين ضماناً لاستمرار وجودهم في بلاد الشام (2).
وقد كانت الغارات بين القوى الصليبية والدولة الأيوبية في هذه الفترة مستمرة، باستثناء الفترات التي توقع فيها معاهدات صلح أو هدن بين الطرف الصليبي وأحد حكام الأيوبيين، كما حصل تقدم من جانب الصليبيين سيطرتهم على بعض المواقع إما رداً على تقدم إسلامي أو استغلال لحالة ضعف إسلامية، وكذلك الحال فيما يتعلق بالجبهة الإسلامية التي استولت على بعض المناطق التي كانت خاضعة للسيطرة الصليبية كما أنها أجبرت أحياناً على التنازل على مناطق أخرى (3).
__________
(1) المصدر نفسه ص 150.
(2) دراسات في تاريخ الأيوبيين والمماليك ص 150.
(3) المصدر نفسه ص 150.(1/118)
أولاً: جهاد الملك المنصور محمد بن تقي الدين عمر: ففي سنة 599/ 1203م حاولت القوى الصليبية المتواجدة في حصن الأكراد والمرقب الاعتداء على ممتلكات حماه، وبالأخص لمحاولة منهم للسيطرة على قلعة بارين (بعرين) ولكن الملك المنصور بن تقي الدين عمر حاكم حماة الملك المنصور تمكن بمساعدة القوى الأيوبية في حمص وبعلبك وحلب من الانتصار عليهم (1) وكانت المعركة التي خاضها الملك المنصور بعد أن تجمع الصليبيون من حصن الأكراد وطرابلس والحصون التي حولهّا وجاءوا في فارسهم وراجلهم وركب المنصور في العساكر التي معه، وتقدم إليهم، وقاتلهم، فهزمهم، وأخذ جماعة من مقدميهم وخيّالتهم، وبعث بهم إلى حماة، فدخلوها راكبين خيولهم لابسين عُدَدَهم وبأيدهم رماحهم وكان يوماً مشهوداً وفي ذلك يقول بهاء الدين أسعد يحي السنجاري قصيدة يمدحه بها، ويهنئه بهذا الفتح الجليل:
المجُد يُدرَكُ بالعسَّالة الذُيل ... والمشرفية لا بالوعد والأمل
والجَدُّ في الجِدَّ، فاجْنُبها مُسَوَّمة ... يقود أسدُ بالأَينْقِ الذُلُل
ماَلَّذةٌ العيش إلا صوت مَعُمَمعةٍ ... يُنَالُ فيها الُمن بالبيض والأسل
يا أيها الملك المنصور نصح فتى لم يَلُوه ... عن وفاء كَثرةٌ العَذَلِ
اعْزمْ ولا تترك الدنيا بلا مَلِكِ ... وجَدَّ فالملك محتاج إلى رجُل
وأبرز إلى الموت يوم الرَّوع مُدَّرِعاً ... قلبا إذا زالت الأفلاك لم يَزُلِ
وهمَّ في طلب العلياء مرتقباً ... وأرسل الجيش أبدالاً من الرَُسُل
واهصر عِداك، كهصر الليث طعمته ... وصل إذا الليث في الهيجاء لم يصل (2)
ومنها:
يا أوحد العصر، يا خير الملوك ومن ... فاق البرية من حاف ومنتِعلِ
أسهرت عَيْنَيْكَ في كسب العُلا ولكم ... من بات يسهرها في اللهو والجذل
جاهدت في الله طوعاً والملوك غدوا ... يستهترون بذات الحَلْى والحُلَلَ
يداك باطنها للجود منذ خلقت فينا ... وطاهرها للثُمِ والقُبل
__________
(1) المصدر نفسه ص 150.
(2) مفرج الكروب (3/ 145).(1/119)
وأنت شرفت أيوبا على شَرَفٍٍ ... فيه وفقت كرام السادة الأوَل
أغمدت بيض المواضى في الرَّقاب وقد ... حَليَّتَ عاطِلها ضرباً من القُلَلِ
عاجلتهم بالمنايا والحتوف فلا تترك ... لهم أجلاً يبقى إلى الأجل
صَفَّدهم عاجلاً واجعل حصونهم ... سجونهم فهم في غاية الفَشَلِ (1)
ولما كسر الملك المنصور - صاحب حماة - الفرنج كتب إلى عمَّه السلطان الملك العادل يعَّرفه ذلك فورد عليه كتاب الملك العادل ثامن عشر شهر رمضان ومنه: وردت مكاتبة المجلس، ووقف الخادم عليها، وفهم ما أشار إليها من يُمن حركته، وسعادة وجهته، وبركة نصرته، ودخوله إلى بلاد الكفار، وما أثَّره فيها وفيهم من جميل الآثار فاستبشر بما دلتَّ عليه من هذه النعم الراهنة والعوارف الظاهرة والباطنة، والله تعالى يجازيه أحسن الجزاء، ويضاعف له من الحسنات أوفر الأجزاء، ويرحم سلفه الكريم، ويحسن له في الحديث والقديم، ويؤيده في كل حركة بأحزاب الملائكة (2)،
__________
(1) مفرج الكروب (3/ 145).
(2) المصدر نفسه (3/ 145) ..(1/120)
ووصل في هذه المدة رسول من الداويَّة إلى الملك المنصور يخبر فيه بوصول الفرنج إلى عكا من داخل البحر في نحو ستين ألف فارس وراجل، وأنهم يقصدون جهة جبلة واللاذقية وحاول ذلك الرجل تضخيم أمر الصليبيين وأنهم تجمعوا في حلف عظيم مع بعض الصليبيين في الشرق، واصطلحوا فيما بينهم وأنهم خارجون إلى الشام في عيد الصليب، وإنما قصدت الداويّة بهذه الأخبار الإرهاب ليُصالح الملك المنصور بيت الاسبتار، فإن الداوية سألهم الاستبار التوسط بينه وبينهم فأجاب الملك المنصور: بأنا لا نجزع بما تقول ولا نكترث، ولو أنهم أضعاف ذلك لناجزتهم، فقد تحققنا قصدهم لنا، وعلمنا ذلك ولا سبيل إلى مصالحة الاسبتار بوجه فضرع الرسول حينئذ، وسأله تقليد الداوية المائة في صلحهم واعتذر من قوله الأول، فأجابه إلى ملتمسه، فَسُرَّ الرسول بذلك وقام وكشف رأسه وقبَّل يده وورد كتاب الملك العادل يخبره فيه بالفرنج الخارجين من البرح وتوجههم إلى جهة اللاذقية وغيرها من البلاد (1).
وفي الحادي وعشرين من شهر رمضان سنة 599هـ خرج جمع من الصليبيين من حصن الأكراد والمرقب ومن وصل إليهم وأغاروا على عمل بعرين، فرتب الملك المنصور صاحب حماة، عسكره وقصدهم والتقاهم فكسرهم وقتل منهم مقتلة عظيمة وأسر منهم وانهزم آخرون لا يلوون على شيء، وكانوا قد كمنوا لهم كمينا، هم: مائة فارس، وألف وخمسمائة راجل، فلما علموا بالكسرة ولوا هاربين وحمل الأسرى إلى حماة (2).
__________
(1) مفرج الكروب (3/ 147).
(2) المصدر نفسه (3/ 149).(1/121)
ثانياً: جذور الصراع بين الأمبراطورية البيزنطية وبابا الفاتيكان:
تحدثت كتب كثيرة على الحملة الصليبية الرابعة، مثل، أثر العامل الديني في توجيه الحركة الصليبية للدكتور محمد صالح منصور، وتاريخ الحروب الصليبية، سعيد عبد الله البيشاوي ومحمد مؤنس والجهاد ضد الصليبيين في العصر الأيوبي د. فايد حماد عاشور، والعلاقات الدولية في الحروب الصليبية للدكتور منذر الحايك، وتاريخ الحروب الصليبية، لمحمود سعيد عمران والغزو الصليبي والعالم الإسلامي للدكتور علي عبد الحليم وغيرهم كثير وفي حقيقة الأمر، أن ما يعرف بالحملة الصليبية الرابعة ليس من اليسير على الباحث أن يجعل بداياتها مرتبطة بأوائل القرن الثالث عشر الميلادي/السابع الهجري، بل من المتصور أن تلك الحملة لها بدايات مبكرة امتدت على مدى قرون عديدة من تاريخ القارة الأوروبية في المرحلة القروسطية، ومن الأفضل تتبع الجذور التاريخية التي أدت إلى حدوث ما حل بالقسطنطينية من مصيبة (1).
__________
(1) الحروب الصليبية العلاقات بين الشرق والغرب د. محمد عوض ص 253.(1/122)
1 - الأمبراطور قسطنطين الكبير: غادر الأمبراطور قسطنطين الكبير (305 - 337م) روما القديمة، على ضفاف التيبر، واتجه إلى إقامة عاصمة جديدة هي القسطنطينية أوروما الجديدة على ضفاف البسفور التي افتتحها بالفعل في 11 مايو 330م، وقد عاشت الأخيرة في قلب حضارات العالم القديم المصرية والفارسية واليونانية ونهلت من ذلك الميراث الحضاري الخصب، وبمرور القرون ازدهرت تلك المدينة ازدهاراً بالغاً ومع انهيار روما القديمة عاصمة الإمبراطورية الرومانية على أيدي العناصر الجرمانية بقيادة ادواكر، وإسقاط حكم رومولوس، أوجستيلوس عام 476م، ثم بقاء القسطنطينية بعيدة عن التأثير الجرماني الكاسح المدمر، بدأنا ندرك أن هناك فوارق حضارية أخذت في الاتساع بين الطرفين الشرق البيزنطي والغرب الأوروبي ولا يستطيع الباحث المنصف حتى القرن الثاني عشر الميلادي/السادس الهجري إلا ويدرك أن هناك ما يمكن وصفه بالفجوة الحضارية بين الجانبين، مع ملاحظة أنه منذ القرن المذكور بدأت تلك الهوة تضيق نسبياً بينهما من خلال ظهور ما يعرف بنهضة القرن الثاني عشر؛ وهي أخطر النهضات الأوروبية في مرحلة القرون الوسطى بصفة عامة، ومع ذلك ظل البيزنطيون ينظرون إلى الغرب الأوروبي نظرة ازدراء واحتقار، لقد شعروا بأنهم خلفاء الرومان، وحتى الإمبراطور البيزنطي نفسه كان يصف نفسه بالإمبراطور الروماني، ولم تكن بيزنطة تعترف بوجود إمبراطور آخر في الغرب الأوروبي ومعنى ذلك أن كلا من الجانبين افتقد القدرة على الاعتراف بالآخر وهذه زاوية محورية من أجل فهم أبعاد الصدام الذي حدث في عام 1204م/602هـ (1).
__________
(1) الحروب الصليبية العلاقات بين الشرق والغرب ص 254.(1/123)
2 - الصراع العقائدي بين الشرق البيزنطي والغرب اللاتيني:
لم تكن الهّوة الحضارية هي كل ما في الأمر، بل إن الصراع العقائدي، لعب دوراً بارزاً هو الآخر، من أجل تعميق التباعد بين الجانبين ولعل من الأحداث البارزة التي تجعلنا ندرك حجم الموقف التدهور بينهما، قطيعة فوشميوس عام 869م/268هـ ثم الانشقاق الأعظم 1054م/446هـ وقد أدت إلى نتائج بعيدة المدى في العلاقات بين الشرق البيزنطي والغرب اللاتيني، وقد وقعت القطيعتان المذكورتان بعد مقدمات لهما منها؛ نجد أنه في أواخر القرن السادس الميلادي تزايد الخلاف بين الجانبين عندما اتخذ بطريرك القسطنطينية لقب المسكوني، وبذلك أعطى لنفسه صفة العالمية، وهي صفة ارتبطت كنيسة روما بها على اعتبار أن مؤسسها هو القديس بطرس وأنها بالتالي سيدة الكنائس، وقد أظهر اعتراضه على ذلك بابا جريجوري الكبير الذي عمل من قبل عدة سنوات في القسطنطينية بوصفه وكيلاً للبابا قبل توليه منصبه البابوي، ولا ريب في أن ذلك يعكس لنا أن التنافس والصراع بين الكنيستين حول الزعامة العالمية له جذوره التاريخية الفاعلة (1)، زد على ذلك، أن القرن الثامن الميلادي/الثاني الهجري، شهد مرحلة مهمة من الخلاف بين الطرفين، وذلك من خلال السياسة التي أتبعها بعض أباطرة الأسرة الأيسورية (717 - 741م/99 - 124هـ) ومن بعده ابنه قسطنطين الخامس (741 - 775م -124 - 159هـ) وقد غضبت البابوية في الغرب وتمثل ذلك في البابا جريجوري الثاني 0715 - 731م/113هـ) (2)، الذي رأى في تلك السياسة البيزنطية نوعاً من التأثر باليهود والمسلمين (3) وقد اجتمع مجلس من الأساقفة في الغرب الأوروبي دعا إليه البابا المذكور، وصب ذلك المجلس اللعنة على الأباطرة الأيسوريين الذين حطموا الأيقونات (4)،
__________
(1) العلاقات السياسية والكنيسة بين الشرق البيزنطي ص 326.
(2) الحروب الصليبية العلاقات بين الشرق والغرب ص 25.
(3) المصدر نفسه ص 255.
(4) معالم تاريخ الإمبراطورية البيزنطية ص 102 ..(1/124)
وبصفة عامة عد الصراع حول الإيقونات مرحلة مؤثرة في زيادة الهوة بين الطرفين البيزنطي واللاتيني (1).
3 - البابوية توجه لطمة قوية للإمبراطورية البيزنطية:
وجهت البابوية لطمة قوية للإمبراطورية البيزنطية من خلال اتجه البابا ليو الثالث (2) (795 - 816 - 201هـ) إلى تتويج شارلمان (768 - 813م/105 - 198م) امبراطوراً في عام 800م/184هـ في كنيسة القديس بطرس في روما وكان ذلك يعني ظهور امبراطور في الغرب الأوروبي ينافس الإمبراطور البيزنطي، وأرادت البابوية، ممارسة لعبة توازن القوى بين الإمبراطورين، غير أن الإمبراطورية البيزنطية لم تكن لتعترف بذلك الإمبراطور الجديد، ولم يكن لإمبراطور القسطنطينية أن يقبل بكونه نصف إمبراطور ومن المؤكد أن البابوية بتتويجها شارلمان امبراطورا؛ قطعت آخر الخيوط التي تربطها بالإمبراطورية البيزنطية، ويعلق أحد المؤرخين على الموقف قائلاً: لا شك في أن تتويج شارلمان كان طعنة نجلاء، صوبتها البابوية إلى الأباطرة الرومانية من جهة وينظرون إلى كل الفرنجة على أنهم برابرة، لا أكثر من جهة ثانية، ولذا رفضت الحكومة الإمبراطورية في القسطنطينية الاعتراف بالإمبراطور الجديد (شارلمان)، وبدأ في نظرها مدعياً ومغتصباً بل "وتافهاً وسخيفاً" على حد قول باراكلاف، وفي نفس الوقت أصبح البابا في نظر البيزنطيين مجرد مواطن متمرد، وجاحد لأنه قام بتتويج شارلمان الفرنجي (3).
__________
(1) الحروب الصليبية العلاقات بني الشرق والغرب ص 255.
(2) الحروب الصليبيةة العلاقات بين الشرق والغربب ص 256.
(3) العلاقات السياسية والكنيسة ص 328.(1/125)
4 - قطيعة فوشيوس في عصر الأسرة المقدونية:
أحداثها في عصر الأسرة المقدونية (867 - 1057م) (253 - 490هـ) وخاصة في عهد الإمبراطور بازل الأول (867 - 886م/253 - 273هـ) ويلاحظ أن الأسقف البيزنطي فوشيوس (858 - 867م/244 - 253م). (877 - 886م/264 - 273هـ) كان قد كتب مقالاً، هاجم فيه ما أسماه بانحراف قانون الإيمان عند اللاتين بسبب إضافة كلمة أو الروح القدس المنبثق من الابن أيضاً " وقد أوضح أن تلك الإضافة تعد انحرافاًً عما اتفق عليه آباء الكنيسة الأوائل في المجامع المسكونية التي عقدت من أجل الاتفاق على صيغة محددة حول طبيعة السيد المسيح، وقد اعتقد فوشيوس أن تلك الإضافة تعد بدعة تؤدي إلى الخلط بين طبيعتي كل من الآب والابن (1).
5 - مقتل الإمبراطورر ميخائيل الثالث: وقع انقلاب في القسطنطينية عام 867م/253هـ انتهى بالفتك بالإمبراطور ميخائيل الثالث واعتلاء بازل الأول العرش وقد تم تعيين اغناطيوس اسقفاً وعزل فوشيوس، ومن بعد ذلك تم عقد مجمع في العاصمة البيزنطية عام 869م/256هـ وفيه تم إدانة فوشيوس ولعنه (2)، ويلاحظ أن الباباا يوحنا الثامن (872 - 882م) (259 - 269هـ) اتجه إلى فوشيوس ولعنه (3)، وشاركه في ذلك جمع من البابوات، بل أنه في نهاية القرنين التاسع الميلادي/الثالث الهجري، وأوائل العاشر الميلادي/الرابع الهجري ظهرت موجة عدائية في الغرب الأوروبي ضد بيزنطة بسبب قضية فوشيوس وتم لعنه وكذلك كنيسة القسطنطينية التي ظهرت على أنها مهرطقه ومارقة (4).
__________
(1) روما وبيزنطة نقلاً عن الحروب الصليبية د. محمد مؤنس عوض ص 2257
(2) الحروب الصليبية العلاقات بين الشرق والغرب ص 257.
(3) المصدر نفسه ص 257.
(4) المصدر نفسه ص 257.(1/126)
6 - الإنشقاق الأعظم: وقع الإنشقاق الأعظم عام 1054/ 446هـ ويلاحظ أن عناصر النورمان في جنوب إيطاليا زحفوا على ممتلكات البابوية بعد أن توسعوا في أملاك الإمبراطورية البيزنطية هناك واتجه البابا ليو التاسع (1049 - 1054م/441هـ-446هـ) إلى التحالف مع الإمبراطور البيزنطي قسطنطين التاسع موناخوس (1049 - 1055م/441 - 447هـ) من أجل العمل ضد النورمان عسكريا، ويلاحظ أن بطريرك القسطنطينية في ذلك الحين تمثل في ميخائيل الأول كيرولاريوس (1043 - 1058م/435 - 450هـ) وقد رفض التحالف بين بيزنطة والبابوية على اعتبار أن ذلك من شأنه الإضرار بمصالح بيزنطة لأنه سيفتح الأبواب على مصاريعها من أجل التدخل البابوي في الشؤون الكنسية الخاصة بها (1)، وقد بدأ النزاع عندما وصلت إلى مسامع كيرولاريوس أخبار تفيد بأن النورمان أعاقوا اليونانيونين في جنوب إيطاليا عن ممارسة شعائرهم الدينية والخطير في الأمر أن ذلك بموافقة كنيسة روما، وكرد على الموقف أمر بطريرك البيزنطي الكنائس الاتينية في العاصمة البيزنطية بأن تتبع الشعائر اليونانية، عندما أثبت ذلك أصدر أوامره بإغلاقها في نهاية 1053م/445هـ.
__________
(1) الحروب الصليبية العلاقات بين الشرق والغرب ص 258.(1/127)
7 - تجدد العداء بين البابوية وبيزنطة: لم يستطع البابا ليو التاسع أن يقف مكتوف اليدين أمام ذلك الموقف فقد أرسل إلى الإمبراطور البيزنطي يتهم كيرولاريوس، ومن ثم تجدد العداء بين الكنيستين من جديد وبصورة أشرس من ذي قبل ووصل الأمر إلى حد أن أصدر البابا ليو التاسع قراراً بالحرمان، لم يشتمل كيرولاريوس فقط بل كنيسة القسطنطينية أيضاً، ووضع قرار الحرمان في مذبح كنيسة أبا صوفيا، بالعاصمة البيزنطية، ويلاحظ أن الشعب البيزنطي تعاطف مع بطريركه ضد كنيسة روما، غير أن ذلك لم يغير من الأمر شيئاً وزادت الهوة بين كنيستي روما والقسطنطينية، ومع ذلك، هناك من يرى أن أحداث قطيعة عام 1054/ 446هـ، كانت أكثر إثارة من النتائج التي ترتبت عليها، فالأمر لم يكن انشقاقاً بصورة نهائية ومن زاوية أخرى، من المهم ملاحظة أن تلك القطيعة لم تؤثر على المركز البابوي في الغرب أو في الشرق على حد سواء؛ كما أنها لم تؤد إلى التأثير على حركة العناصر الكاثوليكية في الإمبراطورية البيزنطية، واستمر قدوم الغربيين بعد تلك القطيعة في صورة تجار أو حجاج أو عابري سبيل واستمر هؤلاء يقومون بتشييد كنائسهم على الأرض البيزنطية، كما ظل المرتزقة اللاتين يعملون في الجيش البيزنطي (1)،
__________
(1) المصدر نفسه ص259 العلاقات السياسية ص 349 ..(1/128)
وقد يكون لدى صاحب هذا الرأي بعض الحق، على اعتبار أن الإمبراطورية البيزنطية حرصت على إبقاء قدر من الاتصال مع روما، إلا أن من المؤكد أن العلاقات بين الطرفين لم تكن كسابقتها، وتفاعلت أحداث الانشقاق الأعظم، مع قطيعة فوشيوس مع الفجوة الحضارية بين بيزنطة والغرب الأوروبي على نحو أوجد نفسية عدائية عامة لدى الطرفين، وليس في مقدورنا إلغاء تلك الزاوية على الرغم من وجود "مصالح متبادلة" بين الشرق البيزنطي والغرب الأوروبي وحرص الطرفان على الاحتفاظ بها، وجاءت الحملات الصليبية كي تزيد الهّوة اتساعاً (1).
__________
(1) الحروب الصليبية بين الشرق والغرب ص 259.(1/129)
8 - المشكلة الأنطاكية: في النصف الثاني من القرن الحادي عشر الميلادي/ الخامس الهجري، وقعت التطورات السياسية والعسكرية في الشرق الإسلامي على نحو أدى إلى هزيمة الإمبراطورية البيزنطية في ملاذكر 463هـ وتسارعت الأحداث لنجد أنفسنا أمام الحملة الصليبية الأولى والتي تحدثنا "عنها في كتابنا عن السلاجقة" وقد اتجه الإمبراطور البيزنطي الكسيوس كومنينوس (1081 - 1118م/474 - 512هـ) إلى عقد اتفاقية القسطنطينية من أجل أن يعيد الصليبيون إليه المناطق التي فقدت منهم من جراء التوسع السلجوقي وكان من أهم تلك المناطق درة شمال الشام، أنطاكية، إلا أن النورمان أسسوا فيها إمارة نورمانية ورفضوا عودتها للإمبراطورية البيزنطية، ومن ثم وجد ما يعرف بالمشكلة الأنطاكية في السياسة البيزنطية؛ وتعني تسعى بيزنطة بسعيها الدءووب من أجل استعادة أنطاكية بكافة الوسائل المتاحة لها سواء السياسية أو الدبلوماسية بل، والتلويح بالقوة في مواجهة الأطماع النورمانية التي لا تجد وبصفة عامة: تأكد للإمبراطورية البيزنطية أنها استعانت بطامع في أراضيها من أجل مواجهة الخطر السلجوقي، ولا ريب في أن عدم تنفيذ الصليبيين لإتفاقية القسطنطينية قد جعل الأباطرة البيزنطيين يحاولون استعادتها دون جدوى في صورة الكسيوس كومنين، وحنا كومنين، ومانويل كومنين (1)،
__________
(1) المصدر نفسه ص 60 ..(1/130)
إن إخفاق الأباطرة الكبار الثلاثة في إيجاد للوجود الصليبي فيما تراه بيزنطة تابعاً لها من قبل مقدم الصليبيين إلى المنطقة وكذلك إيجاد حل ما لتنامي الخطر الاتيني الجامح القادم من الغرب كل ذلك كان بمثابة المقدمة المنطقية الطبيعية لما حدث عام 1204م/602هـ وفي نفس الحين، صار البيزنطيون ينظرون إلى كل حملة صليبية قادمة عبر أراضيهم نظرة عداء ويلاحظ أنه عندما فشلت الحملة الصليبية الشعبية وأجهزت سيوف السلاجقة على العامة بعد عبورهم البسفور اتهم الغرب الأوروبي بيزنطة وجعلها العامل الأساسي وراء ذلك الإخفاق، وفيما بعد، عندما قدمت الصليبية الثانية وعلى رأسها الملك الفرنسي لويس السابع والأمبراطور الألماني كونراد الثالث قابلت بعض المصاعب على الأرض البيزنطية ومن زاوية أخرى تعرضت الممتلكات البيزنطية إلى السلب والنهب على أيدي أفراد تلك الحملة، وهو نفس الأمر الذي وقع خلال الصليبية الأولى، وعندما أخفقت الحملة الصليبية الثانية كسابقتها، اتهمت بيزنطة أنها ساهمت في ذلك الإخفاق من خلال سلوكها المعادي لجند المسيح (1).
__________
(1) الحروب الصليبية بين الشرق والغرب ص 260.(1/131)
9 - التحالف بين صلاح الدين والإمبراطور البيزنطي:
وفي الحملة الصليبية الثالثة كان هناك تحالفاً قد تم بين السلطان الأيوبي صلاح الدين والإمبراطور البيزنطي إسحاق الثاني انجليوس ومن المنطقي تماماً أن تسعى تلك الإمبراطورية إلى إيجاد توازن ما مع القوى الإسلامية المجاورة، فلم تكن لتقبل بانتصار ساحق للصليبين على المسلمين في بلاد الشام، على نحو يؤدي إلى زيادة قوتهم وبالتالي يواجهون تلك الإمبراطورية بشراسة أكبر، لقد أرادت بيزنطة أن تجعل كافة الأطراف تحتاجها سلمياً أو حربياً من خلال لعبة توازن القوى التي برعت فيها في أحيان عديدة وقد كشفت الحملة الصليبية الثالثة على مدى العداء الذي كنته الجيوش الصليبية لبيزنطة، فقد فكر فردريك بارباروسا في غزو القسطنطينية، كما أن ريتشارد قلب الأسد استولى على قبرص في مؤشر واضّح دال على تزايد حجم الأطماع اللاتينية في أملاك الإمبراطورية البيزنطية لقد كانت شهية الغرب في أملاكها لا تحد، ولم يعد الأمر مسألة النورمان، بل انضم لهم الألمان، والإنجليز وفي ذلك ما يعكس كيف أن الأطماع الغرب أوروبية أحاطت بيزنطة من كافة الاتجاهات الممتدة وتنامت الأطماع اللاتينية في أملاك بيزنطة وقد بدأت تلك الأطماع بالأطراف البعيدة نسبياً ثم اقتربت أكثر فأكثر حتى وصلت إلى القلب، ولا ريب في أن ميراث العداء، والكراهة تجاه تلك الإمبراطورية وكذلك الاختلافات العقائدية، ثم الفجوة الحضارية، كل ذلك صنع لنا كافة تلك التطورات المتلاحقة، فإذا أدركنا أن الإمبراطورية المذكورة وقعت في مرحلة ضعف بعد وفاة بازل الثاني 1025م/416هـ حتى عام 1081م/474هـ ثم شهدت صحوة الأسرة الكومنيئية من 1081 حتى 1180م 474 - 576هـ ومن بعدها مرت بمرحلة ضعف جديدة، أدركنا أن أوضاعها ذاتها كانت تشجع الطامعين على الانقضاض عليها (1)،
__________
(1) الحروب الصليبية بين الشرق والغرب ص 261 ..(1/132)
وبالتالي فليس هناك ما يدعو إلى القول بالخيانة البيزنطية للقضية الصليبية، ومثل ذلك التصور تصور غربي أوروبي صرف في ذلك العصر، ومن الأفضل تصور الأمر على أن بيزنطة كانت لها قضيتها الخاصة بها، ومن غير المنطقي أن تتخلى عن قضيتها من أجل الغرب الذي أكدت وقائع التاريخ أن قدم إليها طامعاً وليس مُخلصاً (1).
__________
(1) المصدر نفسه ص 261.(1/133)
ثالثاً: التفكير في الحملة الصليبية الرابعة: فكرة إرسال هذه الحملة نبتت في قلعة تيبالد كونت شامباني في نوفمبر سنة 1199م (596هـ) عندما دار الحديث بينه وبين بعض أصدقائه انتهى باستدعاء فولك أسقف نيللي (1) وهو من دعاة الحروب الصليبية ليتحدث إلى هؤلاء الضيوف. وتمكن فولك بفصاحته أن يثير الحاضرين، الذين وعدوا بالإشتراك في الحروب الصليبية، وبعثوا برسول إلى البابا انوسنت الثالث ليعرض عليه مشروع الحملة، وليعطي القرار الصالح السليم (2)، كان البابا انوسنت الثالث قد أعرب علنا عن رغبته في الدعوة إلى حرب صليبية جديدة، فكتب في سنة 1199م إلى إيمار بطريرك بيت المقدس يطلب منه تقريراً مسهباً عن مملكة الفرنج (3)، وعن أحوال المسلمين وقوتهم في بلاد الشام ومصر ولذلك أبدى ارتياحه وترحيبه الحار لمشروع الحملة التي اقترحها كونت شامباني، وتزعم بنفسه الدعوة لقيام هذه الحملة الصليبية الرابعة وكان من أهم الأسباب التي دعت البابا انوسنت الثالث لقيام هذه الحملة، رغبته ورغبة الأوروبيين في محو العار الذي لحق بهم في الحروب الصليبية الثالثة على يد صلاح الدين الأيوبي، وذلك باسترداد بيت المقدس من أيدي المسلمين ولذلك حشدت البابوية كل إمكاناتها لتوجيه الصليبيين إلى مصر لاحتلالها، لأنها أكبر عدو للصليبيين، ولأنها مركز الثقل في العالم الإسلامي، ولن يتمكن الصليبيون من استرداد بيت المقدس طالما ظلت مصر بعيدة عن أيديهم ولكي يمهد لنجاح هذه الحملة أصدر مرسوماً يحرم على التجار الأوروبيين التعامل مع المسلمين وحرم عليهم تزويد المسلمين بكل المواد التي تعينهم على القتال المسيحيين وخصوصاً مواد الحديد والخشب وما يستعان به في الحروب (4).
__________
(1) يعتبر فولك نيللي أكبر مبشر للبابا في فرنسا واشتهر بأنه لا يخشى الأمراء.
(2) رنسمان الحروب الصليبية (3/ 195).
(3) صلاح الدين والأيوبيون، أحمد الشامي ص 184.
(4) المصدر نفسه ص 184.(1/134)
1 - جهود البابا انوسنت الثالث: استعادت البابوية سلطتها في جنوب إيطاليا، بعد ما أدى إليه تشابك المصالح من نزاع بين ملوك أوروبا العظام، وأخذ انوسنت الثالث يمهد لهذه الحملة، فبدأ بإجراء المفاوضات مع الأمبراطور البيزنطي الكسيوس الثالث لتوحيد الكنيستين الشرقية والغربية (1) وأعطى تعليماته إلى فولك أن يطوف بالبلاد، ويحث أهل الريف على الإنخراط في الحرب المقدسة وحمل السلاح لاستعادة بيت المقدس من أيدي المسلمين، واحتلال مصر، وإنضم عدد كبير من البارونات للاشتراك في هذه الحملة بغرض امتلاك أراضي جديدة بعيدة جداً عن أوروبا وليس بدافع من الدين فقط قبل جميع البارونات أن يتولى تيبالد كونت شامباني قيادة الحملة الصليبية، ولكنه مات فجأة في مارس سنة 1201م/598هـ واجه بونيفاس أول مشكلة من المشاكل التي واجهت الحملة وهي عدم وجود سفن عند أمراء الحملة من الصليبيين، فاتفقوا على أن ينوب عنهم جفرى هاردوين في الاتفاق على تأجير سفن لنقل جنود الحملة إلى سواحل الشام (2) وسافر جفرى إلى جنوه وفاوض المسؤولين فيها لمساعدتهم في نقل 4500فارس بمعداتهم وحوالي 30ألف راجل بأسلحتهم وآلاتهم، ولكن الجنويين أبدوا أسفهم لعدم قدرتهم، فتوجه جفرى إلى البندقية وخاطب حاكمها الدوق هنري داندلو الذي استشار حاشيته وقبل ذلك، وطلب مائة ألف مارك إيجاراً للسفن، ثم شرط عليهم أن يمضي معهم بنصف أهل البندقية القادرين على حمل السلاح وأن يكون لهم النصف في جميع الغنائم، وسوف يكون لأهل البندقية مراكبهم الخاصة بهم (خمسين غراباً) يتولى البنادقة الإنفاق عليها وسوف يتم نقل جنود الحملة في مدى عام من اليوم الذي نحدده إلى أي بلد شئتم (3)
__________
(1) المصدر نفسه ص 185.
(2) صلاح الدين والصليبيون ص 185.
(3) المصدر نفسه ص 185 ..(1/135)
تم الاتفاق بين الطرفين على تخفيض المبلغ إلى 85 ألف مارك فضية كولونية، وأقسم دوق البندقية وجفري هاردوين على تنفيذ هذه الاتفاقية التي عقدت بينهما في يونيه 1202م ثم شرع الصليبيون في المجئ إلى البندقية لكي تنقلهم السفن إلى المشرق، فلما اكتملت أعدادهم وطلبوا من البندقية أن تبحر السفن بهم، طلب الدوق داندلو المبلغ الذي اتفق عليه قبل رحيل السفن، وعجز الصليبيون عن دفع كل المبلغ المحدد (1).
2 - بعض المصاعب والمشاكل التي أثرت في مسيرة الحملة:
ظهرت بعض المصاعب والمشاكل التي أثرت في مسير الحملة من أهمها:
- اشتد ضجر مجموعات من الصليبيين لتأخرهم هذه المدة الطويلة في البندقية دون الرحيل إلى الأراضي المقدسة وخاصة عندما علموا أن وجهة الحملة هي مصر وليس بيت المقدس.
- عمل أهل البندقية على تشجيع هذا التذمر بين الصليبيين لأن البنادقة لم يكن في نيتهم تقديم مساعدة ما لمهاجمة مصر، نظراً للامتيازات الكثيرة، والجليلة التي منحها الملك العادل للتجار الإيطاليين في مصر.
- أوفد الدوق هنري داندلو حاكم البندقية سفراءه إلى القاهرة في نفس الوقت الذي كان ساوم الصليبيين حول نقل الحملة، وثم عقد اتفاق تجاري في ربيع سنة 1202م-598هـ مع نائب الملك العادل، وقد أكد الدوق داندلو لمبعوث الملك العادل أنه لن يساعد أي حملة تتجه إلى مصر (2).
__________
(1) المصدر نفسه ص 186.
(2) صلاح الدين والصليبيون ص 186.(1/136)
3 - توجيه الحملة ضد المجر: استغل دوق البندقية هذه الظروف لصالح بلاده، فعمل على توجيه الحملة ضد المجر لتخليص مدينة زارا عاصمة الساحل الدلماش من يد ملك المجر والتي استمرت الحروب من أجلها عشرات السنين بين جمهورية البندقية والمجر (1) وأعلن الصليبيون في سبتمبر 1202م قبولهم لكل ما تعرضه البندقية عليهم، لكي يتم نقلهم بعد ذلك إلى الأراضي المقدسة أبحر الأسطول من البندقية في 8 نوفمبر 1202م فوصل زارا بعد يومين، وهاجمها الصليبيون بعنف، فاستسلمت بعد خمسة أيام واستباحها العساكر، وبعد ثلاثة أيام وقع القتال بين البنادقة والصليبيين بسبب اقتسام الغنائم غير أن الأمور سويت بين الجانبين، وقرر داندلو مع بونيفاس قائد الحملة البقاء حتى ينتهي فصل الشتاء وفي خلال هذا الوقت اتفق زعماء الحملة على توجيه الحملة إلى القسطنطينية (2)، ويذكر البعض أن فيليب دوق سوابيا أرسل إلى قائد الحملة بونيفاس عرضاً محدداً من صهره الكسيوس الصغير يطلب منه أن تتوجه الحملة الصليبية إلى القسطنطينية وتثبته على عرش الإمبراطورية، وفي مقابل ذلك يقوم الكسيوس بسداد ديون الحملة إلى البنادقة ويمدهم بالمال والمؤن لمساعدتهم على فتح مصر، ويرسل معهم فرقة من الجيش البيزنطي قوامها عشرة آلاف جندي، ويتولى الانفاق على 500فارس صليبي في الأرض المقدسة ويخضع كنيسة بيزنطة إلى الكنيسة الأم في روما وعلى الرغم من أن البابا أنوسنت الثالث كان قد أصدر قرار الحرمان لأفراد الحملة لمهاجمتهم ملك المجر في زارا، إلا أنه عاد وأصدر قراراً بالعفو عنهم، بل أنه ساند الرأي بذهاب الحملة لمهاجمة القسطنطينية، لضم كنيستها وتوحيد العالم المسيحي تحت سلطانه (3).
__________
(1) المصدر نفسه ص 187.
(2) المصدر نفسه ص 187.
(3) الصليبيون وصلاح الدين ص 188.(1/137)
4 - الحملة تبحر نحو القسطنطينية 1203م: وصل الكسيوس الصغير ابن الإمبراطور السابق المخلوع إسحاق قادماً من ألمانيا ورافق الحملة التي ستعيد له عرش أبيه وتم عقد معاهدة بينه وبين حلفائه الصليبيين والبنادقة لتأكيد ما سبق أن عرضه بواسطة صهره فيليب دوق سوابيا، وفي 24 يونيه 1203م 600هـ وصلت سفن الحملة أمام القسطنطينية (1)، ولم يتخذ الإمبراطور الكسيوس الثالث، الذي استولى على العرش عن طريق مؤامرة خبيثة ضد أخيه الإمبراطور السابق إسحاق، أي تدابير لمنع وصول جنود الحملة إليه، واعتقد الصليبيون والبنادقة فيما قاله الكسيوس الصغير من أن بيزنطة كلها سوف تهب للترحيب به ولكن الدهشة استبدت برجال الحملة حينما اكتشفوا أن جميع أبواب القسطنطينية أغلقت في وجوههم، وأن الجنود البيزنطيين مرابطون فوق أسوارها وفشلت المحاولات الأولى التي قام بها أسطول الصليبيين لمهاجمة الأسوار وبعد قتال عنيف تمكن البنادقة من فتح ثغرة بالأسوار في 17يوليو، وفكر الكسيوس الثالث في الفرار مع ابنته التي يكن لها معزةً خاصاً، ولجأ إلى مدينة موزينو في تراقيا، فما كان من حاشية القصر إلا أنهم أخرجوا الإمبراطور السابق إسحاق - الذي سلمه أخوه - من السجن وأعادوه على عرشه وبذلك توقف القتال، وتم الاتفاق على تنصيب الكسيوس الصغير قسيما لابيه في حكم الإمبراطورية وتسمى الكسيوس الرابع سنة1203م (2).
__________
(1) المصدر نفسه ص 188.
(2) المصدر نفسه ص 189.(1/138)
مارس الكسيوس الرابع شؤون الإمبراطور منفرداً لأن أباه قد فقد بصره، وبدأ في تنفيذ وعوده السابقة فحاول أرغام رجال الدين بقبول سيادة بابا روما ولكنه وجد مقاومة عنيفة وفشلت محاولته، أغدق الهدايا الوافرة على الصليبيين فأثار نهمهم إلى المزيد، فقل مال الخزانة ولم يتمكن من دفع ديون الصليبيين للدوق داندلو حاكم البندقية بقية قيمة إيجار السفن، فاضطر إلى فرض ضرائب جديدة فغضب عليه البيزنطيون وصادر كميات ضخمة من ممتلكات الكنيسة "ذهب وفضه" وأمر بصهرها وضربها نقوداً وتسليمها للبنادقة، فحقد عليه رجال الكنيسة وغضبوا منه وزاد من غضب الشعب البيزنطيي وتحريك الثورة في نفسه ما ارتكبه الصليبيون من سلب ونهب في القرى المحيطة بالمدينة، وتدمير حي بأكمله بسبب حماقة بعض الفرنسيين من جنود الحملة الذين حرقوا مسجداً للتجار المسلمين في المدينة، فامتدت النار منه ودمرت الحي بأكمله، واحترق فيه ناس كثير بالإضافة إلى كل ذلك لم يكن الكسيوس الرابع (الصغير) على مستوى حكم الإمبراطورية، إذ كان مبتذلاً في حياته محباً للهو، مما أدى إلى وقوع ثورة في القصر الإمبراطوري في فبراير سنة 1204م رجب 600هـ وتم عزل الكسيوس الرابع وإلقي به في السجن حيث توفي، ولحق أبوه به، فمات كمداً بعد فترة قصيرة وتولى العرش مورتسوفلوس، وتسمى الكسيوس الخامس (1).
__________
(1) صلاح الدين والصليبيون ص 189.(1/139)
5 - سقوط القسطنطينية وإقامة إمبراطورية لاتينية:
وقف الكسيوس الخامس موقفاً مضاداً من الصليبيين وأيدا الاتجاه الشعبي الكاره لهم، وأمام ذلك التطور اتجاه الأخيرون إلى مهاجمة القسطنطينية في عام 1204/ 602هـ والواقع؛ أن تلك العاصمة العالمية المجيدة والتي شيدت منذ القرن الرابع الميلادي احتوت على العديد من النفائس، والتحف على مدى ثمانية قرون كاملة ولذلك وجدت بها ثروات وفيرة، والعديد من الأواني الذهبية، والفضية، والكثير من الأحجار الكريمة (1)، ولا ريب في أنها كانت ذات ثراء عريض جديد بعاصمة إمبراطورية مثل الإمبراطورية البيزنطية، وقد حل بالمدينة القتل والسلب والنهب والتدمير ولدينا (2) ما كتبه مؤرخ بيزنطي معاصر هو نيكيناس خونيتاس، حيث انتحَب على مدينته ورثاها قائلاً: أيتها المدينة، يا حديث العالم، يا منار الأرض، يا حامية الكنائس ويا سيدة الإيمان، يا قلعة العلم؛ لقد تجرعت كأس غضب الله حتى الثمالة، ولقد حاق بك آتون أكثر بشاعة من ذلك الذي أصاب قديماً المدن الخمس. وفي الواقع، تم قتل العديدون من البيزنطيين واغتصبت الراهبات في الأديرة، ودخل الجنود الذين لعبت الخمر برؤوسهم كنيسة آيا صوفيا، وأحضروا إحدى العاهرات لتجلس على العرش البطريركي وجعلوها تنشد الأغاني البذيئة وترقص الرقصات الرخيصة أمام مذبح الكنيسة، واستعملت الأواني الطاهرة من أجل احتساء الخمور، ويلاحظ أن ذلك السلوك المتوحش والمتبربر استمر في مدينة قسطنطين مدة ثلاثة أيام (3)، وقد تمنى نيكتاس فونياتس أن تسقط مدينته على أيدي المسلمين لأنهم ما كانوا ليفعلوا بها ما فعل اللاتين (4).
__________
(1) الحروب الصليبية، العلاقات بين الشرق والغرب ص 266.
(2) المصدر نفسه ص 266.
(3) ما هية الحروب الصليبية الأيديولوجية. الدوافع ص 148.
(4) الحروب الصليبية، محمد مؤنس عوض ص 267 دراسات في تاريخ الدولة البيزنطية ص 256 حسنين ربيع ..(1/140)
وصدق نيكتاس فيما ذهب إليه: فعندما سقطت القسطنطينية في عام 857هـ/1453م على يد السلطان محمد الفاتح، توجه إلى كنيسة آيا صوفيا وقد اجتمع فيها خلق كبير من الناس ومعهم القسس والرهبان الذين كانوا يتلون عليهم صلواتهم وأدعيتهم وعندما اقترب من أبوابها خاف النصارى داخلها خوفاً عظيماً وقام أحد الرهبان بفتح الأبواب له فطلب من الراهب تهدئة الناس وطمأنتهم والعودة إلى بيوتهم بأمان، فأطمأن الناس وكان بعض الرهبان مختبئين في سراديب الكنيسة، فلما رأوا تسامح الفاتح وعفوه خرجوا وأعلنوا استسلامهم (1)، ولقد عاملهم السلطان محمد الفاتح معاملة رحيمة وأمر جنوده بحسن معاملة الأسرى والرفق بهم، وافتدى عدداً كبيراً من الأسرى، من ماله الخاص وخاصة أمراء اليونان، ورجال الدين، واجتمع مع الأساقفة وهدأ من روعهم وطمأنهم على عدم المساس بعقائدهم وشرائعهم وبيوت عبادتهم وأمرهم بتنصيب بطريرك جديد فانتخبوا أجناديوس بطريرك، وتوجه هذا بعد انتخابه في موكب حافل من الأساقفة إلى مقر السلطان فاستقبله السلطان محمد الفاتح بحفاوة بالغة وأكرمه أيما تكريم، وتناول معه الطعام وتحدث معه في موضوعات شتى دينية وسياسية واجتماعية، وخرج البطريرك من لقاء السلطان، وقد تغيرت فكرته تماماً على السلاطين العثمانيين وعن الأتراك، بل على المسلمين عامة، وشعر أنه أمام سلطان مثقف صاحب رسالة وعقيدة دينية راسخة، وإنسانية رفيعة، ورجوله مكتملة، ولم يكن البيزنطيون أنفسهم أقل تأثراً ودهشة من بطريقهم، فقد كانوا يتصورون أن القتل العام لاحقهم، فلم تمضي أيام قليلة حتى كان الناس يستأنفون حياتهم المدنية العادية في أطمئنان وسلام (2).
__________
(1) الدولة العثمانية للصَّلاَّبي ص 150.
(2) السلطان محمد الفاتح ص 134، 135.(1/141)
كان العثمانيون حريصين على الإلتزام بقواعد الإسلام، ولذلك كان العدل بين الناس من أهم الأمور التي حرصوا عليها، وكانت معاملتهم للنصارى خالية من أي شكل من أشكال التعصب والظلم، ولم يخطر ببال العثمانيين أن يضطهدوا النصارى بسبب دينهم (1).
إن مِلل النصارى تحت الحكم العثماني تحصلت على كافة حقوقها الدينية وأصبح لكل ملة من هذه الملل مدارسها الخاصة وأماكن العبادة والأديرة، كما أنه كان لا يتدخل أحد في ماليتها، وكان تطلق لهم حرية في تكلم اللغة التي يريدونها (2)، إن السلطان محمد الفاتح لم يظهر ما أظهره من التسامح مع نصارى القسطنطينية إلا بدافع التزامه الصادق بالإسلام العظيم وتأسياً بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ثم بخلفائه الراشدين من بعده، الذين امتلأت صحائف تاريخهم بمواقف التسامح الكريم مع أعدائهم (3).
__________
(1) جوانب مضيئة ص 274.
(2) المصدر نفسه ص 283.
(3) المصدر نفسه ص 287.(1/142)
هذا ومن الملاحظ إن زعماء وقادة الحملة الصليبية الرابعة نقلوا العديد من التحف والنفائس التي بيعت في أسواق دمشق، والقاهرة وحلب، وكذلك الأسواق الأوروبية حتى أن الجياد البرونزية الأربعة التي كانت تزين ميدان السباق في العاصمة البيزنطية، قام داندلو بحملها إلى البندقية، وحتى اليوم تزين واجهة كاندرائية القديس مارك في فينيسيا (1)، دليلاً على واحدة من أكبر عمليات السلب والنهب التي شهدتها القرون الوسطى، وهكذا؛ يثبت لنا الصليبيون من جديد، أنهم أهل قتل، وتدمير، وسلب ونهب، وها هي مدينة قسطنطين الرائعة تتعرض للمصير المأساوي الذي تعرضت له مدينة بيت المقدس منذ ما يزيد على القرن من الزمان، غير أن الفارق الجوهري أن بيت المقدس كانت مدينة مقدسة للسيادة الإسلامية، أما القسطنطينية فهي مدينة مسيحية وعاصمة الإمبراطورية البيزنطية الإرثوذكسية، والتي قامت بدور درع المسيحية الشرقية في مواجهة الإسلام لعدة قرون وفي هذا دليل واضح على أن الصليبيين في سبيل أطماعهم الجشعة التي لا تحد، لم يفرقوا بين مدن إسلامية أو مسيحية (2).
__________
(1) الحروب الصليبية، العلاقات بين الشرق والغرب ص 268.
(2) المصدر نفسه ص 269.(1/143)
6 - السياسة الخارجية للبابوية والحملات الصليبية:
إن سقوط القسطنطينية على مثل هذه الصورة كان بمثابة كارثة على فكرة، الحملات الصليبية، وكأن الحركة تنتحر، فمن قبل كان الإعلان عن ميلادها موجهاً لحرب "الكفار" وقصد بهم البابا حينذاك المسلمين، أما الآن؛ فإن نطاق "الكفار" امتد ليشمل المخالفين لكنيسة روما في المعتقدات الدينية، ويلاحظ هنا أن أنوسنت الثالث شهد عهده تطور الصليبيات بصورة ملفته للانتباه، فقد شن حملة صليبية ضد العناصر التي رأتها البابوية مهرطقة في جنوب فرنسا، في صورة الوالدنسيين اتباع بيتر والدو والكثاربين (الأطهار)، أما الآن، فإن الحملة الصليبية اتجهت إلى الإمبراطورية البيزنطية، ودل ذلك بجلاء، على أن الحركة الصليبية ليست ضد المسلمين فقط بل ضد كل من يناصب البابوية العداء، وكل من يرفض الخضوع لسلطان كنيسة روما سيدة الكنائس، وصاحبة السيادة العالمية على عالم المسيحية، على نحو يؤكد بالفعل أن الحملات الصليبية هي السياسية الخارجية للبابوية (1).
إننا لأول مرّة منذ أعلان مشروع أوربان الثاني 1095م/489هـ، نجد أن الحركة الصليبية تتجه إلى تلك الوجهة وتسقط عاصمة أكبر إمبراطورية مسيحية في المنطقة على مدى المرحلة الواقعة من القرن العاشر الميلادي/الرابع الهجري إلى القرن الثالث عشر الميلادي/ السابع الهجري وطوال هذه القرون لم تسقط بيزنطة على أيدي الفرس والروس، والنورمان، والمسلمين وغيرهم، إلا أن سقوطها كان على يد قوة مسيحية ممثلة في الغرب الأوروبي، ولذلك لا عجب والأمر كذلك أن تعتبر عام 1204م/602هـ عاماً فارقاً في تاريخ الحملات الصليبية (2).
__________
(1) المصدر نفسه ص 269.
(2) الحروب الصليبية بين الشرق والغرب ص 269.(1/144)
إن أنوسنت الثالث كان يدرك إدراكاً يقينياً أن الصليبية الرابعة كان تستهدف الهجوم على القسطنطينية كما وأنه قد توطأ في إدانة اتجاهم نحو زارا ومدينة قسطنطين وبذلك يكون قد سمح لقادة الحملة الصليبية الرابعة بالإتجاه قدماً في مخططاتهم العدوانية ضد الإمبراطورية البيزنطية (1)، إن البابوية ومنذ زمن بعيد كانت تحلم بتوحيد الكنائس وإخضاع كنيسة القسطنطينية المارقة لسيطرة كنيسة روما، ويلاحظ أن البابا أنوسنت الثالث أمر رجال الدين اللاتين في الصليبية الرابعة بضرورة إدخال الطقوس اللاتينية في كافة الكنائس البيزنطية (2) على نحو عكس إن ذلك الاحتلال اللاتيني توغل في كل مناحي الحياة البيزنطية من السياسة إلى الاقتصاد وإلى الدين (3) أيضاً.
7 - مسؤولية سقوط القسطنطينية: من الأهمية بمكان التقرير بأن مسؤولية العاصمة البيزنطية موزعة بين البنادقة، والبابا أنوسنت الثالث، والبيزنطيين أنفسهم ويتصور البعض أن البيزنطيين هم الضحية في كافة تلك الأحداث التي وقعت على أرض إمبراطوريتهم غير أن الواقع التاريخي يؤكد أن بيزنطة سقطت من الداخل قبل سقوطها من الخارج، فالصراع على المنصب الإمبراطوري الذي سمح بالتدخل الأجنبي مثل فرصة ذهبية أمام الغرب الأوروبي أحسن استغلالها من أجل توجيه ضربة قاضية لبيزنطة ثم إن الضعف العام لتلك الإمبراطورية شجع أعداءها على الانقضاض عليها في غير هوادة (4).
__________
(1) روما بيزنطة، إسحاق عبيد ص 347.
(2) الحروب الصليبية بين الشرق والغرب ص 271.
(3) المصدر نفسه ص 271.
(4) الحروب الصليبية العلاقات بين الشرق والغرب ص 272.(1/145)
إن طوال القرن الثاني عشر الميلادي/السادس الهجري وقعت عدة شواهد دالة على حجم الأطماع اللاتينية، في تلك الإمبراطورية التي توهمت أن من الممكن مسالمة الغرب اللاتيني وأن بإمكانه إعادة أملاكها التي سيطر عليها السلاجقة وتصورت أن لعبة توازن القوى ستظل تلعبها بكفاءة تامة غير أن الأيام أثبتت عكس ذلك تماماً، وقد افتقد الأباطرة البيزنطيون على مدى ذلك القرن المذكور أية خطة استراتيجية عامة لدعم دفاعات إمبراطوريتهم، على نحو يمكنهم من مواجهة الخطر الخارجي كما ظل المنصب الإمبراطوري مطمعاً لكل طامع ومتمرد يرى أنه جدير بذلك المنصب، وكأننا أمام تاريخ مكرر وحصاد عشرات الأحداث، انقلابات، صراعات، واعتقالات، دونما تغير إلا في أسماء الأشخاص فقط القائمين على تلك الأدوار وواقع الأمر أن المؤرخين الذين تباكوا على المصير الدموي لتلك الإمبراطورية وهي تذبح بسكين الغرب الأوروبي عام 1204م/602هـ لم ينظروا إلى الأمور بنظرة موضوعية، لقد صنعت بيزنطة تاريخها أحيانا بقوة غير أنها الآن ضعفة بضعف كامل وهوان مرير، لقد ولى زمن الأباطرة الكبار مثل هرقل، وليو الثالث الأيسوري، وقسطنطين الخامس، وبازل الثاني، والآن لم يكن في جعبة بيزنطة في عصر هوانها إلا أباطرة صغار والأحداث كبار، وبعبارة أخرى؛ أباطرة يصحبونها إلى مثواها الأخير مع ملاحظات أن مقدمات ذلك التاريخ كانت بالغة الطول على مدى قرون عديدة، كما أفصحت بجلاء تلك الصفحات السابقة، ودل كل ذلك على حقيقة مهمة وهي المسؤولية البيزنطية عن كارثة العام المذكور (1)
__________
(1) المصدر نفسه ص 272 ..(1/146)
وقد يرد البعض بأن يعد تحميلاً للأمور أكثر مما تحتمل على اعتبار أن الكيان السياسي الضعيف لا يشارك في صنع التاريخ، وأن القوة الفاعلة حينذاك كان لدى الغرب الأوروبي غير أن من الممكن الرد على أصحاب ذلك التوجه على اعتبار أن قوة الغرب الغرب الأوروبي ما كان لها مجال حيوي تتوسع فيه اقتصادياً وسياسياً وكنسياً إلا على أطلال ذلك الجسد الإمبراطوري المريض في صورة الإمبراطورية البيزنطية وهكذا صدقت تلك المقولة التي قالها يوماً أيوستاشيوس السالونيكي ومفادها أن الغرب الأوروبي يعتقدون أن ذلك العالم ليس كبيراً على نحو كاف لكي يتسع لهم ولنا "أي البيزنطيين" ولذلك كان الإجهاز على بيزنطة يمثل تلك الصورة السالفة الذكر (1).
8 - نتائج الحملة الصليبية الرابعة: كان للحملة الصليبية الرابعة نتائج عديدة منها:
أ- كان للحملة الرابعة تأثير بالغ على مسار المشروع الصليبي بأكمله ويكفي أنه نتج عنه سقوط القسطنطينية لأول مرة في تاريخها منذ أن شيدها قسطنطين الكبير وافتتحها عام 330م وبالتالي فقد أدت الحملة الصليبية الرابعة إلى تغيير خريطة التوزيعات السياسية لشرق أوروبا إلى حد كبير وأزالت السيادة البيزنطية قسمتها إلى عدة مناطق وأعادت تركيب المنطقة على أساس المصالح الاقتصادية، والسياسية الجديدة.
ب- إن تلك الحملة جعلت الكثيرين من الصليبيين في بلاد الشام يقدمون إلى الإمبراطورية اللاتينية في القسطنطينية، بحثاً عن غنائم لهم على نحو أضعف الكيان الصليبي في بلاد الشام (2).
ج- ظهر العامل الاقتصادي ليمثل عنصراً مؤثراً في تلك المرحلة، ولا ريب في أن الدور البندقي الفعال والتنافس مع الإمبراطورية البيزنطية حسم لصالح البندقية (3).
__________
(1) الحروب الصليبية العلاقات بين المشرق والمغرب ص 273.
(2) المصدر نفسه ص 273.
(3) المصدر نفسه ص 273.(1/147)
س- إن النكبة التي نكبت بها الإمبراطورية البيزنطية عام 1204م/602هـ أدت إلى التمهيد - بصورة أو بأخرى - لحدوث الإنهيار النهائي لها على أيدي الأتراك العثمانيين عام 1453م/857هـ في عهد قسطنطين الحادي عشر (1449م - 1453م/853 - 857هـ) بقيادة السلطان محمد الفاتح، ونستطيع وصف مرحلة القرنين والنصف قرن بين التاريخين المذكورين بأنها مرحلة احتضار بيزنطي طويل الأجل انتهى بأن خرجت بيزنطة بعده من التاريخ بجدارة، مثلما دخلته من قبل بجدارة أيضاً (1) وأصبحت عاصمة الدولة العثمانية وعادت إلى مركز الريادة العالمي من جديد وساهمت في اشعاع نور الحضارة والعلم والمعرفة في أنحاء المعمورة.
ش- ومن نتائج سقوط القسطنطينية في العام المذكور أنفاً، قيام عدد من الدول والإمارات البيزنطية، ففي طربيزون قامت إمارة بيزنطية تنتسب إلى آل كومنين وقد مدت نفوذها ليشمل الشريط الساحلي للبحر الأسود من هرقلية حتى القوقاز، وفيما بعد امتد العمر بتِلك الإمارة حتى عام 1461م/866هـ (2) أي حتى بعد سقوط القلب البيزنطي السقوط الذي لا قيام من بعده، وفي أبيروس أقام ميخائيل أنجلو كومنينوس إمارة بيزنطية امتدت من ليبانتو حتى دورازوه كذلك قام تيودور لإسكارس الذي كان صهراً لا لكسيوس الثالث يجمع ما تبقى من الإستقراطية البيزنطية، وكبار رجال الكنيسة، وقام بترويج نفسه على أنه امبراطور الرومان وذلك عام 1206م/603هـ. أي بعد عامين فقط من سقوط القسطنطينية، بالإضافة إلى إمارات بيزنطية ثانوية في جابلاس في جزيرة رودس، وما نكافاس في فيلادلفيا (3).
__________
(1) الحروب الصليبية العلاقات بين الشرق والغرب ص 274.
(2) تاريخ الدولة البيزنطية ص 211 - 212 عمر كمال توفيق.
(3) الحروب الصليبية العلاقات بني الشرق والغرب ص 274.(1/148)
والجدير بالذكر هنا؛ أن البيزنطيين تمكنوا من استعادة عاصمتهم الجريحة في عام 1261م/660هـ على يدي ميخائيل الثامن باليولوغوس (1259 - 1282م) حيث استمرت المملكة اللاتينية هناك من 1204م/602هـ/1261م/660هـ) حيث استمرت المملكة اللاتينية هناك من 1204م/602هـ إلى 1261/ 660هـ، سبعة وخمسين عاماً غير أن الإمبراطورية البيزنطية العائدة لم تكن قط نفس تلك الإمبراطورية السابقة، لقد عادت ظلاً شاحباً بعد أن هدها الغزو اللاتيني لمدينة القسطنطينية (1) ومن أراد التوسع في النتائج فليراجع الحركة الصليبية صفحة مشرقة في تاريخ الجهاد الإسلامي في العصور الوسطى (2)، للدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور، وقضايا العالم الإسلامي ومشكلاته السياسية بين الماضي والحاضر (3) للدكتورة فتحية النبراوي والدكتور محمد نصر مهنا.
__________
(1) الحروب الصليبية بين الشرق والغرب ص 275.
(2) الحركة الصليبية صفحة مشرقة في تاريخ الجهاد الإسلام ص 740.
(3) قضايا العالم الإسلامي ومشكلاته السياسية ص 65.(1/149)
خامساً: محاولة الصليبيين السيطرة على بلاد الشام: على ما يبدو أن أحوال الصليبيين بالشام، كانوا ينتظرون وصول الحملة الصليبية الرابعة ليقوموا بعدها بنقض الهدنة، كعادتهم، ومحاربة المسلمين والغدر بهم وكان الملك عموري الثاني، من جانبه حريصاً على عدم استفزار المسلمين (1). إلا أن بعض الصليبيين الفلمنكيين والفرنسيين الذين وصلوا في نهاية سنة 1202م وسنة 1203م إلى عكا تحالفوا مع الفرسان الداوية، بقيادة رجال الدين من النصارى، واتجهوا نحو جبلة واللاذقية، ثم أرسلوا مخاطبين الملك المنصور الأيوبي أمير حماة مخوفين أياه بأن ستين ألف محارب صليبي قادم إلى الشام لمحاربتهم، غير أن الملك المنصور رد على رسول الداوية بعزم وثبات وأخبرهم بأن عزيمة المسلمين لا تقهر وأن الحرب القادمة لا محال، وعلى السرعة جهز جيوشه وتقدم نحو اللاذقية، وهناك أنزل الصليبيين هزيمة منكرة حيث ساق أسراهم بعدها إلى حماة (2)، وفي تلك الفترة هاجم الملك عموري أسطولاً إسلامياً قادماً من مصر إلى موانيء الشام واستولى عليه بما فيه من بضائع وأمتعة قدرت بنحو ستين ألف دينار، ثم شرع بعد ذلك إلى مهاجمة الأراضي الإسلامية حيث قطع الطريق بين عكا وطبرية واستولى على ما هناك من أموال، وبذلك تأكد للملك العادل أن الملك عموري نقض العهد وعليه فقد كتب إلى سائر البلاد الإسلامية يستدعي العساكر للحرب، إلا أن حرباً حاسمة لم تقع بين الطرفين لأن كلاً منهما كان متريثاً ولا يرغب بالقيام بعمل حربي حاسم ضد الطرف الآخر بسبب الاعتقاد بقرب وصول الحملة الصليبية الرابعة، ويرى المؤرخ الفرنسي غروسيه أن الملك العادل كان لا يريد أن يستنفذ قواته مع الملك عموري (3)
__________
(1) المصدر نفسه.
(2) تاريخ الوطن العربي والغزو الصليبي ص 201.
(3) تاريخ الوطن العربي والغزو الصليبي ص 201 ..(1/150)
في مناوشات محلية، في حين أن الجهد يجب أن يدخر ضد الحملة الصليبية (وهي الرابعة) (1). التي وصل خبرها إلى بلاد الشام وظن الجميع بأنها ستصل إلى بلاد الشام بعد خروجها من القسطنطينية، ولم يكن ذلك إلا أمنية الصليبيين التي لم تتحقق ولما تأكد للملك عموري الثاني عدم وصول الحملة الصليبية الرابعة إلى الشام وأنها استقرت نهائياً في القسطنطينية عمد إلى الإسراع بعقد صلح مع الملك العادل الذي فضل التعامل معهم على أساس التسامح الديني والمصالح التجارية المشتركة (2)، وهكذا تم تجديد الصلح بين الطرفين وعلى ما يبدو فإن الصليبيين استفادوا كثيراً من امتيازات هذا الصلح (3)، وعلى الرغم من أن فترة الهدنة بين المسلمين والصليبين مرت بشكل عام بسلام، إلا أنه حدث عدة مناوشات بين الطرفين كان منها زحف الملك العادل على مدينة طرابلس وحصارها حصاراً شديداً انتهى بعقد صلح مع أميرها بوهيموند الرابع الذي سير للملك العادل هدايا ثمينة وثلاثمائة أسير مقابل موافقته على الصلح (4)، وهنا لابد من الإشادة بموقف الجمهور الإسلامي في بلاد الشام والذي كان بدرجة من الحماس لا يقل عما كان عليه أيام الحروب الصليبية الأولى، فقد تجمع أكثر من ثلاثين ألفاً من المسلمين في كل من دمشق، وغيرها من المدن الشامية الإسلامية الأخرى، مطالبة بالجهاد في سبيل الله، ومشجعة الملك العادل على الاستمرار في حرب التحرير، حتى إن امرأة مسلمة قطعت شعر رأسها وأرسلتها للملك العادل وقالت له: أجعله قيداً لفرسك في سبيل الله (5).
__________
(1) المصدر نفسه ص 202.
(2) المصدر نفسه ص 202.
(3) المصدر نفسه ص 202.
(4) المصدر نفسه ص 202.
(5) المصدر نفسه ص 202.(1/151)
سادساً: الحملة الصليبية الخامسة في عهد الملك العادل:
شهدت الساحة السياسية في أوروبا انقسامات حادة نتيجة الصراعات الداخلية بين البابوية والأمبراطورية في الربعين الثاني والثالث من القرن الثالث عشر الميلادي، وهو صراع كانت له انعكاسات على الحملات الصليبية، فاستعادت آنذاك المبادرة فبدلاً من توجيه الحملات إلى بلاد الشام مباشرة، برزت مصر في حساب الغربيين وبدأ الاتجاه العام في المجتمع الغربي يتحول إلى مصر كنقطة انطلاق في الطريق إلى بيت المقدس، وغدت اهتمام دعاة الحرب الصليبية وزعمائها والمتحمسين لها، بعد أن أدرك هؤلاء أنها أضحت مركز المقاومة الحقيقية في العالم الإسلامي ضد الحركة الصليبية (1)، بالإضافة إلى مواردها الاقتصادية والبشرية الضخمة التي تزود الجيوش الإسلامية بمعين لا ينضب. وقد أدرك المؤرخون المسلمون هذه الحقيقة فابن واصل يقول: إن الصليبيين اجتمعوا بمرج عكا: للمشورة في ماذا يبدؤون بقصده فأشار عقلاؤهم بقصد الديار المصرية أولاً وقالوا: إن الملك الناصر صلاح الدين إنما استولى على الملك، وأخرج القدس والساحل من أيدي الفرنج بملكه ديار مصر وتقويته برجاله، فالمصلحة أن نقصد أولاً مصر ونملكها، وحينئذ فلا يبقى لنا مانع عن أخذ القدس وغيره من البلاد. (2) وإذا كانت الحملة الصليبية الرابعة التي وجهت أصلاً إلى مصر قد انحرفت عن مسارها إلى القسطنطينية بفعل دوافع اقتصادية ودينية وسياسية، فإن الحملة الخامسة جُدَّد لها أن تغزو مصر بعد أن اقتنع القادة الصليبيون بضرورة ضرب مصر لتأمين ممتلكاتهم في بلاد الشام واستعادة السيطرة على بيت المقدس (3)،
__________
(1) الحملة الصليبية الخامسة ص 139 - 140 تاريخ الأيوبيين ص 285.
(2) مفرج الكروب (3/ 258).
(3) تاريخ الأيوبيين ص 286 ..(1/152)
كان الملك العادل قد تمكن من السيطرة على مقاليد الأمور وصارا الشخصية البارزة في البيت الأيوبي واتبع سياسة سلمية تجاه الصليبيين بصفة عامة وفضل الحلول الدبلوماسية أو التلويح باستخدام القوة دون استخدامها فعلياً من ذلك؛ أنه عقد اتفاقاً للهدنة مع الملك عموري الثاني لوزينبان في عام 1198م/594هـ (1)، وعندما قام فرسان الاسبتارية في عام 1207م/604هـ بشن الإغارات الحربية على مدينة حمص وكذلك استيلاء الصليبيين في قبرص في نفس العام على عدد من السفن المصرية: اكتفى العادل الأيوبي بتوجيه الإنذار للملك الصليبي، برد الأسرى المسلمين (2) وفي الحقيقة: أن العادل الأيوبي بتلك السياسة ابتعد كثيراً عن سياسة السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي، ويبدو أنه كان يخشى أن يؤدي تعامله العسكري مع الصليبيين إلى قدوم حملة صليبية بنفس الثقل العسكري والسياسي للحملة الصليبية الثالثة، ومع ذلك فلا تبرر له تلك السياسة التي ستلحق الضعف بالمسلمين، وخاصة أن توجهه هذا أتى في وقت لم يكن فيه الصليبيون يتبعون تلك السياسة السلمية من جانبهم كسياسة عامة، كما أن الاتجاه السلمي له سيتزايد من بعده على نحو سيورد المسلمين إلى موارد ساحة التنازلات الغير مسبوقة، كما سيأتي بيانه في عهد ابنه الملك الكامل بإذن الله تعالى، ويعلق أحد المؤرخين البارزين على الموقف قائلاً: إن ما قام به صلاح الدين من أعمال تعتبر من المنجزات ذات الأهمية البالغة ولو أعقبه حاكم آخر من طرازه لتيسر انجاز ما تبقى من العمل ... غير أن مأساة المسلمين في العصور الوسطى كانت تتمثل في الافتقار إلى النظم الثابتة اللازمة للاضطلاع بالسلطة بعد وفاة الزعيم (3)،
__________
(1) العادل الأيوبي صفحة من تاريخ الدولة الأيوبية ص 77.
(2) الحروب الصليبية العلاقات بين الشرق والغرب ص 278.
(3) المصدر نفسه ص 278 ..(1/153)
على أية حال؛ فمن الأمور المؤكدة أن الروح الصليبية ظلت تحرك الغرب الأوروبي، بل وضمنت لها قطاعات لم يسبق لها الإسهام في تاريخ الحروب الصليبية وخير مثال دل على ذلك نجده في صورة حملتي الأطفال عام 1212م/609هـ.
1 - حملة الأطفال: وقد حدث أن صبياً فرنسياً يدعى ستيفن من مدينة كلويس، رأى رؤية منامية مؤداها؛ أن السيد المسيح عليه السلام؛ أتى إليه في المنام، وأمره بأن يدعو إلى قيام حملة صليبية إلى بلاد الشام وقد تجمع حوله عشرات الآف من الأطفال، وتصور أن البحر سينشق لكي يعبر هو ورفاقه إلى القدس، واتجه الجميع إلى مرسيليا، وهلك الكثيرون من مشقة الطريق، ولما وصلوا إلى البحر لم يجدوه قد انشق، وانتهى الأمر بأن تم نقلهم بالسفن إلى فلسطين ويلاحظ أن تلك الظاهرة الطارئة الجديدة، لم تكن خاصة بالصبية الفرنسيين فقط، بل أنها شملت كذلك الصبية الألمان، إذ أن صبياً يدعى نيقولا، ظهر في كولونيا بألمانيا، وتصور أن بإمكانه تحرير بيت المقدس، وجمع حوله الآلاف من الصبية وسلكوا طريقاً إلى إيطالياً من خلال جبال الألب، وقد هلك الكثيرون منهم في الطريق وهناك رأى يرى أن أولئك الصبية انتهى بهم الأمر بأن بيعوا في أسواق النخاسة في عدد من المدن الإسلامية والواقع: أن حملة الأطفال تحتاج منا إلى وقفة، لأنها من أكثر الحملات الصليبية التي تعكس لنا روح ذلك العصر وطبيعته ومن الجلي البين أن الغرب الأوروبي في العصور الوسطى تعاظمت لديه الجوانب الغيبية وكذلك الرؤى والأحلام وكل ذلك من خلال تدين عاطفي لا يعطي للعقل أي مساحة فيه إلا القليل النادر، وهكذا أن آتون الحروب الصليبية يزجَ فيه بأطفال صغار أبرياً، كانوا جزء من الهوس الديني الذي شمل الغرب الأوروبي حينذاك، ودفعوا حياتهم ثمناً لكل ذلك، ويقرر البعض أن المستوى الفكري للناس في أوروبا العصور الوسطى حينذاك ساعد على الاعتقاد في صليبية الأطفال (1)
__________
(1) الحركة الصليبية (2/ 954) سعيد عاشور.(1/154)
والجدير بالذكر: أن القيادات السياسية وكذلك الكنيسة؛ لم تستطع دفعاً لذلك التوجه من جانب الأطفال، إذ أن ستيفن هذا لم يتمكن الملك الفرنسي فيليب أغسطس من أثنائه عن عزمه، وتكرر ذات الأمر بالنسبة لنيقولا الذي لم يتمكن البابا أنوسنت الثالث من إبعاده عن تلك الحملة الصليبية، على نحو يكشف لنا من حقيقة مهمة وهي، أن الهوس بالصليبية على مستوى الجماهير كان كبيراً وأصاب ذلك الهوس حتى الأطفال البسطاء بذلك، وقد صدقهم الرجال والنساء على الرغم من عدم معقولية تصوراتهم تلك، غير أن ذلك العصر، بأبنائه وتصوراتهم، لم يكن ليقبل التنازل عن ذلك النمط القاصر من التفكير، ويلاحظ أنه فيما بعد تردد لدى البعض القاصر من التفكير، ويلاحظ أنه فيما بعد تردد لدى البعض في الغرب الأوروبي أن شيخ الجبل قد شجع اثنين من الأساقفة المنشقين على الكنيسة اللاتينية على أن يهيئوا للصليبيين المذكورين تلك الرؤية (1)، ومن الواضح أن ذلك التصور جاء تبريراً لتلك السقطة التي انجرف إليها المجتمع الأوروبي في ذلك العصر، والأمر المؤكد؛ أن الصليبيية حينذاك اغتالت براءة الطفولة بصورة غير مسبوقة والحقيقة الأخرى أن قطاعات المجتمع الغرب أوروبي سواء الرجال والنساء والأطفال شاركوا في تلك الحركة التاريخية الكبرى ذلك شأن الحملة الصليبية للأطفال، غير أن الحركة الصليبية كان في جعبتها المزيد من سهام العدوان لتطلقها على المسلمين في الشام ومصر (2) ونرى أن القادة للحملات الصليبية استغلوا العاطفة الدينية المتوهجة عند العامة وشيوع الرؤى والأحلام ووظفوها لخدمة مشروعهم الصليبي.
__________
(1) الحروب الصليبية العلاقات بين الشرق والغرب ص 280.
(2) المصدر نفسه ص 280.(1/155)
2 - مجمع اللاتيران وجهود البابا إنوسنت الثالث: أدّت البابوية دوراً مهماً في الحملة الصليبية الخامسة فقد قام البابا إنوسنت الثالث (594 - 613هـ/1198 - 1216م) بعمل صليبي ضخم وسعى جاهداً طوال مدة جلوسه على البابوية، أن يفرض سيطرته على الممالك النصرانية في أوروبا يوجَّهها وفق المصلحة النصرانية العامة، وقد نجح في ذلك إلى حد كبير لدرجة أنه أصبح سيداً على كل ربوع أوروبا تقريباً، كما أن انتصار النصارى على المسلمين في موقعة العقاب (609هـ/1212م) في أسبانيا شجعه على الدعوة للحملة الصليبية الخامسة، فأراد أن يتبع هذا الانتصار في الغرب بنصر آخر في الشرق (1)، ورحبّت المدن الإيطالية التجارية بدعوة البابا نظراً لما يعود عليها من منافع تجارية على الرغم من أن العادل منح هذه الجمهوريات بعض الامتيازات في بعض الموانيء الإسلامية، وبخاصة في الإسكندرية، إلا أنهم كانوا يطمعون في الاستيلاء على هذه الموانيء وهناك عامل اجتماعي آخر، أدَّى دوراً بارزاً في الاستجابة للدعوة البابوية، ذلك أن الحملات الصليبية كانت متنفساً للعامة في أوروبا ووسيلة للتخلص من الظلم الاجتماعي، ومن دفع الديون وفوائدها، فضلاً عن البحث عن مناخ أفضل للحياة، بالإضافة إلى التكفير عن خطاياهم للقيام بالحملة المنتظرة (2)،
__________
(1) تاريخ الأيوبيين ص 286.
(2) تاريخ الأيوبيين ص 287 ..(1/156)
وبدأ البابا يعد لعقد مجمع اللاتيران الكنسي في عام (612هـ/1215م) والواقع أن الدعوة للمؤتمر والحملة بدأت في عام 610هـ/1213م حين أرسل البابا مندوباً عنه إلى فرنسا، هو الكاردينال روبرت كورسون، من أجل هذه الغاية، وانتشرت الأنباء في فرنسا عن الحملة المرتقبة، وأبدى كثير من العامة، عن استعدادهم، للإنضمام إليها، وأعلن البابا أن المسلمين يستعدون على ما تبقَّى من الوجود الصليبي في الشرق، وأنه لا سبيل لصمود الصليبيين إلا بالمال والرجال، وطلب من كافة النصارى حمل السلاح للقضاء على المسلمين، وكتب إلى العادل في عام 612 هـ/1215م) يطلب منه تسليم بيت المقدس (1)، ولم يعبأ الملك العادل بهذا الطلب، ولم يتوقع وصول حملة صليبية في القريب العاجل، بدليل أنه لم يستعد عسكرياً للتصدي للحملة المرتقبة وأنه كان في مصر عندما وصلت طلائعها إلى بلاد الشام في صيف عام 614هـ/1217م (2).
__________
(1) المصدر نفسه ص 287.
(2) المصدر نفسه ص 287.(1/157)
انعقد المجمع في كنيسة لاتيران في روما بتاريخ 20رجب 612هـ/11تشرين الثاني 1215م للنظر في بعض الشؤون الكنسية ومسألة توحيد الكنيستين الشرقية والغربية، فضلاً عن الإعدد للحملة الصليبية، وهو الهدف الرئيسي لانعقاد المؤتمر وحضر المؤتمر كبار رجال الدين، وكبار العلمانيين من الشرق والغرب وحشد كبير من المهتمين بالشؤون الدينية والسياسية. وألقى البابا خطاب الافتتاح عبّر فيه عما تعانيه مدينة بيت المقدس تحت حكم المسلمين، وأن هؤلاء ينتهكون حرمات كنيسة القيامة ويتهكَّمون على صليب المسيح، وهذا تعبير تقليدي كلما أراد الصليبيون في الغرب، إرسال حملة صليبية إلى الشرق، وهو بعيد كل البُعد عن الحقيقة، وأوضح البابا أن المسلمين بنوا حصناً جديداً على جبل الطور، وهو المكان الذي شهد عظمة المسيح ومجده، وأنهم باتوا يهدَّدون عكا وهي آخر ما تبقّى من مملكة بيت المقدس (1) وناقش المؤتمرون عّدة إقتراحات فيما يتعلق بإرسال حملة صليبية إلى الشرق، وقرروا أخيراً، أن تكون وجهتها مصر، فإذا نجحوا في طرد المسلمين من هذا البلد، فإنهم يفقدون أغنى إقليم لديهم، كما أنهم لن يستطيعوا المحافظة على أسطولهم في شرقي البحر المتوسط، والاحتفاظ ببيت المقدس، إذا تعرَّضوا للهجوم المزدوج من عكا ومن السويس وكان البابا يتجه إلى إرسال الحملة إلى بلاد الشام مباشرة، لتعويض الجهد الذي بدَّده رجال الحملة الصليبية الرابعة في القسطنطينية (2)، وتحَّدد تاريخ "ربيع الأول 614هـ/حزيران 1217م، موعداً لانطلاق الحملة، وهو تاريخ انتهاء الهدنة مع المسلمين، على أن يكون ميناء برنديزي أو مسَّينا في صقلية مكاناً للتجمُّع، وأما الذين يفضَّلون الذهاب بطريق البر، فعليهم أن يكونوا مستعدين في ذلك التاريخ (3)،
__________
(1) المصدر نفسه ص 287.
(2) تاريخ الأيوبيين ص 288.
(3) المصدر نفسه ص 288 ..(1/158)
وطلب البابا من رجال الدين يتخلّوا عن منازعتهم وأحقادهم، وأن يكونوا قدوة حسنة للصليبيين ومن العلمانيين والكفَّ عن منازعاتهم وحروبهم لمدة ثلاث سنوات، حتى يسود السلام ربوع أوروبا وتتمكّن الحملة من القيام بالموعد المحَّدد وقَّدم إغراءات دينية لتشجيع الاشتراك في الحملة، ومنع التعامل التجاري مع المسلمين، وهدَّد كل من يخالف هذا القرار بالحرمان من الكنيسة (1).
__________
(1) المصدر نفسه ص 288.(1/159)
3 - موقف أباطرة وملوك أوروبا من الحملة: أرسل البابا، بعد اختتام أعمال المؤتمر، الدعاة إلى أوروبا للدعوة للحملة، وتركز هؤلاء في فرنسا وألمانيا، كما طافوا في إنكلترا وإيرلندا، وأسكتلندا، وكان على اتصال دائم بهم للوقوف على مدى نجاحهم في هذه المهمة (1)، لكن البابا إنوسنت الثالث توفي في 28 ربيع الآخر 613هـ/16تموز 1216م قبل أن يحقَّق أعز أمنياته، وهي استرداد بيت المقدس، ولم يمضي يومان على وفاته حتى تّم انتخاب خلف له وهو البابا هونوريوس الثالث (1216 - 1227م) الذي كرّس جهده، وجهد المجتمع الغربي نحو الحرب الصليبية (2)، ورأى بأنه لابد من تهيئة المجتمع اللاتيني في الشرق، وإعداده لاستقبال الحملة المرتقبة، فأرسل الكاردينال جيمس فيتري إلى الشرق، وعيّنه أسقفا لمدينة عكا، وكلفّه الدعوة للحملة، وكتب إلى الملك يوحنا بريين يشجعه، ويؤكد له عزمه على إرسال الحملة، وأنه سوف يتمَّم العمل الذي بدأه سلفه، كما كتب إلى جميع الأساقفة ورجال الدين يحثُّهم على الاستمرار في الدعوة (3). ومن الملاحظ أن وفاة البابا إنوسنت الثالث لم تؤثر تأثيراً بالغاً على قيام الحملة (4) وحث ملوك أوروبا على الاشتراك بالحملة، غير أنه لم يستجب إلا عدد ضئيل منهم، فقد وعد هنري الثالث ملك انكلترا بالذهاب مع الحملة، واعتذر فيليب أغسطس عن قيادة الحملة، وهو الذي أبد اهتماماً زائداً بالقضية الصليبية، وذلك بسبب انهماكه بمحاربة ما يسمى في ذلك العصر بظاهرة الهرطقة التي انتشرت آنذاك في جنوب فرنسا وفي أقصى الشمال، وعد الملك النرويجي أنجي الثاني في قيادة الحملة، لكنه توفي في أوائل عام 614هـ/ربيع عام 1217م).
__________
(1) المصدر نفسه ص 289.
(2) المصدر نفسه ص 289.
(3) تاريخ الأيوبيين ص 289.
(4) المصدر نفسه ص 289.(1/160)
أما الأمبراطور الألماني فريدريك الثاني فقد وعد البابا بالاشتراك في الحملة، وقام بنشاط ملحوظ لتعبئة المجتمع الألماني، وعلى الرغم من الآمال المعقودة عليه، فلم تظهر بوادر الوفاء بوعده، ثم اعتذر عن قيادة الحملة ووعد باللحاق بها، بحجة أن أوتوا الرابع ظهر مرة أخرى ليطالب بعرش ألمانيا؛ مما شكَل صدمة كبيرة للبابا، ولم يبق في أوروبا ممن وعدوا بالاشتراك في الحملة سوى أندريه الثاني ملك المجر (1).
4 - طلائع الحملة - ملك المجر في بلاد الشام: تُعدُّ الجموع المجرية طليعة للحملة الصليبية الخامسة، فقد وصل الجيش المجري بقيادة الملك اندريه الثاني إلى سبالاتو في دالماشيا في شهر جمادي الآخرة عام 614هـ/شهر أيلول 1217م ولحق به فيها ليوبولد السادس دوق النمسا، وأبحرا منها إلى عكا، حيث هبطا فيها في خريف عام 1217م ولحق بهم هيو ملك قبرص بكل ما استطاع أن يجنّده من العساكر (2)، وأرسل ليوبولد السادس فور وصوله إلى عكا، سفارة إلى بوهموند الرابع وأحضر معه بعض الأمراء الصليبيين، وتجمَّع لدى الصليبيين أكبر جيش عرفه الشرق الإسلامي منذ الحملة الصليبية الثالثة (3).
__________
(1) المصدر نفسه ص 290.
(2) المصدر نفسه ص 290.
(3) المصدر نفسه ص 290.(1/161)
وعُقد مجمع للحرب في عكا في أواخر شهر رجب/أوائل شهر تشرين الثاني) لتحديد خطة التحرك، وتتلخَّص في قيام بعض القوات الصليبية بمهاجمة مدينة نابلس للتمويه على هدف الحملة وهو غزو مصر، بوصفها الطريق الوحيدة لهزيمة المسلمين في بلاد الشام واستعادة بيت المقدس، ولكن المجتمعين أرجأوا تنفيذ هذه الخطة بسبب قلة عدد القوات ولعدم توفر السفن اللازمة لنقل الجنود بحراً إلى دمياط، وهي المدينة التي حدّدوها لنزول قواتهم فيها (1) وتناقش المؤتمرون في خطة أخرى تقضي بمهاجمة بيت المقدس، ولكن تبين تعذُّر تنفيذها لعدم توفر الماء الكافي لقواتهم عند هذه المدينة، وبعد أن تعذَّر على المجتمعين تنفيذ خطة مهاجمة دمياط، وبيت المقدس، قرروا مهاجمة مدينة دمشق (2)، فارتحلوا من عكا في 4 شعبان/6تشرين الثاني، وسلكوا مرج ابن عامر، وعندما علم العادل بتحركهم، وكان في مصر، خرج منها إلى فلسطين، فوصل إلى اللد والرملة، وتابع طريقه إلى نابلس آملاً في أن يقطع الطريق عليهم عند عين جالوت، وعندما علم الصليبيون بقدومه غيَّروا خطتهم واتجهوا نحوه ليقصدوه، وساروا إلى مدينة نيسان، في الوقت الذي سار فيه العادل إلى هذه المدينة أيضاً "لحماية أطراف البلاد مما يلي عكا" وقد سبقهم إليها (3) وصعد إلى تلك المدينة يراقب تقدمهم، وقد بلغ عددهم ما يقرب من خمسة عشر (4) ألفا. ونتيجة لتفوق الصليبيين عليه في العدد أثر العادل تجنبُّ الاشتباك مع العدو، وانسحب من المدينة، فعارضه ابنه المعظم عيسى، فشتمه العادل وقال له: بمن أُقاتل؟ أقطعت الشام مماليكك، وتركت من ينفعني من أبناء الناس (5)
__________
(1) تاريخ الأيوبيين ص 290.
(2) المصدر نفسه ص 291.
(3) المصدر نفسه ص 291.
(4) المصدر نفسه ص 291.
(5) ذيل الروضتين نقلاً عن تاريخ الأيوبيين ص 291 ..(1/162)
وعسكر في مرج الصَّفر وهو يتهيأ للدفاع عن دمشق، وعندما وصل الصليبيون إلى بيسان نهبوها، واستولوا على كل ما وقعت عليه أيديهم (1)، وتشجعوا بهذا النجاح فتمادوا في مهاجمة المنطقة الواقعة بين بيسان وبانياس، وتوغلوا في داخل الأراضي الإسلامية، وانتشرت جنودهم في القرى فوصلت إلى خسفين ونوى في حوران، وأطراف السواد، وقاموا بأعمال السلب والنهب، وحاصروا بانياس وتوغلوا في داخل الأراضي الإسلامية مدة ثلاثة أيام، ثم عادوا إلى عكا محملين بالغنائم والأسرى (2) وبعد استراحة ثلاثة أيام بمرج عكا، توجهوا إلى مدينة صيدا، فأغاروا عليها، كما هاجموا شقيف أرنون ونهبوها، قبل أن يعودوا إلى عكا في 12شعبان/14تشرين الثاني (3) والواضح أن الصليبيين لم يكن لهم هدف محددَّ، وساروا على غير هدى ولا شك بأن هذه الغارات المحدودة أزعجت المسلمين، وتسبَّبت في إرتفاع الأسعار، وخاف الناس، على أنفسهم وعزموا على مغادرة البلاد" واجتمعوا في المساجد للدعاء، ولم يطمئن أهل دمشق إلا بعد أن جاء المجاهد صاحب حمص إلى مدينتهم لنجدة عمه العادل الذي خرج لاستقباله، وكان يوماً مشهوداً (4)، كما أن العادل قلق أيضاً حتى أنه بعث "بأثقاله ونسائه إلى بصرى (5) وأخذ يستعد للتصدي للصليبيين بعد أن جاءته الإمدادات، فجهَّز ابنه المعظمم عيسى صاحب دمشق بقوة من الجند، وأرسله إلى نابلس لمنع الصليبيين من الوصول إلى بيت المقدس (6)،
__________
(1) الكامل في التاريخ نقلاً عن تاريخ الأيوبيين ص 291.
(2) مفرج الكروب (3/ 255) تاريخ الأيوبيين ص 291.
(3) المصدر نفسه (3/ 255) تاريخ الأيوبيين ص 291.
(4) كتاب الروضتين نقلاً عن تاريخ الأيوبيين ص 292.
(5) سبط ابن الجوزي (8/ 583) تاريخ الأيوبيين ص 292.
(6) مفرج الكروب (3/ 256) تاريخ الأيوبيين ص 292 ..(1/163)
لم يكن الملك يوحنا بريين راضياً بما حدث، ولم يقنع بضياع الجهود الصليبية في الغارات التي لا تعود إلا بالأسلاب والغنائم وكانت قلعة الطور من القلاع المتقدمة التي تهدَّد كيان مملكته، والتي من أجلها طلب مساعدة من الغرب الأوروبي، فرأى القيام بعمل عسكري ضدها، ويبدو أن هذا الرأي لم يحظ بموافقة الجميع فقد رفض كل من أندريه الثاني وهيو التعاون معه، وسانده بوهيموند الرابع، لذلك أعد من جانبه حملة لتدميرها، ولم ينتظر قدوم المساعدة من قِبل الجماعات الدينية العسكرية، مما أثَّر سلباً على قدرته القتالية (1).
__________
(1) تاريخ الأيوبيين ص 292.(1/164)
وصلت هذه القوة إلى القلعة يوم الأربعاء في "18شعبان/20تشرين الثاني" ونفَّذت ضدها هجومين جاءت نتائجهما فاشلة ومن الواضح أن صمود المسلمين قد فتَّ في عضد الملك الصليبي فقرر الإنسحاب، وعاد إلى عكا في 6رمضان/7كانون الأول ومعه بعض الأسرى (1)، لم يركن الصليبيون إلى الهدوء، ولم يقتنعوا بفشلهم العسكري، فرأوا القيام بعمل آخر لعلهم يحقَّقون من ورائه نصراً يستر دون به كرامتهم، فاتجهوا إلى مرجعيون وشقيف أرنون، وأثناء تواجدهم في هذه المنطقة، قرر دبونيس، ابن أخت الملك اندريه الثاني، مهاجمة منطقة البقاع، دون أن يحفل بنصيحة صاحب صيدا ودون أن يحصل على موافقة الملك يوحنا بريين، فتعرَّض لمصاعب جمَّة بسبب وعورة المنطقة وتلقَّى أهل البقاع قواته، وفاجأوهم واستولوا على خيولهم، فقتلوا قسماً منهم، وأسروا جماعة أخرى، وكان ديونيس من بين القتلى ولاذ من نجا منهم بالفرار (2)، ولم يقم الصليبيون بعمل عسكري ضد المسلمين بعد ذلك حتى قدومه الحملة الكبرى التي هاجمت دمياط. وقرَّر الملك أندريه الثاني في تلك الأثناء العودة إلى بلاده، أما ليوبولد السادس دوق النمسا، فإنه بقي في الشرق حيث تعاون مع الملك بريين وعلى هذا الشكل انتهت جهود الجموع المجرية دون أن تحقق أي إنجاز يُذكر فيما يتعلق، بالموقف في بلاد الشام سوى تدمير قلعة الطور، وقد هدمها العادل بنفسه نظراً لأنها سهلة المتناول، وليس ثمة ما يدعو للإبقاء عليها (3)، كما أن الملك أندريه الثاني تسببَّ في إلحاق الضرر بالصليبيين عندما رحل إلى بلاده ومعه عدد كبير من جنوده (4)،
__________
(1) تاريخ الأيوبيين ص 292.
(2) كتاب الروضتين نقلاً عن تاريخ الأيوبيين ص 293.
(3) تاريخ الأيوبيين ص 293.
(4) المصدر نفسه ص 293 ..(1/165)
فقد كان الموقف يحتم عليه البقاء في بلاد الشام للإنضمام إلى القوات الصليبية القادمة، لمهاجمة دمياط أو للدفاع عن الممتلكات الصليبية، أثناء تواجد القوى الصليبية في مصر، والراجح أن تصُّرفه هذا كان أحد أسباب فشل الحملة الصليبية الخامسة (1).
5 - استعدادات التجهيز: ظل العادل، الذي أضحى شيخاً متقدماً في السن، حتى آخر لحظة، يأمل في ألا تبلغ الحماقة بالصليبيين أن ينقضوا الصلح وبخاصة أنه توثَّقت العلاقات بينه وبين البنادقة الذين عقد معهم معاهدة تجارية في عام (604هـ/1208م) (2)، وشاركه في هذه الآمال ابنه الكامل محمد، نائبه في مصر وفي الوقت الذي كان فيه القادة الصليبيون في عكا، يخططون لغزو مصر، بدأت القوات الصليبية القادمة من أوروبا تتوافد على عكا ابتداء من 27محرم 615هـ/26 نيسان 1218م) وتجمّع في هذه المدينة عدد كبير من الصليبيين القادمين من أوروبا، وقد بلغ عددهم حوالي ثلاثين ألفاً، تألفوا من مجريين وإسكندنافيين ونمساويين وألمان، بالإضافة إلى القوات المحلية وبعض القوات من قبرص وعقد الملك يوحنا بريين مجلساً حربياً لترتيب الخطة العسكرية، كتحديد خط سير الحملة، وتدبير مسألة التموين، وإعداد العدد الكافي من السفن لنقل الجنود وتوفير المعدات العسكرية، وتحديد مهام كل مجموعة من الجند، كافة ما يلزم من الترتيبات لمثل هذا الهجوم الكبير الذي كانت أوروبا تخطط له منذ زمن بعيد (3)،
__________
(1) المصدر نفسه ص 293.
(2) تاريخ الأيوبيين ص 293.
(3) المصدر نفسه ص 293 ..(1/166)
ففيما يتعلق بخط سير الحملة، فقد تقرر أن تسلك الحملة طريق البحر لأن ذلك يُعطي الصليبيين قدراً أكبر من الأمان، لعدم وجود قاعدة كالتي توفرت لعموري الأول في عسقلان، وذلك يجعلهم يصلون بقواتهم كاملة دون التعرض لأخطار الطريق البري، كما أن هذه القوات تصل إلى هدفها وهي في حالة من الراحة تمكنَّها من القيام بعملياتها العسكرية بنشاط والجدير بالذكر أن هدف الحملة، مدينة دمياط، إحدى المدن الثلاثة الرئيسية في مصر، بالإضافة إلى أنها أفضل المواقع للهجوم على مصر كلها، فهي أقرب الموانيء المصرية إلى الصليبيين في بلاد الشام، كما أن فرع دمياط يمثل أيضاً طريقاً سهلاً للمواصلات التي تربطهم بقواعدهم في بلاد الشام من جهة وتمكنَّهم من غزو الدلتا كلها قبل التقدم إلى القاهرة للاستيلاء عليها (1).
وفيما يتعلق بقضية تموين الحملة، فقد زُوَّدت بالمؤن التي تكفيها لمدة ستة أشهر (2)، وتحمَّلت قبرص العبء الأكبر من هذه المواد التموينية وتقرر كذلك استعمال السفن الراسية في سواحل بلاد الشام وعددها حوالي ثلاثمائة سفينة؟ لنقل الجنود ودوابهم وآلاتهم ومعداتهم (3) وفي هذا الوقت، الذي كانت تنُظم فيه الترتيبات، وصلت رسالة من البابا هونوريوس الثالث في 21 صفر عام 615هـ/18آيار عام 1218م، تتضمَّن تعيين الكاردينال بيلا جيوس، أسقف ألبانو، مندوباً عنه في الحملة الصليبية، وطلب من الجميع طاعته (4).
__________
(1) المصدر نفسه ص 294س.
(2) تاريخ الأيوبيين ص 294.
(3) المصدر نفسه ص 294.
(4) المصدر نفسه ص 295.(1/167)
6 - الصليبيون ينزلون دمياط: استقل الجيش الصليبي، الذي تعداده حوالي أربعين، ألفاً، السفن في عكا بقيادة الملك يوحنا بريين بتاريخ (26صفر 615هـ/23آيار 1218م) حيث وصل إلى دمياط بعد بضعة أيام، فنزل أفراده إلى البر، ونصبوا معسكرهم على الضفة الغربية للنيل المواجهة للمدينة، وقد وجدوها محصَّنة تحصيناً قوياً (1)، وتقع دمياط على مسافة ميلين من مصب نهر النيل، وتحميها من الخلف بحيرة تنيس (2)، كما كانت تمتد بعرض النيل، سلاسل من حديد عظام القدر والغلظ لتمنع المراكب الموصلة في بحر الملح من عبور أرض مصر (3)، هذا بالإضافة إلى إلى برج السلسلة، وهو بمثابة حصن وسط مجرى النيل لحماية المدينة، وصدَّ أي عدوان يقع عليها (4)، وقد حال دون تقدمهم، لذلك كانت مهمتهم الأولى هي الاستيلاء على هذا البرج ليتمكَّنوا من النزول على الضفة الشرقية للنيل جنوبي المدينة فيسهل عليهم مهاجمتها (5)، وقد فوجئ سكان دمياط بتواجد الصليبيين أمامهم يتحفزون للهجوم عليهم فاستعدوا للدفاع عن مدينتهم وقاموا بتخزين المؤن، وأرسلوا في الوقت نفسه، إلى الكامل محمد الذي تحرك على رأس جيشه، واتخذ طريقه صوب المدينة، كما طلب من وإلي الغربية أن يجمع سائر العربان وينضَّم إلى قواته، واستقر الجميع في المكان الذي سُمي بالعادلية (6)، جنوبي دمياط ليكون على اتصال بالمدينة من جهة ويمنع الصليبيين من العبور إليها من جهة أخرى (7).
__________
(1) المصدر نفسه ص 295.
(2) تنيس هي بحيرة المنزلة حالياً.
(3) المقريزي (1/ 309) تاريخ الأيوبيين ص 295.
(4) تاريخ الأيوبيين ص 295.
(5) المصدر نفسه ص 295.
(6) تقع العادلية بين دمياط وفارسكو على الضفة للنيل.
(7) المقريزي (1/ 309).(1/168)
7 - الوضع في بلاد الشام: عندما علم العادل بنزول الصليبيين في دمياط، وكان بمرج الصَّفر، انتقل إلى عالقين بظاهر دمشق، وبدأ بإرسال العساكر إلى مصر، حتى أنه لم يبق عنده من العساكر إلا القليل (1)، وطلب من ابنه المعظم عيسى أن يغير على معاقل الصليبيين في بلاد الشام ليشغلهم عن دمياط (2)، كما طلب منه تخريب قلعة الطور على الرغم من أهميتها البالغة، وذلك لسببين:
الأول: استغلال ما فيها من الرجال والعتاد لنجدة دمياط.
الثاني: خشيته من استيلاء الصليبيين عليها، إذا ملكوا دمياط، فتكون سبباً في خراب الشام (3).
نفَّذ المعظم عيسى أمر والده بعد تردُّد، وأرسل من في قلعة الطور إلى بيت المقدس، وعجلون، والكرك، تمهيداً لنقلهم إلى دمياط (4)، وطلب العادل من ابنه الآخر الأشرف موسى أن يدخل الأراضي الصليبية لمهاجمتها وفعلاً هاجم الأشرف موسى، صافيتا: فخربَّ ربضها، ونهب رستاقها وهدم ما حولها، ثم هاجم ربض حصن الأكراد، لكنه اضطر إلى التوقف، وعاد إلى بلاده بفعل أن ابن عمه الأفضل علي استغل فرصة انهماكه بأمر الصليبيين وهاجم حلب للاستيلاء عليها، فأرسل العادل المجاهد أسد الدين شيركوه الثاني بدلاً عنه (5)، وفور عودة الأشرف موسى إلى حلب، أرسل قوة عسكرية إلى دمياط نجدة لأخيه بقيادة أبرز أمرائه، وهم سيف الدين كهذان، والمبارز بن خطلح ومبارز الدين سُنْقُر الحلبي (6).
__________
(1) مفرج الكروب (3/ 261).
(2) الكامل في التاريخ نقلاً عن تاريخ الأيوبيين ص 296.
(3) تاريخ الأيوبيين ص 296.
(4) الكامل في التاريخ نقلاً عن تاريخ الأيوبيين ص 296.
(5) مفرج الكروب (3/ 265 - 266) تاريخ الأيوبيين ص 296.
(6) مفرج الكروب (4/ 23 - 32) تاريخ الأيوبيين ص 297.(1/169)
8 - بداية العمليات العسكرية والصراع على برج السلسلة: لم تنقطع المناوشات بين الطرفين منذ أن وطأت أقدام الصليبيين البر في دمياط، ولكنها لم تكن فعالة، وأدرك هؤلاء بنتيجتها فداحة الخطأ الذي ارتكبوه برسَّوهم على الضفة الغربية للنيل بدلاً من الضفة الشرقية، هذا فضلاً عن أنهم أضاعوا كثيراً من الوقت حيث نزلوا، مما أعطى المسلمين فرصة كافية للاستعداد والدفاع (1)، حتى صار عند الكامل من المقاتلة مالاً يكاد ينحصر عدده (2) وقام الصليبيون في 26 ربيع الأول 615هـ/22حزيران 1218م، بأول محاولة لاقتحام المدينة واقتربت قواتهم المهاجمة من أسوارها وقد تسبَّب هذا الهجوم الكبير في إثارة الرعب في نفوس السكان، ولكنهم صمدوا للدفاع عن مدينتهم عندئذ أدرك الصليبيون أنهم عاجزون عن الوصول إلى المدينة، فعادوا إلى معسكرهم، بينما ظلَّت قذائف المنجنيق تنهال عليها لإلحاق الضرر بها (3) وتبين للقادة الصليبيين، بعد محاولتهم الأولى، أن برج السلسلة هو العقبة الرئيسية التي تحول دون تقدُّم السفن الصليبية، ويجب عليهم تذليلها، لذلك جهَّز فرسان الداوية سفينة، شحنوها بثلاثمائة مقاتل، ودفعوها للاصطدام ببرج السلسلة وتحطيمه، لكن محاولتهم هذه فشلت في تحقيق الغاية، واضطر المهاجمون إلى التراجع تحت ضغط الحجارة والنبال التي انهالت عليهم (4)،
__________
(1) عاشور (267) تاريخ الأيوبيين ص 297.
(2) تاريخ الأيوبيين ص 297.
(3) المصدر نفسه ص 297.
(4) المصدر نفسه ص 297 ..(1/170)
وكرّر الصليبيون هجومهم في أواخر ربيع الأول وأوائل ربيع الآخر/الأسبوع الأخير من حزيران، فقام ليوبولد السادس، دوق النمسا، ومعه بعض الفرسان من الأسبتارية، بمحاولة لتسلق أسوار المدينة، واستعمل في هذه المحاولة السلالم المتحركة المثَّبتة على السفن وانفصلت عنهم قوة عسكرية هاجمت برج السلسلة، لكن هذه المحاولة فشلت بفعل عدم تحملّ السلالم ثقل القوات الصليبية المهاجمة، كما أن النار الإغريقية التي استعملها المدافعون أبعدت الصليبيين عن البرج (1) ولم ييأس الصليبيون، نتيجة فشلهم في اقتحام البرج والمدينة وأعدوا في "5ربيع الآخر/تموز" خطة أخرى لاقتحامها فجهزوا أربع سفن زوَّدوها ببعض الأبراج الصغيرة وثبتَّوها فوق سلالم متحركة لتضيق إلى الأبراج مزيداً من الارتفاع فهاجمت ثلاث سفن برج السلسلة وتمكنت من الرسو أمامه في حين هاجمت السفينة الرابعة المدينة، وبذل المهاجمون مجهوداً كبيراً كي يكفلوا النجاح لهذا الهجوم، إلا أن الخيبة كانت إلى جانبهم في هذه المحاولة أيضاً بفعل استماتة المدافعين وكانت خسارة الصليبيين كبيرة حيث غرف عدد كبير منهم نتيجة تحطُّم السلاسل، بفعل ثقل الجنود المزوَّدين بالدروع الحديدية وابتهج المسلمون بهذا النصر (2)، نتيجة للتجارب الفاشلة السابقة، عرض أوليفر بادن بورن مشروعاً جديداً للاستيلاء على برج السلسلة، يُعدُّ مبتكراً في الفنون العسكرية في ذلك الوقت المبكر، ويقي بإقامة برج على سفينتين أُحكم ربطهما معاً بالحبال، وجرت تغطيته بالجلد والنحاس الأحمر لحمايته من النار الإغريقية، ووضعوا فوقه سلمَّاً متحركاً حتى أضحى كالقلعة العائمة (3)،
__________
(1) تاريخ الأيوبيين ص 298.
(2) المصدر نفسه ص 298.
(3) المصدر نفسه ص 298 ..(1/171)
هكذا أمكن مهاجمة برج السلسلة براً وبحراً ونُفَّذ الهجوم في 29 جمادي الأولى/ 24 آب) ونجح الصليبيون في الرسو في الجانب الشمالي الشرقي منه وأسندوا السلم المتحرك إلى جداره، كان يحمي البرج ثلاثمائة من المسلمين وجرى قتال عنيف بين الطرفين، ونجح الصليبيون في دخول برج السلسلة واستولوا عليه، وقطعوا السلاسل التي تعترض مجرى النهر، فأضحى بوسع سفنهم أن تجتاز النهر إلى أسوار (1) دمياط ولا شك بأن سقوط برج السلسلة في قبضة الصليبيين، وتحطيم تلك السلاسل التي تحمي مجراه، جاء خسارة كبرى للمسلمين (2)، وقد عد ذلك البرج، قفل الديار المصرية (3).
9 - وفاة الملك العادل: أرسل الكامل محمد إلى أبيه العادل، الذي كان لا يزال معسكراً قرب دمشق، يخبره بسقوط برج السلسلة، ويستنجد به، لكن هذا الأخير لم يتحمَّل الصدمة، فدق بيده على صدره أسفاً وحزناً، ومرض لساعته مرض الموت، ثم توفي يوم الخميس في 7 جمادي الآخرة 615هـ/31 آب 1218م (4)، ونظراً لما قد يحدثه خبر وفاة العادل من تأثير على الروح المعنوية للجنود المسلمين المرابطين أمام دمياط، فقد أخُفي خبر الوفاة واستقر أولاده في إقطاعاتهم التي أعطاها لهم أبوهم، واتفقوا فيما بينهم على توحيد كلمتهم لمواجهة الموقف الصعب الذي نتج عن الغزو الصليبي لمدينة دمياط، والجدير بالذكر أن ابن العادل الأصغر، وهو المعظم عيسى، استقر في دمشق بينما خلف الكامل محمد أباه في حكم مصر، وقد وقع عليه عبء الدفاع عن دمياط وطرد المعتدين (5).
__________
(1) الكامل في التاريخ نقلاً عن تاريخ الأيوبيين ص 298.
(2) عاشور (2/ 967) تاريخ الأيوبيين ص 299.
(3) كتاب الروضتين نقلاً عن تاريخ الأيوبيين ص 299.
(4) تاريخ الأيوبيين ص 299.
(5) الكامل في التاريخ نقلاً عن تاريخ الأيوبيين ص 299.(1/172)
كان الملك العادل - رحمه الله - حازماً متيقظاً، غزير العقل سديد الأراء، ذا مكر شديد وخديعة، وصبوراً، حليماً، ذا أناة وتؤدة، يسمع ما يكره ويغضي عنه كأنه لم يسمعه، كثير البذل والخرج عند الحاجة لا يقف في شيء، وأما في غير وقت الحاجة فلا، عظمت هيبته في القلوب، واتسع ملكه وواتته السعادة، وكثير أولاده، ورأى فيهم ما يحب من اتساع الممالك والظفر بالأعدام وقال ابن واصل ولم يبلغنا عن أحد من الملوك الماضين أنه رأى في أولاده ما رأى، فإنه اجتمع في كل واحد منهم من النجابة والكفاية والشهامة والفضيلة مالاً مزيد عليه فهم كما قال الشاعر:
من تَلْقَ منهم تَقُل لا قيت سَيَّدَهُم ... مِثلُ النجوم التي يَسْرى بها الساري (1)
وكان للملك العادل فيما ذكره ابن واصل ستة عشر ولداً ذكراً سوى البنات (2)، ومن العجائب أنه لم يحضر وفاته أحد من أولاده وخلف سبعمائة ألف دينار عينا احتوى عليها المعظم (3).
__________
(1) مفرج الكروب (3/ 272).
(2) المصدر (3/ 273).
(3) شفاء القلوب في مناقب بني أيوب ص 202س.(1/173)
10 - دور العلماء والفقهاء في الجهاد في عهد الملك العادل:
إن الفقهاء والعلماء في تلك الفترة حثوا أولى الأمر على التصدى للصليبيين، ونزلوا إلى ميدان الجهاد مقاتلين في سبيل الله، خالعين العمائم متزيين بزي الجند، حاملين السلاح دفاعاً عن الإسلام والمسلمين، فكان في مقدمتهم الفقيه شهاب الدين بن البلاعي (1)، الذي كان أحد الجنود المقاتلين في صد الضربات العنيفة التي وجهها الصليبيون بغتة ضد مدينة حماة عام 601هـ/1204هـ ناقضين الهدنة المنعقدة بينهم وبين صاحب حماة في العام الماضي (2)، فخرج إليهم صاحب المدينة الملك المنصور محمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب وقاتلهم وانضم إليه جموع العامة من أهل حماة، ولكن استطاع الصليبيون بعد قتال مرير أن يأسروا خلقاً كثيراً من أهل حماة وعادوا إلى بلادهم وكان الفقيه شهاب الدين أحمد بن البلاعي قد أبلى بلاءاً حسناً في ميدان المعركة، ورمى فارساً ووقعت فرسه، ولكنه سقط أسيراً، وحمل إلى طرابلس مع غيره من الأسرى، ولكن الظروف ساعدته على الهرب، ورمى بنفسه في البحر، ثم تعلق بجبال بعلبك، وجاء بعد شدائد إلى أهله سالماً (3) والجدير بالذكر أن ابن واصل قال إن هذا الفقيه، كان أول أمره معمما ثم خلع العمامة وتزينا بزي الجند (4)، ولعل هذا يؤكد حمية وحرص الفقهاء على الجهاد بأنفسهم في سبيل الله، حماية للإسلام والمسلمين، ويضيف أبو شامة في عرضه لبطولة الفقيه ابن البلاعي قائلاً: ولولا وقوفه ما أبقوا من المسلمين أحداً (5)
__________
(1) دور الفقهاء والعلماء المسلمين في الشرق الأدنى ص 177.
(2) مفرج الكروب (3/ 154) النجوم الزاهرة (6/ 186، 187).
(3) مفرج الكروب (3/ 163) دور الفقهاء والعلماء ص 178.
(4) مفرج الكروب (3/ 163) دور الفقهاء والعلماء ص 178.
(5) كتاب الروضتين نقلاً عن دور الفقهاء والعلماء ص 178 ..(1/174)
وهناك أيضاً الفقيه سبط ابن الجوزي الذي قدم من بغداد عام 600هـ/1203م واتخذ من جامع دمشق مكاناً للوعظ، فكان الناس يتزاحمون على مجالسه للاستفادة منه (1)، وحظي عند ملوك بني أيوب، وقدموه وأحسنوا إليه (2)، ولم يكتف سبط ابن الجوزي بالوعظ بل شارك في الجهاد، ونزل إلى ساحة المعارك فيذكر في تاريخه أنه قبل خروجه ضمن جيش المسلمين المتجه من دمشق إلى نابلس عام 607هـ/1210م، جلس بجامع دمشق وأخذ يعظ الناس ويحثهم على الجهاد ضد الغزاة، وقد تجمع عنده أعداد هائلة للاستمتاع إليه فحكى لهم حكاية لحثهم على الجهاد فقال: وكان قد اجتمع عندي شعور كثيرة، وقد وقفت على حكاية أبي قدامة الشامي مع تلك المرأة التي قطعت شعرها، وبعثت به إليه، وقالت: أجعله قيداً لفرسك في سبيل الله، فعملت من الشعور التي اجتمعت عندي شكلاً للخيل للمجاهدين وكرفسات ولما صعدت المنبر أمرت بإحضارها، فحملت على أعناق الرجال وكانت ثلاثمائة شكال، فلما رآها الناس صاحوا صيحة واحدة، وقطعوا مثلها وقامت القيامة. ثم يستطرد السبط في وصف ما حدث بعد نزوله من المنبر بعد وعظه للناس في ذلك اليوم قائلاً: فلما نزلت من المنبر قام المبارز (والي دمشق) يطرق لي ويمشي بين يدي إلى باب الناطفائيين، فتقدم إلى فرسي وأمسك بركابي وأركبني، وخرجت من باب الفرج إلى المصلى، وجميع من كان بالجامع بين يدي وسرنا من الغد إلى الكسوة ومعنا خلق مثل التراب وكان معنا قرية واحدة يقال لها زملكا من قرى دمشق ثلاثمائة رجل بالعدد والسلاح وأما من غيرها فخلق كثير والكل خرجوا احتسابا وجئنا إلى عقبة فيق (3)،
__________
(1) سبط ابن الجوزي (8/ 336).
(2) دور الفقهاء والعلماء ص 179.
(3) عقبة فيق: مدينة بالشام بين دمشق وطبريه ..(1/175)
وعندما ما اقترب السبط وهذا الحشد الهائل من المسلمين الذين معه من نابلس، خرج إليهم الملك المعظم عيسى بن العادل واستقبلهم بفرحة غامرة، ثم جلس السبط للوعظ بجامع نابلس لتحميس الناس على قتال الصليبيين، وحضر الملك المعظم هذا الوعظ مع المسلمين، وبعد أن انتهى السبط من وعظه قال: وخرجنا إلى نحو بلاد الفرنج فخربنا وهدمنا وقطعنا إشجارهم، وأسرنا جماعة، وقتلنا جماعة، وقتلنا جماعة، ولم يتجاسروا أن يخرجوا من عكا. فأقمنا أياماً ثم عدنا سالمين غانمين إلى الطور المطل على الناصرة، والمعظم معنا (1)، ويتضح مما تقدم إلى أي حد كان لوعظ سبط بن الجوزي تأثيره العميق في قلوب المسلمين، مما جعلهم يتدافعون وراءه طلباً للجهاد في سبيل الله وأنه لم يكتف بالجلوس في المسجد للوعظ، بل خرج تحت قيادة المعظم عيسى، وقاتل وشارك يداً بيد مع المجاهدين في كل ما فعلوه ببلاد العدو ثم عادوا جميعاً سالمين، وهكذا دائماً كان الفقهاء، والعلماء سباقين إلى كل عمل يعود بالنفع والخير على الإسلام والمسلمين وكانوا القدوة الحسنة لبقية المسلمين (2)، وهناك مواقف أخرى لهذه الصفوة المختارة من الفقهاء والعلماء كان لها أكبر الأثر في ازدياد الحماسة عند المسلمين وإحراز النصر على الأعداء، فكان من أهمها ذلك الموقف الذي وقفه هؤلاء الفقهاء أزاء العدوان الصليبي على دمياط بقيادة ملك بيت المقدس حنا دي بريين عام 615هـ/1218م في الحملة الصليبية الخامسة، فعندما نجح الصليبيون في الاستيلاء على برج السلسلة (3)، مدخل دمياط أرسل الملك الكامل محمد، الفقيه شيخ الشيوخ صدر الدين بن حموية إلى أبيه الملك العادل يخبره بحقيقة الأوضاع ويستصرخ به (4)
__________
(1) سبط ابن الجوزي (8/ 355 - 356) دور الفقهاء ص 180.
(2) دور الفقهاء والعلماء المسلمين ص 181.
(3) برج السلسلة: من شمال دمياط يصب ماء النيل إلى البحر المالح.
(4) النجوم الزاهرة (6/ 222) دور الفقهاء ص 182 ..(1/176)
فلما وصل الشيخ صدر الدين إلى العادل وأخبره بذلك، تألم تألما شديداً ودق بيده على صدره ومرض مرض الموت، كما كان وقع هذا الخبر السيء شديداً بالنسبة للفقهاء والعلماء ويقول أبو شامة: وأذكر وأنا بدمشق حين بلغ الناس أخذ برج السلسلة، وقد شق على من يعرفه مشقة شديدة منهم شيخنا أبو الحسن السخاوي (1) رحمه الله ورأيته يضرب يداً على يد، ويعظم أمر ذاك، وسمعت الفقيه عز الدين بن عبد السلام يسأل عنه، فقال: هو قفل الديار المصرية، وصدق رحمه الله تعالى، فإني حين رأيته في سنة ثمان وعشرين، بأن لي صحة ما أشار الشيخ إليه (2).
11 - أهم معاهدات الملك العادل مع الفرنج: بعد وفاة صلاح الدين تعرض المشروع الوحدوي الصلاحي لضعف شديد إذ لم يلبث أن دب النزاع والخلاف بين الأخوة الثلاثة إلى درجة الصراع المسلح وقد أدى ذلك إلى إقصاء أبناء صلاح الدين عن السلطة واستقلال الملك العادل في الملك دونهم، وحصل ما كان يخشاه صلاح الدين وهو نقل السلطة من أبنائه إلى أخيه العادل، وقد تم له ذلك بعد أن تقرر الصلح بينه وبين أبناء أخيه، وبذلك أصبح سيد الموقف في مصر وبلاد الشام 598هـ/1201م وفي خضم هذا الضعف للوحدة والصراع على السلطة بين الأيوبيين، انتهز الفرنج هذه الفرصة، وحصلوا على مكتسبات على الأرض من خلال المعاهدات والاتفاقات التي عقدوها مع الملوك الأيوبيين (3).
__________
(1) دور الفقهاء والعلماء ص 182.
(2) المصدر نفسه ص 182.
(3) معاهدات الصلح والسلام بين المسلمين والفرنج د. غواتمه ص 62.(1/177)
أ- ففي سنة 594هـ/1198م عقد الملك العادل صلحاً مع الملك عموري الثاني ملك مملكة بيت المقدس في عكا ومدة هذا الصلح ثلاث سنين وكان الفرنج قد استولوا على بيروت وجبيل، فبقيت بأيديهم واحتفظوا بها، أما العادل فقد احتفظ بمدينة يافا، وكان قد انتزعها من الفرنج، أما مدينة صيدا فقد قسمت بين الطرفين، وكانت ظروف العادل والصراع على السلطة بين القادة الأيوبيين قد أملت عليه القبول بالصلح بعد أن راسله الفرنج بذلك (1).
ب- وفي سنة 601هـ/1204م، عقد العادل مع الفرنج صلحاً وشرطوا أن تكون يافا لهم، واستنزلوه عن مناصفات اللد والرملة، فأجابهم على ذلك، وعقد الهدنة بينه وبينهم (2) والظاهر أن سبب منح هذه الامتيازات للفرنج هو ظروف الخلافات في دولته بالإضافة إلى أن حركة الفرنج كانت نشطة، سواء في أوروبا، أو في داخل الأراضي القسطنطينية بسبب قدوم جماعات فرنجية جديدة إلى عكا وبعض الإمارات الفرنجية الأخرى.
ج- وفي سنة 603هـ/1207م أبرم الملك العادل صلحاً مع بوهيمند الرابع، وكان العادل قد حاصرها وضيق عليها، فبعث إليه صاحب طرابلس يخضع له وبعث له مالاً وهدايا، وثلاثمائة أسير، ورغب في الصلح فصالحه (3).
د- وفي سنة 607هـ كانت معاهدة أخرى للملك العادل مع الفرنج، حدث في هذه السنة أن تحركت القوات الفرنجية على الساحل الفلسطيني، واجتمع في عكا أعداد كبيرة منهم، فخرج الملك العادل من دمشق، واستمرت الهدنة مدة معلومة (4) ونلاحظ أن خسارة المسلمين تكون أكثر عندما يكونون الطرف الأضعف فتملى عليهم الشروط وعندما يكونون الأقوى لا يخسرون بل يفرضون على عدوهم ما يريدونه هم ما لا يريده العدو (5).
__________
(1) المصدر نفسه ص 63.
(2) مفرج الكروب (3/ 163) الدبلوماسية الإسلامية ص 369.
(3) الدبلوماسية الإسلامية ص 396.
(4) مفرج الكروب (3/ 201).
(5) معاهدات الصلح والسلام ص 64.(1/178)
12 - سياسة دول المدن الإيطالية تجاه الأيوبيين: في عصر الممالك الأيوبية كانت إيطاليا تتشكل من جمهوريات مستقلة وكانت كل جمهورية منها تقوم في مدينة كبرى، مثل؛ البندقية، بيزا، جنوة، وأمالفي، ولكنها كُلها تتبع نمطاً اقتصادياً واحداً، يقوم على التجارة البحرية وقد تمكنوا جميعاً، بفضل الأساطيل المتنوعة الضخمة من أن يحَّققوا أرباحاً خيالية، وأن تصل هذه المدن إلى مستويات عالية من الثروة (1) وقد أدركت الدولة الأيوبية حاجتها لكسب التجار الإيطاليين، فلَّوحت لهم بالمكاسب، وعقدت معهم الاتفاقات على أساس الفائدة المشتركة، فتحدوا كلَّ قرارات المنع وكُل التزام ديني، ونقلوا البضائع من وإلى الموانيء الإسلامية، وخاصَّة موانيء مصر، وعلى ما يبدو، أدرك المسلمون ما للمصالح الإيطالية من أهمية في بقاء الإمارات اللاتينية وأدركوا التنافس القائم بين الجمهوريات الإيطالية وما يحدث بينهم من خلافات، وعلى هذه الأسس ركزوا اهتمامهم على التجارة الإيطالية، فمنذ أوائل عهد الدولة الأيوبية نشط التجار الإيطاليون فيها وخاصة في مصر، بعد تأمينها طريق البحر الأحمر، فموانيء الشَّام، -بمعظمها - بيد الفرنج، وما هو بيد المسلمين إمَّا مُهدَّم، أو غير آمن، فزادت موارد الدولة الأيوبية من جهة، وأضعف النشاط التجاري للفرنجة وبالتاَّلي مواردهم المالية وكان للملك العادل دور كبير في تشجيع التجارة عبر مصر، ففي سنة 608هـ/1211م، كان يجتمع في مدينة الإسكندرية وحدها ثلاثة آلاف تاجر من (الفرنج) ما عدا مُرافقيهم، ومساعديهم، وعمّالهم وبحَّارة سُفُنهم، مما شكّل حركة تجارة نشطة، كانت الدولة الأيوبية بأمس الحاجة إليها لحاجتها إلى كثير من الموادَّ المجلوبة، وللرسوم (2).
__________
(1) العلاقات الدولية في عصر الحروب الصليبية (2/ 271).
(2) المصدر نفسه (2/ 274).(1/179)
سابعاً: أهم الدروس والفوائد والعبر:
1 - غلاء وفناء ووباء: في سنة 597هـ اشتد الغلاء بأرض مصر جداً، فهلك خلق كثير جَّدا من الفقراء والأغنياء ثم أعقبه فناء عظيم، حتى حكى الشيخ أبو شامة في الذيل (1) أن العادل كفّن من ماله في مدة شهر من هذه السنة نحوا من مائتي ألف وعشرين ألف ميَّت (2) وأكلت الكلاب والميتات في هذه السنة بمصر، وأُكل من الصَّغار والأطفال خلق كثير يشويه والِدَاه ويأكلانه، وكثر هذا في الناس حتى صار لا ينُكر بينهم، ثم صاروا يحتالون على بعضهم بعضاً، فيأكلون من يقدرون عليه ومن غلب من قِوىَّ ضعيفاً ذبحه وأكله وكان الرجل يُضيف صاحبهَ فإذا خلا به ذبحه وأكله وُوجد عنده بعضهم أربعمائة رأس وهلك كثير من الأطبَّاء الذين يُستدعون إلى المَرضى، فيذبحون ويؤكلون، وقد استدعى رجل طبيباً فخاف الطبيب وذهب معه على وجَلٍ، فجعل الرجل يتصدق على من وجده في الطريق ويذكر ويسبح ويكثر من ذلك، فارتاب به الطبيب وتخيَّل ومع هذا حمله الطمع على الاستمرار معه، فلمَّا وصل إلى الدار إذا هي خربة، فارتاب أيضاً، فخرج رجل من الدار، فقال لصحابه: ومع هذا البُطءِ جئت لنا بصيد. فلمَّا سمعها الطبيب هرب، فخرجا خلْفهَ سِراعاً فما خلص إلا بعد جهد جهيد وفيها وقع وباء شديد ببلاد عنزة بين الحجاز واليمن وكانوا يسكنون في عشرين قرية، فبادت منها ثماني عشرة قرية، ولم يبق فيها ديَّار ولا نافخُ نار، وبقيت أنعامهم وأموالهم لا قانِيَ لها، ولا يستطيع أحد أن يسكن تلك القرى ولا يدخلها، بل كان من اقترب إلى شيء من هذه القرى هلك من ساعته، فسبحان من بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون، أما القريتان الباقيتان فإنهما لم يَمُت منهما أحد، ولا عندهم شعور بما جرى على من حولهم، بل هم على ما كانوا عليه لم يفقد منهم أحد (3).
__________
(1) ذيل الروضتين ص 19 البداية والنهاية (16/ 703).
(2) جواهر السلوك في أمر الخلفاء والملوك لابن إياس ص 100.
(3) البداية والنهاية (16/ 704).(1/180)
2 - زلزلة عظيمة: في سنة 597هـ كانت زلزلة عظيمة، ابتدأت من بلاد الشام إلى الجزيرة وبلاد الرّوم والعرَاق وكان جمهورها وعُظْمُها بالشَّام، تهدمت منها دور كبيرة وخَُسِف بقرية من أرض بُصرى، وأما السواحل فهلك فيها شيء كثير، وخربَت محِال كثيرة من طرابلس وصور وعكَّا ونابلس، ولم يبق بنابُلَس سِوَى حارة السَّامَّرةِ ومات بها وبقُراها ثلاثون ألفا تحت الرّدم وسقط طائفة كثيرة من المنارة الشرقية بجامع دمشق، وأربع عشرة شُرفة منه، وغالب الكلاّسَةِ والمارستان النوري، وخرج الناس إلى الميادين يستغيثون، وسقط غالب قلعة بعلبكَّ مع وثاقةِ بنائهاِ، وانفرق البحر إلى قبرس وحذف بالمراكب إلى ساحله وتعّدى إلى ناحية الشرق فسقط بسببها دور كثيرة، ومات أمم لا يُحصون حتى قال صاحب مرآة الزمان: إنه مات في هذه السنة بسبب الزلزلة نحو من ألف ألف ومائة ألف إنسان (1).
__________
(1) البداية والنهاية (16/ 607).(1/181)
3 - وفاة الشيخ أبو الفرج بن الجوزي: عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن جعفر الجوزي قال عنه الذهبي الإمام العَّلامة، الحافظ المفسَّر، شيخ الإسلام، مفخرة العراق، جمال الدين، ويرجع في نسبه إلى الفقيه القاسم بن محمد ابن خليفة رسول الله أبي بكر الصديق، القرشي التَّيمِىُّ البكري البغدادي، الحنبلي، الواعظ صاحب التصانيف ولد سنة تسع أو عشرين وخمس مئة (1)، كان رأساً في التذكير بلا مدافعة، يقول النظم الرائق والنثر الفائق بديها، ويُسِهبُ، ويُعجِبُ، ويُطربُ، ويُطنِبُ، لم يأت قبله ولا بعده مثله، فهو حامل لواء الوعظ، والقيَّم بفنونه مع الشكل الحسن، والصوت الطيَّب، والوقع في النفوس، وحسن السيرة، وكان بحراً في التفسير، علامةً في السير والتاريخ، موصوفاً بحسن الحديث ومعرفة فنونه، فقيهاً عليماً بالإجماع والاختلاف، جيد المشاركة في الطب، ذا تفنُّن وفهم وذكاء وحفظ واستحضار، وأكباب على الجمع، والتصنيف، مع التعوث والتحِمل، وحسن الشارة، ورشاقة العبارة، ولطف الشمائل والأوصاف الحميدة، والحرمة الوافرة عند الخاص والعام، ما عرفت أحداً صنف ما صنف (2) ... وكان ذا حظ عظيم وصيت بعيد في الوعظ، يحضر مجالسه الملوك والوزراء وبعض الخلفاء والأئمة والكبراء، لا يكاد المجلس ينقص عن ألوف كثيرة، حتى قيل في بعض مجالسه: إن حُزِرَ الجمع بمئة ألف، ولا ريب أن هذا ما وقع، ولو وقع، لما قدر أن يُسمعهم، ولا المكان يسعهم (3) قال وسبطه أبو المظفر: سمعت جَّدي على المنبر يقول: بأصبعيّ هاتين كتبتُ ألفي مجلدة، وتاب على يديَّ مئة ألفٍ، وأسلم على يديَّ عشرون ألفاً، وكان يختم في الأسبوع، ولا يخرج من بيته إلاَّ إلى الجمعة أو المجلس (4)، علق الذهبي فقال: فما فعلت صلاة الجماعة (5).
__________
(1) سير أعلام النبلاء (21/ 366).
(2) المصدر نفسه (21/ 367).
(3) سير أعلام النبلاء (21/ 370).
(4) المصدر نفسه (21/ 370).
(5) المصدر نفسه (21/ 370) ..(1/182)
أ- من غرر ألفاظه: عقارب المنايا تلسع، وخَدَران جسم الآمال يمنع، وماء الحياء في إناء المر يرشح (1) يا أمير: أذكر عند القدرة عدل الله فيك، وعند العقوبة قدرة الله عليك ولا تشف غيظك بسقم دينك (2) وقال لصديق: أنت في أوسع العذرِ من التأخر عني لثقتي بك، وفي أضيقه من شوقي إليك (3) وسأله آخر في أيام ظهور الشيعة، أيهما أفضل أبو بكر أم علي؟ فقال: أفضلها من كانت بنته تحته وهذه عبارة محتملة تُرضي الفريقين (4)، وسأله آخر: أيمُّا أفضل: أسبَّحُ أو استغفرُ؟ قال: الثوبُ الوسخ أحوج إلى الصابون من البخور (5) وقال: من فتح طاب عيشه، ومن طمع، طال طيشه (6) والتفت يوما ناحية الخليفة وهو في الوعظ فقال: يا أمير المؤمنين، إن تكلمت خِفتُ منك وإن سكتُّ خِفتُ عليك وإن قول القائل: اتق الله، خيرٌ لكم من قوله: إنكم أهل بيت مغفور لكم وكان عمر بن الخطاب يقول: إذا بلغني عن عامل أنه ظالم فلم أُغيرَّه، فأنا الظالم. يا أمير المؤمنين وكان يوسف لا يشبع في زمن القحط حتى لا ينْسَى الجيعان، وكان عمر يضرب بطنه عام الرمادة ويقول قرقر أولاً تُقرِقرْ والله لاسمناً ولاسَميناً حتى يُخضب الناس قال: فتصدق الخليفة المستفيء بمال جزيل، وأطلق المحابيس، وكسى خلقاً من الفقراء (7).
__________
(1) المصدر نفسه (21/ 371).
(2) المصدر نفسه (21/ 371).
(3) المصدر نفسه (21/ 371).
(4) المصدر نفسه (21/ 371).
(5) المصدر نفسه (21/ 375).
(6) المصدر نفسه (21/ 375).
(7) البداية والنهاية (16/ 709).(1/183)
ب- مصنفاته: وله من المصنَّفات في ذلك ما يضيق هذا المقام عن تعدادِها، وحصر أفرادها، منها كتابه في التفسير الشهير يزاد المسير، وله أبسط منه ولكنَّه ليس بمشهور ولا منكور وله "جامع المسانيد" استوعب فيه غالب "مسند الإمام أحمد" و"صحيحي البُخاري ومسلم" و"جامع الترمذي" وله كتاب "المنتظم في تواريخ الأمم من العرب والعجم" في عشرين مجلداً ... فلم يزل يؤرَّخ أخبار العالم حتى صار هو تاريخاً وما أحقه بقول الشاعر:
ما زلتَ تدأب في التاريخ مُجتهداً ... حتى رأيتُك في التاريخ مكتوباً (1)
وله مقامات وخطب وله "الأحاديث الموضوعة" و"العلل المتناهية في الأحاديث الواهية" وغير ذلك (2).
ج- من أشعاره: قال ابن كثير: .. وقد كان فيه بهاء، وترفع في نفسه، ويسمُو بنفسه أكثر من مقامه وذلك هو ظاهر في نثره ونظمه، فمن ذلك قوله:
ما زلت أدرك ما غَلا بل ما علا ... وأُكابد النَّهج العسِيَر الأطْوَلا
تجري بي الآمال في حَلَباته ... طلق السَّعيد جَرى مدَى ما أمَّلا
يُفضي بي التوفيق فيه إلى الذي ... أعمى سِوَاى تَوصُّلاً وتَغَلغُلا
لو كان هذا العلم شخصاً ناطقاً ... وسألته هل زُرت مثلى قال لا (3)
ومن شعره أيضاً قوله:
يا ساكن الدُّنيا تأهَّب ... وانتظر يوم الفِراق
وأَعِدَّ زاداً للرّحيل ... فسوف يُحدى بالرَّفاق
وابكِ الذُّنوب بأدُمع ... تنهل من سُحُب المآقي
يا من أضاع زمانه ... أرضيت ما يفنى بباق (4)
س- وفاته: كانت وفاته في ليلة الجمعة بين العِشاءين الثاني عشر من شهر رمضان من سنة 597هـ وله سبع وثمانون سنة وحُملت جنازته على رؤوس الناس، فدفن بباب حربِ عند أبيه بالقرب من الإمام أحمد، وكان يوماً مشهوداً، حتى قيل إنَّه أفطر جماعة من الناس بسبب شدة الحر وكثرة الزحام، رحمه الله وفد أوصى أن تكتب على قبره هذه الأبيات
__________
(1) المصدر نفسه (16/ 707).
(2) البداية والنهاية (16/ 707).
(3) المصدر نفسه (16/ 708).
(4) سير أعلام النبلاء (21/ 373) س.(1/184)
يا كثير العفِو عمَّن ... كَثُر الذنبِ لديه
جاءت المذنبُ يرجو ... الصَّفح عن جُرمِ يديه
أنا ضيف وجزاء ... الضيف إحسان إليه (1)
وقد كان للشيخ جمال الدين ابن الجوزي من الأولاد الذكور ثلاثة: عبد العزيز وهو أكبر أولاده، مات شاباً في حياة والده، ثم أبو القاسم عليُّ وقد كان عاقاً لوالده إلباً عليه في زمن المحنة وغيرها، وقد تسلطَّ على كتبه في غيبته بواسط، فباعها بأبخس الأثمان، ثم محي الدين يوسف وكان أنجب الأولاد وأصغرهم، ولد سنة ثمانين وخمسمائة ووعظ بعد أبيه، واشتغل وحررّ وأتقن وساد أقرانه، ثم باشر حسبة بغداد ثم كان رسول الخلفاء إلى الملوك بأطراف البلاد، ولاسيما إلى بني أيوب بالشَّام، وقد حصل منهم من الأموال والكرامات ما ابتني به المدرسة الجوزية التي بالنَّشابين بدمشق، ثم صار أستاذ دار الخليفة المستعصم في سنة أربعين وستمائة واستمر مُباشرها إلى أن قتُل مع الخليفة عام هولاكو بن تُورلى بن جنكيز خان وكان لأبي الفرج عدّةُ بنات منهن رابعة أم سبطه أبي المظفر بن قزاو علي صاحب "مرآة الزمان" وهي كتاب من أجمع التواريخ وأكثرها فائدة وقد ذكره ابن خلكان في الوفيات، فأثنى عليه ومدحه وشكر تصانيفه وعلومه (2).
__________
(1) المصدر البداية والنهاية (16/ 710).
(2) البداية والنهاية (16/ 711).(1/185)
4 - العماد الكاتب الأصبهاني: القاضي الإمام العلامة المفتي، المنشئ البليغ، الوزير، عماد الدين، أبو عبد الله محمد بن محمد بن حامد بن محمد بن عبد الله بن علي ابن محمود الأصبهاني الكاتب، ويعرف بابن أخي العزيز، قدم بغداد، فنزل النظامية، وبرع في الفقه، وأتقن العربية والخلاف وساد في علم التَّرسُّل، وصنف التصانيف واشتهر ذكره (1) ورحل إلى الشام، فحظي عند نور الدين محمود زنكي وكتب بين يديه وولاّه المدرسة التي أنشأها داخل باب الفَرجِ التي يقال لها العمادية نسبة إلى العماد هذا لكثرة إقامته بها (2) ولما توُفي نور الدين، أهمل، فقصد الموصل، ومرض، ثم عاد إلى حلب وصلاح الدين محاصر لها سنة 570هـ فمدحه ولزم ركابه، فاستكتبه وقّربه، فكان القاضي الفاضل ينقطع بمصر لمهمَّات، فيسدُّ العماد في الخدمة مسده (3) ولم يزال العماد على مكانته إلى أن توفي صلاح الدين، فاختلف أحواله، فلزم بيته، وأقبل على تصانيفه (4) وتوفي في الأول رمضان سنة سبع وتسعين وخمس مئة ودفن بمقابر الصوفية (5).
5 - مكلبة بن عبد الله المستنجدي: كان تركيا عابداً زاهداً، سمع المؤذَّن وقت السحر وهو ينشد على المنارة:
يا رَجالَ الليِلِ جدُّوا ... رُبَّ صْوتٍ لا يُرَّدُّ
ما يقوم الليل إلا ... من له عزم وجِدُّ
فبكى مكلبة وقال للمؤذن زِدني فقال المؤذَّن:
قد مضى الليلُ وَولىَّ ... وحبيبي قد تجلىَّ
فصرخ مكلبة صرخة كان فيها حتفه، فأصبح أهل البلد قد اجتمعوا على بابه، فالسعيد من وصل إلى نعشه (6) وقد توفي 597هـ.
__________
(1) سير أعلام النبلاء (21/ 345).
(2) البداية والنهاية (16/ 345).
(3) سير أعلام النبلاء (21/ 346).
(4) المصدر نفسه (21/ 347.
(5) المصدر نفسه (21/ 348).
(6) البداية والنهاية (16/ 714)(1/186)
6 - الحافظ عبد الغني المقدسي: توفي عام 600هـ: الإمام العالم الحافظ الكبير الصادق القدوة العابد الأثرِيُّ المتبع عالم الحفاظ تقيُّ الدين أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي سمع الكثير بدمشق والإسكندرية، وبيت المقدس، ومصر وبغداد، وحّران، والموصل وأصبهان، وهمذان، وكتب الكثير (1) ولم يزل يطلب ويسمع ويكتب ويَسهَر ويدأب، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويتقي الله، ويتعبد ويصوم ويتهجد، وينشر العلم إلى أن مات، رحل إلى بغداد مرتين، وإلى مصر مرتين، سافر إلى بغداد وهو ابن خاله الشيخ الموفّق في أول سنة إحدى وستين، فكانا يخرجان معاً ويذهب أحدهما في صحبة رفيقه إلى درْسه وسماعه، كانا شابين مُختطين (2) وخّوفهما الناس من أهل بغداد، وكان الحافظ ميله إلى الحديث والموُفّق يريد الفقه، فتفقه الحافظ وسمع الموفق معه الكثير، فلما رآهما العقلاء على التصَّون وقلة المخالطة أحبّوهما وأحسنوا إليهما، وحصَّلا علماً جمّاً، فأقاما ببغداد أربع سنين، ونزل أولاً عند الشيخ عبد القادر - الجيلاني- فأحسن إليهما، ثم مات بعد قدومهما بخمسين ليلة، ثم اشتغلا بالفقه والخلاف على ابن المنَّي ورحل الحافظ إلى السَّلفي (3) في سنة ست وستين، فأقام مدة، ثم رحل أيضاً إلى السَّلفي سنة سبعين (4)، وكان ليس بالأبيض الأمهق (5)، بل يميل إلى السُّمرة حسن الشعر كث اللحية، واسع الجبين، عظيم الخلق، تام القامة، كأنَّ النور يخرج من وجهه، وكان قد ضعف بصره من البكاء والنسَّخ والمطالعة (6).
__________
(1) سير أعلام النبلاء (21/ 444).
(2) يعني: أول ظهور الشعر في وجهيهما.
(3) كان السَّلفِيَ آنذاك مقيماً بالإسكندرية.
(4) سير أعلام النبلاء (21/ 446).
(5) الأمهق: الأبيض لا يخالطه حُمرة.
(6) سير أعلام النبلاء (21/ 446).(1/187)
أ- تصانيفه: من تصانيفه، المصباح في عيون الأحاديث الصحاح، نهاية المراد، تحفة الطالبين في الجهاد والمجاهدين، فضائل خير البرية، الروضة، التهجد، الفرج، الصَّلات إلى الأموات، الصَّفَات، محنة الإمام أحمد، ذمم الرياء، ذم الغيبة، الترغيب في الدعاء، فضائل مكة، الأمر بالمعروف، فضل رمضان، فضل الصَّدقة، فضل عشر ذي الحجة، فضل الحج، وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، الأقسام التي أقسم بها النبي صلى الله عليه وسلم، اعتقاد الشافعي، الحكايات، تحقيق مشكل الألفاظ، الجامع الصغير في الأحكام، ذكر القبور، مناقب عمر بن عبد العزيز، مناقب الصحابة، الأدعية الصحيحة، الكمال في معرفة رجال الكتب الستة، تبيين الإصابة لأوهام حصلت لأبي نُعَيم في معرفة الصحابة (1) وغيرها الكتب.
ب- حفظه: كان الحافظ عبد الغني لا يكاد يُسأل عن حديث إلاّ ذكره وبينه وذكر صحَّته أو سقمه، ولا يسأل عن رجل إلا قال: هو فلان بن فلان الفُلاني ويذكر نسبه، فكان أمير المؤمنين في الحديث (2) وقال رجل للحافظ عبد الغني رجل حلف بالطلاق أنك تحفظ مئة ألف حديث، فقال: لو قال أكثر لصدق وقال إسماعيل بن مظفر ورأيت الحافظ على المنبر غير مرة يقول له إقرأ لنا من غير كتاب فيقرأ أحاديث بأسانيده من حفظه (3) وسمعت ابنه عبد الرحمان يقول: سمعت بعض أهلنا يقول: إن الحافظ سُِئل: لم لا تقرأ من غير كتاب؟ قال: أخاف العجب (4)، وسمعت خالي أبا عمر، أو والدي قال: كان الملك نور الدين بن زنكي يأتي إلينا وكنا نسمع الحديث، فإذا أشكل شيء على القارئ قاله الحافظ عبد الغني ثم ارتحل إلى السَّلفيَّ فكان نور الدين يأتي بعد ذلك، فقال: أين ذاك الشاب؟ فقلنا: سافر (5).
__________
(1) المصدر نفسه (21/ 447).
(2) المصدر نفسه (21/ 447).
(3) المصدر نفسه (21/ 449).
(4) المصدر نفسه (21/ 449).
(5) سير أعلام النبلاء (21/ 450).(1/188)
ج- إفادته واشتغاله: وكان رحمه الله مُجتهداً على الطلب يكرم الطَّلبه ويُحسن إليهم، وإذا صار عنده طالب يَفْهَم أمره بالرَّحلة ويفرح لهم بسماع ما يحصلونه يقول الضاء: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن محمد الحافظ يقول: ما رأيت الحديث في الشام كلَّه إلا ببركة الحافظ، فإنني كل من سألته يقول: أوّل ما سمعت على الحافظ عبد الغني، وهو الذي حرَّضني (1) وكان رحمه الله يقرأ الحديث يوم الجمعة بجامع دمشق وليلة الخميس ويجتمع خلق وكان يقرأ ويبكي ويُبكي الناس كثيراً، حتى إن من حضره مَّره لا يكاَّد يتركه، وكان إذا فرغ دعا دُعاءً كثيراً.
ح- أوقاته: كان لا يُضَّيع شيئاً في زمانه بلا فائدة، فإنه كان يُصلي الفجر، ويلقَّن القرآن، وربما أقرأ شيئاً من الحديث تلقيناً، ثم يقوم فيتوضأ ويصلي ثلاثمائة ركعة بالفاتحة والمعوذتين إلى قبل الظهر، وينام نومة ثم يصلي ثلاث مئة ركعة بالفاتحة والمعوذتين قبل الظهر، وينام نومة ثم يصلي الظُّهر، ويشتغل إما بالتسميع أو بالنسخ إلى المغرب فإن كان صائماً أفطر وإلا صلىّ المغرب إلى العشاء، ويصلي العشاء، وينام إلى نصف الليل أو بعده، ثم قام كأنَّ إنساناً يوقظه، فيصلَّي لحظة ثم يتوضأ ويصلَّي إلى قُرب الفجر، ربما توضأ سبع مرات أو ثمانياً بالليل، وقال: ما تطيب لي الصلاة إلا ما دامت اعضائي رطبة، ثم ينام نومة يسيرة إلى الفجر وهذا دأبه (2)، قال أخوه الشيخ العماد: ما رأيت أحداً أشد محافظة على وقته من أخي (3).
__________
(1) المصدر نفسه (21/ 450).
(2) المصدر نفسه (21/ 452).
(3) المصدر نفسه 021/ 453).(1/189)
س- قيامه في المنكر واحترام الملك العادل له: كان لا يرى منكراً إلا غيَّره بيده أو بلسانه وكان لا تأخذه في الله لومة لائم قد رأيته مرة يهريق خمراً فجبذا صاحبه السيف فلم يخف منه، وأخذه من يده، وكان قوياً في بدنه، وكثيراً ما كان بدمشق ينكر ويكسر الطَّنابير والشَّبابات (1) وذات يوم دخل الحافظ عبد الغني على العادل فقام له فلما كان اليوم الثاني جاء الأمراء إلى الحافظ مثل سركس وأُزكشي، فقالوا آمنّا بكراماتك يا حافظ وذكروا أن العادل قال: ما خفت من أحد ما خفت من هذا، فقُلنا: أيها الملك هذا رجل فقيه قال: لما دَخل ما خُيّل إليَّ إلا أنه سبع (2) قال الضياء: رأيت بخط الحافظ: والملك العادل اجتمعت به وما رأيت منه إلاَّ الجمَيل، فأقبل عليَّ، وقامَ لي، والتزمني ودعوت له ثم قلت: عندنا قصور هو الذي يوجب التقصير، فقال: ما عندك لا تقصير ولا قصور، وذكر أمر السنُّة فقال: ما عندك شيء تُعاب به لا في الدين ولا الدنيا، ولابد للناس من حاسدين (3) وقال الضياء: كانوا قد وغروا عليه صدر العادل، ويتكلموا فيه، وكان بعضهم أرسل إلى العادل لبذل في قتل الحافظ خمسة آلاف دينار (4). قال الذهبي: جرّ هذه الفتنة نشر الحافظ أحاديث النزول والصفات فقاموا عليه، ورموه بالتَّجيسم، فما دارى كما كان يداريهم الشيخ المُوَفَّق (5) وقال سمعت بعض أصحابنا يحكي عن الأمير درباس أنه دخل مع الحافظ إلى الملك العادل فلما قضى الملك كلامه مع الحافظ، جعل يتكلم في أمر ماردين وحصارها فسمع الحافظ فقال: أيش هذا، وأنت بعُد تريد قتال المسلمين ما تشكر الله فيما أعطاك، أما .... ؟
__________
(1) سير أعلام النبلاء (21/ 455).
(2) المصدر نفسه (21/ 455).
(3) المصدر نفسه (21/ 455).
(4) المصدر نفسه (21/ 455).
(5) المصدر نفسه (21/ 455).(1/190)
قال فما أعاد ولا أبدي ثم قام الحافظ: ضرب الله رقبته ورقبة السُّلطان، فمضى الرسول وخفنا، فما جاء أحد (1).
ش- ومن شمائله: قال الضياء: ما أعرف أحداً من أهل السُّنة رآه إلا أحَبّه ومَدَحه كثيراً، سمعت محمود بن سلامة الحّرانيَّ بأصبهان قال: كان الحافظ يصطف الناس في السُّوق ينظرون إليه، ولو أقام بأصبهان مدة وأراد، أن يملكها لملكها. قال الضياء: ولّما وصل إلى مصر كُنّابها، فكان إذا خرج للجُمعة لا نقدر نمشي معه من كثرة الخلق، يتبركون به ويجتمعون حوله، وكُنّا أحداثاً نكتب الحديث حوله، فضحكنا من شيء وطال الضحك، فتبسم ولم يَحْرَد (2) علينا، وكان سخيّاً جواداً لا يدخر ديناراً ولا درهماً مهما حصَّل أخرجه، لقد سمعت عنه أنه يخرج في الليل بقفاف الدقيق إلى بيوت مُتنكراً في الظلَّمة، فيعطيهم ولا يُعرْفَ وكان يُفْتَح عليه بالثَّياب فيعطي الناس وثوبُه مُرقع وبعث الأفضل ابن صلاح الدين إلى الحافظ بنفقه وقمح كثير ففرّقه (3) كله وقال الضياء: سمعت أحمد بن عبد الله العراقي: حدثني منصور الغضاري قال: شاهدت في الغلاء بمصر وهو ثلاث ليال يؤثر بعشائه ويطوي ورأيت يوماً قد أهدي إلى بيت الحافظ مشمش فكانوا يفرقون، فقال من حينه: فرَّقوا "لن تنالوا البَّر حتى تنفقوا مما تحبون " (آل عمران، آية: 92) وقد فتح له بكثير من الذهب وغيره فما يترك شيئاً حتى قال لي ابنه أبو الفتوح والذي يعطي الناس الكثير ونحن لا يبعث إلينا شيئاً، وكنا ببغداد (4).
__________
(1) المصدر نفسه (21/ 455).
(2) سير أعلام النبلاء (21/ 457).
(3) المصدر نفسه (21/ 457).
(4) المصدر نفسه (21/ 458).(1/191)
و وفاته: قال أبو موسى: مرض أبي في ربيع الأول مرض شديد منعه من الكلام والقيام، واشتد ستة عشر يوماً، وكنت أسأله كثيراً: ما يشتهي؟ فيقول: أشتهي الجنة، أشتهي رحمة الله، لا يزيد على ذلك، فجئته بماء حار فمّد يده فوضأته وقت الفجر، فقال: يا عبد الله قم صل بنا وخفف، فصليت بالجماعة، وصلى جالساً، ثم جلست عند رأسه، فقال: إقرأ يَس، فقرأتها، وجعل يدعو وأنا أؤمّن، فقلت: هنا دواء نشربه، قال يا بني ما بقي إلا الموت، فقلت: ما تشتهي شيئاً، قال: أشتهي النَّظر إلى وجه الله سبحانه، فقلت: ما أنت عني راضي؟ قال: بَلَى والله. فقلت: ما توصي بشيء، قال: مالي على أحد شيء ولا لأحد عليَّ شيء قلت: توصيني؟ قال: أوصيك بتقوى الله والمحافظة على طاعته، فجاء جماعة يعودونه، فسلموا، فردّ عليهم، وجعلوا يتحدثون، فقال: ما هذا؟ أذكروا الله، قولوا لا إله إلاَّ الله، فلما قاموا جعل يذكر الله بشفتيه ويشير بعينيه، فقمت لأناول رجلاً كتاباً من جانب المسجد فرجعت وقد خرجت روحه رحمه الله وذلك يوم الاثنين والعشرين من ربيع الأول سنة ست مئة (600هـ) (1).
__________
(1) سير أعلام النبلاء (21/ 467،468) جهود علماء السلف ص 673.(1/192)
6 - فخر الدين الرازي (توفي 606هـ):
العلامة الكبير ذو الفنون فخر الدين محمد بن عمر بن الحُسين القُرشيُّ الكبريُّ الطبرستاني الأصولي المفسر كبير الأذكياء والحكماء والمصنَّفين (1) ولد سنة أربع وأربعين وخمس مئة واشتغل على أبيه الإمام ضياء الدين خطيب الرَّي، وانتشرت تواليفه في البلاد شرقاً وغرباً، وكان يتوقُد ذكاءً، ترجمته وقد بدت منه في تواليفه بلايا وعظائم وانحرافات عن السنة، والله يعفو عنه، فإنه توفَّي على طريقة حميدة والله يتولى السَّرائر (2) وقد كان معظماً عند ملوك الخوارزمية وغيرهم وبنيت له مدارس كثيرة في بلدان شتى وملك من الذهب العين ثمانين ألف دينار، وغير ذلك من الأمتعة والمراكب والأثاث والملابس وكان له خمسون مملوكاً من الترك، وقد كان يعقد مجلس الوعظ فيحضره عنده الملوك والوزراء والعلماء والأمراء والفقهاء، والعامة والغوغاء وكانت له عبادة وأوراد وقد وقع بينه وبين الكّرامية في أوقات شتَّى، فكان يُبغضهم، ويبغضونه ويبالغ في ذمَّهم ويبالغون في الحَطََّ عليه، وكان مع غزارة علمه وتبحره في فنَّ الكلام يقول: من لزم مذهب العجائز كان هو الفائز وقد رجع في آخر حياته إلى طريقه السلف وتسليم ما ورد على الوجه المراد اللائق بجلال الله تعالى (3) فقد قال: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فمار رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات "الرحمن على العرش استوى" (طه، آية: 5) "إليه يصعد الكلم الطيب" (فاطر، آية: 10) وأقرأ في النص: "ليس كمثله شيء" (الشورى، آية: 11) ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي (4).
ومما كان يُنشِدهُ في بعض مصنَّفاته:
نهايةَُ إقدام العقول عِقال ... وأكثر سعي العالمين ضلالُ
وأرواحنا في وحشة من جُُسومنا ... وحاصل دُنيانا أذى ووبال
__________
(1) المصدر نفسه (21/ 500، 501).
(2) المصدر نفسه (21/ 501).
(3) البداية والنهاية (17/ 12).
(4) سير أعلام النبلاء (21/ 501).(1/193)
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قِيل وقالوا (1)
وقال ابن الصلاح: أخبرني القطب الطوعاني مّرتين، أنه سمع فخر الدين الرّازي يقول: يا ليتني لم أشتغل بعلم الكلام وبكى (2). وأنشد يوماً معاتباً لأهل هراة:
المرء ما دام حياً يستهان به ... ويعظم الرُّزْءُ فيه حين يفتقُد (3)
د- وصية الفخر الرازي: حين مرض الفخر رحمه الله، وأحسن بدنو الأجل أملى وهو في شدة مرضه على تلميذه إبراهيم ابن أبي بكر بن علي الأصفهاني وصيته، وذلك في يوم الأحد الحادي والعشرين من شهر محرم سنة "606" هـ وامتد مرضه بعدها إلى أن توفي (4) ونص وصية الرازي هي
بسم الله الرحمن الرحيم
- يقول العبد الراجي رحمة ربه، الواثق بكرم مولاه، محمد بن عمر بن الحسين الرازي، وهو في آخر عهده بالدنيا، وأول عهده بالآخرة، وهو الوقت الذي يلين فيه كل قاس، ويتوجه إلى مولاه كل آبق.
- إنني أحمد الله تعالى بالمحامد التي ذكرها أعظم ملائكته في أشرف أوقات معارجهم، ونطق بها أعظم أنبيائه في أكمل أوقات مشاهدتهم، بل أقول كل ذلك من نتائج الحدوث والإمكان فأحمده بالمحامد التي تستحقها ألوهيته، ويستوجبها كمال ربوبيته، عرفتها أولم أعرفها، لأنه لا مناسبة للتراب، مع جلال رب الأرباب.
- وأصلي على الملائكة المقربين، والأنبياء المرسلين، وجميع عباد الله الصالحين، ثم أقول بعد ذلك:
- اعلموا إخواني في الدين وإخواني في طلب اليقين أن الناس يقولون: الإنسان إذا مات انقطع تعلقه عن الخلق، وهذا العام مخصوص من وجهين، الأول: أنه إن بقي منه عمل صالح صار ذلك سبباً للدعاء، والدعاء له أثر عند الله والثاني: ما يتعلق بمصالح الأطفال، والأولاد، والعورات وأداء المظالم والجنايات.
__________
(1) البداية والنهاية (17/ 13).
(2) شذرات الذهب (7/ 41).
(3) المصدر نفسه (7/ 42).
(4) وصايا وعظات قيلت في آخر الحياة ص 172.(1/194)
- أما الأول فأعلموا أني كنت رجلاً محباً للعلم، فكنت أكتب في كل شيء شيئاً لا أقف على كمّية وكيفيهّ، سواء كان حقاً أو باطلاً أو غثّا أو سميناً، إلا أن الذي نظرته في الكتب المعتبرة لي، أن هذا العالم المحسوس تحت تدبير مدبر، منزّه عم مماثلة المتحيزات والأعراض وموصوف بكمال القدرة والعلم والرحمة.
- ولقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن العظيم، لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال بالكلية لله تعالى، ويمنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات، وما ذاك إلا العلم بأن العقول البشرية تتلاشى وتضمّحل في تلك المضايق العميقة، والمناهج الخفية.
- فلهذا أقول: كل ما ثبت بالدلائل الظاهرة من وجوب وجوده ووحدته وبراءته عن الشركاء في القدم والأزلية، والتدبير والفعالية، فذاك هو الذي أقول به، وألقى الله تعالى به.
- وأما ما انتهى الأمر فيه إلى الدقة والغموض، فكل ما ورد في القرآن، والأخبار الصحيحة، المتفق عليها بين الأئمة المتبعين للمعنى الواحد، فهو كما هو، والذي لم يكن كذلك، أقول:
- يا إله العالمين، إني أرى الخلق مطبقين على أنك أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، فكل ما مرَّ به قلمي، أو خطر ببالي، فأستشهد علمك، وأقول: إن علمت مني أني أردت به تحقيق باطل، أو إبطل حق، فأفعل بي ما أنا أهله وإن علمت مني أني ما سعيت إلا في تقرير ما أعتقدت أنه هو الحق، وتصورت أنه الصدق، فلتكن رحمتك قصدي لا مع حاصلي، فذاك جهد المقّل، وأنت أكرم من أن تضايق الضعيف الواقع في الزلة فأغثني وأرحمني، واستر زلتي، وامحُ حوبتي، يا من لا يزيد ملكه عرفان العارفين ولا ينتقص بخطأ المجرمين (1).
- وأقول: ديني متابعة محمد سيد المرسلين، وكتابي هو القرآن العظيم وتعويلي في طلب الدين عليهما.
__________
(1) هو السلطان محمد علاء الدين تكشن - تلميذ الفخر الرازي.(1/195)
- اللهم يا سامع الأصوات، ويا مجيب الدعوات، ويا مقبل العثرات ويا راحم العبرات، ويا قيام المحدثات والممكنات، أنا كنت حسن الظن بك عظيم الرجاء في رحمتك، وأنت قلت: أنا عند ظن عبدي بي وأنت قلت "أمّن يجيب المضطر إذا دعاه" وأنت قلت: "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب". فهب أني ما جئت بشيء فأنت الغني الكريم، وأنا المحتاج اللئيم.
- وأعلمُ أنه ليس لي أحد سواك، ولا أحد محسناً سواك وأنا معترف بالزلة والقصور، والعيب والفتور، فلا تخيب رجائي، ولا تردّ دعائي، وأجعلني آمناً من عذابك قبل الموت، وعند الموت، وبعد الموت، وسهُل عليّ سكرات الموت، وخففَّ عني نزول الموت، ولا تضييق علي بسبب الآلام والأسقام، فأنت أرحم الراحمين.
- وأما الكتب العلمية التي ضفتها، أو استكثرت في إيراد السؤالات على المتقدمين فيها، فمن نظر في شيء منها، فإن طابت له تلك السؤالات فليذكرني في صالح دعائه على سبيل التفضل والإنعام، وإلا فليحذف القول الشيء، فإني ما أردت إلا تكثير البحت وتشحيذ الخاطر والاعتماد في الكل على الله.
- وأما المهم الثاني: وهو إصلاح أمر الأطفال والعورات فالاعتماد فيه على الله ثم على نائب الله (محمد) (1)، اللهم اجعله قرين محمد الأكبر في الدين والعلو، إلا أن السلطان الأعظم لا يمكنه أن يشتغل بإصلاح مهمات الأطفال، فرأيت الأولى أن أفوض وصاية أولادي إلى فلان، وأمرته بتقوى الله تعالى: "فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون".
- قال ابن أبي أصيبعة: وسرد الوصية إلى آخرها، ثم قال: وأوصيه ثم أوصيه، ثم أوصيه بأن يبالغ في تربية ولدي "أبي بكر" فإن آثار الذكاء والفطنة ظاهرة عالية، ولعل الله تعالى يوصله إلى خير.
__________
(1) مدينة صغيرة من مدن قهستان وقيل بليدة من نواحي الري.(1/196)
- وأمرته وأمرت كل تلامذتي، وكل من بي عليه حق أني إذا مت يبالغون في إخفاء موتي، ولا يخبرون أحداً به، ويكفنوني، ويدفنوني على شرط الشرع ويحملونني إلى الجبل المصاقب لقرية "مزداخان" (1)، وإذا وضعوني في اللحد قرأوا عليّ ما قدروا عليه في إلهيات القرآن، ثم ينثرون التراب عليّ وبعد الإتمام يقولون: يا كريم جاءك الفقير المحتاج، فأحسن إليه، وهذا منتهى وصيتي في هذا الباب والله تعالى لما يشاء، وهو على ما يشاء قدير، وبالإحسان جدير (2).
__________
(1) وصايا وعظات ص 177، عيون الأنباء (2/ 27 - 28).
(2) سير أعلام النبلاء (22/ 5).(1/197)
7 - محمد بن أحمد بن قُدامه: توفي 607هـ: الإمام العالم الفقيه المقرئ المُحَدَّث البَركَة شيخ الإسلام أبو عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الجمَّاعيلي الحنبلي الزاهد واقف المدرسة (1)، كان مولده في سنة ثمان وعشرين وخمس مئة بقرية جمّاعيل من عمل نابلس، وتحَّول إلى دمشق هو وأبوه وأخوه وقرابته مهاجرين إلى الله، وتركوا المال والوطن لاستيلاء الفرنج، وسكنوا مدة بمسجد أبي صالح بظاهر باب شرقي ثلاث سنين، ثم صعدوا إلى سفح قاسيون، وبنو الدَّير المبُارك والمسجد العتيق، وكتب وقرأ، وحصَّل وتقدمَّ وكان من العلماء العاملين، ومن الأولياء المتقين وكان قدوة صالحاً، عابداً قانتاً لله، ربانياً، خاشعاً، مخلصاً، عديم النظر، كبير القدر، كثير الأوراد والذكر، والمروءة والفتوة والصَّفات الحميدة، قلّ أن ترى العيون مثله، وكان يكثر الصيام ولا يكاد يسمع بجنازة إلا شهدها، ولا مريض إلا عاده، ولا جهاد إلا خرج إليه، ويتلو كل ليلة سُبعْاً مرتلاً في الصلاة وفي النهار سبعا بين الصلاتين، وإذا صلىَّ الفجر تلا آيات الكرسي ويَس والواقعة وتبارك، ثم يُقرئ ويُلقَّن إلى إرتفاع النهار، ثم يصلًّي الضُّحى، فيطيل، ويصلي طويلاً بين العشائين (2)، وكان حسن الشكل، نحيل الجسم، عليه أنوار العبادة، لا يزال متبسماً (3) وقال ابن كثير: وكان يقرأ كل يوم سُبعاً بين الظهر والعصر ويصلي الضُّحى ثماني ركعات يقرأ فيهنَّ ألف مرّة "قل هو الله أحد" وكان يزور مغارة الدم (4)،
__________
(1) المصدر نفسه (22/ 6، 7).
(2) المصدر نفسه.
(3) البداية والنهاية (17/ 21).
(4) مغارة الدم مشهورة بأنها المكان الذي قتل قابيل أخاه هابيل ..(1/198)
في كل يوم اثنين وخميس، ويجمع في طريقه الشَّيحَ فيُعطيه الأرامل والمساكين، ومهما تهيَّأ له من فتوح وغيره يُؤثِرُ به أهله والمساكين وكان مُتقللاَّ في الملبس، وكان هو وأخوه وابنُ خالهم الحافظ عبد الغني وأخوه الشيخ العماد لا ينقطعون من غزاة يخرج فيها الملك صلاح الدين إلى بلاد الفرنج وقد حضروا معه فتح القدس الشريف وغيرها، وجاء الملك العادل أبو بكر يوماً إلى خيمتهم لزيارة الشيخ أبي عمر، وهو قائم يُصليَّ، فما قطع صلاته ولا أوْجزها، بل استمر فيها وهو الذي شرع في بناء الجامع أولاً بمال رجل من الناس فنفدِ ما كان بيده، وقد ارتفع البناء قامة، فبعث صاحب إربل الملك المظفُّر كُوكُبُري مالاً، فكمَل وولى خطابته الشيخ أبو عمر، فكان يخطب به وعليه لباسه الضّعيف وعليه أنوار الخشية والتقوى (1) وقد ذكر أبو المظفر الكثير من مناقب أبي عمر وكراماته، وما رآه هو وغيُره من أحواله الصالحة قال: وكان على مذهب السلف الصالح، حسن العقيدة، متمسّكاً بالكتاب والسنة والآثار المروية، يُمُّرها كما جاءت منِ غير طعن على أئمة الدين وعلماء المسلمين وينهي عن صحبة المبتدعين ويأمر بصحبة الصالحين (2) قال: ربما أنشدني لنفسه في ذلك:
أوصيكم بالقول في القرآن ... بقول أهل الحقَّ والإتقان
ليس بمخلوقٍ ولا بفان ... لكن كلامُ الملكِ الدّيَّان
آياته مشرقة المعاني ... متلوة لله باللسان
محفوظة في الصَّدرِ والجنان ... مكتوبة في الصُّحْفِ بالبَنان
إمرارُها من غير ما كُفران ... من غير تشبيه ولا عطُلان (3)
__________
(1) البداية والنهاية (17/ 21).
(2) المصدر نفسه (17/ 23).
(3) المصدر نفسه (17/ 23)(1/199)
قال: ومرض أياماً، فلم يترك شيئاً مما كان يعمله من الأوراد، حتى كانت وفاته، وقت السَّحَرِ في ليلة الثلاثاء التاسع والعشرين من ربيع الأول، فغُسَّل بالدَّير، وحُمِل إلى مقبرته في خلق كثير، لا يعلمهم إلا الله عز وجل، ولم يَبْقَ أحدَ من الدولة والأمراء والعلماء والقضاة وغيرهم إلا حضر جنازته، وكان يوماً مشهوداً، وكان الحرُّ شديداً، فأظلت الناس سحابة من الحرَّ كان يُسمُع منها كَدوِىَّ النحل، وكاد الناس ينتهبون أكفانه، وقد رثاه الشعراء بمراتٍ حسنة ورُئيَت له منامات صالحه رحمه الله (1) وكان آخر كلامه "إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون " (البقرة، آية: 132) (2) وكان يقول: لا علم إلا ما دخل مع صاحبه القبر ويقول: إذا لم تتصدقوا لا يتصدق عنكم، وإذا لم تعطوا السائل أنتم أعطاه غيركم (3) وكان إذا خطب تَرِقُ القلوب وتبكي الناسُ بكاءً كثيراً، وكانت له هيبة عظيمة في القلوب، وأحتاج الناس إلى مطر سنة فطلع إلى مغارة الدم ومعه نساء من محارمه، واستسقى ودعا، فجاء المطر حينئذ وجرت الأودية شيئاً لم يره الناس من مدة طويلة (4) وقال عبد الله بن النحاس: كان والدي يحب الشيخ أبا عمر، فقال لي يوم جمعة: أنا أصلي الجمعة خلف الشيخ، ومذهبي أن "بسم الله الرحمن الرحيم" من الفاتحة، ومذهبه، أنها ليست من الفاتحة، فمضينا إلى المسجد، فوجدنا الشيخ، فسلمّ على والدي وعانقه وقال: يا أخي صلَّ وأنت طيب القلب، فإنني ما تركتب "بسم الله الرحمن الرحيم" في فريضة ولا نافلة مذ أممت بالناس (5).
__________
(1) البداية والنهاية (17/ 24).
(2) شذرات الذهب (7/ 53).
(3) المصدر نفسه (7/ 53).
(4) المصدر نفسه (7/ 54) س.
(5) المصدر نفسه (7/ 54).(1/200)
8 - إبراهيم عبد الواحد المقدسي (توفي 614هـ): الشيخ الإمام العالم الزّاهد القدوة الفقيه بركة الوقت عماد الدين أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الواحد علي بن سرور المقدسي الجمّاعيلي، نزيل سفح قاسيون، وأخو الحافظ عبد الغني سافر إلى بغداد مرتين وحفظ القرآن وحفظ الخِرقيَّ وألقى الدُّرس من التفسير ومن الهداية واشتغل في الخلاف وكان عالماً بالقراءات والنحو والفرائض، قرأ بالروايات على أبي الحسن بن عساكر البطائحي، وصنف الفروق في المسائل الفقهية، وصنف في الأحكام كتاباً لم يتمه، وكان يتفرغ للتصنيف من كثرة اشتغاله وإشغاله، أقام نجَّران مدة فانتفعوا به، وكان يشغل بالجبل إذا كان الشيخ موفق الدين بالمدينة، فإذا صَعِدَ الموفق، نزل هو وأشغل (1) وقال الموفق: ما نقدر نعمل مثل العماد (2) قال الموفق: ما نقدر نعمل مثل العماد (3)
__________
(1) سير أعلام النبلاء (22/ 47، 48) اشغل: يعني في المدينة.
(2) المصدر نفسه (22/ 48).
(3) المصدر نفسه (22/ 49) ..(1/201)
قال الضياء: وكان يجلس في جامع البلد من الفجر إلى العشاء لا يخرج إلا لحاجة، يُقرئ القرآن والعِلَم، فإذا فرغوا اشتغل بالصلاة فسألت الشيخ موفق الدين عنه فقال: كان من خيار أصحابنا وأعظمهم نفعاً، وأشدهم ورعاً، وأكثرهم صبراً على التعليم، وكان داعية إلى السنّة أقام بدمشق مدة يُعلمَّ الفقراء ويُقرئهم ويُطعمهم، ويتواضع لهم، وكان من أكثر الناس تواضعاً واحتقاراً لنفسه، وخوفاً من الله، ما أعلم أنني رأيتُ أشد خوفاً منه، وكان كثير الدعاء والسؤال لله، يطيل السجود والركوع، ولا يقبل ممن يعذله، ونقلت له كرامات ثم قال الضياء: لم أر أحداً أحسن صلاة منه، ولا أتّم، بخشوع وخضوع، قيل: كان يُسبح عشراً يتأنَّى فيها، وربما قضى في اليوم والليلة صلوات عدة، وكن يصوم يوماً، ويُفطر يوما، وكان إذا دعا كان القلب يشهد بإجابة دعائه من كثرة ابتهاله وإخلاصه، وكان يمضي يوم الأربعاء إلى مقابر باب الصغير عند الشهداء، فيدعو ويجتهد ساعة طويلة ومن دعائه المشهور: "اللهم اغفر لأقسانا قلباً، وأكبرنا ذنبا، وأثقلنا ظهراً، وأعظمنا جرما (1)، وكان يدعو: يا دليل الحياري دُلنَّا على طريق الصادقين، وأجعلنا من عبادك الصالحين وكان إذا أفتى في مسألة يحترز فيها احترازاً كثيراً (2) وقال: وأما في زهده، فما أعلم أنه أدخل نفسه في شيء من أمر الدنيا، ولا تعَّرض لها، ولا نافس فيها، وما علمت أنه دخل إلى سُلطان ولا والٍ، وكان قوياً في أمر الله، ضعيفاً في بدنه لا تأخذه في الله لومة لائم، أمّاراً بالمعروف، لا يرى أحداً بشيء صلاته إلاَّ قال له وعلمَّه قال: وبلغني أنه أتى فُسّاقاً فكسر ما معهم، فضربوه حتى غُشِيَ عليه، فأراد الوالي ضربهم، فقال: إن تابوا ولازموا الصلاة، فلا تؤذهم، وهم في حل، فتابوا (3)،
__________
(1) المصدر نفسه (22/ 49).
(2) المصدر نفسه (22/ 49).
(3) سير أعلام النبلاء (22/ 50) ..(1/202)
وقال الضياء: أعرف وأنا صغير أن جميع من كان في الجبل يتعلمَّ القرآن كان يقرأ على العِماد، وختم عليه جماعة وكان يبعث بالنَّفقة سراً إلى الناس، ويأخذ بقلب الطالب، وله بشر دائم (1).
قال الضياء توفى: العماد رحمه الله عليه ليلة الخميس سابع ذي عشر ذي القعدة سنة أربع عشرة وست مئة عشاء الآخرة فجأة وكان صَلىَّ بالمغرب بالجامع وكان صائماً، فذهب إلى البيت وأفطر على شيء يسير، ولما أخُرجت جنازته اجتمع خلقٌ فما رأيت الجامع إلا كأنهَّ يوم الجمعة من كثرة الخلق وكان الوالي يطرد الخَلق عنه، وازدحموا حتى كاد بعض الناس أن يَهلك، وما رأيت جنازة قط أكثر خلْقاً منها وحُكي عنه أنه لما جاءه الموت جعل يقول: يا حيُّ يا قيوم لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث، واستقبل القبلة وتشهد (2).
9 - طبيعة البيت الأيوبي في الصراع الداخلي:
كان البيت السلجوقي في الصراع الداخلي إذا ظفر واحد منهم بأخيه أو ابن عمه أعدمه، وأحسن أحواله أن يعتقله حتى يموت وكان بنو أيوب يتحاربون، وتجري بينهم العداوة الشديدة، ثم يجتمع بعضهم ببعض، وربما صعد بعضهم إلى قلاع بعض، ثم يفارقه بعد المقام عنده على حال جميلة، والعداوة والمنافرة باقية بحالها (3).
__________
(1) المصدر نفسه (22/ 50).
(2) المصدر نفسه (22/ 51).
(3) مفرج الكروب (3/ 219).(1/203)
10 - فتنة بمكة وأعلان الباطنية رجوعهم إلى الإسلام:
في سنة 608هـ كانت فتنة عظيمة بمكة وسببها أن باطنياً وثب على قريب للشريف أبي عزيز قتادة - صاحب مكة - فقتله وكانت أم الكيا حسن - صاحب الألموت - قد قدمت حاجة مع الحاج العراقي، فركب الشريف، أبو عزيز في الأشراف والعربان وقصد الحاج العراقي فنهبهم نهباً ذريعاً ورموهم بالحجارة والنبل، فانتقل الحاج العراقي إلى الحاج الشامي واستجاروا بهم وكان في الحاج الشامي ربيعة خاتون بنت أيوب أخت الملك العادل "زوجة مظفر الدين صاحب إربل"، فأجارت الحاج العراقي ومنعت أبا عزيز منهم ولولا إجارتها لهم لاستؤصلوا عن آخرهم وذلك بعد أن نهب من الحاج العراقي من الأحمال والجمال مالاً يمكن وصفة (1)، ثم لما أرادوا دخول مكة منُعوا منها، فما زالت ربيعة خاتون بأمير، مكة حتى أذن لهم، فدخلوا وقضوا حجهم (2)، وفي هذه السنة أظهر الكيا جلال الدين حسن - إمام الباطنية صاحب الألموت - شعائر الإسلام، وأمر رعيته بالصلوات والحج وصيام رمضان، وإقامة وظائف الشريعة (3) وكتب إلى الخليفة والملوك يعلمهم ذلك، وبعث والدته إلى مكة لتحج، فحجت، كما ذكرنا، وأكرمت ببغداد لما دخلتها إكراماً عظيماً، وبعث جلال الدين حسن إلى الحصون التي لهم بالشام يلزمهم أن يفعلوا نظير ما فعله ببلاد العجم، فأعلنوا بالأذان والإقامة الجمع وأظهروا أنهم قد التزموا بمذهب الشافعي رحمه الله (4) وهناك من الباحثين من يشكُّ بما فعله جلال الدَّين حسن، ويعُّد إعلانه العودة إلى الإسلام ما هو إلا تظاهر ويوجد من يعتقد بصدق ما قام به جلال الدين، وكلا الطرفين يقدَّرون أسباباً لتحول جلال الدين عن تعاليم القيامة منها.
__________
(1) مفرج الكروب (3/ 211).
(2) المصدر نفسه (3/ 211).
(3) المصدر نفسه (3/ 211).
(4) المصدر نفسه (3/ 211).(1/204)
- كان جلال الدين حسن الاعتقاد، وكان يكاتب الخليفة والسلاطين سرّاً ويُظهر لهم أنه يدين بالإسلام وكان جاداً بالسعي نحو تصالح إسلامي، وكان قد اعترض منذ صغره على موضوع القيامة الذي مقصوده انتهاء الشريعة وسقوط الفرائض، والتحلل من المحَّرمات.
- عودة جلال الدين لحظيرة السُّنةَّ كانت بتأثير أُمَّه التي كان يرتبط بها بشَّدة، وهي سنية مؤمنة وقد قصدت الحجاز وأثناء مرورها ببغداد نالت من التكريم والاهتمام في العاصمة العباسية من الخاصَّة ومن الخليفة بالذات الشيء الكثير وكذلك أكرمت بطريق مكة (1).
- ربما كان دافع حسن "عن طريق العناد لأبيه (2)، فعلاقتهما الشخصية لم تكن على ما يرام، وعداؤه لأبيه وتآمره المبكَّر ضدَّه لم يكونا ليخفيا على أحد، إضافة إلى مراسلته الخليفة العبَّاسي للإتَّفاق معه أثناء حكم أبيه.
- أمُر إلغاء الباطنية برمته كان مجرد تظاهر بالعودة إلى حظيرة الإسلام لضرورات مرحيلة، وقد حللَّ حسن لنفسه ذلك وفقاً لمبدأ التقية (3)، فالإسماعيلية فرقة باطنية كما هو معلوم، وتُعللَّ عودته لحظيرة الإسلام بأنها نتيجة لخوفه من جلال الدين خوارزم شاه، فما وحده مُخلصَّا إلا التظاهر بالإسلام وإقامة شعائره، فقد كان الخليفة الناصر يراسل جلال الدين باستمرار لإعادة شعائر الإسلام، فيرفض ذلك (4) ولكن يبدو أن نيّة جلال الدين، بإعادة التصالح مع محيطه الإسلامي هي الاحتمال الأرجح في رجوعه للإسلام لوجود دوافع كثيرة اضطرته إلى ذلك منها.
- العُزلة التي كان يعيشها الإسماعيلية في حصونهم.
- انحسار الدعوة الإسماعيليةَّ وعدم انتشارها في مناطق جديدة.
- الضعف الذي بدأ يدبُّ في كيان الفرقة الجديدة.
- تراجع فاعلية سلاحها القديم "الاغتيال".
__________
(1) العلاقات الدولية في عصر الحروب الصليبية (1/ 331).
(2) العلاقات الدولية في عصر الحروب الصليبية (1/ 331).
(3) المصدر نفسه (1/ 331).
(4) المصدر نفسه (1/ 332).(1/205)
ورُبمَّا كان كُلُّ ما سبق من الأسباب مجتمعة هي ما دفع جلال الدَّين للإقدام على خطوته الإنقلابية في العقيدة والتي كانت لها تأثيرات سياسيَّة وعسكرية كبيرة في علاقات الإسماعيلية في فارس والشَّام (1).
11 - عمارة قلعة الطور: في سنة 609هـ أو التي قبلها عمّر السلطان الملك العادل قلعة على جبل الطور وهو جبل عالٍ مطل على عكا بالقرب منها ولم يكن بناؤه مصلحة، فإن الفرنج بعد ذلك قصدوه وكادوا يملكونه، ولو ملكوه تعذر انتزاعه منهم، وتمكنوا به من بلاد الإسلام، وقطعت غاراتهم الطريق على الديار المصرية وكان على هذا الجبل قلعة من أيام الفرنج وملكت في الفتوح الصلاحية، ثم خرّبه المسلمون لما ملكوا عكا وعفوا.
- أثرها ثم ترجَّح عند الملك العادل تخريب حصن كوكب وعمارة قلعة الطور، فنزل بعساكره حولها، وأحضر الصناع من كل بلد واستعمل جميع أمراء العسكر في البناء ونقل الحجارة ... ولم يزل مقيماً عليه حتى بناه (2).
- هذه بعض الدروس والعبر والفوائد المتفرقة في عهد الملك العادل جمعت في نهاية حياته رحمه الله تعالى.
الفصل الثاني
عهد الملك الكامل بن العادل الأيوبي
السلطان الكبير الملك الكامل ناصر الدُنيا والدين أبو المعالي وأبو المظفر محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب صاحب مصر والشام وميّافارقين وآمد وخِلاط والحجاز واليمن وغير ذلك (3)، ولد في سُنة ست وسبعين وخمس مئة، فهو من أقران أخويه المُعظمَّ والأشرف، وكان أجل الثلاثة وأرفعهم رُتبة (4)، وتملكَّ الديار المصرية أربعين سنة شطرها في أيام والده، وكان عاقلاً مهيباً، كبير القدر (5).
__________
(1) المصدر نفسه (1/ 332).
(2) مفرج الكروب (3/ 215، 216).
(3) سير أعلام النبلاء (22/ 127).
(4) المصدر نفسه (22/ 127).
(5) المصدر نفسه (22/ 127).(1/206)
المبحث الأول: الحملة الصليبية الخامسة:
تحدثنا عن الحملة الصليبية الخامسة والإعداد لها وموقف الملك العادل من تلك الحملة في عهد العادل نواصل الحديث عن الحملة وجهود الملك الكامل للتصدي لها بعد وفاة أبيه.
أولاً: جهود الملك الكامل للتصدي للغزاة:
1 - مرابطة الملك الكامل في العادلية: عندما علم الملك الكامل بنزول الصليبيين في جيزة دمياط، اتجه بجنده والعربان إلى دمياط وعسكر بالعادلية (1)، واتخذ كل الترتيبات لعدم تمكين الصليبيين من الاستيلاء على برج السلسلة الذي يعد مفتاح مصر، أو العبور إلى ضفة النيل الشرقية (2)، وأخذ يرسل الإمدادات لأهل دمياط، فضلاً عن قيامه ببعض العمليات العسكرية التي كان الغرض منها إشغال الفرنج وإشعارهم بوجود مقاومة من قبل المسلمين (3) وصار يركب كل يوم مرات عديدة من العادلية إلى دمياط، لتدبير الأمور، وأعمال الحيلة في مواجهة الفرنج (4)، حاول الصليبيون اقتحام دمياط، فقاموا بهجوم مكثف عليها، إلا أنهم عجزوا عن الاقتراب من السور، فلما أدركوا أنه يصعب احتلال المدينة إلا بالسيطرة على برد السلسلة (5).
__________
(1) العادلية: قرية قديمة تقع على ضفة النيل الشرقية قريبة من دمياط.
(2) البداية والنهاية (7/ 73) القدس، إبراهيم الخطيب ص 230.
(3) الكامل في التاريخ نقلاً عن القدس بين أطماع الصليبيين ص 230.
(4) السلوك نقلاً عن القدس بين أطماع الصليبيين ص 230.
(5) الحملة الصليبية الخامسة، محمود عمران ص 234.(1/207)
لأنه كما قيل "قفل الديار المصرية" شن الصليبيون هجوماً عنيفاً عام 615هـ/1218م على جدران مدينة دمياط شارك فيه حوالي ثمانين سفينة، فسببت ذعراً كبيراً للسكان، ولكن المحاولة لم تكن فعالة إزاء تحصينات المدينة، ولم تنقطع محاولات الفرنج للاستيلاء على برج السلسلة، فقد مد دوق النمسا وفرسان الداوية سلمين على بارجة ضخمة، فيما هيأ الألمان سفينة للقيام بهجوم جديد على برج المدينة المحصنة (1)، لكن كرات النار والحجارة التي قذفها المسلمون عليهم، واستبسال جيش الملك الكامل في الضفة الشرقية لنهر النيل (2) وأجبرت السفينة على الإنسحاب وأثناء ذلك انكسر السلمان تحت وطأة جنوده الفرنج فسقطوا في البحر وأنشأ الصليبيون قلعة قوية من السفن وجسراً متحركاً سحبوه بمحاذاة نهر النيل على حافة برج السلسلة، وقاموا بهجمات متلاحقة على البرج إلى أن تمكنوا من تحطيم السلسلة وتسيير السفن في مجرى النيل والاستيلاء على البرج 615هـ/1218م بما فيه من مؤن وذخيرة وسلاح بعد قتال مستمر أربعة أشهر وظهر خلل واضح في العمليات الحربية بعد سقوط برج السلسلة، إذ اعتقد كثير من المحاربين الصليبيين أن مهمتهم قد انتهت، وأنهم أوفوا بقسمهم الصليبي، فانسحبوا عائدين إلى بلادهم، وأصبح الملك جان دي برين ينتظر وصول امدادات جديدة، وهي الإمدادات التي وصلت فعلاً بعد شهور وكان على رأسها الكاردينال بلاجيوس مندوبا عن البابا وقائداً للحملة (3).
__________
(1) الحملة الصليبية الخامسة ص 234 القدس بين أطماع الصليبيين ص 230.
(2) القدس بين أطماع الصليبيين ص 230.
(3) المصدر نفسه ص 230.(1/208)
وأعاد الملك الكامل حساباته بعدما لاحظ تزايد عدد الصليبيين يوماً بعد يوم، بسياسة الهجوم لا بسياسة الدفاع، محاولاً استنزاف القوات الصليبية وحرمانها من الراحة والهدوء فجهز قوة برية تدعمها عشرات السفن، هاجمت المعسكر الصليبي إلا أنها اصطدمت بخنادق الفرنج، وبهجوم معاكس يقوده الملك جان دي برير، فانسحب المسلمون (1) وفشلت خطة الملك الكامل الهجومية، إلا أنه استمر في المقاومة وأرسل الرسل إلى مختلف مناطق العالم الإسلامي يطلب النجدة ونصب جسراً عظيماً ليمنع العدو به من سلوك النيل، فقاتلت الفرنج عليه قتالاً عظيماً حتى قطعوه، فأمر السلطان عند ذلك بتغريق عدة من المراكب في النيل، فمنعت مراكب الفرنج من سلوك النيل، فلما رأى الفرنج ذلك قصدوا خليجاً هناك يعرف بالأزرق (2)، كان النيل يجري فيه قديماً، فحفروه وعمقوه فوق المراكب التي جُعلت في النيل، فأجروا الماء فيه إلى البحر المالح وأصعدوا مراكبهم فيه إلى موضع يسمى بوره (3) على أرض جيزة دمياط (4)، مقابل المنزلة التي بها السلطان ليقاتلوه من هنالك، فلما صاروا في بوره حاربوه وقاتلوا في الماء وزحفوا إليه غير مرة، فلم يظفروا بطائل، ولم يتغير على أهل دمياط شيء لأن الميرة والإمداد متصلة إليهم، والنيل يحجز بينهم وبين الفرنج وأبواب المدينة مفتحة وليس عليها من الحصر ضيق ولا ضرر (5).
وعاود الصليبيون محاولاتهم اختراق دفاعات المسلمين ولكنهم لم ينجحوا، فتوقف القتال بعض الوقت لسوء الأحوال الجوية وأعاد المسلمون أنفسهم واستمرت دمياط آمنه بضعة أشهر (6).
__________
(1) المصدر نفسه ص 230.
(2) كان الخليج الأزرق يجري من بورة إلى شمال المنزلة العادلية.
(3) بورة كانت حصناً على ساحل البحر من عمل دمياط.
(4) تعرف الآن بالسنانية.
(5) مفرج الكروب (4/ 16).
(6) القدس بين أطماع الصليبيين ص 234.(1/209)
2 - آثار وفاة الملك العادل: لما علم العسكر بموت السلطان الملك العادل بالشام حصل عند بعضهم الطمع وكان في العسكر عماد الدين أحمد بن سيف الدين علي بن المشطوب، وكان معظماً عظيماً في الأكراد الهكارية، فاتفق مع جماعة من جند والأكراد يتفادون إليه يطيعونه، على خلع الملك الكامل من السلطنة وأن يمُلكّوا الديار المصرية أخاه الملك الفائز إبراهيم بن الملك العادل ليصير لهم الحكم عليه وعلى البلاد ولما أحس الملك الكامل بذلك فارق منزلته المعروفة بالعادلية ليلاً جريدة وتوجه إلى أُشمون (1) طناح فنزل عندها، وساد الفزع أرجاء المعسكر الإسلامي ودبت الفوضى بين صفوف العسكر، وتركوا خيامهم وأسلحتهم وأموالهم ودوابهم (2)، وعندما وجد الجند أنفسهم دون قيادة انسحبوا من العادلية، تاركين وراءهم كل معداتهم وذخيرتهم وتمويناتهم التي كانوا قد أعدوها لقتال طويل ولما أصبح الفرنج ولم يروا أحداً من المسلمين على شاطئ النيل، فعبرو إلى بر دمياط، وملكوه آمنين بغير منازع ولا مدافع وكان ذلك في ذي القعدة، من هذه السنة وغنموا كل ما في معسكر المسلمين وكان شيئاً لا يُحدّ ولا يوصف (3) وأصبح الملك الكامل في وضع حرج، وأصبحت الجبهة الإسلامية مهددة بالإنهيار إلا أن وصول الملك المعظم عيسى من الشام نجدة لأخيه بعد يومين من تمرد ابن المشطوب أنقذ الموقف، (4)
__________
(1) تقع الشاطئ الشرقي في البحر أشموم.
(2) القدس بين أطماع الصليبيين ص 235.
(3) مفرج الكروب (4/ 17).
(4) المصدر نفسه (4/ 17) ..(1/210)
فقوى قلب الملك الكامل واشتد به أزره، ووعده الملك المعظم بإزالة جميع المفاسد وكان الملك الكامل قد عزم قبل وصول أخيه - على ما يقال - على مفارقة البلاد وتركها بيد الفرنج والتوجه إلى بلاد اليمن وكانت بيد ولده الملك المسعود صلاح الدين يوسف ولو ذهب إلى اليمن لكان كارثة كبرى ربما غيرت الموازين في مصر لمدة فثبته الملك المعظم وشجعه وركب الملك المعظم إلى خيمة عماد الدين بن المشطوب فاستدعاه ليركب معه ويسايره، فاستنظر ليلبس خفيه وثيابه فلم ينظره ولم يمهله، فركب معه وسايره إلى أن خرج به من العسكر، ثم سلمه إلى جماعة من أصحابه وأمرهم أن لا يفارقوه حتى يخرجوه من الديار المصرية وينفوه إلى الشام ووصل إلى حماة، وأقام عند صاحبها الملك المنصور مُديدة .. ثم بعدئذ بمدة أمر الملك الكامل أخاه الملك الفائز أن يمضي رسولاً لإحضار العساكر للجهاد، فمضى الفائز إلى حماة وحمل إليه الملك المنصور صاحبها شيئاً كثيراً، ثم مضى إلى الشرق فمات به ولما أخُرج عماد الدين بن المشطوب والملك الفائز من العسكر الكاملي، انتظم أمر السلطان الملك الكامل وقوى جنانه (1) وكتب الملك الكامل إلى أخيه الأشرف موسى يستحثه على سرعة الحضور وصدرّ المكاتبة بهذه الأبيات:
يا مسعدي إن كنت حقاً مسعفي ... فانهض بغير تلبث وتوقف
واحثث قلوصك مرقلا أو موجفا ... بتجشم في سيرها وتعسف
واطو المنازل ما استطعت ولا تنخ ... إلا على باب المليك الأشرف
وأقر السلام عليه من عبد له ... متوقع لقدومه متشوف
وإذا وصلت إلى حماة فقل له ... عني بحسن توصل وتلطف
إن تأت عبدك عن قليل تلقه ... ما بين كل مهند ومثقف
أو تبط عن إنجادة فلقاؤه ... بل في القيامة في عراض الموقف (2)
__________
(1) المصدر نفسه (4/ 18).
(2) السلوك لمعرفة دول الملوك (1/ 315).(1/211)
وكتب إلى إخوانه يستعجلهم ويقول: الوحا الوحا العجل العجل، أدركوا المسلمين قبل تملك الفرنج جميع أرض مصر (1) وظلت كتب الملك الكامل متواصلة في طلب النجدة لمساعدته على مقاومة الصليبيين المحاصرين لدمياط (2)، وهذا يدل على حرج موقف الملك الكامل وصعوبة أوضاع المسلمين وتوافدت النجدات على مصر، فوصل الملك الأشرف، ولكنه غادر مصر بعد ما ترك عساكره عند أخيه الملك الكامل (3)، وتتابع وصول المدد فتحسن موقف الملك الكامل، وأخذ يستعد لشن هجوم على الصليبيين، ولكنه تراجع لهبوب عاصفة شديدة عام 616هـ/1219م (4) وأما الفرنج فإنهم لما ملكوا بر دمياط احتاطوا بها براً وبحراً وأحدقوا بها، وأخذوا في محاصرتها، والتضييق عليها وامتنع دخول الأقوات إليها بالكلية، وكل ما جرى على المسلمين من مصائب كان بسبب حركة ابن المشطوب ونيته الردية، وحفر الفرنج على معسكرهم المحيط بدمياط خندقاً وبنوا عليه سوراً على عادتهم، وأهل دمياط يقاتلونهم أشد قتال ويمانعونهم، وصبروا صبراً لم يُر مثله، وقلتَّ عندهم الأقوات وغلت الأسعار (5) ولم رتب الملك المعظم القواعد بمصر عاد إلى بلاده واستمر الملك الكامل إلى آخر هذه السنة محارباً للفرنج منازلاً لهم، وهم محاربون لأهل دمياط منازلون لهم محدقون بدمياط، حائلون بينها وبين عساكر المسلمين، على ما كانت عليه الحال بعكا في أيام السلطان الملك الناصر صلاح الدين وكان الذي يدخل إلى دمياط من أصحاب الملك الكامل إنما يدخل عليهم بمخاطرة عظيمة، بأن يسبح في بحر النيل، وهو مملوء من مراكب العدو وشوانيهم وكان عند السلطان جاندار (6)
__________
(1) المختصر (3/ 121) القدس بين أطماع الصليبيين (136).
(2) القدس بين أطماع الصليبيين وتفريط الملك الكامل ص 236.
(3) المصدر نفسه ص 236.
(4) الحملة الصليبية الخامسة ص 234.
(5) مفرج الكروب (4/ 19).
(6) الجاندار: هو الذي يستأذن السلطان قبل دخول الأمراء عليه للخدمة ..(1/212)
يسمى شمايل (1) من أهل قرية من قرى حماه تسمى معرذفتين (2)، كان من فلاحي هذه القرية، فوصل إلى أن خدم في الركاب السلطاني جانداراً وكانت عنده قوة نفس وشهامة، فكان يخاطر بنفسه ويسبح في النيل ومراكب الفرنج محيطة ويدخل إلى دمياط فيقوي قلوب أهلها عن السلطان ويعدهم وصول النجد لإزاحة العدو عنهم، ثم يأتي السلطان سباحة ويعلمه بأخبار أهلها عن السلطان، فحظي بذلك عند السلطان وتقدم عنده تقدماً كثيراً، حتى آل أمره، إلى أن جعله من أكبر الأمراء، وجعله أمير جاندار له وسيف نقمته وولاه القاهرة (3).
ثانياً: مساومات الملك الكامل على القدس:
تبين للملك الكامل محمد، بعد اصطدامه بالصليبيين، أن من الصعب عليه هزيمتهم، وإجلاءهم عن مصر بالقوة العسكرية وبالإمكانات المتوفرة لديه، فتحول من سياسة الهجوم أو الدفاع إلى فكرة عرض الصلح عليهم والواقع أن عدة عوامل دفعته للإقدام على هذه المبادرة لعل من أهمها:
1 - استمرار تدفق الإمدادات والمؤن من الغرب الأوروبي وقبرص على الصليبيين، فقد حضر جوتييه، قائد جيش قبرص، ومعه بعض الفرسان، وانضم إلى القوات الصليبية المحاصرة مدينة دمياط، مما أعطى هؤلاء دفعا معنوياً وعسكريا، وقوَّى مركزهم أمام دمياط (4).
2 - تعثر القوات الإسلامية في فارسكور، إذ أن مؤامرة ابن المشطوب، على الرغم من إحباطها، وإبعاد محركها، قد تركت تأثيراً سيئاً على الوضع المعنوي للقوات الإسلامية، فضلاً عما سادها من الاضطراب والفوضى (5).
3 - تواتر الأخبار من الشرق عن تقدم الجيوش المغولية بقيادة جنكيز خان باتجاه الدولة الخوارزمية، مما أثار مشكلة الدفاع عن الجبهة الشرقية للعالم الإسلامي ضد المغول (6).
__________
(1) شمايل: هو الأمير علم الدين شمايل.
(2) قرية تبعد مسافة 6 كيلو متر غربي مدينة حماه.
(3) مفرج الكروب (4/ 20).
(4) تاريخ الأيوبيين ص 305.
(5) تاريخ الأيوبيين ص 305.
(6) المصدر نفسه ص 305.(1/213)
4 - أنعشت أخبار ظهور المغول آمال الصليبيين، فقد اعتقدوا أنهم سيجدون في الزعيم المغولي حليفاً لهم ضد المسلمين.
5 - تمُّدد الدولة الخوارزمية باتجاه الغرب حيث سيطر جلال الخوارزمي على الخليفة العباسي في بغداد، وتمادى في توغله في شمالي بلاد الشام لتحقيق أطماعه التوسعية على حساب الأيوبيين، وسلاجقة الروم.
6 - حَرص المعظم عيسى على أن يعود إلى بلاد الشام، لأنه لم يكن راضياً عن تحركات أخيه الأشرف موسى في أقصى الشمال، لذلك ساند أخاه الكامل محمد في السعي الودي للتفاوض مع الصليبيين (1) اقترح الملك الكامل على الصليبيين الصلح بشروط بالغة السخاء، تدل على حالة اليأس التي كانت تنتاب الملك الكامل، والتي تؤكد فقدان الأمل بالانتصار على الصليبيين وشملت الشروط التالية.
- تنازل الملك الكامل للصليبيين عن الأراضي التي كانت بأيديهم قبل معركة حطين عام 583هـ/1187م وما تلاها من فتوحات عدا الكرك والشوبك (2).
- انسحاب الصليبيين من دمياط.
- عقد هدنة بين المسلمين والصليبيين ثلاثين عاماً. ولكن الكامل لم يعرض التنازل عن الكرك والشوبك ليبقى على الاتصال براً مع الشرق، حتى لا يسيطر الصليبيون على طريق الشام والحجاز (3).
__________
(1) المصدر نفسه ص 306.
(2) القدس بين أطماع الصليبيين وتفريط الملك الكامل ص 238.
(3) معارك الغرب ضد الغزاة محمد عمارة (9/ 329).(1/214)
كان هذا العرض مثيراً للدهشة، إذ سوف يستعيد الصليبيون من دون قتال مدن بيت المقدس، وبيت لحم، والناصرة، بالإضافة إلى صليب الصلبوات - جاء في بعض الروايات - وبذلك تحيا مملكة بيت المقدس القديمة (1) وعقد الصليبيون مجلساً لمناقشة عرض الكامل محمد، فنصح الملك يوحنا بريين بقبول العرض، وسانده أمراؤه والأمراء القادمون من الغرب الأوروبي، إذ أن هذا الملك لم يكن إلا وصياً على مملكة بيت المقدس، في الوقت الذي لم تكن فيه هذه المملكة موجودة أصلاً، لذلك نراه يوافق على العرض حتى تصبح مملكة بيت المقدس حقيقة واقعية وعارض المندوب البابوي بيلاجيوس، قبول العرض، وسانده بطريرك بيت المقدس، واعتقد:
- أنه من الخطأ التوصل إلى اتفاق مع الكفار.
- أن الاستيلاء على مصر سوف يُقسم العالم الإسلامي إلى قسمين: القسم الشرقي، ويشمل الشام والجزيرة العربية، واليمن، والعراق وما يقع في شرق هذه البلاد، والقسم الغربي، ويشمل الممالك التي تقع غرب مصر حتى المحيط.
- أنه بعد الاستيلاء على مصر سيتمكَّن من نشر الديانة النصرانية على المذهب الكاثوليكي داخل مصر كلها، ثم إن النصارى في إسبانيا سيواصلون انتصاراتهم على المسلمين وسوف يعبرون مضيق جبل طارق، ويسيطرون على شمال إفريقية حتى مصر، أما الجبهة الشمالية، فإن مملكة أرمينية الصغرى أصبحت قوية وفي استطاعتها السيطرة على شمال بلاد الشام والعراق، أما الجبهة الشرقية، فقد تكّفل بها المغول، وقد أمل مندوب البابا في استقطابهم وتحويلهم إلى الديار النصرانية (2).
__________
(1) تاريخ الأيوبيين ص 306.
(2) المصدر نفسه ص 307.(1/215)
- أنه كان يشك في نوايا الكامل محمد واعتقد أنه لم يتقدم بهذا العرض عن حسن نية، وإنما لجأ إليه كوسيلة من وسائل الخداع وبث التفرقة بين الصليبيين، فإذا عاد الصليبيون إلى بلادهم، وتفرقوا، فيسهل عندئذ استعادة الأراضي التي منحهم إياها (1). ومن الواضح أن أفكاره هذه كان لها أثر كبير في ضياع الفرصة لاستعادة بيت المقدس وأيَّد فرسان الداوية والأَسبتارية موقف المندوب البابوي الرافض لعرض الكامل محمد وذلك لأسباب تكتيكية، إذ جرى تدمير استحكامات بيت المقدس، والقلاع الواقعة في الجليل ومن المستحيل المحافظة على المدينة المقدسة مالم تتم السيطرة الكاملة على إقليم ما وراء الأردن وعارضت المدن التجارية الإيطالية عرض الكامل محمد وهم عارضوا في السابق مهاجمة مصر، وحوَّلوا حملة صليبية، هي الحملة الرابعة، إلى القسطنطينية، فعلى الرغم من حرص بيزا وجنوة والبندقية، على ألا تقطع علاقاتها مع مصر، فقد رأوا وقتئذ أن احتلالهم الدلتا يُعدُّ مكسبا تجارياً ضخماً يفوق استرداد بيت المقدس، وأنهم يودون اتخاذ دمياط مركزاً لتجارتهم، لذلك كان من الطبيعي أن يرفضوا شروطاً تقضي بعدم لقائهم فيها، وهي المدينة التجارية الهامة التي تخدم مصالحهم التجارية، ويستطيعون من خلالها أن ينفذوا إلى عمق الأراضي المصرية، ولم يهتموا بإضافة الإقليم الداخلي إلى أملاك الصليبيين (2)، وهناك رأى آخر يتعلق برفض الصليبيين بعامة عرض الصلح الذي تقدم به الكامل محمد وهو أن القوات الصليبية كانت في وضع متقدم على جبهة القتال إذ نجحت في الاستيلاء على برج السلسلة والعبور إلى الضفة الشرقية للنيل وحصار مدينة دمياط، فضلاً عن تضعضع أحوال المسلمين، كما أملوا بوصول الأمبراطور فريدريك الثاني بقواته إلى ساحة المعركة، وبالتالي فإن امتلاك مصر أصبح شيئاً مضمونا (3)،
__________
(1) المصدر نفسه ص 307.
(2) تاريخ الأيوبيين ص 307.
(3) المصدر نفسه ص 308 ..(1/216)
ويتبين من هذا الرفض أن الحرب الصليبية في الثالث عشر الميلادي انحرفت عن هدفها الرئيسي الذي قامت من أجله، وهو استرداد بيت المقدس، وتحَّولت إلى أهداف دنيوية استعمارية (1).
ثالثاً: إعداد الملك الكامل مصر والشام لقتال الصليبيين:
وعندما علم الكامل محمد بنوايا الصليبيين، تصميمهم على الاستمرار في القتال، اتخذ الإجراءات الضرورية التي من شأنها مساعدته على الصمود في وجه هذا الخطر الذي يهَّدد مصر بخاصة والعالم الإسلامي بعامة منها:
- جمع الأموال اللازمة لسد نفقات الحرب.
- إعداد وتجهيز خطوط الدفاع الأمامية.
- حثُّ الأمراء الأيوبيين لإمداد مصر بما تحتاجه من الرجال إلى مصر بقيادة ابنه المظفر محمود، ولما وصل إلى المعسكر الإسلامي أكرمه الكامل محمد، وأعظم قدره، وأنزله على ميمنته، وهي منزلة أبيه وجدَّه عند صلاح الدين (2) وتشجّع الكامل محمد بعد وصول هذه الإمدادات، وجمع عدداً من خبرة القوات الإسلامية وأغار بهم على المعسكر الصليبي، وحرقت بعض أجزاء الأبراج الخشبية، ثم أغار ثانية على المعسكر، ويبدو أن الغارتين كانتا غير فعالتين، إذ أحاط الصليبيون معسكراتهم بخنادق تمتد على ضفتي النهر لفرع دمياط وأقاموا بعض الأبراج وزودوها، مقاتلين، وربطوا بين ضفتي النهر بجسر من القوارب وحاول الملك الكامل تخريب الجسر الذي يصل بين المعسكرين لشطرهما إلى قسمين ليسهل عليه مهاجمة أخوهما فخرب جزءاً من الجسر، ولكن الصليبيين كشفوا ذلك، فشددوا الحراسة عليه (3).
__________
(1) عاشور (2/ 275) تاريخ الأيوبيين ص308.
(2) تاريخ الأيوبيين ص 308.
(3) القدس بين أطماع الصليبيين وتفريط الملك الكامل ص 242.(1/217)
1 - تخريب بيت المقدس عام 616هـ/1219م: اتجه الملك المعظم إلى دمشق لإمداد مصر بما تحتاج إليه من الرجال لدفع الخطر عن دمياط وسرعان ما بدأت الإمدادات تتقاطر على مصر، ولكنه خشي وصول بعض الإمدادات الصليبية إلى بلاد الشام، وبلغة أن الفرنج عازمون على أخذ القدس، بعد ما خلت الشام من العساكر، وكان بالقدس أخوه العزيز عثمان وعز الدين أيبك، فكتب إليهما المعظم بخرابه فقالا: نحن نحفظه: لذلك كتب إلى أخيه العزيز عثمان ثانية بتخريب بيت المقدس وقال: لو أخذوه (بيت المقدس) لقتلوا كل من فيه، وحكموا على بلاد الشام، وبلاد الإسلام، فألجأت الضرورة إلى خرابه (1)، اقنع العزيز عثمان برأي المعظم وشرع في تخريب سور مدينة القدس عام 616هـ/1219م فضج أهالي المدينة وخرجوا إلى المسجد الأقصى وقبة الصخرة وقطعت النساء شعورهن، ثم هرب الجميع بأموالهم، معتقدين أن الصليبيين في أثرهم "فامتلأن بهم الطرق، ومنهم من اتجه إلى مصر، أو إلى حصن الكرك، وذهب بعضهم إلى دمشق سائرين على الأقدام، والبنات المخدرات مزقن ثيابهن، وربطنا على أرجلهن من الحصا (2) ومات خلق كثير من الجوع والعطش ونهبت الأموال التي كانت بالمدينة المقدسة وقد تم تخريب المدينة كلها، عدا المسجد الأقصى، وقبة الصخرة، وكنيسة القيامة وبرج داود (3) وأصبحت المدينة مفتوحة لا يمكن الدفاع عنها، ونقل الملك المعظم آلات القتال منها، وأنشد الشعراء في هذه المناسبة فقال قاضي الطور مجد الدين محمد بن عبد الله:
مررت على القُدس مُسلَّماً ... على ما تبقّى من ربوع وأنجم
ففاضت دُموع العين منَّي صبابة ... على ما مضى من عصره المتقدم
وقد رام علجٌ أن يُعفّى رسومه ... وشمّر عن كَفىَّ لئيم مُذَمَّمِ
فقلت له شُلَّت يمينُك خَلَّها ... لمُعتَبر أو سائل أو مسُلمَّ
__________
(1) المصدر نفسه ص 241 النجوم الزاهرة (6/ 224).
(2) القدس بين أطماع الصليبيين ص 241.
(3) مفرج الكروب (4/ 32).(1/218)
فلو كان يُفدى بالنفوس فديتَه ... بنفسي وهذا الظن في كل مسلم (1)
2 - عرض الملك الكامل التنازل عن القدس:
مضى حتى الآن أحد عشر شهراً على نزول الصليبيين أمام دمياط، دون أن يحققوا هدفهم، ويبدو أن بعضهم ملَّ من طول هذه المدة، وأعتقد البعض الآخر بمتانة الوضع الصليبي على الأرض، وبالتالي فلا حاجة للبقاء أكثر من ذلك بعيداً عن أوطانهم، فعادوا إلى بلادهم. كان من بينهم ليوبلد السادس دوق النمسا الذي غادر مصر في 14صفر/أول آيار (2)
__________
(1) شذرات الذهب (7/ 119).
(2) تاريخ الأيوبيين ص 308 ..(1/219)
والحقيقة أن عودة بعض القوات إلى أوطانها لم تؤثر على الوضع الصليبي العام، لأن الصليبيين تلقَّوا إمدادات أخرى أرسلها البابا هونوريوس الثالث في 29صفر/16 آيار فتحددَّ نشاطهم ويبدو أن الكامل محمد علم بقدوم هذه الإمدادات، فرأى أن يقوم بهجوم على المعسكر الصليبي قبل أن تنظم هذه الإمدادات، وتبادر بشنَّ هجوم على المسلمين والواقع أن الطرفين قاما بتنفيذ عدة هجمات، لكن دون نتيجة إيجابية ويبدو أن فشل القيادة الصليبية في الاستيلاء على دمياط، بعد خمسة عشر شهراً من المحاولات والمعارك أدّى إلى تذمر القوات الصليبية وانهيار روحهم المعنوية فاتهموا القادة بالجبن والخيانة وطالبوا بشنَّ هجوم عام على المعسكر الإسلامي في فارسكور وحتى يخفَّفوا من حدة هذه التشنُّجات، اتفق الزعماء على القيام بتنفيذ هجوم عام على المسلمين، لكنهم اختلفوا في اختيار الهدف، فرأى الملك يوحنا بريين تشديد الحصار على دمياط، في حين طلب بيلاجيوس شنَّ هجوم على المعسكر الإسلامي في فارسكور، وسانده رجال الدين وبعض الفرسان، وانتصر الرأي الأخير، وشن الصليبيون هجوماً عاماً على معسكري الكامل محمد والمعظم عيسى في فارسكور في 16 جمادي الآخرة/19آب مرتكبين خطأ تكتيكياً، لأن النتيجة جاءت عكسية، إذ صُدَّ الهجوم، وفَّرت القوات الصليبية من ساحة المعركة بعد أن تكبدت خسائر فادحة في الأرواح، ووقع الكثير في الأسر، وقد دعَّم هذا الانتصار موقف المسلمين، وأعاد الثقة إلى نفوسهم (1) وأراد الكامل محمد أن يستغل ذلك النصر ليستأنف ضغطه على الصليبيين لقبول عرض الصلح الخاص بالجلاء عن مصر وكان يعتقد أن الهزيمة الأخيرة سوف تدفعهم إلى تغيير موقفهم المتشَّدد، لكن عرضة قوبل بالرفض أيضاً (2)، ويبدو أنه لم ييأس، فعرض عليهم الصلح للمرة الثالثة، وقدّم لهم تنازلات سخية جداً وهي:
__________
(1) تاريخ الأيوبيين ص 309.
(2) المصدر نفسه ص 310.(1/220)
- تنازله عن كل الأراضي التي فتحها صلاح الدين، من بيت المقدس وعسقلان، وطبرية، وجبلة واللاذقية، وسائر ما فتحه من مدن الساحل، باستثناء الكرك والشوبك.
- دفع مبلغ خمسة عشر ألف دينار مقابل الكرك والشوبك.
- دفع تكاليف إعادة تحصين بيت المقدس، وباقي القلاع التي خرَّبها المسلمون في بلاد الشام.
- تشكيل لجنة رباعية لتحديد تكاليف إعادة البناء.
- إعادة صليب الصلبوت.
- تستمر الهدنة لمدة ثلاثين سنة.
وضمانا لحسن تنفيذ ذلك، تعهد الكامل محمد بتقديم عشرين رهينة من أقاربه ليحتفظ بها الصليبيون مدة سنتين يتم خلالها إعادة تحقيق ما تهدم (1).
ولا شك بأن الكامل محمد كان متساهلاً جداً عندما قدّم هذا العرض للصليبيين، وهو يشكل إغراء كبيراً للقبول به، لكن هؤلاء، لم يختلف موقفهم عن السابق، فقد وافق عليه الملك الصليبي وأمراء بيت المقدس، ورفضه المندوب البابوي وفرسان الداوية والأسبتارية، الذين كانوا يمكلون قلعتي الكرك والشوبك من قبل، وعدُّوا الإنسحاب من أمام دمياط عاراً، فضلاً عن أنهم لم يثقوا بالمسلمين، وانضم الإيطاليون إلى جماعة الرافضين (2).
رابعاً: سقوط مدينة دمياط: تتابع وصول القوات الفرنسية والإنجليزية وكانت محملة على ما يقرب من عشر سفن جنوية فارتفعت معنويات القوات الصليبية وصممت على مواصلة الحصار لمدينة دمياط، وسرعان ما أغار الملك الكامل على المعسكر الصليبي وعرض الصلح على الصليبيين مرة رابعة ولكنه لم يلق قبولاً (3).
__________
(1) تاريخ الأيوبيين ص 310.
(2) المصدر نفسه ص 311.
(3) القدس بين أطماع الصليبيين وتفريط الملك العادل ص 245.(1/221)
1 - إحكام حصار دمياط: بدأ الصليبيون بإحكام الحصار حول مدينة دمياط، من البر والبحر، وضيقوا على أهلها، ومنعوا وصول الأقوات إليهم، وبدأت حاميتها بالإنهيار، وارتفعت الأسعار فبيعت البقرة بعد ذبحها بـ 800 دينار ولم يبق داخل دمياط سوى القليل من القمح والشعير (1). ولكن سكان المدينة استمروا في قتال الصليبيين، وثبتوا مع قله الأقوات وكان الملك الكامل يرسل بعض العوامين ليتحس أخبار الأهالي في دمياط ويطمئنهم على وصول النجدات إليهم وكان قائد دمياط الأمير جمال الدين الكناني من دمياط فرمى قصيدة على رأس سهم إلى الملك الكامل تصف حالة دمياط، السيئة وانهيار معنويات الأهالي وقرب انهيار المقاومة وتطالب بالمدد بسرعة لإنقاذ المدينة منها (2):
يا مالكي دمياط ثغر هدمت ... الله ضامن أجره وكفيله شرفاته
يقريك من أزكى السلام تحية ... كادت تجث أصوله
ويقول عن بعد وإنك سامع ... كالمسك طاب دقيقة وجليله
يا أيها الملك الذي ما إن يرى ... حتى كأنك جاره ونزيله
هذا كتاب موضح من حالتي ... بين الملوك شبيهه وعديله
أشكو إليك عدو سوء أحدقت ... ما ليس يمكنني لديك أقوله
فالبر قد منعت إليه طريقه ... بجميعه فرسانه وخيوله
فخضوعه باد على أبراجه ... والبحر عز لنصره أسطوله
ولو استطاع لأمَّ بابك لائذا ... وحنينه وبكاؤه وعويله
ورسوله في أن تجيب دعاءه ... لكنه سدت عليه نحوله
فاحرس حماك بعزمة تشفى بها ... أن يشتفى لما دعاك عليله
فالله أعطاك الكثير بفضله ... داء لمثلك يرتجى تعليله
فالعذر في نصر الإله ودينه ... ورضاه من هذا الكثير له
والثغر ناظره إليك محدق ... ما ساغ عند المسلمين قبوله
ولئن قعدت عن القيام بنصره ... ما إن يمل من الدموع هموله
ووهت قوى القرآن فيه ورفعت ... جفت نضارته وبان ذبوله
وعلا صدى الناقوس في أرجائه ... صلبانه وتلى به إنجيله
هذا وحقك وصف صورة حاله ... وخفى على سمع الورى تهليله
__________
(1) مفرج الكروب (4/ 32).
(2) القدس بين أطماع الصليبيين ص 246.(1/222)
وكفاك يا ابن الأكرمين بأنه ... حقاً وجملته وذا تفصيله
حقق رجاء فيك يا من لم يخب ... أضحى عليك من الورى تعويله
وأذخر ليوم البعث فعلاً صالحاً ... أبداً لراجي جوده تأميله
فلما وقف السلطان على هذه الأبيات أمر أهل القاهرة ومصر بالنفير للجهاد (1) وحاول مساعدة سكان المدينة، وحث حاميتها على الصمود، وأخذ يرسل بعض المتطوعين لرفع معنويات السكان ولم يستسلم المسلمون لليأس، فلجأوا إلى كل الحيل لإيصال المؤن إلى مدينة دمياط، فكان الملك الكامل يدفع برجاله ليلا وهم يحملون المؤن المحفوظة داخل الجلود والمشمعات، فوضع الصليبيون حبالاً مزودة بالأجراس تدق عندما يصطدم السباحون بها، فيتجه الفرنج إلى المكان، ويقبضون على العوامين (2) أو يقتلونهم وكان المسلمون يعبئون الجمال بالأغذية بعد تفريغ بطونها، ويلقونها في النهر مع بعض الجيف فيجذبها أهالي دمياط ويأخذونها، ولكن الصليبيون نجحوا في وقف ذلك بوضع شباك في النهر (3) ونجح الصليبيون في عزل دمياط كلياً، وأصبحت المدينة في وضع شيء، ولم يعد الملك الكامل يعرف ما يدور بداخلها (4).
__________
(1) السلوك لمعرفة دول الملوك (1/ 316،317).
(2) القدس بين أطماع الصليبيين ص 246.
(3) السلوك نقلاً عن القدس بين أطماع الصليبيين ص 246.
(4) مفرج الكروب نقلاً عن بيت المقدس بين أطماع الصليبيين ص 247.(1/223)
2 - سقوط دمياط: شدّد الصليبيون الحصار على دمياط، وضيَّقوا على أهلها، ومنعوا وصول الأقوات إليها، وفي المقابل كانوا متحصنين داخل معسكراتهم المحاطة بالخنادق والأسوار وتعذر على الكامل محمد إمداد المدينة بالرجال والمؤن وبدأت حاميتها بالإنهيار وأخيراً سقطت دمياط في 25 شعبان 616هـ/5 تشرين الثاني 1219م بعد حصار دام تسعة أشهر ودخلها الصليبيون بعد يومين (1)، كان أهل دمياط قد طلبوا من الفرنج الأمان وأن يخرجوا منها بأهلها وأموالهم في القَساقِسَة وحلفوا لهم على ذلك، ففتحوا لهم الأبواب فدخلوا وغدروا بأهلها، ووضعوا فيهم السيف، قتلاً وأسراً وباتوا في الجامع يَفْجُرُون بالنساء ويفتضون البنات (2) وحولوا مسجدها كنيسة (3) وكأنهم بذلك يثبتون أنه أينما أقام الصليبيون في موقع من مواقع دار الإسلام أو غير من المناطق إلا ونجد الدموية والبربرية، بل أن ذلك صار سمة من سماتهم، سواء في بلاد الشام أو مصر وكأنه تاريخ دموي متواصل الحلقات وأن اختلفت مواقعه الجغرافية (4)،
__________
(1) تاريخ الأيوبيين ص 311.
(2) الحروب الصليبية العلاقات بين الشرق والغرب ص 312.
(3) شذرات الذهب (7/ 119).
(4) الحروب الصليبية العلاقات بين الشرق والغرب ص 285 ..(1/224)
ويضاف إلى ذلك، أن الغزاة قاموا بسك عملة صليبية في دمياط مما يدل على أنهم اعتقدوا في استقرارهم، واستمرار وجودهم فيها، وفي هذا المجال نعرف أن الصليبيين عندما استولوا على دمياط كان أمامهم أن يتعاملوا بالعملة الإسلامية التي تم تداولها في المدينة من قبل، أو أن يقوموا بسك عملة جديدة وقد فضلوا الحل الثاني، وبالفعل تم سك نقود صليبية عليها كتابات لاتينية حاول الغزاة فرضها على الأهالي المسلمين بدمياط، وأطلق البعض على تلك النقود نقود الضرورة، وتم سكها في دار ضرب وصفت بأنها طارئة أملتها الظروف الجديدة الناجمة عن الاحتلال الحملة الصليبية لدمياط (1)، ومن الملاحظ أن تلك النقود لم يتم التعامل بها أمداً طويلاً، ونجد أنها وصفت بالندرة على اعتبار أنها سكت من أجل الأغراض الحياتية خلال الظروف التي عاشها الصليبيون بدمياط، ثم أن الغزاة نجحوا في فرض الحصار حولها، ولذلك لم تتسرب تلك النقود إلى الأسواق المصرية (2). وإلى جانب ذلك، نجد أن الصليبيين عملوا على تنصير الأطفال المسلمين في دمياط، وقد أقر بذلك المؤرخ الصليبي جاك دي فترى، على نحو دل دلالة واضحة على أن المنصرين ساروا وراء الفرسان الصليبيين، وأن الحركة الصليبية بعد أن أخفقت في غزو البالغين وجعلهم يتحولون عن الإسلام إلى المسيحية اتجهت إلى غزو قلوب الصغار الأبريا، الذين ليس لهم ناقة ولا جمل في ذلك الصراع المحموم بين الطرفين (3)
__________
(1) النقود الصليبية ص 234، رأفت النبراوي.
(2) المصدر نفسه ص 235.
(3) الحروب الصليبية العلاقات بين الشرق والغرب ص 286 ..(1/225)
لقد كان أسلوب الصليبيين في دمياط بربرياً همجياً، متخلفاً بعيد عن الحضارة والقيم الإنسانية النبيلة، كان لسقوط دمياط أبلغ الأثر في نفوس المسلمين، مما جعلهم يتكاتفون لصّد الخطر الداهم وإجلاء المعتدين في الوقت الذي استعّد فيه الصليبيون للزحف نحو القاهرة للاستيلاء عليها وتحقيق الهدف الأسمى للحملة، وهكذا أضحى العالم الإسلامي في الشرق الأدنى مطّوقاً بخطر المغول من الشرق والصليبيين من الغرب، الأمر الذي دفع المؤرخ ابن الأثير للتعبير عن حزنه قائلاً: ولقد بُلي الإسلام والمسلمون في هذه المدة بمصائب لم يُبتل بها أحد من الأمم، منها هؤلاء التتر قبحهم الله، أقبلوا من المشرق، ففعلوا الأفعال التي يستعظمها كل من سمع بها ... ومنها خروج الفرنج، من المغرب إلى الشام، وقصدهم ديار مصر، وملكهم ثغر دمياط منها، وأشرقت ديار مصر والشام وغيرها على أن يملكوها (1).
3 - ذيول سقوط دمياط: كان من أثر الصدمة التي أصيب بها العالم الإسلامي بسقوط دمياط، أن تدفق الناس على المساجد يتضَّرعون إلى الله أن ينصرهم على أعدائهم، وأدرك الملك الكامل محمد أن المهمة الملقاة على عاتقه ثقيلة، وأن مسؤوليته أصبحت أخطر من قبل وبدأ يُخطَّط من جديد، لدفع خطر الصليبيين عن مصر قبل أن يستفحل، وتصَّرف على أربعة محاور:
أ- بادر بإرسال السفراء إلى بغداد، لحثَّ الخليفة الناصر لدين الله على الدعوة للجهاد، ودفع المسلمين إلى حمل السلاح للدفاع عن الإسلام، فكتب الخليفة إلى الأمراء المسلمين لنجدته، لكن تصرفه وقف عند هذا الحد، وربما كان منهمكاً في تتبُّع أخبار الزحف المغولي باتجاه غربي آسيا الأمر الذي منعه من إرسال العساكر إلى مصر، تاركاً الجبهة الموجهة للمغول مفتوحة (2).
__________
(1) تاريخ الأيوبيين ص 312.
(2) السلوك نقلاً عن تاريخ الأيوبيين ص 313.(1/226)
ب- أرسل إلى أخيه المعظم عيسى في دمشق لمهاجمة المعاقل الصليبية في بلاد الشام لتخفيف الضغط عن الجبهة المصرية (1).
ج- قَّرر تجنيد مزيد من القوات من كافة أنحاء مصر، واستحضار أكبر عدد ممكن من العساكر الشرقية، فتمكَّن من جمع عشرين ألف مقاتل.
س- اختار مكاناً أكثر ملاءمة للقتال لوقف الزحف الصليبي باتجاه القاهرة، فنقل معسكره إلى المنطقة التي تقع جنوب بحر أشموم طنّاح والشاطئ الشرقي للنيل، قبالة قرية جوهر، وبنى فيها قلعة جديدة أطلق عليها المنصورة (2) ومن الواضح أن اختيار هذا المكان كان موفقاً فهو:
- محصَّن تحصيناً طبيعياً، ولا يتيسر للصليبيين الوصول إليه إلا تحت حراسة برية وبحرية مكثَّفة وقوية، نظراً لبعده عن قواعدهم في دمياط، مما سيّعرضهم لهجمات المسلمين.
- أقرب المواقع لاستقبال النجدات القادمة من بلاد الشام عبر شبه جزيرة سيناء.
- أقرب طريق للمواصلات الرئيسية إلى القاهرة.
- قرية من ميناء سمنُّود التجاري ذي المحاصيل الوفيرة والمركز الجغرافي المتصل بمختلف بلاد الدلتا.
وأما الصليبيون، فعمدوا إلى إعادة بناء دمياط وتحصينها وبالغوا في ذلك، ثم كتبوا إلى البابا هونوريوس الثالث يطلبون:
- مزيداً من القوات العسكرية، وبخاصة أن بعض الصليبيين الموجودين في مصر بدأوا يفكرون في العودة إلى أوطانهم.
- إرسال الأمبراطور فريدريك الثاني.
- إرسال الأموال التي جُمعت لصالح الحملة (3).
__________
(1) تاريخ الأيوبيين ص 313.
(2) بدائع الزهور في وقائع الدهور (1/ 79).
(3) تاريخ الأيوبيين ص 213، 314.(1/227)
4 - الخلافات بين الصليبيين: تباينت آراء الصليبيين بعد سقوط دمياط على الألويات الواجب اتخاذها، فقد اختلفوا على ملكية دمياط، إذ رأى الملك جان دي برين يسانده بارونات بيت المقدس أن دمياط أصبحت جزءاً من مملكة بيت المقدس، فيما رأى بلاجيوس المندوب البابوي ضرورة خضوع المدينة لسلطة الكنيسة، أي لسلطته بالذات لأنه ممثل البابا، ولكن الرأي العام للحملة عارض بلاجيوس في ادعائه ملكية المدينة، وتأزمت الأمور بين الملك جان دي برين، ومندوب البابا، فأيد الفرسان الداوية، والاسبتارية والفرنسيون وصليبيو بيت المقدس الملك دي برين فيما أيد الإيطاليون بلا جيوس، وانتهى الأمر بعرض الأمر على البابا هونوريوس الثالث، فأيد الملك في موقفه في ضم المدينة إلى مملكة بيت المقدس، واختلف الصليبيون لدى تقسيم الغنائم، إذ شعر الإيطاليون بالغبن الذي أصابهم، وأعلنوا العصيان وطالبوا بمزيد من الغنائم، وأشهروا سلاحهم في وجه الجند الفرنسيين إذ لم يؤيدهم بلاجيوس في طلبهم وإنقاذاً للموقف أخرجت القوات الفرنسية من دمياط حتى لا تشتبك مع الإيطاليين وأخيراً اتفق على:
أ- طرد القوات الإيطالية من دمياط، وتولي أمر ذلك فرسان الداوية، والقوات الفرنسية، وفرسان الإسبتارية.(1/228)
ب- إعادة توزيع الغنائم، وزيادة نصيب الإيطاليين منها (1) وانقسمت آراء الصليبيين حول الزحف على القاهرة، فقد رأى قلة من الجند التوجه إلى بيت المقدس، والاستيلاء عليها، إذ كانت بلاد الشام مكشوفة تماماً ولا قوات إسلامية فيها، ورأى الملك جان دي برين تحصين مدينة دمياط، ومنح الصليبيين قسطاً من الراحة، ريثما يصل الإمبراطور فردريك الثاني، ورأى بلاجيوس أن الطريق متيسر إلى القاهرة، وأن الزحف عليها، ومطاردة الأيوبيين في هذا الوقت مناسب ويمكنهم من السيطرة على مصر، ومن ثم على بلاد الشام وتفاقم الخلاف بين بلاجيوس والملك الصليبي الذي حاول توضيح صعوبة السيطرة على مصر والقاهرة، لقلة عدد الصليبيين بالنسبة إلى سكان مصر وبعد مدينة القاهرة عن دمياط، فآثر الملك مغادرة دمياط إلى عكا عام 617هـ/1220م (2).
5 - الوضع العسكري في بلاد الشام بعد سقوط دمياط:
على الرغم من الخلافات الداخلية بين الصليبيين والركود العسكري الذي وقعوا فيه، فقد كان عليهم تأمين وجودهم ضد القوات الإسلامية، لذلك رأوا الاستيلاء على تنيس فأغاروا عليها في 14 رمضان 616هـ/23تشرين الثاني 1219م ودخلوها قهراً (3)، وفي بلاد الشام، هاجم المسلمون المعاقل الصليبية لتخفيف الضغط عن الجبهة المصرية، ذلك أن المعظم عيسى غادر مصر بعد سقوط دمياط عائداً إلى بلاد الشام لسببين:
الأول: حشد العساكر وإرسالها إلى مصر.
الثاني: الضغط على أملاك الصليبيين في بلاد الشام.
__________
(1) القدس بين أطماع الصليبيين ص 249.
(2) بيت المقدس بين أطماع الصليبيين وتفريط الملك العادل ص 250.
(3) تاريخ الأيوبيين ص 315.(1/229)
وفعلاً هاجم في شهر محرم 617هـ/شهر آذار 1220م، قياسرية وفتحها عنوة، ثم توجه إلى قلعة عثليث (1)، لفتحها لكنه جوبه بمقاومة الداوية فيها، فاضطر إلى الانصراف عنها (2) وحذا الأشرف موسى حذوا أخيه المعظم عيسى، فأغار على إمارة طرابلس، وهاجم صافيتا، وحصن الأكراد، غير أنه لم يتمكن من المضي طويلاً في عملياته العسكرية بسبب الحرب بينه وبين سلاجقة الروم، لكنه رابط بالقرب من طرابلس وأنطاكية (3) والواقع أن الهجمات الإسلامية على ممتلكات الصليبيين في بلاد الشام بالإضافة إلى مرابطة الأشرف موسى، قد حرم الصليبيين الموجودين في دمياط من الإمدادات التي يمكن أن تأتي إليهم من الإمارات الصليبية في بلاد الشام، ليس هذا فحسب، بل أدّن إلى سحب بعض القوات الصليبية من دمياط لمساعدة إمارات بلاد الشام (4)، إذ أن الملك يوحنا بريين اتخذ من هذه الهجمات حجة لمغادرة دمياط إلى عكا، على الرغم من تعُّدد أسباب هذه العودة التي كان من بينها استمرار تدهور العلاقات بينه وبين المندوب البابوي، ومشكلة الوراثة في أرمينية الصغرى بعد وفاة ليو الثاني في منتصف عام 616هـ/صيف عام 1219م (5). ومما يلفت النظر خطورة الصراع بين القوة الإسلامية السلاجقة والخورازميين والأيوبيين بينما ملوك أوروبا يتفقون، فكان لذلك التفرق أثر على الإسلام والأمة.
__________
(1) المصدر نفسه ص 315: اسم حصن بسواحل الشام.
(2) تاريخ الأيوبيين ص 315.
(3) المصدر نفسه ص 315.
(4) تاريخ الأيوبيين ص 316.
(5) المصدر نفسه ص 316.(1/230)
6 - المناوشات بين الملك الكامل والصليبيين: استغل الملك الكامل الخطر الذي فرضه بلاجيوس على حركة السفن الصليبية، وأرسل بعض السفن الحربية عبر فرع رشيد إلى قبرص فهاجمت السفن الراسية في ليماسول، فأغرقت بعضها، وأسرت البعض الآخر واستجاب البابا لنداءات الصليبيين في دمياط بإمدادهم المال والرجال ففي محرم 617هـ آذار 1220م وصلت قوات صليبية إلى دمياط يرافقها بعض رجال الدين وعلى رأسهم رئيس أساقفة ميلان هنري وأرسل البابا الأموال من خزانة البابوية، وتتابع وصول الإمدادات من ألمانيا وفرنسا بالإضافة إلى ثماني سفن أرسلها الإمبراطور فردريك الثاني على رأسها منى كونت بوليا وحاول بلاجيوس استغلال الإمدادات المتزايدة عام 617هـ/1220م للزحف على القاهرة، إلا أن القوات الفرنسية والألمانية والإنجليزية لم توافقه، فأغارت القوات العسكرية المؤيدة للمندوب البابوي على البرلس، ونهبتها، فأعد لهم المسلمون كميناً، وتمكنوا من أسر الكثير منهم وفر الباقون إلى دمياط (1).
__________
(1) شذرات الذهب نقلاً عن القدس بين أطماع الصليبيين ص 253.(1/231)
7 - حشد الملك الكامل للقوات للمواجهة الحاسمة: ظل الملك الكامل مرابطاً في المعسكر الذي أطلق عليه فيما بعد المنصورة، وقد اتخذ الكثير من الإجراءات لإشغال الصليبيين، ووقف زحفهم على القاهرة، فوضع بعض السفن الإسلامية في بحيرة تنيس لمناوشته الصليبيين، وكلف الكثير من الفرسان والعربان بالإغارة على القوات الصليبية باستمرار وشجع على أسر أو قتل الصليبيين وخصص المكافآت لكل مسلم يأسر عدواً، وقد نجح المسلمون من أسر الآلآف من العساكر الصليبية أثناء هذه المناوشات والغارات وبادر الصليبيون إلى بناء حصن تورون في جيزة دمياط، وأحاطوه بسور من الطين لخلو المنطقة من الحجارة، وشيدوا برجاً خشبياً شديد الارتفاع لإرشاد السفن الذاهبة إلى دمياط، وأقام الصليبيون حصناً آخر اسمه بوتا فأتت بين دمياط وقلعتها، فحد هذا الحصن من نشاط السفن الإسلامية في بحيرة تنيس ووفر كميات من السمك للصليبيين كانوا يصيدونها من البحيرة، وأطمأن الصليبيون على أنفسهم من الهجمات الخاطفة، التي كان المسلمون يقومون بها، مع أنها كلفتهم أكثر من ثلاثة آلاف أسير (1) وتدفق الصليبيون عام 617هـ/1220م على دمياط حتى أصبحت دار هجرتهم، فقد قدم إليها الأسقف الألماني أولريخ، وأسقف باسو، وعاد رئيس هيئة فرسان التيوتون "هرمان فون سالز" على رأس 500 فارس، وأخذ عدد الصليبيين يزداد يوماً بعد يوم، متشجعين بامتلاك الإفرنج للمدينة، وتمكنهم من الديار المصرية (2).
__________
(1) القدس بين أطماع الصليبيين ص 255.
(2) الكامل في التاريخ نقلاً عن القدس بين أطماع الصليبيين ص 255.(1/232)
8 - الزحف الصليبي على القاهرة والمعركة الفاصلة:
تحركت القوات الصليبية في 7 جمادي الأولى 618هـ/29حزيران 1221م من دمياط إلى العادلية استعداداً للتقدم جنوب دمياط بحذاء النيل، وظل الجيش الصليبي خارج دمياط أربعة أيام انتظاراً لوصول الملك ذي برين، وما أن وصل الملك حتى بادر مجلس الحرب الصليبي إلى التشاور في الأمر، فأمر بلاجيوس بالزحف على القاهرة للقضاء على قوات مصر العسكرية وتجهزت القوات الصليبية للدخول مع المسلمين في معركة فاصلة فأعدت البحرية الصليبية أكثر من 600 سفينة من مختلف الأحجام، حملت الفرسان، ورماة السهام، وعدداً كبيراً من المشاة بالإضافة إلى القوات البرية التي سارت بحذاء النهر إلى جانب السفن وتقدمت هذه القوات جنوباً للتوغل في ديار مصر (1)، فوصلت إلى فارسكور في 25 جمادي الأولى 618هـ/17 تموز 1221م.
__________
(1) مفرج الكروب نقلاً عن القدس بين أطماع الصليبيين ص 255.(1/233)
ولما علم الملك الكامل بزحف الصليبيين اتجه شمالاً، فعبر بحر أشموم، وتقدم نحو شار مساح، ولكنه تراجع إلى المنصورة وجعل منها محور الارتكاز لجميع خططه، تابع الصليبيون زحفهم فوصلوا إلى شار مساح واستولوا عليها بعد مناوشات بسيطة، وتقدموا إلى أن وصلوا طرف جزيرة دمياط (1)، وأقاموا معسكرهم وكلف الملك الكامل أمراءه جمع الناس من كل مكان لمواجهة خطر الصليبيين فقام الأمير حسام الدين يونس والي الإسكندرية والفقيه تقي الدين طاهر الحلي بجمع الناس من المنطقة الواقعة بين القاهرة وأسوان وقام الأمير علاء الدين جلدك والأمير جمال الدين بن صيرم بجمع المقاتلين من المنطقة الشرقية، ونشط الملك المعظم بجمع أعداد كبيرة، وكذلك الملك الأشرف (2) الذي قال: خرجت بنية الجهاد ولابد من اتمام هذا الأمر (3)، واتّجه الجميع إلى مصر، وبدأت الاستعدادات الإسلامية نشاط، وكان الجميع مندفعاً لدعم قوات الملك الكامل فوصلت هذه الإمدادات إلى المنصورة (4) يتقدمها الملك الأشرف موسى، وفي مؤخرتها الملك المعظم وبينها الملك الناصر ابن الملك المنصور صاحب حماة (5)، والمجاهد أسد الدين شيركوه صاحب حمص، والأمجد بهرام صاحب بعلبك فخرج الكامل واستقبلهم "وأيقن بحصول النصر، والظفر بالعدو، وقويت معنويات المسلمين، وقدرت القوات الإسلامية بحوالي 40ألف فارس (6). ورأى الفرنج من العساكر الإسلامية ما هالهم وفتَّ في أعضادهم؛ واشتد القتال بين الفريقين براً وبحراً (7)
__________
(1) النجوم الزاهر (6/ 231) القدس بين أطماع ص 257.
(2) القدس بين أطماع ص 57.
(3) مفرج الكروب (4/ 93).
(4) القدس بين أطماع الصليبيين وتفريط الملك الكامل ص 257.
(5) السلوك نقلاً عن القدس بين أطماع الصليبيين ص 257.
(6) القدس بين أطماع الصليبيين ص 257.
(7) مفرج الكروب (4/ 95) ..(1/234)
واستطاع الملك الكامل؛ أن ينزل قوات خلف الجيش الصليبي المتقدم، فقطع عليه خط الرجعة وعزله عن دمياط، كما أجهز على سفنه الراسية بين المقدمة والمؤخرة، وحاصره براً وبحراً، ثم أرسل قوة عسكرية عبرت إلى الأراضي التي يعسكر فيها الصليبيون، ففجَّروا سدود المياه، فلم يشعر هؤلاء إلا وقد غرقت أكثر الأرض المحيطة بهم (1)، وهكذا سُدت جميع المنافذ أمام الصليبيين باستثناء جهة واحدة يسلكونها، وهي الشريط الضيق الملاصق للنيل، ويمتد من معسكرهم شمالاً حتى دمياط، وأدرك الكامل محمد ذلك، فأمر بنصب الجسور على النيل عند أشموم طنّاح، فعبرت القوات الإسلامية هذه الجسور وسيطرت على هذا الطريق (2)، الذي كان أمل الصليبيين الوحيد لعودتهم براً إلى دمياط، وهكذا سيطر المسلمون على الموقف وإذ تعذَّر على القوات الصليبية التقدم أو الإنسحاب، أدرك بيلاجيوس أنه ارتكب خطأ عسكرياً بمغادرة دمياط، ولم يبق أمامه للخروج من هذا المأزق سوى الصلح (3) وأحس القادة الصليبيون بخطورة موقفهم فالمياه تمنعهم من القتال والجوع عضهم بنابه، والمسلمون يسيطرون على الموقف سيطرة تامة، واستمرارهم في المعسكر سيؤدي إلى هلاكهم، وسرعان ما أرسل المندوب البابوي بلاجيوس للملك دي برين يدعوه للتشاور وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وعندما اجتمع الإثنان اتفقا على أخذ رأي القادة الصليبيين لعرض الصلح على المسلمين (4)، ومال الكامل محمد إلى قبول عرض الصلح، ولعله كان مدفوعاً بعدة عوامل من أهمها:
- فقد كان يخشى حضور الأمبراطور الألماني فريدريك الثاني على رأس قوته، فينتقم لما حلَّ بالصليبيين ويحتفظ بدمياط (5).
__________
(1) مفرج الكروب (4/ 96).
(2) المصدر نفسه (4/ 96) تاريخ الأيوبيين ص 318.
(3) تاريخ الأيوبيين ص 318.
(4) شذرات الذهب نقلاً عن القدس بين أطماع الصليبيين ص 261.
(5) عاشور (2/ 983) تاريخ الأيوبيين ص319.(1/235)
- إن استعادة دمياط تحتاج إلى مجزرة لا داعي لها، وربما لا يقدر عليها وبخاصة أن القوات الإسلامية ضجرت من طول مدة الحرب التي استمرت ثلاث سنوات وثلاثة أشهر (1).
- استمرار وصول الإمدادات الصليبية إلى دمياط، مما سيجعل مهمة القوات الإسلامية صعبة ومعقَّدة وربما لا تحقق النتائج التي عرضها الصليبيون، ولو أقام، الصليبيون يومين لأخذوا المسلمين برقابهم.
- توارد الأنباء من الشرق عن تقدم المغول باتجاه غربي آسيا، فأراد أن يدّخر قواته، ويتفرغ للخطر المغولي، إذا ما استمر في التقدم إلى قلب العالم الإسلامي (2).
__________
(1) مفرج الكروب نقلاً عن تاريخ الأيوبيين ص 319.
(2) تاريخ الأيوبيين ص 319.(1/236)
9 - قبول الصلح: استشار السلطان الملك الكامل ملوك أهل بيته في ذلك، فأشار بعضهم بأن لا يؤمنهم ويأخذهم أخذاً باليد فإنهم قد صاروا في قبضته، وهم جمهور أهل الشرك وأنه إذا فعل ذلك أخذ منهم دمياط وجميع ما بقي لهم من البلاد الساحلية فلم ير السلطان الملك الكامل ذلك مصلحة وقال: إن هؤلاء ليسوا جميع الفرنج، وإذا أبدناهم لا نقدر على أخذ دمياط إلا بمطاولة وحروب كثيرة مدة، ويسمع ملوك ما وراء البحر من الفرنج وما نالهم بما يجري على الفرنج، فيقدم إلينا أضعاف هؤلاء وتعود للحرب خدعة، وقد ضجرت العساكر من الحرب وكلّت ...(1/237)
فاتفق رأي الكل على بذل الأمان لهم، وتسلم دمياط منهم، فأجيبوا إلى ما طلبوا على أن يأخذ منهم السلطان الملك الكامل ملوكهم رهائن إلى أن يسلموا دمياط، وطلبوا هم أن يأخذوا ولد السلطان وجماعة من خواصه رهائن إلى أن يرجع ملوكهم إليهم، فتقررت القاعدة على ذلك والإيمان سابع رجب من هذه السنة، أي سنة ثمان عشرة وستمائة، وكانت رهائن الفرنج: ملك عكا، واللوكان نائب البابا صاحب رومية الكبرى، وغير هؤلاء من الملوك تتمة عشرين ملكاً وكانت رهائن السلطان الملك الكامل ولده الملك الصالح نجم الدين أيوب، وجماعة من خواصه وكان عمر الملك الصالح يؤمئذ خمس عشرة سنة، ولما قدم هؤلاء الملوك إلى السلطان الملك الكامل جلس لهم مجلساً عظيماً ووقف بين الملوك من إخوته وأهل بيته جميعهم ورأى الفرنج من عظمته وناموسه ما هالهم، ثم أرسلت الفرنج قسوسهم ورهبانهم إلى دمياط لتُسلم إلى المسلمين، فسلمت إليهم تسع عشر رجب من هذه السنة وكان يوم تسليمها يوماً مشهوداً عاد به الدين الإسلامي جديداً بعد أن كانت قد ساءت به الظنون، وخيف على الديار المصرية والشامية من الفرنج خوفاً شديداً وفي اليوم الذي سلمت فيه دمياط وصل إلى الفرنج نجدة عظيمة من البحر، فلو سبقوا المسلمين إليهم لامتنعوا من تسليمها ولم دخلها المسلمون رأوها وقد حصنها الفرنج تحصيناً عظيماً بحيث بقيت لا ترام، ولا يوصل إليها، ورجعت رهائن الفرنج إليهم ورهائن المسلمين إليهم وولاها السلطان الأمير شجاع الدين جلدك المظفري التقوى وكان رجلاً خيراً شهماً (1) وهنت الشعراء الملك الكامل وإخوته بفتح دمياط وأكثروا، فمما قيل في ذلك، قصيدة لشرف الدين بن عينين يمدح بها السلطان المعظم عيسى - رحمه الله - ومطلعها:
سلوا صهوات الخيَل يوم الوغى عنا ... إذا جُهلت آياتنا والقنا اللُّدنا
غداة لقينا دون دمياط جحفلا ... من الروم لا يُحصى يقينا ولا ظنَّا
__________
(1) مفرج الكروب (4/ 100).(1/238)
قد اتفقوا رأيا وعزماً وهمة ... ودينا وإن كانوا قد اختلفوا لُسنا
تداعوا بأنصار الصليب فأقبلت ... جموع كأن الموج كان لهم سفنا
عليهم من الماذى كل مُفاضَةٍ ... دلاص كقرن الشمس قد أحكمت وضنا
وأطمعهم فينا غرور فأرقلوا ... إلينا سراعاً بالجياد وأَرْقَلْنا
فما برحت شمر الرماح تنوشهم ... بأطرافها حتى استجاروا بنامنّا
سقيناهم كأساً نفت عنهم الكرى ... وكيف ينام الليل من عدم الأمنا
لقد صبروا صبراً جميلاً ودافعوا ... طويلاً فما أجدى دفاع ولا أغني
لقوا الموت من زُرق الأسنة أحمراً ... فألقوا بأيديهم إلينا فأحسنا
وما برح الإحسان منا سجية ... توارثها عن صيد آبائنا الأبنا
وقد جربونا قبلها في وقائع ... تعلمّ غُمر القوم منا بها الطعنا
أسود وعن لولا قراع سيوفنا ... لما ركبوا قيداً ولا سكنوا سجنا
وكم يوم حرَّ ما لقينا هجَيره ... بستر وقُرّ ما طلبنا له كنَّا
فإن نعيم الملك في شظَف الشقا ... ينُال وحلَو العيش من مُر يُجنى
يسير بنا من آل أيوب ماجد ... أبي عزمه أن يستقر به مغنى
كريم الثنا عار من العار باسل ... جميل المحيا كامل الحسن والحسنى
سرى نحو دمياط بكل سميدع ... نجيب يَرى ورد الوغى المورد الأهنا
مآثر مجد خلدتها سيوفه ... لها نبأ يفني الزمان ولا يفنى
وقد عرفت أسيافنا جديدة ... فعاشوا بأعناق مقلدة مِنّا
ولو ملكوا لم يأتوا في دمائنا ... وَلُوغا ولكنا ملكنا فأسجحنا
ومن ذلك قصيدة لشرف الدين بن عنين يمدح بها السلطان الملك الأشراف (بن الملك العادل) مطلعها:
جعل العتاب إلى الصدود توصُّلا ... ريم رمى فأصاب منى المقتلا
أغراه بي واش تَقوَّل كاذبا ... فأطاعه وعصيت فيه العُذَّلا
ما عمَّه بالحُسْن عنبُر خاله ... إلا ليُصبح بالسواد مجملا
صافي أديم الحسن ما خطت يد ... الأيام في خديه سطراً
كل مقر بالجمال له فما ... يحتاج حاكم حسنه أن يُسجلا (1)
ما عمَّه بالحُسْن عنبُر خاله ... إلا ليُصبح بالسواد مجملا
صافي أديم الحسن ما خطت يد ... الأيام في خديه سطراً مشكلاً
__________
(1) مفرج الكروب (4/ 101).(1/239)
كل مقر بالجمال له فما ... يحتاج حاكم حسنه أن يُسجلا (1)
ومنها
لولاك لا نفصمت عُرى الإسلام في ... مصر وأهمل ذكره وتبدّلا
وتحكمت فيها الفرنُج وغادرت ... أعلاجُها محرابَ عمرو هيكلا
أنت الذي أجلبت عن حلب العدا ... وحَميتَ بالسُّمر اللدان الموصلا
كم موقف ضَنكٍ فرجت مضيقه ... وطريقه لخفائه قد أَشكلا
ونثرت بالبيض المهندةِ الطُّلي ... ونظمت بالسُّمر المثقفة الكُلا
فالله يخرق في بقائك عادة ... الدنيا ويُعطيك البقاء الأطول
وقد أبدع بعض الشعراء في ذكر إنجاد السلطانين الملك المعظم والملك الأشرف أخاهما السلطان الملك الكامل في قوله:
أعبّاد عيسى إن عيسى أتاكم ... وموسى جميعاً ينصران محمداً (2)
ولما فتحت دمياط دخلها السلطان الملك الكامل، وفي خدمته إخوته وملوك أهل بيته، وكان يوم دخوله إليها يوماً مشهوداً، ثم توجه إلى القاهرة، وأذن للملوك في الرجوع إلى بلادهم، فرجع كل ملك إلى بلاده (3).
10 - أسباب فشل الحملة الصليبية الخامسة: يعود فشل الحملة الصليبية الخامسة إلى عدة عوامل، منها ما يتعلق بالمسلمين، ومنها ما يتعلق بالصليبيين، ومنها ما يتعلق بالأوروبيين أما ما يتعلق بالجانب الإسلامي فيمكن رصد العوامل التالية:
- الخطط العسكرية الجيدة، التي وضعها الكامل محمد ونفَّذها جنوده، فقد أعدَّ، في بادئ الأمر، دفاع العادلية الذي صمد مدة ثمانية أشهر، لكنه اضطر للتراجع نتيجه مؤامرة ابن المشطوب التي أتاحت للقوات الصليبية العبور إلى الضفة الشرقية وحصار دمياط، كما تمكَّن من تطويق الصليبيين بحراً بواسطة السفن التي سيَّرها في بحر المحلة وضرب مقدمة ومؤخرة الأسطول الصليبي، بالإضافة إلى حسن اختيار الوقت المناسب لتفجير السدود والجسور، وإغراق السفن الصليبية.
__________
(1) مفرج الكروب (4/ 101، 201).
(2) مفرج الكروب (4/ 105).
(3) مفرج الكروب (4/ 105).(1/240)
- تعاون الملوك الأيوبيون، فقد أدّى المعظم عيسى دوراً بارزاً في إحباط مؤامرة ابن المشطوب، ولم يتوانَ لحظة عن إنجاد أخيه، وتولىَّ الضغط على الصليبيين بمهاجمة ممتلكاتهم في بلاد الشام، وهدم القلاع الإسلامية خشية من استيلاء الصليبيين عليها، وتركها في حالة يتيسر على المسلمين استردادها إذا ما سقطت في أيدي هؤلاء، وكذلك فعل الأشرف موسى.
- دعم الجبهة الإسلامية بالمال والرجال والعتاد وإقامة التحصينات الكافية في الأماكن المناسبة.
وفيما يتعلق بالجانب الصليبي فيمكن رصد الملاحظات الآتية:
- أخطأ رجال الدين في إدارة الحملة، كما انتابهم الغرور والاعتزاز بالنفس، وعلى رأسهم المندوب البابوي بيلاجيوس الذي وصفته المصادر بالغباء، والعجرفة، وعدم الحيلة، فضلاً عن تشبُّثه برأيه، وقد تجاهل وضعه كرجل دين وتصرف كقائد عسكري، ولم يسمح للخبراء العسكريين مشاركته.
- الاختلاف في وجهات النظر بين الصليبيين بسبب سوء تصرف المندوب البابوي، وبخاصة بينه وبين يوحنا بريين الذي هددَّ بترك الحملة أكثر من مرة، وقد أدّى هذا الاختلاف إلى إضاعة الفرصة الذهبية التي أتيحت لهؤلاء لتحقيق هدف الحملة وبخاصة بعد أن عرض عليهم الكامل محمد شروطاً سخية للجلاء عن دمياط، والواضح أن موقف كلاً الرجلين كشف عن أطماعهما وتطلعاتهما إلى الزعامة والقيادة، مما أضَّر بالحملة ضرراً بالغاً (1).
- جهل الصليبيين بالوضع الطبيعي لأرض مصر، والخطأ الذي ارتكبوه باختيار طريق الزحف نحو القاهرة، وهو الطريق المحاذي لفرع النيل الشرقي، على الرغم من علمهم بمواعيد ارتفاع وانخفاض مياه، إذ كان يعترض هذا الطريق الكثير من النزع والقنوات المتفرعة التي شكَّلت كمائن أوقفت تقدم جيشهم.
__________
(1) تاريخ الأيوبيين ص 321.(1/241)
- عدم استغلال عامل الوقت؛ فلو أن الصليبيين بدأوا زحفهم على القوات الإسلامية عندما كانت ترابط في فارسكور، مما تسَّبب في قتل المئات ممن الصليبيين، كما كانت هذه القوات ترحل إلى بلادها متى يحلو لها غير عائبة بالأوامر التي تصدر عن قادتها.
- الخلافات التي نشبت بين أفراد الجيش الصليبي حول تقسيم الغنائم وقد أدّت إلى صدام مسلح بينهم.
- عدم اكتراث لويس دوق بافاريا بتعليمات الأمبراطور فريدريك الثاني بعدم القيام بأية عملية عسكرية كبيرة إلا بعد حضوره (1).
وأما فيما يتعلق بالجانب الأوروبي فيلاحظ ما يلي:
- محاولة البابا هو نوريوس الثالث الهيمنة على الحملة حتى لا تتعرض لما تعرضت له الحملة الصليبية الرابعة؛ من ذلك أنه منح مندوبه صلاحيات مطلقة تعلو على صلاحيات القادة الزمنيين والخبراء العسكريين.
- عدم حسم الخلاف الذي نشأ بين بيلاجيوس ويوحنا بريين الذي تصاعد وتطور إلى صراع بين السلطتين الزمنية والدينية على حساب الحملة.
- لم تكّن شخصية البابا من القوة التي يخشاها بيلاجيوس لذلك تصرف من تلقاء نفسه عندما رفض عرض الصلح الذي تقدم به الكامل محمد، مخالفاً بذلك أوامر البابا بعرض الأمر عليه قبل اتخاذ القرار.
- عدم اختيار الوقت المناسب للقيام بالحملة، إذ أن الروح الصليبية تراجعت لدى الأوروبيين بشكل عام، ولم يعد لديهم الحماس الكافي لإنخراط بالحملة (2).
انهماك بعض القوات الصليبية في القتال الدائر بين المسلمين والنصارى في أسبانيا، مما حرم الحملة من قوات كانت ضرورية آنذاك للاستفادة من إمكاناتها المادية والمعنوية.
- الصراع الدائر بين ملوك أوروبا من أجل تدعيم مراكزهم، وعجز البابا عن حملة الأمبراطور فريدريك الثاني، السفر إلى دمياط، واكتفى بمعاتبته مع الأمراء الذين ساندوه (3).
__________
(1) المصدر نفسه ص 321.
(2) تاريخ الأيوبيين ص 322.
(3) المصدر نفسه ص 322.(1/242)
11 - نتائج الحملة الصليبية الخامسة: من أهمها:
أ- كشفت بجلاء أن الصليبيين لديهم الإصرار على التوسع جنوباً في مصر وما جهود دي برين إلا الصورة الصليبية في القرن الثالث عشر الميلادي/السابع الهجري لعموري الأول ملك المملكة الصليبية في القرن الثاني عشر الميلادي/السادس الهجري.
ب- كشفت تلك الحملة عن الطابع التنصيري للحركة الصليبية وأن ذلك الجانب من الممكن فهم أبعاد المطامع الصليبية في المنطقة من خلاله، إذ هدف الغزاة تحويل مسلمي المنطقة إلى مسيحيين يتبعون الكنيسة الأم في روما، وبذلك يكونوا قد استهدفوا الهوية الدينية ذاتها.
ج- تلك الحملة كشفت لنا عن العلاقة الأبدية بين مصر والشام إذ أن كلا منهما عمق استراتيجي للآخر، وعندما تعرضت أرض الكنانة للخطر قدم إليها الدعم والعون الحربي من شقيقتها الجغرافية والتاريخية بلاد الشام، وهكذا وجد الخطر الصليبي المشترك تاريخ المنطقتين المتجاورتين بصورة أكدتها مراحل التاريخ السابقة وكذلك التالية.
س- كشفت قصر نظر الملك الكامل الأيوبي فيما يتعلق بالعروض البالغة السخاء، والسذاجة للصليبيين، وقد توافر لديه إصرار مثير للعجب على تقديم بيت المقدس للغزاة في مقابل خروجهم من مصر، ويلاحظ أنه كرر ذلك الأمر عدة مّرة وكأن بيت المقدس التي عادت بدماء الشهداء وخاض صلاح الدين المعارك الشرسة من أجلها، كأن تلك المدينة المقدسة مثلت عبئاً على ذلك السلطان الأيوبي، وبالتالي أراد التخلص منها بأي صورة، وقد توهم الرجل أن بإمكانه التصرف في تلك المدينة، وأن يعرضها كجارية في سوق النخاسة، ومن حسن الحظ - هذه المرة فقط - أن عناد المندوب البابوي الذي طمع في المزيد رفض العرض، وأنقذت القدس من جانب الصليبيين، وظلت في أيدي أبنائها من المسلمين؛ وكشفت تلك الحادثة عن مدى إنفراد القادة أحياناً بقرارات مصيرية خاطئة يمكن أن تجلب أخطر النتائج وأسوأها على مصير أمتهم (1).
__________
(1) الحروب الصليبية العلاقات بين الشرق والغرب ص 288.(1/243)
ع- آثار الفشل الذريع الذي منيت به الحملة الصليبية الخامسة ثائرة البابا هو نوريوس الثالث، وأخذ يدعو من جديد هو وخليفته البابا جريجوري التاسع للقيام بحملة صليبية كبرى لتعويض تلك الخسارة التي خسرها الصليبيون، وعهد إلى الأمبراطور فردريك الثاني أمبراطور الدولة الرومانية، وملك الصقليتين بأمر قيادة هذه الحملة والتي عرفت بالحملة الصليبية السادسة (1) وسيأتي الحديث عنها مفصلاً بإذن الله.
ك- كان رد الفعل الإسلامي عظيماً إزاء هذه النتيجة التي أسفرت عنها الحملة الصليبية الخامسة، فكانت فرحة المسلمين عظيمة بعودة دمياط إليهم، خاصة الفقهاء والعلماء والشعراء الذين أخذوا يتبارون في إنشاد قصائد التهاني بهذا النصر الكبير معبرين فيها عن مدى فرحتهم ومدى إحساسهم بأهمية عودة دمياط إلى المسلمين (2).
هـ- أبرم الملك الكامل اتفاقية مع الصليبيين مدتها ثمان سنوات نصت على إطلاق كل فريق ما عنده من الأسرى وتم للأيوبيين القضاء على الحملة الصليبية الخامسة نتيجة لتعاونهم وخطتهم (3) المحكمة
المبحث الثاني: السياسة الأيوبية الداخلية في عهد الملك الكامل
أولاً: تولي الملك الكامل السلطنة ومحاولات خلعه:
كان الملك الكامل نائباً لوالده الملك العادل في حران وكلفه عام 595هـ/1199 باحتلال ماردين وفي عام 596هـ/1200م استدعى الملك العادل ابنه الملك الكامل إلى مصر ليستنيبه عليها وكان بحران نائباً لوالده هناك فسلم تلك الولاية إلى أخيه الفائز، وانطلق إلى القاهرة، ومعه شمس الدين المعروف بقاضي داراً، وهو وزيره ومستحثه على المكارم، ومشيره (4)، فأنشده:
أنتم تُحبون بالإعراض تَعذيبي ... وتقصدون بخلق الصّدِ تهذيبي
ساروا فيا صحتي من مهُجتي ارتحلي ... غابوا فيا سنتي عن مُقلتى غِيبي
__________
(1) دور الفقهاء والعلماء ص 269.
(2) المصدر نفسه ص 268.
(3) الدولة الأيوبية، سمير فراج ص 195.
(4) كتاب الروضتين (4/ 458،459).(1/244)
قد كان يهضمني دهري فأدركني ... محمد بن أبي بكر بن أيوب
الكامل المالك الإملاك حيث له ... رقم الأعاجم منهُم والأعاريبُ
معطَّرٌ عرفه عُزفاً ومكرهة ... مخمرٌ طينه بالطُّهر والطَّيب
لا يدَّعِي جُودَه البحر الخِضمّ ولا ... يَلقى تابيه في الشُّم الشَناخيب
دعتك مِصُر إلى سُلطانها فأجب ... دُعاءها فهو حق غير مكذوب (1)
__________
(1) المصدر نفسه (4/ 459).(1/245)
وصل الملك الكامل القاهرة 22 رمضان 596هـ/1200م ونصبه والده نائباً له بديار مصر وركب الملك الكامل مثل والده، معقوداً سنجقه بمعاقده والمناصل مجذوبه، والصواهل مجنوبة، والأعين ناظرة والألسن ذاكرة ومشى في ركابه من إليه تحبب (1) وبعد أيام غادر الملك العادل القاهرة متجها إلى نابلس لمواجهة الصليبيين وفي عام 604هـ/1206م أعطى الملك الكامل مملكة مصر، ورتب عنده القاضي الأعز فخر الدين مقدم بن شكر (2) وفي عام 609هـ/1212م فوض الملك العادل تدبير مصر، والنظر في أموالها ومصالحها إلى ابنه الملك الكامل وقد رافق الملك الكامل والده في كثير من المواقف في حران ومصر واكسبته المصاحبة خبرة سياسية وتجربة عسكرية (3) وتوفي الملك العادل في قرية عالقين عام 615هـ/1218م ولم يعلم بموته إلا مرافقه الكريم الخلاطي فأرسل إلى ابنه الملك المعظم في نابلس، فحضر يوم السبت السابع جمادي الآخرة واحتاط على الخزائن (4)، وصبّر العادل، ووضعه في محفة وأظهر أنه مريض ونقله إلى دمشق حيث دفن بالقلعة، فاختبط الناس حتى ركب المعظم وسكنّهم ونادى في البلد "ترحموا على السلطان الملك العادل، وادعوا لسلطانكم الملك المعظم أبقاه الله، فبكى الناس واشتد حزنهم لفقده (5) وعلم الملك الكامل بوفاة والده، وهو بالعادلية على محاربة الفرنج فجلس للعزاء ثلاثة أيام، ثم تفرد بالخطبة في ديار مصر وأعمالها واستقل بأمورها، وتدبير أحوالها، وذلك يوم الجمعة السابع من جمادي الآخرة 615هـ/1218م واتخذ الملك الكامل الراية الصفراء وفيه يقول البهاء زهير:
__________
(1) القدس بين أطماع الصليبيين وتفريط الملك الكامل ص 81.
(2) السلوك للمقريزي (1/ 202) القدس بين أطماع الصليبيين ص 82.
(3) مفرج الكروب نقلاً عن القدس بين أطماع الصليبيين ص 82.
(4) النجوم الزاهرة (6/ 236).
(5) السلوك (1/ 226) القدس بين أطماع ص 83.(1/246)
بك اهتزَّ عطف الدين في حُللِ النَّصر ... ورُدَّت على أعقابها ملة الكفر
وأقسم إن ذاقت بنو الأصفر الكَرىَ ... لَمَا حلمت إلا بأعلامكَ الصُّفرِ
ثلاثة أعوام أقمت وأشهراً ... تُجاهد فيهم لا بزيد ولا عمرو
وليلة غزوٍ للعدو كأنها ... بكثرة من أرديته ليلة النَّحر
فيا ليلة قد شّرف الله قدرها ... فلا غَرْوَ إن سميتها ليلة القدر (1)
واتسعت دولة الملك الكامل قبل وفاته، فقال ابن خلكان ولقد قال لي من حضر الخطبة يوم الجمعة، بمكة أنه لما وصل الخطيب إلى الدعاء للملك الكامل قال: سلطان مكة وعبيدها، واليمن وزبيدها، ومصر وصعيدها، والشام وصناديدها والجزيرة ووليدها، سلطان القبلتين، ورب العلامتين وخادم الحرمين الشريفين الملك الكامل أبو العالي ناصر الدين محمد خليل أمير المؤمنين (2)، وكانت مدة حكم الملك الكامل حوالي عشرين سنة، وشبهت الفترة الزمنية لحكم الملك الكامل بحكم معاوية بن أبي سفيان، فإنه تولى الشام عشرين، وحكم البلاد مدة عشرين سنة أخرى وكذلك الملك الكامل حكم مصر عشرين عاماً ومثلها كان نائباً لوالده في مصر (3).
ثانياً: محاولات خلع الملك الكامل: كثرت محاولات خلع الملك الكامل والتمرد عليه بالرغم من شجاعته، وحسن تدبيره، فكثر عنده الشك في مدى إخلاص العملين من القادة والوزراء، فكان كلما شك في إخلاص بعضهم عزلهم وصادر أموالهم (4).
__________
(1) النجوم الزاهرة (6/ 107).
(2) وفيات الأعيان (4/ 175).
(3) مفرج الكروب (5/ 155) القدس بين أطماع الصليبيين ص 84.
(4) القدس بين أطماع الصليبيين ص 84.(1/247)
1 - مؤامرة ابن المشطوب: ظهر ابن المشطوب على ساحة الأحداث السَّياسيَّة، مثل مُعظم أمراء العسكر، بعد وفاة السُّلطان، وبدء الخلافات بين أولاده وعمَّهم العادل على اقتسام التركه، كان الأمير عماد الدين أحمد بن المشطوب قد ورث إقطاع ثلثيْ نابلس، وذلك بعد وفاة والده الأمير سيف الدَّين عليَّ، الذي كان له إقطاع نابلس بكاملها، لكن، بعد وفاته قام السلطان صلاح الدَّين برصد ثُلث إقطاعها لمصالح القدس الشريف، وأقطع الباقي إلى عماد الدين أحمد بن أبي الخليل الهكاري، وبعد وفاة السلطان صلاح الدين كانت نابلس تتبع مملكة الأفضل الذي استقل بدمشق (1) وعندما نزل الفرنج على دمياط لأخذها من أجل السيطرة على مصر، في أواخر الملك العادل ووصلت أثناء وفاة الملك العادل كان ابن المشطوب أحد كبار أمراء العسكر، فاعتقد أن الفرصة قد لاحت له لتحقيق مشروع ربما كان يحلم به من سنوات طويلة، وهو الوصول إلى قمّة السُّلطة في الدولة فعندما بلغه موت العادل عزم على خلع الملك الكامل من السَّلطنة وتولية أخيه الفائز إبراهيم (2)، وكان ابن المشطوب يعتمد على كونه: من أجل الأمراء الأكابر، وله لفيف من الأكراد الهكارية ينقادون إليه ويطيعونه، واتَّفق مع مجموعة من الأمراء (3)، منهم الأمير عز الدين الحميدي، والأمير أسد الدين الهكاري والأمير مجاهد الدين، كذلك أفسد قلوب جماعة من الجُند (4)، وكان عسكر مصر أكثره من الأكراد وابن المشطوب ملكهم (5)،
__________
(1) العلاقات الدولية (1/ 107).
(2) السلوك المقريزي (1/ 314).
(3) المصدر نفسه (1/ 405) العلاقات الدولية (1/ 110).
(4) مفرج الكروب (4/ 16) العلاقات الدولية (1/ 110).
(5) العلاقات (1/ 111) ..(1/248)
فاجتمع مع من وافقه وقال لهم عن الملك الكامل: هذا صبّي خفيف، فلما بلغ الكامل دخل عليهم، فإذا هم مجتمعون وبين أيديهم المصحف وهم يحلفون لأخيه الفائز، فعندما رأوه، تفرَّقوا فخشي على نفَسه منهم، فخرج (1).
أ- مشروع ابن المشطوب:
- فضّل ابن المشطوب سلوك التآمر ليحقَّق هدفه بالوُصول إلى السلطة وبالتأكيد، كان يقدَّر أنه مع شخصية قويّة كالكامل لن يكون إلا واحداً من الأمراء في أحسن الأحوال، لذلك فكرَّ بتبديل السلطان واختار أخاه الفائز لتقديره - أيضا - أنه سيكون أسهل قياداً ومطيَّة مناسبة لحُكم الدولة بواسطته، أو حتىَّ بدونه بعد مُدَّة فهدفه، من العملية هو أن "يصير له التحكم في المملكة" (2).
- اختار ابن المشطوب أسوأ الأوقات بالنسبة للدولة وللأمة، فقد مات السلطان العادل، والفرنج يرابطون بقُوَّات عظيمة أمام دمياط، وبالتأكيد، كقائد عسكري كان يعرف معنى الانقلاب السياسي الذي كان ينوي تنفيذه في مثل تلك الظروف، وانعكاسه على الموقف العسكري، وهذا ما تمَّ فعلاً مع أن المؤامرة قد انكشفت للكامل الذي هرب من المعسكر إلى أشموم طناح، لأنَّه لم يعد يعرف من معه ومن هو ضدَّه من العسكر، فلمَّا أصبح الجيش، ولم يجدوا الملك الكامل، تركوا معسكرهم في العادلية بما فيه، ولحقوا بالكامل، ممَّا مكَّن الفرنج من أخذ المعسكر بما فيه والعبور إلى ضفة دمياط ومحاصرتها من البرد والبحر، ولو تابع الكامل هربه من مصر لكانت بكاملها لقمة سائغة للفرنج (3)
__________
(1) المصدر نفسه (1/ 111).
(2) المصدر نفسه (1/ 111).
(3) العلاقات الدولية (1/ 111).(1/249)
- إن التصُرف غير المتوقع من الكامل، بدُخُوله المفُاجئ على المتآمرين وهم يتعاهدون ويُقسمون، ثم مغادرته المفاجئة للمعسكر، أربك ابن المشطوب وجماعته، وأفشل الخُطة بكاملها ولكن الذي قلب ميزان القوى، ومنع من تجديد محاولة ابن المشطوب مّرة أخرى، هو وصول الملك المعظم إلى أخيه الكامل في معسكره الجديد بإشموم طناح (1) واستطاع الملك المعظم نفيه من مصر - كما مّر معنا - وكان لابن المشطوب صولات وجولات ووقع في يدي بدر الدين لؤلؤ من أمراء الملك الأشرف الذي أرسل الحاجب علي، وهو من أكبر أصحابه، ليطلبه من بدر الدين، ويأتيه به، فسلمَّه إلى الحاجب الذي حمله إلى الأشرف في حرّان، فأمر الأشرف بإلقائه في جُبَّ بقلعة حّران عام 617هـ - 1220م وبقي المشطوب في سجنه الرهيب مدة عامين، حتى توفَّي عام 619هـ/ 1222م (2)، من القمل، والجوع، ومن ضغط القيود عليه (3).
__________
(1) المصدر نفسه (1/ 111).
(2) ذيل الروضتين نقلاً عن العلاقات الدولية (1/ 119).
(3) المصدر نفسه (1/ 1/119).(1/250)
2 - الملك الصالح نجم الدين أيوب: ومؤامرة مزعومة:
ولد نجم الدين أيوب سنة 603هـ/1206م وأمه جارية سوداء تسمى ورد المنى غشيها الملك الكامل فحملت الصالح أيوب، تولى الأخير الشرق ودياربكر وفي عهد والده الملك الكامل لعدة سنوات (1)، وفي عام 625هـ/1228م عهد الملك الكامل إلى ابنه الملك الصالح أيوب بالسلطنة له من بعده بديار مصر، وأركبه بشعار السلطنة (2)، وشق به شوارع القاهرة، وحملت الغاشية بين يديه، ونزل بدار الوزارة وأقام معه الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ ليحصل الأموال، ويدبر أمور الدولة وخرج الملك الكامل في نفس العام في عساكره، ومعه المظفر تقي الدين بن المنصور، والملك الجواد مظفر الدين يونس بن مودود ين الملك العادل في زيارة تفقدية إلى البلاد الشرقية وديار بكر (3)، وعندما عاد الملك الكامل إلى مصر عام 627هـ/1230هـ عزل ابنه الملك الصالح أيوب من ولاية العهد دون أن يتحقق من صحة رواية زوجته في محاولته التمرد على أبيه (4)، وملخص القصة، في عام 627هـ/1230م عاد الملك الكامل إلى الرقة يريد مصر، فوصلته رسالة من زوجته أم العادل تشكو فيها ابنه الملك الصالح نجم الدين أيوب، وتتهمه فيها أنه عزم التوثب على أخذ الملك (5)، وأنه أخذ مالاً جزيلاً من التجار، واستنفد قسماً مما في الخزينة من مال، واشترى جماعة كبيرة من المماليك الأتراك، وألف منهم حرسه الخاص به، وقالت في رسالتها (6) ومتى لم تتدارك البلاد وإلا غلب عليها وأخرجني أنا وابنك العادل منها (7)،
__________
(1) السلوك (1/ 263) العلاقات الدولية (1/ 77).
(2) النجوم الزاهرة (6/ 319).
(3) السلوك (1/ 206) القدس بين أطماع الصليبيين ص 78.
(4) القدس بين أطماع الصليبيين ص 78.
(5) مفرج الكروب (4/ 278) القدس بين أطماع الصليبيين ص 88.
(6) السلوك (1/ 277) القدس بين أطماع الصليبيين ص 89.
(7) القدس بين أطماع الصليبيين ص 89 ..(1/251)
وانزعج الملك الكامل وغضب، غضباً شديد، ومالبث أن وصلته رسالة ثانية من زوجته، وتستعجل فيها عودته، وتقول فيها: بأن إبنه الصالح اشترى ألف مملوك ورتب الملك الكامل أمور البلاد الشرقية وعين الطواشي شمس الدين صواب العادلي نائباً له في أعمال المشرق، وأعطاه إقطاع أمير فارس زيادة على ما بيده من الديار المصرية وتوجه الملك الكامل إلى مصر، فوصلها في رجب عام 627هـ/1230م وتغير على ابنه الملك الصالح تغيراً كثيراً، وقبض على جماعة من أصحابه وسجنهم، وألزمه في إحضار الأموال التي فرط فيها الملك الصالح، ثم خلع ابنه من ولاية العهد (1)، وعهد إلى ابنه الملك العادل، وكان في الحادية عشر من عمره وكان شديد الميل إليه وإلى والدته (2) وفي عام 630هـ/1233م أنعم الملك الكامل على ابنه نجم الدين أيوب بحصن كيفا وسيره إليه ويعتقد أن الكامل أراد أن يبعد ابنه عن مصر ليخلو بذلك الجو له ولولده الملك العادل (3) وفي عام 634هـ/1237م سمح الملك الكامل لابنه نجم الدين باستخدام الخوارزمية في جيشه (4)، فتقوى بهم مما مكنه من الاستيلاء على سنجار ونصيبيين والخابور بعد ذلك وتولى الملك الصالح أيوب عام 637هـ/1240م وبقي ملكاً حوالي تسع سنوات وثمانية شهور، وتوفي عن أربعة وأربعين عاماً، فتولى الحكم بعده ابنه تورانشاه، ثم مملوكته وزوجته شجرة الدر (5).
__________
(1) الخطط (3/ 338) القدس بين أطماع الصليبيين ص 89.
(2) مفرج الكروب نقلاً عن القدس بين أطماع الصليبيين ص 89.
(3) وفيات الأعيان (4/ 178) القدس بين أطماع الصليبيين ص 78.
(4) النجوم الزاهرة (6/ 319) القدس بين أطماع ص 78.
(5) القدس بين أطماع الصليبيين ص 78.(1/252)
3 - تخوف الملك الكامل من الأمراء: كان الملك الكامل كثير الوهم من الأمراء والعاملين معه، ففي عام 622هـ/1225م تخوف من أمرائه لميلهم إلى أخيه الملك المعظم صاحب دمشق وقبض على جماعة منهم، من أمرائه لميلهم إلى أخيه الملك المعظم صاحب دمشق، وقبض على جماعة منهم، وأرسل إلى الطرقات من يحفظها (1) وفي عام 623هـ/1226م كثر وهم الملك الكامل من عسكره إذ أرسل الملك المعظم إليه في جملة الكلام (2)، وإن قصدتني لا آخذك إلا بعسكرك، فوقع الخوف في نفس الملك الكامل ممن معه، ولم يجسر الخروج من مصر وفي عام 624هـ/1227م أراد الملك الكامل أن يقصد دمشق لدى سماعه أن الملك المعظم قطع الخطبة له، فبعث إليه المعظم رسالة يقول فيها (3): إني نذرت لله تعالى أن كل مرحلة ترحلها لقصدي أتصدق بألف دينار، فإن جميع عسكرك معي وكتبهم عندي، وأنا آخذك بعسكرك، عاد الملك الكامل إلى قلعة الجبل وقبض على عدة أمراء، ومماليك أبيه لمكاتبتهم الملك المعظم، منهم (4)، فخر الدين الطنبا الخبيشي، وفخر الدين الطن الصوفي، وكان جانداره، وقبض أيضاً على عشرة أمراء من البحرية العادلية، وأعتقلهم، وأخذ سائر موجودهم، وأنفق في العسكر ليسير إلى دمشق وفي عام 630هـ/1233م قبض على جماعة من الأمراء المصرية شك في إخلاصهم له (5)، وقبض الملك الكامل على كثير من الأمراء والموظفين الذين شك في إخلاصهم كأولاد الصاحب صفي الدين بن شكر، تاج الدين يوسف وعز الدين محمد (6).
__________
(1) السلوك (1/ 252) القدس بين أطماع الصليبيين ص 89.
(2) القدس بين أطماع الصليبيين ص 89.
(3) السلوك (1/ 290) القدس بين أطماع الصليبيين ص 90.
(4) القدس بين أطماع الصليبيين ص 90.
(5) المصدر نفسه ص 90.
(6) القدس بين أطماع الصليبيين ص 90.(1/253)
ثانياً: سياسة الملك الكامل الإدارية والأمنية والقضائية:
1 - الإدارية: كان الملك الكامل يتمتع بجميع السلطات، إذ كان يشرف على جميع شؤون الدولة الداخلية، والخارجية ويرسم سياستها، فهو الذي يعين ويعزل ولي العهد (1)، ونائب الملك والوزير وأمراء الجيش والقضاة، ونظار الدواوين، وكبار الموظفين ويعقد المعاهدات ويعلن الحرب، وكان يساعده عدد من القادة، والوزير، ونواب الولايات والولاة وكان يساعد الملك الكامل نائب له في كل ولاية، وكان النائب يقوم مقام الملك في شؤون ولايته كافة، فهو النائب، وقائد الجيش، وينفذ القوانين، ويوقع المراسيم (2)، وحافظ الملك الكامل على التقسيمات الإدارية التي كانت سائدة في عهد والده العادل، فكان والي القاهرة هلال الدولة وشاب بن رزين 605هـ/1208م، وكان الأمير فخر الدين بن علي إسماعيل بن كهذا والياً على الإسكندرية ت 610هـ/1213م (3).
__________
(1) المصدر نفسه ص 98.
(2) المصدر نفسه ص 98.
(3) السلوك (1/ 301) القدس بين أطماع الصليبيين ص 100.(1/254)
2 - توفير الأمن الداخلي: حرص الملك الكامل على توفير الأمن الداخلي في البلاد، وأقام في كل طريق خضراء (حراسا) للمحافظة على سلامة المسافرين، وضرب على أيدي اللصوص بيد من حديد فأطمأن الناس في سفرهم، ولاسيما أثناء أدائهم فريضة الحج، ونقل تجارتهم وقد عرف الملك الكامل بأنه كان "حازماً سديد الرأي حسن التدبير (1) "، وبلغ من مهابته أن الشخص كان يمر بالذهب الكثير، والأحمال من الثياب والقماش في الرمل دون خوف من قاطع طريق أو سراق وحدث أن سُرق بساط من مسافر على الطريق بين القاهرة والإسكندرية فأحضر الملك الكامل العربان الذين يحرسون الطريق وألزمهم إحضار السارق والبساط، فبذلوا له عوضه مالاً كثيراً ولكنه لم يقبل، وأصر على إحضار السارق وهددهم إذا لم يفعلوا ذلك بأن يودعهم السجن، ويصادر أموالهم، فاضطروا إلى إحضار اللص، وعندما ثار بعض العربان بنواحي أرض مصر، وكثر خلافهم واشتد ضررهم، وقف الكامل لهم وعاقبهم (2)، وكان يتدخل أحياناً في اختيار شيوخ العربان حرصاً على ضمان ولائهم للدولة، فعندما مات حسام الدين مانع بن حديه أمير العربان من آل فضل (3)، عام 630هـ/1233م عين ابنه مكانه (4)،
__________
(1) النجوم الزاهرة (6/ 227).
(2) الخطط (3/ 353) القدس بين أطماع الصليبيين ص 101.
(3) القدس بين أطماع الصليبيين ص 101.
(4) صبح الأعشى (1/ 324) القدس بين أطماع ص 101 ..(1/255)
وتحفظ الملك الكامل عن بعض أفراد طائفة الإسماعيلة، ولاسيما عن أبناء الخليفة الفاطمي العاضد، وحصر نشاطهم، فعندما توفي الأمير داود بن العاضد استأذن بعض عناصر الطائفة لندب الأمير المتوفي والنواح عليه، أذن الكامل لهم، فخرجت النساء حاسرات الرأس في ثياب الصوف، وأخذن ندبه والنياحة عليه، واجتمع دعاة الإسماعيلية في السر، فلما تكامل عددهم وجمعهم، أرسل الملك الكامل إليهم مجموعة من الجند قبضوا على المشهورين منهم، وصادروا أموالهم (1)، ففر من بقي، ولم يجسر أحد بعدها على أن يتظاهر بمذهب الإسماعيلية الباطنة الرافضية.
__________
(1) مفرج الكروب (5/ 157) المصدر نفسه ص 101.(1/256)
وكان الملك الكامل يتفقد المدن والثغور بين الحين والآخر ليطمئن على أحوال الرعية، ففي عام 628هـ/1231م اتجه إلى الإسكندرية وتفقدها واصطحب معه صاحب الجزيرة الذي كان في زيارة لمصر بعدما أنعم عليه أنعاماً كثيرة وكان الملك الكامل يتقبل شكاوي الناس وينصف المظلوم أثناء جولاته المختلفة على التجمعات السكانية (1) وكان المذنبون يعاقبون بقسوة تتناسب وما اقترفوه من ذنوب، فكان المذنب يطاف به في المدينة وهو راكب بالعكس على حمار، وأمامه من ينادي بما اقترف لتعريف الناس بذنبه وللتشهير به وكان يُحكم على المجرمين المحترفين بالسجن مدداً متفاوته طبقاً لذنوبهم وأعمالهم وفي عام 627هـ/1230م عاد الملك الكامل إلى القاهرة، وأعاد إلى التجار ما اغتصبه ابنه الملك الصالح من أموال (2) وأقام الملك الكامل سجناً بجوار باب زويلة، أطلق عليه خزانة شمائل نسبة إلى اسم والي القاهرة علم الدين شمائل (3)، الذي اشتهر أثناء حصار دمياط عام 615هـ/1228م وكان يحبس فيها قطاع الطرق، وأصحاب الجرائم العظيمة ومن يحكم عليه بالإعدام وكانت هذه الخزانة من أسوأ السجون في مصر لشمولها أصحاب الجرائم الكبيرة، إذ كانوا يعاقبون ويضيق عليهم، واستمرت هذه الخزانة قائمة إلى أن هدمها الملك المؤيد شيخ الجودي عام 818هـ/1415م (4) وبني مدرسته مكانها (5).
__________
(1) القدس بين أطماع الصليبيين ص 101.
(2) الأيوبيون، الباز العريني ص 128.
(3) الخطط (2/ 234) القدس بين أطماع الصليبيين ص 102.
(4) المصدر نفسه (2/ 188) المصدر نفسه ص 103.
(5) القدس بين أطماع الصليبيين ص 103.(1/257)
3 - القضاء: واهتم الملك الكامل بالقضاء، وقد اعتمدت أصول المحاكمات، والقضاء على التشريع الإسلامي في عهده واشتهر معظم القضاة بالنزاهة والعدل، فلم يقبل قاضي قضاة مصر، محمد بن عين الدولة ت 629هـ/1231م شهادة الملك الكامل في إحدى القضايا وقال له: أنت تحكم ولا تشهد (1)
4 - وقف الفساد في الدواوين: كان الملك الكامل يتابع الدواوين لوقف الفساد فيها، ومنع الرشوة، والسرقة، حفاظاً على جودة عطاء الدواوين وسيرها، فقد طلب من النابلسي أن يتولى النظارة على الدواوين فرفض الأخير، بحجة عدم درايته بالعمل وقال: متى علم المستخدمون في البلاد بأنه قد ولي عليهم جاهل بالديوان اتفقوا على المستوفين بالباب ونهبوا الأموال .. فأعفاه الملك الكامل معجباً بإخلاصه وأمانته (2)، وقد كشف الملك الكامل ألاعيب موظفي ديوان الأهراء من رشوة وسرقة وإهمال، فقبض على صاحب الديوان الغربي، إذ كان به 11 ألف أردب من القمح والفول، فطلب ديوان الأهراء خمسين ألف أردباً، فتبين أنه لا يوجد شيء مما جلب لهذا الديوان، فأمر الملك الكامل أن يؤخذ من حاصل غلاته التي في القلعة لسد النقض، كذلك أمر بالقبض على صاحب الديوان (3)، الظهير الطمبذاوي وعماله وأصدر عقوبة بحقهم، تمثلت بوضعهم في أقفاص، والطواف بهم في القاهرة على أن يعادوا إلى السجن في آخر النهار (4).
__________
(1) شذرات الذهب نقلاً عن القدس بين أطماع الصليبيين ص 103.
(2) لمع القوانين للنابلسي (1/ 62) القدس بين أطماع ص 104.
(3) المصدر نفسه (1/ 62) المصدر نفسه ص 104.
(4) القدس بين أطماع الصليبيين وتفريط الكامل ص 104.(1/258)
واصل الملك الكامل مراقبة الدواوين والعناية بها، فعين عام 628هـ/1230م معين الدين بن شيخ الشيوخ صدر الدين في خدمته فكان يقرأ عليه الدواوين فيقول: هذا الديوان يضاف إلى ديوان كذا، وبذلك تمكن من ترتيب الدواوين (1) وعقد الملك الكامل اجتماعاً عام 630هـ/1232م بحضرة النابلسي وعدد كبير من كبار موظفي الدولة لترتيب الدواوين بعد ما تبين له أن بعض الكتب المتعلقة بالدواوين تصل إليه بخط غير مقروء، وأن هناك بعض السرقات والرشاوي، والإهمال في بعض هذه الدواوين (2).
__________
(1) المصدر نفسه ص 104.
(2) المصدر نفسه ص 104.(1/259)
5 - معالجة الأزمة في الكنيسة القبطية: توخى الملك الكامل رعاية مصالح أهل الذمة وتابع مشاكلهم وعاملهم معاملة جيدة وحاول حل الأزمة التي تعرضت لها الكنيسة القبطية عندما خلا مركز البطركية، إثر وفاة بطريك اليعاقبة شوروس بن أبي غالب عام 612هـ/1215م (1)، الذي اشتهر بآمانته، وصدقاته وحرصه على مصلحة طائفته، وكان قد وزع أمواله على الفقراء وأبطل الديارية (2)، ومنع الشرطونية (3)، ولم يأكل في ولايته كلها لأحد من النصارى خبزاً ولا قبل هدية وكان القس داود بن يوحنا ملازماً للشيخ ينشيء الخلافة أبي الفتوح بن الميقاط كاتب الجيوش العادلية، فلما مات ابن شوروس سأل أبو الفتوح الملك العادل أن يولي القس داود البطركية، فأجابه وكتب له توقيعاً بذلك دون أن يعلم الملك الكامل (4) ولم يعجب بعض النصارى ولاية داود وقام الأسعد ابن صدقة كاتب دار التفاح (5)
__________
(1) السلوك (1/ 218) القدس بين أطماع الصليبيين ص 105.
(2) الديارية: ضريبة تدفع لرئيس الدير، الخطط (2/ 501).
(3) الشرطونية: ما يدفعه للكنيسة عند ترسميه.
(4) السلوك (1/ 219) القدس بين أطماع الصليبيين ص 105.
(5) فندق تجاه باب زويله الخطط للمقريزي القدس بين أطماع ص 105 ..(1/260)
بمصر وجمع كثيراً من النصارى واتجه الجميع إلى قلعة الجبل واستغاثوا بالملك الكامل وقالوا "أن هذا الذي يريد أبو الفتوح بعمله بطريكا بغير أمرك ما يصلح، ونحن في شريعتنا لا يقدم البطرك إلا بإتفاق الجمهور عليه وركب الملك الكامل في اليوم التالي إلى أبيه العادل، وعرفه أن النصارى لم يتفقوا على بطركية داود ولا يجوز عندهم تقدمه إلا باتفاق جمهورهم، فأحضر الملك الكامل الأساقفة، ولم تحقق من الأمر، أوقف تعيين داود بطريكاً، وخلا الكرسي من بطريك تسع عشرة سنة ومائة وستين يوماً وفي عام 633هـ/1235م بارك الملك الكامل تعيين داود بن يوحنا انبا ولقب كيرلس الثالث - على الإسكندرية لليعاقبة فأقام في البطركية سبع سنين وتسعة أشهر وعشرة أيام، وكان عالماً محباً للرياسة وجمع المال، وكان الراهب عماد في دير مرشار لوادي النطرون قد دعم داود للوصول إلى البطركية، وشرط عليه إلا يقدم اسقفاً إلا برأيه، فلم يف البطريك داود بوعده، ولا التفت إليه بعد توليه البطركية (1).
ثالثاً: سياسة الملك الكامل الاقتصادية والمالية: كان الوضع الاقتصادي في مصر والشام والجزيرة الفراتية في عهد الملك الكامل امتداداً طبيعياً للفترة السابقة إلى حد ما، مع بعض التغيرات التي أحدثها الملك الكامل بسبب الظروف التي تعرضت لها البلاد ولاسيما انحباس الأمطار أحياناً وانخفاض مياه النيل في بعض السنوات، أو بسبب الحروب التي شنها الصليبيون والخوازميون والسلاجقة الروم (2).
__________
(1) القدس بين أطماع الصليبيين ص 105، 106.
(2) المصدر نفسه ص 106.(1/261)
1 - الزراعة: وكانت الزراعة تشكل نسبة كبيرة من دخل مصر والشام والجزيرة وقد تعرضت هذه البلاد إلى عدة أزمات زراعية في عهد الملك العادل وانبه الملك الكامل ولقد غز الجراد مصر والشام مرات عديدة منها عام 620هـ/1223م وعام 626هـ/1229م، فأكل الزرع وقل الإنتاج وانتشر الغلاء، وازداد الفقر، والأمراض (1) وارتبطت الزراعة بالمياه، فكلما ازداد سقوط الأمطار في بلاد الشام ازداد الإنتاج، وكذلك كلما ازدادت مياه النيل، انتعشت الزراعة، ولكنها كانت تنتكس إذا انحبست الأمطار أو قلت مياه نهر النيل وتغير طعم الماء فيه، وقلت الأقوات بمصر وتزايدت الأسعار واستمر هذا الحال ثلاث سنوات متوالية، فلم تمد المياه نهر النيل إلا مداً يسيراً، فتزايدت الأسعار وانتشر الغلاء وعظم البلاء وفتكت الأمراض بالناس (2)، وانتشر الجوع حتى أكل الناس بعضهم، بل أكلوا الأموات (3) وتكرر نقصان مياه النيل عام 618هـ/1221م، 622هـ/1225م، 626هـ/1229م ودام ذلك إلى سنة 628هـ/1230م فأدى إلى غلاء مصر (4) وعالج الملك الكامل أزمة الزراعة ومنع قطع الأشجار وكلف المسؤولين في الديوان بعملية مسح جميع بساتين مصر والجزيرة وسجلها في الديوان كي يعرف مقدار ما قطع من الأشجار، وأماكن قطعها وشجع زيادة الإنتاج الزراعي وزراعة النخيل ووضع تسعيرة حدد فيها سعر بيع المحاصيل الزراعية (5)
__________
(1) النجوم الزاهرة (6/ 253) القدس بين أطماع ص 108.
(2) مفرج الكروب (3/ 221) القدس بين أطماع الصليبيين ص 109.
(3) القدس بين أطماع الصليبيين ص 109.
(4) البداية والنهاية نقلاً عن القدس بين أطماع الصليبيين ص 109.
(5) القدس بين أطماع الصليبيين ص 109 ..(1/262)
وحاول الملك الكامل حفر قنوات للري وزيادة الأراضي الزراعية ففي عام 628هـ/1230م شرع في حفر قناة للري بين المقياس وبر مصر حرصاً على استمرار تدفق المياه بغزارة وافتتح بنفسه هذا العمل، ثم قسم حفر هذه القناة على الدور بالقاهرة والروضة بالتساوي (1)، وكان الملك الكامل يخرج بنفسه عندما تبدأ زيادة مياه النيل، فيكشف الجسور، ويرتب في كل جسر عدداً من الأمراء ممن يتولاه ويجمع الرجال لعمله، ثم يتفقد العمل في الجسور بين الحين والآخر، فمتى اختل جسر عاقب متوليه أشد العقاب (2)، وبهذا عمرت أرض مصر في أيامه عمارة زائدة (3) وقد حرص الكامل على الحد من ارتفاع الأسعار والغلاء ولاشك أن اهتمام الملك بغرس الأشجار، وشق القنوات للري، ومراقبة الجسور يظهر اهتمامه بتحسين الإنتاج الزراعي، وتوفير الأمن الغذائي (4).
__________
(1) السلوك (1/ 281) القدس بين أطماع الصليبيين ص 110.
(2) الخطط (1/ 345) القدس بين أطماع الصليبيين ص 110.
(3) القدس بين أطماع الصليبيين ص 110.
(4) المصدر نفسه ص 110.(1/263)
2 - الصناعة: ازدهرت الصناعة أثناء حكم الملك الكامل، فكانت منظمة، وفي بيوت خاصة، ولاسيما دور الطراز التي كانت تابعة للدولة وكان لها ديوان، خاص، يشرف عليه ناظر، وموظفون وعمال يوفرون المواد الصناعية (1)، وقد اعتمدت الصناعة على المنتجات الزراعية، فتحسنت صناعة المنسوجات لتوفر القطن، والكتان وصوف الغنم، ووبر الجمال واشتهرت مدينة دمياط بصناعة الثياب البيض، فيما اشتهرت مدينة تنيس بصناعة الثياب الملونة (2)، والثياب المطرزة بالذهب، واشتهرت بها بحياكية الأقمشة الصوفية (3)، أما أسيوط فاهتمت بحياكة البسط، والكتاب لصناعة الحبال وازدهرت صناعة السكر في مصر وكذلك صناعة الزجاج، والفخار، وتميزت الصناعات الزجاجية بالدقة والشفافية وبهاء المظهر، ولاسيما المطلية بالميناء، وانتشرت صناعة الزيوت والصابون، والدباغة، والورق، والزيت الحار المستخرج من اللفت (4) وتميزت مصر بالصناعات المعدنية البديعة، كالنحاسيات، والسيوف، والخناجر، والسهام، والسفن وكان عصر الملك الكامل غنياً بالتحف المعدنية وما زال بعضها معروضاً في بعض متاحف العالم (5)، منها تحفتان نحاسيتان تحملان اسم الملك الكامل، صنعتا عام 635هـ/1237م موجودتان في المتحف الإسلامي بالقاهرة، وعثر على أسطرلاب مصنوع من النحاس، ومزين بزخارف منزلة بالفضة تمثل عناصر نباتية، وصور حيوانية وآدمية (6)، وعثر على شمعدان نحاسي محلى بالفضة زين بزخارف بديعة من الأشكال صنع عام 622هـ/1225م (7).
__________
(1) قوانين الدواوين لابن مماني ص 330 القدس بين أطماع ص 110.
(2) القدس بين أطماع الصليبيين ص 111.
(3) السلوك (1/ 77) القدس بين أطماع الصليبيين ص 111.
(4) القدس بين أطماع الصليبيين ص 111.
(5) الفن الإسلامي في العصر الأيوبي ص 71.
(6) المصدر نفسه ص 71 القدس بين أطماع الصليبيين ص 111.
(7) القدس بين أطماع الصليبيين ص 111.(1/264)
وقد ظهر النشاط الزراعي والصناعي في التجارة الداخلية، فنشطت التجارة بين القرى والمدن، وأقيمت الأسواق في أيام محدودة كسوق الجمعة لبيع المواشي في معظم مدن مصر، وتميزت بعض المدن بإحدى الصناعات، فأقبل الناس على شراء هذه المواد فكانت مدينة تونة تقوم بصناعة كسوة الكعبة، وكان الصعيد المصري يصدر الكتان إلى معظم المدن لصناعة الحبال (1).
__________
(1) المختصر (3/ 132) القدس بين أطماع الصليبيين ص 112.(1/265)
3 - إصلاح النظام النقدي: كانت العملة السائدة في مصر والشام والجزيرة في العهد العباسي الدينار الذهبي والدرهم الفضي، وعندما، تولى الفاطميون الحكم ضرب جوهر الصقلي الدينار (1) المعزي (نسبة إلى خليفة الفاطمي المعز لدين الله) من الذهب الخالص وفي أثناء الحروب الصليبية تداول السكان العملة العربية البيزنطية وهي عملة ذهبية ذات نقوش عربية، عليها بعض الآيات القرآنية بالإضافة إلى التاريخ الهجري، وكان الصليبيون يسكونها في مدينة عكا (2)، تشجيعاً للمسلمين على تداولها وعندما جاء صلاح الدين أبطل النقود السائدة في مصر والشام (3)، وضرب الدينار الذهبي المصري، كذلك ضرب الدراهم الناصرية الفضية، وكتب عليها اسم الخليفة العباسي المستضيء بأمر الله والسلطان العادل نور الدين محمود زنكي الوجه الآخر (4) وبقيت النقود التي سكها صلاح الدين متداولة في الدولة الأيوبية من بعده مع تغير اسم الملك الأيوبي، إلى أن تولى الملك الكامل حكم مصر إذ اعتبرت فترة حكمه بداية عصر جديد للنظام المالي في مصر، وذلك للعناية الفائقة التي أولاها للدينار والدرهم إذ حافظ على نقاء الذهب (5) في الدينار الذي ضرب عام 616هـ/1219 (6).
__________
(1) شذور العقود للمقريزي ص 78 القدس بين أطماع ص 112.
(2) القدس بين أطماع الصليبيين وتفريط الملك الكامل ص 112.
(3) المصدر نفسه ص 112.
(4) المصدر نفسه ص 113.
(5) دراسات في التاريخ والنظم الإسلامية ص 189.
(6) القدس بين أطماع الصليبيين وتفريط الملك الكامل ص 113.(1/266)
وقد حاول الملك الكامل إضفاء نوع من الاستقرار على العملة، فعندما انتهت الحملة الصليبية الخامسة بالصلح بين المسلمين والصليبيين، استقرت الأوضاع الاقتصادية، وسرعان ما ازدهرت العلاقات التجارية مع أوروبا، بعد صلح يافا الذي عقد بين الملك الكامل والإمبراطور فردريك الثاني، فتدفق الذهب إلى مصر، إذ جلبه التجار الأوروبيون لاستخدامه لأغراض التجارة، فإزدادت شهرة الدينار الكاملي، وازدادت الثقة به، وانتشر استخدامه خارج مصر، ومما يؤكد ذلك أن العملات المسكوكة في مكة كانت تضرب في مصر، ولها نقش عبارة الدينار الكاملي (1)، وتحت رقابة دار السكة الكاملية (2).
__________
(1) المصدر نفسه ص 114.
(2) المصدر نفسه ص 114.(1/267)
وفي عام 630هـ/1233م ازداد عرض النقود مما ادى إلى انخفاض قيمتها، فأصبح الناس يتحفظون عن تداولها ووصل النظام النقدي إلى درجة الإنهيار، ولذلك أمر الملك الكامل الناس بتسليم ما بحوزتهم من الفلوس النحاسية إلى الصيارفة، فخسر الناس كميات كبيرة من ثرواتهم، ولا شّك أن التباين في النقود التي تداولها الناس في مصر يُظهر لنا أثر الظروف السياسية والاقتصادية التي رافقت حكم الملك الكامل في سياسة النقود، فقد حاول من خلال سكّه لهذه النقود بما فيها الدينار والدرهم والفلوس توفير الأموال للدولة، إلا أن هذه النقود، باختلاف قيمتها أثرت بشكل سلبي في المستوى المعاشي، والقوة الشرائية للناس الذين كانوا يرغبون ببقاء المستوى العام للأسعار ثابتاً، من أجل إبقاء المستوى المعاشي على ما هو عليه، أو بعبارة أخرى منع تدهوره، فالعلامة عكسية بين النقود والقوة الشرائية، غير أن الملك الكامل أراد من هذا التلاعب بقيمة النقود، وإطلاقها بين فينة وأخرى بأسعار مختلفة إبقاء خزينة الدولة مملؤة بالأموال، لم يخزنها لصالحه وإنما لصرفها في أوجه مختلفة، وذلك لمعرفته أن هذه الأموال لها أثر كبير في تحديد متطلبات الحروب المستمرة التي كان يخوضها، لقد كانت ظروف الحرب تقتضي توفير هذه الأموال، وكان للكوارث الطبيعية التي تعرضت لها البلاد في السنوات التي سبقت حكمه أثر كبير في جعله يحاول التغلب عليها بتوفير المواد الغذائية وتحديد أسعارها، فضلاً عن صرفها لإقامة الإنجازات المعمارية، التي أعطت الدولة الأيوبية تراثاً كبيراً ما زالت آثاره قائمة إلى الوقت الحاضر وقد أسهم بهذه الأموال في مساعدة الخلافة العباسية، بإعطاء 200ألف دينار للإنفاق على الجيش الذي أرسله لمساعدة الخليفة لمقاومة المغول، فيما كان الملك الكامل نفسه يعاني أحوالاً صعبة، بعد أن تجدد خلافه مع الملوك الأيوبيين، ولاسيما بعد وفاة الملك الأشرف سنة 635هـ/1237م (1)
__________
(1) القدس بين أطماع الصليبيين وتفريط الملك الكامل ص 115.(1/268)
وقد اهتم الملك بديوان المال وعين فيه موظفين امتازوا بحسن الإدارة والفضيلة يميزون بين الحلال والحرام، ويقومون بعمل سجلات منظمة ودقيقة ولاسيما للإنتاج الزراعي والثروة الحيوانية (1).
رابعاً: ثقافة الملك العادل وسياسته التعليمية:
اهتم الملك العادل بتثقيف أولاده، بوصف الثقافة من الأمور الضرورية لتوسيع المدارك والآفاق، لمواكبة روح العصر الذي كانوا يعيشون فيه، فقد درس الملك المعظم عيسى صاحب دمشق الفقه الحنفي في دقة وعناية (2)، فيما اهتم الملك الكامل بنواحي الحياة الثقافية المختلفة وكان اهتمامه منصباً بشكل واضح على النواحي الدينية والأدبية، بالإضافة إلى العلوم العقلية، ودرس الملك الكامل القرآن الكريم والحديث النبوي والفقه، وكان متمسكاً بالسنة النبوية، حسن الاعتقاد يميل إلى الصوفية، محباً للحديث وأهله، معظماً للسنة النبوية وأهلها، راغباً في نشرها والتمسك بها، حريصاً على حفظها ونقلها (3) وكان ملازماً لعلماء الحديث، فقد أكثر من سماع الحديث، ولاسيما عن فخر الدين ابن الشيوخ وإخوته الذين كانوا من أكابر دولته، والذين حازوا على فضيلة السيف والقلم، يباشر أحدهم التدريس، ويتقدم على الجيش (4)، وكان من نتائج اهتمامه بالحديث، وسماعه له أن توافرت لديه إمكانية روايته، فقد أجاز له مفتي الإسكندرية ومقرءوها، أبو القاسم الصفراوي ت 636هـ/1238م رواية الحديث، وخرج له أربعين حديثاً (5)، وسمعها جماعة، وأجاز له العلامة النحوي عبد الله بن بري ت 584هـ/1188م (6)
__________
(1) المصدر نفسه ص 116.
(2) المختصر (3/ 138) القدس بين أطماع الصليبيين ص 63.
(3) النجوم (6/ 230) القدس بين أطماع الصليبيين ص 63.
(4) القدس بين أطماع الصليبيين وتفريط الملك العادل ص 63.
(5) السلوك (1/ 114) القدس بين أطماع الصليبيين ص 63.
(6) القدس بين أطماع الصليبيين ص 63 ..(1/269)
وأبو عبد الله بن صدقة الحراني ت 584هـ/1188م (1)، كما استطاع الملك الكامل أن يعلق على صحيح مسلم بكلام مليح (2)، وقد نال الملك الكامل مكانة كبيرة عند الفقهاء، فقد امتدحه الفقيه إبراهيم بن حضر برهان الدين المعروف بابن الفقيه بقصيدة مطلعها:
إليك وإلا دُلنّي كيف نصنع ... وفيك وإلاّ فالثناء مُضّيعُ
ومنك استفدنا كل مجد وسنودِدِ ... وعنك أحاديثُ الحُكَامِ نسمع
__________
(1) المصدر نفسه ص 63.
(2) المصدر نفسه ص 63.(1/270)
ولم يقتصر اهتمام الملك الكامل على رواية الحديث وإنما جاوزها إلى مناقشة العلماء في البدع التي تظهر في البلاد فينطل بعضها وينتشر وكان اهتمامه بالعقيدة شديداً، حتى أنه سافر إلى دمشق لحل الخلاف الذي حدث بين أصحاب المذهب الشافعي، والحنابلة، وتقدم عنده المحدث أبو الخطاب بن دحية، وبنى له دار الحديث الكاملية بالقاهرة وكان يكره المشتغلين بالمنطق وعلوم الأوائل (1) وأولى الملك الكامل الأدب اهتماماً كبيراً وشغف به، وكان يعتقد مجالس للمناقشة يجمع النحاة وغيرهم، ويمتحنهم "فمن أجاب منهم بجواب صحيح حظي عنده وقّربه (2)، وكان اهتمام الملك الكامل بالنحو كبيراً، لأنه مادة أساسية من مواد الثقافة فضلاً عن اشتراك المثقفين في المناظرة ضروري إذ يعدونه وسيلة لدراسة العلوم الشرعية (3)، ومن المسائل الطريفة التي حصلت للملك الكامل في النحو ما حدث في دمشق حين استحضر جماعة من العلماء وكان فيهم الشيخ زين الدين بن معطي النحوي وسألهم عن قولهم "زيد ذهب به" هل يجوز في زيد النصب فقالوا: لا يجوز إلا الرفع، فقال زين الدين يجوز النصب، فاستحسن الملك الكامل جوابه، وطلب منه مرافقته إلى مصر، وقرر له معلوماً "جيداً" (4) وقد صنف أبو الحزم مكي عبد الملك ابن حمدان العروض وغيرها للملك الكامل عندما رأى اهتمامه باللغة العربية (5).
__________
(1) القدس بين أطماع الصليبيين ص 64.
(2) مفرج الكروب (5/ 158) القدس بين أطماع الصليبيين ص 64.
(3) الحياة العقلية في عصر الحروب الصليبية بمصر والشام ص 198.
(4) مفرج الكروب (5/ 158) القدس بين أطماع الصليبيين ص 65.
(5) القدس بين أطماع الصليبيين ص 65.(1/271)
وقد اهتم الملك الكامل بتطوير التعليم في عهده، إذ كان حريصاً على نشر العلم والأخذ بأسباب الحضارة، فشيد دار الحديث عام 621هـ/1224 (1)، ووقف عليها وكانت أشبه بالجامعة إذ كانت تدرس فيها علوم المذاهب الأربعة، كذلك أسست المدرسة المهذبية لتدريس الطب في القاهرة عام 620هم1223م وقد بناها الطبيب مهذب الدين أبو سعيد بن أبي الوحش، وكان مدرساً في البيمارستان المنصوري، ورئيس الأطباء في عهد الملك الكامل، ولم يقتصر التعليم على المدارس، بل شمل الزوايا والربط والخوانق، وكتاب الأطفال، وكانت المدارس مفتوحة لجميع، الطلاب دون تمييز، كما كانت الحلقات الدراسية عديدة في المساجد، وانتشرت في عهد الملك الكامل المكتبات العامة الملحقة بالمدارس والمساجد والمكتبات الخاصة، فكان في مكتبة القاضي الفاضل 68 ألف مجلد (2) واستمر الإقبال على التعليم وكان لإهتمام الملك الكامل بنشر العلم أن حافظت الثقافة على انتعاشها، وبرز عدد من الأدباء والعلماء والأطباء، كالفقيه جمال الدين بن شاش المصري ت 616هـ/1219م، وكان مدرساً في الصلاحية، وصنف كتاب الجواهر الثمينة في مذهب أهل المدينة (3) والفقيه ابن ظافر الأزدي الإسكندراني علي بن ظافر بن حسين ت 623هـ/1226م، وقد برع بالأدب والتاريخ ودرس بمالكية مصر، وصنف التشبيهات، أخبار الشجعان، أخبار السلجوقية، أساس السياسة (4)، وزين يحيي بن المعطي بن عبد النور ت 628هـ/1231م، عالم في النحو؛ شاعر، له منظومة نحوية في 1021 بيتاً سماها الدرة الألفية وقد شهد الملك الكامل جنازته (5)،
__________
(1) مساجد القاهرة ومدارسها (2/ 67) القدس بني أطماع الصليبيين ص 117.
(2) التربية الإسلامية، أحمد شلبي ص 98.
(3) وفيات ابن خلكان (1/ 215) القدس بين أطماع ص 117.
(4) النجوم الزاهرة (6/ 314) القدس بين أطماع ص 118.
(5) القدس بين أطماع الصليبيين ص 118 ..(1/272)
وبرز ابن الصفراوي، جمال الدين أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد المجيد بن إسماعيل بن عثمان الإسكندراني بعلم القراءات والفقه، وسمع الحديث عن السلفي، وانتهت إليه رئاسة الإقراء والفتوى بالإسكندرية وتوفي عن 92 سنة 636هـ/1238م (1) وتميز القاضي الأشرف أبو العباس أحمد بن القاضي الفاضل بالحديث سمع من فاطمة بنت سعد الخير والقاسم بن عساكر، وحصل له في الكهولة غرام زائد بطلب الحديث، فسمع الكثير وكتب واستنسخ وكان رئيساً نبيلاً، وافر الجلالة، استوزره الملك العادل، فلما مات عرض عليه الملك الكامل الوزارة فلم يقبل، وتوفي عام 643هـ/1245م (2)، واشتهر ابن الفارض شرف الدين أبو حفص عمر بن الحسن بشعره، فكان سيد شعراء عصره على الإطلاق وهو القائل:
وحياة أشواقي إليك ... وحرمة الصبر الجميل
لا أبصرتْ عيني سواكَ ... ولا صبوت إلى خليل
ومن قصائده المشهورة منها هذه الآبيات:
سائق الأظعانِ يطوِى البيدَطىّْ ... مُنعِماً عرَّج على كُثبان طيّ
وبذات الشَّيح عنَّى إن مررت ... بحىَّ من عُرين الجزع حيّ
وتَلَطَّف واجر ذِكرى عندهم ... علّهم أن ينظروا عطفاً إلي (3)
ومن شعره:
خلص الهوى لك واصطفتك مودّتي ... إني أغارُ عليك من مَلِكَيْكَا
ولو استطعتُ منعتُ لفظك غيرةً ... إني أراه مُقبَّلاً شَفَتَيْكا
وأراك تخُطُر في شمائلك التي ... هي فتنة فأغار منك عليكا (4)
ومن شعره في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أرى كل مدْح في البني مُقَصَّراً ... وإن بالغ المثُني عليه وكثَّرا
إذا الله أثنى بالذي هو أهله ... عليه فما مقدار ما يمدح الورى (5)
ويقال: إنه لما نظم قوله:
وعلى تَفَنُّنِ واصفيه وبُحسنه ... يفنى الزمان وفيه مالم يُوصَفِ (6)
__________
(1) القدس بين أطماع ص 118.
(2) شذرات الذهب (7/ 378).
(3) النجوم الزاهرة (6/ 288).
(4) شذرات الذهب (7/ 267).
(5) المصدر نفسه (7/ 267).
(6) المصدر نفسه) (7/ 268).(1/273)
وقال بن خلَّكان: أخبرني عنه بعض أصحابه أنه ترنم يوماً فقال: بيت الحريري صاحب المقامات وهو:
من ذا الذي ما ساء قط ... ومن له الحسن فقط
قال: نسمع صوتا ... وقد أنشد:
محمد الهادي الذي ... عليه جبريل هبط (1)
جاء بن الفارض من حماة إلى مصر ودرس الخطابه بالجامعة الأزهر، وعكف عليه الأئمة، حتى كان الملك الكامل ينزل لزيارته، وتوفي عام 632هـ/1234م (2) قال عنه الذهبي: شاعر الوقت شرف الدين عمر بن علي بن مرشد الحمويُّ ثم المصريُّ صاحب الاتحاد الذي قد ملأ به التائية ... فإن لم يكن في تلك القصيدة صريح الاتحاد الذي لا حيلة في وجوده، فما في العالم زندقة ولا ضلال، اللهم ألهمنا التقوى، وأعذنا من الهوى فيا أئمة الدين ألا تغضبون لله؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله ... وقد حج وجاور وشعره في الذروة ولا يُلْحَق شأوُه (3) وقد تفوق العالم علم الدين بن قيصر ت 649هـ/1251م في الهندسة والرياضيات وقد عرض عليه الملك الكامل بعض المسائل التي أرسلها الإمبراطور فردريك الثاني والعالم جمال الدين علي بن القفطي ت 646هـ/1248م، الذي تفوق في التفسير والحديث والفقه والنحو والمنطق، والتاريخ، وله عدد من المصنفات منها أخبار العلماء بأخبار الحكماء أنباء الرواة على أنباء النحاة الضاد والظاء تاريخ المغرب، تاريخ اليمن (4) واعتنى موفق الدين عبد اللطيف البغداد ت 629هـ/1232م ببضاعة الطب، وكان يتردد الطلاب عليه لدراسة الطب في الأزهر، وله عدة مصنفات أبرزها: شرح كتاب الفصول لابقراط وشرح كتب جالينوس (5)،
__________
(1) وفيات الأعيان (3/ 455).
(2) وفيات الأعيان (3/ 454).
(3) سير أعلام النبلاء (22/ 368، 369).
(4) تتمة المختصر لابن الوردي (2/ 273).
(5) معجم الأدباء (15/ 187) القدس بين أطماع الصليبيين وتفريط الملك الكامل ص 119 ..(1/274)
واشتغل شمس الدين أبو عبد الله بن عبد الواحد الليودي 621هـ/1224م في الطب، وله المدرسة اللبودية في الطب، وخدم الملك الكامل، كذلك خدمة الطبيب أبو الفضل بن أبي سليمان ت 644هـ/1246م وكذلك رشيد الدين أبو سعيد بن موفق الدين ت 646هـ/1248م، وله كتاب عيون الطب، وتعاليق على كتاب الحاوي للرازي (1)، وخدم الملك الكامل أطباء آخرون منهم أسعد الدين ابن أبي الأسعد وتوفي عام 635هـ/1238م نوادر الآلاء في امتحان الأطباء وكان أبو الوحش ابن أبي الخير، الحكيم الرشيد طبيباً نشيطاً خدم الملك الكامل وكان العيدلي ضياء الدين ابن البيطار ت 646هـ/1248م أشهر العشابين في عهد الملك الكامل وله كتاب المغني في الأدوية المفردة (2)، وشرح كتاب أدوية كتاب ديموقريدس (3).
__________
(1) القدس بين أطماع الصليبيين ص 119.
(2) شذرات الذهب نقلاً عن القدس بين أطماع الصليبيين ص 120.
(3) عيون الأنباء لابن أبي أصيبعة ص 60.(1/275)
1 - الشيخ عبد الله اليُونينيُ: أسد الشام توفي 617هـ:
الزاهد العابد أسد الشام الشيخ عبد الله بن عثمان بن جعفر اليُونينُي كان شيخاً طويلاً مهيباً شجاعاً حادّ الحال، كان يقوم نصف الليل إلى الفقراء، فمن رآه نائماً وله عصا اسمها العافية ضربه بها، ويحمل القوس والسلاح ويلبس قُبعاً من جِلْدِ ماعز بصوفه، وكان أمّاراً بالمعروف لا يهابَ الملوك، حاضَر القلب، دائم الذَّكر، بعيد الصَّيت، كان في حداثته يخرج وينطرح في شَعْراء يُونين، فيردُّه السَّفّارة إلى أمه، ثم تَعبَّدَ بجبل لبنان وكان يغزو كثيراً، قال الشيخ عليُّ القصَّار: كنت أهابه، كأنه أسد، فإذا دنوت منه وددتُ أن أشق قلبي وأجعله فيه (1)، وقيل جلس بين يديه المعظمَّ وطلب الدُّعاء منه، فقال: يا عيسى لا تكن نحس مثل أبيك أظهر الزّغل (2)، وأفسد على الناس المعاملة (3) وكانت له كرامات ورياضات وإشارات وكان لا يقوم لأحد تعظيماً لله ولا يَدخَّر شيئاً له ثوب خام، ويلبس في الشتاء فروة، وقد يؤثِر بها في البرد، وكان ربما جاعَ ويأكل من ورق الشجر، وكان الشيخ شجاعاً لا يُبالي بالرجال قلوَّا أو كثروا، وكان قوسه ثمانين رطلاً، وما فتته غزاة (4)، توفي في ذي الحجة سنة سبع عشرة وست مئة وهو صائم وقد جاوز ثمانين سنة رحمه الله ولأصحابه فيه غلو زائد، وقد جعل الله لكل شيء قدراً (5).
__________
(1) سير أعلام النبلاء (22/ 102).
(2) المصدر نفسه (22/ 102).
(3) المصدر نفسه (22/ 102).
(4) المصدر نفسه (22/ 103).
(5) المصدر نفسه (22/ 103).(1/276)
2 - السيف الآمدِيُّ توفي: 631هـ: العلامة المصنف فارس الكلام سيف الدين علي بن أبي عليَّ بن محمد ابن سالم التَّغلبي الآمدي الحنبليُّ ثم الشافعي (1)، صاحب المصنَّفات في الأصلين وغير ذلك، من ذلك "أبكارُ الأفكار" في الكلام و "دقائق الحقائق" في الحكمة، و"إحكام الأحكام" في أصول الفقه، وكان حنبليًّ المذهب، فصار شافعياً أصولياَّ منطقياً جدلياَّ خِلافيَّا، وكان حسنَ الأخلاق، سليم الصدر، كثير البكاء، رقيق القلب، وقد تكلموا فيه بأشياء الله تعالى أعلم بصحتها، والذي يغلبُ على الظنَّ أنه ليس لغالبها صحة، وقد كانت ملوك بني أيوب كالمعظم والكامل يكرمونه، وإن كانوا لا يُحبونه كثيراً، وقد فَّوض إليه الملك المعظم تدريس العزيزية، فلما ولى الأشرف دمشق عزله عنها ونادى في المدارس أن لا يشتغل أحد بغير التفسير والحديث والفقه ومن اشتغل بعلوم الأوائل نفيته، فأقام الشيخ سيف الدين بمنزله إلى أن توفيَّ بدمشق في صفر من هذه السنة ودفن بتربته بسفح قاسِيونَ (2) قال القاضي ابن خلكان: ... انتقل إلى الشام، واشتغل بعلوم المعقول، ثم إلى الديار المصرية، فأعاد بمدرسة الشافعية بالقَرَافة الصغرى، وتصدَّر بالجامع الظافرىَّ، واشتهر فضله، وانتشرت فضائله، فحسده أقوام، فسِعوا به، وكتَبوا خُطوطَهم باتَّهامه بمذهب الأوائل والتعَّطيل والإنحِلالِ، فطلبوا من بعضهم أن يوافقهم، فكتب:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداءٌ له وخصوم (3)
ويحكى عن ابن عبد السلام أنه قال: ما تعلمنا قواعد البحث إلا منه، وأنه قال: ما سمعت أحداً يلقي الدَّرس أحسن منه، كأنه يخطب وأنه قال: لو ورد على الإسلام متزندق يشكك ما تعَّيَّن لمناظرته غيره لاجتماع الآت فيه (4).
__________
(1) المصدر نفسه (22/ 364).
(2) البداية والنهاية (17/ 215).
(3) وفيات الأعيان (3/ 293).
(4) شذرات الذهب (7/ 254).(1/277)
وقال الذهبي: قال لي شيخنا ابن تيمية: يغلب على الآمدي الحيرة والوقف، حتى إنه أورد على نفسه سؤالاً في تسلسل العِلل، وزعم أنه لا يعرف عنه جواباً، وبنى إثبات الصانع على ذلك، فلا يُقَرَّر في كتبه إثبات الصانع، ولا حُدوث العالم ولا وحدنية الله، ولا شيئاً من الأصول الكبار قال الذهبي: هذا يدل على كمال ذهنه، إذ تقرير ذلك بالنظَّر لا ينهض، وإنما ينهض بالكتاب والسنة، وبكل قد كان السيف غاية، ومعرفته بالمعقول نهاية، وكان الفضلاء يزدحمون في حلقته (1).
__________
(1) سير أعلام النبلاء (22/ 366).(1/278)
3 - القاضي ابن شداد توفي 632هـ: الشيخ الإمام العلاّمة قاضي القضاة بقية الأعلام بهاءُ الدين أبو العِزَّ وأبو المحاسن يوسف بن رافع بن تميم الأسدي الحلبيُّ الأصل والدار الموصلىُّ المولد والمنشأ الفقيه الشافعي المقرئُ المشهور لابن شداد وهو جدّه لأمه (1) حّدث بمصر، ودمشق وحلب، كان ثقة حجة، عارفاً بأمور الدين اشتهر اسمه، وسار ذكره، وكان ذا صلاح وعبادة، وكان في زمانه كالقاضي أبي يوسف في زمانه، دبَّر أمور الملك بحلب واجتمعت الألسن على مدحه أنشأ دار حديث بحلب، وصنَّف كتاب "دلائل الأحكام" في أربع مجلدات (2) قال ابن خَلكّان: انحدر ابن شدَّاد إلى بغداد وأعاد بها ثم مضى إلى الموصل فدّرس بالكمالية، وانتفع به جماعة ثم حج سنة 583هـ وزار الشام فاستحضره السلطان صلاح الدين وأكرمه وسأله عن جزء حديث ليسمع منه، فأخرج له جزءاً فيه أذكار من البخاري، فقرأ عليه بنفسه، ثم جمع كتاباً مجلداً في فضائل الجهاد وقدّمه له ولازمه فولاه قضاء العسكر، ثم خدم بعده ولده الملك الظاهر غازيا فولاّه قضاء مملكته ونظر الأوقاف سنة نّيف وتسعين، ولم يُرزق ابناً ولا كان له أقارب، واتفق أن الملك الظاهر أقطعه إقطاعاً يحصل له منه جملة كثيرة، فتصمّد له مال كثير فعمَّر منه مدرسة سنة إحدى وست مئة ودار حديث وتُربه قصده الطلبة واشتغلوا عليه للعلم وللدنيا، وصار المشار إليه في تدبير الدَّولة بحلب إلى أن استولت عليه البرودات والضعف فكان يتمثل قول الشاعر:
من يتمنَّ العُمر فَلْيدَّرِع ... صبراً على فقد أحبابه
ومن يُعمَّر يَلْقَ في نفسه ... ما قد تَمنَّاهُ لأعدائه (3)
__________
(1) سير أعلام النبلاء (22/ 384).
(2) المصدر نفسه (22/ 385).
(3) المصدر نفسه (22/ 386).(1/279)
إلى أن قال ابن خلكان: أخذت عنه كثيراً وكتب إليه صاحب إربل في حقي وحق أخي، فتفضل وتلقّانا بالقول والإكرام ولم يكن لأحد معه كلام ولا يعمل الطوشي شيئاً إلا بمشورته، وكان للفقهاء به حرمة تامة .. توفي سنة 632هـ وله ثلاث وتسعون سنة (1)
__________
(1) وفيات الأعيان (7/ 99).(1/280)
خامساً: أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامه من مشاهير عصر الدولة الأيوبية في عهد الملك العادل والملك الكامل: توفي سنة 620هـ:
هو أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامه بن مقدام بن نصر الجمّاعيلي الصالحي الدمشقي الحنبلي (1) وقد اتفقت معظم المصادر التاريخية وكتب التراجم على اسم ابن قدامه السابق وبعضها زاد حتى أوصل نسبه إلى الخليفة الراشد عمر بن الخطاب القرشي - رضي الله عنه (2)، ولذا ينسب ابن قدامه فيقال: القرشي وأما نسبته المقدسي: فنسبة إلى أسرة المقادسة، نسبوا بذلك لقرب موطنهم من بيت المقدس (3) وأما نسبته الجمَّاعيلي، فنسبة إلى القرية التي ولد بها، وهي جمّاعيل: قرية في جبل نابلس من أرض فلسطين (4) وأما نسبته الصالحي: فلأنه نزل مع أهله في مسجد أبي صالح (5) وأما نسبته الدمشقي: فلأنه نزل بدمشق وعاش بها أكثر حياته، ومات بها ويلقب بموفق الدين ويعرف كذلك بأبي محمد المقدسي، وبابن قدامة المقدسي، وإن كان يحصل بينه وبين غيره خلط في الأسمين الأخيرين (6)، وأما أسرته: فهي كريمة مشهورة بالفضل والصلاح والتقى والورع والعلم فوالده كان عالماً فاضلاً صالحاً، ربى ولديه: محمد وعبد الله، فأحسن تربيتهما، وعلمهما الحديث وغيره من العلوم وكان - رحمه الله - خطيب جمَّاعيل، كما كان ذا مهابة عظيمة، وقد توفي سنة 558هـ (7).
__________
(1) سير أعلام النبلاء (22/ 165 - 166).
(2) منهج ابن قدامه في تقرير عقيدة السلف ص 21.
(3) معجم البلدان (2/ 159 - 160).
(4) منهج ابن قدامه في تقرير عقيدة السلف ص 21.
(5) القلائد الجوهرية لابن طولون (1/ 25).
(6) منهج ابن قدامه في تقرير عقيدة السلف ص 21.
(7) النجوم الزاهرة (5/ 364).(1/281)
1 - علمه ومصنفاته: أمضى ابن قدامه وقتاً طويلاً من حياته في رياض العلم والمعرفة، يلازم الشيوخ والعلماء ويأخذ عنهم، حتى برز في جوانب علمية كثيرة، فذاع صيته بين العلماء وسار الركبان بإنتاجه الوفير، الذي كان شاهداً حيَّاً على سعة إطلاعه ووفرة علمه وتنوع ثقافته، ولم يقتصر ابن قدامه على الأخذ بنوع واحد من العلوم، بل حاول الأخذ قدر الإمكان من العلوم المختلفة، حتى برز في علوم كثيرة، دل على ذلك تنوع إنتاجه العلمي، فقد ألفَّ في التفسير والحديث والتوحيد والفقه وأصوله والأنساب وغيرها وبلغ فيها درجة من العلم قلَّ أن تتوفر لغيره من العلماء (1)
__________
(1) ذيل طبقة الحنابلة (2/ 136) ..(1/282)
وهذا التنوع في العلوم لدى ابن قدامة كان بسبب عوامل كثيرة، لعلَّ من أبرزها كثرة الشيوخ الذين أخذ عنهم العلم، وقد كان فيهم الفقيه والمحدث والمفسر والمؤرخ واللغوي، كما أن البيئة التي عاش فيه كانت بيئة علمية، ساعدته على تحصيل العلوم المختلفة، فقد عاش معظم حياته في دمشق، وكانت حينذاك زاخرة بالعلماء وطلبة العلم، كما عاش فترة في بغداد حاضرة العلم والعلماء في وقته يضاف إلى ذلك الفترة التي عاش فيها بان قدامة من 541هـ - 620هـ فإنها كانت من أفضل الفترات العلمية في عهد الزنكيين والأيوبيين، أضف إلى ما سبق همة ابن قدامة العالية، وحرصه على طلب العلم وتفانيه في الحصول على الكم الوافر من العلوم المختلفة والعلم الذي اشتهر فيه ابن قدامة أكثر، وبرّز فيه حتى أصبح علماً من أعلامه هو علم الفقه وكتابة "المغني" يكاد يكون فريداً في كتب الفقه الإسلامي، حيث يحمل بين طيّاته من العلم والفقه في الدين، والاستدلال بنصوص الكتاب والسنة وأقوال السلف، والترجيح بين الأدلة ومناقشة الآراء والتوفيق بينها، ما يدل دلالة أكيدة على سعة علم مؤلفه، وبروزه في هذا المجال، حتى قال عنه الشيخ ابن تيميه - رحمه الله - ما دخل الشام بعد الأوزاعي، أفقه من الشيخ الموفق (1) ورغم بروز ابن قدامه في علم الفقه، فإن له كذلك جهود كبيرة، وتصانيف نافعة في علم العقيدة، وعلم الحديث، وغيرها، ولكن هذه الجهود لم تأخذ حقها من البيان كما هو الحال في الفقه (2)، وتعّذر ابن قدامه للتدريس والإفتا، وكانت حلقات تدريسه مشهورة، وبقي زمانا يجلس بعد الجمعة للمناظرة، ويجتمع إليه الفقهاء، وكان لابن قدامه اهتمامات أخرى، ومن ذلك الجانب الأدبي واللغوي وخصوصاً قرض الشعر وله في هذا المجال نظم كثير حسن مثل قوله:
أتفضل يا ابن أحمد والمنايا ... شوارع تَخْتَرمِْنَكَ عن قريب
__________
(1) المصدر نفسه.
(2) منهج ابن قدامة في تقرير عقيدة السلف ص 38.(1/283)
أغرَّك أن تخطيك الرازيا ... فكم للموت من سهم مصيب
كؤوس الموت دائرة علينا ... وما للمرء بدُّ من نصيب
إلى كم تجعل التسويف دأباً ... أما يكفيك إنذار المشيب
أما يكفيك أنك كل حين ... تمر بغير خلَّ أو حبيب
كأنك قد لحقت بهم قريباً ... ولا يغينك إفراط النحيب (1)
ومع تفرغ ابن قدامة للتدريس والإفتاء والمناظرة فإنه قام كذلك بتأليف الكتب النافعة المشهورة في العقيدة والتفسير والحديث والفقه وأصوله والأنساب والرقائق وقد انتفع المسلمون بتصانيفه وانتشرت واشتهرت ومن هذه التصانيف، الاستبصار في نسب الصحابة من الأنصار، البرهان في بيان القرآن، التبيين في أنساب القرشيين، تحريم النظر في كتب الكلام، ذم التأويل، ذمّ الوسواس الرقة والبكاء في أخبار الصالحين، روضة الناظر وجنة المناظر وهو كتاب في أصول الفقه، ويعتبر من الكتب الجليلة في هذا العلم، حيث عرض فيه آراء العلماء على اختلاف مذاهبهم في المسائل الأصولية، وناقش آراءهم، وحقَّق المسائل المختلف فيها، وأوضح النهج السليم فيما سلك، لذا فإن الروضة من أهم المراجع في الأصول عند الحنابلة وكان من بعده يرجعون إليها وينقلون عنها (2)، ومن كتبه المشهورة المغني شرح مختصر الخرقي وهو من أجل الكتب في الفقه الإسلامي ذكر فيه ابن قدامة المذاهب بأدلتها فقد أورد ما دوّن في فقه الحنابلة، كما ذكر مذاهب الفقهاء الثلاثة المشهورة ومذاهب الصحابة والسلف ممن لم تدوّن مذاهبهم الفقهية فغد الكتاب موسوعة فقهية قيَّمة وقد وصفه عز الدين بن عبد السلام بقوله: ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثل المحلي، وكتاب المغني للشيخ موفق الدين ابن قدامة في جودتهما وتحقيق ما فيهما (3)
__________
(1) منهج ابن قدامة في تقرير عقيدة السلف ص 29.
(2) المصدر نفسه ص 42.
(3) سير أعلام النبلاء (18/ 193) ..(1/284)
وقد علق الإمام الذهبي وهو يترجم للإمام ابن حزم على كلام العز هذا فقال: لقد صدق الشيخ عز الدين، وثالثهما "السنن الكبير" للبيهقي ورابعهما: "التمهيد" لابن عبد البر (1)، فمن حصَّل هذه الدواوين وكان من أذكياء المفتين وأدمن المطالعة فيها، فهو العالم حقاً" (2)، كما نقل عن العز أيضاً قوله: لم تطب نفسي بالفتيا حتى صار عندي نسخة من المغني (3). وقد ألف غير ذلك من الكتب التي جاوزت الأربعين كتاباً (4).
__________
(1) سير أعلام النبلاء (18/ 153 - 163).
(2) المصدر نفسه (18/ 193).
(3) منهج ابن قدامة في تقرير عقيدة السلف ص 46.
(4) المصدر نفسه ص 46.(1/285)
2 - جهوده في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد النصارى:
كان ابن قدامه رحمه الله من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وكان كثيراً ما يحث على القيام بهذا الواجب ويعتبره فرضاً فها هو يقول: إذا دعي إلى وليمة فيها معصية، كالخمر والزمر والعود ونحوه، وأمكنه الإنكار وإزالة المنكر، لزمه الحضور والإنكار، لأنه يؤدي فرضين، إجابه أخيه المسلم، وإزالة المنكر، وإن لم يقدر على الإنكار لم يحضر، وإن لم يعلم المنكر حتى حضر، أزاله، فإن لم يقر انصَرف (1) وأمّا جهاده في سبيل الله فلقد كان مشهوداً؛ إذ أنَّ ابن قدامة لم يكن من العلماء الأبرار فقط، بل كان من المجاهدين الأخيار كذلك، فقد جاهد بلسانه وقلمه كما جاهد بنفسه ودمه وقد تحدث عن الجهاد كثيراً وعقد له فصولاً خاصة في بعض كتبه، بيَّن فيها أهمية الجهاد، وفضله وذكر الأحاديث التي تبيَّن منزلته من الدين، كما شرح بعض الأحكام المتعلقة به، ولم يكتف ابن قدامة بذلك، بل كانت له مشاركة فعليَّه في الجهاد وكان ذلك ضد النصارى في الحروب الصليبية تحت إمرة القائد صلاح الدين الأيوبي الذي جنَّد المسلمين لجهاد الصليبيين، وتطهير الأرض المقدسة من رجسهم، فقد شارك ابن قدامة وأخوه أبو عمر وكثير من تلاميذهما في هذه المعارك وكانت لهم خيمة يتنقلون بها مع المجاهدين، ويرغبونهم في الجهاد ويشاركون معهم في القتال (2) وكان فيه من الشجاعة، ويتقدم إلى العدو وقد أصيب في القدس بجرح في كفه (3).
3 - مكانته وثناء الناس عليه: احتل ابن قدامة - مكانة بارزة بين علماء عصره وقد تقدم به علمه حتى بلغ درجة الاجتهاد، وصار علماً يشار إليه بالبنان، ولا زال كذلك إلى يومنا هذا فآراؤه وكتبه مصدر هام للعلماء الذين جاؤوا بعده وقد أثنى العلماء عليه (4).
__________
(1) المغني (10/ 198) منهج ابن قدامة في تقرير عقيدة السلف ص 57.
(2) ذيل طبقة الحنابلة (2/ 56).
(3) منهج ابن قدامة في تقرير عقيدة السلف ص 58.
(4) منهج ابن قدامة في تقرير عقيدة السلف ص 58.(1/286)
أ- قال عنه ابن الحاجب: هو إمام الأئمة، ومفتي الأمة، وخصه الله بالفضل الوافر، والخاطر العاطر، والعلم الكامل وطنت بذكره الأمصار، وضنت بمثله الأعصار، أخذ بمجامع الحقائق النقلية والعقلية، فأما الحديث فهو سابق فرسانه، وأما الفقه: فهو فارس ميدانه، أعرف الناس بالفتيا، وله المؤلفات الغزيرة، وما أظن الزمن يسمح بمثله متواضع عند الخاصة والعامة حسن الاعتقاد، ذو أناه وحلم ووقار، مجلسه معمور بالفقهاء والمحدثين، وكان كثير العبادة، دائم التهجد، لم نر مثله ولم يَرَ مثل نفسه (1).
ب - وقال عنه ابن الصلاح: ما رأيت مثل الشيخ الموفق (2).
ج- وقال عنه سبط ابن الجوزي: كان إماماً في التفسير والفقه والحديث والفنون ولم يكن في زمانه بعد أخيه أبي عمر والعماد أزهد ولا أروع منه، وكان كثير الحياء، هيناً متواضعاً، محباً للمساكين، حسن الأخلاق، جواداً سخياً من رآه فكأنما رأى بعض الصحابة، كان النور يخرج من وجهه كثير العبادة، يقرأ كل يوم وليلة سبعاً من القرآن، ولا يصلي ركعتي السنة في الغالب إلا في بيته، اتباعاً للسنة، وكان صحيح الاعتقاد مبغضاً (3) للمشبهة.
س- ووصفه الذهبي فقال: الشيخ الإمام القدوة العلامة المجتهد شيخ الإسلام (4) وقال عنه: كان عالم أهل الشام في زمانه (5).
ك- ومدحه الحافظ ابن كثير: فقال: إمام عالم بارع، لم يكن في عصره، بل ولا قبل دهره بمدة أفقه منه .. وبرع وأفتى، وناظر في فنون كثيرة مع زهد وعبادة، وورع وتواضع وحسن أخلاق وجود وحياء وحسن سمت ونور وبهاء وكثرة تلاوة وصلاة وصيام وقيام وطريقة حسنة واتباع للسلف الصالح (6).
__________
(1) سير أعلام النبلاء (22/ 167).
(2) مرآة الجنان (4/ 48).
(3) مرآة الزمان (8/ 628).
(4) منهج ابن قدامة في تقرير عقيدة السلف ص 60.
(5) سير أعلام النبلاء (22/ 167).
(6) البداية والنهاية (17/ 117).(1/287)
4 - منهج ابن قدامة في باب الأسماء والصفات: سار بن قدامه على مذهب السلف في هذا الباب وقرر في أكثر من موضع ذلك فقد قال رحمه الله: ومذهب السلف - رحمه الله عليهم: الإيمان بصفات الله تعالى، وأسمائه التي وصف بها نفسه في آياته وتنزيله، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة عليها، ولا نقص فيها ولا تجاوز لها، ولا تفسير لها، ولا تأويل لها بما يخالف ظاهرها، ولا تشبيه بصفات المخلوقين، ولا سمات المحدثين، بل أمورها كما جاءت، وردوا علمها إلى قائلها ومعناها إلى المتكلم بها (1).
5 - الدعاء عند ابن قدامه: الدعاء هو أعظم أنواع العبادة وأشرفها وقد ورد الحديث عليه في مواضع كثيرة من الكتاب والسنة قال تعالى: "ادعوا ربكم تضُّرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وأدعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين" (الأعراف، آية: 55، 56) وقال صلى الله عليه وسلم " الدعاء هو العبادة: ثم قرأ "وقال ربكم أدعوني أستجب لكم" (غافر، آية: 60) وقد بين ابن قدامة أن الدعاء ملاك الأمر، لأن الأمر كله بيد الله وحده، فوجب على الإنسان أن يدعو من الأمر بيده (2)، قال: وملاك الأمر الدعاء، فإن الأمر كله بيد الله، يهدي من يشاء ويستعمله، ويضل من يشاء ويخذله، فينبغي لك أن ترغب إلى من الأمر بيديه، وتفوض أمرك إليه (3) وأشار ابن قدامه إلى جملة من آداب الدعاء ينبغي على المسلم أن يلتزم بها في دعائه فقال: وليكن دعاؤك بخضوع وخشوع وبكاء وتضرع فإن بعضهم قال: إني لأعلم حين يستجيب لي ربي - عز وجل - إذا وجل قلبي، أو أقشعر جلدي، وفاضت عيناي، وفتح لي في الدعاء (4).
__________
(1) منهج ابن قدامة في تقرير عقيدة السلف ص 94.
(2) المصدر نفسه ص 135.
(3) الوصية ص 63.
(4) المصدر نفسه ص 63.(1/288)
6 - المحبة عند ابن قدامة: إن نصوص الكتاب والسنة التي تدل على وجوب محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم كثيرة جداً منها قوله تعالى: "ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشدُّ حباً لله" (البقرة، آية: 165) فمحبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم من أعظم أنواع العبادة، بل إنها ركن من أركانها، فأصل العبادة محبة الله، بل إفراده بالمحبة وأن يكون الحب كله لله فلا يحب معه سواه وإنما يحب لأجله وفيه، كما يحب أنبياءه، وملائكته وأولياءه (1) وقد اهتم ابن قدامة بهذا النوع من أنواع العبادة، فصنف كتاباً خصصه لبيان فضل المحبة، وعظم منزلتها من الدين، سماه "المتحابين في الله" وقد ضمَّن كتابه هذا الكثير من الأحاديث والآثار التي توجب محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم وتبين فضل الحب في الله والبغض في الله، وأنه أوثق عرى الإيمان (2) وقد افتتح ابن قدامه كتابه هذا ببيان أن محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والحب في الله وكراهية الكفر؛ هي الطريق إلى حلاوة الإيمان فقد ساق بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال ثلاث من كنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يقذف الرجل في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر، بعد أن أنقذه الله منه، وأن يحب العبد لا يحيه إلا لله، أو قال: في الله (3)، وقد بيَّن صلى الله عليه وسلم جزاء من أحب الله ورسوله، فقد أخبر أن من تحقق فيه كذلك كان مع من أحب، وقد عقد ابن قدامه باباً لبيان هذا سماه "باب المرء مع من أحب (4)،
__________
(1) منهج ابن قدامة في تقرير عقيدة السلف ص 137.
(2) المصدر نفسه ص 137.
(3) المتحابين في الله ص 23، البخاري (1/ 22).
(4) المتحابين في الله ص 69 ..(1/289)
ساق فيه بإسناده إلى أنس رضي الله عنه - أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة؟ فقال: ما أعددت لها؟ قال: ما أعددتُ لها من كثير عمل، إلا أني أحب الله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم المرء مع من أحب (1) وقد بينّ ابن قدامه في كتابه، هذا أهمية المحبة وفضلها وجزاء من أدَّاها وقام بمضمونها، كما أورد كثيراً من الأحاديث التي تحثنا على الحب في الله والبغض في الله وقد أوضح ابن قدامة وبين أن محبة الله تقتضي السير على ما أمر الله به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم أما من عمل أعمالاً مخالفة للشرع، وأدعى أنه بعمله هذا محب لله، فهو كاذب (2).
وقد بين ابن قدامة وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم إذ أن الوصول إلى الله، وإلى مراد الله والظفر بمحبته ورضوانه لا يتحقق إلا عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: ومن طلب الوصول إلى الله سبحانه - من غير طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو بعيد من الوصول إلى المراد (3) وبين أن محبة الله تستلزم اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم أما من خالف الرسول صلى الله عليه وسلم فغير موعود بالمحبة: قال: فمن اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله وفعله فهو على صراط الله المستقيم، وهو ممن يحبه الله ويغفر له ذنوبه، ومن خالفه في قوله وفعله، فهو متبع لسبيل الشيطان غير داخل فيمن وعده الله بالمحبة والمغفرة والإحسان (4).
__________
(1) مسلم، ك البر والصلة والآداب (4/ 2032).
(2) منهج ابن قدامة في تقرير عقيدة السلف ص 138.
(3) ذمّ ما عليه مدعو التصوف ص 6 - 7.
(4) ذمّ الوسواس ص 48.(1/290)
7 - النذر: وهو في الإصطلاح: إلزام مكلف مختار نفسه لله تعالى بالقول شيئاً غير لازم بأصل الشرع (1)، والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع وأما الكتاب فقوله " يُوفون بالنذر" (الإنسان، آية:7) وأما السنة، فقد ثبت عنه صلى الله عليه أنه قال: من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه (2) وأجمع المسلمون على صحة النذر في الجملة ولزوم الوفاء به (3) والنذر نوع من أنواع العبادة لا يصرف إلا لله وحده، فمن نذر لغير الله فقد أشرك (4) وقد قسم ابن قدامة النذر إلى سبعة أقسام وذكر منها تدر الطاعة والتبرر فقال "القسم الثاني " نذر طاعة وتبرر، ... فهذا يلزم الوفاء به (5) ثم بين أنواعه وحكم كل نوع (6) وقال في موضع آخر: وإن نذر فعل طاعة، وما ليس بطاعة؛ لزمه فعل الطاعة، كما في خبر أبي إسرائيل (7)، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بإتمام الصوم وترك ما سواه، لكونه ليس بطاعة (8)، وهذا الخبر عن أبي إسرائيل رواه ابن عباس - رضي الله عنهما - فقال بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، إذا هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مره فليتكلم، وليستظل، وليقعد وليتم صومه (9)،
__________
(1) كشاف القناع للبهوني (6/ 273).
(2) البخاري، ك باب النذر في الطاعة (4/ 228).
(3) المغني (13/ 621).
(4) منهج ابن قدامة في تقرير عقيدة السلف ص 140.
(5) المغني (13/ 622) باختصار.
(6) منهج ابن قدامة في تقرير عقيدة السلف ص 140.
(7) قيل اسمه يسير، وقيل قشير الأنصاري رجل من الصحابة.
(8) المغني (13/ 629) منهج ابن قدامة في تقرير عقيدة السلف ص 140.
(9) البخاري، في باب النذر فيما لا يملك، ك الإيمان والنذور (4/ 229) ..(1/291)
فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على الصيام فقط، لأنه طاعة وقربة إلى الله - سبحانه - بخلاف البواقي (1).
وأما نذر المعصية فقد ذكره ابن قدامة ضمن أقسام النذر فقال: نذر المعصية، فلا يحل به إجماعاً، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: .. ومن نذر أن يعصى الله فلا يعضه (2)؛ ولأن معصية الله تعالى لا تحل في حال (3)، فقد ذكر ابن قدامة هنا الإجماع على عدم جواز نذر المعصية (4).
8 - مسألة الإمامة: ذهب ابن قدامة إلى وجوب طاعة الإمام في غير معصية الله، وقرر أنّ كل من ثبتت إمامته، فمن السنة السمع والطاعة له بَّراً كان أو فاجراً وحرمت مخالفته مالم يأمر بمعصية (5) وتحدث ابن قدامة في مواضع متفرقة من كتبه، عن بعض الأمور التي ينبغي مراعاتها، والقيام بها، ومن هذه الأمور.
أ- الجهاد الغزو معهم، والصلاة خلفهم: حيث قال: ونرى الحج والجهاد ماضياً مع طاعة كل إمام، بّراً كان أو فاجراً، وصلاة الجمعة خلفهم جائرة (6)، وقال: ويغزى مع كل بَّر وفاجر، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: الجهاد واجب عليكم مع كل أمير، برّاً كان أو فاجراً (7)، ولأن تركه مع الفاجر يفضي إلى تعطيل الجهاد، وظهور العدو (8).
__________
(1) الفتح الرباني لأحمد البنا (14/ 191).
(2) البخاري في: باب النذر في الطاعة (4/ 228).
(3) المغني (13/ 624) منهج ابن قدامه في تقرير العقيدة ص 141.
(4) الكافي لابن عبد البر (1/ 454 - 455) فتح الباري (11/ 581).
(5) منهج ابن قدامة في تقرير عقيدة السلف ص 372.
(6) لمعة الاعتقاد ص 39 منهج ابن قدامة في تقرير عقيدة السلف ص 373.
(7) ضعيف سنن أبي داود ص 249.
(8) الكافي (4/ 281) المغني (13/ 14).(1/292)
ب- تحريم الخروج عليهم: قرر ابن قدامة أنَّه يحرم الخروج على من ارتضاه المسلمون إماماً وبايعوه، ودانوا له بالسمع والطاعة معللاً ذلك بما في الخروج من مفاسد عظيمة، أخطرها شق عصا المسلمين، وتفريق كلمتهم وإراقة دمائهم (1) وقال كل من ثبتت إمامته، حرم الخروج عليه وقتاله، سواء ثبت بإجماع المسلمين عليه، كإمامة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه أو بعهد الإمام الذي قبله إليه، كعهد أبي بكر إلى عمر (2) - رضي الله عنهما - أو بقهره الناس حتى أذعنوا له ودعوه إماماً؛ كعبد الملك بن مروان (3)، وقد استدل ابن قدامه على تحريم الخروج بما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: من خرج على أمتي، وهم جميع، فاضربوا عنقه بالسيف، كائناً من كان (4) ثم، عقب على هذا الحديث بقوله: فمن خرج على من ثبتت إمامته بأحد هذه الوجوه باغياً، وجب قتاله (5).
__________
(1) منهج ابن قدامة في تقرير عقيدة السلف ص 374.
(2) أبو بكر رشح والأمة وافقت وهذه أحدى صور الشورى.
(3) منهج ابن قدامة في تقرير عقيدة السلف ص 375.
(4) مسلم، ك الإمارة (3/ 1479).
(5) المغني (12/ 243).(1/293)
9 - الصحابة: تحدث ابن قدامة عن الصحابة مبيناً فضلهم، ومقرراً وجوب محبتهم والاستغفار لهم، والسكوت عن ذكر مساوئهم فقال: من السنة تولي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبتهم وذكر محاسنهم والترحم عليهم، والاستغفار لهم، والكف عن ذكر مساوئهم وما شجر بينهم واعتقاد فضلهم، ومعرفة سابقتهم (1) وقال وهو يتحدث عن حب الصحابة وآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ونحب أهل بيته، ونحب من يحبهم، ونبغض من يبغضهم، ونوالي من والاهم ونعادي من عاداهم، مع محبتنا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وموالاتهم والاستغفار لهم، وتقديمنا من قدم الله تعالى ورسوله، متبعين في ذلك أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أجمعين (2) وقد حظيت مسألة الصحابة من ابن قدامه باهتمام كبير، حيث ألف عدداً من الكتب كتابه: التبيين في أنساب القرشيين، ذكر فيه الصحابة من قريش بأنسابهم، وتطرق فيه إلى فضائل هؤلاء الصحابة ومن ذلك قوله في مقدمة هذا الكتاب: هذا كتاب ذكرت فيه نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه من أقاربه وذكرت لكل امريء منهم شيئاً من أخباره وفضائله وبعض من اشتهر من أولاده، وأولاد أولاده، ليعرف الواقف عليهم محله من الدين وموضعه من الفضل (3).
__________
(1) منهج ابن قدامة ص 380.
(2) التبيين في أنساب القرشيين ص 51.
(3) المصدر نفسه.(1/294)
كما ألف كتاباً كاملاً عن الأنصار - رضي الله عنهم - سمّاه: الاستبصار في نسب الصحابة من الأنصار، قال في مقدمته: هذا كتاب ذكرت فيه أنساب الصحابة من الأنصار، وطرفاً من أخبارهم على سبيل الاختصار، ليعرف به منزلتهم من الإسلام، وتأسيسهم للدين، وما خصهم الله تعالى من نصرة وإظهار دينه، وإيواء رسوله وصحابته، وسبقهم إلى إجابة دعوته، وبذلهم المنهج في طاعة ربهم وطاعته ليعظم في القلوب محلهم، ويكثر بالترحم عليهم فضلهم، ويزداد الإيمان بمحبتهم (1) وردت أدلة كثيرة تبين فضل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة، وقد أورد ابن قدامة كثيراً من الآيات والأحاديث الدالة على ذلك وهذه بعضها (2):
- قال تعالى: "والذين جاءوا من بعدهم يقولون اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا" (الحشر، آية: 10".
- قوله تعالى: "محمد رسول الله والذين معه أشدَّاء على الكُفّار رُحماء بينهم" (الفتح، آية: 29).
- وقال صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحُد ذهباً، ما بلغ مّد أحدهم ولا نصيفه (3).
- وقال صلى الله عليه وسلم: خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم (4).
- وقوله صلى الله عليه وسلم: آية الإيمان حب الأنصار (5) وقد تحدث ابن قدامة عن عدالة الصحابة، وقرر ما عليه أهل السنة من أن الصحابة عدول جميعاً، كما بين أن السلف الصالح وجمهور الأمة مقرون بعدالة الصحابة وقال: والذي عليه سلف الأمة، وجمهور الخلف، أن الصحابة - رضي الله عنهم - معلومة عدالتهم بتعديل الله تعالى وثنائه عليهم (6).
__________
(1) الاستبصار في نسب الصحابة من الأنصار ص 23.
(2) منهج ابن قدامة في تقرير عقيدة السلف ص 381.
(3) البخاري، ك فضائل الصحابة (3/ 6).
(4) البخاري، ك فضائل الصحابة (3/ 39).
(5) روضة الناظر (1/ 290).
(6) المصدر نفسه.(1/295)
10 - وصية موفق الدين ابن قدامة: قال الشيخ موفق الدين: الحمد لله ذي الوجه الكريم، والفضل العظيم، والمن القديم، وصلى الله على محمد خاتم النبيين، وآله وصحبه أجمعين، أما بعد:
- فقد سألني بعض إخواني الصالحين أن أكتب له وصية، فامتنعت عن ذلك، لعلمي أني غير مستوص في نفسي، ولا عامل بما ينبغي، ثم بدا لي أن أجيبه إلى مسألته، رجاء ثواب قضاء حاجة الأخ المسلم، ودعائه لي، وأن يجري لي أجر إذا عمل بوصيتي، وأن أكون من الدالين إلى الخير، حين عجزت عن عمله لأكون بدلالتي عليه كفاعله، والأعمال بالنيات، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب (1).
- اعلم رحمك الله، أن هذه الدنيا مزرعة الآخرة، ومتجراً رباحها، وموضع تحصيل الزاد منها، والبضائع الرابحة بها بذر السابقون، وفاز المتقون، وأفلح الصادقون، وربح العاملون، وخسر المبطلون، وإن هذه الدار هي أمنية أهل الجنة وأهل النار، قال الله تعالى في أهل النار "وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل" (فاطر، 37) وقال سبحانه: "ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نردّ ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين" (الأنعام،: 27) وقال في حق أهل الجنة "ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين" (النحل،: 30) قال الحسن: هي الدنيا لأن أهل التقوى يتزودون فيها للآخرة، ذكر ذلك البغوي رحمه الله وقال ابن مسعود رضي الله عنه فيما يرونه: إن أرواح الشهداء كطير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، فبينما هم كذلك إذ أطّلع عليهم ربك إطلاعة فقال: يا عبادي سلوني ما شئتم. قالوا ربنا نسألك أن تردّ أرواحنا في أجسادنا، ثم تردنا إلى الدنيا، فنقتل مرة أخرى، فلما رأى أنهم لا يسألون إلا ذلك تركوا حقيقة الدنيا كما يرأها ابن قدامه.
__________
(1) وصايا وعظات قيلت في آخر الحياة ص 180، 181.(1/296)
وأعلم يا أخي رحمك الله تعالى، أن الله تعالى قد علم أنهم يسألون ذلك وأنهم لا يردون إلى الدنيا، وإنما أراد إعلام المؤمنين الذين في الدنيا أمنيتهم في الجنة القتل في سبيله ليرغبهم في ذلك، وقال إبراهيم التيمي، رحمه الله تعالى: مثلت نفسي في الجنة مع حورها، وألبس من سندسها، وإستبرقها آكل من ثمارها، وأعانق أبكارها وأتمتع بنعيمها، فقلت لنفسي: يا نفس أي شيء تتمنين؟ فقالت: أردُّ إلى الدنيا، فأزداد من العمل الذي نلت به هذا، ثم مثلت نفسي في النار أعالج أغلالها وسعيرها أحرق بجحيمه، وأجزع من حميمها، وأطعم من زقومها، فقلت لنفسي: أي شيء تتمنين؟ فقلت لنفسي أردّ إلى الدنيا، فأعمل أتخلص به من هذا العذاب، يا نفسي، فأنت في الأمنية فقومي فاعملي صالحاً.
- وكان بعض السلف قد حفر لنفسه قبراً، فإذا فتر من العمل نزل في قبره، فتمدد في لحده ثم قال: يا نفس قدّري أني قدمتّ، وصرت في لحدي، أي شيء كنت تتمنين؟
- وأعلم رحمك الله، أن أهل القبور أمنية أحدهم أن يسبح تسبيحه تزيد في حسناته، أو يقدر على توبة من بعض سيئاته، أو ركعة ترفع في درجاته، وقد روينا أن رجلاً ركع ركعتين إلى جانب قبر، ثم اتكأ عليه فأغفى، فرأى صاحب القبر في المنام يقول: تنَّح عني، فقد آذيتني والله إن هاتين الركعتين اللتين ركعتهما لو كانتا لي كانتا أحب إلي من الدنيا وما فيها، إنكم تعملون، ولا تعلمون ونحن نعلم، ولا نعمل (1).
__________
(1) وصايا وعظات قيلت في آخر الحياة ص 181.(1/297)
- فاغتنم رحمك الله حياتك النفيسة، واحتفظ بأوقاتك العزيزة، وأعلم أن مدة حياتك محدودة، وأنفاسك معدودة، فكل نفس ينقض به جزء منك، والعمر كله قصير، والباقي منه هو اليسير، وكل جزء منه جوهرة نفسية لا عدل لها، ولا خلف منها، فإن بهذه الحياة السيرة خلود الأبد في النعيم، أو العذاب الأليم وإذا عادلت هذه الحياة بخلود الأبد علمت أن كل نفس بعدل أكثر من ألف عام في النعيم المقيم الذي لا حصر له، أو خلاف ذلك، وما كان هكذا فلا قيمة له، فلا تضيع جواهر عمرك النفيسة بغير عمل، ولا تذهبها بغير عوض، واجتهد أن لا يخلو نفس من أنفاسك إلا في عمل طاعة او قرية تتقرب بها، فإنك لو كانت معك جوهرة من جواهر الدنيا، فضاعت منك، لحزنت عليها حزناً شديداً، بل لو ضاع منك دينار لساءك؛ فكيف تفرط في ساعتك وأوقاتك؟ وكيف لا تحزن على عمرك الذاهب بغير عوض؟
- فاجتهد رحمك الله تعالى في الكون من الفرقة الأولى الذين استوعبوا الساعات بالطاعات، ولم يفرطوا في شيء من الأوقات.
- وألزم قلبك الفكر في نعم الله لتشكرها، وفي ذنوبك لتستغفرها، وفي تفريطك لتندم، وفي مخلوقات الله وحكمه لتتعرف عظمته وحكمته، وفيما بين يديك لتستّعد له أو في حكم شيء تحتاج إليه لتعلمه.
- وألزم لسانك ذكر الله تعالى ودعاءه واستغفاره أو قراءة قرآن، أو علماً أو تعليماً، أو أمراً بمعروف أو نهيا عن منكر، أو إصلاحاً بين الناس.
- وأشغل جوارحك بالطاعات، وليكن من أهمها الفرائض في أوقاتها على أكمل أحوالها، ثم ما يتعدى نفعه إلى الخلق وأفضل ذلك ما ينفعهم في دينهم لتعليمهم الدين، وهدايتهم إلى الصراط المستقيم.(1/298)
- واحترس من مفسدات الأعمال، لئلا يفسد عملك ويخيب سعيك، فلا تحصل على أجر العاملين، ولا راحة الباطلين، وتفوتك الدنيا والآخرة، فمن ذلك الرياء، والعمل لمحمدة الناس، فإن هذا أشرك وقد روينا عن الله عز وجل أنه قال: من عمل عملاً أشرك فيه غيري فهو للذي أشرك، وأنا منه بريء. وقد لا يحصل للمرائي ما قصده فيخيب بالكلية، فقد روينا أن رجلاً كان يرائي بعمله فإذا مّر بالناس قالوا: هذا مرائي فقد روينا أن رجلاً كان يرائي بعمله، فإذا مَّر بالناس قالوا: هذا مرائي، فقال يوما في نفسه: والله ما حصلت على شيء، فلو جعلت عملي لله، فما زاد على أن قلب نيته، فكان إذا مر بهم بعد قالوا: هذا رجل صالح، ومن ذلك العجُب فقد روي: إن المدلّ لا يجاوز عمله رأسه وروى أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: يا موسى قل للعاملين المعجبين بعملهم اخسروا، وقل للمذنبين التائبين النادمين أبشروا". وقال بعضهم: لأن أبيت نائماً وأصبح نادماً أحب إليّ من أبيت قائماً وأصبح معجباً (1).
- ولا تحقرنَّ مسلماً، ولا تظنن أنك خير منه، فإن ذلك ربما أحبط عملك.
__________
(1) وصايا وعظات قيلت في آخر الحياة ص 182.(1/299)
- وأعلم - رحمك الله - أن هذه الدنيا سوق متجر الأبرار، وحلبة السباق بين الكرام الأخيار، ومزدرع التقوى ليوم القرار، ومحل تحصيل الزاد للسفر الذي ليس هو كالأسفار، فبادر رحمك الله تعالى قبل فوات إمكان البذار، واغتنم أنفاسك العظيمة المقدار، وأذرف من دموعك الغزار على ما سلف منك في تفريط الأوزار، فإن القطرة من الدموع من خشية الله تعالى تطفئ البحور من النار، وتيقظ في ساعات الأسحار عند نزول الجبار، وأحضر بقلبك قول العزيز الغفار هل من سائل فأعطيه هل من داع فأستجيب له، هل من مستغفر، فأغفر له، قل: نعم يارب، أنا السائل المحتاج الفقير، أنا الضعيف الكسير، أنا الداعي الراجي، أنا المستغفر المذنب المقر المعترف، يا صاحب الصدقة، هأنذا أرحم ضعفي، وكِبرَ سني، أرحم فقري وفاقتي وحاجتي ومسكنتي، يا كثير الخير، يا دائم المعروف، لا تخيب حسن ظني بك، ولا تحرمني سعة معروفك، ولا تطردني عن بابك، ولا تخرجني من أحبابك، أسألك يا عظيم فإنك قلت وقولك الحق: "وأسألوا الله من فضله" (النساء، آية:32).
- إلهي، ما أمرتني أن أسألك إلا وأنت تريد أن تعطيني ولا دللتني عليك إلا وأنت تريد أن تهديني، ولا أمرتني بدعائك إلا وأنت تريد أن تجيبني.
- أسألك من فضلك أن تجعلني مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأن تجعلني من الذين تحبهم ويحبونك، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، ومن الأئمة الذين يهدون بأمرك وأرزقنا فعل الخيرات، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وأجعلنا من العابدين لك، ومن الذين يسارعون في الخيرات ويدعونك رغباً ورهباً، وأجعلنا لك من الخاشعين، ومن الذين يطيعوك، ويطيعون رسولك، ويخشاك ويتقيك، وأجعلنا من الفائزين.(1/300)
- رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت على وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني في عبادك الصالحين وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين (1).
- رب أنت أصلحت الصالحين، وفضلت الصديقيين، وسبَّقت السابقين وقّربت المقربين وتفضَّلت عليهم، ثم أثنيت عليهم، ومنحتهم، ثم مدحتهم، لولاك ما وصلوا إليك، ولولا إحسانك ما فازوا لديك، فأسألك بوجهك الكريم، ومنّك القديم، وفضلك العظيم، أن تتفضل علينا بما تفضلت به عليهم، وتصلحنا بما أصلحتهم وتمنحنا كما منحتهم، وتعطينا كما أعطيتهم، وتجود عليهم بما جدت عليهم، والكل عبيدك، وفي قبضتك، يارب دعوتنا إلى دار السلام، فأهدنا إلى الصراط المستقيم لنجيب دعوتك، فإننا لا نستطيع إجابتك إلا بهدايتك ولا نصل إلى دعوتك إلا بعنايتك (2).
- إلهي عممت بدعوتك، وخصصت بعنايتك من شئت فأجعلنا من خاصتك، ومنّ علينا بالتوفيق لإجابتك وأدخلنا في أهل ولايتك، يارب أمرتنا بما لا يُصدر على فعله إلا بك، ونهيتنا عما لا نقدر على تركه إلا بتوفيقك، ورغبتنا فيما لانناله إلا بفضلك، وحذرتنا مما لا نسلم منه إلا بجودك وكرمك، اللهم فوفقنا لامتثال أمرك، وأجتناب زجرك، وأعطنا ما رغبتنا فيه، وجنبنا ما حذرتنا منه، اللهم إنك سألتنا من أنفسنا مالا نقدر على فعله إلا بك اللهم فخذ لنا منها ما ترضى به عنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
- اللهم إنك أخذت بقلوبنا ونواصينا فلم تملكنا شيئاً منها، فإذا فعلت ذلك بهما فكن أنت وليهما، وأهدنا إلى سواء السبيل (3).
هذه من الوصايا العظيمة التي قيلت في عهد الملك الكامل الأيوبي والتي كان لها أثر عظيم في تلاميذ ابن قدامه رحمه الله.
__________
(1) وصايا وعظات قيلت في آخر الحياة ص 184.
(2) وصايا وعظات قيلت في آخر الحياة ص 185.
(3) المصدر نفسه ص 185.(1/301)
11 - وفاته: توفي ابن قدامة - رحمه الله - يوم السبت يوم عيد الفطر سنة 620هـ بمنزله بدمشق (1) وقد اتفقت كافة المصادر على أنَّ وفاة ابن قدامة كانت في هذا التاريخ وكان له من العمر عند وفاته قريباً من تسعة وسبعين عاماً، حمل ابن قدامه إلى سفح جبل قاسيون فدفن به وقد امتد الناس في طرق الجبل فملؤوه، وكان الخلق الذين حضروا جنازته لا يحصون فقد حصل جمع عظيم لم يُرَ مثله (2)، وقد رؤيت له منامات صالحة فرحمه الله تعالى، وأجزل مثوبته وغفر لنا وله، وحشرنا جميعاً في زمرة المتقين إنَّه على ذلك قدير (3).
__________
(1) المصدر نفسه ص 185.
(2) سير أعلام النبلاء (22/ 172) ذيل طبقة الحنابلة (2/ 142).
(3) منهج ابن قدامة في تقرير عقيدة السلف ص 62.(1/302)
سادساً: الملك الكامل وسياسته العمرانية والحياة الاجتماعية:
1 - سياسته العمرانية: اهتم الملك الكامل بتحسين المرافق العامة في مصر، وتحسين الخدمات المهمة لرعيته، ولاسيما في المجال الاقتصادي والعمراني، فقد أنهى بناء القلعة، وبنى دار الوزراء التي تعرف بقاعة الصاحب لتكون مقراً للوزير صفي الدين، وبها قاعة الإنشاء، وديوان الجيش وبيت المال. (1) وأنشأ الملك الكامل خزانة الكتب في القلعة، فحوت عدداً من الكتب والمجلدات النفيسة، وأقام خزانة شمائل (سجن شمائل) (2)، تابع الملك الكامل سياسة إعمار البلاد، ولاسيما في مصر، فأمر الملوك الأيوبيين بإعمار بلادهم، ففي 624هـ/1227م كلف المظفر محمود صاحب حماة بناء برج في السلمية وشجعه عام 631هـ/1233م على بناء قلعة في المعرة لحمايتها (3)، وطلب من صاحب حمص الملك المجاهد أسد الدين شيركوه حفر خندق حول القلعة، وتعميقه، وتوسيعه وإعمار قلعة شميس، واهتم الملك الكامل بتحصين البلاد، ولاسيما الثغور وذلك ببناء القلاع والحصون، كما اهتم بالقضاء والخدمات العامة وكان المحتسب يرتبط بالقضاء ويتولى المخالفات التي تتعلق بالآداب العامة ونظام الأسواق، والمعاملات التجارية، والمكاييل والمقاييس والخانات، والحمامات والفنادق ومنح رخص مزاولة الأطباء والصيادلة، ومن أبرز الأعمال التي قام بها الملك الكامل والتي كان لها مساس لحياة الشعب على نحو وثيق.
__________
(1) القدس بين أطماع الصليبيين ص 120.
(2) نسبة إلى علم الدين شمائل الذي برز دوره فدائياً عظيماً.
(3) تتمه المختصر ص نقلاً عن القدس بين أطماع ص 120.(1/303)
أ- بناء الجسور: نهج الملك الكامل نهج الحكام الأيوبيين الذين سبقوه في بناء الجسور التي تحتاج إليها مصر وبلاد الشام، وكانت الجسور التي في مصر تتحكم بمجرى النيل وتحفظ البلاد من الفيضان، وتستخدم لتصريف مياه النهر (1) وكان المصريون يحتفلون بعيد وفاء النيل (2) لأهميته في حياة البلاد الاقتصادية وكان الملك يخرج من يوم العيد من القلعة إلى المقياس (3)، فيقام احتفال يحضره عدد من المسؤولين والناس (4) وكانت الجسور في مصر على نوعين هما:
- الجسور السلطانية: وهي الجسور العامة النفع في حفظ البلاد من خطر فيضان النيل، وتتولى الدولة إقامتها، ويكون لسلطان البلاد مسؤولاً عن تعميرها، وإدارتها، وتقام من بيت المال، وتصان باستمرار ويشرف على الجسور، كاتب خاص، مسؤول عن الإنفاق على هذه الجسور (5)، من الأموال المخصصة لها.
- البلدية: وهي الجسور الخاصة النفع بناحية دون ناحية، يتولى إقامتها وإدارتها المقطعون والفلاحون بما ينتفعون بها من عندهم، وهي بمثابة البيت الذي يمتلكه الشخَّص أي مثل سور منزله، فكل صاحب دار ينظر في مصلحتها ويلتزم تدبير أمره فيها (6).
__________
(1) المقريزي (2/ 188).
(2) صبح الأعشى (4/ 47).
(3) المقياس: بركة وسطها عمود طويل فيه علامات الأذرع والأصابع.
(4) القدس بين أطماع الصليبيين ص 121.
(5) صبح الأعشى (3/ 445) القدس بين أطماع الصليبيين ص 121.
(6) القدس بين أطماع الصليبيين ص 122.(1/304)
ب- تأسيس دار الحديث: تابع الملك الكامل سياسة دعم التعليم وتشييد المدارس، والإنفاق عليها وتوفير الخدمات اللازمة، فأقام 622هـ/1225م دار الحديث الكاملية في القاهرة، وتقع الدار بين القصرين (1)، ووقف هذه الدار على المشتغلين بالحديث النبوي، ثم من بعدهم على الفقهاء الشافعية، ووقف عليها الربع الذي بجوارها على باب الحرنشف ويمتد إلى الدرب المقابل للجامع الأزهر، وكان موضع المدرسة سوقاً للرقيق وداراً تعرف بابن كستول (2) ودرس في الكاملية الحافظ أبو الخطاب عمر بن دحية ثم أخوه أبو عمر عثمان الحافظ عبد العظيم المنذري، وما برحت بيد أعيان الفقهاء إلى أن تتلاشت في العهد المملوكي، وتشير أطلال الدار عام 1321هـ/1903م إلى أنها كانت تتكون (3)، من قاعة مستطيلة طولها عشرة أمتار ونصف المتر تقريباً، وعرضها تسعة أمتار ونصف، وهي مسقوفة بقبة مدببة مبنية بالآجر، تتكون من مداميك أفقية تعلوها مداميك رأسيه، وتبلغ فتحة القبة تسعة أمتار ونصف (4)، ويبلغ ارتفاعها عند مستوى انحنائها ستة أمتار ونصف، وأما ارتفاعها عند سطح الأرض فهو معروف لأن تربة مكدسة إلى إرتفاع كبير فوق أرضية البناء وجدران القاعة مبنية من الحجارة وهي سميكة يقرب سمكها من مترين، أما سمك القبة فهو متدرج، يبلغ عند المنبت "الإنحناء" فوق الجدران متراً، ويرق عند القبة إلى نصف متر (5).
__________
(1) تتمة المختصر (2/ 238).
(2) القدس بين أطماع الصليبيين ص 122.
(3) القدس بين أطماع الصليبيين ص 122.
(4) المصدر نفسه ص 122.
(5) المصدر نفسه ص 123.(1/305)
ج- تشييد مدينة المنصورة: لم يقتصر اهتمام الملك الكامل على النواحي الاقتصادية بل شمل الميدان العمراني، وتشييد المدن فقد أقام مدينة المنصورة عام 616هـ/1219م عندما ملك الفرنج مدينة دمياط (1)، وهي تقع بين القاهرة ودمياط في المنطقة المحصورة بين فرعي نهر النيل المتجهين إلى دمياط، وأشمون طناح (2)، الذي يصب في بحيرة تنيس، وجعلها قاعدة لعسكره وسمّاها المنصورة تيمناً بانتصاره على الصليبيين، واستعادة دمياط، ولم يزل بها إلى أن خرج الفرنج من الأراضي المصرية فأقام بها احتفالاً ضخماً وقد بنى الملك الكامل فيها قصراً وأمر من الأمراء والعساكر ببناء مساكن لهم، ونصبت الأسواق وأصبحت المدينة فيما بعد كثيرة القصور والفنادق والحمامات وأحيط بسور من الجهة البرية، وزودت مواقعها بالآت حربية للدفاع عنها (3).
__________
(1) مفرج الكروب (4/ 15) القدس بين أطماع ص 124.
(2) القدس بين أطماع الصليبيين ص 124.
(3) المختصر (3/ 93) القدس بين أطماع الصليبيين ص 124.(1/306)
2 - الحياة الاجتماعية: حاول الملك الكامل رعاية الشعب وتقديم الخدمات إليه، غير أن ظروف الحرب التي شهدتها البلاد مدة من الزمن أثرت في حياة الأهالي السياسية والاقتصادية فازداد الفقر وكان للحرب بين الصليبيين والمسلمين من جانب، والحروب التي أقامها الكامل وأخوته، لانتزاع دمشق من الملك المعظم وابنه، ومن الملك الصالح إسماعيل، أثر كبير في استنزاف أموال الناس، وكثرة الضرائب، واستشهاد الألوف وانتشار الأمراض، وازدياد الفزع بين صفوف الأطفال والنساء وتشريد الأهالي، ولاسيما لدى تخريب مدينة تنيس وإخلائها من السكان وتخريب مدينة القدس، وقلعة الطور فضلاً عن الدمار الذي كان يصيب المدن والقرى بين الحين والآخر، نتيجة العدوان الصليبي والخوارزمي السلجوقي (1) وقد اتسمت الحياة الاجتماعية في عهد الملك الكامل بطابع الجد، ومناهضة الصليبيين، ذلك أن البلاد تعرضت إلى هجمات صليبية، ومخاطرها المتكررة بالإضافة إلى الحروب الداخلية التي خاضها الملك الكامل في المناطق الشرقية، ولذلك غلبت فكرة الحرب وتحصين الثغور، مما لم يترك مجالاً كبيراً للتوسع في حياة الترف، إلا أن الحياة الاجتماعية لم تكن خشنة كل الخشونة فحافظ الملك الكامل على إحياء الأعياد الدينية الإسلامية، دون إسراف أو تهتك (2)، وقد اعتمد الملك الكامل على الأقليات من الأتراك والأكراد والتركمان في تسيير شؤون البلاد (3)،
__________
(1) الأيوبيون ص 213، الباز العريني ص 213.
(2) العدوان الصليبي على مصر، جوزيف نسيم يوسف ص 241.
(3) وفيات الأعيان (4/ 127) القدس بين أطماع الصليبيين ص 126 ..(1/307)
فعانى العامة والحرفيون وصغار التجار من تسلط رجال الملك في كثير من الأحيان، واعتداءات الأعراب أحيانا على بعض المدن وقطع الطرق، واغتصاب الجند الأموال، فشنع العامة على الملك، واتهموه بالخيانة لدى تسليمه بيت المقدس عام 625هـ/1228م، بل أنهم أعلنوا بصراحة وشجاعة رفضهم استمرار حكمه، وأظهروا مشاعر الحقد عليه من خلال الأغاني والأهازيج التي كانوا يرددونها في المحافل العامة (1).
واشتهر الملك الكامل بعطفه على رعاياه فوزع الصدقات على الفقراء والمرضى واليتامى والأرامل والمقعدين منهم (2)، وعامل الملك الكامل أهل الذمة معاملة جيدة "إذ عرف بتسامحه الديني" (3)، فقد ذكر ابن عبري "إن موسى بن ميمون اليهودي الأندلسي أكره على الإسلام إلى مصر، وابتلى برجل من الأندلس يعرف بأبي العرب وصل إلى مصر، فرامى إيذاءه فمنعه القاضي الفاضل وقال له: رجل لا يصح إسلامه شرعاً إذا أكره (4)، واحتل العنصر القبطي مكانة مرموقة في الدولة، فقد أسلمت أسر قبطية، وبرع أفرادها في ميادين شتى، ونبغ الكثير منهم، وعملوا في الدواوين لكفاءتهم وكان معظم الأطباء لدى السلاطين من اليهود والنصارى، وشغل بعضهم المناصب المالية في الدولة، وكانت الكنيسة القبطية تعد الملك الكامل من أكثر الملوك إحساناً إلى أبنائها (5) وقد أثرت هذه الأوضاع في العامة، وبرزت الظواهر التالية.
__________
(1) مرآة الزمان (8/ 708) القدس بين أطماع الصليبيين ص 126.
(2) القدس بين أطماع الصليبيين ص 127.
(3) تاريخ مختصر الدول ص 239 لابن العبري.
(4) النجوم الزاهرة (6/ 110).
(5) المصدر نفسه (6/ 170) القدس بين أطماع ص 128.(1/308)
أ- ظاهرة الغلاء والأوبئة والمجاعات: تعد الحياة الاقتصادية في أي مجتمع إنساني أكثر تأثراً بالوضع السائد في المجتمع، إذ يرتبط الاستقرار الاقتصادي طردياً بالإزدهار السياسي في المجتمع، وتعد الأزمات السياسية الحروب سبباً في حدوث الاضطراب الاقتصادي وارتفاع الأسعار، والتهافت على شراء الأقوات، وكان الغلاء من أكثر الظواهر الاقتصادية إضراراً بالعامة، فعانى الناس من الجوع والمرض، فقد انخفضت مياه النيل في عامي 1200م/1201م وانتشرت المجاعة والأمراض وهجر كثير من الناس مصر إلى أقطار أخرى بحثاً عن الطعام (1) ويمكن أن نعزو أسباب الغلاء وإرتفاع الأسعار إلى عاملين رئيسين:
- يعتبر منسوب مياه النيل العامل الأول: إذ أن هبوط النيل أو زيادته على المنسوب العادي للفيضان في فصل الصيف يمثل خطراً حقيقياً على الحياة المصرية آنذاك، إذ لم يعتمد الأهالي خزن المياه الزائدة في سدود لاستخدامها في وقت التحاريق لذلك كان السكان يخشون الفيضان ويعدونه كارثة عليهم، إذا أن النيل هو مصدر المياه الوحيد في مصر تقريباً، فإذا قصر الوفاء فإن وقت الزراعة، وإذا زاد على حده العادي أغرق الحقول، وجعلها غير صالحة للزراعة، وعندما تقل مياه النهر عن الحد اللازم للزراعة تنتاب الناس مخاوف من حدوث المجاعة، ويكثر قلقهم، خوفاً من الجوع لعدم زراعة المحاصيل، لذلك كان السكان يسارعون لتخزين الغلال طمعاً في الحصول على مزيد في الأرباح من طريق رفع الأسعار ونتيجة لذلك يشتد الإقبال على شراء الغلال، بينما يقل المطروح منها في الأسواق ويشتد التزاحم على حوانيت الغلال، والأفران، مما يؤدي إلى إرتفاع الأسعار في البضائع المختلفة سواء المأكولات أو المشروبات أو الملبوسات (2).
__________
(1) القدس بين أطماع الصليبيين ص 128.
(2) القدس بين أطماع الصليبيين ص 128.(1/309)
- ويتمثل هذا العامل بسياسة الدولة الاقتصادية المرتبطة بطبيعة النظام الإقطاعي ذي الطابع العسكري، فأصحاب الإقطاعات من قادة وأمراء جند لم يعيروا اهتماماً كبيراً لاستصلاح أراضيهم وجعلها أكثر مردوداً بسبب عدم استقرار هذه الإقطاعات في أيديهم (1)، وقد ذكر المقريزي: أنه كان لأسرة بني خيار بقرة فذبحوها، وباعوها أثناء حصار دمياط عام 615هـ/1218م بثمانمائة دينار (2)، وأن سعر رطل السكر ارتفع إلى 450ديناراً والدجاجة إلى 30ديناراً وأن الجوع انتشر بشكل كبير إلى درجة إحدى السيدات المحسنات شقت جوف جمل، وملأته بالدجاج والفواكه وخاطته، ورمته في البحر، وكتبت بذلك إلى أهل دمياط ليوزعوا ما فيه إلى المحتاجين (3) وكان الغلاء في مصر عام 633هـ/1236م شديداً لنقص مياه النيل، فخرج العامة، وأئمة المساجد لتأدية صلاة الاستسقاء فأكل الناس الكلاب والقطط وانتشر المرض، واستمر حوالي ثلاثة أشهر، فمات خلق كثير تجاوز الحد، وقدره المقريزي بحوالي 12ألف نفس في القاهرة، عدا من مات في الريف (4)، وقدره ابن تغري، بردي بحوالي ثلاثين ألفا (5).
ب- السخرة: استخدم الملك الكامل الناس للعمل دون أجر لبناء الجسور العامة والسدود والعمل في الإقطاعات، والمرافق العامة التي تظهر فائدتها في السكان (6).
ج- الرشوة: انتشرت بين بعض كبار المسؤولين، وليس أدل على ذلك من قول المقريزي: تقدم الأنباء كيرلس داود بن لقلق بطرك الإسكندرية بالرشوة، وأنه أخذ الشرطونية عام 633هـ/1235م (7).
__________
(1) المصدر نفسه ص 129.
(2) الخطط (1/ 399) القدس بين أطماع ص 129.
(3) القدس بين أطماع الصليبيين ص 129.
(4) السلوك (1/ 291)
(5) النجوم الزاهرة (6/ 287) القدس بين أطماع ص 129
(6) القدس بين أطماع ص 130.
(7) القدس بين أطماع الصليبيين ص 130.(1/310)
د- المصادرة والظلم الاجتماعي: انتشرت المصادرة والظلم الاجتماعي في عهد الملك الكامل، فقد كثرت مصادرة الوزير الصاحب صفي الدين بن شكر أرباب الأموال بمصر والقاهرة من التجار، والكتاب، وكان يفرض على الناس التبرع بأملاكهم، وأحدث ابن شكر حوادث كثيرة، وحصل مالاً جماً وقد وصف بأنه كان جباراً أفقر، خلقاً كثيراً عاتياً بتقدمه الأراذل وتأخر الأماثل وكان الملك الكامل فيه جبروت ويحب تحصيل المال وجمعه والسيطرة (1)، وقبض الملك الكامل على الناصر قلّج أرسلان عام 630هـ/1232م واعتقله في قلعة الجبل حتى مات، وكان الناصر حاكم حماه فانتزعها الملك الكامل منه (2)، وسلمها إلى الملك المظفر محمود بن المنصور زوج ابنته غازية خاتون وعوضه بقلعة بارين، ومالبث أن انتزع الملك المظفر هذه القلعة منه، فذهب إلى مصر يشكو أمره للملك الكامل فقبض عليه (3).
هـ - سرقة الأموال العامة: تفشت السرقة والإهمال في بعض دواوين الدولة، ولاسيما المواد الغذائية التي يعتمد عليها أبناء الشعب، فقد نهب ناظر ديوان الأهراء حوالي أحد عشر ألف أردب من القمح (4) ومع تسلط الملك الكامل وجبروته، فإنه لم يكن منعزلاً عن شعبه تماماً، وإنما كان يحاول مساعدة الشعب، ومشاركته في كثير من الأمور ومن ذلك:
- مشاركة الملك الكامل في صلوات الاستسقاء التي كانت تؤدى بين الحين والآخر، كلما قلت مياه النيل وصلاة العيد و ...
- إبطال بعض الضرائب عند انتشار المجاعات.
- توزيع الصدقات والزكوات على الفقراء ولاسيما في رمضان.
- مصادرة أموال بعض المسؤولين الذين أساؤوا استخدام الوظيفة، وقبلوا الرشوة، أو سرقوا من الدواوين (5).
__________
(1) المصدر نفسه ص 130.
(2) المصدر نفسه ص 131.
(3) المصدر نفسه ص 131.
(4) المصدر نفسه ص 131.
(5) المصدر نفسه ص 131.(1/311)
سابعاً: وفاة خاتون بنت الملك العادل 616هـ:
توفيت خاتون بنت الملك العادل سنة616هـ وهي زوجة الملك المنصور صاحب حماة وحزن عليها حزناً عظيماً، ولبس الحداد، وأمر بصعود أكابر حماة إلى القلعة للصلاة عليها، فصلوا عليها، وعمل السلطان عزاها بالمدرسة المنصورية حماة وكان مكتئباً حزيناً لابساً الحداد وهو ثوب أزرق وعمامة زرقاء، وإلى جانبه أولاده الملك الناصر قلج أرسلان وأخوته وعليهم كلهم الحداد، وقرأ القُراء بين يديه ووعظت الوعاظ وانشدت الشعراء المراثي وكان اقترح له أن تنظم المراثي على وزن قصيدة أبي العلاء المعري ورويّها التي مطلعها:
يا ساهر البرقِ أيقظ راقد السَّمرُ ... لعل بالجِزْعِ أعواناً على السَّهر
فعمل جماعة من الشعراء قصائد على هذا الوزن والروى (1) وللملك المنصور زوجها في رثائها عدة قصائد، من ذلك قصيدة مطلعها:
دموع كالغيوث الهاطلات ... لماضى من كآباتي وآتي
ولو عات علي لها إحتكام ... يرق لها ملام اللائمات
على من في الضريح لها أنيس ... صلاة واصلتها بالصلات
أيا من وجهُها عندي عزيز ... ويا من موتُها أوهي حياتي
سلام الله كل صباح يوم ... على تلك العظام الباليات
أساكنة اللحود عليك مني ... دموع دونها ماء الفرات
لقد كانت بك الساعات تزهو ... لعيني كالنجوم الزاهرات
وفقدك صير الأيام عندي ... لبعدك كالليالي الحالكات
وكنت بعصمة الدين المهنى ... بعصمتها العلية عن صفات
إلى أن قال:
ولكني أذبت سواد عيني ... فسال مع الدموع السائلات (2)
ومنها:
وتبكي الصالحات عليك حُزناً ... بكاءَ الأمهات على البنات (3)
__________
(1) مفرج الكروب (4/ 60، 61).
(2) مفرج الكروب (4/ 68).
(3) المصدر نفسه (4/ 69)(1/312)
ثامناً: وفاة ست الشام بنت أيوب 616هـ: ست الشام واقفة المدرستين البَّرانية والجَّوانية، الخاتون الجليلة ست الشام بنت أيوب بن شاذي، أخت الملوك وعمة أولادهم، كان لها من الملوك المحارم خمسة وثلاثون ملكاً، منهم شقيقها المُعظَّمُ تورنشاه بن أيوب صاحب اليمن، وهو مدفون عندها في تربتها في القبر القبليَّ من الثلاثة، وفي الأوسط منها زوجها وابن عمَّها ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شاذي، صاحب حمص، وكانت قد تزَوَّجته بعد أبي ابنها حسام الدين محمد بن عمر بن لاجين، وكانت ست الشام من أكثر النساء صدقة وإحساناً إلى الفقراء والمحاويج، وكانت تعمل في كل سنة في دارها بألوف من الذهب أشربة وأدوية وعقاقيَر وغير ذلك وتُفَّرقُه على الناس، وكانت وفاتها يوم الجمعة آخر النهار السادس عشر من ذي القعدة من هذه السنة في دارها التي جعلتها مدرسة وهي عند المارستان وهي الشامية الجوانية، ونُقلت منها إلى تُربتها بالشامَّية البّرانية، وكانت جنازتها عظيمة حافلة رحمها الله (1).
__________
(1) البداية والنهاية (17/ 84).(1/313)
تاسعاً: وفاة، صاحب أربل مظفر الدين أبو سعيد كُوكَبرى 630هـ:
السلطان الدَّينَّ الملك المعظم مُظَفرَّ الدَّين أبو سعيد كُوكُبرى بن علي ابن بكتكين بن محمد التركماني، صاحب إربل وابن صاحبها ومُمصّرها الملك زين الدين علي كوجك (1)، وكوجك هو اللطيف القّد، كان كوجك شهماً شجاعاً مهيباً، تملك بلاداً كثيرة، ثم وهبها لأولاد صاحب الموصل، وكان يوصف بقوة مفرطة، وطال عمره وحج هو والأمير أسد الدين شيركوه بن شاذي وتوفي سنة ثلاثة وستين وخمس مئة، وله أوقاف وبّر ومدرسة بالموصل، فلما مات تملك إربل إبنه هذا وهو مراهق، وصار أتابكه مجاهد الدين قيماز، فعمل عليه قيماز وكتب محضراً بأنه لا يصلح للملك وقبض عليه ومَلَّكَ أخاه زين الدين يوسف، فتوجه مظفر الدين إلى بغداد فما التفتوا عليه فقدم الموصل على صاحبها سيف الدين غازي بن مودود، فأقطعه حّران، فبقي بها مُدَيْدَة، تم اتصل بخدمة السلطان صلاح الدين، وغزا معه، وتمّكن منه، وأحبه، وزاده الرُّها، وزوجه بأخته ربيعة واقفة الصاحبية، وأبان مظفر الدين عن شجاعة يوم حطّين، وبيَّن، فوفد أخوه صاحب إربل على صلاح الدين نجدة فتمرَّض ومات على عكَّا فأعطى السلطان مظفر الدين إربل وشهرزور، واسترد منه حّران والرُّها وكان محباً للصدقة، له كل يوم قناطير خبز يفرقها ويكسو في العام خلقاً ويعطيهم ديناراً ودينارين، وبنى أربع خوانك للزّمن والأضراء، وكان يأتيهم كل اثنين وخميس ويسأل كل واحد عن حاله ويتفقده ويباسطه ويمزح معه، وبنى داراً للنساء، وداراً للأيتام، وداراً، وداراً للقّطاء ورتَّبَ بها المراضع، وكان يدور على مرضى البيمارستان، وله مضيف ينزلها كل وارد، ويُعْطَي كل ما ينبغي له وبنى مدرسة للشَّافعية والحنفية وكان يمّد بها السماط ويحضر السماع كثيراً، لم يكن له لذة في شيء غيره، وكان يمنع من دخول مُنكر بلده وبنى للصوفية رباطين ...
__________
(1) سير أعلام النبلاء (22/ 334).(1/314)
وكان في السنَّة يفتك أسرى بحملة ويخرج سبيلاً للحج ويبعث للمجاورين بخمسة آلاف دينار وأجرى الماء إلى عرفات وكان متواضعاً خيّراً سُنيَّاً يحب الفقهاء والمحدثين، وربما أعطى الشُّعراء، وما نُقل أنه انهزم في حرب وقد عاش اثنين وثمانين سنة (1).
عاشراً: بعض رجالات الملك الكامل: اعتمد الملك الكامل على عدد من الرجال في تسيير دفة الحكم وإدارة الدواوين وقيادة الجيش وقد برز عدد من الرجال في الميادين المختلفة منهم شمس الدين صواب الطواشي، الذي كان مقدم عسكر الكامل وتولى بلاد المشرق إلى أن مات في حران عام 632هـ/1234م وأبو الوحش أبي الخير أبو حليقة ت 654هـ/1256م طبيب الملك الكامل، الذي أحكم معرفة نبضه، حتى أن الكامل أخرج يده ذات يوم من خلف ستارة إلى الطبيب ليجس نبضه فقال: هذا نبض مولانا السلطان، وابن البيطار الذي كان رئيسي العشابين عند الكامل وتوفي 646هـ/1248م واستخدم الملك الكامل في كتابه الإنشاء عدداً من الأشخاص أبرزهم الوزير بن شكر ت (622هـ/1225م) (2).
__________
(1) سير أعلام النبلاء (22/ 334، 335، 336).
(2) صبح الأعشى (1/ 91) القدس بين أطماع الصليبيين ص 132.(1/315)
وبهاء الدين زهير، والفخر سليمان بن محمود بن أبي غالب الدمشقي، وعندما توفي الأخير عام 630هـ/1232م استحضر الملك الكامل ناسخاً يقال له الأمين الحلبي، كان في خدمة الأمير عز الدين أبيك استداراً الملك المعظم، فلما حضر الأمين ليكتب بين يديه، خلع عليه، وأعاده إلى الأشرف صاحب دمشق (1)، وبعث الملك الكامل إلى ميافارقين فأحضر جلال بن نباته ليستكتبه، فلما حضر خلع عليه، وأعاده ولم يستكتبه، فعمل لدى الملك الأشرف، وعندما فتح الملك الكامل آمد عام 632هـ/1234م استخدم فخر الدين بن لقمان كانت عرصة القمح ونائب ناظر آمد وكان بهاء الدين زهير كاتب الإنشاء عند الملك الكامل قد استدعى من ناظر آمد بعض الحاجات، فكانت الرسائل ترد إليه بخط بن لقمان، فأعجب وكثر رجالات الملك الكامل وقد مر ذكر بعضهم في مواضع مختلفة من الكتاب ولكني أثارت إبراز شيخ الشيوخ وابن دية وابن المنذر بتفصيل أكثر لما بهم من أثر كبير في سياسة الملك الكامل واعتماده عليهم (2).
__________
(1) السلوك (1/ 28).
(2) القدس أطماع الصليبيين ص 133.(1/316)
1 - أولاد شيخ الشيوخ: كان الشيخ صدر الدين من بيت كبير من خراسان وكان فقيها فاضلاً وكان له حرمة وافرة عند الملك الكامل، يعتمد عليه في كثير من الأمور، وقد أرسله عام 617هـ/1220م إلى الخليفة العباسي يستنصره على الفرنج في دمياط، فأصيب بالأسهال وتوفي بالموصل عن أربعة وسبعين عاماً (1) وخلف الشيخ صدر الدين أربعة أبناء عرفوا بأولاد شيخ الشيوخ وتقدموا عند الملك الكامل، واثروا في سلوكه، إذ كانوا إخوته في الرضاعة (2)، وكانوا يتولون مشيخة الخانقاه سعيد السعداء والتدريس في المدرسة الناصرية التي شيدها الناصر صلاح الدين يوسف عام 566هـ/1170م وكانت بجوار قبر الشافعي بالقرافة، وكذلك التدريس في المشهد الحسيني بالقاهرة، وقد حاز أبناء الشيخ فضيلة السيف والقلم يباشر أحدهم التدريس ويتقدم على الجيش، ويباشر الحرب (3)، وهم الأمير فخر الدين يوسف، وعماد الدين عمر، وكمال الدين أحمد، ومعين الدين حسن (4)، وكان الأمير فخر الدين يوسف أميراً عالي الهمة، فاضلاً ومتأدباً وسمحاً وجواداً، ومحبوباً إلى الخاص والعام، خليقاً بالملك لما فيه من الأوصاف الجيدة وكانت أمه ابنة المظهر بن أبي عصرون وكان الملك الكامل لا يطوي سراً عن فخر الدين ويثق به ويعتمد عليه، وكان أول أمره معمما، فالزمه الملك الكامل أن يلبس الشربوشي وزي الجند (5)، فأجابه إلى ذلك، فأقطعه الملك منية السودان بالديار المصرية، ثم طلب منه أن ينادمه فأجابه إلى ذلك وكان رئيساً محتشماً ذا عقل ورأي ودهاء وشجاعة وكرم (6)
__________
(1) البداية والنهاية نقلاً عن القدس بين أطماع الصليبيين ص 133.
(2) السلوك (1/ 302) القدس بين أطماع الصليبيين ص 133.
(3) القدس بين أطماع الصليبيين ص 133.
(4) المصدر نفسه ص 133.
(5) فوات الوفيات (4/ 366) القدس بين أطماع ص 134.
(6) شذرات الذهب نقلاً عن القدس بين أطماع ص 134 ..(1/317)
وبعث الملك الكامل الأمير فخر الدين يوسف في عدة بعثات فقد أرسله إلى الأمبراطور فردريك الثاني عام 624هـ/1227م، يستقدمه إلى عكا ليشغل سر أخيه الملك المعظم (1) وفي عام 625هـ/1228م أرسله لتسلم حران والرها وسروج واستشهد في دمياط عام 647هـ/1249م (2).
وأما عماد الدين الحسن فكان من أكابر أعيان الدول والمقربين عند الملك الكامل (3) وساهم كمال الدين بن شيخ الشيوخ في خدمة الملك الكامل، فقد عين عام 627هـ/1229م نائباً بالجزيرة، ثم عينه الملك الكامل وزيراً له وخدم الملك الصالح أيوب إلى أن توفي عام 640هم1242م وقيل أنه مات (4) مسموماً وخدم معين الدين بن شيخ الشيوخ دولة الملك الكامل، فبعث عام 624هـ/1227م إلى الملك المعظم، ثم بعث إلى الخليفة لتوضيح أمر الخلاف بين الكامل والمعظم (5)، وتولي معين الدين نيابة الوزارة لدى الملك الكامل، ثم تولى الوزارة لدى الملك الصالح أيوب، وتوفي عام 643هـ/1245م (6).
2 - ابن دحية: أبو الخطاب عمر بن الحسن بن علي بن محمد بن فرج بن دحية ولد عام 544هـ/1149م (7)، كان شيخ الحديث في عهد الملك الكامل، فولاه مشيخة دار الحديث الكاملية وكان الملك الكامل مقبلاً عليه، ثم أخذ منه دار الحديث وأهانه إذ كان يثلب علماء المسلمين ويقع فيهم ويزيد في كلامه، فترك الناس الرواية عنه وابتعدوا عنه وكذبوه ت عام 633هـ/1235م (8).
__________
(1) السلوك (1/ 58) القدس بين أطماع ص 134.
(2) القدس بين أطماع الصليبيين ص 135.
(3) المصدر نفسه ص 135.
(4) المصدر نفسه ص 135.
(5) القدس بين أطماع الصليبيين وتفريط الملك الكامل ص 135.
(6) البداية والنهاية نقلاً عن القدس بين أطماع الصليبيين ص 135.
(7) وفيات الأعيان نقلاً عن القدس بين أطماع الصليبيين ص 135.
(8) النجوم الزاهرة (6/ 295) القدس بين أطماع ص 136.(1/318)
3 - الحافظ زكي الدين المنذري: عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله بن سلامة الإمام العلامة محمد أبو زكي الدين المنذري، كان شافعياً، شامي الأصل (1)، ولد بمصر عام 581هـ/1185م، كان شيخ الحديث بمصر مدة طويلة ولى دار الحديث الكاملية (2)، وكانت له اليد الطولى في الفقه واللغة والتاريخ، زاهداً، وتوفي عام 656هـ/1258م اختصر صحيح مسلم، وسنن أبي داود، وله كتاب الترغيب والترهيب في مجلدين، وكتاب التكملة لوفيات النقلة (3). ونلاحظ اهتمام الملك الكامل بالشؤون الداخلية لمملكته، فسعى إلى توفير الأمن في البلاد وحد من نشاطات اللصوص وقطاع الطرق، وشمل برعايته الناس وحاول حل مشاكلهم وحاول مراقبة العلاقات بينهم، فتدخل لحل خلافات الأقباط ومنع الإسماعيلة من الدعوة لعقيدتهم، وعين بعض أمراء القبائل لضمان السير في ركابه، وعدم مخالفة أمره وأطلع على أحوال الدواوين، وحاول تنظيم سجلاتها ومحاكمة كل من يخون الوظيفة التي يعمل بها، كذلك حاول منع الرشوة والسرقة في الدواوين وأعاد العمل والنشاط لديوان التحقيق عام 612هـ/1227م ... ثم أنه ألغى هذا الديوان بعد عامين عندما استقامت الأمور (4)، وعني الملك الكامل بالمرافق العامة التي توفر حياة أفضل للسكان، فمد قنوات الري وشيد دار الحديث وأصلح قبة الشافعي، وأدخل زراعة اليلسا، وركز على إصلاح النظام النقدي في البلاد لتوفير الأموال اللازمة فحاول تنمية أموال الدولة وحد من تزييف النقود (5)
__________
(1) البداية والنهاية نقلاً عن القدس بين أطماع ص 137.
(2) الخطط (3/ 197) القدس بين أطماع ص 137.
(3) القدس بين أطماع الصليبيين وتفريط الملك الكامل ص 137.
(4) القدس بين أطماع الصليبيين وتفريط الملك الكامل ص 137.
(5) المصدر نفسه ص 137 ..(1/319)
وبالرغم من محاولات الملك الكامل السابقة إلا أن الظروف الطبيعية من نقص لمياه النيل في بعض السنوات وكثرة الحروب في عهده ألقت بظلالها على حياة الشعب فظهرت المجاعات في بعض السنوات، وانتشرت الأوبئة وتفشت بعض أنواع الفساد، كالسخرة، والرشوة والسرقة، وغني عن البيان أن الملك الكامل اعتمد على مجموعة من الرجال الذين أسدوا له النصيحة وقدموا له المشورة في المواقف المختلفة، فكانت لهم اليد الطولى في إدارة البلاد، وتنظيم الدواوين، وتشييد العمران، وإصلاح النظام المالي، ومختلف الشؤون (1).
__________
(1) المصدر نفسه ص 138.(1/320)
المبحث الثالث: سياسة الملك الكامل مع الممالك في عصره:
ترتَّب على زوال الخطر عن مصر، وانحسارهه في بلاد الشام، أن عاد الأمراء الأيوبيون إلى ما درجوا عليه من صرف أيامهم في المنازعات الداخلية لتحقيق مطامع إقليمية والواضح أن ما انعقد من التحالف بين أبناء العادل الثلاثة الكامل محمد في مصر، والمعظم عيسى في دمشق، والأشرف موسى في إقليم الجزيرة، لم يدم طويلاً بعد انتصارهم على الحملة الصليبية الخامسة، ولم يلبث أن انفرط عقده في نهاية عام 619هـ/1223م إذ كان المعظم عيسى يخشى من أخويه الكامل محمد والأشرف موسى، ويطمع في حكم مصر والتوسع في إقليم الجزيرة (1) والحقيقة أن الأيوبيين كانوا أحوج إلى الاتحاد في ذلك الوقت منهم في أي وقت مضى، بفعل ظهور خطر جديد هدّدهم هو الخطر الخوارزميين، وقد ظهر ذلك الخطر نتيجة مباشرة لحركة التوسع المغولي (2)
__________
(1) تاريخ الأيوبيين ص 324.
(2) المصدر نفسه ص 324، مصر والشام في عصر الأيوبيين والمماليك ص 92 ..(1/321)
وكان الأشرف موسى، أكثر شعوراً بذلك الخطر الخوارزمين لمتاخمة بلاده في الجزيرة وخلاط ممتلكات الخوارزميين في أذربيجان وأرّان وبعض بلاد الكرج وعراق العجم وغيرها، لذلك عمل جاهداً على إعادة توحيد الأسرة الأيوبية لمجابهته، فقام بزيارة لأخيه المعظم عيسى في دمشق وطلب منه أن يعمل بسرعة على توحيد البيت الأيوبي لمجابهة خطر الخوارزميين المتزايد، الذي بات يهدد أملاك الأيوبيين ويبدو أن صاحب دمشق لم يأبه لهذا الخطر، وأن كل ما يعنيه هو التوسع على حساب إخوته، لذلك استغل وجود أخيه في دمشق وقبض عليه، وأجبره على التعهد بمساعدته في التوسع شمالاً باتجاه حمص وحماة، ثم في مهاجمة مصر، لكن ما كاد الأشرف موسى يتخلص من قبضة أخيه حتى نقض ما بينه وبين أخيه المعظم عيسى وتأوَّل في إيمانه التي حلفها، بأنه كان مكرهاً عليها، ثم زار مصر دون أن يخبر المعظم عيسى أو يصطحبه معه، وأكّد تحالفه مع أخيه الكامل محمد، وأخبره بكل حدث (1).
__________
(1) تاريخ الأيوبيين ص 324.(1/322)
أولاً: موقف الملك الكامل محمد من الملوك الأيوبيية: كان الملك الكامل محمد قد أضحى آنذاك من النفوذ والسلطان ما جعله يفرض على أمراء الشام بأن يلتزموا الهدوء والسكينة، ولم يخرج عن طاعته إلا المعظم عيسى صاحب دمشق، الذي ظن أن أخاه الأشرف موسى يهدف، من وراء هذه الزيارة، إلى التحالف مع أخيه الكامل محمد ضده، وشعر بأنه واقع تحت ضغط أخويه، فحرص على أن يثير لهما المتاعب في بلاد الشام وإقليم الجزيرة، فحرص على أن يثير لهما المتاعب في بلاد الشام وإقليم الجزيرة، فهاجم حماة في عام (620هـ/1223م) واستولى على بعض أعمالها مثل المعرة وسليمة، وكانت حماة وأعمالها لابن عمه الناصر صلاح الدين قلج أرسلان، مما أشار الأشرف موسى والكامل محمد، فأرسل هذا الأخير إليه يطلب منه الرحيل عن حماة، فتركها وهو (1) حنق، وكان ذلك فاتحة الخلاف بين المعظم عيسى من جهة وأخويه الأشرف موسى والكامل محمد من جهة أخرى، وتحقّقت الآن مخافة من أن أخويه ينويان اقتسام بلاده وكان يمكن لهذا النزاع أن يبقى محصوراً داخل الأسرة الأيوبية، لولا استغاثة الأطراف المتنازعة بقوة خارجية، مما أعطاه بُعداً إقليمياً (2).
1 - أصداء التحالف في الجزيرة: عندما شعر الملك المعظم بالتقارب بين أخويه، قدَّر أنه سيدفع من مملكته ونفوذه ثمن هذا التقارب، فبدأ يلتمس طُرُقاً للرَّدَّ على تحالف أخويه، وفكَّر الملك المعظم بكُلَّ من حوله من الملوك وكانت الساحة أمامه كما يلي:
- إخوته الآخرون: معظمهم أصحاب قلاع وبُلدان صغيرة ولا يشكلون إلا قوة تأثير بسيطة ما عدا أخيه المظُفَّر غازي صاحب خِلاطَ، فاتَّصل به وحسَّن له الخروج على الملك الأشرف.
- ملوك بني أيوب وابن عمَّهم المجاهد، وكانوا كلهم مخالفين للأشرف، ويداً واحدة معه (3).
__________
(1) المصدر نفسه ص 324.
(2) المصدر نفسه ص 235.
(3) مفرج الكروب (4/ 176).(1/323)
- صاحب حلب الملك العزيز محمد طفل صغير ووصيه طغريل متفق بشكل كامل مع الملك الأشرف.
- في حماة الملك الناصر قلج أرسلان متحالف مع الملك الأشرف، الذي يضمن له مُلكه، فقد اغتصب حق أخيه المظفَّر في ملك حماة بعد موت أبيه.
- الملك المجاهد صاحب حمص، كان أفضل حُلفاء الكامل وأقواهم، يُطلعه الكامل على مُراسلاته ويشاوره ولا تنقطع هدايا الكامل إليه (1).
وأمام هذه الخارطة السياسية للوضع الأيوبي التفت الملك المعظم خارج البيت الأيوبي من أجّل تأمين دعم قوى يكسر عنه طوق أخويه من الشمال والجنوب، فامتدت أنظاره إلى مظفر الدين كوكبري بن زين الدين كجك، صاحب إربل فالمودة بينهما سابقة وكان كوكبري قد طلب من الملك المعظم عام 622هـ - 1225م، إرسال ابنه ووليّ عهده الناصر داود ليُقيم لديه في إربل (2)، فاعتمد الملك المعظم على وجود ابنه في بلاط المظفَّر وأرسل له عام 623هـ/1226م رسولاً يشرح له حال الشام ويعرض عليه التحالف معه، وعاد الرسول بالموافقة واستطاع الملك المعظم ضم الملك المسعود بن الصَّالح الأرتقي صاحب آمد في التحالف ضد الملك الأشرف (3).
__________
(1) السلوك للمقريزي (1/ 262).
(2) العلاقات الدولية في عصر الحروب الصليبية (1/ 237).
(3) المصدر نفسه (1/ 238).(1/324)
واتفق الملك المعظَّم مع أكبر قّوة خارجية كانت تتلوح في الأفق الشمالي الشرقي وهي الدولة الخَوَازرمية، فقد راسل السلطان جلال الدين، وخالفه، ونتيجة للخوف من قدوم جلال الدين إلى المنطقة تحركت القُوَّة الخارجية الثانية وهي دولة سلاجقة الرُّوم، فحالف سُلطانها كَيْقُبَاذ الملك (1) الأشرف واتَّضح في المنطقة معالم حليفين كبيرين الأول دبَّره ورتَبه الملك المعظمَّ وأكبر قوة فيه الدولة الخوارزمية ومعهم مظفر الدَّين صاحب إربل، والمسعود صاحب آمد، والمظفر غازي صاحب خلاط وأما الحلف الثاني، فهو حلف انتظم فيه معارضوا الحلف الأوّل، وفيه - حُكما - الملك الكامل وأخاه الملك الأشرف، وحليف الملك الأشرف القديم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل وانضَّم إليهم كيقبُاد سُلطان سلاجقة الروم، بدأ التحُّرك لحلف المعظم، بإعلان المظفر شهاب الدين غازي العصيان على أخيه الملك الأشرف في خلاط فسار الملك الأشرف، وحاصره، وأنزله من قلعتها بالأمان فاستردها منه وأبقى عليه ميّافارقين فقط (2) وبدأ الصراع المسلح بين الأخوة وكل من أحلافهم وتعقد الوضع السياسي والعسكري في شمال الشام واتفق الملك الأشرف والملك المعُظم على اللقاء وأن: يرحل كلُّ منهما عن الموضع الذي يحاصره " فالتقيا في القريتين وسار الملك الأشرف مع الملك المعظمَّ حتى دخلا دمشق (3)، ويبدو من هذه الأحداث وتطوراتها أن الملك الأشرف هو صاحب فكرة الاجتماع قصداً لقطع مادة الشَّر (4)، ونتيجة لتطور الأحداث وافق الملك الأشرف أخاه على ما طلبه منه، وعاد الملك الأشرف للجزيرة (5).
__________
(1) مفرج الكروب (4/ 203).
(2) المصدر نفسه (4/ 138).
(3) العلاقات الدولية في عصر الحروب الصليبية (1/ 240).
(4) مفرج الكروب (4/ 179).
(5) العلاقات الدولية في عصر الحروب الصليبية (1/ 241).(1/325)
2 - وفاة الملك المعظم 624هـ: السلطان الملك المعُظَّم ابن العادل شرف الدين عيسى بن محمد الحنفيُّ الفقيه صاحب دمشق وكان مولده بالقصر من القاهرة في سنة ست وسبعين وخمس مئة، ونشأ بدمشق، وحفظ القرآن وبرع في المذهب، وعُني بالجامع الكبير، وصنف له شرحاً كبير بمعاونة غيره، ولازم التاج الكندي وتردَّد إليه إلى درب العجم من القلعة، وتحت إبطه الكتاب، فأخذ عنه "كتاب سيبويه" وكتاب "الحجة في القراءات" و "الحماسة" وحفظ عليه "الإيضاح" وسمع "مُسند الإمام أحمد بن حنبل" وله "ديوان شعر" سمعه منه القوضيُّ فيما زعم، وله مُصَنفَّ في العَرُوض، وكان ربما لا يقيم الوزن وكان يتعصَّب لمذهبه، وقد جعل لمن عرض "المُفَضَّل" مئة دينار صُورّية ولمن عرض "الجامع الكبير" مئتي دينار (1) ولما وقف الملك المعظم على تاريخ بغداد الذي صنفه الشيخ الحافظ أبو بكر أحمد بن ثابت وفيه مطاعن على أبي حنيفة رحمه الله رواها الخطيب عن جماعة من المحدثين، رد عليه الملك المعظم في ذلك، وصنف كتاباً سماه " السهم المصيب في الرد على الخطيب" وأجاب الملك المعظم في هذا الكتاب عن كل مطعن ذكره بأحسن جواب وذكر فيه مباحث جليلة دقيقة في الفقه والنحو، وكان الكتاب في غاية الحُسن (2).
وحج المعظم في سنة 611هـ، وأنشأ البَرك وعمل بمُعان دار مضيف وحّماماً، وكان يبحثَ ويناظر، وفيه دهاء وحزم، وكان يوصف بالشجاعة والكرم، والتواضع، ساق مّرة إلى الإسكندرية في ثمانية أيام على فرس واحد، واعد القصَّاد وأصحاب الأخبار ... (3) وكان يركب وحده مراراً ثم يلحقه مماليكه يتطاردون، وكان عالماً بعدة علوم، نفق سوق العلم في أيامه، وقصده الفقُهاء، فأكرمهم، وأعطاهم وكان يقول:
__________
(1) سير أعلام البنلاء (22/ 121).
(2) مفرج الكروب (4/ 121).
(3) سير أعلام النبلاء (22/ 121).(1/326)
اعتقادي في الأمصول ما سطره الطحاوي (1) ومن جملة ما كتبه الطحاوي في العقيدة الإسلامية السنية:
قال العلامة أبو جعفر الطحاوي المتوفي سنة 321هـ وهو من علماء مصر في المذهب الحنفي: هذا ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة: أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني رضوان الله عليهم أجمعين وما يعتقدون من أصول الدين، ويدينون به رب العالمين، نقول في توحيد الله - معتقدين بتوفيق الله- أن الله واحد لا شريك له ولا شيء مثله، ولا شيء يُعجزه، ولا إله غيره، قديم بلاء ابتداء دائم بلا انتهاء لا يفنى ولا يبيدُ، ولا يكون إلا ما يريد لا تبلغه الأوهام ولا تدركه الأفهام ولا يشببه الأنام، حي لا يموت قيوم لا ينام، خالق بلا حاجة، رازق بلا مؤنة، مُميت بلا مخافة، باعث بلا مشقة ما زال بصفاته قديماً قبل خَلقه لم يزَدد بكونهم شيئاً لم يكن قَبَلهم من صفته، وكما كان بصفاته أزلياَّ كذلك لا يزال عليها أبديَّا عليها أبدياَّ، ليس بعد خلق الخلق اسم الخالق، ولا بإحداث البرية استفاد اسم الباري، له معى الربوبية ولا مربوب، ومعنى الخالق ولا مخلوق وكما أنه محيي الموتى بعدما أحيا استحق هذا الإسم قبل إحيائهم، كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم، ذلك بأنه على كل شيء قدير وكل شيء إليه فقير وكل أمرِ عليه يسير، لا يحتاج إلى شيء "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" (الشورى،: 11) خَلقَ الخلَق بعلمه، وقدرَّ لهم أقداراً وضرب لهم آجالاً ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم، وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته وكل شيءٍ يجري بتقديره، ومشيئته، ومشيئته تنفيذ لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان ومالم يشأ لم يكن، يهدي من يشاء ويعصم ويعافى فضلاً، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلى عدلاً وكلهم يتقلبَّون في
__________
(1) المصدر نفسه (22/ 121).(1/327)
مشيئته بين فضله وعدله، وهو متعال عن الأضداد والأنداد، ولا راد لقضائه ولا معقَّب لحكمه ولا غالب لأمره، آمنَّا بذلك كله وأيقنَّا أن كلاً من عنده، وأن محمداً عبده المصطفى ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى وأنه خاتم الأنبياء وإمام الأتقياء وسيد المرسلين، وحبيب رب العالمين وكل دعوى النبوة بعده فغيُّ وهوى وهو المبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى بالحق والهدى، وبالنور والضَّياء وأن القرآن كلام الله منه بدا بلا كيفية قولاً، وأنزله على رسوله وحياً وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً.(1/328)
وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوف ككلام البريَّة، فمن سمعه وزعم أنه كلام البشر فقد كفر، وقد ذمّه الله وعابه وأوعده بسقر حيث قال تعالى "سأصليه سقر" (المدثر، آية: 226)، فلما أوعد الله بسقر لمن قال" إن هذا إلا قول البشر" (المدثر، آية: 25) عَلِمنا وأيضاً أنه قول خلق البشر ولا يُشبه قول البشر، ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر، فمن أبصر هذا اعتبر، وعن مثل قول الكفار انزجر، وعلم أنه بصفاته ليس كالبشر، والرؤية حق لأهل الجنة، بغير إحاطة ولا كيفية كما نطق به كتاب ربنا" وجوه يومئذ ناضره إلى ربها ناظرة" القيامة (22 - 23) وتفسيره على ما أراده الله تعالى وعَلَمه، وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كما قال ومعناه على، ما أراد، لا ندخل في ذلك متأوَّلين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا، فإنه ما سَلِم في دينه إلا من سلمَّ لله عز وجل ولرسوله، وردَّ علمَ ما اشتبه عليه إلى عالمه ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام، فمن رام علم ما حُظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمُهُ، حَجَبهُ مرامُهُ عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة، وصحيح الإيمان، فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار موسوساً تائها، زائغاً شاكاً، لا مؤمناً مصدقاً، ولا جاحداً مكذباً ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السَّلام لمن اعتبرها منهم بوهم أو تأولها بفهم، إذ كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية ترك التَّأويل ولُزوُم التسليم وعليه دين المسلمين ومن لم يتوقَّ النَّفي والتشبيه زلّ ولم يُصِب التنَّزيه، فإن ربنا عز وجل موصوف بصفات الوحدانية، منعوت بنعوت الفردانية، ليس في معناه أحد من البريَّة، وتعالى عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات، لا تحويه الجهات السَّتُ كسائر المبتدعات والمعراج حق وقد أسرى النبيَّ صلى الله عليه وسلم،(1/329)
وعرج شخصه في اليقظة إلى السماء، ثم إلى حيث شاء الله من العُلا وأكرمه الله بما شاء وأوحى إليه "ما كذب الفؤاد ما رأى" (النجم، آية: 11) فصلى الله عليه وسلم في الآخرة والأولى، والحوض الذي أكرمه الله تعالى به غياثاً لأمته - حقُّ والشفاعة التي أدَّخرها لهم حق كما رُويَ في الأخبار، والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذَّريته حَقَّ، وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة، وعدد من يدخل النار جمله واحدة فلا يزاد في ذلك العَدَدُ ولا ينقص منه وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه، وكُلُّ مُيَسَّرٌ لما خُلِق له، والأعمال بالخواتيم، والسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقى بقضاء الله، وأصل القدر سر الله في خلقه لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلمَّ الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مَرَامه، كما قال الله تعالى في كتابه " لايُسألُ عّما يفعل وهم يُسألون" (الأنبياء، 23).(1/330)
فمن سأل، لم فعل، فقد ردَّ حكم الكتاب، ومن ردَّ حكم الكتاب كان من الكافرين، فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منورَّ قلبه من أولياء الله تعالى، وهي درجة الراسخين في العلم، لأن العلم علمان؛ علم في الخَلْقِ موجود وعلم في الخَلْقِ مفقود، فإنكار العلم الموجود كفر، وإدّعاء العلم المفقود كُفُر، ولا يثبت الإيمان العلم الموجود وترك طلب العلم المفقود، وبجميع ما فيه قد رُقم، فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنّهُ كائن، ليجعلوه غير كائن لم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه ليجعلوه كائناً لم يقدروا عليه جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة وما أخطأ العبد لم يكن ليُصيبه وما أصابه لم يكن ليخطئه وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه، فقدَّر ذلك تقدير مُحكما مُبرماً، ليس فيه ناقض ولا معقب ولا مزيل ولا مغيرَُّ ولا ناقصٌ ولا زائد من خلقه في سماوته وأرضه وذلك من عقد الإيمان وأصول المعرفة، والاعتراف بتوحيد الله تعالى وبربوبيته، كما قال تعالى في كتابه "وخلق كلَّ شيء فقدره تقديراً" (الفرقان، آية:2) وقال تعالى"وكان أمر الله قدراً مقدوراً" (الأحزاب، آية: 38) فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيماً، وأحضر للنظر فيه قلباً سقيماً لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سرَّاً كتيما، وعا بما قال فيه أفاكاً أثيماً والعرش والكرسي حق محيط بكل شيء وفوقه وتقول: إن الله اتَّخذ إبراهيم خليلاً وكلَّم الله موسى تكليما، إيماناً وتصديقا وتسليما (1).
__________
(1) جامع شروح العقيدة الطحاوية تقلت منه المتن.(1/331)
ونؤمن بالملائكة والنبيين والكتب المنزلة على المرسلين ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين، ونُسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين، ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قال وأخبر مصدَّقين ولا نخوض في الله ولا نماري في دين الله، ولا نجادل في القرآن ونشهد أنه كلام ربَّ العالمين، ونزل به الروح الأمين فعلمه سَيَّد المرسلين محمداً صلى الله عليه وسلم، وهو كلام الله تعالى لا يساويه شيء من كلام المخلوقين ولا نقول بخلقه ولا تخالف جماعة المسلمين، ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب مالم يستحله ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله، نرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم، ويدخلهم الجنَّة برحمته ولا نأمن عليهم، ولا نشهد لهم بالجنة ونستغفر لمسيئهم ونخاف عليهم ولا نقنَّطهم والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام (1) وسبيل الحقَّ بينهما لأهل القبلة ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه، والإيمان، هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان (2)، وجميع ما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كُلُّه حقُّ والإيمان في أصله وأحد وأهله في أصله سواء (3)،
__________
(1) من جامع شروح العقيدة الطحاوية، محموعة من العلماء.
(2) الإيمان: الإقرار باللسان والتصديق بالجنان والعمل بالأركان.
(3) الحقيقة أن أهل الإيمان متفاوتون تفاوتاً عظيماً ..(1/332)
والتفاضل بينهم بالخشية ومخالفة الهوى، وملازمة الأولى والمؤمنون كلهم أولياء الرحمان وأكرمهم عند الله أطوعهم واتبعهم للقرآن، والإيمان، هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشرهَّ وحُلْوِه ومرَّهِ من الله تعالى، ونحن مؤمنون بذلك كله لا نفرق بين أحد من رسله ونصَّدقهم كلهم على ما جاءوا به، وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون، إذا ماتوا وهم موحَّدُون وإن لم يكونوا تائبين، بعد أن لقوا الله عارفين مؤمنين وهم في مشيئته وحكمه إن شاء غفر لهم، وعفا عنهم بفضله، كما ذكر عز وجل في كتابه "ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " (النساء، آية: 48، 116) وإن شاء عذبهم في النار بعدله، ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى جنته، وذلك بأن الله تعالى تولى أهل معرفته ولم يجعلهم في الدارين كأهل نُكرته الذين خابوا من هدايته ولم ينالوا من هدايته اللهم يا ولي الإسلام وأهله ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به، ونرى الصلاة خلف كل برَّ وفاجر من أهل القبلة وعلى من مات منهم، ولا نُنزَّلُ أحداً منهم جنة ولا ناراً، ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق مالم يظهر منهم شيء من ذلك، ونذر سرائرهم إلى الله تعالى ولا نرى السيف على أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا من وجب عليه السيف، ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة، مالم يأمُرُوا بمعصية، وندعو لهم بالصّلاح والمعافاة، ونتبَّعُ السنة والجماعة ونجتنب الشُّذوذ والخلاف والفرقة، ونحب أهل العدل والأمانة ونبغض أهل الجور والخيانة، ونقول الله أعلم فيما اشتبه علينا علمه ونرى المسح على الخفين في السفر والحضر كما جاء في الأثر، والحج والجهاد ماضيان مع أولى الأمر من المسلمين، بَرهِم وفاجرهِم إلى قيام الساعة، ولا(1/333)
يُبطلهما شيء ولا ينقضهما، ونؤمنَ بالكرام الكاتبين فإن الله قد جعلهم علينا حافظين، ونؤمن بملك الموت، الموكَّل بقبض أرواح العالمين، وبعذاب القبر لمن كان له أهلا، وسؤال منكرونكير في قبره عن ربه ودينه ونبيَّه، على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة رضوان الله عليهم والقبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران، ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة، والعرض والحساب، وقراء الكتاب والثَّواب والعقاب والصراط والميزان والجنة والنار مخلوقتان، لا تفنيان أبداً، ولا تبيدان، وإن الله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلق وخلق لهم أهلاً، فمن شاء منهم إلى الجنة فضلاً منه، ومن شاء منهم إلى النار عدلاً منه وكل يعمل لما قد فُرغ له، وصائرُ إلى ما خلُق له، والخير والشَّرُّ مَقدَّران على العباد (1)
__________
(1) جامع شروح العقيدة الطحاوية مجموعة من العلماء أخذت من الكتاب متن الطحاوية ..(1/334)
وجاء في العقيدة الطحاوية: ونُحبُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولانُفِرط في حب أحدٍ منهم ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم ولا تذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان وبغضهم كفر ونفاق وطغيان، نثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، تفضيلاً له وتقديماً على جميع الأمة ثم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم لعثمان رضي الله عنه ثم لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديُّون وإن العشرة الذين سّماهم رسول الله وبشرّهم بالجنة نُشهد لهم بالجنة على ما شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله الحقُّ وهم أبو بكر، وعمر وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير وسعد، وسعيد وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح وهو أَمين هذه الأمة رضي الله عنهم أجمعين، ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه الطاهرات من كل دنس وذرياته المقدسين من كلَّ رجُس، فقد برئَ من النفاق وعلماء السَّلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنّظر، لا يذكرون إلا بالجميل ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل (1)،
__________
(1) جامع شروح العقيدة الطحاوية لمجموعة من العلماء أخذت متن الطحاوية ..(1/335)
ولا يفضل أحداً من الأولياء على أحدٍ من الأنبياء عليهم السَّلام، ونقول: نبيُّ واحد أفضل من جميع الأولياء، ونؤمن بما جاء من كراماتهم، وصحَّ عن الثقات من رواياتهم ونؤمن بأشراط الساعة، من خروج الدّجَّال ونزول عيسى بن مريم عليه السلام من السماء، ونؤمن بطلوع الشمس من مغربها وخروج دابة الأرض من موضعها ولا نصَّدق كاهناً ولا عّرافاً ولا من يدّعي شيئاً يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمّة ونرى الجماعة حقاً وصواباً، والفرقة زيغاً وعذاباً ودين الله في الأرض والسماء واحد، وهو دين الإسلام قال تعالى: "إن الدين عند الله الإسلام" (آل عمران، 19) وقال تعالى: "ورضيت لكم الإسلام ديناً" (المائدة: 3) وهو بين الغلو والتقصير وبين التشبيه والتَّعطيل وبين الجبر والقدر، وبين الأمن واليأس، فهذا ديننا واعتقادنا ظاهراً وباطناً ونحن براء إلى الله من كلَّ من خالف الذي ذكرناه وبينَّاه (1) لعقيدة أهل السنة وكتابه في هذا الباب قد وضع الله له قبولاً إلى يومنا هذا وكان الملك المعظم ممن تأثروا بالعقيدة الطحاوية واعتقدها ودعاً إليها.
__________
(1) المصدر نفسه.(1/336)
3 - مرحلة الوفاق الأيوبي والاعتراف بسلطنة الكامل: بدأت بوفاة المعظم عام 624هـ/1227م وأخذ الأشرف دمشق وتسليمه بعض مدن الجزيرة للكامل عام 626هـ/1229م لم يكن الناصر داود بن المعظمَّ مؤهَّلات والده، فبعد أن خلفه في حكم مملكة دمشق، عرض عليه الأشرف الإنضمام إلى حلف الشَّام ضد الكامل، فأبى، وانحاز إلى الكامل (1)، لكنَّ الكامل، كشف سريعاً عن أطماعه بدمشقن وسار نحوها عام 625هـ/1228م، فاستنجد داود بعمه الأشرف، فسارع إليه مع المجاهد، ولكنهما بدل دُخول دمشق أو الإقامة حولها للدفاع عنها، التقيا الكامل، وعقدا مؤتمر العوجا الذي تقرَّر فيه نزع دمشق من داود وتسليمها للأشرف مقابل، تسليم الأشرف للكامل عدَّة بُلدان في الجزيرة منها: الرقة، والرُّها، وغيرها (2)، وتمتاز هذه المرحلة بنزوع الأشرف إلى حياة الترف والدعة بدمشق، وتحوُّل القُوَّة الكُبرى في الجزيرة من الأشرف إلى الكامل، الذي كانت مشكلته مع الجزيرة هي مشكلة المسافة والبُعد عنها، وغالباً ما كانت تسبقه الأحداث بها وكان الكامل قد أرسل إلى فريدرك بعده بالقدس إلى حضر لنصرته ضدَّ أخيه الملك المعظًَّم، ولكنَّ أيام الملك المعظم لم تطل، فقد توفي 624هـ/1227م وخلفه ولده الناَّصر داود في دمشق، ممَّا سهل مهمَّة الملك الأشرف والكامل في أخذ مملكته ففي سنة 625هـ/1228م، تحرّك الكامل من مصر: وأرسل داود يستدعى الملك الأشرف من بلاده الشرقيَّة .. ودخل الملك الأشرف دمشق، فأعجب بها، وعمل في الباطن على انتزاعها لنفسه (3)،
__________
(1) مفرج الكروب (5/ 125).
(2) الكامل في التاريخ نقلاً عن العلاقات الدولية (1/ 241).
(3) السلوك المقريزي (1/ 250) العلاقات الدولية (1/ 241) ..(1/337)
بينما وثق داود بالملك الأشرف لمَّا خدعه بعذوبه لسانه، فَسيَّره إلى الملك الكامل، معتمداً في إصلاح أموره عليه، فلم يألُ جهداً أن ساق الحصار (1) وفي عام 626هـ/1229م، تسلمَّ الملك الأشرف دمشق وأعطى للكامل - عوضاً عنها - حَّران والرّها، ورأس عين، والرقَّة والموزر، وبذلك، دخل الكامل عالم الجزيرة الشامَّية من أوسع أبوابه، وأصبح القوة السَّياسيَّة والعسكرية الأكبر في البلاد الجزرية، بعد أن تخلىَّ الملك الأشرف له عن مواقعة بها، ويبدو أن الملك الأشرف: اقتنع بدمشق، واشتغل باللهو والملاذ (2) وفي عام 627هـ/1230م، تمكن خوارزم شاه من دخول خلاط بخيانة من القائد المكلفَّ بحراسة أحد الأبواب، ولحنقه من المقاومة الشرسة التي واجهته " فعل بأهلها ما يفعله التَّتر (3)، فقتل كُلَّ من وجد في البلد وسبى عسكُرهُ الحريم وباعوا الأولاد كما يُفعل بالكفرة (4)، وبلغ الملك الأشرف أخذ الخوارزميين خلاط وهو بدمشق، فخرج على وجهه، حتى أتى الرقَّة ثم سار إلى حرَّان، وكتب إلى حلب والموصل والجزيرة، فجاءته العساكر ورحل يُريد الروم (5)، واتفق مع كيُقباذ سُلطان سلاجقة الروم وتمَّكنا من هزيمة جلال الدين الخوارزمي واسترجع الملك الأشرف خلاط عام 628هـ/1231م وبعد استرجاع خِلاط، وكفّ شّر الخوارزمي بالإتفاق معه، والحلف القديم مع الرُّومي، وجد الملك الأشرف أن الوقت قد صفا له، فتخلىَّ عن الجزيرة ومشاكلها للكامل وتفرَّغ للهوه وملذَّاته بدمشق (6)،
__________
(1) الفوائد الحلية، الأمجد حسين بن داود ص 219 العلاقات الدولية في الحروب الصليبية (1/ 242).
(2) المختصر (3/ 147) العلاقات الدولية (1/ 242).
(3) المختصر (3/ 146) العلاقات الدولية (1/ 242).
(4) مفرج الكروب (4/ 294) العلاقات الدولية (1/ 242).
(5) كنز الدُّرر ابن آيبك (7/ 299) العلاقات الدولية (1/ 243).
(6) المختصر (3/ 147) العلاقات الدولية (1/ 243) ..(1/338)
مفسحاً المجال لأخيه الكامل للتحرُّك في الشام والجزيرة ومحاولة تحقيق مشروعه الكبير بضمَّ الشام إلى مصر وتشكيل مملكة واحدة منهما تحت حكمه (1) ولم تمتّد ممتلكات الكامل من مصر حتى الجزيرة، وحسب، بل اعترف به جميع ملوك بني أيُّوب سُلطاناً أعظم عليهم، ومرجعاً للبيت الأيوبي دون أن يخرج أيُّ منهم عن طاعته، وتحقَّق بذلك القسم الأوَّل من مشروع الكامل، وهو ضَمُّ الشَّام إلى مصر تحت حكمه، وهذا الحُلم كان يراود كُلَّ من شعر بتفوقه من ملوك بني أيوب، ولتحقيق كامل المشروع تحرَّك الكامل بقوَّاته من مصر عام 629هـ-1231م بعد أن مهَّد لنجاح مشروعه بسلسلة من المصاهرات ربط بها، من يخشى معارضتهم من الملوك الأيوبية، فقد زوَّج ابنته فاطمة خاتون من الملك العزيز صاحب حلب، كما زوج الكامل ابنته الأخرى غازية خاتون من الملك المظُفرَّ صاحب حماة، وفي طريقه مرَّ بالكرك، فعقد لصاحبها ابن أخيه النَّاصر داود بن المعظمَّ على ابنته الثالثة عاشوراء خاتون، وغطىَّ الكامل تحركه العسكري بإظهار هدف يُمكن قبوله في الشَّام، ويُسوّغ به خُروُجه بهذه القوة فقد أعَّلن أنَّه يريد انتزاع آمد من يد ملكها المسعود بن الصَّالح محمود وكانت آمد مع قوَّة حُصوُنها لا تستحق هذا الجمع العسكري الهائل الذي وصل مع الكامل والذي قال عنه ابن واصل في أحداث 631هـ/1234م ما يلي " شاهدت مع العساكر وكثرتها ما غلب على ظني إنه لم يجتمع مثله في الأعصار القريبة منَّا لملك من الملوك (2) وحاصر الكامل مدينة آمد بقوات هائلة الحجم والفعَّالية، وهاجمتها العساكر، ونقبت الأسوار، فطلب أهلها الآمان، فأجابهم الكامل (3)، ونزل صاحبها إلى الكامل، فاعتقله وسجنه في حصن كيفا (4)
__________
(1) العلاقات الدولية (1/ 243).
(2) مفرج الكروب (5/ 74) العلاقات الدولية (1/ 245).
(3) العلاقات الدولية (1/ 245).
(4) المصدر نفسه (1/ 245) ..(1/339)
وسلمَّ الكامل آمد لابنه الصالح أيوب ليكون نائباً عنه فيها (1)، ورتبَّ معه الطواشي شمس الدين صواب العادلي لأنَّه كان من أكابر الخدم العادلية، وأوثقهم عنده وجعل إليه النقض والإبرام في جميع الأمُور والملك الصالح معه صورة (2). وقّرر الكامل تنفيذ الجزء الثاني من مشروعه الكبير وذلك بالهجوم على دولة سلاجقة الروم واحتلالها لنقل إقطاعات ملوك الشام الأيوبية إليها وضمّ الشام بشكل كامل - إلى مصر بدولة واحدة وملك واحد لكن يبدو أن حسابات الكامل كانت غير دقيقة، فإمّا أنهّ قد بالغ في ثقته بنفسه بالسيطرة الكاملة على الملوك الأيُّوبية أو سوء تقديره لقوَّة خصمه الرُّومي، وبالأخص لطبيعة بلاده وحصانتها، واتساعها (3).
__________
(1) أخبار الأيوبيين لابن العميد نقلاً عن العلاقات الدولية (1/ 246).
(2) مفرج الكروب (5/ 34) العلاقات الدولية (1/ 246).
(3) العلاقات الدولية (1/ 246).(1/340)
4 - حلف الشام ضد السلطان الكامل والانقسام الأيوبي:
قيل: إنه كان في معسكر الكامل ستَّة عشر دهليزاً لستة عشر ملكاً (1)، لكنَّ كُلَّ ذلك لم يغن الكامل فيروي لنا الأمجد بن الملك الناصر داود ما حصل بين الملوك الأيوبية بقوله: إلاَّ أن الكامل - فيما بلغني - كان قد تفوَّة بما وعز صدور أهله عليه وسدَّد بالتخاذل إليه وذلك إنه قال: أريد أن أجعل البلاد سفقتين، فأضم الشام إلى مصر وأعوَّض ملوكه في الروم فَجذرِ كل منهم مفارقة إلفه، وخشي أن يكون في مناصرته كالبالحث عن حتفه بظلفه، فخبرت أن المجاهد انتصب لهذه القضية، فكان ابن بجدتَها وشيخ، فاجتمع بوالدي وبالملك الأشرف وجماعة من الملوك مُقدَّ من النُجُد، فحذرهم عاقبة التغرير، وقَّرر معهم أن الحزم كُلَّ الحزم في التلكَّؤ والتقصير، فتنسم الملك الكامل الأخبار، وطار تخيُّله منهم كُلَّ مطار (2) ويبدو أن السلطان الكامل قد شعر باختلاط الأوراق، بعد علمه بانتشار إشاعة نقل الملوك الأيوبية إلى أرض الروم بعد أخذها وأيقن أن مشروعه بات في مهب الريح ... وبعد أمور جرت تراجع الكامل لأنه يرَ المقارعة بأنصار قد تفرَّقت عزماتهم (3)، ولم يستطع الكامل فعل شيء مع الملك المجاهد المدبَّر الحقيقي للتحرك ضدَّه، ولا مع الأشرف أقوى ملوك الشام، فصبَّ جام غضبه على الناصر داود، ويصف ذلك الأمجد بن الناصر داود بقوله: ورتبَّ قوات تلك المملكة على سعي والدي، فعدّ، عليه أكبر ذنب، فلمَّا فارقه من دمشق آذنه بحرب (4)، وألزمه بطلاق ابنته عاشوراء فطلقَّها (5)،
__________
(1) مفرج الكروب (5/ 75 - 76).
(2) الفوائد الجلية، الأمجد حسن بن داود ص 218.
(3) مفرج الكروب (5/ 77، 81) العلاقات الدولية (1/ 251).
(4) الفوائد الجلية ص 219 العلاقات الدولية (1/ 251).
(5) أبو الفداء (3/ 155) العلاقات الدولية (1/ 251) ..(1/341)
وبدا على الساحة وكأن الأمور قد انعكست على سعي الكامل الذي خرج يطلب بلاد الرُّوم ومعه كل ملوك بيته فعاد، وقد انقلبوا عليه جميعاً، وأرسلوا يطلبون منه عدم الخروج إلى الشام (1).
وبعث الملك الأشرف إلى أخيه الكامل: أنا قد اتفقت كلمتنا ونطلب منك ألا تخرج من مصر، ولا تنزل الشام وتحلف لنا على ذلك (2)، فلما قرأ الملك الكامل رسالة أخيه الأشرف أجابه: أنتم اتفقتم، فلم تطلبوا مني اليمين، احلفوا لي أنتم ألا تقصدوا بلادي، ولا تتعرضوا لشيء مما في يدي وأنا أوافقكم على ما تطلبون (3)، وأضاف: أبكاني اختلاف ملوك الإسلام، وأضحكني كوننا الجميع مشايخ، وما بقي لنا فسحة في الأجل نحتمل القال والقيل (4) وبما أن خيوط اللعبة السياسية منوطة بشخص الملك في الدُّول الأيوبية فقد كانت تتداخل الأمور، وقد بحث انهيار سياسي وعسكري بحال وفاة الملك، فلا تُوجد مُؤسَّسات سياسَّية أو عسكرية تتابع نهج الملك، الذي كان كخيط السبحة التي ينظم حبًّاتها، فإذا انقطع تبعثرت، وهذا ما حدث في الشام عندما تُوفيَّ الملك الأشرف بدمشق عام 635هـ/1238م (5).
__________
(1) شفاء القلوب ص 317 العلاقات الدولية (1/ 251).
(2) مفرج الكروب نقلاً عن القدس بين أطماع الصليبيين ص 173.
(3) القدس بين أطماع الصليبيين وتفريط الملك الكامل ص 173.
(4) النجوم الزاهرة (6/ 297).
(5) ذيل الروضتين نقلا ًعن العلاقات الدولية (1/ 251).(1/342)
5 - وفاة الملك الأشرف: عام 635هـ:
صاحب دمشق السلطان الملك الأشرف مظفرّ الدين أبو الفتح موسى شاه أرمن ابن العادل وسمع "الصحيح" في ثمانية أيام من ابن الزبيدي تملك القدس أولاً، ثم أعطاه أبوه حرّان والرُّها وغير ذلك، ثم تملكَّ خِلاط، وتنقلت به الأحوال، ثم تملك دمشق بعد حصار الناَصر بها، فعدل وخفَّف الجَورَ، وأحبته الرَّعية، وكان فيه دين وخوف من الله على لِعبه، وكان جواداً، سمحاً، فارساً شجاعاً لديه فضيلة (1).
أ- حسن خلقه وجميل عشرته: قال ابن واصل: كان ملكاً جواد مفرط السخاء، يطلق الأموال الجليلة، حتى قيل أنه كان يصل إليه الحمل الذي فيه المال المستكثر فيطلقه لأحد الحاضرين عنده ولم نسمع أن أحداً من الملوك والعظماء بعد آل برمك فعل فعله في التوسع في العطاء والكرم ونقل عنه مع ذلك من حسن الخُلق وجميل العشرة لأصحابه مالم ينقل مثله عن أحد من الملوك المتقدمين، فحكي لي بعض من كان يصحبه قال: أهدي إليه يوماً خيار في أول باكورته وأنا عنده، فوضعه بين يديه وشرع في تقشيره واحدة بعد واحدة، وكلما قشر واحدة أكلها حتى أتى على ذلك الخيار الذي أهدى إليه، وكان عدده قليلاً، ثم أمر لمن أتاه بذلك الخيار بخمسمائة درهم فأخذها وانصرف قال: فعجبنا من كونه لم يؤثر أحداً من الحاضرين بشيء منه وكانت عادته، أنه إذا أتُي بشيء أكل بعضه وآثر الحاضرين ببقيته، فلما لم يفعل هذا ذلك اليوم، وخالف عادته تعجبنا منه، فلما فرغ منه قال: هل علمتم ما السبب في أني لم أعطكم من هذا الخيار شيئاً؟ فقلنا: لا فقال: والله ما قشرت منه واحدة إلا ووجدتها مُرّة، فما أمكنني أن أذكر ذلك، ولا أن أرمي منه واحدة لئلاً ينكسر قلب الذي جاء به، فكنت كلما تطعمت بواحدة التزمت أكلها حتى أتيت على الجميع (2).
__________
(1) سير أعلام النبلاء (22/ 123).
(2) مفرج الكروب (5/ 140).(1/343)
ب- ميمون النقيبة، مظفر في حروبه: كان ميمون النقيبة، سعيداً إلى الغاية، مظفراً في حروبه ومصافاته، تأتيه السعادة وتواتيه بما لا يكون في حسابه ولا حساب أحد من الخلق، ووقعت له من ذلك أشياء خارقة لم يتفق مثلها لغيره منها أنه قدم إلى خلاط زائراً لأخيه الملك الأوحد، عائداً له من مرضه، فأقام عنده إلى أن أبلّ من مرضه ودخل الحمام فأراد الأشرف أن ينصرف إلى بلاده، فقال له طبيب الملك الأوحد: أقم الليلة فإن الملك الأوحد ميت لا محالة فأقام تلك الليلة، واتفق موت الملك الأوحد، واستولى على مملكة خلاط جميعها ومن مصافاته التي نُصر فيها أنه كسر عسكر الموصل على بُوشْره وكان جمع صاحب الموصل أكثر من جمعه بكثير، وخرج سلطان الروم في جمع عظيم ومعه الملك الأفضل بن صلاح الدين مقدراً في نفسه أنه يملك الشام والشرق جميعه ويستولى على ممالك بني أيوب، فقصده الملك الأشرف، فانكسر سلطان الروم بمقدمه عسكر الملك الأشرف وبعض الجند، وولى سلطان الروم منهزماً لا يلوى على شيء واستعاد منه الملك الأشرف كل ما أخذ من البلاد وأعطى الملك الأشرف كل ما فتحه للملك العزيز صاحب حلب لم يأخذ منه لنفسه شيئاً ولحسن سيرته التجى إليه صاحب الموصل وصاحب حماة وصاحب حمص وذبَّ عن الجميع وحماهم (1).
__________
(1) مفرج الكروب (5/ 141).(1/344)
ج- حسن العقيدة، جميل الطوية: كان رحمه الله حسن العقيدة، جميل الطوية، يميل إلى أهل الصلاح والدين والعلم ويكره الفتن والعصبية في المذاهب (1) وكان للأشرف ميل إلى المحدثين والحنابلة، قال ابن واصل: وقعت فتنة بين الشافعية والحنابلة بسبب العقائد، قال: وتعَصَّب الشيخ عز الدين ابن عبد السلام على الحنابلة .. وجرى بسبب ذلك خطب طويل وأوجب فرط العصبية من الشيخ عز الدين أن كتب إلى الملك الأشرف أن باب السلامة – لما حضر الملك الأفضل والملك الظاهر دمشق، والملك العادل محصور بدمشق، فتحه بعض الحنابلة المحاصرين حتى أوجب ذلك هجومهم إلى البلد، وقصد عز الدين بذلك إيذاء الحنابلة وإغراء الملك الأشرف بهم، ولم يكن هذا حسناً من عز الدين ولا أعجب الملك الأشرف بل غاظه عليه، وكتب في جواب ورقه: يا عز الدين الفتنة نائمة فلعن الله مثيرها وأما حديث باب السلامة فالأمر فيه كما قال الشاعر:
وجُرم جّره سفهاء قوم ... فحل بغير جارمه العذاب (2)
خ- صدقات دارّة، ومعروف كثير: وكانت له – رحمه الله – صدقات دارّة، ومعروف كثير جداً، وبنى بدمشق دار الحديث النبوي، ووقف عليها وقفاً جليلاً، وذكر الدرس فيها الشيخ العلامة تقي الدين ابن الصلاح – رحمه الله – إمام وقته في مذهب الشافعي والحديث النبوي، وهدم الملك الأشرف خاناً بالعقيبة (3) يعرف بخان ابن الزنجيلي كان تباع فيه الخمور ويعلن فيه بإرتكاب الفواحش فطهره من ذلك وبنى موضعه جامعاً تقام فيه الصلوات الخمس، ويصلي فيه الجميع، وجاء في غاية الحسن وسماه جامع التوبة، ووقف عليه ووقفا جليلاً، وأمر بإقامة الجميع في جامع خارج باب الصغير يقال له مسجد الجراحي (4).
__________
(1) المصدر نفسه (5/ 141).
(2) المصدر نفسه (5/ 142).
(3) العقيبة من أحياء دمشق المعروفة اليوم.
(4) مفرج الكروب (5/ 143).(1/345)
س- أين الحياء والكرم والمروءة؟ قال ابن كثير: وكان من أعفَّ الناس وأحسنهم سيرة وسريرة، لا يعرف غير نسائه وجواريه مع أنه كان يعُاني الشراب، وهذا من أعجب الأمور (1) وحكى السَّبط عنه قال: كنت يوماً بهذه المنظرة من خلاط إذ دخل الخادم فقال: بالباب امرأة تستأذن: فدخَلت فإذا صورة لم أرَ أحسن منها، وإذا هي ابنة الملكِ الذي كان بخِلاط قبلى، فذكرت أن الحاجب عليَّا قد استحوذ على قرية لها، وأنها قد احتاجت إلى بيوت الكراءِ، وأنها تتقَّوتُ من عمل النّقُوش للنَساءِ فأمرت بردَّ ضَيعتها إليها وأمرت لها بدار تسكُنُها وقد كنت قمت لها حين دخلت وأجلستها بين يدي، وأمرتها بستر وجهها حين أسفرت عنه ومعها عجوز، فحين قضيت شُغلها قلت لها: انهضي على اسم الله تعالى فقالت العجوز: يا خَوَنْدُ، إنما جاءت لتحظى بخدمتك هذه الليلة، فقلت: معاذ الله لا يكون هذا واستحضرت في ذهني ابنتي ربما يصيبها نظير ما أصاب هذه فقامت وهي تقول: سترك الله مثل ما سترتني وقلت لها: مهما كان لك من حاجة فأنهيها إليَّ أقضيها لك، فدعت لي وانصرفت، فقالت لي نفسي: ففي الحلال مندوحة عن الحرام، فتَزَوَّجْها، فقلت: والله لا كان هذا أبداً، أين الحياء والكرمُ والمروءة (2)؟
__________
(1) البداية والنهاية (17/ 232).
(2) المصدر نفسه (17/ 233).(1/346)
و استحييتُ من الله أن أعارض شرعه بحظ نفسي: قال: ومات مملوك من مماليكي، وترك ولداً ليس يكون في الناس بتلك البلاد أحسن بشباباً ولا أحلى شكلاً منه، فأحببته وقربته وكان من لا يفهم أمري يتهمني به، فاتفَّق أنه عدا على إنسان فضربه حتى قتله، فاشتكى عليه أولياء المقتول، فقلت أثبتوا أنه قتله، فأثبتوا ذلك، وحاجفت عنه مماليكي، وأرادوا إرضاءهم بعشر ديات، فلم يقبلوا، ووقفوا لي في الطريق وقالوا: قد أثبتنا أنه قتله، فقلت: خُذوه فتسلموه فأخذوه فقتلوه، ولو طلبوا مني مُلكي فِداءً لدفعته إليهم ولكنني استحييت من الله تعالى أن أَعارض شرعه بحظَّ نفسي (1).
ك- اهتمامه بالحديث والتفسير والفقه: لما ملك دمشق في سنة ستَّ وعشرين وستمائة نادى مناديه بها أن لا يشتغل أحدٌ من الفقهاء بشيء من العلوم سوى الحديث والتفسير والفقه ومن اشتغل في المنطق وعلوم الأوائل نُفي من البلد، وكان البلد به في غاية الأمن والعدل وكثرة الصدقات والخيرات، وكانت القلعة لا تُغلق في ليالي رمضان كلَّها وصُحونُ الحَلاوات خارجة منها إلى الجامع والخوانق والرُّبط والصالحية، إلى الصالحين والفقراء والرّؤساء وغيرهم وكان أكثر جلوسه بمسجد أبي الدرداء الذي حدَّده وزخرفه بالقلعة (2).
__________
(1) المصدر نفسه (17/ 233).
(2) البداية والنهاية (17/ 234).(1/347)
هـ- خاتمة حسنة: اشتد مرض الملك الأشرف في أول سنة 635هـ وأخذت قواه في الضعف والإنحلال بسبب ماتواتر عليه من الاستفراغ فحكى أنه اشتهى لحم عجل فأحضر إليه وتناول منه مقداراً لم تف قواته الهاضمة بهضمه وكان هذا في آخر مرضه وأسرف به القيام، ووقع اليأس منه (1) واختلفت عليه الأدواء حتى كان الجرائحيُّ يُخرج العظام من رأسه وهو يُسَبَّحُ الله عز وجل، فلما كان آخر السنة تزايد به المرضى واعتراه إسهال مفرط، فخارت قوته، فشرع في التَّهيوُّءِ للقاء الله تعالى، فأعتق مائتي غلام وجاريه، ووقف دار فرُّخشاه التي يقال لها: دار السعادة وبستانه بالنيَّرْب على ابنته وتصِدق بأموال جزيلة، وأحضر له كفناً كان قد أعدَّه من ملابس الفقراء والمشايخ الذين لقيهم من الصالحين (2) وكان في مرضه قد أقبل على الابتهال إلى الله تعالى والاستغفار من ذنوبه وخطياه وأكثر من ذكر الله تعالى والإلتجاء إليه ولم يزل هذه حاله (3) إلى أن توفي تائباً من ذنبه مستغفراً لما سلف من ذنوبه وكان آخر كلامه: لا إله إلا الله (4) ولما توفي رآه بعضهم في المنام وعليه ثيابُ خُضرٌ، وهو يطير مع جماعة من الصالحين، فقالوا له: ما هذا وقد كنت تعاني الشَّراب في الدنيا؟ فقال: ذاك البدن الذي كنا نفعل به ذاك عندكم في الدنيا، وهذه الروح التي كنا نُحبُّ بها هؤلاء فهي معهم (5) وعلق كثير على ذلك فقال: صدق رحمه الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحبَّ (6).
__________
(1) مفرج الكروب (5/ 137).
(2) البداية والنهاية (17/ 231).
(3) مفرج الكروب (5/ 144).
(4) سير أعلام النبلاء (22/ 127).
(5) البداية والنهاية (17/ 234).
(6) البخاري رقم 6168 مسلم رقم 2640.(1/348)
ثانياً: علاقة الملك الكامل مع الخوارزميين:
قامت الدولة الخوارزمية في أقليم خوارزم، ويرجع نسب أمرائها إلى مملوك تركي اسمه أنوشتكين الذي كان والياً على خوارزم في عهد السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي وتولى ابنه قطب الدين محمد بعد وفاة والده أبو شتكين ولقب خوارزم شاه أي ملك خوارزم، وقد نجح ابنه علاء الدين في كسب ثقة السلطان سنجر السلجوقي، إلا أنه استطاع الاستقلال بمملكته عن الأخير بعد حروب طاحنة انتصر فيها على السلاجقة، وبذلك استقل اتسز بن قطب الدين محمد بن أنوشتكين في ولاية خوارزم عن السلطان السلجوقي سنجر عام 538هـ/1143م وأصبح يسمى خوارزم شاه، واعترف به الخليفة العباسي، وأرسل إليه الخلع والتشريفات (1).
__________
(1) الدولة الخوارزمية ص 16 نافع العود.(1/349)
وتابع خلفاء اتسيز توسيع دولتهم، فشملت بخاري والري وخراسان (1)، وتطلع الخوارزميون للسيطرة على الخليفة العباسي فطلب علاء محمد بن تكيش الدين خوازم شاه من الخليفة أن يذكر اسمه في الخطبة بدلاً من السلاجقة عام 613هـ/1216م ولكن الخليفة العباسي أبي، فزحف علاء الدين على بغداد، ولكنه تراجع لمواجهة الغزو المغولي لبلاده، وقدم الملك خوارزم شاه إلى همذان بقصد بغداد في 400ألف مقاتل عام 614هـ/1217م فاستعد الخليفة الناصر لدين الله، وفرق المال والسلاح وأرسل إليه الشيخ شهاب الدين السهروردي في رسالة فأهانه وأوقفه إلى جانب تخته ولم يأذن له بالجلوس (2) وحاول خوارزم شاه إقامة علاقة ودية مع الأيوبيين أملاً في تكوين حلف لمواجهة المخاطر التي تتعرض لها بلاده، فأرسل عام 615هـ/1218م مبعوثاً إلى الملك العادل وهو في مرج الصفر (3) وأوفد الملك العادل سفارة إلى خوارزم شاه من خطيب جامع دمشق جمال الدين محمد الدولعي، وقاضي العسكر نجم الدين خليل بن علي الحنفي، ولكنهما لم يلتقياه لسفر خوارَزم شاه إلى همذان، فاجتمعا بولده هلال الدين وشاءت الظروف أن يمون الملك العادل عام 615هـ/1218م قبل أن تتبلور العلاقة بين الدولتين (4).
__________
(1) النجوم الزاهرة (6/ 219) القدس بين أطماع ص 195.
(2) المصدر نفسه.
(3) مرج الصفر: اسم مكان بدمشق، معجم البلدان (4/ 488).
(4) القدس بين أطماع الصليبيين وتفريط الملك العادل ص 196.(1/350)
1 - علاقة السلطان جلال الدين الخوارزمي والملك المعظم:
فرضت الظروف على الملك المعظم البحث عن حليف يد عمه لمعاندة أخويه الملكين الكامل والأشرف، فوجد ضالته في جلال الدين خوارزم شاه الذي كان في حاجة إلى حلفاء يدعمونه في تحقيق أهدافه لمواجهة المغول، والسيطرة على الخلافة العباسية فأرسل المعظم مبعوثاً إلى خوارزم بحجة استقدام بعض الطيور التي تأكل الجراد "تسمي السمرمر"، لمكافحة الجراد الذي غزا دمشق (1)، لكي لا يثير شكوك أخويه بتقربه إلى السلطان جلال الدين، وكان قصده ترتيب لقاء مع الأخير (2) وعندما استولى خوارزم شاه على أذربيجان عام 622هـ/1225م بعث رسولاً إلى ملوك الأيوبيين الكامل، والأشرف والمعظم لإقامة علاقات ودية معهم، وكسبهم كحلفاء له ضد المغول، واستغل الملك المعظم مبادرة جلال الدين الودية السابقة، فأرسل إليه وفداً يعرض عليه التحالف وصاحب إربل ضد أخيه الأشرف (3)، إلا أن ملوك الأيوبيين مع سلاجقة الروم تصدوا للخوارزميين وأطماعهم كما مرّ معنا - ودخلوا معهم في معارك طاحنة كانت لصالح الملك الكامل الأيوبي.
__________
(1) المصدر نفسه ص 196.
(2) المصدر نفسه ص 196.
(3) المصدر نفسه.(1/351)
2 - الصلح بين الكامل والخوارزميين: اتفق الملك الكامل وأخوه الأشرف على الصلح مع الخوارزميين، وعندما عاد جلال الدين الخوارزمي إلى أذربيجان، ترددت الرسل بينه وبين الملك الأشرف وسلطان الروم، وجاء في رسالة الأشرف نيابة عن الملك الكامل: إن سلطانك سلطان الإسلام والمسلمين وسندهم والحجاب دونهم ودون التتر، وغير خاف علينا ما تم على حوزة الإسلام، ... ونحن نعلم أن ضعفنا ضعف للإسلام، فهلا ترغب جمع الكلمة لنا وأحسن سبيلا، وأقوم فيه، ... وها أنا ضامن السلطان من جهة علاء الدين كيقباذ، وأخي الملك الكامل ما يرضيه من الإنجاد والإسعاد، والنيات على حالتي بالقرب والبعاد والقيام بما يزيل عارض الوحشة، ويمحو سمعة الفرقة (1)، وما إن تّم الصلح بين الجانبين حتى تعرض الخوارزميون لخطر التتر، فطلب جلال الدين المساعدة من الحكام المسلمين ولكنهم لم يستجيبوا لطلبه، بل تركوه وحيداً أمام عدو جبار حتى لقي مصرعه عام 628هـ/1231م (2).
__________
(1) سيرة السلطان جلال الدين ص 333.
(2) القدس بين أطماع الصليبيين ص 200.(1/352)
3 - علاقة الكامل مع القبائل الخوارزمية بعد سقوط دولتهم:
هامت جموع الخوارزميين بعد احتلال التتر لبلادهم في كثير من البلدان، ولم يعد في ميسورهم العودة، فأخذوا يعرضون خدماتهم على حكام المسلمين (1)، فاستخدم الخليفة المستنصر بالله قسماً منهم، وخدم قسم آخر لدى سلطان السلاجقة الروم (2)، إلا أنهم استاءوا منه وفارقوه، واستقروا في الجزيرة حول الرها وحران، فاستمالهم الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل، واستأذن والده في استخدامهم فأذن له بذلك، وتقوى بهم وسر الملك الكامل بذلك (3) واختلف الخوارزميون على الملك الصالح أيوب عام 635هـ/1237م، وأراد القبض عليه فهرب إلى سنجار، وترك أثقاله، وخزائنه، فنهبوا كل ما يملك، فقدم إليه بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل للقبض عليه، لأنه كان على عداء مع الملك الكامل وحاول الملك الصالح نجم الدين أيوب الصلح مع بدر الدين لؤلؤ ونسيان الماضي، ولكن الأخير قال: لابد من حمل الصالح بن الكامل في قفص، فاستنجد الصالح بالخوارزمية ثانية، وكانوا في حران، فساقوا جريدة منها، وكسبوا لؤلؤ ونهبوا أمواله وخزائنه وكل ما كان في عسكره (4) وهكذا الخوارزميون لخدمة الملك الصالح نجم الدين، فأحسن الاستفادة منهم، وتمكن من من احتلال سنجار وخابور ونصيبين (5)، وعندما علم الملك الكامل بذلك سر بما حقق ابنه (6).
__________
(1) السلوك (1/ 348).
(2) التاريخ المنصوري للحموي ص 251 القدس بين أطماع ص 200.
(3) النجوم الزاهرة (6/ 277).
(4) القدس بين أطماع الصليبيين ص 201.
(5) السلوك (1/ 299) القدس بين أطماع الصليبيين ص 201.
(6) القدس بين أطماع الصليبيين ص 201.(1/353)
ثالثاً: علاقة الملك الكامل مع سلاجقة الروم: حرص السلطان علاء الدين على إقامة علاقة ودية مع الملوك الأيوبيين ووقف الأعمال العدوانية التي كانت في عهد أخيه على بلاد الشام بموافقة صاحب آمد، وبالتعاون مع الملك الأفضل على بن صلاح الدين قبيل وفاته (1)، وقدم رسول السلطان علاء الدين بهدية لكل من الملك المعظم والملك الكامل، فلم يقبل الملك المعظم هذه التقدمة، وتابع الرسول سيره إلى مصر لمقابلة الملك الكامل حيث استقبله بحفاوة (2)، ويعتقد أن رفض الملك المعظم لهدية علاء الدين كيقباذ كان سببها العلاقة الطيبة بين جلال الدين الخوارزمي والمعظم، فيما كانت علاقة الخوارزمي بعلاء الدين سيئة وكان قد احتل الملك عز الدين كيكاوس السلجوقي سلطان الروم تل باشر، ووصل إلى منبج نكاية بالملك الكامل، وباتفاق مع الملك الأفضل على أمل أن تسلم هذه الأراضي إلى الملك الأخير، إلا أن كيكاوس نكث بالاتفاق وسلم ما فتحه لنوابه، فتقاعس عنه كثير من الناس، وأوقع العرب بطائفة من عسكره، وقتلوا قسماً منهم، فعاد إلى بلاده وتحسنت علاقة الملك الكامل مع سلاجقة الروم بعد وفاة الملك الأفضل، إلا أنها ركدت بعد ذلك بقليل حيث انشغل سلاجقة الروم في حرب أهلية بين أفراد الأسرة الحاكمة (3)، وانشغال الملك الكامل في مواجهة الملك المعظم ثم ابنه الناصر داود (4).
__________
(1) التاريخ المنصوري ص 121 القدس بين أطماع ص 203.
(2) مفرج الكروب (4/ 30) القدس بين أطماع ص 203.
(3) السلوك (1/ 225) القدس بين أطماع ص 204.
(4) القدس بين أطماع الصليبيين ص 204.(1/354)
1 - دعم الملك الكامل للسلاجقة الروم: علم الملك السلجوقي علاء الدين كيقياد بالإتفاق الذي تم بين جلال الدين الخوارزمي وصاحب أرزن (1)، الرومي على حصار خلاط، فخاف ملك السلاجقة على بلاده وأرسل يطلب العون من الملك الكامل والملك الأشرف حيث كانا بحران يتدبران وسيلة لمواجهة خوارزم شاه الذي يحاصر مدينة خلاط عام 627هـ/1230م قدم رسول السلطان السلجوقي وقال له: إنه جهز 25ألف لأذربيجان وعشرة آلاف إلى ملطية، وأنا حيث تأمر (2) فطاب قلب السلطان الكامل وأرسل الملك الكامل لأخيه الأشرف عام 628هـ/1230م، فحضر ومعه عساكر الشام والجزيرة، وسار بنفسه إلى سيواس (3)، واجتمع بالسلطان علاء الدين كيقباد، فاتجها إلى خلاط وسرعان ما انهزم خوارزم شاه ورحل إلى أذربيجان وتابع السلطان السلجوقي علاء الدين الهجوم على أرزن فاحتلها، وأسر صاحبها واستولى على خزائنها (4)، وتنكر السلطان السلجوقي لاتفاقه مع الملك الكامل وانخدع بالانتصار الذي حققه على الخوارزميين بمساعدة العساكر الأيوبيين، فحاول عام 631هـ/1233م التوجه إلى خلاط للإستيلاء عليها (5)، وعندما علم الكامل بما يخطط له علاء الدين قرر وقفه عند حده وكان قد عاد إلى مصر عام 630هـ/1232م (6).
__________
(1) صاحب أرزن هو ابن عم السلطان علاء الدين كيقباد وأرزن مدينة في أرمينيا مفرج الكروب (4/ 298)
(2) السلوك (1/ 277) القدس بين أطماع الصليبيين ص 204.
(3) سيواس: حاضرة دولة سلاجقة الروم.
(4) مرآة الزمان (8/ 661) القدس بين أطماع ص 205.
(5) مفرج الكروب نقلا ًعن القدس بين أطماع ص 205.
(6) القدس بين أطماع الصليبيين ص 205.(1/355)
2 - الاتفاق بين الملك الكامل والملك الأشرف:
اتفق الملك الكامل مع الملك الأشرف على الحد من أطماع سلطان سلاجقة الروم ومحاولة انتزاع بعض أراضي دولته عقابا له (1)، وخرج الملك الكامل من القاهرة بعسكره، واستناب بها ابنه الملك العادل أبابكر، فوصل دمشق، وكتب إلى ملوك بني أيوب يأمرهم بالتجهيز للسير بعساكرهم إلى بلاد الروم، ولما سمع الملوك الأيوبيون بالخطر الذي يتهددهم انضموا إلى الجيش المتجه إلى أراضي السلاجقة (2) ولم يجتمع مثلهم قبل الملك الكامل (3)، وقد مّر معنا ما حدث من خلاف في البيت الأيوبي وتفرق كلمتهم وشك الملوك الأيوبيين في نيات الملك الكامل بامتلاك بلاد الشام، فاتفقوا على عدم القتال، وبعد أمور ومعاركة حدثت بين الكامل وسلاجقة الروم أدرك الملك الكامل عقم الاستمرار في حربه مع سلاجقة الروم، فعرض الصلح على سلطان الروم، فاستجاب الأخير لذلك، وأحسن معاملة المظفر وأطلق سراحه، واحتفظ بخرتبرت، ومنح صاحبها إقطاعاً في بلاد الروم بدلاً منها (4) وعاد الملك الكامل إلى مصر، عام 632هـ/1234م، وقد ازداد خلافه مع أخيه الملك الأشرف واستغل السلطان الرومي اختلاف الأيوبيين وانفرط وحدتهم، فأخذ يتوسع في الأراضي الأيوبية، فاحتل حران والرّها وسروج في عام 632هـ/1234م (5).
__________
(1) المصدر نفسه ص 205.
(2) السلوك (1/ 287) القدس بين أطماع الصليبيين ص 205.
(3) مفرج الكروب (5/ 74) القدس بين أطماع الصليبيين ص 205.
(4) القدس بين أطماع الصليبيين وتفريط الملك الكامل ص 207.
(5) المصدر نفسه ص 207س.(1/356)
3 - توسع الملك الكامل في الشرق: علم الملك الكامل بعدم التزام السلطان علاء الدين للاتفاق الذي عقده معه، فلم يطق لذلك صبراً، وحشد قواته، وانطلق بعساكره من مصر عام 633هـ/1235م مصطحباً الملك الأشرف والملك المجاهد، والملك المظفر، فعبروا نهر الفرات إلى الشرق فنازل الرها حتى أخذها وأسر منها الكثير من الأمراء، وهدم قلعتها، ثم هاجم حران، واستولى عليها، وأسر كل عساكر السلطان علاء الدين الموجودين هناك (1) وكذلك أمراءهم ومقدميهم، ثم استرجع سروج من يد السلطان السلجوقي، وانطلق الملك الكامل نحو دنيسر، فخربها وسلم البلاد الشرقية لابنه الملك الصالح نجم الدين أيوب (2) وتابع الملك الكامل توسعه، فامتلك قلعة السويداء، عنوة، وأسر من بها، ونقل جميع الأسرى إلى مصر، وبعث نواب السلطان كيقباد مقيدين إلى القاهرة، فاستقبح الأخير ذلك منه، ثم سافر إلى دمشق فقضى بعض الوقت ضيفاً عند أخيه الأشرف، وأخيراً عاد إلى مصر، فاستقبل هناك رسول الخليفة محي الدين يوسف بن الجوزي، فأرسله الملك الكامل ومعه الحافظ زكي الدين عبد المنعم إلى السطان علاء الدين كيقباد صاحب الروم، ولكن الأخير توفي قبل اجتماعه برسول الملك الكامل (3)، وتولى غياث الدين كيخسرو بن علاء الدين السلطنة عام 634هـ/1236م فبعث إليه ملوك الشام رسلهم يعزونه في أبيه ويحلفونه على ما اتفقوا عليه مع والده على مخالفة الملك الكامل (4)، فوافق وأكد استمراره على سياسة والده، وأرسل الملك الكامل بعثة على رأسها أفضل الدين محمد الخونجي تعزي السلطان السلجوقي غياث الدين بوالده ومعه هدية له (5)،
__________
(1) النجوم الزاهرة (6/ 293).
(2) السلوك (1/ 291) القدس بين أطماع ص 207.
(3) المختصر ص (3/ 159) القدس بين أطماع ص 208.
(4) القدس بين أطماع الصليبيين ص 208.
(5) السلوك (1/ 295) القدس بين أطماع الصليبيين ص 208 ..(1/357)
غير أن الأخير استمر في تحالفه مع الملوك الأيوبيين، لذلك سمح الملك الكامل لابنه الملك الصالح نجم الدين باستخدام الخوارزميين الذين خرجوا على السلطان السلجوقي، لمواجهة عداء الأخير، بل إنه تمكن من احتلال لسنجار ونصيبين والخابور بهم ولم يقف العداء السلجوقي للملك الكامل، واستمروا في الاعتداء على الحدود وتمادوا في عدائهم عندما تدخلوا في شؤون الأيوبيين الداخلية، فدعموا الملك الصالح إسماعيل عام 635هـ/1237م لدى مهاجمة الكامل دمشق لانتزاعها، وقد أدى ذلك إلى خلافات داخلية في البيت السلجوقي، فضعفت دولتهم وتعرضت لهجمات المغول المستمرة إلى أن استولوا عليها (1).
__________
(1) السلاجقة في التاريخ ص 91.(1/358)
رابعاً: علاقة الملك الكامل مع الأراتقة:
استمرت العلاقات بين الملك الكامل والإمارات الأرتقية على ما كانت، وذلك ببقاء العلاقة الودية مع صاحب آمد وحصن كيفا فيما كانت العلاقات مع ماردين ضعيفة، إذ اكتسب صاحب آمد ناصر الدين أرسلان ثقة الملك الأشرف بسبب ما قدم له من خدمات (1)، أما ماردين فقد كانت تنصب العداء الكامن للملك الكامل بسبب محاصرته لها فيما مضى، لذلك أصبحت ملجأ لمن يعادي الأيوبيين، فلجأ إليها الأمير مبارز الدين الصلاحي 618هـ/1221م (2)، ومع هذا لعبت المصالح الشخصية والمنافع الأقليمية دوراً كبيراً في تغيير هذه السياسة، فقد حاولت أمارتا حصن كيفا وماردين إضعاف الوجود الأيوبي في الشرق، فأعانتا شهاب الدين غازي بن الملك العادل لدى تمرده على أخيه الملك الأشرف، كذلك اتصل هذان الأميران بجلال الدين خوارزم شاه، وأعلنا طاعتهما له (3)، فهاجم الملك الأشرف ماردين وضربها بالمجانيق وضيق الخناق على أهلها، ومنع دخول الطعام إليها، فطلب صاحبها الصلح (4).
1 - الكامل يزحف على المنطقة الشرقية عام 629هـ:
بدأ الملك الكامل علاقات جديدة مع الأراتقة بعد عام 627هـ/1230م، إذ امتلك الشرق من أخيه، فأصبح اتصاله بأمراء الأراتقة مباشراً وفعالاً بعد ما كان هامشياً وثانوياً فاتجه الكامل إلى الشرق، وولى كمال الدين بن شيخ الشيوخ نائباً له بالجزيرة المتمثلة بحران والرقة وسروج ورأس العين (5)، وتمكن الملك الكامل من فرض سيطرته على هذه المنطقة، فأعلن أصحابها ولاءهم له، فقامت إمارة ماردين بالخطبة، وضربت السكة باسمه (6)، وبذلك اتسع نفوذ الملك الكامل.
__________
(1) مرآة الزمان (8/ 627).
(2) البداية والنهاية نقلاً عن القدس بين أطماع ص 210.
(3) الكامل في التاريخ نقلاً عن القدس بين أطماع ص 210.
(4) القدس بين أطماع الصليبيين ص 210.
(5) النجوم الزاهرة (6/ 233).
(6) التاريخ المنصوري ص 181.(1/359)
2 - سيطرة الملك الكامل على إمارة حصن كيفا وآمد:
استأذن الملك الكامل الخليفة العباسي المستنصر بالله عام 629هـ/1231م في مهاجمة آمد، وانتزعها من الملك المسعود ركن الدين مودود الأرتقي، فأذن له الخليفة بذلك (1)، وقد تجمعت عدة أسباب جعلت الملك الكامل يهاجم هذه الإمارة منها؛
- كان الملك المسعود ظالماً يسعى لإشباع شهواته، وسيء السمعة يتعرض لحريم الناس، وكانت له عجوز قواده تؤلف بينه وبين نساء أكابر الناس والملوك والأمراء (2).
- خرج الملك المسعود على طاعة الملك الكامل، وانتمى إلى جلال الدين خوارزم شاه، وخطب له في بلاده آمد (3).
- أساء الملك المسعود إلى زوجة أبيه إساءة كبيرة وهي إبنه الملك العادل وأخت الكامل، فخرجت من عنده، وقصدت أخاها الملك المظفر شهاب الدين غازي في ميافارقين، وشكت إليه أمرها، فكتب الأخير إلى أخويه الملك الكامل والملك الأشرف بذلك.
__________
(1) الإمارات الأرتقية في الجزيرة والشام ص 183 عماد الدين.
(2) القدس بين أطماع الصليبيين ص 211.
(3) المصدر نفسه ص 211.(1/360)
- رغبة الملك الكامل في توسيع نفوذه لمواجهة خطر التتر (1) اجتاز الملك الكامل والأشرف نهر الفرات ونزلا على آمد عام 629هـ/1232م وضربا عليه الحصار ونصبا المجانيق فبعث الملك المسعود الأرتقي إلى الملك الكامل يستعطفه، ويبذل له ولأخيه الأشرف فرفض الاستجابة له (2) وجد الملك الكامل في حصار آمد، ومنع عنها الطعام، فضعفت المقاومة، وعندئذ أحس الملك المسعود الأرتقي بأنه لا مفر له من تسليم آمد، لاسيما بعد ما وجد أن الأهالي يؤيدون الملك الكامل ويكرهون حكمه، فقرر التسليم (3)، وتسلم الملك الكامل أجبر الملك المسعود على الإيعاز لعساكره بتسليم الحصن في عام 630هـ/1232م (4)، ورتب نوابه في آمد، فولى شمس الملوك سيف الإسلام بن الملك الأعز شرف الدين بن صلاح الدين، إلا أن الأخير توفي بعد أسبوعين تقريباً (5)، فعين شهاب الدين غازي أتفق مع سلطان الروم على تسليم آمد عزله، وأمر بحبسه (6)، ثم ولى الملك الكامل ابنه الملك الصالح نجم الدين ووضع معه شمس الدين العادلي إلى سنة 633هـ/1235م، عام وفاة الأخير حيث استقل الملك الصالح، بحكم البلاد الشرقية (7)، ورحل الملك المسعود الأرتقي إلى مصر فأقام هناك، وأعطاه الملك الكامل إقطاعاً، إلا أنه تآمر على حياة الملك الكامل وكاتب الروم في هلاك الملك الكامل (8)، فاعتقل وبقي في السجن إلى أن توفي الملك الكامل، فأطلق الملك العادل بن الكامل سراحه، ولكن المغول قتلوه وهو في طريقه إلى الشرق (9).
__________
(1) الإمارات الأرتقية ص 211 القدس بين أطماع ص 211.
(2) السلوك (1/ 243) القدس بين أطماع ص 212.
(3) مفرج الكروب (5/ 17) القدس بين أطماع ص 212.
(4) القدس بين أطماع الصليبيين ص 212.
(5) المصدر نفسه ص 212.
(6) المصدر نفسه ص 212.
(7) المصدر نفسه ص 212.
(8) المصدر نفسه ص 212.
(9) القدس بين أطماع الصليبيين ص 213.(1/361)
3 - تحالف صاحب مردين والسلاجقة: وقف صاحب ماردين من الملك الكامل موقفاً عدائياً بعد سقوط آمد وحصن كيفا، إذ استغل ضعف الملك الصالح نجم الدين أيوب نائب الملك الكامل في المنطقة الشرقية، فقد كان صبياً تعوزه القوة والدراية، والخبرة، فبادر صاحب ماردين إلى التحالف مع كيقياد سلطان سلاجقة الروم، وقاما بهجوم شديد على حران والرها والرقة واستولوا عليها عام 634هـ/1236م، وقد ذكرت سابقاً أن الملك الكامل اضطر لمهاجمة الأراضي السلجوقية لعدم التزام صاحبها الاتفاق بينهما، أما صاحب خرتيرت الارتقية فقد وقف بجانب الكامل في حربه مع سلاجقة الروم (1) واستمر عداء ماردين للأيوبيين بعد وفاة الملك الكامل (2).
خامساً: علاقة الملك الكامل باليمن: عامل الأيوبيين أهل اليمن معاملة طيبة، فكسبوا ودهم، مما أدى إلى استقرار الأوضاع مدة من الزمن، وتوالي عدد من الأيوبيين على حكم اليمن، إلا أن أوضاع البلاد اضطربت في عهد الملك المعز إسماعيل بن طغتكين في أواخر القرن السادس الهجري، إذ كان الملك يميل إلى اللهو والعبث، وكان فيه هوج، فأدعى أنه قرشي، وأنه من بني أمية ولبس الخضرة، وثياب الخلافة، ودعا بالخلافة إلى نفسه (3)، ففقد الملك المعز إسماعيل ثقة الناس، وخرج عليه بعض المماليك، واغتالوه عام 598هـ/1201م فتولى عرش اليمن أخوه الملك الناصر بن طغتكين، وكان صغير السن، فتولى أتابك والده سيف الدين سنقر الوصاية عليه، وتدبير شؤون البلاد، ولكن الأخير توفي بعد أربع سنوات، فتولى سليمان بن سعد الدين شاهنشاه الملك بعد ما تزوج أم الملك الناصر بن طغتكين (4)، فملاء سليمان البلاد بالجور والظلم وكثرت الفتن في اليمن (5).
__________
(1) المصدر نفسه ص 213.
(2) المصدر نفسه ص 188.
(3) المصدر نفسه ص 188.
(4) المصدر نفسه ص 188.
(5) العقود اللؤلؤية (1/ 30) للخزرجي القدس بين أطماع ص 188.(1/362)
1 - احتلال الملك المسعود اليمن: عندما سمع الملك الكامل بالفوضى التي تعم أرجاء اليمن، واضطراب الأوضاع فيها، أرسل ابنه الملك المسعود الملقب أفسيس في جيش كثيف إلى اليمن، وكتب إلى الأمير شمس الدين علي بن رسول والي سائر الأمراء المصريين في البلاد يأمرهم بحسن صحبة الملك المسعود والقيام بخدمته (1)، وصل الملك المسعود مكة عام 611هـ/1214م وحج فيها ثم اتجه إلى مدينة زبيد باليمن فاحتلها عام 612هـ/1214م، ونزل بالدار السلطانية، وما لبث أن سيطر على تعز وصنعاء، وسائر أنحاء اليمن، وظفر بصاحبها الملك سليمان شاه بن سعد الدين شاهنشاه بن الملك تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن نجم الدين أيوب، فأرسله تحت الحراسة إلى مصر، فعاش في القاهرة إلى أن استشهد أثناء جهاده الصليبيين في معركة المنصورة التي حدثت أثناء الحملة الصليبية السابعة على دمياط (2)، والتي قادها الملك الفرنسي لويس عام 647هـ/1250م، عين الملك المسعود بعد فتحه اليمن نواباً ليساعدوه، فولى بدر الدين بن رسول على صنعاء، ونور الدين بن رسول على تعز (3).
__________
(1) المصدر نفسه.
(2) السلوك (1/ 249) القدس بين أطماع ص 189.
(3) القدس بين أطماع الصليبيين ص 189.(1/363)
2 - زيارة الملك المسعود لأبيه: لم تضعف الأحداث السابقة التي مرت بالملك المسعود علاقته مع والده الملك الكامل، ومما يؤكد على حسن العلاقة بنيهما، تفكير الملك الكامل نفسه بالهرب إلى اليمن عندما حاول ابن المشطوب خلعه عن الحكم (1)، وكذلك الزيارات المستمرة التي كان يقوم بها الملك المسعود لمصر، وكثرة الهدايا التي كان يحملها لوالده وقد اتجه الملك المسعود في عام 620هـ/1223م لمصر حاملاً معه عدداً كبيراً من الهدايا، والتحف الثمينة (2)، وقد عين نائباً له على اليمن، نور الدين عمر بن رسول في زبيد وأخاه بدر الدين في صنعاء (3)، ومكث في مصر مدة طويلة، واستطاع بهيبته أن يقيم حرمة وافرة لأبيه، فخافة الأمراء والجند، وذكر أن المسعود ذهب إلى القلعة ذات يوم فرأى بعض الأمر يلبسون الشرابيش (4)، فأنكر عليهم ذلك، وقال: إذا كنتم أنتم تلبسون الشرابيش، والسلطان يلبس الشربوش فبأي شيء يتميز عنكم السلطان ويعرف منكم، والله لا أعود أرى أحداً منكم في دار السلطان أو موكبه من يلبس شربوشاً إلا ضربت عنقه (5)، فلم يجروء أحد بعد ذلك على لبس شربوس في حضرة السلطان (6).
__________
(1) مرآة الزمان (8/ 602) القدس بين أطماع ص 190.
(2) التاريخ المنصوري ص 97 القدس بين أطماع ص 190.
(3) المختصر (3/ 146) القدس بين أطماع ص 190.
(4) الشرابيش، جمع شربوش، وهو قلنسوه طويله تلبس بدل العمامة إشارة إلى الأمراء.
(5) مفرج الكروب (4/ 261) القدس بين أطماع ص 190.
(6) القدس بين أطماع ص 190.(1/364)
3 - وفاة الملك المسعود بن الكامل: استدعى الملك الكامل ابنه الملك المسعود عام 626هـ/1229م ليوليه دمشق بعد وفاة الملك المعظم، فسار الملك المسعود من اليمن قاصداً مصر من طريق مكة، وفي الطريق مرض مرضاً مزمناً، فوصل مكة وقد أفلج، ويبست يداه ورجلاه (1)، وما لبث أن مات، فدفن في المعلى قرب مكة المكرمة (2) وقد ذكر الذهبي عنه بأنه: .. كان شهماً شجاعاً زعراً ظلوماً، وقمع الزيديه والخوارج (3)، وقال ابن العماد: ونادى مَّرة في بلاد اليمن: من أراد السفر من التجار إلى الدّيار المصرية والشامية صحبة السلطان فليتجهز، فجاء التجار من السَّند والهند بأموال الدنيا والجواهر، ولما تكاملت المراكب بزَبيد قال: اكتبوا لي بضائعكم لأحميها من الزكاة، فكتبوها له، فصار يكتب لكل تاجر برأس ماله إلى بعض بلاد اليمن، ويستولي على ماله، فاستغاثوا وقالوا: فينا من له عن أهله سنين، فلم يلتفت إليهم، فقالوا: خذ مالنا وأطلقنا، فلم يلتفت إليهم أيضاً، فعبَّأ ثقله في خمسمائة مركب ومعه ألف خادم ومائة قنطار عنبر، وعود ومسك، ومائة ألف ثوب، ومائة صندوق وأموال وجواهر، وركب الطريق إلى مكة، فمرض مرضاً مزمناً، فوصل إلى مكَّة وقد أفلج ويبست يداه ورجلاه، ورأى في نفسه العبر، ثم مات فدفنوه في المُعلىّ، وضرب الهواء بعض المراكب فرجعت إلى زبيد، فأخذها أصحابها (4). وقال الذهبي: ولما احتضر قال: والله ما أرضى من مالي كفناً، ثم بعث إلى فقير فقال: تصّدق عليّ بكفن، ودفن بالمعلى (5) وكان موته سنة 626هـ (6).
__________
(1) شذرات الذهب (7/ 211).
(2) المصدر نفسه (7/ 211).
(3) سير أعلام النبلاء (22/ 331).
(4) شذرات الذهب (7/ 211).
(5) سير أعلام النبلاء (22/ 331).
(6) المصدر نفسه (22/ 332).(1/365)
4 - النزاع بين الملك الكامل وابن رسول على مكة: تولى اليمن بعد الملك المسعود نور الدين بن رسول وأبقى الخطبة والسكة للملك الكامل، ولكنه اتبع سياسة تتجه نحو دعم سلطته، فعزل الولاة الذين لا يثق بهم، وولى غيرهم، ثم أعلن استقلاله عن الأيوبيين عام 628هـ/1230م (1).
وبقيت الحجاز تابعة للملك الكامل إلا أن نور الدين بن رسول تطلع إلى السيطرة على مكة، فأرسل عام 629هـ/1231م بقيادة ابن عيدان مع الشريف واستمر الصراع على مكة بين الملك الكامل وصاحب اليمن إلى عهد الملك الصالح الأيوبي إلى عام 638هـ/1240م حين استقرت مكة لصاحب اليمن (2)، وقد كانت العلاقة طيبة بني الكامل ونوابه في اليمن ومكة إلا أنها أخذت طابع العداء عندما استقل نور الدين بن رسول باليمن عام 628هـ/1231م وضرب السكة باسمه، وخطب له على المنابر، فأضاف ذلك عبئاً كبيراً على سياسة الملك الكامل، وأخذ يرسل القوات تباعاً لإعادة مكة إلى حظيرة دولته حتى موته (3).
سادساً: الملك الكامل والتتار: كان أول خليفة عباسي شعر بالخطر الحقيقي للتتار هو الخليفة المستنصر بالله الذي اهتم بأمرهم غاية الاهتمام، ويرجع اهتمام هذا الخليفة الجدَّي بأمر التَّتار إلى عدة أسباب منها:
1 - أن غارات التتار قد اكتسحت مناطق واسعة من العراق.
2 - أنهم استولوا على مناطق في العراق، عدا عن كونها قريبة جداً من بغداد، فقد كانت - حتَّى وقت قريب - من أملاك الخليفة، مثل ششتر ودقوقا التي احتَّلها الخوارزمي، وأخذها التَّتار منه.
__________
(1) المصدر نفسه.
(2) القدس بين أطماع الصليبيين ص 194.
(3) المصدر نفسه ص 195.(1/366)
3 - رُبّما تأكد الخليفة أنه - في النهاية - هو المقصود، وأنه الهدف الأكبر لحملات التَّتار ولكل ذلك: تواترت رُسُلُهُ إلى الملك الكامل والملك الأشرف لقُدُومها إلى الشَّام، وفي عام 629هـ خرج الأشرف من مصر، وتبعه الكامل بجيوشه، وعلى مقدَّمته ابنه الصالح أيوب، وعلى العسكر فخر الدين ابن شيخ الشيوخ ثم خرج من دمشق وعسكر بسلمية ومعه عساكر يضيق بها الفضاء، وسار، فتفرقَّت العساكر لكثرتها، وأتته رسل ملوك الأطراف ويرى بعض الباحثين بأن خروج بني أيوب من مصر بهذا الجحفل كان لمجرَّد دعوة الخليفة لهم، فحتَّى الآن كانوا يعدُّون التَّتار يبغون النهب والعودة إلى قواعدهم بما نهبوه، وأنهم ليسوا طالبي مُلك، ولا أصحاب حُكم مدن، فيكفي لتجنُّب شرَّهم إغلاق أبواب المدن حتى ينتهي هجومهم ولكن الذي دفع الكامل والأشرف للاهتمام الجدّيّ بأمر التَّتار هو تبدُّل في خطة التَّتار أنفسهم، فبعد الغارات والسلب والنهب والقتل ثم العودة شرقاً قرَّروا فتح خِلاط عاصمة الجزيرة، وأغنى مدنها وأكبر المرتكزات الأيوبية فيها؛ وفي الحقيقة، لم يكن هذا تِبدُّلا حقيقياً في خُطة التتار، بل هو تطبيق للجُزء الثاني منها، فالغارات ليست للسلب فقط، بل للاستطلاع، ولكشف المناطق وترويع الناس، وترحيلهم، حتى لا يبقى من له قدره على المقاومة، لا مادياً ولا معنوياً، ثُمَّ يهاجمون الحواضر، ويقيمون مرتكزات حُكمهم فيها وقد وصلت الجيوش الأيوبية إلى الجزيرة، وأقام الكامل في حرَّان ووصلتهَ النجدات من أيُوبية الشام، وجاءت الأخبار برحيل التتار المحاصرين لخِلاط، ويُبَّرر ابن نظيف سبب رحيل التَّتار بقوله: فرحلوا عنها خوفاً من السُّلطان (1)،
__________
(1) المنصوري، ابن نظيف ص 234 العلاقات الدولية (2/ 41) ..(1/367)
وبالفعل، فالقَّوة المحاصرة لخِلاط لا يمُكن أن تقاوم هذا التجمع للجيوش الأيوبية لأن التتار لم يكونوا قد وصلوا إلى المرحلة الثالثة من خطتهم وهي الزج بكامل قواتهم في المعركة، وسيتم ذلك مع هجوم هُولاكو بالقَّوة الرئيسية للتَّتار على الجزيرة وحلب بعد فراغه من أمر بغداد، وربما بسبب عدم وجود تصور شامل للصراع القادم مع التتار لدى الملوك الأيوبيَّة لم يتمكنوا من التعامل العسكري أو السياسي الصحيح معهم، فالكامل بعد أن سمع بعودة التَّتار عن خِلاط لم يقْم بتعقُّبهم أو حتى القيام بمسير استعراض خلفهم، بل، بدلاً من ذلك، استولى على آمد من الملك المسعود الأرتقي، وعاد دون أيَّ صدام مع التَّتار (1)، ومع هذه العودة للكامل التي دلت على جهله أو تجاهله لخطر التَّتار، فإن ما فعله أفضل ممَّا قام به الخليفة ومظفر الدين كوكبري صاحب إربل وبدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل عام 631هـ/1234م، فقد وصلت رُسُلُ التتار إلى إربل والموصل يطلبون شراء موادّ تنقصهم، فسمحوا لهم: واشتروا جمالاً وأقمشة وأُقيم لهم الراتب في الموصل بإذن الخليفة لهم في ذلك (2).
__________
(1) تاريخ المغول، عبّاس إقبال ص 167.
(2) المنصوري ابن نظيف ص 259 العلاقات الدولية (2/ 41).(1/368)
إن التَّتَّار، وإن دفعوا ثمن ما أخذوه، فالأموال التي دفعوها، والمواد التي اشتروها سيستعينون بها، وإنّ كان وإن كان بشكل غير مبُاشر، على حرب المسلمين، وزادوا عليها في الموصل بتكريمهم وتقديم الراتب، أي المساعدات والضيافات فهل هي مكأفاتهم على الفظائع التي ارتكبوها بحقَّ المسلمين؟ وسيرتكبونها لاحقاً بحقَّ من أضافهم في إربل والموصل، وبحقَ ... الخليفة نفسه، الذي تمَّ كُلٌّ ذلك بإذنه، وحتى كُلّ ذلك، فهو أفضل من تصُّرف سُلطان سلاجقة الرُّوم علاء الدين كيقُياذ، الذي بادر إلى تقديم الطاعة للتَّتار مع سفير خاصّ أرسله عام 630هـ/1231م، إلى أقطاي قآان، والتفت بشنُّ الحرب على الأيوبيَّة بدل التحالف معهم، فهاجم خِلاط، واستولى عليها، وعاد الملك الكامل للخُروُج بجيشه من مصر عام 633هـ 1236م، وحشد معه كل الملوك الأيُّوبية بجيوشهم، فاستعاد خِلاط وما كاد يعود أدراجه حتىَّ رجع كيْقباذ، فاستولى على الرُّها وحرَّان، ثم عاد الكامل فاستعادها (1) وفي العام نفسه 633هـ/1236م، كان الملك الكامل مقيماً في دينسير، بعد أن استعاد الرُّها وحَراَّان من الرُّومي، وردَّ عليه كتاب بدر الدَّين لؤلؤ صاحب الموصل "يُعرَّفه أن التَّتَار قطعوا دجلة في مائة طلب، كُلّ طلب خمسمائة فارس، ووصلوا سنجار، فرجع السلطان والاشرف، وقطعا الفُرات إلى (2) دمشق وعلى رسالة بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل ملاحظات.
- أولاً: هُناك شك في مدى صحَّة رسالة لؤلؤ، فهل فعلاً كان هناك قُوَّة من التَّتار وبهذا الحجم؟! أم أنَّه تهويل للأمور من قبل لؤلؤ خوفاً من وجود قوة الكامل والأيُّوبية بجواره؟ قد يكون هُو ضحَّيتهم المُحتملة؟ وخاصَّة أنّه لم يسجَّل نشاطاً كبيراً للتَّتار بهذا الحجم، ضدَّ أيَّ مكان في تلك المنطقة، وفي ذلك العام بالتحديد.
__________
(1) مرآة الجنان لليافعي (4/ 67).
(2) كنز الدُّرر ابن آيبك (7/ 613) العلاقات الدولية (2/ 42).(1/369)
- ثانياً: حتى لو كان الخبر صحيحاً، فبماذا تفسَّر عودة الكامل والأشرف السريعة نحو الشَّام؟ هل كان خوفاً من التَّتار؟ أم دفعاً وتسويفاً لصدام غير مأمون النتائج؟! على الأحوال كُلهَّا لن يكون الإنسحاب أسوأ من التناحر والصراع بين الأيُّوبييَّن وسلاجقة الروم، وهما أكبر قوتين إسلاميتين بينما التَّتار يعصفون بالبلاد الإسلامية الشرقية ويحيلونها دماراً مُرعباً، فهل كان ملوك الشَّام لاهين عن الخطر المحدق بهم؟ أم هي نقص المعلومات الاستخباراتية لديهم؟ وهل الخليفة غير قادر حتىَّ على وضع حَدَّ لهذه الصراعات التافهة بينهما، وإن كان الخطر المحدق بهم لم يوحَّدهم فهل يستطيع الخليفة - الذي لا يملك إلا حُرمة اسمه - أن يُوحَدهم؟ ولو حدث ذلك بمعجزة لكان الأمل الأخير لصدَّ التَّتار عند المعابر المنيعة بين أرمينيا وكردستان والشَّام (1) وكان أول من احتك عسكرياً - بشكل فعلي - مع التَّتار من بني أيوب هو شهاب الدين غازي فبعد هزيمة التتار لجلال الدين منكبرتي عام 628هـ/1231م هاجمت فرقة منهم مَيَّافارقين، فتصَّدى لهم شهاب الدين "وكسرهم وغنم أسلحتهم، ويبدو أنه كان أكثر بني أيوب معرفة بالتتار وبتقدير قوَّتهم الحقيقية، فمع تغلُّبه على فرقة منهم إلا أنّه طلب من السُّلطان الكامل الدعم، لأن التَّتار أصبحوا على حدوده، وربمَّا كان شهاب الدَّين موقناً بأن موجة من الصراع الدامي لا يُمكن لأحد أن يتنبَّأ بنتائجها ستضرب المنطقة، فطلب من الكامل - أيضاً - الإذن لنقل حريمه إلى مصر، وجاء جواب الكامل، جواب من لازال يعيش مرحلة قبلة التَّتَّار، فقد ردَّ عليه: إن أُخِذت مَيَّا فارقين أخذَتِ مصر، وكيف يليق ببني أيوب أن يفسحوا لك بذلك وراءهم خمسون ألف فارس (2)،
__________
(1) تاريخ المغول، عبّاس إقبال ص 168 العلاقات الدولية (2/ 42).
(2) العلاقات الدولية (2/ 43) ..(1/370)
هذا هو حال بني أيُّوب وجوارهم في موُاجهة المرحلة الأولى من هجوم التَّتار على الجزيرة، صراعات محليَّة، وتناحر وتباغض، وطمع كل منهم بما بيد الآخر من البلاد، ولن تكون الأحوال في مواجهة المرحلة الثانية أفضل (1) وفي أوائل عام 635هـ/1238م بلغ الخليفة أن جُمُوع التَّتُار نحو بغداد فسيَّر رسوله إلى الملك الكامل ومعه مائة ألف دينار مصرية ليُجنَّد عسكراً من الشام، فأخرج الكامل من بيت المال مائتي ألف دينار لتجنيد العساكر، وأمر أن يسير معهم من عسكر مصر والشام عشرة آلاف فارس نجدة للخليفة، وأن تعادله أمواله وكان الخليفة قد طلب أن يقود الحملة الملك الناصر داود بن الملك المعُظَّم، وقرَّر الكامل معه الأميران ركن الدَّين الهيجاوي وعماد الدَّين بن مسوك (2)، وفسّر الدكتور منذر الحايك طلب الخليفة بتجنيد عساكر من الشُّام، بأن التَّتار اكتسحوا شمال وشرق العراق، وهي المناطق الأهلة بالسُّكان، وبقبائل الأكراد والتُّركما، الذين هم المجال الطبيعي للتجنيد في العراق وبسبب وفاة الناصر داود فشلت الحملة الشامية (3).
__________
(1) المصدر نفسه (2/ 43).
(2) العلاقات الدولية في عصر الحروب الصليبية (2/ 43).
(3) المصدر نفسه (2/ 43).(1/371)
سابعاً: وفاة الخليفة العباسي الناصر لدين الله في عهد الملك الكامل 622هـ:
الخليفة أبو العباس أحمد ابن المستضيء بأمر الله أبي محمد الحسن ابن المستنجد بالله يوسف ابن المقتفي محمد ابن المستظهر بالله أحمد ابن المقتدي الهاشمي العباسي البغدادي (1) وكانت أم الناصر أم ولد تركية، اسمها زمرد خاتون جلبها الجلابون من بلاد الترك الشرقية، إلى أن استقر بها المقام في دار الخلافة إذ أصبحت جارية الخليفة المستضيء بأمر الله، ثم اعتقها وتزوجها وكانت أثيرة عند الخليفة لاسيما بعد أن ولدت له ابنا سنة 553هـ/1178م سماه أحمد وكناه بأبي العباس وقد عاشت في خلافة ابنها 24سنة وكانت راغبة في الخير والصدقة، وأفعال البر ولها من الصدقات والوقوف ببغداد وغيرها شيء كثير (2). قال سبط ابن الجوزي: حجت وانفقت 300 ألف دينار على ما بلغني وكان معها نحو ألفي جمل وتصدقت على أهل الحرمين، وأصلحت البرك والمصانع وعمرت التربة عند قبر معروف الكرخي، والمدرسة إلى جانبها، وأوقفت عليها الأوقاف (3).
وفي جمادى الأولى من سنة 599هـ/1202م توفيت زمرد خاتون وحزن عليها ابنها الخليفة الناصر لدين الله حزناً شديداً، وفعل في حقها ما لم يفعله أحد، وصلى هو عليها في صحن السلام، ودفنت في تربتها المجاورة لمعروف الكرخي وأمر الخليفة أن يتصدق بجميع ما خلفته من ذهب وفضة، وجواهر وثياب على جواريها وذوي الحاجة، ومماليكها، فقسم بينهم وحمل ما في خزائنها من الأشربة والعقاقير إلى المارستان العضدي وكان يساوي ألوفاً، وحزن عليها أهل بغداد حزناً عظيماً لأنها كان محسنة إلى الناس (4).
__________
(1) سير أعلام النبلاء (22/ 192).
(2) سياسة الخليفة الناصر لدين الله الداخلية ص 28.
(3) المصدر نفسه.
(4) سياسة الخليفة الناصر لدين الله الداخلية ص 28.(1/372)
1 - الناصر خليفة للمسلمين: يبدو أن الخليفة المستضيء، خطب للناصر بولاية العهد في أيامه الأخيرة، ولكنه سرعان ما عدل عنه إلى أخيه أبي منصور لتخوفه من الناصر مما دعا به إلى سجنه، ولكن المرض لم يمهل المستضيء طويلاً، حيث توفي قبل استقرار الأمور لولي العهد الجديد أبي المنصور، وهذا مما جعل الحاشية وعلى رأسها استاذ الدار والوزير وغيرهم يضطرون إلى أخذ البيعة للناصر (1)، وقد بويع الناصر صبيحة ليلة وفاة والده وكان أول المبايعين له أخوه الأمير أبو منصور هاشم وتبعه بقية الأمراء ورؤساء الدواوين والقضاة والفقهاء (2)، ثم جلس الناصر بعد ثلاثة أيام في دار الملك للبيعة العامة ولتلقي التهاني من وفود الأقاليم من وجوه وأعيان الناس فيها وكان من بينهم ضياء الدين الشهرزوري الذي جاء برسالة التهنئة من صلاح الدين الأيوبي، وكانت وفود بلاد الشام والثغور ومصر قد حضرت ومعها شعراؤها للتهنئة والبيعة، فكانت مناسبة أظهرت فيها مؤسسة الخلافة العباسية في بغداد مظاهر الأبهة والابتهاج والبشرى بالعاهل الجديد، كما شارك الناس في هذه الاحتفالات وتمنوا أن تكون أيام الناصر أيام خصب ورفاهية بعدما عانوه من سني البؤس واليأس في السنين (3) الماضية وقد استلم الناصر الخلافة في مستهل ذي القعدة سنة 575هـ/1189م وجعل نقش خاتمه "رجائي من الله عفوه" (4) وقد وصف الناصر الرحالة الشهير ابن جبير الذي زار بغداد في عهده بقوله " وهو ميمون النقيبة عندهم قد استسعدوا بأيامه رخاء وعدلاً وطيب عيش فالكبير والصغير منهم داع له (5).
__________
(1) مرآة الزمان (8/ 354) الخلافة العباسية د. فاروق عمر (2/ 208).
(2) خلاصة الذهب المسبوك للاربلي ص 280 الخلافة العباسية (2/ 208).
(3) مختصر التاريخ ص 243 للكازروني الخلافة العباسية (2/ 209).
(4) رجلة ابن جبير ص 181 الخلافة العباسية (2/ 239).
(5) الخلافة العباسية (2/ 209).(1/373)
2 - مساعدو الخليفة: وكان يساعد الخليفة الناصر في إدارة شؤون الدولة نخبة من المسؤولين السياسيين والإداريين (1)، وعلى رأسهم الوزير ونائبه واستاذ الدار "دار الخلافة" والحاجب وقاضي القضاة، وصاحب المخزن وصاحب المظالم والحسبة ورؤساء الدواوين المتنوعة وصاحب ديوان الزمام وكان لأستاذ الدار نفوذاً كبيراً في بداية خلافة الناصر ولكن الخليفة أوقع به بعد أن كثرت الشكاوي على تجاوزاته وسلبه أموال الرعية خاصة بعد أن تسلم الخليفة مذكرة من نائب الوزارة جلال الدين صدقة، وكان ذلك سنة 583هـ (2) وأما وزراء الخليفة الناصر، فكانوا وزراء تنفيذ لا سلطة لهم بوجود الخليفة الذي كان يباشر الأمور بنفسه ما عدا بضع سنين قبيل (3) وفاته ومن هنا جاءت كلمات ابن دحية في الناصر: أخذ الأمر حقاً وقوة وفتح البلاد طاعة وعنوة وطبقت دعوته جميع الآفاق وطلعت حكمته باهرة الأشراف وأوقع بوزراء السوء على الإطلاق وقام بما عليه من العهد والميثاق (4)، كما وأن الناصر لم يكن لديه وزير على الدوم، بل يختار حيناً وزيراً ويعين أحياناً أخرى نائب وزير حسب ما يراه ضرورياً (5)
__________
(1) المصدر نفسه.
(2) الخلافة العباسية (2/ 209).
(3) المصدر نفسه (2/ 209).
(4) النبراس في خلفاء بني العباس ص 165 الخلافة العباسية (2/ 209.
(5) النظم الإسلامية فاروق عمر ص 92 الخلافة العباسية (2/ 209) ..(1/374)
ويحدثنا صاحب كتاب الفخري في الآداب السلطانية عن اهتمام الناصر في اختيار الرجل المناسب في المحل المناسب وحرصه على معرفة معدن الرجال وسريرتهم قبل التعيين، أنه كان يطلق الدعايات والإشاعات بين الناس بواسطة أصحاب الأخبار وأعوانهم حول ترشيح شخص معين لمنصب معين فتكثر الأقاويل عليه من قبل أصدقائه وأعدائه من معارفه فيكتب أصحاب الأخبار إلى الخليفة بذلك كله وأي الفئتين على حق وصواب وعندئذن يوازن الخليفة بين الرأيين ويختار الشخص أو يتركه، وهذا ما كان يفعله حين يختار وزيراً أو قاضياً أو صاحب ديوان أو غيرهم من وجوه مؤسسة الخلافة في السياسة أو الإدارة (1) ومما يلاحظ في سياسة الخليفة الناصر لدين الله أنه اعتبر الوزراء منفذين لا مفوضين في الحكم ولذلك استوزر أربع عشرة شخصية حمل خمسة منهم فقط لقب الوزير أما البقية الباقية فلم يكونوا أكثر من نواب وزراء (2)، على أن ما يجدر ذكره فيما يتعلق هو جمعها رياستي السيف والقلم في آن واحد، ففي الوقت الذي يشرف فيه الوزير على الأمور المالية والإدارية كان يتقلد قيادة الجيش ويقود العساكر لقتال الأعداء والمتمردين وذوي النزعة الإنفصالية (3)، ولعل أشهر مثل على ذلك وزير الناصر المعروف "بابن القصاب" الذي قاد جيش الخلافة ودوخ السلاجقة وأعاد العديد من مدن بلاد فارس الغربية إلى نفوذ الخلافة العباسية في بغداد، وتوفي سنة 592هـ/1195م بعد أن أعاد همذان وأصفهان وحاصر الري (4)،
__________
(1) الخلافة العباسية (2/ 210).
(2) المصدر نفسه (2/ 210).
(3) الخلافة العباسية (2/ 210).
(4) الكامل في التاريخ نقلاً عن الخلافة العباسية (2/ 210) ..(1/375)
لقد استمرت الخلافة العباسية في الأخذ بالنظام المركزي في الإدارة فكان الخليفة بمساعدة الوزير يعين من يراه مناسباً على الأقاليم التابعة للدولة وهي في تلك الفترة قليلة ومحصورة في العراق وبعض أقاليم بلاد فارس الغربية (1)، والمعروف أن ولاية مصر وولاية بلاد الشام والحجاز واليمن كانت تابعة لصلاح الدين الأيوبي وأسرته ومع اعتراف هؤلاء جميعاً بالخليفة العباسي إلا أنه لم يكن للخليفة العباسي نفوذ مؤثر فيهم، بل إن إقراره لهم كان اعترافاً بأمر قد وقع فعلاً، وقد ظهرت في العصور العباسية الأخيرة مناصب جديدة بسبب تبدل الظروف منها: منصب الشحنة وهو موظف يتولى سلطات إدارية وأمنية في المدن والمراكز الحضرية الأصغر من المدن، وهناك منصب "الحماة" وهم المسؤولون عن حفظ الأمن والنظام في الأرياف، ومناطق البادية ويختارون عادة من رؤساء العشائر المتنفذين في مناطقهم كي يتمكنوا من أداء مهامهم بيسر وسهولة (2).
3 - دواوين الدولة الرئيسية: لقد كانت دواوين الدولة الرئيسية مستمرة في تأدية واجباتها دون تغيير جذري، رغم أن بعضها قد تبدل اسمه فمثلاً ديوان الخراج تبدل إلى "المخزن" وصاحبه صاحب المخزن، وأصبح ديوان الجند ديواناً للجيش وديوان النفقات والضياع أصبح ديوان المقاطعات، وغدا لضريبة الجزئية التي تؤخذ من أهل الذمة ديوان خاص بها يسمى "ديوان الجوالي" وكانت مواريث من لا وراث له تذهب إلى بيت المال مباشرة أما في العصور العباسية الأخيرة، فأصبح لها ديوان ينظمها تحت اسم "ديوان التركات الحشرية" على أن الأهم من ذلك ظهور دواوين جديدة، تشير رواياتنا التاريخية إلى أسمائها وبعض مهامها في عهد الناصر لدين الله منها (3):
__________
(1) تلخيص مجمع الآداب لابن الفوضي (4/ 651 - 738).
(2) الخلافة العباسية (2/ 211).
(3) الخلافة العباسية (2/ 211).(1/376)
أ- ديوان الأبنية: وهو ديوان يدل على مدى اهتمام الناصر بالعمران والبناء رغم كونه كان يواجه تحديات عديدة من الخارج وخاصة من بلاد فارس ولكنه كان يصر على إيجاد الأموال اللازمة لإعمار عاصمته بغداد وترميم أسوارها وأبوابها وبناء أسواق ومدارس وربط في أماكن عديدة من المناطق الواقعة تحت نفوذ الخلافة (1).
ب- ديوان المقاطعات: وهذا الديوان مسؤول عن المقاطعات التي يمنحها الخليفة للأمراء والمتنفذين حيث تسجل بأسمائهم في دفاتر خاصة مقابل شروط معينة يقبلها الأمير المقطع (2).
ج- ديوان الوقوف: ومع أن هذا الديوان كان موجوداً قبل عهد الناصر، وأن الاهتمام بالوقوف اهتمام إسلامي قديم، فقط نشط هذا الديوان في عهد الناصر بسبب كثرة الوقوف التي أوقفها الخليفة.
س- ديوان الطبق: وتنحصر مسؤوليته في الإشراف على توزيع الطعام والشراب على الفقراء والمحتاجين خاصة أولئك الذين يمنعهم التعفف من سؤال الناس أو التسول (3)، وكان صاحب الديوان يستعين بذوي الخبرة من أعيان الناس والنقباء للتعرف على المحتاجين في الأزقة والسكك والمحلات (4).
وأما ديوان البريد: فلعل من أهم صلاحيات صاحبه هو كونه عينا للخليفة يوافيه بأخبار الأقاليم والأحداث المهمة التي تقع فيه (5)، إلا أن هذه المهمة الخطيرة أصبحت في العصور العباسية الأخيرة تنحصر أكثر فأكثر بيد: صاحب ديوان الخبرة، الذي تداخلت صلاحياته مع بعض صلاحيات صاحب البريد الخاصة بتقصي الأخبار التي تهم الدولة (6).
__________
(1) مضمار الحقائق نقلاً عن الخلافة العباسية (2/ 240).
(2) سياسة الخليفة الناصر لدين الله الداخلية ص 89.
(3) ذيل طبقات الحنابلة (2/ 66) الخلافة العباسية (2/ 212).
(4) الخلافة العباسية (2/ 212).
(5) النظم الإسلامية ص 78، الخلافة العباسية (2/ 240).
(6) الخلافة العباسية (2/ 212).(1/377)
4 - سياسة الناصر لدين الله المالية والاقتصادية:
مع لبثت الضائقة المالية أن خفت مع مجيء الناصر لدين الله، حيث كثرت الخيرات والزروع ورخصت الأسعار، فكانت أيامه على حد قول ابن جبير رخاءً وعدلاً وطيب عيش (1)، ويضيف ابن جبير الذي زار العراق في هذه الفترة كثرة المزارع والنخيل وبساتين الفواكه، فيقول مثلاً عن الطريق الزراعي بين بغداد إلى الحلة: إنها أحسن طريق وأجملها في بسائط من الأرض وعمائر تتصل بها القرى يميناً وشمالاً وتشق هذه البسائط فروع من ماء الفرات تتسرب بها وتسقيها وهي متسعة وفسيحة تشرح بها العيون وتنبسط فيها النفوس، والأمن فيها متصل (2) وأشار ابن جبير إلى اهتمام الناصر بالمحافظة على الأمن والاستقرار فقد لاحظ نقاط حراسة على طول الطريق لحماية القناطر والجداول المتفرعة على الأنهار وحماية القوافل خاصة وأن هذه الطريق كانت جزءاً من طريق الحج إلى الحجاز (3) يقول ابن جبير: فلايكاد المرء يمشي ميلاً إلا ويجد قنطرة على نهر متفرغ من الفرات فتلك الطريق أكثر الطرق سواقي وقناطير وعلى أكثرها خيام فيها رجال محترسون (4) للطريق. وقد منع الخليفة الناصر سوء استغلال المزارعين أو استخدامهم في أعمال السخرة، فحين علم الخليفة أن عامله على منطقة نهر الملك قد أجبر الفلاحين على العمل بالسخرة لحسابه الخاص أمر بقطع يده ليكون عبرة لمن يستغل نفوذه بصورة غير صحيحة (5)،
__________
(1) رحلة ابن جبير ص 181 الخلافة العباسية (2/ 213).
(2) المصدر نفسه ص 169 الخلافة العباسية (2/ 213).
(3) الخلافة العباسية (2/ 213).
(4) رحلة ابن جبير ص 170 الخلافة العباسية (2/ 213).
(5) الخلافة العباسية (2/ 213) ..(1/378)
كما وأن هذا الإجراء يدل - ضمن إجراءات أخرى منها تحقيق عبء بعض الضرائب - على الأمل الذي كان يعلقهم الناصر على الفلاحين وهم الفئة المنتجة للغلة التي يقتات منها الشعب، وهذا يفسر إشارات ابن الساعي في كتابه الجامع المختصر إلى وفرة المواد الغذائية ورخص أسعارها في هذه الفترة (1) وهناك سبب آخر من أسباب كثرة الغلات وانخفاض الأسعار على عهد الخليفة الناصر لدين الله فقد أمر الخليفة بفتح خزائن الغلات وإطلاق البيع للناس، كما أعطى أرزاق الجند من الحبوب عيناً فكثر العرض من الحنطة والشعير والذرة في الأسواق (2)، مما أدى إلى تراخي أسعارها بسبب الفائض منها وكثرة نسبته على الطلب (3).
__________
(1) الخلافة العباسية (2/ 214).
(2) الخلافة العباسية (2/ 214)
(3) المصدر نفسه (2/ 214)(1/379)
5 - الفتوة الناصرية: لعب نظام الفُتُوَّة دوراً كبيراً في العلاقات الدولية بين الخلافة العباسّية والعديد من الممالك الإسلامية وعلى الخصوص الممالك الأيُّوبيَّة، وذلك من خلال الهدف السياسي البعيد، الذي حاولت الخلافة العباسية - في عهد الناصر لدين الله - الوصول إليه عبر تنظيم الفُتوة وهو إعادة فرض سيطرتها على تلك الممالك بأسلوب جديد ويقوم نظام الفتوة - أساساً - على مكارم الأخلاق فهو: أن تُصَرب من يُبغضك وتكرم من يؤذيك وتحسن إلى من يُسيء إليك، وهذه أمور حسنة مطلوبة سُميَّت فُتُوَّة أم لم يُسمَّ، وقد شهد هذا النظام ذروة مجده مع الخليفة العباسي النَّاصر لدين الله: كان الخليفة النَّاصر شابَّاً مرحاً ممتلياً بالحيوية والرجولة، والناس يتهَّيبون لقُياه (1)، فانعكست قوَّة شخصيته على قوة منصب الخلافة والتمس الناصر طريقة جديدة لتقوية نفوذه على الممالك الإسلامية المختلفة، التي تدين له بنفوذ معنوي، وليس عليها أيُّ تأثير سياسي حقيقي، فسعى لتزويد منصب الخلافة بُسلطة أخرى غير سلطة الشرعية تتمثل بُسلطة اجتماعية سياسيَّة أخلاقية، تؤدَّي - بحال انتشارها - إلى التفاف الجميع حول منصب الخلافة الذي يرأس هذه السلطة أو المنظمة الجديدة (2) وكان صاحب الفُتُوَّة في بغداد أيام الخليفة الناصر هو الشيخ عبد الجبار، فأحضره الخليفة " وأعطاه خمسمائة دينار، وخلع عليه وعلى ولده، وكان شيخاً حسناً له أتباع كثيرون (3)،
__________
(1) الموسوعة الشاملة د. سهيل زكار (14/ 74).
(2) العلاقات الدولية (1/ 296).
(3) الموسوعة الشاملة (21/ 256) د. سهيل زكار ..(1/380)
ممّا يعني أنه تنازل للخليفة عن منصب رئيس الفتيان، وما قام به الخليفة النّاصر - بعد ذلك - هو عملية إعادة تنظيم ورعاية لهذه المنظمة، فجعله ذلك رجلها الأول، ورئيسها ثم حدَّد قواعدها، ونشرها، وانتسب إليه في الفُتُّوة أكابر الناس والملوك، ففي عام 607هـ/1210م، طلب الخليفة الناصر من كُلَّ ملوك المسلمين أن ينتموا إليه في الفُتُوّة ويعُّدونه إمامهم بها، على أن تنتمي رعية كُلَّ منهم إلى ملكها (1).
أ- نظام الفُتُوَّة: وقد وُضع للفُتُوَّة شُرُوط خاصَّة يجب أن تنطبق على من ينتمي إليها، ومنها: صدق الحديث، وأداء الأمانة، وأداء الفرائض، واجتناب المحارم، ونصرة المظلوم، وصلة الرحم، والوفاء بالعهد، وغيرها من قواعد الأخلاق التي حظَّ عليها الإسلام (2)، وكانت هُناك أمور عديدة يُطلَب تطبيقها من المنتسبين إلى تنظيم الفُتُوَّة وكلها يستدل عليها من ذكرها في الأحاديث النبوية الشريفة، منها:
- طاعة الرؤساء والمقدَّمين.
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
- نصرة المظلوم، وإغاثة الملهوف.
- حفظ الجار.
- التعاضد والتناصر بين الأعضاء.
- حفظ الجار.
- كتمان السَّرَّ.
- صدق اللهجة.
__________
(1) مفرج الكروب (3/ 206) العلاقات الدولية (1/ 297).
(2) الفتوة عند العرب للدسوقي ص 229 العلاقات الدولية (1/ 297).(1/381)
- العفة عن المحارم (1). وما كل ذلك إلا استجماع لمكارم الأخلاق العربيّة، وتعاليم الإسلام في التعامل، ولروح الشجاعة والإيثار (2) وكان المنتسبون لتنظيم الفتوة يسمّون الفتيان، أمّا من ينضُّم حديثاً لها، فيُدعى بالرفيق، ويُرشَّح الفتى الجديد لقبوله في التنظيم فتيان قدماء، ثّم يقام حفل تنسيب للمنُضمين الجُدُد، تلقى فيه كلمات، تشيد بالفُتُوَّة، وتربطها بتعاليم الإسلام من خلال الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة (3)، ويشرب المنتُسبون الجُددُ كأس الفُتُوَّة وفيه ماء وملح (4)، وهو دليل قبول الأنظمة والتعاليم الخاصَّة بالفُتُوة - وكان الفتى عند تنسيبه يُلفُّ بملابس رقيقة من الكتَّان، أو القطن الأبيض، ثم يرتدي السروال الخاصَّ بالفُتُوَّة، وكان السروال هُو الشعار، أو الزي الخاص لهذا التنظيم، فجميع الفتيان يرتدون طرازاً خاصَّاً وموحَّداً من السراويل يميزهم عن بقية الناس (5)، ثم توضع على رأس الفتى طاقية صغيرة سوداء، وفوقها قلنسوة من الصوف الأبيض، ويضع على أكتافه قباء، أو عباءة خفيفة يُلفُّ عليها حزام، يُعلقَّ به سكَّين، أو خنجر، ويلبس في رجله خفيَّن (6) وربما كان من أشهر حفلات تنسيب الملوك لتنظيم هي الحفلة التي أقامها الملك المنصور صاحب حماة عام 622هـ/1223م، وأقام الخطبة فيها قاضي حماة سالم بن نصر الله والد المؤرَّخ ابن واصل (7).
__________
(1) الموسوعة الشاملة د. سهيل زكار (21/ 258).
(2) النظم الدبلوماسية، صلاح الدين المنُجَّد ص 151.
(3) العلاقات الدولية (1/ 298).
(4) المصدر نفسه (1/ 298).
(5) مجمع الآداب ابن الفوطي (1/ 1184) العلاقات الدولية (1/ 298).
(6) مفرج الكروب (4/ 164) العلاقات الدولية (1/ 299).
(7) العلاقات الدولية (1/ 299).(1/382)
وعندما استكمل الخليفة الناصر تنظيمه الجديد نظرياً، بدا بتسيير رُسُله إلى ملوك المسلمين، وطالبا منهم الانتماء إليه عبر نظام الفُتُوَّة، وقد قبل الجميع ذلك، وانتسبوا للخليفة الناصر (1)، فهذا لا يُنقص من مُلكهم شيء وما سُلطة الفُتُوة إلا سلطة معنوية، لذلك لم يتخلف منهم أحد وقد "لبس السلطان العادل سراويل الفُتُوَّة للخليفة الناصر (2)، وكذلك أولاده الملك المعُظمَّ والملك الكامل والملك الأشرف، ولبسها المجاهد صاحب حمص، والملك الظَّاهر غازي ابن السُّلطان صلاح الدين صاحب حلب، وكذلك أرسل لباس الفُتُوَّة إلى كيخسرو سلطان الرُّوم (3)، واعتقد الخليفة النَّاصر بذلك أنَّه قد جمع الأمَّة حوله، وبالفعل، فقد أسبغت الفُتُوَّة مزيداً من الهيبة على منصب الخليفة (4)، فقد كان الملك الذي ينتسب إلى الخليفة يتبعه كُلُّ أركان دولته وأكابر بلاده، ولكن اهتمام الخليفة النَّاصر بتنظيم الفُتُوَّة جعله يعتقد أنهّا كُلّ ما يربطه بُملوُك المسلمين، حتى إنَّه لم يُبصر أعظم المخاطر التي تحيق بهم، ففي عام 615هـ/1218م وصلت رُسُلُ الخليفة الناصر إلى الملك الكامل (5)، وهو مرابط على دمياط أمام قّوات الفرنجة التي احتلتَّ المدينة، وأخذت تتقدّم باتجاه القاهرة فظنَّ الناس الظنون الجميلة يؤمئذ في الخليفة، فتبيَّن أنه لأجل رمي البُنُدق، وكونه يُريد أن يكون هو قبلته فتعجَّب الناس من إمام العصر وهمَّته (6) فكأن الكامل كان بحاجة إلى زعامة الخليفة لرمي البُنُدق ليُقاوم جحافل الفرنج الزاحفة على مصر (7).
__________
(1) الموسوعة الشاملة د. سهيل زكار (14/ 74).
(2) العلاقات الدولية (1/ 299).
(3) المصدر نفسه (1/ 299).
(4) الموسوعة الشاملة (20/ 134).
(5) العلاقات الدولية (1/ 299).
(6) العلاقات الدولية (1/ 299).
(7) العلاقات الدولية (1/ 299).(1/383)
ب- من نشاطات الفُتُوَّة: وكان من اهتمامات الفتيان الرمي بالبُنُدق، وتدريب الحمام، وقد تفنن الناس في ذلك سواء الأمراء أو الملوك (1)، وفي العصر الأيوبي كان الرمي بالبُنُدِق (2)، قد شاع في معظم أنحاء الدولة الإسلامية وهو رياضة رمي وتدريب على التسديد ويُستخدم للرمي على الطيور من أجل الصيد أو الرياضة، وكان الخليفة العبَّاسي النَّاصر لدين الله قد منع رمي البُندُق إلا لمن ينتمي له (3).
لقد قصد الخليفة النَّاصر من اهتمامه الكبير بنظام الفتوة تقوية مركزه وزيادة فاعلية منصب الخليفة وربط ملوك الأطراف والرعايا بشخص الخليفة، من حيث كونه زعيماً فعلياً، إضافة لكونه خليفة وإماماً شرعياً (4) ولكنَّ كُلَّ ما قام به النّاصر لتنظيم الفُتُوَّة تهاوى بعد (5) موته، ويرى بعض الباحثين إن نظام الفُتُوة استمر بالقوة والاندفاع نفسهما بعد وفاة الخليفة الناصر لدين الله سنة 622هـ إذ اهتم الخلفاء العباسيون بعده في العناية بالفتوة والقيام برسومها ورعاية الفتيان في البلاد الإسلامية على اختلاف الحماسة لها (6).
__________
(1) نكت الهميان للصفدي ص 91.
(2) البندق: كرات صغيرة من حجر أو معدن أو طين، تقذف من مأسورة.
(3) العلاقات الدولية (1/ 300).
(4) المصدر نفسه (1/ 300).
(5) المصدر نفسه (1/ 300).
(6) سياسة الخليفة الناصر لدين الله الداخلية ص 159.(1/384)
6 - صحوة الخلافة العباسية: كان الخليفة النَّاصر يتمتع بشخصية قوية، فتمكَّن من إعادة الهيبة لمنصب الخلافة، وأعاد السيطرة على عدَّة مناطق لم يمتدَ إليها نُفوُذ الخلفاء منذ زمن طويل: وكان الناصر قد ملأ القُلُوب هيبة وخيفة، فكان يرهبه أهل الهند ومصر كما يرهبه أهل بغداد، فأحيا بهيبته الخلافة، وكانت قد ماتت بموت المعتصم (1)، واستولى مع العراق على إقليم خوزستان وغيرهما من الأطراف، وملك همذان، وأصفهان (2)، وكان للخليفة النَّاصر: أصحاب أخبار في العراق، وسائر الأطراف، يُطالعونه بجُزئيات الأمور وكُلَّيَّاتها (3) وأمضى الخليفة الناصر مُدة حياته في عزة وجلالة وقمع للأعداء وكان شديد الاهتمام بمصالح الملك ... واستمر خليفة سبعاً وأربعين سنة (4) إلا شهراً ولم يقم أحد من الخلفاء العباسيين في الخلافة هذه المَّدة الطويلة، ولم تَطُل مدة أحد من الخلفاء مُطلقاً أكثر من المستنصر العبيدي أقام بمصر حاكماً بها ستين سنة (5)، وكذا وليَ الأندلس الناصر المروانيّ - الأموري - خمسين سنة (6).
7 - التصدي للنفوذ السلجوقي: حرص الخليفة الناصر لدين الله على تقليص النفوذ السلجوقي ببغداد، فهدم دار السلطنة السلجوقية ورفض طلب طغرل الثالث بذكر اسمه على الخطبة ووسع نفوذ الخلافة العباسية، فشملت العراق بأجمعه، كما استرد الأحواز واعقبها بأصفهان وهمدان (7) وتوجت هذه الإنجازات بإنهاء السيطرة السلجوقية رسمياً على العراق سنة 590هـ/1193م.
__________
(1) العلاقات الدولية (1/ 293).
(2) المصدر نفسه (1/ 293).
(3) العلاقات الدولية (1/ 294).
(4) المصدر نفسه (1/ 294).
(5) البداية والنهاية (17/ 134).
(6) سير أعلام النبلاء (22/ 193).
(7) الخلافة العباسية في عصورها المتآخرة ص 91، 92.(1/385)
وقد عمد الناصر لدين الله إلى استخدام أساليب عديدة لتحقيق هدفه، منها؛ استغلال المنافسة بين الأمراء السلاجقة الجدد من أجل أضعاف النفوذ السلجوقي على أقاليم الخلافة واستطاع تحريك القوّة الخوارزمية للصطدام بطغرل الثالث الذي حاول النيل من الخلافة العباسية، مضيفاً الشرعية على علاء الدين تكشي الخوارزمي واعداً أياه بمنحة الأراضي والأقاليم كافة التي كانت في حوزة السلاجقة في بلاد فارس وهكذا ضرب الناصر عصفورين بحجر واحد، محاولاً انهاك قوتهما عسكرياً وبالتالي إنهاء طموحاتهم بالاستيلاء على العراق والخلافة العباسية، ولقد كانت معركة الري بين طغرل الثالث وتكش الخوارزمي حاسمة حيث خسر طغرل المعركة وقتل فيها سنة 590هـ/1193م وانتهى بمقتله نفوذ سلاجقة الروم (1)
__________
(1) الخلافة العباسية (2/ 224).(1/386)
8 - الناصر والخوارزمية: استعان الخليفة الناصر بعلاء الدين تكش خوارزمشاه للقضاء على النفوذ السلجوقي في بلاد فارس على أن خوارزمشاه هذا اعتبر نفسه وريث السلاجقة حيث سيطر على الأقاليم التابعة لهم، بذلك أصبح أكبر قوة بين أمراء المنطقة، وطمع في الخلافة العباسية ونازعها على الأحواز وطلبها لكي تكون كفاية لاتباعه إلا أن الناصر رفض التنازل عن الأحواز، بل أرسل جيشاً احتل اصفهان وسير جيشاً لإحتلال همدان وأكثر من هذا حاول الناصر الاستعانة بأعداء خوارزمشاه تكش من الأمراء الخوارزمية واتصل بالخزر وطلب منهم أن يتحركوا ليمنعوا تكش من دخول العراق، ثم كتب الخليفة الناصر إلى غياث الدين الغوري "يأمره بقصد بلاد خوارزم ليعود (تكش) عن قصد العراق" وهكذا نجح الناصر في خلق مشاكل عديدة وإثارة الاضطرابات في تخوم الخوارزميين الشرقية وبذلك أبعد الخطر الخوارزمي عن العراق ولو إلى حين إن خطر الغوريين على الخوارزميين أرجأ الهجوم الخوارزمي أكثر من عشرين سنة وخلال هذه الفترة توفي علاء الدين تكش وأعقبه في حكم الإمارة الخوارزمية ابنه علاء الدين محمد ولكن مشاغله في الأقاليم الشرقية أرجأت تحركه نحو العراق لبعض الوقت وبدأ خوازمشاه علاء الدين محمد في التخطيط لتنفيذ طموحاته وطموحات أبيه من قبله في احتلال العراق وإقامة الخطبة له في بغداد ومساجدها منذ 607هـ وقد طلب خوارزمشاه بصراحة من الخليفة الناصر لدين الله العباسي لا تخلو من وقاحة: أن يكون أمر بغداد والعراق لعلاء الدين ولا يكون إلى الخليفة إلا الخطبة ولما رفض الخليفة الناصر هذا الطلب عمد خوازمشاه علاء الدين إلى اختلاق أنواع الُمبررات لتبرير شن حرب على العراق، فأثار القلاقل والاضطرابات الداخلية حيث شجع مماليك الخلافة على التمرد داخل بغداد ولكن الخلافة سحقت التمرد (1)،
__________
(1) الخلافة العباسية (2/ 226) ..(1/387)
وجمع خوارزمشاه فقهاء وعلماء الأقاليم التابعة له وأمرهم بإصدار فتوى بعدم شرعية الخلافة العباسية وأن خلفاء بني العباس أهملوا أمر الجهاد ولم يتتبعوا أهل البدع والضلال بالقمع، وبعد صدور الفتوى أمر خوارزمشاه باسقاط اسم الناصر من الخطبة والسكة كما وأنه عمد إلى إثارة الرأي العام الإسلامي ضد الخلافة العباسية بالعراق، حيث نظم دعاية واسعة للتشهير بالخلافة معلناً أنه عثر على رسائل من الخليفة الناصر فيها تحريض للغوريين على مهاجمة خوارزمشاه مطالباً لعزل الناصر لأنه يقسم جماعة المسلمين ويحرض بعضهم على البعض الآخر!!
وقد سار خوارزمشاه علاء الدين محمد بجيش جرار سنة 614هـ/1217م نحو العراق مستهدفاً احتلال بغداد ولم تفد معه رسل الخليفة الناصر التي أرسلها لترده عن قصده وتنصحه بطاعة الخليفة واتخذ الخليفة الناصر حملة من الإجراءات لحماية العراق من الهجوم المرتقب وتمكن من كسب أتابكة إقليم فارس وأذربيجان ضده كما وأن الحشيشية النزارية الذين دانوا بطاعة الخلافة العباسية خلال هذه الفترة ولمدة قصيرة من الزمن استطاعوا اغتيال "أوغلمش" عامله في غربي بلاد فارس وبهذا استطاع الناصر أن يكون حاجزاً بينه وبين خوارزمشاه ومع ذلك فقد فرق الناصر السلاح وصرف الأموال للتحصين وإقامة المتاريس حول بغداد ولكن خوارزمشاه لم يتمكن من دخول العراق حيث صادفته بعد تركه همدان عاصفة ثلجية عاتية أهلكت دوابه والكثير من رجاله المقاتلين، كما تعرضوا لغارات من السكان المحليين مما جعل خوارزمشاه مضطراً إلى الإنسحاب بالبقية الباقية من جيشه منهار العزيمة خائر القوى (1).
__________
(1) الخلافة العباسية (2/ 227).(1/388)
ولم يكّرر خوارزمشاه علاء الدين محمد محاولته لغزو بغداد حيث توفي سنة 617هـ/1220م وخلفه في حكم الخوارزميين ابنه جلال الدين منكبرتي وكانت سياسته معادية للخليفة الناصر العباسي حيث توسل كأبيه بالوسائل كافة لاسقاط الخلافة العباسية مع أنه كان يدرك بأن الخطر المغولي بات على أبواب العالم الإسلامي، وكان جلال الدين منكبرتي يحاول إيجاد الأعذار والتبريرات من أجل غزو العراق اتماماً لخطة أبيه ولما فشل في إيجاد خلفاء له بين أمراء المسلمين عز على التقدم بنفسه نحو العراق فاستولى على إقليم الأحواز "عربستان" التابع إدارياً للخلافة المركزية في بغداد، ولكن منكبرتي فشل في احتلال عاصمة الأحواز آنذاك تستر وأرسل الخليفة الناصر جيشه لحرب جلال الدين منكبرتي في الأحواز وجرت المعركة في الأحواز سنة 622هـ/1225م وانتصر منكبرتي على جيش الخلافة العباسية الذي انسحب نحو العراق، ثم أعاد الكرة على تستر ولكن الجيش العباسي صمد مدافعاً عن عاصمة الأحواز مما اضطر منكبرتي وجيشه إلى دخول حدود العراق الشرقية، فاصطدموا بالجيش المدافع عن البصرة الذي أوقع بهم ومنعهم من دخولها (1).
__________
(1) الخلافة العباسية (2/ 230).(1/389)
إن فشل منكبرتي في احتلال أية مدينة مهمة في الأحواز وجنوبي العراق جعله ينهب ويدمر كل ما تقع عليه يده في القرى والمزارع التي مر بها، فانتشر السلب والنهب واضطرب حبل الأمن وقطعت الطرق وقطعت الطرق على الطريق بين بغداد والبصرة، واندفع منكبرتي شمالاً باتجاه بغداد وأرسل إلى الخليفة الناصر رسولاً حمل رسالة إلى دار الخلافة وصفها أحد المؤرخين بأنها: رسالة تعنت وتعتب، مما يدل على الحالة النفسية السيئة التي كان يعيشها وحين أصبح قاب قوسين أو أدنى من بغداد لم يهاجمها بل واصل سيره شمالاً وعسكر في بعقوبة (1) وأما الخليفة العباسي الناصر فقد استعد تمام الاستعداد للدفاع عن سيادة العراق وكرامة أبنائه وتأهب أهل بغداد أهل الصولات والجولات، واستعدوا للدفاع واصلحوا السلاح وهيأوا النفط ونصبوا المجانيق على الأسوار وفرق الخليفة الناصر المال والسلاح، كما اتصل الخليفة الناصر بحاكم أربل زين الدين كوكبري وطلب إليه مهاجمة جيش منكبرتي وقطع خطوط تمونيه ومواصلاته وتجاه هذه الظروف وأدرك منكبرتي استعدادات العراقيين وخليفتهم الناصر، انسحب منكبرتي شرقاً بعد أن أمضى ثمانية عشر يوماً في بعقوبة، وبعد أن نهب بعض القوى المحيطة ببغداد من أجل تموين جيشه الذي قطعت ميرته، كما هاجم منكبرتي داقوقا وحاصرها ثم دخلها وأباها لجنوده الذين عاشوا فيها فساداً وقتلاً ونهباً وهكذا فشل الهجوم الثاني للخوارزمية أمام صمود بغداد والخليفة العباسي، لقد أبعد جلال الدين منكبرتي بسياسته العدوانية على الخلافة الكثير من أمراء المسلمين وعلى رأسهم الخليفة العباسي الناصر لدين الله وجعلهم جميعاً خصوماً له يشكون في أهدافه التوسعية وأطماعه في أقاليمهم ولهذا كله ترك وحيداً في الميدان يجابه مصيره المحتوم أمام جموع المغول الذين قضوا عليه وعلى إمارته سنة 628هـ/1231م (2).
__________
(1) المصدر نفسه (2/ 229).
(2) الخلافة العباسية (2/ 230).(1/390)
9 - الناصر لدين الله والإسماعيلية الشيعية: تمثل الحركة الحشيشية الباطنية جهوداً متطرفة "غالية" للتغلغل إلى العقيدة الإسلامية وتخريبها وتدمير أصولها وإحلال عقيدة ومثل وقيم أخرى محلها، وقد استطاعت هذه الحركة أن تحقق مكاسب سياسية مهمة في بلاد فارس على يد الحسن بن الصباح منذ سنة 483هـ/1190م حيث نجح هذا الداعية المتطرف في كسب سكان من بلاد الديلم وقزوين وأذربيجان وشكلت خطراً كبيراً على العراق والخلافة العباسية وهددوا الناس بما ارتكبوه من اغتيالات وعمليات إرهاب في أرجاء مختلفة من العالم الإسلامي إلا أن سياسات الناصر لدين الله وشعور الحشيشية بقوة الخلافة العباسية في عهد الناصر أجبرهم على إعادة تقويم موقفهم في الأقل خلال تلك المرحلة، فقد أظهر الحسن الثالث بن محمد بن الحسن تمسكه بالإسلام وإقامة الفرائض وبناء المساجد وراسل الخليفة الناصر من أجل التحالف معه في صراعه ضد الخوارزمية، ولكن الحشيشية اغتالوا إمامهم المعتدل وعادوا إلى عقيدتهم الباطنية الملحدة وهكذا فإن قوة الناصر وسياسته أثبتت فاعليتها حتى مع الحشيشية الذين اتبعوا خطة تنقذهم من سطوته ولو لبعض الوقت حيث اظهروا ميلهم إلى التضامن ووحدة الصف مع العالم الإسلامي بقيادة الخليفة الناصر ولكن هذا التظاهر لا يمكن أن يستمر طويلاً حيث تذبذبوا بين العباسيين والخوارزمية، كما حاولوا أن يتقربوا إلى المغول أثناء زحفهم في بلاد فارس، ولكن هولاكو دمر قلاعهم عن آخرها (1).
ومن الدروس المستفادة، العمل على استيعاب أهل البدع ومحاولت إدخالهم ودمجهم في جمهور الأمة العريض عن طريق التعليم والتربية والحوار، والنقاش والدفع باللتي هي أحسن وإذا كانوا شوكة وقوة تشكل خطر على عقيدة الأمة وأخلاقها وثقافتها وحضارتها يجب التصدي لهم بكل حزم وقوة وكسر تلك الشوكة والعمل على إزالت مشروعهم السياسي والعسكري من الوجود.
__________
(1) المصدر نفسه (2/ 231).(1/391)
10 - الناصر وحكام بلاد الشام: كان موقف الخليفة الناصر من بلاد الشام واضحاً فهو مع كل دعوة إلى وحدة الصف والتضامن بين القوى الإسلامية ضد الحركة الباطنية الهدامة في الداخل، وضد الإفرنج المتسترين بالدين في الخارج فقد كان التعاون الفرنجي الباطني أمراً واقعاً قبيل هذه الفترة وخلالها سواء كان هذا التعاون سرياً أم علنيا فإنه لم يكن يخفى على الخليفة الناصر الذي يمتلك جهاز مخابرات فعال ونشط تحركات الأعداء ولقد تم التعاون بين راشد الدين سنان زعيم الحشيشية السورية - الباطنية - وأملريك ملك بيت المقدس الذي تمثل بإرسال الوفود بين الطرفين من أجل التفاهم والتنسيق ضد القوى الإسلامية، كما كونت الحشيشية حلفاً مع فرسان الاسبتارية الإفرنج ضد صلاح الدين والأمراء التابعين له، وإن الحشيشية كانت تنشر دعوتها في بلاد الشام تحت حماية هؤلاء الفرسان الصليبيين مقابل تعهد الحشيشية باغتيال الأمراء الذين يعارضون الاسبتارية، فقد أثار تبنيامين التطيلي الذي زار المنطقة في ذلك الوقت إلى تعاون اليهود مع الحشيشية وإلى وجود أربعة آلاف يهودي يقاتلون مع الحشيشية السورية بموافقة رأس الجالوت "زعيم اليهود الروحي" (1)
__________
(1) الخلافة العباسية (2/ 232) الحركة الشعوبية ص 134 ..(1/392)
وإزاء هذا الموقف الخطير كان الناصر يدرك ضرورة دعم القوى الإسلامية التي تدعو إلى الوحدة والإسلام الصحيح، كما وأن صلاح الدين وبقية الأمراء كانوا بحاجة ماسة إلى مساندة الخلافة العباسية من خلال عهود التولية والاعتراف بشرعية حكمهم ومراسم التقليد والتشريف ولم يكن الأمر بالنسبة للخليفة الناصر سهلاً فعملية حفظ التوازن بين أمراء بلاد الشام عملية دقيقة وحساسة، ذلك لأن بعض الأمراء من الأتابكة وغيرهم كانوا لا يفهمون مقاصد صلاح الدين ويخشون من مشاريعه ونفوذهم واستقلاليتهم في القرار السياسي في المناطق التي يحكمونها، ويبدو أن الخليفة الناصر كان يفضل العمل السياسي والتدريجي على العمل العسكري الحاسم، ولهذا كان كثير ما يتوسط بين صلاح الدين والأمراء الأيوبيين من بعده وبين حكام الأتابكيات الآخرين من أجل الوصول إلى تفاهم سياسي وتجنب سفك الدماء بين المسلمين (1).
وفي عهد الملك الكامل الأيوبي استمرت العلاقة على ما كانت عليه بين الخليفة الناصر والأيوبيين ولم تنحصر علاقة الخليفة لدين الله بالملك الكامل بل امتدت لتشمل باقي ملوك الأيوبيين فلم يقبل الملك المعظم مساعدة جلال الدين الخوارزمي في محاربة الخليفة (2)، عندما طلب منه الخوارزمي ذلك (3).
__________
(1) الخلافة العباسية (2/ 233).
(2) القدس بين أطماع الصليبيين وتفريط الملك الكامل ص 183.
(3) المصدر نفسه ص 183.(1/393)
11 - بدايات الاحتكاك المغولي بحدود "دار الإسلام":
بدأ المغول الاحتكاك بالعالم الإسلامي في السنوت الأخيرة من عهد الخليفة الناصر لدين الله، ومعنى ذلك أنهم لم يكونوا قد شكلوا خطراً على "دار الإسلام" كما وأن خططهم وطموحاتهم لم تكن معروفة فيما يتعلق بالخلافة أو أقاليمها رغم أنهم دخلوا في صراعات محدودة في البداية مع كيانات إسلامية محايدة لهم (1). لقد كانت الصفحة الأولى (2)، من الاحتكاك المغولي بالعالم الإسلامي والتي تبدأ من سنة 616هـ/617هـ إلى سنة 620هـ وهي السنة التي توفي فيها جنكيز خان عبارة عن غارات متعددة وغزوات مفاجئة على مدن وأقاليم بلاد ما وراء النهر وخراسان وهدفها جس النبض وتحسس قوة أمراء المسلمين ولم يذكر التاريخ للخليفة الناصر أي دور معين تجاهلها خاصة، وأنه كان في أواخر حياته مشلولاً أنهكه المرض حيث توفي سنة 622هـ (3).
12 - أقول المؤرخين فيه وأيامه الأخيرة:
- قال الذهبي: وكان مستقلاً بالأمور بالعراق، متمكناً من الخلافة يتولى الأمور بنفسه ما زال في عزَّ وجلالة واستظهار وسعادة (4) وكان: شديد الاهتمام بالملك، لا يخفى عليه كبير شيء من أمور رعيته، أصحاب أخباره في البلاد، حتى كأنه شاهد جميع البلاد دفعة واحدة، كانت له حيل لطيفة وخِدع لا يفطن إليها أحد، يوقع صداقة بين ملوك متعادين، ويوُقع عداوة بين ملوك متوادَّين ولا يُفطنون (5)
__________
(1) الخلافة العباسية (2/ 235).
(2) المصدر نفسه (2/ 235).
(3) سير أعلام النبلاء (22/ 242) الخلافة العباسية (2/ 2356).
(4) سير أعلام النبلاء (22/ 192 إلى 242).
(5) المصدر نفسه (22/ 195).(1/394)
- قال ابن النجار: دانت السلاطين للناصر، ودخل تحت طاعته من كان من المخالفين، وذلتَّ له العتاة والطًّغاة وانقهرت لسيفه الجبابرة، وفتح البلاد العديدة، وملك من الممالك مالم يملكه أحد ممن تقدّم من السلاطين والخلفاء والملوك وخطب له ببلاد الأندلس وبلاد الصين، وكان أسد بني العباس تتصدع لهيبته الجبال، وكان حسن الخَلْقِ، لطيف الخُلُق كامل الظرف، فصيح اللسان، بليغ البيانَ، له التوقيعات المسددة والكلمات المؤيدة، كانت أيامه غُرَّةً في وجه الدهر، ودُرَّةً في تاج الفخر (1).
وقال ابن واصل: .. وكان مع ذلك ردئ السيرة في الرعية، مائلاً إلى الظُّلم والعَسْفِ وكان يفعل أفعالاً متضادة، وكان يتشيَّعُ ويميل إلى مذهب الإمامية، بخلاف آبائه، حتى إن ابن الجوزي سئل بحضرته من أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أفضلهم بعده من كانت ابنتُه تحته فكنّى بفضل الصَّدِيق ولم يقدر أن يصرح (2).
وهذا بعيد مع وجود الممالك السنية، كالأيوبية وغيرها والحاكم همه جمع الرعية والملوك حّوله وربما يكون قد وسع على الشيعة الإمامية أكثر من غيره وأحسن إليهم.
__________
(1) شذرات الذهب (7/ 173).
(2) المصدر نفسه (7/ 173) مفرج الكروب (4/ 167).(1/395)
- وقال ابن الأثير: وبقي الناصر لدين الله ثلاث سنين عاطلاً عن الحركة بالكلية، وقد ذهبت إحدى عينيه والأخرى يبصر بها إبصاراً ضعيفاً، وفي آخر الأمر أصابه دوسنطاريا عشرين يوماً ومات، ووزر له عدة وزراء، وقد تقدم ذكرهم، ولم يطلق في طول مرضه شيئاً كان أحدثه في الرسوم الجائرة، وكان قبيح السيرة في رعيته ظالماً، فخرب في أيامه العراق، وتفرق أهله في البلاد، وأخذ أملاكهم وأموالهم، وكان يفعل الشيء وضده، فمن ذلك أنه عمل دور ضيافة ببغداد ليفطر الناس عليها، في رمضان، فبقيت مدة، ثم قطع ذلك، ثم عمل دور الضيافة للحجاج، فبقيت مدة ثم أبطلها، وأطلق بعض المكوس التي جددها ببغداد خاصة، ثم أعادها وجعل جل همه في رمي البندق، والطيور والمناسيب، وسراويلات الفتوة، فبطل الفتوة في البلاد جميعها، إلا من يلبس منه سراويل يدعى إليه، ولبس كثير من الملوك منه بسراويلات الفتوة وكذلك أيضاً منع الطيور المناسيب لغيره إلا ما يؤخذ من طيوره ومنع الرمي بالبندق إلا من ينتمي إليه، فأجابه الناس بالعراق وغيره إلى ذلك إلا إنساناً واحداً يقال له ابن السفت من بغداد، فإنه هرب من العراق ولحق بالشام، فأرسل إليه يرغبه في المال الجزيل ليرمي عنه، وينسب في الرمي إليه فلم يفعل، فبلغني أن بعض أصدقائه نكر عليه الإمتناع من أخذ المال، فقال يكفيني فخراً إنه ليس في الدنيا رمي للخليفة إلا أنا، فكان غرام الخليفة بهذه الأشياء من أعجب الأمور وإن كان سبب ما ينسبه العجم إليه صحيحاً من أنه هو الذي أطمع التتر في البلاد وراسلهم في ذلك فهو الطامة الكبرى التي يصغر عندها كل ذنب عظيم (1).
__________
(1) الكامل في التاريخ (9/ 476).(1/396)
- وقال ابن كثير: وقد ذُكَر عنه أشياءُ غريبة؛ من ذلك أنه كان يقول للرسل الوافدين عليه: فعلتم في مكان كذا كذا وكذا، وفي الموضع الفُلانيَّ كذا، حتى ظنَّ بعض الناس أو أكثرهم أنه كان يُكاشف، أو أن جنَّياً يأتيه بذلك (1).
وقال: وكان مرضه قد طال به، وجُمهوُره من عَسار البول، مع أنه قد كان يُجْلَبُ له الماء من مراحل عن بغداد ليكون أصفى، وشُقَّ ذكرهُ مرات بسبب ذلك، ولم يغن عنه هذا الحذر شيئاً، وكان الذي ولى غسله محي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزيَّ وصُلىَّ عليه ودفن في دار الخلافة، ثم نقل إلى التُّرابِ من الرُّصافةِ في ثانَي ذي الحجة من هذه السنة - 622هـ - وكان يوماً مشهوداً (2).
- وقال الدكتور فاروق عمر فوزي: لقد كان نظام الفتوة محاولة جادة من قبل خليفة داهية وسياسي محنك لبث روح جديدة وعزيمة فتية في نفوس الشباب والقادة في المجتمع العربي الإسلامي من خلال انخراطهم في تنظيم يتزعمه الخليفة ويقوده بنفسه من أجل مواجهة المخاطر التي تهدد الدولة كخطر الباطنية والغلو في الداخل والمغول التتار والإفرنج في الخارج، ولتحقيق روابط جديدة ومتينة بين ملوك الأطراف المسلمين للثبات أمام المحن والشدائد (3).
__________
(1) البداية والنهاية (17/ 134).
(2) المصدر نفسه (17/ 134).
(3) الخلافة العباسية (2/ 216).(1/397)
إن خليفة مثل الناصر أعاد هيبة الخلافة وقضى على النفوذ السلجوقي الأجنبي في العراق وهدم دار السلطنة السلجوقية في بغداد حتى أطلق عليه لقب "أسد بني العباس تتصدع لهيبته الجبال"، إن خليفة يمثل هذه المواصفات والإنجازات لابد وأن ينتقدوه منافسوه، وأعداؤه الذين كانوا يتوقون إلى ضعف الخلافة وسقوطها لكي يخلو لهم الجو السياسي، ومن هنا نلاحظ بعض الروايات التي تشكك في إجراءاته وسياساته وخاصة نظام الفتوة الناصرية حيث اعتبرته دلالة طيش ولهو أدى إلى أهمال الخليفة لشؤون الدولة والإنشغال برسوم الفتوة مثل الرمي بالبندقية وتربية الطيور وما إلى ذلك، ليس في هذه الروايات شيء من الصحة (1)، إن النتائج السياسية والعسكرية للفتوة التي أعادت للدولة هيبتها وللتضامن الإسلامي بين أمراء الأطراف قوته ومتانته أكبر دليل على ضعف تلك الافتراءات، إن هذه المبالغات هي حلقة من سلسلة التشكيك الذي تعرضت إليه شخصية الناصر وسياساته من أعدائه ومنافسيه داخل دار الإسلام وخارجها وقد وصلت هذه الحملة ذروتها في اتهامه بمراسلة المغول (2) وحثهم على غزو دار الإسلام وهو أمر لا يعقل أن يقوم به خليفة عربي عباسي هاشمي (3)، لقد كان الخليفة الناصر لدين الله من خلفاء بني العباس المتأخرين الذين يستحقون التقدير لأنهم حققوا مكاسب مهمة للخلافة والمجتمع في وقت صعب اشتدت فيه الأزمات (4).
__________
(1) الخلافة العباسية (2/ 217).
(2) المصدر نفسه (2/ 217).
(3) المصدر نفسه (2/ 217).
(4) الخلافة العباسية (2/ 237).(1/398)
ثامناً: خلافة الظاهر بن الناصر لدين الله عام 622هـ:
لما توفي الخليفة الناصُر لدين الله كان قد عهد إلى ابنه أبي نصر محمد هذا، ولقَّبه بالظاهر، وخُطب له على المنابر، ثم عزله عن ذلك بأخيه علي، فتوفي في حياة أبيه سنة ثنتى عشرة، فاحتاج إلى إعادة هذا إلى ولاية العهد، فخُطب له ثانيا، فحين توفي أبوه بُويع له بالخلافة، وعمره يومئذ ثنتان وخمسون سنة، فلم يَلِ الخلافة أحدٌ من بني العباس أسنُّ منه، وكان عاقلاً وقوراً ديناً عادلاً محسناً ردَّ مظالم كثيرة، وأسقط مكوساً كان قد أخذها أبوه وسار في الناس سيرة حسنة، حتى قيل: إنه لم يكن بعد عمر بن عبد العزيز أعدل منه لو طالت مدته، لكنه لم يَحُلْ عليه الحول، بل كانت مدته تسعة أشهر، أسقط الخراج الماضي عن الأراضي التي قد تعطَّلت، ووضع عن أهل بلدةٍ واحدةٍ - وهي بعقوبا - سبعين ألف دينار كان أبوه قد زادها عليهم في الخرَاجِ وكانت ضجة المخزن تزيد على ضجة البلد نصف دينار في كل مائة إذا قبضوا، وإذا أقبضوا دفعوا بضجة البلد، فكتب إلى الدَّيوان: "ويلٌ للمطففين * الذين إذا أكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوُهم أو وزنوهم يُخسرون * ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون * ليوم عظيم * يوم يقوم الناس لرب العالمين" (المطففين (1/ 6) فكتب إليه بعض الكُتاب يقول: يا أمير المؤمنين، إن تفاوت هذا عن العام الماضي خمسة وثلاثة ألفاً، فأرسل ينكر عليه ويقول: هذا يترك وإن كان تفاوته ثلاثمائة ألف وخمسين ألفا (1)
__________
(1) البداية والنهاية (17/ 136،137) ..(1/399)
وأمر القاضي أن كل من ثبت له حق بطريق شرعيَّ يُوصَلُ إليه بلا مُراجعة وأقام في النظر على الأموال الحشرية رجلاً صالحاً، واستخلص على القضاء الشيخ العَّلامة عماد الدين أبا صالح نصر بن عبد الرَّزاق بن الشيخ عبد القادر الجيلىَّ، الحنبليَّ، ن في يوم الأربعاء ثامن ذي الحجة، وكان من خيار المسلمين ومن خيار القُضاة العادلين رحمهم الله أجمعين، ولم عُرض عليه القضاء لم يقبل إلا بشرط أن يُوَرَّث ذوي الأرحام، فقال: أعط كل ذي حق حقَّه وأنفق لله ولا تَتَّقِ سواه. وكان من عادة أبيه أن يرفع إليه حُرَّاسُ الدُّروب في كل صباح بما كان عندهم في المحالَّ من الاجتماعات الصالحة والطالحة، فلما ولى الظاهر أمر بتبطيل ذلك كلهَّ وقال: أي فائدة في كشف أحوال الناس وهتك أستارهم؟ فقيل له: إن ترك ذلك يفسد الرّعية فقال: نحن ندعو الله لهم أن يُصلحهم وأطلق من كان في السجون مُعتقلاً على الأموال الدَّيوانية، وردَّ عليهم ما كان استخُرج منهم قبل ذلك من المظالم، وأرسل إلى القاضي بعشرة آلاف دينار يُوَفَّى بها دُيون من في سجونه من المدينين الذين لا يجدون وفاء وفرَّق في العلماء بقية المائة ألف، وقد لامه بعض الناس في هذه التُّصرفات فقال: إنما فتحت الدُّكان بعد العصر وفذروني أعمل صالحاً وأفعل الخيَر، فكم مقدار ما بقيت أعيش (1).
__________
(1) المصدر نفسه (17/ 137).(1/400)
قال ابن كثير: وكان من أجود بني العباس سيرة، وأحسنهم سريرة، وأكثرهم عطاء وأحسنهم منظراً ورُواء ولو طالت مدته لصلحت الأمة صلاحاً كثيراً على يديه، ولكن أحبَّ الله تقريبه وإزلافه لديه، فاختار له ما عنده وأجزل له إحسانه ورفده (1)، ... فقد اعتمد في أول ولايته من إطلاق الأموال الدَّيوانية، وردَّ المظالم، وإسقاط المكوس، وخفيف الخراج عن الناس، وأداء الديون عمَّن عجز عن قضائها والإحسان إلى العلماء والفقراء، وتولية ذوي الديانة وقد كان كتب كتاباً لوُلاة الرعية فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، أعلموا أنه ليس إمهالنا إهمالاً، ولا إغضاؤنا احتمالاً ولكن لنبلوكم أيكم أحسنُ عملا، وقد غفرنا لكم ما سلف من إخراب البلاد، وتشريد الرَّعايا وتقبيح السمُّعة، وإظهار الباطل الجَلىَّ في صورة الحقَّ حِيلة ومكيدة، وتسمية الاستئصال والاجتياح استيفاءً واستدراكاً، لأغراض انتهزتم فُرَصَها، مختلسة من براثن ليث باسل، وأنياب أسد مَهيب تتفقون بألفاظ مختلفة على معنى واحد، وأنتم أُمناؤُه وثقاتُه فُتمِيلون رأيه إلى هواكم وتمزُجون باطلكم بحقَّه، فيُطيعُكم وأنتم له عاصون، ويُوافقكم وأنتم له مخالفون، والآن قد بَّدل الله بخوفكم أمنّا وبفقركم غنىً وبباطلكم حقاً، ورزقكم سُلطاناً يُقيلُ العثرة، ولا يُؤاخذُ إلا من أصَّر، ولا ينتقم إلا ممن استمَّر يأمركم بالعدل، وهو يريد منكم، وينهاكم عن الجور وهو يكرهه لكم، يخاف الله فيُخوَّفُكم مكره ويرجو الله تعالى ويُرَغبَّكم في طاعته، فإن سلكتم مسالك خُلفاء الله في أرضه وأُمنائه على خلقه وإلا هلكتم والسلام (2).
__________
(1) المصدر نفسه (17/ 149).
(2) البداية والنهاية (17/ 150).(1/401)
وجاء في بعض الروايات، بل أنتم إلى أمام فعال أحوج منكم إلى أمام قوال (1)، ... ثم لقد أعلن عفوه عما سلف من خراب البلاد وتشريد الرعايا وتقبيح الشريعة وإظهار الباطل بصورة الحق وأمرهم بأن يبدوأ صفحة جديدة من العمل تقوم على العدل والطاعة (2) إن من أسباب صلاح الأمة مجئ الخليفة أو الحاكم المصلح الذي يقيم العدل ويتبع المنهج الرشيد الذي يسهم في تقوية الدولة والقيام بدورها الحضاري كما مرَّ معنا في الحديث عن عمر بن عبد العزيز ومشروعه الإصلاحي الكبير وكانت وفاة الخليفة الظاهر رحمه الله يوم الجمعة ضُحىَ الثالث عشر من رجب من هذه السنة، أعني سنة ثلاث وعشرين وستمائة ولم يعلم الناس بموته إلا بعد الصلاة فدعا له الخطباءُ يومئذ على المنابر على عادتهم وكانت خلافته تسعة أشهر وأربعة عشر يوماً وعمره ثنتان وخمسون سنة (3)، وكان نعم الخليفة خشوعاً وخضوعاً لربه وعدلاً في رعيته، وازدياداً في وقت من الخير ورغبة في الإحسان (4) وكان أبيض جميل الصورة مشرباً حمرة، حلو الشمائل، شديد القوى (5)، وحكي عنه أنه دخل إلى الخزائن، فقال له خادم: في أيامك تمتلئ، قال: ما عُلمت الخزائن لتُملأ، بل لتفرغ وتنفق في سبيل الله، إن الجمع شُغل التَّجار (6).
تاسعاً: الخليفة المستنصر بالله (623هـ - 640هـ): بُويع بالخلافة يوم مات أبوه جمعة ثالث عشر رجب في هذه السنة سنة ثلاث وعشرين وستَّمائة، استدعوا به التاج، فبايعه الخاصة والعامّة من أهل الحَلَّ والعقد، وكان يوماً مشهوداً وكان عمره يؤمئذ خمساً وثلاثين سنة وخمسة أشهر وأحد عشر يوماً، وكان من أحسن الناس شكلاً وأبهاهم منظراً وهو كما قال القائل:
__________
(1) الخلافة العباسية (2/ 247).
(2) المصدر نفسه (2/ 247).
(3) البداية والنهاية (17/ 148، 149).
(4) سير أعلام النبلاء (22/ 266).
(5) المصدر نفسه (22/ 266).
(6) المصدر نفسه (22/ 266).(1/402)
كأن الثُّريَّا عُلَّقت في جبينه ... وفي خدَّه الشَّعْرَى وفي وجهه القمر (1)
وكانت مدة ولايته ستَّ عشرة سنة وعشرة أشهر وسبعة وعشرين يوماً ودفن بدار الخلافة، كان كثير الصدقات والبر والصَّلات، محسناً إلى الرعية بكل ما يقدر عليه، كان جده الناصر قد جمع ما يتحصَّل من الذهب في بركة بدار الخلافة، فكان يقف على حافَّتها ويقول: أتُرى أعيش حتى أملأها وكان المستنصر يقف على حافتها ويقول: أتُرى أعيش حتى أنفُقها كلَّها وكان يبَنْي الرُّبُط والخانات والقناطر في الطرُّقات من سائر الجهات، وقد عمل بكل محلَّةِ من محالَّ بغداد دار ضيافة للفقراء، لاسيمَّا في شهر رمضان وكان يتقصَّد الجواري اللاتي قد بلغن الأربعين فيُشترين له فيُعتِقُهن ويُجَهَّزُهن ويُزَوَّجُهن، وفي كل وقت يبُرِْزُ صِلاِته ألوف متعدَّدة من الذهب تُفَرَّقُ في المحالَّ ببغداد على ذوي الحاجات والأرامل والأيتام (2)، وغيرهم وقد وضع ببغداد المدرسة المستنصرية للمذاهب الأربعة، وجعل فيها دار حديث ومارستاناً وحماماً ودار طِبَّ وجعل لمستحقيها من الجوامك والأطعمة والحلاوات والفواكه وما يحتاجون إليه في أوقاته، وأوقف عليها أوقافاً عظيمة حتى قيل: إن ثمن التَّبْنِ من غَلاَّتِ ريعها يكفي المدرسة وأهلها ووقف فيها كُتُباً نفسية ليس لها في الدنيا نظير فكانت هذه المدرسة جمالاً لبغداد، بل لسائر البلاد (3) وقد احترق في عهد المستنصر عام 640هـ المشهد الذي بسامّرا المنسوب إلى عليَّ الهادي والحسن العسكري، وقد كان بناه أرسلان البساسيريُّ في أيام تغلبُّهِ على تلك النّواحي في حدود سنة خمسين وأربعمائة، فأمر الخليفة المستنصُر بإعادته إلى ما كان عليه ..
__________
(1) البداية والنهاية (17/ 151).
(2) المصدر نفسه (17/ 260).
(3) البداية والنهاية (17/ 261).(1/403)
وهو المشهد الذي يزعمون أنه يخرج منه المنتظر الذي لا حقيقة له ولا عينَ ولا أثَر، ولو لم يُبْنَ لكان أجود، وهو الحسن بن علي بن محمد الجَوَاد بن عليَّ الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد بن الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد بكربلاء، ابن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم أجمعين، وقبَّح من يغلو فيهم ويبُغِضُ بسببهم من هو أفضل منهم (1) وكان المستنصر رحمه الله، كريماً حَليماً رئيساً متودَّداً إلى الناس، وكان جميل الصورة وحسن الأخلاق بَهيَّ المنظر، عليه نور بيت النبوة، رضي الله عنه تعالى وأرضاه وحُكي أنه اجتاز راكباً في بعض أزقة بغداد قبل غروب الشمس من رمضان، فرأى شيخاً كبيراً، ومعه إناء فيه طعام، قد حمله من مَحَلَّةٍ إلى محلة أخرى فقال: أيها الشيخ، لمَ لا أخذت الطعام من مَحَلتَّكِ؟ أوَ أنت محتاجٌ فتأخذ من المحَلتَّين؟ فقال: لا والله يا سيدي - ولم يَعرِف أنه الخليفة ولكنيَّ شيخ كبير وقد نزل بي الوقت، وأنا أستحي من أهل مَحَلَّتي أن أُزاحِمهم وقت الطعام، وأتحَّينُ وقت كون الناس في صلاة المغرب، فأدخل بالطعام إلى منزلي حيث لا يراني أحد، فبكى الخليفة رحمه الله، وأمر له بألف دينار فلما دفعت إليه فرح الشيخ فرحاً شديداً حتى قيل: إنه انشقَّ قلبه من شدة الفرح، ولم يَعْش بعد ذلك إلا عشرين يوماً، ثم مات فحُملت الألف دينار إلى الخليفة، لأنه لم يخلف وارثاً وقد أنفق منها ديناراً واحداً، فتعجَّب الخليفة من ذلك وقال شيء قد خرجنا عنه لله لا يعَود إلينا، تصدَّقوا بها على فقراء محَلتَّه (2)
__________
(1) المصدر والنهاية (17/ 261).
(2) المصدر نفسه (17/ 262) ..(1/404)
لقد كانت سيرتهه رحمه الله من أحسن سير العدل والإحسان إلى الرعية والعطف عليهم والحنو بهم وكان سالكاً في ذلك كله سيرة أبيه الإمام الظاهر بأمر الله وكذلك سلك مسلكه في اعتقاد مذهب أهل السنة والجماعة والكراهية لمذهب الروافض (1)، وكان ذا همة عالية، وشجاعة وافرة، وإقدام عظيم (2)، وقصدّت التتر بلاد العراق، فلقيهم عسكره، وانتصف منهم وهزمهم وكان له أخ يعرف بالخفاجي كان يزيد عليه في الشهامة والشجاعة وكان يقول: إن ملكني الله أمر الأمة، لأعبرن بالعساكر نهر جيحون، وانتزع البلاد من أيدي التتر، وأستأصلهم قتلا وسبياً (3)، وقد توفي المستنصر عام 640هـ ولما بلغت الملك الناصر داود الأيوبي صاحب الكرك وفاة الخليفة المستنصر بالله، رثاه ومدح ولده المستعصم بالله بقصيدة مطلعها:
أيا رنَّة الناعي عبثتِ بمسمعيم ... فأجّجت نار الحزن ما بين أضلعي
وأخرست مِنى مِقولا ذا براعة ... يصوغ أفانين القريض الموشّع
نعيتِ إلىّ البأس والجود والحجى ... فأوقفت آمالي وأجريتِ أدمعي
رويداً فقد فاجأتني بفظيعة ... يضيق بها صدُر الفضاءِ الموسّع
أبا جعفر ياباني المجد بعدما ... تهدّم ركن المجد من كل موضع
ويا كافل الإسلام في كل موطن ... وراعي رعاة الدين في كل مجمع (4)
وهي قصيدة طويلة في رثاء المستنصر.
__________
(1) مفرج الكروب (5/ 315، 316).
(2) المصدر نفسه (5/ 317).
(3) المصدر نفسه (5/ 318).
(4) المصدر نفسه (5/ 319).(1/405)
عاشراً: وفاة كاتب الديوان في عهد المستنصر: 626هـ ت:
وقد خصصنا بالترجمة لوجود عبارات له تدل على عمق الإيماق وصدق التوجه، وحرارة الأخلاص عبّر على تلك المعاني بعبارات فائقة الجمال هو أبو الفضل جبريل بن منصور بن هبة الله بن جبريل بن الحسن بن غالب ابن يحي بن موسى بن يحي بن الحسن بن النعمان بن المنذر، المعروف بابنِ زُطينا البغداديَّ، كان كاتب الديوان بها أسلم، وكان نصرانياً، فحسُن إسلامه، وكان من أفصح الناس وأبلغهم موعظة، فمن ذلك قوله: خيرُ أوقاتك ساعة صفت لله، وخلصت من الفِكرة لغيره والرجاء لسواه، وما دمت في خدمة السلطان، فلا تغتَرَّ بالزمان، اكفُف كفَّك، واصرف طَرْفَك، وأكثر صومك، وأقْلِلْ نومك وأشكُر ربَّك يحمد أمُرك (1)، وقال: زاد المسافر مقدم على رحيله، فأعدَّ الزاد تبلغُ المراد. وقال: إلى متى تتمادى في الغفلة؟ كأنك قد أمِنْتَ عواقب المهُلة، عمُر اللهوِ مضى، وعمر الشبيبَّةِ انقضى، وما حصلت من ربك على ثقة بالرَّضا، وقد انتهى بك الأمر إلى سنَّ التَّخاذُلَ، وزمن التكاسُل وما حظيِتَ بطائل (2) وقال: رُوحُك تَخْضع، وعينك لا تدمع، وقلبَكِ لا يخشع، ونفسُك لا تشبع وتظلم نفسك وأنت لها تَتوَجَّع وتظهر الزهد في الدنيا وفي المال تطمع وتطلب ما ليس له بحقَّ وما وجب عليك من الحقَّ لا تدفع وتدُوم فضل ربك وللماعون تمنع، وتَغيبُ نفسك الأمّارة وهي عن اللهو لا ترجع، وتوقظ الغافلين بإنذارِك وتتناوم عن سهمك وتهجع وتَخُصُّ غيرَك بخيرك ونفسك الفقيرة لا تنفع وتَحُومُ على الحق وأنت بالباطل مُولع، وتتعثر في المضايق وطريق النجاة مَهْيَع (3).
__________
(1) البداية والنهاية (17/ 177).
(2) المصدر نفسه (17/ 178).
(3) المصدر نفسه (17/ 178) المهيع من الطريق: البين الوسيط.(1/406)
وتتهجم على الذنوب وفي المجرمين تشفع، وتركن إلى دار السلامة وأنت بالعطب مُرَوَّع، وتحرص على زيادة الاكتساب وحسابك في كِفْلِ غيرك يُوضع، وتُظهُر القناعة بالقليل وبالكثير لا تشبع وتُعمَّرُ الدار الفانية ودارُك الباقية خراب بلقع، وتستوطن في منزل رحيل كأنك إلى ربك لا ترجع، وتظُن أنك بلا رقيب وأعمالك إلى المراقب تُرفع، وتقدم على الكبائر وعن الصغائر تتورَّع، وتؤمَّلُ الغُفَران وأنت عن الذنوب لا تُقلع، وترى الأهوال محيطة بك وأنت في ميدان اللهو ترتع، وتستقبل أفعال الجُهاّل وباب الجهل تقَرَع وقد آن لك أن تأنف من التَّعَسُّفِ، وعن الدَّنايا تترفع، وقد سار المُخِفُّون وتخَلقتَّ فماذا تتوقع؟ (1).
__________
(1) البداية والنهاية (17/ 179).(1/407)
المبحث الرابع: الحملة الصليبية السادسة:
لم تحقق الحملة الخامسة التي قادها الملك جان برين هدفها، وانتهت بمعاهدة صلح وقعها الملك الكامل وقادة الصليبيين عام 618هـ/1221م إلا أن نتائج الحملة لم تطمئن الملك جان دي برين، ولم تصرفه عن محاولات احتلال بيت المقدس فذهب بنفسه عام 619هـ/1222م إلى إيطاليا لمقابلة البابا، ليشرح له ما آلت إليه أوضاع الفرنجة من سوء في بلاد الشام بعد فشل الحملة السابقة كذلك التقى الإمبراطور فردريك الثاني، وحثه على القيام بحملة جديدة على الشرق (الحملة السادسة) تنقذ موقف الصليبيين المتدهور (1)، ثم زار فرنسا وإسبانيا لإثارة حماس مليكهما للمساهمة في تخليص بيت المقدس من المسلمين وقد تحسنت مكانة الملك الكامل بعد خروج الصليبيين من دمياط عام 618هـ/1221م واكتسب احترام العالم الإسلامي، وفرض سلطانه على الممالك الأيوبية، وتوقع أن يسير الأمراء والملوك الأيوبيون في فلكه، وأن يؤيدوا سياسته ومشاريعه المستقبلية، غير أن أخاه الملك المعظم حاول الخروج على طاعته، وتطلع لتوسيع أملاكه، فهاجم حماه واستولى على بعض أعمالها (2)، فأمره الملك الكامل بوقف العمليات العسكرية، ضد حماة، فامتثل الملك المعظم لتعليمات أخيه، وكظم غيظه (3)، إلا أن التوتر بين الملك المعظم وأخويه الكامل والأشرف استمر إذ اعتقد الملك المعظم أن أخويه السابقين تمالا عليه، وترجم ذلك إلى خلاف شديد، عندما عاد الملك الأشرف من مصر إلى خلاط ماراً بدمشق ولم يقبل ضيافة أخيه الملك المعظم، ونزل في سرادق والده (4)
__________
(1) الحركة الصليبية (2/ 994) القدس بين أطماع ص 272.
(2) مفرج الكروب (4/ 129) القدس بين أطماع ص 272.
(3) السلوك (1/ 250) القدس بين أطماع ص 272.
(4) النجوم الزاهرة نقلاً عن القدس بين أطماع ص 273 ..(1/408)
وسعى الملك المعظم إلى إضعاف شوكة أخويه الكامل والأشرف، فدعم التمرد الذي قام به أخوه شهاب الدين على أخيه الملك الأشرف في خلاط، إلا أن الأخير نجح في احتواء التمرد، كذلك نجح الملك الكامل في عزل أخيه الملك المعظم عن سائر الأمراء الأيوبيين، ولما شعر المعظم بالخطر الذي يتهدده اتصل بخوارزم شاه لدعمه، فأعانه على أخيه الملك الأشرف موسى، ووعده بأن تكون له الخطبة والسكة في دمشق (1)، وأقام الملك المعظم حلفاً مع صاحب إربل، وأرسل ولده الملك الناصر داود ليكون رهينة (2) لديه دلالة على صدقه وأحس الملك الأشرف بخطر الدولة الخوارزمية الذي باتت تهدد الممالك الأيوبية قاطبةً، إذ أصبحت أملاكها تجاور أملاك الأيوبيين، فهرع الأشرف عام 623هـ/1226م إلى أخيه المعظم طالباً منه العمل بسرعة لتوحيد جبهة البيت الأيوبي، أمام الخطر الخوارزمي (3)، فاستغل الأخير الفرصة وتمكن من إجباره على التعهد بمساعدته في الاستيلاء على حمص وحماه ومهاجمة الملك الكامل في مصر، ولكن الأشرف ما كاد يفلت من يد أخيه المعظم حتى "رجع عن جميع ما تقرر بينه وبين أخيه المعظم وتأول في إيمانه التي حلفها أنه كان مكرها عليها، وأكد تحالفه مع الكامل وأخبره بكل ما حدث (4). أدرك الملك الكامل الخطر الذي يتهدده من تحالف أخيه المعظم من خوارزم شاه، فكان أن رد على ذلك، بأن استعان بالإمبراطور فردريك الثاني، وأرسل له الأمير فخر الدين يوسف وتعهد له بمنحه بيت المقدس، وجميع فتوحات صلاح الدين بساحل الشام (5)، ليشغل سر أخيه المعظم (6)،
__________
(1) المصدر نفسه ص 273.
(2) القدس بين أطماع الصليبيين وتفريط الملك الكامل ص 273.
(3) المختصر (3/ 135).
(4) القدس بين أطماع الصليبيين ص 274.
(5) المصدر نفسه ص 274.
(6) مفرج الكروب (4/ 234) ..(1/409)
لإضعاف شوكة المعظم وتحجيمه وقد أحسن الإمبراطور استقبال مبعوث الملك الكامل، ورد بسفارة مماثلة تحمل؛ هدية سنية وتحف غريبة، كان فيها عدة خيول، منها فرس الملك، بمركب ذهب مرضع بجوهر فاخر، واستقبل الملك الكامل مبعوث الإمبراطور بيراردوا بالسرور البالغ خارج القاهرة بنفسه وأكرمه إكراماً زائداً وأعد له هدية فاخرة فيها الكثير من تحف اليمن والهند وسرج من ذهب، وجوهرة بعشرة آلاف دينار (1)، وكلف جمال الدين بن منقذ الشيرازي للسير بهذه الهدية (2) وعرج مبعوث الإمبراطور على دمشق وطلب من الملك المعظم تسليم بيت المقدس، ولكن المعظم أغلظ له القول، وقال" قل لصاحبك ما أنا مثل الغير، وماله عندي سوى السيف (3) وبادر الملك المعظم بتجهيز العساكر إلى نابلس (4)، لحماية القدس من مطامع الإمبراطور، وأنفق في هذه العساكر مبلغ تسعمائة ألف درهم (5). ولكن الموت عاجله عن عمر يقارب السابعة والأربعين عام 624هـ/1227م وخلفه ابنه الملك الناصر داود، ولا شك أن وفاة الملك المعظم عيسى وضعت حداً لمشاكل الملك الكامل، فزالت مخاوفه، وأنهار التحالف بين خوارزم شاه وصاحب إربل والمعظم، فبدأ الملك الكامل يتطلع إلى ضم بلاد الشام تحت سلطانه (6).
__________
(1) القدس بين أطماع الصليبيين ص 274.
(2) المصدر نفسه 274.
(3) القدس بين أطماع الصليبيين ص 275.
(4) إمارة الكرك الأيوبية ص 215 يوسف غوانمة القدس بين ص 275.
(5) القدس بين أطماع الصليبيين ص 275.
(6) صلاح الدين الأيوبي، قدري قلعجي ص 383.(1/410)
أولاً: شخصية الإمبراطور فردريك الثاني وطموحاته:
اشتد في أوائل القرن الثالث عشر الميلادي التنافس الذي وصفنا نشأته في الفصل الأول من هذا الكتاب، بين البابوية والإمبراطورية المقدسة، فبينما كان الصراع على أشده بين الإسبانيين والمسلمين في الأندلس والمغرب، وبين الصليبيين والمسلمين في الشرق الأدنى، كان ثمة صراع آخر يدور في غرب أوروبا بين السلطة الكنسية والسلطة الزمنية، للفصل في أمر طالما أثار النزاع والجدل، أمر يلخصه هذا السؤال: من هو السلطان الأكبر البابا أم الإمبراطور؟ وكان بطل هذا الدور الجديد من أدوار ذلك الصراع الإمبراطور فردريك الثاني "الأنبرور" (1).
__________
(1) أوروبا العصور الوسطى، عاشور (1/ 163) القدس بين أطماع ص 275.(1/411)
وتعد حياة فردريك الثاني من أهم النقاط المثيرة للجدل في تاريخ أوروبا بأسرها، فقد عاش عند مفترق الطرق التي تفصل الشرق عن الغرب، وشملت إمبراطورية ألمانيا بكل مقاطعاتها فضلاً عن إيطاليا وصقلية وهو ينحدر من عائلة (1) هنشتاوفن من أب ألماني هو هنري السادس ملك ألمانيا وأم نصف إيطالية ونشأ وتربى في صقلية على مقربة من المؤثرات الإسلامية والبيزنطية، فنشأ فيلسوفاً محباً للجدل والرياضيات وأجاد ست لغات من بينها اللغة العربية، ونظم الشعر، وأغدق من ماله وعنايته لتشجيع العمارة والنحت والتعليم وهو إلى جانب ذلك جندي بارع وسياسي لبق إلى أقصى درجات اللباقة، مع الجرأة التي لا تخشى شيئاً، والنزعة الفكرية الجانحة إلى ميادين الفلسفة والفلك والهندسة والجبر والطب والتاريخ، وألف فردريك في البيزرة، علم تربية الطيور الجوارح وتدريبها على الصيد والقنص، كتاباً يعتبر أصلاً من أصول العلوم التجريبية في غرب أوروبا، واصطحب في أسفاره مجموعة من الفيلة والهجائن وعجايب المناطق الإستوائية الحارة من أنواع الحيوان، ولم تكن التقاليد المسيحية التي التزمها الناس في ذلك العصر مما يأبه له فردريك الثاني وفي الوقت الذي كان للبابا في الغرب الأوروبي المكانة الرفيعة السامية باعتباره خليفة القديس بطرس، نجد فردريك ينعته بالدجال (2)،
__________
(1) أوربا العصور الوسطى، عاشور (1163) القدس بين أطماع ص 275.
(2) الدولة الأيوبية، سمير فرج ابن الشاطئ ص 200 ..(1/412)
وقد عرف عن فردريك الثاني حبه للمسلمين الذين نشأ بينهم في صقلية وقد دفع ذلك بعض الكتاب إلى اتهام فردريك بمحاباة الإسلام على حساب المسيحية، في حين ذهب البعض الآخر مثل فولتير ومونتسكيو إلى القول بأن كراهية فردريك الثاني للبابوية والكنيسة الغربية هي التي دفعته إلى حب الإسلام والمسلمين وعلى الرغم من أن فردريك الثاني قد بدا حياته السياسية بتحالفه مع البابوية وهو التحالف الذي أفاده إلى حد كبير ضد خصومه ومنافسيه في ألمانيا، إلا أن الأمور لم تلبث أن تعقدت بين الطرفين، بعد أن تأكدت البابوية أن فردريك غير قانع بصقلية وجنوب إيطاليا، وإنما أخذ يعمل على توطيد نفوذه في شمال إيطاليا، أي في إقليم لمبارديا وأنه اتخذ إيطاليا وصقيلة مسرحاً أساسياً لجهوده والتمكين لنفسه حقيقة أن فردريك قد حرص آنذاك على احترام مركز البابوية في إيطاليا، ولكن سيطرته على جنوب إيطاليا وشمالها كان نذيراً بوقوع الأملاك البابوية في وسط إيطاليا بين فكي الكماشة، مما جعل البابا يرتاب في سياسة فردريك وينظر إليها بعين ملؤها الشك والخوف وفي سنة 1215م أقسم فردريك للبابا انيوسنت الثالث أن يقوم بحملة صليبية ضد المسلمين ولما كان فردريك الثاني يميل للمسلمين ويعطيهم حقهم من الاحترام والتقدير لذلك لم يجد الدافع الذي يدفعه للخروج من بلاده على رأس حملة صليبية ضدهم، ومن ثم أخذ يعتذر للبابا مرة بعد مرة، والبابا يقبل عذره، وبعدما أصاب الحملة الصليبية الخامسة من الفشل حاول البابا هو نوريوس الثالث أن يوجد الدافع لدى فردريك للخروج في حملة صليبية ضد المسلمين، وأن يزيد في توطيد صلة فردريك بالأراضي المقدسة في فلسطين، فرتب البابا زواج فردريك من بولاند ابنة حنا دى برين، ووريثة عرش مملكة بيت المقدس الصليبية، واشترط البابا أن يتم الزواج في الشام وقد نفذ فردريك رغبة البابا وتم زواجه من بولاند، ولكن بدلاً من أن يذهب فردريك إلى الشام ويتم الزواج(1/413)
هناك، استدعى عروسه إلى صقلية، وعقب هذا الزواج اتخذ فردريك لقب ملك بيت المقدس باعتباره من حقوق زوجته (1) وعلى الرغم من أن البابا جريجوري التاسع (1227 - 1241م) كان طاعناً في السن، إلا أنه امتاز بإرادة حديدية لا تفل فلم يقبل الأعذار التي دأب فردريك الثاني على ابتكارها من أجل تأجيل حملته الصليبية، وأصر على ضرورة رحيل الإمبراطور إلى الشرق فوراً، وإلا تعرض لعقوبة الحرمان ولم يجد الإمبراطور فردريك الثاني مفراً من الخروج في خريف سنة 1227م قاصداً بلاد الشام، خصوصاً بعد أن اتصل به الملك الكامل الأيوبي وأرسل له سفارة على النحو الذي سبق توضيحه، ووعده بتسليمه مدينة القدس مقابل بذل المساعدة العسكرية له ضد شقيقه المعظم وبذلك أوجد للإمبراطور الدافع الذي يخرج من أجل تحقيقه (2).
وهكذا تهيأت الظروف لقيام الإمبراطور فردريك الثاني بحملة، ولم يكن استنجاد الملك الكامل الوحيد الذي حرك الإمبراطور فردريك الثاني للذهاب إلى الشام، وإنما كانت البابوية تضغط عليه ضغطاً شديداً للقيام بحملة صليبية جديدة، تصلح الوضع الذي نجم من فشل الحملة الصليبية الخامسة، وغني عن البيان أن تلك الفترة تعرف في التاريخ الأوروبي باسم عصر البابوية والإمبراطورية، نظراً لما احتدم من خلاف وما نشب من حروب بين السلطتين الدينية والعلمانية في غرب أوروبا، وكان الإمبراطور فردريك متخوفاً من تنفيذ وعده الصليبي لئلا يترك البابا حراً طليق اليد في العدوان على مصالح الإمبراطور أثناء غيابه، ولذلك أخذ فردريك الثاني يماطل البابوية ويؤجل مشروعه الصليبي (3).
__________
(1) الدولة الأموية، سمير فرج ص 201.
(2) المصدر نفسه ص 201.
(3) القدس بين أطماع ص 280.(1/414)
1 - سير الحملة الصليبية السادسة: ظل البابا هو نوريوس الثالث يلح على الإمبراطور فردريك للوفاء بوعده، والأخير يتباطأ، وفي عام 624هـ/1227م (1)، أراد أن يلبي رغبة البابا، فأبحر من ميناء برنديزي (جنوب إيطاليا) على رأس حملة ضخمة ولكن الحمى أصابته، كذلك انتابت صفوف الجيش نوبة مرض مدة قصيرة من الزمن أثناء انتظارهم لعبور البحر، فعاد فردريك لكي يسترد صحته، وأثناء ذلك مات هو نوريوس الثالث، وتولى غريغوري التاسع، فاعتقد أن فرديك يتمارض ويتعمد المراوغة فأصدر قرار حرمان من الكنيسة ضده (2)، لقد فتح قرار الحرمان باب النزاع بين الطرفين الإمبراطور والبابا ولكن الإمبراطور أدرك أن مصلحته تقتضي القيام بحملة على بلاد الشام حتى يفوت على البابا إظهاره في صورة مسيحي عاق، ويبدو أن ظروف الشرق هيأت الجو للأمبراطور للقيام بحملته، كذلك، فإن شخصية الإمبراطور وافقت عقلية الملك الكامل وشخصيته، إذ توثقت العلاقات بينهما في عصر اشتد فيه العداء بين ملوك الصليبيين والمسلمين، وازدادت الحركة الصليبية عنفاً، إلا أن شخصية الملكين وما كان يحيط بهما من ظروف كان لها أثر كبير في توثيق هذه العلاقة الودية (3).
__________
(1) المصدر نفسه.
(2) مفرج الكروب (4/ 249) القدس بين أطماع ص 280.
(3) القدس بين أطماع الصليبيين ص 280.(1/415)
2 - إقلاع الإمبراطور إلى بلاد الشام: أقلع الإمبراطور بحملته الصليبية في صيف 625هـ/1228م على رأس جيش صليبي صغير (1)، استجابة للدعوة التي تلقاها من الملك الكامل بمنحه القدس، ولم ينس أنه خرج من بلاده محروماً من الكنيسة، وأنه اعتمد وعود الكامل له بإعطاء بيت المقدس لذلك لم يحضر جيشاً قوياً، فعرض بذلك على أوروبا التي استبدت بها الدهشة، صورة محارب قطعته الكنيسة خلف وراء أملاكه التي تعرضت لغزو جند البابا، الذين أعلن البابا غريغوري التاسع، كونهم محاربين صليبيين يقاتلون ملكاً غير مسيحي (2)، عرج فردريك الثاني على قبرص في طريقه إلى الشام، ليجعل الجزيرة تابعة للأمبراطورية الغربية بتبعية فعلية، وليقوى مركز في نظر الملك الكامل، واستقبل فردريك الثاني، استقبالاً طيباً، وأصبحت الجزيرة تابعة له وفقاً لقانون الإقطاع الحرماني، فبادر بتعيين نائب صقلي عنه في قبرص، وبث الحاميات في مختلف أنحاء الجزيرة، وعين موظفين ماليين لجمع الدخل والضرائب (3)، وأبحر الإمبراطور فردريك الثاني في قبرص قاصداً عكا، فوصلها بعد أربعة أيام (4) ولم يجد من غير اتباعه المباشرين إلا حظاً ضيئلاً من الطاعة وقدراً كبيراً من الإهانة (5)، ولعله من الغريب أن البابا أخذ يعمل على ألا ينجح الإمبراطور فردريك الثاني في احتلال بيت المقدس، حتى لا يكسبه ذلك شرفاً ونصراً بعد ما حرم، بل أن البابا حرض الملك الكامل على عدم تسليم المدينة المقدسة للأمبراطور (6).
__________
(1) المصدر نفسه ص 281.
(2) الحروب الصليبية ص 113 آرنست باكر.
(3) القدس بين أطماع الصليبيين ص 282.
(4) الحركة الصليبية (2/ 610) القدس بين أطماع الصليبيين ص 282.
(5) القدس بين طمع الصليبيين ص 282.
(6) أوروبا في العصور الوسطى، سعيد عاشور (1/ 402.(1/416)
3 - وفاة الملك المعظم: استغل الإمبراطور وفاة الملك المعظم سنة 624هـ/1226م فقام سنة 625هـ/1227م بالاستيلاء على صيدا التي كانت مناصفة بين المسلمين والإفرنج (1) وكان لهذه الوفاة، أثر كبير في تغيير مجريات الأحداث، فنحن نعرف أن الملك الكامل كان قد استدعى الإمبراطور عندما كان خائفاً من أخيه الملك المعظم، أما الآن وقد توفي الملك المعظم فقد زال الخطر الذي يشكله أكبر منافس له، فانتفت الحاجة إلى مثل هذا القرار (2).
__________
(1) الكامل في التاريخ نقلاً عن القسد بين طمع الصليبيين ص 282.
(2) السلوك (1/ 228 - 229)، الدولة الأيوبية د. عرب دعكور ص 211.(1/417)
ثالثاً: المفاوضات بين الملك الكامل والأمبراطور فردريك الثاني:
عندما وصل الإمبراطور فردريك إلى عكا بعث رسوله إلى الملك الكامل، وأمره أن يقول له: "الملك يقول لك كان الجيد والمصلحة للمسلمين أن يبذلوا كل شيء .. ولا أجيء إليهم والآن فقد كنتم بذلتم لنائبي - في زمن حصار دمياط - الساحل كله، وإطلاق الحقوق بالإسكندرية وما فعلناه وقد فعل الله لكم ما فعل من ظفركم، وإعادتها إليكم، ومن نائبي؟ إن هو إلا أقل غلماني، فلا أقل من إعطائي ما كنتم بذلتموه له (1)؟
__________
(1) المصدر نفسه ..(1/418)
وحار الملك الكامل في الموقف الذي يجب أن يتخذه من الإمبراطور لأنه هو الذي دعاه إلى الشام، وألح عليه في المجيء إليها ليناصره على أخيه المعظم، واعداً إياه بقسم من أملاك هذا الخصم، فلما وصل إليها لم يعد في حاجة إلى مساعدته لأن المعظم كان قد توفي، وغدت الأملاك الموعودة جزءاً من مملكته وأصبح من واجبه أن يدافع عنها، إن لم يكن بعامل الرغبة في المحافظة عليها فبعامل الحفاظ على سمعته أمام جماهير المسلمين يصف ابن واصل الموقف فيقول: تحير الملك الكامل، ولم يمكنه دفعه ولا محاربته، لما كان تقدم بينهما من الإتفاق، فراسله ولاطفه ويبدو أن الكامل أحس بأنه ليس من مصلحته ولا مصلحة البيت الأيوبي أن يصطدم بالصليبيين بالشام في تلك المرحلة التي تعرض فيها لتهديد الخوارزمية ومن ورائهم المغول، فأراد أن يطيل أمد المفاوضات بينه وبين فردريك والمعروف أن الهدنة التي تمت عقب جلاء الصليبيين عن مصر لا ينتهي أجلها إلا في نهاية 626هـ/1229م وأدرك الأمبراطور أن موقف الملك الكامل أصبح على غير ما كان ينتظر ولكن ما العمل؟ وهو الذي خرج من بلاده محروماً من الكنيسة، مغضوباً عليه من البابوية، معتمداً على وعد الكامل به بإعطائه بيت المقدس لاستعادة نفوذه في أوروبا، ولو كان الأمبراطور يعلم أن الكامل سينكث بوعده لما خرج إلى الشرق أصلاً أو لكان استقدم معه جيشاً قادراً على الغزو والحرب ضد المسلمين، أما الآن فإن عدد جنوده لا يزيد على خمسمائة فارس وهو لا يعتمد على أية مناصرة من القوى الصليبية في الشام، لأن هذه القوى تأبى القتال تحت لواء محروم من الكنيسة مطرود من رحمتها، أما إذا عاد إلى أوروبا بدون أن يحقق أي انتصار، فإنه سيعطي خصومه، وبالأخص بالبابوية سلاحاً قوياً للسخرية منه والتشهير به، فالمسألة بالنسبة إليه إذن: كانت تعني مستقبل عرشه في الغرب الأوروبي ومصير المعركة بينه وبين البابوية (1)،
__________
(1) الحركة الصليبية (2/ 1008) ..(1/419)
وهو لم يتردد في التصريح لأصدقائه من المسلمين في الشرق بأنه: ماله غرض في القدس ولا غيره، وإنما قصده حفظ ناموسه عند الفرنج (1)، وزاد من حرج موقف الإمبراطور فردريك أن البابا غريغوري التاسع أخذ يرسل الكتب سراً إلى ملوك بني أيوب بوجه عام - والسلطان الكامل بوجه خاص - محرضاً إياهم على عدم تسليم بيت المقدس للأمبراطور، ولا عجب في ذلك الموقف الذي اتخذته البابوية إذ كانت المعركة بينهما وبين الأمبراطورية في الغرب أهم في نظرها من المعركة بين المسلمين والصليبيين في الشام (2)، وأنه لو قدر لفردريك الانتصار في مهمته، فإن ذلك سيكون في نظر المعاصرين بمثابة حكم الله للأمبراطور المحروم (3)، لم يبق للأمبراطور فردريك الثاني أمام هذا الموقف الحرج سوى سلاح المفاوضة والاستعطاف واستخدام كافة وسائل الدبلوماسية للوصول إلى غرضه والعودة إلى الغرب الأوروبي مرفوع الرأس، فأرسل إلى الملك الكامل سفارة من رسولين تحمل له هدايا نفيسة من منسوجات حريرية وأواني ذهبية وفضية، مطالباً إياه بتحقيق وعده تسليم بيت المقدس، فبعث إليه الكامل رسوله الأمير فخر الدين الذي سبق أن حمل إليه دعوة ملك مصر للقدوم إلى الشام، مرحباً به ومقدماً إليه هدايا ثمينة، ومصارحاً إياه في الوقت نفسه بأنه كان سيعطيه بيت المقدس ثمناً لمناصرته إياه على أخيه المعظم، أما وقد تبدلت الظروف ولم يعد في حاجة إلى هذه المناصرة، فإنه لا يستطيع التفريط في بيت المقدس، لأن ذلك سيثير عليه نقمة المسلمين (4)،
__________
(1) الدولة الأيوبية د. عرب دعكور ص 212 السلوك (1/ 230).
(2) أوروبا في العصور الوسطى (1/ 402 - 403).
(3) الدولة الأيوبية د. دعكور ص 212.
(4) الإمبراطور فردريك الثاني والشرق العربي ص 206 ..(1/420)
وإزاء تنكر الكامل لوعوده ساء موقف فردريك الثاني لاسيما بعد أن جاءته الأخبار من الغرب بأن البابا استغل فرصة غيابه واعتدى على ممتلكاته، فأخذ يرجو الملك الكامل ويستعطفه، حتى قيل أنه كان يبكي في بعض مراحل المفاوضات وليس أدل على تذلل الإمبراطور من الكلام الذي جاء في رسائله إلى الملك الكامل: أنا أخوك واحترام دين المسلمين احترامي لدين المسيح، وأنا وريث مملكة القدس، وقد جئت لأضع يدي عليها، ولا أروم أن أنازعك ملكك، فلنتجنب إراقة الدماء (1). وجاء في رسالة أخرى: أنا مملوكك وعتبقك، وليس لي عما تأمره خروج، وأنت تعلم أني أكبر ملوك البحر، وقد علم البابا والملوك باهتمامي وطلوعي فإن رجعت خائباً انكسرت حرمتي بينهم، وهذه القدس فهي أهل اعتقادهم وضجرهم، والمسلمون قد أخرجوها فليس لها دخل طائل، فإن رأى السلطان أن ينعم علي بقبضة البلد الزيارة، فيكون صدقة منه، ويرتفع رأسي بين ملوك البحر (2) .. واستمر الأمبراطور في الاستعطاف، ولم تلبث الاستعطفات أن أتت أكلها وأفلحت في التأثير في الكامل كان الكامل يريد أن يتنصل من وعوده، إذ كانت هذه الحملة لا تشكل أي خطر على المسلمين لذا تجمدت الاتصالات بين الملك الكامل والإمبراطور خمسة أشهر وأثناء ذلك شرع الإمبراطور في عمارة صيداً وكانت مناصفة بين المسلمين والفرنج، وسورها خراب فاستولى عليها وعمرها، ثم عاود الاتصال بالملك الكامل وتدلل إليه وأخذ يرجو ويستعطف (3)
__________
(1) الدولة الأيوبية د. دعكور ص 213.
(2) الحركة الصليبية (2/ 1010) سعيد عاشور الدولة الأيوبية د. دعكور ص 213.
(3) القدس بين أطماع الصليبيين ص 286 ..(1/421)
كما مّر معنا وقام فردريك الثاني بتحصين يافا، جاء بمثابة مظاهرة عسكرية، جعلت الملك الكامل يخشى قيام فردريك وبقية الجموع الصليبية بالشام بعمل حربي ضده، وهو الشعور الذي فسره المقريزي بقوله: إن الكامل خاف من عائلته عجزاً عن مقاومته (1) وكان الدخول في حرب ضد الإمبراطور والصليبيين عندئذ تعني بالنسبة للملك الكامل وقوعه بين ثلاثة أعداء هم: ابن أخيه الملك الناصر داود من ناحية، والخوارزمية التي استنجد بها الناصر داود من ناحية ثانية، وفي ضوء هذه الحقائق كلها، وتحت تأثير رسول الملك الكامل في المفاوضات الأمير فخر الدين يوسف بن الشيخ، تنازل عن بيت المقدس (2).
رابعاً: صلح يافا: أخيراً عقد الملك الكامل في ربيع الأول 627هـ/شباط 1229م اتفاقية مع الإمبراطور فردريك الثاني، عرفت بصلح يافا (3)، وحضر مراسيم توقيع الاتفاقية من الجانب الأيوبي فخر الدين وأخوه كمال الدين ولدي شيخ الشيوخ، والشريف شمس الدين الأرموي ت 630هـ/1232م قاضي العسكر، والصلاح الأربلي والأمير صفي الدين بن سودان (4) ومن الجانب الإفرنجي هرمان سلزا رئيس الطائفة الألمانية، وتوماس فون أكوين والجراف فون أكبر (5) وكتبت صيغة الاتفاقية باللغتين العربية والفرنسية (6)، ووقع عليها الطرفان وحلفا على التزامها ووقع الإمبراطور عليها بعد أسبوع، فيما وقع على بنودها الملك الكامل في الوقت نفسه (7)، وتم تسليم بيت المقدس للصليبيين في شهر ربيع الأول 626هـ/شباط 1229م وشمل الاتفاق البنود التالية:
1 - مدة الاتفاق عشرة سنوات ميلادية (8).
__________
(1) السلوك (1/ 228) القدس بين أطماع ص 287.
(2) القدس بين أطماع الصليبيين ص 288.
(3) الحركة الصليبية (2/ 364) القدس بين أطماع ص 228.
(4) المصدر نفسه ص 289.
(5) المصدر نفسه ص 289.
(6) المصدر نفسه ص 289.
(7) المصدر نفسه ص 289.
(8) صبح الأعشى (3/ 429) القدس بين أطماع ص 289.(1/422)
2 - تبقى المناطق التي أخذها الصليبيون قبل الصلح بأيديهم وتشمل قلاع الشقيف، وتبنين وجبلة وكوكب وبيروت، وصيدا، ويافا، والمجدل، واللد، والرملة وعسقلان، وبيت جبريل (1).
3 - تبقى بيت المقدس خربة، ولا يجدد سورها (2)، وتكون قراها للمسلمين، وتكون تابعة للوالي بالبيرة الواقعة شمال القدس.
4 - يبقى المسجد الأقصى والصخرة بيد المسلمين ويمارسون فيها الشعائر الدينية من أذان وصلاة (3)، ويتولاها قوام مسلم، ولا يدخلها الصليبيون إلا للزيارة (4).
5 - يأخذ الصليبيون بيت المقدس، والناصرة، وبيت لحم.
6 - يعطي للصليبيين بعض القرى الواقعة على الطريق من عكا إلى القدس (5)، حتى لا يتعرض الصليبيون القادمون من عكا لزيارة القدس للعدوان، وتبقى سائر المدن والقرى بين المسلمين (6).
7 - إطلاق سراح الصليبيين ومن ضمنهم الأطفال الذين أسروا في حملة الأطفال السابقة (7)
8 - تعهد الإمبراطور المشاركة في الدفاع عن الملك الكامل ضد أي عدو حتى ولو كان من الإفرنج، كذلك تعهد أيضاً عدم تقديم أية مساعدة لحكام انطاكيا وطرابلس، وحكام المناطق الإفرنجية الأخرى في بلاد الشام (8).
__________
(1) مفرج الكروب (4/ 241) القدس بين أطماع ص 289.
(2) المختصر (3/ 141) القدس بين أطماع ص 289.
(3) الأنس الجليل للحنبلي (1/ 406).
(4) مرآة الزمان (8/ 431) البداية والنهاية نقلاً عن القدس ص 290.
(5) القدس بين أطماع الصليبيين ص 290.
(6) المصدر نفسه ص 290.
(7) المصدر نفسه ص 290.
(8) مفرج الكروب (04/ 343) السلوك (1/ 231).(1/423)
وسرعان ما وضعت هذه الاتفاقية موضع التنفيذ، فنودي بالقدس بخروج المسلمين منه، وتسليمه إلى الفرنج (1)، وأعلن فردريك الثاني في جنوده: أشكروا الله وأحمدوه، إذ أتم عليكم نعمته، وإن إتمامها كان معجزة من الله وليس نتيجة الشجاعة أو الحروب، وما أتمه الله لم تستطع قوة من البشر على الأرض إتمامه لا بكثرة العدد، ولا بالقوة ولا بأية وسيلة أخرى (2) وأطمأن الملك الكامل من ناحية الفرنج، ولكي يضمن ولاء أمراء البيت الأيوبي قام بتوزيع الأموال عليهم، فمنح أخاه العزيز عثمان صاحب بانياس خمسين ألف دينار (3)، وأعطى ابنه الظاهر غازي عشرة آلاف دينار وقماشاً نفيساً وخلعاً سنية، وقدم إلى الأمير عز الدين ايدمر المعظمي عشرين ألف دينار وأقطعه بمصر، فتستروا على تسليم بيت المقدس وتفريط الملك الكامل بها، أخذ القادة المسلمون بأسلوب الملك الكامل في توزيع الملك لكسب ولاء المتنفذين في مختلف الأقطار والتستر عليهم لقد أرضى الملك الكامل الإمبراطور خوفاً من غائلته، وعجزاً عن مقاومته، وصار يقول: إنا لم نسمح للفرنج إلا بكنائس والمسجد على حاله، وشعار الإسلام قائم، ووالي المسلمين متحكم في الأعمال والضياع (4)، واعتذر ملك الفرنج للأمير فخر الدين بقوله: ولولا أخاف انكسار جاهي، ما كلفت السلطان شيئاً من ذلك، وأنه ماله غرض في القدس، ولا غيره وإنما قصد حفظ ناموسه عند الفرنج (5) وقد رأى الكامل أن شقاق الإمبراطور يفتح له باب محاربة الفرنج، ويتسع الخرق، ويفوت عليه هدف ما خرج بسببه فرأى أن يرضى الفرنج بمدينة القدس خراباً، وأنه قادر على انتزاعها متى شاء (6).
__________
(1) شمس العرب ص 427، القدس بين أطماع ص 290
(2) المصدر نفسه.
(3) السلوك (1/ 272) القدس بين أطماع الصليبيين ص 291.
(4) القدس بين أطماع الصليبيين ص 291.
(5) مفرج الكروب نقلاً عن القدس بين أطماع الصليبيين ص 291.
(6) القدس بين أطماع الصليبيين ص 291.(1/424)
- زيارة الإمبراطور بيت المقدس: استأذن الإمبراطور فردريك الثاني من الملك الكامل زيارة بيت المقدس فأجابه الملك الكامل إلى ما طلبه، وسير القاضي نابلس في خدمته، ومرافقته، فسلمه مفاتيح المدينة المقدسة، وسار معه إلى المسجد الأقصى، طاف معه المزارات (1) التي في الصخرة، وقد وصف سبط ابن الجوزي زيارة الإمبراطور فقال: ولما دخل الأنبرور قبة الصخرة، رأى قسيساً قاعداً عند الصخرة يأخذ من الفرنج قراطيس فجاء إليه الأنبرور كأنه يطلب منه الدعاء، فلكمه فرماه إلى الأرض وقال يا خنزير: السلطان تصدق علينا بزيارة هذا المكان، وأنتم تفعلون فيه هذه الأفاعيل؟ لئن عاد ودخل واحد منكم على هذا الوجه لا قتلته (2)، ونظر الأنبرور إلى الكتابة في القبة وهي: طهّر هذا البيت المقدس صلاح الدين من المشركين "فقال": ومن هم المشركون؟ ثم قال الانبرور للقوم، هذه الشباك التي على أبواب الصخرة من أجل أيش؟ قالوا لئلا يدخلها العصافير فقال أتى الله إليكم بالخنازير (3)
__________
(1) السلوك (1/ 237) القدس بين أطماع الصليبيين ص 292.
(2) مرآة الزمان (8/ 134) القدس بين أطماع ص 292.
(3) مرآة الزمان (8/ 134) القدس بين أطماع ص 292 ..(1/425)
وكان الملك الكامل قد أمر القاضي شمس الدين قاضي نابلس أن يأمر المؤذنين ما دام الأنبرور في القدس أن لا يصعدوا المنابر ولا يؤذنوا في الحرم، فنسي القاضي أن يُعْلم المؤذنين، فصعد المؤذن عبد الكريم تلك الليلة، وقت السحر والأنبرور في دار القاضي، فجعل يقرأ الآيات التي تختص بالنصارى كقوله" ما اتخذ الله من ولد" ونحوها، فلما طلع الفجر استدعى القاضي المؤذن عبد الكريم، وقال له " ايش عملت؟ السلطان رسم كذا، وكذا، فلما كانت الليلة التالية ما صعد عبد الكريم المأذنة، فلما طلع الفجر استدعى الانبرور القاضي شمس الدين فقال له: يا قاضي أين ذلك الذي طلع بارحة أمس المنارة، فعرفه أن السلطان أوصاه بوقف الأذان، فقال الانبرور: أخطأتم يا قاضي، تغيرون أنتم شعاركم وشرعكم ودينكم لأجلي، فلو كنتم عندي في بلادي، هل كنت أبطل ضرب الناقوس لأجلكم، الله الله لا تفعلوا هذا، هذا أول ما تنقصون عندنا (1)، ويلاحظ أن الملك الكامل أخطأ بوقف الأذان والتسبيح حتى أن الإمبراطور عاب عليه هذا التصرف، وأوضح أنه كان يرغب في سماع أذان المسلمين وتسبيحهم في الله، وقد اعتقد العيني أن الأمبراطور كان يبطن السلامة ويتلاعب بالنصرانية (2)، وذكر المقريزي أن الأمبراطور قال: والله إنه كان أكبر غرضي في المبيت بالقدس أن أسمع أذان المسلمين وتسبيحهم في الليل وعندما دخل الأمبراطور بيت المقدس اتجه إلى كنيسة القيامة، وتوج نفسه بيده، وقد فسر المؤرخون ذلك بما يلي:
- رفض رجال الدين تتويج إمبراطور محروم من الكنيسة.
__________
(1) المصدر نفسه (8/ 434) القدس بين أطماع ص 293.
(2) عقد الجمان (8/ 83) القدس بين أطماع ص 293.(1/426)
- آثر الإمبراطور تتويج نفسه حتى يثبت للبابا ورجال الدين أنه تسلم التاج في هذا المكان البالغ الأهمية "كنيسية القيامة" دون حاجة لرجال الدين أو البابا (1) وأثناء وجود الإمبراطور في بيت المقدس وصلها أسقف قيسارية، ليوقع قرار الحرمان على المدينة المقدسة، فاستاء الإمبراطور لذلك، وعدها إهانة كبيرة لشخصه وعلم بمؤامرة ضده، فغادر المدينة بعد يومين، ولم يغير من شعائر الإسلام شيئاً وأحسن إلى أهلها، فذهب إلى يافا، ثم اتجه إلى عكا، ومن ثم غادرها بحراً إلى قبرص ليقضي فيها بضعة أيام، وأخيراً سافر إلى إيطاليا فوصلها 626هـ/1229م (2).
__________
(1) أوروبا العصور الوسطى، عاشور ص 398 القدس بين أطماع ص 293.
(2) القدس بين أطماع الصليبيين ص 294.(1/427)
خامساً: ردود فعل الأمة الإسلامية من تسليم بيت المقدس:
أثارت هذه المعاهدة موجة عارمة من السخط والأسى في الرأي العام الإسلامي كله، وعند الفقهاء والعلماء بوجه خاص، وقد اعتبر المسلمون أن تسليم بيت المقدس للصليبيين بهذه السهولة يعتبر تفريطا في حق الإسلام والمسلمين وأصبحت هذه المعاهدة وصمة عار في جبين البيت الأيوبي بصفة عامة، وللملك الكامل محمد بصفة خاصة (1) وأخذ العلماء يحركون العامة للضغط على أمرائهم لإستعادتها وكان لكثير منهم مجالس علمية ركزوا في بعضها على ذكر فضائل بيت المقدس، وفضائل الجهاد، كما أن بعضهم عمد إلى إنشاد الشعر في هذه الحادثة والتشنيع على الكامل وتحريك العامة والخاصة للعمل على إستعادة القدس، ومن ذلك ما كان يجري في جامع دمشق من تجمعات ودروس لتحريك الناس للضغط على الكامل، كما كانت تنشد فيه الأشعار لهذه الغاية (2) وعندما وصلت هذه الأنباء إلى دمشق توغرت قلوب المسلمين بها على الملك الكامل محمد واجتاحتها حالة عارمة من السخط العام، لدرجة أن المسلمين أقاموا المآتم حزناً على تسليم القدس للصليبيين وأخذ الملك الناصر داود بن المعظم في التشنيع على عمه الكامل محمد وطلب من العالم الشيخ شمس الدين يوسف سبط ابن الجوزي الواعظ، أن يجلس بجامع دمشق للوعظ، ويندد بما فعله عمه الكامل، ويثير الناس ضده، وأمره أن يذكر في وعظه فضائل القدس، وما ورد فيها من الأخبار والآثار، ويوضح للناس العار والوصمة التي لحقت بالمسلمين من جراء ذلك التصرف، فنفذ ما طلب منه وكان يوماً مشهوداً لم يتخلف من أهل دمشق أحد (3)
__________
(1) دور الفقهاء والعلماء المسلمين في الشرق ص 194.
(2) الفتوح الإسلامية عبر العصور ص 310.
(3) مفرج الكروب (4/ 245) السلوك (1/ 233) ..(1/428)
وكان قد ورد في وعظه: وانقطعت عن البيت المقدس وفود الزائرين يا وحشة المجاورين، كم كان لهم في تلك الأماكن من ركعة، كم جرت لهم على تلك المساكن من دمعة، تالله لو صارت عيونهم عيوناً لما وفت، ولو انقطعت قلوبهم أسفاً لما شفت، أحسن الله عزاء المؤمنين، يا خجلة ملوك المسلمين، لمثل هذه الحادثة تسكب العبرات، ولمثلها تنقطع القلوب من الحسرات (1)، كما ذكر سيف ابن الجوزي في مجلسه هذا قصيدة تائيه جاء فيها:
على قبة المعراج والصخرة التي ... تفاخر ما في الأرض من صخرات
مدارس آيات خلت من تلاوة ... ومنزل وحي مقفر العرصات (2)
ويذكر القاضي ابن واصل أنه كان حاضراً في هذا المجلس، فيصفه بقوله: وعلا يومئذ ضجيج الناس وبكاؤهم وعويلهم، وحضرت أنا هذا المجلس (3). وحضر المؤذَّنون والأئمة الذين كانوا في الصخراء والمسجد الأقصى إلى باب دهليز الملك الكامل، فأذنَّوا على باب الدهليز في غير وقت الأذان، فعسر ذلك على الكامل وأمر أتباعه بأخذ ما معهم من أثاث المسجد وطردهم ورُبمَّا كان هذا الاعتراض المباشر الوحيد الذي جُوبه به الكامل من قبل مؤذَّنين والأئمَّة لا حول لهم، ولا قوَّة، وإذا كان الاستحكار الرَّسمي معدوماً أو خجلاً فقد كان الاستنكار الشعبي قوياً جداً إلى درجة اضطر الملك الكامل لتسيير رسله إلى البُلدان لتسكين الناس، وكذلك أرسل إلى الخليفة يُبَّرر له ما فعل (4).
ومما قيل من شعر في المصير الذي آلت إليه القدس:
قول شاعر مجهول:
عزيز علينا أن نرى القدس تَخْْربُ ... وشمسُ مبانيه تزول وتغُربُ
وقلت له منا الدموع لأنَّه ... على مثله تجري الدُّموع وتسكبُ (5)
وقد تّم التعريض بأولئك الحكام الذين تنازلوا عن بيت المقدس:
__________
(1) مرآة الزمان (8/ 432) دور الفقهاء ص 197.
(2) مفرج الكروب (4/ 246).
(3) مفرج الكروب (4/ 245 - 246) دور الفقهاء ص 198.
(4) العلاقات الدولية (2/ 313) السلوك (1/ 232).
(5) المصدر نفسه.(1/429)
إن يكن بالشام قلَّ نصيري ... وتهدَّمتُ ثم دام هُلوكي
فلقد أصبح الغداة خرابي ... سمة العارِ في حياة الملوك (1)
ومما قيل ما قاله صلاح الدين الإربلي أرسله إلى الملك الكامل:
زعم اللعين الانبرور بأنّه ... سلم يدوم لنا على أقواله
شرب اليمين فإن تعَّرض ناكثا ... فلنأكلنَّ لذاك لحم شماله (2)
__________
(1) بيت المقدس في أدب الحروب الصليبية ص 202
(2) وفيات الأعيان (1/ 186).(1/430)
1 - معالجة الملك الكامل لموقف المسلمين الرافضين للصلح:
أدرك الملك الكامل محمد أن الرأي العام الإسلامي كله ضد تسليمه بيت المقدس للصليبيين وأنه في مركز حرج لا يحسد عليه ولذلك أخذ يدافع عن سبب لجوئه إلى هذا التصرف وبعث رسله إلى بعض الأقطار الإسلامية لتسويغ ذلك فأرسل جمال الدين الكاتب الأشرفي إلى البلاد الشرقية .. وإلى الخليفة العباسي: لتسكين قلوب الناس وتطمين خواطرهم من انزعاجهم لأخذ الفرنج القدس (1)، وكان الملك الكامل يعتقد أن الفرنج لا يمكنهم الامتناع بالقدس مع خراب أسواره، وأنه إذا قضى غرضه واستتبت الأمور له، كان متمكنا من تطهيره من الفرنج وإخراجهم منه وقال الكامل: وإنا لم نسمح لهم إلا بكنائس، وأدر خراب، والحرم، وما فيه من الصخرة المقدسة وسائر المزارات بأيدي المسلمين على حاله وشعائر الإسلام قائم على ما كان عليه ووالي المسلمين متحكم على رساتيقه وأعماله (2). لقد أساء التصرف الملك الكامل في تفرطه في القدس، إذ كان يساوم عليه كلما أحس بالخطر الذي يهدد مركزه، فكان حريصاً على الاحتفاط بحكم مصر، ومستعداً لتقديم التنازلات للإفرنج، وهذا يتناقض مع قوله أنه غير مستعد للتفريط بالمدينة المقدسة في رسالة بعث بها لأخيه الملك الأشرف عام 625هـ/1227م: إنني ما جئت إلى هذه البلاد إلا بسبب الإفرنج، فإنهم لم يكن في البلاد من يمنعهم عما يريدونه .. وأنت تعلم أن عمنا صلاح الدين فتح بيت المقدس، فصار لنا بذلك الذكر الجميل .. فإن أخذه الإفرنج حصل لنا من ذلك سوء الذكر ... وأي وجه يبقى لنا عند الناس وعند الله (3).
__________
(1) التاريخ المنصوري ص 179 القدس بين أطماع ص 296.
(2) مفرج الكروب (4/ 244).
(3) الكامل في التاريخ (9/ 379) القدس بين أطماع ص 296.(1/431)
ولا شك أن قول الملك الكامل كان للاستهلاك، وينافي استعداده للتفريط في القدس لقد كان جيش الإمبراطور فردريك الثاني ضعيفاً، قليل العدد، وتأييد الصليبيين له ضعيفاً، فلم يحسن الكامل استغلال هذا الموقف وقدم بيت المقدس للفرنج على طبق من ذهب، من أجل تحقيق أطماعه في الشام، ولم يغفر له معاصروه هذه الزلة الشنيعة (1) حتى أن بعض أمراء جيشه عارضوه ومنهم الأمير سيف الدين بن أبي زكري الذي أشار عليه بإبقاء دمشق لابن أخيه الناصر داود، والاتحاد مع أخيه الأشرف، فيجتمع الثلاثة ويقاتلون العدو "فإما لنا وإما علينا، ولا يقال عن السلطان إنه أعطى الفرنج القدس (2) ولكن السلطان غضب عليه، وأمر باعتقاله وأرسله إلى مصر حيث سجنه (3) واستمر رفض الجماهير الإسلامية للاتفاقية، وامتد إلى درجة جزع منها الملك الأشرف فأرسل إلى أخيه الكامل يلومه ويعاتبه (4).
__________
(1) القدس بين أطماع الصليبيين ص 297.
(2) مرآة الزمان (8/ 654) القدس بين أطماع ص 297.
(3) المصدر نفسه ص 297.
(4) المصدر نفسه ص 297.(1/432)
2 - تبدل موازين القوى العسكرية عند الأيوبيين:
كانت وفاة صلاح الدين الأيوبي نهاية مرحلة تاريخية وبداية مرحلة جديدة وثمة مراحل تاريخية ترتبط فيها أمور البلاد والعباد بالشخصية الكارزمية للحاكم أو الصفوة الحاكمة، وتتمثل خطورة مثل هذه المراحل في أن غياب الحاكم ذي الصفات الأخلاقية السامية، وعدم وجود خليفة له يحمل نفس صفاته، يؤدي بالضرورة إلى تدهور المشروع الذي كّرس نفسه له، أو سير الأمور في اتجاه معاكس للاتجاه الذي يسير فيه والناظر في تواريخ الأمم والشعوب، سيجد أن هذه الحقيقة تصدق على كافة شعوب الأرض، ولم تنج منها غير الشعوب التي تمكنت من أن تقيم المؤسسات الدستورية والقانونية (1)، فحين توارت شخصية صلاح الدين من على مسرح الأحداث حدث فراغ عسكري وسياسي كبير أضّر بالجانب الإسلامي وعاد بالفائدة على الجانب الصليبي، إذ كانت شخصيته ومواهبه وأداؤه السياسي والعسكري هو الذي يحفظ الدولة من التفكك، ولم تكن هناك مؤسسات تضمن استمرار بقاء هذه الدولة الكبرى من ناحية، كما أن صلاح الدين قسَّم دولته، كما يُقسَّم الإرث، بين أبنائه وأخوته وبني عمومته، على نحو ما كان مألوفاً في تلك العصور وكان طبيعياً أن تعود المنطقة إلى الوراء مرة أخرى نتيجة المنازعات والتشرذم السياسي الناجم عن الخلاف بين ورثة صلاح الدين وتفككت عُرى الدولة الإقليمية الكبرى التي جاهدت ثلاثة أجيال في إقامتها بالمنطقة، عماد الدين، ونور الدين، وصلاح الدين (2)،
__________
(1) في تاريخ الأيوبيين والمماليك د. قاسم عبده قاسم ص 79.
(2) في تاريخ الأيوبيين والمماليك د. قاسم عبده ص 79، 80 ..(1/433)
وتطورت المشروعات الصليبية في الغرب الأوروبي وانتهج خلفاء صلاح الدين سياسة مهادنة إزاء الصليبيين تقوم على رد الفعل أكثر مما تقوم على المبادأة والمبادرة، فقد كان لإنشغال الأيوبيين بمنازعتهم من جهة، واهتمامهم بالهدنة مع الفرنج وتجديدها من جهة أخرى أثر إيجابي على الصليبيين الذين وجدوا الفرصة لالتقاط أنفاسهم وحشد المساعدات من الغرب الأوروبي لمساعدتهم (1) ولم يحدث تطور عسكري، أو فكر سياسي متقدم عند الأيوبيين وغابت روح الحسم العسكرية التي أقامت الدولة الأيوبية بل تلاشت وخصوصاً في عهد الكامل وتظهر بعض الملامح العسكرية التي أقامتها الممالك الأيُّوبية بعد صلاح الدَّين ويتجلىَّ منها:
أ- لم يبتكر الأيُّوبيون أسلحة قتال جديدة، أو يُطوَّروا تكتيكاً عسكرَّياً مُتميزاً، كما كان متوقَّعاً، نتيجة لاحتكاكهم بالفرنجة.
ب- لم يحرصوا على الجهاد وتحرير المناطق المحتلةَّ، بل إنهّم سلمَّوا كثيراً من الفتوح الصَّلاحَّية للفرنج.
ج- لم يُطوَّروا اقتصاداً حربياً يخدم الآلة العسكرّية، ويدعمها باستمرار وكفاءة.
س- أهمل الأيُّوبيون الأسطول، ولم يستخدموه إلا جُزئياً، وعند الحاجة الماسة.
ك- كان لكُلَّ من الملوك الأيوبيَّيْن مشروعه السياسي الخاصّ الذي وظَّف له كُلَّ قواه العسكرية المتاحة وأهمل كل ما عداه من مشاريع عامة (2)، فكان تسليم الملك الكامل القدس نتيجة طبيعية للإنحدار السياسي والعسكري بعد صلاح الدين.
__________
(1) المصدر نفسه ص 85.
(2) العلاقات الدولية (2/ 2525).(1/434)
سادساً: رفض الصليبيين للصلح: لم يعجب الصليبيين استرداد فردريك الثاني بيت المقدس، وأخذوا يعبرون عن غضبهم بشتى الصور فقالوا: إن كرامة المسيح كانت تحتم أن تؤخذ المدينة المقدسة بحد السيف وليس بطريق الاستجداء والبكاء كما فعل الإمبراطور (1)، وعلى الرغم من أن الذي حققه فردريك الثاني بإتفاقه مع الملك الكامل كان أنجح مما حققته الحروب الصليبية كلها بعد معركة حطين 583هـ/1187م، فإن أعداء الإمبراطور لم يتركوا فرصة للعمل ضده إلا استغلوه، فقد أرسل فرسان المعبد سراً برسالة يبدو أنها كانت بإيحاء من البابا غريغوري التاسع: يخبرونه فيها بأنهم أي الفرسان قد عملوا أن الإمبراطور سيخرج بصحبة نفر من اتباعه من بيت المقدس إلى نهر الأردن للصلاة وهم يدعون السلطان الكامل لإنتهاز هذه الفرصة للفتك بالإمبراطور وقتله .. اشمأز الكامل من خيانة هؤلاء الفرسان، فأرسل إلى الإمبراطور نفسه هذا الخطاب المختوم بختم رئيس فرسان المعبد (2).
__________
(1) القدس بين أطماع الصليبيين وتفريط الكامل ص 298.
(2) تاريخ جماعة الفرسان التيوتون ص 205.(1/435)
وبقي الأمبراطور يومين في القدس، ثم عاد إلى يافا خوفاً من الداوية (1) وغادر فريدريك أرض فلسطين بعد إبرامه الاتَّفاقية مع السلطان الكامل، فقد وصلته الأخبار أن جنود البابا قد هاجموا ممتلكاته في جنوب إيطالية، وتمكَّن فريدريك بعد وصوله إيطالية من التصَّدي لقوَّات البابا، وهزيمتها عام 627هـ - 1230م وأجبر البابا على عقد معاهدة سان جرمانوا، حيث ألغى حرمانه وصادقا البابا - في السنة التالية - على معاهدته مع السلطان الكامل وأرسل البابا أوامره إلى طوائف الرُّهبان الفُرسان الدَّاوية والاسبتاريَّة لمراعات نصوص اتّفاقية فريدريك مع المسلمين (2) ولكن الهدنة لم تمنع البابا من توجيه نقد كبير لاتَّفاقية فريدريك مع المسلمين، فاتَّهمه البابا غريغوري بأنَّه وحده يعرف شروط المعاهدة (3)، لقد أشارت المعاهدة مع السلطان الكامل والتي تسلمَّ بموجبها الإمبراطور فريدريك مدينة القدس البابا، وأقامته، ولم تقعده وشنع على فريدريك وقال واصفاً معاهدته مع الكامل: إنها تتوافق مع شريعة المسلمين، أكثر من توافقها مع شريعة إيماننا، واتبّع عاداتهم في عدة نقاط منها: مساعدة السُّلطان ضّد جميع الناس من مسلمين ومسيحيين (4)،
__________
(1) مرآة الزمان (8/ 655) القدس بين أطماع ص 299.
(2) العلاقات الدولية (2/ 313).
(3) المصدر نفسه (2/ 314).
(4) الموسوعة الشاملة (45/ 899) ..(1/436)
وفي رسالة أرسلها البابا لمندوبه في فرنسا، يقول: أخذ فريدريك بوسائل المسلمين، وهاجم ميراث الكرسي الرسولي، والذي هو أكثر مقتا، إنَّه يبُرم - الآن - معاهدة مع السلطان ومع مسلمين آخرين، ويظهر اللُّطف نحوهم، ويبُدي الكراهية المكشوفة تجاه المسيحيين، ثم يذكر أن فريدريك يُشجَّع المسلمين على الإغارة على طائفتي الاسبتارية والدَّاوية فعندما هاجم المسلمون أراضيهم وبعد أن قتلوا عدداً كبيراً من أتباعهم، حملوا معهم كمَّيَّات كبيرة من الغنائم، فهاجم الدّاوية، وانتزعوا منهم بعضاً من الغنائم، فقام وزير الإمبراطور بمهاجمتهم عندما كانوا عائدين، وانتزعوا منهم بالقوّة هذه الغنائم، وأعادها للمسلمين، كما أنه جمع مائة عبد كانوا لدى الاسبتاريَّة والدَّاوية، وأعطاهم للمسلمين وضمَّن البابا رسالته اتَّهامات كبيرة ضدَّ فريدريك حتى إنَّه يسميه نائب محمد (1). ولكن الصلح بين الفريقين كان قصير الأجل، إذ لم يلبث الخلاف أن اشتد بين البابوية والإمبراطورية بعد وفاة البابا غريغوري التاسع سنة 1243م إذ عقد خلفه البابا انوسنت الرابع مجمعاً في ليون سنة 1245م قرر فيه حرمان فردريك الثاني من جديد وفي قرار حرمان البابا أنوسنت الرَّابع للإمبراطور فريدريك الصادر في مجمع سليون يُعدَّد البابا ذُنُوبَ فريدريك وخطاياه العظيمة، ومنها:
1 - التحالف بحلف مقيت مع المسلمين.
2 - إرسال الرُّسُل والهدايا إليهم، وتلقَّي الهدايا منهم.
3 - تبنيَّ عادات المسلمين والاعتماد على مُسلمين في خدماته اليومية.
4 - سمح لاسم محمد أن يُذكر علنا في هيكل الرب.
5 - استقبل سُفراء سُلطان مصر، الذي يُلحق الأذي بالأرض المقدسة (2).
__________
(1) العلاقات الدولية في عصر الحروب الصليبية (2/ 264).
(2) تاريخ أوروُبا في العصور الوُسطى، فيشر ترجمة مصطفى زيادة ص 255.(1/437)
إن هذه الذُّنُوب التي يُعددَّها البابا لفريدريك تُعطينا فكرة واضحة عن نظرية البابوية إلى المسلمين وإلى التعامل معهم، ومدى الحقد والكراهية التي كانت تزرعها البابويَّة في نفوس المسيحيين الأوروبيين لتدفعهم ضَّد المسلمين في حملات ظاهرها الدفاع عن الدَّين وباطنها إعلاء سُلطة البابويَّة وزيادة ممتلكاتها وثرواتها، فقد وظفَّ علاقته بالمسلمين من خلال السلطان الكامل ليتقوَّى شعبياً في أوروبا ضَّد البابا، ولم يخسر فريدريك من علاقته بالسلطان الكامل، بقدر ما ربح في أوساط الشعوب الأُورُوبية، التي كانت تتملل من ظُلم البابوات، وانحرافهم الواضح عن مهامَّهم الدَّينيَّة وانغماسهم بأمور الحكم والسياسة فقد ساعد فرديريك في وُقُوفه بوجه البابوّية الخيال الشعبي الأُورُوبي، الذي اعتبره خلفاً لبربروسا، ومُحرَّراً للضريح المقدس وصحيح أن البابويَّة حرمته كَنسيَاً، واعتبرته مُهرطقاً ومُجحفاً وحانثاً بالقسم، لكن فريدريك حرم البابويّة من ثرواتها، ومن كثير من أملاكها، فتحوَّل في الخيال الشعبي الأُورُوبي إلى شخصية تُعاقب رجال اللاهوت في أيام الدُّنيا الأخيرة؛ أما في ألمانيا فقد اعتبر المُخلصّ ضدَّ ظلم الكنيسة، لذلك ردَّ البابا بوضع كُلَّ ألمانيا تحت الحرمان، وردَّ على البابا الوُعاَّظ المتجوَّلون الذين أعلنوا البابا أنوسنت الرّابع شرَّيراً إلى درجة أن حرمانه لا يعني شيئاً، وأن البابا والأساقفة مُهرطقين، وطلبوا مِن الناس الصلاة للإمبراطور فريدريك وإبنه كونراد الصالحين الكاملين (1) معاً.
__________
(1) السعي وراء الفترة الألفية السعيدة فورمان كوهين الموسوعة الشاملة (4/ 143).(1/438)
لقد كان للصراع بين البابا أينوسنت الرّابع والإمبراطور فريدريك الثاني أثرً واضحاً في الشرق تعدَّى الإمارات الفرنجية إلى الممالك الأيُّوبية، فبعد فشل الحملة الخامسة، حملة البارونات على مصر، مباشرة، أصدر مجمع ليون 642هـ/1245م قراراً بتوجيه حملة جديدة لكنَّ انشغالَّ البابا بالصراع مع فريدريك جعله يُوجَّه هذه الحملة ضدَّه، لذِلك لَعنَهُ، وحرمه كنسيا وعدّه ملحداً، ليستحقَّ أن تتوجَّه حملة صليبية ضدَّه، فأخذ البابا التبرُّعات المالية للحملة الصليبية واستخدمها ضدَّ فريدريك (1). إن صراع البابوية َّ ضدَّ فريدريك كان مُنَّبهاً لكثير من الفُرسان والنُّبلاء الأوروُبيين لاستغلال البابويةَّ لهم فقد رفض البارونات الإنكليز - صراحة - الاشتراك في الحملة التي دعا إليها مجمع ليون، وقال هنري الثالث ملك إنكلترا لمبعوث البابا، إن وُعَّاظ الحملة يخدعون الشعب، ولن نسمح لهم بعد ذلك، وحتى في أوساط اللاهوتيين إرتفعت أصوات المعارضة للحملات الصَّليبيَّة نحو فلسطين، فقد صّرح اللاهوتي رادولف نيفر قائلاً: من الجُنون التدخل في شؤون فلسطين حين تتعرَّض المسيحيَّة في الغرب لخطر الهرطقة، وقال: أيُّ معنى لتحرير القدس من المسلمين حين يتجذَّر الكفر في أرض الوطن وكان الشاعر المغنَّي الجّوال الفرنسي ريمون جوردان يتغنىَّ في إحدى قصائده قائلاً: إن ليلة مع الحبيبة أفضل من جميع أطايب الجنَّة، يُوعَد بها المشارك بحملة صليبية، أمَّا الشاعر الجَّوال بيرود، فكان يتغنَّى بمقطع يقول فيه:
من صلاح الدَّين شبعنا ... أرض الوطن عزيزة على الناس
__________
(1) العلاقات الدولية في عصر الحروب الصليبية (2/ 266).(1/439)
وتعدَّى الأمر إلى التفكير في أُورُوبة بشرعية الحملات أصلاً، فنقدوها بشكل لاذع، وعبَّر الشاعر الجوّال الألماني فولغرام فون إيشتنباخ عن رأي عدد من الفُرسان حين قال: إنه من المشكوك فيه أن يكون من العدل قتل أتباع الأديان الأخرى، إضافة إلى أن الصراع بين البابويَّة والإمبراطوُر قد مزّق إيطالية وألمانيا (1) وأمَّا إنكلترا، فقد حزم ملكها هنري الثالث أمره بعدم المشاركة في أيَّ حملة، ودفع للبابا أنوسنت الرّابع ليس لإعفائه من السفر بنفسه فقط، بل لمنع الإنكليز كافَّة من الإبحار الشَّرق، وفرض حراسة مُشدَّدة على شواطئ بلاده لمنع أيَّ صليبي من المغادرة، أمّا الحملة الفرنسية نحو مصر، فلم تتّم إلا بضغط شديد يُشبه الهَوَس من قِبل لويس التاسع ملك فرنسا إن البابويَّة وازنت بين مصالحها في أوُرُوبة وما تُحقَّقه الحملات إلى الشرق، فتبيَّن لها أن الكفّة تميل بشدة نحو أورُوبا إضافة إلى المقاومة التي كانت تلقاها فكرة الحملات الجديدة أما الوعَّاظ البابويون؛ فقد طوَّروا أُسلُوبهم في الدعوة، ولأن الجانب المالي من رسالتهم هو المهُمُّ، لذلك غفروا خطايا من يتبرَّع بالذهب والفضَّة كفداء لنفسه في الاشتراك الشخصي بالحملة، أما البابا، فكان تطويره لأفكار الحملات وأهدافها أكبر من ذلك، فقد أعلن: أن القُدْس لم تعد هدف الحملة (2)، فهو يريد تحقيق مشاريعه السياسية والعسكرية أولاً فالهدف السياسي للبابا أزاح بسُهولة الهدف الدَّيني للحملة، ولذلك عندما قام لويس التاسع بحملته الصليبية على مصر لم يقم البابا بأيَّ خُطوة إيجابية لمساعدته، فقد كان البابا يخوض حربه الصَّليبَّية الخاصَّة ضدَّ فريدريك وانشغل - تماماً - عن القديس لويس (3)،
__________
(1) الصليبيون في الشّضرق، زاباروف ترجمة إلياس شاهين ص 305.
(2) العلاقات الدولية في عصر الحروب الصليبية (2/ 267).
(3) العلاقات الدولية في عصر الحروب الصليبية (2/ 267) ..(1/440)
وقام فريدريك بإرسال المؤن إلى لويس عندما هدَّدته المجاعة في قبرص، فكتب لويس إلى البابا يرجوه إيقاف الحرب، ضَّد فريدريك، لإنقاذ الجيش الصليبي، فلم يلتفت له، ثم كتبت بلانشي أمّ الملك لويس إلى البابا تلتمس عفوه عن فريدريك، فرفض البابا كُلَّ ذلك، وضايق فريدريك أكثر، فأكثر (1)، وبعد الفشل المأساوي لحملة لويس، وأسره في مصر، تمّ أطلاق سراحه، عاد أخوا الملك كوُنت أنجو وكونت بواتيه إلى ليون، وقابلا البابا أنوسنت الرَّابع، وأبلغاه طلب لويس المساعدة والصُّلح مع فريدريك؛ ليتفرَّغا من حربهما لمساعدته، لكنَّ البابا - على ما يبدو - لم يتحمسّ للطلب فهدَّدا بإخراجه من مدينة ليون الفرنسيةَّ، (2) واتهماه بالتسبب بهزيمة لويس في مصر؛ لتصُّرفه بالأموال التي جمعها باسم الحملة في أغراض أخرى (3).
__________
(1) الموسوعة الشاملة (27/ 1057).
(2) العلاقات الدولية في عصر الحروب الصليبية (2/ 268).
(3) المصدر نفسه (2/ 268).(1/441)
سابعاًً: تحليل شخصيتي الملك الكامل والإمبراطور فردريك الثاني:
واختلفت الآراء في تحليل شخصيتي الملك الكامل والإمبراطور فردريك الثاني وأثرهما في تسليم بيت المقدس، فقد ذكر الشيال أن الملك الكامل والإمبراطور فردريك شخصيتهما وثقافتهما يجسدان صورة واحدة تختلف عن العصر الذي عاشا فيه، فغلبت عليهما شخصيه، فالملك الكامل صورة شرقية من الإمبراطور، إن لم يكن الإمبراطور صورة غربية من الملك الكامل (1)، فيما شبه باركر الحملة السادسة بأنها نوع من المساومة الحقيرة تمت بين الأمبراطور فردريك المشهور بحربته الفكرية وميله نحو الشرق وبين الملك الكامل، فهي ذات مظهر دنيوي ودبلوماسي مجرد من الدين (2) وأكد لين بول أن هذه الاتفاقية على الرغم من أن بنودها أثارت استياء المتطرفين في المعسكرين الإسلامي والمسيحي إلا أن مراعاة بنودها تجعل الملك الكامل يستفيد أكثر مما يخسر، فالأرض التي ضحى بها لم تكن ذات قيمة كبيرة، أنه تمكن من الإبقاء على الأماكن المقدسة في القدس للمسلمين، بينما كانت فوائد تعهد الإمبراطور بالدفاع عن الملك الكامل مدهشة وكبيرة (3)، ومع كل موجات السخط والإنكار التي حدثت فقد تمت السيطرة عليها بمرور الأيام ووافقت جميع الأطراف عليها من تصالح الباب مع الإمبراطور عام 628هـ/1230م، وأخذت الإتفاقية طريقها بوصفها واقعة تاريخية قبل بها الجانبان (4)
__________
(1) دراسات في التاريخ الإسلامي ص 47.
(2) الحروب الصليبية، بارك ص 115.
(3) القدس بين أطماع الصليبيين ص 301.
(4) القدس بين أطماع الصليبيين ص 301 ..(1/442)
وعدت الاتفاقية نقطة تحول في التفكير العالمي، فقد ظهر أنصار يدعون إلى السلام وحل المشكلات عن طريق المفاوضات لا القوة، فالسلام الذي حل بين أصحاب الديانتين الإسلامية والمسيحية جعلهم يسخرون من الحروب التي دارت بين الطرفين، والشاهد على ذلك ما قاله سفير الإمبراطور للبابا في مدينة ليون في القدس وعلى مشهد من العالم اثبتت سياسة فردريك أن صداقة الأمراء العرب وفرت كثيراً من إراقة الدماء المسيحية (1).
__________
(1) المصدر نفسه ص 301.(1/443)
ثامناًً: القدس بعد المعاهدة ونتائج الحملة السادسة:
لم يتعرض أحد من مؤرَّخي الإسلام المعاصرين للمعاهدة، لتطبيق الفرنج لبُنودها التزاماً، أو مخالفة وربما كان ذلك تجنباً، كُلَّيَّاً لذكر المعاهدة، لعدم إزعاج الكامل أو أبنائه من بعده وأمّا مؤرَّخو الفرنجة، فقد تضاربت أقوالهم فقد روى بعضهم أن الفرنجة أعادوا المدينة، وأحاطوا الأسوار بالخنادق ورمَّموا شرفات الأبراج، وكذلك عمَّروا جميع المدن والقلاع (1) وجاء في رواية أخرى ما يناقض ذلك تماماً، يقول متىَّ باريس: إن سكان عكاَّ خائفون تماماً ومحصورون ضمن مدينتهم مع نقص المؤن، لأن فريدريك أصبح مطرقة رعب الكنيسة ولم يعد يسمح بأيَّ مُؤن أو قوَّات عسكرية أن تنقل إلى عكَّا .. عسقلان محاصرة، وبالكاد تُدافع عن نفسها، وأصبحت الحُصُون الصَّليبية سُجُوناً لأهلها، وليست أماكن للحماية (2) وبغضَّ النظر عن ما يكتبه مؤيَدو فريدريك، أو ما يكتبه معارضوه، فإنَّنا نستنتج أن وضع الفرنج في فلسطين أصبح أكثر سوءاً بعد المعاهدة، فانقسام الولاء بين البابا والإمبراطور صاحب المملكة، ومنع الطوائف الدينية من فرض هيمنتها، وتوقف الدعم البابوي، كل ذلك أدَّى - بلا شكَّ - إلى زعزعة الوجود الفرنجي في فلسطين، الذي هو ضعيف أصلاً منذ معركة حطين، والذي منع اجتثاث هذا الوجود هو ضعف السَّلطنة الأيوبيَّة، والتفات ملوك الأيوبَّيين إلى خلافاتهم ويبدو أن السياسة الأيُّوبية كانت ترى ترك الفرنج بحالهم ما أمكن، رُبمَّا لاعتبارهم أصبحوا لا يُشكَّلون أيَّ خطر حقيقي على الأيُّوبيَّين (3)
__________
(1) الموسوعة الشاملة (45/ 898) العلاقات الدولية (2/ 315).
(2) المصدر نفسه (48/ 892) العلاقات الدولية (2/ 315).
(3) العلاقات الدولية (2/ 316) ..(1/444)
وتعد حملة فريدريك الحملة السادسة من الحملات الفرنجية على الشرق الإسلامي، من أغرب الحملات وأكثرها إثارة للجدل في مجراها وفي نتائجها، فمن حيث الواقع كان قائد الحملة فريدريك في أسوأ وضع عرفه قائد يقدم على معركة، فقد أبحر نحو الشرق محروماً من الكنيسة وما كاد يبتعد حتى هاجم جنود البابا ممتلكاته الإيطالية ولما وصل فلسطين: وجد قدراً ضئيلاً من الطاعة وقدراً كبيراً من الإهانة، وتعرَّض لتآمر فرنج سُورية عليه، فقد عرضوا على السلطان الكامل تسليمه إليه في المعركة، وأمّا لدى المسلمين، فقد وجد أن السلطان الكامل الذي استدعاه ووعده بالقُدس، قد استغنى عنه فالخطر قد زال عن مملكته بوفاة أخيه المعظم، لذلك أصبح قُدُوم فريدريك عبثاً عليه، فحاول التملصُّ من وعده (1)، ولكنَّ فريدريك أثبت أنه سياسي محنّك ومفاوض جيد، فقد حصل من الملك الكامل، مهما كانت الظروف أو الأسباب على القُدس، ووقع مع اتَّفاقية عام 626هـ/1229م وكان فيها ما هو أهمَّ أسباب نجاح فريدريك كانت تكمن في شخصيته الفريدة التي قرَّبته كثيراً إلى المسلمين، الذين كانوا يُكنُّون له كل احترام، حتى إنهَّم اعتقدوا أنه أميل للإسلام (2) لقد بهرت شخصية فريدريك المسلمين وسُلطانهم الكامل لأنَّهم وجدوا فيه العلم وسعة الأفق والتحرُّر من سيطرة الكنيسة (3) كما اعتقدوا أنه تغلب عليه روح التسامح والاحترام تجاه كل الأديان (4).
__________
(1) المصدر نفسه (2/ 316).
(2) المصدر نفسه (2/ 316).
(3) المصدر نفسه (2/ 316).
(4) المصدر نفسه (2/ 316).(1/445)
تاسعاً: سياسة فريدريك تجاه مسلمي صقلية:
ربما كان التناقض هو السمة الأوضح في شخصية هذا الإمبراطور الأُعجُوبة فالإمبراطور الذي أقام أوثق العلاقات مع المسلمين في الشرق، وحالفهم وحالفوه، كان له تصرف آخر مع مسلمي صقلية أيضاً؛ فيه من التناقض الشيء الكبير، فهو الذي وصف بالتسامح الدَّيني في الشرق وعد أميل للإسلام، ويؤثر القرآن على الإنجيل (1)، ويستقدم علماء المسلمين ويستفيد من علمهم (2)، ولكن ما وجه الحقيقة في كلَّ ذلك؟ كانت هذه النظرة إلى فريدريك من قِبل مؤرَّخي المسلمين لخلافة مع البابا، دون أن يعرفوا حقيقة معتقده، ومع أن فريدريك كان يعتمد في قصره على حاشية المسلمين، لكنهم كانوا للخدمات فقط، وهي عادة جرى عليها ملوك صقلية منذ عهد ملوك النورمان وفريدريك متبع لهم في صقلية لم يأت بجديد (3)، فماذا فعل الإمبراطور الألماني فريدريك عندما تولىَّ عرش صقلية بالمسلمين فيها؟ ففي عام 627هـ/1230م، كانت قد اشتهرت علاقة الملك الكامل بفريدريك بعد تسليم القدس، وكان الملك الكامل في حرّان، فوصل إليها فيها: شخص يُقال له أحمد بن أبي القاسم المعروف بالرّمان من جزيرة صقلية، من أهل مشائخ من جبال صقلية والجزيرة كلها بيد الإمبراطور إلا هذه الجبال (4)، وسبب وصوله أن الإمبراطور غدر بأهل الجبال هناك، وذكر الحاج أنه أخذ إلى البَّر الكبير، أي بلاد إيطالية، مائة ألف وسبعون ألفاً أخرجهم من أوطانهم، وأخذ أموالهم، وقتل من الشُّطار مثلهم، وخلت هذه الجبال وطلب المسلم الصقلي من الكامل التوسط لدى الإمبراطور ليردَّهم إلى أوطانهم أو يمُكنهم من الخروج إلى مصر، فكتب له الكامل كتاباً إلى الإمبراطور (5) وكانت النتيجة لا شيء (6)،
__________
(1) العلاقات الدولية (2/ 321).
(2) عقد الجمان (1/ 290) العلاقات الدولية (2/ 321).
(3) العلاقات الدولية (2/ 321).
(4) المصدر نفسه (2/ 322).
(5) المصدر نفسه (2/ 323).
(6) المصدر نفسه (2/ 323) ..(1/446)
فقد أنهى فريدريك قضيَّة المسلمين في صقلية إلى الأبد، إذ نفاهم إلى منطقة لُوسيرا في إيطالية الجنوبية حيث حوصروا من قِبل المسيحيين من كل الجهات وكان مصيرهم الهلاك (1).
عاشراًً: هل الملك الكامل رجل سياسة قدير سبق عصره؟ وهل كان محقاً في فكرة تدويل القدس في ذلك العصر؟
إن المؤرخين تباينت وجهات نظرهم تجاه ذلك الاتفاق، وبصفة عامة؛ فإن الأغلبية عارضته بشدة، غير أن هناك من أيده على اعتبار أن الكامل الأيوبي - أمام الأخطار المتعددة التي واجهته، أيوبية، وخوارزمية، وصليبية، - رأى أن يقدم بيت المقدس للصليبيين دونما أسوار، حتى يحتفظ بمصر وهي قلب الدولة بعيدة عن الخطر، على اعتبار أن بإمكانه متى شاء استردادها، وعند أصحاب ذلك التوجه فإن الكامل الأيوبي رجل سياسة قدير سبق عصره وأظهر تسامحاً في عصر التعصب، بل أنه اتجه إلى فكرة تدويل القدس في ذلك العصر (2) ويجدر بنا أن نلاحظ ملاحظات مهمة ويمكن إجمالها في النقاط الآتية:
__________
(1) المصدر نفسه (2/ 323).
(2) الحروب الصليبية العلاقات بين الشرق والغرب ص 293.(1/447)
1 - من الجلي البين؛ أن الكامل الأيوبي لم تتوافر لديه الحنكة السياسية التي تجعله نداً للسياسي الألماني فردريك الثاني، لقد تغير الوضع السياسي بالنسبة للكامل عقب وفاة المعظم عيسى، ولم يكن هناك مبرر لتنفيذ ذلك الوعد المتسرع والمتهور الذي قطعه على نفسه بتقديم القدس للإمبراطور الألماني طالما لم يساعده في مواجهة خصومه من البيت الأيوبي أساساً، وقد أشار إلى تلك الحقيقة، الدكتور سعيد عاشور في معرض تناوله لذلك الاتفاق (1) والدليل على عدم حنكة الكامل الأيوبي، أن أبسط قواعد اللعبة السياسية في أية مفاوضات، ألا يقوم طرف من الأطراف باللعب بكافة أوراق مباشرة دفعة واحدة، بل يحتفظ بها ويتعامل بصورة جزئية وفق مقتضيات الحال (2)، ومن الواضح أن الكامل لعب بكافة الأوراق دفعة واحدة وبصورة غير مسبوقة، أما الإمبراطور فردريك الثاني فكان على درجة عالية من الذكاء. وقد عبَر أحد المؤرخين تعبيراً صادقاً على الموقف قائلاً: إن الإمبراطور فردريك كان داهية إلى الحد الذي يستطيع به أن يحقق الكثير بالأسلوب الدبلوماسي (3) من خلال صداقاته.
__________
(1) مصر والشام والصليبيون ص 907.
(2) الحروب الصليبية العلاقات بين الشرق والغرب ص 294.
(3) المصدر نفسه ص 294 العلاقات السياسية عادل عبد الحفيظ ص 290.(1/448)
2 - عندما ننظر إلى عصر صلاح الدين الأيوبي، ولم يكن مر على اتفاقية صلح الرملة 1192م/588هـ، واتفاقية يافا 1229م/627هـ سوى سبعة وثلاثين سنة، نجد أن صلاح الدين الأيوبي يحارب الصليبيين بشراسة ولا يفرط بالقدس أبداً، وتعليل ذلك واضح وهي أن لها مكانتها الدينية، كما أنها رمز لقضية الجهاد أضف إلى ذلك أنه رأى أنه ليس من حقه كقائد لحركة الجهاد حينذاك أن يقدم القدس للصليبيين ويلاحظ هنا أن وضعه القتالي كان أصعب بمراحل إذا ما قارناه مع الكامل الأيوبي ويكفي أنه على مدى الأعوام 1187م/583هـ/إلى 1192م/588هـ لم يتوقف عن الصراع مع الصليبيين ومن أمثلته معركة عكا المريرة على مدى عامين كاملين، ورفض تماماً أن يحصل الصليبيون على القدس، ودل ذلك على الحنكة السياسية الحقيقية والبطولة الصادقة، وهكذا فإن الجيل الذي استشهد رجاله من أجل عودة المدينة المقدسة للمسلمين، لم يفكر للحظة في التفريط فيها، أما الجيل الذي وجد نفسه أمام المدينة المذكورة دونما مشقة فلم تكن تعنيه في قليل أو كثير، وكان من السهل عليه أن يقدمها للصليبيين دون عناء (1).
3 - توافرت لدى الكامل الأيوبي النية لتقديم القدس على طبق من ذهب للصليبيين من قبل مقدم فردريك الثاني، ولا أدل على ذلك ما حدث خلال الصليبية الخامسة، وقد كرر عرضه على الصليبيين عدة مرات، على نحو عكس عدم حنكته السياسية وأنه لم يكن لديه القدرة على التعامل مع الصليبيين سياسياً، وكل مديح توافر لدى المصادر التاريخية العربية لذلك السلطان الأيوبي ربما يكون صادقاً على صعيد السياسة الداخلية وما أحدثه من مشاريع حضارية واستتباب الأمن إلا أن السياسة الخارجية والتعامل مع الصليبيين جعلته لا يحظى بتقدير المؤرخ المنصف. (2)
__________
(1) الحروب الصليبية العلاقات بين الشرق والغرب ص 294.
(2) المصدر نفسه ص 295.(1/449)
4 - قد يتم الاحتجاج بأن فتوى دينية قدمها أحد الفقهاء وهو القاضي ابن أبي الدم الحموي (ت 1244م/642هـ) عكست أن هناك من أيد تلك الاتفاقية من خلال أحكام الإمام الشافعي التي وردت في كتابه الشهير "الأم" غير أنه مع تقديري الوافر لأصحاب ذلك التوجه إلا أن من المهم ملاحظة أن فقهاء السلطان في بعض الأحيان كانوا نكبة على المسلمين عندما برروا لقادتهم تصرفاتهم ولم يعارضوهم، والاحتجاج هنا بابن أبي الدم وما أورده في مخطوطة التاريخ المظفري مردود على اعتبار أنه ألف تاريخه في عهد السلطان الكامل، ومنطقي أنه تحول ليكون بوقاً دعائياً لذلك السلطان، كما أنه عاش في كنف ابن أخت ذلك السلطان وزوج ابنته وهو الملك المظفر صاحب حماة، ويعبر أحد المؤرخين عن ذلك الموقف قائلاً: يجدر بنا التحذير بعدم أخذ رواياته عن بني أيوب على علاتها حتى لا تضلل الدارس (1)، وينبغي ألا تغفل الرأي الآخر، الذي وجد حتى في عصر الكامل غير أنه قمعه في قسوة، ومثال ذلك أن أحد قادة جيشه ويدعى سيف الدين ابن أبي زكرى حيث حذره من التفريط في بيت المقدس وحقوق المسلمين، وطالب بمحاربة صديقه الألماني ومن ذلك قوله: ابعد دمشق على ابن أخيك الملك الناصر، وأطلبه وأطلب أخاك الملك الأشرف وعسكر حلب ونقاتل هذا العدو فإما لنا وإما علينا، ولا يقال عن السلطان أنه أعطى الفرنج القدس (2)، وعلى الرغم من تلك النصيحة الصادقة التي حفظها التاريخ لابن أبي زكرى إلا أن الكامل اعتقله وأرسله إلى مصر حيث سجن هناك (3)،
__________
(1) بلاد الشام قبيل الغزو المغولي للغامدي ص 268.
(2) بلاد الشام قبيل الغزو المغولي ص 269.
(3) الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة ص 224 الحروب الصليبية العلاقات بين الشرق والغرب ص 296 ..(1/450)
ومن المهم أن نذكر هنا أن ذلك القائد العسكري الذي عارض سلطانه اقترح عليه الحل العسكري، وهي فكرة تدل على أن ذلك ممكناً لأنه وبالبداهة - لو لم يكن ممكناً لما عرضه ذلك القائد الذي تتصور أن له خبرة قتالية يعتد بها بدليل وصوله إلى أن يكون أحد القادة العسكريين للكامل، وتصوره كان منطقياً من خلال قلة قوات فردريك الثاني، غير أن السلطان الذي عشق التفريط، واستمتع بالتنازلات، رأى رؤيته التي عارضتها الجماهير الحاشدة، ومن غير المنطقي، تصور أن كافة تلك الجماهير الغفيرة التي عارضته كان يحركها الناصر داود عدو الكامل الأيوبي، حقيقة أنه شيء ضد قراره ما يوصف بحملة إعلامية (1)، عنيفة، غير أنه كان محقاً تماماً في ذلك، لأن اتفاق يافا كان يحتوى على التنازل عن تلك المدينة المقدسة، ومساحات شاسعة أخرى تعطى للغزاة ولم يكن من الممكن الوقوف دون أن يحرك ساكناً على ما أقدم عليه الكامل الأيوبي.
__________
(1) الحروب الصليبية العلاقات بين الشرق والغرب ص 296.(1/451)
5 - من زاوية أخرى نعارض الخلط بين التسامح والتفريط، فمن حق الكامل الأيوبي، أن يتسامح مع الصليبيين بأن يسمح لهم بالحج إلى المحارم المسيحية المقدسة في أمن وأمان كاملين، أما أن يقدم لهم القدس على اعتبار أنها بلا أسوار، وأنه متى أراد استرجاعها تمكن من ذلك فهو أمر لا يدخل ضمن باب التسامح بل في غير موضعه يظهر التهاون الذي لا مبرر له ويلاحظ هنا أن السلطان الأيوبي صلاح الدين تسامح مع الصليبيين ولم يفرط، فقد جنبهم الفتك بهم عندما دخل القدس فاتحاً في أعقاب حطين 1187م/583هـ وسمح لهم في أعقاب صلح الرملة 1192م/558هـ بالحج، غير أنه في مواقف أخرى كان حازماً صارماً لأن الأمر احتاج منه ذلك، وحادثة فرسان الاسبتارية والداوية والفتك بهم عقب حطين أمر مؤكد، وخير دليل على أن تسامحه الواعي كانت له حدود، وهكذا لم يفرط السلطان العظيم مؤسس الدولة الأيوبية وإنما كان تكفل بذلك خير قيام وعلى نحو كامل (1).
__________
(1) الحروب الصليبية العلاقات بين الشرق ص 297.(1/452)
6 - إن ما يمكن تصوره من أن الكامل اتجه إلى وجهة خاصة بتدويل القدس، وأن الفكرة اتجه إليها السلطان صلاح الدين الأيوبي من قبل عندما وافق على مشروع زواج العادل أبو بكر من جوانا شقيقة ريتشارد الأول قلب الأسد، فيه الكثير من تحميل الأمور أكثر مما تحتمل، لقد كان مشروع الزواج المذكور الذي تضمن أن يحكم الزوجان القدس مناصفة حماية للسلام وتجنباً للحرب، كان مشروعاً مخفقاً من البداية، لعدم معقوليته بالنسبة للصليبيين، ومن المتصور أنه كان مجرد مناورة من جانب الملك الإنجليزي كي يكسب بها الوقت لا أكثر ولا أقل، وهو أمر لم يغب عن فطنة القيادة الأيوبية ولم يكن صلاح الدين الأيوبي يفكر في تدويل القدس، إن الفكرة الأخيرة فكرة حديثة للغاية من خلال الصراع العربي الصهيوني وتقديم مقترحات بتدويل القدس، وهكذا فمن الممكن القول أن تلك الفكرة لم يكن لها سابقة تاريخية في عصر الحروب وقد اعتقد المسلمون تماماً، وما زالوا - أن القدس عربية إسلامية وأنها عاشت في كنف الإسلام خمسة قرون كاملة، وتمتع غير المسلمين فيها - بصفة عامة - بالتسامح الديني الذي عجز عنه الصليبيون أنفسهم عندما قدموا إلى المنطقة، وهكذا، فلم يكن أمر "التدويل" قائماً حينذاك، وكيف يفكر السلطان الأيوبي صلاح الدين في ذلك الأمر وهو الذي استعادها بقوة السلاح وهزم الصليبيين في حطين؟ من قبل أن يفكر في التدويل من المؤكد أنه لا يستند إلى قوة عسكرية تدعم موقفه، وهكذا ظل ما فعله الكامل نسخة وحيدة للهوان لم تحدث قبل عصره، ولم تتكّرر من بعده لتكون الحادثة نفسها دليل إدانة في حد ذاتها (1).
__________
(1) المصدر نفسه ص 297.(1/453)
7 - كان من الممكن أن نجد بعض - لا كل - العذر للكامل في حالة مواجهته لقوات ضخمة مرافقة للإمبراطور فردريك الثاني، وعجز إمكانات الأيوبيين الحربية حينذاك، ومن ثم يفكر مثل ذلك التفكير، غير أن فردريك قدم ومعه خمسمائة فارس إلى حد تصور معه بعض المؤرخين أنه قدم في نزهة إلى المنطقة وبديهي أن ذلك العدد الضئيل كان من الممكن لذلك السلطان أن يستغل نقطعة الضعف التي لذلك الإمبراطور في صورة قوته العسكرية ومحدوديتها، ناهيك عن إنه يقاتل على أرض أجنبية وأن الأيوبيين يقاتلون على أرضهم، وملعون من البابا كان من الممكن الاستفادة من كل ذلك لصالح المسلمين ولصالح عدم التفريط فيما لا يفرط فيه، وبدلاً من ذلك وجدناه يقبل التوقيع على اتفاق مهين مثل اتفاقية يافا 1229م/627هـ (1).
8 - أتصور أن من غير المنطقي الأخذ بتأييد عدد قليل من الفقهاء الرسميين، وإغفال البعد الشعبي الجماهيري الذي صنع تاريخ حركة الجهاد الإسلامي في ذلك العصر، إذ أن الجماهير كانت تقف بجوار القائد الذي يعبر عن آمالها وآلامها في مواجهة الغزاة وهو ما وجدناه مع صلاح الدين الأيوبي وأما في حالة الكامل؛ فقد رفضته الجماهير الصادقة الشعور والتعبير، لأنها أدركت أن تضحياتها التي بذلتها على مدى العقود السابقة تذهب أدراج الرياح على يد السلطان الكامل الذي انتزع منه ثعلب الدبلوماسية الألمانية فردريك الثاني نصراً عزيزاً يندر مثاله دون أن يخسر شيئاً من رجاله.
__________
(1) الحروب الصليبية العلاقات بين الشرق والغرب ص 298.(1/454)
9 - من الملاحظ أن هناك اتجاهاً يتحدث عن "التسامح الأيوبي" لينطلق من ذلك إلى تصوير سلوك الكامل الأيوبي على أنه جاء من خلال تلك الزاوية التسامحية، إذا جاز التعبير ومع ذلك، غير أن هناك ناحية على جانبها من الأهمية وتتمثل في طرح تساؤل وهو: لماذا يطلب من المسلمين ذلك؟ وإذا كان ذلك هو حال المسلمين حينذاك فماذا قدم الصليبيون ليكون دليلاً على أن هناك تسامحاً متبادلاً؟ والإجابة هي لا شيء لأن تاريخهم مع المسلمين على مدى أعوام طويلة مضت معارك، ومذابح، ورغبة جارفة من جانبهم في امتلاك الأرض بأي ثمن، وفرض سيادتهم السياسية عليها، وأخلص من ذلك إلى أن التسامح الغير مدروس جيداً ضمن الرؤية السياسية العامة؛ لا يعد تسامحاً، بل تهاوناً بالغاً وتنازلاً أبلغ (1).
__________
(1) المصدر نفسه ص 298.(1/455)
10 - قد يتصور البعض أن ما أقدم عليه الكامل الأيوبي في اتفاقية يافا عام 1229م/627هـ، وتقديمه القدس له على هذا النحو قد تم استرداده عام 1244م/642هـ وعندما دخل الخوارزميون المدينة المقدسة وقضوا على السيادة الصليبية بها، غير أن الأمر بذلك يكون من قبيل "تهوين" ما أقدم عليه الكامل، إذ أنه أقدم على ذلك عام 1229م/627هـ ولم يكن المعاصرون الذين رفضوا في غالبيتهم الغالبة هذا الموقف يدركون إلا ضياع رمز الجهاد الإسلامي في عصر الصليبيات في صورة تلك المدينة المقدسة على نحو خاص، ولم يكن أحد قط - وهو أمر بديهي - يدرك أنه سيتم استردادها لصالح المسلمين بعد ذلك بخمسة عشر عاماً، ومن ناحية أخرى؛ علينا ألا نجمل أخطاء حكام المسلمين السابقين فها هو خطأ قتَّال صحيح بعد خمسة عشرة عاماً، مع ملاحظة أن الذي يدفع الثمن دائماً الشعوب التي يخذلها حكامها أحياناً جرياً وراء ديكتاتورية ترى أنها على حق، وأن الحشود الحاشدة المعاصرين لا يستحقون أن يلتفت إلى تصورهم على الرغم من أنهم المشاركون الفعليون في صنع تلك المرحلة (1).
__________
(1) الحروب الصليبية العلاقات بين الشرق والغرب ص 299.(1/456)
11 - في واقع الأمر؛ أن قضية الكامل الأيوبي واتفاقه المذكور مع فردريك الثاني، يعكس لنا الفجوة الكامنة بين الأجيال الأيوبية ورؤيتها للتعامل مع الوجود الصليبي في بلاد الشام وتحالفه الاستراتيجي مع الغرب الأوروبي، ومن الممكن تصور الأمر كالآتي، جهاد، سياسة دفاعية، تنازل وهو ترتيب متفق مع عهود كل من صلاح الدين الأيوبي، ثم العادل، ومن بعده الكامل وأتصور أن جذور القضية بدأت مع السياسة الدفاعية للعادل والطرح المتعدد المرات لتقديم القدس للصليبيين حتى خلال الحملة الصليبية الخامسة، وصولاً إلى أحداث عام 1229م/627هـ على نحو عكسي لنا سبق الإصرار والترصد من جانب الكامل في بيع القدس على هذا النحو المزري والتباين الحاد في السياسة الأيوبية من خلال تباين تلك الأجيال، ومن الواضح أن الجيل الذي قدم التنازلات لم يقدر جيل التضحيات والجهاد البارز ضد الصليبيين، وهكذا ففجوة الأجيال الأيوبية تلك تمثل واقعاً تاريخياً وليس من الممكن إنكاره بمثل تلك الصورة من شأنه ابعادنا (1) عن قلب الحقيقة التاريخية، مع تقديري الكامل لكل الآراء المخالفة.
__________
(1) المصدر نفسه ص 299.(1/457)
12 - في الواقع أتصور أن المؤرخين الأوروبيين من متى الباريسي حتى كانتروتز، لهم تصوراتهم في تقويم فردريك الثاني على أنه أعجوبة العالم وأنه سبق عصره، ولديهم مبرراتهم من وجهة نظرهم في ذلك التقويم، أما الكامل الأيوبي، فلم يكن سابقاً على عصره في شيء، بل كان متخلفاً بمراحل عن ذلك العصر بدليل ظاهرة "النكوص" التي ظهرت بجلاء في اتفاقية 1229م/627هـ وفي حالة كونه سابقاً لعصره بالفعل لأقدم على ما فيه صالح أمته، وهو أمر كان يتأتى بالحفاظ على ما حققه الجيل الأيوبي الأول والتقويم الختامي لذلك السلطان أنه كان محباً للعلم والعلماء (1)، وضل طريق العلم واتجه إلى عالم السياسة، ولم يكن بالسياسي الداهية، أو الحصيف، كما لم يكن بالعسكري القدير إلا في أضيق نطاق، أما وصف ابن واصل له بأنه خافته ملوك الأرض قاطبةً (2)، فهو من قبيل الدعاية السياسية الخرقاء، والمتصور أنه اقتحم عالم السياسية ولم تكن له مؤهلات لذلك وقد ظهر ذلك جلياً خاصة عندما تعامل مع أحد كبار عصره في أوروبا في صورة فردريك الثاني (3).
__________
(1) الحروب الصليبية العلاقات بين الشرق والغرب ص 300.
(2) المصدر نفسه ص 300.
(3) المصدر نفسه ص 300.(1/458)
13 - ليس هنا مقام عرض كافة الآراء التي أوردها قطاع بارز من المؤرخين المسلمين المحدثين بشأن اتفاقية يافا، وأكتفى هنا إلى جانب ما أوردته من قبل عن رأى العلامة سعيد عاشور من قبل - بأن أذكر (1) ما أورده المؤرخان أحمد رمضان وقاسم عبده وهما من المختصين في عالم الحروب الصليبية يقول أحمد رمضان عاشور: فرط الكامل وبدون قتال ولا هزيمة ودون إراقة قطرة دم واحدة في مناطق لا يحق له أن يدعي أنها ملكاً له بل هي ملكاً للمسلمين جميعاً أراقوا فيها دماءهم تحت راية عمه صلاح الدين الأيوبي في حطين وبعدها في معارك يشهد الله على عنفها وضروراتها ومهما أدعى الكامل من أسباب دعته إلى قبول الصلح في يافا سنة 1229م إلا أنها أسباباً شخصية لا علاقة لها بالإسلام والمسلمين وبدل أن يرفع راية الجهاد بعد صلاح الدين يأتي برفع راية الاستسلام في قبوله هذه المعاهدة (2).
وأما قاسم عبده قاسم، فأورد مانصه: أما العالم الإسلامي فقد رأى - بحق أن الهدنة التي عقدها الكامل الأيوبي كارثة حقيقية، وكان رد الفعل الشعبي عنيفاً ضد السلطان الذي بعث سفراءه إلى كل مكان لتبرير فعلته، وقد علق ابن الأثير على ذلك بقوله: واستعظم المسلمون ذلك وأكبروه، ووجدوا له من الوهن والتألم ما لا يمكن وصفه، يسر الله، فتحه وعوده إلى المسلمين بمنه وكرمه (3).
__________
(1) الذاكر هو الدكتور محمد مؤنس عوض المصدر نفسه ص 300.
(2) العلاقة بين الشرق والغرب ص 179.
(3) الحروب الصليبية العلاقات بين الشرق والغرب ص 301.(1/459)
وفي حقيقة الأمر أن النتيجة الكبرى، التي تمخضت عنها تمثلت في عودة بيت المقدس للصليبيين دون إراقة الدماء ومن خلال حملة صليبية عجيبة خرجت ولعنات البابا تلاحق زعيمها فردريك الثاني، وإذا كانت قد حققت ذلك الهدف الكبير إلا أنها - من ناحية أخرى - تمكنت من زرع بذور الإنشقاق والاختلاف بين المسلمين بشأن اتفاقية يافا 1229م 627هـ المثيرة لأكبر قدرة من الجدل بين المعاصرين وحتى المتأخرين ومن زاوية أخرى؛ نجد أن تلك الحملة جعلت لألمانيا موقعها الجديد الفعال على خريطة القوى السياسية الأوروبية المشاركة في المشروع الصليبي، ويلاحظ أننا بذلك لدينا ثلاثة أباطرة من الألمان شاركوا في ذلك المشروع منذ بدايته، فهناك كونراد الثالث الذي شارك في الصليبية الثانية، ثم فردريك بارباروسا الذي شارك في الثالثة أما فردريك الثاني فحقق إنتصاراً كبيراً عجز عن تحقيقه من قبل ملك فرنسا فيليب أغسطس، وملك انجلترا ريتشارد الأول قلب الأسد، وبذلك تدعم النفوذ الألماني شرق البحر المتوسط حيث رأى أنه لا حل لمشكلة الحرمان الكنسي الذي فرضه البابا جريجوري التاسع إلا بالاشتراك في حملة صليبية في بلاد الشام، على نحو عكسي أن السياسة الخارجية الألمانية حينذاك كانت على صلة وثيقة بالسياسة الداخلية وأنهما كانا وجهي عملة واحدة وأن المستقبل السياسي لذلك الإمبراطور الألماني لم يكن في ألمانيا ذاتها؛ بل في بلاد الشام ذاتها وكذلك نتج عن تلك الحروب الصليبية أن اتضح لنا أن البابوية جعلت من القدس لعبة سياسية، فهي، لا تقبل عودتها على يد رجل فرض عليه الحرمان الكنسي بل لابد من أن يكون ذلك من خلال رجل أداءه طيعة في يدها على نحو أوضح لنا الدور السياسي الذي لعبته البابوية التي كانت تتباكى من قبل على ضياع تلك المدينة المقدسة في أيدي المسلمين، وها هي الآن تضع العراقيل لتحول دون عودتها للمسيحيين. (1)
__________
(1) الحروب الصليبية العلاقات بين الشرق والغرب ص 301 ..(1/460)
الحادي عشرً: استمرار العلاقة بين الملك الكامل والإمبراطور فردريك:
لم تتوقف الصلة بين الملك الكامل والإمبراطور، بل استمرت الرسل تتردد بين الطرفين، فبعد عودة الإمبراطور إلى بلاده أرسل رسالة إلى فخر الدين يبين له فيها شوقه إليه (1)، ويدعو له بالخير ودوام حكم الملك الكامل، ويشكو له ما فعله البابا (2) وبينما كان الملك الكامل بالجزيرة عام 627هـ/1230م وصله رسول الإمبراطور فردريك الثاني، ورسالة إلى فخر الدين بن شيخ الشيوخ (3)، يبلغه أخبار بلاده، وخلافه مع البابا واستمرت العلاقة قائمة بين الإمبراطور فردريك وأبنا الملك الكامل بعد وفاته (4)، وقد تعدّت العلاقة بين الطرفين التحالف السياسي إلى حَدَّ التبادل الفكري والثقافي والتمازج الحضاري، الذي كان أباطرة الدولة المقدسة مهيَّئين له بسبب تواجدهم في صقلية التي كانت مرجل تفاعل حضارات المتوسط (5).
__________
(1) القدس بين أطماع الصليبيين وتفريط الملك الكامل ص 304.
(2) المصدر نفسه ص 304.
(3) المصدر نفسه ص 304.
(4) المصدر نفسه ص 305.
(5) العلاقات الدولية (2/ 317).(1/461)
الثاني عشر: حروب الملك الكامل بعد انتهاء الحملة الصليبية السادسة:
- هيأت معاهدة يافا مع الصليبيين الملك الكامل كي يتفرغ لتصفية الخلافات الداخلية في الدولة الأيوبية، وقرر الزحف على دمشق لمحاربة ابن أخيه الملك الناصر داود فوصل إلى ظاهرها في جمادي الأولى سنة 626هـ/1229م، وكان أخوه الملك الأشرف يحاصرها، فاتفق معه على تضييق الخناق على المدينة، وقطع عنها نهري بانياس والقنوات، ورغم ذلك أهل دمشق يخرجون كل يوم ويقاتلون أشد قتال، وطالت فترة الحصار إلى شهر رجب سنة 626هـ/1229م فاشتد ذلك على أهل دمشق لإقبال الصيف، وغلاء الأسعار، كما نفذت أموال الملك الناصر داود فتخلى عنه جماعة من الأمراء والعساكر وانضموا إلى الكامل والأشرف لأنه لم يدفع لهم من المال ما يكفي لدفع نفقاتهم (1)، واضطر الملك الناصر إلى ضرب أوانية من الذهب والفضة دنانير ودراهم، وفرقها على الباقي من جيشه حتى أتى على أكثر ما عنده من الذخائر، فرأى الملك الناصر أن العناد ليس من مصلحته والأصلح الخروج إلى عمه الملك الكامل فخرج ليلاً من قلعة دمشق في أواخر رجب سنة 626هـ/حزيران 1229م في نفر يسير من أصحابه وألقى نفسه على باب مخيم الكامل معلنا خضوعه وإذعانه، فلما بلغ الكامل مجيئه، خرج إليه وتلقاه وأكرمه إكراماً كبيراً وتحدث معه وباسطة وطيب خاطره بعد أن عاتبه عتاباً كبيراً، ثم أمره بالرجوع إلى قلعة دمشق فعاد إليها (2)،
__________
(1) موسوعة تاريخ مصر (2/ 658) أحمد حسين.
(2) الدولة الأيوبية، د. عرب دعكور ص 218 ..(1/462)
ثم تقرر عقد اتفاق جديدين الكامل وابن أخيه داود، وترتب عليه أن اتسعت أملاك ملك مصر، فأخذ الأشرف إمارة دمشق، أما الناصر داود فعوضه الكامل بالكرك والشوبك وأعمالههما، والصلت والبلغاء والأغوار جميعها، ونابلس وبيت المقدس وبيت جبريل، واحتفظ الكامل بما تبقى من فلسطين فضلاً عن جهات الجزيرة التي حصل عليها من الأشرف مقابل التنازل عن دمشق، فعين من قبله ولاة على حران والرها والرقة وسروج والأماكن الواقعة بأعالي الفرات، وبلغ من شدة اهتمام الملك الكامل بهذه المناطق أن توجه إليها بنفسه، غير أن الكامل لم يستطع أن يبقى طويلاً بعيداً عن حضرة ملكه، إذ بلغه خبر وفاة ابنه مسعود الذي يحكم اليمن، وبعض الاضطرابات في مصر، فقّرر الكامل العودة إلى مصر ودخلها في رجب سنة 627هـ/1230م (1).
__________
(1) المصدر نفسه ص 218.(1/463)
الثالث عشر: وفاة الطاغية جنكيز خان سنة 624هـ في عهد الملك الكامل:
من الشخصيات العالمية في عهد الملك الكامل والتي كان له تأثير كبير على المجتمع الدولي حينذاك جنكيز خان تحدث عنه ابن كثير فقال: السلطان الأعظم عند التَّتار، والد ملوكِهم اليوم، الذي ينتسبون إليه، من عظَّم القان إنما يُريدُ هذا الملِكَ وهو الذي وضع لهم "الياسَاق" (1) التي يتحاكمون إليها ويحكمون بها، وأكثرهم مخالف لشرائع الله تعالى وكتبه، وإنما هو شيء اقترحه من عند نفسه وتبعوه في ذلك، وقد كانت أمُّه تَزُعمُ أنها حملت به من شُعاع الشمس، فلهذا "لا يعرف له أبٌ، والظاهر أنه مجهول النّسب، وقد رأيت مجلدَّا جمعه الوزير ببغداد علاء الدين الجُوينيُّ في ترجمته فذكر فيه سيرته وما كان يشتمل عليه من العقل السياسي والكرم والشَّجاعة والتّدبير الجيد للملك والرَّعايا والحروب، فذكر أنه كان في ابتداء أمره خصيصاً عند الملك أُزبَك خان وكان إذ ذاك شابَّا حسناً وكان اسمه أولا تمرجي، ثم لما عظُم سمَّي نفسه جنكزخان، وكان هذا الملك قد قرَّبه وأدناه، فحسده عظماءُ الملكِ، ووشَوْا به إليه حتى أخرجوه عليه وهمَّ بقتله، ولم يَجِدْ له طريقاً في ذنب يتسلَّطُ به عليه، فهو في ذلك إذ تَغضَّب الملك على مملوكين صغيرين فهربا منه، ولجأ إلى جنكز خان، فأكرمهما وأحسن إليهما فأخبراه بما يُضمِرُه الملك أُزبَك خان من قتله والهّم به، فأخذ حذره وتحيز بدولة واتبعه طوائف من التتار، وصار كثير من أصحاب أُزبك خان ينفرون إليه، ويَفدِون عليه، فيُكرمهُم ويُعطيهم، حتى قويت شوكته، وكثرت جنوده، ثم حاربَ بعد ذلك أُزبك خان، فظفر به وقتله، واستحوذ على مملكته ومُلكه وانضاف إليه عُدَدُ وَعَددُه، وعظم أمره، وبُعد صيتَه، وخضعت له قبائل الترك ببلاد طمغاج كلَّها، حتى صار يركب في ثمانمائة ألف مقاتل وأكبر القبائل قبيلته التي هو من أصلها يُقال لها: قيات.
__________
(1) البداية والنهاية (17/ 161).(1/464)
ثم أقرب القبائل إليه بعدَهم قبيلتان كبيرتا العدد وهما أويرات وقنقورات (1) ثم نشبت الحرب بينه وبين الملك جلال الدين خُوَارزم شاه صاحب بلاد خُراسان والعراق وأذربيجان وغير ذلك من الأقاليم والممالك، فقهره جنكيزخان وكسره وغلبه، واستحوذ على سائر بلاده هو بنفسه وبأولاده في أيسر مدة وكان ابتداءُ ملك جنكيز خان في سنة تسع وتسعين وخمسمائة وكان قتاله لخوارزم شاه في حدود سنة ستَّ عشرة وستَّمائة ومات خوارزم شاه في سنة سبع عشرة فاستحوذ حينئذ على الممالك بلا منُازع ولا مُمانع، وكانت وفاته في سنة أربع وعشرين وستَّمائة فجعلوه في تابوت من حديد وربطوه بسلاسل وعلقَّوه بين جبلين هنالك وأما كتابه "الياساق" فإنه يُكتب في مجلدين بخطَّ غليظ، ويُحملُ على بعير معظم عندهم، وقد ذكر بعضهم عنه أنه كان يصعد جبلاً، ثم ينزل، ثم يصعد ثم ينزل حتى يعي ويقع مغشياً عليه، ويأمر من عنده أن يكتب ما يُلقى على لسانه حينئذ، فإن كان هذا هكذا فالظاهر أن الشيطان كان ينطق على لسانه بما فيها وذكر الجُويني أن بعض عُبّادهم كان يصعد الجبال في البرد الشديد للعبادة فسمع قائلاً يقول له: إنا قد ملّكنا جنكزخان وذريته وجه الأرض.
__________
(1) البداية والنهاية (17/ 161).(1/465)
قال الجويني فمشايخ المغول يُصدَّقون بهذا، ويأخذونه مسلماً ثم ذكر الجويني شيئاً من الياساق، من ذلك، أنه من زنى قتل محصناً كان أو غير مُحصن، وكذلك من لاط قُتل، ومن تعمَّد الكذب قُتِل، ومن سحر قتل، ومن بال في الماء الواقف قُتل، ومن انغمس فيه قُتل، ومن أطعم أسيراً أو سقاه أو كساه بغير إذن أهله قتل ومن وجد هارباً لم يردَّه قتل، ومن رمى إلى أحد شيئاً من المأكول قتل، بل يناوله من يده إلى يده، ومن أطعم أحداً شيئاً، فليأكل منه أولاً ولو كان المطعم أميراً لأسير، ومن أكل ولم يُطعم من عنده قتل، ومن ذبح حيواناً دُبح مثله، بل يشق، ويتناول قلبه بيده يستخرجه من جوفه أولاً وفي هذا كله مخالفة لشرائع الله المنزَّلة على عباده الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فمن ترك الشرع المحكم المنزَّل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى "الياساق" وقدّمها عليه؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين، قال الله تعالى" أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون "المائدة:50" وقال تعالى "فلا وربك لا يؤمنون حتى يُحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا قضيت ويُسلمَّوا تسليما ... " (النساء: 65) ومن آدابهم الطاعة غاية الاستطاعة، وأن يعرضوا عليه أبكارهم الحسان ليختار لنفسه، ومن شاء من حاشيته ما شاء منهن، ومن شأنهم أن يُخاطبوا الملك باسمه، ومن مّر بقوم يأكلون فله أن يأكل معهم بغير استئذان ولا يتخطىَّ موقِد النار ولا طبق الطعام، ولا يقف على أُسكُفَّةِ الخَرْكاه (1)
__________
(1) البداية والنهاية (17/ 1654) ..(1/466)
ولا يغسلون ثيابهم حتى يبدو وسخُها ولا يكلفَّون العلماء من كلَّ ما ذُكر شيئاً من الجنايات، ولا يتعرَّضون لمال ميت، وقد ذكر علاء الدين الجويني طرَفاً كبيراً من أخبار جنكيزخان ومكارم كان يفعلها لسجيَّته وما أدَّاه إليه عقله، وإن كان مشرِكا بالله يعبد معه غيره، وقد قتل من الخلائق ما لا يعلم عدَدَهم إلا الذي خلقهم، ولكن كان البدَاءة من خوارزم شاه، فإنه لما أرسل جنكيز خان تُجّاراً من جهته معهم بضائع كثيرة من بلاده، فانتهوا إلى إيران، فقتلهم نائبُها من جهة خوارزم شاه، وهو والد زوجته كَشْلى خان، وأخذ جميع ما كان معهم، فأرسل جنكيزخان إلى خوارزم شاه يستعلمه هل وقع هذا الأمر عن رِضاً منه أو أنه لم يعلم به فأنكره، وقال له فيما أرسل إليه: من المعهود من الملوك أن التجار لا يُقتلون؛ لأنهم عمارة الأقاليم، وهم الذين يحملون إلى الملوك التُّحَفَ والأشياءَ النفيسة، ثم إن هؤلاء التجار كانوا على دينك فقتلهم نائبُك، فإن كان أمراً أنكرته، وإلا طلبْنا بدمائهم، فلما سمع خوارزم شاه ذلك من رسول جنكزخان لم يكن جوابه سوى أنه أمر بضرب عنقه، فأساء التدبير، وقد كان خرف وكبرت سنه .. فلما بلغ ذلك جنكز خان تجهزَّ لقتاله وأخذ بلاده، فكان بقدر الله تعالى ما كان من الأمور التي لم يُسمع بأغرب منها ولا أبشع (1)
__________
(1) المصدر نفسه ..(1/467)
وممّا ذكره الجويني عنه أنه قدّم له بعض الفلاَّحين بالصيد ثلاث بطيخات، فلم يتفق أن عند جنكزخان أحداً من الخزندارية فقال لزوجته خاتون: أعطيه هذين القرطين اللذين في أذُنيك وكان فيهما جوهرتان نفيستان جداَّ فشحَّت المرأة بهما وقالت: انظر إلى غيره فإن هذا لا يدري ما هما فقال لها: ادفعيهما إليه فإنهما لا يبيتان هذه الليلة إلا عندك، وهذا الرجل لا يمكننا أن ندعه يذهب عنا مُقلقل الخاطر، وربما لا يحصل له شيء بعد هذا، وإن هذين لا يمكن أن أحداً إذا اشتراهما إلا جاء بهما إليك، فانتزعتهما فدفعتهما إلى الفلاَّح، فطار عقله بهما، وذهب بهما، فباعهما لبعض التُّجار بألف دينار ولم يعرف قِمتها، فحملها التاجرُ إلى الملك، فردّهما على زوجته ثم أنشد الجويني عند ذلك.
ومن قال إن البحر والقطر أشِبها ... نَدَاه فقد أثنى على البحر والقطر(1/468)
قال: واجتاز يومً في سوق، فرأى عند بقَّال عُنَّاباً، فأعجبه لونه ومالت نفسه إليه، فأمر الحاجب أن يشترِىَ منه ببالس، فاشترى الحاجُب منه بربع بالسٍ، فلما وضعه بين يديه أعجبه وقال: هذا كلهُّ ببالس؟ فقال: وبقى منه هذا وأشار إلى ما بقى معه من المال، فغضب وقال متى يجد من يشتري منه مثلي؟ تممَّوا له عشرة بوالس (1). وقيل له: إن في هذا المكان كنزاً عظيماً، فلو فتحته أخذت منه مالاً كثيراً، فقال: الذي في أيدينا يكفينا، ودعوا هذا يفتحه الناس ويأكلونه، فهم أحقُّ به منا. ولم يتعرَّض له (2). قال: واشتهر عن رجل في بلاده أنه يقول: أنا أعرف موضع كنز، ولا أقوله إلا للقان وألحَّ عليه الأمراء أن يعُلمهم - فلم يفعل، فذكروا ذلك للقان فأحضره على خيل الأولاق - يعني البريد - سريعاً، فلما حضر إلى بين يديه سأله عن الكنز فقال: إنما كنت أقول ذلك حيلة لأرى وجهك، فلما رأى تغيُّرَ كلامه غضب وقال له: قد حصل لك ما طلبت فارجع إلى موضِعك، وأمر بردَّه سالماً، ولم يُعطه شيئاً. قال الجويني وهذا غريب. قال: وأهدى له إنسان رُمَّانة فكسرها وفرّق حبَّها على الحاضرين، ثم أمر له بعدد حَبَّها بَوالَس ثم أنشد عند ذلك:
فلذلك تزدحمُ الوفود ببابه ... مثل ازدحام الحبَّ في الرُّمانِ
__________
(1) البداية والنهاية (17/ 167).
(2) المصدر نفسه (17/ 167).(1/469)
قال: وأمر بقتل ثلاثة قد قضت "الياسَقُ" بقتلهم، فإذا امرأة تبكي وتلطم فقال: ما هذه؟ أحضروها. فقالت: هذا ابني، وهذا أخي، وهذا زوجي: فقال: اختاري واحداً منهم حتى أُطْلقه لك. فقالت: الزوج يَجىءُ مثله، والابنُ كذلك، والأخ لا عِوَض له. فاستحسن ذلك منها، وأطلق الثلاثة لها (1). قال: وكان يُحبُّ المصارعين وأهل الشَّطارةِ، وقد اجتمع عنده منهم جماعة، فذُكر له إنسان بخُراسان، فأحضره، فصرع جميع من عنده، فأكرمه وأعطاه، وأطلق له بنتاً من بنات المغول، حسناء، فمكثت عنده مدة لا يتعرَّضُ لها، فاتّفق مجيئهُا زائرة بيتَ القان، فجعل السلطان يُمازحُها، ويقول كيف رأيت المستعرب؟ فذكرت أنه لم يَقربها فتعجبَّب من ذلك وأحضره فسَأله عن ذلك فقال: يا خُوندُ أنا إنما حظيتُ عندك بالشًّطاره، ومتى قرِبتها نقصت منزلتي عندك (2) قال: ولما احتُضر أوصى أولاده بالاتفاق وضرب لهم في ذلك الأمثال، وأحضر بين يديه نُشَّاباً، ويأخذ السهم فيُعطيه الواحد منهم، فيكسُره، ثم أحضر حُزمة أخرى ودفعها مجموعة إليهم، فلم يُطيقوا كسْرَها فقال: هذا مثلكم إذا اجتمعتم واتَّفقتمُ، وذلك مثلكم إذا انفردتم، واختلفتم (3)، قال: وقال كان له عِدّة أولاد ذكور وإناث منهم أربعة هم عُظماءُ الأولادِ، وأكبرهم تولى، وهم تولى وباتو وبركة وتركجار، وكان كلُّ منهم له وظيفة عنده، ثم تكلمَّ الجويني على ملك ذريته إلى زمان هولاكو خان .. وذكر ما وقع في زمانه من الأوابد والأمر المزعجة (4).
__________
(1) المصدر نفسه.
(2) المصدر نفسه (17/ 167).
(3) البداية والنهاية (17/ 167).
(4) المصدر نفسه (17/ 167).(1/470)
الرابع عشر: فوائد متفرقة وتراجم مهمة قبل وفاة الملك الكامل:
1 - أبو يوسف يعقوب المنجنيقي توفي 626هـ:
كان فاضلاً في فنَّه، وشاعراً مُطبَّقاً، لطيف الشَّعرِ، حسن المعاني، وقد أورد له ابن الساعي قطعة صالحة، ومن أحسن ما أورد له قصيدة فيها تعزية عظيمة لجميع الناس وهي قوله:
هل لمن يرتجى البقاء خلود ... وسوى الله كلُّ شيءٍ يَبيدُ
والذي كان من تراب وإن ... عاش طويلاً للتراب يعود
فمصيُر الأنام طُرَّا إلى ما ... صار فيه آباؤهم والجدود
أين حوّاءُ أين آدم إذ ... فاتهم الخُلدُ والثَّوَى والخلود
أين هابيل أين قابيلُ إذ ... هذا لهذا مُعاندُ وحسود
أين نوح ومن نَجَا معه ... بالفلك والعالمون طُرَّاً فقيدُ
أسلمته الأيام كالطفل ... للموتِ ولم يُغن عمره الممدود
أين عادُ بل أين جنة عادٍ ... أم ترى أين صالح وثمود
أين إبراهيم الذي شاد بيت ... الله فهو المعظم المقصود
حسدوا يُوسُفاً أخاهم فكادوه ... ومات الحسود والمحسود
وسليمانُ في النُّبوَّةِ والملكِ ... قضى مثل ما قض داودُ
وابن عِمران بعد آياته التسع ... وشقَّ الخِضَمَّ فهو صعيد
والمسيح ابنُ مريم وهو روح ... الله كادت تقضى عليه اليهود
وقضى سيُد النَّبيَّين والهادي ... إلى الحقَّ أحمد المحمود
ونجوم السماءِ منتشِرات ... بعد حين وللهواء ركود
ولنارِ الدنيا التي تُوقِدُ الصَّخْرَ ... خُمودٌ وللمياه جُمودُ
وكذا للثَّرَى غداة يؤُمُّ ... الناس منها تزلزلٌ وهُمودُ
هذه الأُبَّهات نارٌ وتربٌ ... وهواء رَطْبٌ وماء ترودٌ
سوف تفنى كما فنِينا فلا ... يبقى من الخلق والد ووليدٌ
لا الشَّقىُّ الغوِىُّ من نُوَاب ... الأيام ينجو ولا السعيد الرّشيُد
ومتى سَلَّتِ المنايا سيوفا ... فالموالي حَصيُدها والعبيد (1)
__________
(1) البداية والنهاية (17/ 181).(1/471)
2 - الاستئناس برؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم عام 627هـ:
في سنة 627هـ تسلم الملك الأشرف قلعة بَعْلَبكَّ من الملك الأمجد بهرام شاه بعد حصار طويل، ثم استخلف على دمشق أخاه الصالح إسماعيل، ثم سار إلى الشرق بسبب أن جلال الدين الخُوارزمي استحوذ على بلاد خلاط، وقتل من أهلها خلقاً كثيراً، ونهب أموالاً كثيرة، فالتقى معه الأشرف واقتتلوا قتالاً عظيماً، فهزمه الأشرف هزيمة منكرة وهلك من الخوارزمية، فإنهم كانوا لا يفتحون بلداً إلا قتلوا من فيه ونهبوا أمواله فكسرهم الله تعالى، وقد كان الأشرف رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام قبل الوقعة وهو يقول له: يا موسى، أنت منصور عليهم، ولما فرغ من كسرهم عاد إلى بلاد خِلاط، فرمَّم شَعثَها، وأصلح ما كان فسد منها ولم يحج أحد من أهل الشام في هذه السنة، ولا في التي قبلها، وكذا فيما قبلها أيضاً، فهذه ثلاثُ سنين لم يَسِرْ من الشام حاجُّ إلى الحجاز (1).
__________
(1) البداية والنهاية (17/ 181).(1/472)
3 - سنة 628هـ: استهلت هذه السنة والملك الأشرف موسى بن العادل ببلاد الجزيرة مشغول بإصلاح ما كان جلال الدين الخوارزمي قد أفسده في بلاده وقد قدِمت التِتار في هذه السنة إلى الجزيرة وديار بكر، فعاثوا بالفساد يميناً وشمالاً، فقتلوا ونهبوا وسَبْوا على عادتهم (1) وفيها حبس الملك الأشرف الشيخ عليَّاً الحريري بقلعةِ عزَّتا وفيها كان غلاء شديد بديار مصر وبلاد الشام وحلب والجزيرة بسبب قلة المياة السمَّاوية والأرضية، فكانت هذه السنة كما قال الله تعالى: "ولنبلونكم بشيءٍ من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين* الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنّا إليه راجعون " (البقرة، آية 155، 156) وحج الناس في هذه السنة من الشام وكان فيمن خرج الشيخ تقّي الدين أبو عمرو بن الصَّلاحِ ثم لم يَحٌجَّ الناس بعد هذه السنة أيضاً لكثرة الحروب والخوف من التَّتَر والفرنج، فإنا لله وإنا إليه راجعون (2).
4 - مقتل محمود بن علاء الدين خوارزم سنة 628هـ: كانت التَّتار قد قهروا أباه حتى شرَّدوه في البلاد، فمات ببعض جزائر البحر ثم ساقوا وراء جلال الدين هذا حتى مزّقوا عساكره شذر مذر وتفَّرقوا عنه أيْدِى سَبَا، وانفرد هو وحده فلقيه فلاح من قرية بأرض مَيَّا فارقين، فأنكره لِما عليه من الجواهر والذهب، وعلى فرسِه فقال له: من أنت؟ فقال: أنا ملك الخوارزمية، وكانوا قد قتلوا للفلاح أخاً، فأنزله وأظهر إكرامه، فلما نام قتله بفأس كانت عنده، وأخذ ما عليه، فبلغ الخبر إلى شهاب الدين غازي بن العادل، صاحب مَيَّافارقين فاستدعى بالفلاح، فأخذ ما كان عليه من الجواهر والحُلِيَّ وأخذ الفرس أيضاً، وكان الملك الأشرف يقول: هو سدُّ بيننا وبين التتَّار، كما أن السَّد بيننا وبين يأجوج ومأجوج (3).
__________
(1) المصدر نفسه (17/ 183).
(2) المصدر نفسه (17/ 185).
(3) المصدر نفسه (17/ 185).(1/473)
5 - آخر ملوك الموصل من البيت الأتابكي توفي سنة 630هـ:
توفي الملك ناصر الدين محمد بن عزَّ الدين مسعود بن نور الدين أرسلان شاه بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكي آقسنقر صاحب الموصل، كان مولده في سنة ثلاثة عشرة وستَّمائة، وقد أقامه صدر الدين لؤلؤٌ صورة حتى تمكن أمُره وقويت شوكته ثم حجر عليه، فكان لا يَصِلُ إلى أحد من الجواري ولا شيءٍ من السَّراري، حتى لا يُعْقبَ وضيَّق عليه في الطعام والشراب فلمَّا توفيَّ جدُّه لأمه مَظفَّرٌ الدين كُوكُبُرى صاحب إرْبلَ، منعه حينئذ من الطعام والشراب ثلاثة عشر يوماً، حتى مات كَمداً وجُوعاً وعَطشاً، رحمه الله، وكان من أحسن الناس صورة وهو آخر ملوك الموصل من البيت الأتابكي (1)
6 - وفاة القاضي شرف الدين إسماعيل بن إبراهيم الحنفي 630:
أحد مشايخ الحنفية وله مصنفات في الفرائض وغيرها وهو ابنُ خالة القاضي شمس الدين بن الشَّيرازيَّ الشافعي، وكلاهما كان ينوب عن ابن الزَّكيَّ وابن الحرستاني، وكان يُدَرَّسُ بالطرخانية، وبها مسكنه، فلما أرسل إليه المُعظم أن يُفْتى بإحة لنبيذ التمر وماء الرّمان امتنع من ذلك، وقال: أنا على مذهب محمد بن الحسن في ذلك، والرواية عن أبي حنيفة شاذَّةٌ، ولا يصح حديث ابن مسعود في ذلك، ولا الأثر عن عمر أيضاً، فغضب عليه المعظم وعزله من التدريس، وولاه لتلميذه الزَّيْن بن العتَّال، وأقام الشيخ بمنزله حتى مات رحمه الله (2).
__________
(1) البداية والنهاية (17/ 203).
(2) المصدر نفسه (17/ 204).(1/474)
7 - ابن عنُين الشاعر، أبو المحاسن محمد بن نصر توفي 630هـ:
أصله من الكوفة ووُلد في دمشق ونشأ بها، وسافر عنها سنين، فجاب الأقطار والبلاد شرقاً وغرباً، ودخل الجزيرة وبلاد الروم والعراق وخراسان وما وراء النهر والهند والحجاز ومصر وبغداد ومدح أكثر أهل هذه البلاد، وحصَّل أموالاً جزيلة وكان ظريفاً شاعراً مُطبَّقاً مشهوراً، حسن الأخلاق، جميل المعاشرة وقد رجع إلى بلده دمشق، فكان بها حتى مات في هذه السنة في قول ابن الساعي وقد نفاه الملك الناصر صلاح الدين إلى الهند، فامتدح ملوكَها، وحصَّل أموالاً جزيلة، وصار إلى اليمن، فيُقال، إنه وزر لبعض ملوكها ثم عاد في أيام العادل إلى دمشق، ولما مَلك المعظَّمُ استوزره، فأساء السيرة واستقال هو من تلقاء نفسه فعزله وكان قد كتب إلى الدَّماسقة من بلاد الهند:
فعلام أبعدتهم أخاثقةٍ ... لم يجترم ذنباً ولا سَرَقَا
انفوا المؤذَّن من بلادكم ... إن كان يُنفى كلُّ من صَدَقا
ومما هجا به الملك الناصر صلاح الدين رحمه الله:
سلطاننا أعرجٌ وكاتبه ... ذو عَمَشٍ والوزيرُ منُحِدبُ
والدَّولعيُّ الخطيبُ معتكفٌ ... وهو على قِشرِ يبضة يَثِبُ
ولابن باقا وعظٌ يغُرُّ به ... الناسَ وعبُداللطيف محتسبِ
وصاحبُ الأمر خُلْقُه شَرِسٌ ... وعارض الجيش داؤه عَجَبُ
وقال في الملك العادل سيف الدين، رحمه الله تعالى:
إن سلطاننا الذي نرتجيه ... واسع المال ضيقُ الإنفاق
هو سيف كما يُقال ولكن ... قاطعٌ للرسوم والأرزاق
وقد حضر مّرة مجلس الفخر الرازي بخراسان وهو على المنبر يَعظُِ الناس، فجاءت حمامة خلفَها جارح، فألقت نفسها على الفخر الرازيَّ كالمُستجيرة به، فأنشأ ابن عُنَيْنٍ يقول:
جاءت سليمان الزمان حمامةٌ ... والموت يَلمَعٌ من جَنَاحَيْ خاطف
قرِمٌ لواه الجوع حتى ظلُّه ... بإزائة يَجرى بقلب واجف
من أعلم الورقاءَ أن مَحَلَّكم ... حرم وأنك ملجأٌ للخائف (1)
__________
(1) البداية والنهاية (13/ 208).(1/475)
8 - إتمام بناء مدرسة المستنصرية 631هـ: وفيها أي سنة 631هـ كمَل بناء المدرسة المستنصرية ببغداد ولم نُبن مدرسة قبلها مثلها ووُقفت على المذاهب الأربعة، من كلَّ طائفة اثنان وستون فقيهاً وأربعة معيدين، ومدرس لكلَّ مذهب وشيخ حديث، وقارئات، وعشرة مستمعين وشيخ طبَّ وعشَرةٌ من المسلمين يشَتغلون بعلم الطبَّ، ومكتب للأيتام وقرَّر للجميع من الخبز واللحم والحلْوى والنَّفقة ما فيه، كقاية وافرة لكلَّ واحد، ولما كان يوم الخميس خامس رجب حُضرت الدروس بها، وحضر الخليفة المستنصر بالله بنفسه الكريمة وأهل دولته، من الأمراء والوزراء والقضاة والفقهاء والصوفية والشعراء ولم يتخلف أحدٌ من هؤلاء وعَملِ سماط عظيم بها، أكل منه الحاضرون وحُمل منه إلى سائر دروب بغداد من بُيوتات الخواصَّ والعوامَّ وخلع على جميع المدرَّسين بها والحاضرين فيها، وعلى جميع الدولة والفقهاء بها والمعيدين وكان يوماً مشهوداً، وأمراً محموداً وأنشدت الشعراء الخليفة المدائح الفائقة والقصائد الرائقة ..(1/476)
وقُرَّر لتدريس الشافعية بها الشيخ الإمام العلاَّمة محي الدين أبو عبد الله بن محمد بن فضلان، وللحنفية الشيخ الإمام العلامَّة رشيد الدين أبو حفص عمر بن محمد الفرْغاني وللحنابلة الشيخ العلامة الرئيس محي الدين يوسف بن الشيخ أي الفرنج بن الجوزي، ودرّس عنه يومئذ ابنه عبد الرحمن نيابة لغيبته في بعض الرسالات إلى الملوك ودرَّس للمالكية يومئذ الشيخ الصالح العالم أبو الحسن المغربي المالكي نيابة أيضاً حتى يُعينَّ شيخ غيره ووقفت فيها خزانة كتب لم يسمع بمثلها في كثرتها وحسن نسُخها وجودة الكتب الموقوفة بها وكان المتولىَّ لعمارة هذه المدرسة مؤيَّدُ الدين أبو طالب محمد بن العلْقميَّ الذي وزَر بعد ذلك، وقد كان إذ ذاك أستاذ دار الخلافة وخُلع عليه يومئنذ وعلى الوزير نصير الدين خلعه، ثم عُزل مدرسُى الشافعية في رابع عشر ذي القعدة بقاضي القُضاة أبي المعالي عبد الرحمن بن مُقبل مضافاً إلى ما بيده من القضاء وذلك بعد وفاة محي الدين بن فضلان (1).
__________
(1) البداية والنهاية (17/ 214).(1/477)
9 - وفاة الملك الكامل الأيوبي: 635هـ:
لما بلغ الملك الكامل موت أخيه المعظم جاء ونازل دمشق وأخذها من الناصر، وجعل فيها الأشرف، ولما مات الأشرف، بادر الكامل إلى دمشق وقد غلب عليها أخوه إسماعيل، فانتزعها منه، واستقر بالقلعة، فما بلغ ريقهُ حتى مات بعد شهرين تعلَّلَ بسعال وإسهال وكان به نقرس، فبهت الخلق لما سمعوا بموته وكان عدله مشوباً بعسف، شنق جماعة من الجند في بطيخة شعير (1)، ونازل دمشق فبعث صاحب حِمص لها نجدة خمسين نفساً فظفر بهم وشَنقهم بأسرهم قال الشريف العماد البصرويّ، حكي لي الخادم قال: طلب مني الكامل طستاً ليتقيأ فيه، فأحضرته وجاء الناصر داود فوقف على الباب ليعوده، فقلت: داود على الباب، فقال: ينتظر موتي:؟ وانزعج وخرجت فنزل داود إلى دار سامة، ثم دخلت إلى السُّلطان، فوجدته قد مات وهو مكبوب على المِخَدَّة (2)، وقال ابن واصل: حكى لي طبيبه قال: أخذه زكام فَدخل الحمَّام، وصَبَّ على رأسه ماء شديد الحرارة اتباعاً لما قال ابن زكريا الرازي: إن ذلك يحل الزُّكمة في الحال، وهذا ليس على إطلاقه، قال: فانصَبَ من دِماغه إلى فم المعِدة مادة فتورمت وعرضت الُحمىَّ وأراد القيء فنهاه الأطباء، وقالوا: إن تقيأ هلك فخالف وتقيَّأ ومات بدمشق في الحادي والعشرين من رجب سنة خمس وثلاثين وست مئة ودفن في تابوت (3).
وقال ابن واصل: ولم أجد في شيء من التواريخ أن ثلاثة إخوة من الملوك اجتمع لهم من الشجاعة والنجابة والفضائل ما اجتمع أولاد الملك العادل الثلاثة وهم الملك الكامل، والملك المعظم والملك الأشرف، وكان الملك الكامل أحزمهم وأسوسهم، والملك المعظم أشجعهم وأعلمهم، والملك الأشرف أسمحهم وأنداهم كفا، رحمهم الله أجمعين.
__________
(1) سير أعلام النبلاء (22/ 130) بطيخة شعير: أي أكيال شعير.
(2) سير أعلام النبلاء (22/ 130).
(3) المصدر نفسه (22/ 131).(1/478)
وكانت أولاد الملك الكامل الذكور ثلاثة: الملك المسعود صلاح الدين يوسف صاحب اليمن، وتوفي في حياة أبيه وقد ذكرنا أخباره، والملك العادل سيف الدين أبو بكر، وولي الملك بعده، والملك الصالح نجم الدين أيوب، وولي بعد الملك العادل على ما سنذكره بإذن الله وأكبرهم الملك المسعود وأصغرهم الملك العادل وكان له عدة بنات ودفن بالقلعة (1) في دمشق وكان ينشد في مرضه كثيراً.
يا خليليَّ خبَّراني بصدق ... كيف طعم الكَرى فإني عليل
وقال ابن الأهدل: وللكامل هفوة جرت منه - عفا الله عنه - وذلك أنه سلمَّ مرة بيت المقدس إلى الفرنج اختياراً نعوذ بالله من سخط الله وموالاة أعداء الله (2).
الفصل الثالث
عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب
المبحث الأول: اسمه ونسبه والخطوات التي اتخذها للوصول للسلطنة:
هو السلطان الكبير الملك الصالح نجم الدين أبو الفتوح أيوب ابن السلطان الملك الكامل ابن العادل، وأمه جارية سوداء أسمها ورد المُنى مولده سنة ثلاث وست مئة بالقاهرة وناب عن أبيه لما جاء لحصار الناصر داود، فلما رجع انتقده أبوه على أشياء، ومال عنه إلى ولده الآخر العادل، فلما استولى الكامل على آمد وحصن كيفا وسنجار سلطن نجم الدين، وجعله على هذه البلاد، فبقي بها إلى أن جاء وتملك دمشق (3).
__________
(1) مفرج الكروب (5/ 170، 171).
(2) شذرات الذهب (7/ 303 - 304).
(3) سير أعلام البنلاء (23/ 187، 188).(1/479)
أولاً: ماذا حدث بعد وفاة الملك الكامل: بعد وفاة الملك الكامل في شهر رجب سنة 635هـ، تعاقب على زعامة الدولة الأيوبية ثلاثة اثنان منهما من أبنائه، أما الثالث فهو حفيدة، والسمة المشتركة بين عهود هؤلاء الثلاثة هي احتدام الصراع والوصول إلى أبعد مما وصل إليه في العهود السابقة وقد حدث بعد وفاة الملك الكامل أن اختلفت الآراء وتعددة الاتجاهات حول الشخص الذي كان سيخلفه في زعامة الدولة الأيوبية، فتحيز فريق إلى الناصر داود بن المعظم عيسى، وتحزب فريق آخر من الجواد مظفر الدين يونس بن شمس الدين مودود بن العادل بينما ذهب فريق ثالث إلى مناصرة أبي بكر الابن الأصغر للملك الكامل (1) وبعد سلسلة من الجدل والنقاش بين أصحاب هذه الاتجاهات انتصر الفريق الأخير وبالتالي بويع أبو بكر، الذي كان يعرف بالملك العادل الصغير، خلفاً لأبيه الراحل في الحكم المباشر لمصر، وفي زعامة البيت الأيوبي، وذلك في الثاني والعشرين من رجب سنة 635هـ (2)، كما اتفق أيضاً أن يكون الملك الجواد يونس نائباً عن ابن عمه العادل الصغير في حكم دمشق وعلى أن يكون الملك الصالح نجم الدين أيوب نائباً عن أخيه العادل الصغير في حكم الشرق وديار بكر (3)، ولم تنعم الدولة الأيوبية الهدوء في ظل هذا الاتفاق طويلاً، فقد سجل التاريخ في أحداث الفترة الأخيرة من سنة 635هـ خروج كل من الناصر والجواد على طاعة العادل الصغير، ووصل الناصر داود إلى غزة، وخطب بها لنفسه، وسرعان ما وقع الخلف بينه وبين الجواد، فأظهر الأخير أنه عاد إلى طاعة الملك العادل (4).
__________
(1) الجبهة الإسلامية د. حامد غنيم ص 377.
(2) المصدر نفسه ص 377.
(3) النجوم الزاهرة (6/ 303) الجبهة الإسلامية ص 377.
(4) السلوك (1/ 268) الجبهة الإسلامية ص 377.(1/480)
أما الناصر فإنه استولى على غزة والسواحل، وبعث إلى الملك العادل يطلب منه المساعدة على أخذ دمشق، ولكنه عوجل من الجواد، والتقى الجيشان الأيوبيان بالقرب من نابلس، ومني الناصر بهزيمة مريرة في منتصف ذي الحجة، فعاد مثقلاً بالآمه في معقله، قلعة الكرك (1) وأما في الشرق حيث الملك الصالح نجم الدين أيوب فإنا نجد مسرحاً من مسارح الصراع، مع اختلاف في الوجوه والأغراض، ففي سنة 635هـ شق الخوارزمية عصى الطاعة على الملك الصالح، ولما رأى الأخير أن كفة المنشقين هي الراجحة هرب إلى سنجار، ونتيجة لذلك تطلع مناهضوه للاستيلاء على بلاده فمن ناحية تحكم الخوارزمية في البلاد الجزرية، ومن نايحة أخرى أخذ السلطان غياث الدين كيخسر - صاحب الروم - يتصرف في منطقة نفوذ الملك الصالح كما لو كانت قد أصبحت تحت نفوذه هو وبعث إلى الناصر صلاح الدين أبي المظفر يوسف، صاحب حلب، توقيعاً بالرها وسروج ... وأقطع المنصور ناصر الدين الأرتقي، صاحب ماردين، مدينة سنجار ومدينة نصيبين، وأقطع المجاهد أسد الدين شيركوه، صاحب حمص، بلده عانة وغيرها من بلاد الخابور وعزم السلطان غياث الدين كيخسروا أن يأخذ لنفسه من بلاد الصالح أيضاً آمد وسميساط (2)، ونلتفت إلى الملك الصالح نفسه وهو سنجار فنجد أن المتاعب لم تبتعد عنه، فقد حاصره بها بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، ولما شعر الزعيم الأيوبي أنه لا طاقة له بلؤلؤ ومن معه أرسل إليه ملتمساً الصلح، وقد قابل لؤلؤ هذه المبادرة بالرفض، والإصرار على أن يحمل الملك الصالح في قفص إلى بغداد، وحينئذ لجأ الأخير إلى الاستعانة بأعدائه الخوارزمية، فبعث إليهم حيث كانوا بحران فأسرعوا لنجدته، وأرغموا حاكم الموصل على رفع الحصار والعودة إلى بلده (3).
__________
(1) الجبهة الإسلامية ص 377.
(2) السلوك (1/ 271) الجبهة الإسلامية ص 378.
(3) النجوم الزاهرة (5/ 271) الجبهة الإسلامية ص 378.(1/481)
1 - تحرك الملك الصالح نجم الدين أيوب لضم دمشق:
إن تحرر الملك الصالح من حصار لؤلؤ لم يكن يعني أن الزعيم الأيوبي قد تخلص نهائياً من المتاعب، بل كان يعني أنه تحرر من سنجار لكي يخوض غمار صراع جديد، صراع على ما كان يعتقده حقَّا له ألا وهو خلافة أبيه، وفي سبيل هذه الغاية زحف صوب دمشق، وهناك أخذت الأحداث تتحرك لصالحه (1).
وكان أول هذه الأحداث هو استسلام الملك الجواد وتتحدث المصادر التاريخية عن الملك الجواد أنه لم تكن له رغبة في الملك وأنه كاتب الملك الصالح، عارضاً عليه تسليم دمشق في مقابل عدة مناطق ثانوية (2)، وهذا ما حدث بالفعل، فقد اتفق الاثنان على مقايضة دمشق بحصن كيفا وسنجار وعانة وفي ضوء هذا الاتفاق دخل الملك الصالح مدينة دمشق في مستهل جمادى الأولى سنة 636هـ، حينئذ شعر الملك الجواد بالندم وإرتفعت حرارة العداء بين الرجلين، غير أنها لم تصل إلى درجة الإنفجار، وذلك للمحاولات التي بذلها البعض، وفي النهاية قبل الملك الجواد مرغماً ما سبق الاتفاق عليه (3) ومن دمشق سار الملك الصالح على رأس قواته صوب مصر، وفي الطريق دخل في صراع مع الملك الناصر داود، وقد اسفر هذا الصراع عن استيلاء الملك الصالح على منطقة نفوذ الملك الناصر (4)، ونتيجة لذلك توجه الأخير إلى مصر، وأعلن انضمامه إلى جانب العادل (5).
__________
(1) الجبهة الإسلامية في مواجهة المخططات ص 378.
(2) تاريخ ابن خلدون (5/ 271) الجبهة الإسلامية ص 378.
(3) النجوم الزاهرة (6/ 305، 306).
(4) كانت منطقة نفوذه تشمل الكرك والصلت والبلقان والأغوار.
(5) النجوم الزاهرة (6/ 306) الجبهة الإسلامية ص 379.(1/482)
2 - الملك الصالح إسماعيل بن العادل: وعند هذا الحد يقفز إلى ساحة الصراع داخل البيت الأيوبي وجه جديد، ذلك هو الصالح إسماعيل بن العادل، صاحب بعلبك، فإنه لم يستجب لما طلبه منه ابن أخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب من الانضمام إليه، بل أنه على العكس زحف على مدينة دمشق، واستولى عليها هو وأسد الدين شيركوه، صاحب حمص، وذلك في الأيام الأخيرة من صفر سنة 637هـ ولم يقف عند هذا الحد، بل إن الصالح إسماعيل وأسد الدين شيركوه اتفقا على أن تكون البلاد بينهما مناصفة (1) وفي الوقت الذي كان تجري فيه هذه الأحداث، كان الملك الصالح مقيماً بنابلس، فلما سقطت دمشق في قبضة الصالح إسماعيل وأسد الدين شيركوه أخذ يتحرك، واستقر الرأي بينه وبين عميه مجير الدين وتقي الدين على مهاجمة دمشق، ولكن حدث حينما شارفوا المدينة أن تخلى العمان بأتباعهما عن الملك الصالح فعاد إلى نابلس من جديد (2)، وازداد الموقف تفاقماً بالنسبة للملك الصالح فقد حدث في تلك الأثناء أن هجر الملك الناصر داود مصر مغاضباً للعادل (3).
__________
(1) السلوك (1/ 28) (6/ 306).
(2) الجبهة الإٍسلامية ص 2798.
(3) المصدر نفسه ص 279.(1/483)
3 - اعتقال الملك الصالح نجم الدين أيوب بالكرك:
وتغيرت الأمور على الملك الصالح نجم الدين أيوب وتفرّق عنه أصحابه والأمراء خوفاً على أهاليهم من الصالح إسماعيل، وبقي الصالح أيوب وحده في مماليكه وجاريته أم خليل، وطمع فيه الفلاّحون والغوارنة، وأرسل الناصر داود صاحب الكَرَكِ إليه من أخذه من نابُلُس مهاناً على بغلة بلا مهماز ولا مقرعة (1)،
__________
(1) المهماز - حديدة تكون في مؤخر خُفَّ الرائض، والمقرعة: إلجام الدابة ..(1/484)
فاعتقله عنده سبعة أشهر، وأرسل العادل من مصر إلى الناصر يطلب منه أخاه الصالح أيوب، ويُعطيه مائة ألف دينار، فما أجابه إلى ذلك، بل عكس ما طلب منه بإخراج الصالح من سجنه والإفراج عنه وإطلاقه مع الجيش يركب وينزل فعند ذلك حاربت الملوك من دمشق ومصر وغيرهما الناصر داود، وبرز العادل من الديار المصرية بُلبُيس قاصداً قتال الناصر داود، فاضطرب الجيش عليه، واختلف الأمراء، وقيَّدوا العادل واعتقلوه في خَرْكاه وأرسلوا إلى الصالح أيوب يستدعونه إليهم فامتنع الناصر داود من إرساله حتى اشترط عليه أن يأخذ له دمشق وحمص وحلب وبلاد الجزيرة وديار بكر ونصف مملكة مصر ونصف ما في الخزائن من الحواصل والأموال والجواهر قال الصالح أيوب،: فأجبتُ إلى ذلك مُكرها؟ ولا يقدر على جميع ما اشترط عليَّ ملوك الأرض وسرنا فأخذته معي خوفاً أن يكون هذا الكتاب من المصريين مكيدة، ولم يكن لي به حاجة وذكر أنه كان يسكر ويخبط الأمور ويخالف الآراء السَّديدة، فلما وصل الصالح إلى المصريين ملكَّوه عليهم، ودخل الديار المصرية سالماً مؤيداً منصوراً مظفَّرا، محبوراً، مسروراً، فأرسل إلى الناصر داود عشرين ألف دينار، فردّها عليه ولم يقبلها منه، واستقر ملكه بمصر، وأما الجواد فإنه أساء السَّيرة في سنجار، وصادر أهلها وعسفهم وكاتبوا بدر الدين لؤلؤاً صاحب الموصل فقصدهم - وقد خرج الجوادُ للصيد - فأخذ البلد بغير شيء وصار الجواد إلى عانه، ثم باعها للخليفة بعد ذلك (1)
__________
(1) البداية والنهاية (17/ 248) ..(1/485)
وكان الجواد هذا ظالماً جائراً عسوفاً سلط خادماً لزوجته يقال: الناصح، فصادر الدماشقة، وأخذ منهم نحواً من ستمائة ألف دينار، وقلق من مُلك دمشق وقال أيش أعمل بالملك؟ بازٌ وكلب أحبُّ إلىَّ من هذا، ثم خرج إلى الصيد، وكاتب الصالح نجم الدين أيوب فتقايضا من حصن كيفا وسنجار وما يتبع ذلك إلى دمشق، فملك الصالح أيوب دمشق - كما مرّ معنا - وخرج الجواد منها والناس يلعنونه في وجهه، بسبب ما أسداه إليهم من المصادرات، وأرسل إليه الصالح أيوب ليَُردَّ إلى الناس أموالهم فلم يلتفت إليه، وسار وبقيت في ذمته، ولما استقرَّ الصالح في ملك مصر، كما سيأتي، حبس الناصح الخادم فمات في أسوأ حالة من القلة والقملِ جزاءً وفاقاً "وما ربك بظلام للعبيد" (1) (فصلت:46).
4 - وفاة صاحب حمص الملك المجاهد أسد الدين شيركوه 637هـ:
ابن ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شادي، ولاّه إياها الملك الناصر صلاح الدين بعد موت أبيه سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، فمكث فيها سبعاً وأربعين سنة وكان من أحسن الملوك سيرة طهّر بلاده من الخمور والمكوس والمنكرات، وهي في غاية الأمن والعدل، لا يتجاسر أحدٌ من الفرنج ولا العرب يدخل بلاده إلا أهانه غاية الإهانة، وكانت ملوك بني أيوب يتَّقونه، لأنه كان يرى أنه أحق بالأمر منهم، لأن جِدهّ هو الذي فتح مصر، وأول من ملك منهم وكانت وفاته رحمه الله لحمص وعُمل عزاؤه في بجامع دمشق، عفا الله عنه بمنه (2).
__________
(1) المصدر نفسه (17/ 243).
(2) المصدر نفسه (17/ 249).(1/486)
5 - الفتح الناصري الداودي للقدس سنة 637هـ:
بعد اعتقال الملك الناصر داود صاحب الكرك للملك الصالح أيوب بالكرك، قصد الملك الناصر داود القدس وكان الإفرنج قد عمروا قلعتها بعد موت الملك الكامل 635هـ أي نقضوا شروط العهد والهدنة بينهم وبين المسلمين التي وقعها معهم الملك الكامل سنة 626هـ فحاصرها وفتحها، وخرَّب القلعة، وبرج محراب داود أيضاً، فإنه لما فتحت القدس سنة 583هـ في الفتح الصلاحي، لم يخرب برج محراب داود، فخربه في هذه المرة وذلك في سنة 637هـ، بعد أن بقي في أيدي الأفرنج نحو إحدى عشرة (11سنة) من حين تسليم الكامل له في سنة 626هـ، فأنشد في ذلك الفتح في مدح الملك الناصر داود، ومقارنة للقدس سنة 637هـ بفتح صلاح الدين الأيوبي للقدس سنة 583هـ؛ أنشد الشاعر الوزير الأيوبي جمال الدين بن مطروح قصيدة جاء فيها:
المسجد الأقصى له آية ... سارت فصارت مثلاً سائراً
إذا غدا للكفر مستوطنا ... أن يبعث الله له ناصراً
فناصرُ ظهوره أولاً ... وناصر ظهوره آخراً (1)
6 - هجرة الشيخ العز بن عبد السلام إلى مصر:
سلمّ الصالح إسماعيل صاحب دمشق حصن شقيق أرنون لصاحب صيداً الفرنجي، فاشتد الإنكار عليه بسبب ذلك من الشيخ عز الدين بن عبد السلام خطيب البلد، والشيخ أبي عمرو بن الحاجب شيخ المالكية، فاعتقلهما مدة، ثم أطلقهما وألزمهما منازلهما، وولىَّ الخطابة وتدريس الغزَّالية لعماد الدين داود بن عمر بن يوسف المقدسيَّ خطيب بيت الآبار ثم خرج الشيخان من دمشق، فقصد أبو عمر والناصر داود بالكرك ودخل الشيخ عز الدين الديار المصرية فتلقَّاه صاحبها الصالح أيوب بالاحترام والإكرام، وولاّه خطابة القاهرة وقضاء مصَر، واشتغل عليه أهلها، فكان ممّن أخذ عنه الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، رحمهما الله تعالى (2) وسيأتي الحديث عن عز الدين بن عبد السلام بإذن الله مفصلاً.
__________
(1) تاريخ مصر الإسلامية زمن سلاطين بني أيوب ص 325.
(2) البداية والنهاية (17/ 521).(1/487)
7 - وفاة محي الدين ابن عربي صاحب النصوص وغيرها 638هـ:
قال عنه الذهبي: العلامة صاحب التواليف الكثيرة محي الدين أبو بكر محمد بن علي بن محمد بن أحمد الطائيُّ الحاتمي المرسيُّ ابن العربيَّ، نزيل دمشق وكان ذكياً كثير العلم، كتب الإنشاء لبعض الأمراء بالمغرب، ثم تزهّد وتفرَّد، وتعبَّد وتوحَّدَ، وسافر وتجرَّد، وأتهم وأنجد، وعمل الخلوات وعلقَّ شيئاً كثيراً في تصوف أهل الوحدة، ومن أردا تواليفه كتاب "الفصوص" فإن كان لا كفر فيه، فما في الدنيا كُفر، نسأل الله العفو والنجاة فواغوشاه بالله، وقد عظمه جماعة وتكلَّفوُا لِمَا صدر منه ببعيد الاحتمالات، وقد حكى العلامة ابن دقيق العيد شيخنا أنه سمع الشيخ عز الدين ابن عبد السلام يقول عن ابن العربيَّ: شيخ سوءٍ كذابٌ، يقول بِقِدَم العالم ولا يُحرَّمُ فرجاً (1). قال الذهبي: إن كان محي الدين رجع عن مقالاته تلك قبل الموت فقد فاز، وما ذلك على الله بعزيز، توفي في ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين وستَّة مئة وقد أوردت عنه في "التاريخ الكبير" وله شعر رائق، وعلم واسع، وذهن وقّاد، ولا ريِب أن كثيراً من عباراته له تأويل إلا كتاب "الفصوص" (2) وقال ابن كثير: طاف البلاد وأقام بمكة مدة، وصنَّف فيها كتابه المسمىَّ بالفتوحات، المكية في نحو عشرين مجلداً، فيه ما يُعْقَلُ ومالا يُعْقَلُ، وما ينُكرُ ومالا يُنكرُ، وما يعرف ومالا يعرف (3).
__________
(1) سير أعلام البنلاء (23/ 49).
(2) المصدر نفسه (23/ 49).
(3) البداية والنهاية (17/ 253).(1/488)
ثانياً: الأيوبيون بالشام يستعينون بالصليبيين: ما كاد الصالح أيوب يتولى ملك مصر حتى أبدى أمراء الأيوبية في الشام استياءهم ورفضوا الخضوع لسلطانه، وكان أشدهم تصلباً عمه إسماعيل صاحب دمشق، الذي اتفق مع الملك المنصور صاحب حمص أن يكونوا حلفاً ضد نجم الدين، ومدوا يدهم إلى الصليبيين وطلبوا مخالفتهم ضد سلطان مصر والناصر داود في الأردن، وفي مقابل ذلك تعهدوا بإعطاء الصليبيين مدينة القدس وإعادة مملكة الصليبيين على ما كانت عليه قديماً بما فيها الأردن ولكي يبرهن صاحب دمشق على صدق نيته تجاه الصليبيين بادر فوراً بتسليم القدس وطبرية وعسقلان، فضلاً عن قلعة الشقيف وأرنون وأعمالها، وقلعة صفد وبلادها ومناصفة صيداً وطبريكة وأعمالهم وجبل عاملة وسائر بلاد الساحل (1).
__________
(1) السلوك (1/ 303) النجوم الزاهرة (6/ 322) الدولة الأيوبية دعكور ص 233.(1/489)
وأمام هذا السخاء العجيب ثار الرأي العام الإسلامي في مصر والشام على الصالح إسماعيل، حتى إن حاميات بعض القلاع رفضت إطاعة الأوامر الصادرة إليها من الصالح إسماعيل، فسار هو بنفسه ليؤدب تلك الحاميات ويسلم الحصون للصليبيين في تلك الأثناء أسرع الصليبيون إلى تسلم بيت المقدس، وأعادوا تعمير قلعتي طبرية، وعسقلان، ثم رابطو بعد ذلك بين يافا وعسقلان استعداداً للخطوة التالية. وهنا وعدهم الصالح إسماعيل بأنه إذا ملك مصر أعطاهم جزءاً منها، فسال لعابهم لذلك واتجهوا صوب غزة عازمين على غزو مصر (1) وسار الصالح إسماعيل صاحب دمشق والملك المنصور إبراهيم الأيوبي صاحب حمص على رأس جيوشهما في مهمة غزو مصر (2). ولكن قادة القوات الشامية رفضوا طعن إخوانهم المصريين، فما كادوا يلتقون بجيش الملك الصالح أيوب قرب غزة حتى تخلوا عن الصالح إسماعيل والمنصور إبراهيم وساقت عساكر الشام إلى عساكر مصر طائعة ومالوا جميعاً على الفرنج فهزموهم، وأسروا منهم خلقاً لا يحصون (3)، بحيث أطلق على هذه المعركة اسم حطين الصغرى وقد استولى جيش الملك الصالح أيوب على أثرها على مدينة غزة في حين انسحب فلولا الإفرنج إلى عسقلان حيث عقدت صلحاً مع الملك الصالح أيوب الذي قبل ذلك بهدف القضاء على التحالف بين الصالح إسماعيل والصليبيين، وكان من شروط الصلح إطلاق الصالح أيوب سراح الأسرى الذين يسقطوا في يده مقابل التزام الصليبيين الجياد، غير أن الراوية والنبلاء الصليبيين ظلوا على عهدهم في المحافظة على المعاهدة مع دمشق ومقاومة الغزو المصري (4)
__________
(1) النجوم الزاهرة (6/ 322) الدولة الأيوبية د. دعكور ص 233.
(2) النجوم الزاهرة (6/ 323) الدولة الأيوبية ص 233.
(3) السلوك (1/ 305) الدولة الأيوبية ص 233.
(4) الدولة الأيوبية ص 234 ..(1/490)
والواقع أن انحياز طائفة من عساكر دمشق إلى المعسكر المصري في معركة غزة وازدياد كراهية أهل دمشق للصالح إسماعيل، دفعت سلطان دمشق إلى إعلان الخطبة باسم سلطان سلاجقة الروم، مما أدى ذلك إلى تفاقم النقمة عليه، ولم ير الصالح إسماعيل بداً من مصالحة ملك مصر فذكر اسمه في الخطبة في سنة 1243م، ثم لم يلبث أن تم الاتفاق بين الصالح إسماعيل والصالح أيوب على حساب الناصر داود، فانتزعا منه إمارة الكرك (1) ومن شروط الاتفاق أيضاً أن يصبح الصالح إسماعيل سلطاناً على دمشق والكرك، على أن يذكر اسم الصالح أيوب في خطبة الجمعة وينقش اسمه على النقود غير أن الاتفاق فشل في اللحظة الأخيرة (2).
__________
(1) المصدر نفسه.
(2) الدولة الأموية دعكور ص 234.(1/491)
ثالثاً: الخوارزمية واستردد بيت المقدس: بعد فشل عملية الصلح بين الصالح أيوب وعمه الصالح إسماعيل عمد الصالح أيوب إلى استدعاء الخوارزمية وتحريضهم على مهاجمة دمشق فما كان من الصالح إسماعيل إلا أن استعان بالناصر داود مرة أخرى واتفق الملكان على الاستنجاد بالصليبيين مقابل تعهدهم، بأن تكون سيطرة الصليبيين على بيت المقدس تامة مطلقة، بمعنى أن يستولى الصليبيون على الحرم الشريف بما في فيه المسجد الأقصى وقبة الصخرة (1) وهي الأماكن التي ظلت في حوزة المسلمين وتحت إشرافهم منذ استيلاء الصليبيين على بيت المقدس بمقتضى اتفاقية يافا سنة 627هـ/1229م (2) لقد أدى النزاع في البيت الأيوبي إلى التفريط ببيت المقدس قال ابن واصل: في إحداث سنة 641هـ: .. ودخل الفرنج القدس وتسلموا الصخرة المقدسة والأقصى وما في الحرم الشريف من المزارات، وضمنوا للفرنج - على ما اشتهر - أنهم إذا ملكوا الديار المصرية أن يكون لهم بها نصيب، وجمع الفرنج الفارس والراجل وحشدوا ... وسافرت في أواخر هذه السنة إلى الديار المصرية، ودخلت البيت المقدس، ورأيت الرهبان والقسوس على الصخرة المقدسة وعليها قناني الخمر برسم القربان ودخلت الجامع الأقصى، وفيه جرس معلق، وأُبطل بالحرم الشريف الأذان والإقامة وأعلن فيه بالكفر (3)، وكان الناصر داود فتح بيت المقدس في سنة 637هـ ثم فعل هذه الفعلة القبيحة، وقد انتقم الله منه فيما بعد (4)
__________
(1) خطط الشام (2/ 103) الحركة الصليبية (2/ 1042).
(2) الدولة الأموية دعكور ص 235.
(3) مفرج الكروب (5/ 333).
(4) الأنس الجليل (2/ 6) لمجير الدين العليمي الحنبلي ..(1/492)
وكان الصليبيون آثروا محالفة الصالح إسماعيل والناصر داود، لأن توطيد أواصر الصداقة مع ملكي دمشق والأردن كان أجدى عليهما من مخالفة ملك مصر، لاسيما وأن غزو مصر بالتعاون مع هذين الملكين يجدد أمامهم الأمل في احتلالها والاستيلاء على كنوزها وخيراتها، مما دفع الملك الصالح أيوب إلى الاستعانة بالخوارزمية ودعوتهم لمساندته في صد الهجوم الثلاثي الموجه على مصر، فعبروا نهر الفرات في عشرة آلاف مقاتل، وأمعنوا في سيرهم حتى بلغوا دمشق، وهم ينهبون ويقتلون ويسبون (1)، وارتكبوا من الفواحش ما ارتكبه التتار (2) فساد الذعر واشتد الخوف في جميع البلاد والأراضي التي اجتازوها، وصار الناس يهربون من وجوههم، ثم سار الخوارزمية إلى طبرية فاستولوا عليها، ومنها توجهوا إلى نابلس وبيت المقدس وأحس الصليبيون بما يحيق بهم من الخطر فسارع بطريرك المدينة ومن معه من مقدمي الراوية والاسبتارية إلى تعزيز الحاميات التي تحصنت وراء الاستحكامات التي شيدها من جديد الراوية، غير أن جميع الجهود ذهبت سدى وفي الثاني من صفر سنة 642هـ/الحادى عشر من تموز 1244م اقتحم الخوارزمية المدينة وجرى القتال في الشوارع واستنجد الصليبيون بأمير أنطاكية وطرابلس، وبملك قبرص، وبإخوانهم في عكا، وبحلفائهم المسلمين في دمشق والأردن، فلم ينجدهم أحد، وكل ما قام به الناصر داود أنه توسط في خروج من يرغب منهم في مغادرة المدينة إلى الساحل غير أنه لم يصل منهم إلى يافا سوى ثلاثمائة (3)، لقد كان مسلك الخوارزمية في القدس وفي مطاردة الصليبيين الذين غادروها إلى يافا يتناقض مع مسلك صلاح الدين صاحب الشمائل الكبيرة والمرؤة الكريمة، والتسامح الجميل (4)
__________
(1) السلوك (1/ 316) الأيوبيون د. دعكور ص 235.
(2) خطط الشام (2/ 102).
(3) النجوم الزاهرة (6/ 323) الأيوبيون ص 236.
(4) الأيوبيون دعكور ص 236 ..(1/493)
يوصف هذا الفتح بالفتح الصلاحي النجمي، نسبة إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب، إذ تم الفتح في عهده (1).
رابعاً: الصالح أيوب وتوحيد الدولة الأيوبية: بعد أن استولى الخوارزمية على بيت المقدس ساروا إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب يخبرونه بقدومهم فأمرهم بالإقامة في غزة، وفي الوقت ذاته سير نجم الدين أيوب عسكراً من مصر بقيادة الأمير ركن الدين بيبرس، فسار إلى غزة وانضم الخوارزمية وفي الثاني عشر من جمادي الأولى سنة 642هـ/السابع عشر من تشرين الأول سنة 1244م حدث اللقاء عند غزة بين الجيش المصري ومعه الخوارزمية من ناحية والصليبيون وجيوش حمص ودمشق من ناحية أخرى وتمكن الجيش المصري والخوارزمي بإلحاق هزيمة ساحقة بالتحالف الشامي الصليبي (2)،
__________
(1) بيت المقدس في أدب الحروب الصليبية ص 221.
(2) الدولة الأيوبية د. دعكور ص 236 ..(1/494)
قال ابن كثير عن هذه الوقعة في أحداث سنة 642هـ كانت فيها وقعة عظيمة بين الخوارزمية الذين كان الصالح أيوب صاحب مصر قد استقدمهم ليستنجِد بهم على الصالح إسماعيل أبي الحسن صاحب دمشق، فنزلوا على غَزَّة، وأرسل إليهم الصالح أيوب الأموال والخِلعَ والخيل والأقمشة والعساكر، فاتفق الصالح إسماعيل والناصر داود صاحب الكرك والمنصور صاحب حمص مع الفرنج واقتتلوا مع الخوارزمية قتالاً شديداً فهزمتهم الخوارزمية كسرة منكرة فظيعة، هزمت الفرنج بصلبانها وراياتها العالية على رؤوس أطلاب المسلمين، وكانت كئوس الخمر دائرة بين الجيوش، فنابت كئوس المنون على تلك الخمور، فقتل من الفرنج في يوم واحد زيادة عن ثلاثين ألفاً، وأسروا جماعة من ملوكهم وقسوسهم وأساقفتهم، وخلقاً من أمراءِ المسلمين، وبعثوا بالأسارى إلى الصالح أيوب بمصر، وكان يؤمئذ يوماً مشهوداً وأمراً محموداً، وقد قال بعض أمراء المسلمين؛ قد علمت أنّا لمّا وقفنا تحت صلبان الفرنج أنا لا نُفلِحُ وغنمت الخوارزمية من الفرنج وممّن كان معهم شيئاً كثيراً، وأرسل الصالح أيوب إلى دمشق ليُحاصرها، فحصّنها الصالح إسماعيل، وخَّرب من حولها رِباعاً كثيرة، وكسر جسر باب تُوما، فكسر النهر، فتراجع الماء حتى صار بُحيرة من باب تُوماء وباب السَّلامةَ، فغرق جميع ما كان بينهما من العمُران وافتقر كثير من الناس، فإنا لله وإنا إليه راجعون (1)
__________
(1) البداية والنهاية (17/ 274) ..(1/495)
بعد معركة غزة سارع القائد المصري بيبرس إلى الإسيتلاء على غزة والساحل، والقدس والخليل وبيت جبريل والأغوار ثم حاصر دمشق وفيها صاحبها الصالح إسماعيل وإبراهيم بن شيركوه صاحب حمص، ولما ضاق صاحب دمشق بالحصار ذرعاً سير وزيره أمين الدولة إلى العراق متشفعاً بالخليفة العباسي ليصلح بينه وبين ابن أخيه الصالح أيوب، فلم يجبه الخليفة إلى ذلك، وبعد حصار دام ستة أشهر استسلمت دمشق في الثامن من جمادى الأولى سنة 643هـ/الأول من تشرين الأول سنة 1245ن وعوض الصالح إسماعيل عنها ببعلبك وبصرى وأعمالها (1) وأما الخوارزمية، فقد انقلبوا على الصالح نجم الدين أيوب لأنهم لم يحصلوا على ما كانوا يطمحون إليه، فهم ظنوا أنهم بعد أن ساعدوه في التغلب على خصومه وفي تملك بلاد الشام سوف يقاسمهم الغنائم ويشاطرهم الملك، لكن ظنهم خاب عندما منعهم دخول دمشق وأقطعهم بلاد الساحل، فتغيرت نياتهم واتفقوا على الخروج عن طاعة السلطان (2)، وأعلنوا الثورة وسارع الناصر داود صاحب الكرك، والملك الصالح إسماعيل بالإنضام إليهم، وزحفوا جميعاً على دمشق وحاصروها وقطعوا عنها الإمدادات، فاشتد الغلاء بها، ومات كثير من الناس جوعاً، وأكل الناس القطط والكلاب والميتات، واستمر هذا البلاء ثلاثة أشهر، وهنا أظهر الصالح أيوب صبراً ومهارة فلجأ إلى أعمال الحيلة والتدبير، فأغرى الملك المنصور إبراهيم صاحب حمص على الانضمام إليه فضلاً عن استمالة الحلبيين، كما تحايل على بعض الأمراء وفك التحالف وبفضل - الله - ثم هذه الإجراءات تمكن الصالح أيوب من إنزال الهزيمة بالخوارزمية بالقرب من حمص في أول المحرم سنة 644هـ (3)
__________
(1) السلوك (1/ 317 - 318) الدولة الأيوبية د. دعكور ص 237.
(2) السلوك (1/ 322) الدولة الأيوبية دعكور ص 237.
(3) السلوك (1/ 324) الدولة الأيوبية دعكور ص 238 ..(1/496)
/1246م ولقي زعيمهم مصرعه، فتبدد شملهم، ولم تقم لهم بعد ذلك (1) قائمة وبعد القضاء على الخوارزمية قام الصالح أيوب برحلة إلى الشام ليقف على ما ناله من نصر، وليعزز مركزه، فتوجه إلى دمشق حيث لقي بها استقبالاً حافلاً في سنة 645هـ/26 آذار سنة 1347م، ثم سار إلى بعلبك وبصرى وبيت المقدس، ثم عمر ما تخرب من المباني، وأقام عمائر جديدة في البلاد التي خضعت له، وتشهد النقوش على ما قام به من مبان وإنشاءات في دمشق والشوبك وصرخد وبصرى وبيت المقدس (2).
__________
(1) خطط الشام محمد كرد علي (2/ 104) الدولة الأيوبية ص 238.
(2) الدولة الأيوبية ص 238.(1/497)
1 - الشيخ تقي الدين بن الصلاح: توفي 643هـ: هو الإمام الحافظ العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو عمرو عثمان بن عبد المفتي صلاح الدين عبد الرحمن بن عثمان بن موسى الكردي الشهرزوريُّ الموصليُّ الشافعي، صاحب علوم الحديث مولده في سنة سبع وسبعين وخمس مئة (1) ... ودرّس بالمدرسة الصَّلاحية ببيت المقدس مُديدةً، فلما أمر المعظم بهدم سور المدينة نزح إلى دمشق فدّرس بالرواحية مدة عندما أنشأها الواقف، فلما أنشئت الدار الأشرفية صار شيخها، ثم ولي تدريس الشاميّة الصَّغرى وأشغَّل وأفتى وجمع وألف، وتخّرج به الأصحاب، وكان من كبار الأئمةِ وكان تقي الدين أحد فضلاء عصره في التفسير والحديث والفقه وله مشاركة في عدة فنون، وكانت فتاويه مُسددّه، وهو أحد شيوخي (2) الذين انتفعت بهم، أقمت عنده للاشتغال ولازمته سنة (3) وقال الذهبي: كان ذا جلالة عجيبة، ووقارٍ وهيبة وفصاحةن وعلم نافع، وكان متين الديانة، سلفيَّ الجُملة، صحيح النَّحله، كافاً عن الخوض في مزلاّت الأقدام، مؤمناً بالله، وبما جاء عن الله من أسمائه ونعوته، حسن البزَّة وافر الحرمة، معظَّما عند السلطان (4) ...
__________
(1) سير أعلام النبلاء (23/ 140).
(2) وفيات الأعيان (3/ 243 - 244).
(3) سير أعلام النبلاء (23/ 142).
(4) المصدر نفسه (23/ 142).(1/498)
وكان مع تبّحرِه في الفقه مجوَّداً لما ينقله، قويَّ المادة من اللغة والعربية، متفنّنا في الحديث متصوناً مُكباَّ على العلم، عديم النُظير في زمانه وله مسألة ليست من قواعده شّذ فيها وهي صلاة الرغائب قّواها ونصرها مع أن حديثها باطلُ بلا ترددٍ ولكنَّ له إصابات وفضائل ومن فتاويه أنه سُئل عمن يشتغل بالمنطق والفلسفة فأجاب: الفلسفة أُسُّ السَّفَهِ والانحلال ومادة الحيرة، والضَّلال، ومثارُ الزيغ والزَّندقة ومن تفلسف، عَميِتْ بصيرته عن محاسن الشريعة المؤيّدة بالبراهين، ومن تلبسَّ بها قارنه الخذلان والحرمان واستحوذ عليه الشيطان، وأظلم قلبه عن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، إلى أن قال: واستعمال الاصطلاحات المنطقية في مباحث الأحكام الشرعية من المنكرات المستبشعة، والرقاءات المستحدثة، وليس بالأحكام الشرعية - ولله الحمد - افتقار إلى المنطق أصلا، وهو قعاقع قد أغنى الله كُلَّ صحيح الذهن، فالواجب على السلطان أعزّه الله أن يدفع عن المسلمين شَّر هؤلاء المشائيم ويخرجهم من المدارس ويبعدهم (1) وتوفَّي الشيخ تقيّ الدين - رحمه الله - في سنة الخُوارزميّة في سحر يوم الأربعاء الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وستَة مئة، وحمل على الرؤوس، وأزدحم الخلق على سريره، وكان على جنازته هيبة وخُشوع، فصُليّ عليه بجامع دمشق، وشيعَّوه إلى داخل باب الفَرجَ فصلوُّا عليه بداخله ثاني مرة؛ ورجع الناس لمكان حصار دمشق بالخوارزمية وبعسكر الملك الصالح نجم الدين أيوب لعمَّه الملك الصالح عماد الدين إسماعيل، فخرج بنعشه، نحو العشرة مشمّرين، ودفنوه بمقابر (2) الصوفية وقال السبط: أنشدني الشيخ تقيُّ الدين بن الصلاح من لقطه.
احذر من الواوات ... أربعة فهنَّ من الحتوف
واوَ الوصية والوديعة ... والوكالة والوُقوف (3)
__________
(1) المصدر نفسه (23/ 143).
(2) المصدر نفسه (23/ 143).
(3) البداية والنهاية (17/ 282).(1/499)
وحكى ابن خلّكان عنه أنه قال: أُلهمت في المنام هؤلاء الكلمات أدفع المسألة ما وجدت التَّجُمل يمكنك، فإن لكل يوم رزقاً جديداً والإلحاحُ في الطلب يُذهب البهاءَ، وما أقرب الصَّنيع من الملهوف وربما كان الغِيرَُ نوعاً من آداب الله تعالى، والحظوظ مراتبُ فلا تعجل على ثمرة قبل أن تُدركِ فإنك ستنالُها في أوانها، ولا تعجل في حوائجك فتضيق بها ذرعاً ويغشاك القُنوطُ (1).
2 - وفاة شيخ القرّاء بدمشق عام 643هـ: الشيخ الإمام العلامة شيخ القراء والأدباء علمُ الدين أبو الحسن عليُّ بن محمد بن عبد الصمد عطّاس السخاوي الشافعي نزيل دمشق (2) وكان إماماً في العربية بصيراً باللغة فقيها مفتيا، عالماً بالقراءات وعِللها، مجّوداً لها، بارعاً في التفسير، صنَّف وأقرأ وأفاد، وروي الكثير وبعد صيته، وتكاثر عليه القرّاء (3)، وكان مع سعة علومه وفضائله ديناً، حسن الأخلاق، محبباً إلى الناس، وافر الحرمة، مُطرَّحاً للتكلفُّ، ليس له شغل إلا العلم ونشره (4).
قال عنه ابن كثير: ختم عليه ألوف من الناس وكان قد قرأ على الشاطبي وشرح قصيدته وله شرح المفُصّل وله تفسيرٌ وتصانيفُ كثيرة ومدائحٌ في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان له حلقة بجامع دمشق، وولى مشيخة الإقراءِ بتربه أمَّ الصالح وبها كان مسكنه، وبه توفي ليلة الأحد ثاني عشر جمادى الآخرة ودفن بقاسيون (5).
__________
(1) المصدر نفسه (17/ 283).
(2) سير أعلام النبلاء (23/ 123).
(3) المصدر نفسه (23/ 123).
(4) المصدر نفسه (23/ 123).
(5) البداية والنهاية (17/ 285).(1/500)
3 - جمال الدين أبو الحسن المخرمي توفي سنة 646هـ: كان شاباً فاضلاً أديباً، ماهر صنَّف كتاباً مختصراً وجيزاً جامعاً لفنون كثيرة في الرياضية والعقل وذمَّ الهوى وسمَّاه نتائج الأفكار، قال فيه من الكلم المستفادة الحكيمة: السلطان إمام متبوع، ودين مشروع، فإن ظلم جارت الحكام لظلمه، وإن عدل لم يَجُرْ أحد في حكمه، من مكَّنه الله في أرضه وبلاده وائتمنه على خلقه وعباده وبسط يده وسلطانه، ورفع محلهَّ ومكانه، فحقيق عليه أن يؤدَّىَ الأمانة، ويُخْلِصَ الديانة ويُحمَّلَ السَّريرة، ويُحْسِنَ السَّيرة، ويجعل العدل دأبه المعهود والأمن بحر عرضه المقصود فالظلم يُزِلُّ القَدَم ويُزيلُ النَّعم، ويَجْلُبُ النَّقم ويُهلكُ الأمم وقال أيضاً: معارضة الطبيب توجب التَّعذيب، رُبَّ حيلة أنفع من قبيلة، الموت في طلب الثأر خير من الحياة في العار، سَمينُ الغضب مهزول، ووالي الغدر معزول، قلوب الحُكماءِ تستشِفُّ الأسرار من لمحات الأبصار، أرضَ من أخيك في ولايته ما كَنت تعهده من مودته، التواضع من مصائد الشرف، ما أحسن حسن الظن لولا أن فيه العجز، ما أقبح سوء الظن لولا أن فيه الحزم (1) وذكر في غبُون كلامه أن خادماً لعبد الله بن عمر أذنب، فأراد ابن عمر أن يعاقبه على ذنبه فقال: يا سيدي، أما لك ذنبٌ تخاف الله تعالى منه؟ قال بلى. قال: فبالذي أمهلك لّما أمهلتني، ثم أذنب العبد ثانياً، فأراد عقوبته فقال له مثل ذلك، فعفا عنه، ثم أذنب الثالثة، فعاقبه وهو لا يتكلَّمُ، فقال له ابن عمر: مالك لم تَقُل ما قلت في الأَوَّلتين فقال: يا سيدي، حياءً من حِلْمِك مع تكرار جُرمي، فبكى ابن عمر وقال: أنا أحقُّ بالحياء من ربيَ، أنت حُّر لوجه الله تعالى ومن شعره يمدح الخليفة:
يا من إذا ضمَّ السُّحابُ بمائِه ... هطلت يداه على البَرِيَّة عَسْجَدا
__________
(1) البداية والنهاية (17/ 299.(1/501)
جوَّزتَ كسرى يا مُبَحَّلَ حاتمٍ ... فغدت بنو الآمال نحوَك سُجَّدا (1)
خامساً: علاقة الملك الصالح أيوب بالخلافة العباسية:
كانت سياسة الملك الصالح نجم الدين أيوب تجاه الخلافة العباسية تتتسم بنفس التوجيهات التي تبناها أسلافه السلاطين الأيوبيين من حيث الاعتراف بمؤسسة الخلافة وشرعية سيادتها على العالم الإسلامي، والالتزام بتطبيق ذلك في الخطبة وسك النقود والأمور الرسمية الأخرى (2).
سادساً: تطوير الملك الصالح أيوب للجيش الأيوبي:
ينسب إلى السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب إدخال تشكيلات جديدة على القّوة العسكرية التي كان يتكون منها جيش السلطان الأيوبي فقد اتخذ جملة من الإجراءات العسكرية تبناها السلطان الملك الصالح نجم الدين لتقوية الجيش الذي كان يترأسه ومن أهمها؛ اهتمامه الكبير بشراء المماليك والغلمان الأتراك بشكل لم يسبق له نظير في تاريخ السلطنة الأيوبية، فخلال مدة حكمه أضاف إلى الجيش في دفعة واحدة ما تعداده من أكثر من ألف مملوكاً تركياً جلبهم من إقليم التركستان (خوارزم) ومن مناطق شمالي البحر الأسود وبحر قزوين (3)، وغيرها من الأماكن وقد أصبح العنصر التركي في عهد الملك الصالح هو الغالبية المتميزة للجيش الأيوبي وسرعان ما شكلوا نواة عسكرية - سياسية نشطه تحولت إلى دولة المماليك البحرية، بعد أقل من بضع سنين على وفاة الملك الصالح لتختفي تدريجياً العناصر المتكون منها الجيش الأيوبي، كالبربر والسودان، ومن أهم معالم التطوير في البنية العسكرية الأيوبية في عهد السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب الآتي:
__________
(1) المصدر نفسه (17/ 300).
(2) الملك الصالح أيوب وانجازاته السياسية والعسكرية ص 101.
(3) الملك الصالح أيوب وانجازاته السياسية والعسكرية ص 109.(1/502)
1 - الصالحية: وهي القوة العسكرية الجديدة من المماليك الأتراك باسم "الصالحية" نسبة إلى الملك الصالح أيوب نفسه، ومن الواضح أن الملك الصالح نجم الدين أيوب هو صاحب الفضل في تكوين هذه الفرقة الجديدة من المماليك التي تحمل أيضاً اسم البحرية والتي قدر لها أن تنهض بدور خطير في تاريخ مصر السياسي لمايقرب من قرنين ونصف ومما يقوله: ابن تغرى بردى نقلاً عن ابن واصل مؤرخ الأيوبيين: اشترى من المماليك الترك ما لم يشتره أحد من أهل بيته حتى صاروا معظم عسكره وأرجحهم على الأكراد وأمرهم (1)، ويبدو أن الملك الصالح أراد أن يشكر المماليك في جهودهم في الوصول إلى دست السلطنة، ولذلك عمل منهم جيش قوي يسانده في فرض إرادته على الأقاليم الأيوبية بعد أن لمس غدر الطوائف الأخرى من الجند المرتزقة مما دفعه إلى الاعتماد على تلك الفرقة الجديدة وترجيحهم على العناصر الأخرى السائدة (2)
__________
(1) المصدر نفسه ص 110.
(2) المصدر نفسه ص 110 ..(1/503)
وأما عن السبب في تسمية هذه الفرقة بالبحرية فالمرجح أن ذلك يرجع إلى اختيار السلطان الملك الصالح نجم الدين جزيرة الروضة على بحر النيل مركزاً لهم ولثكناتهم العسكرية - وكان معظم هؤلاء المماليك من الأتراك المجلوبين من بلاد القفجاق، شمال البحر الأسود، ومن بلاد القوقاز، قرب بحر قزوين، وقد كان للأتراك القفجاق، ميزاتهم الخاصة بين طوائف الترك العامة من حيث حسن الطلعة وجمال الشكل وقوة البأس فضلاً عن الشجاعة النادرة، ولاشك في ولاء هؤلاء لسيدهم وكانوا قد شكلوا نواة لقوة عسكرية ضاربة في الجيش الأيوبي واحتلوا نتيجة لنيلهم ثقة واعتماد السلطان رتباً عسكرية كبيرة في جيش الملك الصالح نجم الدين أيوب، مثل المكانة التي كان يتمتع بها مقدمهم ركن الدين بيبرس والذي لعب دوراً كبيراً في صعود الملك الصالح إلى السلطنة وفيما بعد في المعارك ضد الصليبيين الفرنج وخاصة معركة المنصورة (1). وكان هؤلاء الصالحية يتولى شؤونهم في التعليم والإعداد العسكري جهاز إداري محكم من الموظفين المختصين بشؤون الجيش وبخلفيات الأمم، التي ينتمون إليها وبالدين الإسلامي الحنيف، ولذا كان الإعداد العسكري يتم على مراحل حيث أن المماليك الداخلين في السلك العسكري يخضعون لمراحل من التعليم والتربية الشاملة بين الجندية ومعرفة دين الإسلام، بما يؤهلهم للتخرج وخدمة السلطان مستقبلاً حيث يشكلَّون الرافد الأساسي لجهاز السلطنة المركزي (2)، ويتم تخرجهم بعد إجادة استعمال مختلف الأسلحة واتقان فنون القتال، والفروسية المختلفة، وبعد دخولهم في السلطنة العسكرية يخضعون لنظام التربية على حسب كفاءتهم وقدراتهم وخدماتهم التي بقدمونها، كما أن التدرج الطبيعي من رتبة أولى إلى أخرى أعلى منها هو أسلوب الترقية السائد (3)
__________
(1) الملك الصالح أيوب وانجازاته السياسية والعسكرية ص 111.
(2) المصدر نفسه ص 111.
(3) المصدر نفسه ص 111 ..(1/504)
وبالنسبة إلى زيهم العسكري، فالمماليك الصالحية كأمراء فرسان كانوا يلبسون زياً يختلف عن زي رجال المشاة وكان هذا الزي مأخوذاً عن الجيش الأيوبي لأنهم ضمن تشكيلات هذا الجيش، التي بدورها تعكس ما كان سائداً لدى العباسيين (1).
- ثكنات المماليك الصالحية في جزيرة الروضة: اتخذ الملك الصالح أيوب لمماليكه قاعدة في جزيرة الروضة تعرف قلعة الجزيرة أو قلعة الروضة، وجعلها مقراً لهم وشرع في حفر الأساس وبنائها بين عامي 637هـ/1239م و638هـ/1240م ولتطوير هذه الثكنات هدم الكثير من الدور والقصور والمساجد التي كانت في الجزيرة وأدخلت في نطاق القلعة مشيداً فيها مبان كثيرة منها ستين برجاً، وأقام بها مسجداً وغرس بداخلها أنواعاً شتى من الأشجار، ومن شحنها بالسلاح والآلات الحرب وما يحتاج إليه من الغلال والأزواد والأقوات وقد انفق السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب على عمارتها أموالاً كثيرة، وكان السلطان يقف بنفسه ويرتب ما يعمل بها وقد عمل كل ذلك من أجل أن ينتقل من قلعة الجبل ويسكن مع مماليكه البحرية (2).
__________
(1) المصدر نفسه ص 113.
(2) الملك الصالح أيوب وانجازاته السياسية والعسكرية ص 114.(1/505)
2 - الخوارزمية: كانت الخوارزمية قوة تركية دخلت الأراضي الشرقية التي في حوزة الملك الصالح في أعقاب هزيمة السلطان الخوارزمي جلال منكبرتي أمام المغول في سنة 628هـ/1230م وهي فرقة من الفرسان قوامها اثنا عشر ألف فارس أو يزيد (1)، يترأسها مقدمهم بركة خان، ثم أصبحت احدى تشكيلات جيش السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بعد التفاهم الذي توصل إليه معهم في ذلك عندما كان ملكاً في المشرق الأيوبي، وهم يشبهون الصالحة من ناحية جنسهم التركي إلا أن ولائهم السياسي ظل مرتبطاً بمصالحهم الشخصية والسياسية، ولعبوا دوراً كبيراً أبان إمارة وسلطنة الملك الصالح أيوب، ويلاحظ بأن قوة الخوارزمية قد احتفظت بتقاليد الجيش الخوارزمي وتنظيماته التي نقلتها بدورها إلى مفردات الجيش الأيوبي وتنظيماته وبالرغم من اسهامات الخوارزمية في خدمة السلطان الصالح أيوب إلا أنه كان قليل الثقة بهم لعدم الإخلاص في ولائهم له (2)، إلا أنه استخدامهم إلى حين ثم تخلص منهم كما مرّ معنا.
3 - عرب بنو كنانة: لم يكن عرب بنو كنانة قوة نظامية بل كانوا يشكلون احدى القوى الاحتياطية لجيش الملك الصالح نجم الدين أيوب، وكان لهم دور كبير في حماية مدينة دمياط أثناء الحملة الصليبية عليها في سنة 646هـ/1249م وكان دورهم في الشام أكبر وإسهاماتهم أكثر في حماية المدن المختلفة (3).
__________
(1) المصدر نفسه ص 115.
(2) المصدر نفسه ص 116.
(3) المصدر نفسه ص 117.(1/506)
4 - اهتمام الأيوبيين بتربية المماليك الإسلامية: فأول ما يبدأ به تعليم المماليك ما يحتاجون إليه من القرآن الكريم ولكل طائفة فقيه يأتيها كل يوم، ويأخذ في تعليمها القرآن ومعرفة الخط، والتمرين بآداب الشريعة الإسلامية وملازمة الصلوات والأذكار وصار الرسم إذ ذاك إلا تجلب التجار إلا المماليك الصغار، فإذا صار إلى سنة البلوغ أخذ في تعليمه فنون الحرب في زمن السهام ولعب الرمح ونحو ذلك، فيتسلم كل طائفة معلم حتى يبلغ الغاية من معرفة ما يحتاج إليه، وإذا ركبوا إلى لعب الرمح أو رمي النشاب لا يجسر جندي ولا أمير أن يحدثهم أو يدنو منهم، عند ذلك ينقل إلى الخدمة وينتقل في أطوارها رتبة بعد رتبة إلى أن يصير من الأمراء فلا يبلغ هذا إلا وقد تهذبت أخلاقه وكثرت أدابه وأمتزج تعظيم الإسلام وأهله بقلبه، وأشتد ساعده في رماية النشاب وحسن لعبه بالرمح ومرن على ركوب الخيل، وقد كان لهم خداماً وأكابر من النواب يفحصون الواحد منهم فحصاً شافياً ويؤاخذونه أشد المؤاخذة، ويناقشونه على تحركاته وسكناته فإن عثر أحد مؤدبيه الذي يعلمه القرآن أو رأس النوبة الذي هو حاكم عليه، على أنه اقترف ذنباً، أو أحل برسم أو ترك أدباً من آداب الدين أو الدنيا، قابله على ذلك بعقوبة شديدة بقدر جرمه فلذلك كانوا سادة يدبرون الممالك وقادة يجاهدون في سبيل الله وأهل سياسة يبالغون في إظهار الجميل ويردعون من جار أو تعدى (1)
__________
(1) الخطط (2/ 213 - 214) في التاريخ الأيوبي والمملوكي ص 84 ..(1/507)
وللمماليك الصالحية النجمية بالقاهرة خانات ودروب وحمامات ومدارس على غرار منشآت المماليك الأسدية والصلاحية، نذكر منها المدرسة الغزنوية التي بناها الأمير علاء الدين البند قدارى الصالحي النجمي ومطبخ سكر الأمير فارسى أقطاي الصالحي النجمي، وحمام الرومي بجوار حارة برجوان نسبة إلى الأمير سنقر الرومي الصالحي (1) وكل هذا يدل على أن الدولة الأيوبية استخدمت المماليك الأتراك استخداماً واسعاً بدليل كثرة المباني والعمائر التي شيدها هؤلاء المماليك (2).
5 - هل السلطان الصالح نجم الدين هو أول من سمّى المماليك البحرية بذلك؟
بقيت مسألة تستحق التصحيح في موضوع المماليك البحرية هي أن معظم المؤرخين السابقين والمحدثين أجمعوا على أن السلطان الصالح نجم الدين أيوب هو من أول من رتب المماليك البحرية وأول من سماهم بذلك نسبة إلى بحر النيل الذي أحاط بثكناتهم في جزيرة الروضة غير أن هذا الرأي لا يسند على أساس صحيح للأسباب التالية:
- المؤرخون المعاصرون للصالح أيوب أمثال ابن واصل والي شامه لم يشيروا إلى بحر النيل كأصل لكمة بحرية، هذه النسبة أوردها بعض المؤرخين المتأخرين أمثال المقريزي، وأبي المحاسن (3).
- من المعروف أن الفاطميين من قبل، كانت لهم طائفة من الجند تعرف بالغز البحرية، كذلك كان للسلطان العادل الأول جد الصالح فرقة من المماليك، أسماها البحرية العادلية، وهذا بدل على أن الملك الصالح أيوب لم يكن أول من اخترع هذا اللفظ.
__________
(1) الانتصار لواسطة عقد الأمصار (4/ 44) في التاريخ الأيوبي والمملوكي، أحمد العبادي ص 84.
(2) في التاريخ الأيوبي والمملوكي، أحمد العبادي ص 84.
(3) في التاريخ الأيوبي والمملوكي، أحمد مختار العبادي ص 85.(1/508)
- يروى الخزرجي أن سلطان اليمن نور الدين عمر بن رسول (ت647هـ) الذي كان معاصراً للصالح أيوب في مصر، استكثر من المماليك البحرية حتى بلغت عدتهم ألف فارس وكانوا يحسنون من الفروسية والرمي مالاً يحسنه مماليك مصر وكان معه من المماليك الصغار قريب متهم في العدد خارجاً عن حلقته وعساكر امرائه هذا النص يدل على أن لفظ بحرية استخدم في بلاد إسلامية بعيدة كل البعد عن بحر النيل.(1/509)
- أطلق المؤرخون العرب المعاصرون على بعض الفرق المسيحية العسكرية التي جاءت من أوروبا إلى الشام أثناء الحروب الصليبية اسم الفرنج الغرب البحرية، فيروى أبو شامة أنه في سنة 593هـ فتح الملك العادل يافا ومن عجيب ما بلغني أنه كان في قلعتها أربعون فارساً من الفرنج البحرية فلما تحققوا نقب القلعة وأخذها دخلوا كنيستها وأغلقوا عليهم بابها وتجالدوا بسيوفهم بعضهمم لبعض إلى أن هلكوا وكسر المسلمون الباب وهم يرون أن الفرنج ممتنعون فالفوهم قتلى عن آخرهم، فعجبوا عن حالهم (1)، فلفظ بحرية أذن لم يكن جديداً على مصر حينما أنشأ الملك الصالح أيوب فرقته البحرية، بل كان لفظا عاماً أطلق على المسلمين والمسيحين سواء كما استخدم في مصر وفي خارج مصر قبل عهد الصالح أيوب وهذا يؤيد القول بأن نسبة هذا اللفظ إلى بحر النيل أمر مشكوك في صحته، وأغلب الظن أنهم سموا بحرية لأنهم جاءوا من وراء البحار (2)، وجوانفيل الذي حارب المماليك البحرية الصالحية في حملة لويس التاسع وأسر عندهم وتحدث إليهم رواتبهم لها قيمتها بصفته رجلاً معاصراً وشاهد عيان، وإذا علمنا أن المماليك البحرية زمن الأيوبيين والمماليك عبارة عن فئة من الغرباء الذين حلبوا من أسواق النخاسة بالقوقاز وآسيا الصغرى وشواطئ البحر الأسود ثم بحر القرم إلى خليج القسطنطينية ومنه إلى البحر الأبيض المتوسط حيث يسيرون فيه إلى ميناء الإسكندرية أو دمياط تأيدت لدينا عبارة جوانفيل (3).
__________
(1) المصدر نفسه ص 86.
(2) المصدر نفسه ص 86.
(3) في التاريخ الأيوبي والمملوكي للعبادي ص 87 نقلاً عن صبح الأعشى.(1/510)
المبحث الثاني: الحملة الصليبية السابعة:
أولاً: أسبابها:
لم تمضي ثلاث سنين على انتهاء الحملة الصليبية السادسة التي استهدفت مصر، حتى توجهت الحملة بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا إلى هذا البلد بهدف الاستيلاء عليه وتحقيق الحلم الصليبي القديم وهو استعادة بيت المقدس وأراضي بلاد الشام، وتدعيم الكيان الصليبي المتداعي، وحدث عقب المعركة التي انتصر فيها الملك الصالح أيوب وحلفاؤه الخوارزميون على التحالف الدمشقي الصليبي والتي سمي معركة أرِبيا، أن أرسل روبرت، بطريرك بيت المقدس، سفارة إلى أوروبا الغربية مؤلفة من جاليران، أسقف بيروت، وألبرت بطريق أنطاكية، لتشرح للبابا إنوسنت الرابع (1242 - 1254م) خطورة الموقف في بلاد الشام وتطلب منه المساعدة العاجلة حتى لا يتعرض الصليبيون للفناء (1).
__________
(1) رنسيمان الحروب الصليبية (3/ 440 - 441).(1/511)
وفي شهر محرم عام 643هـ/شهر حزيران عام 1245م، عقد البابا مجمعاً في مدينة ليون الفرنسية للتباحث فيما ينبغي اتخاذه من تدابير لمقاومة أطماع الأمبراطور، ولحق به أعضاء السفارة وقدَّموا للجميع تقريراً عن أوضاع الصليبيين في الشرق، فتقرر إرسال حملة صليبية جديدة لتدارك الموقف قبل فوات الأوان (1) وكان عند الملك الفرنسي لويس التاسع من الدوافع ما حمله على الاشتراك بها، بينما أحجمت ألمانيا وإيطاليا عن مساندتها، بفعل الصراع الذي كان قائماً آنذاك بين البابوية والأمبراطورية والحقيقة أن الأمبراطور فريدريك الثاني انتهج سياسة مزدوجة تجاه الحملة، حيث قام بتزويدها بالمؤن عند مرورها بصقلية في طريقها إلى قبرص، كما احتفظ بعلاقات طيبة مع حلفاء الكامل محمد، فاتصل سراً بالصالح أيوب وأرسل إليه سفارة يعلمه بتحرك الصليبيين ونواياهم، لقد تعَّدت وتشعَّبت أسباب هذه الحملة، فمنها أسباب رئيسية تنطوي على الدوافع الحقيقية لقيامها، كما أن هناك عوامل ثانوية ساعدت على التنفيذ (2) ولعل من أهم الدوافع الحقيقية التي أثارت المجتمع الغربي بعامة شعور الملك الفرنسي بخاصة وحضَّرت الجميع للثأر هي:
1 - تعُّرض الصليبيين في الشرق إلى مضايقات خلال النصف الأول من القرن الثالث عشر الميلادي على يد الخوارزميين، بشكل خاص.
2 - ضياع بيت المقدس منهم، حيث استعادها الصالح أيوب بمساعدة الخوارزميين الذين نكَّلوا سكانها النصارى، ونهبوا دورهم وأموالهم، حتى أضحى وضعهم مقلقاً من وجهة النظر الصليبية.
3 - لقد أنزل المسلمون ضربات قاسية بباقي الممتلكات الصليبية في بلاد الشام تمثَّل بعضها باستعادة الصالح أيوب، طبرية وعسقلان، حتى أضحت باقي ممتلكاتهم ومعاقلهم مهَّددة بالخطر والضياع (3).
__________
(1) تاريخ الأيوبيين في مصر وبلاد الشام ص 377.
(2) العدوان الصليبي على مصر، هزيمة لويس التاسع ص 47 - 56.
(3) تاريخ الأيوبيين في مصر وبلاد الشام ص 378.(1/512)
وأما فيما يتعلق بالعوامل الثانوية فلعل أهمها:
1 - لقد حدث أن مرض لويس التاسع حتى أشرف على الموت، ولما أفاق من شدة المرض، نذر إن منَّ الله عليه بالشفاء أن يحمل الصليب ويذهب لغزو الأراضي المقدسة.
2 - يرى بعض المؤرخين أن الملك الفرنسي حمل الصليب، وتعهد بالقيام بحرب مقدسة لإنقاذ صليبي الشرق، إثر رؤيا ظهرت له أثناء مرضه فحواها أنه رأى فيما يرى النائم شخصين يتقاتلان أحدهما مسلم والآخر نصراني، وقد انتصر الأول على الثاني، ففسّر هذه الرؤيا بحاجة صليبي الشرق للمساعدة، وأن الله أناط به هذه المهمة.
3 - كان للآثار والذخائر الدينية المقدسة التي حصل عليها لويس من حنادي بريين، الملك الإسمي لبيت المقدس، وبلدوين الثاني، أمبراطور القسطنطينية اللاتيني، أثر غير مباشر، دفعه للقيام بحملته على مصر من أجل استعادة بيت المقدس.
4 - نتيجة لوقوع الكوارث بالصليبيين في الشرق، فقد أرسل هؤلاء الرسل إلى الغرب الأوروبي يستنجدون به، كما أشرنا، وأنذروا الأوروبيين باحتمال ضياع ما تبقَّى من ممتلكاتهم إذا لم يلبوا نداء الاستغاثة (1).
5 - ساند البابا إنوسنت الرابع مشروع لويس التاسع، فدعا إلى الاشتراك بالحملة الصليبية السابعة، خشية أن يطغى نفوذ الملك الفرنسي، الذي اشتهر بالورع والتقوى، وعُرف بمواقفه الحازمة حيال الكنيسة ورجال الدين، على نفوذه كرجل دين ورئيس أعلى للكنيسة اللاتينية (2).
__________
(1) المصدر نفسه 378.
(2) تاريخ الأيوبيين في مصر وبلاد الشام ص 379.(1/513)
ومن الأهمية بمكان، دراسة دوافع الملك لويسع التاسع الفرنسي في مشاركته للمشروع الصليبي، ويلاحظ أن مؤرخ سيرته جان دي جوانفيل، قد أضفى عليه طابعاً دينياً على نحو فعل العديد من الباحثين يتصورون ذلك الجانب في الملك الفرنسي المذكور، وجاء المؤرخون الفرنسيون المحدثون ليعمقوا الفكرة بشأن القديس لويس، فهل صفة القداسة التي ارتبطت بلويس التاسع تعني أننا أمام قائد صليبي يحركه الدين في المقام الأول؟ خاصة أنه الملك الوحيد من بين الذين شاركوا في دعم الحركة الصليبية من بين ملوك أوروبا من وصف بالقداسة، ونجد له - على ذلك - مادة مستقلة في الدراسات الخاصة بمعاجم القدسين (1)؟ وفي تصور المؤرخ الدكتور محمد مؤنس عوض: أن ذلك الملك الفرنسي من التجني على الموضوعية التاريخية الواجبة أن نتعامل معه مع الرؤية الجوانقيلية التي صيغت في القرن الثالث عشر الميلادي/السابع الهجري والمنطق يدعونا إلى تصور البواعث الحقيقية المحركة لذلك الملك الفرنسي، وفي هذا النطاق نعرف أن لويس التاسع أراد تدعيم نفوذ آل كابيه الفرنسية فيما وراء البحر لدى ذلك الملك رؤية اقتصادية لتكوين مستعمرات فرنسية جديدة في النطاق البحر المتوسط كذلك لا تغفل رغبته في زعامة أوروبا للمشروع الصليبي في النصف الثاني من القرن الثالث عشر الميلادي/السابع الهجري، ولا تغفل زاوية أخرى على جانبها الكبير من الأهمية في صورة رغبة ذلك الملك الداهية الذي اتشح بثياب الدين في تكوين حلف مغولي/صليبي ضد المسلمين (2).
__________
(1) الحروب الصليبية العلاقات بين الشرق والغرب ص 306.
(2) المصدر نفسه ص 306.(1/514)
وهذا الموقف يكشف لنا كيف أن ذلك الملك الفرنسي اتبع أسلوباً جديداً في صنع التحالفات السياسية مع القوى الدولية حتى تلك الواقعة خارج النطاق الجغرافي الأوروبي من أجل تطويق المسلمين على نحو يكشف لنا مدى تنامي الحركة الصليبية ودخولها أطواراً جديدة، تعكس استعار العداء الأوروبي تجاه الإسلام وأهله والتفكير في أساليب جديدة للصراع، خاصة بعد أن فشلت العديد من الحملات الصليبية في تحقيق أهدافها، ولا ريب في أن ما أورده مؤرخ سيرته في هذا الصدد خير دليل يدعم ذلك التصور (1) ويتضح لنا بجلاء، أن لويس التاسع حركته عدة دوافع مجتمعه كل منها له شأنه في الصراع الإسلامي - الصليبي حينذاك أما اتجاه المؤرخين الأوروبيين ولاسيما الفرنسيين على نحو خاص - لإضفاء طابع المجد حول ذلك الملك الفرنسي على نحو خاص، فكان الهدف منه خلق نموذج للبطولة الأوروبية في المرحلة القروسطية لتعميق فكرة الحروب الصليبية والتضحية من أجل المسيحية حتى في عصرنا الحالي وقد ساهم الجانب الدعائي على نحو كبير في جعل ذلك الملك وكأنه أسطورة أوروبية، وقد بدأ ذلك الجانب منذ جان دي جوانقيل، وحتى الآن على الرغم من أن انجازاته في عالمي الحرب والسياسة لا تضمن له البتة، ذلك المستوى الرفيع الذي صورته به أقلام الغرب (2) الأوروبي.
__________
(1) المصدر نفسه ص 306.
(2) الحروب الصليبية العلاقات بين الشرق والغرب ص 307.(1/515)
ثانياً: الإعداد للحملة: تبنى البابا أنوسنت الرابع هذه الحملة وأعلن تأييده لها وكانت دعواه عاملاً فعالاً في إعدادها فضلاً عن لويس التاسع الذي أخذ على عاتقه مهمة النهوض بالحملة، وقد استغرق إعداد الحملة ثلاث سنوات، وفرضت ضرائب استثنائية على الجميع بما فيهم رجال الدين للإنفاق على الحملة، كما عقد لويس التاسع مجلساً كبيراً في باريس حضره كبار رجال المملكة والكنيسة ودعاهم إلى حمل الصليب والإنضمام إلى صفوف الحملة، ونجح في إثارة حميتهم الدينية وبادر بالإنضمام للحملة أخوته الثلاثة، روبرت كونت أرتو، والفونس كونت بواتيه، وشارل كونت أنجو، وعدد كبير من الشخصيات التي تركت فرنسا بمقاطعاتها المختلفة - تسهاهم - للإنضمام إلى صفوف الحملة، ومن جانب آخر قام لويس بتجهيز أسطول كبير لنقل الجنود والعتاد عبر البحر بعدما تقرر استبعاد الطريق البري حتى يضمن نجاح حملته واستأجر عدد من السفن من جنوه ومرسيليا لهذا الغرض، كما عمل لويس على توفير العتاد والمؤن فضلاً عن المال لتغطية نفقات الحملة، واستعان بالبابا في هذا الصدد لأن البابا هدد بإنزال قرارات الحرمان على كل من يخالف التعليمات التي أصدرها من أجل إعداد الحملة، وبعد أن انتهى لويس من المشاكل الخاصة بالنقل والتموين وموارد الحملة، عمل على تنظيم مملكته وإقرار الأمن والنظام بداخلها قبل سفره، وأناب عنه في الحكم والدته الملكة بلانش، وأحضر من يعملون في بلاطه ليقسموا بمين الولاء والطاعة له وللملكة الأم أثناء غيابه (1).
__________
(1) تاريخ الحروب الصليبية، محمود سعيد عمران ص 307.(1/516)
ثالثاً: رحيل الحملة إلى مصر: غادر الملك والحملة مدينة باريس إلى مدينة ليون حيث كان البابا أنوسنت الرابع فحصل منه، على والبركة والغفران - بالمفهوم المسيحي - تم اتجه إلى ميناء إيجسمورت جنوب فرنسا في الثالث عشر من يونيه عام 1548م ومن جنوب فرنسا أبحرت الحملة إلى جزيرة قبرص حيث مكثت بالجزيرة حوالي ثمانية أشهر، وخلال هذه الفترة تسربت أخبار الحملة إلى مصر، فاستعدت القيادة - الأيوبية - لمواجهة الغزاة وحصنت مدينة دمياط التي كانت تتوقع الهجوم عليها وزودت المدينة بالمقاتلة والمؤن (1)
__________
(1) تاريخ الحروب الصليبية د. محمود سعيد ص 308 ..(1/517)
وكان السلطان الأيوبي الصالح أيوب في بلاد الشام عندما وصلت إليه الأبناء بتحركات الصليبيين، فأسرع بالعودة إلى مصر بعدما عقد صلحاً مع صاحب حمص، ونزل ببلدة أشموم طناح في الثالث في صفر عام 647هـ/الثامن عشر من مايو عام 1249م ليكون في مواجهة القوات الصليبية إذا ما وصلت إلى دمياط، وزاد الصالح أيوب في تحصين المدينة وإعداد الجيوش وعهد إلى طائفة من بني كنانة لما عرف عنهم بالشجاعة لحماية المدينة من الداخل والخارج، كما أصدر أوامره إلى نائبه في حكم مصر حسام الدين بن علي لإعداد قطع الأسطول وإرسالها إلى دمياط تباعاً وأوفد السلطان الأمير فخر الدين يوسف مقدم العساكر على رأس جيش كبير إلى البر الغربي لدمياط "جيزة دمياط" حتى يكون في مواجهة الصليبيين عند وصولهم إلى بر المدينة الغربي، كما حدث في الحملة الصليبية الخامسة، ويروي ابن تغري أنه في يوم السبت من ذي القعدة وقع الشروع في عمل عدة مراكب للرد على غزو الفرنج واستمر العمل فيهم كل يوم إلى أن نزل السلطان في يوم الثلاثاء الحادي عشر من صفر سنة ثمان وعشرين وستمائة وكشف عمل المراكب وأضاف وفي هذه الأيام كثرت الأطيار بحركة الفرنج فخرج عدد من الأمراء المماليك لحراسة الثغور وفي هذا الشهر أخذ السلطان في تجهيز الغزاة وعيّن جماعة كبيرة من المماليك السلطانية والأمراء وألزم كل أمير أن يجهز عشرة من مماليكه (1).
__________
(1) المصدر نفسه ص 308.(1/518)
وعندما خرجت الحملة من إيجسمورت أسند لويس التاسع قيادة الأسطول إلى الجنوبيين لخبرتهم في شؤون الملاحة، وتقدم الأسطول السفينة التي تحمل عمل القديس دنيس شعار فرنسا، ورست الحملة في ميناء ليماسول جنوب قبرص في السابع عشر من سبتمبر عام 1248م وفي الوقت نفسه أبحر بعض الصليبيين ومن بينهم مؤرخ الحملة جوانفيل من مرسيليا في سبتمبر من العام نفسه ولحقوا بإخوانهم في قبرص بعد رحلة شاقة وفي قبرص تناقش الصليبيون في تحديد وجهة الحملة وبعد دراسة مستفيضة تقرر أن تكون مصر هدف الحملة بسبب ما أدركه الصليبيون من أهمية مصر لقوتها وثروتها وقيامها بالدفاع عن الأراضي المقدسة (1) وأمضت الحملة في قبرص حوالي ثمانية أشهر (سبتمبر 1248م - مايو 1249م رغم رغبة الملك في التقدم بسرعة نحو مصر ولكنه نزل عن رغبته لنصيحة قواده الذين آثروا الانتظار حتى يلحق بالحملة بقية الجيش الذي لم يصل بعد إلى قبرص، وقد عاد التأخير بالفائدة على القيادة الإسلامية في مصر لأنها سارعت بالاستعداد لمواجهة الحملة (2) وأثناء وجود قوات الحملة السابعة في قبرص حدثت تطورات غاية في الأهمية أثرت على مجريات الحملة فيما بعد ومن هذه التطورات.
1 - الأخبار التي وصلت إلى مصر معلمة بأخبار الحملة الصليبية السابعة وقد كان ذلك عن طريق الإمبراطور فريدريك تحذر الصالح أيوب من هذه الحملة، حيث يقول فريدريك: إنه وصل "ريد فرانسس" - لويسع التاسع - في خلق كثير، وقد اجتهدت غاية الاجتهاد على رده عن قصده وخوفته فلم يرجع لقولي فكن على حذر منه (3).
__________
(1) تاريخ الحروب الصليبية د. محمود سعيد ص 308.
(2) المصدر نفسه ص 308.
(3) دراسات في تاريخ الأيوبيين والمماليك، جبران والعبادي ص 210.(1/519)
2 - المصاعب التي رافقت الحملة منذ إبحارها من شواطئ فرنسا وحتى وصولها قبرص، ومنها الأمراض التي ألمت بالجيش الفرنسي، والخوف والضجر الذي رافق مسيرة الحملة، وقد عبر عن ذلك مؤرخ الصليبية السابعة جوانفيل بقوله: لم نعد نرى الأرض، ما نراه هو الماء والسماء وفي كل يوم تأخذنا الريح بعيداً عن الأرض التي ولدنا فيها ولاحقت الأمراض الجيش الفرنسي أثناء وجوده في قبرص ويشير أحد المؤرخين، الأوروبيين إلى ذلك بقوله إن 240 من السادة وكبار القوم قد تعرضوا للموت بسبب المرض (1).
3 - الاختلاف بين قائد الحملة والأمراء حول تاريخ التحرك إلى مصر وقد كانت الآراء ما بين الدعوة إلى التحرك السريع لهدفهم وهو مصر، ورأي آخر يدعو إلى التريث والبقاء في قبرص لفترة يتم خلالها استكمال الاستعدادات والراحة للجيش الصليبي، واستقر الرأي على تأخير موعد تحرك الجيش إلى فصل الربيع، وبذا تكون الحملة قد أمضت في قبرص من سبتمبر 1248 - مايو 1249م حصلت خلالها القوات الصليبية على بعض المساعدات من القبارصة (2).
4 - ما وصل إلى لويس من أخبار عن صراعات بين القوى المسيحية في الشرق وبخاصة الصراع الذي نشب بين ملك أرمينيا وأمراء أنطاكية، وما كان لذلك من تأثير على الجبهة الصليبية التي يريد لويس التاسع أن تكون في وضع يؤهلها لتقديم المساعدات له عند وصوله إلى مصر وبلاد الشام (3).
__________
(1) المصدر نفسه ص 21.
(2) الحركة الصليبية (2/ 1008).
(3) دراسات في تاريخ الأيوبيين والمماليك ص 211.(1/520)
5 - واجهت الحملة في قبرص بعض الصعوبات، ومنها الصعوبات المالية نظراً لطول الفترة الزمنية التي قضتها جيوش الحملة في قبرص، وكان ممن تعرض إلى ضائقة مالية مؤرخ الحملة جوانفيل والذي اضطر للاستدانة، وطلب المساعدة من لويس التاسع وحصل منه على أقل مما يكفيه، ويقول روبرت نايني حول ذلك: لقد كان من حسن الحظ أن تمكن جوانفيل من الحصول على هذه المساعدة والإ لكان غادر قبرص عائداً إلى فرنسا، وحينها لم يكن استطاع أن يكتب كتابه الهام، عن هذه الحملة (1)، وإضافة إلى الصعوبات المالية، فقد واجهت القوات الصليبية ولويس التاسع علاقات متذبذبة مع ملك قبرص (2).
__________
(1) المصدر نفسه ص 211.
(2) المصدر نفسه ص 212.(1/521)
6 - من الأحداث الهامة والمرتبطة بالحملة الصليبية السابعة أثناء وجود قائدها وقواتها في قبرص الاتصالات التي جرت مع المغول، وفقاً لرواية مؤرخ الحملة الصليبية السابعة جوانفيل، فإن حاكم المغول قد أرسل رسولين من قبله وصلاً إلى قبرص وكان من جملة ما ورد في الرسائل التي يحملانها: أن ملك التتار يبدي استعداده لمعاونة لويس التاسع في التحرك لغزو الأرض المقدسة بهدف تخليص القبر المقدس من أيدي المسلمين (1)، ويهمنا أن نشير إلى أن المبعوثين من قِبل المغول هما شخصيتان من المسيحيين النساطرة، أحدهم يسمى داوود والثاني مارك وقد استقبل بحفاوة من قِبل الصليبيين ومكثا في قبرص من ديسمبر 1248 - يناير 1249م حيث غادر ومعهما وفد من قبِل لويس لمقابلة القائد العسكري المغولي الجيغداي والذي بدوره سيؤمن وصول الوفد المبعوث من قِبل لويس التاسع إلى الحاكم المغولي في قراقوم (2) وعلى أية حال فإن هذه الاتصالات لم تثمر عن أي مساعدة فعلية، للطرف الصليبي في غزوه لمصر وبلاد الشام، وأحد أسباب فشل محاولات التحالف المغولية الصليبية يعود إلى النظرة المغولية المتعالية حيال القوى المختلفة، حيث كان المغول يرون ضرورة تبعية جميع القوى لهم، ولم يقبلوا مبدأ الندية أو التماثل في التعامل، وفيما يتعلق بهذه المحاولة فتشير المصادر إلى أن ردود المغول على لويس التاسع جعلته يندم على إرساله الرسل والهدايا للمغول، إضافة إلى أن رد المغول على لويس التاسع جاء متأخراً حيث وصلته ردودهم في قيسارية فلسطين سنة 1251م أي بعد انتهاء الحملة الصليبية السابعة وفشلها (3)،
__________
(1) المصدر نفسه ص 212.
(2) دراسات في تاريخ الأيوبيين والمماليك ص 212.
(3) المصدر نفسه ص 213 ..(1/522)
وحين قرر لويس التاسع التحرك من قبرص إلى هدفه وهو مصر صادفته صعوبات أخرى ومنها أن الأسطول الذي كان يستعد للإبحار به قد تعرض إلى عاصفة دمرت الكثير من سفنه، وهذا دعاه إلى توجيه نداء إلى الصليبيين في عكا لتزويده بسفن لنقل جنوده إلى ميدان المعركة إلا أن ظروف الصراع والاقتتال بين مجموعات الجنوية والبنادقة في عكا حال دون تقديمهم أية مساعدة في هذا المجال وزاد من تعقيد الأمور أن خطته لغزو الأراضي المصرية أصبحت معلومة لدى الطرف الأيوبي مما جعل الصالح أيوب يتحرك من بلاد الشام إلى مصر، وقد سبق أن أشرنا إلى أن تحركات الحملة الصليبية السابعة أصبحت معروفة للطرف الأيوبي من خلال رسائل فريدريك الثاني، وجواسيس الصالح أيوب في قبرص (1)، هذه الظروف المحيطة بالحملة جعلت أحد المؤرخين الأوروبيين يقول أن هذه الأحداث وكأنها إشارة من الرب للويس التاسع تقول له: عليك العودة إلى فرنسا فالحملة التي تقود فاشلة وحاول انقاذ ما يمكن إنقاذه.
__________
(1) المصدر نفسه ص 213.(1/523)
رابعاً: احتلال دمياط: أبحرت سفن لويس التاسع مغادرة الموانئ القبرصية "لمياسول" في 13 مايو 1249م ووصلت إلى قبالة دمياط في يوم 4 حزيران 1249م، وبدأت أولى جهود الصليبيين موجهة إلى مدينة دمياط للسيطرة عليها ورغم ما قام به الأيوبيون من تحصين سابق للمدينة إلا أن دمياط سقطت بيد الصليبيين في اليوم السادس من حزيران 1249م من عام 647هـ وقد كانت سهولة سيطرة الصليبيين عليها مثار استغراب عند الصليبيين والمسلمين، وقد عبر المؤرخون المسلمون والصليبيون (1) عن ذلك، فالمقريزي يقول أصبح الفرنج يوم الأحد لسبع بقين من صفر سائرين إلى مدينة دمياط، فعندما رأوا أبوابها مفتحة، ولا أحد يحميها خشوا أن تكون مكيدة، فتمهلوا حتى ظهر أن الناس قد فروا وتركوها، فدخلوا المدينة بغير كلفة ولا مؤنة حصار (2)، وقد ألقت المصادر باللائمة على أحد القادة العسكريين في الطرف الإسلامي في سبب سقوط دمياط وهذا القائد هو الأمير فخر الدين بن الشيخ، إضافة إلى أن بعض أفراد القبائل العربية والتي عهد إليها الصالح أيوب بالدفاع عن المدينة وهم بني كنانة قد تركوها وانسحب هؤلاء جميعاً إلى حيث يوجد معسكر الملك الصالح أيوب في منطقة أشموم طناح (3). كما هرب بعض عرب كنانة الذين عهد إليهم الملك الصالح أيوب بالدفاع عن المدينة: وتركوا أبواب المدينة منفتحة، وفاتهم عند فرارهم أن يقطعوا الجسر الذي يربطها بالضفة الغربية للنيل وأصبحت دمياط بذلك مدينة مفتوحة، فدخلتها القوات الصليبية في 23صفر/6حزيران وتملكتها بغير قتال (4)
__________
(1) دراسات في تاريخ الأيوبيين والمماليك ص 214.
(2) السلوك (1/ 335 - 336).
(3) ماهية الحروب الصليبية ص 157.
(4) الوعي بالتاريخ وصناعة التاريخ ص 70 ..(1/524)
وابتهج الصليبيون باستيلائهم على دمياط بتلك السهولة وفي المقابل، أرتاع المسلمون لسقوطها، وحزن الصالح أيوب حزناً شديداً، فعنَّف مماليكه، ووبخَّهم لإهمالهم في الدفاع عنها، وشنق ما يزيد عن خمسين من رجال بني كنانة الذين تركوا مواقعهم الدفاعية وهربوا (1)، بعد أن استفتى الفقهاء وأفتوا بقتلهم (2)، والواقع أن فخر الدين يوسف بتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية (3)، وقد أطنب المقريزي في وصف ما حدث فقال: فلما رأى أهل دمياط رحيل العسكر، خرجوا كإنما يسحبون على وجوههم طول الليل، ولم يبق بالمدينة أحد البتة، وصارت دمياط فارغة من الناس جملة، وفروا إلى أشموم مع العسكر، وهم حفاة عراة جياع فقراء، حيارى بمن معهم من الأطفال والنساء وساروا إلى القاهرة، فنهبهم الناس في الطريق، ولم يبق لهم ما يعيشون به فُعدَّت هذه الفعلة من الأمير فخر الدين من أقبح ما يشنع به وقد كانت دمياط في أيام الملك الكامل، لما نازلها الفرنج، أقل ذخائر وعدداً منها في هذه النوبة، ومع ذلك لم يقدر الفرنج على أخذها إلا بعد سنة، عندما فنى أهلها بالوباء والجوع، وكان فيها هذه المرة أيضاً جماعة من شجعان بني كنانة فلم بغني ذلك شيئاً (4) ... وعندما وصلت العساكر إلى أشموم طناح ومعهم أهل دمياط اشتّد حنق السلطان على الكنانيين، وأمر بشنقهم فقالوا: وما ذنبنا إذا كانت عساكره جميعهم وأمراؤه هربوا وأحرقوا الزرخاناه، فأي شيء نعمل نحن؟ فشنقوا لكونهم خرجوا من المدينة بغير إذن، حتى تسلمها الفرنج، فكانت عدّة من شنق زيادة على خمسين أميراً من الكنانيين، وكان فيهم أمير حَشيم وله ابن جميل الصورة، فقال أبوه: بالله اشنقوني قبل ابني.
__________
(1) السلوك (1/ 438).
(2) الوعي بالتاريخ وصناعة التاريخ ص 70.
(3) تاريخ الأيوبيين ص 382.
(4) السلوك لمعرفة دول الملوك (1/ 438).(1/525)
فقال السلطان: لا بل اشنقوه قبل أبيه، فشنق الابن، ثم شنق الأب من بعده بعد أن استفت السلطان الفقهاء فأفتوا بقتلهم، وتغير السلطان على الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ، وقال: أما قدرتم تقفون ساعة بين يدي الفرنج؟ وما قتل منكم إلا هذا الضيف الشيخ نجم الدين وكان الوقت لا يسع إلا الصبر والتغاضي وقامت الشناعة من كل أحد على الأمير فخر الدين، فخاف كثير من الأمراء وغيرهم سطوة السلطان، وهموا بقتله، فأشار عليهم فخر الدين بالصبر حتى يتبين أمر السلطان: فإنه على خُطَّة وإن مات كانت الراحة منه وإلا فهو بين أيديكم (1) ويجدر الإشارة أهمية اختيار الشخص القادر على قيادة المقاومة بدمياط ويفترض في الملك الصالح أيوب أن يدقق في اختيار الرجل المناسب لإمتصاص الصدمات الأولى من الصليبيين وبذلك يتحمل الملك الصالح أيوب المسؤولية في هذه الجبهة المشتعلة مع الصليبيين.
__________
(1) المصدر نفسه (1/ 439).(1/526)
1 - مراسلة لويس التاسع للسلطان الصالح أيوب: قبل سيطرة القوات الصليبية على دمياط أرسل الملك لويس رسائل تهديد إلى الصالح نجم الدين أيوب يتضح من خلالها الثقة البالغة التي عبر عنها بمطالب طلبها من الطرف الأيوبي كدعوة الاستسلام وإرجاع الأراضي المقدسة للصليبيين، بل واعتبار الصالح أيوب أحد نواب لويس التاسع، وقد أوردت المصادر الإسلامية بعض نصوص هذه الرسائل، ومنها النص الذي ذكره صاحب كتاب كنز الدرر، وهو كالتالي: أما بعد فإنه لم يخف عنك أني أمين الأمة العيسوية، كما أني أقول إنك أمين الأمة المحمدية، وإنه غير خاف عنك أن أهل جزائر الأندلس يحملون إلينا الأموال والهدايا، ونحن نسوقهم سوق البقر ونقتل منهم الرجل ونرمل النساء ونستأسر البنات والصبيان، ونخلي منهم الديار، وقد أبديت لك ما فيه الكفاية، وبذلك لك النصح إلى النهاية، فلو حلفت لي بكل الإيمان ودخلت على القسوس والرهبان وحملت قدامي الشمع طاعة للصلبان، ماردني ذلك عن الوصول إليك، وقتلك في أعز البقاع عليك، فإن كانت البلاد لي، فيا هدية حصلت في يدي وإن كانت البلاد لك والغلبة عليّ، فيدك العليا ممتدة إلى، وقد عرفتك وحذرتك من عساكر قد حضرت في طاعتي، تملأ السهل والجبل، وعددهم كعدد الحصى، وهم مرسلون إليك بإسياف القضاء (1).
__________
(1) السلوك لمعرفة دول الملوك (1/ 438).(1/527)
2 - رد السلطان الملك الصالح على لويس التاسع:
فلما وصل الكتاب إلى السلطان وقرئ عليه، اغرورقت عيناه بالدموع واسترجع، فكتب الجواب بخط القاضي بهاء الدين زهير بن محمد كاتب الانشاء، ونسخه بعد البسملة وصلواته على سيدنا محمد رسول الله وآله وصحبه أجمعين: أما بعد فإنه وصل كتابك وأنت تهدد فيه بكثرة جيوشك، وعدد أبطالك، فنحن أرباب السيوف وما قتل منا قرن إلا جددناه، ولا بغى علينا باغ إلا دمرناه، فلو رأت عينك أيها المغرور - حد سيوفنا وعظم حروبنا وفتحنا منكم الحصون والسواحل، وإخرابنا منكم ديار الأواخر والأوائل، لكان لك أن تعض على أنا ملك بالندم، ولابد أن تزَّل بك القدم في يوم أوله لنا وآخره عليك، فهنالك ننسئ بك الظنون "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلون" فإذا قرأت كتابي هذا، فكن فيه على أول سورة النحل" أتى أمر الله فلا تستعجلوه" وكن على آخر على سورة ص "ولتعلمنَّ نبأه بعد حين" ونعود إلى قول الله تعالى، وهو أصدق القائلين "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين" (البقرة، آية: 249) وإلى قول الحكماء إن الباغي له مصرع، وإلى البلاء يقلبك، والسلام (1).
__________
(1) السلوك لمعرفة دول الملوك (1/ 438).(1/528)
3 - تمركز المسلمين في المنصورة: تجمعت القوات الإسلامية في المنصورة وشرعت في شحن المدينة بالعتاد وإعدادها للمعركة المقبلة، ومن ذلك إصلاح سور المدينة المحيط بها وزودت المدينة بالعتاد والمقاتلة وساعد على ذلك تطوع عدد كبير من العربان والعامة استعداداً لملاقاة الصليبيين وخلال هذه المرحلة كان الصليبيون يعملون على تدعيم مركزهم في دمياط (1)، وأخذوا يعملون بسرعة على تحويلها إلى مدينة ذات طابع نصراني، فحوَّلوا المسجد إلى كنيسة باسم نوتردام وعيّنوا عليها أسقفاً كاثوليكيا، واختصت الفئات الدينية الثلاث الداوية والاسبتارية والتيوتون بعمارة المدينة، وتمّ توزيع الإقطاعات على الأمراء والتجار وظلت دمياط طول شهور صيف عام 1249م عاصمة الصليبيين في الشرق (2) وتوقفت الأعمال العسكرية بين الطرفين لمدة تقرب من خمسة أشهر ونصف عمل كل طرق أثنائها على تدعيم مركزه، وكان بقاء القوات الصليبية في دمياط طول هذه الفترة قد عمل على اختلال الحملة، فقد عملت هذه الفترة على فساد النظام وساد الإفراد في الملذات حتى أصبح الملك لويس التاسع عاجزاً عن السيطرة على القوات الصليبية وإذا كان هذا هو الحال في المعسكر الصليبي فقد كان العكس في المعسكر الإسلامي، فقد نجح المسلمون في إعادة تنظيم صفوفهم وبدأوا المناوشات مع القوات الصليبية ونجحوا في أسر بعضهم ويذكر ابن واصل أن المسلمين نجحوا في أسر ما يقرب من ثلاثمائة أسير (3).
__________
(1) الحروب الصليبية محمود سعيد ص 310.
(2) تاريخ الأيوبيين ص 383.
(3) الحروب الصليبية ص 311.(1/529)
4 - وفاة الملك الصالح نجم الدين: وعندما قرر الصليبيون الزحف نحو القاهرة توفي الملك الصالح أيوب وكانت محنة عظيمة ألمت بالمسلمين (1) وكان عمره عند وفاته 44 سنة وقد عهد لولده الملك المعظم تورانشاه، وحلفّ له فخر الدين بن الشيخ ومحسن الطواشي، ومن يثق به وبعدما علّم قبل موته عشرة آلاف علامة، يستعان بها في المكاتبات على كتمان موته حتى يقدم ابنه تورانشاه من حصن كيفا وكانت مدة ملكه في مصر عشر سنين إلا خمسين يوماً، فغسله أحد الحكماء الذين تولوا علاجه لكي يخفي موته، وحمل في تابوت إلى قلعة الروضة، وأخفي موته ولم يشتهر إلى ثاني عشر رمضان، ثم نقل بعد ذلك بمدة إلى تربته بجوار المدارس الصالحية بالقاهرة (2)، والملك الصالح لما استولى على مملكة مصر أكثر من شراء المماليك وجعلهم وجعلهم معظم عسكره، وقبض على الأمراء الذين كانوا عند أبيه وأخيه، واعتقلهم وقطع أخبارهم وأعطى مماليكه الإمريات، فصاروا بطانته والمحيطين بدهليز (3)
__________
(1) المصدر نفسه ص 311.
(2) السلوك (1/ 441).
(3) المصدر نفسه (1/ 441) ..(1/530)
وكان ملكاً شجاعاً حازماً مهيبا، لشدة سطوته وفخامته، مع غزة النفس وعلو الهمة، وكثرة الحياء وطهارة الذيل عن الخنا وصيانة اللسان من الفحش في القول، والإعراض عن الهزل والغيث بالكلية وشدة الوقار ولزوم الصمت، حتى إنه كان إذا خرج من عند حرمه إلى مماليكه، أخذتهم الرعدة عندما يشاهدونه - خوفاً منه - ولا يبقى أحد منهم مع أحد وكان إذا جلس مع ندمانه كان صامتاً، لا يستفزه الطرب ولا يتحرك وجلساؤه كأنما على رءوساهم الطير، وإذا تكلم مع أحد من خواصه، كان ما يقوله كلمات نزره وهي في غاية الوقار، وتلك الكلمات لا تكون إلا في مهم عظيم، من استشاره أو تقدم بأمر من الأمور المهمة، لا يعدو حديثه قط هذا النحو، ولا يجسر ابتداء البتة، ولا أنه جسر على شفاعة ولا مشورة ولا ذكر نصيحة، مالم يكن ذلك بابتداء من السلطان، فإذا انفرد بنفسه لا يدنو منه أحد (1)، ولم يُسمع منه قط في حق أحد من خدمه لفظة فخشي، وأكثر ما يقول إذا شتم أحداً: "متخلف"، ولا يزيد على هذه الكلمة، ولا عرف قط من النكاح سوى زوجته وجواريه (2) وكانت البلاد في أيامه آمنة مطمئنة والطرق سابلة إلا أنه كان عظيم الكبر زائد الترفع من كبره وترفعه أن ابنه الملك المغيث (3)
__________
(1) المصدر نفسه (1/ 442).
(2) المصدر نفسه (1/ 442).
(3) المصدر نفسه (1/ 442) ..(1/531)
لما حبسه الملك الصالح إسماعيل عنده، لم يسأله فيه ولا طلبه منه، حتى مات في حبسه، وكان يحب جمع المال، بحيث أنه عاقب عليه أم أخيه الملك العادل، إلى أن أخذ منها مالا عظيماً وجواهر نفيسة وقتل السلطان الملك الصالح أيوب أخاه الملك العادل، ومن حين قتله ما انتفع بالحياة ولا تهنَّى بها، فنزل به المرض وطرقه الفرنج، وقبض على جميع أمراء الدولة، وأخذ أموالهم وذخائرهم ومات في حبوسه ما ينيف على خمسة آلاف نفس، سوى من قتل وغرق من الأشرفية في البحر، ولم يكن له مع ذلك ميل إلى العلم ولا مطالعة الكتب، إلا أنه كان يجرى على أهل العلم والصلاح المعاليم والجرايات، من غير أن يخالطهم، ولم يخالط غيرهم، لمحبته في العزلة، ورغبته في الانفراد، وملازمته للصمت ومداومته على الوقار والسكون وكان يحب العمارة ويباشر الأبنية بنفسه، وعمر بمصر مالم يعمره أحد من ملوك بني أيوب فأنشأ قلعة الروضة تجاه مدينة فسطاط مصر، وأنفق فيها أموالاً جمة، وهدم كنيسة كانت هناك لليعاقبة من النصارى وأسكن بهذه القلعة ألف مملوك من الترك - وقيل ثمانمائة - وأقام جسراً من مصر إلى الروضة، يمّر عليه الأمراء وغيرهم إذا جاءوا إلى الخدمة، ولم يكن أحد يمّر على هذا الجسر راكباً احتراماً للسلطان فجاءت هذه القلعة من أجل مباني الملوك وبني أيضاً على النيل بناحية اللوق (1)،
__________
(1) أطلق اسم ناحية اللوق في الأصل - ومعنى اللوق الأرض اللينة - على الجهة التي انحسر عنها ماء النيل من ساحل المقس إلى منشأة المهراني بالقاهرة وعرفت تلك الناحية باسم باب اللوق خطط المقريزي (2/ 137 - 138) ..(1/532)
قصوراً بلغت الغاية في الحسن، جعلها إلى جانب ميدانه الذي يلعب فيه بالكرة، وكان مغرم بلعبها وبني قصراً عظيماً فيما بين القاهرة ومصر، سماه الكبش على الجبل بجوار جامع ابن طولون، وبنى قصراً بالقرب من العَلاَ قِيمة في أرض السانح، وجعل حوله مدينة سماها الصالحية فيها جامع وسوف، لتكون مركزاً للعساكر بأول الرمل الذي بين الشام ومصر وكان له من الأولاد الملك المغيث فتح الدين عمر وهو أكبر أولاده، مات في سجن قلعة دمشق، والملك المعظم غياث الدين تورانشاه، وملك مصر بعده، والملك القاهر ومات في حياته أيضاً وولد له أيضاً من شجرة الدر ولد سماه خليلاً، مات صغيراً، ولما طال مرضه من الجراحة الناصورية - وفسد مخرجه، وامتد الجرح إلى فخذه اليمنى، وأكل جسمه - اجتهد في مداواتها، وحدث له مرض السل من غير أن يفطن به، فورد كتابة إلى الأمير حسام الدين بن أبي علي بالقاهرة: إن الجراحة قد صلحت وجفت رطوباتها، ولم يبق إلا ركوبي ولعبي بالصولجة، فتأخذ حَظَّك من هذه البشرى. وفي الحقيقة لم تجف الجراحة إلا لفراغ المواد وتزايد عليه بعد ذلك المرض حتى مات وقيل إنه لم يعهد إلى أحد بالملك، بل قال للأمير حسام الدين بن أبي علي: إذا مت لا تسلم البلاد إلا للخليفة المستعصم بالله، ليرى فيها، رأيه؛ فإنه كان يعرف ما في ولده المعظم تورانشاه من الهوج (1).
__________
(1) السلوك (1/ 444).(1/533)
5 - زحف الصليبيين نحو القاهرة: وقرر الصليبيون الزحف صوب القاهرة بعدما وصلت إليهم بعض الإمدادات، ورتب الملك لويس حراسة قوية لحراسة المدينة بعد تحرك القوات الصليبية وفي هذه المرحلة مات السلطان الصالح أيوب، وكانت محنة عظيمة ألمت بالمسلمين ولكن زوجته شجرة الدر ظهرت على مسرح الأحداث وأدركت خطورة إذاعة هذا الخبر على الجند، فقررت إخفاء خبر الوفاة ولم يعرف بذلك إلا الخاصة وزودت وثيقة تحمل توقيع السلطان بتعيين ابنه توارانشاه قائداً عاماً للجيوش ونائباً للسلطان أثناء مرضه وخلال ذلك كان الصليبيون يتحركون جنوباً فوصلوا إلى مدينة فارسكور في الثاني عشر من ديسمبر 1049م ومنها تقدموا إلى شار مساح ثم البرامون وأصبح بحر أشموم هو الفاصل بين المسلمين والصليبيين وعند هذه المرحلة توقفت القوات الصليبية وأقامت معسكرها على الضفة الشمالية وعملت على تأمين معسكرها بحفر الخنادق وإقامة المتاريس وظلوا على هذا حوالي شهر ونصف، ثم شرعوا في بناء جسر ليعبروا عليه على الضفة الجنوبية لبحر أشموم، ولم تكن عملية إقامة الجسر بالأمر الهين فقد أمطرهم المسلمون وابلاً من القذائف، ولم يتمكنوا من إقامته، وأخيراً نجح الصليبيون في التعرف على مخاضة - دلهم عليهم أحد العربان وفي رواية أحد الأقباط (1)
__________
(1) تاريخ الأيوبيين ص 85 ..(1/534)
بعد ما رشوه بالمال - تمكنهم من العبور إلى المعسكر الإسلامي وكانت خطة الملك لويس أن يعبر هو وأخوته وجزء كبير من الجيش المخاضة إلى الجنوب ويقوم بقية الجيش الصليبي بحراسة المعسكر الصليبي، وبعد إتمام عملية العبور تقوم الفرقة المخصصة للحراسة باستكمال عملية إقامة الجسر، وإذا ما تم النصر على القوات الإسلامية في المنصورة يتقدم الجيش الصليبي إلى القاهرة وعبرت القوات الصليبية في عجز الثامن من فبراير عام 1250م وكانت عملية شاقة وبطيئة بسبب عمق المخاضة وكان في طليعة القوات الصليبية الكونت أرتو الذي شن على القوات الإسلامية المواجهة له هجوماً، وحقق نصراً عليها، وعندما وصلت هذه الأخبار إلى الأمير فخر الدين أسرع بدعوة القوات الإسلامية والتحم مع الصليبيين في معركة عنيفة وقع فيها فخر الدين شهيداً، فغسل بذلك عار انسحابه من جيزة دمياط واغتر الكونت أرنو بالنصر الذي أحررزه ولم يبال بأوامر الملك لويس ونصائح القادة الصليبيين بالتريث حتى تتكامل القوات الصليبية، وأراد أن ينفرد بشرف النصر لنفسه (1).
__________
(1) تاريخ الحروب الصليبية محمود سعيد ص 312.(1/535)
خامساً: معركة المنصورة وتورنشاه يقود المعركة النهاية: وأضحى لروبرت أرتوا السيطرة على المعسكر الأيوبي، فاغتر بقوته، وتابع زحفه إلى المنصورة لاقتحامها، والقضاء على الجيش الأيوبي، وأعرض عن توسلات الداوية بأن ينتظر وصول الملك والجيش الرئيسي، ونصحه بعضهم بالحيطة والحذر، ثم بادر باقتحام المنصورة (1)، فأضحت المنصورة ساحة لحرب الشوارع، وتولى قيادة المصريين الأمير بيبرس البندقارى فأقام جنده في مراكز منيعة داخل المدينة، وانتظروا حتى تدفق الصليبيون بجموعهم إلى داخلها ولما أدركوا أنهم بلغوا أسوار القلعة التي اتخذها المصريون مقراً لقيادتهم، خرج عليهم المماليك في الشوارع والحارات والدروب، وأمعنوا في قتالهم، ولم يستطع الصليبيون أن يلتمسوا لهم سبيلاً إلى الفرار، فوقع الاضطراب بين الفرسان، ولم يفلت من القتل إلا من القى بنفسه في النيل فمات غريقاً، أو كان يقاتل في أطراف المدينة (2)، وكانت المنصورة مقبرة الجيش الصليبي (3)، وأول ابتداء النصر على الفرنج (4)،
__________
(1) تاريخ الأيوبيين ص 368.
(2) الشرق الأدنى في العصور الوسطى، الأيوبيون ص 150.
(3) السلوك (1/ 448) تاريخ الأيوبيين ص 386.
(4) مذكرات جوانفيل ص 131 - 136 ..(1/536)
وجزع لويس التاسع لتلك الصدمة، لكنه تملك نفسه، وبادر إلى إقامة خط أمامي لمواجهة ما يتوقعه من هجوم، من قِبلَ فرسان المماليك ضد قواته، كما أقام جسراً من الصنوبر على مجرى البحر الصغير عبر عليه النيل مع رجاله، ووزعَّ رماته على مجرى البحر الصغير عبر عليه النيل مع رجاله، ووزَّع رماته على الطرف البعيد للنهر حتى يكفلوا الحماية للجند عند عبورهم متى دعت الضرورة إلى ذلك لكن المماليك لم يتركوه وشأنه، وبادروا إلى شن هجوم على المعسكر الصليبي وقاد الملك الفرنسي المعركة بنفسه وأجبر المسلمين على التراجع نحو المنصورة وعلى الرغم من الانتصار الصليبي، إلا أن موقف الصليبيين أخذ يزداد سوءاً بسرعة واضحة، بعد أن قلت المؤن، كما فقدوا نسبة مرتفعة من فرسانهم في معركة المنصورة، وانتشرت الأمراض في معسكرهم، وظل الملك الفرنسي، زهاء ثمانية أسابيع، في معسكره أمام المنصورة، آملاً بأن يحدث انقلاب في مصر أو يقوم المصريون بثورة على الحكم الأيوبي وصل تورانشاه إلى المنصورة في 17 ذي القعدة 647هـ/21 شباط 1250م، بعد أن أُعلن سلطاناً في دمشق، وهو في طريقه إلى مصر فأعلنت عندئذ وفاة الصالح أيوب، وسلمَّته شجرة الدر مقاليد الأمور، فأعَّد خطة عسكرية كفلت له النصر النهائي على الصليبيين (1) وكان وصوله إلى مصر إيذاناً بإعادة إرتفاع الروح المعنوية عند المصريين، وبين صفوف المماليك "وتيمَّن الناس بطلعته" (2).
__________
(1) السلوك (1/ 449) تاريخ الأيوبيين ص 387.
(2) النجوم الزاهرة (6/ 364) تاريخ الأيوبيين ص 387.(1/537)
وأمر بإنشاء أسطول من السفن الخفيفة نقلها إلى فروع النيل السفلى، وأنزلها في القنوات المتفرعة، فأخذت تعترض طريق السفن الصليبية التي تجلب المؤن للجنود من دمياط، فقطع، بذلك، الطريق عليها، وحال دون اتصال الصليبيين بقاعدتهم دمياط (1)، وفقد الصليبيون عدداً كبيراً من سفنهم قدَّرتها المصادر بما يقرب من ثمان وخمسين سفينة: انقطع المدد من دمياط عن الفرنج، ووقع الغلاء عندهم، وصاروا محصورين لا يطيقون المقام، ولا يقدرون على الذهاب، وتشجع المسلمون وطمعوا فيهم، وأدرك لويس التاسع استحالة الزحف نحو القاهرة في ظل هذه الأوضاع وبدأ يفكر في العودة إلى دمياط وفعلاً أمر بالإرتداد وأحرق الصليبيون ما عندهم من الخشب، وأتلفوا مراكبهم ليفرُّوا إلى دمياط، كما أدرك أن عملية الانسحاب لن تكون سهلة، وأن المماليك سوف يطاردون جيشه لذلك لجأ قبل أن يبدأ بعملية الإنسحاب إلى فتح باب المفاوضات مع تورانشاه، على أساس ترك دمياط مقابل أخذ بيت المقدس (2)،
__________
(1) الحركة الزاهرة (6/ 364) تاريخ الأيوبيين ص 387.
(2) تاريخ الأيوبيين ص 288 ..(1/538)
غير أن الوقت قد فات على مثل هذه المساومة، وكان طبيعياً لأن يرفض تورانشاه هذه الاقتراح، وبخاصة أنه علم بحرج موقف الملك وفي صباح (1محرم عام 648هـ/نيسان عام 1250م بدأت عملية الإنسحاب المهندسون الصليبيون أن يدمَّروا الجسر الذي أقاموه لاجتياز البحر الصغير فلم يلبث المماليك أن عبروه وراءهم، وقاموا بعملية مطاردة منظمة، وهاجموهم من كل ناحية (1)، وبفضل ثبات الملك الفرنسي وحسن إدارته بعملية الإنسحاب، وصل الصليبيون إلى شرمساح عند منتصف الطريق بين المنصورة ودمياط، لكن هذا الملك مريضاً، وأحاط المماليك بجيشه من كل جانب، وراحوا يتخطفونهم، وشنوا عليهم هجوماً عاماً عند فارسكور ولم يقوا الملك على القتال، وتمّ تطويق الجيش بأكمله، وحلت به هزيمة منكرة، ووقع كل أفراده تقريباً بين قتلى وجرحى وأسرى، وكان الملك لويسع التاسع نفسه من بين الأسرى، حيث سيق مكبَّلاً إلى المنصورة، وسُجن في دار فخر الدين إبراهيم بن لقمان، وعُهد إلى الطواش صبيح المعظمى بحراسته وخُصَّص من يقوم بخدمته وكانت معظم الحرب في فارسكور، فبلغت عدّة القتلى عشرة آلاف في قول المقل وثلاثين ألفاً في قول المكثر، وأسر من الفرنج عشرات الألوف بما فيهم ضاعتهم وسوقتهم، وغنم المسلمون من الخيل والبغال والأموال مالاً يحصى كثرة، وأبلت الطائفة البحرية - لاسيما بيبرس البندقداري - في هذه النوبة بلاء حسان وبان لهم أثر جميل (2)، وتعددت صور شجاعة هؤلاء المماليك في التصدي لأعداء الإسلام وشهد التاريخ ببسالة الدور الذي لعبه المماليك في مقاومة الصليبيين فذكر جوانفيل أن الكونت بواتييه والكونت فلاندر وبعض قادة قواتهم كانوا يرسلون إلى الملك لويس يتوسلون إليه: أن يقصر عن الحركة لعجزهم عن متابعته لضغط المماليك الشديد عليهم (3) ويقول: ..
__________
(1) النجوم الزاهرة (6/ 364) تاريخ الأيوبيين ص 388
(2) نهاية الأرب في فنون الأدب (29/ 356).
(3) السلوك (1/ 455)(1/539)
ثم جاء للكونستابل جندي كان يحمل صولجانا ويرتجف خوفاً وأخبره أن الترك قد أحدقوا بالملك وأنه في خطر عظيم فرجعنا، فأبصرنا بيناوبينه ومالا يقل عن ألف مملوك والملك قريباً من النهر والمماليك يدفعون قواته ويضربون السيوف والصولجانات وأرغموا القوات الأخرى على التقهقر (1) وقد وصفهم أحد المؤرخين في تلك المعركة بقوله: والله لقد كنت أسمع زعقات الترك كالرعد القاصف ونظرت إلى لمعان سيوفهم وبريقها كالبرق الخاطف فلله درهم لقد أحيوا في ذلك اليوم الإسلام من جديد بكل أسد من الترك قلبه أقوى من الحديد، فلم تكن إلا ساعة وإذا بالإفرنج قد ولوا على أعقابهم منهزمين وأسود الترك لأكتاف خنازير الإفرنج ملتزمين (2)، وتضمنت انتصارات المماليك على الصليبيين أنهم استطاعوا الإستيلاء على ثمانين سفينة من سفن الصليبيين بعد أن قاموا بسحب بضعة سفن من سفن المسلمين إلى اليابسة ثم أنزلوها ثانية إلى الماء على بعد فرسخ من شمال معسكرهم، فاستحالت عودة الفرنج الذين ذهبوا إلى دمياط لجلب المؤنة وتم قتل جميع بحارة الثمانين سفينة كما استولوا على اثنين وثلاثين مركباً مما أضعفهم وطلبوا الصلح (3).
__________
(1) الجواري والغلمان في مصر، نجوى كمال ص 403.
(2) الجواري والغلمان في مصر 404، كنز الدرر (7/ 376).
(3) الجواري والغلمان في مصر ص 405، 406.(1/540)
1 - بشائر النصر تعلن للمسلمين: كتب تورانشاه في أعقاب المعركة إلى الأمير جمال الدين بن يغمور نائب دمشق كتاب بخطه نصه: من ولده تورانشاه الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن (وما النصر إلا من عند الله" (الأنفال، آية: 10) "يؤمئذ يفرح المؤمنون بنصر الله" (سورة الروم، آية:4) "وأما بنعمة ربك فحدث" (الضحى، آية:11) "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها" (النحل، آية: 18) نبشر المجلس السّامي الجمَالي، بل نبشر المسلمين كافة، بما من الله به على المسلمين من الظفر بعدون الدين، فإنه استفحل أمره واستحكم شره، ويئس العباد من البلاد والأهل والأولاد، فنودوا لا تيأسوا من روح الله، ولما كان يوم الاثنين مستهل السنة المباركة، تمم الله على الإسلام بركتها، فتحنا الخزائن وبذلنا الأموال وفَّرقنا السلاح وجمعنا العربان والمطوعة وخلقاً لا يعلمهم إلا الله، فجاءوا من كل فج عميق ومكان سحيق، فلما كان ليلة الأربعاء تركوا خيامهم وأموالهم وأثقالهم، وقصدوا دمياط هاربين، وما زال السيف يعمل في أدبارهم عامة الليل، فيوحلَّ بهم الخزي والويل، فلما أصبحنا يوم الأربعاء قتلنا منهم ثلاثين ألفاً، غير من ألقيى نفسه من اللجج، وأما الأسرى فحدث عن البحر ولا حرج والتجأ الفرنسيين إلى المنية، وطلب الأمان فأمناه وأخذناه وأكرمناه وتسلمنا دمياط بعون الله وقوته وجلاله وعظمته وذكر كلاماً طويلاً وبعث المعظم مع الكتاب غَفَارة (1)، الملك لويسع التاسع فلبسها الأمير جمال الدين بن يغمور (2).
__________
(1) الغفارة: زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس يلبس تحت القلنسوة.
(2) السلوك (1/ 456).(1/541)
2 - لويس التاسع في الأسر وشروط الصلح: لم يهتم المسلمون كثيراً، بعد انتصارهم، بأمر دمياط، ونظروا إلى أبعد من ذلك، ففكرَّوا باسترداد ما بأيدي الصليبيين في بلاد الشام، فاستغلوا وجود الملك الفرنسي في الأسر لتحقيق هذه الغاية، لكن لويس التاسع أجاب بأن هذه البلاد ليست في أملاكه، بل تخص الملك كونراد ابن الأمبراطور فريدريك الثاني (1)، وعبثا حاول تورانشاه، إرغامه على الاعتراف وأصَّر لويس التاسع على رأيه وقال: إنه أسيرهم، ولهم أن يفعلوا به ما يشاؤون (2)، فبادر تورانشاه إلى إغفال هذا الموضوع لكنه قرَّر غزو بلاد الشام، وغالى في شروط الصلح إذ كان لزاماً على الملك الفرنسي أن:
- يفتدي نفسه بأن يؤدي مليون بيزنته وهذا مبلغ كبير.
- يُطلق سراح عدد كبير من الأسرى المسلمين.
- يسلم دمياط إلى المسلمين.
- يستمر الصلح مدة عشر سنوات (3).
وافق الملك الفرنسي على هذه الشروط، وأقسم الطرفان على احترامها (4)، وانتظر لويس لبعض الوقت حيث كانت زوجته تعاني آلام الوضع، وأرسل بعض رجاله إلى دمياط لتسليمها للمسلمين ودخلت القوات المدينة في السابع من مايو بعدما ظلت في أيدي قوات لويس ما يقرب من عام ودفع لويس نصف الفدية حسبما اتفق عليه وأطلق سراح الصليبيين من البر الشرقي إلى جيزة دمياط، ثم تبعهم باقي الصليبيين وفي يوم الأحد الرابع من صفر عام 648هـ الموافق الثامن من مايو عام 1250م أقلعت سفن الفرنج واتخذت طريقها إلى عكا حاملة فلول الحملة بعد أن أنهكتها الهزائم، وحلت بها الكوارث (5).
__________
(1) مذكرات جوانفيل ص 157، 159 - 161.
(2) تاريخ الأيوبيين ص 389 حملة لويس التاسع على مصر ص 206.
(3) تاريخ الأيوبيين ص 389.
(4) المصدر نفسه ص 389.
(5) تاريخ الحروب الصليبية، محمود سعيد ص 315.(1/542)
سادساً: - أسباب الهزيمة: ساهمت مجموعة من الأسباب في هزيمة الحملة الصليبية السابعة، والتي من أهمها:
1 - التطوير العسكري في الجيش الأيوبي: فقد قام الملك الصالح أيوب، بإصلاح عسكري في الدولة وضع سياسة جديدة تقوم على استخدام الأتراك المماليك بشكل لم يسبق له مثيل من قبل أسلافه الأيوبيين، مكنته من متابعة حروبه الخارجية مع مملكة بيت المقدس والتصدي للحملة الصليبية السابعة (1)، ورافق ذلك التطوير العسكري الاهتمام الديني به من حيث التربية والتعليم حتى أصبح كتائب المماليك تدافع عن عقيدة الإسلام، وأصبحت الدولة تحتفظ بجيش عقائدي ومنظم مدرب أحسن تدريب صناعته الحرب والقتال وأيدي من المهارة والبسالة في قتال القوات الصليبية، رغم هزيمتهم في بداية الأمر وتميز القواد المسلمون بوضع الخطط الحربية الممزوجة بالمكر والخدع الحربية والمثال على ذلك الخطة التي وضعها توران شاه عقب وصوله إلى المنصورة لقطع خطوط الإمدادات الصليبية عن الصليبيين المقيمين جنوب بحر أشموم تم مهاجمة القوات الصليبية في الوقت المناسب (2).
__________
(1) الملك الصالح أيوب وإنجازاته السياسية والعسكرية ص 151.
(2) الحروب الصليبية، محمود سعيد ص 317.(1/543)
2 - وحدة الصف الإسلامي: فقد كانت مصر والشام تحت زعامة واحدة ولاحت بشائر النصر منذ وصول الجيوش الشامية إلى مصر (1)، وكانت روح الجهاد تسرى في قلوب المسلمين حيث أن المتطوعين من المسلمين في مصر جاءوا من جميع أنحاء مصر بدأو يقاتلون العدو بالهجوم فيقتلون ويأسرون ففي أول شهر ربيع الأول بدأت الأعمال الفدائية ضد العدو فوقع في يد الفدائيين ست وثلاثين أسيراً كان من بينهم اثنان من فرسان العدو، أرسلا إلى القاهرة مكبلين بالحديد (2)، ثم تتابعت الأعمال الفدائية ضد العدو تتابع أيضاً سقوط مزيد من الأسرى، فسقط في اليوم الخامس من نفس الشهر تسعة وثلاثين أسيراً ثم اثنان وعشرون في اليوم السابع وخمسة وأربعون في اليوم السادس عشر في بينهم ثلاثة من فرسان العدو، وبلغ عدد الأسرى في شهر جمادى الأولى خمسين أسيراً واستمر العمل الفدائي الشعبي في تكبيد العدو خسائر فادحة وعندما أعلن الجهاد المقدس من فوق منبر الجامع الأزهر في 26 شعبان 647هـ سرعان ما انتشر نبأ الجهاد في أنحاء مصر كلها واشتد حماس الجماهير في مصر للتطوع للجهاد، فخرج الناس من القاهرة، وسائر المدن والقرى فاجتمع عالم عظيم لا يقع عليه حصر، واستطاع الفدائيون من عامة المسلمين أن يزعجوا الصليبيين ومنعوهم من الاستقرار والراحة (3)، ويصف المقريزي هذا الدور العظيم الذي قام به الأهالي من العرب وغيرهم ضد الفرنج فيقول: وأبلى عوام المسلمين في قتال الفرنج بلاء كبير، وانكوهم نكاية عظيمة وصاروا يقتلون منهم ويأسرون (4) وقد سقط الشهداء من عامة المسلمين والمماليك - جنباً إلى جنب دفاعاً عن مصر (5).
__________
(1) تاريخ القبائل العربية في عصر الدولتين الأيوبية والمماليك ص 95.
(2) المصدر نفسه ص 91 بدائع الزهور (1/ 69).
(3) تاريخ القبائل العربية في عصر الدولتين الأيوبية والمماليك ص 93.
(4) المصدر نفسه ص 93.
(5) المصدر نفسه ص 94 الخطط (1/ 219 - 222).(1/544)
3 - هيبة القيادة الإسلامية: كان السلطان الصالح أيوب يتمتع بنفوذ حقيقي على رجال دولته وقادة جيوشه، وكانت أهم صفة يتحلى بنها الجند الإسلامي هي الطاعة لأوامر قائدهم، فقد كان للسلطان هيبة بالغة في نفوس مماليكه حتى أنهم كانوا يرتجفون رعباً عن المثول في حضرته:
ملاء القلوب مخافة ومحبة ... فاليأس يرهب والمكارم تعشق (1)
واستمرت هيبة القيادة بعد وفاة الملك الصالح أيوب بفضل الله ثم شجرة الدر، فقد قامت بدور مجيد في هذه المرحلة، وقد كتمت خبر موت زوجها وتحملت الموقف بكل شجاعة ورابطت جأش وسارت الأمور كأن لم يحدث ودارت العمليات العسكرية، كأن السلطان لم يمت حتى وصل توران شاه الذي تولى القيادة في مصر، ولم تشر المصادر إلى وقوع أي خلل في الفترة الواقعة بين موت السلطان الصالح أيوب وحضور توران شاه (2) وهذا يدل على نجاح مهمتها في ذلك الحدث الخطير.
__________
(1) العدوان الصليبي على مصر، د. جوزيف نسيم ص 251.
(2) تاريخ الحروب الصليبية ص 318.(1/545)
4 - نزول العلماء والفقهاء أرض الجهاد: قام العلماء بدور كبير في تحريض الناس على القتال وانضم إلى صفوف المجاهدين كوكبة مباركة من ألوان الطيف الإسلامي، كالعز بن عبد السلام والشيخ محي الدين بن سراقه والشيخ مجد الدين علي بن وهب القشيري، وكان كبار المتصوفة متواجدون في معركة المنصورة ومن أشهرهم الشيخ أبو الحسن الشاذلي وكان يقضي وقته كله في المنصورة ولا تشغل باله وفكره إلا هذه الحرب الطاحنة بين عدو وافد وجيش مجاهد، وكان يثير روح الجهاد في نفوس اتباعه والناس وبقي إلى تحقيق نصر الله على الصليبيين وكان من أشد الناس فرحاً بهزيمة الصليبيين ورحيلهم عن مصر وقد عاد بعد ذلك إلى الإسكندرية، وتابع سيرته الأولى في الحياة يدرس ويعظ ويتعهد أرواح تابعيه ومريديه بالتهذيب (1) وكان الشيخ الشاذلي من كبار متصوفة عصره وقد تميزت طريقته بالملامح الآتية:-
- كانت دعوته عامة للناس جميعاً، وجدت في تونس وفي مصر وفي الجزائر، وفي المغرب، وفي اليمن وفي الحجاز، كما أن.
- أن المدرسة الشاذلية لم تعن بالتنظير الفكري بقدر ما عنيت بالأفكار من حيث تطبيقاتها في الحياة العلمية.
- إن الدعوة الشاذلية، لم تكن دعوة للانقطاع إلى العبادة، أو الإنغمار في حياة الربط والتكايا، وإنما كانت دعوة إلى العبادة بمفهومها الشامل في الحياة (2).
__________
(1) أعلام الإسكندرية في العصر الإسلامي ص 185.
(2) سيدي أبو الحسن الشاذلي د. عبد الوهاب فرجات ص 276.(1/546)
- كان الشيخ الشاذلي يدعو اتباعه بالتمسك بالكتاب والسنة، ومجانبة البدع المحدثة في الدين وكان يلزم أتباعه بالصلوات الخمس في المساجد وفي هذا يقول: إذا لم يواظب الفقير على الصلوات الخمس في الجماعة، فلا تعبأن (1). ويقول أيضاً: كل علم تسبق إليك فيه الخواطر، وتميل إليه النفس وتلذ به الطبيعة، فارم به وخذ بالكتاب والسنة (2). والشيخ الشاذلي رحمه الله عارضه مجموعة من العلماء منهم ابن تيمية - رحمه الله - الذي انتقده في بعض أحزابه زاعماً بأن أقواله تفضي إلى تعطيل الأمر والنهي (3)، ونحب أن نشير إلى أن ابن تيمية لم يحمل على الشيخ حملته على ابن عربي وابن سبعين والقونوى وعفيف الدين التلمساني، والجربي، كما أنه لم يتهمه صراحة بأنه يقول بسقوط التكليف ولكنه قال: بأن لوازم أقواله تقضي إلى ذلك (4)، وغير خاف لدى الفقهاء بأن لازم المذهب ليس مذهباً لصاحبه (5)، وثمة ناقد آخر للشيخ الشاذلي هو المؤرخ الكبير شمس الدين الذهبي الذي يقول عنه: وله عبارات في التصوف مشكلة توهم، ويتكلف له في الاعتذار عنها (6)، ومنهم أيضاً المؤرخ "ابن الوردي" الذي قال عنه له عبارات في التصوف مشكلة رد عليها ابن تيمية (7).
__________
(1) المصدر نفسه ص 276.
(2) المصدر نفسه ص 276.
(3) الفتاوى (8/ 232).
(4) المصدر نفسه (8/ 232).
(5) سيدي أبو الحسن الشاذلي ص 85.
(6) العبر في أخبار من غبر (5/ 232، 233).
(7) سيدي أبو الحسن الشاذلي ص 86.(1/547)
ومن أراد المعرفة المفصلة عن حياة الشيخ أبي الحسن الشاذلي، فليراجع الكتاب للدكتور عبد الوهاب فرحات والذي سمّاه "سيدي أبو الحسن الشاذلي حياته ومدرسته في التصوف" وقد انتصر الدكتور عبد الوهاب إلى أن الشاذلي من أعلام مدرسة التصوف السني وقد نقل لنا من أقوال الشاذلي الشيء الكثير في هذا المعنى، ولابد من التفريق بين المؤسسة والأتباع الذين غلوا فيه بعد وفاته ومما نقله الدكتور عبد الوهاب في هذا المعنى قول الشيخ الشاذلي - رحمه الله -: إذا ثقل الذكر على لسانك وكثر اللغو من مقالك، وانبسطت الجوارح في شهواتك وانسد باب الفكرة في مصالحك، فأعلم أن ذلك من عظيم أوزارك أو لكمون إرادة النفاق في قلبك، وليس لك إلا طريق التوبة والإصلاح والاعتصام بالله، والإخلاص في دين الله ألم تسمع قوله تعالى: إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين" (النساء، آية: 146) ولم يقل من المؤمنين فتأمل هذا القول، إن كنت فقيهاً والسلام (1) وكان يقول: إذا عارض كشفك الكتاب والسنة فتمسك بالكتاب والسنة ودع الكشف، وقل لنفسك أن الله تعالى قد ضمن لي العصمة في الكتاب والسنة، ولم يضمنها في جانب الكشف ولا الإلهام (2): وممن مدح الشيخ الشاذلي، سلطان العلماء الفقيه الكبير العز بن عبد السلام فقد قال عندما سمعه يتحدث في مجلسه عن الأسرار العجيبة والعلوم الجليلة،: اسمعوا هذا الكلام الغريب القريب العهد من الله (3)،
__________
(1) المصدر نفسه ص 87.
(2) المصدر نفسه ص 87.
(3) المصدر نفسه ص 88 ..(1/548)
وكذلك السبكي وجلال الدين السيوطي، فقد كتب فيه كتيب صغير سماه: تأييد الحقيقة العاليةّ في تشييد الطريقة الشاذلية، دافع فيه عن الشيخ الشاذلي وعن طريقتها مبرزاً فضائلها ومحاسنها وهو يقول: وكان الشيخ أبو الحسن يحضر عنده الأئمة مثل سلطان العلماء الشيخ عز الدين بن عبد السلام، والشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد هذا مع ما صح عن ابن دقيق من تشديد النكير على الاتحادية، وتضليل عقولهم فلو رأى في كلام الشاذلي من ذرة من ذلك لكان أول مبادر إلى إنكارها (1)، بل أن الشيخ تقي الدين بن دقيق العبد قال: ما رأيت أعرف بالله من الشيخ (2) الشاذلي وقال الشيخ بدر الدين بن جماعة: إن بركة الشيخ حلت بالديار المصرية منذ أقام فيها (3).
__________
(1) سيدي أبو الحسن الشاذلي ص 91.
(2) أعلام الإسكندرية في العصر الإسلامي ص 181.
(3) المصدر نفسه ص 181 البطولة والفداء ص 123.(1/549)
إن الشيخ الشاذلي في معركة المنصورة وهي من المعارك الكبرى التي خاضتها الأمة في الدفاع عن دينها وعقيدتها وأرضها وعرضها، كان حاضراً في ساحة الوغى، فقد أبت عليه همته إلا أن يحضر إلى المنصورة ليحرض الجند والسلطان على القتال حينما تملك الرعب قلوب الأهلين، بعدما استولى الفرنجة على ثغر دمياط ولقد كان لهذه الوقفة أثرها المحمود في إذكاء الروح الإسلامية لدى مريديه وعامة الناس، فقد كان لموقف أبي الحسن الشاذلي أثره العميق، وعاقبته الطيبة في نفوس الجند، ومن ثم ندرك أن أبا الحسن الشاذلي شخص فعال في دنيا الناس، لا كشأن الكثيرين من علمائنا في هذا الزمان على اختلاف ألوان طبيعتهم (1) فحضوره في معركة المنصورة من الفضائل الكبرى التي سجلت بماء الذهب في صفحات تاريخه، كما أنني أطلعت على تسبيح ومناجاة وثناء على الله عز وجل للشيخ الشاذلي قمة في التوحيد، وعمق في التضرع والإنكسار أمام الواحد الديان فقد قال: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. ولقد شكا إليك يعقوب فخلصته من حزنه، ورددت عليه ما ذهب من بصره، وجمعتُ بينه وبين ولده، ولقد ناداك نوح من قبل فنجيته من كربه، ولقد ناداك أيوب من بعد فكشفت ما به من ضره، ولقد ناداك يونس فنجيته من غمه، ولقد ناداك زكريا فوهبت له ولدا من صُلْبه بعد يأس أهله وكبر سنه، ولقد علمت ما نزل بإبراهيم فأنقذته من نار عدوه، وأنجيت لوطاً وأهله من العذاب النازل بقومه، فهأنذا عبُدك: إن تعذبني بجميع ما علمت فأنا حقيق به، وإن ترحمني كما رحمتهم - مع عظيَم إجرامي - فأنت أولى بذلك، وأحق من أكرم به (2).
__________
(1) سيدي أبو الحسن الشاذلي ص 69.
(2) تسبيح ومناجاة وثناء على ملك الأرض والسماء للشيخ محمد بن حسن بن عقيل الشريف ص 136.(1/550)
وقال أيضاً: ربَّ: لمن أقصد، وأنت المقصود، وإلى من أتوجه وأنت الموجود، ومَن ذا الذي يعطي وأنت صاحب الكرم والجود، ومن ذا الذي أسأل وأنت الرب المعبود، وهل في الوجود ربُّ سواك فيُدعى أم هل في الملك إله غيرك فيُرجى وإليه يُسعى، أم هل كريم غيُرك يطلب منه العطا، أم جواد سواك فيُسأل منه الرضا، أم هل حليم غيُرك فيُنال منه الفضل والنعُمى، أم هل رحيم غيرك في الأرض والسماء، أم هل حاكم سواك فترفع إليه الشكوى، أم هل رؤوف غيرك للعبد الفقير يعتمد عليه، أم هل مليك سواك تبسط الأكف بالدعاء إليه، فليس إلا كَرمُك وجودك لقضاء الحاجات، وليس إلا فضلك ونعمك لإجابة الدعوات، يا من لا ملجأ لا منجى منه إلا إليه، يا من يُجبر ولا يُجار عليه (1) ربَّ:
__________
(1) المصدر نفسه.(1/551)
إلى من أشتكي وأنت العليم القادر، أم إلى من ألتجئ وأنت الكريم الساتر، أم بمن أستنصر وأنت الولي الناصر، أم بمن أستغيث وأنت الولي القاهر، أم من ذا الذي يجبر كسري وأنت للقلوب جابر، أم من يغفر ذنبي وأنت الرحيم الغافر وأنت العليم فيما في السرائر، الخبير بما تخفيه الضمائر، على المطلع على ما تحويه الخواطر، يا من هو فوق عباده قاهر، يا من هو مطلع عليهم وناظر، يا من هو قريب وحاضر، يا من هو الأول والآخر، والباطن والظاهر، يا إله العباد، يا كريم يا جواد يا صاحب الجود والكرم والإحسان، يا ذا الفضل والنِعمَ والغفران يا من عليه يتوكل المتوكلون، يا من إليه يلجأ الخائفون، يا من بكرمه، وجميل عوائده يتعلق الراجون، يا من سلطان قهره وعظيم قدرته يستغيث المضطرون، يا من بوسيع عطائه وسعة رحمته وجزيل فضله وجميل منته تبُسط الأيدي، ويسأل السائلون، يا مفَّرج الكربات، وغافر الخطيئات وقاضي الحاجات، ومستجيب الدعوات، وكاشف الظلمات، ودافع البليات، وساتر العورات، ورفيع الدرجات وإله الأرض والسموات، يا من عليه المتُكل، يا من إذا شاء فعل، ولا يُسأل عما يفعل، يا من لا يُرْمه سؤال من سأل يا من أجاب نوحاً في قومه، يا من نصر إبراهيم على أعدائه، يا من رد يوسف على يعقوب، يا من كشف الضَّر عن أيوب، يا من أجاب دعوة زكريا، يا من قِبَل تسبيح يونس بن مَتىَّ:
إلهي: قد وجدتك رحيماً فكيف لا أرجوك، ووجدتك ناصراً معيناً فكيف لا أدعوك مَن لي إذا قطعتني، ومن ذا الذي يضرني إذا نفعتني، ومن الذي يعذبني إذا رحمتني، ومن ذا الذي يَقْرَبُني بسوء إذا نجيتني، ومن ذا الذي يمرضني إذا عافيتني (1).
__________
(1) تسبيح ومناجاة وثناء على مَلكِ الأرض والسماء ص 134 إلى 137.(1/552)
بمثل هذا الدعاء والتسبيح والثناء على الله عز وجل يفتح الله رحماته على عباده، ويأتي نصر الله وتوفيقه، وتحفظ بيضة الإسلام من الأعداء، فوجود هذا الشيخ وأمثاله في معركة المنصورة من أسباب نصر الله للمسلمين ويذكر بعض المؤرخين أن الشيخ أبا الحسن الشاذلي قام بعمل أوراد في تلك المعركة، وأوصى مريديه بقرائتها في الليل بعدما تهدأ المعارك وهما "حزب النصر" وحزب الطمس على عيون الأعداء (1)، فأما حزب النصر فأوله: بسم الله الرحمن الرحيم، بسطوة جبروت قهرك وسرعة إغاثة نصرك، وبغيرتك لانتهاك حرماتك وبحمايتك لمن احتمى بآياتك نسألك يا الله، يا قريب، يا سميع يا مجيب (2) .. وأما حزب الطمس، فأوله: بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله السميع القريب المجيب تجيب دعوة الداعي، إذا دعاك، وتجيب المضطر وتكشف السوء (3).
__________
(1) البطولة والفداء عند الصوفية ص 123، 124.
(2) سيدي أبو الحسن الشاذلي ص 79.
(3) المصدر نفسه ص 79.(1/553)
5 - جهل الفرنجة بجغرافية البلاد الإسلامية: ومن الأسباب في هزيمة الصليبيين جهلهم بجغرافية البلاد المصرية، وطبيعة الطرق التي اتخذوها للوصول إلى القاهرة بعد احتلالهم لمدينة دمياط، فقد ارتكبوا نفس الخطأ الذي وقعت فيه حملة جان دي برين منذ ثلاثين سنة، إذا استخدم نفس الطريق المائي الوعر الذي استخدمه جان برين من قبله، أي الطريق من دمياط إلى القاهرة ماراً بالمنصورة، فبنها وكان هذا الطريق يعترضه قنوات وترع تتفرع عن الفرع الشرقي للنيل هي أشبه بشبكة الصائد وتصلح أن تكون أفخاخاً للإيقاع بالجيش الفاتح، وغير ذلك، فإنه يمر بعدد من مراكز الدفاع القوية التي يمكن للقوات المصرية استغلالها ضد الفرنج (1) وإن المصير الذي آلت إليه حملة لويس التاسع ومن قبلها حملة جان دي برين لهو دليل كاف على صحة ما نقول، فلم يستولى قائد الحملة الصليبية الخامسة على دمياط إلا بعد حصار دام زهاء 17شهراً، وعندما تقدم داخل الدلتا كانت قواته قد أنهكت بعد هذا الحصار الطويل، وقد توقفت أمام بحر أشموم حيث كان يعسكر قبالته من الناحية الأخرى وأحسوا بخيبة الأمل عندما تبينوا أن الأرض التي كانت تفصل بينهم وبين قاعدتهم في دمياط قد غمرتهم مياه الفيضان، إذ كان النيل في ازدياد واستغل - المسلمون - هذه الفرصة وقطعوا السدود، فأسرع الفرنج بالتراجع صوب دمياط، لكن المياه كانت تحيط بهم من كل جانب، وتعقبهم المسلمون بشده، ولكي ينج الصليبيون بأنفسهم من المجاعة أو الغرق، اضطروا إلى طلب فتح باب المفاوضات وقد سمح لهم السلطان بالرحيل بعد أن أخلوا دمياط (2).
__________
(1) العدوان الصليبي على مصر د. جوزيف نسيم ص 241.
(2) العدوان الصليبي على مصر ص 242.(1/554)
أما مصير حملة لويس التاسع فكان أسوأ من تلك بكثير عندما اتبع نفس الطريق (1)، ويبدو أن نابليون بونابرت في حملته على عام 1798م، استفاد من أخطاء من سبقه، فأختار طريق أخرى، من خلال الرسو في الإسكندرية مع الاحتفاظ بخط سير على غربي فرع النيل الغربي (فرع رشيد) ويمر هذا الطريق بدمنهور والجيزة (2)، ولذا يمكننا القول بحق إن السبب الأكبر في فشل الحملة الصليبية السابعة يرجع إلى قلة المعلومات الجغرافية واختيار الطريق الوعر غير العملي، ولو أن القوات الصليبية اضطرت للقتال بعيداً عن مجرى ماء، كبحر أشموم وفي خلاء الصالحية أو بلبيس مثلاً لكانت هناك فرصة أكبر للنجاح وإن استحال هذا الطريق، فإن الطريق الآخر هو النزول في الإسكندرية ومتابعة خط سير بونابرت في 1798م (3).
__________
(1) المصدر نفسه ص 242.
(2) المصدر نفسه ص 243.
(3) المصدر نفسه ص 245.(1/555)
6 - خطأ كبير في تقدير العامل الزمني: وكما أخطأ لويس التاسع في اختيار الطريق السليم إلى القاهرة، كذلك لم يقدر بوصفه قائد الحملة أهمية العامل الزمني في الحروب ودخله في تقرير مصير البلاد (1)، فالحروب عادة تقوم على السرعة والمباغته، لأن هذه السياسة هي أحسن ما يمكن اتباعها لبث الاضطراب في معسكر العدو ولكن حوادث الحملة أثبتت أن الصليبيين لم يراعوا على الإطلاق قيمة هذا العامل الهام وما يترتب على التباطئ والتأخير من أضرار بالغة (2)، فالوقت الذي أضاعه الصليبيون في قبرص كان سبباً في تسرب أنباء تحرك الحملة والوقت الذي أضاعوه في دمياط كان سبباً في إعطاء الفرصة للقوات الإسلامية في التقاط أنفاسهم وإعادة تنظيم قواتها، وفضلاً عن ذلك فإن هذا الوقت الذي ضاع في قبرص ودمياط قد أدى إلى نفاذ المؤن والأموال ودفع بالقوات الصليبية إلى اللهو والإنغماس في الملذات، مما أدى إلى إنهاك القوات الصليبية واختلال توازنها وانتشار الأمراض وموت عدد من الصليبيين وكان على الصليبيين الاتعاظ من ضياع الوقت في قبرص ولكنهم عادوا وكرروه في دمياط دون قتال واعتقادهم أن الطريق أصبح مفتوحاً أمامهم إلى القاهرة وأنهم سيستولون على القاهرة بنفس السهولة التي استولوا بها على دمياط (3).
__________
(1) المصدر نفسه ص 245.
(2) المصدر نفسه ص 246.
(3) تاريخ الحروب الصليبية، محمود سعيد ص 316.(1/556)
7 - العصيان وعدم الطاعة: ومن العوامل التي تسببت في انهزام الصليبيين العصيان وعدم الطاعة، فلم يكن الملك لويس قائد هذه الحملة صاحب السلطة المطلقة، ومن ثم لم يكن قادراً على فرض إرادته على قواده ورجاله، وإلزامهم باتباع أوامره (1)، فكان رجال الحملة من جند وقواد على السواء يتصرفون حسبما يتراءى لهم ضاربين بأوامر قائدهم الأعلى عرض الحائط مما أضر بالقضية الصليبية، ويذخر تاريخ الحملة بالأمثلة التي تؤيد هذا، فعندما وصل الفرنج إلى قبرص، كان الملك شديد الرغبة في الزحف السريع إلى مصر دون التوقف بالجزيرة، لكنه اضطر إلى الإقامة بها فترة طويلة نزولاً عند رغبة قواد جيشه (2) وكذلك في فترة إقامة الجيش بدمياط، انغمس رجال الحملة في الملذات على مرأى من مليكهم حتى أنه أصبح عاجزاً عن السيطرة عليهم ووضع حد لاستهتارهم (3)،
__________
(1) العدوان الصليبي على مصر ص 249.
(2) المصدر نفسه ص 249.
(3) المصدر نفسه ..(1/557)
وعندما اغتصب روبرت كونت ارتوا من وليم كونت سالسبري الغنيمة التي كان قد استولى عليها، توجه الأخير إلى لويس متظلماً من تصرفات شقيقه، راجياً منه أن يعيد إليه ما اغتصبه روبرت منه، لم يسع الملك لويس التاسع أن يفعل شيئاً حتى أن الفارس الإنجليزي استشاط غضباً وترك المعسكر هو ورجاله إلى عكا قائلاً للويس إنه ليس ملكاً إلا بالإسم وإنه ليس له أي سلطة فعلية على رجال جيشه ولعل أبلغ مثل على عصيان الأوامر الملكية ما فعله روبرت بعد عبوره بحر الشموم؛ إذ اندفع نحو المنصورة غير مبال بأوامر أخيه، ولقد بذل الملك ما في وسعه لمنعه من التقدم، وأرسل إليه عشرة فرسان يأمرونه بالتوقف والانتظار ولكن روبرت أختار أن يقوم بهجومه المتهور مخالفاً أوامر قائده، ذلك الهجوم الذي باء بالفشل وأودى بحياته هو ورجال المقدمة كلهم تقريباً وغير هذا وذاك فالحملة مليئة بالمعارك التي مات فيها كثير من الصليبيين نتتيجة تمردهم وعصيانهم لأوامر مليكهم (1)، قد يفسر هذا العصيان بأنه لم يكن للفرنسيين جيشاً قوياً موحداً، وأنهم كانوا ينظمون قواتهم على الطريقة الإقطاعية التي كانت متبعة في العصور الوسطى، وأن الملك ما زال هو الأول بين أقرانه، ليس له عليهم سلطة حقيقية ولكن كيفما كان الأمر فإن قائد جيش إقطاعي كلويس التاسع لم يكن يعقل أو يتوقع أن تتحطم خططه وتتكسر تعليماته من جراء عصيان كهذا (2).
__________
(1) العدوان الصليبي على مصر ص 250.
(2) المصدر نفسه ص 251.(1/558)
8 - انحلال الحملة السابعة خلقياً: ومن العوامل التي ساهمت في هزيمة الحملة الانحلال والتدهور الخلقي الذي كان متفشياً في نفوس الصليبيين مما أدى إلى انهماك قواهم وضعف الروح المعنوية عندهم، فقد انغمسوا في الملذات وحياة الفجور بدلاً من السعي في تنظيم صفوفهم وإعداد خططهم وإحكامها وإن سلوك الفرنج وتصرفاتهم الشاذة في قبرض ودمياط وفي شتى مراحل الحملة لأبلغ دليل على ما نقول، كما أن هناك حادثة رواها جوانفيل في مذكراته تدل على مدى استهتار الفرنج وخلاعتهم، فقد حدث في مساء الثلاثاء 8 فبراير 1250م أن وورى التراب أحد فرسان جوانفيل وبينما هم في رقدته الأخيرة داخل تابوته، أخذ ستة من فرسان جوانفيل يتحادثون بصوت مرتفع حتى أنهم أزعجوا القس الذي كان يقوم بتلاوة الصلاة الجنائزية، فذهب إليهم جوانفيل راجياً منهم أن يخلدوا إلى الهدوء والسكينة واحتراماً لروح زميلهم المتوفى، ولكنهم أخذوا يتضاحكون ويتغامزون فيما بينهم قائلين إنهم إنما يبحثون عن زوج آخر لأرملته (1) وهكذا نرى أنه في الوقت الذي كان فيه الفرنج منصرفين إلى اللهو والمرح، كان - المسلمون - منهمكين في تنظيم جيوشهم وإعدادها لمواجهة العدو والحيلولة بينه وبين التوغل في الأراضي المصرية (2).
__________
(1) المصدر نفسه ص 251.
(2) المصدر نفسه ص 254.(1/559)
9 - فتور الروح الدينية عند الصليبيين: وعلى الرغم من اتسام هذه الحملة الصليبية بالطابع الديني، فإننا نلاحظ فتور هذه الروح بين كثير من المقاتلين، وتدخل المصالح المادية في الحركة الصليبية، وإن موقف البحارة الجنوية والبيازنة وجماعة الرهبان الداوية لدليل كاف على ذلك، فقد غلبت على الجنوية والبيازنة الذين بقوا في دمياط لحراستها، عندما تقدم الجيش الفرنسي جنوباً صوب العاصمة - الضفة التجارية، ورأوا ألا يعرضوا أنفسهم للخطر عندما علموا بوقوع لويس التاسع ورجاله في أسر - المسلمين - فتراهم يقرون ترك دمياط والنجاة بأنفسهم ولم يعدلوا عن رأيهم إلا بعد أن ابتاعت لهم الملكة مرجريت كل ماهم في حاجة إليه، وأدخلتهم تحت نفقة الملك الخاصة، فقد كانت حرفتهم التجارة وهمهم الأول والأخير هو الكسب المادي وأما الداوية - الذي من مبادئهم الفقر والطاعة، فقد أظهروا جشعهم وأنانيتهم عندما رفضوا إقراض لويس التاسع المال اللازم لاتمام دفع الفدية - للمسلمين - ولم يحصل الملك على المبلغ المطلوب إلا بعد مناقشات حامية بينه وبينهم اشترك فيها جوانفيل، وهكذا يمكن القول إنه لم يكن لكثير من الصليبيين رغبة صادقة في - القتال الديني - وإن إخلاص المسلمين لمبدأ الجهاد في سبيل الله، كان يفوق إخلاص المسيحيين له (1).
__________
(1) العدوان الصليبي على مصر ص 255.(1/560)
10 - التهور وقصر النظر: ومن العوامل في هزيمة الحملة السابعة، التهور وقصر النظر والإهمال الشديد من جانب الفرنج، فلولا تهور كونت أرتوا واندفاعه داخل المنصورة بعد عبوره قناة أشموم لما حدثت تلك الهزيمة المنكرة التي قضت على مقدمة الجيش المسيحي، أما قصر النظر وعدم التقدير لخواتيم الأمور، فيبدوا جلياً في القرار الذي اتخذه مجلس الحرب الصليبي الذي عقد بدمياط، بالتوجه جنوباً صوب العاصمة بدلاً من التوجه إلى الإسكندرية، ذلك القرار الذي كان حلقة جديدة في سلسلة الأخطاء التي انتهت بفشل الحملة وأما إهمال الفرنج وتهاونهم فيتضح في نسيانهم تحطيم الجسر الموجود على بحر أشموم عند تراجعهم من المنصورة إلى قاعدتهم في دمياط في الخامس من أبريل 1250م مما ترتب عليه أسوأ النتائج بالنسبة للصليبيين الهاربين (1) وإلى جانب هذا كله، فقد كان الشقاق والغيرة وتفرق الكلمة وعدم التعاون متوفراً في الجانب المسيحي (2)، بينما كان الجانب الإسلامي متحد الكلمة ومتفق الرأي، فقد وقف المسلمون أمام القوات الصليبية كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا (3). هذه أهم الأسباب التي ساهمت في فشل الحملة الصليبية السابعة.
__________
(1) المصدر نفسه ص 256.
(2) المصدر نفسه ص 256.
(3) المصدر نفسه ص 256.(1/561)
سابعاً: نتائج الحملة الصليبية السابعة: وقد ترتب على هزيمة لويس التاسع عام 1250م/648هـ وفشل الصليبية السابعة مجموعة من النتائج من أهمها:
1 - عجز فرنسا عن تحقيق أهدافها: والملاحظ أن فعاليات الدور الفرنسي في دعم الحركات الصليبية وفي التوجه إلى البعد الأفريقي نالها الخسران المبين وعجزت فرنسا عن صنع واقع حربي وسياسي في المنطقة على حساب الأيوبيين، وبذلك تأكد للدارسين كيف أن كافة المحاولات الصليبية لأخضاع مصر سواء في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين/ السادس والسابع الهجريين لم تحقق أدنى نجاح، ولا شك في أن صورة أسرة آل كايبه الحاكمة في فرنسا، ضعف أمرها بين الأسر الحاكمة في أوروبا بسبب الهزيمة الشنيعة التي تعرض لها لويس التاسع ووقوعه في الأسر (1).
2 - السند التاريخي للمماليك للوصول للحكم: تبين بوضوح الدور البارز الذي قام به المماليك في معركة فارسكور وكيف أن جهادهم أعداء الإسلام كلل بالنجاح، وفي حقيقة الأمر؛ أن ذلك الدور كان له أثره في ارتفاع شأنهم وبذلك سيصبح لهم السند التاريخي في الوصول إلى العرش، وليس غريباً أن العام الذي شهد الانتصار على الغزاة وهو عام 1250/ 648هـ، هو ذاته العام الذي شهد نهاية تورانشاه حريقاً غريقاً لتنتهي الدولة الأيوبية، ويتم إفساح الطريق لدولة المماليك المدافعة عن الإسلام (2) بقوة وعزم ونشاط.
3 - المرأة في صفوف المجاهدين: فقد أثبتت لنا تلك الحملة دور المرأة المسلمة خلال ذلك الصراع العنيف بين المسلمين والصليبيين على أرض مصر كما تجدر الإشارة إلى دور شجرة الدر التي حفظ لها التاريخ حكمتها في أصعب المواقف التي مرت بها الدولة الأيوبية حينذاك ومن الممكن القول بأن المرأة المسلمة كانت تعمل في الجبهة الداخلية التي هي أساس نجاح جبهات الصراع الحربي مع الصليبيين وساهمنّ في صنع تاريخ الأمة الجهادي (3).
__________
(1) الحروب الصليبية بين الشرق والغرب ص 310.
(2) المصدر نفسه ص 310.
(3) المصدر نفسه ص 310، 311.(1/562)
4 - تضرر الاقتصاد الأوروبي: تحدث بعض المؤرخين عن كلفة الحملة الصليبية السابعة، فقدرها بما يزيد على 1300.000ليرة تورية "عملة نقدية مسكوكة في مدينة تور الفرنسية" موزعة كما يلي:
- 200.000ليرة مصروفات ملكية.
- 210.000 ليرة دفعها الملك فدية.
- 750.000 ليرة، مصروفات عسكرية.
- 40.000 ليرة مصروفات لبناء السفن.
- 120.000 ليرة، مصروفات بناء تحصينات في الأراضي المقدسة.
- 1300 ليرة، تضاف نفقات لبعض الأسرى.
وهذا المبلغ يعادل، 30 مليون مارك ذهبي ألماني أو ما يعادل تقريباً 100مليون مارك ألماني حالي وهذا المبلغ يعادل دخل الخزينة الفرنسية بحسب تقديرات السنوات 1256 - 1259م ما مقداره ميزانية إحد عشر إلى اثنى عشر سنة (1)، ولاشك أن هذا الحجم الهائل من الأموال الذي أنفق دون طائل أي دون تحقيق الهدف الذي انطلقت من أجله الحملة الصليبية كان مؤشراً على أوضاع قطاعات واسعة من الأوروبيين الذين تضرروا نتيجة السياسة التي اختطتها لهم الكنيسة مما جعلهم فيما بعد يتراجعون عن تأييد الكنيسة في الكثير من قراراتها بل، ويوجهون لها النقد في إدارتها للحروب الصليبية (2).
__________
(1) دراسات في تاريخ الأيوبيين والمماليك للعمادي وجبران ص 226.
(2) المصدر نفسه ص 227.(1/563)
5 - حزن عظيم في فرنسا وأوروبا: عّم الحزن واليأس والجزع في فرنسا وأوروبا الغربية، لما منيت به الحملة من هزيمة منكرة، فلم يقتصر الأمر على فشلها في تحقيق رسالتها التي قامت من أجلها، لكنها فقدت في مصر عدداً لا يستهان به من رجالها بين قتيل وأسير وجريح وتروي بعض المراجع العربية أن النصارى ببعلبك عندما بلغهم ما نزل بالجيش المسيحي من الهزائم سودوا وجوه الصور في كنيستهم حزناً على ذلك (1)، ويصف المؤرخ الغربي المعاصر للحملة متى الباريزي حالة فرنسا حينذاك، فيقول إنه شملها الحزن من أقصاها إلى أقصاها وتحول كل شيء في المملكة إلى أنين وبكاء، فالآباء والأمهات يندبون أبناءهم، والصغار واليتامى يبكون آباءهم والأصدقاء ينوحون على أقاربهم وأصدقاءهم ويستمر نفس المؤرخ في وصف هذه الحالة فيقول إن عدداً كبيراً من المسيحيين قد تزعزعت عقيدتهم وكانوا على وشك الارتداد عن دينهم لو لم يعمل رجال الدين على تهدئة خواطرهم وإقناعهم أن جميع الذين قتلوا في هذه الحملة الصليبية أصبحوا في مرتبة الشهداء (2) ويقول الكاتب الفرنسي لافيس: إن هذه الهزيمة تعتبر بحق من أشد الهزائم التي نزلت بالفرنج حتى أنهم انصرفوا تماماً عن فكرة الاشتراك في حرب صليبية جديدة (3).
__________
(1) نهاية الأرب عن العدوان الصليبي على مصر ص266.
(2) العدوان الصليبي على مصر ص 266.
(3) المصدر نفسه ص 266.(1/564)
6 - تخريب مدينة دمياط: ومن النتائج التي ترتبت على هذه الحملة أيضاً تخريب مدينة دمياط التي قاست الأمرين من حملات الفرنج المتتابعة عليها في عهد الدولة الأيوبية، حتى أن الملك المعز أبيك والمماليك البحرية اتفقوا على تخريبها في شعبان 648هـ/نوفمبر 1250م، أي بعد نحو ستة أشهر من مغادرة الفرنج أرض مصر - وابتنوا دمياط الجديدة إلى الداخل بعيداً عن شاطئ البحر، حتى تخلص من شر اعتداء الصليبيين عليها (1)، ولم يكتف - المسلمون - بهذا، فعندما اعتلى الملك الظاهر بيبرس عرش مصر، نراه يلجأ إلى طريقة فعالة لحماية مدخل النيل عند دمياط من اعتداء الغزاة وهجماتهم، ففي السنة الثانية من حكمه وهي سنة 659هـ/1261م، أخرج من مصر عدة من الحجارين لردم فم بحر دمياط، فمضوا وقطعوا كثيراً من القرابيص (2)، وألقوها في النيل الذي ينصب من شمال دمياط في البحر الملح حتى ضاق وتعذر دخول المراكب فيه (3)، وهكذا نرى أن حملة لويس التاسع كانت سبباً في إزال مدينة دمياط القديمة التي وصفها ابن واصل، بأنها عقيلة الإسلام وثغر الديار المصرية (4).
__________
(1) المصدر نفسه ص 267.
(2) المصدر نفسه ص 267.
(3) خطط المقريزي (1/ 223 - 224) العدوان الصليبي ص 267.
(4) مفرج الكروب نقلاً عن العدوان الصليبي ص 267.(1/565)
7 - اضطرابات سياسية في أوروبا: أبحر الملك لويس من دمياط في مساء يوم السادس من مايو 1250م واتخذ طريقة إلى عكا فوصلها بعد سنة مخلفاً وراءه في مصر العديد من الأسرى الذين لم يتمكن الملك من دفع فديتهم وفي عكا ساعدت الظروف الملك ليتولى عرش مملكة بيت المقدس الإسمية عن طيب خاطر من يوحنا إبلين الصغير سيد أرسوف وابن عم الملك هنري الأول ملك قبرص ونائبه في حكم المملكة الصليبية، وعقب وصول الملك جاءته الأخبار من والدته الملكة بلانشى صاحبة قشتالة تستدعيه للرجوع إلى مملكته التي طمع الإنجليز في الوثوب عليها أثناء غيبته في الشرق حينئذ عقد لويس مجلساً حربياً من بارونات فرنسا ورجال الدين وجماعات الفرسان الداوية والاسبتارية والتيوتونية وبارونات مملكة بيت المقدس للتداول، فيما يجب اتخاذه، وقد اجتمع المجلس ثلاثة آحاد متتالية من 19 يونيو إلى 3 يوليو 1250م وانقسم الأعضاء فريقين، فريق يتألف من غالبية الصليبيين يرى ضرورة العودة إلى فرنسا، وفريق آخر على رأسه جوانفيل يرى أنه يجب البقاء بالشام لحماية الإمارات الفرنجية بها من غائلة المعتدين وبعد تمحيص الآراء قرر الملك لويس البقاء في فلسطين إلى أن يفتك باقي الأسرى المسيحيين الذين لا يزالون في قبضة المصريين، كما رأى أن بقاءه قد يعود بالنفع على المسيحيين في الشرق خصوصاً بعد الخلاف الذي نشب بين الأيوبيين في الشام والمماليك في مصر بعد قتل المعظم توران شاه (1) لكنه على أي حال أنفذ أخويه كونت انجو وكونت بواتييه إلى فرنسا، للدعوة إلى التئام القوى للقيام بحملة صليبية جديدة تمحو عار الهزيمة التي مني بها في المنصورة وفارسكور (2).
__________
(1) العدوان الصليبي على مصر ص 269.
(2) المصدر نفسه ص 269.(1/566)
8 - عدم الاستجابة للبابا انوسنت الرابع: لم تكن أوروبا حينذاك في حالة تمكنها من إيفاد قوات إلى الشرق للقيام بحرب صليبية جديدة تعوض ماخسره الفرنسيون في مصر، فقد كان الصراع، على أشده بين البابوية والإمبراطورية؛ إذ استمر الصدام بين البابا انوسنت الرابع وبين كونراد الرابع ابن فريدريك الثاني بعد موت الأخير في 13 ديسمبر 1250م ودعا البابا إلى حرب صليبية ضد الإمبراطور الجديد وأعوانه، وقد شل هذا النزاع حركة العالم المسيحي في أوروبا بعامة، وفي كل من إيطاليا وألمانيا على وجه أخص، أما في انجلتر فقد قيد مليكها هنري الثالث اسمه في سجل الحرب المقدسة متعهداً بحمل الصليب لنجدة الأرض المقدسة، ولكنه انتهز فرصة غياب لويس التاسع عن مملكته للوثوب عليها وضم بعض أقاليمها إلى بلاده، ودفع إلى البابوية مبلغاً كبيراً ليصبح في حل من العهد الذي أخذه على نفسه بحمل الصليب، لم يكتف هنري بكل هذا، بل فرض أيضاً حراسة شديدة على الموانئ والثغور الإنجليزية لمنع رعاياه الذين حملوا الصليب من الإبحار إلى الشرق (1)، كذلك كان المسيحيون في إسبانيا في قتال مستمر ضد المسلمين بها، مما حال بينهم وبين المساهمة في حرب صليبية خارج شبه الجزيرة (2)
__________
(1) العدوان الصليبي على مصر ص 270.
(2) المصدر نفسه ص 270 ..(1/567)
أما في فرنسا فقد صادقت المجهودات التي بذلك لجميع نجدات منها نجاحاً ضئيلاً، فقد قامت حركة شعبية كان يمكن أن تمد الملك الفرنسي بعدد كبير من المتطوعين لو أحسن تنظيمها، وقيادتها وتوجيهها الوجهة الصحيحة، إذ أدعى أحد الرعاة أن المولى أناط إليه مهمة تحرير الأراضي المقدسة، وأطلق على نفسه لقب "سيد هنغاريا" لأنه كان هنغاري المولد، وانتشرت حركته بسرعة في أنحاء فرنسا، وقد عرفت في التاريخ باسم صليبية الرعاة، لأن الذين اشتركوا فيها كانوا من المزارعين ورعاة الأغنام، لكن هذه الجموع الغفيرة غير النظامية أخذت تعيث فساداً في البلاد التي مرت بها داخل فرنسا، مما دفع الملكة النائبة بلانشى صاحبة قشتالة إلى كبح جماحهم ووضع حد لأعمال العنف التي كانوا يقومون بها، فتعقبتهم وشتت شملهم وقبضت على الكثيرين منهم، حتى أن القليلين هم الذين تمكنوا من الأفلات والعودة إلى ديارهم سالمين (1).
9 - انقطاع الإمدادات: وعبثا انتظر الملك لويس التاسع خلال وجوده بعكا وصول الإمدادات والنجدات التي بعث في طلبها من الغرب الكاثوليكي، فضلاً عن أنه كان في حاجة ماسة إلى المال للصرف على قواته، لأن الفدية التي دفعها للمصريين أرهقت موارده المالية، وقد أرسلت إليه الملكة بلانشى مبالغ كبيرة، لكن السفينة التي كان يوجد بها المال غرقت في طريقها إلى عكا، أضف إلى ذلك أنه لم يبق مع الملك الفرنسي من القوات التي هاجم بها الديار المصرية سوى بضع مئات من الفرسان، مما لا يكفي للقيام بأي عمل إيجابي حاسم (2).
__________
(1) المصدر نفسه ص 270.
(2) المصدر نفسه ص 271.(1/568)
10 - عودة لويس التاسع: بقي لويس في الأراضي المقدسة مدة تقرب من أربع سنوات (مايو 1250 - أبريل 1254) وساعد على بقاء لويس التاسع حالة الشرق الأدنى السياسية في ذاك الحين، بعد ثورة المماليك في مصر التي أدت إلى تغير نظام وانتقاله من سلالة بني أيوب إلى المماليك البحرية، فكان من جزاء هذا نشوب الخلاف بين هؤلاء المماليك وأمراء بني أيوب في الشام الذين لم يقبلوا عليهم ملكاً من مماليك أسرتهم، وقد استغل الملك لويس التاسع هذا الخلاف الناشب بينهما لصالح القضية الصليبية إذ كان كل من الفريقين يسعى إلى اكتساب وده واجتذابه إلى جانبه في صراعه ضد خصمه وكان لويسع يطمع في اتساع هوة الخلاف بينهما حتى يخلو له الجو ويمكنه حينئذ تحقيق مطامعه التي أخفق في الحصول عليها عن طريق الحرب (1) وباءت جهود لويس التاسع بالفشل في إثارة الفتنة بين الأيوبيين في الشام والمماليك - بعد الصلح الذي تّم بينهم عام 651هـ/1253م - والواقع أن ذلك الصلح كان ضربة قاسية أصابت آمال الملك الفرنسي، إذ انهار ما كان يرجوه من وراء الشقاق الناشب بين القوتين من حيث إضعافها معاً واستفادة الصليبيين وحدهم من ذلك وأدرك أن مهمته في الأراضي المقدسة قد أذنت الانتهاء، كما أدرك أيضاً أن هذا الصلح عاد بالضرر على معاقل اللاتين وممتلكاتهم في الشام التي باتت مهددة بالخطر والضياع بعد أن خلا الجو للناصر يوسف باتفاقه مع من بيدهم السلطة في مصر (2)،
__________
(1) العدوان الصليبي على مصر ص 272.
(2) المصدر نفسه ص 279 ..(1/569)
لذا نرى لويس التاسع يعمل على إصلاح وتقوية بعض المدن الساحلية والقلاع الداخلية خوفاً من هجوم مفاجئ قد يشنه عليه المسلمون، فكان مما حصنه عكا وقيصرية ويافا وصيدا وفي الوقت الذي كان فيه الملك الفرنسي في صيدا يشرف بنفسه على العمليات الخاصة بتحصينها، بلغة النبأ الأليم بوفاة والدته الملكة بلانش، التي كانت تنوب عنه في تدبير المملكة وحفظها سالمة من عواصف السياسة الأوروبية في ذاك الحين وأصبحت عودة لويس إلى فرنسا ضرورة تحتمها الظروف، فقد كانت البلاد مهددة من انجلترا الطامعة فيها، كما سببت مطامع البابا انوسنت الرابع ونزاعه مع الإمبراطورية بعض القلق في فرنسا، وأخيراً في 24 أبريل 1254م غادر لويس - بلاد الشام - بعد أن ترك فيها مجموعة قليلة من الفرسان (1) وبعد أن نجح في عقد هدنه مع دمشق لمدة سنتين وسبعة أشهر إبتداء من الحادي والعشرين من فبراير 1254م، كما عقد لويس أيضاً هدنة مع القاهرة، لمدة عشرة سنوات بداية من عام 1255م، وعقب رحيل لويس في عام 1254م تجددت إشتباكات محدودة بين الصليبيين والمسلمون ولكن الهدنة تجددت مرة أخرى لمدة عشر سنوات مع دمشق والقاهرة من جانب والصليبيون من جانب آخر (2)،
__________
(1) المصدر نفسه ص 280.
(2) تاريخ الحروب الصليبية ص 322 ..(1/570)
وعاد لويس إلى فرنسا مجروحاً في كرامته وعزته وكبريائه بعد هزيمة المصريين له في المنصورة، وفارسكور، ولتنكيلهم بفرسانه ومشاته، ولكنه مع ذلك لم يفقد الأمل الذي ظل يراود خياله منذ صغره في امتلاك المدينة المقدسة وضمها إلى حظيرة اللاتين، فنراه في سنة 1267م بعد ثلاثة عشر عاماً من انتهاء حملته على مصر والشام - يحمل الصليب مرة أخرى، ويقوم في سنة 1270م/660هـ - بعد ثلاث سنوات أمضاها في الاستعداد - بحملته الصليبية الثالثة والأخيرة على تونس بقصد استمالة صاحبها محمد بن يحي الملقب بالمستنصر إلى المسيحية، ومواصلة الزحف على مصر خط الدفاع الأول عن بلاد الشام وبيت المقدس - وبلاد الشرق الأدنى آنذاك، وبالقضاء على هذا المعقل الأشب يمكنه استخلاص البيت المقدس بسهولة من أيدي المسلمين، ولكن شيئاً من هذا لم يحدث، إذ قضى لويس التاسع نحبه وهو على أبواب قرطاجنة دون أن يتأتى له أن يمحو عن جبينه عار هزيمته على ضفاف النيل وإخفاق محاولاته في بلاد الشام - وكان آخر ما هتف به وهو على فراش الموت - نقلاً عن شاهد عيان يدعى غليوم دي شارنز - هيا إلى أورشليم (1).
__________
(1) العدوان الصليبي على مصر ص 281.(1/571)
11 - ضعف الروح الصليبية: لقد عجل موت لويس التاسع - بضعف - الروح الصليبية، ويمكن الاستدلال على هذا الفتور الذي طرأ على الحركة الصليبية من قصيدة كتبها شاعر فرنسي معاصر لأحداث تلك الفترة يدعى رتبوف، يقول فيها إنه من الحماقة أن يخاطر الإنسان في حرب دينية خارج بلاده، طالما كان بوسعه أن يتصل بالله في وطنه ويعيش في نعمة وسلام، ويسخر الشاعر في القصيدة من رجال الدين الذين جعلوا من الحروب الصليبية وسيلة لابتزاز الأموال، ويعلق الكاتب جوستاف ماسون، من علماء أواخر القرن التاسع عشر للميلاد، على هذه القصيدة، بأن الشاعر كان يعبر تعبيراً صادقاً عن موقف ذوي التعقل في ذاك العصر (1)، وهكذا زال أمل الإمارات اللاتينية بالشام في أية مساعدة يقدمها لها أهل الغرب الكاثوليكي حتى يمكنها الدفاع عن نفسها وصد هجمات المسلمين وما لبثت بعد ذلك بفترة وجيزة حتى تقلص ظلها ثم زالت في نهاية الأمر (2)، على يد المماليك كما سيأتي تفصيله في كتابنا القادم بإذن الله تعالى في بيان جهود المماليك للتصدي للمشروع المغولي والوجود الصليبي في ديار الإسلام.
ثامناً: ما قيل من شعر في هزيمة الحملة الصليبية السابعة:
بعد أن انتصر المسلمون على الحملة الصليبية السابعة واعتقل لويس التاسع في دار ابن لقمان سنة 648هـ ووكل به خادم يسمى صبيحاً، قال ابن مطروح أبو الحسن يحي بن عيسى بن إبراهيم بن مطروح وهو من شعراء عهد الملك الصالح أيوب هذه القصيدة:
قل للفرنسيس إذا جئته ... مَقَال صْدقٍ من قؤول فصيح
آجَرَكَ الله على ما جَرىَ ... من قَتْل عُبَّادِ يسوغ المسيح
قد جئتَ مِصراً تبتغي أخذها ... تحسب أن الزَّمْرَ يا طَبْلُ ريح
فساقك الحين إلى أدهم ... ضاق به عن ناظريك الفسيح
رُحْتَ وأصحابك أودعتهم ... بقُبح أفعالِك بظن الضَّريح
خمسون ألفاً لا يُرى منهم ... إلا قتيل أو أسير جريح
__________
(1) المصدر نفسه ص 282.
(2) العدوان الصليبي على مصر ص 282.(1/572)
أَلهمك الله إلى مِثَّلهِا ... لعلَّ عيسى منكم يستريح
إن كان باباكُمُ راضياً ... فَرُبَّ غُبْنٍ قد أتى من نَصيح
فاتَّخِذُوهُ كاهناً إنه ... أنصح من شِقَّ لكم أو سطيح
وقل لهم إن أضمروا عودةً ... لأخذ ثأر أو لقصد صحيح
دار ابن لقمانٍ على عهدها ... والقيد باق والطَّواشي صبيح (1)
1 - من شعر ابن مطروح في الاسترضاء والعتاب: قال ابن مطروح هذه الأبيات من قصيدة من قصائد الاسترضاء والعتاب التي نظمها عندما حدثت الجفوة بينه وبين الملك الصالح نجم الدين أيوب:
من مبلغ عني المليك الأروْعا ... عن عبده يحي مقالاً مُقْنعِا
يا ابن الملوك الأكرمين ومن لهم ... هِممٌ بها سَدُّا الفضاء الأوسعا
وإذا النجومُ سعت لتدَرِك مجدهم ... رجعت ولم تبلع نداهم ضُلَّعا
أيجوز أن أبقى ببابك ظامئاً ... ونداكَ قد وسع الخلائقَ أجمعا
ولو أدعيت بأن مالك ناصح ... مثلي شهدت بصدق ذاك المدَّعى
ومع النصيحة فالتخُّلقُ بالوفا ... خُلْقٌ خُلِقْتُ عليه لا متطبَّعا
ومحبة لِدَمي ولحمي ما زجَت ... وهوىً حنيتُ عليه مني الأضْلعُا
ولطالما جرّبتني فوحدتني ... أجدى من الملاء الكثير وأنفعا
وأَسَدَّ آراءً وأثقبَ فِكرة ... وأشدَّ عارِضةً وألطف موقِعا
ولكم ليالٍ بتُّ في ديجُورِها ... لله أدعو خاشعاً متضرعا
حتى رأيتك فوق كِسْرَى رفعة ... ورأيت دونك في الجلالة تُبَّعا
فعلام بعد الاصطفاءِ نبذتني ... نبذ النَّواة بقوْلِ واشيٍ قد سعى
وسمعت في حقَّي كلام معاشِر ... أقصى مُناهم أن أبيت مُضيَّعا
حقُّ العذولِ بأن يقول فيفترِي ... لكن أُحِلُّك أن يقول فتسمعا
وإن كنت خنتك ظاهراً أو باطناً ... فخسرت دنيائي وآخرتي معا
أَأَودُّكُم في عُنْفُوان شبيبتي ... وأحول إذ عهُد الشبيبة (2) ودّعا
2 - نزل ببعض أسفاره بمسجد وهو مريض فقال:
ياربَّ قد عجز الطَّبيبُ فَدَاوني ... بلطيف صُنعك واشفني يا شافي
__________
(1) السلوك (1/ 460) والأدب العربي من الإنحدار إلى الإزدهار ص 101.
(2) الأحب العربي من الانحدار إلى الإزدهار ص 102.(1/573)
أنا من ضيوفك قد حُسبِتُ وإن من ... شيم الكرام البر بالأضياف (1)
3 - وفاته: قال ابن كثير في وفيات سنة 650هـ وفيها كانت وفاة جمال الدين بن مطروح، وقد كان فاضلاً رئيساً كَيَّساً شاعراً من خيار المتعمَّمين، ثم استنابه الملك الصالح أيوب في وقت على دمشق، فلبس لبُس الجند، ومن شعره في الناصر داود صاحب الكَرَك لما استعاد القدس من الفرنج بعد أن سلمها الملك الكامل قال هذا الشاعر ابن مطروح:
المسجد الأقصى له عادة ... سارت فصارت مثلاً سائراً
إذا غدا للكفرِ مستوطنا ... أن يبعث الله له ناصراً
فناصٌر طهره أوّلاً ... وناصر طهَّره آخراً
ولما عزله الصالح عن النَّيابة أقام خاملاً وكان كثير البَّر بالفقراء والمساكين، وكانت وفاته بمصر (2) وتوفي ليلة الأربعاء مستهل شعبان ودفن بسفح المقطَّم، وأوصى أن يكتب عند رأسه بيت شعر نظمه في مرضه:
أصبحت بقُعرِ حفرتي مُرْتهنا ... لا أملك من دنيايَ إلا كَفَنَا
يا من وسعت عبادَهُ رحَمتُه ... من بعض عبادِكَ المُسيئين أنا (3)
4 - وقال شاعر آخر لم تذكر المصادر اسمه قصيدة في هزيمة الحملة السابعة نقتطف منها الأبيات التالية:
قل للفرنسيس إن كلا ... له من المسلمين شاكر
لأنه محسن إلينا ... يقوده نحونا العساكر
أركبهم أدهما خضما ... ورابح الشر فهو خاسر
ورام بابا همو أموراً ... فأخلفت ظنه المقادر
وأذهل القوم هول حرب ... تشخص من خوفه النواظر
فإن يعد طالباً لثأر ... من أرض دمياط فليبادر
فذلك البحر تعرفوه ... والسيف ماض والجيش حاضر
أعاده الله عن قريب ... لمثلها إنه لقادر
بحيث لم يبق للنصارى ... من بعد كسر الصليب جابر
ويستريح المسيح منهم ... من كل علج (4) وكل كافر
__________
(1) الأدب العربي من الانحدار إلى الأزدهار ص 102.
(2) البداية والنهاية (17/ 317).
(3) شذرات الذهب (7/ 429).
(4) المقصود بالعلج هنا: الكافر.(1/574)
ومن الطريف أنه عندما ترك لويس التاسع وجيشه على تونس في 1270م/668هـ وهي الحملة - التي تسمى الثامنة - قال شاب من أهل تونس اسمه أحمد بن إسماعيل الزيات:
يا فرنسيس هذه أخت مصر ... فتأهب لما إليه تصير
لك فيها دار ابن لقمان قبر ... وطواشيك منكر ونكير (1)
ففي هذين البيتين تذكير، لما لاقاه لويس التاسع في مصر من هزائم وضائقات، كما كان هذا فألا حسناً، فإنه مات وهو على محاصرة تونس (2).
تاسعاً: مقتل تورنشاه وزوال الدولية الأيوبية:
تبيانت الآراء واختلف المؤرخون حول شخصية تورانشاه، وتعددت أسباب قتله في نظرهم ولكنهم اجتمعوا على قتله على يد مماليك أبيه البحرية (3)، ويرى الدكتور قاسم عبده قاسم: بالرغم من الانتصار الإسلامي الرائع على الحملة الصليبية فإن السلطان الأيوبي تورانشاه كان إخفاقاً أيوبياً جديداً مهد الطريق أمام نهاية الدولة الأيوبية وصعود الدولة الجديدة التي شادها المماليك، لقد فشل تورانشاه في الاستجابة للتحديات التي كانت تفرضها الظروف التاريخية وبدلاً من تكريس جهوده لتوحيد المسلمين للقضاء على الخطر الصليبي تماماً، بدأ يدبر للتخلص من "شجرة الدر" وكبار أمراء المماليك (4) وقد ذكر المؤرخون مجموعة من الأسباب أدّت لقتل تورنشاه منها:
1 - أن هؤلاء المماليك خدموه أتم خدمة وانتظروا مجازاتهم واعتقدوا أنه سيملأ فراغ والده ولكنه قدم أمراءه وتوعد مماليك أبيه - الذين رباهم كأولاده - وقطع أخبارهم ونهب أموالهم ولم يعمل بوصية أبيه تجاهم (5).
__________
(1) فوات الوفيات (1/ 84 - 85) العدوان الصليبي ص 264.
(2) خطط المقريزي (1/ 223) العدوان الصليبي ص 265.
(3) الخطط (2/ 236) النجوم الزاهرة (6/ 364).
(4) في تاريخ الأيوبيين والمماليك ص 148.
(5) الجواري والغلمان في مصر ص 408، كنز الدرر (7/ 381).(1/575)
2 - ومن الأسباب التي ذكرت في قتله أن مماليكه أشاروا عليه بصلح الفرنج بعد أن كان ملكهم في يديه حتى لا يحتاج إلى شجرة الدر أو مماليك أبيه لأنهم مسيطرين على الحكم وسولوا له أن هؤلاء هم أعداءه وإن في صلح الملك وتركه وأخذ الأموال والجواهر صلاح الحال وتسليم دمياط، فشعر أمراء أبيه بتغيره عليهم واستهتاره بما قاسوه حتى وصلوا إلى هذا النصر على الصليبيين فدبروا قتله (1).
3 - وقيل أن في أسباب قتله أنه كان قد وعد أقطاي حين ذهب إليه يستدعيه من حصن كيفا أن يؤمره ولم يف بوعده فحقد عليه أقطاي (2)، ولما ذكره بوعده، على لسان بعض خواصه رد قائلاً "أعطيه جباً مليحاً يليق به (3) "
4 - وقيل من أسباب قتل المماليك له أنه تعرض لحظايا أبيه (4)، فلماذا حظايا أبيه وقد كان في عصر من الممكن الحصول فيه على أكبر عدد من المماليك والجواري والحظايا وكان طبيعياً أن لكل سلطان حظايا، فلم تكن ثروة ثمينة لا يستطيع الحصول على مثلها (5).
5 - وقيل من أهم أسباب قتله أنه طالب زوجة أبيه شجرة الدر بمال أبيه والجواهر (6)، وهددّها فخافت منه فتلاقت مخاوفها مع مخاوف زعماء المماليك وغضبهم بعد أن حرمهم السلطان الجديد من إقطاعتهم، فاستقر الرأي على ضرورة التخلص من آخر السلاطين الأيوبيين في مصر (7).
__________
(1) السلوك نقلاً عن الجواري والغلمان ص 409.
(2) نهاية الأرب (29/ 360) الجواري والغلمان ص 409.
(3) كنز الدرر (7/ 381 - 382) الجواري والغلمان ص 409.
(4) شفاء القلوب نقلاً عن الجواري ص 409.
(5) الجواري والغلمان في مصر ص 409.
(6) السلوك نقلاً عن الجواري والغلمان ص 410.
(7) في تاريخ الأيوبيين والمماليك، قاسم عبده ص 148.(1/576)
6 - وكان حبه لشرب الخمر أحد تصرفات تورانشاه التي أشارت حنق المماليك البحرية عليه وذكرها معظم من أرخ لتلك الفترة، فقد كان يشرب الخمر حتى تدور رأسه ويأتي بالشموع ويسميها باسم مماليك أبيه ويطيح بها بسيفه وقد حذره أبوه في وصيته بترك شرب الخمر، ولكن يبدو أنه لم يسمع النصيحة وقد جاء في الوصية: يا وليد قلدت إليك أمور المسلمين، فأفعل فيهم ما أمرك به الله به ورسوله يا ولدي إياك والشراب، فإن جميع الآفات وما تأتي على الملوك إلا من الشراب (1).
7 - وذكر ابن العبري، أن أحد تصرفات تورانشاه التي أثارت حفيظة البحرية ضده حين علم أن الملكة زوجة الملك لويس التاسع المعتقل لديه ولدت له إبناً في دمياط فسير إليها المعظم عشرة آلاف دينار ذهباً ومهداً للطفل ذهبياً وحللاً ملكية (2)، وغير ذلك من الأسباب، والمهم أن نعرف حقيقة هامة وهي أنهم شعروا باختلاف شديد في معاملة السلطان لهم ومعاملة تورانشاه المختلفة فقد كان الملك الصالح يحب مماليكه ويهتم بهم ويغدق عليهم الكثير من الإنفاق وقد بلغ من شدة اهتمامه بهم أنه ذكرهم في وصيته لابنه تورانشاه: الولد يتوصى بالخدم محسن ورشيد والخدام المقدمين لا تغيرهم، فما قدمت أحد من الخدام ولا من المماليك إلا بعد ما تحققت نصحه وشفقته واستاذ الدار وأمير جاندار تتوصى بهم وكذلك الحسام لا تغييرهم فإني اعتمد عليهم في جميع أموري (3).
__________
(1) نهاية الأرب (29/ 347) الجواري والغلمان ص 410.
(2) الجواري والغلمان ص 410.
(3) المصدر نفسه ص 411 نهاية الأرب (29/ 350).(1/577)
وقد عينت في ورقة عند الأخ فخر الدين عشرين من المماليك تقدمهم تعطي كل واحد كوسى (1)، وعلم وتحسن إليهم وتتوصى بالمماليك غاية الوصية، فهم الذين كنت اعتمد عليهم وأثق بهم وهم ظهري وساعدي، تتلطف بهم وتطيب قلوبهم وتوعدهم بكل خير، ولا تخالف وصيتي ولولا المماليك ما كنت قدرت أركب فرسي ولا أروح إلى دمشق ولا إلى غيرهم فتكرمهم وتحفظ جانبهم (2)، وجاء في الوصية: والوصية بجميع الأمراء وأكرمهم واحترامهم وأرفع منزلتهم فهم جناحك الذي تطير به وظهرك الذي تركن إليه، وطيب قلوبهم وزيد في إقطاعهم، وزيد كل أمير على ما معه من العدة عشرين فارساً، وأنفق الأموال، وطيب قلوب الرجال يحبوك وتنال غرضك في دفع هذا العدو (3) ومن الراجح أن هؤلاء المماليك توقعوا بعد الانتصارات التي حققوها والصعاب التي واجهوها في سبيل تخليص البلاد من ذلك الخطر الصليبي وحفظ البلاد للسلطان وحتى مجيئه وحلفهم له وتنصيبهم إياه سلطاناً على البلاد أن يقدر ذلك الجميل ويكافئهم كما تعودوا من أبيه (4)، ويبدو أن الأمر كان مغايراً تماماً لما توقعوه وبعد أن كان لهم الحل والعقد والأمر والنهي آثر مماليكه ودأب على تهديد هؤلاء ووعيدهم، فلم يستطيعوا تقبل الأمر كما هو فقتلوه (5)،
__________
(1) الكوس: من شعارات السلطنة والإمارة وهي ضوج من نحاس.
(2) نهاية الأرب (29/ 351) الجواري والغلمان ص 411.
(3) نهاية الأرب (29/ 351) الجواري والغلمان ص 411.
(4) مرآة الزمان نقلاً عن الجواري والغلمان ص 413.
(5) الجواري الغلمان ص 414 ..(1/578)
وكانت أكبر أخطاء تورانشاه أنه أقام بنيابة السلطنة الأمير جمال الدين أقوش النجيبي، بدلا من الأمير حسان الدين أبي علي الذي كانت له هيبة في عهد الصالح وهو الذي كان قد أمر الخطباء بالدعوة لتورانشاه على المنابر يوم الجمعة بعد الدعاء لأبيه وأن ينقش اسمه على السكة بعد اسم أبيه وهو الذي حرضّ على استدعائه في سرعة حتى لا يتغلب الأمير فخر الدين على البلاد عقب وفاة الصالح (1)، فكان من الممكن أن يسانده ويتقوى به (2).
__________
(1) المصدر نفسه ص 414.
(2) المصدر نفسه ص 414.(1/579)
1 - كيفية مقتل تورانشاه؟ ونتيجة لبعض التصرفات الغير مسؤولية وعدم أخذ الحيطة اللازمة من تورانشاه، قرّر المماليك البحرية التخلص من تورانشاه وتزعم المؤامرة مجموعة من الأمراء البحرية منهم فارس الدين أقطاي، وبيبرس البندقداري، وقلاوون الصالحي، وأبيك التركماني، وتمَّ تنفيذ المؤامرة في صباح يوم الاثنين 28 محرم 648هـ/2أيار 1250م وكان السلطان آنذاك في فارسكور يحتفل بانتصاره، ويتهيأ لإستعادة دمياط (1)، وجلس على عادته ليتناول طعامه، فتقدم إليه بيبرس البندقداري، وضربه بسيفه ضربة تلقاها بيده، فقطعت بعض أصابعه، فأسرع توران شاه إلى البرج الخشبي الذي أقامه على النيل ليمضي فيه بعض وقته واحتمى به وهو يصبح، من جرحني؟ فقالوا: "الحشيشية" فقال:، لا والله إلا البحرية! والله لا أبقيت منهم بقية، وضمد جراحة، فاجتمع أمراء المماليك وقرروا قتله وقالوا: بعد جرح الحية لا ينبغي إلا قتلها ودخل ركن الدين بيبرس وفارس الدين أقطاي وغيرهما من أمراء المماليك البحرية إلى البرج وهم شاهرون سيوفهم ففر توران شاه إلى أعلى البرج، وأغلق بابه، والدم يسيل من يده، فأضرموا النار في البرج ورموه بالنشاب، فألقى توران شاه نفسه من أعلى البرج، وهو يصيح مستنجداً: ما أريد ملكاً دعوني أرجع إلى الحصن يا مسلمين، أما فيكم من يصطعني ويجيرني (2) فلم يحبه أحد وأخذ يركض نحو النيل ونبال المماليك تأخذه من كل جانب حتى ألقى بنفسه في الماء على أمل أن يسبح إلى إحدى سفنه الراسية ليعتصم بها، ولكن سرعان ما لحق به أقطاي فقتله وتركت جثته على شاطئ النيل ثلاثة أيام دون أن يتجاسر أحد على دفنه، إلى أن شفع فيه رسول الخليفة العباسي، فحمل إلى الجانب الآخر من النهر ودفن، بعد أن حكم واحداً وستين يوماً (3)،
__________
(1) تاريخ الأيوبيين ص 390.
(2) النجوم الزاهرة (6/ 371).
(3) كتاب الروضتين نقلاً عن الدولة الأيوبية دعكور ص 262 ..(1/580)
وقيل كانت مدة سلطته بالمنصورة نحو أربعين يوماً، لم يدخل فيها إلى القاهرة ولا طلع قلعة الجبل ولم يعتلي سرير الملك (1)، وبوفاة تورانشاه انقضت دولة بني أيوب بعد أن أقامت إحدى وثمانين سنة وسبعة عشر يوماً، وكان تورانشاه آخر من تولى السلطنة من بني أيوب (2)، على أن بعض المصادر ذكرت أن الدولة الأيوبية انتهت بخلع شجرة الدر (3)، فقد ذهب مجموعة من المؤرخين أنه بتولي عز الدين أبيك التركماني انتهى حكم الدولة الأيوبية من مصر، فقد اعتبر بعض المؤرخين، أن حكم شجرة الدر، استمراراً للحكم الأيوبي وأما في بلاد الشام فقد حكم الدولة الأيوبية لعدة سنوات أخرى (4)
وسيأتي الحديث مفصلاً بإذن الله تعالى عن شجرة الدر والأيوبيين في بلاد الشام في كتابنا القادم عن المماليك وبيان جهودهم العظيمة للتصدي للمشروعين المغولي والصليبي، ودورهم في إحياء الحركة العلمية الكبيرة التي لا زالت الأمة عالة على علماء ذلك العصر.
المبحث الثالث: الشيخ عز الدين بن عبد السلام من مشاهير عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب:
أولاً: اسمه ونسبه: هو عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن حسن بن محمد بن مهذب السلمي المغربي أصلاً، الدمشقي مولداً، ثم المصري داراً ووفاة والشافعي مذهباً (5)، يكنى بأبي محمد، ولقب بعدة ألقاب، بعز الدين، وشاع بين الناس، الإمام العز، ولقب بسلطان العلماء، لقبه به تلميذه ابن دقيق العيد، كما لقب بشيخ الإسلام (6) واتفق أنه ولد في دمشق، واختلف في تحديد سنة ولادته، فقيل بدمشق سنة 577هـ.
__________
(1) بدائع الزهور، ابن اياس (1/ 285) الجواري ص 416.
(2) بدائع الزهور نقلاً عن الجواري والغلمان ص 416.
(3) عجائب الآثار (1/ 51) للجبرتي الجواري ص 416.
(4) الدولة الأيوبية د. دعكور ص 266.
(5) مقاصد الشريعة عند الإمام العزّ بن عبد السَّلامَ ص 41.
(6) العز بن عبد السلام، محمد الزحيلي ص 39.(1/581)
ثانياً: نشأته: كان العز بن عبد السلام بعيش في أسرة فقيرة مغمورة لم يكن لها مجد أو سلطان أو منصب، أو علم، فقد ولد العز بن عبد السلام في دمشق الشام، وهي وقتئذ مركز هام للعلم والمعرفة وقبلة للعلماء والفقهاء، وخط مواجهة أمامي مع الصليبيين الغزاة الذين احتلوا مدناً وحصوناً عديدة في فلسطين وساحل بلاد الشام كما كانت دمشق ممتليئة بنعم الله وخيراته الوفيرة من ماء عذب وزراعة وصناعة وتجارة درت عليها الرزق الواسع والخير الوفير، في هذه المدنية العريقة ولد العز بن عبد السلام ونشأ في ربوعها وتنسم هواءها وترعرع في أجوائها، وقد انشغلت أسرته بطلب الرزق عن طلب العلم، إلا أن العز كان منذ نشأته الأولى عفيفاً شريفاً يملك نفساً أبيه، إذ لم يعرف عنه أنه امتهن مهنة تزري بصاحبها، أو تحط من شأنه، وكان رحمه الله شاباً متديناً، متعبداً رغم فقره، وكده على رزقه، ولا أدل على ذلك من مبيته في المسجد الليالي الطوال (1)، ينتظر الصلاة كي لا تفوته الجماعة، أو يغيب عن الصلاة والعبادة فيه، وقد ذكر السبكي ت 771هـ قوة إيمان هذا الشاب وشدة فقره وتدينه حيث قال: سمعت الشيخ الإمام يقول: كان الشيخ عز الدين في أول أمره فقيراً جداً، ولم يشتغل إلا على كبر، وسبب ذلك أنه كان يبيت في الكلاسة (2) من جامع دمشق، فبات بها ليلة ذات برد شديد فاحتلم فقام مسرعاً، ونزل في بركة الكلاسة (3) من جامع دمشق، فبات بها ليلة ذات برد شديد، فاحتلم فقام مسرعاً، ونزل في بركة الكلاسة فحصل له ألم شديد، وعام فنام فاحتلم ثانياً، فعاد إلى البركة لأن أبواب الجامع مغلقة وهو لا يمكنه الخروج، فطلع فأغمى عليه من شدة البرد" ...
__________
(1) النجوم الزاهرة (7/ 209)، مرآة الجنان (4/ 158).
(2) الكلاسة: زاوية في الجانب الشمالي من جامع دمشق.
(3) فتاوي شيخ الإسلام العز بن عبد السلام ص 66.(1/582)
ثم سمع النداء في المرة الأخيرة، يا ابن عبد السلام: أتريد العلم أم العمل؟ فقال الشيخ عز الدين: العلم لأنه يهدي إلى العمل فأصبح، وأخذ التنبيه فحفظه في مدة يسيرة، وأقبل على العلم فكان أعلم أهل زمانه ومن أعبد خلق الله (1). في هذه الرواية دلالة واضحة على تدين العز، وقوة إيمانه، ونشأته الصالحة التقية، حيث لا يحتمل مثل هذه المشاق إلا من عرف ربه، وسلك منهج الحق، وتعلق قلبه بالمساجد لا يخرج منها إلا ليعود إليها، فكان مثال الشاب الذي نشأ في طاعة الله، عازفاً عن طيش الشباب، وهوى النفس، فالشاب الذي يتحرج من الاستسلام إلى دفء المفراش جُنُباً في ليلة شديدة البرد، لا شك يعرف قيمة عمله، ويتحلى بوعي ديني كبير، وحس إيماني عميق يجعله يبادر إلى التطهر عقب اكتشاف الأثر دون تباطؤ أو كسل (2).
__________
(1) طبقات الشافعية.
(2) المصدر نفسه.(1/583)
ثالثاً: شيوخه في طلب العلم: انقطع سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام للعلم والتعلم بعدما ناهز الاحتلام كما تدل على ذلك حادثة مبيته في الكلاسة من جامع دمشق وشمّر عن ساعد الجد وشحذ الهمة، فحفظ المتون، ودرس الكتب، وتردد على كبار الشيوخ في عصره ليعوض مافاته في صغره، كما أن كبر سنه وذكاءه أعاناه على التفوق في تحصيل العلم وإدراك مسائله الغامضة، وتحليل رموزه والذي ساعده أيضاً على الاستزادة من العلم والمعرفة الجو العلمي الذي كانت تعيشه بلاد المشرق بصفة عامة ومدينة دمشق بصفة خاصة، حيث كانت موطناً لعدد كبير من فحول العلماء ومشاهيرهم فنهل منهم، العلم والمعرفة، وتحلى بمكارم أخلاقهم، واقتدى بحسن سلوكهم حتى أصبح كما قال السبكي رحمه الله: أعلم أهل زمانه ومن أعبد خلق الله تعالى (1)، قال الداوودي ت 945هـ: كان العز بن عبد السلام يقول: ما احتجت في علم من العلوم إلى أن أكمله على الشيخ الذي أقرأ عليه، وما توسطته على شيخ من المشايخ الذين كنت أقرأ عليهم إلا وقال لي الشيخ: قد استغنيت عني، فاشتغل مع نفسك، ولم أقنع بذلك، بل لا أبرح حتى أكمل الكتاب الذي أقرؤه في ذلك العلم (2)، وكان يقول: مضت لي ثلاثون سنة لا أنام حتى أمر أبواب الأحكام على خاطري (3) وقد تلقى العز رحمه الله علوم الحديث والفقه والأصول والتفسير والتصوف واللغة على أكابر وجهابذة علماء دمشق التي كانت قبلة طلاب العلم وموطن العلماء الأفذاذ، البارعين في شتى العلوم والفنون فتردد عليهم الشيخ عز الدين فنهل من علمهم الصافي الفياض، فانصقلت مواهبه، وتميزت شخصيته وتأثر بهم وسار على منهجهم في الورع والزهد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (4)
__________
(1) طبقات الشافعية الكبرى (5/ 83) فتاوى العز ص 69.
(2) طبقات المفسرين للداودي (1/ 313) المصدر نفسه ص 69.
(3) رفع الإصر عن قضاة مصر ص 70 فتاوى العز ص 70.
(4) فتاوي شيخ الإسلام العز بن عبد السلام ص 70 ..(1/584)
وقال ابن كثير: وسمع كثيراً واشتغل على فخر الدين بن عساكر وغيره، وبرع في المذهب، وجمع علوماً كثيرة، وأفاد الطلبة، ودرَّس بعده مدارس بدمشق، وولي خطابتها، ثم سافر إلى مصر، ودرّس وحكم وانتهت إليه رياسة الشافعية وقصد بالفتوى من الآفاق (1).
رابعاً: شيوخ العز رحمه الله:
1 - فخر الدين بن عساكر: هو أبو منصور عبد الرحمن بن محمد بن الحسن بن هبة الله الدمشقي، الملقب فخر الدين، المعروف بابن عساكر، شيخ الشافعية بالشام، وفقيه زمانه، وكان محدثاً صالحاً، زاهداً كثير التهجد، حسن الخلق والخُلقُ، كثير الأدب والذكر، منقطعاً للعلم والعبادة، وجمع بين العلم والعمل، وهو من أسرة اشتهرت بالعلم والفضل والحفظ، وكان قوياً في الحق لا يهاب سطوة ظالم، ولا يسكت على منكر أو مخالفة للشرع، وتوفي سنة 620هـ وطلب للقضاء فامتنع، وعرضت عليه مناصب ولايات دينية فأباها، وأنكر على الملك المعظم بيع الخمور بدمشق، فمنعه من التدريس في أهم المدارس، وهو ابن أخي الحافظ أبي القاسم علي بن عساكر، صاحب "تاريخ دمشق" لازمه العز كثيراً، وأخذ منه الفقه والحديث، وتأثر به في علمه وأخلاقه وسلوكه (2).
__________
(1) البداية والنهاية (17/ 441).
(2) وفيات الأعيان (2/ 316) العز بن عبد السلام للزحيلي ص 57.(1/585)
2 - جمال الدين الحرستاني: هو عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل بن علي، قاضي القضاة، جمال الدين، أبو القاسم الخزرجي الأنصاري، الدمشقي، المعروف بابن الحرستاني، قاضي دمشق، من ذرية سعد بن عبادة رضي الله عنه، جمع الحديث، وسمّاه الذهبي: مسند الشام، شيخ الإسلام وكان إماماً فقيهاً عارفاً بالمذهب، ورعاً، صالحاً، محمود الأحكام، حسن السيرة كبير القدر: .. وولي القضاء بدمشق نيابة ... ثم إنه ولي قضاء القضاة استقلالاً في سنة 612هـ (1) وكان عالماً صالحاً زاهداً على طريقة السلف في لباسه وعفته وكان صارماً، عادلاً، ولا تأخذه في الله لومة لائم وله حكايات عظيمة مع الملك المعظم عيسى في أحكامه، ولم تفته صلاة بجامع دمشق في جماعة إلا كان مريضاً، وعمَّراً دهراً طويلاً وتوفي سنة أربع عشرة وستمائة وله 95 سنة وكان من أعدل القضاء وأقومهم بالحق تتلمذ عليه الشيخ عز الدين بن عبد السلام وسمع منه الحديث وأخذ عنه الفقه وقال فيه الشيخ عز الدين: أنه لم ير أفقه منه وعليه كان ابتداء اشتغاله، ثم صحب فخر الدين ابن عساكر ورجح الشيخ عز الدين ابن الحَرستاني - في علمه - على ابن عساكر وكان الحرستاني حفظ "الوسيط" للغزالي (2) وقال سبط بن الجوزي: كان زاهداً، عفيفاً، ورعاً، نزِها، لا تأخذه في الله لومة لائم، اتفق أهل دمشق على أنه ما فاتته صلاة بجامع دمشق في جماعة إلا إذا كان مريضاً، ثم ساق حكايات من مناقبه وعدله في قضاياه، وأتى مرة بكتاب، فرمى به وقال: كتاب الله قد حكم على هذا الكتاب فبلغ العادل قوله، فقال: صدق، كتاب الله أولى من كتابي وكان يقول للعادل: أنا ما أحكم إلا بالشرع وإلا فأنا ما سألتك القضاء، فإن شئت، فأبصر غيري (3)
__________
(1) سير أعلام النبلاء (22/ 80 - 82).
(2) المصدر نفسه (22/ 82).
(3) سير أعلام النبلاء (22/ 83) ..(1/586)
وقال أبو شامة: ابنه العماد هو الذي ألحَّ عليه حتى تولى القضاء وحدثني ابنه قال: جاء إليه ابن عُنَيْن، فقال: السلطان يُسلمَُّ عليك ويوصي بفلان فإن له محاكمة، فغضب وقال: الشَّرع ما يكون فيه وصية (1) وقال المنذري: سمعت منه وكان مهيباً، حسن السَّمت، مجلسه وقار وسكينة، ويبُالغ في الإنصات إلى من يقرأ عليه (2).
__________
(1) المصدر نفسه (22/ 83).
(2) المصدر نفسه (22/ 83).(1/587)
3 - سيف الدين الآمدي: هو علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي، أبو الحسن المعروف بسيف الدين الآمدي أحد أذكياء العالم وُلد بعد سنة 550هـ بيسير بمدينة آمد، وقرأ بها القرآن، وحفظ كتاباً في مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ثم قَدِم بغداد، فقرأ بها القراءات، وتفقه على أبي الفتح بن المنى الحنبلي، ثم انتقل إلى مذهب الشافعي، وصحب أبا القاسم بن فضلان، وبرع عليه في الخلاف، وتفنَّن في علم النظر، وأحكم الأصلين والفلسفة وسائر العقليات، ثم دخل مصر وتصدَّر للإقراء وتخرّج به جماعة، ثم وقع التعصَّب عليه، فخرج من القاهرة متخفياً ثم قدم دمشق، ودرس بالمدرسة العزيزية، ثم أخذت منه وتوفي بدمشق سنة 631هـ، له تصانيف تربو على العشرين كلها منقّحة حسنة، منها "الأبكار" في أصول الدين و"الأحكام" في أصول الفقه و"شرح جدل الشريف" وقد درس عليه العزّ الأصول واستفاد منه كثيراً، وتأثر به، ويبدو ذلك في كتاب العزّ "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" وكان من المعجبين به، وبطريقة تدريسه ومناظرته، وقد تفلت عنه عبارات تشيد بذلك منها قول العزّ: ما سمعت أحداً يُلقي الدرس أحسن منه، كأنه يخطب، وإذا غيّر لفظاً في "الوسيط" للغزالي كان لفظه أمسّ بالمعنى من لفظ صاحبه وقال: ما علمنا قواعد البحث إلا من سيف الدين الآمدي (1). وقال: لو ورد على الإسلام متزندق يشكّك ما تعيّن لمناظرته غير الآمدي لاجتماع أهليّة ذلك فيه (2).
ولما توفي سيف الدين الآمدي خرج الإمام العز في جنازته وحضر دفنه في سفح جبل قاسيون (3).
__________
(1) العز بن عبد السلام العلماء فاروق عبد المعطي ص 18.
(2) طبقات السبكي (8/ 306 - 308).
(3) النجوم الزاهرة (6/ 285).(1/588)
4 - القاسم بن عساكر: هو القاسم بن علي بن الحسن بن هبة الله وهو الحافظ أبو محمد بن الحافظ أبي القاسم بن عساكر بهاء الدين، كتب الكثير حتى أنه كتب تاريخ والده "تاريخ دمشق" مرتين، وهو من أسرة علمية وله كتاب "فضل المدينة" و "فضل المسجد الأقصى" و"الجهاد" وتولى مشيخة دار الحديث النورية بعد والده، ولم يتناول أجراً على ذلك، بل كان يدفعه للطلبة، وكان ناصر السنة في إماتة البدعة، سمع منه خلق كثير، وأملى كثيراً، وحدث، ودخل مصر وانتفع به أهلها وعاد إلى دمشق ومات بها سنة 600هـ وكان يحب المزح، وكثير النوافل والذكر، معرضاً عن المناصب بعد عرضها عليه، وكان حسن المعرفة، شديد الورع، كثير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قليل الإلتفات إلى الأمراء وأبناء الدنيا، سمع العز منه الحديث، وانتفع به في منهجه وسلوكه (1).
5 - عبد اللطيف بن شيخ الشيوخ: ومن شيوخ العز رحمه الله عبد اللطيف بن شيخ الشيوخ وهو: عبد اللطيف بن إسماعيل ابن شيخ الشيوخ أبي سعد، وكنيته أبو الحسن، ولقبه ضياء الدين، وهو أخو شيخ الشيوخ صدر الدين عبد الرحيم بن إسماعيل الذي قدم رسولاً على صلاح الدين الأيوبي من بغداد مراراً، سمع الحديث من شيوخ عصره ومن والده وآخرين، كان صالحاً، ثقة، رحل إلى مصر والقدس والخليل، وقدم دمشق ولقي شيوخها وأخذ عنه العز رحمه الله الحديث، وسمع منه، وتأثر بأخلاقه الفاضلة وهمته العالية، توفي رحمه الله في دمشق ودفن فيها سنة 596هـ (2).
__________
(1) طبقات الشافعية (8/ 352) الأعلام (6/ 12).
(2) النجوم الزاهرة (6/ 159) فتاوى شيخ الإسلام عز الدين ص 74.(1/589)
6 - الخشوعي: ومن شيوخ العز أيضاً أبو طاهر بركات بن إبراهيم بن طاهر الخشوعي عن مسند الشام في عصره وطال عمره، حتى شاخ تلامذته، وقد انتفع به خلق كثير منهم العز بن عبد السلام الذي تلقى العلم على يديه منذ أيامه الأولى، وقد اختلف في تاريخ وفاته، فذكر ابن كثير أنه توفي سنة 597هـ (1)، وقال ابن تغْري بردي توفي الخشوعي سنة 598هـ (2).
7 - حنبل الرصافي: هو أبو علي حنبل بن عبد الله بن الفرج بن سعادة المكبر بجامع الرصافة، وكان فقيراً جداً في أول حياته ثمّ حصل مالاً طائلاً، وقد سمع مسند الإمام أحمد من ابن الحصين، وهو آخر من رواه عنه، وقد رحل إلى إربل والموصل ودمشق، وأسمع المسند بهذه البلاد وقد سمع منه الملك المعظم عيسى بن العادل في جمع كثير في الجامع الأموي، وكان كثير الأمراض، توفي ببغداد سنة أربع وستمائة وله تسعون سنة وآل ماله إلى بيت المال لأنه لا وارث له وقد سمع منه العز بن عبد السلام (3).
8 - عمر بن طبر زد: هو أبو حفص عمر بن محمد بن يحي المعروف بان طبرزد الدّار قري، ولد سنة 516هـ وسمع حديثاً كثيراً من أبي غالب بن البنّاء وأبي القاسم بن الحصين وكان معلماً للصبيان بدار القزّ ببغداد، وسافر مع حنبل إلى الشام، ثم عاد إلى بغداد وقد جمعا مالاً كثيراً وتوفي سنة 607هـ وعاد ماله إلى بيت المال، لأنه لا وارث له (4).
__________
(1) البداية والنهاية نقلاً عن فتاوى شيخ الإسلام عز الدين ص 74.
(2) النجوم الزاهرة (6/ 181) فتاوى شيخ الإسلام عز الدين ص 74.
(3) تاريخ دول الإسلام (2/ 111).
(4) النجوم الزاهرة (6/ 201) العز بن عبد السلام سلطان العلماء ص 20.(1/590)
9 - شهاب الدين السُّهروردي: ومن شيوخ العز الذين أثروا به، وتأثر بهم الإمام العارف أبو حفص عمر بن محمد بن عبد الله بن عمويه بن سعيد بن الحسن السهروردي ينتهي نسبه إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه ولد سنة 530هـ، بسهرورد، وقدم بغداد، فصحب عمه وأخذ عنه التصوف والوعظ، وسمع الحديث على شيوخ عصره، وتفقه على علماء بغداد، كما صحب الشيخ عبد القادر الجيلاني ت 561هـ رحمه الله فكان عالماً فاضلاً، ومحدثاً حافظاً، وعابداً زاهداً، أقبل على الله، وسلوك طريق الآخرة، واستغرق أوقاته بالعبادات والأوراد والأذكار ولزم باب الله تعالى، ففتح الله عز وجل عليه حتى صار أوحد زمانه، وفريد عصره، دعا الخلق إلى الله تعالى الناس له، كان كلامه آخذاً بمجامع القلوب، ويدخل إلى زوايا النفوس، فيحرك مكامنها ... وإليه المنتهي في تربية المريدين، من أهم كتبه "عوارف المعارف" فانتفع به خلق كثير، منهم إمامنا العز بن عبد السلام، حيث لازمه وأخذ عنه العفة والورع والزهد والتصوف توفي ببغداد سنة 632هـ فهولاءهم أهم شيوخ العز بن عبد السلام الذين أخذ عنهم العلم والفقه والحديث والأصول والتفسير واللغة والتصوف، وتأثر بسلوكهم في الحياة وهناك شيوخ آخرون، سمع منهم العز، وأخذ عنهم، لا يمكن حصرهم لكثرتهم (1) وهذا الشيخ شهاب الدين السهروردي يختلف عن الذي قتل في عهد صلاح الدين.
__________
(1) فتاوي شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام ص 75، 76.(1/591)
خامساً: تلاميذ العز بن عبد السلام: لقد قصد العز بن عبد السلام تلاميذ نجباء، اجتمعوا عليه من شتى أقطار الأرض، لينهلوا من علمه، ويتعلموا من فقهه، وليشربوا من نبعه الفياض، حتى تخرج على يديه فحول العلماء، وجهابذة الفقهاء، وساعده على ذلك تفرفه للتدريس والتعليم في شتى فروع علم الشريعة، فألقى دروساً في الفقه والتفسير والأصول والتصوف، والوعظ والإرشاد، فتعلقت به العامة والخاصة، وطمع كل طالب علم أن يرى هذا الشيخ لينال من بركاته وفيوضاته، وعلومه الغزيرة في كل فن، فمن العسير أن نحيط علماً بكل تلامذته وطالبي علمه، فيفترض أن كل طلاب العلم في مصر ومن حولها أو مربها في ذلك العصر تتلمذ على يد الشيخ وذلك لذيوع وانتشار سمعته (1).
قال العماد: ورحل إليه الطلبة من سائر البلاد (2)، ومن أهم تلاميذ العز بن عبد السلام الذين نهلوا من علمه وتربوا على يديه هم:
__________
(1) فتاوى شيخ الإسلام عز الدين ص 85.
(2) شذرات الذهب (7/ 523، 524).(1/592)
1 - شيخ الإسلام ابن دقيق العيد: هو تقي الدين أبو الفتح محمد بن مجد الدين علي بن وهب بن مطيع القشيري، وُلد في الخامس والعشرين من شعبان سنة 625هـ وتفقه ببلده قوص - إحد مدن صعيد مصر - على والده وكان مالكي المذهب، ثم رحل إلى القاهرة، وتفقّه على العزّ بن عبد السلام، فحقَّق المذهبين قال ابن السبكي في ترجمته: شيخ الإسلام الحافظ الزاهد الورع الناسك المجتهد المطلق ذو الخبرة التامّة بعلوم الشريعة الجامع بين العلم والدين والسالك سبيل السادة الأقدمين، أكمل المتأخرين (1)، وقد وُليَّ قضاء القضاة على مذهب الشافعي بمصر بعد تقيَّ الدين عبد الرحمن بن عبد الوهاب ابن بنت الأعزّ بعد إباءٍ شديد، وعزل نفسه أكثر من مرة ثم يُعاد (2)، توفي في حادي عشر صفر سنة 702هـ وكان جرئياً في الحق متأثراً بشيخه العز في هذا المجال، حيث كان ينادي عامة الناس السلطان فما دون "يا إنسان" دون ألقاب ومقدمات، وله مواقف مع ملوك عصره تدل على جرأته وصرامته وقوله الحق لا يخاف في الله لومة لائم، متشبها بشيخه العز بن عبد السلام وكان يجله ويقتفي أثره ويسير على نهجه توفي رحمه الله سنة 702هـ، ودفن بالقرافة تاركاً خلفه ثروة علمية هائلة أهمها "الإلمام في أحاديث الأحكام" وغيره (3) وكانت له مواقف شجاعة من السلطان محمد بن قلاوون حينما أراد أن يجمع المال من الرعيّة لحرب التتار، وقد أفتاه بجواز ذلك ابن الخشَّاب ولكن ابن دقيق العيد منعه من ذلك، لأن الأمراء لديهم الأموال والذهب وأن فيهم من جهّز ابنته لتُزَفّ إلى زوجها وأنه عمل في شوارها الجواهر واللآلئ والحليّ والذهب واتخذ فيها الأواني من الفضة، وأن منهم من رصّع مدارس زوجته بالجواهر (4)
__________
(1) طبقات الشافعية الكبرى (9/ 207).
(2) العز بن عبد السلام، سلطان العلماء ص 23.
(3) فتاوى شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام ص 858.
(4) العز بن عبد السلام، سلطان العلماء ص 24 ..(1/593)
وهذا شبيه بموقف العزّ من الملك المظفر قطز حينما أراد أن يأخذ المال من الرعيَّة لحرب التتار فمنعه العزّ من ذلك حتى يحضر الأمراء ما عندهم من الذهب والفضة والسّروج المذهبية (1) وغيرها.
2 - القرافي: هو أحمد بن عبد الرحمن القرافي، أبو العباس، شهاب الدين الصنهاجي، من علماء المالكية، نسبته إلى صنهاجة من برابرة المغرب (2) عالم زمانه، أحد الأعلام، انتهت إليه رياسة المالكية في عصره وبرع في الفقه والأصول والعلوم العقلية والتفسير، ولا عجب فهو تلميذ العز بن عبد السلام النجيب الذي عاش فقيراً ونشأ في أسرة مغمورة ثم بعلو همته وجده، وعزيمته التي لا تلين ملاء الدنيا علمه، تخرج على يديه عدد من العلماء الأفاضل، وكتب وألف حتى أصبحت كتبه أعلاماً للسالكين ومن أجلها: " الذخيرة" و"الفروق" و"شرح التهذيب" وغيرها.
أ- وقد تأثر القرافي بالعز من خلال الموازنات الفقهية التي عقدها القرافي في الذخيرة بين المذهبين المالكي والشافعي، وحتى في كتابه الفروق، وكان منهج الإمام العزّ الذي تتلمذ على يديه عدد كبير من الطلبة مع اختلاف مدارسهم الفقهية، عدم الإنسلاخ عن مذاهبهم التي يتمذهبون بها والأخذ بمذهبه الشافعي، بقدر ما كان يحاول رسم الطريق والمنهج في التعامل مع الأحكام الشرعية، والنصوص استنباطا واجتهاداً وتعليلاً.
__________
(1) المصدر نفسه ص 24.
(2) مقاصد الشريعة عند الإمام العز بن عبد السلام ص 61.(1/594)
ب- التفريق بين القواعد الفقهية: فكرة التفريق بين القواعد الفقهية أخذها القرافي من العز بن عبد السلام - رحهمها الله - حيث يذكر في ثنايا كتابه "قواعد الأحكام" فروقاً بين الفروع الفقهية المتشابهة في الظاهر ولكن بينهما وجه مفارقة ومثاله: من سقى الأشجار بماء مغصوب من حين غرسها حين بسَقَت ضَمِن الماء بمثله، ولاحقَّ لمالكه فيما استحال إلى صفات الأشجار لأنه صار ملكاً لصاحب الشجرة، كما صار الغذاء ملكا لصاحب الحيوان لمَّا تعذر وصول مالكه إليه .. حتى قال: فإن قيل: كيف يملك الغاصب ذلك بتعدَّيه بسقي الماء المغصوب للشجر، وإطعام الطعام المغصوب للحيوان، ومن مذهب الشافعي رحمه الله - أن الغاصب لو أتلف أكثر منافع المغصوب لم يملكه؟ قلنا: الفرق بينهما إمكان الرَدَّ إذا أُتلف معظم منافع المغضوب، وتعذر الردَّ ههنا مع حدوث المالية فيما بقي بقوى الأشجار والحيوان، المختصين بملك الغاصب (1).
ج- النظر إلى سبب تأليف القرافي للفروق: بالنظر إلى سبب تأليف القرافي للفروق على أنه في القواعد خاصة، التي نثرها في الذخيرة ثم جمعها في الفروق، وزاد في شرحها، وبيانها، والكشف عن أسرارها وحِكمها وأمّا كتاب قواعد الأحكام فقد صرّح العز بسبب تأليفه فقال: الغرض بوضع هذا الكتاب بيان مصالح الطاعات والمعاملات، وسائر التصرفات ليسعى العباد في اكتسابها، وبيان مقاصد المخالفات ليسعى العباد في درئها، وبيان مصالح المباحات ليكون العباد على خِيَرة منها، وبيان ما يقَدَّم من بعض المصالح على بعض، وما يؤخر من بعض المفاسد عن بعض، مما يدخل تحت اكساب العباد، دون مالا قدرة لهم عليه (2).
__________
(1) قواعد الأحكام (1/ 273).
(2) قواعد المصلحة والمفسدة عند شهاب الدين القراني ص 73.(1/595)
ح- نبذ القرافي للتعصب المذموم للمذهب: تأثر القرافي - رحمه الله - بمنهج شيخه في نبذ التعصب المذموم للمذاهب، والدعوة إلى الاجتهاد المبني على أسس علمية متينة، فاصبغت آراؤه الاجتهادية بمحاربة التقليد، وضرورة مراقبة المذاهب الفقهية، خاصة الفتاوى المبنية على الأعراف والمصالح مما كانت في عصر الأئمة على اعتبار معين، ثم زال ذلك الاعتبار (1) قال الإمام العز - رحمه الله - والفقيه من رأى الواضح واضحاً، والمشكل مشكلا، ومن تكلف أن يجعل المشكل واضحاً، فقد كلفّ نفسه شططاً، فإن كان عاقلاً كان أوّل ما قتِ لنفسه والتعصب للحق على الرّجال أولى من التعصب للرّجال على الحق (2) ووضَّح القرافي كلام شيخه غاية التوضيح فقال: تنبيه: كل شيء أفتى فيه المجتهد، فخُرجَّت فتياه فيه على خلاف الإجماع أو القواعد أو النَّص أو القياس الجِليَّ السَّالمِ عن المعارض الرّاجح لا يجوز لمقلدّه أن ينقله للنّاس ولا يفتي به في دين الله، فإن هذا الحكم لو حكم به حاكم لنقضاه، حتى قال: فعلى هذا يجب على أهل العصر تفقد مذاهبهم، فكل ما وجدوه من هذا النوع، يحرم عليهم الفتيابه ولا يعرى مذهب من المذاهب عنه، لكنه قد يَقِلُّ وقد يكثر (3).
__________
(1) المصدر نفسه ص 73.
(2) قواعد المصلحة والمفسدة عند شهاب الدين القرافي ص 74
(3) المصدر نفسه ص 74.(1/596)
خ- توظيف القواعد المقاصدية في الاجتهاد: لم يَضع القرافي - رحمه الله - كتاباً خاصاً بمقاصد الشريعة وأسرارها، بحيث يعّرفها ويذكر فروعها ويفُصَّلُ القول في قواعدها ومباحثها، كما فعل شيخه العز بن عبد السلام، لكنه اتجه إلى توظيف هذه القواعد المقاصدية للاجتهاد، وتعليل الفروع الفقهية، وجزئيات الأحكام ويكون بذلك قد فَعَّلَ من مُهمةَّ هذه القواعد وأعطاها صفة عملية وأخرجها من النظرية إلى التطبيق، خاصة في الفروق عندما قصد إظهار هذه النظرة المصلحية بين القواعد الفقهية التي تظهر عند المقارنة بينها مناسبات الأحكام وعللها، أكثر مما إذا كانت فروعاً جزئية، فإذا كان للشيخ العزّ، فضل السبَّق والتنظيم والتبويب فللقرافي - رحمه الله - شرف الاجتهاد والمواصلة والتفعيل:
وهو بسبق حائز تفضيلا ... مستوجبٌ ثنائَي الجميلا
والله يقضي بهبات وافره ... لي وَلَهُ في دَرَجَات الآخرة (1)
س- التمثيل للقاعدة بالفروع الفقهية: على عكس القرافي، يكثر الشيخ عز الدين بن عبد السلام، من التمثيل للقاعدة التي بصَدَدِ دراستها بالفروع الفقهية حتى يقرّرها في ذهن المطالع، ونجد القرافي يكثر من حشد القواعد التي تكون في محل الخلاف بين طرفين متنازعين أو تدعم فرقاً يعتقده أو يدافع عنه، فالعزّ لما مثل لقاعدة رُجحان المصالح والمفاسد ذكر لها 63 مِثالاً ولما مثَّل لقاعدة اجتماع المصالح المجرّدة عن المفاسد ذكر لها 63مثالاً، ولما مثَّل لأنواع الحقوق المتعلقة بالقلوب ذكر لها 29 مثالاً، ولما مثل تساوي المصالح وتعذر جمعها ذكر لها "مثالاً (2).
__________
(1) المصدر نفسه ص 76.
(2) قواعد المصلحة والمفسدة عند شهاب الدين القرافي ص 76.(1/597)
ش- حرص القرافي على نقل وتدوين آراء شيخه، حتى لو خالفه في الرأي والاجتهاد ويظهر هذا التأثير البالغ من القرافي عند ما يذكر شيخه العزّ، فيغدق عليه عبارات الثناء والإعجاب، فهو يقول مَثلاً في الفرق الخامس والتسعين: ولم أرَ أحداً حرَّره - هذا الفرق - هذا التحرير إلا الشيخ عز الدين بن عبد السَّلام - رحمه الله وقدّس روحه الكريمة - فلقد كان شديد التحرير لمواضع كثيرة في الشريعة، معقولها، ومنقولها، وكان يُفْتَحُ عليه بأشياء لا توجد لغيره رحمه الله رحمة واسعة (1)، ورغم المكانة العظيمة التي أحلّها القرافي شيخه من نفسه، فإنه في كثير من المواضع يناقشه في مسائل يختلف معه فيها كل ذلك بأدب وتواضع كبيرين (2).
ومن القواعد التي ذكرها القرافي في كتاب الفروق:
- تصرف الولي منوطٌ بالمصلحة.
- اعتماد الأوامر المصالح، والنواهي المفاسد.
- خمس اجتمعت الأمم مع الأمة المحمدية عليها وهي وجوب حفظ النفوس والعقول، والأعراض، والأنساب والأموال.
- درء المفاسد أولى من جلب المصالح.
- تقدم المفسدة الخاصة على العامة عند التعارض.
- إذا تعارضت مفسدتان رُوعي أعظمهما بإرتكاب أخفَّهما.
- احتياط الشارع في الخروج من الحرمة إلى الإباحة أكثر من خروجه من الإباحة إلى الحرمة.
- الوسائل لها حكم المقاصد.
- الوسائل أخفض رتبة من المقاصد.
- الوسيلة إذا لم تقض إلى المقصود سقط اعتبارها.
- المقصد إذا كان له وسيلتان يُخيرَّ بينهما.
- ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
- المشقة تجلب التيسير.
- الضرورات تبيح المحظورات.
- الأجر على قدر المصلحة والعقاب على قدر المفسدة.
__________
(1) المصدر نفسه ص 77.
(2) المصدر نفسه ص 77.(1/598)
وقد قام الشيخ قندوز محمد الماحي بتقديم رسالة ماجستير اسمها، قواعد المصلحة والمفسدة عند شهاب الدين القرافي من خلال كتابه الفروق، فتحدث عن القواعد المتعلقة بجلب المصالح ودرء المفاسد، فتحدث عن صياغة القاعدة وشرحها وأدلتها وضابط القاعدة وفروعها، ومستثنياتها، وتكلم عن قواعد الترجيح بين المصالح والمفاسد وقواعد الوسائل وقواعد المشقة والتيسير، وقام بتعريف المشقة، وبيان القاعدة وأدلتها وأقسامها وضابطها وفروعها (1) ... إلخ.
إن ميراث الأمة الإسلامية في عهد العز بن عبد السلام، والقرافي في ميراث علمي زاخر، مستمد من الأصول التشريعية المعتمدة عند علماء الشريعة ومجتهديها، كان منطلقهم الكتاب والسنة وما يلحق بهما من أصول اجتهادية، بحيث عاشوا واقعهم وتفاعلوا مع أحداث أزمانهم ورسموا لمن يأتي بعدهم رُؤى ومعالم يسيرون عليها حتى لا يحيدوا عن الجادة المستقيمة والمحجة البيضاء الناصعة، فعلى خطاهم يسير الخلف من هذه الأمة وعلى اجتهاداتهم يبنون، فأي محاولة لتخطي التراث العلمي الزاخر وتلك الاجتهادات الفقهية، والمدونات العلمية، تحت دعوة التجديد والتطوير؛ إنما هي ضرب من المسخ لهذه الأمة، وتجريد لها عن سلفها الذين جمعوا بين فقه الواقع وفقه التنظير، وفواجهوا مستجدات عصرهم بالحلول الشرعية السليمة (2).
- إن دراسة تاريخ الأمة الإسلامية، وأوضاع كل قرن له دورُهُ الفَعَّال في الاستفادة من تاريخ السابقين وتجاربهم حتى لا نقع في نفس الأخطاء التي وقعوا فيها، لأن عدونا قد أحسن قراءة تاريخنا، وأمسك بمفاصل الضّعف فينا، فأخذ يحرّكها كيف يشاء، وواقعنا خير شاهد على ذلك.
__________
(1) قواعد المصلحة والمفسدة عند شهاب الدين القرافي ص 344.
(2) المصدر نفسه ص 344.(1/599)
- التركيز على الشخصيات التي كانت لها قدرات علمية كبيرة، وكانت متحرّرة من ربقة التقليد والجمود بحيث أثرت في واقعها التي عاشت فيه، إما بالجهاد القولي أو العلمي، وهذا ما لمسناه في شخصية الإمام القرافي وشيخه العز بن عبد السلام، فالأول كان قائد حركة علمية جهادية كبيرة في مصر، والثاني جمع بين الجهاد باللسان والبنان (1).
- كل اجتهاد فقهي عار عن النظرة المصلحية والبعد المقاصدي ومرتكزات الواقع المعاش لا سبيل إلى التفاعل معه، لأنه أبعد ما يكون عن روح الشريعة ومقاصدها.
- الخروج عن النمط التقليدي في الدّراسات الفقهية والأصولية وهذا ما لمسناه في فروق القرافي - حيث ابتدع نمطاً تعقيديا في الدراسات الفقهية، نلمسه من خلال تفريقه بين القواعد الفقهية في حّد ذاتها، لا بين الفروع الجزئية، وفي هذه العملية تظهر أسرار الشريعة ومقاصدها الكلية.
- لقد جمع الإمام القرافي - رحمه الله - بين معارف عصره الفقهية، والأصولية، واللغوية والمادية والفلكية، بحيث أعطته زاد علمياً فاق به كثيراً من أقرانه وتحرّر من ربقة التقليد، وكانت فتاواه ملائمة ليسر التشريع وسماحته.
- لم يكتف القرافي، بتقعيد القواعد الفقهية بل تعّداها إلى تقعيد القواعد الأصولية والمقاصدية، واللغوية والمنطقية وتفعيل هذه القواعد في عملية الاجتهاد والاستنباط.
- في التكوين العلمي لشخصية القرافي، نلمس التحرّر من المذهبية الضيّقة، والعصبية الممقوته، وهذا ما نعيشه في عصرنا من الانفتاح على الثقافات المختلفة ومحاولة إلزام قوم بمذهب واحد إعنات لهم، فلا بأس من الأخذ من المذاهب السنية - شرط أن يكون الأخذ له أهلية الأخذ والترجيح حتى لا تختلط الأحكام وتتسيب الفتاوى (2).
__________
(1) المصدر نفسه ص 344.
(2) قواعد المصلحة والمفسدة ص 345.(1/600)
- استخلاص القواعد الفقهية، واستخراجها من بُطون الموسوعات الفقهية وإفرادها بالدّراسة والتدليل لها وإيراد المستثنيات منها، يسهل على الباحث الإطلاع على الفروع الفقهية في كل مذهب من المذاهب الفقهية المعتبرة.
- أهمية إدراج علم الفروق في المناهج الدّراسية، لطُلاب التخصصات الشرعية، لأنه يجمع بين التقعيد والتفريع والتقصيد (1).
- وفاة القرافي: بعد حياة حافلة بالتدريس والتعليم والتأليف، توفي شهاب الدين القرافي - رحمه الله - بدير الطين؛ وهي قرية على شاطئ النيل قرب الفسطاط بظاهر مصر وكان ذلك سنة 684هـ على أرجح الأقوال ولنا عودة مع القرافي في حديثنا عن الصراع الثقافي في عهد الحروب الصليبية، بإذن الله تعالى.
3 - جلال الدين الدشناوي: ومن تلاميذ العز بن عبد السلام الإمام أحمد بن عبد الرحمن بن محمد الكندي الدشناوي، الفقيه والأصولي ولد سنة 615هـ في صعيد مصر، وأخذ العلم والفقه والحديث والأصول على علماء عصره، وكان صديقاً لابن دقيق العيد، تلميذاً نجيباً عند العز والمنذري وغيرهما من جهابذة العصر حتى بلغ مرتبة الرياسة في المذهب الشافعي، كان ورعاً زاهداً، عابداً، تقيا، له تصانيف عديدة أهمها كتاب في المناسك سماه "مناسك الحج" كما صنّف شرحاً على "التنبيه" وصل فيه إلى الصيام، ومقدمة في النحو، وغيرها، توفي رحمه الله سنة 677هـ (2).
__________
(1) المصدر نفسه ص 345.
(2) طبقات الشافعية الكبرى (8/ 20 - 22) حسن المحاضرة (1/ 417).(1/601)
4 - أحمد بن فرح الأشبيلي: هو الإمام أحمد بن فرح بن أحمد الأشبيلي، المحّدث الفقيه، العالم العامل ولد بأشبيلية سنة 625هـ، وأسره النصارى، ثم نجاه الله ورحل إلى دمشق، وأخذ من علمائها ثم ارتحل إلى القاهرة والتقى بسلطان العلماء فنهل من معينه، وأخذ من فقهه وعلمه حتى شاخ على أقرانه، ثم استوطن دمشق، كان له سكينة ووقار، قال الذهبي ت 765هـ حضرت مجالسه وأخذت عنه، ونعم الشيخ كان سكينة ووقاراً وديانة واستحضاراً توفي سنة 699هـ رحمه الله (1).
5 - شرف الدين أبو محمد الدمياطي: هو الإمام الحافظ عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسين بن شرف بن الخضر الدمياطي، كان إمام أهل الحديث في عصره، ولد بدمياط سنة 613هـ وقرأ فيها القرآن والأصول والفقه والفرائض على علمائها الأمجاد ثم ارتحل إلى القاهرة، فلازم المنذري واستمع منه الحديث حتى صار إماماً فيه، جمع بين الرواية والدراية بالسند العالي وتتلمذ على سلطان العلماء، وأخذ منه الفقه والأصول وسائر العلوم، وخرج له أربعين حديثاً عوالي، ثم اشتغل بالتدريس وقصده الطلاب في الآفاق، وتتلمذ عليه طلاب العلم فنهلوا من علمه الغزير وصنّف الكتب المفيدة أهمها "الصلاة الوسطى" "وقبائل الخزرج"، وغيرها توفي عام 705هـ (2) رحمه الله.
__________
(1) طبقات الشافعية الكبرى (2/ 291) النجوم الزاهرة (8/ 191).
(2) تذكرة الحفاظ (2/ 118) فتاوى شيخ الإسلام ص 87س.(1/602)
6 - شهاب الدين أبو شامة: هو الإمام عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم بن عثمان المكنى بأبي القاسم، وأبي شامة، الملقب بشهاب الدين المقدسي الشافعي، المقري النحوي الأصولي، المؤرخ الذي برع في فنون العلم، وقيل بلغ رتبة الاجتهاد ولد سنة 599هـ وختم القرآن وهو دون العشر سنوات، وتفقه على العز بن عبد السلام، ولازمه، وأحبه، وحفظ كثيراً من أخباره، ورحل إلى مصر، وتفقه على علمائها، وعاد إلى دمشق وزار بيت المقدس، وحج مرتين، له مصنفات عديدة مفيدة أهمها؛ كتاب الروضتين في أخبار الدولتين، والذيل على الروضتين واختصر تاريخ دمشق، قال الأسنوي: كان عالماً راسخاً في العلم، فقيها مقرئاً محدثاً نحويا، يكتب الخط المليح المتقن، وفيه تواضع (1)، وقد امتحن في موته، بأن دخل عليه رجلان في صورة المستفتيين، فضرباه ضرباً مبرحاً، فاعتل به، إلى أن مات في سنة 665هـ وسجل في تاريخ هذه المحنة، وذكر تفويض أمره لله، وعدم مؤخذة من فعل ذلك رحمه الله (2).
7 - تاج الدين الفركاح: هو الإمام عبد الرحمن بن إبراهيم بن ضياء الشيخ تاج الدين المعروف بالفركاح، ولد سنة 624هـ وتفقه على العز، وسمع من ابن الصلاح وغيره من علماء عصره حتى أصبح فقيه الشام في عصره، وكان إماماً مدققاً نطاراً، توفي سنة 690هـ رحمه الله (3).
__________
(1) طبقات الأسنوي (2/ 118) فتاوى شيخ الإسلام عز الدين ص 87.
(2) فوات الوفيات (1/ 527) فتاوى شيخ الإسلام عز الدين ص 88.
(3) شذرات الذهب نقلاً عن فتاوى شيخ الإسلام ص 88.(1/603)
8 - صدر الدين ابن بنت الأعز: هو الإمام العادل الورع الصالح القاضي الصارم عمر بن عبد الوهاب بن خلف العلامي ابن قاضي القضاة تاج الدين بنت الأعز أخو تقي الدين سالف الذكر، ولد سنة 625هـ، وسمع من المنذري وغيره من شيوخ عصره وأخذ الفقه والأصول عن الإمام عز الدين وتأثر به وتخلف بأخلاقه وسار سيرته في القضاء والشدة على الظلمة والطغاة وعزل نفسه من القضاء واقتصر على التدريس، توفي سنة 680هـ (1).
9 - أبو أحمد بن زيتون: هو أبو أحمد بن أبي بكر بن مسافر بن أبي بكر بن أحمد بن عبد الرفيع اليمني المالكي الشهير بابن زيتون كان قاضي الجماعة بتونس، ورحل إلى المشرق مرتين، وتفقه على عز الدين بن عبد السلام، كما تفقه على علماء عصره، وولي قاضي القضاة فعظم أمره وانتفع به الناس، توفي سنة 691هـ ودفن في تونس (2)، كما أن هناك الكثير من تلاميذ العز بن عبد السلام ذكرنا هؤلاء خوفاً من الإطالة.
__________
(1) البداية والنهاية (17/ 580).
(2) الديباج ابن فرحون ص 99.(1/604)
خامساً: مؤلفاته: ترك الشيخ عز الدين بن عبد السلام، ثروة من المصنفات والرسائل المفيدة، والفتاوى السديدة (1)، تبين لنا منزلته الرفيعة، وإطلاعه الواسع على حقائق الشريعة وغوامضها، وباعه الطويل، في معرفة مقاصد الشريعة، وفهمه السليم لمعاني القرآن الكريم ومراميه السامية التي رعاها الشارع الحكيم من أجل إسعاد البشرية عامة بإخراجها من ظلمات المفاسد ومضارها إلى نور المصالح وخيراتها، فاستحق أن يكون من الذين قيل فيهم: علمهم أكثر من تصانيفهم، لا من الذين عبارتهم دون درايتهم ومرتبته في العلوم الظاهرة مع الصادقين في الرعيل الأول، وأما في علوم المعارف والعلم بالله فهو معروف عند أهله، فصنف في شتى العلوم، منها ما طبع ومنها مالا يزال مخطوطاً، وقد أفاضى المعاصرون في الحديث عن هذه المصنفات (2) المؤلفات تنقسم إلى:
1 - التفسير وعلومه: مما ألفه الإمام في التفسير.
أ- مختصر تفسير " النكت والعيون للماوردي"، حققه الدكتور عبد الله الوهيبي كجز لنيل أطروحته في الدكتوراء في التفسير، وقدم له دراسة عن العز بن عبد السلام، حياته، وآثاره ومنهجه في التفسير، وقدم دراسة عن منهج العز في هذا المختصر (3).
ب- تفسير القرآن العظيم: بدأ فيه العز بتفسير الاستعاذة، والبسملة، ثم شرع في تفسير سور القرآن الكريم، سورة سورة، مع العناية الواضحة بالنحو والإعراب (4)، ولا يزال هذا الكتاب مخطوطاً، ويوجد منه خمس نسخ خطية في تركياً (5).
__________
(1) مقاصد الشريعة عند الإمام العزّ بن عبد السلام ص 48.
(2) المصدر نفسه ص 48.
(3) العز للوهيبي ص 10، 117.
(4) طبقات الشافعية (8/ 248).
(5) شجرة المعارف للعز، مقدمة المحقق ص 21.(1/605)
ج- الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز، ويختصر أحياناً باسم "مجاز القرآن" وطبع هذا الكتاب عدة مرّات واختصر هذا الكتاب ابن القيم الجوزية مع زيادات في كتابه "الفوائد المشوق إلى علوم القرآن وعلم البيان" كما لخص السيوطي كتاب العز مع زيادات عليه وسما "مجاز الفرسان إلى مجاز القرآن" ويعتبر كتاب العز هذا مع كتاب قواعد الأحكام، أهم كتبه على الإطلاق (1).
ح- أمالي عز الدين بن عبد السلام: وهي تشمل: الأمالي في تفسير بعض آيات القرآن الكريم، والأمالي في شرح بعض الأحاديث المنتقاة، والأمالي في مناقشة بعض المسائل الفقهية، وهذه الأمالي كان العز يلقيها في دروس تفسير القرآن الكريم ووجدت عدة مخطوطات لها وتجمع الأمالي الثلاث، بينما اقتصرت بعض النسخ الخطية على القسم الأول وبعنوان "فوائد العز بن عبد السلام"، ولذلك قام الاستاذ رضوان الندوي بتحقيق هذا القسم في رسالته للدكتوراه ثم طبعته وزارة الأوقاف الكويتية سنة 1967م، ثم أعيد طبعة في دار الشروق بجدة سنة 1402هـ/1982م اعتماداً على نسخ خطية بعنوان الفوائد في مشكل القران (2).
2 - الحديث والسير والأخبار:
أ- شرح حديث " لا ضرر ولاضرار": نسبه إليه رضوان الندوي (3).
ب- شرح حديث "أم زَرْع" الذي روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، يوجد منه نسخة خطية بمكتبة الفاتح باسطنبول برقم 1141م ويقع في ثلاث ورقات ملحقة في آخر مجلد كبير لنسخة خطية عن "مختصر صحيح مسلم للحافظ المنذري" (4).
__________
(1) العز بن عبد السلام، الزحيلي ص 136.
(2) العز بن عبد السلام للزحيلي ص 138.
(3) العز للندوي ص 75.
(4) العز بن عبد السلام للزحيلي ص 138.(1/606)
ج- مختصر صحيح مسلم: ذكره ابن السبكي في كتب العز، وذكره الداودي، ولم يرد له ذكر في فهارس المخطوطات الموجودة، فإما أنه لازال ضمن المخطوطات الخاصة والمبعثرة في أنحاء العالم، أو فقد وضاع مع ما فقد من تراث المسلمين العظيم أيام المحن والنكبات والحروب والاحتلال لبلاد المسلمين.
ح- بداية السول في تفضيل الرسول: وهو رسالة صغيرة طبعت في مصر قديماً، وعلق عليها الشيخ عبد الله بن محمد الصديق الغماري، ثم حققها الدكتور صلاح الدين المنجد، وطبعتها دار الكتاب الجديد ببيروت سنة 1401هـ ثم حققها الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، وطبعها المكتب الإسلامي ببيروت سنة 1403هـ، ثم حققها السيد محمد أديب كلكل، وطبعها بدار الدعوة بحماة، وساق العز اثنين وثلاثين وجهاً لتفضيل الرسول صلى الله عليه وسلم وهي تعداد الخصائص التي خصه الله بها (1).
س- قصة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: وتوجد منها نسخة في مكتبة برلين برقم 9614 (2).
ش- ترغيب أهل الإسلام في سكن الشام: وفيها بيان فضل الشام والترغيب بالسكن فيها، وطبعت عدة مرات، الأولى في المطبعة التجارية بالقدس سنة 1359هـ/1940م بعناية أحمد سامح الخالدي الديري، ثم طبعت ببغداد وعمان بتحقيق محمد شكور بن محمود الحاجي أمرير الميادني سنة 1987م، وقام الأستاذ الشاب إياد الطباع بتحقيقها أيضاً (3) هذه هي أهم الكتب والرسائل في الحديث والسيرة والأخبار.
3 - الإيمان والعقيدة وعلم التوحيد: ومن أهم هذه الكتب
أ- رسالة في علم التوحيد.
ب- وصية الشيخ عز الدين.
ج- نبذة في الرد على القائل بخلق القرآن.
س- الفرق بين الإسلام والإيمان.
ش- بيان أحوال الناس يوم القيامة.
د- ملحمة الاعتقاد أو العقائد (4).
__________
(1) المصدر نفسه ص 139.
(2) المصدر نفسه ص 139.
(3) العز بن عبد السلام للزحيلي ص 139.
(4) العز بن عبد السلام سلطان العلماء د. فاروق عبد المعطي ص 52 إلى 55.(1/607)
4 - الفقه وأصوله أهم كتبه في هذه العلوم:
أ- قواعد الأحكام في مصالح الأنام: هذا الكتاب اسمه في المصادر القديمة "القواعد الكبرى" ويوجد منه نسخ خطية كثيرة في مكتبات العالم وموضوع هذا الكتاب بيان الأحكام الشرعية باعتبار جلب المصالح ودرء المفاسد وقد أوضح العز مقاصد كتابه بقوله: الغرض بوضع هذا الكتاب بيان مصالح الطاعات والمعاملات وسائر التصرفات ليسعى العباد في تحصيلها، وبيان مقاصد المخالفات ليسعى العباد في درئها، وبيان مصالح العبادات ليكون العباد على خبر منها، وبيان ما يقدم من بعض المصالح على بعض، وما يؤخر من بعض المفاسد على بعض، وما يدخل تحت اكتساب العبيد دون مالا قدرة لهم عليه ولا سبيل إليه (1) وقال في بيان حقيقة المصالح والمفاسد: المصالح أربعة أنواع: اللذات وأسبابها، وهي منقسمة إلى دنيوية وأخروية، فأما لذات الدنيا وأسبابها وأفراحها والآمها وأسبابها وعمومها وأسبابها، فمعلومة بالعبادات، ومن أفضل لذات الدنيا لذات المعارف وبعض الأحوال، ولذات بعض الأفعال في حق الأنبياء، فليس من جعلت قرة عينه في الصلاة كمن جعلت الصلاة شاقة عليه، وليس من يرتاح إلى ايتاء الزكاة كمن يبذلها وهو كاره (2) وأما لذات الآخرة وأسبابها وأفراحها وأسبابها، وآلامها وأسبابها وغمومها وأسبابها، فقد دل عليه الوعيد والزجر والتهديد، وأما اللذات فمثل قوله: " وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين" (الزخرف، آية: 71) وقوله: "يطاف عليهم بكأس من معين بيضاء لذة للشاربين" (الصافات: 45، 46).
__________
(1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 10).
(2) المصدر نفسه (1/ 11، 12).(1/608)
وأما الأفراح ففي مثل قوله: "ولقاهم نضرة وسرورا " (الإنسان، آية 11) وقوله: "فرحين بما آتاهم الله من فضله" (آل عمران: 170) وفي مثل قوله: "يستبشرون بنعمة من الله وفضل" (آل عمران: 171) وأما الآلآم ففي مثل قوله: "ولهم عذاب أليم" (المائدة: 36) وقوله " ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ" (إبراهيم: 17) وأما الغموم ففي مثل قوله: "كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها" (الحج، آية: 22) ثم شرع بعد ذلك يذكر قواعد في المصالح والمفاسد ويقررها بالشرح ثم يوضحها بالأمثلة الكثيرة المتنوعة ومن أمثلة ذلك ما ذكره في اجتماع المصالح المجردة عن المفاسد فقال: إذا اجتمعت المصالح الأخروية الخالصة، فإن أمكن تحصيلها حصلناها، وإن تعذر تحصيلها حصلنا الأصلح فالأصلح، والأفضل فالأفضل لقوله تعالى: "فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه" (الزمر، آية: 17، 18).
"واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم" (الزمر:55) وقوله: "وأمر قومك يأخذوا بأحسنها" (الأعراف، آية: 145) فإذا استوت مع تعذر الجمع تخيرنا، وقد يقرع، وقد يختلف في التساوي، والتفاوت، ولا فرق في ذلك بين المصالح والواجبات والمندوبات، لبيان الأفضل وتقديم الفاضل على المفضول (1) وضرب أمثلة كثيرة نذكر منها مثالاً واحداً، كتقديم كل فريضة على نوعها من النوافل كتقديم فرائض الطهارات على نوافلها، وفرائض الصلوات على نوافلها، وفرائض الصدقات على نوافلها (2)، واستمر يذكر أمثلة لتوضيح هذه القاعدة ويفرع عليها فروعاً حتى ذكر ثلاثة وعشرين مثالاً في تقديم الفاضل على المفضول (3).
__________
(1) العز بن عبد السلام حياته وآثاره ومنهجه في التفسير ص 136.
(2) المصدر نفسه ص 136.
(3) المصدر نفسه ص 136.(1/609)
وقال في تساوي المصالح مع تعذر جمعها: إذا تساوت المصالح مع تعذر الجمع تخيرنا في التقديم والتأخير للتنازع بين المتساويين (1) ثم ذكر فصلاً في اجتماع المفاسد المجردة عن المصالح فقال: إذا اجتمعت المفاسد المحضة فإن أمكن درؤها درأنا، وإن تعذر درء الجميع درأنا الأفسد فالأفسد والأرذل فالأرذل، فإن تساوت، فقد يتوقف وقد يتخير وقد يختلف في التساوي والتفاوت، ولا فرق في ذلك بين مفاسد المحرمات والمكروهات (2) ثم ذكر فصلاً في اجتماع المصالح مع المفاسد فقال: إذا اجتمعت مصالح ومفاسد، فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعلنا ذلك امتثالاً لأمر الله تعالى فيهما لقوله سبحانه وتعالى "فاتقوا الله ما استطعتم" (التغابن، آية: 16) وإن تعذر الدرء والتحصيل فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة درأنا المفسدة ولانبالي بفوات المصلحة قال الله تعالى: "يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما، إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما" (البقرة: 219) حرمهما لأن مفسدتهما أكبر من منفعتهما، أما منفعة الخمر فبالتجارة ونحوها وأما منفعة الميسر فيما يأخذه المقامر من المقمور، وأما مفسدة الخمر فبإزالتها العقول، وما تحدثه من العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وأما مفسدة القمار، فبإيقاع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذه مفاسد عظيمة لا نسبة إلى المنافع المذكورة إليها، وإن كانت المصلحة أعظم من المفسدة حصلنا المصلحة مع التزام المفسدة، وإن استوت المصالح والمفاسد فقد يتخير بينهما وقد يتوقف فيهما، وقد يقع الاختلاف في تفاوت المفاسد (3)،
__________
(1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 88).
(2) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 93).
(3) المصدر نفسه (1/ 98) ..(1/610)
ثم ذكر فصلاً في بيان الوسائل إلى المصالح فقال: يختلف أجر وسائل الطاعات باختلاف فضائل المقاصد ومصالحها، فالوسيلة إلى المقاصد أفضل من سائر الوسائل، فالتوسل إلى معرفة الله تعالى ومعرفة ذاته وصفاته أفضل من التوسل إلى معرفة أحكامه، والتوسل إلى الجهاد أفضل من التوسل بالسعي إلى الجمعات، والتوسل بالسعي إلى الجمعات أفضل من التوسل بالسعي إلى الجماعات في الصلوات المكتوبات (1)، ثم ذكر فصلاً في بيان وسائل المفاسد فقال: يختلف وزن المخالفات باختلاف رذائل المقاصد ومفاسدها، فالوسيلة إلى أرذل المقاصد، أرذل من سائر الوسائل، فالتوسل إلى الجهل بذات الله وصفاته أرذل من التوسل إلى الجهل بأحكامه، والتوسل إلى القتل أرذل من التوسل إلى الزنا، والتوسل إلى الزنا أقبح من التوسل إلى أكل بالباطل، والإعانة على القتل بالإمساك أقبح من الدلالة عليه وكذلك مناولة آلة القتل أقبح من الدلالة عليه (2) وقال في آخر الجزء الثاني مؤكداً ما سبق من أن الله أمر بكل خير ونهى عن كل شر فالخير يعبر به عن جلب المصالح والشر يعبر به عن جلب المفاسد، ومن المصالح والمفاسد، مالاً يعرفه إلا كل ذي فهم سليم وطبع مستقيم (3)،
__________
(1) المصدر نفسه (1/ 123).
(2) المصدر نفسه (1/ 126).
(3) العز بن عبد السلام، حياته وآثاره ومنهجه في التفسير ص 138 ..(1/611)
فقد قال: ولو تتبعنا مقاصد ما في الكتاب والسنة لعلمنا أن الله أمر بكل خير دِقهَّ وجله وزجر عن كل شيء دقه وجله فإن الخير يعبر به عن جلب المصالح ودرء المفاسد، والشر يعبربه عن جلب المفاسد ودرء المصالح وقد قال الله تعالى: "فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره" (الزلزلة: 7، 8) وهذا ظاهر في الخير الخالص والشر المحض، وإنما الإشكال إذا لم يعرف خير الخيرين وشر الشرين، أو يعرف ترجيح المصلحة على المفسدة، أو ترجيح المفسدة على المصلحة أو جهلنا المصلحة والمفسدة، ومن المصالح والمفاسد مالا يعرفه إلا كل ذي فهم سليم وطبع مستقيم يعرف بهما دق المصالح والمفاسد وجلهما وأرجحهما من مرجوحهما، .. إلى أن قال: وأجمع آية في القرآن للبحث على المصالح كلها والزجر عن المفاسد بأسرها (1) قوله تعالى: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون" (النحل، آية: 90).
__________
(1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (2/ 189).(1/612)
وأسلوب الشيخ العز خالي من تعقيدات الفقهاء، وفيه سجع غير متكلف وفي بعض المواضع يغلب عليه أسلوب الوعظ ومن أمثلة ذلك ما قاله في كلام طويل نختصر منه: وعلى الجملة فمن أقبل على الله أقبل الله عليه ومن أعرض عن الله أعرض الله عنه، ومن تقرب إلى الله شبراً تقرب منه ذراعاً، ومن تقرب منه ذراعاً تقرب منه باعاً، ومن مشى إليه هرول إليه، ومن نسب شيئاً إلى نفسه فقد زل وضل، ومن نسب الأشياء إلى خالقها المنعم بها كان في الزيادة لأن الله تعالى قال: "لئن شكرتم لأزيدنكم" (إبراهيم، آية: 7) "وسنجزي الشاكرين" (آل عمران: 145) وأفضل ما تقرب به التذلل لعزة الله والتخضع لعظمته والإيحاش لهيبته والتبرى من الحول والقول إلا به، وهذا شأن العارفين ومن خرج عنه فهو طريق الجاهلين أو الغافلين، وقد تمت الحكمة وفرغ من القسمة وسينزل كل أحد في دار قراره حكماً عدلاً وحقاً قصداً وفضلاً، وما ثبت في القدم لا يخلفه العدم، ولا تغيره الهمم بعد أن جرى به القلم وقضاه العدل الحكم، فأين المهرب وإلى أين المذهب، وقد عز المطلب، ووقع ما يذهب فيا خيبة من طلب مالم تجر به الأقدار، ولم تكتبه الأقلام، يا لها من مصيبة، ما أعظمها، وخيبة ما أفحمها، أين المهرب من الله، وأين الذهاب عن الله، وأين الفرار من قدرة الله؟ بينما يرى أحدهم قريباً دانياً إذ أصبح بعيداً نائياً لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولاخفظاً ولا رفعاً (1).
__________
(1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 13).(1/613)
وروح العز بارزة في كتابه هذا، فالقارئ له يشعر كأن العز أمامه يناقش الأقوال ويرجح ويستدل ويرد قول المخالف، كما يلحظ القارئ سعة علمه وقوة جدله في بيان ما ترجح له والكتاب يركز على الأحكام الفقهية يجمعها تحت قواعد أصولية، فهو من كتب الفقه والأصول ولكنه أحياناً، يستطرد، فيبحث أموراً في العقيدة أو التصوف (1)، ويلاحظ في كتابه تكرار بعض الأمور في مواضع متعددة وقد اعتذر عن ذلك بقوله: وإنما أتيت بهذه الألفاظ في هذا الكتاب التي أكثرها مترادفات، وفي المعاني متلاقيات حرصاً على البيان والتقرير في الجنان، كما تكررت المواعظ والقصص والأمر والزجر والوعد والوعيد والترغيب والترهيب وغير ذلك في القرآن، ولا شك أن في التكرير والإكثار من التقرير في القلوب ما ليس في الإيجاز والاختصار، ومن نظر إلى تكرير مواعظ القرآن ووصاياه ألقاها كذلك، وإنما كررها إلاله لما علم فيها من إصلاح العباد، وهذا هو الغالب المعتاد ولو قلت في حق العباد هو أن يجلب إليهم كل خير، ويدفع عنهم كل ضير لكان ذلك جامعاً، عاماً ولكن مالا يحصل به من البيان ما يحصل بالتكرير وتنويع الأنواع، وكذلك لو قلت في حق الإله هو أن يطيعوه ولا يعصوه لكان مختصراً عاماً ولكن لا يفيد ما يفيده الإطناب والإسهاب، وكذلك لو قتل في بعض حقوق المرء على نفسه هو أن ينفعها في دينها ودنياها ولا يضرها في أولاها وآخراها لكان ذلك شاملاً لجميع حقوق المرء، وقد يظن بعض الجهلة الأغبياء أن الإيجاز والاختصار أولى من الإسهاب والإكثار، وهو مخطئ في ظنه لما ذكرنا من التكرير الواقع في القرآن والعادة شاهدة بخطئه في ظنه، وما دلت العادة عليه، وأرشد القرآن إليه أولى مما وقع للأغبياء الجاهلين الذين لا يعرفون عادة الله ولا يفهون كتاب الله، وفقنا الله لإتباع كتابه وفهم خطابه (2)،
__________
(1) المصدر نفسه (1/ 140، 141).
(2) المصدر نفسه (1/ 161) ..(1/614)
وخلاصة القول: أن العز بحث في كتابه هذا مصالح الطاعات والمعاملات وسائر التصرفات ليسعى العباد في تحصيلها، ومقاصد المخالفات ليسعى العباد في درئها، وطريقته في ذلك أنه يذكر القاعدة الأصولية في المصالح والمفاسد، ويقررها بالشرح، ثم يوضحها بالأمثلة الفقهية الكثيرة المتنوعة، فهو من كتب الفقه التي تربط الفروع الفقهية بالقواعد الأصولية (1).
ب- الإمام في بيان أدلة الأحكام: وموضوع الكتاب بيان وجه دلالة آيات الأحكام على الأحكام من أمر ونهي وتخيير وإباحة وهو من كتب أصول الفقه، وليس من كتب العقيدة وقد قسم العز الأحكام إلى قسمين في هذا الكتاب فقال: والأحكام ضربان: أحدهما؛ ما كان طلباً لإكتساب فعل أو تركه والثاني: مالا طلب فيه، كالإباحة ونصب الأسباب والشرائط والموانع والصحة والفساد وضرب الآجال وتقدير الأوقات والحكم بالقضاء والأداء والتوسعة والتضيق والتعيين والتخيير، ونحو ذلك من الأحكام الوضعية الخبرية، ثم قسم أدلة الأحكام إلى قسمين، فقال: ثم أدلة الأحكام ضربان. أحدهما: لفظي يدل بالصيغة تارة، وبلفظ الخبر أخرى. والثاني: معنوي يدل دلالة لزوم إما بواسطة، وإما بغير واسطة، فكل فعل طلبه الشارع أو أخبر عن طلبه أو مدحه أو مدح فاعله لأجله أو نصبه سبباً لخير عاجل، أو آجل فهو مأمور به وكل فعل طلب الشارع تركه أو أخبر أنه طلب تركه أو ذمه أو ذم فاعله لأجله أو نصبه سبباً لشر عاجل أو آجل فهو منهي عنه، وكل فعل خير الشارع فيه مع استواء طرفيه أو أخبر عن تلك التسوية فهو مباح، عرض هذا الكلام بعشرة، فصول، الفصل الأول في الدلالة اللفظية: أما الصيغة فقوله تعالى: "خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا" (الأعراف: 31) فخذوا أمر، وكلوا واشربوا إباحة، ولا تسرفوا نهي ... إلخ.
__________
(1) العز بن عبد السلام حياته وآثاره ومنهجه في التفسير ص 142.(1/615)
والفصل الثاني في تقريب أنواع الأمر: كل فعل كسبي عظمه الشرع أو مدحه أو مدح فاعله لأجله أو فرح به أو أحبه أو أحب فاعله أو رضى به أو رضى عن فاعله أو وصفه بالاستقامة أو البركة أو الطيب أو أقسم به أو بفاعله، أو نصبه سبباً لمحبته أو لثواب عاجل أو آجل أو نصبه سبباً لذكره أو لشكره أو لهدايته أو لإرضاء فاعله أو لمغفرة ذنبه أو لتكفيره أو لقبوله أو لنصرة فاعله أو بشارته، أو وصف فاعله بالطيب أو صفه بكونه معروفاً أو نفي الحزن أو الخوف عن فاعله، أو وعده بالأمن أو نصبه سبباً لولاية الله تعالى أو وصف فاعله بالهداية أو وصفه بصفة مدح، كالحياة أو النور والشفاء، أو دعا الله به الأنبياء فهو مأمور به، فتذكر بعض الأمثلة هذه الأنواع، وهي ثلاثة وثلاثون مثالاً: المثال الأول: تعظيم الفعل وتوقيره "إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه" (فاطر، آية: 10) "هي أشد وطأ وأقوم قيلا" (المزمل، آية: 7) وكذلك الأقسام بالفعل ضرب من تعظيمه وتوقيره "وإنك لعلى خلق عظيم" القلم، آية 4 " ... إلخ. وهكذا استمر في ذكر بقية الأمثلة والفصول، ويتخلل هذه الفصول فوائد كثيرة، ونلاحظ وهذا الكتاب يدل على طول باع العز في أصول الفقه، وسعة علمه بمقاصد كتاب الله تعالى، ومعرفته لدلالة الألفاظ واختلافها وتمكنه من اللغة العربية (1).
__________
(1) العز بن عبد السلام حياته وآثار ص 145.(1/616)
ج- مقاصد الصلاة: وموضوعها فضل الصلاة وبيان شرفها وأنها أفضل العبادات بعد الإيمان بالله لأنها قد اشتملت من أفعال القلوب واللسان والجوارح، ندبا وفرضاً مالم تشتمل عليه عبادة أخرى وفيها من الأعمال ما هو خاص لله تعالى وخاص بالعبد وخاص بالرسول صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين، ثم فصل ذلك في سورة الفاتحة التي تقرأ في الصلاة وتكلم عن أفعال الصلاة حتى ختمها (1) وقد حظيت هذه الرسالة النفيسة بعناية السلطان الملك الأشرف فكان يأمر بتلاوتها كلما دخل عليه أحد من خواصّه، ونصح شمس الدين سِبط ابنُ الجوزي الناس بها وهو على المنبر (2)، قال ابن السبكي في: قرئت عليه – أي السلطان الملك الأشرف – "مقاصد الصلاة" في يوم ثلاث مرات، تقرأ عليه، وكُلّما دخل عليه أحد من خواصَّه يقول للقارئ: إقرأ "مقاصد الصلاة" لابن عبد السلام، حتى يسمعها فلان، ينفعه بسماعها.
- من كتب الشيخ، مقاصد الصوم، ومناسك الحج، وأحكام الجهاد وفضله، والغاية في اختفاء نهاية المطلب في دراية المذهب لإمام الحرمين الجويني، والجمع بين الحاوي والنهاية (3).
5 - الفتاوى: ومن أهم الكتب في هذا المجال.
أ- الفتاوى الموصلية.
ب- الفتاوى المصرية.
6 - التصوف:
أ- شجرة العارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال:
وقد تكلم العز في هذا الكتاب على صفات الله وكيفية توحيده وتنزيهه، والوجه الأسلم في ذلك، وكيفية التخلق بصفات الله سبحانه وتعالى، وجاء هذا الكتاب في عشرين باباً، وفصولاً تمهيدية (4) وقد تحدث في هذا الكتاب عن كيفية التخلق بالأسماء والصفات، فقال:
__________
(1) مقاصد الصلاة ص 3.
(2) المصدر نفسه ص 3.
(3) المصدر نفسه ص 4.
(4) العز عبد السلام ص 153 حياته وآثاره ومنهجه في التفسير.(1/617)
أ- التخلق بالقدوس: فقال الشيخ عز الدين: القدوس: هو الطاهر من كل عيب ونقصان، وثمرة معرفته: التعظيم، والإجلال، والتخلق به بالتطهير من كل حرام ومكروه وشبهه وفضل مباح شاغل عن مولاك (1).
ب- التخلق بالسلام: إن أُخِذَ من تسليمه على عباده فعليك بإفشاء السلام، فإنَّه من أفضل خِصال الإسلام وإن أخذ من السلامة من العيوب، فهو كالقدوس وإن أُخِذَ من الذيِ سَلِمَ عباده من ظُلمه، فليسلم الناس من غشمك وظلمك وضَرَّك وشرَّكَ، فإن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده (2).
ج – التخلق بالإيمان: المؤمن، إن أخذ من تصديق الله نفسه فعليك بالإيمان بكل ما أنزله الرحمن وإن أخِذ من أمنه العباد من ظلمه فأظهر من بَِرك وخيرك ما يؤمن الناس من شرك وضَيْرِك، وإنَ أخذ من خالق كل أمن فاسع لعباد الله في كل أمن (3).
ح- التخلق بالهيمنة: المهيمن؛ هو الشهيد، فإن أخذ من مشاهدته لعباده، فهو كالبصير، وثمرته كثمرته، والتخلق به كالتخلق به، وإن أخذ من شهادته لعباده وعليهم في القيامة، فثمرة معرفته خوفك وحياؤك من شهادته عليك إن عصيته، ورجاؤك شهادته لك إن أطعته والتخلق به أن تقوم بالشهادة في كل ما نفع وضرّ، وساء وسَّر، ولو على نفسك أو الوالدين والأقربين.
خ- التخلق بالعزَّة: العزيز؛ إن أخِذَ من العلبة فهو كالقهار وثمرة معرفته الخوف، وإن أخذ من الامتناع من الضيمَّ فلا تخلق به إلا في بعض الضُيوم، كَضْيمْ الكُفَّار الفُجّار، وإن أُخذ من الذي يَعِزُّ وجود مثله فهو سالب للنظير، فلا تخلق به إلا بالتوحد بالطاعة والعرفان على حسب الإمكان، بالنسبة إلى أبناء الزمان (4).
__________
(1) شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال ص 37.
(2) المصدر نفسه ص 38.
(3) المصدر نفسه ص 39.
(4) المصدر نفسه ص 39.(1/618)
د- التخلق بالجبر: الجبار، إن أُخذ من جبرت العظم والفقير إذا أصلحتهما، فثمرة معرفته رجاءُ جبره وإصلاحه والتخلق به، بأن تعامل عباده بكلَّ خير وإصلاح تقدر عليه، أو تصل إليه وإن أُخذ من العُلُو فهو كالعَليَّ، وثمرة معرفته كثمرات معارف جميع الصفات وإن أخذ من الإجبار فهو كالقهّار (1).
ذ- التخلق بالتكبر عن الرَّذائل: المتكبر؛ إن أُخذ من تكبره عن النقائص فهو كالقدوس، فتكبّر عن كل خلق دنيء وإن جعل شاملاً لجميع الأوصاف، فثمرة معرفته الإجلال والمهابة في جميع الأحوال الحادثات من سائر الصفات، وكذلك العظيم، والجليل والعلي والأعلى (2).
ذ- التخلق بالحلم: الحليم هو الذي لا يعجل بعقوبة المذنبين فاحلمُ، عن كلَّ من آذاك وظلمات، وسَبَّك وشتمك، فإنَّ مولاك صبور حليم، بَرُّ كريم، يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون.
ر- التخلق بالصبر: الصبور: هو الذي يعامل عباده معاملة الصابرين، فعليك بالصبر على أذيَّةِ المؤذين، وإساءة المسيئين، فإن الله يحب الصابرين (3).
ز- التخلق بالإعزاز: المعز: خالق العِزَّ وثمرة معرفته الطمعُ في إعزازه بالمعارف والطاعات والتخلق به، بإعزاز الدين ومن تبعه من عباد الله المؤمنين.
س- التخلقُّ بالإذلال: المذل: خالق الذُّل وثمرة معرفته خوف الإذلال بالمعاصي والمخالفات، والمعاملة به بإذلال الباطل، وأشياعه وإخمال العُدوان وأتباعه (4).
ش- التخلق بالانتقام: المنتقم: هو المعذب لما يشاء من عباده عدلا وثمرة معرفته الخوف من انتقامه والتخلق به لمن ابتُلي بشيء من الولايات بالانتقام من الجُناة بالحدود والتعزيرات والعقوبات المشروعات (5).
__________
(1) شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال ص 39.
(2) المصدر نفسه ص 39.
(3) المصدر نفسه ص 41.
(4) المصدر نفسه ص 39.
(5) المصدر نفسه ص 43(1/619)
ع- التخلق بالعدل: الحكم، العدل، المقسِطُ، هو المنصف في وصله وقطعه وبذله ومنعه وضَرَّه ونفعه وثمرة معرفته خوف الظالم من عدله، ورجاء المظلوم لفضله والتخلق به لمن ابتُلى في ذلك أن يَعْدِل فيما حكم به مسَّويا بين الفقير والغنيّ والضعيف والقويّ، والقريب والأجنبي، والعُدوَّ والوليّ، وكذلك يعدل، فيما يختص به من أهله وعياله ورقيقه وأطفاله.
غ- التخلق باللطف: اللطيف: إن أخذ من معرفة الدقائق، فثمرة معرفته خوفُك ومهابتُك وحياؤك من معرفته بدقائق أحوالك، وخفايا أقوالك وأعمالك إذ لا يعزب عن خالق الأشياء مثقالُ ذرَّةٍ في الأرض ولا في السماء " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير" (الملك، آية: 14) وإن أخذ من الرفق فثمرةُ معرفته رجاءُ رفقهِ فيما قضاه ولطفه فيما أمضاه والتخلق به بالرفق بكل من أُمرت به من عباد الله، فإنّ الله لطيف بعباده " وما كان الرفق في شيء إلا زانه (1).
ق- التخلق بالشكر: الشكور؛ إن أخُذ من ثنائه على عباده فثمرةُ معرفته رجاؤك الدّخول في مدحته بطاعته ومعرفته والتخلق به بشكر مولاك وشكر أبويْك، وشكر كل من أحسن إليك (2)، "من لا يشكر الناس لا يشكر (3) الله.
ف- التخلق بالحفظ: الحفيظ؛ إن أُخِذَ من العلم فقد سبق، وإن أخذ من ضبط الأشياء وحفظها، فَثمرةُ معرفتِهِ رجاؤك حفظهَُ في أولاك وأُخراك والتخلق به بحفظ ما أمرت به من الطاعات والأمانات، فإن الله قد مدح الحافظين لحدوده، وبشَّرَهُم بإنجاز وعوده، فقال: "هذا ما توعدُون لكل أوَّاب حفيظ " (ق، آية: 32).
__________
(1) مسلم رقم 2594.
(2) شجرة المعارف والأحوال ص 45.
(3) سنن أبي داود رقم 4811(1/620)
ص- التخلق بالإقَاته: المقُيتُ: إن أخذ من القُدرة فلا تخلقُّ به وإن أخذ من إقاته الأقوات، فثمرة معرفته رجاء الإقاتةِ والأرزاق والتخلق به بإقاته كل محتاج تقدر على إقاتته من قريب أو أجنبي وضعيف وقويَ، مقدَّماً لمن تلزمُك إقاتته الأقرب فالأقرب (1). "كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت (2) ".
ض- التخلق بالحِكمةِ والحُكم: الحكيم؛ إن أُخِذَ من الحِكمة فثمرة معرفته المهابة والإجلال والتخلق به بمعرفة حُكم الكتَاب والسنة " ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً" (البقرة، آية 269) وإن أُخذِ من الإحكام والإتقان فثمرة مُعرفته إجلال من غمّت الأشياء حكمته وحيَّرت الألبَّاءَ صنعته، والتخلق به، بإتقان أحوالك وأعمالك، فيما يُصْلحِك في عاجِلِك ومآلكِ.
??التَّخلُّق بالقُوَّة: القوي المتين، وثمرةُ معرفته مهابته وإجلاله والاعتماد على قُوَّتِهِ، والتخلق به بأن تكون قوياً في دينك، متيناً في يقينك، مَليّاً بطاعة مولاك.
??التَّخَلُّق بالتقديم والتأخير: المقدم والمؤخّر، ثمرة معرفتهما المهابة والإجلال والاعتماد عليه في تقديمه وتأخيره، ورجاء أن يُقدَّمَك بطاعته، وخوف أن يؤخَّرك بمعصيته والتخلق بهما بتقديم ما أمرت بتقديمه وتأخير ما أمرت بتأخيره، بأن تقدم الأماثل على الأراذل، وأن تقَّدم أوجب الطاعات على واجبها، وأفضلها على فاضِلِها، ومضيَّقَها على موسَّعها وبأن تقدم القُرُبات والطاعات إلى أوائل الأوقات، فإنّ الله مدح الذين يسارعون في الخيرات (3).
??التخلُّق بالبَرَّ: البُّر، هو المنعم وثمرة معرفته رجاءُ أنواع برَّه، والتخلق به بأن تبرَّ كُلَّ من تقدر على بَّره بأحبَّ أموالك – إليك وأنفسِها لديك، فإنَّ مولاك يقول: لن تنالوا البِرَّ حتى تتفقوا ممّا تحبون" (آل عمران: آية 92).
__________
(1) شجرة المعارف والأحوال ص 45.
(2) مسلم رقم 996.
(3) شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال ص 47.(1/621)
التخلق بالتوبة: التّواب، إن جُعل بمعن الموفَّق للتوبة فثمرة معرفته رجاء توبته عليك والتخلق، بأن تَحُثَّ المسيءَ على التوبة وتحرَّضَهُ على الأوْبَة وإن جُعل بمعنى قابل التوبة، فأقبل عذر من أساء إليك وندم على جرأته عليك (1).
??التخلق بمعنى المغني: والتخلق به بأن تُغني كلّ محتاج بما تقد عليه من علم وغيره، فتذكَّرَ الغافل وتُعلم الجاهل، وتُقيم المائل وتُسَّير العائل.
??التَّخُّلق بالضُّر والنَّفع: الضار والنافع، ثمرةُ معرفتهما خوف الضَّررَّ ورجاءُ النفع والتخلق بهما بنفع كل من أُمرت بنفعه وضرَّ كلَّ من أُمرت بضرَّه، بحدَّ أو قتل أو غيره، والخلق عيال الله، فأحبهم إليه أنفعهم لعياله، فعليك ببذل المنافع لكلَّ دان وشاسِع (2).
??التَّخَلُّق بهداية الضال: النور الهادي؛ ثمرة معرفتها رجاؤك أن يُنَّورَ جَنَاتك بمعرفته ويُزَّينَ أركانك بآثار هدايته، والتخلق بهما بأن تكون نوراً من أنوار الله، هادياً، إلى صراط الله (3). فوالله لأن يهدي الله بك رَجُلاً واحداً خيرٌ لك من أن تكون لك حُمرُ النَّعَم (4).
??التخلق بالقبض والبسط: القابض الباسط، ثمرة معرفتهما الخوف من قبض منافع الدُّنيا والآخرة، ورجاء بسط الخيرات العاجلة والآجلة، والتخلق بالبسط بأن تبسط بَّرك ومعروفك على كلَّ محتاج حتى على الدّواب والكلاب والذَّرَّ إذ (5) " في كل كبد – رطبة أجر" (6)، والتخلق بالقبض بأن تقبض عن كل أحدٍ ما ليس له أهلاً، من مال وولاية وعلم وحكمة فلا تؤتوا السُّفهاء أموالهم فيتلفوها (7).
__________
(1) المصدر نفسه ص 47.
(2) المصدر نفسه ص 48.
(3) المصدر نفسه ص 48.
(4) البخاري رقم 2942.
(5) شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال ص 48.
(6) البخاري رقم 2363.
(7) شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال ص 49.(1/622)
التخلق ببذل الهبات: الوهاب، ثمرة معرفته رجاء أنواع هباته وصلاته، والتخلق به بكثرة الهبات والصَّلات مُقَدَّما للآباء والأُمهات، والبنين والبنات.
??التخلُّق بالجود والكرم، الجواد الكريم؛ ثمرة معرفتهما الطَّمعُ في آثار جودهِ وكرمه والتخلق بهما لمن أرادَ الُوصول إليه بأن تَجُود بكلَّ ما يقدِرُ عليه من مال وجاه، وعلم وحكمة، وبِرَّ ومساعدة.
??التخلق بالإجابة: المجيب؛ ثمرةُ معرفته رجاء إجابةِ وعائك لعِلمه بافتقارك إليه واعتمادك عليه وأنه سامعٌ لدعائك عالم ببلائِك، خابر لسرَّائِك وضرَّائِك والتخلق به بإجابة مولاك فيما دعاك إليه من قُرُباته، وبإجابة كلَّ داع إلى ما يُرضي مولاك في طاعاته وعباداته (1).
??التخلق بالمجد: المجيد الذي كثر شرفه، وتمّ كماله وجلاله في ذاته وصفاته وثمرة معرفته المهابة والإجلال والتخلق به يمكن التخلق به مما سبق ذكره، فإنه شامل لجميع الصفات كما شِملَها ذو الجلال والإكرام (2).
فهذه إشارات إلى كيفية التخلقُّ بالصَّفات ولا يحصل التخلق بالصفات إلاّ لمن واظب على التحديق إليها والإقبال عليها ولذلك أمرنا الله تعالى بإكثار ذكره لنُلابس ما يثمره ذكره من الأحوال والأقوال والأعمال (3).
ومن أفضل التخلُّقات أن تُحسِن إلى عباد الله بمثل ما أَحسنَ به إليك وأن تنُعم عليهم بمثل ما أنعم به عليك قال الله تعالى: "فأمَّا اليتيم فلا تقهر" (الضحى، آية: 9) أي عامِلُه بمثل ما عامَلناك، فإنّا وجدناك يتيماً فآويناك "وأمّا السَّائل فلا تنهر" (الضحى، آية: 10) أي عامل العائِلَ السائلَ بمثل ما عاملناك، فإنا وجدناك عائلاً فأغنيناك" "وأما بنعمة ربك فحَّدث" (الضحى، آية: 7): أي حَدَّثهم بها أنعمنا به عليك من هدايتنا ليهتدوا بذلك، فإنَّا وجدْناك ضالاً فهديناك (4).
__________
(1) المصدر نفسه ص 49.
(2) المصدر نفسه ص 49.
(3) المصدر نفسه ص 50.
(4) شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال ص 51.(1/623)
وقد جاء كتاب شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأفعال في عشرين باباً وفصولاً تمهيدية وتكلم عن الفصول التمهيدية عن القربات وآداب القرآن، وبيان فضائل الأعمال الظاهرة والباطنة وبيان رتب الوسائل والأسباب وثمرات المعارف وفوائدها وما يتفاضل به العباد وهذه الفصول موجودة في مقدمة وخاتمة كتابه" قواعد الأحكام في مصالح الأنام" ثم تكلم في الباب الأول في التخلق بصفات الرحمن على حسب الإمكان أما الباب الثاني، فقد تكلم فيه عن كل صفة من صفات الرب مع ذكر دليلها وثمرة معرفتها وكيفية التخلق بها وفي الباب الرابع تكلم عما يتعلق بالقلوب والجوارح من الأحكام من المأمورات والمنهيات والمعفوات والمباحات وأما الباب الخامس ففي المأمورات الباطنية وفيه ستة وخمسون مائة فصل، تتعلق بكل ما أمر الله به من الأعمال الباطنة كالتوكل على الله والتعزز بالله، والتذلل لأولياء الله، وذكر الدليل على كل خُلق من هذه الأخلاق من القرآن والسنة وأما الباب السادس، فقد تكلم فيه عن المنهبات الباطنية كالجهل، بما يجب تعلمه، وانشراح الصدر بالباطل، وفي محبة الكفار والأنداد، وما شابه ذلك، وتكلم فيه في ثلاثة ومائة فصل وأما الباب الثامن عشر في تعرف المصالح والمفاسد وما يقدم فيها عند التعارض وهذا تكرار، لما هو موجود في أول كتاب "قواعد الأحكام" وفي الباب التاسع عشر تكلم عن حسن العمل بالظنون الشرعية وهو تكرار لما هو موجود في قواعده أيضاً، وختم الكتاب بالباب العشرين في الورع في العبادات والمعاملات انتهى باختصار (1)،
هذه هي أهم مصنفات ومؤلفات الشيخ عز الدين بن عبد السلام.
7 - سمات التأليف عند الإمام عز الدين بن عبد السلام:
يتسم التأليف عند الإمام بسمات أبرزها:
__________
(1) العز بن عبد السلام حياته وآثاره ص 53.(1/624)
أ- تنوع الموضوعات التي ألف فيها الإمام: كما مر معنا من ذكر مؤلفاته ومن هذه المؤلفات ما هو مطول، كتفسير القرآن العظيم وقواعد الأحكام في مصالح الأنام ومنها ما هو مختصر، كمختصر النكت والعيون ومختصر الرعاية لحقوق الله للمحاسبي والقواعد الصغرى ومنها ما هو على شكل رسائل، كالفرق بين الإسلام والإيمان وملحة الاعتقاد ومنها ما فتاوى كالفتاوى الموصلية والمصرية.
ب- تنوع القضايا التي يتعرض لها الإمام: في المؤلف الواحد من مؤلفاته – غير الرسائل والفتاوى – فنجده أحياناً يتطرق لبحث مسائل تتعلق بالعقيدة، أو التصوف، أو اللغة أو البلاغة وهذا النهج في الاستطراد من الأمور التي اشتهر بها الإمام في تأليفه وتدريسه.(1/625)
ج- تكرير بعض الموضوعات في العديد من مؤلفاته، ولعل ذلك من باب التأكيد عليها تستقر في الأذهان، وترسخ حتى في أضعف العقول، وقد يكون هذا نابعاً من دربته في صحبة القرآن الكريم، فأخذ عنه التكرير لما في التكرير من فوائد، كالتأكيد، وزيادة التنبيه، وتجديد العهد بالموضوع الأول إذا طال الكلام وخشي تناسيه (1)، وها هو الإمام يوضح لنا الغرض من ذلك فيقول: حرصاً على البيان والتقرير في الجنان كما تكررت المواعظ والقصص والأمر والزجر، والوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، وغير ذلك في القرآن، ولا شك أن في التكرير، والإكثار من التقرير في القلوب ما ليس في الإيجاز والاختصار (2) ولا يترك الإمام فرصة للمعترضين على أسلوبه هذا فيرد عليهم قبل أن يواجهوه بأنه: يظن بعض الجهلة الأغبياء أن الإيجاز والاختصار أولى من الأسهاب والإكتار وهو مخطئ في ظنه لما ذكرنا من التكرير في القرآن، والعادة شاهدة بخطئه في ظنه، وما دلت العادة عليه، وأرشد القرآن إليه أولى مما وقع للأغبياء الجاهلين الذين لا يعرفون عادة الله ولا يفهمون كتاب الله (3).
__________
(1) مقاصد الشريعة عند الإمام العز بن عبد السلام ص 52.
(2) قواعد الأحكام (1/ 136).
(3) مقاصد الشريعة عند العز بن عبد السلام ص 52.(1/626)
ح- اهتمامه البالغ بالمقصد العام والأساس للشريعة: وهو، جلب المصالح ودرء المفاسد والتدليل عليه والإكثار من التمثيل له حتى يكون دوماً حاضراً في أذهان المكلفين أثناء أقوالهم وأفعالهم وجميع تصرفاتهم، غير غافلين عنه في أي لحظة من لحظات أعمارهم وهذه الروح – روح المقاصد – تسري في معظم كتبه مثل "قواعد الأحكام" واضحة وضوح الشمس وكذلك في "شجرة المعارف" واضحة بما يعرضه من نماذج وأمثلة تكاد تكون في معظمها وسائل لتحقيق مقاصد الشريعة الغراء وإقامتها في واقع الناس، ولا يقتصر تحقيق المصلحة عند الشيخ العز على المسلم فقط، بل يتعداه إلى الكافر وحتى الحيوان (1) عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: في كل كبد رطبة أجر (2)، قال الشيخ عز الدين: والتخلق بالبسط، أن تبسط برك ومعروفك على كل محتاج حتى على الدواب والكلاب، والذر (3)، وأفرد الباب السابع في كتابه "شجرة المعارف" لبيان أن الإحسان: عبارة عن جلب مصالح الدارين أو إحداهما، ودفع مفاسدهما أو مفاسد إحداهما (4) وتحدث فيه كذلك عن الإحسان القاصر والمعتدي وبين في كتابه: الإمام في بيان أدلة الأحكام وأن الترغيب في الفعل أو التحذير منه، راجع إلى المنافع والمضار (5)، وهذه نظرة كلية منه – رحمه الله – إلى مقاصد الشريعة التي جاءت لتحكم بسلطان الدين الحياة البشرية تحقيقياً لمصالح العباد، ودرء للمفاسد عنهم (6).
خ- كتبه في متناول العالم والجاهل، ولا تحتاج إلى كبير عناء في فهمها لسلاسة تعابيرها وإشراقة عبارتها وكثرة التمثيل، فيها مما يزيد معانيها توضيحاً وبياناً وبهذا يكون قد فاق الشاطبي الذي جعل كتابه: "الموافقات" لفئة خاصة من الناس كما ذكره في المقدمة (7).
__________
(1) المصدر نفسه ص 53.
(2) المصدر نفسه ص 53.
(3) المصدر نفسه ص 54.
(4) المصدر نفسه ص 54.
(5) المصدر نفسه ص 54.
(6) المصدر نفسه ص 54.
(7) المصدر نفسه ص 54.(1/627)
د- توخي أسلوب الوعظ: أحياناً مع تجنب السجع المتكلف رغم فُشوَّه في عصره وقد تحاشاه الإمام حتى في خطبه.
ذ- اعتماده في مؤلفاته على الكتاب والسنة حرصاً منه على التلقي من النبع الصافي، وقلما نجده يعتمد على آراء من سبقه من العلماء اعتداداً بملكته العلمية المستقلة وبلوغه رتبة الاجتهاد وتحرره من قيود المذهبية الضيقة، وقد نص بعض من ترجم له أنه كان في آخر عمره لا يتقيد بالمذهب، بل اتسع نطاقة وأفتى بما أدى إليه اجتهاده (1)، وما ذلك إلا حرصاً منه على توحيد الأمة واجتناب الخلافات.
س- تمتاز كتبه بالطابع العلمي، والتعليقات الدقيقة على النصوص، والنظرات العميقة فيها، استوحاها الإمام من مقاصد الشريعة وأهدافها النبيلة.
ش- استقلاليته في التأليف، وبروز شخصيته شخصية مميزة في استقلالها، مبرزة في نبوغها، قوية في تأثيرها في المجتمع، يظهر ذلك في نبذه للتقليد ودعوته للإجتهاد، واستفادات العز من غيره لم تذهب بشخصيته (2).
ولقد تبوأت مؤلفات عز الدين بن عبد السلام مكانه عالية تجلت في اهتمام السابقين واللاحقين بها ومن مظاهر هذا الاهتمام؛ إشادة السابقين واللاحقين بها، والحرص على نسخها في القديم وطبعها بعد تحقيقها في عهدنا، وتدريس مؤلفاته وتداولها والعمل على شرحها، وكثير من العلماء من ينقل من مؤلفاته عند الاستدلال، مثل ابن كثير، والشاطبي، وابن حجر والمناوي والسيوطي والفتوحي (3) وغيرهم كثير
8 - الشيخ العز بن عبد السلام وتطوير الفقه السياسي والعلاقات الدولية:.
__________
(1) مقاصد الشريعة عند الإمام العز بن عبد السلام ص 55.
(2) المصدر نفسه ص 55.
(3) المصدر نفسه ص 56 إلى 61.(1/628)
رغم أن سلطان العلماء، الفقيه عز الدين بن عبد السلام لم يقصد عند كتابته لمؤلفاته تخصيصها للقانون الدولي والعلاقات الدولية إلا ن مطالعتها تبين لنا انشغاله، بطريقة أو بأخرى، بأمور تدخل في إطارها سواء تعلقت بها مباشرة أو لكونها تمثل قواعد عامة أصولية تنطبق عليها أيضاً وأهم الوسائل التي عالجها ابن عبد السلام تتمثل في الأمور الآتية:
أ- السلطة الحاكمة في نظر عز الدين بن عبد السلام:
عالج الإمام عز الدين بن عبد السلام السلطة الحاكمة، كعنصر من عناصر الدولة الحديثة من زوايا متعددة أهمها.
- ضرورة توفر العدل لدى الحكام:
يقرر عز الدين بن عبد السلام أن العادل من الأئمة والولاة من الحكام، أعظم أجراً من جميع الأنام بإجماع أهل الإسلام، لأنهم يقومون بجلب كل صالح كامل، ودرء كل فاسد شامل (1) واشتراط العدالة يعد أمراً لازماً لتكون وازعة عن الخيانة والتقصير في الولاية ولأن العدل – وهو التسوية لغة مع إعطاء كل ذي حق حقه – يعتبر عنصراً لازماً لحياة أي مجتمع ومع ذلك يقرر العز بن عبد السلام، أن اشتراط العدالة في الإمامة الكبرى فيها اختلاف لغلبة الفسوق على الولاة (2)، فيقرر: ولو شرطناها لتعطلت التصرفات الموافقة للحق في تولية من يولونه من القضاء والولاة والسعادة وأمر الغزوات وأخذ ما يأخذونه، وبذل ما يعطونه، وقبض الصدقات والأموال العامة والخاصة المندرجة تحت ولايتهم، فلم تشترط العدالة في تصرفاتهم الموفقة للحق لما في اشتراطها من الضرر العام وفوات هذه المصالح أقبح من فوات عدالة السلطان (3).
__________
(1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 143).
(2) كتاب الإعلام بقواعد القانون الدولي (13/ 278).
(3) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 79).(1/629)
- تولية الصالح أو الأصلح (مع عزل المريب): يعتبر الحاكم رأس الدولة أو الإقليم الذي يحكمه وبالتالي بات من الواجب أن يكون أصلح من تتوافر فيه الشروط اللازمة للقيام بهذه المهمة لذلك يرى سلطان العلماء أن على الإمام أن يعزل الحاكم إذا أرابه منه شيء، لما في إبقاء المريب من المفسدة، إذ لا يصلح في تقرير المريب على ولاية خاصة، لما يخشى من خيانته فيها، وإذا سلم تكن هناك ريبة، وجب التفرقة بين فروض ثلاثة:
الأول: أن يعزله بمن هو دونه، ففي هذا الفرض لا يجوز عزله لما فيه من تفويت المسلمين المصلحة الحاصلة من جهة فضله على غيره، ولأنه ليس للإمام تفويت المصالح من غير معارض.
الثاني: أن يعزله بمن هو أفضل منه، وهذا جائز لما فيه من تقديم الأصلح على الصالح، ولتحصيل المصلحة الصالحة للمسلمين.
الثالث: أن يعز له بمن يساويه، وهذا جائز في نظر البعض لما له من حق الاختيار عند تساوي المصالح ولما له من حق التخير بينهما في ابتداء الولاية، بينما يرى آخرون عدم جوازه لما فيه من كسر العزل وعاره بخلاف ابتداء الولاية (1).
- التصرفات الصادرة من غير ولاية صحيحة: تعرض العز بن عبد السلام كذلك للتصرفات التي قد تصدر من أشخاص ليس لهم الحق في القيام بها، ولكن نظراً لصدورها في ظروف معينة فإنها تعتبر صحيحة (2)، وقد تعرض لصنفين من التصرفات هما:
- تصرفات الأئمة البغاة: تعتبر هذه التصرفات نافذه مع القطع بأنه لا ولاية لهم، وإنما نفذت تصرفاتهم لضرورة الرعايا، كما أنه إذا نفذ ذلك مع ندرة البغي، فأولى أن ينفذ تصرف الولاة، والأئمة مع غلبة الفجور عليهم وأنه لا انفكاك للناس عنهم (3).
__________
(1) المصدر نفسه (1/ 81).
(2) كتاب الإعلام بقواعد القانون الدولي والعلاقات الدولية (13/ 279).
(3) المصدر نفسه (13/ 379).(1/630)
أ- تصرف الآحاد في الأموال العامة عند جور الأئمة: إذا كانت القاعدة العامة تقضي بأن الأموال العامة لا يتصرف فيها إلا الأئمة ونواياهم، فإنه إذا تعذر قيامهم بذلك وأمكن القيام بها بواسطة فرد أو أكثر جاز ذلك، على أن ذلك مشروط بصرفه إلى مستحقيه على الوجه الذي يجب على الإمام العادل أن يصرفه فيه: بأن يقدم الأهم فالأهم، والأصلح فالأصلح فيصرف كل مال خاص في جهاته أهمها، فأهمها، ويصرف ما وجد من أموال المصالح العامة في مصارفها أصلحها، فأصلحها لأنا لو منعنا ذلك لفاتت مصالح صرف تلك الأموال إلى مستحقيها، فكان تحصيل هذه المصالح ودرء هذه المفاسد أولى من تعطيلها .. وإذا جوز الشرع لمن جحد حقه أن يأخذ من مال جاحده، إذا ظفر به إن كان من جنسه، وأن يأخذه، ويبيعه، إن كان من غير جنسه، مع أن هذه مصلحة خاصة فجواز ما ذكرناه مع عمومه أولى (1).
ب- بعض القواعد التي يمكن تطبيقها في إطار العلاقات الدولية عند الإمام عز الدين بن عبد السلام:
تتميز العلاقات الدولية الحالية بصفتها الاجتماعية وبترابط وتداخل أواصر العلاقات الموجودة بين مختلف أشخاص القانون الدولي، والعلاقات الدولية أو السياسية الخارجية لأي بلد معين تنبع أو يجب أن تنبع، من المصلحة العليا لشعبه مع مراعاة ظروف البيئة التي يتم في داخلها اتخاذ القرار وسنجد – بإذن الله – بأن الإمام عز الدين بن عبد السلام قد عالج بطريقة عامة ما قلناه ويمكن أن نركز فكره حول ثلاثة أفكار أساسية نطلق عليها المسميات الآتية، ترابط العلاقات الدولية، ونظرية تدرج العلاقات الدولية، وأخيراً نظرية الضرورة (2).
- ترابط العلاقات الدولية:
__________
(1) المصدر نفسه (13/ 380).
(2) المصدر نفسه (13/ 380).(1/631)
تقوم العلاقات الدولية المعاصرة على أساس فكرة الترابط أو التداخل أو التشابك والتي يرجع تفسيرها أساساً إلى حاجة أفراد المجتمع الدولي بعضهم لبعض، وإذا كان العز بن عبد السلام لم يتحدث عن المجتمع الدولي صراحة إلا أن ذلك يمكن استنباطه مما قاله في الفقرة الآتية: أعلم أن الله تعالى خلق الخلق وأحوج بعضهم إلى بعض لتقوم كل طائفة بمصالح غيرها، فيقوم بمصالح الأصاغر الأكابر والأصاغر بمصالح الأكابر، والأغنياء، بمصالح الفقراء والفقراء بمصالح الأغنياء، والنظراء بمصالح النظراء، والنساء بمصالح الرجال، والرجال بمصالح النساء، والرقيق بمصالح السادات والسادات بمصالح الرقيق، وهذا القيام منقسم إلى جلب مصالح الدارين أو أحدهما أو إلى دفع مفاسدها أو أحدهما (1).
- ضرورة تدرج العلاقات الدولية لبلد ما: نحن نعتقد أن العلاقات الدولية إذا كانت تتسم حالياً بصفة الشمولية أو الكلية إلا أنها – بالنسبة لبلد معين – يجب أن يتم تخطيطها في إطار ظروف هذا البلد وعلى ضوء إمكانياته ومقدراته، والنتيجة اللازمة والمترتبة على ذلك المفهوم هو منع التهور أو التخبط في رسم أو اتخاذ سياسة خارجية معينة، ولعل ذلك ما قصده الإمام ابن عبد السلام حينما قرر أنه إذا اجتمعت المصالح فإن أمكن تحصيلها حصلناها، وإن تعذر تحصيلها حصلنا الأصلح فالأصلح والأفضل فالأفضل (2)، ويضرب لذلك أمثلة دولية من بينها:
- أن الجهاد لو وجب في الابتداء لأباد الكفرة أهل الإسلام لقلة المؤمنين وكثرة الكافرين.
__________
(1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (2/ 68).
(2) كتاب الإعلام بقواعد القانون الدولي (13/ 381).(1/632)
- أن القتال في الشهر الحرام لو أحل في ابتداء الإسلام لنفروا منه لشدة استعظامهم لذلك وكذلك القتال في البلد الحرام كل ذلك دلالة قاطعة على أنه لا يجوز تقرير شيء أو اتخاذ قرار إلا على ضوء البيئة التي سيطبق فيها ومع مراعاة كافة الظروف والمواقف وأن اتخاذ قرار في إطار العلاقات الدولية قد تحتم الظروف ضرورة تدرجه (1).
- نظرية الضرورة: تعتبر حالة الضرورة من المبادئ المسلم بها في إطار النظرية العامة للقانون وهي مبدأ مطبق في مختلف النظم القانونية، بما في ذلك النظام القانوني الدولي (2)، فالضرورات مناسبة لإباحة المحظورات جلباً لمصالحها، ذلك أنه إذا اجتمعت المفاسد مع تعذر درئها جميعاً درأنا الأفسد فالأفسد والأرذل فالأرذل ويضرب الإمام عز الدين بن عبد السلام مثالاً لذلك بما جرى في إطار العلاقات الدولية أيام الرسول صلى الله عليه وسلم بخصوص صلح الحديبية: فإن قيل لم التزم في صلح الحديبية إدخال الضيم على المسلمين وإعطاء الدنية في الدين؟ قلنا: التزام ذلك دفعاً لمفاسد عظيمة وهي قتل المؤمنين والمؤمنات فاقتضت المصلحة إيقاع الصلح على أن يرد إلى الكفار من جاء منهم إلى المؤمنين وذلك أهون من قتل المؤمنين الخاملين (3).
ج- أسس العلاقات بين المسلمين وغيرهم مع الأعداء في تقدير الإمام عز الدين بن عبد السلام:
تحدث الإمام عز الدين بن عبد السلام عن بعض الأسس التي تحكم العلاقة بين المسلمين وغيرهم وأهم هذه الأسس ما يلي:
__________
(1) المصدر نفسه (13/ 381).
(2) المصدر نفسه (13/ 382).
(3) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 95).(1/633)
- الجزية: اتهم كثير من غير المسلمين الإسلام بأنه دين يهدف إلى تقرير أمور مالية على غير المسلمين تعتبر وسيلة لإجبارهم على الدخول فيه؛ ومن بين هذه الوسائل الجزية التي يدفعها أهل الكتب السماوية ويعتبر ما قال الإمام ابن عبد السلام في هذا الصدد رداً حاسماً: ولا تؤخذ الجزية عوضاً عن تقريرهم على الكفر، وشتمه ونسبته إلى مالا يليق بعظمته، ومن ذهب إلى ذلك فقد أبعد، وإنما الجزية مأخوذة عوضاً عن حقن دمائهم وصيانة أموالهم وحرمهم وأطفالهم، مع الذب عنهم إن كانوا في ديارنا، وليست مأخوذة عن سكن دار الإسلامُ إذ يجوز عقد الذمة مع تقريرهم في ديارهم (1).
- مراعاة القواعد الإنسانية: تلعب قواعد القانون الدولي الإنساني الآن دوراً هاماً في إطار المنازعات المسلحةن باعتبار أنها تهدف إلى تجنيب المشتركين فيها أو الذُين قد يتورطون، بطريقة أو بأخرى في إرتكابها أو يتعرضون لويلاتها، لمظاهر المعاناة غير المفيدة باعتبار أنهم في النهاية كائنات بشرية يجب احترام آدميتها لذلك يقرر مثلاً الإمام عز الدين بن عبد السلام: إذا اختلط قتلى المسلمين بقتلى الكفار فإنا نغسل الجميع ونكفنهم توسلاً إلى إقامة حقوق المسلمين من الغسل والدفن والتكفين، وكذلك إذا تعارضت شهادتان في كفر الميت وإسلامه فإنا نغسله ونكفنه ونصلي عليه وندفنه في قبور المسلمين (2).
ويضيف الإمام في موضع آخر عدم جواز قتل غير المشاركين في الحرب إلا إذا دعت إلى ذلك ضرورة فيقول: قتل الكفار من النساء والمجانين والأطفال مفسدة، لكنه يجوز إذا تترس بهم الكفار بحيث لا يمكن دفعهم إلا بقتلهم (3).
__________
(1) المصدر نفسه (1/ 110).
(2) المصدر نفسه (2/ 20).
(3) كتاب الإعلام بقواعد القانون الدولي (13/ 384).(1/634)
- أسرى الحرب: غالباً ما يترتب على الحرب وقوع أسرى من الجانبين أو على الأقل من جانب واحد، ودائماً ما تبذل محاولات من أطراف محايدة لحمل الأطراف المتحاربة على إجراء عمليات تبادل الأسرى بالعدد وفي المكان المتفق عليه، وللإمام عز الدين بن عبد السلام رأي في هذا الصدد، إذ يقول: وقد تجوز المعاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان لا من جهة كونه معصية، بل من جهة كونه وسيلة إلى مصلحة وله أمثلة منها ما يبذل في افتكاك الأسارى فإنه حرام على آخذيه مباح لباذليه وليس هذا على التحقيق معونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان وإنما هو إعانة على درء المفاسد، فكانت المعاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان فيها تبعاً لا مقصوداً (1).
ح- استيلاء الأعداء على إقليم من أقاليم المسلمين:
- أثر تصرفات سلطة الاحتلال في مجال الإدارة والقضاء:
من آثار الحرب المحتملة قيام أحد الطرفين بالاستيلاء على جزء من إقليم الطرف الآخر، وقد يقوم المحتل بإجراء تغييرات في الإدارة والقضاء والتشريع بما يتفق ونزعته الإحتلالية وبما يضمن له الإستقرار والولاء وقد عالج الإمام عز الدين أحد المظاهر بقوله: ولو استولى الكفار على إقليم عظيم فولوا القضاء، لمن يقوم بمصالح المسلمين العامة، فالذي يظهر، إنفاذ ذلك كله جلباً للمصالح العامة ودفعاً للمفاسد الشاملة، إذ يبعد عن رحمة الشرع ورعايته لمصالح عباده تعطيل المصالح العامة وتحمل المفاسد الشاملة لفوات الكمال فيمن يتعاطى توليتها لمن هو أهل لها، وفي ذلك احتمال بعيد (2).
- موقف ابن عبد السلام من احتلال إقليم مسلم:
__________
(1) المصدر نفسه (13/ 384) نقلاً عن قواعد الأحكام في مصالح الأنام.
(2) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (13/ 385).(1/635)
قدم العز بن عبد السلام سلطان العلماء سنة 639هـ إلى مصر من دمشق بسبب أن سلطانها الصالح إسماعيل استعان بالفرنج وأعطاهم مدينة صيدا وقلعة الشقيف، فأنكر عليه الشيخ عز الدين وترك الدعاء، له في الخطبة، وساعده في ذلك الشيخ جمال الدين أبو عمر المالكي، فغضب منهما السلطان، فخرجا إلى الديار المصرية، فأرسل السلطان إلى الشيخ عز الدين وهو في الطريق قاصد يتطلف به في العودة إلى دمشق، فاجتمع به ولاينه، وقال له: ما نريد منك شيئاً إلا أن تنكسر للسلطان وتقبل يده لا غير، فقال له الشيخ: يا مسكين، ما أرضاه يقبل يدي فضلاً عن أن أقبل يده يا قوم أنتم في واد وأنا في واد والحمد لله الذي عافانا مما ابتلاكم به (1).
- ضرورة الإنشغال بالأعداء وعدم محاربة المسلمين: هناك موقف آخر مشهور للعز بن عبد السلام يتمثل في المبدأ القاضي بضرورة: الإنشغال بالأعداء، ومحاربتهم بدلاً من الإلتفات للمسلمين ومعاداتهم، ذلك أنه لما مرض الملك الأشرف من بني أيوب أرسل للشيخ يتحلل ويسأله أن يعوده ويوصيه بما ينفعه، فأنعم الشيخ وكان السلطان قد وقعت بينه وبين أخيه الكامل وحشة فأمر وهو في مرضه أن ينصب دهليزه صوب مصر: فقال الشيخ للسلطان: إن الملك الكامل أخوك الكبير ورحمك وأنت مشهور بالفتوحات، والتتار قد خاضوا بلاد المسلمين فتترك ضرب دهليزك إلى أعداء الله وأعداء الإسلام وتضربه صوب أخيك؟ غير الحال ولا تقطع رحمك وانو مع الله نصر دينه، وإعزاز كلمته فإن منّ الله بعافيتك رجونا من الله إدالتك على الكفار وكانت في ميزانك هذه الحسنة العظيمة، وإن قضى الله بانتقالك كان السلطان في خفارة نيتك، فقال جزاك الله خيراً عن إرشادك ونصيحتك، وأمر بنقل دهليزه صوب التتر (2).
__________
(1) كتاب الإعلام بقواعد القانون الدولية (13/ 385).
(2) المصدر نفسه (13/ 387).(1/636)
س- حقوق الإنسان عند الإمام ابن عبد السلام: تعرض الإمام ابن عبد السلام للعديد من مسائل حقوق الإنسان، يمكن أن تجمعها في أمرين؛ مسؤولية السلطة الحاكمة، وأنواع حقوق الإنسان.
- مسؤولية السلطة الحاكمة: يقول ابن عبد السلام: وأما ولاة السوء وقضاة الجور فمن أعظم الناس وزراً وأحطهم درجة عند الله لعموم ما يجري على أيديهم من جلب المفاسد العظام ودرء المصالح الجسام، وإن أحدهم ليقول الكلمة الواحدة، فيأثم بها ألف إثم وأكثر على حسب عموم مفسدة تلك الكلمة، وعلى حسب ما يدفعه بتلك من مصالح المسلمين، فيالها من صفقة خاسرة وتجارة بائرة (1). ويشير ابن عبد السلام إلى أمر هام يعاجل نفوس كثير من الحكام وهو وقوعهم في المظالم فيحثهم على فعل العدل وترك الظلم حيث ابن عبد السلام: أن ما فوتوه من الأموال مضمون عليهم في الدين، فإن فنيت حسناتهم طرح عليهم من سيئات من ظلموه وكذلك الحكم في الدماء والإبضاع والأعراض وفيما أخروه من الحقوق التي يجب تقديمها أو قدموه من الحقوق التي يجب تأخيرها فقد قال رب العالمين: "ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً".
- تقسيمات الحقوق والأمور التي تتعلق بها:
يقسم ابن عبد السلام حقوق الرب وحقوق العباد أقسام: أحدها متساوي وثانيها متفاوت، والثالث مختلف في تساويها وتفاوتها.
- فقد تطرق إلى تقديم حقوق بعض العباد على بعض لترجيح التقديم على التأخير في جلب المصالح ودرء المفاسد، مثال ذلك تقديم نفقة زوجه وكسوتها وسكناها على نفقة أصوله وكسوتهم وسكناهم.
- وأشار ابن عبد السلام أيضاً إلى حالة التساوي في حقوق العباد، فيتخير فيه المكلف جمعاً بين المصلحتين ودفعاً للضررين، مثال ذلك التسوية بين الزوجات في القسم والنفقات وتسوية الحكام بين الخصوم في المحاكمات (2).
__________
(1) كتاب الإعلام بقواعد القانون الدولي (13/ 387).
(2) المصدر نفسه (13/ 387).(1/637)
- وأشار كذلك إلى تقديم حقوق الرب على حقوق عباده إحساناً إليهم في أخراهم، مثال ذلك التغرير بالنفوس والأعضاء في قتال من يجب قتاله.
- وأشار أيضاً إلى تقديم بعض حقوق العباد على حقوق الرب رفقاً بهم في دنياهم، كالأعذار المجوزة لقطع الصلوات ولترك الجهاد (1).
وتعرض ابن عبد السلام لأمور أخرى تتعلق بحقوق الإنسان منها:
- قاعدة لا يجوز تعطيل الإنسان عن منافعه وأشغاله إلا ما استثنى كاستدعاء الحاكم للمدعي بناء على طلب خصمه، أو استدعائه للشهود (2).
- ويقول ابن عبد السلام: إنما شرعت القرعة عند تساوي الحقوق دفعاً للضغائن والأحقاد، وللرضا، بما جرت به الأقدار وقضاء الملك الجبار (3)، وتعليقاً على قوله تعالى: "ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن" يقول ابن عبد السلام: وإذا كان هذا في حقوق اليتيم فأولى أن يثبت في حقوق عامة المسلمين فيما يتصرف فيه دائماً من الأموال العامة، لأن اعتناء الشرع بالمصالح العامة أوفر وأكثر من اعتنائه بالمصالح الخاصة (4).
- قواعد ومبادئ أخرى قررها ابن عبد السلام: يمكن إيجاز بعض القواعد والمبادئ التي قررها ابن عبد السلام، والتي يمكن الاستفادة منها في مجال القانون الدولي والعلاقات الدولية، كما يلي:
__________
(1) المصدر نفسه (13/ 13/387) نقلاً عن قوعد الأحكام.
(2) المصدر نفسه (13/ 387) المصدر نفسه.
(3) كتاب الإعلام بقواعد القانون الدولي (13/ 389).
(4) المصدر نفسه (13/ 390) نقلاً عن قواعد الأحكام (2/ 89).(1/638)
- قاعدة: وأما مصالح الدنيا وأسبابها، ومفاسدها فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات، فإن خفي شيء من ذلك طلب من أدلته، ومن أراد أن يعرف المتناسبات والمصالح والمفاسد راجحها ومرجوحها، فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن المسرع لم يرد به ثم يبني عليه الأحكام فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك، وبذلك تعرف حسن الأعمال وقبحها.
- الإمام والحكم: إذ أتلف شيئاً من النفوس أو الأموال في تصرفها للمصالح فإنه يجب على بيت المال دون الحاكم والإمام ودون عواقلهما لأنها لما تصرفا للمسلمين صار كأن المسلمين هم المتلفون ولأن ذلك يكثر في حقهما فيتضررون به ويتضرر عواقلهما ..
- ويرى ابن عبد السلام: أن من أمثلة الأفعال المشتملة على المصالح والمفاسد مع رجحان مصالحهما على مفاسدها؛ وجوب إجارة رسل الكفار مع كفرهم، لمصلحة ما يتعلق بالرسالة من المصالحة الخاصة والعامة، ولعل ابن عبد السلام يكون - بهذه القاعدة الأخيرة، قد أشار إلى مبدأ حصانة وحرمة السفراء والمبعوثين الدبلوماسيين وهو مبدأ استقر عليه القانون الدولي المعاصر (1).
هذه بعض الخطوط العريضة فيما يتعلق في جهد الشيخ عز الدين في تطوير قواعد القانون الدولي والعلاقات الدولية.
__________
(1) المصدر نفسه (13/ 391).(1/639)
سادساً: أعماله في التدريس والإفتاء والقضاء والخطابة:
1 - في التدريس: قام العز بن عبد السلام بالتدريس في مدارس دمشق ومساجدها، وهو أول عمل قام به العز رحمه الله وأول مدرسة عمل بها هي المدرسة العزيزية حيث كان للعز مجلس فيها يدرس فيه العلوم الشرعية، كما كان يدرس فيها الآمدي ت 631هـ واستمر العز في التدريس مع استاذه الآمدي وبعده، كما درس في المدرسة الشبلية، ثم تولى التدريس في الزاوية الغزالية وهي مكان صغير، بجانب الجامع الأموي من جهة الغرب وسميت بذلك نسبة إلى الإمام الغزالي ت 505هـ، كان يعتكف فيها، ثم استعملت للعبادة والتدريس والأذكار، وتولى العز التدريس فيها بعد وفاة شيخها جمال الدين الدولعي سنة 635هـ (1)، ومع علمه ونبوغه وذيوع صيته، وبروزه على الأقران، حتى إنه كان مفتياً قبل هذا التاريخ، والتدريس مرحلة متقدمة على الإفتاء، فلابد أن يكون العز قام بالتدريس قبل تولية الملك الكامل له في سنة 635هـ وبعد هجرته إلى مصر ولاه السلطان التدريس في الصالحية (بالقاهرة) وكانت مدرسة كبيرة خصصت لتدريس المذاهب الأربعةن فأسند تدريس المذهب الشافعي، للإمام العز رحمه الله فبقي إلى أن توفي 660هـ ولم يكتف بالتدريس فيها، بل عقد حلقات العلم في المساجد وقصده الطلاب من الآفاق، وتخرج عليه في هذه الفترة معظم تلامذته الذين بزوا الأقران كابن دقيق العيد، والدمياطي، وغيرهم ممن سبق ذكرهم، وقد عرض عليه الملك الظاهر بيبرس بعد بنائه المدرسة الظاهرية أن يتولى أمر التدريس فيها إضافة إلى تدريسه في الصالحية، فأبى وقال: إن معي تدريس الصالحية، فلا أضيق على غيري، وسأله الملك أن يشترط في وقفها أن يكون التدريس لأولاده فقال: إن في هذا البلد من هو أحق منهم، فقال: لابد أن يكون لهم فيها وظيفة بالشرط، ففكر وقال: إن كان لابد فتكون الإمامة، فشرط لهم (2)،
__________
(1) طبقات السبكي (8/ 242) فتاوى شيخ الإسلام عز الدين ص 131.
(2) طبقات الفقهاء للأسنوي (2/ 197) ..(1/640)
وقد عرض عليه الظاهر بيبرس أيضاً أن يعين مناصبه لمن يريد من أولاده فقال: ما فيهم من يصلح، وهذه المدرسة الصالحية تصلح للقاضي تاج الدين ابن بنت الأعز (1)، وكان أحد تلاميذه فضرب مثلاً نادراً في الحرص على الدين والورع، وعدم إيثاره أولاده على مصلحة المسلمين، فأسند الأمر إلى أهله ومن هو أهله، وكان العز رحمه الله مجيداً في تدريسه، جاداً في عطائه وقد أثنى أبو الحسن الشاذلي على مجلس العز بن عبد السلام فقال: ... ما على الأرض مجلس في الفقه أبهى من مجلس الشيخ عز الدين بن عبد السلام (2). وكان مهيباً وقوراً، مع حسن محاضرة وبشاشة، لا يهتم بمظهر ولا ملبس، فقد كان يلبس قبع لباد، ويحضر فيه المواكب السلطانية، وأحياناً يلبس العمامة دون تكلف أو تصنع (3)، ويعطي درسه مسترسلاً وهو أول من درس التفسير في حلقاته، كما درّس الفقه والأصول وغيرها من العلوم الشرعية وفاق أقرانه حتى قال ابن الحاجب أحد أقرانه: ابن عبد السلام أفقه من الغزالي (4).
__________
(1) فوات الوفيات (1/ 596).
(2) حسن المحاضرة (1/ 127) فتاوى عز الدين بن عبد السلام ص 129.
(3) طبقات السبكي (8/ 214) فتاوى عز الدين بن عبد السلام ص 129.
(4) طبقات السبكي (8/ 214) المصدر نفسه ص 129.(1/641)
2 - الإفتاء: لقد مارس الإمام العز الإفتاء بدون تعيين من ملك أو سلطان، بل إن هذا المنصب الرفيع لم يكن يخضع لمراسيم الملوك، وإنما هو مهمة يقوم بها العالم إذا رأى نفسه أهلاً لذلك، وقال العز رحمه الله في أيام محنته مع الملك الأشرف: أما الفتيا فإني كنت والله متبرماً منها وأكرهها وأعتقد أن المفتي على شفير جهنم، ولولا أني أعتقد أن الله أوجبها علي لتعينها على في هذا الزمان لما كنت تلوثت بها (1)، والآن قد عذرني الحق، وسقط عني الوجوب وتخلصت ذمتي ولله الحمد والمنة. كان هذا الكلام قاله العز لمن جاء من طرف السلطان يبلغه بعزله عن الإفتاء، وزاد العز فقال لرسول السلطان: يا غرز، من سعادتي لزومي لبيتي، وتفرغي لعبادة ربي والسعيد من لزم بيته وبكي على خطيئته واشتغل بطاعة الله تعالى وهذا تسليك من الحق، وهدية من الله - تعالى - إلىَّ أجراها على يد السلطان وهو غضبان وأنابها فرحان، والله يا غرز لو كانت عندي خلعة تصلح لك على هذه الرسالة المتضمنة لهذه البشارة لخلعت عليك، ونحن على الفتوح، خذ هذه السجادة صلَّ عليها، فَقبِلها وقبَّلها، وودعه وانصرف إلى السلطان، وذكر له ما جرى بينه وبينه فقال لمن حضره، قولوا لي ما أفعل به، هذا رجل يرى العقوبة نعمة اتركوه بيننا وبينه الله (2)
__________
(1) طبقات السبكي (8/ 237) المصدر نفسه ص 129.
(2) العز بن عبد السلام حياته وآثاره ومنهجه ص 56 ..(1/642)
وبقى العز على تلك الحال ثلاثة أيام، ثم إن الشيخ العلامة جمال الدين الحصري شيخ الحنفية في زمانة ذهب إلى الأشرف فقال له: إيش بينك وبين ابن عبد السلام" وهذا رجل لو كان في الهند، أو في أقصى الدنيا كان ينبغي للسلطان أن يسعى في حلوله في بلاده لتتم بركته عليه وعلى بلاده ويفتخر به على سائر الملوك وكان لتدخل الشيخ جمال الدين الحصري أثر في احترام وتقدير الشيخ العز حتى أن السلطان قال: نحن نستغفر الله مما جرى، ونستدرك الفارطة في حقه، والله لأجعلنه أغنى العلماء، وأرسل إلى الشيخ واسترضاه وطلب محاللته ومخاللته (1)، فكان بعد ذلك يأخذ بفتواه ومشورته وقد طلبه في مرض موته كما ذكرنا وسأله محاللته ونصحه، فنصحه العز بأن يحول عسكره الذين استعدوا لقتال أخيه الملك الكامل حاكم مصر إلى جهة العدو المشترك التتار، وكانوا قد ظهروا في شرق بلاد الإسلام في ذلك الوقت، فأمر الأشرف بذلك كما نصحه بإبطال المنكرات التي يرتكبها نوابه من الزنا وإدمان الخمور وتمكيس المسلمين، وظلم الناس، فأمر الأشرف بإبطال ذلك، كما باشر العز بنفسه تبطيل بعضها وبعد هذه النصيحة قال الأشرف: جزاك الله عن دينك وعن نصائحك وعن المسلمين خيراً، وجمع بيني وبينك في الجنة بمنه وكرمه، وأطلق له ألف دينار مصرية، فردها عليه، وقال: هذه اجتماعه لله لا أكدرها بشيء من الدنيا (2)،
__________
(1) طبقات السبكي (8/ 218) العز بن عبد السلام للوهيبي ص 56.
(2) العز بن عبد السلام للوهيبي ص 57 طبقات السبكي (8/ 241) ..(1/643)
ثم لم يمض أخوه الصالح إسماعيل تبطيل المنكرات وكان نائبه يومئذ، ثم استقل بالملك بعد موته ثم لم يلبث إلا يسيراً حتى قدم أخوه الملك الكامل من الديار المصرية بجيوشه إلى دمشق وحاصر أخاه إسماعيل، ثم اصطلح معه، وأكرم الكامل العز غاية الإكرام وقد اجتمع مع العز بحضور أخيه إسماعيل، فقال الكامل: إن هذا له غرام برمى البندق، فهل يجوز له ذلك؟ فقال الشيخ: بل يحرم عليه، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عنه، وقال: إنه يفقئ العين ويكسر العظم (1)، فيلاحظ أن ملوك بني أيوب كانوا يعزون الشيخ ويكرمونه غاية الإكرام ويحبون مجالسته والاستماع إلى نصحه، والعمل بمشورته، بما فيه خير الإسلام والمسلمين، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ولا يهابهم ولا يجاملهم (2)، وقد اشتهر العز بالإفتاء حتى أن الناس كانت ترد عليه من البلاد لتستفتيه، كما أن شهرته بذلك قد وصلت إلى مصر قبل أن يذهب إليها بدليل أنه لما ذهب إليها سنة (639هـ) امتنع مفتيها الحافظ المنذري من الفتيا وقال: كنا نفتي قبل حضور الشيخ عز الدين، وأما بعد حضوره فمنصب الفتيا متعين عليه (3)، وقد بادله العز نفس الإكرام والتقدير فامتنع عن التحديث لوجود حافظ عصره المنذري، وكان كل منهم يجل الآخر ويحضر دروسه (4). وكان العز حريصاً كل الحرص في فتاويه يتحرى الدقة فيها حتى أنه مّرة أفتى بشيء ثم تبين أنه أخطأ فنادى في الأسواق في مصر والقاهرة على نفسه: أنه من أفتاه فلان بكذا فلا يعمل به فإنه (5)
__________
(1) المصدر نفسه ص 57 نقلاً عن طبقات السبكي.
(2) العز بن عبد السلام للوهيبي ص 57.
(3) الشيخ العز بن عبد السلام حياته وآثاره ص 57.
(4) فتاوي الشيخ عز الدين بن عبد السلام ص 129.
(5) المصدر نفسه ص 133 ..(1/644)
خطأ وهذا يدل على شدة ورعه ومراقبته لله وخشيته منه، وحرصه الشديد أن لا يضل أحد من عباد الله بسببه ولم يأبه لمن سيوصمه بالجهل وعدم المعرفة، لأنه آثر الآخرة على الدنيا، وثواب الله على مدح الناس، لذلك أكرم الله سبحانه، وجعل له القبول في قلوب عباده، فقصد بالفتوى من سائر البلاد (1)، وسارت فتاويه مع الركبان وتحدث الناس بها وعملوا بها من الخلفاء والملوك والسلاطين إلى العامة والضعفاء والمساكين وترك لنا تراثاً في الفتاوى، سميت بعضها بالفتاوى المصرية والأخرى بالفتاوى الموصلية وقد قال عنه ابن كثير: انتهت إليه رئاسة المذهب، وقصد بالفتوى، سائر الآفاق، ثم كان في آخر عمره لا يتعبد بالمذهب، بل اتسع نطاقه وأفتى بما أدى إليه اجتهاده (2).
__________
(1) المصدر نفسه ص 123، 130.
(2) البداية والنهاية (17/ 442).(1/645)
3 - القضاء: ذكر ابن السبكي عن رسالة ولد العز الشيخ عبد اللطيف في أخبار والده، أن الملك الكامل لما حاصر دمشق واستولى عليها من أخيه الملك الصالح إسماعيل ولى والده الشيخ تدريس زاوية الغزالي بجامع دمشق، وذكرَّ بها الناس، ثم ولاة قضاء دمشق بعدما اشترط عليه الشيخ شروطاً كثيرة ودخل في شروطه، ثم عينه للرسالة إلى الخلافة المعظمة، ثم اختلسته المنية رحمه الله في 22 رجب سنة 635هـ، فكانت مدة ملكه دمشق شهرين ونصف تقريباً (1)، وذكر الداودي: أن الكامل وَلىَّ الشيخ تدريس الزاوية الغزالية بجامع بني أمية وعزم على ولايته قضاء دمشق، وإرساله في الرسالة إلى بغداد، فمات دون إمضاء ذلك بدمشق (2)، فعباره الداودي، تفيد أن الشيخ لم يتول منصب القضاء، ولم يقم بالرسالة، لأن الكامل مات قبل تنفيذ ذلك الأمر، بينما عبارة ولده تخالف ذلك حيث أفادت أنه تولى القضاء، وليست قاطعة بذلك، فهي محتملة أنه عينه، ولم يباشر حيث مات الكامل بعد شهرين ونصف وجاء بعده أخوه الملك إسماعيل فلم ينفذ ذلك وهذا الاحتمال هو الراجح ويقويه نص عبارة الداودي، ولو أن الدكتور رضوان أطلع على هذا النص لما قال: ولعل عز الدين بقي في منصب قضاء دمشق برهة من الزمن خلال هذه الفترة القصيرة من حكم الكامل لدمشق، إذ كم بعد أخوه الصالح إسماعيل، ولم يكن يعجب بالشيخ، ولا يرضى أن يبقيه في القضاء، وقد حرم عليه اللعب بالبندق ولعل قصر فترة بقائه بهذا المنصب جعل أصحاب التراجم، وابن طولون لا يذكرونه بين قضاة دمشق (3)
__________
(1) ذيل الروضتين لأبي شامة ص 166 الشيخ العز بن عبد السلام للوهيبي ص 58.
(2) العز بن عبد السلام للوهيبي ص 58.
(3) المصدر نفسه ص 58 ..(1/646)
ولما هاجر إلى مصر أسند إليه الملك نجم الدين أيوب الخطابة، والقضاء حيث توفي قاضي قضاة مصر شرف الدين بن عين الدولة سنة 639هـ، فولى السلطان العز القضاء مكانة وحدد له قضاء مصر والصعيد وأبقى قضاء القاهرة والوجه البحري مع قاضي غيره، كما فوّض إليه مع القضاء الإشراف على عمارة المساجد المهجورة في مصر والقاهرة، وسار بالعدل والإنصاف ورفع الجور والحيف مهما كلفه الثمن (1).
4 - الخطابة: لما تولى الشيخ عز الدين الخطابة بدمشق أزال كثيراً من البدع التي كان يفعلها الخطباء من دق السيف على المنبر، ولبس السواد، والسجع المتكلف، والثناء على الملوك، بما ليس فيهم، بل كان يدعو لهم، وأبطل صلاتي الرغائب والنصف من شعبان، وقد وقع بينه وبين ابن الصلاح ت 643هـ خلاف ووحشة بسبب صلاة الرغائب، لأنه كان يؤيدها واستمر العز في خطبة بالجامع الأموي سنة ونيفا حتى عزله الصالح إسماعيل بسب إنكاره عليه تحالفه مع الصليبيين سنة 638هـ (2) ولما هاجر إلى مصر استقبلها صاحبها نجم الدين أيوب أعظم استقبال، وقربه وأدناه وأكرمه وولاه خطابة جامع عمرو بن العاص، وقد قام بمهمته أعظم قيام، وأدى رسالة المسجد التي عاش من أجلها على أحسن وجه، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، صادعاً بالحق، منكراً للباطل، وكان حريصاً أن لا يعزل نفسه عن الخطابة، كما فعل في عزل نفسه عن القضاء، لأنه لا يخشى الحيف وظلم الناس في الخطابة خلافاً للقضاء وكان الملك نجم الدين يخشى من سلاطة لسانه وجرأته لذلك سارع إلى عزله عن الخطابة، عندما عزل نفسه عن القضاء بعد حادثة إسقاط عدالة وزيره معين الدين ابن شيخ الشيوخ (3)، وتولى الخطابة بعده المجد الأحميمي (4)، كما سيأتي معنا بإذن الله تعالى.
__________
(1) فتاوى شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام ص 127.
(2) المصدر نفسه ص 125.
(3) فتاوى شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام ص 127.
(4) المصدر نفسه ص 127.(1/647)
سابعاً: أهم صفات العز بن عبد السلام:
تميزت شخصية الشيخ عز الدين بن عبد السلام بمجموعة من الصفات من أهمها:
1 - الشجاعة: من الصفات التي لازمت العز بن عبد السلام طيلت حياته الشجاعة في الحق ذلك لأنه كان مع الحق يدور حيث دار، وما قصته مع نائب السلطان عندما عزم على بيع المماليك إلا دليل ساطع على شجاعته، وجرأته وأنه لا يخاف في الله لومة لائم، ولا يخشى سلطانا، ولا يهاب الموت في سبيل الله وقد ذكر ابن السبكي: أن جماعة من المفسدين قصدوه في ليلة معتمة وهو في بيت عالم في بستان متطرف عن البساتين وأحاطوا بالبيت، فخاف أهله خوفاً شديداً، فعند ذلك نزل إليهم، وفتح باب البيت، وقال: أهلاً بضيوفنا، وأجلسهم في مقعد حسن، وأخرج لهم ضيافة حسنة فتناولوها وطلبوا منه الدعاء، إذ كان مهيباً له موقع حسن في القلوب فهابوه وعصم الله أهله وجماعته منهم بصدق نيته وكرم طويته وانصرفوا عنه (1) ومن المواقف التي تدل على شجاعته.
__________
(1) طبقات السبكي (8/ 229) فتاوى شيخ الإسلام ص 109.(1/648)
- إنكاره على الملوك التنازل عن ديار المسلمين وعقد الصلح مع الصليبيين المعتدين:
لما تحالف الصالح إسماعيل مع الصليبيين، وأسلمهم قلعة صفد وقلعة الشقيف، وصيدا، وبعض ديار المسلمين؛ ليساعدوه على الصالح نجم الدين أيوب، حاكم مصر، لأن الصالح إسماعيل خاف منه، فكاتب الفرنجة، ليساعدوه ضد ابن أخيه حاكم مصر، فكان الثمن تسليم ديار المسلمين، وتطبيع العلاقات وفتح الحدود، فدخل الصليبيون دمشق (1) وكان ذلك في عام 638هـ وزيادة على ذلك أذن الصالح إسماعيل للصليبيين بدخول دمشق لشراء السلاح لقتال المسلمين في مصر، وهذه خيانة عظمى، واستسلام ذليل، وخروج عن الدين والشرع، وجاء دور الشيخ العز الذي يغضب لله، وينتصر لدينه، ويدافع عن أرض الإسلام وحقوق المسلمين، ويجاهر بالنهي عن المنكر لا يخشى في الله لومة لائم، وتصدى كالأسد الهصور للمواجهة والنزال، وشق عليه ما حصل مشقة عظيمة وبدأت الجولة الأولى باستفتاء الشيخ العز في مبايعة الفرنج للسلاح، فقال: يَحْرم عليكم مبايعتهم، لأنكم تتحققون أنهم يشترونه، ليقاتلوا به إخوانكم المسلمين، ثم صعد الشيخ العز منبر المسجد الأموي الكبير، وذمَّ موالاة الأعداء، وقبّح الخيانة وذمَّ الأعمال المشينة التي حصلت، وشنَّع على السلطان، وقطع الدعاء له بالخطبة وصار يدعو أمام الجماهير بما يوحي بخلعه واستبداله، ويقول: اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رَشَداً، تُعِزّ فيه وليَّك وتذل فيه عدوك وُيعمل فيه بطاعتك ويُنهى فيه عن معصيتك والناس يبتهلون بالتأمين والدعاء للمسلمين، والنصر على أعداء الله الملحدين (2).
__________
(1) صفحات مطوية من حياة سلطان العلماء ص 19.
(2) طبقات الشافعية (8/ 243) العز بن عبد السلام للزحيلي ص 176.(1/649)
وكان الملك الصالح إسماعيل خارج دمشق، فلما وصله الخبر أحسَّ بالخطر الذي يحدق به والثورة المتوقعة عليه، فسارع إلى إصدار الأمر الكتابي بعزل الشيخ العز من الخطابة والإفتاء وأمر باعتقاله، واعتقال الشيخ ابن الحاجب المالكي الذي شاركه الأنكار على فعل السلطان ولما قدم إسماعيل إلى دمشق أفرج عنهما، وألزم الشيخ العز بملازمة داره، وألا يفتي (1).
__________
(1) المصدر نفسه (8/ 243) المصدر نفسه ص 176.(1/650)
- العز يرفض المساومة، ولو قبَّل السلطان يده:
توجه الصالح إسماعيل إلى مصر، تحرسه الجيوش الصليبيةَّ الحاقدة، ليحارب الصالح أيوب، وكأنه تأسف لإطلاق الشيخ وأوجس في نفسه خيمته، فأرسل إلى سلطان العلماء بعض أعوانه وأمره أن يستنزله على وجه السياسة في زعمه، ليقع منه مداهنة، ولو في بعض الأوقات أو في بعض الأحوال، فقال السلطان لرسوله: تتلطَّف به غاية التلطَّف، وتستنزله وتعده بالعودة إلى مناصبه على أحسن حال؛ فإن وافقك فتدخل به علي، وإن خالف، فاعتقله في خيمنه إلى جانب خيمتي، فلما اجتمع رسول السلطان مع سلطان العلماء، شرع في مسايسته وملاينته، ثم قال له: بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وزيادة، أن تنكسر للسلطان وتقَّبل يده لاغير. فقال له: يا مسكين، ما أرضاه أن يقبل يدي، فضلاً أن أقبَّل يده، ياقوم، أنتم في وادٍ، وأنا في واد والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به، فقال له: قد رسم لي إن لم تُوافق على ما يطلب منك وإلا اعتقلتك فقال: فعلوا ما بدا لكم، فأخذه واعتقله في خيمة إلى جانب خيمة السلطان (1)، فأخذ سلطان العلماء - رحمه الله - يقرأ القرآن، والسلطان يسمع، فقال يوماً لملوك الصليبيين: أتسمعون هذا الشيخ الذي يقرأ القرآن؟ قالوا: نعم. قال السلطان - هذا أكبر قسوس المسلمين، وقد حبسته، لإنكاره علي تسليمي لكم حصون المسلمين، وعزلته عن الخطابة بدمشق، وعن مناصبه، ثم أخرجته، فجاء القدس وقد جددت حبسه واعتقاله لأجلكم (2). فقال ملوك الفرنجة: والله لو كان هذا قسيسنا؛ لغسلنا رجليه، وشربنا مرقتها (3) ولله در القائل:
ومَن يَهُن يَسْهُلُ الهوان عليه ... ما لِجُرحٍ بميَّتٍ إبلام
ثم جاءت الجيوش الإسلامية من مصر، ففرَّقوا عساكر الصليبيين، ونصر الله أهل طاعته، وخذل المنافقين، ونجّى الله الشيخ من كيد الشيطان وحزبه، ودخل مصر (4) آمناً.
__________
(1) صفحات مطوية من حياة سلطان العلماء.
(2) المصدر نفسه ص 27
(3) المصدر نفسه ص 26.
(4) المصدر نفسه ص 26.(1/651)
- نصحه للملوك: دخل سلطان العلماء العز بن عبد السلام يوم العيد القلعة، والسلطان نجم الدين أيوب بن الكامل في زينته، وجنوده بين يديه، وأمراء الدولة تقبَّل الأرض له؛ فالتفت سلطان العلماء إليه منادياً باسمه المجرَّد: يا أيُّوبُ؛ ما حُجَّتُك عند الله، إذا قال لك: ألم أُبَوَّئ لك مصر، تبيح الخمور؟ فتجاهل أيوب حقيقة السؤال تجاهل العارف وتنمُّرَ المريب قائلاً: هل جرى هذا؟ فرفع الشيخ عز الدين بن عبد السلام صوته: نعم، الحانة الفلانية يُباع فيها الخمور، وغيرها من المنكرات وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة. فقال: سَّيدي هذا أنا ما عملته، هذا من زمن أبي، فأجابه الشيخ عز الدين: أنت من الذين يقولون: "إنا وجدنا آباءنا على أمة ويتسلل الرعب إلى نفس السلطان؛ فيرسم بإبطال بتلك الحانة وبدأ الناس يتساءلون عن سر هذه الجرأة ويوجَّه هذا الاستغراب والتساؤل إلى سلطان العلماء على لسان تلميذه الباجي:
يا سيدي؛ كيف الحال؟ فقال الشيخ - رحمه الله: يا بني رأيته في تلك العظمة، فأردت أن أهينهُ، لئلا تكبر نفسه، فتؤذيه فقال تلميذه، أما خفته؟ قال الشيخ والله يا بني، استحضرت هيبة الله، فصار السلطان قدَّامي كالقط (1).
__________
(1) صفحات مطوية من حياة سلطان العلماء العز ص 28.(1/652)
- سلطان العلماء وبيع الأمراء في المزاد: رأى سلطان العلماء أن المماليك الذين اشتراهم نجم الدين أيوب ودفع ثمنهم من بيت مال المسلمين، واستعملهم في خدمته وجيشه، وتصريف شؤون الدولة يمارسون البيع والشراء وهو تصرف باطل؛ لأن المملوك لا ينفذ تصرفه، فأخذ سلطان العلماء لا يمضي لهم بيعاً ولا شراءً فضايقهم، ذلك وشجر بينهم وبينه كلام حول هذا المعنى فقال لهم بائع الملوك: أنتم الآن أرقَّاء لا ينفذ لكم تصرف، وإن حكم الرق مستصحب عليكم لبيت مال المسلمين، وقد عزمت على بيعكم فاحتدم الأمر، وبائع الملوك مصمَّم، لا يصحَّح لهم بيعاً ولا شراءً ولا نكاحاً، فتعطلت مصالحهم، وكان من جملتهم نائب السلطان الذي اشتاط غضباً، واحمر أنفه، فاجتمع مع شاكلته، وأرسلوا إلى بائع الملوك فقال: نعقد لكم مجلساً، ويُنادى عليكم لبيت مال المسلمين، ويحصل عتقكم بطريق شرعي فرفعوا الأمر إلى السلطان، فبعث إليه، فلم يرجع، فخرجت من السلطان كلمة فيها غلظة، حاصلها الإنكار على الشيخ - رحمه الله - في دخوله في هذا الأمر، وأنه لا يتعلق به (1).
__________
(1) المصدر نفسه ص 31.(1/653)
وهنا أدرك الشيخ العز أن أعوان الباطل تمالؤوا عليه، ووقفوا في وجه الحق وتطبيق الشرع، وتنفيذ الأحكام التي لا تفرق - في الدين - بين كبير وصغير، وحاكم ومحكوم وأمير ومواطن فلجأ إلى سلاحه الضعيف الباهت في ظاهره، القوي الفعال المدمر في حقيقته وجوهره وسنده، وأعلن الإنسحاب وعزل نفسه عن القضاء وقرر الرحيل عن القرية الظالم أهلها، والتي ترفض إقامة شرع الله، ونفذ العز قراره فوراً، وحمل أهله، ومتاعه على حمار، وركب حماراً آخر، وخرج من القاهرة، وما أن انتشر الخبر بين الناس في مصر، حتى تحركت جموع المسلمين وراءه، فلم تكد امرأة ولا صبي ولا رجل لا يؤبه إليه يتخلف، ولاسيما العلماء، والصالحين، والتجار، وأمثالهم ولسان حالهم يقول: لا خير في مصر إن لم يكن فيها العز بن عبد السلام وأمثاله، القائمون بالكتاب والسنة، والآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر، المجاهدين في سبيل الله، لا يخافون لومة لائم، ولا شماته شامت ورُفِعَت التقارير حول هذه الظاهرة إلى القاهرة، وكانت التوصيات: متى راح ذهب ملكك فركب السلطان بنفسه، ولحقه واسترضاه، وطيبَّ قلبه، فرجع بشرط أن يُنادي على ملوك مصر وأمرائها ويبيعهم، فأرسل إليه كبيرهم - نائب السلطان - بالملاطفة والشيخ لم يتغير؛ لأنه يريد إنفاذ حكم الله، عندئذ، انزعج نائب السلطان، وأصدر قراره بتصفية الشيخ جسدياً وقال: كيف ينادي علينا هذا الشيخ ويبُيعنا ونحن ملوك الأرض، والله لأضربنَّه، بسيفي هذا، بنفسه في جماعته، وجاء إلى بيت الشيخ، والسيف في يده صلتاً، فطرق الباب فخرج إليه ولد الشيخ، فرأى أمراً جلداً، فعاد إلى أبيه، وأخبره الحال، فقال بائع الملوك ممتلئاً، إيماناً بربه؛ قائلاً لولده: يا ولدي: أبوك أقلُّ من أن يُقْتل في سبيل الله، فلما رآه نائب السلطان؛ اهتزت يده وارتعدت فراصه وسقط أرضا، فبكى، وسأل الشيخ أن يدعوا له قائلاً:(1/654)
يا سيدي! خيرا، أي شيء العمل؟ فقال الشيخ: أنادي عليكم وأبيعكم. قال نائب السلطان: ففيم تصرف ثمننا؟ قال الشيخ: في مصالح المسلمين. قال نائب السلطان: من يقضيه؟ قال الشيخ: أنا. وأنفذ الله أمره على يد الشيخ - رحمه الله - فباع الملوك منادياً عليهم واحد تلو الآخر، وغالى سلطان العلماء في ثمنهم وقبضه وصرفه في وجوه الخير التي تعود بالنفع على البلاد والعباد (1).
ومن هنا عرف الشيخ العز، بأنه "بائع الملوك" واشتهر أمره في الآفاق، وسجل له التاريخ موقفاً فريداً لم يشهده العالم أجمع، وعلا صوت الحق، وعزَّ العلماء، وتمّ تطبيق شرع الله تعالى، وهزم الباطل وطاشت سهام السلطة والقوة المادية، أمام سلطان الله تعالى، وأحكامه، وصدق على العز حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر (2)، وعاد العز إلى عرينه في كنف الله تعالى ورعايته، وهو القائل: "إن الله يدافع عن الذين آمنوا، إن الله لا يحب كل خّوان كفور" (الحج، آية: 38) والقائل: "والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون" (يوسف، آية 21).
__________
(1) صفحات مطويات من حياة سلطان العلماء ص 33، 34.
(2) العز بن عبد السلام ص 182 للزحيلي.(1/655)
العز يهدم قاعة المنكر، ويسقط عدالة الوزير:
لم تمض سنة واحدة على حادثة بيع الأمراء في المزاد العلني حتى وصل إلى علم الشيخ عز الدين ما فعله أستاذ الدار عند السلطان، وهو ما يعادل اليوم "كبير أمناء الملك أو الرئيس"، وهو معين الدين بن شيخ الشيوخ، والذي كان يجمع إلى منصبه، اختصاصات الوزير، وقائد الجيش في المعارك وفتح دمشق لكنه كان متحللاً وعابثاً ومعتداً بقوته ومنصبه، ولذلك تجرأ على منكر كبير، يخالف أحكام الدين ويسخر بالشرع، ويسيء إلى مشاعر المسلمين، فبنى فوق أحد مساجد القاهرة طبلخانة أي قاعة لسماع الغناء والموسيقى وذلك سنة 640هـ وما أن ثبت ذلك عند الشيخ العز وهو يتولى منصب قاضي القضاة، حتى غضب لله تعالى وإهانة بيت الله، وإعلان المنكر، وإرتكاب الفواحش، وأصدر أمره بهدم البناء، ولكنه خشي من جبن الناس في التنفيذ، أو المعارضة في الهدم، فقام بنفسه، وجمع معه أولاده والموظفين عنده، وذهب إلى المسجد، وحمل معوله معهم، وقاموا بإزالة المنكر، وهدم البناء المستحدث فوق المسجد، ولم يكتف العز بهذا التحدي للوزير والسلطان معاً، بل أسقط عدالة الوزير بما يعني عدم قبول روايته وشهادته، وعزل نفسه عن القضاء، حتى لا يبقى تحت رحمة السلطان، وتهديده بالعزل أو غيره وكان لهذا العمل دوي هائل، أثر عجيب، وتنفس الناس الصعداء من تسلط الحكام، وإرتكاب المخالفات وممارسة التجاوزات الشرعية، ولم يجرؤ أحد أن يمس الشيخ العز بسوء، بل أدرك السلطان نجم الدين أنّ الحق مع الشيخ وتلطف معه للعودة إلى القضاء ولكن الشيخ أصر على ذلك، وظن الوزير رسمياً وشعبياً في ذلك، وأن كلام الشيخ العز سيذهب مع الرياح، ولكن الواقع غير ذلك، وطار الخبر في الآفاق حتى وصل إلى الخليفة في بغداد وأخذ صداه الواسع في العالم الإسلامي (1)
__________
(1) العز بن عبد السلام للزحيلي ص 183 ..(1/656)
قال السبكي: واتفق أن جهزّ السلطان الملك الصالح رسولاً من عنده إلى الخليفة المستعصم ببغداد، فلما وصل الرسول على الديوان، ووقف بين يدي الخليفة، وأدى الرسالة، خرج إليه وسأله: هل سمعت هذه الرسالة من السلطان؟ فقال: لا ولكن حملنيّها عن السلطان معين الدين ابن شيخ الشيوخ استاذ داره، فقال الخليفة: إن المذكور أسقطه ابن عبد السلام فنحن لا نقبل روايته فرجع الرسول إلى السلطان بمصر حتى شافهه بالرسالة، ثم عاد إلى بغداد وأدَّاها (1).
- معارضته لشجرة الدر سلطنتها على مصر: قال ابن إياس فلما وقع الاتفاق على سلطنتها حضر القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز، وبايعها بالسلطنة على كره منه، قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: لما تولت شجرة الدر على الديار المصرية، عملت في ذلك مقامه، وذكرت فيها بماذا ابتلى الله به المسلمين بولاية امرأة عليهم، وكانت سلطنتها يوم الخميس ثاني صفر سنة ثمان وأربعين وستمائة (2)، وفي هذا رد على من يزعم بأنه لا أحداً من علماء الدين لم يبد اعتراضاً على ذلك (3) وسيأتي الحديث عن حكم تولي المرأة للسلطنة في كتابنا القادم بإذن الله تعالى عن المماليك.
__________
(1) طبقات الشافعية (8/ 211) العز بن عبد السلام للزحيلي ص 184.
(2) بدائع الزهور (1/ 286).
(3) طبقات السبكي (8/ 215) فتاوى شيخ الإسلام العز ص 120.(1/657)
- في حرب التتار وفتاويه الشجاعة: ومن مواقفه رحمه الله: في حرب التتار الذين داهموا البلاد الإسلامية ودمروا بغداد، وأبادوا المسلمين وعظم خطرهم على العالم الإسلامي وجبن الناس عن ملاقاتهم وحربهم، وخاف أهل مصر، وضاقت بالسلطان وعساكره الأرض، عندها تدخل الشيخ رحمه الله وبث الهمة في نفوس الناس وذكرهم بضرورة الجهاد، وعندما استشاره السلطان قطز بأمر المملكة وحرب التتار قال رحمه الله: أخرجوا وأنا ضامن لكم على الله النصر، فقال السلطان له: إن المال في خزانتي قليل، وأنا أريد أن أقترض من أموال التجار ما استعين به على قتال التتار (1)، وكان في مجلس السلطان كبار العلماء والفقهاء والقضاة فكان الرأي ما ذهب إليه ابن عبد السلام حيث قال: إنه إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب على الإمام قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم بشرط ألا يبقى في بيت المال شيء، وتبيعوا مالكم من الحوائص المذهبة، والآلات النفيسة، ويقتصر كل الجند على مركوب وسلاحه ويتساووا هم والعامة، وأما أخذ الأموال من العامة مع بقائه في أيدي الجند من الأموال والآلآت الفاخرة فلا (2). فنفذ الملك والأمراء والجند فتوى العز وامتثلوا أمره، فقد أحضر الأمراء كافة ما يملكون من مال وحلي نسائهم، وأقسم كل واحد منهم أنه لا يملك شيئاً في الباطن، ولما جمعت هذه الأموال وضربت سكت ونقداً وأنفقت في تجهيز الجيش، ولم تكف هذه الأموال نفقة الجيش أخذ السلطان قطز ديناراً واحداً من كل رجل قادر في مصر، فجمع بذلك الأسلوب الفريد المال الحلال الذي لا ظلم ولا عدوان فيه، ومع الاستعداد النفسي الذي قام به العز واخوانه من العلماء تنزَّل نصر الله على عباده المؤمنين، وهزم الله التتار في عين جالوت سنة 658هـ (3).
__________
(1) السلوك (1/ 428) النجوم الزاهرة (7/ 72).
(2) المصدر نفسه.
(3) فتاوى شيخ الإسلام العز بن عبد السلام ص 120.(1/658)
ومن أساب النصر شعور الناس بقيمة العدل التي ساهمت في جعل روح جديدة تسري في كيان الشعب المسلم تحت قيادة السلطان قطز، من خلال الفتاوى الفذة التي أفتى بها الشيخ عز الدين بن عبد السلام وهكذا كانت مواقف العز بن عبد السلام من حكام عصره، في حياته المديدة كلها آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، صادعاً بالحق، حرباً على الباطل وأهله عاش أحداث عصره فأثر به وتفاعل معها، وتأثر بها، فجاهد باليد، كما جاهد بالقلم واللسان، حتى كتب اسمه بأحرف من نور في سجل الخالدين، وترك خلفه مدرسة غنية لكل باحث وسيرة عبقة يقتدي بها الباحثون عن الحق وأنصار الشرع، والعدالة (1).
__________
(1) المصدر نفسه ص 120.(1/659)
2 - زهده: لقد ضرب لنا العز مثلاً للزهد بسيرته ومواقفه، فكان رحمه الله زاهداً في الدنيا مع مشاركته في أحداثها، وانخراطه في حل مشكلاتها ومعضلاتها فلم يكن منعزلاً عن الناس، بل كان يعيش بينهم رافضاً دنياهم يذكرهم بأخراهم، فكان أغنى الناس رغم فقره إذ لم يكن يتطلع إلى ما في أيديهم بل كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، عطاء الواثق بربه، يعطي الأغنياء والفقراء رغم فقره ولا يرد سائلاً سأله رغم حاجته، فإذا لم يجد ما يعطي ما في جيبه خلع شيئاً من لباسه، أو جزءاً من عمامته، أو شيئاً من أثاث بيته وأعطى لسائله، كان زاهداً في متاع الدنيا رغم أنه كان ملء سمعها وبصرها، يعمل فيها للآخرة رغم أنها جاءته تسعى راغمة والدليل (1) على ذلك مواقف كثيرة منها، عندما عرض عليه رسول الملك الصالح إسماعيل أن ينكسر للسلطان ويقبل يده ويعتذر إليه من موقفه من التحالف مع الصليبيين وتسليم حصون المسلمين لهم - كما مرّ معنا قال الشيخ: والله يا مسكين ما أرضاه أن يقبل يدي فضلاً أن أقبل يده، يا قوم أنتم في واد، وأنا في واد، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به (2) به ومن زهده وورعه رحمه الله أن نصح للملك الأشرف وهو في مرضه الذي مات فيه، امتثل أمره وعمل بنصحه وأمر له بألف دينار مصرية فردها الشيخ عليه ولم يقبلها وقال: هذه اجتماعة لله لا أكدرها بشيء من الدنيا وودع الشيخ السلطان ومضى (3).
__________
(1) طبقات السبكي (8/ 230) وما بعدها.
(2) المصدر نفسه (8/ 243).
(3) طبقات الشافعية (8/ 240) العز بن عبد السلام ص 107 للزحيلي ..(1/660)
ولما هاجر الشيخ العز من دمشق وقد ناهز الستين لم يحمل شيئاً من حطام الدنيا ومتاع البيت، أو ما كدَّسه من مناصبه وأعماله، ولما استقال العز من القضاء عند فتواه ببيع الأمراء ورفض السلطان لذلك، خرج من القاهرة، وكل أمتعته في الحياة مع أسرته، حمْل حمار واحد، مما يدل على قناعته بالقليل، وزهده في المال والمتاع، ولما مرض الشيخ العز، وأحس بالموت، أرسل له الملك الظاهر بيبرس أن يعين أولاده في مناصبه وقال: .. أن يكون ولدك مكانك بعد وفاتك "في تدريس الصالحية"، فقال العز: ما يصلح لذلك، قال له: فمن أين يعيش؟ قال: من عند الله تعالى، قال له: نجعل له راتباً؟: قال هذا إليكم (1)، ثم أشار إلى تعيين تقي الدين بن بنت الأعز (2)، والحقيقة أن ولد العز الشيخ عبد اللطيف كن عالماً فقيهاً، يصلح للتدريس، ولكن ورع العز وزهده منعه من جعل منصب التدريس وراثة لأولاده (3).
__________
(1) طبقات الشافعية للأسنوي (2/ 84) العز بن عبد السلام ص 107 للزحيلي.
(2) العز بن عبد السلام، للزحيلي ص 107.
(3) المصدر نفسه ص 108.(1/661)
3 - حبه للصدقة: كان كثير الصدقات، باسط اليد فيما يملك يجود بماله ولو كان قليلاً، طمعاً بالأجر والثواب، وادخار ذلك إلى يوم الدين، حكى قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة رحمه الله، أن الشيخ لما كان، بدمشق، وقع مرة غلاء كبير حتى صارت البساتين تباع بالثمن القليل، فأعطته زوجته مصاغاً لها وقالت: اشتر لنا به بستاناً، نَصِيفَ به، فأخذ ذلك المصاغ، وباعه وتصدق بثمنه، فقالت: يا سيّدي اشتريت لنا؟ قال: نعم بستانا في الجنة، إني وجدت الناس في شدة فتصدقت بثمنه، فقالت له: جزاك الله خيراً (1). فجدد سيرة أصحاب رسول الله والسلف الصالح (2) وحكى ابن السبكي عن حب العز للتصدق: وحكي أنه كان مع فقره كثير الصَّدقات، وأنه ربمَّا قطع من عمِامته، وأعطى فقيراً يسأله إذا لم يجد معه غير عمِمامته (3).
4 - ورعه وتقواه: كان العز صاحب ورع متعد، إذ كان ورعاً ويعلم الناس الورع، بمواقفه أولاً، ثم بعلمه الفياض ثانياً، ومما يدل على ذلك قوله: يجب على الخنثى المشكل أن يستتر في الصلاة كالتستر للنساء احتياطاً (4)، وقوله: من نسي ركعتين من السنن الرواتب، ولم يعلم أهي سنة الفجر أم سنة الظهر، فإنا نأتي بالسنتين لنحصل على المنسية، ولمن نسي صلاة من صلاتين مفروضتين أيضاً (5).
__________
(1) طبقات الشافعية الكبرى (8/ 214).
(2) العز بن عبد السلام للزحيلي ص 108.
(3) المصدر نفسه ص 108.
(4) فتاوى شيخ الإسلام العز بن عبد السلام ص 106.
(5) قواعد الأحكام (2/ 25).(1/662)
5 - تواضعه وعدم التكلف: كان الشيخ عز الدين بن عبد السلام متواضع النفس، مع ربه، ومع الناس، ومع نفسه، ولا يتكلف لشيء في حياته، ومعيشته، ولباسه وسلوكه مع الجميع، فعندما كتب له الملك الأشرف رسالته، وفيها ما يَلمْزه بالاجتهاد لمذهب خامس في العقيدة؛ "إن كنت تدّعي الاجتهاد، فعليك أن تثبت ليكون الجواب على قَدْر الدعوى لتكون صاحب مذهب خامس" إجابه العز بكل تواضع، وقال عن هذه النقطة: وأمّا ما ذُكر من أمر الاجتهاد والمذهب الخامس فأصول الدين ليس فيها مذاهب، فإن الأصل واحد (1)، وعندما جاءه نائب السلطنة في مصر حاملاً سيفه ليقتل العز لفتواه ببيع الأمراء المماليك، كما مّر معنا، فقام لاستقباله، فاعترضه ابنه خشية عليه من القتل، فقال له: يا ولدي، أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله (2)، وكان العز يترك التكلف في لباسه، فكان يلبس مرة العمامة ومرة قبعة من لبّاد، بحسب ما يتيسر له، ويحضر بها المناسبات والمواكب، قال: ابن السبكي بعد حكاية تصدقه بالعمامة: وفي هذه الحكاية ما يدل على أنه كان يلبس العمامة، وبلغني أنه كان يلبس قبّع لبّاد، وأنه كان يحضر المواكب السلطانية به، فكأنه كان يلبس تارة هذا، وتارة هذا، على حسب ما يتفق من غير تكلف (3).
6 - بلاغته وفصاحته: كان العز بن عبد السلام بليغاً فصيحاً قوي العبارة ذات المعاني المتعددة وقد ترك لنا أقوالاً مأثورة منها:
أ- في نصرة الحق: ينبغي لكل عالم إذا أذل الحق وأخمل الصواب أن يبذل جهده في نصرهما، وأن يجعل نفسه بالذل والخمول أولى منهما، وإن عز الحق، فظهر، الصواب، أن يستظل، بظلهما وأن يكتفي باليسير من رشاش غيرهما (4).
__________
(1) طبقات الشافعية الكبرى (8/ 231، 233).
(2) العز بن عبد السلام للزحيلي ص 110.
(3) المصدر نفسه ص 110.
(4) المصدر نفسه ص 110.(1/663)
ب- الشرع هو الميزان: والشرع ميزان يوزن به الرجال، وبه يتيقن الربح من الخسران، فمن رجح في ميزان الشرع، كان من أولياء الله، وتختلف مراتب الرجحات، ومن نقص في ميزان الشرع، فأولئك أهل الخسران، وتتفاوت خفتهم في الميزان , وأخسها مراتب الكفار، ولا تزال المراتب تتناقص حتى تنتهي إلى منزلة مرتكب أصغر الصغائر، فإذا رأيت إنساناً يطير في الهواء ويمشي على الماء، أو يخبر بالمغيبات، ويخالف الشرع بارتكاب المحرمات، بغير سبب محلل، أو يترك الواجبات بغير سبب مجَّوز؛ فأعلم أنه شيطان، نصبه الله فتنه للجهلة، وليس ذلك ببعيد من الأسباب التي وصفها الله للضلال، فإن الدجال يحيي ويميت فتنتة لأهل الضلال، وكذلك يأتي الخربة، فتتبعه كنوزها كيعاسيب (1) النحل، وكذلك يظهر للناس أن معه جنة وناراً، فناره جنة، وجنته نار، وكذلك من يأكل الحيَّات، ويدخل النيران، فإنه مرتكب للحرام بأكل الحيات وفاتن للناس بدخول النيران ليقتدوا به في ضلالته ويتابعوه على جهالته (2).
__________
(1) ذكور النحل.
(2) قواعد الأحكام (2/ 194) صفحات مطوية ص 106.(1/664)
ج- الطريق إلى حياة القلوب: والطريق في إصلاح القلوب التي تصلح الأجساد بصلاحها، وتفسد بفسادها؛ تطهيرها من كل ما يبعد عن الله، وتزيينها بكل ما يقرب إليه، ويزلفه لديه، من الأحوال، والأقوال، والأعمال، وحسن الآمال، ولزوم الإقبال عليه، والإصغاء إليه والمثول بين يديه في كل وقت من الأوقات، وحال من الأحوال، على حسب الإمكان من غير أداء إلى السآمة والملال ومعرفة ذلك هي الملقبة بعلم الحقيقة، وليست الحقيقة خارجة عن الشريعة، بل الشريعة طافحة، بإصلاح القلوب بالمعارف والأحوال، والعزوم والنيات، وغير ذلك مما ذكرنا من أعمال القلوب، فمعرفة أحكام الظواهر معرفة بجلَّ الشرع، ومعرفة أحكام البواطن معرفة لدقَّ الشريعة، ولا ينكر شيئاً منهما إلا كافر أو فاجر، وقد يتشبه بالقوم من ليس منهم، ولا يقاربهم في شيء من الصفات، وهم شرُّ من قطاع الطريق، لأنهم يقطعون طرق الذاهبين إلى الله تعالى وقد اعتمدوا على كلمات قبيحات، يطلقونها على الله، ويسيئون الأدب على الأنبياء والرسل وأتباع الأنبياء من العلماء والاتقياء، وينهون من يصحبهم من السماع من الفقهاء، لعلمهم بأن الفقهاء ينهون عن صحبتهم وعن سلوك طريقهم (1).
كما أن للعز صفات كثيرة تحدثت عنها في ثنايا ترجمته، كالعلم والفقه، والتوكل والهيبة ... إلخ.
__________
(1) قواعد الأحكام نقلاً عن صفحات مطوية ص 107.(1/665)
ثامناً: أهم محاور التجديد عند الشيخ عز الدين بن عبد السلام:
ليس المراد بالتجديد تغيير حقائق الدين الثابتة القطعية لتلائم أوضاع الناس وأهواءهم ولكنه تصحيح للمفاهيم المترسبة في أذهان الناس عن الدين، وتعديل لأوضاعهم وسلوكهم وفقاً لتعاليمه وإرجاعه غضاً طرياً بعد أن تراكمات عليه البدع والإنحرافات وكل هذا ينطبق على الشيخ عز الدين بن عبد السلام، فقد أمات البدع، وأحيا السنن، كما حارب التقليد وأحيا الاجتهاد، ومارس دور العالم المجاهد في قيادة الأمة، فالتف الناس حوله، واتخذوه إماماً بدون منازع، وهو جدير بذلك، فقد كان يدافع عن مصالح الأمة بيده وبلسانه، وبقلمه ويحفظ حقوقها، ويدرأ عنها كل المفاسد، ومن نقاط التجديد عند الشيخ عز الدين بن عبد السلام.(1/666)
1 - سعيه لتقنين أصول الفقه: يظهر سعي الشيخ عز الدين لتقنين أصول الفقه فيما نلاحظه أثناء دراسة كتابة "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" من تفريعات واستثناءات، وشواهد، وضوابط، انظر مثلاً حديثه عن النسيان، وما يتعلق به، وما يسقط به، ومالاً يسقط به وضابطه (1)، وكذلك في حديثه عن المشقة وأنواعها وضوابها (2)، وكل ما يحتاج إلى ضابط، فإن الشيخ عز الدين لا يغفل عن تجديد ضابطه، فها هو يقول مثلاً: والضابط أن اختلال الشرائط والأركان إذا وقع لضرورة أو حاجة فإن لم يختص وجوبه بالصلاة كالستر، فإن كان في قوم يعمهم العري فلا قضاء عليه لما فيه من مشقة (3)، ويواصل في تحديد ضابط ما يتدارك إذا فات بعذر، وما لا يتدارك مع قيام العذر وهكذا توجهت همة الإمام إلى تجديد بناء العقلية الإسلامية بالتأكيد على العقلية الأصولية التي لا ينبغي أن تفرق في الجزئيات وإنما تختصرها في كليات، وتضبطها في قواعد لمواجهة مستجدات الحياة مهما تعقدت وتشعبت، ويبدو هذا جلياً في الثروة الهائلة من القواعد التي خلفها الشيخ عز الدين - متناثرة في كتبه، هذه القواعد التي تتوجه بالهمم والأنظار نحو المستقبل لتواكب تطور الحياة عن وعي وإدراك، وتلبي احتياجات العصر المتغيرة عبر الزمان والمتنوعة عبر المكان، وأما الفروع فغالباً ما تعني بالماضي لتحكم له أو عليه والقواعد التي ذكرها الشيخ عز الدين كثيرة نذكر منها نماذج
أ- القواعد الفقهية:
- في جلب المصالح ودرء المفاسد:
- تحصيل مصلحة الواجب أولى من دفع مفسده المكروه.
- تصرف الولاة ونوابهم بما هو الأصلح للمَوْلِيَّ عليه.
- لا يُقَدَّمُ في أي ولاية إلا أقوم الناس بجلب مصالحها ودرء مفاسدها.
- حفظ البعض أولى من تضييع الكل.
__________
(1) قواعد الأحكام (2/ 2، 3) مقاصد الشريعة عند الإمام العز ص 519.
(2) المصدر نفسه (2/ 7، 8، 12) المصدر نفسه ص 519.
(3) مقاصد الشريعة عند الإمام العز بن عبد السلام ص 520.(1/667)
- حفظ الموجود أولى من تحصيل المفقود.
- تحمل أخف المفسدتين دفعاً لأعظمها.
- دفع الضرر أولى من جلب النفع.
- الأصل في الأموال التحريم مالم يتحقق السبب المبيح (1)
ويمكن القول بأن الإمام بن عبد السلام قد ألقى أوسع ما يمكن من الضوء على قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد وأظهر باستقرائه جريانها في مسائل لا تحصى، وأحكام لا تعد أصليها وفرعيها، حتى أستطاع أن يرجع الفقه كله إلى هذه القاعدة الشاملة الجامعة الأصيلة، اعتبار المصالح ودرء المفاسد.
ب- في مراعاة التخفيف ورفع الحرج:
- لا يسقط المقدور عليه بالمعجوز عنه.
- الأشياء إذا ضاقت اتسعت.
- قد وسع الشرع في النوافل مالم يوسعه في الفرائض.
- الضرورات مناسبة لإباحة المحظورات جلباً لمصلحتها.
- ما أحل لضرورة يقدر بقدرها، ويزول بزوالها.
ج- في المقاصد والوسائل:
- مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
- كل ما كان أقرب إلى تحصيل المقصود من العقود كان أولى بالجوز لقربه إلى تحصيل المقصود.
- لا تقدم التتمات والتكملات على مقاصد الصلاة.
- الوسائل تسقط بسقوط المقاصد.
- كل تصرف تقاعد عن تحصيل مقصوده فهو باطل.
- إذا كان المطلوب محرماً فسؤاله حرام.
- يجوز في التابع ما لا يجوز في المتبوع (2).
د- في مقاصد المكلفين:
- مقاصد الألفاظ على نية اللافظين ويستثنى من ذلك اليمين فإنه على نية المستحلف.
- من أطلق لفظا لا يعرف معناه لم يؤاخذ بمقتضاه.
- العقود مبنية على مراعاة المقصود.
- الأغلب على الناس هو الجزم.
هـ- في أمور متفرقة:
- المتوقع كالواقع.
- ما لايمكن ضبطه، يجب، الحمل على أقله.
- القليل يتبع الكثير في العقود.
- من لا يمكن تصرفاً، لا يملك الإذن فيه، وذكر لهذه القاعدة مستثنيات.
- من ملك الإنشاء ملك الإقرار.
- القواعد الأصولية:
__________
(1) مقاصد الشريعة عند العز بن عبد السلام ص 521 نقلاً عن قواعد الأحكام.
(2) المصدر نفسه ص 522 نقلاً عن قواعد الأحكام.(1/668)
أ- في الأحكام التكليفية:
- لا تكليف بما لا يتعلق به قدرة ولا إرادة.
- لا يجوز تأخير حق يجب على الفور لأمر محتمل.
- إذا كان المطلوب محرماً فسؤاله حرام.
- لا يترك الحق لأجل الباطل.
ب- في تعليل الأحكام:
- الأصل أن تزول الأحكام بزوال عللها.
- الضرورات مناسبة لإباحة المحظورات جلباً لمصلحتها.
- في العموم والخصوص: دلالة العادات وقرائن الأحوال، بمنزلة صريح الأقوال في تخصيص العموم وتقييد المطلق.
ج- في الدلالات:
- تقدير ما ظهر من القرآن أولى في بابه من كل تقدير.
- يقدم من المحذوفات أخفها، وأحسنها وأفصحها وأشدها موافقة للغرض.
- الكلام الصريح لا يفتقر إلى نية، لأنه بصراحته منصرف إلى ما دل عليه.
هـ- في سد الذرائع:
- يحتاط لدرء مفاسد الكراهة والتحريم، كما يحتاط لجلب مصالح الندب والإيجاب ولهذه القاعدة مستثنيات ..
- تنزيل الموهوم (من المصالح والمفاسد منزلة المعلوم (1).
ز- في العرف والعادة:
- دلالة العادات وقرائن الأحوال بمنزلة صريح الأقوال في تخصيص العموم وتقييد المطلق.
- ينزل الاقتضاء العرفي الاقتصاء اللفظي.
- دلالة العرف كدلالة اللفظ.
ر- في الاستصحاب:
- استصحاب الأصول، مثاله، من لزمه طهارة أو .. ثم شك في أداء ذلك، لزمه ذلك لأن الأصل بقاؤه في عهدته.
- الأصل براءة الذمة، مثاله؛ من شك هل لزمه شيء لا يلزمه شيء من ذلك لأن الأصل براءة ذمته.
س- في الخروج من الخلاف:
- الخروج من الخلاف مستحب.
ط- في الاجتهاد: ويعد الإمام أول من فتح باب التأليف في القواعد، ثم تبعه من جاء بعده.
__________
(1) مقاصد الشريعة عند الإمام العز بن عبد السلام ص 525 بالاعتماد على كتب الشيخ عز الدين بن عبد السلام وخصوصاً قواعد الأحكام.(1/669)
2 - النقطة الثانية: من تجديدات الإمام؛ ربط الأصول بأهدافها الحيوية، وإعادة دمج ثمارها في واقع الحياة، فقد اتجه الإمام بأصول الفقه اتجاها عملياً بعيداً عن التكلُّف النظري، إذ إنه لا يؤمن بأن هناك قضايا فلسفية نظرية، لذا نجده يكثر من التمثيل والتطبيقات الفقهية في قواعد الأحكام ومصالح الأنام خاصة.
3 - النقطة الثالثة: تقسيم المصالح والمفاسد تقسيمات كثيرة، الواقف على كلام العز في كتابه، قواعد الأحكام يجده أفاض في المصلحة "وكذلك المفسدة" تقسيماً وتمثيلاً، وأتى في هذا الموضوع بما يأت به غير ممن تكلموا فيها، بل كثير منهم اتخذوه قدوة ورائداً في هذا الشأن (1).
ومما راعاه الإمام في تقسيمه عظم المصلحة وشر المفسدة، فقدم من المصالح ما هو أعظم خيراً للمكلف، وأبعد من المفاسد ما هو أكثر شراً للمكلف، فجاء ترتيبه حسب نفع المكلف من حيث الإقدام على المصالح والإحجام عن المفاسد، فدفع الكفر - مثلاً وفي أعلى المراتب، ودفع القتل بعده، ثم تترتب فضائل الدفع بمراتب المدفوع في سوئه وقبحه (2)، وعدَّ هذا معروفاً بالعضل قبل ورود الشرع، ومن أراد أن يعرف المصالح والمفاسد راجحها من مرجوحها، فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع لم يرد به (3).
4 - النقطة الرابعة: إبراز تعدد الوسائل وتنوعها لتحقيق مقاصد الشريعة حتى لا يصيب المكلف ملل ولا ضيق، أو يعتريه فتور في تحقيقها والمحافظة عليها.
__________
(1) مقاصد الشريعة عند الإمام العز بن عبد السلام ص 256.
(2) شجرة المعارف ص 227.
(3) قواعد الأحكام (1/ 8) مقاصد الشريعة عن العز بن عبد السلام ص 527.(1/670)
5 - النقطة الخامسة: كثرة الطرق الموصلة إلى معرفة المصالح الدنيوية عند الإمام.
6 - النقطة السادسة: النظرة الشاملة من الإمام لتحقيق المقاصد العامة، إذ يرى إصلاح القلوب، وتزكية النفوس، والتخلق بصفات الله، والاتصاف بها عامل مهم في تحقيق المقاصد، لذا نجده يؤكد على ذلك كثيراً في مؤلفاته، ويعُدُّ أن معيار التمييز بين قصد المكلف الصحيح وقصده السيء هو مدى موافقة القصد المكلف لقصد الشارع.
7 - النقطة السابعة: تحريره تحريراً شافياً كافياً لمسألة الثواب في المصائب فكان بذلك استاذ لمن جاء بعده كالشاطبي.
8 - النقطة الثامنة: اتسام منهج الإمام التغيير بالشمولية بحيث نجده يتراوح بين اللين والشدة، وبين الموعظة والقتال، ذلك بأن الإمام ينظر إلى كل الظروف التي يحتمل أن تواجه الداعية في دعوته لتطبيق شرع الله وتحقيق مقاصده (1).
دروس مهمة في مجال التجديد والإصلاح:
- لابد من الاعتراف بجهود هذا الإمام، ولفت الأنظار إلى فضله العظيم في تأسيس المقاصد، واهتمامه بها، الأمر الذي مهد الطريق للذين جاؤوا بعده، ويمكن القول بأن مشروعه هذا يعد مشروعاً تجديدياً إحيائياً لترميم تصدعات الحياة الإسلامية ولكن لم تتهيأ له الأجواء السياسية والثقافية والاجتماعية ليعطي ثماره الحضارية تجديداً ونهضة، ذلك بأن عصره، عصر انقسامات واستعانة بالكفار وإعانة لهم على المسلمين.
- محاربة التقليد والركود والجمود، والدعوة إلى الاجتهاد المتعمق الذي يستوعب كل الحياة بجميع تطوراتها ومتغيراتها الاجتماعية والسياسية - من أسباب نهوض الأمة - ولا يتوصل إلى ذلك إلا بالتعمق في فهم النصوص الشرعية في أبعادها الأصولية والفقهية والمقاصدية.
__________
(1) مقاصد الشريعة ص 527.(1/671)
- المقاصد العامة ثابتة لا تتغير ولا تختلف باختلاف الأمم والعوائد والأزمنة وإن اختلفت بعض مصالح الناس باختلاف الأمم والعوائد والأزمنة، وإن اختلفت بعض مصالح الناس باختلاف الأزمان والأعراف، ومن هنا كانت دعوة ابن عاشور لفهم مسائل أصول الفقه وإعادة ذوبها في بوتقه التدوين وتسميتها بمقاصد الشريعة (1).
__________
(1) مقاصد الشريعة الإسلامية ص 8.(1/672)
- تعد مقاصد الشريعة الركن الثان من أركان أصول الفقه - وكنه الأول هو: الفهم الذي يقوم على جانب الاستكشاف والتجريد والتعميم - وهي بمثابة تنزيل الأحكام المجردة على واقع الأحداث ومستجدات الأمور بمعطياتها الزمانية والمكانية وملابساتها الشخصية، فمثل ما يتوقف استنباط الأحكام الشرعية على الألفاظ، فإنه يتوقف على مقاصد اللافظ (1)، ومع كون المقاصد مبحثاً أصولياً إلا أنه يكاد يكون مفقوداً في كتب الأصول، كمبحث مستقل قائم الذات إلا من بعض الإشارات في مباحث العلة أو المناسبة، أو الاستصلاح، وإذا اعتبرنا أصول الفقه قانوناً يتوصل به إلى استنباط الأحكام، وكيفية التطبيق السليم، فإن الاهتمام اليوم بالمقاصد أكثر من ذي قبل يُعدُّ خطوة نحو تلبية متطلبات الحياة، ومسايرة قضاياها المستجدة لاستيعاب جميع متغيراتها، ومن المعلوم أن التشريع وليد الحاجة، فما قام تشريع في أمة ولا نشر فيها قانون إلا وقد قام في البلاد قبلهما حاجة تدعو إليهما، فيأتي التشريع، ويصاغ القانون على قدر تلك الحاجة (2) الداعية، والقونين في جميع أنحاء العالم لا تلبث بعد مدة من وضعها أن تصبح غير وافية بالنسبة لبعض الأحداث، فالاهتمام بالمقاصد يساعد على إيجاد الحلول المناسبة مدخل في استنباط الأحكام أو تطبيقها وقد بين ابن عاشور شدة حاجة الفقيه إلى معرفة المقاصد في مثل هذه الحالة فقال: فاحتياجه فيها ظاهر، وهو الكفيل بدوام الشريعة الإسلامية للعصور والأجيال التي أتت بعد عصر الشارع، والتي تأتي إلى انقضاء الدنيا (3).
__________
(1) مقاصد الشريعة عند الإمام العز بن عبد السلام ص.
(2) المدخل غلى علم أصول الفقه ص 5.
(3) مقاصد الشريعة الإسلامية ص 15.(1/673)
- المقاصد العامة متداخلة لا يكاد ينفك بعضها عن بعض، ولقد تبين - للدارسين - أنها خادمة لبعضها، فقد يكون المقصد وسيلة مفضية إلى مقصد أعلى منه، كما أن المقاصد الجزئية للأحكام تندرج بدورها في دوائر تنتهي إلى المقاصد الكلية التي تنتهي بدورها إلى المقصد الأعلى وهو تحقيق مصالح العباد في الدنيا والمعاد.
- المقاصد العامة معان حقيقية تهدف الشريعة إلى تحقيقها في واقع الحياة حتى تكون على تلبية حاجيات المسلمين، وساعية نحو الأفضل في تنظيم مختلف جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وإلى تحقيق كل ما ينفع الأفراد والأمة من خير يعود على خدمة الضروريات والحاجيات والتحسينيات.
- المقاصد العامة منسجمة مع الفطرة، وهي أساس هام بني عليه هذا الدين؛ قال تعالى: "فأقم وجهك للدَّين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم" (الروم: 30) ومما يؤكد عليه الإمام أن تقديم الأصلح فالأصلح ودرء المفاسد فالأفسد مركوز في طبائع العباد نظراً لهم من رب الأرباب (1).
- ينبغي أن تكون الاجتهادات الفردية أو الجماعية المؤقتة أو الدائمة، مرتبطة بواقع الحياة، وبمقاصد الشريعة الإسلامية كضابط لهذه الاجتهادات من الزيغ والانحراف وليكون أقرب ما تكون إلى الصواب، وأجدر بالتطبيق العملي في الحياة (2).
- ولابد من ربط الاجتهاد بالمقاصد ولذلك قرّر الإمام ابن عبد السلام: أن المقاصد مرجوع إليها وأن كل غافل عنها في حكمه أو فتواه يلزمه أن ينقضى حكمه، ويرجع عن فتواه وأما من أفتى على ما تقتضي قواعد الشريعة وإقامة مصالحها، فكيف يحتاج إلى نقل جزئي مخصوص من كلي اتفق على إطلاقه من غير استثناء (3) وربط الاجتهاد بالمقاصد يؤدي إلى عدة أمور منها:
__________
(1) قواعد الأحكام (1/ 5).
(2) مقاصد الشريعة عند الإمام العز بن عبد السلام ص 530.
(3) فتاوى سلطان العلماء ص 145.(1/674)
- إضفاء صفتي الشمولية والاستمرارية على الشريعة، فلا تعرف حدود الزمان ولا للمكان.
- استعمال الأقيسة المعتبرة والاستنتاجات العقلية السليمة بشكل يتلاءم مع واقع الناس ويراعي ظروفهم دون إبطال للنص، أو تحريف له.
- تطلع المتعاملين فيما بينهم إلى أعلى مثل العدل، والإحسان والتعاون لبلوغ المصلحة الشرعية من التعامل فيتوفر بذلك جو من الثقة؛ والنية الحسنة بين الناس، ويؤمن الغش والاحتكار، وأكل مال الغير بالباطل.
- الحد من الخلافات المذهبية بين المسلمين التي منشؤها - في الغالب - سوء فهم مقاصد الشريعة، أو عدم فهمها على الإطلاق وتوحيد المسلمين مقصد من مقاصد هذا الدين، وضرورة من ضرورياته.
- تحديد مفاهيم الحقوق، وتعيين مواقعها حتى لا يبقى الحق الشخصي المطلق، ولا للأنانية البغيضة مكان في نفوس الناس، ذلك بأن المقاصد العاملة شاملة، بحيث تندرج في مضمونها كافة الحقوق، ما كان منها ذا مضمون ديني، أو خلقي، أو سياسي، أو اقتصادي، وما إلى ذلك، مما يتعلق بجميع نواحي الحياة مادياً ومعنوياً، فكانت كل الحقوق الجديدة التي لم يعرفها العالم الغربي إلا في هذا العصر مقررة في الشريعة الإسلامية فيما رسم من مقاصدها وغاياتها وشرع من وسائل علمية لتحقيقها، وتنميتها، والمحافظة عليها.
- تنظيم حياة المجتمع البشري، والموازنة بين حاجيات الناس فلا تطعن حاجة إنسان على آخر، ولا تصطدم حريته مع حرية غيره.
- إيجاد الحلول لكثير من المسائل الطارئة في حياتنا المعاصرة.
- علم المقاصد علم دقيق لا يخوض فيه إلا من لطف ذهنه، واستقام فهمه، لذا أكد الإمام العز بن عبد السلام على ضرورة الفهم السليم والطبع المستقيم (1).
__________
(1) مقاصد الشريعة عند العز بن عبد السلام ص 533.(1/675)
- لا يزال فن المقاصد مهمة مطروحة تنتظر من ينجزها، فعليا، ويتوغل فيها إلى أقصى دلالاتها فهي مادة ثرية لا غنى عنها لأي باحث أو مجتهد، إلا أن هذا الإنجاز يتطلب شيئاً من الإحاطة بثقافة العصر، وقيمة خاصة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
- ضرورة معرفة المقاصد، وإيضاحها في نسق عقلي، ومنهج علمي سليم، وأن يجعل منها مادة تربوية علمية، يُرَبَّي عليها أبناء الأمة وتقام على أساسها كياناتهم النفسية وغذائهم الفكري ووضوح المقاصد يوفر لنا أمرين:
- الوضوح في أولويات العمل الإسلامي، لتطبيق شرع الله في أرضه، وإعلاء كلمته.
- القضاء على الغبش، والتخبط مما لا يدع مجالاً ولا موضعا يعتد به للنظر الجاهل بالنصوص، وأولوياتها، وغايتها.
- الشريعة لعمل على تحقيق المقاصد العامة والمحافظة عليها فهي:
- تحافظ على المصلحة أبداً وفق نظام ثابت لا يتأثر بوجود شخص أو موته (1)، قال تعالى: "أفإن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم" (آل عمران، آية: 144).
__________
(1) المصدر نفسه ص 533.(1/676)
وسواء كانت هذه المصلحة عامة أم خاصة، صغيرة أم كبيرة، حفظاً للحق العام والحق الخاص في آن واحد، وحتى إن الإنسان لا يعتبر حراً في نفسه وأعضائه، فلا يحق له أن يتصرف إلا وفق ما يرضي الله؛ لأن الحق في ذلك مشترك بينه وبين ربه على حد قول الإمام (1). ومن هنا يمكن القول بأن المصالح متداخلة، فالمحافظة على المصلحة العامة محافظة على مصلحة الأفراد، بحيث يستطيع كل من يتمكن من الانتفاع بها أن ينتفع بها وفقاً للوجوه المعروفة شرعاً، وكذلك القول في المصلحة الخاصة، بها يتحقق صلاح المجتمع تبعاً؛ فحفظ مال اليتيم، - مثلاً - حتى سن الرشد، فيه نفع لليتيم عند رشده إذ يجد ماله كاملاً غير منقوص، وفيه نفع لغيره سواء كان وارثاً أم غير وارث بما يحققه ذلك المال من نفع عام بإقامة مشاريع أو صدقات خاصة أو عامة، ولعل هذا هو معنى قوله تعالى: "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً " (النساء، آية: 5) فعدَّ أموال اليتيم كأنها أموال من يرعاها وكذلك في حفظ النفس فإنها مصلحة خاصة، ولكن المحافظة عليها محافظة على النظام العام، وإذا نزلت بالأمة نازلة أو طرأت بعض الطوارئ وجب اعتبار مصالح هذه الأمة كلاً متكاملاً لا كدويلات متفرقة: وطريق المصالح أوسع طريق يسلكه الفقيه في تدبير أمور الأمة، عند نوازلها ونوائبها إذا التبست عليه المسالك، كما قال ابن عاشور (2)،
__________
(1) قواعد الأحكام (1/ 111).
(2) مقاصد الشريعة الإسلامية ص 87 ..(1/677)
وتداخل المصالح يستدعي إيجاد قواعد وخطط تشريعية يلتزمها المجتهد لإعطاء كل ذي حق حقه فلا يظلم أحد، وأساس هذه القواعد هي: الموازنة بين ما يعود على صاحب الحق من نفع مشروع، وبين ما يلحق الغير من ضرر لازم أو فساد ممنوع وفي هذه الموازنة يتفاوت نظر النظار، وتتعارض فيه الخواطر والأفكار، لذا أكد الإمام على الفهم السليم والطبع المستقيم، ولقد استطاع أن يستنبط من استقرائه للشريعة سلماً للمصالح يندرج بحسب آثارها في دنيا الناس فتحدث عن الضروري، والحاجي، والتحسين، وبنى على ذلك مواقف عملية حتى يتمكن الناس من الموازنة بين المصالح وترتيبها، فلا يقعوا أمام طريق مسدود يجعلهم مخيرين بين مصالح الدنيا أو الآخرة، ولو وضع المسلمون هذا السلم نصب أعينهم قبل اتخاذ بعض القرارات أو تبين بعض المواقف لسلمت الأمة - الآن - من كثير مما هي فيه من المشاكل.
- كما أنها تراعي التخفيف والتيسير، وترفع الحرج عن الناس باعتبارها شريعة عملية واقعية تسعى إلى أن تكون واقعاً حيا في نفوس أتباعها، ولا يتم ذلك إلا بسلوك الرفق والتيسير، ذلك بأن اليسر من الفطرة، والنفوس مجبولة على حب الرفق، والنفور من الشدة والإعنات، ومن هنا كان الحرج مرفوعاً والمشقة منضبطة؛ وليس لمراد بنفي المشقة أن لا مشقة ولا كلفة في شيء من التكاليف الشرعية أصلاً، بل المراد أن تكون المشقة في حدود طاقة المكلفين، كما أن الدعوة إلى التيسير ليست على إطلاقها، بل المراد أن يكون التيسير بقدر لا يفضي إلى انخرام مقاصد الشريعة، وإلا لزم إرتفاع جميع التكاليف أو أكثرها.(1/678)
- وتقيم العدل، وتدعو إلى أن تكون إقامة العدل عن إدراك وتفهم عميق لإبعاده ومراميه، وللمسالك والوسائل المفضية إليه، فمن راعى ذلك وفق إلى جني ثماره، إذ لا ثمرة تجنى دون تصور سليم، وتنفيذ واع حكيم، كما بينت الشريعة أن عاقبة العدل كريمة، وعاقبة الظلم وخيمة (1)، ولهذا نرى: أن الله ينصر الدولة العدالة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة (2).
- شرعت الشريعة من الوسائل ما يتلائم مع تحقيق مقاصدها ويحافظ عليها، ولولا ذلك لفات الكثير، ولذا كان اعتناؤها بالوسائل، كاعتنائا بالمقاصد أولى (3)، واعتبرت الوسائل بمثابة التممات والتكملات (4)، وصارت كل وسيلة تخدم مقتصداً مطلوبة التحصيل، وكل وسيلة لا تؤدي إلى ذلك مطلوبة الترك (5)، كما أنه قد تتحد الوسائل إلى المقصد الواحد، فيقدم أقواها تحصيلاً للمقصد المتوسل إليه، بحيث يحصل كاملاً ميسوراً يقدم على ما هو دونه في هذا التحصيل (6).
__________
(1) مقاصد الشريعة عند الإمام العز بن عبد السلام ص 535.
(2) مجموع الفتاوى (28/ 26).
(3) الفروق 4/ 35) مقاصد الشريعة عند الإمام العز ص 535.
(4) قواعد الأحكام (1/ 86) مقاصد الشريعة ص 535.
(5) مقاصد الشريعة عند الإمام العز ص 535.
(6) المصدر نفسه ص 535.(1/679)
إن الله عز وجل قد أكرم الأمة بهذا العالم الجليل صاحب الفهم السليم، والطبع المستقيم، والعلم المتين، في مرحلة حرجة من المراحل التي مرت بها الأمة الإسلامية، من تمزق سياسي، وصراع بين المشاريع، المشروع المغولي، والمشروع الصليبي، وبقايا المذهب الباطني، وكان الابتلاء الكبير بسقوط بغداد في يدي التتار عام 656هـ، فكان للاجتهادات المقاصدية، وفقه المصالح ومراتبه والمفاسد ودراجته أثر كبير في نهوض الأمة من كبوتها وإعادة دورها الحضاري، فبفضل الله ثم جهود العلماء من أمثال العز بن عبد السلام، وسلاطين المماليك، استطاعت الأمة التصدي للمشروع المغولي والمشروع الصليبي ثم القضاء على المشروعين وانتصار الإسلام العظيم في عهد المماليك وهذا ما سوف نعرف تفاصيله بإذن الله تعالى في كتابنا عن المماليك.
تاسعاً: التربية والآداب والتصوف عند العز بن عبد السلام:
1 - نماذج من المبادئ التربوية عند العز: عرض العز رحمه الله تعالى رؤيته لمبادئ التربية الإسلامية، المستقاة من كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وتمثل جانباً من المنهج الفريد للتربية الإسلامية، وذكر العز هذه المبادئ في مختلف كتبه ويمكن جمعها واستخلاص نظرية متكاملة منها، ونكتفي هنا، بالإشارة إلى جانب منها للإرشاد إليها والعمل بها فمن ذلك.
أ- أصول التربية لمرحلة الحضانة: حيث يقول: وذلك بحسن التربية، واللطف، والرفق والحُنوُ، ودفع المضار، وتحسين الحسن للصغير، وتقبيح القبيح، وتعليم الآداب، وتلقين الكتاب وتعليم الخط والعلم إن كان متأهلاً لذلك، أو صناعة تليق بأمثاله، والأمر بالصوم والصلاة، والنهي عن كل خلق ذميم وعمل غير مستقيم واجتناب الضرب إن تأدب بالقول والتهديد، والضرب الذي لا يصلح إلا به، إلا أنه لا يصلحُ بالضرب الشديد فيجتنب الخفيف والشديد (1).
__________
(1) شجرة المعارف ص 170، العز بن عبد السلام للزحيلي ص 305.(1/680)
ب- تأديب الأهل بآداب الشرع: حيث يقول: تأديب الأهل إنعام عليهم، وإحسان إليهم، وفضيلة الدعاء إلى الآداب مأخوذة من فضل ذلك الأدب، فأفضل التأديبات التأديب بأفضل القربات، وأشرف الطاعات وكذلك الأفضل، فالأفضل، والأمثل فالأمثل (1).
ج- الوسائل التربوية مع الأطفال والتدرج في الأحوال: حيث يقول: وإذا تعلم الصبي ما ينبغي أن يتعلمه من غير زجر فلا يُزجر، وإن لم يتعلم إلا بالزجر زُجر، فإن لم ينجح فيه الزجر ضُرب ضرباً يحتمله مثله وتغلب فيه السلامة وإن لم ينزجر إلا بالضرب المبَّرح حَرُم المبَّرح لأدائه إلى قتله، ولم يجز غير المبَّرح لأنه إنما جاز لكونه وسيلة إلى الإصلاح، فإن لم يحصل الإصلاح حرم، لأنه إضرار غير مفيد (2).
ح- المزج بين قواعد الأصول ومبادئ التربية: يقول في هذا المزج: إذا كان الصبي لا يُصلحه إلا الضرب المبَّرح، فهل يجوز ضربه تحصيلاً لمصلحة تأديبه؟ قلنا: لا يجوز ذلك، بل لا يجوز أن يضربه ضرباً غير مبَّرح، لأن الضرب الذي لا يبّرح مفسدة وإنما جاز لكونه وسيلة مصلحة التأديب، فإن لم يحصل التأديب سقط الضرب الخفيف، كما يسقط الضرب الشديد لأن الوسائل تسقط بسقوط المفاسد سقط (3).
__________
(1) العز بن عبد السلام للزحيلي ص 306.
(2) شجرة المعارف والأحوال ص 264 العز بن عبد السلام للزحيلي ص306.
(3) قواعد الأحكام (1/ 121)(1/681)
د- مداعبة الصبيان والإحسان إلى البنات: ومن هذه الأصول التربوية دعوة العز إلى مداعبة الصبيان، فقد قال: مداعبة الصبيان بَسْط لهم، وتطبيب لقلوبهم وترويح عن نفوسهم ومن هذه الأصول التربوية الدعوة إلى الإحسان إلى البنات، وإبطال عادات الجاهلية الجائرة، فقال العز: لما كان الحمقى ينفرون من البنات، ويكرهونهنَّ، عظّم الله ثواب من خرج من عادة الناس في ذلك بالصبر عليهن والإحسان إليهن (1)، ثم يرشد العز إلى أن من الإحسان إلى البنات المبادرة بهن إلى الأكفاء، فيقول: المبادرة إلى إنكاح الأكفاء، والرغبة فيهم، مسارعة إلى إحصان المرأة، ودفع العار عنها، بالتزويج بالكفؤ، مع أن البعل الصالح يدعوها إلى كل خير، ويزعها عن كل شر (2). وقام ببيان وظيفة المرأة وأثرها في التربية، فقال: شفقة المرأة على مال زوجها أداء للأمانة، وحُنوُها على طفلها حامل على اللطف به، والإحسان إليه بحسن التغذية والتربية (3).
__________
(1) شجرة المعارف ص 241.
(2) المصدر نفسه ص 307.
(3) قواعد الأحكام (1/ 77، 78) فتاوى سلطان العلماء ص 151.(1/682)
ذ- الوازع الفطري والشرعي: وبين أن قوة الوازع الفطري عند الإنسان، وأنه أقوى من الوازع الشرعي، لذلك جاءت الأحكام الشرعية منسجمة مع الفطرة وأن الفطرة السليمة بها وازع في داخلها لا يحتاج إلى توجيه الشرع الذي جاء مطابقاً للواقع والفطرة، فأسقط العدالة في بعض الولايات، فعقد العز رحمه الله فصلاً: فيما تشترط فيه العدالة من الولايات، فقال: العدالة شرط في بعض الولايات، وإنما شرطت لتكون وازعة عن الخيانة والتقصير في الولاية ولا تشترط العدالة في ولاية القريب على الأموات في التجهيز والدفن والتكفين والحمل، والتقدم في الصلاة، لأن فرط شفقة القريب ورحمته على المبالغة في الغسل والتكفين والدعاء في الصلاة وكذلك إنكساره بالحزن على التضرع في دعاء الصلاة، فتكون العدالة في هذا الباب من التتمات والتكملات وكذلك ولاية النكاح لا تشترط فيها العدالة على قول؛ لأن العدالة إنما شرطت لتنتزع الولي عن التقصير والخيانة وطبع الولي في النكاح يزعه عن التقصير والخيانة في حق موليته لأنه لو وضعها في غير كف - كان ذلك عاراً عليه وعليها وطبعه يزعه عما يدخله على نفسه ووليته من الأضرار والعار، وكذلك لو كان الولي مستوراً صح النكاح في ظاهر الحكم اعتماداً على العدالة الظاهرة مع قوة الوازع (1)، ولذلك أمثلة كثيرة في الشرع كقبول إقرار الشخص على نفسه ولو كان فاسقاً أو كافر.
__________
(1) شجرة المعارف ص 361 العز بن عبد السلام للزحيلي ص 308.(1/683)
س- من القواعد التربوية في الدعوة إلى الله: وذكر العز بعض القواعد التربوية في الدعوة والتي سار عليها الأنبياء ويجب الاقتداء بهم، والالتزام فيها، لأنها المنهج الإلهي في الدعوة، فمن ذلك الموعظة الحسنة، فيقول العز: الموعظة الحسنة أدعى إلى قبول الحق من الموعظة المنفرَّة، وما أغلظ الأنبياء في مواعظهم إلا لمعاندٍ جريء على الله (1)، ومن ذلك الدعوة باللين وعدم الغلظة، فيقول العز رحمه الله تعالى: للّين مواطن لا يليق بها غيره، وللغلظة مواطن لا يُناسبها سواه، فمن استعمل أحد الأمرين في موضع الآخر فقد أخطأ، .. وفيه تأليف القلوب، وتطيب للنفوس، مُوجِب للإتفاق على مصالح الدارين (2)، ويذكر العز الأدلة والأمثلة من القرآن الكريم ويؤكد العز أن الغضب لا يصح من الداعية إلا إذا انتهكت حرمات الله ومقدساته، فيقول: العاقل يعرف مظان الغضب لله، فيها، ويعرف مظان التلطف، فيتلطف فيها، ألا ترى أن موسى تلطف في أول الأمر بفرعون بقوله: "هل لك إلى أن تزكى" (النازعات، آية: 158).
__________
(1) شجرة المعارف ص 361 العز بن عبد السلام للزحيلي ص 308.
(2) العز بن عبد السلام للزحيلي ص 309.(1/684)
"إني رسول من رب العالمين" (الأعراف، آية: 104) وغير ذلك من القول اللًّين الذي أمر به، فلما أصر وأظهر العناد مع تيقنه صدق موسى لقوله "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً" ثم قال لموسى "إني لأظنك يا موسى مسحوراً " (الإسراء، آية: 101) فأجابه بما يقتضيه الحال في الجواب، فقال (لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا ربُّ السموات والأرض بصائر، وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً" (الإسراء، آية: 102)، أي مُهْلكاً ثم يقول العز: وكذلك جميع الرسل إذا استقرئ أمرهم في بَدء الإرسال وجدت فيه الرفق واللين والشفقة على قومهم، فإذا أصروا وعاندوا أغلظوا لهم حينئذ، لما ركّب الله تعالى في رسله من العقول الوافرة، والأحلام الكاملة "الله أعلم حيث يجعل رسالته" (الأنعام، آية: 124) بخلاف الغبي يلين في مواطن الإغلاظ، ويغلظ في مظان اللين، معتقداً، أنه مقتد بالرسل في غلظتهم ولينهم، فنعوذ بالله من الجهل بمظان خطابه، ومن تحريف كلامه وتنزيله على غيره مراده (1).
__________
(1) العز بن عبد السلام للزحيلي ص 309.(1/685)
ش- تغيير الأحكام بتغير الزمان: يمزج العز رحمه الله تعالى في الأحكام التي تؤدي إلى التطور فإنه يعتد به في تغيير الأحكام بتغير الأزمان، فيقول: فلو حكم الحاكم في محل يسوع فيه الاجتهاد، ثم تغير اجتهاده فحكم بما أدى إليه اجتهاده ثانياً كان ذلك قطعا لما حكم به أولا، ولا يبطل الأول بذلك، بل ينقطع من حين تغير الاجتهاد، ويبقى الأول على ما كان عليه (1). فالحكم الشرعي يتغير في نفس المجتهد ويشمل السابقة واللاحقة ولكن لا يبطل الحكم الأول إذا أفتى به المفتي أو حكم به القاضي بل يبقى الحكم الأول لوقته فقط، وللسائل أو المحكوم عليه به، لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله، وهذا ما قرَّره عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ميراث المسألة المشتركة بعدما تغير اجتهاده، وطلب أصحاب القضية الأولى بنقض اجتهاده السابق، أجابهم بقوله المشهور: تلك على ما قضينا، وهذه على ما نقضي، وهذا ما قرره الفقهاء في المذاهب الأربعة بعدم نقض الحكم السابق إذا كان مبنياً على اجتهاد، ثم تغير الاجتهاد، وهو المقرر في جميع محاكم النقض في العالم (2).
وهكذا نلاحظ المبادئ التربوية في فكر العز وذهنه وكتبه وكيف يراعى الفطرة الإنسانية، ويعتد بالوازع الفطري، وأنه أصيل في الإنسان، وله بواعثه الذاتية، ودوافعه الخفية التي تحرك صاحبها تلقائياً في معظم الحالات، لذلك يخفف الشرع من توجيهه فيها، معتبراً أن الوازع الفطري المطبوع عليه الإنسان داخلياً أقوى من الوازع الشرعي، لذلك اعتبر الشرع الحكيم تناول الطعام والشراب والشبع وغيرها مجرد أحكام مباحة أو مندوبة، مع أنها ضرورية للحياة، لأن الوازع الفطري كفيل بتأمينها ورعايتها، وهذا ما أكده الشاطبي فيما بعد في كتابه الموافقات (3).
__________
(1) قواعد الأحكام (2/ 48).
(2) العز بن عبد السلام للزحيلي ص 310.
(3) المصدر نفسه ص 310.(1/686)
ك- إنسانية الإنسان عند العز بن عبد السلام:
وضع الشيخ عز الدين نصب عينيه شيئاً واحداً، جنَّد فقهه لتربيته وتهذيبه، وهو إنسانية الإنسان، فأحاطها بالرعاية والرفق والتستر، وأخيراً .. بالجمال (1)، ونذكرَّ أيضاً بكتاب العز رحمه الله تعالى: أحوال الناس، فهو في التربية الإسلامية للروح والنفس ومراقبة الله تعالى، والخوف منه، والاستعداد لملاقاته، ومحاسبة النفس في أعمالها وخطواتها محاسبة ذاتية، ورقابة داخلية "بل الإنسان على نفسه بصيرة" (القيامة، آية: 14) ليزن أعماله قبل أن توزن عليه، ويقدر نتائجه سلفاً، ليحتاط عند التقصير، ويرتدع عند الندم، ويزداد في العمل الطيب ويقول العز فيه: ما من برّ ولا فاجر، ومؤمن وكافر، إلا ينظر في البرزخ إلى منزله بكرة وعشية إن كان من أهل النار فمن أهل النار، وإن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة (2). ويقول: من الغموم والآلآم وأسبابها وأفراحها أفضل الأفراح، ولذاتها أفضل اللذات وأفضل لذة رضا الرب والنظر إليه، وسماع كلامه والأنس بقربه وجواره (3).
__________
(1) عز الدين بن عبد السلام، بائع الملوك، لمحمد حسن ص 141.
(2) أحوال الناس ص 46 العز بن عبد السلام للزحيلي ص 311.
(3) العز بن عبد السلام للزحيلي ص 311.(1/687)
2 - التصوف عند العز بن عبد السلام: اتفقت آراء العلماء والكتاب والمصنفين قديماً وحديثاً على معظم أخبار العز وصفاته وأحواله وكتبه، ولكنهم اختلفوا اختلافاً واسعاً في وصفه بالتصوف أو براءته منه، وتشعب القول في ذلك، لاختلاف الناس في حقيقة التصوف، ومشروعيته، واتفاقه مع الإسلام أو مخالفته، واختلاف صورته في التاريخ الإسلامي، ووجود الجذور الأصيلة لمعاينة في القرآن والسنة من جهة، وخلطه بالمصطلحات والمبادئ الدخيلة من جهة ثانية، والتستر وراءه من ذوي النوايا الخبيثة والماكرين والحاقدين من جهة ثالثة، وهل تتفق هذه الأحوال مع حياة العز ومواقفه وكتبه؟ وذهب معظم المؤرخين القدامى، وبعض المعاصرين إلى إثبات نسبة التصوف للعز، واتفاقه مع الكتاب والسنة، واستندوا إلى أدلة كثيرة، أهمها صلته بكبار علماء الصوفية في زمانه كأبي الحسن الشاذلي والسهروردي وحضور مجالسهم وقراءة كتب الصوفية وممارسته لبعض أعمالهم (1) ونقل ابن السبكي: أن الشيخ عز الدين لبس خرقة التصوف من الشيخ السُّهروردي، وأخذ عنه وذكر أنه كان يقرأ بين يديه "رسالة القشيري" ثم السبكي: وقد كان للشيخ عز الدين لبس خرقة التصوف من الشيخ السُّهروردي، وأخذ عنه، وذُكر أنه كان يقرأ بين يديه "رسالة القشيري" ثم قال ابن السبكي: وقد كان الشيخ عز الدين اليد الطولى في التصوف وتصانيفه قاضية بذلك (2)، وقال ابن العماد الحنبلي: وله مكاشفات، قال الذهبي: كان يحضر السماع، ويرقص (3)، وقال السيوطي: وله كرامات كثيرة ولبس خرقة التصوف من الشهاب السُّهروردي، وكان يحضر عند الشيخ أبي الحسن الشاذلي، ويسمع كلامه في الحقيقة ويعظمّه (4)
__________
(1) المصدر للزحيلي ص 318.
(2) العز بن عبد السلام للزحيلي ص 318.
(3) شذرات الذهب نقلاً عن العز بن عبد السلام للزحيلي ص 318.
(4) حسن المحاضرة (1/ 315) العز بن عبد السلام للزحيلي ص 319 ..(1/688)
وذهب فريق من المعاصرين إلى نفي التصوف عن العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى، وأن التصوف يتنافى مع عقلية العز الفكرية والاجتهادية، القائمة على إعمال العقل في النصوص، وتتعارض مع سيرة العز في الحياة ومواقفه وفتاويه وكتبه ومصنفاته، ومما يؤيد أصحاب هذا الرأي ما صدر عن العز رحمه الله تعالى من شدة وصراحة في بعض أمور التصوف، فمثلاً قوله عن بعض الدخلاء: قد يتشبه بالقوم من ليس منهم ولا يقاربهم في شيء من الصفات وهم شر من قطاع الطريق، لأنهم يقطعون طرق الذاهبين إلى الله تعالى، وقد اعتمدوا على كلمات قبيحة (1). ويندد العز رحمه الله بكثير من اصطلاحات الصوفية والرموز التي يستعملها المتصوفة ويُشكل ظاهرها، ويخفي باطنها فيقول: ولهم ألفاظ يستطعمها سامعها منها: التحلي، وهو عبارة عن العلم والعرفان وكذلك المشاهدة ومنها الذوق، وهو عبارة عن وحدات لذة الأحوال ووقع التعظيم والإجلال، ومنها الحجاب، وهو عبارة عن الجهل والغفلة والنسيان، ومنها قولهم: قال لي ربي، وإنما ذلك عبارة عن القول بلسان الحال دون لسان المقال، كما قالت العرب: امتلأ الحوض ومنها قولهم، القلب بيت الرب، ومعناه القلب بيت معرفة الرب، شبهوا حلول المعارف بالقلوب بحلول الأشخاص في البيوت، ومنها: القرب، وهو عبارة عن الأسباب الموجبة للأبعاد ومنها: المجالسة، وهو عبارة عن لذة يخلقها الرب سبحانه وتعالى مجانسة للذة الأنس، وبمجالسة الأكابر (2)، ويقول: الفناء الناشيء عن الاستغراق ببعض هذه الأحوال، وحقيقة الفناء غفلة وغيبة (3)
__________
(1) العز بن عبد السلام للزحيلي ص 323، قواعد الأحكام (2/ 212).
(2) قواعد الأحكام (2/ 219، 220) العز بن عبد السلام للزحيلي ص 223.
(3) المصدر نفسه (2/ 214) ..(1/689)
ويصل العز قمة الإنكار والاستهجان لما يصدر عن المتصوفة من الرقص والسماع فيقول: وأما الرقص والتصفيق فخفه ورعونة مشبهة لرعونة الإناث، لا يفعلها إلا راعن، أو متصنع كذاب، وكيف يتأتى الرفض المتزن بأوزان الغناء ممن طاش لبه، وذهب قلبه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم! ولم يكن أحد من هؤلاء الذين يقتدي بهم يفعل شيئاً من ذلك، وإنما استحوذ الشيطان على قوم، يظنون أن طربهم عند السماع إنما هو متعلق بالله عز وجل ولقد مالوا فيما قالوا، وكذبوا فيما أدعوا .. ومن هاب الإله وأدرك شيئاً من تعظيمه لم يتصور منه رقص ولا تصفيق، ولا يصدر التصفيق والرقص إلا من غبي جاهل ولا يصدران من عاقل فاضل (1) ولما سئل العز عن الإنشاد والتواجد والرقص والسماع أجاب: الرقص بدعة، لا يتعاطاه إلا ناقص العقل، ولا يصلح إلا للنساء، وأما سماع الإنسان المحرك للأحوال السنية بما يتعلق بالآخرة، فلا بأس به، بل يندب إليه عند الفتور، وسامة القلوب وهذا شبيه بما يعرف في يومنا هذا بالأناشيد الإسلامية، لأن الوسائل إلى المندوب مندوبة والسعادة كلها في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم واقتفاء أصحابه الذين شهد لهم بأنهم خير القرون، ولا يحضر السماع من قلبه هوى خبيث، فإن السماع يحرك ما في القلوب من هوى مكروه أو محبوب والسماع يختلف باختلاف السامعين والمسموع منهم وهم أقسام (2).
__________
(1) قواعد الأحكام (2/ 220 - 221) العز بن عبد السلام ص 324.
(2) فتاوى سلطان العلماء ص 324.(1/690)
إن العز بن عبد السلام امتداد لمدارس التزكية السنية التي سبقه إليها كبار الصحابة وسادة التابعين، ومن أمثال الحسن البصري، ومالك بن دينار وأيوب السختياني واستمرت مدرسة التصوف السني إلى يومنا هذا، فهي تهتم بالورع والتقوى والزهد والثقة بالله والاعتماد عليه ودوام الصلة به، وشدة مراقبة العبد لربه في الخلوة والجلوة، والسر والعلن ولا يقصد إلا مرضاته في كل ما يصدر عنه ولقد ضرب العز بن عبد السلام في عصره أروع الأمثلة لهذه المعاني الإسلامية الثابتة في القرآن والتي طبقها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وعبادته وتربيته، وسار عليها معظم السلف الصالح وأولياء الله، وعبَّاده الأتقياء ويوافق عليها كل مسلم يزداد في هذا المحال وازداد في هذا المجال تعلقاً والتزاماً وقرباً وشوقاً كلما تقدمت به السن وعرف حقيقة الحياة وجرب ما فيها، وأيقن مصيره إلى لقاء الله وحسابه وجنته ورضوانه وهذه المعاني الإسلامية الثابتة والمهمة والجليلة يدعو إليها كل عالم عامل ومسلم صادق وداعية مخلص ومن هذا الإطار صنف العز كتبه التي وصفت من غيره وصُنَّفت بعنوان "كتب التصوف، كما كثرت هذه المعاني في سائر كتبه في التفسير والعقيدة والفقه وأصول الفقه، والتربية، وفضائل الأعمال، وفي الأخلاق والآداب، لأنها انعكاس عن سريرته وما يكنه في قلبه وما يلتزمه في حياته وسلوكه، كما أن المسلم الصادق يقدر من يتصف بهذه المعاني الإسلامية السامية ويحترم أشخاصهم ويتقرب منهم، ويثني عليهم، ومن هذا المنطلق نعلل احترام العز لمعاصريه من علماء التصوف كالسُّهروردي والشاذلي، وأبي العباس المرسي، وصداقته لهم، والتقاءه معهم، وحضور مجالسهم ومشاركتهم في بعض الجوانب التربوية والسلوكية، بل حتى في قبول الشارات الشكلية التي يتعلقون بها، ما دامت لا تخالف الكتاب والسنة، ومن هذا المنطلق نقبل جميع ما ذكره مترجمو العز باعتباره متصوفاً، وأنه كان يقرأ "رسالة القشيري" في(1/691)
التصوف، وأن له اليد الطولى في التصوف وتصانيفه قاضية بذلك، وإن أريد بالتصوف معناه الإصطلاحي، كمذهب وطريقه بحسب السائد والمعروف والمألوف في العصور المتأخرة، فنستطيع أن نجزم أن الشيخ العز لم يكن متصوفاً ولا صوفياً على الإطلاق ونستدل على ذلك بأمور كثيرة وواضحة، منها أن كتب العز الموسومة بالتصوف هي بذاتها إما للرد على المفاهيم الباطلة التي تسربت باسم الصوفية إلى الإسلام، فهدم العز وجودها ونسبتها إلى الدين والإسلام كالقطب والأبدال، وإما لتقريب المتصوفة إلى الطريق الصحيح والإيمان السليم، والعمل بالشرع، مثل كتابه "مسائل الطريقة" إن صحت نسبته إليه، فلعله أراد أن يأخذ بيدهم - وهو يحبهم ويحترمهم - إلى الطريق الأقوم، والمنهج السديد، والإلتزام بالكتاب والسنة والسيرة وأعمال السلف الصالح، وإما للتخفيف من غلواء المتصوفة، لبيان المعنى الصحيح للمصطلحات الشرعية التي عرضها الحارث المحاسبي في كتابه "مقاصد الرعاية". (1)
__________
(1) العز بن عبد السلام للزحيلي ص 326، 327، 328.(1/692)
والخلاصة، إننا نرى أن العز كان صوفياً حسب قواعد الشرع ومن الناحية الفكرية والقلبية والروحية، وبحسب المعنى العام الوارد في الشرع عن هذا الجانب التربوي في الإسلام، وأنه ملتزم بكل ما جاء في القرآن والسنة من التربية الروحية والقلبية والتهذيب النفسي، ولم يكن متصوفاً بالمعنى الإصطلاحي والعرفي ولم يتلزم بطريقة يلتزم طقوسها ومصطلحاتها وقواعدها، ولم يدخل في المتاهات الغامضة التي تحتمل الظاهر والباطن، والصحيح والفاسد وفيها ركام طيب وخبيث وغث وسمين وبساطة وغموض وشك وحقيقة وارتياب، وطعن أو سوء ظن بإطلاق الكلمات، مهما كان معناها، ومهما كان المراد منها .. إلخ فالعز مع الشرع والدين والنصوص والأحكام، فما أجازه الشرع قال بحله، ولو كان سماعاً، وما حرمه الشرع قال بمنعه، ووقف بشكل صلب في وجه البدع والمنكرات وفي وجه التطرف والمغالاة التي تسربت إلى المسلمين بصور عديدة (1)، فالصوفي عند الشيخ عز الدين بن عبد السلام: من صفت سريرته ونارت بصيرته وعلت همته ونطقت حكمته وارتفعت رتبته، وتعلم العلم وعلمه وطلبته من الله لا من غيره وأن يكون متصفاً بالرضا والسير في الطريق ومراعاة الرفيق، والهدى والتحقيق وفعل الخيرات وترك المنكرات، وإقالة العثرات، وأن يكون مجتهداً في العمل الصالح المرفوع وأن يكون متأدباً مع شيخه وإخوانه، حافظاً غالباً على شيطانه (2).
وملخص القول في تصوف العز بن عبد السلام في النقاط الآتية:
- درس الشيخ عز الدين التصوف كعلم من علوم الشريعة في مرحلة الطلب واستفاد منه كثيراً.
- قام العز بحركة إصلاح في التصوف عموماً وصحح الكثير من المفاهيم الموهمة، وجعل مقياسه الشرع الإسلامي في قبول مفردات التصوف.
- رفض الشيخ عز الدين بعض السلوكيات التي يمارسها بعض مدعي التصوف، كالرقص وغيرها من الأمور.
__________
(1) العز بن عبد السلام للزحيلي ص 329.
(2) العز بن عبد السلام للوهيبي ص 97 مسائل الطريقة في علم الحقيقة ص 37.(1/693)
- يعتبر تصوف العز بن عبد السلام امتداد للتصوف السني الذي مارسه الحسن البصري ومالك بن دينار وغيرهم كثير.
وقد قام الاستاذ محمد حسن عبد الله بدراسة جميلة عن عز الدين بن عبد السلام في كتابه عز الدين بن عبد السلام بائع الملوك وانتهى إلى القول بأن العز بن عبد السلام لم ينتسب إلى طريقة صوفية مما شاع في عصره ولم يلبس خرقة الصوفية من السهروردي ولم يبايع الشاذلي وإن كان صديقاً له وإنما كان متصوفاً على طريقة السلف في التصوف وكان بعيد عن الرقص والتواجد والتصفيق لئن ذلك خفه ورعونه، لقد كان العز رجل كفاح ونضال وكان يهتم بالتصوف السني من طهارة القلب وصفاء النفس وخلوص النية لله تعالى وتخلية الذكر من غير الله وتحليته بذكره (1).
__________
(1) عز الدين بن عبد السلام، عبد الرحمن مراد ص 63 إلى 65.(1/694)
3 - جهاد العز بن عبد السلام: نال الشيخ العز بن عبد السلام شرف الجهاد وكان يدعو إليه ويكتبه في كتبه ورسائله، وهو القائل في رسالة الاعتقاد: الجهاد ضربان، ضرب بالجدل والبيان وضرب بالسيف والسنان .. ولكن قد أمرنا الله بالجهاد في نصرة دينه، إلا أن سلاح العالم علمه ولسانه، كما أن سلاح الملك سيفه وسنانه، فكما لا يجوز للملوك إغماد أسلحتهم عن الملحدين والمشركين، لا يجوز للعلماء إعتماد أسلحتهم عن الزائغين والمبتدعين، فمن ناضل عن الله، وأظهر دين الله كان جديراً أن يحرسه الله بعينه التي لا تنام ويُعزَِّه بعزّه الذي لايضام ويحوطه بركنه الذي لا يُرام، ويحفظه من جميع الأنام وعلى الجملة ينبغي لكل عالم إذا أذل الحق، وأخمد الصواب أن يبذل جُهده في نصرهما وأن يجعل نفسه بالذل والخمول أولى منهما .. والمخاطرة بالنفوس مشروعة في إعزاز الدين، ولذلك يجوز للبطل من المسلمين أن ينغمر في صفوف المشركين وكذلك المخاطرة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصرة قواعد الدين بالحجج والبراهين مشروعة (1) وقام العز بجهاد العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعرّض نفسه للمخاطر الشديدة، والأهوال العجيبة، كما مرّ معنا - وعزل بسبب ذلك، وكان مجاهداً جرئياً، ومناظراً قوياً، ومدافعاً صلباً عن دين الله وشرعه، مطبقاً حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رأوه أبو الوليد عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العُسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله تعالى فيه برهان، وعلى أن نقول الحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم (2)
__________
(1) طبقات الشافعية الكبرى (8/ 223، 226) وما بعدها.
(2) البخاري، كتاب الفتن (6/ 2588) ..(1/695)
وجاهد الشيخ عز الدين في الحياة والمجتمع لإقامة شرع الله ودينه وحارب البدع، ووقف في وجه الفرق المنحرفة والآراء الباطلة، والعقائد الضالة، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ونصح أئمة المسلمين وعامتهم كما مرّ معنا، وجاهد أمام الظلمة والطغاة والمستبدين، وخاطر بنفسه تطبيقاً لما قال، وامتثالاً للحديث الشريف الذي رواه جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سيَّدُ الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله (1) وقد قام الشيخ العز بن عبد السلام بهذا الجهاد والنصح للحكام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يعلن الثورة عليهم، ولم يطلب العصيان ضدهم، ما داموا مسلمين ويقيمون الصلاة، ويطبقون الإسلام مع الخطأ أو الانحراف (2)، ويطول بنا الحديث عن جهاد العز بعلمه وبيانه ولسانه وقلمه فالعز رحمه الله لم يتأخر عن الدعوة إلى الجهاد والمشاركة في الإعداد له عندما يهدد العدو بلاد المسلمين وأرضهم وأنفسهم وأموالهم ودينهم، وقد رأيناه لبى دعوة قطز، وهو في الثمانين من عمره، للمشاورة في لقاء التتار، ودعوة المسلمين لذلك، وبيان الحكم الشرعي، وكان الاعتماد في الاجتماع على فتوى العز رحمه الله تعالى التي تحقق أثرها بالنصر المبين في عين جالوت على التتار ولما كانت همة العز أقوى، وجسمه أصلب، وسنه أقل بقليل شارك عملياً في الجهاد والقتال وملاقاة الصليبيين الذين اتجهوا لاحتلال دمياط وسائر مصر بعد أن وصلوا إلى المنصورة، واستظهروا على المسلمين، فهب الجيش المسلم في مصر لمواجهة الغزاة (3)
__________
(1) المستدرك صحيح الإسناد (3/ 195).
(2) العز بن عبد السلام للزحيلي ص 123.
(3) العز بن عبد السلام للزحيلي ص 124 ..(1/696)
قال ابن السبكي: وكان الشيخ مع العسكر، وقويت الريح، فلما رأى الشيخ حال المسلمين نادى بأعلى صوته مشيراً بيده إلى الريح، يا ريح خُذيهم عدة مرات، فعادت الريح، على مراكب الفرنج فكسرتها وكان الفتح وغرق أكثر الفرنج، وصرخ من بين يدي المسلمين صارخ: الحمد الله الذي أرانا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم رجلاً سخّر له الريح (1) وكان النصر المبين للمسلمين، واعتبر المؤرخون هذه الصيحة من كرامات العز رحمه الله (2) والكرامة في معتقد أهل السنة تظهر على يد أولياء الله الصالحين تكريماً من الله تعالى لهم ومصدر الكرامة هو الإيمان الصادق، والإخلاص الكامل، والعبودية التامة، والاعتماد الحقيقي على الله تعالى، والإلتزام بشرع الله تعالى، وكثرة التقرب إليه وقال الله تعالى "ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم، ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون، لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة" (يونس، آية: 62 - 64) وهذا ما أكده رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن رب العزة فيما رواه البخاري عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى قال: من عاد لي ولياً فقد أذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه (3)
__________
(1) حسن المحاضرة (2/ 35) العز بن عبد السلام للزحيلي ص 124.
(2) العز بن عبد السلام للزحيلي ص 124.
(3) صحيح البخاري (5/ 2384)، كتاب الرقاق، باب التواضع ..(1/697)
وكان العز بن عبد السلام - رحمه الله - لا يبغي إلا رضاء الله تعالى - نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحد - ولا يخاف إلا منه ولا يتوكل إلا عليه، فكان الله معه وكان الله له حافظاً ومعيناً وكان الله عنه مدافعاً من أذي المعتدين وتسلط الظالمين، وسطوه الحكام والأمراء " إن الله يدافع عن الذين آمنوا" (الحج، آية: 38) وكفاه الله هَّم الدنيا والآخرة "وكفى بالله وكيلاً" (النساء، آية: 81) وكفى بالله حسيبا" (الأحزاب/39).(1/698)
وكان العز حريصاً على تطبيق شرع الله والسير على جادته وتفنيد ما أمر به، فكان ينظر بنور الله، ويبصر ببصر الله ويتكلم بقوة الله وجبروته، ويبطش بيد الله، ويمشي في سبيل الله، وعلى بركة الله، كما جاء في الحديث القدسي السابق ومن هنا أكرمه الله تعالى بأمور خارقة للعادة، مر معنا قصته مع اللصوص في البستان، وقصته في تغيير اتجاه الريح بسبب دعائه في معركة دمياط ضد الفرنج وقصته مع نائب السلطنة الذي جاء العز وهو شاهر السيف ليقتله، فحين وقع بصره على النائب يبست يد النائب، وسقط السيف منها وأرعدت مفاصلة، فبكى وسأل الشيخ أن يدعو له (1) ونضيف هنا قصة جديدة وطريقة، نقلها ابن السبكي فقال: كان في الريف شخص يقال له: عبد الله البلتاجي من أولياء الله وكانت بينه وبين الشيخ عز الدين صداقة، وكان يُهْدي إليه في كل عام، فأرسل إليه مرة جمل هدية، ومن جملته وعاء فيه جُبْن، فلما وصل الرسول إلى باب القاهرة؛ انكسر ذلك الوعاء وتبددّ ما فيه، فتألم الرسول لذلك، فرآه شخص ذمي، فقال له: لم تتألم؟ عندي ما هو خير منه قال الرسول: فاشتريت منه بَدَله وجئت، فما كان إلا يقدر أن وصلت إلى باب الشيخ، ولم يعلم بي ولا بما جرى لي غير الله تعالى، وإذا بشخص نزل من الشيخ، وقال: أصعد بما جئت به فناولته شيئاً فشيئاً إلى أن سلمته ذلك الجبن، فطلع ثم نزل، فقلت أعطيته للشيخ؟ فقال: أخذ الجميع إلا الجبْن ووعاءه فإنه قال لي: ضعه على الباب، فلما طلعت أنا، قال لي: يا وليد ليْش تفعل هذا؟ إن المرأة التي حَلَبت لبن هذا الجبن كانت يدها متنجسة بالخنزير، وردَّه وقال: سلمّ على أخي (2).
__________
(1) العز بن عبد السلام، للزحيلي ص 127 طبقات الشافعية (8/ 217).
(2) طبقات الشافعية الكبرى (8/ 213) العز بن عبد السلام ص 128.(1/699)
4 - وفاته: بعد عمر مديد ناهز الثالثة والثمانين عاماً في الجهاد في سبيل الله ونصرة الإسلام ونشر دعوته، توفي العز بن عبد السلام في العاشر من جمادي الأولى سنة ستين وستمائة هجرية 660هـ وقد ذكر ابن السبكي عن ابن العز الشيخ عبد اللطيف أن وفاة والده في التاسع من جمادى الأولى 660هـ وذكر في رواية أخرى أنها في 10 جمادي 660هـ (1)، وهو ما عليه عامة المؤرخين، وهناك رواية لتلميذ العز الدمياطي توفق بني الروايتين وهي قوله: توفي العز يوم السبت 9جمادي الأولى 660هـ ودفن من الغد في سفح المقطم حضرت ذلك وكان درسه الأخير، الذي ألقاه على الناس تفسير قول الله "الله نور السموات ... " (2) قال أبو شامة وهو تلميذ العز أيضاً ومؤرخ حياته: يوم الأحد عاشر جمادي الأولى، أو حادي عشر جمادي الأولى حياته: يوم الأحد عاشر جمادي الأولى أو حادي عشر جمادي الأولى توفي العز بن عبد السلام في مصر وعمل عزاؤه في جامع العقيبة يوم الاثنين 25 جمادي الأولى سنة 660هـ، حضر جنازته الخاص والعام، وصلى عليه الظاهر بيبرس بالقرافة، ودفن في آخر القرافة مما يلي الجبل من ناحية البركة، وصُليَّ عليه صلاة الغائب في جامع دمشق وغيرها من الجوامع بالشام، يوم الجمعة آخر جمادى الأولى ونادى النصير المؤذن بعد الفراغ من صلاة الجمعة: الصلاة على عز الدين بن عبد السلام (3) وقال ابن كثير: توفي في العاشر من جمادى الأولى وقد نيف على 80سنة ودفن في الغد بسفح المقطم (4).
وقال الذهبي: توفي بمصر في جمادى الأولى سنة 660هـ وحضر جنازته الخاص والعام، السلطان فمن
__________
(1) طبقات السبكي (8/ 248) فتاوى شيخ عز الدين بن عبد السلام ص 154.
(2) العز بن عبد السلام، سلطان العلماء ص 179
(3) الذين على الروضتين ص 216 فتاوى شيخ الإسلام العز ص 154.
(4) البداية والنهاية (13/ 442).(1/700)
دونه، ودفن بالقرافة في آخرها، ولما بلغ السلطان خبر موته قال: لم يستقر ملكي إلا الساعةن لأنه لو أمر الناس فيّ ما أراد لبادروا إلى امتثال أمره (1) وقال السبكي نقلاً عن ولده الشيخ عبد اللطيف: وكانت وفاة الشيخ في تاسع جمادى الأولى في سنة ستين وستمائة فحزن عليه - الظاهر - كثيراً حتى قال: لا إله إلا الله ما اتفقت وفاة الشيخ إلا في دولتي وشيّع أمراءه وخاصته وأجناده لتشييع جنازته وحمل نعشه، وحضر دفنه (2)، وقد اختلف في عمره روايتين احداهما أن عمره: اثنتان وثمانون سنة والأخرى ثلاث وثمانون سنة وهذا الاختلاف راجع إلى الخلاف في ولادته، فمن قال إنه ولد سنة 577هـ جعل عمره 83سنة ومن قال إنه ولد سنة 578هـ جعل عمره 82سنة وأما ما ذكره المقريزي من أن عمره اثنتان وستون فهو خطأ لأنه مخالف لما ذكره عامة المؤرخين، ولعله تحريف من النساخ أو خطأ منهم والله أعلم وبالجمع بين هذه الروايات أرى أن أقربها للصحة والصواب ما ذكره السبكي من أن عمر العز ثلاث وثمانون سنة (3)، والله أعلم.
5 - أقوال العلماء فيه: لقد شهد العلماء قبل العامة للعز بن عبد السلام بالإمامة والرياسة وعلو المقام يدل على ذلك مواقفه التي ذكرنا طرفاً منها ومؤلفاته وتلامذته الذين طبقت شهرتهم الآفاق وقد شهد للشيخ علماء عصره ومن جاء بعدهم من جهابذة العلم ومشاهير الرجال وهذه نبذة من أقوالهم (4):
أ- ثناء المعاصرين له:
- قال العلامة ابن الحاجب صديق العز ومعاصره ورفيقه في السفر والرحلة عن العز: ابن عبد السلام أفقه من الغزالي (5).
__________
(1) العبر (5/ 260).
(2) طبقات الشافعية (8/ 245) فتاوى شيخ الإسلام ص 155.
(3) طبقات الشافعية (8/ 245) فتاوى شيخ الإسلام ص 155.
(4) فتاوى شيخ الإسلام ص 156.
(5) طبقات الشافعية الكبرى (8/ 214) حسن المحاضرة (1/ 315).(1/701)
- قال العلامة، جمال الدين الحصري: ت 637هـ شيخ الحنفية في زمانه مخاطباً سلطان دمشق عن العز: هذا رجل لو كان في الهند، أو في أقصى الدنيا، كان ينبغي للسلطان أن يسعى في حُلوله في بلاده لتتم بركته عليه وعلى بلاده، ويفتخر به على سائر الملوك (1).
- وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي: ت 656هـ معاصر العز يمدح مجلسه في الفقه: ما على وجه الأرض مجلس في الفقه أبهى من مجلس عز الدين بن عبد السلام (2).
- وقال الحافظ زكي الدين المنذري ت 656هـ: مفتي الشافعية بمصر ومعاصر العز: كنا نفتي قبل حضور الشيخ عز الدين، وأما بعد حضوره فمنصب الفتيا متعين فيه.
ب- ثناء بعض التلاميذ على العز: قال أبو بكر بن مسدي الأندلسي: 663هـ، تلميذ العز عن شيخه: أحد فقهاء هذا المذهب، ممن فرَّع على أصوله، وهذَّب، ورأس فقهاء بلده (3).
- قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة 665هـ أحد تلاميذة الشيخ: وكان أحق الناس بالخطابة والإمامة وأزال كثيراً من البدع التي كان الخطباءُ يفعلونها، من دقَّ السيف على المنبر، وغير ذلك، وأبطل صلاتي الرغائب ونصف شعبان، ومنع منهما.
- قال القاضي الفقيه الأصولي الأديب الحافظ ابن دقيق العيد 702هـ: تلميذ العز عن شيخه، كان ابن عبد السلام أحد سلاطين العلماء (4).
- قال عز الدين الحسيني تلميذ العز عن شيخه: كان عالم عصره في العلم جامعاً لفنون متعددة، مضافاً إلى ما هو عليه من ترك التكلف مع الصلابة في الدين، وشهرته تغني عن الإطناب في (5) وصفه.
__________
(1) المصدر نفسه (8/ 237) العز بن عبد السلام للزحيلي ص 195.
(2) حسن المحاضرة (1/ 315) العز بن عبد السلام للزحيلي ص 195.
(3) تاريخ علماء بغداد ص 105 العز بن عبد السلام للزحيلي ص 195.
(4) حسن المحاضرة (1/ 315) العز بن عبد السلام للزحيلي ص 195.
(5) شذرات الذهب نقلاً عن العز بن عبد السلام للزحيلي ص 196.(1/702)
ج- ثناء العلماء والمنصفين على العز:
- قال الذهبي ت 748هـ عن العز: .. بلغ رتبة الاجتهاد وانتهت إليه رئاسة المذهب، مع الزهد والورع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصلابة في الدين (1).
- وقال فخر الدين بن شاكر الكتبي ت 764هـ عن العز: شيخ الإسلام، وبقية الأعلام، الشيخ عز الدين .. سمع .. وتفقه .. ودرّس وأفتى، وبرع في المذهب، وبلغ رتبة الاجتهاد، وقصده الطلبة من البلاد، وتخرج به أئمة وله الفتاوى السديدة، وكان ناسكاً ورعاً، وأمّاراً بالمعروف، نهاءً عن المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم (2).
- وقال اليافعي اليمني ت 764هـ عن العز: سلطان العلماء، وفحل النجباء، المقَّدم في عصره على سائر الأقران، بحر العلوم والمعارف، والمعظم في البلدان، ذو التحقيق والإتقان والعرفان والإيقان ... وهو من الذين قيل فيهم: علمهم أكثر من تصانيفهم، لا من الذين عبارتهم دون درايتهم، ومرتبته في العلوم الظاهرة مع السابقين في الرعيل الأول (3).
- وقال العلامة تاج الدين ابن السبكي ت 771هـ في ترجمته العز: شيخ الإسلام والمسلمين، وأحد الأئمة الأعلام، سلطان العلماء إمام عصره بلا مدافعة، القائم بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر في زمانه، المَّطلع على حقائق الشريعة وغوامضها، العارف بمقاصدها لم ير مثل نفسه، ولا رأى من رآه مثله، عِلمْاً وورعاً وقياماً في الحق، وشجاعة وقوة جنان، وسلاطة لسَان (4).
__________
(1) العبر في أخبار من غير (5/ 260) العز بن عبد السلام ص 196.
(2) فوات الوفيات (1/ 594 - 595) العز بن عبد السلام ص 197.
(3) مرآة الجنان (4/ 153) العز بن عبد السلام ص 197.
(4) طبقات الشافعية الكبرى (8/ 209) العز بن عبد السلام ص 197.(1/703)
- وقال العلامة الفقيه الشيخ جمال الدين عبد الرحيم الإسنوي: (772هـ) في ترجمة العز: الشيخ عز الدين ... كان رحمه الله شيخ الإسلام علماً وعملاً، وورعاً، وزهداً وتصانيف، وتلاميذ، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، يهين الملوك فمن دونهم، ويغلظ القول .. وكان فيه مع ذلك حسن محاضرة بالنوادر والأشعار (1).
- وقال المؤرخ الفقيه الأديب العماد الحنبلي عن العز: عز الدين، شيخ الإسلام .. الإمام العلامة، وحيد عصره، سلطان العلماء وبرع في الفقه والأصول والعربية، وفاق الأقران والأضراب، وجمع بين فنون العلم من التفسير والحديث والفقه واختلاف الناس ومآخذهم، وبلغ رتبة الاجتهاد، ورحل إليه الطلبة من سائر البلاد، وصنف التصانيف المفيدة (2).
س- ثناء بعض المتأخرين على العز:
أ- الشيخ عبد الله مصطفى على العز: عبد العزيز .. الملقب بعز الدين، المعروف بسلطان العلماء، شيخ الإسلام والمسلمين وإمام عصره بلا مدافع، وفريد زمانه بلا منازع، كان ابن عبد السلام علماً من الأعلام، شجاعاً في الحق، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر فقيها أصولياً، محدثاً، خطيباً، واعظاً، أديباً شاعراً، رقيق الحاشية، حاضر النادرة، محترماً، وقوراً، تخشى السلاطين والأمراء صولته وسلطانه (3).
__________
(1) طبقات الشافعية للإسنوي (2/ 84) العز بن عبد السلام ص 197.
(2) شذرات الذهب نقلاً عن العز بن عبد السلام للزحيلي ص 199.
(3) الفتح المبين في طبقات الأصوليين (2/ 73).(1/704)
- وقال العلامة مصطفى السباعي: بعد أن عرض العصر الذي سبق العز، وسكوت أكثر العلماء عن الجهر بالحق، أو مسايرة الحكام، أو اعتزال الحياة العامة قال: في هذا الوسط المضطرب نشأ العالم العظيم "سلطان العلماء" عز الدين بن عبد السلام، فكان وجوده نسمة من نسمات الرجاء تهبُّ على قلوب اليائيسين, وعزمة من عزمات الإيمان، تنبعث في أوساط المتخاذلين، وومضة من ومضات النور تضيء الطريق للمدلجين في دياجير الظلام، وسوطاً من سياط الحق يلهب الله به ظهور المتكبرين والمتجبرين والظالمين، إن العز بن عبد السلام من أعظم علماء الإسلام الذين تهزني دراسة آثارهم وسيرتهم هزاً عنيفاً (1).
- وقال الأستاذ رضوان علي الندوي: ... وهناك جانب لشخصيته آخر مشرق .. وهو ملكته الأصيلة في فهم الشريعة وروحها ومقاصدها فهماً راسخاً شاملاً عقلياً دقيقاً مبتكراً بعض الابتكار وهو من السابقين الأول في حركة "التقعيد" في الفقه الإسلامي وتطويره .. إلى أن قال في الخاتمة:"انتهينا من البحث في حياة سلطان العلماء الشيخ العز بن عبد السلام، فرأيناه عالماً جليلاً يدرس ويؤلف ويفتي وقاضياً عدلاً يحكم ويقضي، وعرفناه عالماً مجاهداً يوجه ويرشد ويعترض وينتقد الملوك والأمراء والعامة على السواء، وهو في هذا يتحمل الأذى والمشقة ويتعرض للخطر والاضطهاد، فلا يبالي ولا يقف ويواصل النشاط، ويدأب على العمل، ويقيم على الحق ويحاول إقامته في المجتمع حتى قضى ... وكان بذلك رجل عصره وموجّه زمانه وقدوة لمن بعده (2).
__________
(1) العز بن عبد السلام للندوي تقديم مصطفى السباعي ص 5 - 6.
(2) المصدر نفسه ص 177، 178.(1/705)
- وقال محمد حسن عبد الله في ختام بحثه عن عبد العزيز بن عبد السلام بائع الملوك: بعد معرفتنا بهذا كله ندرك أيَّ حياة الحركة كان هذا الرجل الذي زلزل قواعد الظلم في زمانه، وجددَّ حياة الحركة العلمية الإسلامية وأعاد الدماء الحارة الحرة إلى شرايينها، فأعاد إلينا ذكر المصطفين الأخيار من علماء صدر الإسلام، وقادته الاجتماعيين، ومتصوفته العارفين (1).
- العز يعرف نفسه:
وقبل كل هذا الثناء من الآخرين، وبعد هذا الثناء، يأتي ثقة العز العالم الواثق بربه والعارف لما أعطاه الله من علم وفقه وحرصه على نشره بين الناس ابتغاء مرضاة الله تعالى، ولذلك لما هاجر من دمشق، ورحل في طريقه إلى مصر، هرع إليه أمراء المدن لاستضافته في إماراتهم لكي يحظوا بوجوده عندهم، ويسابقوا غيرهم، ويفخروا به؛ ومن بين هؤلاء صاحب الكرك وهي قلعة قوية، ومدينة صغيرة فجاء سلطانها وسأل العز الإقامة عنده، فأجابه بصراحة الرجال، وثقة: بلدك صغير على علمي، وقصدي نشره وتابع سيره إلى أرض الكنانة، وعاصمة الأيوبيين في القاهرة.
وصدق الشاعر عندما قال:
هم الرَّجال وعيبٌ أن يُقال لمن ... لم يتصف بمعاني وصفِهم رَجُلُ (2)
ك- ما قيل فيه من شعر:
قال فيه تلميذه ابن الطباخ:
مجلسكم بحر وإني أمرؤ ... لا أحسن العوم فأخشى الفرق
وقال يحي بن عبد العظيم الجزار بمدح الشيخ ذكر ابن السبكي بيتين من ذلك هما:
سار عبد العزيز في الحكم سيراً ... لم يسره سوى ابن عبد العزيز
عمنا حكمه بفضل بسيط ... شامل للورى ولفظ وجيز
وقال قاضي أسوان عمر بن عبد العزيز يمدحه في مجلسه:
مولاي عز الدين عز بك العلا ... فخراً فدون حذاك منه الهام
لما رأينا منك علماً لم يكن ... في الدرس قلنا إنه إلهام
جاوزت حد المدح حتى لم يطق ... نظما لفضلك في الورى النظام
__________
(1) من بائع الملوك ص 197.
(2) العز بن عبد السلام، للزحيلي ص 203.(1/706)
وهذا فيض من غيض مما ذكره العلماء فيه (1) رحمه الله رحمة واسعة وأعلى ذكره في المصلحين وأسكنه فسيح جناته وجمعنا به في دار الخلود مع الأنبياء والصديقيين والشهداء والصالحين.
المبحث الرابع: الجدل الثقافي بين المسلمين والنصارى في عهد الحروب الصليبية:
إن من خصائص الدعوة الإسلامية عالميتها، وقد وردت آيات كثيرة تدل على ذلك منها:
- بعض الآيات التي ورد فيها لفظ "العالمين"
قال تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" (الأنبياء، آية: 107) أي: وما أرسلناك يا محمد بالشرائع والأحكام إلا رحمة لجميع الناس (2).
وقال سبحانه: "تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً" (الفرقان، الآية:1): أي ليكون محمد لجميع الجن والإنس (3).
- وقال تعالى "قل لا أسئلكم عليه أجراً إن هو إلاَّ ذكرى للعالمين" (الأنعام، آية: 90).
- وقال: "فأين تذهبون * إن هو إلا ذكرٌ للعالمين" (الكوثر، ن الآية: 26 - 27) إلى غير ذلك من الآيات ووجه الاستدلال لهذه الآيات ظاهر من جهة كون الإنس والجن هم المكلفون من العالمين، فالدعوة، إذن متوجهة إليهما (4).
__________
(1) فتاوى شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام ص 158.
(2) فتح القدير، محمد علي الشوكاني (3/ 616).
(3) جامع البيان للطبري نقلاً عن دعوة المسلمين للنصارى (1/ 849).
(4) دعوة المسلمين في عصر الحروب الصليبية (1/ 50).(1/707)
- بعض الآيات التي ورد فيها لفظ "الناس": قال تعالى: "قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً" (الأعراف، آية: 158) أي قل يا محمد للناس كلهم "إني رسول الله إليكم جميعاً" لا إلى بعضكم دون بعض كما كان من قبلي من الرسل (1) وقال أبو السعود. لما حكي ما في الكتابين من نعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرف من يتبعه من أهلها ونيلهم لسعادة الدارين، أمر عليه الصلاة والسلام ببيان أن تلك السعادة غير مختصة بهم بل شاملة لكل من يتبعه كائناً من كان ببيان عموم رسالته للثقلين (2) والآيات أيضاً، قوله تعالى: "ياأيها الناس قد جاءَكم برهان من ربكم "النساء، آية: 174) وقوله: "قل ياأيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم" (يونس، الآية: 108) وقوله "هذا بلاغٌ للناس وليُنذروا به" (إبراهيم، آية: 52) إلى غير ذلك ووجه الاستدلال بهذه الآيات هو توجيه الخطاب في عموم الناس (3).
وقال تعالى: " وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً" (سبأ، الآية: 28) وغير ذلك من الآيات التي تدل على عموم الرسالة الإسلامية.
__________
(1) إرشاد العقل السليم (2/ 280).
(2) المصدر نفسه.
(3) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 851) جل هذا المبحث مختصر من هذا الكتاب.(1/708)
- الأحاديث التي تدل على عالمية الإسلامية: ورد الكثير من الأحاديث التي تدل على عالمية الدعوة الإسلامية منها حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وكان النبي يبعث إلى قومه: خاصة وبعثت إلى الناس كافة (1)، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأرسلت إلى الخق كافة وختم بي النبيوّن (2)، وأيضاً حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله وسلم قال: والذي نفس محمد بيده لا يسمع بن أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار (3)، ودلت السنة كذلك على شمول دعوته صلى الله عليه وسلم للجن، فمن ذلك ما ورد في الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه، فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها، فسكتوا، فقال: لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردوداً منكم، كنت كلما أتيت على قوله: "فبأيّ ءالاء ربكما تكذبان" قالوا لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد (4). فهذا الحديث يدل على مخاطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم الجن، وقراءته القرآن عليهم، وإنصاتهم له، وإيمانهم بنعم الله سبحانه وتعالى عليهم والتي من أعظمها الإسلام (5) وفعله صلى الله عليه وسلم كذلك يدل على عالمية الدعوة، فبعد دعوته عليه الصلاة والسلام لقومه "وعشيرته الأقربين أخذ يعرض نفسه على القبائل في أسواق العرب وفي المواسم، فعن رجل من بني مالك بن كنانة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سوف ذي المجاز يتخللها يقول: أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا (6)،
__________
(1) البخاري رقم 335.
(2) مسلم رقم 523.
(3) مسلم رقم 523.
(4) صحيح سنن الترمذي (3/ 342).
(5) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 54).
(6) مسند أحمد رقم 16023 صحيح لغيره ..(1/709)
ثم إرساله الكتب والرسائل إلى الملوك والأمراء، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وإلى قيصر، وإلى النجاشي وإلى قيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى (1).
- فعل الصحابة رضي الله عنهم بعده صلى الله عليه وسلم: فبعد وفاته صلى الله عليه وسلم واستلام أبي بكر رضي الله عنه الخلافة وبعد قضائه على فتنة الردة في السنة الحادية عشرة من الهجرة بدأ بالفتوحات الإسلامية نشراً للدعوة، حيث أرسل الجيوش إلى العراق ضد الدول الفارسية وإلى الشام ضد الروم، ثم متابعة ذلك من قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده عثمان بن عفان رضي الله عنه، حيث امتدت الدولة الإسلامية من حدود الصين إلى طرابلس الغرب شرقاً وغرباً، ومن أرمينية إلى اليمن شمالاً وجنوباً ولما ارتضى سبحانه وتعالى دين الإسلام للثقلين الإنس والجن، وكانت الدعوة الإسلامية متوجهة كما سبق إيضاحه، لذلك ميّز جلّ وعلا هذا الدين لكي يصلح لهذه العالمية بمميزات أهمها:
1 - سلامته من التحريف بحفظ الكتاب والسنة: قال تعالى: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنّا له لحافظون" (الحجر، آية: 9).
2 - شموله الموضوعي والزماني والمكاني: والمقصود بالشمول الموضوعي أي وفاؤه بجميع حاجات الإنسان الاعتقادية والعملية قال سبحانه وتعالى: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا، فمن اضُطرَّ في مخمصة غير متجانفٍ لا إثم فإن الله غفور رحيم" (المائدة، آية: 3) وقال: "ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيءٍ" (النحل، آية: 89).
3 - الوسطية: قال تعالى: "وكذلك جعلناكم أمّة وسَطَاً" (البقرة، آية: 143).
4 - أنه دين الفطرة: فكل إنسان يولد مستعداً لقبول الإسلام مهيأ له قال صلى الله عليه وسلم: ما من مولد إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه.
__________
(1) دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصَّليبية (1/ 54).(1/710)
5 - الكمال، وكذلك الوضوح (1).
أولاً: أهمية دعوة النصارى إلى الإسلام:
يمكن أن نبرز أهمية دعوة النصارى خاصة من خلال النقاط الآتية:
1 - توجيه الخطاب في القرآن في كثير من الآيات لأهل الكتاب وتخصيصهم في ذلك أمراً لهم بالتوحيد أو الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأو بياناً لتحريفهم الكلام عن مواضعه أو رداً على
شبههم أو غير ذلك ومن هذه الآيات قوله تعالى: قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم" (آل عمران، آية: 64) وقوله تعالى: ياأهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل" (آل عمران، آية:71) إلى غير ذلك من الآيات ولا شك أن النصارى من أهل الكتاب.
2 - حث القرآن على مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن كما قال تعالى: "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتَّي هي أحسن" (العنكبوت، آية: 46) - بالجميل من القول وهو الدعاء إلى الله بآياته والتنبيه على حججه (2)، وذلك تقديراً لما عندهم من بقية أثر الرسل (3)
3 - تخصيص القرآن للنصارى وتوجيه الخطاب لهم وذلك في قوله تعالى: "وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه " (المائدة: الآية: 47)، قيل: هذا أمر للنصارى الآن بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم (4).
4 - تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب في كثير من الأحاديث دعوة لهم، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار (5)، وقوله صلى الله عليه وسلم: ثلاثة لهم أجران رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم (6).
__________
(1) المصدر نفسه (1/ 56 إلى 61).
(2) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 64).
(3) المصدر نفسه (1/ 64).
(4) الجامع لأحكام القرآن (3/ 136).
(5) مسلم رقم 153.
(6) البخاري رقم 97.(1/711)
5 - تميز النبي صلى الله عليه وسلم لأسلوب دعوة أهل الكتاب بمراعاة التدرج حسب الأهمية وذلك في وصيته لمعاذ بن جبل حينما أرسله إلى اليمن حيث قال له صلى الله عليه وسلم: إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فأدعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ... إلى أن قال فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب (1).
6 - تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم للنصارى في الدعوة كما في قصة وفد نصارى نجران (2).
7 - عناية الإسلام بمعاملة أهل الذمة سواء يهوداً أو نصارى، فقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمة ذمة المعاهد، ووجوب الوفاء له قال صلى الله عليه وسلم: من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً (3) وحرم الإسلام ظلم المعاهد أو تكليفه فوق طاقته أو أخذ شيء من ماله بغير طيب نفس، لقوله صلى الله عليه وسلم: ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة (4)، وأباح الزواج منهم وأحل الله طعامهم.
8 - إن دين النصارى دين عالمي - بمعنى أنه يعده أتباعه ديناً للبشرية جمعاً، ولذلك ينشطون في الدعوة إليه، بعكس كثير من الديانات والمذاهب الأخرى التي يراها أتباعها دينا لهم وحدهم، ولذلك لا يسعون لنشرها، كاليهودية والهندوسية وعلى ذلك ففي دعوة النصارى واهتداء البعض منهم حد لانتشار النصرانية في مجتمعات غير نصرانية، ومن ثم إتاحة الفرصة لنشر الإسلام في مثل هذه المجتمعات.
__________
(1) البخاري رقم 1496.
(2) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 65).
(3) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 66).
(4) صحيح سنن أبي داود (2/ 261).(1/712)
9 - كون النصارى ذوي قوة وكثرة وانتشار في الوقت الحاضر وكثير من المجتمعات غير النصرانية تسعى لتقليدهم ومتابعتهم منخدعة بما بلغوه من حضارة مادية وقوة عسكرية وبهداية هؤلاء النصارى أو البعض منهم وهم بهذا النفوذ بالنسبة للعالم سوف يكون في ذلك صلاح أقوام كثيرين كانوا يرونهم المثال لهم.
10 - أن أكثر الشبه تثار حول الإسلام خصوصاً في الوقت الحاضر إنما هي من قبلهم وباهتداء البعض منهم فيه رد على مثل هذه الشبه.
11 - إن اهتداء بعض النصارى يساعد كثيراً في فضح باطل إخوانهم السابقين في الديانة، لخبرتهم فيها، وما في ذلك من مساعدة للدعاة ودعم لجهودهم.
12 - إن حروب المسلمين في أغلب فترات التاريخ الإسلامي كانت مع النصارى، كحروب المسلمين في الأندلس، وصقلية، والحروب الصليبية في الشام ومصر، بل لا تزال هذه الحروب مستمرة في بعض الجهات من العالم، وباهتداء بعض النصارى يساعد ذلك في كشف عدوان إخوانهم السابقين في الديانة وربما يساعد في إزالة ذلك العدوان (1).
13 - وبالإضافة إلى ما سبق، فإن النصارى أهل ملة سماوية قبل أن يطرأ عليه النسخ والتحريف وهي آخر الملل قبل رسالة الإسلام وفي كتبهم من البشارات بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا تصدى المختصون لإبراز هذه البشارات وشرحها فربما يكون ذلك سبباً في إسلام الكثيرين منهم، بل ويكون هؤلاء أيضاً عوناً في دعوة بني ملتهم السابقة (2).
__________
(1) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 67).
(2) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 68).(1/713)
ثانياً: أهم موضوعات دعوة المسلمين للنصارى: اتجهت جهود المسلمين في دعوتهم للنصارى في هذه الفترة إلى معالجة الموضوعات الأساسية في الدين الإسلامي، وذلك بالدعوة إلى أصول الدين وأسسه التي لا يتم إسلامهم إلا بها، كالتوحيد، والتصديق بالقرآن، وقبول الإسلام بعمومه، والإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم والإقرار بنبوّة عيسى عليه السلام ونفي ألوهيته وإليك شيء من التفصيل:(1/714)
1 - الدعوة إلى التوحيد: كان أمر التوحيد أهم أمور العقيدة الإسلامية التي دعا المسلمون النصارى إليها في فترة الحروب الصليبية وذلك من خلال الدعوة المباشرة بالحث على توحيد الله سبحانه وتعالى ونفي الشريك عنه، أو من خلال إبطال عقيدة التثليث، أو من خلال نفي الألوهية عن المسيح عليه السلام (1)، وقد جعل العلماء دعوة النصارى إلى التوحيد هي أولى ما تصرف فيه الهمم، حيث بين ذلك القرآن في وأكد على أهمية إقامة الأدلة على وحدانية الله سبحانه وتعالى، ولهذه الغاية ألف كتاباً خاصاً بذلك سماه: أدلة الوحدانية في الرد على النصرانية (2). وكثيراً ما تتكرر الدعوة إلى التوحيد في ثنايا مناقشات العلماء المسلمين للنصارى وردودهم عليهم، فمن ذلك مثلاً دعوة القرطبي لصاحب كتاب تثليث الوحدانية إلى نبذ الشرك وتوحيد الباري سبحانه وتعالى، وبيان براءة عيسى عليه السلام من تثليث النصارى وأنه ما بلغهم إلا أن الله واحد فرد صمد لا شريك له سبحانه وتعالى (3) وفي هذا السياق وبعد أن عرض الجعفري شيئاً من الأدلة على توحيد الله سبحانه وتعالى من التوراة والإنجيل وجه كلامه إلى النصارى قائلاً: .. فمن أشرك مع الله غيره فقد كفر بالتوراة والإنجيل (4)، وكانت دعوة النصارى إلى التوحيد بالإضافة إلى الطريقة المباشرة من خلال دعوتهم الصريحة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى ونفي الشريك عنه كانت أيضاً من خلال إبطال عقائدهم الشركية المنافية للتوحيد وذلك بإبطال عقيدة التثليث لديهم وهدمها وإبراز تناقضها، وكذلك من خلال نفي الألوهية عن المسيح عليه السلام وإقامة الأدلة المختلفة على ذلك (5).
__________
(1) المصدر نفسه (1/ 174).
(2) أدلة الوحدانية في الرد على النصرانية ص 20، 21.
(3) الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 176.
(4) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الصليبية (1/ 176).
(5) دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 176).(1/715)
2 - الدعوة إلى اعتناق الإسلام بشكل مجمل: كان من موضوعات دعوة المسلمين للنصارى في هذا الفترة دعوتهم إلى اعتناق، أو من خلال ذكر الأدلة على صحته وبيان محاسنه، أو من خلال رد الشبه عن تشريعاته.
أالدعوة المباشرة إلى اعتناق الإسلام: ومن الأمثلة على ذلك دعوة صلاح الدين لأرناط الصليبي الذي نقض الصلح مع المسلمين، فغدر بقافلة مسلمة قادمة من مصر إلى الشام، فلما ناشده أصحابها الله وذكروه بالصلح الذي بينه وبين المسلمين رد بكلام يتضمن الاستخفاف برسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك لما علم صلاح الدين أقسم إن ظفر به ليقتلنه لاستخفافه برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جيء بهذا الصليبي مع الأسرى بعد معركة حطين في منتصف شوال سنة 583هـ ذكره صلاح الدين بما صدر منه ثم عرض عليه الإسلام فأبى فقتله (1)، والشاهد من ذلك هو عرض الإسلام على هذا القائد الصليبي ودعوته إلى اعتناقه ومثل ذلك عرض الإسلام على صاحب صيدا وقد شهد ذلك ابن شداد حيث قال: ... ولقد رأيته وقد دخل عليه صاحب صيدا بالناصرة، فاحترمه وأكرمه، وأكل معه الطعام، ومع ذلك عرض عليه الإسلام فذكر له طرفاً من محاسنه، وحثه عليه (2) ومن نماذج عرض الإسلام على النصارى في هذه الفترة ودعوتهم إلى اعتناقه استغلال صلاح الدين للقاءاته بوفود الفرنج لإيضاح محاسن الإسلام ثم دعوتهم إليه (3)، وقد بين الجعفري أن من أسباب تأليفه كتاب - تخجيل من حرف التوراة والإنجيل - هو دعوة النصارى إلى الإسلام، حيث قال: فعسى الله أن يقدر هداية بعضهم، ونحن مأمورون بدعائهم إلى سبيل ربنا بالحكمة والموعظة الحسنة (4)
__________
(1) المصدر نفسه (1/ 178) النوادر السلطانية ص (130 - 131).
(2) المصدر نفسه ص 66.
(3) دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 179).
(4) تخجيل من حرف التوراة والإنجيل صالح بن الحسين (1/ 103) ..(1/716)
وتكرر في ثنايا مناقشة القرطبي لكتاب أحد القساوسة النصارى دعوته لهذا القسيس إلى اعتناق الإسلام، ومن ذلك قوله: .. فالله الله، أدرك بقية نفسك قبل حلول رمسك، واستعمل عقلك، ولا تعول على تقليد فاسد، واتبع الدين القويم، دين الأب إبراهيم "ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين" (1) (آل عمران، آية: 67) وفي موضع آخر من مناقشته لهذا القسيس في كتابه: الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام بين له أنه لولا رجاء استنقاذه من الضلال إلى الهدى لما ناقشه، ولما أعطى الحكمة إلى غير أهلها، حيث يقول: ... فلعل مقلب القلوب يستنقذك من عبادة إله مصلوب، ويبدلك بها إخلاص العبادة لعلام الغيوب، ولولا رجاء ذلك لما كان ينبغي لي أن أعطي الحكمة غير أهلها (2).
__________
(1) الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 101.
(2) المصدر نفسه ص 106.(1/717)
ب الدعوة إلى الإسلام من خلال بيان محاسنه: اهتم العلماء المسلمون في عصر الحروب الصليبية ببيان محاسن الإسلام وسماحته لعل ذلك يكون للهداية واعتناق الإسلام ومن هؤلاء: القرطبي الذي عقد فصلاً في كتابه - الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام - مبيناً فيه محاسن الإسلام ومبرزاً الهدف من ذلك بقوله: الغرض من هذا الفن أن نبين فيه عقيدة الإسلام، وجملاً من أصوله وأحكامه، ومواضع من فروع دينه أنكرتها النصارى عليه، وإنما فعلنا ذلك لغرضين (1)، ثم وضح أن أحد الغرضين هو: .. إنه لا يبعد أن يقف على هذا الكتاب نصراني أو يهودي لم يسمع قط من ديننا تفصيلاً ولا تصريحاً، بل إنما سمع له سباً وتقبيحاً، فأردت أن أسرده على الجملة، ليتبين حسنه لمن كان ذكي العقل، صحيح الفطرة، فلعل ذلك يكون سبب هداه، وجلاء عماه (2) وبعد ذلك عرض القرطبي شيئاً من محاسن الإسلام من خلال ثلاثة جوانب هي:
- مراعاته لمصالح العباد في الآخرة: حيث جاءت تشر يعاته بإيضاح كل ما يتعلق بها مما يحتاج إليه العباد وغاية الوضوح، وتعبدنا الله سبحانه وتعالى بعبادة محصنة، كالصلاة والحج وغير ذلك تعظيماً له سبحانه وتعالى، وخضوعاً له بالظاهر والباطن (3).
- مراعاته لمصالح العباد الدنيوية: فجاءت تشريعاته في هذا الجانب حماية للدين، والنفس والمال، والنسب، والعرض والعقل، ولأجل ذلك شرع العقوبات، وحرم كل ما يؤثر على هذه الضرورات كالغيبة، والقذف، وقول الزور، والغش والسرقة، وأكل أموال الناس بالباطل، وحرم الخمر لأنها تذهب العقل الذي هو مناط التكليف وغير ذلك من أنواع الفساد (4).
__________
(1) دعوة المسلمين النصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 180).
(2) الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 438.
(3) المصدر نفسه ص 439.
(4) الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 441.(1/718)
- اتمامه لمكارم الأخلاق: يقول القرطبي: .. وأما مكارم الأخلاق التي تضمنها شرعنا فلا تخفي على متأمل، وذلك أن شرعنا أمرنا بها ظاهراً وباطناً، ونهانا عن رذائلها وسفاسفها (1) ثم وضح القرطبي أمثلة على مكارم الأخلاق في الإسلام، هذه المكارم التي تسعى للتحلي بها كل نفس طاهرة، للخير، مبغضة للشر، فمن المكارم الظاهرة عدد القرطبي النظافة والطهارة والتطيب وتحسين الهيئة وقص الشارب، وإعفاء اللحية، وغير ذلك وبين أن من النظافة الباطنية التخلي عن مذموم الأخلاق كالغضب، والحسد، والبخل، ومهانة النفس، والكبر، والرياء والتحلي بالأخلاق المحمودة كالتوبة من المعاصي وحسن الصحبة والنصيحة والعدل، والتواضع، والإخلاص، والصبرن والصدق، والتوكل، ومحبة الله ورسله إلى غير ذلك (2). وأخيراً أكد القرطبي على أن المتدبر لهذه المحاسن سيعلم من غير شك أنها حق من الله، وأن الذي جاء بها لا يجوز عليه الغلط والكذب، وعلى ذلك فلا يسعه إلا قبولها والإيمان بالذي دعا إليها وهو الإسلام (3).
__________
(1) المصدر نفسه ص 444.
(2) المصدر نفسه ص 445.
(3) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 182).(1/719)
ج- الدعوة إلى الإسلام من خلال رد الشبه عن تشريعاته: قد يكون سبب عدم قبول الحق شبهة في ذهن المدعو، وبإزالة هذه الشبهة تزول العقبة ويتحقق القبول، وهكذا الحال مع النصارى فإنما كانت كثير من الشبة التي يثيرها بعض مضليهم مانعة من العلماء في فترة الحروب الصليبية للذود عن الإسلام بدحض الشبه التي يروج لها أئمة الضلال من النصارى ومن الأمثلة على ذلك رسالة أحد القساوسة إلى أبي عبيدة الخزرجي التي تتضمن الكثير من الشبه والمفتريات حول تشريعات الإسلام ورد أبي عبيدة الخزرجي التي تتضمن الكثير من الشبه والمفتريات حول تشريعات الإسلام، ورد أبي عبيدة على هذا القسيس داحضاً شبه ومفترياته (1)، ومثله القرافي الذي عرض كثيراً من شبه النصارى في هذه الفترة وأبطلها (2).
__________
(1) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 182).
(2) المصدر (1/ 183).(1/720)
3 - الدعوة إلى الإيمان بالقرآن: أدرك العلماء في عصر الحروب الصليبية الخطر الذي تتعرض له الأمة من جراء تكاليف أعدائها عليها، خصوصاً النصارى وما يقومون به من حرب عسكرية وفكرية ضد الإسلام في هذه الفترة، وبالتحديد ما يثيرونه حول القرآن رغبة منهم في زعزعة ثقة الأمة بكتابها، لذلك اشتد عنايتهم بكتاب الله دفاعاً عنه أولاً، ودعوة لهؤلاء النصارى ثانياً، وذلك بتنفيذ مفترياتهم حوله، وتصحيح شبههم التي قد تمنع الكثيرين منهم من التصديق به ولا شك أن التصديق بالقرآن والإيمان به يعني الدخول في الإسلام واعتناقه، إذ أن القرآن والسنة بينا كل ما يتعلق بهذا الدين من عقائد وتشريعات يجب على المسلم الالتزام بها والقرآن قد أمر بالأخذ بالسنة، كما قال تعالى: "وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب" (الحشر، آية: 7) ومن ثم فإن تسليم النصارى بصحة القرآن وإقتناعهم بذلك، وقبولهم لأوامره ونواهيه، يعني نبذهم لما هم عليه من عقائد باطلة ودخولهم في الإسلام وكانت عناية الأمة في هذه الفترة بدعوة النصارى إلى الإيمان بالقرآن من خلال ما يلي:
أ- عناية القرآن بخدمة كتاب الله بشكل عام: من خلال المؤلفات في تفسيره، أو قراءته، أو إيضاح غريبه، أو بيان محكمة ومتشابهه، أو ما يتعلق بناسخه ومنسوخه، أو أحكامه أو إبراز فضائله، أو بلاغته، أو إعرابه إلى غير ذلك ولا شك أن هذه المؤلفات حول كتاب الله سبحانه وتعالى تساعد على فهمه وإيضاحه، ولا يخفى أثر ذلك في زيادة ترسيخ إيمان المسلمين بكتاب ربهم، ومن ثم صمودهم أمام شبهات أعدائهم من النصارى وغيرهم، كما أن هذه الدراسات حول كتاب الله قد تزيل غشاوة الجهل عن كثير من النصارى فيفهمون كتاب الله سبحانه، وقد يكون ذلك سبباً في إسلامهم (1).
ب- عناية العلماء ببيان إعجازه القرآن الكريم بشكل عام وإبراز ذلك للنصارى بشكل خاص:
__________
(1) المصدر نفسه (1/ 189)(1/721)
حيث اعتنى العلماء في هذه الفترة ببيان إعجاز القرآن بشكل عام، فظهرت مؤلفات قصرت الحديث على هذا الجانب، ككتاب البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن (1)، وكتاب التنبيه على إعجاز القرآن (2)، ولا يخفى أن إظهار إعجاز القرآن له أثر كبير في إقناع غير المسلمين، لذلك أبرز بعض العلماء هذا الجانب للنصارى من خلال عدة أمور منها:
- إثبات إعجازه من خلال حفظه من التحريف والتبديل:
وهذا من أعظم الإعجاز، وما كان ذلك ليتحقق لو وُكل حفظه إلى البشر، حيث أشار القرافي إلى حفظ الله سبحانه وتعالى لكتابه، وذلك بتهيئة أسباب ذلك، من العناية بجمعه وألا يداخله غيره؛ حذراً مما وقع لأهل الكتاب، ثم نقله من السلف إلى الخلف نقلاً متواثراً، فصدق الله إذ يقول "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا لله لحافظون" (الحجر، الآية: 9) (3).
قال القرطبي حول هذه الآية "وإنّا له لحافظون" - من أن يزاد فيه أو ينقص منه (4)، وبين - رحمه الله تعالى - في كتابه الإعلام حفظ الله سبحانه وتعالى لكتابه مقابل التحريف والتبديل الذي جرى على التوارة والإنجيل (5)، ثم أورد أمثله على ذلك (6).
__________
(1) لكمال الدين عبد الواحد بن عبد الكريم الزملكاني المتوفي سنة 651هـ.
(2) لمحمد بن أبي القاسم البقالي الخوارزمي المتوفيّ سنة 562هـ.
(3) الأجوبة الفاخرة، أحمد بن إدريس القارفي ص 95.
(4) الجامع لأحكام القرآن (5/ 5).
(5) الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 189.
(6) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 190).(1/722)
- إثبات إعجازه ببيان فصاحته: وفي ذلك قال الخزرجي مخاطباً النصارى ومبيناً إعجاز القرآن بفصاحته، وأن العرب الأوائل - وهم الفصحاء - أقروا له بذلك: يلتفت إلى مقال العجم الجهلاء (1)، ثم وضع أن العرب وقت نزول القرآن وهم أشد أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد كان منهم ما كان من سب الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإيذائهم، بل وحربهم ما تكلموا في فصاحته، وقد جرى لهم التحدي أن يأتوا بمثله كما قال تعالى: "قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً" (الإسراء، آية: 88)، فما استطاعوا ذلك، ثم كان التحدي بعشر سور كما قال سبحانه "قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات" (هود، آية: 13) حتى صار التحدي إلى سورة واحدة " قل فأتوا بسورة مثله" (يونس، آية: 38) ومع ذلك عجزوا ولن يستطيعوا لو حاولوا كما أخبر سبحانه: "ولن تفعلوا" وفي مناقشة القرطبي للنصارى في كتابه الإعلام بين أن فصاحة القرآن أمر لا يقبل الشك: حتى أن العاقل الفصيح إذا سمعه قال: ليس هذا من كلام البشر (2)، ثم وضح نماذج من إعجازه، كقوله تعالى: "خُذِ العفو وأمُر بالعرُف وأعرض عن الجاهلين " (الأعراف؛ 199). وكيف أن هذه الآية لما نزلت قال أبو جهل: إن رب محمد لفصيح (3)، ثم لفت القرطبي النظر إلى جوانب من الفصاحة من هذه الآية، حيث تضمنت أحكاماً وتفسير الحلال والحرام، والإعراض عن أهل الجهل والأجترام والأمر بالتزام أخلاق الكرام، مع ما هي عليه من اللفظ الموجز الجزل الرصين (4)،
__________
(1) المصدر نفسه (1/ 190).
(2) الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 327.
(3) دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 191).
(4) الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 329 - 330 ..(1/723)
ومثال آخر أورده القرطبي هو قوله تعالى: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتائ ذِى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون " (النحل، آية: 90).
وكيف أن الوليد بن المغيرة، لما سمع هذه الآية وهو من أفصح قريش وكان من أشد أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم قال: إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق وأن أعلاه لمثمر مورق وما يقول هذا بشر (1)، وقد جرت مناظرة بين أحد قساوسة بلنسية بالأندلس وأبي علي بن رشيق التغلبي، حول فصاحة القرآن، حيث بدأ القسيس يتكلم حول إعجاز القرآن، وأن العرب - وهم الفصحاء والبلغاء - عجزوا عن الإتيان بشيء مثله، وأن هذا التحدي باق إلى آخر الدهر فوافقه ابن رشيق على ذلك، بعد ذلك أفصح القسيس عما يريد الوصول إليه، فذكر كتاب المقامات للحريري مدعيا أن الأدباء والشعراء، عجزوا عن معارضته، وأن الحريري قد أنشد بيتين اثنين في إحدى المقامات وتحدى أن يعززهما أحد بثالث، وإن السنين انصرفت وما أتى أحد بثالث لهما رغم دَرْس الناس لتلك المقامات وتداولها بينهم، وانتهى إلى القول على ضوء ما سبق: أن ما أتى به الحريري كلام فصيح يصح أن يكون معجزة وليس هو بنبي، فإذا حصل ذلك فإن نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم لا تثبت بمسألة التحدى المنصوص عليه بالقرآن، فلما أخذ ابن رشيق يرد عليه بالأدلة والبراهين العلمية، أخذ القسيس يرد عليه بقوله: قد سمعت هذا وناظرني فيه فلان في تلك الأثناء انقدح في ذهن ابن رشيق بيت ثالث على شاكلة بيتي الحريري، فساقه للقسيس، الذي راح يفهمه لمن معه، وعند ذلك انقطعت حجة القسيس، وكانت النتيجة كما يقول ابن رشيق: إنه انفصل عنهم وهم كالمسلمين في انقطاع شبهتهم (2).
__________
(1) المستدرك للحاكم (2/ 506) صحيح الإسناد على شرط البخاري.
(2) المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى إفريقية والأندلس (11/ 157).(1/724)
- إثبات إعجازه يلفت النظر إلى طريقة نظمه وأسلوبه الغريب:
وفي معرض مناقشة القرطبي للنصارى لفت أنظارهم إلى نظم القرآن وأسلوبه الغريب: ... والذي خالف به أسلوب كلام العرب، حتى كأنه ليس بينه وبينه نسب ولا سبب، فلا هو كمنظوم كلامهما فيكون شعراً موزوناً ولا كمنثوره فيكون نثراً عرياً عن الفواصل محروما، بل تشبه رؤوس آيته وفواصله قوافي النظم، ولا تدانيها، وتخالف آية متفرقات النثر، وتناويها، فصار لذلك أسلوباً خارجاً عن كلامهم، ومنهاجاً خارجاً لعادة خطابهم (1) ثم ضرب للقرطبي مثالاً على ذلك موجهاً إلى النصارى وهو قوله تعالى: "وأذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقيا" (مريم، آية: 16 - 33) إلى قوله تعالى "والسّلام عليَّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أُبعث حَيَّاً" (مريم، آية: 16 - 33)، طالباً منهم التأمل في معاني هذه الآيات، ولافتاً أنظارهم إلى نظمها البديع المنيف الذي عجزت العرب عن معارضته (2).
- إعجاز القرآن بإخباره عن بعض المغيبات فتقع كما أخبر:
ومن ذلك بيان الخزرجي لأحد القساوسة النصارى أن من إعجاز القرآن إخباره عن بعض المغيبات فتحصل كما أخبر، حيث أورد العديد من الأمثلة منها قوله تعالى: " الم غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم* وعد الله لا يخُلفُ الله وعده ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون *" (الروم، آية: 1 - 6) فما كان بضع سنين حتى تحقق ذلك وغلبت الروم الفرس (3).
__________
(1) الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 333.
(2) الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 333 - 334.
(3) مقامع الصلبان ومراتع رياض أهل الإيمان ص 207.(1/725)
ومثال آخر هو قوله تعالى: "لقد صدق الله رسوله الرُّءيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله ءامنين محلقين رُءُوسَكم ومقصرين لا تخافون فعلم مالم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً" (الفتح، آية: 27) فصدق وعده فدخلوا مكة وتحقق الفتح القريب وهو فتح خيبر (1) ومن الأمثلة التي أوردها الخزرجي قوله تعالى: "وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودُّون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين (2) " فيظفر المسلمون بالنصر على قريش في بدر، وما كذب خبر القرآن، وبعد عدة أمثلة ذكرها الخزرجي على ذلك خاطب النصارى متعجباً من عدم تصديقهم بالقرآن، وبمن جاء به رغم إعجازه، وذلك بقوله: ومن أعجب الأشياء أنكم تؤمنون بنبوة مريم وحنة وهما امرأتان، بلا كتاب ومعجزة، ولا ذكرنا في صحف الأنبياء، وتكفرون بسيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم وله كتاب يعجز الإنس والجن (3) وأكد القرطبي في رده النصارى في كتابه الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام أن الأخبار عن المغيبات في القرآن فتقع كما أخبر به من وجوه إعجازه (4)، ثم عرض أمثلة كثيرة على ذلك (5).
وفي هذا السياق قال ابن الأنبارى: فإنه لما كان لا يجوز أن يقع ذلك على وجه الإنفاق دل على أنه من عند علام الغيوب (6)، ثم أورده أمثلة عديدة على ذلك (7).
__________
(1) مقامع الصلبان ومراتع رياض أهل الإيمان ص 208.
(2) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 195).
(3) مقامع الصلبان ومراتع رياض أهل الإيمان ص 213.
(4) الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 195.
(5) الداعي إلى الإسلام ص 424.
(6) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 196).
(7) الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 343.(1/726)
- إعجاز القرآن بإخباره عن بعض الأمم السابقة:
تحدث القرطبي عن وجه من وجوه إعجاز القرآن الكريم، وهو ما تضمنه من الأخبار عن الأمم السالفة التي يشهد العلماء بصحتها مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينل ذلك بتعليم بشري (1)، حيث أورد في رده على النصارى أمثلة على ذلك. خصوصاً ما كان يثيره أهل الكتاب في عهده صلى الله عليه وسلم من أسئلة ينزل القرآن مجيباً عليها، فما ينكرون منها شيئاً، مع شدة عداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحرصهم على تكذيبه ومن ذلك: سؤالهم عن الروح وعن ذي القرنين، وعن أصحاب الكهف، وعن عيسى عليه السلام، وعن حكم الرجم، وعن ما حرم إسرائيل على نفسه، وغير ذلك من أمورهم، التي نزل القرآن مجيباً عنها فلم ينكروا منها شيئاً (2).
__________
(1) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 196).
(2) المصدر نفسه.(1/727)
ج- الدعوة إلى الإيمان بالقرآن من خلال رد الشبه التي أثيرت حوله:
وما أكثر الشبه والمفتريات التي أثارها ويثيرها أعداء الإسلام على القرآن، عبر التاريخ الإسلامي وأعداء الإسلام من النصارى في فترة الحروب الصليبية رددوا شبه من كان قبلهم، وافتروا غيرها طعناً في الدين، وإضعافاً للمسلمين، ويأبى الله إلا أن يتم نوره وقد تصدى علماء الأمة في فترة الحروب الصليبية للرد على مطاعن النصارى ومفترياتهم حول كتاب الله، كالقرافي، والخزرجي، وابن الأنباري، وابن رشيق التغلبي، وغيرهم (1). ولا يخفى أثر إزالة الشبه في قبول الحق لدى من يمنعه من الهدى سوء فهم، أو تضليل معاند، يقول القرطبي في مقدمة نبذة كتبها عن محاسن الإسلام: .. إنه لا يبعد أن يقف على هذا الكتاب نصراني أو يهودي لم يسمع قط من ديننا تفصيلاً، ولا تصريحاً، بل إنما سمع له سباً وتقبيحاً فأردت أن أسرده على الجملة، لتبيين حسنه لمن كان ذكي العقل صحيح الفطرة، فلعل ذلك أن يكون سب هداه وجلاء عماه (2).
__________
(1) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 196).
(2) المصدر نفسه (1/ 196).(1/728)
س- الدعوة إلى الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم:
نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كانت ولا تزال أساس الحوارات والمناظرات التي تجري بين المسلمين وغيرهم، ففي الوقت الذي يسعى الدعاة المسلمون إلى الإقناع بصدقه صلى الله عليه وسلم وصحة رسالته يسعى المعاندون إلى تكذيب ذلك بل وإثارة الشبه حول شخصه صلى الله عليه وسلم وحول رسالته، لذلك ما ترك علماء الأمة صغيرة ولا كبيرة في حياته صلى الله عليه وسلم إلا كتبوا عنها، وما غادروا شيئاً من أقواله وأفعاله إلا قيدوه وميزوا صحيحه من ضعيفه، فكتبوا في سيرته، ومغازيه، وأخلاقه، وشمائله، ومناقبه، وفضائله، وحقوقه ودلائل نبّوته، ومعجزاته، وهديه وصنفوا في أقواله وأفعاله فظهرت الموسوعات الحديثية كالصحيحين والسنن والمسانيد، والمصنفات، وغيرها من كتب الحديث، فصار القارئ في أي جانب من هذه الجوانب المتعلقة به صلى الله عليه وسلم كأنه عاش معه لدقة ما نُقِل عنه وفي عصر الحروب الصليبية كان من أهم الأمور التي دعا المسلمون النصارى إليها الإيمان بنبّوة محمد صلى الله عليه وسلم ولا شك أن تصديق النصارى بذلك وإيمانهم به يعني بالضرورة نبذهم لما هم عليه من الكفر والضلال والدخول الإسلام وقد كانت الدعوة إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم من خلال، إثبات نبوّته صلى الله عليه وسلم، ورد الشبه التي يثيرها النصارى حول شخصه أو نبوّته (1).
وقد اتجه العلماء في هذه الفترة إلى إثبات نبّوته عليه الصلاة والسلام من خلال ما يلي:
- من خلال تأليف الكتب عنه صلى الله عليه وسلم بشكل عام، خاصة ما يتعلق بدلائل نبّوته ومعجزاته، وشمائله وأخلاقه ومناقبه وفضائله والمؤلفات في ذلك كثيرة والحمد لله على ذلك.
- من خلال المؤلفات الموجهة إلى النصارى وفي ثناياها الحديث عن نبوَّته صلى الله عليه وسلم وكانت طريقة العلماء في ذلك على النحو التالي:
__________
(1) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 199).(1/729)
- إثبات نبّوته صلى الله عليه وسلم من خلال دعواه النبّوة، حيث وضح الجعفري في كتابه الرد على النصارى أن مجئ محمد صلى الله عليه وسلم ودعواه النبّوة أمر مقطوع به، قد ثبت عن طريق التواتر فلا يسوغ النزاع فيه، وإن من أنكر ذلك كمن جحد وجود بغداد ومكة (1).
- إثبات نبّوتَه من خلال ذكر البشارات به صلى الله عليه وسلم من التوراة والإنجيل حيث أسهب العلماء في هذه الفترة بذكر البشارات بمحمد صلى الله عليه وسلم من التوراة والإنجيل، وذلك إلزاماً للمعاندين من النصارى بما لا يستطيعون إنكاره وإيضاحاً لمن يجهل ذلك منهم، أوحال بينه وبين فهمه تضليل مبطل من قساوستهم حيث ساق الجعفري مثلاً أربعاً وثمانين بشارة بنبوةّ محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة والإنجيل، ويسرد القرافي إحدى وخمسين بشارة في كتابه الأجوبة الفاخرة وقد أسهب الخزرجي والقرطبي والمتطبب في معرض ردودهم على النصارى بذكر البشارات به صلى الله عليه وسلم من التوراة والإنجيل (2).
وقد انبرى كثير من علماء عصر الحروب الصليبية للرد على علماء النصارى الذين جعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبوّته غرضاً لهم، فاستفرغوا الوسع في تفنيد شبههم ورد باطلهم، انتصاراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وطمعاً في هداية من كانت مثل هذه الشبه حجاباً بينه وبين قبول الحق (3).
__________
(1) المصدر نفسه (1/ 201).
(2) المصدر نفسه (1/ 201).
(3) المصدر نفسه (1/ 222).(1/730)
ك- الدعوة إلى الإيمان بنبوة المسيح عليه السلام:
اعتنى الإسلام بالمسيح عيسى ابن مريم عليه السلام بصفته أحد أولي العزم من الرسل، فجاء القرآن بتكريمه وأمه وحتى عائلته وصحح الأخطاء ورد الاتهامات والافتراءات الباطلة التي كان يوجهها اليهود والنصارى للمسيح وأمه، فمن تكريم القرآن للمسيح عليه السلام أن جاءت إحدى السور باسم عائلته وهي سورة آل عمران، وسورة أخرى هي سورة مريم باسم أمه التي ورد أسمها في القرآن في مواضع كثيرة، كلها تتحدث عنها بكل التقدير والاحترام والتبجيل ومن ذلك قوله تعالى: "وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرَّكِ واصطفاك على نساء العالمين" (آل عمران، الآية: 42) وقوله تعالى: "ومريم ابنت عمران التي احصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصّدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين" (الزخرف، الآية: 59).
وتحدث القرآن عن حياة المسيح منذ ولادته وحتى رفعه إلى السماء فهو بشر مخلوق عبد للخالق عزّ وجل، قال تعالى "إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل" (الزخرف، آية: 59)، وهو نبي ورسول من عند الله عز وجل، قال تعالى: "ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرُّسُلُ" (المائدة، الآية: 75) والمسيح بارُّ بوالدته وليس بجبار ولا شقي قال تعالى:" وبرّا بوالدتي ولم يجعلني جبَّاراً شقياً" (مريم، الآية: 32).
وهو قدوة صالحة في العبادة والإخلاص لله سبحانه وتعالى: "قال إني عُبد الله ءاتني الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركاً أين ما كنت وأوصاني بالصًّلاة والزكاة ما دمت حَياًَّ" (مريم، آية: 30، 31).(1/731)
وقد أرسله الله إلى بني إسرائيل وأيده بالمعجزات التي منها إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، ونزول المائدة من السماء، وغير ذلك قال تعالى: "ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وأبرئُ الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن الله وأنبّئكم بما تأكلون وما تدخرون في بُيوُتِكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين" (آل عمران، آية: 49).
ولما بلغ رسالة ربه وأراد به أعداؤه كيداً نجاه الله من كيدهم فتوفاه ورفعه إليه (1) "إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليَّ) آل عمران، آية: 55).
وقال سبحانه: " وما قتلوه وما صلبُوُه ولكن شُبّه لهم" (النساء، آية: 157). هذا هو مجمل اعتقاد المسلمين بالمسيح عليه السلام وقد ضل النصارى في ذلك ضلالا بعيداً بجعلهم المسيح عيسى عليه السلام ابناً لله تعالى الله عن ذلك، قال سبحانه: "وقالت النصارى المسيح ابن الله" (التوبة، آية: 30)، بل ادعوا أن الله سبحانه هو المسيح ابن مريم قال جلّ وعلا: "لقد كَفَر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابنُ مريم" (المائدة، آية: 17) وقد كانت نبّوة المسيح عليه السلام منذ ظهور الإسلام إلى الوقت الحاضر من القضايا الرئيسية التي تناولها العلماء المسلمين في مناقشاتهم مع النصارى رجاء هدايتهم للحق في ذلك، وقد اعتنى العلماء في عصر الحروب الصليبية بيان ذلك للنصارى ودعوتهم إلى الإيمان بنبوته عليه السلام، ونبذ معتقداتهم الباطلة حوله، وذلك من خلال ما يلي:
__________
(1) دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 224).(1/732)
- الدعوة إلى الإيمان بنبوّة المسيح عليه السلام من خلال بيان معتقد المسلمين فيه على الإجمال، فما كتب أحد من علماء عصر الحروب الصليبية في مناقشة النصارى إلا ووضح معتقد المسلمين في المسيح صلى الله عليه وسلم، ونعي على النصارى ضلالهم في ذلك قال ابن الجوزي عند قوله تعالى: "ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقه" (المائدة، الآية: 75) فيه رد على اليهود في تكذيبهم رسالته وعلى النصارى في ادعائهم إلهيته والمعنى: أنه ليس بإله وإنما حكمه حكمم من سبق من الرسل (1).
وقال البغوي: أي ليس بإله بل هو كالرسل الذين مضوا لم يكونوا آلهة (2).
__________
(1) زادر المسير في علم التفسير (2/ 306).
(2) معالم التنزيل (3/ 82).(1/733)
وقال الرازي: أي ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا من قبل (1)، وعند قوله تعالى: "كانا يأكلان الطعام" (المائدة الآية: 75) قال: وأعلم أن المقصود من ذلك الاستدلال على فساد قول النصارى (2). أي نفيهم نبّوته وإدعائهم الألوهية له. وهكذا كل مفسري هذا العصر لم يغفلوا بيان عقيدة المسلمين في المسيح عليه السلام وفضح ضلال النصارى فيه وذلك في تفسيرهم للآيات التي تتحدث عن عيسى عليه السلام أو النصارى بشكل عام (3). وبعد أن بين القرطبي حيرة اليهود والنصارى في عيسى عليه السلام، وتضارب أقوالهم حوله، وضَّح رحمه الله سبحانه وتعالى ومنّه علينا - نحن المسلمين - وعلى النصارى بأن بعث سيد المرسلين لينزه الله المسيح وأمه على لسان نبيه مما قالته اليهود فيهما، ويشهد ببراءتهما مما نسب إليهما، قال سبحانه. "ما المسيح ابنُ مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمُّهُ صديقه" (المائدة، آية: 75) ثم ذكرّ القرطبي النصارى بموقف النجاشي من عقيدة المسلمين بعيسى عليه السلام حينما أخبره بها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه بقوله: نقول فيه - أي المسيح عليه السلام - الذي جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول فلما سمع النجاشي ذلك ضرب بيده الأرض، وأخذ عوداً منها وقال: ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود، فتناخرت بطارقة حوله فقال: وإن نخرتم والله (4). ثم خاطب القرطبي النصارى بعد ذلك قائلاً: ... فهذا - أي رأي النجاشي - قول أهل العلم من قبلكم، العارفين بشريعتكم، وما عدا ذلك فشجرته غثاء "ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار " (إبراهيم، آية: 26).
__________
(1) التفسير الكبير (6/ 51 - 52).
(2) المصدر نفسه (6/ 52).
(3) دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 226).
(4) الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام، ص 256.(1/734)
وقد دعا الخزرجي القسيس الذي طلب منه الإيمان بألوهية عيسى إلى الإيمان بنبّوته بعد إيضاح عقيدة المسلمين فيه عليه السلام حيث قال: ونحن بالمسيح ابن مريم رسول الله أولى، قدرناه حق قدره، وقلنا بفضله المعلوم وفخره واعتقدناه بمنزلة تقبلها الأفهام وتليق بالعقول ... "لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً" (النساء، آية: 175)، وتبرأنا من قوم غدوا فيه على طُرفي نقيض: مفتون به ضال، وظالم بغيض (1) ... ثم دعاه إلى الإيمان بنبوة المسيح عليه السلام قائلاً: ... ما أزين بك أن تقول: إن الله خلق عيسى وأمه آية للناس، عبداً ورسولاً، وهي صديقة مباركة وكانا يأكلان الطعام (2).
- الدعوة إلى الإيمان بنبوةّ المسيح عليه السلام من خلال ذكر الأدلة على ذلك من كتب النصارى:
- تصريح المسيح نفسه في الإنجيل بأنه نبيّ مرُسل من الله سبحانه وتعالى، حيث أورد ابن الأنباري نقولا من الأنجيل صرح فيها المسيح بعبوديته ونبوته، ومن ذلك قول المسيح للحواريين: .. أخرجوني من هذه المدينة، فإنه ما أكرم نبيّ في مدينته، حيث أورد هذا النص مع شيء من الاختلاف اليسير الخزرجي في إثباته لنبّوة المسيح عليه السلام (3).
__________
(1) مقامع الصلبان ومراتع رياض أهل الإيمان ص 128.
(2) دعوة المسلمين للنصّارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 228).
(3) مقامع الصلبان ومراتع رياض أهل الإيمان ص 131.(1/735)
- شهادة بعض أنبياء بني إسرائيل له بالنبوَّة، ومنهم أشعيا. قال لوقا: جاء يسوع إلى الناصرة حيث تربى، ودخل كعادته في مجامعهم يوم السبت ليقرأ فدفع إليه سفر أشعيا النبي، فلما فتحه إذا فيه مكتوب (روح الرب عليّ من أجل هذا مسحني وأرسلني لأبشر المساكين، وأشفي منكسري القلوب، وأنذر المأسورين بالتخلية، والعميان بالنظر، وأبشر بالسنة المقبولة ثم طوى السفر ودفعه إلى الخادم فجعلوا ينظرون إليه، فقال: اليوم كمل هذا المكتوب في سماعكم (1)، قال الجعفري معلقاً على ذلك: فهذه نبوءة من أشعيا على تصديق ودعوى النبّوة والرسالة (2).
- شهادة بعض تلامذته وحوارييه له بالنبّوة: فهذا يوحنا الإنجيلي تلميذ المسيح عليه السلام وحبيبه وأحد مدوني الإنجيل يقول: كان الناس إذا رأوا يسوع وسمعوا كلامه يقولون: هذا النبيّ حقاً (3). قال الجعفري: هذا هو يوحنا الإنجيلي الذي سمي حبيب المسيح يشهد بنبّوته، وهو أحسن أقوال أهل زمانه فيه (4).
- اعتراف أهل زمانه له بالنبوة، وإقراره لهم وعدم الإنكار عليهم ومن ذلك قول متى في إنجيله: لما دنا المسيح وأصحابه من أورشليم، أرسل من جاءه بأتان وجحش، فركب وفرش الناس له ثيابهم، وأرتجت المدينة لدخوله، فقال الجميع: هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الخليل (5). وقد وضح الجعفري وجه الدلالة من هذا النص، وهو الشهادة للمسيح من أصحابه وأهل زمانه بالنّبوة وعدم إنكاره عليهم، وذلك رضا بما يقولون (6).
__________
(1) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 228).
(2) تخجيل من حرف التوراة والإنجيل للجعفري (1/ 198).
(3) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 229).
(4) تخجيل من حرف التوراة والإنجيل (1/ 207).
(5) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 230).
(6) الرد على النصارى، صالح بن الحسين ص 88.(1/736)
ثم توجه الجعفري باستفهام إلى النصارى غايته دعوتهم إلى الإيمان بنبوة المسيح عليه السلام وذلك بقوله: كيف يسمع - أي المسيح - آلافاً من الناس يشهدون أنه النبيّ الآتي من الناصرة ويقرهم على ذلك، ولا تقوم به الحجة؟ أفيظن متأخرو النصارى يومنا هذا أنهم أعلم بالمسيح ممن رآه وشاهده وصحبه (1)؟. وقد ورد في الإنجيل: أن امرأة رأت المسيح فقالت له: أنت ذاك النبي الذي كنا ننتظر مجيئة؟ فقال لها المسيح: صدقت، طوبى لك أيتها المرأة (2)، فهذه المرأة تسأل المسيح هل هو النبيّ المنتظر؟ ويصدقها المسيح إذ أقرت له بالنبوة، حيث أورد هذا النص المتطبب مستدلاً به على نبوّة المسيح وذلك في مناقشته للنصارى في كتابه النصيحة الإيمانية (3).
- الدعوة إلى الإيمان بنبوةّ عيسى عليه السلام من خلال نفي الألوهية عنه، وإثبات عبوديته لله سبحانه وتعالى، وتفنيد شبه النصارى وأدلتهم على ألوهيته، حيث أسهب علماء هذه الفترة في بحث هذه القضايا ومناقشاتها من خلال ما أورده من أدلة نقلية وعقلية على ذلك (4).
ثالثاً: مناقشة عقائد النصارى: تصدى علماء المسلمين في عصر الحروب الصليبية لمناقشة معتقدات النصارى إبطالاً لها وتفنيداً لحجج النصارى عليها، وبياناً للحق الذي ضلّ عنه هؤلاء في ديانتهم، وقياماً بواجب الدعوة الذي حصلت به الخيرية لهذه الأمة ومن أهم هذه المعتقدات.
__________
(1) دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 230).
(2) المصدر نهفس (1/ 230)
(3) النصيحة الإيمانية ص 109.
(4) دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 231).(1/737)
1 - نقض الأمانة: وثيقة الأمانة، أو ما يعرف بقانون الإيمان عند النصارى، هو أصل عقيدتهم، وهو الذي لا يتم إيمان نصراني إلا باعتقاده، ونص هذه الأمانة ما يلي: نؤمن بالله الواحد الأب ضابط الكل، مالك كل شيء، صانع ما يرى وما لا يرى، وبالرب الواحد يسوع المسيح ابن الله الواحد بكر الخلائق كلها، الذي ولد من أبيه قبل العوالم كلها، وليس بمصنوع، إله حق من إله حق من جوهر أبيه الذي بيده أتقننت العوالم، وخلق كل شيء الذي من أجلنا معشر الناس ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنساناً، وحبل به وولد من مريم البتول، وأوجع وصلب أيام فيلاطس (1) النبطي، ودفن وقام في اليوم الثالث - كما هو مكتوب - وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه وهو مستعد للمجئ تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ونؤمن بروح القدس الواحد روح الحق الذي يخرج عن أبيه روح محبته وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قديسية جاثليفية (2)، وبقيامه أبداننا وبالحياة الدائمة إلى أبد الآبدين (3).
ولقد اهتم علماء المسلمين في فترة الحروب الصليبية بهذه الأمانة لمكانتها في الديانة النصرانية حيث ناقشوها مبينين تناقضها وتهافتها، ومن ثم هدم ما يقوم عليها من معتقدات في الديانة النصرانية، ومن وجوه التناقض التي بينها هؤلاء العلماء في هذه الأمانة ما يلي:
- إن فيها الإقرار بوحدانية الله سبحانه ثم نقض ذلك بالشرك، فقولهم فيها: نؤمن بالله الواحد الأب .. " يناقض قولهم أيضاً: ... وبالرب الواحد يسوع المسيح (4).
- إقرارهم فيها بأن الله صانع ما يرى ومالا يرى، ثم قولهم، عن المسيح: .. الذي بيده أتقنت العوالم، وخلق كل شيء (5).
__________
(1) المصدر نفسه (1/ 231).
(2) الجاثليقية: والجمع: جثقالة، وهو متقدم الأساقفه (يونانية).
(3) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 236).
(4) المصدر نفسه (1/ 237).
(5) المصدر نفسه (1/ 237).(1/738)
- قولهم في الأمانة: إن يسوع المسيح ابن الله بكر الخلائق الذي ولد أبيه، مشعر بحدوثه، فلا معنى لكونه ابن الله إلا إذا تأخر عنه، إذ كونهما معاً كما يقر به النصارى مستحيل ببداهة العقول (1).
- قولهم فيها: إن يسوع بكر الخلائق كلها. لا يفهم منه إلا أن المسيح خلقه الله قبل كل الخلائق أي أنه مخلوق مصنوع، وهذا مناقض لما في أمانتهم وهو: ... وليس بمصنوع إله حق من إله حق (2).
وقد ذكر العلماء وجوه من التناقض كثيرة فصلها الدكتور سليمان بن عبد الله الرومي في كتابه القيم دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصليبية (3). وقد أبرز العلماء المسلمون كالجعفري والمتطبب والقرافي تهافت هذه الأمانة التي بعدها النصارى أساس ديانتهم والتي لا يصلح إيمان أحدهم إلا باعتقادها، فأصبحوا، بذلك، كما وصفهم القرافي هزأً للناظر ومصنفة للمناظر (4).
__________
(1) المصدر نفسه (1/ 237).
(2) المصدر نفسه (1/ 237).
(3) المصدر نفسه (1/ 237، 238، 239).
(4) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 240).(1/739)
2 - اختلاف الأتاجيل: الإنجيل: من اللفظ اليوناني أو نجيلون ومعناه خبر طيب (1)، وتأتي بمعنى الحلوان - وهو ما يعطي لمن يأتي بالبشرى، ثم أريد بها البشرى عينها، واستعملها على الكتاب الذي يتضمن هذه البشرى عند النصارى منذ أواخر القرن الأول إلى الوقت الحاضر (2)، حيث يشمل الكتاب العهد القديم والعهد الجديد، فالعهد القديم يعني التوراة والكتب الملحقة بها حيث تضم تسعاً وثلاثين سفراً (3)، والعهد الجديد يعني الأسفار التاريخية والأناجيل الأربعة ورسالة أعمال الرسل والأسفار التعليمية حيث يبلغ تعدادها جميعاً سبعاً وعشرين سفراً والعهد القديم أو التوراة على الرغم من إيمان النصارى به إلا أنهم يفسرون كثيراً من نصوصه تفسيراً يوافق عقائدهم الباطلة كالتثليث وألوهية المسيح وغير ذلك، لعدم استطاعتهم التصرف بنصوصه كالإنجيل لأنه محفوظ عند أعدائهم اليهود (4)، والإنجيل في الأصل هو الكتاب الذي أنزل على عيسى عليه السلام، قال تعالى " وقفينا على ءاثارهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة وءاتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين" (المائدة، الآية: 46). لكن هذا الإنجيل الذي أنزل على عيسى عليه السلام ليس هو الذي بين النصارى اليوم. إذ بين أيديهم الآن أربعة أناجيل انتخبت من عدد غير محدود من الأناجيل، حيث اعتمدت الكنيسة هذه الأربعة بما يسمى بالأناجيل القانونية من بين أناجيل كثيرة تم استبعادها أطلق عليها الأناجيل غير القانونية (5)
__________
(1) نخبة من علماء اللاهوت النصارى ص 120.
(2) المسيحية د. أحمد ص 204.
(3) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصَّليبية (1/ 241).
(4) المسيحية د. أحمد شلبي ص 204.
(5) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 241) ..(1/740)
وقد كان ذلك سنة 170م وقد بين صاحب قصة الحضارة هذه القضية بقوله: أما الأناجيل فليس أمرها بهذه السهولة، وذلك أن الأناجيل الأربعة التي وصلت إلينا هي البقية من عدد أكبر منها كثيراً كانت في وقت ما منتشرة بين المسيحيين في القرنين الأول والثاني (1). وإذا كانت هذه الأناجيل الأربعة قد تم اختبارها من بين أناجيل كثيرة فلا يستبعد أن يكون الإنجيل الصحيح من بين ما تم استبعاده وحتى هذه الأربعة المعتمدة لم تسلم من الاختلاف فيما بينها بل والتناقض الذي لا يمكن التوفيق فيه وقد تساءل ابن القيم (2)، كيف يكون في الإنجيل الذي أنزل على عيسى قصة صلبه وما جرى له من الألم ثم الموت والقيام من القبر إلى غير ذلك مما هو من كلام شيوخ النصارى (3)، وفيما يلي نبذة على ما يسمى عند النصارى بالأناجيل الأربعة القانونية التي أقروها لتوافق التحريفات التي أدخلوها على ديانتهم في مجامعهم المختلفة: مثل إنجيل متى، وإنجيل مرقس، وإنجيل لوقا، وإنجيل يوحنا (4).
__________
(1) المصدر نفسه (1/ 242).
(2) دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصّليبية (1/ 242).
(3) هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى ص 48.
(4) دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصَّليبية (1/ 242).(1/741)
هذه هي أناجيل النصارى التي عليها عماد ديانتهم، وهي في اعتقاد المسلمين لا يمكن أن تكون الإنجيل الذي أنزله الله عزَّ وجل على عبده عيسى عليه السلام وأحسن أحوالها أن تكون متضمنه لبعض ما أنزله الله جلّ وعلا على عيسى، وكثير مما فيها حرف بلفظه أو بمعناه قال: "يُحرفون الكلم عن مواضعه" (المائدة، الآية: 13). قال القرطبي: أي يتأولونه على غير تأويله ويلقون ذلك إلى العوام (1). ولمكانة الأناجيل عند النصارى، لكونها عماد ديانتهم، وأساس ضلالهم بما حرفوا فيها، فقد اهتم بعض من العلماء المسلمين في عصر الحروب الصليبية بدارستها مبينين تناقضها وعدم الطمأنينة إلى ما فيها، وإظهار ذلك للنصارى هدما لأساس عقائدهم الباطلة، ورغبة في هداية من شاء الله هدايته منهم، فهذا الجعفري يوضح أن مَن وقف على التناقض في الإنجيل، ومصادمة بعضه بعضاً يشهد بأنه ليس هو الإنجيل الحق المنزل من عند الله، وأن أكثره من أقوال الرواة وأقاصيصهم، وأن نقلته أفسدوه ومزجوه بحكاياتهم وألحقوا به أموراً غير مسموعة من المسيح ولا من أصحابه.
وهو ليس إنجيلاً واحداً بل أربعة أناجيل كتب كل واحد منها في قطر من الأقطار، بقلم غير قلم الآخر، وتضمن كل كتاب أقاصيص وحكايات أغفلها الكتاب وإذا كان الأمر كذلك فقد انخرمت الثقة بهذا الإنجيل، وعدمت الطمأنية بنقلته (2)، ثم أورد الجعفري نماذج عديدة تبين تحريف الإنجيل وتناقضه ومن ذلك:
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن (6/ 77).
(2) دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصَّليبية (1/ 246)(1/742)
- قال متى: من يوسف خطيب مريم - وهو الذي يسمى يوسف النجار ... إلى إبراهيم الخليل اثنتان وأربعون ولادة (1) وقال لوقا: لا ولكن بينهما أربع وخمسون ولادة (2). ثم عقب الجعفري على ذلك بقوله: وهذا تكاذب قبيح (3) ..
- نصان آخران أحدهما عند لوقا يصف المسيح عليه السلام بأنه سيملك على بني إسرائيل (4)، ونص آخر عند يوحنا يصف المسيح عليه السلام بأنه الضعيف الذليل (5). حيث عقب عليهما الجعفري بقوله: وهذا تكاذب قبيح، لأن أحدهما يقول: إن يسوع يملك على بني إسرائيل، والآخر يصفه بصفة ضعيف ذليل (6).
__________
(1) الكتاب المقدس، إنجيل متى، الإصحاح (1/ 16).
(2) الكتاب المقدس، إنجيل متى، الإصحاح (1/ 16).
(3) المصدر نفسه إنجيل لوقا، الإصحاح (3/ 23 - 34).
(4) تخجيل من حرف التوراة والإنجيل (1/ 285).
(5) الكتاب المقدس، إنجيل يوحنا (19/ 1 - 11).
(6) دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 246).(1/743)
وهكذا استطرد الجعفري بذكر نماذج من تحريف الإنجيل وتناقضه في اثنين وخمسين موضعاً، عقب بعد عرضها بقوله: فهذا كتاب قد تلاعبت به بنيات الطرق وتزاحمت به تراجمة الفرق، وولد من لسان إلى لسان، وعبث به التحريف والتصحيف في كل زمان (1)، وخاطب الخزرجي أحد قساوسة النصارى بقوله: ... أنا جيلكم إلا حكايات، وتواريخ، وكلام كهنة، وتلاميذ وغيرهم، حتى إني أحلف بالذي لا إله إلا هو أن تاريخ الطبري عندنا أصح نقلاً من الإنجيل، ويعتمد عليه العاقل أكثر، مع أن التاريخ عندنا لا يجوز أن ينبني عليه شيء من أمر الدين (2). ثم أورد الخزرجي في نقاشه مع القسيس أمثلة على تنقض الإنجيل مبتدئاً لها بقوله: وفي الإنجيل الذي بأيديكم كثير من المتناقضات (3)، ثم ذكر كثيراً من الأدلة على ذلك ثم وجه خطابه للقسيس قائلاً: أخبرني أيها المغرور عن هذا الخلاف، أتعده تتميماً أو نقصاً لشريعة من سبقه (4)؟ وأخيراً بعد أن انتهى الخزرجي من سرد الأمثلة الكثيرة على تناقض الإنجيل وبين أن فيها الكفاية على تهافت الأناجيل، والدليل على ما اشتملت ... عليه من الزلل والأباطيل، بعد ذلك تساءل قائلاً: فليت شعري أين هذا الإنجيل المنزل عند الله؟ وأين كلماته من بين هذه الكلمات (5). وقد بين القرافي أنه لكثرة التحريف والتبديل من الإنجيل وكثرة كتبته واختلاف طوائف النصارى فيه فلا يمكن والحال هذه تمييز الكلام الذي أنزله الله عن غيره حيث قال: وأما النصارى فلا يتعين لهم شيء مما أنزل الله تعالى أبداً (6) وفي موضع آخر وصف القرافي كتب النصارى بقوله: ...
__________
(1) المصدر نفسه (1/ 248).
(2) المصدر نفسه (1/ 248).
(3) المصدر نفسه (1/ 248).
(4) مقامع الصلبان ومراتع رياض أهل الإيمان ص 155.
(5) مقامع الصلبان ومراتع رياض أهلها الإيمان ص 157.
(6) الأجوبة الفاخرة ص 27.(1/744)
ومن طالع كتبهم وأناجيلهم وجد فيها من العجائب ما يقضي له بأن القوم تفرقت شرائعهم وأحكامهم، ونقولهم، .. وأن القوم لا يلتزمون مذهباً، والعجب أن أناجيلهم حكايات، وتواريخ ومجريات وكلام كفرة وكهنة (1). ثم أورد بعد ذلك خمسة عشرة مثالاً من تناقضات الأناجيل تدل على تغييرها وتبديلها وعدم الوثوق بشيء منها (2)، وهكذا من ومصادمة بعضها بعضا وإبراز العلماء المسلمين لاختلاف الأناجيل وتناقضها ومصادمة بعضها بعضا وإيراد الأمثلة على ذلك، إيضاح بما لا يدع مجالاً للشك لضعف ما بنى عليه النصارى عقائدهم الذي يعدونه أساس ديانتهم (3).
3 - مناقشة قولهم في المسيح عليه السلام: المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام بشر مخلوق ليس بإله ولا ابن إله، قال تعالى: "إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل" (الزخرف، آية: 59) وقال سبحانه وتعالى"ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل" (المائدة، آية 75). وما أدعى عليه السلام الربوبية ولا الألوهية، ولم يأمر أحداً باتخاذه إلهاً، بل إنه عبد الله ورسوله كما قال الله سبحانه فيما حكاه عنه: "ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم" (المائدة، آية: 117).
وقد عاش المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام يدعو إلى التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده، وكان قدوة صالحة في ذلك قال تعالى: "قال إني عبد الله ءاتاني الكتاب وجعلني نبياً* وجعلني مباركاً، أين ما كنت وأوصاني بالصَّلاة والزكاة ما دمت حياً" (مريم، الآيتان: 30 - 31) ولما بلغ رسالة ربه وأراد به أعداؤه كيداً نجاه الله منهم، وذلك برفعه إليه قال الله تعالى: "إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك ومُطهُركَ" (آل عمران، آية: 55).
__________
(1) المصدر نفسه ص 27
(2) دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 250).
(3) المصدر نفسه (1/ 250).(1/745)
وقال سبحانه وتعالى: "وما قلتوه وما صلبوه ولكن شُبّه لهم" (النساء، الآية: 157) وقد ضل النصارى في المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام ضلالا بعيداً إذ اعتقدوا فيه الألوهية، وجعلوه إبنا لله نزل ليصلب ويقتل فداءً للبشرية، وتكفيراً لخطيئة أبيهم آدم (1) ولقد ناقش العلماء المسلمون في عصر الحروب الصليبية عقيدة النصارى بالمسيح نقاشاً مستفيضاً، فضحاً لباطل النصارى في ذلك، وبياناً للحق الذي لُبس على عامتهم فأسهبوا في ردودهم على النصارى في إبطال اتخاذهم المسيح أحد ثلاثة آلهة، ورد ادعائهم فيه الاتحاد والتجسد، ونفي الألوهية عنه، وهدم زعمهم نبوته لله - تعالى الله عن ذلك، وتفنيد ما أدعوه من قتله وصلبه وفيما يلي عرض لبعض جهودهم في ذلك:
__________
(1) دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 251).(1/746)
أ- إبطال التثليث: إتخذ النصارى المسيح عليه السلام إلهاً بجعله واحداً من ثلاثة وقد بدأ بذرة التثليث في النصرانية بولس، بعد المسيح عليه السلام، حيث استقرت فرقها المختلفة على هذه العقيدة بعد ذلك في مجمع نيقية عام 325م بتأليه الأب وتأليه الابن، ثم تأليه روح القدس في مجمع القسطنطينية عام 381م، وعرفت هذه العقيدة بالتثليث. وكان النصارى قبل مجمع نيقية مختلفين بين موحدين ومشركين على ديانة بولس حتى جمعهم قسطنطين (1)، على الشرك بالله في هذا المجتمع (2)، وإيمان النصارى بالتثليث سماعاً وتقليداً بما ورثوه عن آبائهم مع هدم الخوض في كنه هذه العقيدة أو التعمق فيها قال أحدهم: .. وهذه - أي التثليث - حقيقة تفوق الإدراك البشري عن إدراكها (3)، وقال أحد القساوسة: إن الثالثوث سر يصعب فهمه وإدراكه كمن يحاول وضع مياه المحيط كلها في كفه (4) ولهذا التعقيد في فهم عقيدة التثليث لدى النصارى اختلفوا في تحديدها وفي المراد منها (5).
__________
(1) المصدر نفسه (1/ 252).
(2) مجموعة الشرع الكنْسي، حنانيا، إلياس كساب ص 40.
(3) حقائق أساسية في الإيمان المسيحي ص 53.
(4) دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصّليبية (1/ 253).
(5) المصدر نفسه (1/ 253).(1/747)
وقد عرض بعض العلماء المسلمين في عصر الحروب الصليبية عقيدة التثليث لدى النصارى كما يعتقدونها، حيث قال نصر بن يحي المتطبب: إن الله سبحانه وتعالى جوهر واحد وثلاثة أقانيم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم روح القدس، وأنها - أي الذات الإلهية - واحدة في الجوهر مختلفة الأقانيم (1) وقال القرافي في عرض عقيدة التثليث عند النصارى: ... النصارى مجمعون على القول بالثالوث، وهو أن ربهم أب، وابن، وروح فالأب الذات، والابن النطق الذي هو الكلام النفساني والروح الحياة، فالأب جوهر، واختلفوا في الكلام والحياة هل هما صفتان للأب أو ذاتان قائمتان بأنفسهما، أو خاصيتان لذلك الجوهر (2)؟ وبعد عرض هؤلاء العلماء لعقيدة التثليث لدى النصارى تصدوا لمناقشتها وتفنيد أدلتهم عليها على النحو التالي:
- بيان فساد هذه العقيدة وكفر من يعتقدها ابتداءً: ففي تفسير قوله تعالى: "لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إلهٌ واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليَمَسَّسنَّ الذين كفروا منهم عذاب أليم* أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم" (المائدة، الآية: 73 - 74). قال ابن عطيه بعد أن بين أن هذا القول لبعض فرق النصارى: .. وهم على اختلاف أحوالهم كفار من حيث جعلوا في الإلهية عدداً ومن حيث جعلوا لعيسى عليه السلام حكماً إلهياً .. ثم توعد تبارك وتعالى هؤلاء القائلين هذه المقولة الكفرية العظيمة بمس العذاب بالدنيا من القتل والسبي، وبعذاب الآخرة بعد لا يفلت منه أحد (3) وبعد أن وضع الرازي تثليث النصارى عقب لقوله: .. ولا يرى في الدنيا مقالة أشد فساداً وأظهر بطلاناً من مقالة النصارى (4).
__________
(1) النصيحة الإيمانية ص 56 - 57 محمد الشرقاوي.
(2) الإجوبة الفاخرة ص111.
(3) المحرر الوجيز (5/ 161 - 162).
(4) تفسير الرازي (6/ 51).(1/748)
وقال الجعفري: .. عند النصارى ثلاثة ألهة قديمة أزلية .. وذلك باطل وكفر (1). وقال القرطبي: .. وفيه - أي التثليث - خروج عن التوراة والإنجيل والمزامير والنبوات وسائر الكتب (2).
- إيراد الأدلة من كتب النصارى على وحدانية الله: حيث ساق كثير من العلماء في معرض مناقشتهم للنصارى وإبطالهم لعقيدة التثليث لديهم الأدلة من التوراة والإنجيل التي تثبت وحدانية الله سبحانه وتعالى وتنقص التثليث الذي يعتقدونه، فمنها أورده الجعفري من ذلك قول الله في التوراة: يا موسى أنا الله أنا إله غيور، أنا الله وحدي، وليس معي غيري (3).
وقوله لموسى عليه السلام: لا يكن لك إله غيري (4). ومن الأدلة التي أوردها القرافي من التوراة على التوحيد وإبطال التثليث قول الله سبحانه وتعالى لبني إسرائيل: أنا الله ربكم الذي أخرجتكم من أرض مصر من بيت العبودية لا يكون لكم إله غيري (5). ومن الإنجيل قول يوحنا: إن المسيح رفع بصره إلى السماء وتضرع إلى الله وقال: إن الحياة الدائمة تجب للناس أن يعلموا أنك أنت الله الواحد الحق، وأنك أرسلت يسوع المسيح (6)، ثم علق القرافي على ذلك بقوله: وهذا هو التوحيد المحض (7)
__________
(1) تخجيل من حرف التوراة والإنجيل (2/ 582).
(2) الجامع لأحكام القرآن (3/ 161).
(3) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 256).
(4) المصدر نفسه (1/ 256).
(5) المصدر نفسه (1/ 256).
(6) المصدر نفسه (1/ 257.
(7) أدلة الوحدانية في الرد على النصرانية ص 59.(1/749)
- إبطال عقيدة التثليث من خلال بيان اختلاف النصارى في تفسير هذه العقيدة اختلافاً شديداً، حتى أن بعض فرقهم تكفر البعض الآخر وفي مناقشة القرافي لذلك وضح أن اختلافهم في أصل ديانتهم دليل على أنهم ليسوا على دين، ولا في شيء من أمرهم على يقين (1) وقال القرطبي في ثنايا عرضه لعقيدة التثليث لدى النصارى، وسياقه لاختلافاتهم فيها: .. وهم مع ذلك فيما ذكرناه من الأقاليم مختلفون، وبالحيرة عمون (2). وقال: وإذا وقفت على هذه الأقاويل الضعيفة والآراء السخيفة لم تشك في تخبطهم في عقائدهم وحيرتهم في مقاصدهم (3).
- إبطال عقيدة التثليث من خلال تفنيد أدلة النصارى عليها:
حيث عرض بعض العلماء المسلمين أمثلة من أدلة النصارى على عقيدة التثليث، بياناً لهشاشتها، وإيضاحاً لضعفها ومن ثم: إبطالاً لهذه العقيدة المعتمدة عليها (4).
__________
(1) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 258).
(2) الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 80.
(3) المصدر نفسه ص 81.
(4) دعوة المسلمين للنّصارى (1/ 259).(1/750)
- بيان فساد عقيدة التثليث بالأدلة العقلية: وقد توسع العلماء المسلمون في عصر الحروب الصليبية في إبطالة عقيدة التثليث من خلال طلبهم من النصارى عرض هذه العقيدة على العقل السليم المجرد من الهوى وتحكيمه فيها، وسيظهر لهم فساد ماهم عليه ومن ذلك أنه قد كتب أحد علماء النصارى في الأندلس كتاباً سماه – تثليث الوحدانية – وبعث به إلى المسلمين في قرطبة، فرد عليه القرطبي منتقداً عنوان الكتاب، وموضحاً، أن قوله: تثليث الوحدانية – مركب من مضاف ومضاف إليه، فالتثليث تعدد وكثرة والوحدانية مأخوذة من الوحدة، ومعناها راجع إلى نفي التعدد والكثرة، فمعنى هذا القول – تكثير مالا يتكثر – وتكثير مالا يتكثر باطل بالضرورة (1)، وألزم الجعفري النصارى بلوازم لا مفر لهم منها في قولهم بالتثليث، فإن كانوا يقولون: إن الثلاثة بمجموعها إله واحد، وإن كل واحد على انفراده ليس بإله فإنهم حينئذ يخالفون أمانتهم التي هي أصل إيمانهم والتي يقولون فيها: إن الأب إله واحد، وإن الابن إله واحد، وإن روح القدس إله واحد (2). وإن قالوا: إن الإله أحدهم والباقي صفات له أبطلوا ثالوثهم، وفسدت أمانتهم ووافقوا المسلمين في أن الإله تعالى واحد وله صفات من العلم والقدرة والإرادة والحياة والسمع والبصر والكلام، وإن شيئاً من الصفات ليس بإله وإنما الإله ذات موصوفة بالصفات (3)،
__________
(1) الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 47.
(2) الرد على النصارى، ص 78 - 79.
(3) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 263) ..(1/751)
وإن أثبتوا الإلهية لكل واحد من الثلاثة فإنهم حينئذ كالثنوية من المجوس الذين يقولون بأصلين قديمين مدبرين للعالم، حيث وضع ابن الأنباري استحالة ذلك وأن الله سبحانه وتعالى بين هذا الأمر بقوله جلّ وعلى:" ولعلا بعضهم على بعض" (المؤمنون، آية: 91) وقوله سبحانه وتعالى ""لو كان فيهما، ءالهة إلا الله لفسدتا" (الأنبياء، آية: 23) (1).
ب- إبطال الاتحاد والتجسد: بقصد بالإتحاد والتجسد: أن الأقنوم الثاني الابن قد صار جسداً لأجل بني الإنسان وتخليصهم من خطيئة أبيهم فاتخذ طبيعة البشر وحل بين الناس بصورة إنسان هو المسيح، فقبل الله اتخاذ الحالة البشرية والتقي الإنسان مباشرة بهذه الصورة (2)، حيث صار في السيد المسيح طبيعتان: طبيعة لا هوتية، التي هي طبيعة كلمة الله وروحه، وطبيعة ناسوتية التي اتخذت من مريم العذراء واتخذت (3) به قال الجعفري: ... وزعم النصارى أن ربهم عبارة عن لاهوت وناسوت واتحدا فصارا مسيحاً وكثيراً ما يقولون: اتحد اللاهوت بالناسوت، ويعبرون عن ذلك بالتأنس والتجسد (4) وكلام النصارى في دعوى اتحاد اللاهوت بالناسوت متناقض ومضطرب ولهذا يقال: لو اجتمع عشرة من النصارى لتفرقوا على أحد عشر قولا. بل إن الأمر بلغ في ذلك أن كل فرقة منهم تكفر الأخرى (5) ومن خلال ردود العلماء المسلمين على النصارى في فترة الحروب الصليبية، ناقشوا هذه العقيدة إما بشكل مستقل، أو ضمن مناقشتهم لقضايا أخرى كألوهية المسيح عليه السلام، أو نبوته لله، أو في ردهم لعقيدة التثليث وكان من إبطالهم لدعوى الاتحاد والتجسد ما يلي:
__________
(1) الداعي إلى الإسلام للأنباري ص 362.
(2) دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 264).
(3) الحروب الصحيح لمن يدل دين المسيح لابن تيمية (4/ 76).
(4) الرد على النصارى ص 65.
(5) الجواب الصحيح لمن يدل دين المسيح (4/ 76).(1/752)
- إن الاتحاد الذي يدعونه لم يشاهدوه بالعيان، ولم يدعيه أوائلهم، حيث وضح الجعفري أنهم إن ادعوا شيئاً من ذلك فقد تحامقوا وأكذبهم عقلاؤهم (1).
- إن أقوال المسيح عليه السلام بأنه إنسان تكذبهم في هذه الدعوى ومن ذلك قوله لليهود: لم تريدون قتلي؟ وأنا إنسان من بني آدم كلمتكم بالحق الذي سمعته من الله (2) وقوله: للثعالب أحجار، ولطير السماء أوكار وابن الإنسان ليس له موضع يسند رأسه (3). فبين الجعفري أن المسيح عليه السلام بهذه النصوص وغيرها أثبت أنه إنسان، وذلك تكذيب لمن يقول إنه إنسان وإله (4).
__________
(1) الرد على النصارى ص 65.
(2) دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 265).
(3) المصدر نفسه (1/ 2654).
(4) المصدر نفسه (1/ 265).(1/753)
- وأشار الجعفري إلى تصريح الإنجيل، بأن المسيح عليه السلام جاع وشبع وتألم واعترضته عوارض البشر، فذلك كله يبطل الاتحاد الذي يزعمه النصارى لأن هذه الأوصاف تنافي الألوهية (1). وأما من أبرز حجج النصارى على الاتحاد قول المسيح عليه السلام: أنا بأبي وأبي بي (2)، حيث يقولون: إن هذا تصريح من المسيح بأنه متحد بالله والله متحد به (3) فبعد أن أورد الجعفري هذه الحجة لهم رد عليهم بقول يوحنا: تضرع المسيح إلى الله في تلاميذه فقال: أيها القدوس أحفظهم باسمك ليكونوا هم أيضاً شيئاً واحداً كما أنا شيء واحد، قد منحتهم من المجد الذي أعطيتني ليكونوا شيئاً واحداً، فأنا بهم وأنت بي (4)، ثم وضح معنى ذلك بأنك يا إلهي معي وأنت لي، وأنا أيضاً مع أصحابي وأنا لهم، وكما أنك أرسلتني لأدعو عبادك إلى توحيدك فكذلك أنا أرسلتهم ليدعو إليك، فكن لهم كما كنت لي (5). ثم أكد الجعفري أن هذا هو التأويل الصحيح لقول المسيح، وإن عدل عنه فيلزم منه حلول الله سبحانه في رجل من خلقه وأن يكون التلاميذ أيضاً متداخلي مع المسيح ويكون المسيح متداخلاً معهم، ومعنى ذلك، أن الله أيضاً حال في التلاميذ حالون في الله، وهذا. مالا يقولون به النصارى (6).
__________
(1) المصدر نفسه (1/ 266).
(2) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 268).
(3) تخجيل من حرف التوراة والإنجيل (1/ 412).
(4) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 269).
(5) تخجيل من خرف التوراة والإنجيل (1/ 413).
(6) دور بولس في إفساد النصرانية ص 216.(1/754)
ج- نفي الألوهية عن المسيح: قال تعال: "لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم" (المائدة، آية:17) وتأليه المسيح قد بدأت بوادره في حياته عليه السلام، واستمر هذا الانحراف بتأثير الفلسفات القديمة والديانات الوثنية السائدة في المناطق التي انتشرت فيها النصرانية حيث تسربت إليها مع بولس اليهودي من دور كبير في هذا الانحراف بديانة النصارى وإفسادها عقيدة وشريعة (1)، وبذلك انقسم النصارى بعد المسيح عليه السلام إلى قسمين: طائفة جنحت للشرك بالله بتأليه المسيح ونبوته وقد استمر هذا الوضع والنزاع في طبيعة المسيح عليه السلام حتى مطلع القرن الرابع الميلادي حين حمل لواء التوحيد – أريوس المصري (2)، الذي أنكر معتقدات بولس وقرر أن المسيح ليس إلها ولا ابن إله (3) واشتد الصراع لذلك بين أتباع وثنية بولس وتوحيد أربوس، حتى دخل قسطنطين حاكم الرومان بالنصرانية فأمر بعقد مجمع ديني ضخم لجميع الكنائس، وذلك للفصل في أمر الخلاف بين أريوس ومعارضيه، حيث عقد مجمع نيقيه سنة 325م الذي حضره ألف وثمانمائة وأربعون من الأساقفة الذين اشتد الخلاف بينهم في طبيعة المسيح حتى انسحب أكثرهم ولم يبق إلا ثلاثمائة وثمانية عشرة أسقفاً وكان قسطنطين لخلفيته الوثنية يميل إلى رأي تأليه المسيح عليه السلام، فأيد هذا الرأي وانتهى هذا المجمع إلى قرارات أهمها القول بألوهية المسيح وتكفير أريوس وأتباعه (4).
وقد تصدى العلماء المسلمون في فترة الحروب الصليبية إلى مناقشة دعوى ألوهية المسيح عليه السلام وتفنيد أدلة النصارى وشبههم التي يعتمدون عليها في ذلك وكان إبطال هذه العقيدة على النحو التالي:
__________
(1) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 269).
(2) المصدر نفسه (1/ 270).
(3) المصدر نفسه.
(4) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 270).(1/755)
- بيان كفر من يؤمن بهذه العقيدة ابتداءً، إذ وضح القرطبي كفر النصارى، إذ غلوا بالمسيح عليه السلام حتى جعلوه إلهاً (1). وذكر ابن الجوزي أن الذين كفروا من النصارى هم المقيمون على اعتقاد الألوهية بالمسيح (2) عليه السلام. وقال عطية عن النصارى: ... إنما الحق أنهم على اختلاف أحوالهم كفار من حيث جعلوا في الإلهية عدداً، ومن حيث جعلوا لعيسى عليه السلام حكماً إلهياً (3). وقال الجعفري: وأما النصارى فإنهم مجمعون على ألوهية المسيح واعتقاد ربوبيته وأنه الإله الذي خلق العالم وجبل بيده طينة آدم (4)، ثم ناقش فساد هذه العقيدة مبيناً كفرهم وبطلان معتقدهم، ومنزهاً الله عن كفرهم وضلالهم تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً (5).
- عدم ذكر عقيدة الألوهية في المسيح من الأنبياء السابقين: حيث وضح القرافي ذلك وعليه فالنصارى إما أنهم يكفرون بهؤلاء الأنبياء المذكورين في كتبهم لنسبتهم الجهل بخالقهم وإما أنهم يكذبون بكتبهم، إذ ليس فيها حرف واحد يدل على أن أحداً من هؤلاء الأنبياء قال: إن المسيح إله (6).
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن (3/ 176)
(2) زاد المسير (2/ 306)
(3) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 271)
(4) تخجيل من حرف التوراة والإنجيل (1/ 165)
(5) دعوة المسلمين للنصارى (1/ 271)
(6) المصدر نفسه (1/ 271)(1/756)
- نفي المسيح عليه السلام الألوهية عن نفسه، وتصريحه بذلك في التوراة والإنجيل، حيث استشهد عدد من العلماء بنقول منهما توضح ذلك، منها ما أورده القرافي من أن الشيطان قال ليسوعَ: .. اسجد لي وأعطيك ملك الأرض، قال له يسوع: اذهب عني يا شيطان: إن الله أمر في التوراة ألا يسجد لغيره، ولا يعبد إله سواه (1)، فدل ذلك على أنه كان متعبداً بأحكام التوراة ولا متعبد إلا مكلف مربوب (2).
- إبطال ألوهية المسيح عليه السلام بأدلة عقلية منها:
- حاجة المسيح عليه السلام إلى الأكل والشرب واتصافه بالصفات البشرية الأخرى التي تستحيل على الإله:
قال البوصيري:
أسمعتم أن الإله لحاجة
يتناول المشروب والمأكولا ... وينام من تعب ويدعو ربه
ويرود من الحر الهجير مقيلا ... ويمسه الألم الذي لم يستطع
صرفاً له عنه ولا تحويلا (3)
وقال نصر بن يحيي المتطبب: ... تقولون – أي النصارى
- إنه بقي مدة الحمل في أحشاء مريم، واغتذى بدم طمثها ورضع لبنها، وأكل، وشرب، ويخضع، ويذل، ويمتهن، ويعذب بكل أنواع العذاب، ويتألم ... وهذه جميعها من صفات البشر وليس من صفات من يدعى له بالألوهية (4).
وبمثل ذلك احتج الجعفري على النصارى في نفي الألوهية عن المسيح (5).
__________
(1) دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 272).
(2) أدلة الوحدانية في الرد على النصرانية ص 60.
(3) منظومة البوصيري في الرد على النصارى ص 60.
(4) منظومة البوصيري في الرد على النصارى واليهود ص 7.
(5) دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 273).(1/757)
- عجز المسيح عليه السلام عن المدافعة عن نفسه حينما صلب بزعمهم ينفي عنه الألوهية: حيث وضح الرازي أنه إذا كان إلهاً، أو ابن إله، أو كان جزء من الإله حالاً فيه، فلم لم يدافع عن نفسه، ولم يهلك أعداءه المتربصين به مع قدرته على ذلك، وأي حاجة له بإظهار الجزع واحتمال الألم والتعرض للإهانة (1).
- وقرر الخزرجي النصارى بما يعتقدونه من أن الرب صعد فصار على يمين الرب وآثر الصلب. ثم ناقشهم متسائلاً عن هذين الربين أيهما خلق صاحبه، فالمخلوق إذا ضعيف عاجز ليس إله وهل هذان الربان إذا أرادا أمراً فلمن الحكم منهما، فالذي له الحكم هو الرب القادر، والآخر عاجز ليس بإله (2)، ثم خاطب الخزرجي النصارى بقوله تعالى: "لو كان فيهما ءالهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عمّا يصفون" (الأنبياء، الآية: 22) وقوله: "ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إلهٍ إذا لذهب كُلُّ إلهٍ بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سُبحانَ الله عمّا يصفون" (المؤمنون، الآية:91).
- وعرض الجعفري قول النصارى إن المسيح عليه السلام هو إله العباد وخالقهم ورازقهم وبارئهم ومدبرهم في جميع أحوالهم، ثم تساءل: كيف كان حال الوجود والإله في اللحود (3)؟. ومن الذي كان يقوم برزق العباد ويدبر شؤونهم وإلههم مصلوب (4).
- وبين الجعفري زعم النصارى أن المسيح خلق آدم وذريته أجمعين، ثم اعترض عليهم بقوله: ... فمريم من خلقها؟ فإن قالوا: ليست من خلقه نقضوا مقالهم، وإن زعموا أنه خلقها فيقال لهم: .. كيف تلد المسيح وهو خالقها؟ أم كيف ترضعه وهو رازقها؟، أسمعتم يا معشر العقلاء بإمرأة ولدت خالقها، وأرضعت ثديها رازقها؟
__________
(1) المصدر نفسه ص 284 - 285.
(2) مقامع الصلبان ومراتع رياض أهل الإيمان ص 178 - 179.
(3) تخجيل من حرف التوراة والإنجيل (1/ 396).
(4) دعوة المسلمين للنصّاى في عصر الحروب الصليبية (1/ 275).(1/758)
- وسأل القرافي النصارى، هل الإله يعلم الغيب أم لا، فإن قالوا: لا كذبتهم كتبهم لإثباتها ذلك وإن قالوا: نعم بطل اعتقادهم الألوهية بالمسيح لأن نصوص الإنجيل توضح عدم علمه بالمغيبات (1).
- إبطال ألوهية المسيح عليه السلام من خلال تنفيذ شبه النصارى التي يستدلون بها على ذلك.
- مما يستدل به النصارى في إثباتهم الألوهية للمسيح عليه السلام، أنه نفخة من روح الله بعد أن سواه من تراب (2).
ثم قال مخاطباً أحد قساوسة النصارى: ... فلماذا أوجب الألوهية لعيسى ولم توجبها لآدم وأنت تقر له بروح من الله في حجاب من تراب (3).
__________
(1) المصدر نفسه (1/ 275).
(2) الأجوبة الفاخرة ص 106، 107.
(3) مقامع الصلبان ومراتع رياض أهل الإيمان ص 129.(1/759)
- مما يعتمد عليه النصارى في إثباتهم الألوهية للمسيح عليه السلام معجزته التي أجراها الله على يديه، تأييداً له، وتصديقاً لنبوته وقد ناقش نصر بن يحي المتطبب ذلك مبيناً أن يلزمهم في إثباتهم الألوهية للمسيح بسبب معجزاته إثباتها أيضاً لبقية الأنبياء الذين أجرى الله سبحانه وتعالى على أيديهم مثل هذه المعجزات ثم أورد أمثلة لمعجزات الأنبياء السابقين لعيسى عليه السلام من التوراة والإنجيل، ومع ذلك لم يكن أحد منهم بها إلهاً أو ينسبه أحد إلى الألوهية، ففي سفر الملوك ورد أن إلياس أحيا ابن الأرمل، واليسع أحيا الإسرائيلية وحزقيال أحيا خلقاً كثيراً، وأخبرت التوراة أن يوسف أبرأ عين أبيه يعقوب بعد أن ذهبت، وموسى طرح العصا فصارت حية لها عينان تبصران بها وفي إنجيل لوقا ورد أن اليسع أبرأ أبرصا وأبرص صحيحاً، وهذا أعظم من فعل المسيح، ولم يكن واحد من هؤلاء الأنبياء بمعجزاته إلهاً، فلم تثبت الألوهية بها للمسيح فقط (1)؟ ووضح القرافي بطلان جعل المعجزة دليلاً على الألوهية من خلال إيراده مجموعة من معجزات الرسل عليه السلام ولم يكونوا بها آلهة أو يدعيها أحد لهم (2).
__________
(1) النصيحة الإيمانية ص 104 - 105.
(2) دعوة المسلمين في عصر الحروب الصليبية (1/ 276).(1/760)
- نفي بنوة المسيح لله سبحانه وتعالى: مما يعتقده النصارى بنوة المسيح عليه السلام لله سبحانه وتعالى:"وقالت النَّصارى المسيح ابن الله" (التوبة، الآية: 30)، وأن الابن مساوٍ للأب في الوجود وأن الأب خلق العالم بواسطة الابن الذي نزل بصورته البشرية فداء لبني آدم، وهو الذي يتولى محاسبة الناس يوم القيامة، ويصرحون بذلك بأمانتهم التي لا يتم إيمان نصراني إلا بها: نؤمن بالله الواحد الأب ضابط الكل، مالك كل شيء، صانع ما يرى ومالا يرى، وبالرب الواحد يسوع المسيح ابن الله الواحد بكر الخلائق كلها، الذي ولد من أبيه قبل العوام كلها، وليس بموضوع إله حق من إله حق (1) وقد تصدى علماء المسلمين في عصر الحروب الصليبية إلى مناقشة هذه العقيدة الضالة وبيان فسادها وكان ذلك على النحو التالي:
- بيان فساد هذه العقيدة وكفر من يعتقدها ابتداء:
قال القرطبي: .. وظاهر قول النصارى أن المسيح ابن الله إنما أرادوا نبوة النسل، كما قالت العرب في الملائكة .. هذا أشنع الكفر (2). وقال الجعفري بعد أن عرض عقيدة النصارى في بنوة المسيح لله: وأعلم أن هذه دعوى ملفقة وعقيدة هامتها بسيوف أدلة الإسلام مغلقة والدليل على فسادها المعقول والمنقول (3)، وقد بين الرازي: أن نسبة المسيح عليه السلام إلى البنوة لله سبحانه وتعالى أفحش أنواع الكفر، وأن ذلك من دسائس بولس في ديانه النصارى بعد رفع عيسى عليه السلام (4).
__________
(1) تخجيل من حرف التوراة والإنجيل (2/ 501).
(2) الجامع لأحكام القرآن نقلاً عن دعوة المسلمين للنصارى (1/ 277).
(3) الرد على النصارى ص 57.
(4) تفسير الرازي (8/ 28).(1/761)
- ذكر الأدلة من كتب النصارى على نفي بنوة المسيح: حيث أورد بعض العلماء مجموعة من الأدلة من كتب النصارى تدل دلالة صريحة على نفي بنوة المسيح لله كما يدعيها النصارى، ومن ذلك ما أورده الجعفري من إنجيل مرقص حيث قال: خرج المسيح وتلاميذه إلى البحر وتبعه جمع كثير، فأبرأ أعلالهم وشفاهم، فجعلوا يزدحمون عليه ويقولون: أنت ابن الله؟ فكان ينهاهم (1)، ونص آخر أورده الجعفري وهو أن لوقا قال: كان كل من له مريض يأتي به إلى يسوع فيضع يده عليه فيبرأ فيقول: أنت ابن الله، فكان ينهرهم ولا يدعهم ينطقون بهذا (2). ثم علق الجعفري بعد هذه النصوص بقوله: فهذا الإنجيل يكذب من يدعي ذلك على السيد المسيح – أي أنه ابن الله (3).
وقد وضح العلماء بعض الأدلة العقلية في نفي بنوة المسيح لله عز وجل والتي منها:
- عجز المسيح عليه السلام عن المدافعة عن نفسه حينما أراد به أعداؤه كيداً حيث وضح الرازي أنه لو كان إلها أو ابن إله، أو كان جزء من الإله حالاً فيه لم يهلك أعداءه المتربصين به مع قدرته على ذلك، وأي حاجة إلى إظهار الجزع واحتمال الألم والتعرض للإهانة (4)، بل أين والده عنه وهو القادر على كل شيء، حيث ساق القرافي أبيات شعرية ضمن مناقشته للنصارى متسائلاً فيها عن ضعف ابن الإله وعدم مدافعة والده عنه:
عجبي للمسيح بين النصارى ... وإلى أي والد نسبوه
أسلموه إلى اليهود وقالوا
إنهم بعد قتله صلبوه ... وإذا كان ما يقولون حقاً
وصحيحاً فأين كان أبوه (5)
__________
(1) انجيل لوقا الإصحاح (3/ 7 – 12).
(2) انجيل لوقا الإصحاح (4/ 41).
(3) الرد على النصارى للجعفري ص 61.
(4) دعوة المسلمين للنّصارى (1/ 278).
(5) الأجوبة الفاخرة ص 59.(1/762)
- ولعجز المسيح وهو ابن الله بزعم النصارى عن المدافعة عن نفسه، فالأولى لهم عقلاً أن يعبدوا عدوه الذي استطاع بزعمهم قتله وصلبه، فهم يقولون: إن المسيح بعد إيذائه وقتله وقيامه من بين الأموات صعد ليجلس على يمين أبيه يستريح ثم سيعود لمحاربة عدوه (1). وعلق القرافي على ذلك قائلاً: .. وما أجدرهم بأن يعبدوا الآن عدوه ويتركوه فإن الغلب الآن لعدوه والمتوقع في المستقبل لا يدري كيف هو، ولعل الكسرة في النوبة الثانية تكون أعظم (2).
- أن المسيح وهو ابن الله بزعم النصارى معترض على قضاء الله متبرم من لقائه وهو أولى الناس بالرضاء والرغبة في لقاء الله، إذ وضع القرافي أن النصارى مقرين أن المسيح تألم وتبرم عند قتله وصلبه وقال: إلهي إلهي لم خذلتني (3) ويعتقدون أنه نزل ليصلب إيثاراً للعالم بنفسه تخليصاً لهم من الشيطان ورجسه، ثم تساءل القرافي: كيف لا يرضى ابن الله بقضاء الله، وهو سوف يذهب للقاء والده، فينبغي أن يكون ولد الرب الأثبت عند المصائب، والأكثر رغبة في لقاء والده (4).
- وقد نفى نصر بن يحي المتطبب بنوة المسيح عليه السلام لله سبحانه وتعالى باعتراضه على النصارى من خلال أمانتهم التي يعتقدونها إذ يقولون فيها: إن المسيح مولود من أبيه أزلي .. وأنه خالق الخلائق كلها .. ، فإذا كان الأمر كما يقول النصارى، فالمسيح ليس أزلياً، لأنه حادث بولادته، وإذا كان هو خالق الخلائق كلها، فأي فضل للأبَ على الابن (5).
__________
(1) المصدر نفسه ص 117.
(2) المصدر نفسه ص 117.
(3) دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 279).
(4) المصدر نفسه (1/ 279).
(5) المصدر نفسه (1/ 279)(1/763)
- وقد عمل العلماء على إبطال بنوة المسيح لله سبحانه من خلال تفنيد أدلة النصارى على ذلك، فقد استدل النصارى على بنوة المسيح لله ولد من غير أب، وقد ورد القرافي على ذلك بأن الأولى إثباتها لآدم لأنه وجد من غير أب، ولم يباشر الأرحام، ولا تطور في أطوار البشر (1).
- وقد بين العلماء إبطال نبوة المسيح من خلال إيضاح المعنى الصحيح للبنوة والأبوة اللتين وردتا في كتب النصارى: فبعد أن أورد الجعفري مجموعة من النصوص التي فيها لفظة البنَّوة كما في النصوص السابقة وضح أنه إن كان النقل لها فاسداً فلا بنوّة، وإن صح فإن معناها العبودية والخدمة والاجتباء والاصطفاء، فقول الله في الإنجيل: "هذا ابني" أي عبدي: والدليل أنها لم ترد في كتب النصارى في الغالب إلا مقرونة بالعبودية والخدمة، وإن وردت مطلقة فيحمل المطلق على المقيد، مثال ذلك في التوراة قول الله تعالى: "يا موسى قل لفرعون: يقول لك الرب الإله: إسرائيل ابني بكري، أرسله يعبدني (2)، ففسر البنوة بالعبودية (3). ووضح القرافي أن معنى الأبوة لله إحسانه لخلقه إحسان الآباء للأبناء وهو المراد من قول المسيح: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم. والأبوة على هذا المعنى أمر مشترك بين عيسى وبقية الخلق وهو معنى قول اليهود في القرآن: "نحن أبنؤا الله وأحبّؤهُ" المائدة، الآية: 18). ثم إن النصارى يحكمون بأبوة الولادة بصدر الكلام وهو قوله: أبي، ويعقلون عن قوله: وأبيكم، وعن قوله: وإلهي وتصريحه عليه السلام بأنه مخلوق مربوب، له إله يعبده (4).
__________
(1) الأجوبة الفاخرة ص 102.
(2) التوراة، سفر الخروج الإصحاح (4/ 21).
(3) الرد على النصارى ص 61.
(4) الأجوبة الفاخرة ص 101.(1/764)
س- إبطال عقيدة الصلب الفداء: تعد قضية الصلب والفداء من أهم عقائد النصارى، إذ يعتقدون أن هناك خطيئة ملازمة لكل إنسان يولد على هذه الأرض، وهذه الخطيئة موروثة منذ زمن آدم عليه السلام الذي أخطأ في حق ربه بأكله من الشجرة التي نُهي عن الأكل منها فاستحق لذلك العقوبة، وأورث هذه الخطيئة لذريته من بعده، ومن رحمة الله إنهاء الخطيئة المتوارثة بأن أنزل ابنه ليقتل ويُصلب فداء للبشرية وتكفيراً لخطيئة أبيهم آدم (1) وقال القرطبي في عرضه لعقيدة الصلوبية عند النصارى: لا خلاف عند النصارى أن أنكار صلب المسيح كفر، ومن شك فيه فهو كافر (2).
وفي رسالة أحد القساوسة إلى أبي عبيدة التي عرض عليه فيها دين النصرانية، ودعاه إلى الدخول فيه وضح له عقيدة الصلب بقوله: حمداً لله الذي هدانا لدينه، وأيدنا بيمينه وخصنا بابنه ومحبوبه، ومد علينا رحمته بصلب يسوع المسيح إلهنا الذي خلق السموات والأرض وما بينهن والذي فدانا بدمه المقدس، ومن عذاب جهنم وقانا، ورفع عن أعناقنا الخطيئة التي كانت في أعناق بني آدم بسبب أكله من الشجرة التي نُهي عنها، فخلصنا المسيح بدمه، وفدانا بدمه، ومن عذاب جهنم وقانا (3).
وقد ناقش العلماء المسلمون هذه القضية موضحين عدم وقوع الصلب على المسيح عليه السلام ومبطلين أساس هذه العقيدة – وهو الفداء بسبب الخطيئة – وذلك بتفنيد أدلة النصارى ومزاعمهم حولها، وفيما يلي عرض لذلك:
- إبطال الصلب: وقد كان إبطال هذه العقيدة على النحو التالي:
__________
(1) الجواب الصحيح لمن يدل دين المسيح (2/ 107 – 108).
(2) الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 282.
(3) مقامع الصلبان ومراتع رياض أهل الإيمان ص 59 - 60.(1/765)
- بيان عقيدة المسلمين في أن عيسى عليه السلام لم يُقتل ولم يصلب فعند تفسير قوله تعالى: "وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم" (النساء، آية: 157)، وضح ابن الجوزي أقوال العلماء في ذلك مبيناً فيها أن الذي قتل وصلب ليس المسيح عليه السلام وإنما هو شخص منهم ألقي عليه شبه المسيح، أما المسيح فقد رفعه الله إليه (1)، وبين القرطبي أن هذه الآية رد على النصارى وأنهم لم يقتلوا المسيح عليه السلام، بل ألقي شبه على غيره (2). وعند قوله تعالى: "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين" (الأنفال، الآية: 30) وضح القرطبي أن مكر الله هو إلقاء شبه عيسى على غيره، ورفعه عليه السلام إليه، حيث رفعه جبريل إلى السماء وذلك في كوة البيت الذي لجأ إليه، وألقي شبه عيسى على يهوذا الذي دخل في أثره فأخذ وقتل وصلب (3). وقال أيضاً: والصحيح أن الله تعالى رفعه إلى السماء من غير وفاة ولا نوم، كما قال الحسن وابن زيد وهو اختيار الطبري، وهو الصحيح عن ابن عباس (4). ومعنى الوفاة في قوله تعالى: "إني متوفيك ورافعك إليَّ" أي قابضك إليَّ (5)، وفي مناقشة القرطبي لعقيدة الصلب لدى النصارى قال: ... إن عيسى ابن مريم لم يقتله اليهود ولا غيرهم، بل رفعه الله إليه من غير قتل ولا موت (6). وبعد أن عرض الجعفري قصة صلب المسيح عليه السلام في رأي النصارى ختم بقول الله تعالى: "وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم" (النساء، آية: 157).
وذكر الأدلة من كتب النصارى على عدم وقوع الصلب: وهي كثيرة فمن ذلك:
__________
(1) زاد المسير في علم التفسير (2/ 217 – 218).
(2) الجامع لأحكام القرآن (2/ 64).
(3) المصدر نفسه (2/ 65).
(4) المصدر نفسه (2/ 64).
(5) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 284).
(6) الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 284.(1/766)
- ما أورده الجعفري أن متى قال في إنجيله: إن رئيس الكهنة أقسم بالله الحي على المأخوذ: أما قلت لنا إن كنت المسيح ابن الله الحي؟ فقال له: أنت قلت (1). حيث عقب الجعفري على ذلك بقوله: .. وذلك من أدل الدلالة على أن المأخوذ ليس هو السيد المسيح، ولو كان هو المسيح نفسه لم يوار في الجواب .. وكيف المسيح ويقسم عليه بالله تعالى: أين المسيح؟ فلا يقول له: إنا المسيح (2).
- إن مستند النصارى في إثبات الصلب هو نصوص من الإنجيل والإنجيل قابل للتحريف والتبديل وفيه من التناقض الشيء الكثير والأدلة على ذلك أكثر من أن تحصر.
- إن النصوص التي يستدل بها النصارى على صلب المسيح ليست قاطعة في ذلك بل يتطرق إليها الاحتمال الكبير في أن المصلوب غير عيسى ومن شوهد ذلك:
- جاء في الأنجيل أن المصلوب استسقى اليهود ماءً فأعطوه خلا ممزوجاً والأناجيل كلها مصرحة بأنه كان يطوي أربعين يوماً وليلة ويقول للتلاميذ: إن لي طعاماً تعرفونه، وبعد أن أورد الخزرجي ذلك عقب عليه متسائلاً كيف بمن يستطيع الصبر أربعين يوماً على الجوع والعطش بأن يظهر الحاجة والمذلة لأعدائه بسبب عطش يوم واحد؟ وهذا لا يفعله أدنى الناس فكيف بخواص الأنبياء؟ لذلك فإن المدعي للعطش غير المسيح عليه السلام (3).
__________
(1) دعوة المسلمين للنصّارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 285).
(2) الرد على النصارى ص 74.
(3) مقامع الصلبان ومراتع رياض أهل الإيمان ص 286.(1/767)
- إن المسيح عند صلبه في زعم النصارى قال: إلهي إلهي لِمَ خذلتني، وقد ناقش الخزرجي ذلك بأن هذا القول من عيسى عليه السلام فيه اعتراض على قضاء الله، وهذا مما ينزه عنه، خصوصاً وإن النصارى يذكرون أن الصلب كان لتخليص الناس من الخطيئة، فكيف يفديهم بنفسه راضياً مختاراً وهذا القول منه فيه تبرم وعجز ورغبة في الخلاص من قبضة من أراد به السوء، مع ما يضاف إلى ذلك من أن النصارى يروون في كتبهم أن الأنبياء إبراهيم وإسحاق ويعقوب كانوا مستبشرين عند الموت بلقاء الله ولم يهابوا مذاقه مع أنهم عبيد الله والمسيح ابن الله بزعم النصارى فينبغي أن يكون أثبت منهم، ذلك كله يدل على أن المصلوب غير عيسى ابن مريم (1).
وقد تصدى العلماء لعقيدة الصلب وهو الفداء بسبب الخطيئة وبينوا بطلانها وكان ذلك على النحو التالي:
- إيضاح مبدأ الإسلام في أن الإنسان لا يؤاخذ بذنب غيره، فبعد أن وضح الجعفري أن التوبة تكفر الذنب، وأن الإنسان لا يؤاخذ بخطيئة غيره ثم أورد على ذلك نصوصاً من كتب النصارى عقب بعدها بقوله: ... وذلك موافق لقول ربنا جلَّ اسمه: "ولا تزر وازرة وِزرَ أُخرى" (الأنعام، آية: 164).
- ذكر الأدلة من كتب النصارى والتي تنفي أن يعاقب الإنسان بذنب غيره حيث أورد الجعفري مجموعة من النصوص من كتب النصارى تهدم أساس اعتقادهم بالصلب وأنه كان تكفيراً لخطيئة آدم عليه السلام، فمن ذلك ما جاء في التوراة إن الله قال لقابيل: إنك إن أحسنت تقبلت منك، وإن لم تحسن فإن الخطيئة رابضة ببابك (2). وقوله: لا آخذ الولد بخطيئة والده ولا الوالد بخطيئة ولده، طهارة الطاهر له تكون، وخطيئة الخاطئ عليه تكون (3).
__________
(1) مقامع الصلبان ومراتع أهل الإيمان ص 164.
(2) سفر التكوين الإصحاح (4/ 7).
(3) دعوة المسلمين للنّصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 287).(1/768)
- وقد وضح كثير من علماء عصر الحروب الصليبية الذين ناقشوا النصارى ومنهم على سبيل المثال: الخزرجي والقرطبي أن الصلب الذي وقع على عيسى تكفيراً لخطيئة آدم يتنافى مع عدل الله، وأن هذا من الظلم الذي ينزه الله عنه، فلا يأخذ سبحانه وتعالى أحداً بذنب غيره (1).
- وعلى زعم النصارى أن البشرية غارقة في خطيئة أبيهم آدم عليه السلام، ثاوية بالجحيم حتى جاء عيسى عليه السلام وخلصهم من ذلك بصلبه، تساءل كل من الخزرجي والقرطبي هل من هؤلاء الثاوين بالجحيم أنبياء الله إبراهيم وموسى وغيرهم ثم يجيبان على ذلك التساؤل بأن هذا لو كان لصرحت به التوراة ونطقت به الأنبياء السابقين لعيسى عليه السلام (2).
- وبعد أن وضح القرافي أن صلب المسيح على قول النصارى إنما كان لخلاص العالم من خطيئة أبيهم آدم، سألهم ما معنى هذا الخلاص الذي يريدونه؟ هل هو من شرور الدنيا وآفاتها؟ فهاهم مشاركون لسائر البشر في الخير والشر. أو من تكاليف العبادة؟ فهاهم مخاطبون بالمبادرة. أو من أهوال يوم القيامة؟ فيكذبهم الإنجيل الذي ورد به قول الله: إني جامع الناس في يوم القيامة عن يميني وشمالي، فأقول لأهل اليمين: فعلتم خيراً، فاذهبوا إلى النعيم، وأقول لأهل الشمال؛ فعلتم شراً فاذهبوا إلى الجحيم (3) وبناء على ذلك فما فائدة الصلب والفداء إذن (4)؟
- وبعد أن قرر الجعفري النصارى بقولهم: إن سبب الصلب هو التكفير من خطيئة آدم عليه السلام، ثم قولهم بتوبة آدم من هذه الخطيئة كما تصرح بذلك كتبهم ألزمهم بلازمين لا مفرد لهم منها:
- إن اعترفوا بتوبة آدم فما فائدة الصلب الذي يعتقدونه.
__________
(1) مقامع الصلبان ص 183.
(2) مقامع الصلبان ومراتع رياض أهل الإيمان ص 174 - 175.
(3) الأجوبة الفاخرة ص 109.
(4) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 288).(1/769)
- إن قالوا بعدم توبته كذبتهم، وكلا اللازمين ببطلان عقيدة الفداء من الخطيئة (1).
رابعاً: مناقشة شعائر النصارى وطقوسهم: تعد النصرانية فقيرة في تشريعاتها وأحكامها والعناية الكبرى فيها بالروحانيات التي أهملها اليهود حينما أفرطوا في ماديات الحياة، وهذا ما يؤكد أنها تكملة لأديان بني إسرائيل (2)، وقد عبر أحد العلماء المسلمين في عصر الحروب الصليبية عن ذلك بقوله: ليس للنصارى شيء من الأحكام والفرائض والسنن المحتاج إليها في المعاملات والمناكحات والأناجيل التي بأيديهم ليس فيها سوى مواعظ ووصايا قد خلطت بكفر بواح .. وأي شيء استحسنوه بعقولهم شرعوه وحكموا به (3). وقد كان النصارى الأوائل يوجبون على أنفسهم ما أوجبته التوراة والإنجيل، ويحرمون على أنفسهم ما حرمته، ولا يستثنون من ذلك إلا ما صرح المسيح نفسه بنسخه أو تعديله، واستمروا على ذلك حتى رفع المسيح حيث أخذ بعد ذلك دعاة النصرانية يغيرون ويبدلون في التشريع حسب أهوائهم وكان حجتهم في ذلك جذب أكبر عدد ممكن من الأمميين إلى الدخول في النصرانية (4)، ولذلك فغالب الشعائر والطقوس النصرانية اليوم من وضع بولس، ولا ينكر دور المجامع في الإلغاء أو الإضافة فيها، ثم لما أثبتت العصمة للبابا صار له الحق في إصدار القرارات والأحكام، ما تسرب للنصرانية من طقوس وعبادات وثنية انتقلت إليها من المناطق والشعوب التي امتدت إليها النصرانية في عهودها الأولى (5)
__________
(1) تخجيل من حرف التوراة والإنجيل (1/ 369).
(2) دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية (1/ 289).
(3) المصدر نفسه (1/ 290).
(4) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (1/ 341 - 344).
(5) موقف ابن تيمية من النصرانية (2/ 764) ..(1/770)