|
المؤلف: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774هـ)
تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي
الناشر: دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان
الطبعة: الأولى، 1418 هـ - 1997 م
سنة النشر: 1424هـ / 2003م
عدد الأجزاء:21 (20 ومجلد فهارس)
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا سُلَيْمَانُ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ، أَخْبَرَنِي ابْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بَعْثًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَطَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِي إِمْرَتِهِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمْرَتِهِ فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِي إِمْرَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ، وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلْإِمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَهُ» .
وَأَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ - هُوَ ابْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ الْمَدَنِيُّ - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَذَكَرَهُ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ. وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، ثُمَّ اسْتَغْرَبَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: ثَنَا عُمَرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَالِدٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «لَمَّا أُصِيبَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، جِيءَ بِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَأُوقِفَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَمَعَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُخِّرَ، ثُمَّ عَادَ مِنَ الْغَدِ فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: " أُلَاقِي مِنْكَ الْيَوْمَ مَا لَقِيتُ مِنْكَ أَمْسِ» وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ غَرَابَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(6/450)
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ مُصَابَهُمْ وَهُوَ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَوْقَ الْمِنْبَرِ، جَعَلَ يَقُولُ: «أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ". قَالَ: وَإِنَّ عَيْنَيْهِ لَتَذْرِفَانِ. وَقَالَ: " وَمَا يَسُرُّهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدَنَا» وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَنَّهُ شَهِدَ لَهُمْ بِالشَّهَادَةِ، فَهُمْ مِمَنْ يُقْطَعُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ.
وَقَدْ قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَرْثِي زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَابْنَ رَوَاحَةَ:
عَيْنُ جُودِي بِدَمْعِكِ الْمَنْزُورِ ... وَاذْكُرِي فِي الرَّخَاءِ أَهَلَ الْقُبُورِ
وَاذْكُرِي مُؤْتَةَ وَمَا كَانَ فِيهَا ... يَوْمَ رَاحُوا فِي وَقَعْةِ التَّغْوِيرِ
حِينَ رَاحُوا وَغَادَرُوا ثَمَّ زَيْدًا ... نِعْمَ مَأْوَى الضَّرِيكِ وَالْمَأْسُورِ
حِبَّ خَيْرِ الْأَنَامِ طُرًّا جَمِيعًا ... سَيِّدِ النَّاسِ حُبُّهُ فِي الصُّدُورِ
ذَاكُمُ أَحْمَدُ الَّذِي لَا سِوَاهُ ... ذَاكَ حُزْنِي لَهُ مَعًا وَسُرُورِي
(6/451)
إِنَّ زَيْدًا قَدْ كَانَ مِنَّا بِأَمْرٍ ... لَيْسَ أَمْرَ الْمُكَذَّبِ الْمَغْرُورِ
ثُمَّ جُودِي لِلْخَزْرَجِيِّ بِدَمْعٍ ... سَيِّدًا كَانَ ثَمَّ غَيْرَ نَزُورِ
قَدْ أَتَانَا مِنْ قَتْلِهِمْ مَا كَفَانَا ... فَبِحُزْنٍ نَبِيتُ غَيْرَ سُرُورِ
وَأَمَّا جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، فَهُوَ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَكْبَرُ مِنْ أَخِيهِ عَلِيٍّ بِعَشْرِ سِنِينَ، وَكَانَ عَقِيلٌ أَسَنَّ مِنْ جَعْفَرٍ بِعَشْرِ سِنِينَ، وَكَانَ طَالِبٌ أَسَنَّ مِنْ عَقِيلٍ بِعَشْرِ سِنِينَ، أَسْلَمَ جَعْفَرٌ قَدِيمًا، وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَكَانَتْ لَهُ هُنَالِكَ مَوَاقِفُ مَشْهُورَةٌ، وَمَقَامَاتٌ مَحْمُودَةٌ، وَأَجْوِبَةٌ سَدِيدَةٌ، وَأَحْوَالٌ رَشِيدَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ فِي هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَقَدْ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا أَدْرِي بِأَيِّهِمَا أَنَا أُسَرُّ، أَبِقُدُومِ جَعْفَرٍ، أَمْ بِفَتْحِ خَيْبَرَ؟» وَقَامَ إِلَيْهِ وَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَ بَيْنِ عَيْنَيْهِ، وَقَالَ لَهُ يَوْمَ خَرَجُوا مِنْ عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ: «أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي» فَيُقَالُ: إِنَّهُ حَجَلَ عِنْدَ ذَلِكَ فَرَحًا. كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَلَمَّا بَعَثَهُ إِلَى مُؤْتَةَ جَعَلَهُ فِي الْإِمْرَةِ مُصَلِّيًا - أَيْ ثَانِيًا - لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَلَمَّا قُتِلَ وَجَدُوا فِيهِ بِضْعًا وَتِسْعِينَ مَا بَيْنَ ضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ، وَطَعْنَةٍ بِرُمْحٍ، وَرَمْيَةٍ بِسَهْمٍ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مُقْبِلٌ غَيْرَ مُدْبِرٍ، وَكَانَتْ قَدْ
(6/452)
قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى ثُمَّ الْيُسْرَى وَهُوَ مُمْسِكٌ اللِّوَاءَ، فَلَمَّا فَقَدَهُمَا احْتَضَنَهُ حَتَّى قُتِلَ وَهُوَ كَذَلِكَ. فَيُقَالُ: إِنْ رَجُلًا مِنَ الرُّومِ ضَرَبَهُ بِسَيْفٍ فَقَطَعَهُ بِاثْنَتَيْنِ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْ جَعْفَرٍ وَلَعَنَ قَاتِلَهُ، وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ شَهِيدٌ، فَهُوَ مِمَّنْ يُقْطَعُ لَهُ بِالْجَنَّةِ. وَجَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ تَسْمِيَتُهُ بِذِي الْجَنَاحَيْنِ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَلَّمَ عَلَى ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا ابْنَ ذِي الْجَنَاحَيْنِ. وَبَعْضُهُمْ يَرْوِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ نَفْسِهِ، وَالصَّحِيحُ مَا فِي " الصَّحِيحِ " عَنِ ابْنِ عُمَرَ. قَالُوا: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَوَّضَهُ عَنْ يَدَيْهِ بِجَنَاحَيْنِ فِي الْجَنَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَأَيْتُ جَعْفَرًا يَطِيرُ فِي الْجَنَّةِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ» وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثٍ أَنَّهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قُتِلَ وَعُمْرُهُ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً. وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " الْغَابَةِ ": كَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ قُتِلَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ سَنَةً. قَالَ: وَقِيلَ غَيْرَ ذَلِكَ.
قُلْتُ: وَعَلَى مَا قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ أَسَنَّ مِنْ عَلِيٍّ بِعَشْرِ سِنِينَ يَقْتَضِي أَنَّ
(6/453)
عُمْرَهُ يَوْمَ قُتِلَ تِسْعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، لِأَنَّ عَلِيًّا أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ عَلَى الْمَشْهُورِ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَهَاجَرَ وَعُمْرُهُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَيَوْمُ مُؤْتَةَ كَانَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ كَانَ يُقَالُ لِجَعْفَرٍ بَعْدَ قَتْلِهِ: الطَّيَّارُ. لِمَا ذَكَرْنَا، وَكَانَ كَرِيمًا جَوَادًا مُمَدَّحًا، وَكَانَ لِكَرَمِهِ يُقَالُ لَهُ فِي حَيَاتِهِ: أَبُو الْمَسَاكِينِ لِإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، ثَنَا وُهَيْبٌ، ثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا احْتَذَى النِّعَالَ وَلَا انْتَعَلَ، وَلَا رَكِبَ الْمَطَايَا، وَلَا لَبِسَ الثِّيَابَ مِنْ رَجُلٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ مِنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، وَكَأَنَّهُ إِنَّمَا يُفَضِّلُهُ فِي الْكَرَمِ، فَأَمَّا فِي الْفَضِيلَةِ الدِّينِيَّةِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الصِّدِّيقَ وَالْفَارُوقَ بَلْ وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَأَمَّا أَخُوهُ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا مُتَكَافِئَانِ، أَوْ عَلِيٌّ أَفْضَلُ مِنْهُ.
وَإِنَّمَا أَرَادَ أَبُو هُرَيْرَةَ تَفْضِيلَهُ فِي الْكَرَمِ، بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دِينَارٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُهَنِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَقُولُونَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَإِنِّي كُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِبَعِ بَطْنِي حِينَ لَا آكُلُ الْخَمِيرَ، وَلَا أَلْبَسُ الْحَرِيرَ، وَلَا يَخْدُمُنِي فُلَانٌ وَفُلَانَةُ، وَكُنْتُ أُلْصِقُ بَطْنِي بِالْحَصْبَاءِ مِنَ
(6/454)
الْجُوعِ، وَإِنِّي كُنْتُ لَأَسْتَقْرِئُ الرَّجُلَ الْآيَةَ هِيَ مَعِي، كَيْ يَنْقَلِبَ بِي فَيُطْعِمَنِي، وَكَانَ خَيْرَ النَّاسِ لِلْمَسَاكِينِ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَ يَنْقَلِبُ بِنَا فَيُطْعِمُنَا مَا كَانَ فِي بَيْتِهِ، حَتَّى إِنْ كَانَ لَيُخْرِجُ إِلَيْنَا الْعُكَّةَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ فَنَشُقُّهَا فَنَلْعَقُ مَا فِيهَا. تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَرْثِي جَعْفَرًا:
وَلَقَدْ بَكَيْتُ وَعَزَّ مَهْلِكُ جَعْفَرٍ ... حِبِّ النَّبِيِّ عَلَى الْبَرِيَّةِ كُلِّهَا
وَلَقَدْ جَزِعْتُ وَقُلْتُ حِينَ نُعِيتَ لِي ... مَنْ لِلْجِلَادِ لَدَى الْعُقَابِ وَظِلِّهَا
بِالْبِيضِ حِينَ تُسَلُّ مِنْ أَغْمَادِهَا ... ضَرْبًا وَإِنْهَالِ الرِّمَاحِ وَعَلِّهَا
بَعْدَ ابْنِ فَاطِمَةَ الْمُبَارَكِ جَعْفَرٍ ... خَيْرِ الْبَرِيَّةِ كُلِّهَا وَأَجَلِّهَا
رُزْءًا وَأَكْرَمِهَا جَمَيْعًا مَحْتِدًا ... وَأَعَزِّهَا مُتَظَلِّمًا وَأَذَلِّهَا
لِلْحَقِّ حِينَ يَنُوبُ غَيْرَ تَنَحُّلٍ ... كَذِبًا وَأَنْدَاهَا يَدًا وَأَقَلِّهَا
فُحْشًا وَأَكْثَرِهَا إِذَا مَا يُجْتَدَى ... فَضْلًا وَأَبْذَلِهَا نَدًى وَأَبَلِّهَا
(6/455)
بِالْعُرْفِ غَيْرَ مُحَمَّدٍ لَا مِثْلُهُ ... حَيٌّ مِنَ احْيَاءِ الْبَرِيَّةِ كُلِّهَا
وَأَمَّا ابْنُ رَوَاحَةَ، فَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ عَمْرِو بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ الْأَكْبَرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَغَرِّ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ أَبُو مُحَمَّدٍ - وَيُقَالُ: أَبُو رَوَاحَةَ. وَيُقَالُ: أَبُو عَمْرٍو - الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ، وَهُوَ خَالُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، أُخْتُهُ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ، أَسْلَمَ قَدِيمًا وَشَهِدَ الْعَقَبَةَ، وَكَانَ أَحَدَ النُّقَبَاءِ لَيْلَتَئِذٍ لِبَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ وَالْحُدَيْبِيَةَ وَخَيْبَرَ، وَكَانَ يَبْعَثُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَرْصِهَا كَمَا قَدَّمْنَا، وَشَهِدَ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ، وَدَخَلَ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ مُمْسِكٌ بِزِمَامِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ: بِغَرْزِهَا. يَعْنِي الرِّكَابَ - وَهُوَ يَقُولُ:
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ
الْأَبْيَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَكَانَ أَحَدَ الْأُمَرَاءِ الشُّهَدَاءِ يَوْمَ مُؤْتَةَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ شَجَّعَ الْمُسْلِمِينَ لِلِقَاءِ الرُّومِ حِينَ اشْتَوَرُوا فِي ذَلِكَ، وَشَجَّعَ نَفْسَهُ أَيْضًا حَتَّى نَزَلَ بَعْدَمَا قُتِلَ صَاحِبَاهُ، وَقَدْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشَّهَادَةِ، فَهُوَ مِمَّنْ يُقْطَعُ لَهُ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ. وَيُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا أَنْشَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِعْرَهُ، حِينَ وَدَّعَهُ، الَّذِي يَقُولُ فِيهِ:
فَثَبَّتَ اللَّهُ مَا آتَاكَ مِنْ حَسَنٍ ... تَثْبِيتَ مُوسَى وَنَصْرًا كَالَّذِي نُصِرُوا
قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَنْتَ فَثَبَّتَكَ اللَّهُ» قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ: فَثَبَّتَهُ اللَّهُ حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا وَدَخَلَ الْجَنَّةَ
(6/456)
وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَخْطُبُ فَسَمِعَهُ يَقُولُ: " اجْلِسُوا ". فَجَلَسَ مَكَانَهُ خَارِجًا مِنَ الْمَسْجِدِ، حَتَّى فَرَغَ النَّبِيُّ مِنْ خُطْبَتِهِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا عَلَى طَوَاعِيَةِ اللَّهِ وَطَوَاعِيَةِ رَسُولِهِ» .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ ": وَقَالَ مُعَاذٌ: اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً.
وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ فِي ذَلِكَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ بِنَحْوِ ذَلِكَ، فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، عَنْ عِمَارَةَ، عَنْ زِيَادٍ النُّمَيْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ إِذَا لَقِيَ الرَّجُلَ مِنْ أَصْحَابِهِ يَقُولُ: تَعَالَ نُؤْمِنْ بِرَبِّنَا سَاعَةً. فَقَالَ ذَاتَ يَوْمٍ لِرَجُلٍ، فَغَضِبَ الرَّجُلُ فَجَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا تَرَى ابْنَ رَوَاحَةَ يَرْغَبُ عَنْ إِيمَانِكَ إِلَى إِيمَانِ سَاعَةٍ! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ رَوَاحَةَ، إِنَّهُ يُحِبُّ الْمَجَالِسَ الَّتِي تَتَبَاهَى بِهَا الْمَلَائِكَةُ» وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: ثَنَا الْحَاكِمُ، ثَنَا أَبُو بَكْرٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، ثَنَا أَحْمَدُ
(6/457)
بْنُ يُونُسَ، ثَنَا شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ قَالَ لِصَاحِبٍ لَهُ: تَعَالَ حَتَّى نُؤْمِنَ سَاعَةً. قَالَ: أَوَلَسْنَا بِمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنَّا نَذْكُرُ اللَّهَ فَنَزْدَادُ إِيمَانًا.
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالَكَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْيَمَانِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ كَانَ يَأْخُذُ بِيَدِ الرَّجُلِ مِنْ أَصْحَابِهِ فَيَقُولُ: قُمْ بِنَا نُؤَمِّنْ سَاعَةً فَنَجْلِسُ فِي مَجْلِسِ ذِكْرٍ. وَهَذَا مُرْسَلٌ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي أَوَّلِ " شَرْحِ الْبُخَارِيِّ ". وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " «عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ» وَقَدْ كَانَ مِنْ شُعَرَاءِ الصَّحَابَةِ الْمَشْهُورِينَ، وَمِمَّا نَقَلَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ ... إِذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنَ الْفَجْرِ سَاطِعُ
يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ ... إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ الْمَضَاجِعُ
أَتَى بِالْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا ... بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ
(6/458)
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: أُغْمِيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، فَجَعَلَتْ أُخْتُهُ عَمْرَةُ تَبْكِي: وَاجَبَلَاهُ، وَاكَذَا، وَاكَذَا. تُعَدِّدُ عَلَيْهِ، فَقَالَ حِينَ أَفَاقَ: مَا قُلْتِ شَيْئًا إِلَّا قِيلَ لِي: أَنْتَ كَذَلِكَ؟ !
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، ثَنَا عَبْثَرٌ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: أُغْمِيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، بِهَذَا، فَلَمَّا مَاتَ لَمْ تَبْكِ عَلَيْهِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا رَثَاهُ بِهِ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ مَعَ غَيْرِهِ.
وَقَالَ شَاعِرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ رَجَعَ مِنْ مُؤْتَةَ مَعَ مَنْ رَجَعَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ:
كَفَى حَزَنًا أَنِّي رَجَعْتُ وَجَعْفَرٌ ... وَزَيْدٌ وَعَبْدُ اللَّهِ فِي رَمْسِ أَقْبُرِ
قَضَوْا نَحْبَهُمْ لَمَّا مَضَوْا لِسَبِيلِهِمْ ... وَخُلِّفْتُ لِلْبَلْوَى مَعَ الْمُتَغَبِّرِ
وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَقِيَّةُ مَا رُثِيَ بِهِ هَؤُلَاءِ الْأُمَرَاءُ الثَّلَاثَةُ مِنْ شِعْرِ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، وَكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَرْضَاهُمَا.
(6/459)
[مَنِ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ مُؤْتَةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ]
فَصْلٌ فِي مَنِ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ مُؤْتَةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
فَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ، جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَمَوْلَاهُمْ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْكَلْبِيُّ، وَمَسْعُودُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ نَضْلَةَ الْعَدَوِيُّ، وَوَهْبُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، فَهَؤُلَاءِ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ. وَمِنَ الْأَنْصَارِ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَعَبَّادُ بْنُ قَيْسٍ الْخَزْرَجِيَّانِ، وَالْحَارِثُ بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ إِسَافِ بْنِ نَضْلَةَ النَّجَّارِيُّ، وَسُرَاقَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطِيَّةَ بْنِ خَنْسَاءَ الْمَازِنِيُّ، أَرْبَعَةُ نَفَرٍ. فَمَجْمُوعُ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ هَؤُلَاءِ الثَّمَانِيَةُ، عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَمِمَّنِ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ مُؤْتَةَ، فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، أَبُو كُلَيْبٍ وَجَابِرٌ ابْنَا عَمْرِو بْنِ زَيْدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ مَبْذُولٍ الْمَازِنِيَّانِ، وَهُمَا شَقِيقَانِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَعَمْرٌو وَعَامِرٌ ابْنَا سَعْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَفْصَى. فَهَؤُلَاءِ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَيْضًا، فَالْمَجْمُوعُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، وَهَذَا عَظِيمٌ جِدًّا أَنْ يَتَقَاتَلَ جَيْشَانِ مُتَعَادِيَانِ فِي الدِّينِ، أَحَدُهُمَا، وَهُوَ الْفِئَةُ الَّتِي تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، عِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ آلَافِ مُقَاتِلٍ، وَأُخْرَى كَافِرَةٌ عِدَّتُهَا
(6/460)
مِائَتَا أَلْفِ مُقَاتِلٍ، مِنَ الرُّومِ مِائَةُ أَلْفٍ، وَمِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ مِائَةُ أَلْفٍ، يَتَبَارَزُونَ وَيَتَصَاوَلُونَ، ثُمَّ مَعَ هَذَا كُلِّهِ لَا يُقْتَلُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، وَقَدْ قُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ خَلْقٌ كَثِيرٌ. هَذَا خَالِدٌ وَحَدَهُ يَقُولُ: لَقَدِ انْدَقَّتْ فِي يَدِي يَوْمَئِذٍ تِسْعَةُ أَسْيَافٍ، وَمَا صَبَرَتْ فِي يَدِي إِلَّا صَفِيحَةٌ يَمَانِيَةٌ. فَمَاذَا تُرَى قَدْ قُتِلَ بِهَذِهِ الْأَسْيَافِ كُلِّهَا؟! دَعْ غَيْرَهُ مِنَ الْأَبْطَالِ وَالشُّجْعَانِ، مِنْ حَمَلَةِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ تَحَكَّمُوا فِي عَبَدَةِ الصُّلْبَانِ، عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ الرَّحْمَنِ، فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَفِي كُلِّ أَوَانٍ. وَهَذَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [آل عمران: 13] (آلِ عِمْرَانَ: 13) .
(6/461)
[حَدِيثٌ فِيهِ فَضِيلَةٌ عَظِيمَةٌ لِأُمَرَاءِ هَذِهِ السَّرِيَّةِ]
وَهُمْ، زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
قَالَ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْحَافِظُ أَبُو زُرْعَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الرَّازِيُّ، نَضَّرَ اللَّهُ وَجْهَهُ، فِي كِتَابِهِ " دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ " - وَهُوَ كِتَابٌ جَلِيلٌ -: حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ صَالِحٍ الدِّمَشْقِيُّ، ثَنَا الْوَلِيدُ، ثَنَا ابْنُ جَابِرٍ، (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدِّمَشْقِيُّ، ثَنَا الْوَلِيدُ وَعَمْرٌو - يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الْوَاحِدِ - قَالَا: ثَنَا ابْنُ جَابِرٍ، سَمِعْتُ سُلَيْمَ بْنَ عَامِرٍ الْخَبَائِرِيَّ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أَتَانِي رَجُلَانِ، فَأَخَذَا بِضَبْعَيَّ فَأَتَيَا بِي جَبَلًا وَعْرًا فَقَالَا: اصْعَدْ. فَقُلْتُ: لَا أُطِيقُهُ. فَقَالَا: إِنَّا سَنُسَهِّلُهُ لَكَ. قَالَ: فَصَعِدْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي سَوَاءِ الْجَبَلِ إِذَا أَنَا بِأَصْوَاتٍ شَدِيدَةٍ، فَقُلْتُ: مَا هَؤُلَاءِ الْأَصْوَاتُ؟ فَقَالَا: عُوَاءُ أَهْلِ النَّارِ. ثُمَّ انْطَلَقَا بِي، فَإِذَا
(6/462)
بِقَوْمٍ مُعَلَّقِينَ بِعَرَاقِيبِهِمْ، مُشَقَّقَةٍ أَشْدَاقُهُمْ، تَسِيلُ أَشْدَاقُهُمْ دَمًا، فَقُلْتُ: مَا هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَا: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُفْطِرُونَ قَبْلَ تَحِلَّةِ صَوْمِهِمْ ". فَقَالَ: خَابَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. قَالَ سُلَيْمٌ: لَا أَدْرِي أَسَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ مِنْ رَأْيِهِ " ثُمَّ انْطَلَقَا بِي، فَإِذَا قَوْمٌ أَشَدُّ شَيْءٍ انْتِفَاخًا، وَأَنْتَنُ شَيْءٍ رِيحًا، كَأَنَّ رِيحَهُمُ الْمَرَاحِيضُ، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَا: هَؤُلَاءِ قَتْلَى الْكُفَّارِ. ثُمَّ انْطَلَقَا بِي، فَإِذَا بِقَوْمٍ أَشَدِّ شَيْءٍ انْتِفَاخًا، وَأَنْتَنِ شَيْءٍ رِيحًا، كَأَنَّ رِيحَهُمُ الْمَرَاحِيضُ. قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الزَّانُونَ وَالزَّوَانِي. ثُمَّ انْطَلَقَا بِي، فَإِذَا بِنِسَاءٍ تَنْهَشُ ثُدِيَّهُنَّ الْحَيَّاتُ، فَقُلْتُ: مَا بَالُ هَؤُلَاءِ؟ قَالَا: هَؤُلَاءِ اللَّاتِي يَمْنَعْنَ أَوْلَادَهُنَّ أَلْبَانَهُنَّ. ثُمَّ انْطَلَقَا بِي، فَإِذَا بِغِلْمَانٍ يَلْعَبُونَ بَيْنَ بَحْرَيْنِ، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَا: هَؤُلَاءِ ذَرَارِيُّ الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ أَشْرَفَا بِي شَرَفًا، فَإِذَا بِنَفَرٍ ثَلَاثَةٍ يَشْرَبُونَ مِنْ خَمْرٍ لَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَا: هَؤُلَاءِ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ. ثُمَّ أَشْرَفَا بِي شَرَفًا آخَرَ، فَإِذَا أَنَا بِنَفَرٍ ثَلَاثَةٍ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَا: هَؤُلَاءِ إِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ» .
(6/463)
[فِيمَا قِيلَ مِنَ الْأَشْعَارِ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ]
فَصْلٌ فِيمَا قِيلَ مِنَ الْأَشْعَارِ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ مِمَّا بُكِيَ بِهِ أَصْحَابُ مُؤْتَةَ قَوْلُ حَسَّانَ:
تَأَوَّبَنِي لَيْلٌ بِيَثْرِبَ أَعْسَرُ ... وَهَمٌّ إِذَا مَا نَوَّمَ النَّاسُ مُسْهِرُ
لِذِكْرَى حَبِيبٍ هَيَّجَتْ لِيَ عَبْرَةً ... سَفُوحًا وَأَسْبَابُ الْبُكَاءِ التَّذَكُّرُ
بَلَى إِنَّ فُقْدَانَ الْحَبِيبِ بَلِيَّةٌ ... وَكَمْ مِنْ كَرِيمٍ يُبْتَلَى ثُمَّ يَصْبِرُ
رَأَيْتُ خِيَارَ الْمُسْلِمِينَ تَوَارَدُوا ... شُعُوبًا وَخَلْفًا بَعْدَهُمْ يَتَأَخَّرُ
فَلَا يُبْعِدَنَّ اللَّهُ قَتْلَى تَتَابَعُوا ... بِمُؤْتَةَ مِنْهُمْ ذُو الْجَنَاحَيْنِ جَعْفَرُ
وَزَيْدٌ وَعَبْدُ اللَّهِ حِينَ تَتَابَعُوا ... جَمِيعًا وَأَسْبَابُ الْمَنِيَّةِ تَخْطِرُ
غَدَاةَ مَضَوْا بِالْمُؤْمِنِينَ يَقُودُهُمْ ... إِلَى الْمَوْتِ مَيْمُونُ النَّقِيبَةِ أَزْهَرُ
(6/464)
أَغَرُّ كَضَوْءِ الْبَدْرِ مِنْ آلِ هَاشِمٍ ... أَبِيٌّ إِذَا سِيمَ الظُّلَامَةَ مِجْسَرُ
فَطَاعَنَ حَتَّى مَالَ غَيْرَ مُوَسَّدٍ ... بِمُعْتَرَكٍ فِيهِ الْقَنَا مُتَكَسِّرُ
فَصَارَ مَعِ الْمُسْتَشْهِدِينَ ثَوَابُهُ ... جِنَانٌ وَمُلْتَفُّ الْحَدَائِقِ أَخْضَرُ
وَكُنَّا نَرَى فِي جَعْفَرٍ مِنْ مُحَمَّدٍ ... وَفَاءً وَأَمْرًا حَازِمًا حِينَ يَأْمُرُ
وَمَا زَالَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ آلِ هَاشِمٍ ... دَعَائِمُ عِزٍّ لَا يَزُلْنَ وَمَفْخَرُ
هُمُ جَبَلُ الْإِسْلَامِ وَالنَّاسُ حَوْلَهُمْ ... رِضَامٌ إِلَى طَوْدٍ يَرُوقُ وَيَقْهَرُ
بِهَالِيلُ مِنْهُمْ جَعْفَرٌ وَابْنُ أُمِّهِ ... عَلِيٌّ وَمِنْهُمْ أَحْمَدُ الْمُتَخَيَّرُ
وَحَمْزَةُ وَالْعَبَّاسُ مِنْهُمْ وَمِنْهُمُ ... عَقِيلٌ وَمَاءُ الْعُودِ مِنْ حَيْثُ يُعْصَرُ
بِهِمْ تُفْرَجُ اللَّأْوَاءُ فِي كُلِّ مَأْزِقٍ ... عَمَاسٍ إِذَا مَا ضَاقَ بِالنَّاسِ مَصْدَرُ
هُمُ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ أَنْزَلَ حُكْمَهُ ... عَلَيْهِمْ وَفِيهِمْ ذَا الْكِتَابُ الْمُطَهَّرُ
وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
(6/465)
:
نَامَ الْعُيُونُ وَدَمْعُ عَيْنِكَ يَهْمُلُ ... سَحًّا كَمَا وَكَفَ الطِّبَابُ الْمُخْضِلُ
فِي لَيْلَةٍ وَرَدَتْ عَلَيَّ هُمُومُهَا ... طَوْرًا أَحِنُّ وَتَارَةً أَتَمَلْمَلُ
وَاعَتَادَنِي حُزْنٌ فَبِتُّ كَأَنَّنِي ... بِبَنَاتِ نَعْشٍ وَالسِّمَاكِ مُوَكَّلُ
وَكَأَنَّمَا بَيْنَ الْجَوَانِحِ وَالْحَشَا ... مِمَّا تَأَوَّبَنِي شِهَابٌ مُدْخَلُ
وَجْدًا عَلَى النَّفَرِ الَّذِينَ تَتَابَعُوا ... يَوْمًا بِمُؤْتَةَ أُسْنِدُوا لَمْ يُنْقَلُوا
صَلَّى الْإِلَهُ عَلَيْهُمُ مِنْ فِتْيَةٍ ... وَسَقَى عِظَامَهُمُ الْغَمَامُ الْمُسْبِلُ
صَبَرُوا بِمُؤْتَةَ لِلْإِلَهِ نُفُوسَهُمْ ... حَذَرَ الرَّدَى وَمَخَافَةً أَنْ يَنْكُلُوا
فَمَضَوْا أَمَامَ الْمُسْلِمِينَ كَأَنَّهُمْ ... فُنُقٌ عَلَيْهِنَّ الْحَدِيدُ الْمُرْفَلُ
إِذْ يَهْتَدُونَ بِجَعْفَرٍ وَلِوَائِهِ ... قُدَّامَ أَوَّلِهِمْ فَنِعْمَ الْأَوَّلُ
حَتَّى تَفَرَّجَتِ الصُّفُوفُ وَجَعْفَرٌ ... حَيْثُ الْتَقَى وَعْثُ الصُّفُوفِ مُجَدَّلُ
(6/466)
.. فَتَغَيَّرَ الْقَمَرُ الْمُنِيرُ لِفَقْدِهِ
وَالشَّمْسُ قَدْ كَسَفَتْ وَكَادَتْ تَأْفِلُ ... قَرْمٌ عَلَا بُنْيَانُهُ مِنْ هَاشِمٍ
فَرْعًا أَشَمَّ وَسُؤْدَدًا مَا يُنْقَلُ ... قَوْمٌ بِهِمْ عَصَمَ الِإِلَهُ عِبَادَهُ
وَعَلَيْهِمُ نَزَلَ الْكِتَابُ الْمُنْزَلُ ... فَضَلُوا الْمَعَاشِرَ عِزَّةً وَتَكُرُّمَا
وَتَغَمَّدَتْ أَحْلَامَهُمْ مَنْ يَجْهَلُ ... لَا يُطْلِقُونَ إِلَى السَّفَاهِ حُبَاهُمُ
وَيُرَى خَطِيبُهُمُ بِحَقٍّ يَفْصِلُ ... بِيضُ الْوُجُوهِ تَرَى بُطُونَ أَكُفِّهِمْ
تَنْدَى إِذَا اعْتَذَرَ الزَّمَانُ الْمُمْحِلُ ... وَبِهَدْيِهِمْ رَضِيَ الْإِلَهُ لِخَلْقِهِ
وَبِجِدِّهِمْ نُصِرَ النَّبِيُّ الْمُرْسَلُ
(6/467)
[كِتَابُ بَعْثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مُلُوكِ الْآفَاقِ وَكَتْبِهِ إِلَيْهِمْ]
[وَقْتُ إِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَى مُلُوكِ الْآفَاقِ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كِتَابُ بَعْثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مُلُوكِ الْآفَاقِ وَكَتْبِهِ إِلَيْهِمْ يَدْعُوهُمْ، إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ
ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ ذَلِكَ فِي آخِرِ سَنَةِ سِتٍّ فِي ذِي الْحِجَّةِ، بَعْدَ عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ. وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ هَذَا الْفَصْلَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، بَعْدَ غَزْوَةِ مُؤْتَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّ بَدْءَ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ وَبَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ، لِقَوْلِ أَبِي سُفْيَانَ لِهِرَقْلَ حِينَ سَأَلَهُ: هَلْ يَغْدِرُ؟ فَقَالَ: لَا، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ صَانِعٌ فِيهَا. وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: وَذَلِكَ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي مَادَّ فِيهَا أَبُو سُفْيَانَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ ذَلِكَ مَا بَيْنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَوَفَاتِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَنَحْنُ نَذْكُرُ ذَلِكَ هَاهُنَا، وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الْوَاقِدِيِّ مُحْتَمَلًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(6/468)
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ حَمَّادٍ الْمَعْنِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ قَبْلَ مَوْتِهِ إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَإِلَى النَّجَاشِيِّ، وَإِلَى كُلِّ جَبَّارٍ، يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ» ، وَلَيْسَ بِالنَّجَاشِيِّ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ، مِنْ فِيهِ إِلَى فِيَّ، قَالَ: كُنَّا قَوْمًا تُجَّارًا، وَكَانَتِ الْحَرْبُ قَدْ حَصَرَتْنَا حَتَّى نَهَكَتْ أَمْوَالَنَا، فَلَمَّا كَانَتِ الْهُدْنَةُ - هُدْنَةُ الْحُدَيْبِيَةِ - بَيْنَنَا وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ نَأْمَنْ أَنْ وَجَدْنَا أَمْنًا، فَخَرَجْتُ تَاجِرًا إِلَى الشَّامِ مَعَ رَهْطٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ بِمَكَّةَ امْرَأَةً وَلَا رَجُلًا إِلَّا وَقَدْ حَمَّلَنِي بِضَاعَةً، وَكَانَ وَجْهُ مَتْجَرِنَا مِنَ الشَّامِ غَزَّةَ مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ، فَخَرَجْنَا حَتَّى قَدِمْنَاهَا، وَذَلِكَ حِينَ ظَهَرَ قَيْصَرُ صَاحِبُ الرُّومِ عَلَى مَنْ كَانَ فِي بِلَادِهِ مِنَ الْفُرْسِ، فَأَخْرَجَهُمْ مِنْهَا، وَرَدَّ عَلَيْهِ صَلِيبَهُ الْأَعْظَمَ، وَقَدْ كَانَ اسْتَلَبُوهُ إِيَّاهُ، فَلَمَّا أَنْ بَلَغَهُ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ مَنْزِلُهُ بِحِمْصَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، فَخَرَجَ مِنْهَا يَمْشِي مُتَشَكِّرًا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ،
(6/469)
لِيُصَلِّيَ فِيهِ، تُبْسَطُ لَهُ الْبُسُطُ، وَتُطْرَحُ لَهُ عَلَيْهَا الرَّيَاحِينُ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى إِيلِيَاءَ فَصَلَّى بِهَا، فَأَصْبَحَ ذَاتَ غَدَاةٍ وَهُوَ مَهْمُومٌ، يُقَلِّبُ طَرَفَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَتْ بِطَارِقَتُهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، لَقَدْ أَصْبَحْتَ مَهْمُومًا. فَقَالَ: أَجَلْ. فَقَالُوا: وَمَا ذَاكَ؟ فَقَالَ: أُرِيتُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ أَنَّ مَلِكَ الْخِتَانِ ظَاهِرٌ. فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ تَخْتَتِنُ إِلَّا الْيَهُودَ، وَهُمْ تَحْتَ يَدَيْكَ وَفِي سُلْطَانِكَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ هَذَا فِي نَفْسِكَ مِنْهُمْ، فَابْعَثْ فِي مَمْلَكَتِكَ كُلِّهَا، فَلَا يَبْقَى يَهُودِيٌّ إِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ، فَتَسْتَرِيحُ مِنْ هَذَا الْهَمِّ، فَإِنَّهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ رَأْيِهِمْ يُدَبِّرُونَهُ، إِذْ أَتَاهُمْ رَسُولُ صَاحِبِ بُصْرَى بِرَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ قَدْ وَقَعَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ أَهْلِ الشَّاءِ وَالْإِبِلِ، يُحَدِّثُكَ عَنْ حَدَثٍ كَانَ بِبِلَادِهِ، فَاسْأَلْهُ عَنْهُ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ، قَالَ لِتُرْجُمَانِهِ: سَلْهُ مَا هَذَا الْخَبَرُ الَّذِي كَانَ فِي بِلَادِهِ؟ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ قُرَيْشٍ، خَرَجَ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَقَدِ اتَّبَعَهُ أَقْوَامٌ وَخَالَفَهُ آخَرُونَ، وَقَدْ كَانَتْ بَيْنَهُمْ مَلَاحِمُ فِي مَوَاطِنَ، فَخَرَجْتُ مِنْ بِلَادِي وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. فَلَمَّا أَخْبَرَهُ الْخَبَرَ قَالَ: جَرِّدُوهُ. فَإِذَا هُوَ مَخْتُونٌ، فَقَالَ: هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي قَدْ أُرِيتُ، لَا مَا تَقُولُونَ، أَعْطِهِ ثَوْبَهُ، انْطَلِقْ لِشَأْنِكَ. ثُمَّ إِنَّهُ دَعَا صَاحِبَ شُرْطَتِهِ، فَقَالَ لَهُ: قَلِّبْ لِيَ الشَّامَ ظَهْرًا لِبَطْنٍ، حَتَّى تَأْتِيَ بِرَجُلٍ مِنْ قَوْمِ هَذَا أَسْأَلُهُ عَنْ شَأْنِهِ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَوَاللَّهِ إِنِّي وَأَصْحَابِي لَبِغَزَّةَ، إِذْ هَجَمَ عَلَيْنَا، فَسَأَلَنَا: مِمَّنْ أَنْتُمْ؟ فَأَخْبَرْنَاهُ، فَسَاقَنَا إِلَيْهِ جَمِيعًا، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مِنْ رَجُلٍ قَطُّ أَزْعُمُ أَنَّهُ كَانَ أَدْهَى مِنْ ذَلِكَ الْأَغْلَفِ - يُرِيدُ هِرَقْلَ - قَالَ: فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ قَالَ:
(6/470)
أَيُّكُمْ أَمَسُّ بِهِ رَحِمًا؟ فَقُلْتُ: أَنَا. قَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي. قَالَ: فَأَجْلَسَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ أَمَرَ بِأَصْحَابِي، فَأَجْلَسَهُمْ خَلَفِي، وَقَالَ: إِنْ كَذَبَ فَرُدُّوا عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَقَدْ عَرَفْتُ أَنِّي لَوْ كَذِبْتُ مَا رَدُّوا عَلَيَّ، وَلَكِنِّي كُنْتُ امْرَأً سَيِّدًا، أَتَكَرَّمُ وَأَسْتَحِي مِنَ الْكَذِبِ، وَعَرَفْتُ أَنَّ أَدْنَى مَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَرْوُوهُ عَنِّي، ثُمَّ يَتَحَدَّثُوا بِهِ عَنِّي بِمَكَّةَ، فَلَمْ أَكْذِبْهُ. فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي خَرَجَ فِيكُمْ. فَزَهَّدْتُ لَهُ شَأْنَهُ، وَصَغَّرْتُ لَهُ أَمْرَهُ، فَوَاللَّهِ مَا الْتَفَتَ إِلَى ذَلِكَ مِنِّي، وَقَالَ لِي: أَخْبِرْنِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ مِنْ أَمْرِهِ. فَقُلْتُ: سَلْنِي عَمَّا بَدَا لَكَ؟ فَقَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ فَقُلْتُ: مَحْضًا، مِنْ أَوْسَطِنَا نَسَبًا. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي هَلْ كَانَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ أَحَدٌ يَقُولُ مِثْلَ قَوْلِهِ، فَهُوَ يَتَشَبَّهُ بِهِ؟ فَقُلْتُ: لَا. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي هَلْ كَانَ لَهُ مُلْكٌ فَاسْتَلَبْتُمُوهُ إِيَّاهُ، فَجَاءَ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِتَرُدُّوهُ عَلَيْهِ؟ فَقُلْتُ: لَا. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَتْبَاعِهِ مَنْ هُمْ؟ فَقُلْتُ: الْأَحْدَاثُ وَالضُّعَفَاءُ وَالْمَسَاكِينُ فَأَمَّا أَشْرَافُهُمْ وَذَوُو الْأَسْنَانِ فَلَا. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَمَّنْ يَصْحَبُهُ، أَيُحِبُّهُ وَيَلْزَمُهُ، أَمْ يَقْلِيهِ وَيُفَارِقُهُ؟ قُلْتُ: قَلَّ مَا صَحِبَهُ رَجُلٌ فَفَارَقَهُ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْحَرْبِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ؟ فَقُلْتُ:
(6/471)
سِجَالٌ، يُدَالُ عَلَيْنَا وَنُدَالُ عَلَيْهِ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي هَلْ يَغْدِرُ؟ فَلَمْ أَجِدْ شَيْئًا أَغُرُّهُ بِهِ إِلَّا هِيَ، قُلْتُ: لَا، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ، وَلَا نَأْمَنُ غَدْرَهُ فِيهَا. فَوَاللَّهِ مَا الْتَفَتَ إِلَيْهَا مِنِّي. قَالَ: فَأَعَادَ عَلَيَّ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: زَعَمْتَ أَنَّهُ مِنْ أَمْحَضِكُمْ نَسَبًا، وَكَذَلِكَ يَأْخُذُ اللَّهُ النَّبِيَّ إِذَا أَخَذَهُ، لَا يَأْخُذُهُ إِلَّا مِنْ أَوْسَطِ قَوْمِهِ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ أَحَدٌ يَقُولُ مِثْلَ قَوْلِهِ فَهُوَ يَتَشَبَّهُ بِهِ، فَقُلْتَ: لَا. وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ لَهُ مُلْكٌ فَاسْتَلَبْتُمُوهُ إِيَّاهُ، فَجَاءَ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِتَرُدُّوا عَلَيْهِ مُلْكَهُ، فَقُلْتَ: لَا. وَسَأَلْتُكُ عَنْ أَتْبَاعِهِ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُمُ الْأَحْدَاثُ وَالْمَسَاكِينُ وَالضُّعَفَاءُ، وَكَذَلِكَ أَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَسَأَلْتُكَ عَمَّنْ يَتَّبِعُهُ، أَيُحِبُّهُ وَيَلْزَمُهُ، أَمْ يَقْلِيهِ وَيُفَارِقُهُ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ قَلَّ مَنْ يَصْحَبُهُ فَيُفَارِقُهُ، وَكَذَلِكَ حَلَاوَةُ الْإِيمَانِ، لَا تَدْخُلُ قَلْبًا فَتَخْرُجُ مِنْهُ، وَسَأَلْتُكَ كَيْفَ الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ، فَزَعَمْتَ أَنَّهَا سِجَالٌ، يُدَالُ عَلَيْكُمْ وَتُدَالُونَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ تَكُونُ حَرْبُ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَهُمْ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ لَا يَغْدِرُ، فَلَئِنْ كُنْتَ صَدَقْتَنِي، لَيَغْلِبَنَّ عَلَى مَا تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي عِنْدَهُ فَأَغْسِلُ عَنْ قَدَمَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: الْحَقْ بِشَأْنِكَ، قَالَ: فَقُمْتُ وَأَنَا أَضْرِبُ إِحْدَى يَدَيَّ عَلَى الْأُخْرَى، وَأَقُولُ: يَا عِبَادَ اللَّهِ، لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ
(6/472)
أَبِي كَبْشَةَ! أَصْبَحَ مُلُوكُ بَنِي الْأَصْفَرِ يَخَافُونَهُ فِي سُلْطَانِهِمْ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أُسْقُفٌّ مِنَ النَّصَارَى، قَدْ أَدْرَكَ ذَلِكَ الزَّمَانَ قَالَ: قَدِمَ دِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ عَلَى هِرَقْلَ بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَإِنَّ إِثْمَ الْأَكَّارِينَ عَلَيْكَ» قَالَ: فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ كِتَابُهُ وَقَرَأَهُ، أَخَذَهُ فَجَعَلَهُ بَيْنَ فَخِذِهِ وَخَاصِرَتِهِ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ رُومِيَّةَ، كَانَ يَقْرَأُ مِنَ الْعِبْرَانِيَّةِ مَا يَقْرَأُ، يُخْبِرُهُ عَمَّا جَاءَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّهُ النَّبِيُّ الَّذِي يُنْتَظَرُ لَا شَكَّ فِيهِ، فَاتَّبِعْهُ. فَأَمَرَ بِعُظَمَاءِ الرُّومِ، فَجُمِعُوا لَهُ فِي دَسْكَرَةِ مُلْكِهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَأُشْرِجَتْ عَلَيْهِمْ، وَاطَّلَعَ عَلَيْهِمْ مِنْ عِلِّيَّةٍ لَهُ وَهُوَ مِنْهُمْ خَائِفٌ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، إِنَّهُ قَدْ جَاءَنِي كِتَابُ أَحْمَدَ، وَإِنَّهُ وَاللَّهِ النَّبِيُّ الَّذِي كُنَّا نَنْتَظِرُ وَنَجِدُ ذِكْرَهُ فِي كِتَابِنَا، نَعْرِفُهُ بِعَلَامَاتِهِ وَزَمَانِهِ، فَأَسْلِمُوا وَاتَّبِعُوهُ تَسْلَمْ لَكُمْ دُنْيَاكُمْ وَآخِرَتُكُمْ. فَنَخَرُوا
(6/473)
نَخْرَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَابْتَدَرُوا أَبْوَابَ الدَّسْكَرَةِ فَوَجَدُوهَا مُغْلَقَةً دُونَهُمْ، فَخَافَهُمْ وَقَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَيَّ. فَرَدُّوهُمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، إِنِّي إِنَّمَا قُلْتُ لَكُمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ أَخْتَبِرُكُمْ بِهَا، لِأَنْظُرَ كَيْفَ صَلَابَتُكُمْ فِي دِينِكُمْ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ مِنْكُمْ مَا سَرَّنِي. فَوَقَعُوا لَهُ سُجَّدًا، ثُمَّ فُتِحَتْ لَهُمْ أَبْوَابُ الدَّسْكَرَةِ فَخَرَجُوا.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ قِصَّةَ أَبِي سُفْيَانَ مَعَ هِرَقْلَ بِزِيَادَاتٍ أُخَرَ، أَحْبَبْنَا أَنْ نُورِدَهَا بِسَنَدِهَا وَحُرُوفِهَا مِنَ " الصَّحِيحِ " لِيُعْلَمَ مَا بَيْنَ السِّيَاقَيْنِ مِنَ التَّبَايُنِ، وَمَا فِيهِمَا مِنَ الْفَوَائِدِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ قَبْلَ الْإِيمَانِ مِنْ " صَحِيحِهِ ": حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مَنْ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا تُجَّارًا بِالشَّامِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ، فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِالتُّرْجُمَانِ فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا. قَالَ: أَدْنَوْهُ مِنِّي، وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ، فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ. ثُمَّ قَالَ لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ: إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ. فَوَاللَّهِ لَوْلَا أَنْ يَأْثِرُوا عَنِّي كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ، ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ. قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ
(6/474)
قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ قُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ. قَالَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ. قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لَا، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا. قَالَ: وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ. قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قُلْتُ: الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ، يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ. قَالَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قُلْتُ: يَقُولُ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ. فَقَالَ لِلتُّرْجُمَانِ: قُلْ لَهُ: سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ، فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ، لَقُلْتُ: رَجُلٌ يَتَأَسَّى بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ. وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ، فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ، قُلْتُ: رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ. وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ، فَذَكَرْتُ أَنْ لَا، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ. وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ، فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ. وَسَأَلْتُكَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الْإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ، وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ، فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَغْدِرُ، فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ
(6/475)
وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا، فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ، لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ، لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمَيْهِ. ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي بَعَثَ بِهِ مَعَ دِحْيَةَ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ، فَإِذَا فِيهِ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمُ الْأَرِيسِيِّينَ، وَ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] (آلِ عِمْرَانَ: 64) » قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ، وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ، كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ، وَارْتَفَعَتِ الْأَصْوَاتُ، وَأُخْرِجْنَا، فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ! إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ! فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ، حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الْإِسْلَامَ. قَالَ: وَكَانَ ابْنُ النَّاطُورِ -
(6/476)
صَاحِبُ إِيلِيَاءَ وَهِرَقْلَ - سُقُفًّا عَلَى نَصَارَى الشَّامِ، يُحَدِّثُ أَنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إِيلِيَاءَ أَصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ، فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ، قَدِ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ. قَالَ ابْنُ النَّاطُورِ: وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظُرُ فِي النُّجُومِ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ: إِنِّي رَأَيْتُ حِينَ نَظَرْتُ فِي النُّجُومِ مَلِكَ الْخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ، فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ؟ قَالُوا: لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلَّا الْيَهُودُ، فَلَا يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ، وَاكْتُبْ إِلَى مَدَائِنِ مُلْكِكَ فَلْيَقْتُلُوا مَنْ فِيهِمْ مِنَ الْيَهُودِ. فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ، أَتَى هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ، يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قَالَ: اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أَمُخْتَتِنٌ هُوَ أَمْ لَا؟ فَنَظَرُوا إِلَيْهِ، فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ. وَسَأَلَهُ عَنِ الْعَرَبِ، فَقَالَ: هُمْ يَخْتَتِنُونَ. فَقَالَ هِرَقْلُ: هَذَا مُلْكُ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ. ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَّةَ، وَكَانَ نَظِيرَهُ فِي الْعِلْمِ، وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ، فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ، يُوَافِقُ رَأْيَ هِرَقْلَ عَلَى خُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ نَبِيٌّ، فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِي دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ، ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، هَلْ لَكُمْ فِي الْفَلَاحِ وَالرُّشْدِ، وَأَنْ يَثْبُتَ لَكُمْ مُلْكُكُمْ، فَتُبَايِعُوا لِهَذَا النَّبِيِّ. فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمْرِ الْوَحْشِ إِلَى الْأَبْوَابِ، فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ، وَأَيِسَ مِنَ الْإِيمَانِ قَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَيَّ. وَقَالَ: إِنِّي إِنَّمَا قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا
(6/477)
أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ. فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَرَوَاهُ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، وَيُونُسُ وَمَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ فِي " صَحِيحِهِ " بِأَلْفَاظٍ يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهَا. وَأَخْرَجَهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ، إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ، مِنْ طُرُقٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مُطَوَّلًا فِي أَوَّلِ شَرْحِنَا لِصَحِيحِ الْبُخَارِيِّ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَذَكَرْنَا فِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالنُّكَتِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَاللَّفْظِيَّةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ إِلَى الشَّامِ تَاجِرًا فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَبَلَغَ هِرَقْلَ شَأْنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ مَا يُعْلَمُ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبِ الْعَرَبِ الَّذِي بِالشَّامِ فِي مُلْكِهِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ بِرِجَالٍ مِنَ الْعَرَبِ يَسْأَلُهُمْ عَنْهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ثَلَاثِينَ رَجُلًا، مِنْهُمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فِي كَنِيسَةِ إِيلِيَاءَ الَّتِي فِي جَوْفِهَا، فَقَالَ هِرَقْلُ: أَرْسَلْتُ إِلَيْكُمْ لِتُخْبِرُونِي عَنْ هَذَا الَّذِي بِمَكَّةَ مَا أَمْرُهُ؟ قَالُوا: سَاحِرٌ كَذَّابٌ، وَلَيْسَ بِنَبِيٍّ. قَالَ: فَأَخْبِرُونِي بِأَعْلَمِكُمْ بِهِ وَأَقْرَبِكُمْ مِنْهُ رَحِمًا؟ قَالُوا: هَذَا أَبُو سُفْيَانَ ابْنُ عَمِّهِ،
(6/478)
وَقَدْ قَاتَلَهُ. فَلَمَّا أَخْبَرُوهُ ذَلِكَ، أَمَرَ بِهِمْ فَأُخْرِجُوا عَنْهُ، ثُمَّ أَجْلَسَ أَبَا سُفْيَانَ فَاسْتَخْبَرَهُ، قَالَ: أَخْبِرْنِي يَا أَبَا سُفْيَانَ، فَقَالَ: هُوَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ. فَقَالَ هِرَقْلُ: إِنِّي لَا أُرِيدُ شَتْمَهُ، وَلَكِنْ كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قَالَ: هُوَ وَاللَّهِ مِنْ بَيْتِ قُرَيْشٍ. قَالَ: كَيْفَ عَقْلُهُ وَرَأْيُهُ؟ قَالَ: لَمْ نَعِبْ لَهُ عَقْلًا وَلَا رَأْيًا قَطُّ. قَالَ هِرَقْلُ: هَلْ كَانَ حَلَّافًا كَذَّابًا مُخَادِعًا فِي أَمْرِهِ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا كَانَ كَذَلِكَ. قَالَ: لَعَلَّهُ يَطْلُبُ مُلْكًا أَوْ شَرَفًا كَانَ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ قَبْلَهُ؟ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَا، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَتَّبِعُهُ مِنْكُمْ هَلْ يَرْجِعُ إِلَيْكُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ؟ قَالَ: لَا. قَالَ هِرَقْلُ: هَلْ يَغْدِرُ إِذَا عَاهَدَ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ يَغْدِرَ مُدَّتَهُ هَذِهِ. فَقَالَ هِرَقْلُ: وَمَا تَخَافُ مِنْ مُدَّتِهِ هَذِهِ؟ قَالَ: إِنَّ قَوْمِي أَمَدُّوا حُلَفَاءَهُمْ عَلَى حُلَفَائِهِ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ. قَالَ هِرَقْلُ: إِنْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ بَدَأْتُمْ فَأَنْتُمْ أَغْدَرُ. فَغَضِبَ أَبُو سُفْيَانَ وَقَالَ: لَمْ يَغْلِبْنَا إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غَائِبٌ - وَهُوَ يَوْمُ بَدْرٍ - ثُمَّ غَزَوْتُهُ مَرَّتَيْنِ فِي بُيُوتِهِمْ، نَبْقُرُ الْبُطُونَ، وَنُجَدِّعُ الْآذَانَ وَالْفُرُوجَ. فَقَالَ هِرَقْلُ: أَكَاذِبًا تَرَاهُ أَمْ صَادِقًا؟ فَقَالَ: بَلْ هُوَ كَاذِبٌ. فَقَالَ: إِنْ كَانَ فِيكُمْ نَبِيٌّ، فَلَا تَقْتُلُوهُ، فَإِنَّ أَفْعَلَ النَّاسِ لِذَلِكَ الْيَهُودُ. ثُمَّ رَجَعَ أَبُو سُفْيَانَ.
فَفِي هَذَا السِّيَاقِ غَرَابَةٌ، وَفِيهِ فَوَائِدُ لَيْسَتْ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَلَا الْبُخَارِيِّ. وَقَدْ أَوْرَدَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي " مَغَازِيهِ " قَرِيبًا مِمَّا ذَكَرَهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي " تَارِيخِهِ ": حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، ثَنَا سَلَمَةُ، ثَنَا مُحَمَّدُ
(6/479)
بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لِدِحْيَةَ بْنِ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيِّ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَكَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَأَنَّهُ الَّذِي كُنَّا نَنْتَظِرُ وَنَجِدُهُ فِي كِتَابِنَا، وَلَكِنِّي أَخَافُ الرُّومَ عَلَى نَفْسِي، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاتَّبَعْتُهُ، فَاذْهَبْ إِلَى ضَغَاطِرَ الْأُسْقُفِّ، فَاذْكُرْ لَهُ أَمْرَ صَاحِبِكُمْ، فَهُوَ وَاللَّهِ فِي الرُّومِ أَعْظَمُ مِنِّي، وَأَجْوَزُ قَوْلًا عِنْدَهُمْ مِنِّي، فَانْظُرْ مَاذَا يَقُولُ لَكَ؟ قَالَ: فَجَاءَهُ دِحْيَةُ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْلَ، وَبِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ، فَقَالَ ضَغَاطِرُ: صَاحِبُكَ وَاللَّهِ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ نَعْرِفُهُ بِصِفَتِهِ، وَنَجِدُهُ فِي كِتَابِنَا بِاسْمِهِ ثُمَّ دَخَلَ وَأَلْقَى ثِيَابًا كَانَتْ عَلَيْهِ سُودًا، وَلَبِسَ ثِيَابًا بَيَاضًا، ثُمَّ أَخَذَ عَصَاهُ فَخَرَجَ عَلَى الرُّومِ فِي الْكَنِيسَةِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، إِنَّهُ قَدْ جَاءَنَا كِتَابٌ مِنْ أَحْمَدَ، يَدْعُونَا فِيهِ إِلَى اللَّهِ، وَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ أَحْمَدَ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. قَالَ: فَوَثَبُوا إِلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَضَرَبُوهُ حَتَّى قَتَلُوهُ. قَالَ: فَلَمَّا رَجَعَ دِحْيَةُ إِلَى هِرَقْلَ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، قَالَ: قَدْ قُلْتُ لَكَ: إِنَّا نَخَافُهُمْ عَلَى أَنْفُسِنَا، فَضَغَاطِرُ وَاللَّهِ كَانَ أَعْظَمَ عِنْدَهُمْ، وَأَجْوَزَ قَوْلًا مِنِّي.
وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
(6/480)
قَيْصَرَ صَاحِبِ الرُّومِ بِكِتَابٍ، فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنُوا لِرَسُولِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأُتِيَ قَيْصَرُ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ عَلَى الْبَابِ رَجُلًا يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ. فَفَزِعُوا لِذَلِكَ، وَقَالَ: أَدْخِلْهُ. فَأَدْخَلَنِي عَلَيْهِ وَعِنْدَهُ بَطَارِقَتُهُ، فَأَعْطَيْتُهُ الْكِتَابَ فَإِذَا فِيهِ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى قَيْصَرَ صَاحِبِ الرُّومِ» فَنَخَرَ ابْنُ أَخٍ لَهُ أَحْمَرُ أَزْرَقُ سَبِطٌ، فَقَالَ: لَا تَقْرَأِ الْكِتَابَ الْيَوْمَ، فَإِنَّهُ بَدَأَ بِنَفْسِهِ، وَكَتَبَ صَاحِبَ الرُّومِ، وَلَمْ يَكْتُبْ مَلِكَ الرُّومِ، قَالَ: فَقُرِئَ الْكِتَابُ حَتَّى فُرِغَ مِنْهُ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ فَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَيَّ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَسَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ، فَبَعَثَ إِلَى الْأُسْقُفِّ فَدَخَلَ عَلَيْهِ، وَكَانَ صَاحِبَ أَمْرِهِمْ، يَصْدُرُونَ عَنْ رَأْيِهِ وَعَنْ قَوْلِهِ، فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ قَالَ الْأُسْقُفُّ: هُوَ وَاللَّهِ الَّذِي بَشَّرَنَا بِهِ مُوسَى وَعِيسَى، الَّذِي كُنَّا نَنْتَظِرُ. قَالَ قَيْصَرُ: فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ الْأُسْقُفُّ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي مُصَدِّقُهُ وَمُتَّبِعُهُ. فَقَالَ قَيْصَرُ: أَعْرِفُ أَنَّهُ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَفْعَلَ، إِنْ فَعَلْتُ ذَهَبَ مُلْكِي وَقَتَلَنِي الرُّومُ.
وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ قُدَمَاءِ أَهْلِ الشَّامِ قَالَ: لَمَّا أَرَادَ هِرَقْلُ الْخُرُوجَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، لِمَا بَلَغَهُ مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ الرُّومَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، إِنِّي عَارِضٌ عَلَيْكُمْ أُمُورًا، فَانْظُرُوا فِيمَا أَرَدْتُ بِهَا. قَالُوا: مَا هِيَ؟ قَالَ: تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ لَنَبِيٌّ مُرْسَلٌ، نَجِدُهُ فِي كِتَابِنَا، نَعْرِفُهُ بِصِفَتِهِ الَّتِي وُصِفَ
(6/481)
لَنَا، فَهَلُمَّ فَلْنَتَّبِعْهُ، فَتَسْلَمَ لَنَا دُنْيَانَا وَآخِرَتُنَا. فَقَالُوا: نَحْنُ نَكُونُ تَحْتَ أَيْدِي الْعَرَبِ، وَنَحْنُ أَعْظَمُ النَّاسِ مُلْكًا، وَأَكْثَرُهُمْ رِجَالًا، وَأَقْصَاهُمْ بَلَدًا؟! قَالَ: فَهَلُمَّ أُعْطِيهِ الْجِزْيَةَ كُلَّ سَنَةٍ، أَكْسِرُ عَنِّي شَوْكَتَهُ، وَأَسْتَرِيحُ مِنْ حَرْبِهِ بِمَا أُعْطِيهِ إِيَّاهُ. قَالُوا: نَحْنُ نُعْطِي الْعَرَبَ الذُّلَّ وَالصَّغَارَ بِخَرْجٍ يَأْخُذُونَهُ مِنَّا، وَنَحْنُ أَكْثَرُ النَّاسِ عَدَدًا، وَأَعْظَمُهُمْ مُلْكًا، وَأَمْنَعُهُمْ بَلَدًا؟! لَا وَاللَّهِ لَا نَفْعَلُ هَذَا أَبَدًا. قَالَ: فَهَلُمَّ فَلْأُصَالِحْهُ عَلَى أَنْ أُعْطِيَهُ أَرْضَ سُورِيَةَ، وَيَدَعَنِي وَأَرْضَ الشَّامِ - قَالَ: وَكَانَتْ أَرْضُ سُورِيَةَ، فِلَسْطِينَ، وَالْأُرْدُنَّ، وَدِمَشْقَ، وَحِمْصَ، وَمَا دُونَ الدَّرْبِ مِنْ أَرْضِ سُورِيَةَ، وَمَا كَانَ وَرَاءَ الدَّرْبِ عِنْدَهُمْ فَهُوَ الشَّامُ - فَقَالُوا: نَحْنُ نُعْطِيهِ أَرْضَ سُورِيَةَ وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهَا سُرَّةُ الشَّامِ؟ ! لَا نَفْعَلُ هَذَا أَبَدًا. فَلَمَّا أَبَوْا عَلَيْهِ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَتَوَدُّنَّ أَنَّكُمْ قَدْ ظَفِرْتُمْ، إِذَا امْتَنَعْتُمْ مِنْهُ فِي مَدِينَتِكُمْ. قَالَ: ثُمَّ جَلَسَ عَلَى بَغْلٍ لَهُ فَانْطَلَقَ، حَتَّى إِذَا أَشْرَفَ عَلَى الدَّرْبِ، اسْتَقْبَلَ أَرْضَ الشَّامِ، ثُمَّ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكِ يَا أَرْضَ سُورِيَةَ تَسْلِيمَ الْوَدَاعِ. ثُمَّ رَكَضَ حَتَّى دَخَلَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(6/482)
[إِرْسَالُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَلِكِ الْعَرَبِ مِنَ النَّصَارَى بِالشَّامِ]
ذِكْرُ إِرْسَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَلِكِ الْعَرَبِ مِنَ النَّصَارَى بِالشَّامِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُجَاعَ بْنَ وَهْبٍ، أَخَا بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، إِلَى الْمُنْذِرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شَمِرٍ الْغَسَّانِيِّ، صَاحِبِ دِمَشْقَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَكَتَبَ مَعَهُ: «سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى وَآمَنَ بِهِ، وَأَدْعُوكَ إِلَى أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، يَبْقَى لَكَ مُلْكُكَ» فَقَدِمَ شُجَاعُ بْنُ وَهْبٍ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَمَنْ يَنْتَزِعُ مُلْكِي؟ إِنِّي سَأَسِيرُ إِلَيْهِ.
[بَعْثُهُ إِلَى كِسْرَى مِلْكِ الْفُرْسِ]
ذِكْرُ بَعْثِهِ إِلَى كِسْرَى مِلْكِ الْفُرْسِ
رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بِكِتَابِهِ مَعَ رَجُلٍ إِلَى كِسْرَى، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ فَدَفَعَهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى، فَلَمَّا قَرَأَهُ كِسْرَى مَزَّقَهُ. قَالَ: فَحَسِبْتُ أَنَّ ابْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ: فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ» .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ
(6/483)
بْنُ عَبْدٍ الْقَارِيُّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ خَطِيبًا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَ بَعْضَكُمْ إِلَى مُلُوكِ الْأَعَاجِمِ، فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيَّ كَمَا اخْتَلَفَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ". فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَا نَخْتَلِفُ عَلَيْكَ فِي شَيْءٍ أَبَدًا فَمُرْنَا وَابْعَثْنَا. فَبَعَثَ شُجَاعَ بْنَ وَهْبٍ إِلَى كِسْرَى، فَأَمَرَ كِسْرَى بِإِيوَانِهِ أَنْ يُزَيَّنَ، ثُمَّ أَذِنَ لِعُظَمَاءِ فَارِسَ ثُمَّ أَذِنَ لِشُجَاعِ بْنِ وَهْبٍ، فَلَمَّا أَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ أَمَرَ كِسْرَى بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْبَضَ مِنْهُ، فَقَالَ شُجَاعُ بْنُ وَهْبٍ: لَا، حَتَّى أَدْفَعَهُ أَنَا إِلَيْكَ كَمَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ كِسْرَى: ادْنُهْ. فَدَنَا فَنَاوَلَهُ الْكِتَابَ، ثُمَّ دَعَا كَاتِبًا لَهُ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ فَقَرَأَهُ، فَإِذَا فِيهِ: " مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِسَ " قَالَ: فَأَغْضَبَهُ حِينَ بَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ، وَصَاحَ وَغَضِبَ وَمَزَّقَ الْكِتَابَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ مَا فِيهِ، وَأَمَرَ بِشُجَاعِ بْنِ وَهْبٍ فَأُخْرِجَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَعَدَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، ثُمَّ سَارَ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أُبَالِي عَلَى أَيِّ الطَّرِيقَيْنِ أَكُونُ إِذْ أَدَّيْتُ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ كِسْرَى سَوْرَةُ غَضَبِهِ بَعَثَ إِلَى شُجَاعٍ، لِيَدْخُلَ عَلَيْهِ، فَالْتُمِسَ فَلَمْ يُوجَدْ، فَطُلِبَ إِلَى الْحِيرَةِ فَسَبَقَ، فَلَمَّا قَدِمَ شُجَاعٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ كِسْرَى وَتَمْزِيقِهِ لِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَزَّقَ كِسْرَى مُلْكَهُ
(6/484)
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ بِكِتَابِهِ إِلَى كِسْرَى، فَلَمَّا قَرَأَهُ مَزَّقَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَزَّقَ مُلْكَهُ» .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حُمَيْدٍ، ثَنَا سَلَمَةُ، ثَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، قَالَ: وَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ إِلَى كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ مَلِكِ فَارِسَ وَكَتَبَ مَعَهُ: " «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِسَ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، وَآمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَشَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَدْعُوكَ بِدُعَاءِ اللَّهِ، فَإِنِّي أَنَا رَسُولُ اللَّهِ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، لِأُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا، وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ، فَإِنْ تُسْلِمْ تَسْلَمْ، وَإِنْ أَبَيْتَ فَإِنَّ إِثْمَ الْمَجُوسِ عَلَيْكَ» ". قَالَ: فَلَمَّا قَرَأَهُ شَقَّهُ، وَقَالَ: يَكْتُبُ إِلَيَّ بِهَذَا وَهُوَ عَبْدِي؟! قَالَ: ثُمَّ كَتَبَ كِسْرَى إِلَى بَاذَامَ، وَهُوَ نَائِبُهُ عَلَى الْيَمَنِ، أَنِ ابْعَثْ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ بِالْحِجَازِ رَجُلَيْنِ مِنْ عِنْدِكَ جَلْدَيْنِ فَلْيَأْتِيَانِي بِهِ. فَبَعَثَ بَاذَامُ قَهْرَمَانَهُ، وَكَانَ كَاتِبًا حَاسِبًا بِكِتَابِ فَارِسَ، وَبَعَثَ
(6/485)
مَعَهُ رَجُلًا مِنَ الْفُرْسِ يُقَالُ لَهُ: خُرْخَرَةُ. وَكَتَبَ مَعَهُمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُهُ أَنْ يَنْصَرِفَ مَعَهُمَا إِلَى كِسْرَى، وَقَالَ لِأَبَاذَوَيْهِ: ائْتِ بِلَادَ هَذَا الرَّجُلِ وَكَلِّمْهُ وَأْتِنِي بِخَبَرِهِ. فَخَرَجَا حَتَّى قَدِمَا الطَّائِفَ، فَوَجَدَا رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ فِي أَرْضِ الطَّائِفِ، فَسَأَلُوهُ عَنْهُ فَقَالَ: هُوَ بِالْمَدِينَةِ. وَاسْتَبْشَرَ أَهْلُ الطَّائِفِ - يَعْنِي وَقُرَيْشٌ بِهِمَا - وَفَرِحُوا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَبْشِرُوا، فَقَدْ نَصَبَ لَهُ كِسْرَى مَلِكُ الْمُلُوكِ، كُفِيتُمُ الرَّجُلَ. فَخَرَجَا حَتَّى قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَلَّمَهُ أَبَاذَوَيْهِ فَقَالَ: شَاهِنْشَاهُ مَلِكُ الْمُلُوكِ كِسْرَى، قَدْ كَتَبَ إِلَى الْمَلِكِ بَاذَامَ يَأْمُرُهُ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْكَ مَنْ يَأْتِيهِ بِكَ، وَقَدْ بَعَثَنِي إِلَيْكَ لِتَنْطَلِقَ مَعِي، فَإِنْ فَعَلْتَ كَتَبَ لَكَ إِلَى مَلِكِ الْمُلُوكِ يَنْفَعُكَ وَيَكُفُّهُ عَنْكَ، وَإِنْ أَبَيْتَ فَهُوَ مَنْ قَدْ عَلِمْتَ، فَهُوَ مُهْلِكُكَ وَمُهْلِكُ قَوْمِكَ وَمُخَرِّبُ بِلَادِكَ. وَدَخَلَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ حَلَقَا لِحَاهُمَا وَأَعْفَيَا شَوَارِبَهُمَا، فَكَرِهَ النَّظَرَ إِلَيْهِمَا، وَقَالَ: " «وَيْلَكُمَا! مَنْ أَمَرَكُمَا بِهَذَا؟! " قَالَا: أَمَرَنَا رَبُّنَا. يَعْنِيَانِ كِسْرَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَلَكِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي بِإِعْفَاءِ لِحْيَتِي وَقَصِّ شَارِبِي ". ثُمَّ قَالَ: " ارْجِعَا حَتَّى تَأْتِيَانِي غَدًا ". قَالَ: وَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ، بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ سَلَّطَ عَلَى كِسْرَى ابْنَهُ شِيرَوَيْهِ، فَقَتَلَهُ فِي شَهْرِ كَذَا وَكَذَا، فِي لَيْلَةِ كَذَا وَكَذَا، مِنَ اللَّيْلِ، سُلِّطَ عَلَيْهِ ابْنُهُ شِيرَوَيْهِ فَقَتَلَهُ. قَالَ: فَدَعَاهُمَا
(6/486)
فَأَخْبَرَهُمَا فَقَالَا: هَلْ تَدْرِي مَا تَقُولُ؟! إِنَّا قَدْ نَقَمْنَا عَلَيْكَ مَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ هَذَا، فَنَكْتُبُ عَنْكَ بِهَذَا وَنُخْبِرُ الْمَلِكَ بَاذَامَ؟ قَالَ: " نَعَمْ أَخْبِرَاهُ ذَلِكَ عَنِّي، وَقُولَا لَهُ: إِنَّ دِينِي وَسُلْطَانِي سَيَبْلُغُ مَا بَلَغَ مُلْكُ كِسْرَى، وَيَنْتَهِي إِلَى مُنْتَهَى الْخُفِّ وَالْحَافِرِ، وَقُولَا لَهُ: إِنْ أَسْلَمْتَ أَعْطَيْتُكَ مَا تَحْتَ يَدَيْكَ، وَمَلَّكْتُكَ عَلَى قَوْمِكَ مِنَ الْأَبْنَاءِ ". ثُمَّ أَعْطَى خُرْخَرَةَ مِنْطَقَةً فِيهَا ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ كَانَ أَهْدَاهَا لَهُ بَعْضُ الْمُلُوكِ، فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى قَدِمَا عَلَى بَاذَامَ فَأَخْبَرَاهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا هَذَا بِكَلَامِ مَلِكٍ، وَإِنِّي لَأَرَى الرَّجُلَ نَبِيًّا كَمَا يَقُولُ، وَلَيَكُونَنَّ مَا قَدْ قَالَ، فَلَئِنْ كَانَ هَذَا حَقًّا فَإِنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَسَنَرَى فِيهِ رَأْيَنَا. فَلَمْ يَنْشَبْ بَاذَامُ أَنْ قِدِمَ عَلَيْهِ كِتَابُ شِيرَوَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدْ قَتَلْتُ كِسْرَى، وَلَمْ أَقْتُلْهُ إِلَّا غَضَبًا لِفَارِسَ، لِمَا كَانَ اسْتَحَلَّ مِنْ قَتْلِ أَشْرَافِهِمْ وَنَحْرِهِمْ فِي ثُغُورِهِمْ، فَإِذَا جَاءَكَ كِتَابِي هَذَا فَخُذْ لِيَ الطَّاعَةَ مِمَنْ قِبَلَكَ، وَانْطَلِقْ إِلَى الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ كِسْرَى قَدْ كَتَبَ فِيهِ، فَلَا تُهِجْهُ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي فِيهِ. فَلَمَّا انْتَهَى كِتَابُ شِيرَوَيْهِ إِلَى بَاذَامَ قَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ لَرَسُولٌ. فَأَسْلَمَ وَأَسْلَمَتِ الْأَبْنَاءُ مِنْ فَارِسَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ بِالْيَمَنِ. قَالَ: وَقَدْ قَالَ بَاذَوَيْهِ لِبَاذَامَ: مَا كَلَّمْتُ أَحَدًا أَهْيَبَ عِنْدِي مِنْهُ. فَقَالَ لَهُ بَاذَامُ: هَلْ مَعَهُ شُرَطٌ؟ قَالَ: لَا» .
قَالَ الْوَاقِدِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكَانَ قَتْلُ كِسْرَى عَلَى يَدَيِ ابْنِهِ شِيرَوَيْهِ لَيْلَةَ
(6/487)
الثُّلَاثَاءِ، لِعَشْرِ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، لِسِتِّ سَاعَاتٍ مَضَتْ مِنْهَا.
قُلْتُ: وَفِي شِعْرِ بَعْضِهِمْ مَا يُرْشِدُ أَنَّ قَتْلَهُ كَانَ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشُّعَرَاءِ:
قَتَلُوا كِسْرَى بِلَيْلٍ مُحْرِمًا ... فَتَوَلَّى لَمْ يُمَتَّعْ بِكَفَنْ
وَقَالَ بَعْضُ شُعَرَاءِ الْعَرَبِ:
وَكِسْرَى إِذْ تَقَاسَمُهُ بَنُوهُ ... بِأَسْيَافٍ كَمَا اقْتُسِمَ اللِّحَامُ
تَمَخَّضَتِ الْمَنُونُ لَهُ بِيَوْمٍ ... أَنَى وَلِكُلِّ حَامِلَةٍ تَمَامُ
وَرَوَى الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ «، أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ فَارِسَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ رَبِّي قَدْ قَتَلَ اللَّيْلَةَ رَبَّكَ» ". قَالَ: وَقِيلَ لَهُ - يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّهُ قَدِ اسْتَخْلَفَ ابْنَتَهُ. فَقَالَ: " «لَا يُفْلِحُ قَوْمٌ تَمْلِكُهُمُ امْرَأَةٌ» ". قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرُوِيَ فِي حَدِيثِ دِحْيَةَ بْنِ خَلِيفَةَ، أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ مِنْ عِنْدِ قَيْصَرَ وَجَدَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُسُلَ عَامِلِ كِسْرَى، وَذَلِكَ أَنَّ كِسْرَى بَعَثَ، يَتَوَعَّدُ صَاحِبَ صَنْعَاءَ، وَيَقُولُ لَهُ: أَلَا تَكْفِينِي أَمْرَ رَجُلٍ قَدْ ظَهَرَ بِأَرْضِكَ
(6/488)
يَدْعُونِي إِلَى دِينِهِ؟ لَتَكْفِيَنَّهُ أَوْ لَأَفْعَلَنَّ بِكَ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لِرُسُلِهِ: " «أَخْبِرُوهُ أَنَّ رَبِّي قَدْ قَتَلَ رَبَّهُ اللَّيْلَةَ» ". فَوَجَدُوهُ كَمَا قَالَ. قَالَ: وَرَوَى دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ نَحْوَ هَذَا.
ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «أَقْبَلَ سَعْدٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " إِنَّ فِي وَجْهِ سَعْدٍ خَبَرًا " فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَ كِسْرَى، فَقَالَ: " لَعَنَ اللَّهُ كِسْرَى، أَوَّلُ النَّاسِ هَلَاكًا فَارِسُ ثُمَّ الْعَرَبُ» .
قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَلَاكِ كِسْرَى لِذَيْنِكَ الرَّجُلَيْنِ، يَعْنِي الْأَمِيرَيْنِ اللَّذَيْنِ قَدِمَا مِنْ نَائِبِ الْيَمَنِ بَاذَامَ، فَلَمَّا جَاءَ الْخَبَرُ بِوَفْقِ مَا أَخْبَرَ بِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَشَاعَ فِي الْبِلَادِ، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَوَّلَ مَنْ سَمِعَ، جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِوَفْقِ إِخْبَارِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَكَذَا بِنَحْوِ هَذَا التَّقْدِيرِ ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ كِسْرَى بَيْنَمَا هُوَ فِي دَسْكَرَةِ مُلْكِهِ بُعِثَ لَهُ - أَوْ قُيِّضَ لَهُ - عَارِضٌ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْحَقَّ فَلَمْ يَفْجَأْ كِسْرَى إِلَّا بِرَجُلٍ يَمْشِي وَفِي يَدِهِ عَصًا، فَقَالَ: يَا كِسْرَى، هَلْ لَكَ فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ أَكْسِرَ هَذِهِ الْعَصَا؟ فَقَالَ كِسْرَى: نَعَمْ، لَا تَكْسِرْهَا، فَوَلَّى الرَّجُلُ، فَلَمَّا ذَهَبَ، أَرْسَلَ كِسْرَى إِلَى
(6/489)
حُجَّابِهِ فَقَالَ: مَنْ أَذِنَ لِهَذَا الرَّجُلِ عَلَيَّ؟ فَقَالُوا: مَا دَخَلَ عَلَيْكَ أَحَدٌ. فَقَالَ: كَذَبْتُمْ. قَالَ: فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ وَتَهَدَّدَهُمْ، ثُمَّ تَرَكَهُمْ. قَالَ: فَلَمَّا كَانَ رَأْسُ الْحَوْلِ، أَتَى ذَلِكَ الرَّجُلُ وَمَعَهُ الْعَصَا، قَالَ: يَا كِسْرَى، هَلْ لَكَ فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ أَكْسِرَ هَذِهِ الْعَصَا؟ قَالَ: نَعَمْ، لَا تَكْسِرْهَا. فَلَمَّا انْصَرَفَ عَنْهُ دَعَا حُجَّابَهُ، قَالَ لَهُمْ كَالْمَرَّةِ الْأُولَى، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُسْتَقْبَلُ أَتَاهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ، مَعَهُ الْعَصَا، فَقَالَ لَهُ: هَلْ لَكَ يَا كِسْرَى فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ أَكْسِرَ هَذِهِ الْعَصَا؟ فَقَالَ: لَا تَكْسِرْهَا. فَكَسَرَهَا، فَأَهْلَكَ اللَّهُ كِسْرَى عِنْدَ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ: أَنْبَأَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لِتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، بِهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: «وَلَمَّا أُتِيَ كِسْرَى بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَزَّقَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَمَزَّقَ مُلْكُهُ» ". وَحَفِظْنَا أَنَّ قَيْصَرَ أَكْرَمَ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ
(6/490)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَضَعَهُ فِي مِسْكٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَبَتَ مُلْكُهُ» .
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ: «وَلَمَّا كَانَتِ الْعَرَبُ تَأْتِي الشَّامَ وَالْعِرَاقَ لِلتِّجَارَةِ، فَأَسْلَمَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ، شَكَوْا خَوْفَهُمْ مِنْ مَلِكَيِ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ» قَالَ: فَبَادَ مُلْكُ الْأَكَاسِرَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَزَالَ مُلْكُ قَيْصَرَ عَنِ الشَّامِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنْ ثَبَتَ لَهُمْ مُلْكٌ فِي الْجُمْلَةِ بِبَرَكَةِ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ حِينَ عَظَّمُوا كِتَابَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ: وَفِي هَذَا بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ بِأَنَّ مُلْكَ الرُّومِ لَا يَعُودُ أَبَدًا إِلَى أَرْضِ الشَّامِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّي قَيْصَرَ لِمَنْ مَلَكَ الشَّامَ مَعَ الْجَزِيرَةِ مِنَ الرُّومِ، وَكِسْرَى لِمَنْ مَلَكَ الْفُرْسَ، وَالنَّجَاشِيَّ لِمَنْ مَلَكَ الْحَبَشَةَ، وَالْمُقَوْقِسَ لِمَنْ مَلَكَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ وَفِرْعَوْنَ لِمَنْ مَلَكَ مِصْرَ كَافِرًا، وَبَطْلَيْمُوسَ لِمَنْ مَلَكَ الْهِنْدَ، وَلَهُمْ أَعْلَامُ أَجْنَاسٍ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ وَغَيْرِهِ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَتَفْتَحَنَّ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كُنُوزَ كِسْرَى فِي الْقَصْرِ الْأَبْيَضِ» وَرَوَى أَسْبَاطٌ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَزَادَ: وَكُنْتُ أَنَا وَأَبِي فِيهِمْ، فَأَصَبْنَا مِنْ ذَلِكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ.
(6/491)
[بَعْثُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُقَوْقِسِ]
ِ صَاحِبِ مَدِينَةِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَاسْمُهُ جُرُيْجُ بْنُ مِينَا الْقِبْطِيُّ
قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُقَوْقِسِ صَاحِبِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَمَضَى بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ، فَقَبِلَ الْكِتَابَ، وَأَكْرَمَ حَاطِبًا وَأَحْسَنَ نُزُلَهُ، وَسَرَّحَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَهْدَى لَهُ مَعَ حَاطِبٍ كُسْوَةً، وَبَغْلَةً بِسَرْجِهَا، وَجَارِيَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا أَمُّ إِبْرَاهِيمَ، وَأَمَّا الْأُخْرَى فَوَهَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ الْعَبْدِيِّ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.
ثُمَّ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُقَوْقِسِ مَلِكِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ. قَالَ: فَجِئْتُهُ بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَنِي فِي مَنْزِلِهِ وَأَقَمْتُ عِنْدَهُ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَيَّ وَقَدْ جَمَعَ بِطَارِقَتَهُ، وَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ كَلَامٍ، فَأُحِبُّ أَنْ تَفْهَمَ عَنِّي، قَالَ: قُلْتُ: هَلُمَّ. قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ صَاحِبِكَ، أَلَيْسَ هُوَ نَبِيًّا؟ قُلْتُ: بَلَى، هُوَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: فَمَا لَهُ
(6/492)
حَيْثُ كَانَ هَكَذَا، لَمْ يَدْعُ عَلَى قَوْمِهِ حَيْثُ أَخْرَجُوهُ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى غَيْرِهَا؟ قَالَ: فَقُلْتُ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، أَلَيْسَ تَشَهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: فَمَا لَهُ حَيْثُ أَخَذَهُ قَوْمُهُ، فَأَرَادُوا أَنْ يَصْلُبُوهُ، أَلَّا يَكُونَ دَعَا عَلَيْهِمْ بِأَنْ يُهْلِكَهُمُ اللَّهُ حَتَّى رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا؟ فَقَالَ لِي: أَنْتَ حَكِيمٌ، قَدْ جَاءَ مِنْ عِنْدِ حَكِيمٍ، هَذِهِ هَدَايَا أَبْعَثُ بِهَا مَعَكَ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَأُرْسِلُ مَعَكَ بِبَذْرَقَةٍ يُبَذْرِقُونَكَ إِلَى مَأْمَنِكَ. قَالَ: فَأَهْدَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ جَوَارٍ، مِنْهُنَّ أُمُّ إِبْرَاهِيمَ بْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَاحِدَةٌ وَهَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ الْعَدَوِيِّ، وَوَاحِدَةٌ وَهَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِطُرْفٍ مِنْ طُرَفِهِمْ. وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ أَهْدَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ جَوَارٍ، إِحْدَاهُنَّ مَارِيَةُ أَمُّ إِبْرَاهِيمَ، وَالْأُخْرَى سِيرِينُ الَّتِي وَهَبَهَا لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ حَسَّانَ.
قُلْتُ: وَكَانَ فِي جُمْلَةِ الْهَدِيَّةِ غُلَامٌ أَسْوَدُ خَصِيٌّ، اسْمُهُ مَأْبُورُ، وَخُفَّانِ سَاذَجَانِ أَسْوَدَانِ، وَبَغْلَةٌ بَيْضَاءُ اسْمُهَا الدُّلْدُلُ، وَكَانَ مَأْبُورُ هَذَا خَصِيًّا، وَلَمْ يَعْلَمُوا بِأَمْرِهِ بَادِيَ الْأَمْرِ، فَصَارَ يَدْخُلُ عَلَى مَارِيَةَ، كَمَا كَانَ
(6/493)
مِنْ عَادَاتِهِمْ بِبِلَادِ مِصْرَ، فَجَعَلَ بَعْضُ النَّاسِ يَتَكَلَّمُ فِيهِمَا بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَلَا يَعْلَمُونَ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ، وَأَنَّهُ خَصِيٌّ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ الَّذِي أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بِقَتْلِهِ، فَوَجَدَهُ خَصِيًّا فَتَرَكَهُ، وَالْحَدِيثُ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ ".
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلِيطَ بْنَ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ وُدٍّ، أَخَا بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، إِلَى هَوْذَةَ بْنِ عَلِيٍّ صَاحِبِ الْيَمَامَةِ وَبَعَثَ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ، إِلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى، أَخِي بَنِي عَبْدِ الْقَيْسِ، صَاحِبِ الْبَحْرَيْنِ، وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَى جَيْفَرِ بْنِ الْجُلُنْدَى وَعَمَّارِ بْنِ الْجُلُنْدَى الْأَزْدِيَّيْنِ صَاحِبَيْ عُمَانَ.
(6/494)
[غَزْوَةُ ذَاتِ السَّلَاسِلِ]
ذَكَرَهَا الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ هَاهُنَا قَبْلَ غَزْوَةِ الْفَتْحِ، فَسَاقَ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَا: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَى ذَاتِ السَّلَاسِلِ مِنْ مَشَارِفِ الشَّامِ فِي بَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ وَمَنْ يَلِيهِمْ مِنْ قُضَاعَةَ - قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: بَنُو بَلِيٍّ أَخْوَالُ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ - فَلَمَّا صَارَ إِلَى هُنَاكَ خَافَ مِنْ كَثْرَةِ عَدُوِّهِ، فَبَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَمِدُّهُ، فَنَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ، فَانْتَدَبَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ سَرَاةِ الْمُهَاجِرِينَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ. قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى عَمْرٍو قَالَ: أَنَا أَمِيرُكُمْ، وَأَنَا أَرْسَلْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْتَمِدُّهُ بِكُمْ. فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: بَلْ أَنْتَ أَمِيرُ أَصْحَابِكَ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ أَمِيرُ الْمُهَاجِرِينَ. فَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّمَا أَنْتُمْ مَدَدٌ أُمْدِدْتُهُ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَكَانَ رَجُلًا حَسَنَ الْخُلُقِ لَيِّنَ الشِّيمَةِ، قَالَ: تَعَلَّمْ يَا عَمْرُو أَنَّ آخِرَ مَا عَهِدَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ قَالَ: «إِذَا قَدِمْتَ عَلَى صَاحِبِكَ فَتَطَاوَعَا» وَإِنَّكَ إِنْ عَصَيْتَنِي لَأُطِيعَنَّكَ.
(6/495)
فَسَلَّمَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْإِمَارَةَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُصَيْنِ التَّمِيمِيُّ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ يَسْتَنْفِرُ الْعَرَبَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ أَنَّ أُمَّ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ كَانَتْ مِنْ بَنِي بَلِيٍّ، فَبَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ يَسْتَأْلِفُهُمْ بِذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كَانَ عَلَى مَاءٍ بِأَرْضِ جُذَامَ يُقَالُ لَهُ: السَّلَاسِلُ. وَبِهِ سُمِّيَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ ذَاتَ السَّلَاسِلِ. قَالَ: فَلَمَّا كَانَ عَلَيْهِ وَخَافَ، بَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَمِدُّهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ فِي الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ، فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، «وَقَالَ لِأَبِي عُبَيْدَةَ حِينَ وَجَّهَهُ: " لَا تَخْتَلِفَا» ". فَخَرَجَ أَبُو عُبَيْدَةَ، حَتَّى إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ عَمْرٌو: إِنَّمَا جِئْتَ مَدَدًا إِلَيَّ. فَقَالَ لَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ: لَا، وَلَكِنِّي عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ، وَأَنْتَ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ. وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ رَجُلًا لَيِّنًا سَهْلًا، هَيِّنًا عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: أَنْتَ مَدَدِي. فَقَالَ لَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ: يَا عَمْرُو، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ لِي: " «لَا تَخْتَلِفَا» ". وَإِنَّكَ إِنْ عَصَيْتَنِي أَطَعْتُكَ. فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: فَإِنِّي أَمِيرٌ عَلَيْكَ، وَإِنَّمَا أَنْتَ مَدَدٌ لِي قَالَ: فَدُونَكَ. فَصَلَّى عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بِالنَّاسِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ لَمَّا آبَ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَصَارُوا خَمْسَمِائَةٍ، فَسَارُوا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ
(6/496)
حَتَّى وَطِئَ بِلَادَ بَلِيٍّ وَدَوَّخَهَا، وَكُلَّمَا انْتَهَى إِلَى مَوْضِعٍ بَلَغَهُ أَنَّهُ قَدْ كَانَ بِهَذَا الْمَوْضِعِ جَمْعٌ، فَلَمَّا سَمِعُوا بِكَ تَفَرَّقُوا، حَتَّى انْتَهَى إِلَى أَقْصَى بِلَادِ بَلِيٍّ وَعُذْرَةَ وَبِلْقَيْنَ، وَلَقِيَ فِي آخِرِ ذَلِكَ جَمْعًا لَيْسَ بِالْكَثِيرِ، فَاقْتَتَلُوا سَاعَةً، وَتَرَامُوا بِالنَّبْلِ، وَرُمِيَ يَوْمَئِذٍ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ وَأُصِيبَ ذِرَاعُهُ، وَحَمَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ فَهَرَبُوا، وَأَعْجَزُوا هَرَبًا فِي الْبِلَادِ وَتَفَرَّقُوا، وَدَوَّخَ عَمْرٌو مَا هُنَاكَ، وَأَقَامَ أَيَّامًا لَا يَسْمَعُ لَهُمْ بِجَمْعٍ وَلَا مَكَانٍ صَارُوا فِيهِ، وَكَانَ يَبْعَثُ أَصْحَابَ الْخَيْلِ فَيَأْتُونَ بِالشَّاءِ وَالنَّعَمِ، فَكَانُوا يَنْحَرُونَ وَيَذْبَحُونَ، وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ تَكُنْ غَنَائِمُ تُقْسَمُ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: ثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، ثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، ثَنَا أَبِي، سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ أَيُّوبَ يُحَدِّثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ، «عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ، فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلَكَ. قَالَ: فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي الصُّبْحَ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " يَا عَمْرُو، صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟ " قَالَ: فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي مَنَعَنِي مِنَ الِاغْتِسَالِ وَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]
(6/497)
(النِّسَاءِ: 29) فَضَحِكَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا» .
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، ثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، ثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ كَانَ عَلَى سَرِيَّةٍ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِهِ، قَالَ: فَغَسَلَ مَغَابِنَهُ وَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ. فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَلَمْ يَذْكُرِ التَّيَمُّمَ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَرَوَى هَذِهِ الْقِصَّةَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ، وَقَالَ فِيهِ: فَتَيَمَّمَ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي أَفْلَحُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رُقَيْشٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ قَالَ: «كَانَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ حِينَ قَفَلُوا، احْتَلَمَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ كَأَشَدَّ مَا يَكُونُ مِنَ الْبَرْدِ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَا تَرَوْنَ؟ قَدْ وَاللَّهِ احْتَلَمْتُ، فَإِنِ اغْتَسَلْتُ مُتُّ. فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ، وَغَسَلَ فَرْجَهُ وَتَيَمَّمَ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى بِهِمْ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَعَثَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ بَرِيدًا، قَالَ عَوْفٌ: فَقَدِمْتُ
(6/498)
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّحَرِ وَهُوَ يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ؟ " فَقُلْتُ: عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " صَاحِبُ الْجَزُورِ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ. وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: " أَخْبِرْنِي ". فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا كَانَ مِنْ مَسِيرِنَا، وَمَا كَانَ مِنْ أَبِي عُبَيْدَةَ وَعَمْرٍو، وَمُطَاوَعَةُ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ ". قَالَ: ثُمَّ أَخْبَرْتُهُ أَنَّ عَمْرًا صَلَّى بِالنَّاسِ وَهُوَ جُنُبٌ وَمَعَهُ مَاءٌ، لَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ غَسَلَ فَرْجَهُ وَتَوَضَّأَ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَمْرٌو عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ عَنْ صَلَاتِهِ، فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، إِنِّي لَوِ اغْتَسَلْتُ لَمِتُّ، وَلَمْ أَجِدْ بَرْدًا قَطُّ مِثْلَهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّهُ قَالَ شَيْئًا» .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، «عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ: كُنْتُ فِي الْغَزْوَةِ الَّتِي بَعَثَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَهِيَ غَزْوَةُ ذَاتِ السَّلَاسِلِ، فَصَحِبْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَمَرَرْتُ بِقَوْمٍ وَهُمْ عَلَى جَزُورٍ قَدْ نَحَرُوهَا، وَهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُعَضُّوهَا، وَكُنْتُ امْرَأً جَازِرًا، فَقُلْتُ
(6/499)
لَهُمْ: تُعْطُونِي مِنْهَا عَشِيرًا عَلَى أَنْ أُقَسِّمَهَا بَيْنَكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَأَخَذْتُ الشَّفْرَةَ، فَجَزَّأْتُهَا مَكَانِي، وَأَخَذْتُ مِنْهَا جُزْءًا فَحَمَلْتُهُ إِلَى أَصْحَابِي، فَاطَّبَخْنَاهُ وَأَكَلْنَاهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ: أَنَّى لَكَ هَذَا اللَّحْمُ يَا عَوْفُ؟ فَأَخْبَرْتُهُمَا فَقَالَا: لَا وَاللَّهِ مَا أَحْسَنْتَ حِينَ أَطْعَمْتَنَا هَذَا. ثُمَّ قَامَا يَتَقَيَّآنِ مَا فِي بُطُونِهِمَا مِنْهُ، فَلَمَّا أَنْ قَفَلَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ السَّفَرِ، كُنْتُ أَوَّلَ قَادِمٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجِئْتُهُ وَهُوَ يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ فَقُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. فَقَالَ: " أَعَوْفُ بْنُ مَالِكٍ؟ " فَقُلْتُ: نَعَمْ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي. فَقَالَ: " صَاحِبُ الْجَزُورِ؟ " وَلَمْ يَزِدْنِي عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا» هَكَذَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ بَلْ مُعْضَلٌ.
قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ لَهِيعَةَ وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ لَقِيطٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ هِدْمٍ، أَظُنُّهُ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: فَعَرَضْتُهُ عَلَى عُمَرَ فَسَأَلَنِي عَنْهُ، فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: قَدْ تَعَجَّلْتَ أَجْرَكَ. وَلَمْ يَأْكُلْهُ. ثُمَّ حَكَى عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَبَا بَكْرٍ، وَتَمَامُهُ كَنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ
(6/500)
وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ وَأَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْأَصَمُّ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، ثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، «سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ يَقُولُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ، وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَحَدَّثْتُ نَفْسِي أَنَّهُ لَمْ يَبْعَثْنِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إِلَّا لِمَنْزِلَةٍ لِي عِنْدَهُ. قَالَ: فَأَتَيْتُهُ حَتَّى قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْكَ؟ قَالَ: " عَائِشَةُ ". قُلْتُ: إِنِّي لَسْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ أَهْلِكِ. قَالَ: " فَأَبُوهَا " قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: " عُمَرُ " قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ حَتَّى عَدَّدَ رَهْطًا، قَالَ: قُلْتُ فِي نَفْسِي: لَا أَعُودُ أَسْأَلُ عَنْ هَذَا» .
وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ مِهْرَانَ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَلٍّ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: " عَائِشَةُ " قُلْتُ: فَمِنَ الرِّجَالِ؟ قَالَ: " أَبُوهَا " قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: " ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ " فَعَدَّ رِجَالًا.» وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ عَمْرٌو: فَسَكَتُّ مَخَافَةَ أَنْ يَجْعَلَنِي فِي آخِرِهِمْ.
(6/501)
[سَرِيَّةُ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ إِلَى سَيْفِ الْبَحْرِ]
قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثًا قِبَلَ السَّاحِلِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ. قَالَ جَابِرٌ: وَأَنَا فِيهِمْ، فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَنِيَ الزَّادُ، فَأَتَوْا أَبَا عُبَيْدَةَ بِأَزْوَادِ ذَلِكَ الْجَيْشِ، فَجُمِعَ كُلُّهُ، فَكَانَ مِزْوَدَيْ تَمْرٍ، فَكَانَ يَقُوتُنَا كُلَّ يَوْمٍ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى فَنِي، فَلَمْ يَكُنْ يُصِيبُنَا إِلَّا تَمْرَةٌ تَمْرَةٌ. قَالَ: فَقُلْتُ: وَمَا تُغْنِي تَمْرَةٌ؟ فَقَالَ: لَقَدْ وَجَدْنَا فَقْدَهَا حِينَ فَنِيَتْ. قَالَ: ثُمَّ انْتَهَيْنَا إِلَى الْبَحْرِ، فَإِذَا حُوتٌ مِثْلَ الظَّرِبِ. قَالَ: فَأَكَلَ مِنْهُ ذَلِكَ الْجَيْشُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، ثُمَّ أَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِضِلْعَيْنِ مِنْ أَضْلَاعِهِ فَنُصِبَا، ثُمَّ أَمَرَ بِرَاحِلَةٍ فَرُحِلَتْ، ثُمَّ مَرَّتْ تَحْتَهُمَا فَلَمْ تُصِبْهُمَا» . أَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، بِنَحْوِهِ.
وَهُوَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
(6/502)
دِينَارٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَاكِبٍ، وَأَمِيرُنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، نَرْصُدُ عِيرًا لِقُرَيْشٍ، فَأَصَابَنَا جُوعٌ شَدِيدٌ، حَتَّى أَكَلْنَا الْخَبْطَ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْجَيْشُ جَيْشُ الْخَبْطِ. قَالَ: وَنَحَرَ رَجُلٌ ثَلَاثَ جَزَائِرَ، ثُمَّ نَحَرَ ثَلَاثَ جَزَائِرَ، ثُمَّ ثَلَاثًا، فَنَهَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. قَالَ: وَأَلْقَى الْبَحْرُ دَابَّةً يُقَالُ لَهَا: الْعَنْبَرُ. فَأَكَلْنَا مِنْهَا نِصْفَ شَهْرٍ وَادَّهَنَّا، حَتَّى ثَابَتْ إِلَيْنَا أَجْسَامُنَا وَصَلَحَتْ. ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ الضِّلَعِ. فَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: نَرْصُدُ عِيرًا لِقُرَيْشٍ. دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ السَرِيَّةِ كَانَتْ قَبْلَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالرَّجُلُ الَّذِي نَحَرَ لَهُمُ الْجَزَائِرَ هُوَ قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ قُتَيْبَةَ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، ثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، وَهُوَ زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّرَ عَلَيْنَا أَبَا عُبَيْدَةَ، نَتَلَقَّى عِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَزَوَّدَنَا جِرَابًا مِنْ تَمْرٍ، لَمْ يَجِدْ لَنَا غَيْرَهُ، فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُعْطِينَا تَمْرَةً تَمْرَةً. قَالَ: فَقُلْتُ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ بِهَا؟ قَالَ: كُنَّا نَمُصُّهَا كَمَا يَمُصُّ الصَّبِيُّ، ثُمَّ نَشْرَبُ عَلَيْهَا الْمَاءَ، فَتَكْفِينَا يَوْمَنَا إِلَى اللَّيْلِ، وَكُنَّا
(6/503)
نَضْرِبُ بِعِصِيِّنَا الْخَبْطَ، ثُمَّ نَبُلُّهُ بِالْمَاءِ فَنَأْكُلُهُ. قَالَ: فَانْطَلَقْنَا إِلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَرُفِعَ لَنَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ كَهَيْئَةِ الْكَثِيبِ الضَّخْمِ، فَأَتَيْنَاهُ فَإِذَا بِهِ دَابَّةٌ تُدْعَى الْعَنْبَرَ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَيْتَةٌ. ثُمَّ قَالَ: لَا، بَلْ نَحْنُ رُسُلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَدِ اضْطُرِرْتُمْ، فَكُلُوا. قَالَ: فَأَقَمْنَا عَلَيْهِ شَهْرًا وَنَحْنُ ثَلَاثُمِائَةٍ حَتَّى سَمِنَّا، وَلَقَدْ كُنَّا نَغْرِفُ مِنْ وَقْبِ عَيْنِهِ بِالْقِلَالِ الدُّهْنَ، وَنَقْتَطِعُ مِنْهُ الْفَدْرَ كَالثَّوْرِ، أَوْ كَقَدْرِ الثَّوْرِ، وَلَقَدْ أَخَذَ مِنَّا أَبُو عُبَيْدَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَأَقْعَدَهُمْ فِي عَيْنِهِ، وَأَخَذَ ضِلْعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ، فَأَقَامَهَا ثُمَّ رَحَلَ أَعْظَمَ بِعِيرٍ مِنْهَا، فَمَرَّ تَحْتَهَا، وَتَزَوَّدْنَا مِنْ لَحْمِهَا وَشَائِقَ، فَلَمَّا قَدِّمْنَا الْمَدِينَةَ أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: " هُوَ رِزْقٌ أَخْرَجَهُ اللَّهُ لَكُمْ، فَهَلْ مَعَكُمْ شَيْءٌ مِنْ لَحْمِهِ تُطْعِمُونَا؟ " قَالَ: فَأَرْسَلْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكَلَ مِنْهُ» . وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى وَأَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ، وَأَبُو دَاوُدَ، عَنِ النُّفَيْلِيِّ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْجُعْفِيِّ الْكُوفِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ تَدْرُسَ الْمَكِّيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، بِهِ.
قُلْتُ: وَمُقْتَضَى أَكْثَرِ هَذِهِ السِّيَاقَاتِ، أَنَّ هَذِهِ السَرِيَّةِ كَانَتْ قَبْلَ صُلْحِ
(6/504)
الْحُدَيْبِيَةِ، وَلَكِنْ أَوْرَدْنَاهَا هَاهُنَا تَبَعًا لِلْحَافِظِ الْبَيْهَقِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ أَوْرَدَهَا بَعْدَ مُؤْتَةَ وَقَبْلَ غَزْوَةِ الْفَتْحِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ بَعْدَ غَزْوَةِ مُؤْتَةَ سَرِيَّةَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ إِلَى الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا هُشَيْمٌ، أَنْبَأَنَا حُصَيْنُ بْنُ جُنْدُبٍ، ثَنَا أَبُو ظَبْيَانِ، قَالَ: سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ يَقُولُ: «بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحُرَقَةِ، فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَكَفَّ الْأَنْصَارِيُّ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَمَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ " قُلْتُ: كَانَ مُتَعَوِّذًا، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا، حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ» . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ فِيمَا سَلَفَ.
ثُمَّ رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: «غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ، وَخَرَجْتُ فِيمَا يَبْعَثُ مِنَ الْبُعُوثِ تِسْعَ غَزَوَاتٍ، عَلَيْنَا مَرَّةً أَبُو بَكْرٍ، وَمَرَّةً أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.»
ثُمَّ ذَكَرَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ هَاهُنَا مَوْتَ النَّجَاشِيِّ - صَاحِبِ الْحَبَشَةِ - عَلَى الْإِسْلَامِ، وَنَعْيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَصَلَاتَهُ عَلَيْهِ، فَرَوَى مِنْ
(6/505)
طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى إِلَى النَّاسِ النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ» . أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَأَخْرَجَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِنَحْوِهِ.
وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَاتَ الْيَوْمَ رَجُلٌ صَالِحٌ ". فَصَلَّوْا عَلَى أَصْحَمَةَ» وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ أَيْضًا وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
قُلْتُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَوْتَ النَّجَاشِيِّ كَانَ قَبْلَ الْفَتْحِ بِكَثِيرٍ، فَإِنَّ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " أَنَّهُ لَمَّا كَتَبَ إِلَى مُلُوكِ الْآفَاقِ، كَتَبَ إِلَى النَّجَاشِيِّ، وَلَيْسَ هُوَ بِالْمُسْلِمِ. وَزَعَمَ آخَرُونَ كَالْوَاقِدِيِّ أَنَّهُ هُوَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ الزِّنْجِيِّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ قَالَتْ: «لَمَّا تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَ: " قَدْ أَهْدَيْتُ إِلَى النَّجَاشِيِّ أَوَاقِيَ مِنْ مِسْكٍ وَحُلَّةً، وَإِنِّي لَا أَرَاهُ إِلَّا قَدْ مَاتَ،
(6/506)
وَلَا أَرَى الْهَدِيَّةَ إِلَّا سَتُرَدُّ عَلَيَّ، فَإِنْ رُدَّتْ عَلَيَّ - أَظُنُّهُ قَالَ - قَسَمْتُهَا بَيْنَكُنَّ " أَوْ " فَهِيَ لَكِ ". قَالَ: فَكَانَ كَمَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَاتَ النَّجَاشِيُّ وَرُدَّتِ الْهَدِيَّةُ، فَلَمَّا رُدَّتْ عَلَيْهِ، أَعْطَى كُلَّ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ أَوُقِيَّةً مِنْ ذَلِكَ الْمِسْكِ، وَأَعْطَى سَائِرَهُ أُمَّ سَلَمَةَ، وَأَعْطَاهَا الْحُلَّةَ» وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(6/507)
[غَزْوَةُ الْفَتْحِ الْأَعْظَمِ]
[دُخُولُ النَّبِيِّ مَكَّةَ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ غَزْوَةُ الْفَتْحِ الْأَعْظَمِ وَكَانَتْ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ
وَقَدْ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، فَقَالَ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10] الْآيَةَ (الْحَدِيدِ: 10) . وَقَالَ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 1] (النَّصْرِ)
وَكَانَ سَبَبُ الْفَتْحِ بَعْدَ هُدْنَةِ الْحُدَيْبِيَةِ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ جَمِيعًا قَالَا: كَانَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ أَنَّهُ مَنْ شَاءَ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ مُحَمَّدٍ وَعَهْدِهِ دَخَلَ، وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ دَخَلَ، فَتَوَاثَبَتْ خُزَاعَةُ وَقَالُوا: نَحْنُ نَدْخُلُ فِي عَقْدِ مُحَمَّدٍ وَعَهْدِهِ. وَتَوَاثَبَتْ بَنُو بَكْرٍ وَقَالُوا: نَحْنُ نَدْخُلُ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ. فَمَكَثُوا فِي تِلْكَ الْهُدْنَةِ نَحْوَ السَّبْعَةَ أَوِ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ إِنَّ بَنِي بَكْرٍ وَثَبُوا عَلَى خُزَاعَةَ لَيْلًا، بِمَاءٍ يُقَالُ
(6/508)
لَهُ: الْوَتِيرُ. وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَكَّةَ، وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: مَا يَعْلَمُ بِنَا مُحَمَّدٌ، وَهَذَا اللَّيْلُ وَمَا يَرَانَا أَحَدٌ. فَأَعَانُوهُمْ عَلَيْهِمْ بِالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، وَقَاتَلُوهُمْ مَعَهُمْ، لِلضَّغْنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّ عَمْرَو بْنَ سَالِمٍ رَكِبَ عِنْدَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ خُزَاعَةَ وَبَنِي بَكْرٍ بِالْوَتِيرِ، حَتَّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُهُ الْخَبَرَ، وَقَدْ قَالَ أَبْيَاتَ شِعْرٍ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْشَدَهُ إِيَّاهَا:
لَاهُمَّ إِنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدًا ... حِلْفَ أَبِيهِ وَأَبِينَا الْأَتْلَدَا
قَدْ كُنْتُمُ وُلْدًا وَكُنَّا وَالِدَا ... ثُمَّتَ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا
فَانْصُرْ رَسُولَ اللَّهِ نَصْرًا أَعْتَدَا ... وَادْعُ عِبَادَ اللَّهِ يَأْتُوا مَدَدَا
فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ تَجَرَّدَا ... إِنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ تَرَبَّدَا
فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدَا ... إِنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا
وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُؤَكَّدَا ... وَجَعَلُوا لِي فِي كَدَاءٍ رُصَّدَا
وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتُ أَدْعُو أَحَدَا ... فَهُمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَدًا
هُمْ بَيَّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجَّدًا ... وَقَتَّلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدَا
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نُصِرْتَ يَا عَمْرَو بْنَ سَالِمٍ. فَمَا بَرِحَ رَسُولُ اللَّهِ
(6/509)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى مَرَّتْ بِنَا عَنَانَةٌ فِي السَّمَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذِهِ السَّحَابَةَ لَتَسْتَهِلُّ بِنَصْرِ بَنِي كَعْبٍ» . وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ بِالْجِهَازِ، وَكَتَمَهُمْ مَخْرَجَهُ، وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُعَمِّيَ عَلَى قُرَيْشٍ خَبَرَهُ، حَتَّى يَبْغَتَهُمْ فِي بِلَادِهِمْ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ السَّبَبُ الَّذِي هَاجَهُمْ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي الْحَضْرَمِيِّ، اسْمُهُ مَالِكُ بْنُ عَبَّادٍ، مِنْ حُلَفَاءِ الْأَسْوَدِ بْنِ رَزْنٍ خَرَجَ تَاجِرًا، فَلَمَّا تَوَسَّطَ أَرْضَ خُزَاعَةَ، عَدَوْا عَلَيْهِ، فَقَتَلُوهُ وَأَخَذُوا مَالَهُ، فَعَدَتْ بَنُو بَكْرٍ عَلَى رَجُلٍ مِنْ بَنِي خُزَاعَةَ فَقَتَلُوهُ، فَعَدَتْ خُزَاعَةُ قُبَيْلِ الْإِسْلَامِ عَلَى بَنِي الْأَسْوَدِ بْنِ رَزْنٍ الدُّئَلِيِّ - وَهُمْ مَنْخَرُ بَنِي كِنَانَةَ وَأَشْرَافُهُمْ، سَلْمَى وَكُلْثُومٌ وَذُؤَيْبٌ - فَقَتَلُوهُمْ بِعَرَفَةَ عِنْدَ أَنْصَابِ الْحَرَمِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنَ الدُّئِلِ قَالَ: كَانَ بَنُو الْأَسْوَدِ بْنِ رَزْنٍ يُودَوْنَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ دِيَتَيْنِ دِيَتَيْنِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَبَيْنَا بَنُو بَكْرٍ وَخُزَاعَةُ عَلَى ذَلِكَ، إِذْ حَجَزَ بَيْنَهُمُ الْإِسْلَامُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَدَخَلَ بَنُو بَكْرٍ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ، وَدَخَلَتْ
(6/510)
خُزَاعَةُ فِي عَقْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتِ الْهُدْنَةُ، اغْتَنَمَهَا بَنُو الدُّئِلِ مِنْ بَنِي بَكْرٍ، وَأَرَادُوا أَنْ يُصِيبُوا مِنْ خُزَاعَةَ ثَأْرًا بِأُولَئِكَ النَّفَرِ، فَخَرَجَ نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدُّئِلِيُّ فِي قَوْمِهِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُهُمْ وَقَائِدُهُمْ، وَلَيْسَ كُلُّ بَنِي بَكْرٍ تَابَعَهُ، فَبَيَّتَ خُزَاعَةَ وَهُمْ عَلَى الْوَتِيرِ - مَاءٍ لَهُمْ - فَأَصَابُوا رَجُلًا مِنْهُمْ، وَتَحَاوَزُوا، وَاقْتَتَلُوا، وَرَفَدَتْ قُرَيْشٌ بَنِي بَكْرٍ بِالسِّلَاحِ، وَقَاتَلَ مَعَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ مَنْ قَاتَلَ بِاللَّيْلِ مُسْتَخْفِيًا، حَتَّى حَازُوا خُزَاعَةَ إِلَى الْحَرَمِ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَيْهِ، قَالَتْ بَنُو بَكْرٍ: يَا نَوْفَلُ، إِنَّا قَدْ دَخَلْنَا الْحَرَمَ! إِلَهَكَ إِلَهَكَ. فَقَالَ كَلِمَةً عَظِيمَةً: لَا إِلَهَ الْيَوْمَ، يَا بَنِي بَكْرٍ أَصِيبُوا ثَأْرَكُمْ، فَلَعَمْرِي إِنَّكُمْ لَتَسْرِقُونِ فِي الْحَرَمِ، أَفَلَا تُصِيبُونَ ثَأْرَكُمْ فِيهِ؟! وَلَجَأَتْ خُزَاعَةُ إِلَى دَارِ بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ بِمَكَّةَ، وَإِلَى دَارِ مَوْلًى لَهُمْ يُقَالُ لَهُ: رَافِعٌ.
وَقَدْ قَالَ الْأَخْزَرُ بْنُ لُعْطٍ الدُّئِلِيُّ فِي ذَلِكَ:
أَلَا هَلْ أَتَى قُصْوَى الْأَحَابِيشِ أَنَّنَا ... رَدَدْنَا بَنِي كَعْبٍ بَأَفْوَقَ نَاصِلِ
(6/511)
حَبَسْنَاهُمُ فِي دَارَةِ الْعَبْدِ رَافِعٍ ... وَعِنْدَ بُدَيْلٍ مَحْبِسًا غَيْرَ طَائِلِ
بِدَارِ الذَّلِيلِ الْآخِذِ الضَّيْمَ بَعْدَمَا ... شَفَيْنَا النُّفُوسَ مِنْهُمُ بِالْمَنَاصِلِ
حَبَسْنَاهُمُ حَتَى إِذَا طَالَ يَوْمُهُمْ ... نَفَحْنَا لَهُمْ مِنْ كُلِّ شِعْبٍ بِوَابِلِ
نُذَبِّحُهُمْ ذَبْحَ التُّيُوسِ كَأَنَّنَا ... أُسُودٌ تَبَارَى فِيهِمُ بِالْقَوَاصِلِ
هُمُ ظَلَمُونَا وَاعْتَدَوْا فِي مَسِيرِهِمْ ... وَكَانُوا لَدَى الْأَنْصَابِ أَوَّلَ قَاتِلِ
كَأَنَّهُمُ بِالْجِزْعِ إِذْ يَطْرُدُونَهُمْ ... قَفَا ثَوْرَ حَفَّانُ النَّعَامِ الْجَوَافِلِ
قَالَ: فَأَجَابَهُ بُدَيْلُ بْنُ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْأَجَبِّ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: بُدَيْلُ بْنُ أُمِّ أَصْرَمَ، فَقَالَ:
تَعَاقَدَ قَوْمٌ يَفْخَرُونَ وَلَمْ نَدَعْ ... لَهُمْ سَيِّدًا يَنْدُوهُمُ غَيْرَ نَافِلِ
أَمِنْ خِيفَةِ الْقَوْمِ الْأُلَى تَزْدَرِيهِمُ ... تُجِيزُ الْوَتِيرَ خَائِفًا غَيْرَ آيِلِ
وَفِي كُلِّ يَوْمٍ نَحْنُ نَحْبُو حِبَاءَنَا ... لِعَقْلٍ وَلَا يُحْبَى لَنَا فِي الْمَعَاقِلِ
(6/512)
وَنَحْنُ صَبَحْنَا بِالتَّلَاعَةِ دَارَكُمْ ... بِأَسْيَافِنَا يَسْبِقْنَ لَوْمَ الْعَوَاذِلِ
وَنَحْنُ مَنَعْنَا بَيْنَ بِيضٍ وَعَتْوَدٍ ... إِلَى خِيفِ رَضْوَى مِنْ مَجَرِّ الْقَنَابِلِ
وَيَوْمَ الْغَمِيمِ قَدْ تَكَفَّتَ سَاعِيًا ... عُبَيْسٌ فَجَعْنَاهُ بِجَلْدٍ حُلَاحِلِ
أَأَنْ أَجْمَرَتْ فِي بَيْتِهَا أُمُّ بَعْضِكُمْ ... بِجُعْمُوسِهَا تَنْزُونَ إِنْ لَمْ نُقَاتِلِ
كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللَّهِ مَا إِنْ قَتَلْتُمُ ... وَلَكِنْ تَرَكْنَا أَمْرَكُمْ فِي بَلَابِلِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَأَنَّكُمْ بِأَبِي سُفْيَانَ قَدْ جَاءَكُمْ يَشُدُّ فِي الْعَقْدِ وَيَزِيدُ فِي الْمُدَّةِ» .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ خَرَجَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ فِي نَفَرٍ مِنْ خُزَاعَةَ، حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ بِمَا أُصِيبَ مِنْهُمْ، وَمُظَاهَرَةِ قُرَيْشٍ بَنِي بَكْرٍ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفُوا رَاجِعِينَ، حَتَّى لَقُوا أَبَا سُفْيَانَ بِعُسْفَانَ، قَدْ بَعَثَتْهُ قُرَيْشٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشُدُّ الْعَقْدَ، وَيَزِيدُ فِي الْمُدَّةِ، وَقَدْ رَهِبُوا لِلَّذِي صَنَعُوا، فَلَمَّا لَقِيَ أَبُو سُفْيَانَ بُدَيْلًا قَالَ: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ يَا بُدَيْلُ؟ وَظَنَّ أَنَّهُ قَدْ
(6/513)
أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: سِرْتُ فِي خُزَاعَةَ فِي هَذَا السَّاحِلِ وَفِي بَطْنِ هَذَا الْوَادِي. قَالَ: فَعَمَدَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى مَبْرَكِ رَاحِلَتِهِ فَأَخَذَ مِنْ بَعْرِهَا فَفَتَّهُ، فَرَأَى فِيهِ النَّوَى، فَقَالَ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ جَاءَ بُدَيْلٌ مُحَمَّدًا. ثُمَّ خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَدَخَلَ عَلَى ابْنَتِهِ أُمِّ حَبِيبَةَ، فَلَمَّا ذَهَبَ لِيَجْلِسَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَوَتْهُ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّةُ، مَا أَدْرِي أَرَغِبْتِ بِي عَنْ هَذَا الْفِرَاشِ أَوْ رَغِبْتِ بِهِ عَنِّي؟ فَقَالَتْ: هُوَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْتَ مُشْرِكٌ نَجِسٌ، فَلَمْ أُحِبَّ أَنْ تَجْلِسَ عَلَى فِرَاشِهِ. فَقَالَ: يَا بُنَيَّةُ، وَاللَّهِ لَقَدْ أَصَابَكِ بَعْدِي شَرٌّ. ثُمَّ خَرَجَ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَكَلَّمَهُ أَنْ يُكَلِّمَ لَهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ. ثُمَّ أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَكَلَّمَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: أَنَا أَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! فَوَاللَّهِ لَوْ لَمْ أَجِدْ لَكُمْ إِلَّا الذَّرَّ لَجَاهَدْتُكُمْ بِهِ. ثُمَّ خَرَجَ فَدَخَلَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعِنْدَهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدَهَا حَسَنٌ، غُلَامٌ يَدِبُّ بَيْنَ يَدَيْهِمَا، فَقَالَ: يَا عَلِيُّ، إِنَّكَ أَمَسَّ الْقَوْمِ بِي رَحِمًا، وَأَقْرَبَهُمْ مِنِّي قَرَابَةً، وَقَدْ جِئْتُ فِي حَاجَةٍ، فَلَا أَرْجِعَنَّ كَمَا جِئْتُ خَائِبًا، فَاشْفَعْ لِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: وَيْحَكَ أَبَا سُفْيَانَ! وَاللَّهِ لَقَدْ عَزَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَمْرٍ مَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُكَلِّمَهُ فِيهِ. فَالْتَفَتَ إِلَى فَاطِمَةَ فَقَالَ: يَا بِنْتَ مُحَمَّدٍ، هَلْ لَكِ أَنْ تَأْمُرِي بُنَيَّكِ هَذَا فَيُجِيرُ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَكُونُ سَيِّدَ الْعَرَبِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ؟ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا بَلَغَ بُنَيَّ ذَلِكَ أَنْ يُجِيرَ بَيْنَ
(6/514)
النَّاسِ، وَمَا يُجِيرُ أَحَدٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَسَنِ إِنِّي أَرَى الْأُمُورَ قَدِ اشْتَدَّتْ عَلَيَّ، فَانْصَحْنِي؟ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ شَيْئًا يُغْنِي عَنْكَ، وَلَكِنَّكَ سَيِّدُ بَنِي كِنَانَةَ، فَقُمْ فَأَجِرْ بَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ الْحَقْ بِأَرْضِكَ. فَقَالَ: أَوَ تَرَى ذَلِكَ مُغْنِيًا عَنِّي شَيْئًا؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا أَظُنُّ، وَلَكِنْ لَا أَجِدُ لَكَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ بَيْنَ النَّاسِ. ثُمَّ رَكِبَ بَعِيرَهُ فَانْطَلَقَ، فَلَمَّا أَنْ قَدِمَ عَلَى قُرَيْشٍ قَالُوا: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: جِئْتُ مُحَمَّدًا فَكَلَّمْتُهُ، فَوَاللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ شَيْئًا، ثُمَّ جِئْتُ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ، فَوَاللَّهِ مَا وَجَدْتُ فِيهِ خَيْرًا، ثُمَّ جِئْتُ عُمَرَ فَوَجَدْتُهُ أَعْدَى الْعَدُوِّ، ثُمَّ جِئْتُ عَلِيًّا فَوَجَدْتُهُ أَلْيَنَ الْقَوْمِ، وَقَدْ أَشَارَ عَلَيَّ بِأَمْرٍ صَنَعْتُهُ، فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي هَلْ يُغْنِي عَنَّا شَيْئًا أَمْ لَا؟ قَالُوا: بِمَاذَا أَمَرَكَ؟ قَالَ: أَمَرَنِي أَنْ أُجِيرَ بَيْنَ النَّاسِ فَفَعَلْتُ. قَالُوا: هَلْ أَجَازَ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ؟ قَالَ: لَا. قَالُوا: وَيْحَكَ! مَا زَادَكَ الرَّجُلُ عَلَى أَنْ لَعِبِ بِكَ، فَمَا يُغْنِي عَنَّا مَا قُلْتَ. فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا وَجَدْتُ غَيْرَ ذَلِكَ.
فَائِدَةٌ ذَكَرَهَا السُّهَيْلِيُّ، تَكَلَّمَ عَلَى قَوْلِ فَاطِمَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: وَمَا يُجِيرُ أَحَدٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «وَيُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ» قَالَ: وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ مَنْ يُجِيرُ وَاحِدًا أَوْ نَفَرًا يَسِيرًا، وَقَوْلُ فَاطِمَةَ فِيمَنْ يُجِيرُ عَدُوًّا مِنْ غَزْوِ الْإِمَامِ
(6/515)
إِيَّاهُمْ، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. قَالَ: كَانَ سُحْنُونُ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ يَقُولَانِ: إِنَّ أَمَانَ الْمَرْأَةِ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ الْإِمَامِ، لِقَوْلِهِ لِأُمِّ هَانِئٍ: «قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ» . قَالَ: وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ أَمَانُ الْعَبْدِ. وَفِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَدْنَاهُمْ» مَا يَقْتَضِي دُخُولَ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَتْ بَنُو كَعْبٍ:
لَاهُمَّ إِنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدًا ... حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا
فَانْصُرْ هَدَاكَ اللَّهُ نَصْرًا أَعْتَدَا ... وَادْعُ عِبَادَ اللَّهِ يَأْتُوا مَدَدَا
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي فَتْحِ مَكَّةَ: ثُمَّ إِنَّ بَنِي نُفَاثَةَ مِنْ بَنِي الدُّئِلِ أَغَارُوا عَلَى بَنِي كَعْبٍ، وَهُمْ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ، وَكَانَتْ بَنُو كَعْبٍ فِي صُلْحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ بَنُو نُفَاثَةَ فِي صُلْحِ قُرَيْشٍ، فَأَعَانَتْ بَنُو بَكْرٍ بَنِي نُفَاثَةَ، وَأَعَانَتْهُمْ قُرَيْشٌ بِالسِّلَاحِ وَالرَّقِيقِ، وَاعْتَزَلَتْهُمْ بَنُو مُدْلِجٍ، وَوَفَوْا بِالْعَهْدِ الَّذِي كَانُوا عَاهَدُوا عَلَيْهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي بَنِي الدُّئِلِ رَجُلَانِ هُمَا سَيِّدَاهُمْ، سَلْمُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَكُلْثُومُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَيَذْكُرُونَ أَنَّ مِمَّنْ أَعَانَهُمْ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ، وَشَيْبَةَ بْنَ عُثْمَانَ، وَسُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، فَأَغَارَتْ بَنُو الدُّئِلِ عَلَى بَنِي عَمْرٍو، وَعَامَّتُهُمْ - زَعَمُوا - نِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ وَضُعَفَاءُ
(6/516)
الرِّجَالِ فَأَلْجَئُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ حَتَّى أَدْخَلُوهُمْ إِلَى دَارِ بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ بِمَكَّةَ، فَخَرَجَ رَكْبٌ مِنْ بَنِي كَعْبٍ حَتَّى أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرُوا لَهُ الَّذِي أَصَابَهُمْ، وَمَا كَانَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ارْجِعُوا فَتَفَرَّقُوا فِي الْبُلْدَانِ ". وَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَخَوَّفَ الَّذِي كَانَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، اشْدُدِ الْعَقْدَ، وَزِدْنَا فِي الْمُدَّةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَلِذَلِكَ قَدِمْتَ؟ هَلْ كَانَ مِنْ حَدَثٍ قِبَلَكُمْ؟ " فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ، نَحْنُ عَلَى عَهْدِنَا وَصُلِحِنَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، لَا نُغَيِّرُ وَلَا نُبَدِّلُ. فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَتَى أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ: جَدِّدِ الْعَقْدَ، وَزِدْنَا فِي الْمُدَّةِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: جِوَارِي فِي جِوَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهِ لَوْ وَجَدْتُ الذَّرَّ تُقَاتِلُكُمْ لَأَعَنْتُهَا عَلَيْكُمْ. ثُمَّ خَرَجَ فَأَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَكَلَّمَهُ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَا كَانَ مِنْ حِلْفِنَا جَدِيدًا فَأَخْلَقَهُ اللَّهُ، وَمَا كَانَ مِنْهُ مَتِينًا فَقَطَعَهُ اللَّهُ، وَمَا كَانَ مِنْهُ مَقْطُوعًا فَلَا وَصَلَهُ اللَّهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ: جُزِيتَ مِنْ ذِي رَحِمٍ شَرًّا. ثُمَّ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ فَكَلَّمَهُ، فَقَالَ عُثْمَانُ: جِوَارِي فِي جِوَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ اتَّبَعَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ يُكَلِّمُهُمْ، فَكُلُّهُمْ يَقُولُ: عَقْدُنَا فِي عَقْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا يَئِسَ مِمَّا عِنْدَهُمْ، دَخَلَ عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهَا، فَقَالَتْ: إِنَّمَا أَنَا امْرَأَةٌ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ لَهَا: فَأْمُرِي أَحَدَ ابْنَيْكِ. فَقَالَتْ: إِنَّهُمَا صَبِيَّانِ، وَلَيْسَ مِثْلُهُمَا يُجِيرُ. قَالَ: فَكَلِّمِي عَلِيًّا
(6/517)
فَقَالَتْ: أَنْتَ فَكَلِّمْهُ، فَكَلَّمَ عَلِيًّا، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْتَاتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجِوَارٍ، وَأَنْتَ سَيِّدُ قُرَيْشٍ وَأَكْبَرُهَا وَأَمْنَعُهَا، فَأَجِرْ بَيْنَ عَشِيرَتِكَ. قَالَ: صَدَقْتَ، وَأَنَا كَذَلِكَ. فَخَرَجَ فَصَاحَ: أَلَا إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَا وَاللَّهِ مَا أَظُنُّ أَنْ يُخْفِرَنِي أَحَدٌ. ثُمَّ دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَا وَاللَّهِ مَا أَظُنُّ أَنْ يُخْفِرَنِي أَحَدٌ وَلَا يَرُدَّ جِوَارِي. فَقَالَ: " أَنْتَ تَقُولُ يَا أَبَا حَنْظَلَةَ؟ ! " فَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ عَلَى ذَلِكَ، فَزَعَمُوا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حِينَ أَدْبَرَ أَبُو سُفْيَانَ: " «اللَّهُمَّ خُذْ عَلَى أَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ، فَلَا يَرَوْنَا إِلَّا بَغْتَةً، وَلَا يَسْمَعُوا بِنَا إِلَّا فَجْأَةً» ". وَقَدِمَ أَبُو سُفْيَانَ مَكَّةَ، فَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ: مَا وَرَاءَكَ؟ هَلْ جِئْتَ بِكِتَابٍ مِنْ مُحَمَّدٍ أَوْ عَهْدٍ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ، لَقَدْ أَبَى عَلَيَّ، وَقَدْ تَتَبَّعْتُ أَصْحَابَهُ، فَمَا رَأَيْتُ قَوْمًا لِمَلِكٍ عَلَيْهِمْ أَطَوَعَ مِنْهُمْ لَهُ، غَيْرَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَدْ قَالَ لِي: لِمَ تَلْتَمِسُ جِوَارَ النَّاسِ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَلَا تُجِيرُ أَنْتَ عَلَيْهِ وَعَلَى قَوْمِكَ، وَأَنْتَ سَيِّدُ قُرَيْشٍ وَأَكْبَرُهَا وَأَحَقُّهَا أَنْ لَا يُخْفَرَ جِوَارُهُ؟ فَقُمْتُ بِالْجِوَارِ، ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى مُحَمَّدٍ، فَذَكَرْتُ لَهُ أَنِّي قَدْ أَجَرْتَ بَيْنَ النَّاسِ، وَقُلْتُ: مَا أَظُنُّ أَنْ تُخْفِرَنِي. فَقَالَ: " أَنْتَ تَقُولُ ذَلِكَ يَا أَبَا حَنْظَلَةَ؟ ! " فَقَالُوا مُجِيبِينَ لَهُ: رَضِيتَ بِغَيْرِ رِضًا، وَجِئْتَنَا بِمَا لَا يُغْنِي عَنَّا وَلَا عَنْكَ شَيْئًا، وَإِنَّمَا لَعِبَ بِكَ عَلِيٌّ، لَعَمْرُ اللَّهِ مَا جِوَارُكَ بِجَائِزٍ، وَإِنَّ إِخْفَارَكَ عَلَيْهِمْ لَهَيِّنٌ. ثُمَّ دَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَحَدَّثَهَا الْحَدِيثَ فَقَالَتْ: قَبَّحَكَ اللَّهُ مِنْ وَافِدِ قَوْمٍ، فَمَا جِئْتَ بِخَيْرٍ. قَالَ: وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ
(6/518)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَحَابًا فَقَالَ: " «إِنَّ هَذِهِ السَّحَابَ لَتَبِضُّ بِنَصْرِ بَنِي كَعْبٍ» " فَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ بَعْدَمَا خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ، ثُمَّ أَخَذَ فِي الْجِهَازِ، وَأَمَرَ عَائِشَةَ أَنْ تُجَهِّزَهُ وَتُخْفِيَ ذَلِكَ، ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ أَوْ إِلَى بَعْضِ حَاجَاتِهِ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَائِشَةَ، فَوَجَدَ عِنْدَهَا حِنْطَةً تُنْسَفُ وَتُنَقَّى، فَقَالَ لَهَا: يَا بُنَيَّةُ، لِمَاذَا تَصْنَعِينَ هَذَا الطَّعَامَ؟ فَسَكَتَتْ، فَقَالَ: أَيُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَغْزُوَ؟ فَصَمَتَتْ، فَقَالَ: يُرِيدُ بَنِي الْأَصْفَرِ؟ - وَهُمُ الرُّومُ - فَصَمَتَتْ قَالَ: فَلَعَلَّهُ يُرِيدُ أَهْلَ نَجْدٍ؟ فَصَمَتَتْ قَالَ: فَلَعَلَّهُ يُرِيدُ قُرَيْشًا؟ فَصَمَتَتْ قَالَ: فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُرِيدُ أَنْ تَخْرُجَ مَخْرَجًا؟ قَالَ: " نَعَمْ ". قَالَ: فَلَعَلَّكَ تُرِيدُ بَنِي الْأَصْفَرِ؟ قَالَ: " لَا ". قَالَ: أَتُرِيدُ أَهْلَ نَجْدٍ؟ قَالَ: " لَا ". قَالَ: فَلَعَلَّكَ تُرِيدُ قُرَيْشًا؟ قَالَ: " نَعَمْ ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ مُدَّةٌ؟ قَالَ: " أَلَمْ يَبْلُغْكَ مَا صَنَعُوا بِبَنِي كَعْبٍ؟ قَالَ: وَأَذَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاسِ بِالْغَزْوِ، وَكَتَبَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى قُرَيْشٍ، وَأَطْلَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْكِتَابِ، وَذَكَرَ الْقِصَّةَ كَمَا سَيَأْتِي.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ، وَهِيَ تُغَرْبِلُ حِنْطَةً، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ أَمَرَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِهَازِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ فَتَجَهَّزْ، قَالَ: وَإِلَى أَيْنَ؟ قَالَتْ: مَا سَمَّى لَنَا شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ أَمَرَنَا بِالْجِهَازِ
(6/519)
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَ النَّاسَ أَنَّهُ سَائِرٌ إِلَى مَكَّةَ، وَأَمَرَ بِالْجِدِّ وَالتَّهَيُّؤِ، وَقَالَ: " اللَّهُمَّ خُذِ الْعُيُونَ وَالْأَخْبَارَ، عَنْ قُرَيْشٍ، حَتَّى نَبْغَتَهَا فِي بِلَادِهَا فَتَجَهَّزَ النَّاسُ» ، فَقَالَ حَسَّانُ يُحَرِّضُ النَّاسَ، وَيَذْكُرُ مُصَابَ خُزَاعَةَ:
عَنَانِي وَلَمْ أَشْهَدْ بِبَطْحَاءِ مَكَّةَ ... رِجَالُ بَنِي كَعْبٍ تُحَزُّ رِقَابُهَا
بِأَيْدِي رِجَالٍ لَمْ يَسُلُّوا سُيُوفَهُمْ ... وَقَتْلَى كَثِيرٌ لَمْ تُجَنَّ ثِيَابُهَا
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ تَنَالَنَّ نُصْرَتِي ... سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو حَرُّهَا وَعِقَابُهَا
وَصَفْوَانُ عَوْدٌ حُزَّ مِنْ شُفْرِ اسْتِهِ ... فَهَذَا أَوَانُ الْحَرْبِ شُدَّ عِصَابُهَا
فَلَا تَأْمَنَنَّا يَا بْنَ أُمِّ مُجَالِدٍ ... إِذَا احْتُلِبَتْ صِرْفًا وَأَعْصَلَ نَابُهَا
وَلَا تَجْزَعُوا مِنْهَا فَإِنَّ سُيُوفَنَا ... لَهَا وَقْعَةٌ بِالْمَوْتِ يُفْتَحُ بَابُهَا
(6/520)
[قِصَّةُ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ]
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَائِنَا قَالُوا: لَمَّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسِيرَ إِلَى مَكَّةَ، كَتَبَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ كِتَابًا إِلَى قُرَيْشٍ، يُخْبِرُهُمْ بِالَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَمْرِ فِي السَّيْرِ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ أَعْطَاهُ امْرَأَةً - زَعَمَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَنَّهَا مِنْ مُزَيْنَةَ، وَزَعَمَ لِي غَيْرُهُ أَنَّهَا سَارَةُ، مَوْلَاةٌ لِبَعْضِ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - وَجَعَلَ لَهَا جُعْلًا عَلَى أَنْ تُبَلِّغَهُ قُرَيْشًا، فَجَعَلَتْهُ فِي رَأْسِهَا، ثُمَّ فَتَلَتْ عَلَيْهِ قُرُونَهَا ثُمَّ خَرَجَتْ بِهِ، وَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ بِمَا صَنَعَ حَاطِبٌ، فَبَعَثَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ فَقَالَ: " أَدْرِكَا امْرَأَةً قَدْ كَتَبَ مَعَهَا حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ بِكِتَابٍ إِلَى قُرَيْشٍ، يُحَذِّرُهُمْ مَا قَدْ أَجْمَعْنَا لَهُ مِنْ أَمْرِهِمْ " فَخَرَجَا حَتَّى أَدْرَكَاهَا بِالْخَلِيقَةِ خَلِيقَةِ بَنِي أَبِي أَحْمَدَ، فَاسْتَنْزَلَاهَا، فَالْتَمَسَاهُ فِي رَحْلِهَا فَلَمْ يَجِدَا فِيهِ شَيْئًا، فَقَالَ لَهَا عَلِيٌّ: إِنِّي أَحِلِفُ بِاللَّهِ مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا كُذِبْنَا، وَلَتُخْرِجِنَّ لَنَا هَذَا الْكِتَابَ أَوْ لَنَكْشِفَنَّكِ. فَلَمَّا رَأَتِ الْجِدَّ مِنْهُ قَالَتْ: أَعْرِضْ. فَأَعْرَضَ، فَحَلَّتْ قُرُونَ رَأْسِهَا،
(6/521)
فَاسْتَخْرَجَتِ الْكِتَابَ مِنْهَا فَدَفَعَتْهُ إِلَيْهِ، فَأَتَى بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاطِبًا فَقَالَ: " يَا حَاطِبُ مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ " فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَمُؤْمِنٌ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، مَا غَيَّرْتُ وَلَا بَدَّلْتُ، وَلَكِنَّنِي كُنْتُ امْرَأً لَيْسَ لِي فِي الْقَوْمِ مِنْ أَصْلٍ وَلَا عَشِيرَةٍ، وَكَانَ لِي بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَلَدٌ وَأَهْلٌ فَصَانَعْتُهُمْ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي فَلْأَضْرِبْ عُنُقَهُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ نَافَقَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَمَا يُدْرِيكَ يَا عُمَرُ، لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ إِلَى أَصْحَابِ بَدْرٍ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» " وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَاطِبٍ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1] إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ (الْمُمْتَحِنَةِ: 1 - 9) . هَكَذَا أَوْرَدَ ابْنُ إِسْحَاقَ هَذِهِ الْقِصَّةَ مُرْسَلَةً، وَقَدْ ذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُ كَانَ فِي كِتَابِ حَاطِبٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَوَجَّهَ إِلَيْكُمْ بِجَيْشٍ كَاللَّيْلِ يَسِيرُ كَالسَّيْلِ، وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَوْ سَارَ إِلَيْكُمْ وَحْدَهُ لَنَصَرَهُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّهُ مُنْجِزٌ لَهُ مَا وَعَدَهُ. قَالَ: وَفِي " تَفْسِيرِ ابْنِ سَلَّامٍ " أَنَّ حَاطِبًا كَتَبَ: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ نَفَرَ، فَإِمَّا إِلَيْكُمْ وَإِمَّا إِلَى غَيْرِكُمْ، فَعَلَيْكُمُ الْحَذَرَ.
(6/522)
وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا قُتَيْبَةُ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي رَافِعٍ، سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَالزُّبَيْرُ وَالْمِقْدَادُ فَقَالَ: " انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا ". فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى أَتَيْنَا الرَّوْضَةَ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ، فَقُلْنَا: أَخْرِجِي الْكِتَابَ. فَقَالَتْ: مَا مَعِي كِتَابٌ. فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ. قَالَ: فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا فِيهِ: مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ. إِلَى نَاسٍ بِمَكَّةَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " يَا حَاطِبُ، مَا هَذَا؟ " فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ - يَقُولُ: كُنْتُ حَلِيفًا وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا - وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مَنْ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ قَرَابَتِي، وَلَمْ أَفْعَلْهُ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي، وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكُمْ ". فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ. فَقَالَ: " «إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى مَنْ شَهِدَ بَدْرًا فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» ". فَأَنْزَلَ اللَّهُ السُّورَةَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1]
(6/523)
إِلَى قَوْلِهِ: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1] .
وَأَخْرَجَهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ، إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا حُجَيْنٌ وَيُونُسُ قَالَا: حَدَّثَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، «أَنَّ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ يَذْكُرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ غَزْوَهُمْ، فَدُلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي مَعَهَا الْكِتَابُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَأَخَذَ كِتَابَهَا مِنْ رَأْسِهَا، وَقَالَ: " يَا حَاطِبُ أَفَعَلْتَ؟ " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَفْعَلْهُ غِشًّا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نِفَاقًا، قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ مُظْهِرٌ رَسُولَهُ، وَمُتِمٌّ لَهُ أَمْرَهُ، غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ عَرِيرًا بَيْنَ ظَهْرَيْهِمْ، وَكَانَتْ وَالِدَتِي مَعَهُمْ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَّخِذَ هَذَا عِنْدَهُمْ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَلَا أَضْرِبُ رَأْسَ هَذَا؟ فَقَالَ: " أَتَقْتُلُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ» . تَفَرَّدَ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
(6/524)
[مِيقَاتُ خُرُوجِ النَّبِيِّ]
فَصْلٌ مِيقَاتُ خُرُوجِ النَّبِيِّ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَفَرِهِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا رُهْمٍ كُلْثُومَ بْنَ حُصَيْنِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ خَلَفٍ الْغِفَارِيَّ، وَخَرَجَ لِعَشْرٍ مَضَيْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَصَامَ وَصَامَ النَّاسُ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْكَدِيدِ، بَيْنَ عُسْفَانَ وَأَمَجَ أَفْطَرَ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى نَزَلَ مَرَّ الظَّهْرَانِ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ - وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: كَانَ مَعَهُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا. وَكَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ - فَسَبَّعَتْ سُلَيْمٌ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: أَلَّفَتْ سُلَيْمٌ - وَأَلَّفَتْ مُزَيْنَةُ، وَفِي كُلِّ الْقَبَائِلِ عَدَدٌ وَإِسْلَامٌ، وَأَوْعَبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ مَحْمُودٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ نَحْوَهُ.
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَاصِمِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ
(6/525)
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا غَزْوَةَ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ. قَالَ: وَسَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ، لَا أَدْرِي أَخَرَجَ فِي لَيَالٍ مِنْ شَعْبَانَ فَاسْتَقْبَلَ رَمَضَانَ، أَوْ خَرَجَ فِي رَمَضَانَ بَعْدَمَا دَخَلَ؟ غَيْرَ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنِي أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: «صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ - الْمَاءَ الَّذِي بَيْنَ قُدَيْدٍ وَعُسْفَانَ - أَفْطَرَ، فَلَمْ يَزَلْ يُفْطِرُ حَتَّى انْصَرَمَ الشَّهْرُ» . وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ اللَّيْثِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ التَّرْدِيدَ بَيْنَ شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «سَافَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ، ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ فَشَرِبَ نَهَارًا لِيَرَاهُ النَّاسُ، فَأَفْطَرُ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ» . قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: «صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ، وَأَفْطَرَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ» .
وَقَالَ يُونُسُ: عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَفْرَةِ الْفَتْحِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا رُهْمٍ كُلْثُومَ بْنَ الْحُصَيْنِ الْغِفَارِيَّ، وَخَرَجَ لِعَشْرٍ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، فَصَامَ وَصَامَ النَّاسُ مَعَهُ، حَتَّى أَتَى الْكَدِيدَ - مَاءً بَيْنَ عُسْفَانَ وَأَمَجَ - فَأَفْطَرَ، وَدَخَلَ مَكَّةَ مُفْطِرًا، فَكَانَ النَّاسُ يَرَوْنَ أَنَّ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفِطْرُ، وَأَنَّهُ
(6/526)
نَسَخَ مَا كَانَ قَبْلَهُ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَقَوْلُهُ: خَرَجَ لِعَشْرٍ مِنْ رَمَضَانَ. مُدْرَجٌ فِي الْحَدِيثِ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ. ثُمَّ رَوَى مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ حَامِدِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ صَدَقَةَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، أَنَّهُ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَشْرٍ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ.
ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الْفَتْحُ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذَا الْإِدْرَاجُ وَهْمٌ. إِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ.
ثُمَّ رَوَى مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: «غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةَ الْفَتْحِ - فَتْحِ مَكَّةَ - فَخَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ فِي رَمَضَانَ وَمَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَشَرَةُ آلَافٍ، وَذَلِكَ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِي سِنِينَ وَنِصْفِ سَنَةٍ مِنْ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ، وَافْتَتَحَ مَكَّةَ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ» .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
(6/527)
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ فِي رَمَضَانَ وَمَعَهُ عَشَرَةُ آلَافٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ ثُمَّ أَفْطَرَ، فَقَالَ الزُّهْرِيُّ: وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَصَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ. ثُمَّ عَزَاهُ إِلَى " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ التَّنُوخِيِّ، عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ قَزَعَةَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «آذَنَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرَّحِيلِ عَامَ الْفَتْحِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ رَمَضَانَ، فَخَرَجْنَا صُوَّامًا حَتَّى بَلَغْنَا الْكَدِيدَ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفِطْرِ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ شَرْجَيْنِ، مِنْهُمُ الصَّائِمُ وَمِنْهُمُ الْمُفْطِرُ، حَتَّى إِذَا بَلَغْنَا الْمَنْزِلَ الَّذِي نَلْقَى الْعَدُوَّ فِيهِ، أَمَرَنَا بِالْفِطْرِ فَأَفْطَرْنَا أَجْمَعُونَ» .
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنِي عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «آذَنَنَا
(6/528)
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرَّحِيلِ عَامَ الْفَتْحِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ رَمَضَانَ، فَخَرَجْنَا صُوَّامًا حَتَّى بَلَغْنَا الْكَدِيدَ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفِطْرِ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ مِنْهُمُ الصَّائِمُ وَمِنْهُمُ الْمُفْطِرُ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَدْنَى مَنْزِلٍ تِلْقَاءَ الْعَدُوِّ، أَمَرَنَا بِالْفِطْرِ، فَأَفْطَرْنَا أَجْمَعُونَ» .
قُلْتُ: فَعَلَى مَا ذَكَرَهُ الزُّهْرِيُّ مِنْ أَنَّ الْفَتْحَ كَانَ يَوْمَ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ، وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو سَعِيدٍ مِنْ أَنَّهُمْ خَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ فِي ثَانِي شَهْرِ رَمَضَانَ، يَقْتَضِي أَنَّ مَسِيرَهُمْ كَانَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فِي إِحْدَى عَشْرَةَ لَيْلَةً.
وَلَكِنْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنِ ابْنِ إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَعَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِمْ قَالُوا: كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ فِي عَشْرٍ بَقِيَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ.
قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: ثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ صَائِمًا حَتَّى أَتَى كُرَاعَ الْغَمِيمِ، وَالنَّاسُ مَعَهُ مُشَاةً وَرُكْبَانًا، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ النَّاسَ قَدِ اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الصَّوْمُ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ
(6/529)
كَيْفَ فَعَلْتَ. فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ فَرَفَعَهُ، فَشَرِبَ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ، فَصَامَ بَعْضُ النَّاسِ وَأَفْطَرَ الْبَعْضُ، حَتَّى أُخْبِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ صَائِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أُولَئِكَ الْعُصَاةُ» . وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الثَّقَفِيِّ وَالدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي بَشِيرُ بْنُ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ وَصَامَ الْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْكَدِيدِ دَعَا بِمَاءٍ فِي قَعْبٍ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَشَرِبَ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ، يُعْلِمُهُمْ أَنَّهُ قَدْ أَفْطَرَ، فَأَفْطَرَ الْمُسْلِمُونَ.» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
(6/530)
[إِسْلَامُ الْعَبَّاسِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ]
فَصْلٌ فِي إِسْلَامِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةَ الْمَخْزُومِيِّ أَخِي أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَهِجْرَتِهِمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدُوهُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى فَتْحِ مَكَّةَ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: لَقِيَهُ بِالْجَحْفَةِ مُهَاجِرًا بِعِيَالِهِ، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مُقِيمًا بِمَكَّةَ عَلَى سِقَايَتِهِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ رَاضٍ، فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ قَدْ لَقِيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا بِنِيقِ الْعُقَابِ فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَالْتَمَسَا الدُّخُولَ عَلَيْهِ، فَكَلَّمَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ فِيهِمَا، فَقَالَتْ:
(6/531)
يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْنُ عَمِّكَ، وَابْنُ عَمَّتِكَ، وَصِهْرُكَ. قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي بِهِمَا، أَمَّا ابْنُ عَمِّي فَهَتَكَ عِرْضِي، وَأَمَّا ابْنُ عَمَّتِي فَهُوَ الَّذِي قَالَ لِي بِمَكَّةَ مَا قَالَ. قَالَ: فَلَمَّا خَرَجَ إِلَيْهِمَا الْخَبَرُ بِذَلِكَ وَمَعَ أَبِي سُفْيَانَ بُنَيٌّ لَهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَيَأْذَنَنَّ لِي أَوْ لَآخُذَنَّ بِيَدِ بُنَيَّ هَذَا، ثُمَّ لَنَذْهَبَنَّ فِي الْأَرْضِ حَتَّى نَمُوتَ عَطَشًا وَجُوعًا. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَقَّ لَهُمَا، ثُمَّ أَذِنَ لَهُمَا فَدَخَلَا عَلَيْهِ فَأَسْلَمَا، وَأَنْشَدَ أَبُو سُفْيَانَ قَوْلَهُ فِي إِسْلَامِهِ، وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ مِمَّا كَانَ مَضَى مِنْهُ:
لَعَمْرُكَ إِنِّي يَوْمَ أَحْمِلُ رَايَةً ... لِتَغْلِبَ خَيْلُ اللَّاتِ خَيْلَ مُحَمَّدِ
لَكَالْمُدْلِجِ الْحَيْرَانِ أَظْلَمَ لَيْلُهُ ... فَهَذَا أَوَانِي حِينَ أُهْدَى وَأَهْتَدِي
هَدَانِيَ هَادٍ غَيْرُ نَفْسِي وَنَالَنِي ... مَعَ اللَّهِ مَنْ طَرَّدْتُ كُلَّ مُطَرَّدِ
أَصُدُّ وَأَنْأَى جَاهِدًا عَنْ مُحَمَّدٍ ... وَأُدْعَى وَإِنْ لَمْ أَنْتَسِبْ مِنْ مُحَمَّدِ
هُمُ مَا هُمُ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِهَوَاهُمُ ... وَإِنْ كَانَ ذَا رَأْيٍ يُلَمْ وَيُفَنَّدِ
أُرِيدُ لِأُرْضِيهِمْ وَلَسْتُ بِلَائِطٍ ... مَعَ الْقَوْمِ مَا لَمْ أُهْدَ فِي كُلِّ مَقْعَدِ
(6/532)
فَقُلْ لِثَقِيفٍ لَا أُرِيدُ قِتَالَهَا ... وَقُلْ لِثَقِيفٍ تِلَكَ غَيْرِيَ أَوْعِدِي
فَمَا كُنْتُ فِي الْجَيْشِ الَّذِي نَالَ عَامِرًا ... وَمَا كَانَ عَنْ جَرَّا لِسَانِي وَلَا يَدِي
قَبَائِلُ جَاءَتْ مِنْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ ... نَزَائِعُ جَاءَتْ مِنْ سِهَامٍ وَسَرْدُدِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَزَعَمُوا أَنَّهُ حِينَ أَنْشَدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . وَنَالَنِي ... مَعَ اللَّهِ مَنْ طَرَّدْتُ كُلَّ مُطَرَّدِ
ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ: أَنْتَ طَرَّدْتَنِي كُلَّ مُطَرَّدِ! .
[نُزُولُ النَّبِيِّ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ]
فَصْلٌ نُزُولُ النَّبِيِّ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ
وَلَمَّا انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَرِّ الظَّهْرَانِ، نَزَلَ فِيهِ فَأَقَامَ، كَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثِ، وَمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الطَّاهِرِ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ كِلَاهُمَا، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ نَجْتَنِي الْكَبَاثَ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ مِنْهُ فَإِنَّهُ أَطْيَبُ ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكُنْتَ تَرْعَى الْغَنَمَ؟ قَالَ: " نَعَمْ، وَهَلْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ رَعَاهَا؟»
(6/533)
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ سِنَانَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ سَعِيدِ بْنِ مِينَا قَالَ: «لَمَّا فَرَغَ أَهْلُ مُؤْتَةَ وَرَجَعُوا، أَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَسِيرِ إِلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى مَرِّ الظَّهْرَانِ نَزَلَ بِالْعُقْبَةِ، فَأَرْسَلَ الْجُنَاةَ يَجْتَنُونَ الْكَبَاثَ، فَقُلْتُ لِسَعِيدٍ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: ثَمَرُ الْأَرَاكِ. قَالَ: فَانْطَلَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِيمَنْ يَجْتَنِي. قَالَ: فَجَعَلَ أَحَدُهُمْ إِذَا أَصَابَ حَبَّةً طَيِّبَةً قَذَفَهَا فِي فِيهِ، وَكَانُوا يَنْظُرُونَ إِلَى دِقَّةِ سَاقَيِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ يَرْقَى فِي الشَّجَرَةِ فَيَضْحَكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَعْجَبُونَ مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ؟ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ» وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ مَا اجْتَنَى مِنْ شَيْءٍ، جَاءَ بِهِ وَخِيَارُهُ فِيهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ:
هَذَا جَنَايَ وَخِيَارَهُ فِيهْ ... إِذْ كُلُّ جَانٍ يَدُهُ إِلَى فِيهْ
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «أَنَفَجْنَا أَرْنَبًا وَنَحْنُ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَسَعَى الْقَوْمُ فَلَغِبُوا، فَأَدْرَكْتُهَا فَأَخَذْتُهَا، فَأَتَيْتُ بِهَا أَبَا طَلْحَةَ فَذَبَحَهَا، وَبَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَرِكِهَا أَوْ فَخِذَيْهَا فَقَبِلَهُ» .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ الظَّهْرَانِ، وَقَدْ عُمِّيَتِ
(6/534)
الْأَخْبَارُ عَنْ قُرَيْشٍ، فَلَا يَأْتِيهِمْ خَبَرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَدْرُونَ مَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعِلٌ، وَخَرَجَ فِي تِلْكَ اللَّيَالِي أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَبُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ، يَتَحَسَّسُونَ الْأَخْبَارَ، وَيَنْظُرُونَ هَلْ يَجِدُونَ خَبَرًا أَوْ يَسْمَعُونَ بِهِ.
وَذَكَرَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ عُيُونًا خَيْلًا يَقْتَصُّونَ الْعُيُونَ، وَخُزَاعَةُ لَا تَدَعُ أَحَدًا يَمْضِي وَرَاءَهَا، فَلَمَّا جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ أَخَذَتْهُمْ خَيْلُ الْمُسْلِمِينَ، وَقَامَ إِلَيْهِ عُمَرُ يَجَأُ فِي عُنُقِهِ، حَتَّى أَجَارَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبَدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ صَاحِبًا لِأَبِي سُفْيَانَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ الْعَبَّاسُ حِينَ نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ الظَّهْرَانِ: قُلْتُ: وَاصَبَاحَ قُرَيْشٍ، وَاللَّهِ لَئِنْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ عَنْوَةَ قَبْلَ أَنْ يَأْتُوهُ فَيَسْتَأْمِنُوهُ، إِنَّهُ لَهَلَاكُ قُرَيْشٍ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ. قَالَ: فَجَلَسْتُ عَلَى بَغْلَةِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْضَاءِ، فَخَرَجْتُ عَلَيْهَا حَتَّى جِئْتُ الْأَرَاكَ، فَقُلْتُ: لَعَلِّي أَجِدُ بَعْضَ الْحَطَّابَةِ، أَوْ صَاحِبَ لَبَنِ، أَوْ ذَا حَاجَةٍ يَأْتِي مَكَّةَ فَيُخْبِرُهُمْ بِمَكَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيَخْرُجُوا إِلَيْهِ فَيَسْتَأْمِنُوهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِمْ عَنْوَةً. قَالَ: فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَسِيرُ عَلَيْهَا وَأَلْتَمِسَ مَا خَرَجْتُ لَهُ، إِذْ سَمِعْتُ كَلَامَ أَبِي سُفْيَانَ وَبُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ وَهُمَا يَتَرَاجَعَانِ، وَأَبُو سُفْيَانَ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ كَاللَّيْلَةِ نِيرَانًا قَطُّ وَلَا
(6/535)
عَسْكَرًا! قَالَ: يَقُولُ بُدَيْلٌ: هَذِهِ وَاللَّهِ خُزَاعَةُ حَمَشَتْهَا الْحَرْبُ. قَالَ: يَقُولُ أَبُو سُفْيَانَ: خُزَاعَةُ أَذَلُّ وَأَقَلُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ نِيرَانُهَا وَعَسْكَرُهَا. قَالَ: فَعَرَفْتُ صَوْتَهُ فَقُلْتُ: يَا أَبَا حَنْظَلَةَ. فَعَرِفَ صَوْتِي، فَقَالَ: أَبُو الْفَضْلِ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: مَا لَكَ، فَدَى لَكَ أَبِي وَأُمِّي؟ قَالَ: قُلْتُ: وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ! هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاسِ، وَاصَبَاحَ قُرَيْشٍ وَاللَّهِ. قَالَ: فَمَا الْحِيلَةُ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي؟ قَالَ: قُلْتُ: وَاللَّهِ لَئِنْ ظَفِرَ بِكَ لَيَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ، فَارْكَبْ فِي عَجُزِ هَذِهِ الْبَغْلَةِ حَتَّى آتِيَ بِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْتَأْمِنُهُ لَكَ. قَالَ: فَرَكِبَ خَلْفِي وَرَجَعَ صَاحَبَاهُ - وَقَالَ عُرْوَةُ: بَلْ ذَهَبَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَا، وَجَعَلَ يَسْتَخْبِرُهُمَا عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: بَلْ دَخَلُوا مَعَ الْعَبَّاسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: قَالَ: فَجِئْتُ بِهِ كُلَّمَا مَرَرْتُ بِنَارٍ مِنْ نِيرَانِ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: مَنْ هَذَا؟ فَإِذَا رَأَوْا بَغْلَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا عَلَيْهَا قَالُوا: عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَتَّى مَرَرْتُ بِنَارِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ وَقَامَ إِلَيَّ، فَلَمَّا رَأَى أَبَا سُفْيَانَ عَلَى عَجُزِ الدَّابَّةِ قَالَ: أَبُو سُفْيَانَ عَدُوُّ اللَّهِ! الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَمْكَنَ مِنْكَ بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلَا عَهْدٍ. وَزَعَمَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عُمَرَ وَجَأَ فِي رَقَبَةِ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَرَادَ قَتْلَهُ فَمَنَعَهُ مِنْهُ الْعَبَّاسُ.
وَهَكَذَا ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ عُيُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(6/536)
أَخَذُوهُمْ بِأَزِمَّةِ جِمَالِهِمْ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: وَفْدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَقِيَهُمُ الْعَبَّاسُ، فَدَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَادَثَهُمْ عَامَّةَ اللَّيْلِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَشَهِدُوا، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَشَهِدَ حَكِيمٌ وَبُدَيْلٌ، وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا أَعْلَمُ ذَلِكَ. ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ الصُّبْحِ، ثُمَّ سَأَلُوهُ أَنْ يُؤَمِّنَ قُرَيْشًا، فَقَالَ: " «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ» - وَكَانَتْ بِأَعْلَى مَكَّةَ - «وَمَنْ دَخَلَ دَارَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ فَهُوَ آمِنٌ» - وَكَانَتْ بِأَسْفَلِ مَكَّةَ - «وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ» .
قَالَ الْعَبَّاسُ: ثُمَّ خَرَجَ عُمَرُ يَشْتَدُّ نَحْوَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَكَضَتِ الْبَغْلَةُ، فَسَبَقَتْهُ بِمَا تَسْبِقُ الدَّابَّةُ الْبَطِيئَةُ الرَّجُلَ الْبَطِيءَ قَالَ: فَاقْتَحَمْتُ عَنِ الْبَغْلَةِ، فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَخَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا أَبُو سُفْيَانَ قَدْ أَمْكَنَ اللَّهُ مِنْهُ بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلَا عَهْدٍ، فَدَعْنِي فَلْأَضْرِبْ عُنُقَهُ. قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ إِنِّي قَدْ أَجَرْتُهُ. ثُمَّ جَلَسْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذْتُ بِرَأْسِهِ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا يُنَاجِيهِ اللَّيْلَةَ دُونِي رَجُلٌ. فَلَمَّا أَكْثَرَ عُمَرُ فِي شَأْنِهِ. قَالَ: قُلْتُ: مَهْلًا يَا عُمَرُ، فَوَاللَّهِ أَنْ لَوْ كَانَ مِنْ رِجَالِ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ مَا قُلْتَ هَذَا، وَلَكِنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ مِنْ رِجَالِ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ. فَقَالَ: مَهْلًا يَا عَبَّاسُ، فَوَاللَّهِ لَإِسْلَامُكَ يَوْمَ أَسْلَمْتَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ إِسْلَامِ الْخَطَّابِ لَوْ أَسْلَمَ، وَمَا بِي إِلَّا أَنِّي قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ إِسْلَامَكَ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِسْلَامِ الْخَطَّابِ لَوْ أَسْلَمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اذْهَبْ بِهِ يَا عَبَّاسُ إِلَى
(6/537)
رَحْلِكَ فَإِذَا أَصْبَحْتَ فَأْتِنِي بِهِ ". قَالَ: فَذَهَبْتُ بِهِ إِلَى رَحْلِي، فَبَاتَ عِنْدِي، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَوْتُ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ! أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ " فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، مَا أَحَلَمَكَ وَأَكْرَمَكَ وَأَوْصَلَكَ، وَاللَّهِ لَقَدْ ظَنَنْتُ أَنْ لَوْ كَانَ مَعَ اللَّهِ غَيْرُهُ لَقَدْ أَغْنَى عَنِّي شَيْئًا بَعْدُ. قَالَ: " وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ! أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ " قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، مَا أَحَلَمَكَ وَأَكْرَمَكَ وَأَوْصَلَكَ، أَمَّا هَذِهِ وَاللَّهِ فَإِنَّ فِي النَّفْسِ مِنْهَا حَتَّى الْآنَ شَيْئًا. فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: وَيْحَكَ! أَسْلِمْ وَاشْهَدْ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، قَبْلَ أَنْ تُضْرَبَ عُنُقُكَ. قَالَ: فَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ فَأَسْلَمَ. قَالَ الْعَبَّاسُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبُّ هَذَا الْفَخْرَ، فَاجْعَلْ لَهُ شَيْئًا. قَالَ: " نَعَمْ، «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ» - زَادَ عُرْوَةُ: " «وَمَنْ دَخَلَ دَارَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ فَهُوَ آمِنٌ» ". وَهَكَذَا قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ - وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ ". فَلَمَّا ذَهَبَ لِيَنْصَرِفَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا عَبَّاسُ، احْبِسْهُ بِمَضِيقِ الْوَادِي عِنْدَ خَطْمِ الْجَبَلِ، حَتَّى تَمُرَّ بِهِ جُنُودُ اللَّهِ فَيَرَاهَا.
وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ وَبُدَيْلًا وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ كَانُوا وُقُوفًا مَعَ الْعَبَّاسِ عِنْدَ خَطْمِ الْجَبَلِ، وَذَكَرَ أَنَّ سَعْدًا لَمَّا قَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ: الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمُ تُسْتَحَلُّ الْحُرْمَةُ. فَشَكَّى أَبُو سُفْيَانَ إِلَى
(6/538)
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَزَلَهُ عَنْ رَايَةِ الْأَنْصَارِ، وَأَعْطَاهَا الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، فَدَخَلَ بِهَا مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ وَغَرَزَهَا بِالْحَجُونِ، وَدَخَلَ خَالِدٌ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ فَلَقِيَهُ بَنُو بَكْرٍ وَهُذَيْلٌ، فَقُتِلَ مِنْ بَنِي بَكْرٍ عِشْرِينَ وَمِنْ هُذَيْلٍ ثَلَاثَةً أَوْ أَرْبَعَةً، وَانْهَزَمُوا فَقُتِلُوا بِالْحَزْوَرَةِ حَتَّى بَلَغَ قَتْلُهُمْ بَابَ الْمَسْجِدِ.
قَالَ الْعَبَّاسُ: فَخَرَجْتُ بِأَبِي سُفْيَانَ حَتَّى حَبَسْتُهُ بِمَضِيقِ الْوَادِي حَيْثُ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَحْبِسَهُ. قَالَ: وَمَرَّتِ الْقَبَائِلُ عَلَى رَايَاتِهَا، كُلَّمَا مَرَّتْ قَبِيلَةٌ قَالَ: يَا عَبَّاسُ، مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَأَقُولُ: سُلَيْمٌ. فَيَقُولُ: مَا لِي وَلِسُلَيْمٍ. ثُمَّ تَمُرُّ بِهِ الْقَبِيلَةُ فَيَقُولُ: يَا عَبَّاسُ، مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَأَقُولُ: مُزَيْنَةُ. فَيَقُولُ: مَا لِي وَلِمُزَيْنَةَ. حَتَّى نَفِدَتِ الْقَبَائِلُ، مَا تَمُرُّ بِهِ قَبِيلَةٌ إِلَّا سَأَلَنِي عَنْهَا، فَإِذَا أَخْبَرْتُهُ قَالَ: مَا لِي وَلِبَنِي فُلَانٍ. حَتَّى مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَتِيبَتِهِ الْخَضْرَاءِ وَفِيهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، لَا يُرَى مِنْهُمْ إِلَّا الْحَدَقُ مِنَ الْحَدِيدِ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! يَا عَبَّاسُ، مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: قُلْتُ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. قَالَ: مَا لِأَحَدٍ بِهَؤُلَاءِ مِنْ قِبَلٍ وَلَا طَاقَةٍ، وَاللَّهِ يَا أَبَا الْفَضْلِ لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابْنِ أَخِيكَ الْغَدَاةَ عَظِيمًا. قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَا سُفْيَانَ،
(6/539)
إِنَّهَا النُّبُوَّةُ، قَالَ: فَنِعْمَ إِذَنْ. قَالَ: قُلْتُ: النَّجَاءَ إِلَى قَوْمِكَ. حَتَّى إِذَا جَاءَهُمْ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، هَذَا مُحَمَّدٌ قَدْ جَاءَكُمْ فِيمَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ، فَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ. فَقَامْتُ إِلَيْهِ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ، فَأَخَذَتْ بِشَارِبِهِ فَقَالَتْ: اقْتُلُوا الْحَمِيتَ الدَّسِمَ الْأَحْمَسَ، قُبِّحَ مِنْ طَلِيعَةِ قَوْمٍ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَيْلَكُمْ لَا تَغُرَّنَّكُمْ هَذِهِ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَكُمْ مَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ، مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ. قَالُوا: قَاتَلَكَ اللَّهُ، وَمَا تُغْنِي عَنَّا دَارُكَ؟ قَالَ: وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ. فَتَفَرَّقَ النَّاسُ إِلَى دَوْرِهِمْ وَإِلَى الْمَسْجِدِ.
وَذَكَرَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا مَرَّ بِأَبِي سُفْيَانَ قَالَ لَهُ: إِنِّي لَأَرَى وُجُوهًا كَثِيرَةً لَا أَعْرِفُهَا، لَقَدْ كَثُرَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ عَلَيَّ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا وَقَوْمُكَ، إِنَّ هَؤُلَاءِ صَدَّقُونِي إِذْ كَذَّبْتُمُونِي، وَنَصَرُونِي إِذْ أَخْرَجْتُمُونِي ". ثُمَّ شَكَى إِلَيْهِ قَوْلَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ حِينَ مَرَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمُ تُسْتَحَلُّ الْحُرْمَةُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَذِبَ سَعْدٌ، بَلْ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللَّهُ فِيهِ الْكَعْبَةَ، وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الْكَعْبَةُ.
وَذَكَرَ عُرْوَةُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ لَمَّا أَصْبَحَ صَبِيحَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ الَّتِي كَانَ عِنْدَ
(6/540)
الْعَبَّاسِ، وَرَأَى النَّاسَ يُحَشْحِشُونَ لِلصَّلَاةِ، وَيَنْتَشِرُونَ فِي اسْتِعْمَالِ الطَّهَارَةِ خَافَ وَقَالَ لِلْعَبَّاسِ: مَا بَالُهُمْ؟ قَالَ: إِنَّهُمْ سَمِعُوا النِّدَاءَ، فَهُمْ يَنْتَشِرُونَ لِلصَّلَاةِ. فَلَمَّا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ وَرَآهُمْ يَرْكَعُونَ بِرُكُوعِهِ، وَيَسْجُدُونَ بِسُجُودِهِ قَالَ: يَا عَبَّاسُ، مَا يَأْمُرُهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا فَعَلُوهُ! قَالَ: نَعَمْ، وَاللَّهِ لَوْ أَمَرَهُمْ بِتَرْكِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ لَأَطَاعُوهُ.
وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّهُ لَمَّا تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلُوا يَتَكَفَّفُونَ، فَقَالَ: يَا عَبَّاسُ، مَا رَأَيْتُ كَاللَّيْلَةِ وَلَا مُلْكَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ.
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْجَبَّارِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ بِتَمَامِهَا كَمَا أَوْرَدَهَا زِيَادٌ الْبَكَّائِيُّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ مُنْقَطِعَةً. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بِلَالٍ الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ زِيَادٍ الْبَكَّائِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
(6/541)
قَالَ: «جَاءَ الْعَبَّاسُ بِأَبِي سُفْيَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ. فَذَكَرَ الْقِصَّةَ، إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ أَسْلَمَ مِنْ لَيْلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ ". قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَمَا تَسَعُ دَارِي؟ فَقَالَ: " وَمَنْ دَخَلَ الْكَعْبَةَ فَهُوَ آمِنٌ ". قَالَ: وَمَا تَسَعُ الْكَعْبَةُ؟ فَقَالَ: " وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ ". قَالَ: وَمَا يَسَعُ الْمَسْجِدُ؟ فَقَالَ: " وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ ". فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: هَذِهِ وَاسِعَةٌ» .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ فَبَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا، خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَبُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ، يَلْتَمِسُونَ الْخَبَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقْبَلُوا يَسِيرُونَ حَتَّى أَتَوْا مَرَّ الظَّهْرَانِ، فَإِذَا هُمْ بِنِيرَانٍ كَأَنَّهَا نِيرَانُ عَرَفَةَ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا هَذِهِ؟ كَأَنَّهَا نِيرَانُ عَرَفَةَ! فَقَالَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ: نِيرَانُ بَنِي عَمْرٍو. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: عَمْرٌو أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ. فَرَآهُمْ نَاسٌ مِنْ حَرَسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَدْرَكُوهُمْ فَأَخَذُوهُمْ، فَأَتَوْا بِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْلَمَ أَبُو سُفْيَانَ، فَلَمَّا سَارَ، قَالَ لِلْعَبَّاسِ: " احْبِسْ أَبَا سُفْيَانَ عِنْدَ خَطْمِ الْجَبَلِ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ ". فَحَبَسَهُ الْعَبَّاسُ، فَجَعَلَتِ الْقَبَائِلُ تَمُرُّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَمُرُّ كَتِيبَةً كَتِيبَةً عَلَى أَبِي سُفْيَانَ، فَمَرَّتْ كَتِيبَةٌ فَقَالَ: يَا عَبَّاسُ مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: هَذِهِ غِفَارٌ. قَالَ: مَا لِي وَلِغِفَارٍ. ثُمَّ مَرَّتْ جُهَيْنَةُ فَقَالَ
(6/542)
مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَرَّتْ سَعْدُ بْنُ هُذَيْمٍ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَمَرَّتْ سُلَيْمٌ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى أَقْبَلَتْ كَتِيبَةٌ لَمْ يَرَ مِثْلَهَا فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْأَنْصَارُ، عَلَيْهِمْ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ مَعَهُ الرَّايَةُ. فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمُ تُسْتَحَلُّ الْكَعْبَةُ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا عَبَّاسُ، حَبَّذَا يَوْمُ الذِّمَارِ. ثُمَّ جَاءَتْ كَتِيبَةٌ، وَهِيَ أَقَلُّ الْكَتَائِبِ، فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، وَرَايَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، فَلَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي سُفْيَانَ قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ مَا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ؟ فَقَالَ: " مَا قَالَ؟ " قَالَ: كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ: " كَذِبَ سَعْدٌ، وَلَكِنَّ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللَّهُ فِيهِ الْكَعْبَةَ، وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الْكَعْبَةُ " وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُرْكَزَ رَايَتُهُ بِالْحَجُونِ قَالَ عُرْوَةُ: وَأَخْبَرَنِي نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْعَبَّاسَ يَقُولُ لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ: هَاهُنَا أَمَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَرْكِزَ الرَّايَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ، وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كُدًى فَقُتِلَ مِنْ خَيْلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ يَوْمَئِذٍ رَجُلَانِ، حُبَيْشُ بْنُ الْأَشْعَرِ، وَكُرْزُ بْنُ جَابِرٍ الْفِهْرِيُّ
(6/543)
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، ثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ جَاءَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، فَأَسْلَمَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبُّ هَذَا الْفَخْرَ، فَلَوْ جَعَلْتَ لَهُ شَيْئًا؟ قَالَ: " نَعَمْ مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ» .
(6/544)
[صِفَةُ دُخُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ]
ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ، جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ. فَقَالَ: " اقْتُلُوهُ» قَالَ مَالِكٌ: وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا نَرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، مُحْرِمًا.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا عَفَّانُ، ثَنَا حَمَّادٌ، أَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ» . وَرَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ وَيَحْيَى بْنِ يَحْيَى، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ مِنْ غَيْرِ إِحْرَامٍ» .
وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ مُسَاوِرٍ الْوَرَّاقِ، «عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ
(6/545)
وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ حَرَقَانِيَّةٌ سَوْدَاءُ قَدْ أَرْخَى طَرَفَيْهَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ» .
وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ» .
وَرَوَى أَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ آدَمَ، عَنْ شَرِيكٍ الْقَاضِي، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «كَانَ لِوَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ دَخَلَ مَكَّةَ أَبْيَضَ» .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَ: «كَانَ لِوَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ أَبْيَضَ، وَرَايَتُهُ سَوْدَاءَ تُسَمَّى الْعُقَابَ، وَكَانَتْ قِطْعَةً مِنْ مِرْطٍ مُرَحَّلٍ»
(6/546)
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ قَالَ: «سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ يَقُولُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ عَلَى نَاقَتِهِ وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ " الْفَتْحِ " يُرَجِّعُ. وَقَالَ: لَوْلَا أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ حَوْلِي لَرَجَّعْتُ كَمَا رَجَّعَ» .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا انْتَهَى إِلَى ذِي طُوًى، وَقَفَ عَلَى رَاحِلَتِهِ مُعْتَجِرًا بِشُقَّةِ بُرْدٍ حِبَرَةٍ حَمْرَاءَ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَضَعُ رَأْسَهُ تَوَاضُعًا لِلَّهِ، حِينَ رَأَى مَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْفَتْحِ، حَتَّى إِنَّ عُثْنُونَهُ لَيَكَادُ يَمَسُّ وَاسِطَةَ الرَّحْلِ» .
وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَنْبَأَنَا دَعْلَجُ بْنُ أَحْمَدَ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَبَّارُ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَذَقْنُهُ
(6/547)
عَلَى رَحْلِهِ مُتَخَشِّعًا» .
وَقَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ بَالَوَيْهِ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَاعِدٍ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي الْحَارِثِ، ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ «أَنَّ رَجُلًا كَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَأَخَذَتْهُ الرِّعْدَةُ، فَقَالَ: " هَوِّنْ عَلَيْكَ، فَإِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَتْ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ» . قَالَ: وَهَكَذَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ فَارِسٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي الْحَارِثِ، مَوْصُولًا. ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ أَبِي زَكَرِيَّا الْمُزَكِّي، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ قَيْسٍ، مُرْسَلًا. قَالَ: وَهُوَ الْمَحْفُوظُ.
وَهَذَا التَّوَاضُعُ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ عِنْدَ دُخُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ، فِي مِثْلِ هَذَا الْجَيْشِ الْكَثِيفِ الْعَرَمْرَمِ، بِخِلَافِ مَا اعْتَمَدَهُ سُفَهَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، حِينَ أُمِرُوا أَنْ يَدْخُلُوا بَابَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهُمْ سُجُودٌ، أَيْ رُكَّعٌ، يَقُولُونَ: حِطَّةٌ
(6/548)
فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ: حِنْطَةٌ فِي شَعِيرَةٍ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ:، ثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ، ثَنَا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنْ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ الَّتِي بِأَعْلَى مَكَّةَ. وَتَابَعَهُ أَبُو أُسَامَةَ وَوُهَيْبٌ: فِي كَدَاءٍ» .
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ» . وَهُوَ أَصَحُّ.
إِنْ أَرَادَ أَنَّ الْمُرْسَلَ أَصَحُّ مِنَ الْمُسْنَدِ الْمُتَقَدِّمِ انْتَظَمَ الْكَلَامُ، وَإِلَّا فَكَدَاءٌ بِالْمَدِّ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي الرِّوَايَتَيْنِ، وَهِيَ فِي أَعْلَى مَكَّةَ، وَكُدًى مَقْصُورًا فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَالْأَنْسَبُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ، وَدَخَلَ هُوَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ أَسْفَلِهَا مِنْ كُدًى. وَهُوَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ". فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عَبْدَانَ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّقْرِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيِّ، ثَنَا
(6/549)
مَعْنٌ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ رَأَى النِّسَاءَ يُلَطِّمْنَ وُجُوهَ الْخَيْلِ، فَتَبَسَّمَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، كَيْفَ قَالَ حَسَّانُ؟ فَأَنْشَدَهُ أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
عَدِمْتُ بُنَيَّتِي إِنْ لَمْ تَرَوْهَا ... تُثِيرُ النَّقْعَ مِنْ كَتِفَيْ كَدَاءِ
يُنَازِعْنَ الْأَعِنَّةَ مُسْرَجَاتٍ ... يُلَطِّمُهُنَّ بِالْخُمُرِ النِّسَاءُ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْخُلُوهَا مِنْ حَيْثُ قَالَ حَسَّانُ» .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، «عَنْ جَدَّتِهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: لَمَّا وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي طُوًى، قَالَ أَبُو قُحَافَةَ لِابْنَةٍ لَهُ مِنْ أَصْغَرِ وَلَدِهِ: أَيْ بُنَيَّةُ، اظْهَرِي بِي عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ. قَالَتْ: وَقَدْ كُفَّ بَصَرُهُ. قَالَتْ: فَأَشْرَفَتْ بِهِ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّةُ، مَاذَا تَرَيْنَ؟ قَالَتْ: أَرَى سَوَادًا مُجْتَمِعًا. قَالَ: تِلْكَ الْخَيْلُ. قَالَتْ: وَأَرَى رَجُلًا يَسْعَى بَيْنَ يَدَيْ ذَلِكَ السَّوَادِ مُقْبِلًا وَمُدْبِرًا. قَالَ: أَيْ بُنَيَّةُ ذَلِكَ الْوَازِعُ. يَعْنِي الَّذِي يَأْمُرُ الْخَيْلَ وَيَتَقَدَّمُ إِلَيْهَا. ثُمَّ قَالَتْ: قَدْ وَاللَّهِ انْتَشَرَ السَّوَادُ
(6/550)
فَقَالَ قَدْ وَاللَّهِ إِذَنْ دَفَعَتِ الْخَيْلُ، فَأَسْرِعِي بِي إِلَى بَيْتِي. فَانْحَطَّتْ بِهِ، وَتَلَقَّاهُ الْخَيْلُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ بَيْتَهُ. قَالَتْ: وَفِي عُنُقِ الْجَارِيَةِ طَوْقٌ مِنْ وَرَقٍ، فَتَلَقَّاهَا رَجُلٌ فَيَقْتَطِعُهُ مِنْ عُنُقِهَا. قَالَتْ: فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، أَتَى أَبُو بَكْرٍ بِأَبِيهِ يَقُودُهُ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " هَلَّا تَرَكْتَ الشَّيْخَ فِي بَيْتِهِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا آتِيهِ فِيهِ؟ " قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ أَحَقُّ أَنْ يَمْشِي إِلَيْكَ مِنْ أَنْ تَمْشِيَ أَنْتَ إِلَيْهِ. قَالَ: فَقَالَتْ: فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ مَسَحَ صَدْرَهُ، ثُمَّ قَالَ: " أَسْلِمْ ". فَأَسْلَمَ. قَالَتْ: وَدَخَلَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَكَانَ رَأْسُهُ كَالثَّغَامَةِ بَيَاضًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " غَيِّرُوا هَذَا مِنْ شَعْرِهِ ". ثُمَّ قَامَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَخَذَ بِيَدِ أُخْتِهِ، وَقَالَ: أَنْشُدُ اللَّهَ وَالْإِسْلَامَ طَوْقَ أُخْتِي. فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، قَالَتْ فَقَالَ: أَيْ أُخَيَّةُ، احْتَسِبِي طَوْقَكِ، فَوَاللَّهِ إِنَّ الْأَمَانَةَ فِي النَّاسِ الْيَوْمَ لَقَلِيلٌ» . يَعْنِي الصِّدِّيقُ ذَلِكَ الْيَوْمَ عَلَى التَّعْيِينِ، لِأَنَّ الْجَيْشَ فِيهِ كَثْرَةٌ، وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يَلْوِي عَلَى أَحَدٍ مَعَ انْتِشَارِ النَّاسِ، وَلَعَلَّ الَّذِي أَخَذَهُ تَأَوَّلَ أَنَّهُ مِنْ حَرْبِيٍّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: ثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، ثَنَا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ، ثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَخَذَ بِيَدِ أَبِي قُحَافَةَ، فَأَتَى بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا وَقَفَ بِهِ عَلَى
(6/551)
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " غَيِّرُوهُ وَلَا تُقَرِّبُوهُ سَوَادًا» قَالَ: ابْنُ بوَهْبٍ وَأَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَنَّأَ أَبَا بَكْرٍ بِإِسْلَامِ أَبِيهِ» .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ فَرَّقَ جَيْشَهُ مِنْ ذِي طُوًى، أَمَرَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ أَنْ يَدْخُلَ فِي بَعْضِ النَّاسِ مِنْ كُدًى، وَكَانَ الزُّبَيْرُ عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْيُسْرَى، وَأَمَرَ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ أَنْ يَدْخُلَ فِي بَعْضِ النَّاسِ مِنْ كَدَاءٍ،»
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ «أَنَّ سَعْدًا حِينَ وَجَّهَ دَاخِلًا قَالَ: الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمُ تُسْتَحَلُّ الْحُرْمَةُ. فَسَمِعَهَا رَجُلٌ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يُقَالُ: إِنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَسْمَعُ مَا يَقُولُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ؟ ! مَا نَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي قُرَيْشٍ صَوْلَةٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: أَدْرِكْهُ فَخُذِ الرَّايَةَ مِنْهُ، فَكُنْ أَنْتَ تَدْخُلُ بِهَا» .
قُلْتُ: وَذَكَرَ غَيْرُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا شَكَى إِلَيْهِ أَبُو سُفْيَانَ قَوْلَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ حِينَ مَرَّ بِهِ. وَقَالَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمُ تُسْتَحَلُّ الْحُرْمَةُ - يَعْنِي الْكَعْبَةَ - فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ هَذَا يَوْمٌ تُعَظَّمُ فِيهِ الْكَعْبَةُ. وَأَمَرَ بِالرَّايَةِ - رَايَةِ الْأَنْصَارِ - أَنْ تُؤْخَذَ مِنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ»
(6/552)
كَالتَّأْدِيبِ لَهُ، وَيُقَالُ: إِنَّهَا دُفِعَتْ إِلَى ابْنِهِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ. وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: دَفَعَهَا إِلَى الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ دِينَارٍ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّرِيِّ الْأَنْطَاكِيُّ، ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّايَةَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَجَعَلَ يَهُزُّهَا وَيَقُولُ: الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، يَوْمٌ تُسْتَحَلُّ الْحُرْمَةُ. قَالَ: فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى قُرَيْشٍ وَكَبُرَ فِي نُفُوسِهِمْ. قَالَ: فَعَارَضَتِ امْرَأَةٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرِهِ وَأَنْشَأَتْ تَقُولُ:
يَا نَبِيَّ الْهُدَى إِلَيْكَ لَجَا حَ ... يُّ قُرَيْشٍ وَلَاتَ حِينَ لَجَاءِ
حِينَ ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ سَعَةُ الْأَرْ ... ضِ وَعَادَاهُمْ إِلَهُ السَّمَاءِ
وَالْتَقَتْ حَلْقَتَا الْبِطَانِ عَلَى الْقَوْ ... مِ وَنُودُوا بِالصَّيْلَمِ الصَّلْعَاءِ
(6/553)
إِنَّ سَعْدًا يُرِيدُ قَاصِمَةَ الظَّهْرِ ... بِأَهْلِ الْحَجُونِ وَالْبَطْحَاءِ
خَزْرَجِيٌّ لَوْ يَسْتَطِيعُ مِنَ الْغَيْ ... ظِ رَمَانَا بِالنَّسْرِ وَالْعَوَّاءِ
فَانْهَيَنْهُ فَإِنَّهُ الْأَسَدُ الْأَسْ ... وَدُ وَاللَّيْثُ وَالِغٌ فِي الدِّمَاءِ
فَلَئِنْ أَقْحَمَ اللِّوَاءَ وَنَادَى ... يَا حُمَاةَ اللِّوَاءِ أَهْلَ اللِّوَاءِ
لَتَكُونَنَّ بِالْبِطَاحِ قُرَيْشٌ ... بُقْعَةَ الْقَاعِ فِي أَكُفِّ الْإِمَاءِ
إِنَّهُ مُصْلَتٌ يُرِيدُ لَهَا الرَّأْ ... يَ صُمُوتٌ كَالْحَيَّةِ الصَّمَّاءِ
قَالَ: فَلَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الشِّعْرَ دَخَلَهُ رَحْمَةٌ لَهُمْ وَرَأْفَةٌ بِهِمْ، وَأَمَرَ بِالرَّايَةِ فَأُخِذَتْ مِنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَدُفِعَتْ إِلَى ابْنِهِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ،» قَالَ: فَيُرْوَى، أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَحَبَّ أَنْ لَا يُخَيِّبَهَا إِذْ رَغِبَتْ إِلَيْهِ وَاسْتَغَاثَتْ بِهِ، وَأَحَبَّ أَنْ لَا يَغْضَبَ سَعْدٌ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ مِنْهُ فَدَفَعَهَا إِلَى ابْنِهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ فِي حَدِيثِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، فَدَخَلَ مِنَ اللِّيطِ أَسْفَلَ مَكَّةَ فِي بَعْضِ النَّاسِ، وَكَانَ خَالِدٌ عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْيُمْنَى، وَفِيهَا: أَسْلَمُ، وَسُلَيْمٌ، وَغِفَارٌ، وَمُزَيْنَةُ، وَجُهَيْنَةُ، وَقَبَائِلُ مِنْ
(6/554)
قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَأَقْبَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ بِالصَّفِّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يَنْصَبُّ لِمَكَّةَ بَيِّنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ، أَذَاخِرَ حَتَّى نَزَلَ بِأَعْلَى مَكَّةَ، فَضُرِبَتْ لَهُ هُنَالِكَ قُبَّتُهُ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّهُ قَالَ زَمَنَ الْفَتْحِ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا؟ فَقَالَ: " وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رُبَاعٍ؟ ". ثُمَّ قَالَ: " لَا يَرِثُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُؤْمِنَ» .
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، ثَنَا شُعَيْبٌ، ثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْزِلُنَا - إِنْ شَاءَ اللَّهُ، إِذَا فَتَحَ اللَّهُ - الْخَيْفَ، حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا يُونُسُ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ، يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْزِلُنَا غَدًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ.» وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، بِهِ نَحْوَهُ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي
(6/555)
بَكْرٍ، أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ، وَعِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ، وَسُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو كَانُوا قَدْ جَمَعُوا نَاسًا بِالْخَنْدَمَةِ لِيُقَاتِلُوا، وَكَانَ حِمَاسُ بْنُ قَيْسِ بْنِ خَالِدٍ، أَخُو بَنِي بَكْرٍ يُعِدُّ سِلَاحًا قَبْلَ قُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُصْلِحُ مِنْهُ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: لِمَاذَا تُعِدُّ مَا أَرَى؟ قَالَ: لِمُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ. فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَرَى يَقُومُ لِمُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ شَيْءٌ. قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أُخْدِمَكِ بَعْضَهُمْ. ثُمَّ قَالَ:
إِنْ يُقْبِلُوا الْيَوْمَ فَمَا لِي عِلَّهْ ... هَذَا سِلَاحٌ كَامِلٌ وَأَلَّهْ
وَذُو غِرَارَيْنِ سَرِيعُ السَّلَّهْ
قَالَ: ثُمَّ شَهِدَ الْخَنْدَمَةَ مَعَ صَفْوَانَ وَعِكْرِمَةَ وَسُهَيْلٍ، فَلَمَّا لَقِيَهُمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَصْحَابِ خَالِدٍ، نَاوَشُوهُمْ شَيْئًا مِنْ قِتَالِ، فَقُتِلَ كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ، أَحَدُ بَنِي مُحَارِبِ بْنِ فِهْرٍ، وَخُنَيْسُ بْنُ خَالِدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَصْرَمَ، حَلِيفُ بَنِي مُنْقِذٍ، وَكَانَا فِي جَيْشِ خَالِدٍ فَشَذَّا عَنْهُ، فَسَلَكَا غَيْرَ طَرِيقِهِ، فَقُتِلَا جَمِيعًا، وَكَانَ قَبْلَ كُرْزٍ قُتِلَ خُنَيْسٌ. قَالَا: وَقُتِلَ مِنْ خَيْلِ خَالِدٍ أَيْضًا
(6/556)
سَلَمَةُ بْنُ الْمَيْلَاءِ الْجُهَنِيُّ، وَأُصِيبَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَرِيبٌ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ أَوْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، ثُمَّ انْهَزَمُوا، فَخَرَجَ حِمَاسٌ مُنْهَزِمًا حَتَّى دَخَلَ بَيْتَهُ، ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَغْلِقِي عَلَيَّ بَابِي. قَالَتْ: فَأَيْنَ مَا كُنْتَ تَقُولُ؟ فَقَالَ:
إِنَّكِ لَوْ شَهِدْتِ يَوْمَ الْخَنْدَمَهْ ... إِذْ فَرَّ صَفْوَانُ وَفَرَّ عِكْرِمَهْ
وَأَبُو يَزِيدَ قَائِمٌ كَالْمُوتَمَهْ ... وَاسْتَقْبَلَتْهُمْ بِالسُّيُوفِ الْمُسْلِمَهْ
يَقْطَعْنَ كُلَّ سَاعِدٍ وَجُمْجُمَهْ ... ضَرْبًا فَلَا يُسْمَعُ إِلَّا غَمْغَمَهْ
لَهُمْ نَهِيتٌ خَلَفَنَا وَهَمْهَمَهْ ... لَمْ تَنْطِقِي فِي اللَّوْمِ أَدْنَى كَلِمَهْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَتُرْوَى هَذِهِ الْأَبْيَاتُ لِلرَّعَّاشِ الْهُذَلِيِّ.
قَالَ: وَكَانَ شِعَارُ الْمُهَاجِرِينَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَحُنَيْنٍ وَالطَّائِفِ: يَا بَنِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَشِعَارُ الْخَزْرَجِ: يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ. وَشِعَارُ الْأَوْسِ: يَا بَنِي عُبَيْدِ اللَّهِ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ الرَّازِيُّ، ثَنَا أَبُو حَسَّانَ الزِّيَادِيُّ، ثَنَا شُعَيْبُ بْنُ صَفْوَانَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا الْبَلَدَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
(6/557)
وَصَاغَهُ يَوْمَ صَاغَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَمَا حِيَالُهُ مِنَ السَّمَاءِ حَرَامٌ، وَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَإِنَّمَا حَلَّ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَ كَمَا كَانَ ". فَقِيلَ لَهُ: هَذَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يَقْتُلُ. فَقَالَ: " قُمْ يَا فُلَانُ فَأْتِ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، فَقُلْ لَهُ فَلْيَرْفَعْ يَدَيْهِ مِنَ الْقَتْلِ ". فَأَتَاهُ الرَّجُلُ فَقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: اقْتُلْ مَنْ قَدَرْتَ عَلَيْهِ. فَقَتَلَ سَبْعِينَ إِنْسَانًا، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى خَالِدٍ فَقَالَ: " أَلَمْ أَنْهَكَ عَنِ الْقَتْلِ؟ " فَقَالَ: جَاءَنِي فُلَانٌ فَأَمَرَنِي أَنْ أَقْتُلَ مَنْ قَدَرْتُ عَلَيْهِ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: " أَلَمْ آمُرْكَ؟ " قَالَ: أَرَدْتَ أَمْرًا، وَأَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا، فَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ فَوْقَ أَمْرِكَ، وَمَا اسْتَطَعْتُ إِلَّا الَّذِي كَانَ. فَسَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا رَدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا» .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهِدَ إِلَى أُمَرَائِهِ أَنْ لَا يُقَاتِلُوا إِلَّا مَنْ قَاتَلَهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُ أَهْدَرَ دَمَ نَفَرٍ سَمَّاهُمْ، وَإِنْ وُجِدُوا تَحْتَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، كَانَ قَدْ أَسْلَمَ وَكَتَبَ الْوَحْيَ ثُمَّ ارْتَدَّ، فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ، وَقَدْ أَهْدَرَ دَمَهُ فَرَّ إِلَى عُثْمَانَ، وَكَانَ أَخَاهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَلَمَّا جَاءَ بِهِ لِيَسْتَأْمِنَ لَهُ، صَمَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَوِيلًا، ثُمَّ قَالَ: " نَعَمْ ". فَلَمَّا انْصَرَفَ مَعَ عُثْمَانَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ حَوْلَهُ: " أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَقُومُ إِلَى هَذَا حِينَ رَآنِي قَدْ صَمَتُّ فَيَقْتُلَهُ ". فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَّا أَوْمَأْتَ إِلَيْنَا؟ " فَقَالَ: " إِنَّ النَّبِيَّ لَا يَقْتُلُ بِالْإِشَارَةِ.» وَفِي رِوَايَةٍ: «إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ» .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَدْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَوَلَّاهُ عُمَرُ بَعْضَ أَعْمَالِهِ، ثُمَّ وَلَّاهُ عُثْمَانُ.
قُلْتُ: وَمَاتَ وَهُوَ سَاجِدٌ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، أَوْ بَعْدَ انْقِضَاءِ صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ غَالِبٍ - قُلْتُ: وَيُقَالُ: إِنَّ اسْمَهُ عَبْدُ الْعُزَّى بْنُ خَطَلٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ، ثُمَّ لَمَّا أَسْلَمَ سُمِّيَ عَبْدَ اللَّهِ - وَلَمَّا أَسْلَمَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصَدِّقًا وَبَعَثَ مَعَهُ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَانَ مَعَهُ مَوْلًى لَهُ فَغَضِبَ عَلَيْهِ غَضْبَةً فَقَتَلَهُ، ثُمَّ ارْتَدَّ مُشْرِكًا وَكَانَ لَهُ قَيْنَتَانِ، فَرْتَنَى وَصَاحِبَتُهَا، فَكَانَتَا تُغَنِّيَانِ بِهِجَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ، فَلِهَذَا أَهْدَرَ دَمَهُ وَدَمَ قَيْنَتَيْهِ، فَقُتِلَ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، اشْتَرَكَ فِي قَتْلِهِ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ الْمَخْزُومِيُّ، وَقُتِلَتْ إِحْدَى قَيْنَتَيْهِ وَاسْتُؤْمِنَ لِلْأُخْرَى. قَالَ: وَالْحُوَيْرِثُ بْنُ نُقَيْذِ بْنِ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ بْنِ
(6/558)
قَصَيٍّ، وَكَانَ مِمَنْ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ، وَلَمَّا تَحَمَّلَ الْعَبَّاسُ بِفَاطِمَةَ وَأُمِّ كُلْثُومٍ لِيَذْهَبَ بِهِمَا إِلَى الْمَدِينَةِ يُلْحِقُهُمَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلَ الْهِجْرَةِ، نَخَسَ بِهِمَا الْحُوَيْرِثُ هَذَا، الْجَمَلَ الَّذِي هُمَا عَلَيْهِ، فَسَقَطَتَا إِلَى الْأَرْضِ، فَلَمَّا أُهْدِرَ دَمُهُ قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. قَالَ: وَمِقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ، لِأَنَّهُ قَتَلَ قَاتِلَ أَخِيهِ خَطَأً بَعْدَمَا أَخَذَ الدِّيَةَ، ثُمَّ ارْتَدَّ مُشْرِكًا، قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ يُقَالُ لَهُ: نُمَيْلَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ: وَسَارَةُ مَوْلَاةٌ لِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَلِعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، لِأَنَّهَا كَانَتْ تُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ بِمَكَّةَ.
قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا الَّتِي تَحَمَّلَتِ الْكِتَابَ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، وَكَأَنَّهَا عُفِيَ عَنْهَا أَوْ هَرَبَتْ ثُمَّ أُهْدِرَ دَمُهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَهَرَبَتْ حَتَّى اسْتُؤْمِنَ لَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّنَهَا، فَعَاشَتْ إِلَى زَمَنِ عُمَرَ فَأَوْطَأَهَا رَجُلٌ فَرَسًا فَمَاتَتْ. وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّ فَرْتَنَى أَسْلَمَتْ أَيْضًا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأَمَّا عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، فَهَرَبَ إِلَى الْيَمَنِ، وَأَسْلَمَتِ امْرَأَتُهُ أُمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَاسْتَأْمَنَتْ لَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّنَهُ، فَذَهَبَتْ فِي طَلَبِهِ، حَتَّى أَتَتْ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْلَمَ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمِشٍ الْفَقِيهُ،
(6/560)
أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، ثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ الْهَمْدَانِيُّ، قَالَ: زَعَمَ السُّدِّيُّ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ آمَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ إِلَّا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَقَالَ: " اقْتُلُوهُمْ وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ ". وَهُمْ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ، وَمِقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ. فَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ فَأُدْرِكَ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَاسْتَبَقَ إِلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، فَسَبَقَ سَعِيدٌ عَمَّارًا، وَكَانَ أَشَبَّ الرَّجُلَيْنِ، فَقَتَلَهُ، وَأَمَّا مِقْيَسٌ فَأَدْرَكَهُ النَّاسُ فِي السُّوقِ فَقَتَلُوهُ، وَأَمَّا عِكْرِمَةُ فَرَكِبَ الْبَحْرَ فَأَصَابَتْهُمْ قَاصِفٌ، فَقَالَ أَهْلُ السَّفِينَةِ لِأَهْلِ السَّفِينَةِ: أَخْلِصُوا فَإِنَّ آلِهَتَكُمْ لَا تُغْنِي عَنْكُمْ شَيْئًا هَاهُنَا. فَقَالَ عِكْرِمَةُ: وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ يُنْجِ فِي الْبَحْرِ إِلَّا الْإِخْلَاصُ فَإِنَّهُ لَا يُنْجِي فِي الْبَرِّ غَيْرُهُ، اللَّهُمَّ إِنَّ لَكَ عَلَيَّ عَهْدًا إِنْ أَنْتَ عَافَيْتَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ، أَنْ آتِيَ مُحَمَّدًا حَتَّى أَضَعَ يَدِي فِي يَدِهِ فَلَأَجِدَنَّهُ عَفُوًّا كَرِيمًا. فَجَاءَ فَأَسْلَمَ، وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ فَإِنَّهُ اخْتَبَأَ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَلَمَّا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ جَاءَ بِهِ حَتَّى أَوْقَفَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ. بَايِعْ عَبْدَ اللَّهِ. فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَأْبَى، فَبَايَعَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى
(6/561)
أَصْحَابِهِ فَقَالَ: " أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَقُومُ إِلَى هَذَا حِينَ رَآنِي كَفَفْتُ يَدِي عَنْ بَيْعَتِهِ فَيَقْتُلُهُ؟ " فَقَالُوا: مَا يُدْرِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا فِي نَفْسِكَ، هَلَّا أَوْمَأْتَ إِلَيْنَا بِعَيْنِكَ؟ فَقَالَ: " إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ ".» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَحْمَدَ بْنِ الْمُفَضَّلِ بِهِ نَحْوَهُ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ، ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ بِشْرٍ الْكُوفِيُّ، ثَنَا الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «أَمَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ إِلَّا أَرْبَعَةً، عَبْدَ الْعُزَّى بْنَ خَطَلٍ، وَمَقْيَسَ بْنَ صُبَابَةَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَأُمَّ سَارَةَ،» فَأَمَّا عَبْدُ الْعُزَّى بْنُ خَطَلٍ فَإِنَّهُ قُتِلَ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ. قَالَ: «وَنَذَرَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَقْتُلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ إِذَا رَآهُ، وَكَانَ أَخَا عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَأَتَى بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَشْفَعَ لَهُ، فَلَمَّا بَصُرَ بِهِ الْأَنْصَارِيُّ اشْتَمَلَ عَلَى السَّيْفِ، ثُمَّ أَتَاهُ فَوَجَدَهُ فِي حَلْقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ يَتَرَدَّدُ وَيَكْرَهُ أَنْ يُقَدِمَ عَلَيْهِ، فَبَسَطَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ فَبَايَعَهُ، ثُمَّ قَالَ لِلْأَنْصَارِيِّ: " قَدِ انْتَظَرْتُكَ أَنْ تُوفِيَ بِنَذْرِكَ ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هِبْتُكَ، أَفَلَا أَوْمَضْتَ إِلَيَّ؟ قَالَ: " إِنَّهُ لَيْسَ لِلنَّبِيِّ
(6/562)
أَنْ يُومِضَ» ". وَأَمَّا مِقْيَسُ بْنُ صَبَابَةَ فَذَكَرَ قِصَّتَهُ فِي قَتْلِهِ رَجُلًا مُسْلِمًا بَعْدَ إِسْلَامِهِ، ثُمَّ ارْتِدَادِهِ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ: وَأَمَّا «أُمُّ سَارَةَ فَكَانَتْ مَوْلَاةً، لِقُرَيْشٍ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَكَتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةَ، فَأَعْطَاهَا شَيْئًا، ثُمَّ بَعَثَ مَعَهَا رَجُلٌ بِكِتَابٍ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ.» فَذَكَرَ قِصَّةَ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، أَنَّ مِقْيَسَ بْنَ صُبَابَةَ قُتِلَ أَخُوهُ هِشَامٌ يَوْمَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ يَظُنُّهُ مُشْرِكًا، فَقَدِمَ مِقْيَسٌ مُظْهِرًا لِلْإِسْلَامِ لِيَطْلُبَ دِيَةَ أَخِيهِ، فَلَمَّا أَخَذَهَا عَدَا عَلَى قَاتِلِ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ، وَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ مُشْرِكًا، فَلَمَّا أَهْدَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَهُ قُتِلَ وَهُوَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْبَيْهَقِيُّ شِعْرَهُ حِينَ قَتَلَ قَاتِلَ أَخِيهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
شَفَى النَّفْسَ مَنْ قَدْ بَاتَ بِالْقَاعِ مُسْنَدًا ... يَضَرِّجُ ثَوْبَيْهِ دِمَاءُ الْأَخَادِعِ
وَكَانَتْ هُمُومُ النَّفْسِ مِنْ قَبْلِ قَتْلِهِ ... تُلِمُّ وَتُنْسِينِي وِطَاءَ الْمَضَاجِعِ
(6/563)
قَتَلْتُ بِهِ فِهْرًا وَغَرَّمْتُ عَقْلَهُ ... سَرَاةَ بَنِي النَّجَّارِ أَرْبَابَ فَارِعِ
حَلَلْتُ بِهِ نَذْرِي وَأَدْرَكْتُ ثُؤْرَتِي ... وَكُنْتُ إِلَى الْأَوْثَانِ أَوَّلَ رَاجِعِ
قُلْتُ: وَقِيلَ: إِنَّ الْقَيْنَتَيْنِ اللَّتَيْنِ أُهْدِرَ دَمُهُمَا كَانَتَا لِمِقْيَسِ بْنِ صُبَابَةَ هَذَا، وَإِنَّ ابْنَ عَمِّهِ قَتَلَهُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَتَلَ ابْنَ خَطَلٍ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ «أَنَّ أُمَّ هَانِئٍ ابْنَةَ أَبِي طَالِبٍ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَعْلَى مَكَّةَ فَرَّ إِلَيَّ رَجُلَانِ مِنْ أَحْمَائِي مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هُمَا الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَزُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَتْ عِنْدَ هُبَيْرَةَ بْنِ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيِّ، قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيَّ أَخِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَقْتُلُهُمَا. فَأَغْلَقْتُ عَلَيْهِمَا بَابَ بَيْتِي، ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ مِنْ جَفْنَةٍ، إِنَّ فِيهَا لَأَثَرَ
(6/564)
الْعَجِينِ، وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ بِثَوْبِهِ، فَلَمَّا اغْتَسَلَ أَخَذَ ثَوْبَهُ فَتَوَشَّحَ بِهِ، ثُمَّ صَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ مِنَ الضُّحَى، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيَّ، فَقَالَ: " مَرْحَبًا وَأَهْلًا بِأُمِّ هَانِئٍ، مَا جَاءَ بِكِ؟ " فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرَ الرَّجُلَيْنِ وَخَبَرَ عَلِيٍّ فَقَالَ: " قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ وَأَمَّنَّا مَنْ أَمَّنْتِ فَلَا يَقْتُلُهُمَا» .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، «عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: مَا أَخْبَرَنَا أَحَدٌ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الضُّحَى غَيْرَ أُمِّ هَانِئٍ، فَإِنَّهَا ذَكَرَتْ أَنَّهُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ اغْتَسَلَ فِي بَيْتِهَا، ثُمَّ صَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ. قَالَتْ: وَلَمْ أَرَهُ صَلَّى صَلَاةً أَخَفَّ مِنْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ» .
وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلٍ حَدَّثَهُ «أَنَّ أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ حَدَّثَتْهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ، فَرَّ إِلَيْهَا رَجُلَانِ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ فَأَجَارَتْهُمَا، قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيَّ عَلِيٌّ فَقَالَ: أَقْتُلُهُمَا. فَلَمَّا سَمِعْتُهُ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا رَآنِي رَحَّبَ، وَقَالَ: " مَا جَاءَ بِكِ؟ " قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، كُنْتُ أَمَّنْتُ رَجُلَيْنِ مِنْ أَحْمَائِي، فَأَرَادَ عَلِيٌّ قَتْلَهُمَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ ". ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
(6/565)
غُسْلِهِ فَسَتَرَتْ عَلَيْهِ فَاطِمَةُ، ثُمَّ أَخَذَ ثَوْبًا فَالْتَحَفَ بِهِ، ثُمَّ صَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ سُبْحَةَ الضُّحَى» .
وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهَا «دَخَلَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ يَغْتَسِلُ وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ بِثَوْبٍ، فَقَالَ: " مَنْ هَذِهِ؟ " قَالَتْ: أُمُّ هَانِئٍ. قَالَ: " مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ ". قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَعَمَ ابْنُ أُمِّي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَاتِلُ رَجُلَيْنِ قَدْ أَجَرْتُهُمَا. فَقَالَ: " قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ ". قَالَتْ: ثُمَّ صَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ» ، وَذَلِكَ ضُحًى فَظَنَّ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذِهِ كَانَتْ صَلَاةَ الضُّحَى. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَتْ هَذِهِ صَلَاةُ الْفَتْحِ. وَجَاءَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ كَانَ يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ. وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى السُّهَيْلِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَنْ يَزْعُمُ أَنَّ صَلَاةَ الْفَتْحِ تَكُونُ ثَمَانِيًا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَدْ صَلَّى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يَوْمَ فَتْحِ الْمَدَائِنِ فِي إِيوَانِ كِسْرَى، ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
(6/566)
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ، «عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ بِمَكَّةَ وَاطْمَأَنَّ النَّاسُ، خَرَجَ حَتَّى جَاءَ الْبَيْتَ فَطَافَ بِهِ سَبْعًا عَلَى رَاحِلَتِهِ، يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ فِي يَدِهِ، فَلَمَّا قَضَى طَوَافَهُ دَعَا عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ فَأَخَذَ مِنْهُ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ، فَفُتِحَتْ لَهُ فَدَخَلَهَا فَوَجَدَ فِيهَا حَمَامَةً مِنْ عِيدَانٍ، فَكَسَرَهَا بِيَدِهِ ثُمَّ طَرَحَهَا، ثُمَّ وَقَفَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ وَقَدِ اسْتَكَفَّ لَهُ النَّاسُ فِي الْمَسْجِدِ» .
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى زَمْزَمَ فَاطَّلَعَ فِيهَا وَدَعَا بِمَاءٍ فَشَرِبَ مِنْهَا وَتَوَضَّأَ، وَالنَّاسُ يَبْتَدِرُونَ وَضُوءَهُ، وَالْمُشْرِكُونَ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ ذَلِكَ، وَيَقُولُونَ: مَا رَأَيْنَا مَلِكًا قَطُّ وَلَا سَمِعْنَا بِهِ - يَعْنِي مِثْلَ هَذَا -. وَأَخَّرَ الْمَقَامَ إِلَى مَقَامِهِ الْيَوْمَ وَكَانَ مُلْصَقًا بِالْبَيْتِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ فَقَالَ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، أَلَا كُلُّ مَأْثُرَةٍ أَوْ دَمٍ أَوْ مَالٍ يُدَّعَى فَهُوَ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، إِلَّا سِدَانَةَ الْبَيْتِ وَسِقَايَةَ الْحَاجِّ، أَلَا وَقَتِيلُ الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا فَفِيهِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةً، مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي
(6/567)
بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَظُّمَهَا بِالْآبَاءِ، النَّاسُ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ " ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13] الْآيَةَ كُلَّهَا (الْحُجُرَاتِ: 13) . ثُمَّ قَالَ: " يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَا تَرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ فِيكُمْ؟ " قَالُوا: خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ. قَالَ: " اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ ". ثُمَّ جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَامَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمِفْتَاحُ الْكَعْبَةِ فِي يَدِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اجْمَعْ لَنَا الْحِجَابَةَ مَعَ السِّقَايَةِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيْنَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ؟ " فَدُعِيَ لَهُ فَقَالَ: " هَاكَ مِفْتَاحُكَ يَا عُثْمَانُ، الْيَوْمُ يَوْمُ بِرٍّ وَوَفَاءٍ» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُدْعَانَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَهُوَ عَلَى دَرَجِ الْكَعْبَةِ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، أَلَا إِنَّ قَتِيلَ الْعَمْدِ الْخَطَأِ بِالسَّوْطِ أَوِ الْعَصَا فِيهِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ» وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى: «مُغَلَّظَةً فِيهَا، أَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا، أَلَا إِنَّ كُلَّ مَأْثُرَةٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَدَمٍ وَدَعْوَى - وَقَالَ مَرَّةً: وَمَالٍ - تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ سِقَايَةِ الْحَاجِّ وَسِدَانَةِ الْبَيْتِ، فَإِنِّي أَمْضَيْتُهُمَا لِأَهْلِهِمَا عَلَى مَا كَانَتْ» . وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ
(6/568)
جُدْعَانَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ جَوْشَنٍ الْغَطْفَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِهِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْبَيْتَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَرَأَى فِيهِ صُوَرَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَرَأَى إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مُصَوَّرًا فِي يَدِهِ الْأَزْلَامُ يَسْتَقْسِمُ بِهَا، فَقَالَ: قَاتَلَهُمُ اللَّهُ جَعَلُوا شَيْخَنَا يَسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ، مَا شَأْنُ إِبْرَاهِيمَ وَالْأَزْلَامِ؟! {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67] (آلِ عِمْرَانَ: 67) . ثُمَّ أَمَرَ بِتِلْكَ الصُّوَرِ كُلِّهَا فَطُمِسَتْ» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «كَانَ فِي الْكَعْبَةِ صُوَرٌ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنْ يَمْحُوَهَا، فَبَلَّ عُمَرُ ثَوْبًا وَمَحَاهَا بِهِ، فَدَخَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا فِيهَا مِنْهَا شَيْءٌ» . وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، ثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ - قَالَ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَحَوْلَ الْبَيْتِ سِتُّونَ
(6/569)
وَثَلَاثُمِائَةِ نُصُبٍ، فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ، وَيَقُولُ: " جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ، جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ» . وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ مَكَّةَ، وَعَلَى الْكَعْبَةِ ثَلَاثُمِائَةِ صَنَمٍ، فَأَخَذَ قَضِيبَهُ فَجَعَلَ يَهْوِي بِهِ إِلَى الصَّنَمِ، وَهُوَ يَهْوِي، حَتَّى مَرَّ عَلَيْهَا كُلَّهَا» .
ثُمَّ مِنْ طَرِيقِ سُوَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ وَجَدَ بِهَا ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ صَنَمًا، فَأَشَارَ إِلَى كُلِّ صَنَمٍ بِعَصَا وَقَالَ: " جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ، إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا فَكَانَ لَا يُشِيرُ إِلَى صَنَمٍ إِلَّا وَيَسْقُطُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّهُ بِعَصَاهُ» . ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا، فَالَّذِي قَبْلَهُ يُؤَكِّدُهُ.
وَقَالَ حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ: أَنْبَأَنَا أَبُو الرَّبِيعِ، عَنْ يَعْقُوبَ الْقُمِّيِّ، ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنِ ابْنِ أَبْزَى قَالَ: «لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ، جَاءَتْ عَجُوزٌ شَمْطَاءُ حَبَشِيَّةٌ تَخْمِشُ وَجْهَهَا، وَتَدْعُو بِالْوَيْلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(6/570)
تِلْكَ نَائِلَةُ، أَيِسَتْ أَنْ تُعْبَدَ بِبَلَدِكُمْ هَذَا أَبَدًا» .
وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الرِّوَايَةِ فِي إِسْنَادٍ لَهُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَطَافَ عَلَيْهَا، وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ أَصْنَامٌ مَشْدُودَةٌ بِالرَّصَاصِ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشِيرُ بِقَضِيبٍ فِي يَدِهِ إِلَى الْأَصْنَامِ وَيَقُولُ: " جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ، إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا " فَمَا أَشَارَ إِلَى صَنَمٍ فِي وَجْهِهِ إِلَّا وَقَعَ لِقَفَاهُ، وَلَا أَشَارَ إِلَى قَفَاهُ إِلَّا وَقَعَ لِوَجْهِهِ، حَتَّى مَا بَقِيَ مِنْهَا صَنَمٌ إِلَّا وَقَعَ» ، فَقَالَ تَمِيمُ بْنُ أَسَدٍ الْخُزَاعِيُّ:
وَفِي الْأَصْنَامِ مُعْتَبَرٌ وَعِلْمٌ ... لِمَنْ يَرْجُو الثَّوَابَ أَوِ الْعِقَابَا
وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فِي حَدِيثِ فَتْحِ مَكَّةَ قَالَ: «، وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَقْبَلَ إِلَى الْحَجَرِ فَاسْتَلَمَهُ، وَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَأَتَى إِلَى صَنَمٍ إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ كَانُوا يَعْبُدُونَهُ، وَفِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْسٌ، وَهُوَ آخِذٌ بِسِيَتِهَا، فَلَمَّا أَتَى عَلَى الصَّنَمِ، جَعَلَ يَطْعُنُ
(6/571)
فِي عَيْنِهِ وَيَقُولُ: " جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ، إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا " فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ أَتَى الصَّفَا، فَعَلَا عَلَيْهِ، حَتَّى نَظَرَ إِلَى الْبَيْتِ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَجَعَلَ يَحْمَدُ اللَّهَ وَيَدْعُو بِمَا شَاءَ أَنْ يَدْعُوَ» .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، ثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، ثَنَا أَبِي، ثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ، أَبَى أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ وَفِيهِ الْآلِهَةُ، فَأَمَرَ بِهَا فَأُخْرِجَتْ، فَأَخْرَجَ صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَفِي أَيْدِيهِمَا مِنَ الْأَزْلَامِ، فَقَالَ: " قَاتَلَهُمُ اللَّهُ لَقَدْ عَلِمُوا مَا اسْتَقْسَمَا بِهَا قَطُّ ". ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ، فَكَبَّرَ فِي نَوَاحِي الْبَيْتِ، وَخَرَجَ وَلَمْ يُصَلِّ» . تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، ثَنَا هَمَّامٌ، ثَنَا عَطَاءٌ، «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ وَفِيهَا سِتُّ سَوَارٍ، فَقَامَ إِلَى كُلِّ سَارِيَةٍ، وَدَعَا وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ» . وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى الْعُوذِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، ثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ بُكَيْرًا حَدَّثَهُ عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
(6/572)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَخَلَ الْبَيْتَ وَجَدَ فِيهِ صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ وَصُورَةَ مَرْيَمَ، فَقَالَ: " أَمَّا هُمْ فَقَدَ سَمِعُوا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ، هَذَا إِبْرَاهِيمُ مُصَوَّرًا، فَمَا بَالُهُ يَسْتَقْسِمُ؟!» . وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، أَخْبَرَنِي عُثْمَانُ الْجَزَرِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ مِقْسَمًا يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْتَ فَدَعَا فِي نَوَاحِيهِ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ» . تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا إِسْمَاعِيلُ، أَخْبَرَنَا لَيْثٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ، «عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ.»
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ اللَّيْثُ: ثَنَا يُونُسُ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، مُرْدِفًا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَمَعَهُ بِلَالٌ، وَمَعَهُ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، مِنَ الْحَجَبَةِ، حَتَّى أَنَاخَ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ، فَدَخَلَ وَمَعَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ
(6/573)
وَبِلَالٌ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، فَمَكَثَ فِيهِ نَهَارًا طَوِيلًا، ثُمَّ خَرَجَ فَاسْتَبَقَ النَّاسُ، فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ، فَوَجَدَ بِلَالًا وَرَاءَ الْبَابِ قَائِمًا، فَسَأَلَهُ: أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَأَشَارَ لَهُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَنَسِيتُ أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ صَلَّى مِنْ سَجْدَةٍ» .
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ هُشَيْمٍ، ثَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ وَابْنُ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، «عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْتَ وَمَعَهُ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، وَبِلَالٌ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَجَافَ عَلَيْهِمُ الْبَابَ، فَمَكَثَ فِيهِ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ خَرَجَ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ لَقِيتُ مِنْهُمْ بِلَالًا، فَقُلْتُ: أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: هَاهُنَا بَيْنَ الْأُسْطُوَانَتَيْنِ» .
قُلْتُ: وَقَدْ ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " وَغَيْرِهِ، «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي الْكَعْبَةِ تِلْقَاءَ وِجْهَةِ بَابِهَا مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، فَجَعَلَ عَمُودَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ، وَعَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ، وَثَلَاثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ، وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَائِطِ الْغَرْبِيِّ مِقْدَارَ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ» .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ
(6/574)
الْكَعْبَةَ عَامَ الْفَتْحِ وَمَعَهُ بِلَالٌ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَعَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ جُلُوسٌ بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ عَتَّابٌ: لَقَدْ أَكْرَمَ اللَّهُ أَسِيدًا أَنْ لَا يَكُونَ سَمِعَ هَذَا، فَيَسْمَعُ مِنْهُ مَا يَغِيظُهُ. فَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّهُ مُحِقٌّ لَاتَّبَعْتُهُ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَا أَقُولُ شَيْئًا، لَوْ تَكَلَّمْتُ لَأَخْبَرَتْ عَنِّي هَذِهِ الْحَصَا. فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " قَدْ عَلِمْتُ الَّذِي قُلْتُمْ ". ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُمْ. فَقَالَ الْحَارِثُ وَعَتَّابٌ: نَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، مَا اطَّلَعَ عَلَى هَذَا أَحَدٌ كَانَ مَعَنَا فَنَقُولَ: أَخْبَرَكَ» .
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي وَالِدِي، حَدَّثَنِي بَعْضُ آلِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ أَمَرَ بِلَالًا، فَعَلَا عَلَى الْكَعْبَةِ عَلَى ظَهْرِهَا، فَأَذَّنَ عَلَيْهَا بِالصَّلَاةِ، فَقَالَ بَعْضُ بَنِي سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: لَقَدْ أَكْرَمَ اللَّهُ سَعِيدًا إِذْ قَبَضَهُ قَبْلَ أَنْ يَرَى هَذَا الْأَسْوَدَ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ.»
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ قَالَ: قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا فَأَذَّنَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَوْقَ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ لِلْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ: أَلَا تَرَى إِلَى هَذَا الْعَبْدِ أَيْنَ صَعِدَ؟! فَقَالَ: دَعْهُ، فَإِنْ يَكُنِ اللَّهُ يَكْرَهُهُ، فَسَيُغَيِّرُهُ»
(6/575)
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ وَغَيْرُهُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِلَالًا عَامَ الْفَتْحِ فَأَذَّنَ عَلَى الْكَعْبَةِ لِيَغِيظَ بِهِ الْمُشْرِكِينَ» .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، «أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ كَانَ جَالِسًا، فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: لَوْ جَمَعْتُ لِمُحَمَّدٍ جَمْعًا. فَإِنَّهُ لَيُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِذَلِكَ، إِذْ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَقَالَ: " إِذًا يُخْزِيكَ اللَّهُ ". قَالَ: فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ: مَا أَيْقَنْتُ أَنَّكَ نَبِيٌّ حَتَّى السَّاعَةَ» .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ إِجَازَةً، أَنْبَأَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ الْمُقْرِئُ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيُّ، ثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «رَأَى أَبُو سُفْيَانَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي وَالنَّاسُ يَطَئُونَ عَقِبَهُ، فَقَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ: لَوْ عَاوَدْتُ هَذَا الرَّجُلَ الْقِتَالَ. فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى ضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِهِ فَقَالَ: " إِذًا يُخْزِيكَ اللَّهُ ". فَقَالَ: أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِمَّا تَفَوَّهْتُ بِهِ»
(6/576)
ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَغَيْرِهِ، عَنْ أَبِي حَامِدٍ ابْنِ الشَّرْقِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ أَعْيَنَ الْجَزَرِيُّ، ثَنَا أَبِي، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: «لَمَّا كَانَ لَيْلَةُ دَخَلَ النَّاسُ مَكَّةَ لَيْلَةَ الْفَتْحِ، لَمْ يَزَالُوا فِي تَكْبِيرٍ وَتَهْلِيلٍ وَطَوَافٍ بِالْبَيْتِ حَتَّى أَصْبَحُوا، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِهِنْدٍ: أَتَرَيْنَ هَذَا مِنَ اللَّهِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، هَذَا مِنَ اللَّهِ. قَالَ: ثُمَّ أَصْبَحَ أَبُو سُفْيَانَ فَغَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قُلْتَ لِهِنْدٍ: أَتَرَيْنَ هَذَا مِنَ اللَّهِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، هَذَا مِنَ اللَّهِ ". فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ مَا سَمِعَ قَوْلِي هَذَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ غَيْرُ هِنْدٍ» .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا إِسْحَاقُ، ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي حَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهِيَ حَرَامٌ بِحَرَامِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَلَمْ تَحْلِلْ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنَ الدَّهْرِ، لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا، إِلَّا لِمُنْشِدٍ " فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: إِلَّا الْإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ
(6/577)
لَلَقَيْنِ وَالْبُيُوتِ. فَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ: " إِلَّا الْإِذْخِرَ فَإِنَّهُ حَلَالٌ» .
وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ - هُوَ ابْنُ مَالِكٍ الْجَزَرِيُّ - عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمِثْلِ هَذَا أَوْ نَحْوَ هَذَا. وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَمِنَ الْوَجْهِ الثَّانِي أَيْضًا.
وَبِهَذَا الْحَدِيثِ وَأَمْثَالِهِ اسْتَدَلَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً، وَلِلْوَقْعَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي الْخَنْدَمَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ وَقَدْ قُتِلَ فِيهَا قَرِيبٌ مِنْ عِشْرِينَ نَفْسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَهِيَ ظَاهِرَةٌ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَالْمَشْهُورُ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا، لِأَنَّهَا لَمْ تُقْسَمْ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْفَتْحِ: «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْحَرَمَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ» وَمَوْضِعُ تَقْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ " الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا سَعِيدُ بْنُ شُرَحْبِيلَ، ثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ الْمُقْبُرِيِّ، «عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ، أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ ائْذَنْ
(6/578)
لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ، أُحَدِّثْكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ، إِنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يُعَضِّدَ بِهَا شَجَرًا، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنَ لَكُمْ. وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ. فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيْحٍ: مَاذَا قَالَ لَكَ عَمْرٌو؟ قَالَ: قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمٍ، وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ» . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ أَيْضًا وَمُسْلِمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ بِهِ نَحْوَهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الْأَثْوَعِ. قَتَلَ رَجُلًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ خُزَاعَةَ يُقَالُ لَهُ: أَحْمَرُ بَأْسًا. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ قَتَلَتْ خُزَاعَةُ ابْنَ الْأَثْوَعِ وَهُوَ بِمَكَّةَ، قَتَلَهُ خِرَاشُ بْنُ أُمَيَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ، ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ عَنِ الْقَتْلِ، لَقَدْ كَثُرَ الْقَتْلُ إِنْ نَفَعَ، لَقَدْ قَتَلْتُمْ رَجُلًا لَأَدِيَنَّهُ»
(6/579)
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَرْمَلَةَ الْأَسْلَمِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: «لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا صَنَعَ خِرَاشُ بْنُ أُمَيَّةَ قَالَ: " إِنَّ خِرَاشًا لَقَتَّالٌ» .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ الْعَدَوِيِّ قَالَ: «لَمَّا قَدِمَ عَمْرُو بْنُ الزُّبَيْرِ مَكَّةَ لِقِتَالِ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، جِئْتُهُ فَقُلْتُ لَهُ: يَا هَذَا، إِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ مَكَّةَ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، عَدَتْ خُزَاعَةُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ هُذَيْلٍ فَقَتَلُوهُ وَهُوَ مُشْرِكٌ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِينَا خَطِيبًا فَقَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهِيَ حَرَامٌ مِنْ حَرَامِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ فِيهَا دَمًا، وَلَا يَعْضِدَ فِيهَا شَجَرًا، لَمْ تَحْلِلْ لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ يَكُونُ بَعْدِي، وَلَمْ تُحْلِلْ لِي إِلَّا هَذِهِ السَّاعَةَ، غَضَبًا عَلَى أَهْلِهَا، أَلَا ثُمَّ قَدْ رَجَعَتْ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ، فَمَنْ قَالَ لَكُمْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَاتَلَ فِيهَا. فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَلَّهَا لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يُحِلَّهَا لَكُمْ. يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ، ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ عَنِ الْقَتْلِ فَلَقَدْ كَثُرَ إِنْ نَفَعَ، لَقَدْ قَتَلْتُمْ قَتِيلًا لَأَدِيَنَّهُ، فَمَنْ قُتِلَ بَعْدَ مَقَامِي هَذَا فَأَهْلُهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِنْ شَاءُوا فَدَمُ قَاتِلِهِ، وَإِنْ شَاءُوا فَعَقْلُهُ ". ثُمَّ وَدَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ الرَّجُلَ الَّذِي قَتَلَتْهُ خُزَاعَةُ، فَقَالَ عَمْرٌو لِأَبِي شُرَيْحٍ:
(6/580)
انْصَرِفْ أَيُّهَا الشَّيْخُ، فَنَحْنُ أَعْلَمُ بِحُرْمَتِهَا مِنْكَ، إِنَّهَا لَا تَمْنَعُ سَافِكَ دَمٍ، وَلَا خَالِعَ طَاعَةٍ، وَلَا مَانِعَ جِزْيَةٍ. فَقَالَ أَبُو شُرَيْحٍ: إِنِّي كُنْتُ شَاهِدًا، وَكُنْتَ غَائِبًا، وَقَدْ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَلِّغَ شَاهِدُنَا غَائِبَنَا، وَقَدْ أَبْلَغْتُكَ، فَأَنْتَ وَشَأْنُكَ» .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَلَغَنِي «أَنَّ أَوَّلَ قَتِيلٍ وَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ جُنَيْدِبُ بْنُ الْأَكْوَعِ، قَتَلَتْهُ بَنُو كَعْبٍ، فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِائَةِ نَاقَةٍ» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ حُسَيْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «لَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " كُفُّوا السِّلَاحَ، إِلَّا خُزَاعَةَ عَنْ بَنِي بَكْرٍ ". فَأَذِنَ لَهُمْ حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ قَالَ: " كُفُّوا السِّلَاحَ ". فَلَقِيَ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ رَجُلًا مِنْ بَنِي بَكْرٍ مِنْ غَدٍ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَقَتَلَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ خَطِيبًا فَقَالَ - فَرَأَيْتُهُ وَهُوَ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ قَالَ -: " إِنَّ أَعْدَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ مَنْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ، أَوْ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ، أَوْ قَتَلَ بِذُحُولِ الْجَاهِلِيَّةِ» وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ، وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا، وَقَدْ رَوَى أَهْلُ السُّنَنِ بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ، فَأَمَّا مَا فِيهِ مِنْ أَنَّهُ رَخَّصَ لِخُزَاعَةَ أَنْ تَأْخُذَ بِثَأْرِهَا مَنْ بَنِي بَكْرٍ إِلَى الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، فَلَمْ أَرَهُ
(6/581)
إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَكَأَنَّهُ - إِنْ صَحَّ - مِنْ بَابِ الِاخْتِصَاصِ لَهُمْ مِمَّا كَانُوا أَصَابُوا مِنْهُمْ لَيْلَةَ الْوَتِيرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَمُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ، كُلُّهُمْ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْبَرْصَاءِ الْخُزَاعِيِّ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ «: لَا تُغْزَى هَذِهِ بَعْدَ الْيَوْمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ بُنْدَارٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ بِهِ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ نَهْيًا، فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ كَانَ نَفْيًا، فَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: مَعْنَاهُ عَلَى كُفْرِ أَهْلِهَا.
وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ حَدِيثِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ، عَنْ أَبِيهِ مُطِيعِ بْنِ الْأَسْوَدِ الْعَدَوِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ «: لَا يُقْتَلُ قُرَشِيٌّ صَبْرًا بَعْدَ الْيَوْمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ كَالْأَوَّلِ سَوَاءً.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ «: وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ مَكَّةَ وَدَخَلَهَا،
(6/582)
قَامَ عَلَى الصَّفَا يَدْعُو وَقَدْ أَحْدَقَتْ بِهِ الْأَنْصَارُ، فَقَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: أَتُرَوْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَرْضَهُ وَبَلَدَهُ يُقِيمُ بِهَا؟ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ دُعَائِهِ قَالَ: " مَاذَا قُلْتُمْ؟ " قَالُوا: لَا شَيْءَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتَّى أَخْبَرُوهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَعَاذَ اللَّهِ، الْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ، وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ» .
وَهَذَا الَّذِي عَلَّقَهُ ابْنُ هِشَامٍ قَدْ أَسْنَدَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي " مُسْنَدِهِ " فَقَالَ: ثَنَا بَهْزٌ وَهَاشِمٌ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، وَقَالَ هَاشِمٌ: حَدَّثَنِي ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبَاحٍ، قَالَ: «وَفَدَتْ وُفُودٌ إِلَى مُعَاوِيَةَ أَنَا فِيهِمْ وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ، فَجَعَلَ بَعْضُنَا يَصْنَعُ لِبَعْضٍ الطَّعَامَ. قَالَ: وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ مَا يَدْعُونَا - قَالَ هَاشِمٌ: يُكْثِرُ أَنْ يَدْعُوَنَا - إِلَى رَحْلِهِ. قَالَ: فَقُلْتُ: أَلَا أَصْنَعُ طَعَامًا فَأَدْعُوهُمْ إِلَى رَحْلِي؟ قَالَ: فَأَمَرْتُ بِطَعَامٍ يُصْنَعُ، وَلَقِيتُ أَبَا هُرَيْرَةَ مِنَ الْعِشَاءِ. قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، الدَّعْوَةُ عِنْدِي اللَّيْلَةَ. قَالَ: أَسَبَقْتَنِي؟! - قَالَ هَاشِمٌ: قُلْتُ: نَعَمْ - قَالَ: فَدَعَوْتُهُمْ فَهُمْ عِنْدِي. قَالَ: فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَلَّا أُعْلِمُكُمْ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؟ قَالَ: فَذَكَرَ فَتْحَ مَكَّةَ. قَالَ: أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ مَكَّةَ. قَالَ: فَبَعَثَ الزُّبَيْرَ عَلَى إِحْدَى الْمُجَنِّبَتَيْنِ، وَبَعَثَ خَالِدًا عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْأُخْرَى، وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى الْحُسَّرِ، وَأَخَذُوا بَطْنَ الْوَادِي، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَتِيبَتِهِ. قَالَ: وَقَدْ وَبَّشَتْ قُرَيْشٌ أَوْبَاشَهَا
(6/583)
قَالَ: قَالُوا: نُقَدِّمُ هَؤُلَاءِ، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ شَيْءٌ كُنَّا مَعَهُمْ، وَإِنْ أُصِيبُوا أَعْطَيْنَاهُ الَّذِي سُئِلْنَا. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَنَظَرَ فَرَآنِي فَقَالَ: " يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ". فَقُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: " اهْتِفْ لِي بِالْأَنْصَارِ، وَلَا يَأْتِينِي إِلَّا أَنْصَارِيٌّ ". فَهَتَفْتُ بِهِمْ، فَجَاءُوا فَأَطَافُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَتَرَوْنَ إِلَى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ وَأَتْبَاعِهِمْ؟ " ثُمَّ قَالَ بِيَدَيْهِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى: " احْصُدُوهُمْ حَصْدًا حَتَّى تُوَافُونِي بِالصَّفَا ". قَالَ: فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَانْطَلَقْنَا، فَمَا يَشَاءُ أَحَدٌ مِنَّا أَنْ يَقْتُلَ مِنْهُمْ مَا شَاءَ، وَمَا أَحَدٌ مِنْهُمْ يُوَجِّهُ إِلَيْنَا مِنْهُمْ شَيْئًا. قَالَ: فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُبِيحَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ، لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ ". قَالَ: فَغَلَّقَ النَّاسُ أَبْوَابَهُمْ. قَالَ: وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحَجَرِ فَاسْتَلَمَهُ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ. قَالَ: وَفِي يَدِهِ قَوْسٌ، آخِذٌ بِسِيَةِ الْقَوْسِ. قَالَ: فَأَتَى فِي طَوَافِهِ عَلَى صَنَمٍ إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ يَعْبُدُونَهُ. قَالَ: فَجَعَلَ يَطْعَنُ بِهَا فِي عَيْنِهِ وَيَقُولُ: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ. قَالَ: ثُمَّ أَتَى الصَّفَا فَعَلَاهُ حَيْثُ يَنْظُرُ إِلَى الْبَيْتِ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَذْكُرُ اللَّهَ بِمَا شَاءَ أَنْ يَذْكُرَهُ وَيَدْعُوَهُ. قَالَ: وَالْأَنْصَارُ تَحْتَهُ. قَالَ: يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَمَّا الرَّجُلُ فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ وَرَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَجَاءَ الْوَحْيُ، وَكَانَ إِذَا جَاءَ لَمْ يَخْفَ عَلَيْنَا، فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يَرْفَعُ طَرْفَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى
(6/584)
يَقْضِيَ. قَالَ هَاشِمٌ: فَلَمَّا قَضَى الْوَحْيُ رَفْعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ قَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَقُلْتُمْ: أَمَا الرَّجُلُ فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ وَرَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ؟ " قَالُوا: قُلْنَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " فَمَا اسْمِي إِذًا؟! كَلَّا، إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، هَاجَرْتُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكُمْ، فَالْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ ". قَالَ: فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَبْكُونَ وَيَقُولُونَ: وَاللَّهِ مَا قُلْنَا الَّذِي قُلْنَا إِلَّا الضِّنَّ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُصَدِّقَانِكُمْ وَيَعْذِرَانِكُمْ» وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، زَادَ النَّسَائِيُّ: وَسَلَّامِ بْنِ مِسْكِينٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ الْأَنْصَارِيِّ نَزِيلِ الْبَصْرَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهِ نَحْوَهُ.
وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي - يَعْنِي بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ - «أَنَّ فَضَالَةَ بْنَ عُمَيْرِ بْنِ الْمُلَوَّحِ، يَعْنِي اللَّيْثِيَّ، أَرَادَ قَتْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عَامَ الْفَتْحِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَفَضَالَةُ؟ " قَالَ: نَعَمْ، فَضَالَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " مَاذَا كُنْتَ تُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَكَ؟ " قَالَ: لَا شَيْءَ، كُنْتُ أَذْكُرُ اللَّهَ.
(6/585)
قَالَ: فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: " اسْتَغْفِرِ اللَّهَ ". ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ، فَسَكَنَ قَلْبُهُ، فَكَانَ فَضَالَةُ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا رَفَعَ يَدَهُ عَنْ صَدْرِي حَتَّى مَا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهُ. قَالَ فَضَالَةُ: فَرَجَعْتُ إِلَى أَهْلِي، فَمَرَرْتُ بِامْرَأَةٍ كُنْتُ أَتَحَدَّثُ إِلَيْهَا فَقَالَتْ: هَلُمَّ إِلَى الْحَدِيثِ. فَقَالَ: لَا. وَانْبَعَثَ فَضَالَةُ يَقُولُ:
قَالَتْ هَلُمَّ إِلَى الْحَدِيثِ فَقُلْتُ لَا ... يَأْبَى عَلَيْكِ اللَّهُ وَالْإِسْلَامُ
أَوَمَا رَأَيْتِ مُحَمَّدًا وَقَبِيلَهُ ... بِالْفَتْحِ يَوْمَ تَكَسَّرُ الْأَصْنَامُ
لَرَأَيْتِ دِينَ اللَّهِ أَضْحَى بَيِّنًا ... وَالشِّرْكَ يَغْشَى وَجْهَهُ الْإِظْلَامُ
» قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: «خَرَجَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ يُرِيدُ جُدَّةَ لِيَرْكَبَ مِنْهَا إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ سَيِّدُ قَوْمِهِ، وَقَدْ خَرَجَ هَارِبًا مِنْكَ لِيَقْذِفَ نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ، فَأَمِّنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ. فَقَالَ: " هُوَ آمِنٌ ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَعْطِنِي آيَةً يَعْرِفُ بِهَا أَمَانَكَ. فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِمَامَتَهُ الَّتِي دَخَلَ فِيهَا مَكَّةَ، فَخَرَجَ بِهَا عُمَيْرُ حَتَّى أَدْرَكَهُ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَرْكَبَ فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ: يَا صَفْوَانُ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، اللَّهَ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ أَنْ تُهْلِكَهَا، هَذَا أَمَانٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ جِئْتُكَ بِهِ، قَالَ: وَيْلَكَ! اعْزُبْ عَنِّي فَلَا تُكَلِّمْنِي. قَالَ: أَيْ صَفْوَانُ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي،
(6/586)
أَفْضَلُ النَّاسِ وَأَبَرُّ النَّاسِ وَأَحْلَمُ النَّاسِ وَخَيْرُ النَّاسِ ابْنُ عَمِّكَ، عِزُّهُ عِزُّكَ وَشَرَفُهُ شَرَفُكَ وَمُلْكُهُ مُلْكُكَ. قَالَ: إِنِّي أَخَافُهُ عَلَى نَفْسِي. قَالَ: هُوَ أَحْلَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْرَمُ. فَرَجَعَ مَعَهُ حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ صَفْوَانُ: إِنَّ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّكَ قَدْ أَمَّنْتَنِي. قَالَ: " صَدَقَ " قَالَ: فَاجْعَلْنِي بِالْخِيَارِ فِيهِ شَهْرَيْنِ. قَالَ: " أَنْتَ بِالْخِيَارِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ» .
ثُمَّ حَكَى ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ «أَنْ فَاخِتَةَ بَنَتَ الْوَلِيدِ امْرَأَةَ صَفْوَانَ، وَأُمَّ حَكِيمٍ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ امْرَأَةَ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ [أَسْلَمَتَا] وَقَدْ ذَهَبَتْ وَرَاءَهُ إِلَى الْيَمَنِ، فَاسْتَرْجَعَتْهُ فَأَسْلَمَ، فَلَمَّا أَسْلَمَا أَقَرَّهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَهُمَا بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ.»
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: رَمَى حَسَّانُ ابْنَ الزِّبَعْرَى وَهُوَ بِنَجْرَانَ بِبَيْتٍ وَاحِدٍ مَا زَادَ عَلَيْهِ:
لَا تَعْدَمَنْ رَجُلًا أَحَلَّكَ بُغْضُهُ ... نَجْرَانَ فِي عَيْشٍ أَحَذَّ لَئِيمِ
فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ الزِّبَعْرَى، خَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ، وَقَالَ حِينَ أَسْلَمَ:
يَا رَسُولَ الْمَلِيكِ إِنَّ لِسَانِي ... رَاتِقٌ مَا فَتَقْتُ إِذْ أَنَا بُورُ
(6/587)
إِذْ أُبَارِي الشَّيْطَانَ فِي سَنَنِ الْ ... غَيِّ وَمَنْ مَالَ مَيْلَهُ مَثْبُورُ
آمَنَ اللَّحْمُ وَالْعِظَامُ لِرَبِّي ... ثُمَّ قَلْبِي الشَّهِيدُ أَنْتَ النَّذِيرُ
إِنَّنِي عَنْكَ زَاجِرٌ ثَمَّ حَيًّا ... مِنْ لُؤَيٍّ وَكُلُّهُمْ مَغْرُورُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى أَيْضًا حِينَ أَسْلَمَ:
مَنَعَ الرُّقَادَ بَلَابِلٌ وَهُمُومُ ... وَاللَّيْلُ مُعْتَلِجُ الرِّوَاقِ بَهِيمُ
مِمَّا أَتَانِي أَنَّ أَحْمَدَ لَامَنِي ... فِيهِ فَبِتُّ كَأَنَّنِي مَحْمُومُ
يَا خَيْرَ مَنْ حَمَلَتْ عَلَى أَوْصَالِهَا ... عَيْرَانَةٌ سُرُحُ الْيَدَيْنِ غَشُومُ
إِنِّي لَمُعْتَذِرٌ إِلَيْكَ مِنَ الَّذِي ... أَسْدَيْتُ إِذْ أَنَا فِي الضَّلَالِ أَهِيمُ
أَيَّامَ تَأْمُرُنِي بِأَغْوَى خُطَّةٍ ... سَهْمٌ وَتَأْمُرَنِي بِهَا مَخْزُومُ
وَأَمُدُّ أَسْبَابَ الرَّدَى وَيَقُودُنِي ... أَمْرُ الْغُوَاةِ وَأَمْرُهُمْ مَشْئُومُ
فَالْيَوْمَ آمَنَ بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ... قَلْبِي وَمُخْطِئُ هَذِهِ مَحْرُومُ
مَضَتِ الْعَدَاوَةُ وَانْقَضَتْ أَسْبَابُهَا ... وَدَعَتْ أَوَاصِرُ بَيْنَنَا وَحُلُومُ
(6/588)
فَاغْفِرْ فِدًى لَكَ وَالِدَايَ كِلَاهُمَا ... زَلَلِي فَإِنَّكَ رَاحِمٌ مَرْحُومُ
وَعَلَيْكَ مِنْ عِلْمِ الْمَلِيكِ عَلَامَةٌ ... نُورٌ أَغَرُّ وَخَاتَمٌ مَخْتُومُ
أَعْطَاكَ بَعْدَ مَحَبَّةٍ بُرْهَانَهُ ... شَرَفًا وَبُرْهَانُ الْإِلَهِ عَظِيمُ
وَلَقَدْ شَهِدْتُ بِأَنَّ دِينَكَ صَادِقٌ ... حَقٌّ وَأَنَّكَ فِي الْعِبَادِ جَسِيمُ
وَاللَّهُ يَشْهَدُ أَنَّ أَحْمَدَ مُصْطَفًى ... مُسْتَقْبَلٌ فِي الصَّالِحِينَ كَرِيمُ
قَرْمٌ عَلَا بُنْيَانُهُ مِنْ هَاشِمٍ ... فَرْعٌ تَمَكَّنَ فِي الذُّرَا وَأُرُومُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يُنْكِرُهَا لَهُ.
قُلْتُ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى السَّهْمِيُّ مِنْ أَكْبَرِ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ، وَمِنَ الشُّعَرَاءِ الَّذِينَ اسْتَعْمَلُوا قُوَاهُمْ فِي هِجَاءِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ وَالرُّجُوعِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالْقِيَامِ بِنَصْرِهِ وَالذَّبِّ عَنْهُ.
(6/589)
[مَا قِيلَ مِنَ الشِّعْرِ يَوْمَ الْفَتْحِ]
فَصْلٌ مَا قِيلَ مِنَ الشِّعْرِ يَوْمَ الْفَتْحِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ جَمِيعُ مَنْ شَهِدَ فَتْحَ مَكَّةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَشْرَةَ آلَافٍ، مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ سَبْعُمِائَةٍ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: أَلْفٌ. وَمِنْ بَنِي غِفَارٍ أَرْبَعُمِائَةٍ، وَمِنْ أَسْلَمَ أَرْبَعُمِائَةٍ، وَمِنْ مُزَيْنَةَ أَلْفٌ وَثَلَاثَةُ نَفَرٍ، وَسَائِرُهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ وَحُلَفَائِهِمْ وَطَوَائِفِ الْعَرَبِ مِنْ تَمِيمٍ وَقَيْسٍ وَأَسَدٍ. وَقَالَ عُرْوَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ الْفَتْحِ الَّذِينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ مِمَّا قِيلَ مِنَ الشِّعْرِ فِي يَوْمِ الْفَتْحِ قَوْلُ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ
عَفَتْ ذَاتُ الْأَصَابِعِ فَالْجِوَاءُ ... إِلَى عَذْرَاءَ مَنْزِلُهَا خَلَاءُ
(6/590)
دِيَارٌ مِنْ بَنِي الْحَسْحَاسِ قَفْرٌ ... تُعَفِّيهَا الرَّوَامِسُ وَالسَّمَاءُ
وَكَانَتْ لَا يَزَالُ بِهَا أَنِيسٌ ... خِلَالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ
فَدَعْ هَذَا وَلَكِنْ مَنْ لِطَيْفٍ ... يُؤَرِّقُنِي إِذَا ذَهَبَ الْعِشَاءُ
لِشَعْثَاءَ الَّتِي قَدْ تَيَّمَتْهُ ... فَلَيْسَ لِقَلْبِهِ مِنْهَا شِفَاءُ
كَأَنَّ خَبِيئَةً مِنْ بَيْتِ رَأْسٍ ... يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءُ
إِذَا مَا الْأَشْرِبَاتُ ذُكِرْنَ يَوْمًا ... فَهُنَّ لَطَيِّبِ الرَّاحِ الْفِدَاءُ
نُوَلِّيهَا الْمَلَامَةَ إِنْ أَلَمْنَا ... إِذَا مَا كَانَ مَغْثٌ أَوْ لِحَاءُ
وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا ... وَأُسْدًا مَا يُنَهْنِهُنَا اللِّقَاءُ
(6/591)
عَدِمْنَا خَيْلَنَا إِنْ لَمْ تَرَوْهَا ... تُثِيرُ النَّقْعَ مَوْعِدُهَا كَدَاءُ
يُنَازِعْنَ الْأَعِنَّةَ مُصْغِيَاتٍ ... عَلَى أَكْتَافِهَا الْأَسَلُ الظِّمَاءُ
تَظَلُّ جِيَادُنَا مُتَمَطِّرَاتٍ ... يُلَطِّمُهُنَّ بِالْخُمُرِ النِّسَاءُ
فَإِمَّا تُعْرِضُوا عَنَّا اعْتَمَرْنَا ... وَكَانَ الْفَتْحُ وَانْكَشَفَ الْغِطَاءُ
وَإِلَّا فَاصْبِرُوا لِجَلَادِ يَوْمٍ ... يُعِزُّ اللَّهُ فِيهِ مَنْ يَشَاءُ
وَجِبْرِيلٌ رَسُولُ اللَّهِ فِينَا ... وَرُوحُ الْقُدْسِ لَيْسَ لَهُ كِفَاءُ
وَقَالَ اللَّهُ قَدْ أَرْسَلْتُ عَبْدًا ... يَقُولُ الْحَقَ إِنْ نَفَعَ الْبَلَاءُ
شَهِدْتُ بِهِ فَقُومُوا صَدِّقُوهُ ... فَقُلْتُمْ لَا نَقُومُ وَلَا نَشَاءُ
وَقَالَ اللَّهُ قَدْ سَيَّرْتُ جُنْدًا ... هُمُ الْأَنْصَارُ عُرْضَتُهَا اللِّقَاءُ
لَنَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ مَعَدٍّ ... سِبَابٌ أَوْ قِتَالٌ أَوْ هِجَاءُ
فَنُحْكِمُ بِالْقَوَافِي مَنْ هَجَانَا ... وَنَضْرِبُ حِينَ تَخْتَلِطُ الدِّمَاءُ
أَلَا أَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ عَنِّي ... مُغَلْغَلَةً. فَقَدْ بَرِحَ الْخَفَاءُ
بِأَنَّ سُيُوفَنَا تَرَكَتْكَ عَبْدًا ... وَعَبْدَ الدَّارِ سَادَتُهَا الْإِمَاءُ
هَجَوْتَ مُحَمَّدًا فَأَجَبْتُ عَنْهُ ... وَعِنْدَ اللَّهِ فِي ذَاكَ الْجَزَاءُ
(6/592)
أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ ... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ
هَجَوْتَ مُبَارَكًا بَرًّا حَنِيفًا ... أَمِينَ اللَّهِ شَيْمَتُهُ الْوَفَاءُ
أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْكُمْ ... وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ
فِإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي ... لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ
لِسَانِي صَارِمٌ لَا عَيْبَ فِيهِ ... وَبَحْرِي لَا تُكَدِّرُهُ الدِّلَاءُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَالَهَا حَسَّانُ قَبْلَ الْفَتْحِ.
قُلْتُ: وَالَّذِي قَالَهُ مُتَوَجِّهٌ، لِمَا فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الْقَصِيدَةِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَأَبُو سُفْيَانَ الْمَذْكُورُ فِي الْبَيْتِ هُوَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَلَغَنِي عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «لَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّسَاءَ يُلَطِّمْنَ الْخَيْلَ بِالْخُمُرِ، تَبَسَّمَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.»
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ أَنَسُ بْنُ زُنَيْمٍ الدُّئِلِيُّ، يَعْتَذِرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا كَانَ قَالَ فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيُّ - يَعْنِي لَمَّا جَاءَ يَسْتَنْصِرُ عَلَيْهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ -:
أَأَنْتَ الَّذِي تُهْدَى مَعَدٌّ بِأَمْرِهِ ... بَلِ اللَّهُ يَهْدِيهِمْ وَقَالَ لَكَ اشْهَدِ
وَمَا حَمَلَتْ مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ رَحْلِهَا ... أَبَرَّ وَأَوْفَى ذِمَّةً مِنْ مُحَمَّدِ
(6/593)
أَحَثَّ عَلَى خَيْرٍ وَأَسْبَغَ نَائِلًا ... إِذَا رَاحَ كَالسَّيْفِ الصَّقِيلِ الْمُهَنَّدِ
وَأَكْسَى لِبُرْدِ الْخَالِ قَبْلَ ابْتِذَالِهِ ... وَأَعْطَى لِرَأْسِ السَّابِقِ الْمُتَجَرِّدِ
تَعَلَّمْ رَسُولَ اللَّهِ أَنَّكَ مُدْرِكِي ... وَأَنْ وَعِيدًا مِنْكَ كَالْأَخْذِ بِالْيَدِ
تَعَلَّمْ رَسُولَ اللَّهِ أَنَّكَ قَادِرٌ ... عَلَى كُلِّ صِرْمٍ مُتْهِمِينَ وَمُنْجِدِ
تَعَلَّمْ بِأَنَّ الرَّكْبَ رَكْبَ عُوَيْمِرٍ ... هُمُ الْكَاذِبُونَ الْمُخْلِفُو كُلِّ مَوْعِدِ
وَنَبَّوْا رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي هَجَوْتُهُ ... فَلَا حَمَلَتْ سَوْطِي إِلَيَّ إِذَنْ يَدِي
سِوَى أَنَّنِي قَدْ قُلْتُ وَيْلُ امِّ فِتْيَةٍ ... أُصِيبُوا بِنَحْسٍ لَا بِطَلْقٍ وَأَسْعُدِ
أَصَابَهُمُ مَنْ لَمْ يَكُنْ لِدِمَائِهِمْ ... كِفَاءً فَعَزَّتْ عَبْرَتِي وَتَبَلُّدِي
وَإِنَّكَ قَدْ أَخْفَرْتَ إِنْ كُنْتَ سَاعِيًا ... بِعَبْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنَةِ مَهْوَدِ
(6/594)
ذُؤَيْبٌ وَكُلْثُومٌ وَسَلْمَى تَتَابَعُوا ... جَمِيعًا فَإِنْ لَا تَدْمَعِ الْعَيْنُ أَكْمَدِ
وَسَلْمَى وَسَلْمَى لَيْسَ حَيٌّ كَمِثْلِهِ ... وَإِخْوَتُهُ وَهَلْ مُلُوكٌ كَأَعْبُدِ
فَإِنِّيَ لَا دِينًا فَتَقْتُ وَلَا دَمًا ... هَرَقْتُ تَبَيَّنْ عَالِمَ الْحَقِّ وَاقْصِدِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ بُجَيْرُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى فِي يَوْمِ الْفَتْحِ:
نَفَى أَهْلَ الْحَبَلَّقِ كُلَّ فَجٍّ ... مُزَيْنَةُ غُدْوَةً وَبَنُو خُفَافِ
ضَرَبْنَاهُمْ بِمَكَةَ يَوْمَ فَتْحِ النَّ ... بِيِّ الْخَيْرِ بِالْبِيضِ الْخِفَافِ
صَبَحْنَاهُمْ بِسَبْعٍ مِنْ سُلَيْمٍ ... وَأَلْفٍ مِنْ بَنِي عُثْمَانَ وَافِ
نَطَأْ أَكْتَافَهُمْ ضَرْبًا وَطَعْنًا ... وَرَشْقًا بِالْمُرَيَّشَةِ اللِّطَافِ
تَرَى بَيْنَ الْصُفُوفِ لَهَا حَفَيْفًا ... كَمَا انْصَاعَ الْفُوَاقُ مِنَ الرِّصَافِ
فَرُحْنَا وَالْجِيَادُ تَجُولُ فِيهِمْ ... بِأَرْمَاحٍ مُقَوَّمَةِ الثِّقَافِ
فَأُبْنَا غَانِمِينَ بِمَا اشْتَهَيْنَا ... وَآبُوا نَادِمِينَ عَلَى الْخِلَافِ
(6/595)
وَأَعْطَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ مِنَّا ... مَوَاثِقَنَا عَلَى حُسْنِ التَّصَافِي
وَقَدْ سَمِعُوا مَقَالَتَنَا فَهَمُّوا ... غَدَاةَ الرَّوْعِ مِنَّا بِانْصِرَافِ
وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ فِي فَتْحِ مَكَّةَ:
مِنَّا بِمَكْةَ يَوْمَ فَتْحِ مُحَمَّدٍ ... أَلْفٌ تَسِيلُ بِهِ الْبِطَاحُ مُسَوَّمُ
نَصَرُوا الرَّسُولَ وَشَاهَدُوا آيَاتِهِ ... وَشِعَارُهُمْ يَوْمَ اللِّقَاءِ مُقَدَّمُ
فِي مَنْزِلٍ ثَبَتَتْ بِهِ أَقْدَامُهُمْ ... ضَنْكٍ كَأَنَّ الْهَامَ فِيهِ الْحَنْتَمُ
جَرَّتْ سَنَابِكَهَا بِنَجْدٍ قَبْلَهَا ... حَتَّى اسْتَقَامَ لَهَا الْحِجَازُ الْأَدْهَمُ
اللَّهُ مَكَّنَهُ لَهُ وَأَذَلَّهُ ... حُكْمُ السُّيُوفِ لَنَا وَجَدٌّ مِزْحَمُ
عَوْدُ الرِّيَاسَةِ شَامِخٌ عِرْنِينُهُ ... مُتَطَلِّعٌ ثُغَرَ الْمَكَارِمِ خِضْرِمُ
وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ فِي سَبَبِ إِسْلَامِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ، أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يَعْبُدُ صَنَمًا مِنْ حِجَارَةٍ يُقَالُ لَهُ: ضِمَارٌ. فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَوْصَاهُ بِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ
(6/596)
يَوْمًا يَخْدِمُهُ إِذْ سَمِعَ صَوْتًا مِنْ جَوْفِهِ وَهُوَ يَقُولُ:
قُلْ لِلْقَبَائِلِ مِنْ سُلَيْمٍ كُلِّهَا ... أَوْدَى ضِمَارُ وَعَاشَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ
إِنَّ الَّذِي وَرِثَ النُّبُوَّةَ وَالْهُدَى ... بَعْدَ ابْنِ مَرْيَمَ مِنْ قُرَيْشٍ مُهْتَدِي
أَوْدَى ضِمَارُ وَكَانَ يُعْبَدُ مَرَّةً ... قَبْلَ الْكِتَابِ إِلَى النَّبِيِّ مُحَمَّدِ
قَالَ: فَحَرَّقَ عَبَّاسٌ ضِمَارًا، ثُمَّ لَحِقَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ بِكَمَالِهَا فِي بَابِ هَوَاتِفِ الْجَانِّ، مَعَ أَمْثَالِهَا وَأَشْكَالِهَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
(6/597)
[بَعْثَةُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بَعْدَ الْفَتْحِ]
بَعْثُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ بَعْدَ الْفَتْحِ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ مِنْ كِنَانَةَ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي حَكِيمُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ حِينَ افْتَتَحَ مَكَّةَ دَاعِيًا، وَلَمْ يَبْعَثْهُ مُقَاتِلًا، وَمَعَهُ قَبَائِلُ مِنَ الْعَرَبِ، سُلَيْمُ بْنُ مَنْصُورِ وَمُدْلِجُ بْنُ مُرَّةَ، فَوَطِئُوا بَنِي جَذِيمَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ، فَلَمَّا رَآهُ الْقَوْمُ أَخَذُوا السِّلَاحَ، فَقَالَ خَالِدٌ: ضَعُوا السِّلَاحَ، فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ أَسْلَمُوا» .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ بَنِي جَذِيمَةَ قَالَ: لَمَّا أَمَرَنَا خَالِدٌ أَنْ نَضَعَ السِّلَاحَ، قَالَ رَجُلٌ مِنَّا - يُقَالُ لَهُ: جَحْدَمٌ -: وَيَلَكُمُ يَا بَنِي جَذِيمَةَ، إِنَّهُ خَالِدٌ، وَاللَّهِ مَا بَعْدَ وَضْعِ السِّلَاحِ إِلَّا الْإِسَارُ، وَمَا بَعْدَ الْإِسَارِ إِلَّا ضَرْبُ الْأَعْنَاقِ، وَاللَّهِ لَا أَضَعُ سِلَاحِي أَبَدًا. قَالَ: فَأَخَذَهُ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَقَالُوا: يَا جَحْدَمٌ، أَتُرِيدُ أَنْ تَسْفِكَ دِمَاءَنَا؟ إِنَّ النَّاسَ قَدْ أَسْلَمُوا
(6/598)
وَوُضِعَتِ الْحَرْبُ، وَأَمِنَ النَّاسُ. فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى نَزَعُوا سِلَاحَهُ، وَوَضَعَ الْقَوْمُ سِلَاحَهُمْ لِقَوْلِ خَالِدٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي حَكِيمُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: «فَلَمَّا وَضَعُوا السِّلَاحَ أَمَرَ بِهِمْ خَالِدٌ عِنْدَ ذَلِكَ، فَكُتِفُوا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى السَّيْفِ، فَقَتَلَ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ، فَلَمَّا انْتَهَى الْخَبَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ» .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ «انْفَلَتَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَلْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ؟ " فَقَالَ: نَعَمْ، قَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ رَجُلٌ أَبْيَضُ رَبْعَةٌ، فَنَهَمَهُ خَالِدٌ، فَسَكَتَ عَنْهُ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ طَوِيلٌ مُضْطَرِبٌ، فَرَاجَعَهُ فَاشْتَدَّتْ مُرَاجَعَتُهُمَا، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَمَّا الْأَوَّلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَابْنِي عَبْدُ اللَّهِ، وَأَمَّا الْآخَرُ
(6/599)
فَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ» .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي حَكِيمُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، قَالَ: ثُمَّ «دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: " يَا عَلِيُّ، اخْرُجْ إِلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، فَانْظُرْ فِي أَمْرِهِمْ، وَاجْعَلْ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيْكَ ". فَخَرَجَ عَلِيٌّ حَتَّى جَاءَهُمْ وَمَعَهُ مَالٌ قَدْ بَعَثَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَدَى لَهُمُ الدِّمَاءَ وَمَا أُصِيبَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَدِي مِيلَغَةَ الْكَلْبِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ دَمٍ وَلَا مَالٍ إِلَّا وَدَاهُ، بَقِيَتْ مَعَهُ بَقِيَّةٌ مِنَ الْمَالِ، فَقَالَ لَهُمْ عَلِيٌّ حِينَ فَرَغَ مِنْهُمْ: هَلْ بَقِيَ لَكُمْ دَمٌ أَوْ مَالٌ لَمْ يُودَ لَكُمْ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَإِنِّي أُعْطِيكُمْ هَذِهِ الْبَقِيَّةَ مِنْ هَذَا الْمَالِ احْتِيَاطًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا لَا نَعْلَمُ وَلَا تَعْلَمُونَ. فَفَعَلَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: " أَصَبْتَ وَأَحْسَنْتَ ". ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ قَائِمًا شَاهِرًا يَدَيْهِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيُرَى مَا تَحْتَ مَنْكِبَيْهِ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ " ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.»
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَنْ «يَعْذُرُ خَالِدًا: إِنَّهُ قَالَ: مَا قَاتَلْتُ حَتَّى أَمَرَنِي بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ
(6/600)
أَمَرَكَ أَنْ تُقَاتِلَهُمْ لِامْتِنَاعِهِمْ مِنَ الْإِسْلَامِ» . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَالَ أَبُو عَمْرٍو الْمَدِينِيُّ: لَمَّا أَتَاهُمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ قَالُوا: صَبَأْنَا صَبَأْنَا. وَهَذِهِ مُرْسَلَاتٌ وَمُنْقَطِعَاتٌ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، ثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي - أَحْسَبُهُ قَالَ - جَذِيمَةَ. فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا. فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: صَبَأْنَا صَبَأْنَا. وَجَعَلَ خَالِدٌ بِهِمْ أَسْرًا وَقَتْلًا. قَالَ: وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرًا، حَتَّى إِذَا أَصْبَحَ يَوْمًا أَمَرَ خَالِدٌ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَقْتُلُ أَسِيرِي، وَلَا يَقْتُلُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِي أَسِيرَهُ. قَالَ: فَقَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ صَنِيعَ خَالِدٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ " مَرَّتَيْنِ» . وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ نَحْوَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ قَالَ لَهُمْ جَحْدَمٌ لَمَّا رَأَى مَا يَصْنَعُ بِهِمْ خَالِدٌ: يَا بَنِي جَذِيمَةَ، ضَاعَ الضَّرْبُ، قَدْ كُنْتُ حَذَّرْتُكُمْ مَا وَقَعْتُمْ فِيهِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ «: وَقَدْ كَانَ بَيْنَ خَالِدٍ وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - فِيمَا بَلَغَنِي -
(6/601)
كَلَامٌ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: عَمِلْتَ بِأَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا ثَأَرْتُ بِأَبِيكَ. فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: كَذَبْتَ، قَدْ قَتَلْتُ قَاتِلَ أَبِي، وَلَكِنَّكَ ثَأَرْتَ بِعَمِّكَ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. حَتَّى كَانَ بَيْنَهُمَا شَرٌّ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " مَهْلًا يَا خَالِدُ، دَعْ عَنْكَ أَصْحَابِي، فَوَاللَّهِ لَوْ كَانَ لَكَ أُحُدٌ ذَهَبًا ثُمَّ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَا أَدْرَكْتَ غَدْوَةَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِي وَلَا رَوْحَتَهُ» .
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ قِصَّةَ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، عَمِّ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فِي خُرُوجِهِ هُوَ وَعَوْفِ بْنِ عَبْدِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ، وَمَعَهُ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَعَفَّانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَمَعَهُ ابْنُهُ عُثْمَانُ فِي تِجَارَةٍ إِلَى الْيَمَنِ، وَرُجُوعِهِمْ وَمَعَهُمْ مَالٌ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ كَانَ هَلَكَ بِالْيَمَنِ، فَحَمَلُوهُ إِلَى وَرَثَتِهِ، فَادَّعَاهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: خَالِدُ بْنُ هِشَامٍ. وَلَقِيَهُمْ بِأَرْضِ بَنِي جَذِيمَةَ فَطَلَبَهُ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَصِلُوا إِلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ، فَقَاتَلَهُمْ فَقَاتَلُوهُ، حَتَّى قُتِلَ عَوْفٌ وَالْفَاكِهُ وَأُخِذَتْ أَمْوَالُهُمَا، وَقَتَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَاتِلَ أَبِيهِ خَالِدَ بْنَ هِشَامٍ، وَفَرَّ مِنْهُمْ عَفَّانُ وَمَعَهُ ابْنُهُ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ، فَهَمَّتْ قُرَيْشٌ بِغَزْوِ بَنِي جَذِيمَةَ، فَبَعَثَتْ بَنُو جَذِيمَةَ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَنْ مَلَأٍ مِنْهُمْ، وَوَدَوْا لَهُمُ الْقَتِيلَيْنِ وَأَمْوَالَهُمَا، وَوَضَعُوا الْحَرْبَ بَيْنَهُمْ.
يَعْنِي فَلِهَذَا قَالَ خَالِدٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: إِنَّمَا ثَأَرْتُ بِأَبِيكَ. يَعْنِي حِينَ قَتَلَتْهُ بَنُو جَذِيمَةَ، فَأَجَابَهُ بِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ ثَأْرَهُ وَقَتَلَ قَاتِلَهُ، وَرَدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ إِنَّمَا ثَأَرَ
(6/602)
بِعَمِّهِ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ حِينَ قَتَلُوهُ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُ، وَالْمَظْنُونُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُقَالُ هَذَا فِي وَقْتِ الْمُخَاصَمَةِ، فَإِنَّمَا أَرَادَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ نُصْرَةَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخْطَأَ فِي أَمْرٍ، وَاعْتَقَدَ أَنَّهُمْ يَنْتَقِصُونَ الْإِسْلَامَ بِقَوْلِهِمْ: صَبَأْنَا صَبَأْنَا. وَلَمْ يَفْهَمْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَسْلَمُوا، فَقَتَلَ طَائِفَةً كَثِيرَةً مِنْهُمْ وَأَسَرَ بَقِيَّتَهُمْ، وَقَتَلَ أَكْثَرَ الْأَسْرَى أَيْضًا، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَعْزِلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلِ اسْتَمَرَّ بِهِ أَمِيرًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَبَرَّأَ مِنْهُ فِي صَنِيعِهِ ذَلِكَ، وَوَدَى مَا كَانَ جَنَاهُ خَطَأً فِي دَمٍ أَوْ مَالٍ، فَفِيهِ دَلِيلٌ لِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ خَطَأَ الْإِمَامِ يَكُونُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لَا فِي مَالِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِهَذَا لَمْ يَعْزِلْهُ الصِّدِّيقُ حِينَ قَتَلَ مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ أَيَّامَ الرِّدَّةِ، وَتَأَوَّلَ عَلَيْهِ مَا تَأَوَّلَ حِينَ ضَرَبَ عُنُقَهُ وَاصْطَفَى امْرَأَتَهُ أُمَّ تَمِيمٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: اعْزِلْهُ، فَإِنَّ فِي سَيْفِهِ رَهَقًا. فَقَالَ الصِّدِّيقُ: لَا أَغْمِدُ سَيْفًا سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: كُنْتُ يَوْمَئِذٍ فِي خَيْلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَقَالَ فَتًى مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ، وَهُوَ فِي سِنِّي، وَقَدْ جُمِعَتْ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ بِرُمَّةٍ، وَنِسْوَةٌ مُجْتَمِعَاتٌ غَيْرَ بَعِيدٍ مِنْهُ: يَا فَتَى، فَقُلْتُ: مَا تَشَاءُ؟ قَالَ: هَلْ
(6/603)
أَنْتَ آخِذٌ بِهَذِهِ الرُّمَّةِ، فَقَائِدِي إِلَى هَؤُلَاءِ النِّسْوَةِ حَتَّى أَقْضِيَ إِلَيْهِنَّ حَاجَةً، ثُمَّ تَرُدَّنِي بَعْدُ، فَتَصْنَعُوا بِي مَا بَدَا لَكُمْ؟ قَالَ: قُلْتُ: وَاللَّهِ لَيَسِيرٌ مَا طَلَبْتَ. فَأَخَذْتُ بِرُمَّتِهِ فَقُدْتُهُ بِهَا، حَتَّى وَقَفْتُهُ عَلَيْهِنَّ فَقَالَ: اسْلَمِي حُبَيْشْ عَلَى نَفَدِ الْعَيْشْ:
أَرَيْتُكِ إِذْ طَالَبْتُكُمْ فَوَجَدْتُكُمْ ... بِحَلْيَةَ أَوْ أَلْفَيْتُكُمْ بِالْخَوَانِقِ
أَلَمْ يَكُ أَهْلًا أَنْ يُنَوَّلَ عَاشِقٌ ... تَكَلَّفَ إِدْلَاجَ السُّرَى وَالْوَدَائِقِ
فَلَا ذَنْبَ لِي قَدْ قُلْتُ إِذْ أَهْلُنَا مَعًا ... أَثَيِبِي بِوُدٍّ قَبْلَ إِحْدَى الصَّفَائِقِ
أَثِيبِي بِوُدٍّ قَبْلَ أَنْ تَشْحَطَ النَّوَى ... وَيَنْأَى الْأَمِيرُ بِالْحَبِيبِ الْمُفَارِقِ
فَإِنِّيَ لَا ضَيَّعْتُ سِرَّ أَمَانَةٍ ... وَلَا رَاقَ عَيْنِي عَنْكِ بَعْدَكِ رَائِقُ
سِوَى أَنَّ مَا نَالَ الْعَشِيرَةَ شَاغِلٌ ... عَنِ الْوُدِّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ التَّوَامُقُ
قَالَتْ: وَأَنْتَ فَحُيِّيتَ عَشْرَا، وَتِسْعًا وَتْرَا، وَثَمَانِيًا تَتْرَى.
قَالَ: ثُمَّ انْصَرَفْتُ بِهِ، فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي أَبُو فِرَاسِ
(6/604)
بْنُ أَبِي سُنْبُلَةَ الْأَسْلَمِيُّ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْهُمْ، عَمَّنْ كَانَ حَضَرَهَا مِنْهُمْ، قَالُوا: فَقَامَتْ إِلَيْهِ حِينَ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ فَأَكَبَّتْ عَلَيْهِ، فَمَا زَالَتْ تُقَبِّلُهُ حَتَّى مَاتَتْ عِنْدَهُ.
وَرَوَى الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ مُسَاحِقٍ، أَنَّهُ «سَمِعَ رَجُلًا مَنْ مُزَيْنَةَ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ عِصَامٍ. عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً قَالَ: إِذَا رَأَيْتُمْ مَسْجِدًا أَوْ سَمِعْتُمْ مُؤَذِّنًا فَلَا تَقْتُلُوا أَحَدًا قَالَ: فَبَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ وَأَمَرَنَا بِذَلِكَ، فَخَرَجْنَا قِبَلَ تِهَامَةَ، فَأَدْرَكْنَا رَجُلًا يَسُوقُ بِظَعَائِنَ، فَقُلْنَا لَهُ: أَسْلِمْ. فَقَالَ: وَمَا الْإِسْلَامُ؟ فَأَخْبَرْنَاهُ بِهِ، فَإِذَا هُوَ لَا يَعْرِفُهُ، قَالَ: أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ لَمْ أَفْعَلْ، مَا أَنْتُمْ صَانِعُونَ؟ قَالَ: قُلْنَا: نَقْتُلُكَ. فَقَالَ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْظَرِيَّ حَتَّى أُدْرِكَ الظَّعَائِنَ؟ قَالَ: قُلْنَا: نَعَمْ، وَنَحْنُ مُدْرِكُوكَ. قَالَ: فَأَدْرَكَ الظَّعَائِنَ فَقَالَ: اسْلَمِي حُبَيْشْ قَبْلَ نَفَادِ الْعَيْشْ. فَقَالَتِ الْأُخْرَى: اسْلَمْ عَشْرَا، وَتِسْعًا وَتْرَا، وَثَمَانِيًا تَتْرَى، ثُمَّ ذَكَرَ الشِّعْرَ الْمُتَقَدِّمَ إِلَى قَوْلِهِ:
وَيَنْأَى الْأَمِيرُ بِالْحَبِيبِ الْمُفَارِقِ
. ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْنَا فَقَالَ: شَأْنُكُمْ. قَالَ: فَقَدَّمْنَاهُ، فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ. قَالَ: فَانْحَدَرَتِ الْأُخْرَى مِنْ هَوْدَجِهَا، فَحَنَّتْ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَتْ» .
ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيِّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ
(6/605)
بْنِ حَرْبٍ الْمَرْوَزِيُّ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً فَغَنِمُوا، وَفِيهِمْ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي لَسْتُ مِنْهُمْ، إِنِّي عَشِقْتُ امْرَأَةً فَلَحِقْتُهَا، فَدَعُونِي أَنْظُرْ إِلَيْهَا نَظْرَةً، ثُمَّ اصْنَعُوا بِي مَا بَدَا لَكُمْ. قَالَ: فَإِذَا امْرَأَةٌ أَدْمَاءُ طَوِيلَةٌ، فَقَالَ لَهَا: اسْلَمِي حُبَيْشْ قَبْلَ نَفَادِ الْعَيْشْ. ثُمَّ ذَكَرَ الْبَيْتَيْنِ بِمَعْنَاهُمَا. قَالَ: فَقَالَتْ: نَعَمْ فَدَيْتُكَ. قَالَ: فَقَدَّمُوهُ فَضَرَبُوا عُنُقَهُ، فَجَاءَتِ الْمَرْأَةُ فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ، فَشَهِقَتْ شَهْقَةً أَوْ شَهْقَتَيْنِ ثُمَّ مَاتَتْ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَحِيمٌ؟» .
(6/606)
[بَعْثُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ لِهَدْمِ الْعُزَّى]
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَكَانَ هَدْمُهَا لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ عَامَئِذٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: «ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى الْعُزَّى، وَكَانَتْ بَيْتًا بِنَخْلَةَ يُعَظِّمُهُ قُرَيْشٌ وَكِنَانَةُ وَمُضَرُ، وَكَانَ سَدَنَتُهَا وَحُجَّابُهَا مِنْ بَنِي شَيْبَانَ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ حُلَفَاءُ بَنِي هَاشِمٍ، فَلَمَّا سَمِعَ حَاجِبُهَا السُّلَمِيُّ بِمَسِيرِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَيْهَا عَلَّقَ سَيْفَهُ عَلَيْهَا، ثُمَّ اشْتَدَّ فِي الْجَبَلِ الَّذِي هِيَ فِيهِ وَهُوَ يَقُولُ:
أَيَا عُزَّ شُدِّي شَدَّةً لَا شَوَى لَهَا ... عَلَى خَالِدٍ أَلْقِي الْقِنَاعَ وَشَمِّرِي
أَيَا عُزَّ إِنْ لَمْ تَقْتُلِي الْمَرْءَ خَالِدًا ... فَبُوئِي بِإِثْمٍ عَاجِلٍ أَوْ تَنَصَّرِي
قَالَ: فَلَمَّا انْتَهَى خَالِدٌ إِلَيْهَا هَدَمَهَا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» .
وَقَدْ رَوَى الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُ «أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَهَا خَالِدٌ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ فَهَدَمَهَا، وَرَجَعَ فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا رَأَيْتَ؟ قَالَ: لَمْ أَرَ
(6/607)
شَيْئًا. فَأَمَرَهُ بِالرُّجُوعِ، فَلَمَّا رَجَعَ خَرَجَتْ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الْبَيْتِ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ نَاشِرَةٌ شَعْرَهَا تُوَلْوِلُ، فَعَلَاهَا بِالسَّيْفِ وَجَعَلَ يَقُولُ:
يَا عُزَّ كُفْرَانَكِ لَا سُبْحَانَكِ ... إِنِّي رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ أَهَانَكِ
ثُمَّ خَرَّبَ ذَلِكَ الْبَيْتَ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ، وَأَخَذَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْأَمْوَالِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، ثُمَّ رَجَعَ فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: تِلْكَ الْعُزَّى وَلَا تُعْبَدُ أَبَدًا.»
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْفَقِيهُ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، ثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ فُضَيْلٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ جُمَيْعٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: «لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى نَخْلَةَ، وَكَانَتْ بِهَا الْعُزَّى، فَأَتَاهَا، وَكَانَتْ عَلَى ثَلَاثِ سَمُرَاتٍ، فَقَطَعَ السَّمُرَاتِ وَهَدَمَ الْبَيْتَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهَا، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: ارْجِعْ فَإِنَّكَ لَمْ تَصْنَعْ شَيْئًا فَرَجَعَ خَالِدٌ، فَلَمَّا نَظَرَتْ إِلَيْهِ السَّدَنَةُ وَهُمْ حُجَّابُهَا، أَمْعَنُوا هَرَبًا فِي الْجَبَلِ وَهُمْ يَقُولُونَ: يَا عُزَّى خَبِّلِيهِ، يَا عَزَّى عَوِّرِيهِ، وَإِلَّا فَمُوتِي بِرُغْمٍ. قَالَ: فَأَتَاهَا خَالِدٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ عُرْيَانَةٌ نَاشِرَةٌ شَعْرَهَا، تَحْثُو التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهَا وَوَجْهِهَا، فَعَمَّمَهَا بِالسَّيْفِ حَتَّى قَتَلَهَا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: تِلْكَ الْعُزَّى» .
(6/608)
[مُدَّةُ إِقَامَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَكَّةَ]
فَصْلٌ فِي مُدَّةِ إِقَامَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِمَكَّةَ لَا خِلَافَ أَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَقَامَ بَقِيَّةَ شَهْرِ رَمَضَانَ يَقْصُرَ الصَّلَاةَ وَيُفْطِرُ، وَهَذَا دَلِيلُ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا لَمْ يُجْمِعِ الْإِقَامَةَ فَلَهُ أَنْ يَقْصُرَ وَيُفْطِرَ إِلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، ثَنَا سُفْيَانُ (ح) وَحَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ «أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أَقَمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرًا نَقْصُرُ الصَّلَاةَ» . وَقَدْ رَوَاهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ الْحَضْرَمِيِّ الْبَصْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ بِهِ نَحْوَهُ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا عَبْدَانُ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَنْبَأَنَا عَاصِمٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ» . وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ - زَادَ الْبُخَارِيُّ: وَحُصَيْنٌ
(6/609)
كِلَاهُمَا - وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهِ. وَفِي لَفْظٍ لِأَبِي دَاوُدَ: سَبْعَ عَشْرَةَ.
وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، ثَنَا أَبُو شِهَابٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَقَمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ تِسْعَ عَشْرَةَ نَقْصُرُ الصَّلَاةَ» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَنَحْنُ نَقْصُرُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ تِسْعَ عَشْرَةَ، فَإِذَا زِدْنَا أَتْمَمْنَا.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: «غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَهِدْتُ مَعَهُ الْفَتْحَ، فَأَقَامَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً لَا يُصَلِّي إِلَّا رَكْعَتَيْنِ،» يَقُولُ: «يَا أَهْلَ الْبَلَدِ صَلُّوا أَرْبَعًا فَإِنَّا سَفْرٌ» وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ
(6/610)
بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
ثُمَّ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً يَقْصُرُ الصَّلَاةَ.» ثُمَّ قَالَ: رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، لَمْ يَذْكُرُوا ابْنَ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَعَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَغَيْرِهِمْ قَالُوا: «أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً» .
(6/611)
[فِيمَا حَكَمَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ]
فَصْلٌ فِيمَا حَكَمَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ مِنَ الْأَحْكَامِ
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ح) وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدٍ أَنْ يَقْبِضَ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، وَقَالَ عُتْبَةُ: إِنَّهُ ابْنِي. فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ فِي الْفَتْحِ، أَخَذَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، فَأَقْبَلَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقْبَلَ مَعَهُ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ: هَذَا ابْنُ أَخِي عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُ ابْنُهُ. قَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا أَخِي، هَذَا ابْنُ زَمْعَةَ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ. فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، فَإِذَا هُوَ أَشْبَهُ النَّاسِ بِعُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هُوَ لَكَ، هُوَ أَخُوكَ يَا عَبْدَ بْنَ زَمْعَةَ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ " وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ» . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: قَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(6/612)
«الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُصَرِّحُ بِذَلِكَ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، جَمِيعًا عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ بِهِ. وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِهِ، وَانْفَرَدَ الْبُخَارِيُّ بِرِوَايَتِهِ لَهُ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، «أَنَّ امْرَأَةً سَرَقَتْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ، فَفَزِعَ قَوْمُهَا إِلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ يَسْتَشْفِعُونَهُ. قَالَ عُرْوَةُ: فَلَمَّا كَلَّمَهُ أُسَامَةُ فِيهَا، تَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: " أَتُكَلِّمُنِي فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟ " فَقَالَ أُسَامَةُ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ النَّاسَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ
(6/614)
فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا ". ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ فَقُطِعَتْ يَدُهَا، فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَتَزَوَّجَتْ، قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَتْ تَأْتِينِي بَعْدَ ذَلِكَ فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ بِهِ.
وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ حَدِيثِ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُتْعَةِ عَامَ الْفَتْحِ حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ، ثُمَّ لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى نَهَانَا عَنْهَا» وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالَ: «أَلَا إِنَّهَا حَرَامٌ مِنْ يَوْمِكُمْ هَذَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَفِي رِوَايَةٍ فِي " مُسْنَدِ أَحْمَدَ " وَ " السُّنَنِ " أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي الْعُمَيْسِ، «عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ،
(6/614)
عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: رَخَّصَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ أَوَطَاسٍ فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ ثَلَاثًا، ثُمَّ نَهَانَا عَنْهَا» .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَعَامُ أَوَطَاسٍ هُوَ عَامُ الْفَتْحِ، فَهُوَ وَحَدِيثُ سَبْرَةَ سَوَاءٌ.
قُلْتُ: مَنْ أَثْبَتَ النَّهْيَ عَنْهَا فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ قَالَ: إِنَّهَا أُبِيحَتْ مَرَّتَيْنِ وَحُرِّمَتْ مَرَّتَيْنِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا أُبِيحَتْ وَحُرِّمَتْ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّتَيْنِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: إِنَّهَا إِنَّمَا حُرِّمَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَهِيَ هَذِهِ الْمَرَّةُ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا إِنَّمَا أُبِيحَتْ لِلضَّرُورَةِ. فَعَلَى هَذَا إِذَا وُجِدَتْ ضَرُورَةً أُبِيحَتْ، وَهَذَا رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَقِيلَ: بَلْ لَمْ تُحَرَّمْ مُطْلَقًا، وَهِيَ عَلَى الْإِبَاحَةِ. هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ وَطَائِفَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمَوْضِعُ تَحْرِيرِ ذَلِكَ فِي " الْأَحْكَامِ ".
(6/615)
[مُبَايَعَةُ النَّبِيِّ النَّاسَ يَوْمَ الْفَتْحِ]
فَصْلٌ مُبَايَعَةُ النَّبِيِّ النَّاسَ يَوْمَ الْفَتْحِ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، ثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْأَسْوَدِ بْنِ خَلَفٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ الْأَسْوَدَ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَايِعُ النَّاسَ يَوْمَ الْفَتْحِ. قَالَ: جَلَسَ عِنْدَ قَرْنِ مَسْقَلَةَ، فَبَايَعَ النَّاسَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالشَّهَادَةِ. قَالَ: قُلْتُ: وَمَا الشَّهَادَةُ؟ قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ خَلَفٍ أَنَّهُ بَايَعَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ وَعِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ: فَجَاءَهُ النَّاسُ، الْكِبَارُ وَالصِّغَارُ، وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، فَبَايَعَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالشَّهَادَةِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ ثُمَّ اجْتَمَعَ النَّاسُ بِمَكَّةَ لِبَيْعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَجَلَسَ لَهُمْ - فِيمَا بَلَغَنِي - عَلَى الصَّفَا، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَسْفَلَ مِنْ مَجْلِسِهِ، فَأَخَذَ عَلَى النَّاسِ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فِيمَا اسْتَطَاعُوا. قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيْعَةِ الرِّجَالِ بَايَعَ النِّسَاءَ، وَفِيهِنَّ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ
(6/616)
مُتَنَقِّبَةً مُتَنَكِّرَةً بِحَدِيثِهَا، لِمَا كَانَ مِنْ صَنِيعِهَا بِحَمْزَةَ، فَهِيَ تَخَافُ أَنْ يَأْخُذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَدَثِهَا ذَلِكَ، فَلَمَّا دَنَيْنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُبَايِعَهُنَّ قَالَ: " بَايِعْنَنِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا " فَقَالَتْ هِنْدُ: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَأْخُذُ عَلَيْنَا مَا لَا تَأْخُذُهُ عَلَى الرِّجَالِ. قَالَ: " وَلَا تَسْرِقْنَ ". فَقَالَتْ: وَاللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أَصَبْتُ مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ الْهِنَةَ بَعْدَ الْهِنَةِ، وَمَا كُنْتُ أَدْرِي أَكَانَ ذَلِكَ عَلَيْنَا حَلَالًا لِي أَمْ لَا؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ، وَكَانَ شَاهِدًا لِمَا تَقُولُ: أَمَّا مَا أَصَبْتِ فِيمَا مَضَى فَأَنْتِ مِنْهُ فِي حَلٍّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَإِنَّكِ لَهِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ؟ ! " قَالَتْ: نَعَمْ، فَاعْفُ عَمَّا سَلَفَ، عَفَا اللَّهُ عَنْكَ. ثُمَّ قَالَ: " وَلَا تَزْنِينَ " فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهَلْ تَزْنِي الْحُرَّةُ؟! ثُمَّ قَالَ: " وَلَا تَقْتُلْنَ أَوْلَادَكُنَّ ". قَالَتْ: قَدْ رَبَّيْنَاهُمْ صِغَارًا، وَقَتَلْتَهُمْ بِبَدْرٍ كِبَارًا، فَأَنْتَ وَهُمْ أَعْلَمُ. فَضَحِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَتَّى اسْتَغْرَبَ، ثُمَّ قَالَ: " وَلَا تَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ تَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُنَّ وَأَرْجُلِكُنَّ ". فَقَالَتْ: وَاللَّهِ إِنَّ إِتْيَانَ الْبُهْتَانِ لَقَبِيحٌ، وَلَبَعْضُ
(6/617)
التَّجَاوُزِ أَمْثَلُ. ثُمَّ قَالَ: " وَلَا تَعْصِينَنِي ". فَقَالَتْ: فِي مَعْرُوفٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ: " بَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَبَايَعَهُنَّ عُمَرُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُصَافِحُ النِّسَاءَ، وَلَا يَمَسُّ إِلَّا امْرَأَةً أَحَلَّهَا اللَّهُ لَهُ، أَوْ ذَاتَ مَحْرَمٍ مِنْهُ.
وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " «عَنْ عَائِشَةَ، رِضَى اللَّهِ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ. وَفِي رِوَايَةٍ: مَا كَانَ يُبَايِعُهُنَّ إِلَّا كَلَامًا وَيَقُولُ: إِنَّمَا قَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ كَقَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ» .
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ عَائِشَةَ، «أَنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ امْرَأَةَ أَبِي سُفْيَانَ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، لَا يُعْطِينِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ، فَهَلْ عَلَيَّ مِنْ حَرَجٍ إِذَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ؟ قَالَ: " خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ» .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ، مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، «أَنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ قَالَتْ:
(6/618)
يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كَانَ مِمَّا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَخْبَاءٌ أَوْ أَهْلُ خِبَاءٍ - الشَّكُّ مِنَ ابْنِ بُكَيْرٍ - أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ أَخْبَائِكَ - أَوْ خِبَائِكَ - ثُمَّ مَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَهْلُ أَخْبَاءٍ - أَوْ خِبَاءٍ - أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ أَخْبَائِكَ - أَوْ خِبَائِكَ -. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَأَيْضًا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ". قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مَسِيكٌ، فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ أَطْعَمَ مِنَ الَّذِي لَهُ؟ قَالَ: " لَا، إِلَّا بِالْمَعْرُوفِ» وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ بِنَحْوِهِ، وَتَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِإِسْلَامِ أَبِي سُفْيَانَ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: لَا هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا» وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عُثْمَانِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَمُسْلِمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، عَنْ جَرِيرٍ.
(6/619)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا عَفَّانُ، ثَنَا وُهَيْبٌ، ثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، «عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ هَاجَرَ. فَقُلْتُ لَهُ: لَا أَدْخُلُ مَنْزِلِي حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْأَلُهُ. فَأَتَيْتُهُ فَذَكَرْتُ لَهُ فَقَالَ: لَا هِجْرَةَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، ثَنَا الْفُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، ثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدَيِّ، «عَنْ مُجَاشِعِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: انْطَلَقْتُ بِأَبِي مَعْبَدٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُبَايِعَهُ عَلَى الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: مَضَتِ الْهِجْرَةُ لِأَهْلِهَا، أُبَايِعُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ فَلَقِيتُ أَبَا مَعْبَدٍ فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: صَدَقَ مُجَاشِعٌ. وَقَالَ خَالِدٌ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ مُجَاشِعٌ، أَنَّهُ جَاءَ بِأَخِيهِ مُجَالِدٍ» .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، ثَنَا زُهَيْرٌ، ثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: «حَدَّثَنِي مُجَاشِعٌ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَخِي بَعْدَ يَوْمِ الْفَتْحِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِئْتُكَ بِأَخِي لِتُبَايِعَهُ عَلَى الْهِجْرَةِ، قَالَ: " ذَهَبَ أَهْلُ
(6/620)
الْهِجْرَةِ بِمَا فِيهَا " فَقُلْتُ: عَلَى أَيِّ شَيْءٍ تُبَايِعُهُ؟ قَالَ: " أُبَايِعُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ فَلَقِيتُ أَبَا مَعْبَدٍ بَعْدُ، وَكَانَ أَكْبَرَهُمَا سِنًّا، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: صَدَقَ مُجَاشِعٌ» .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، ثَنَا غُنْدَرٌ، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: أُرِيدُ أَنْ أُهَاجِرَ إِلَى الشَّامِ. فَقَالَ: لَا هِجْرَةَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ، انْطَلِقْ فَاعْرِضْ نَفْسَكَ، فَإِنْ وَجَدْتَ شَيْئًا وَإِلَّا رَجَعْتَ. وَقَالَ أَبُو النَّضْرِ: أَنَا شُعْبَةُ، أَنَا أَبُو بِشْرٍ، سَمِعْتُ مُجَاهِدًا قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ: لَا هِجْرَةَ الْيَوْمَ - أَوْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. . . مِثْلَهُ.
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يَزِيدَ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنِي أَبُو عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يَزِيدَ، أَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، أَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: زُرْتُ عَائِشَةَ مَعَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، فَسَأَلَهَا عَنِ الْهِجْرَةِ
(6/621)
فَقَالَتْ: لَا هِجْرَةَ الْيَوْمَ، كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَفِرُّ أَحَدُهُمْ بِدِينِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَخَافَةَ أَنْ يُفْتَنَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ، فَالْمُؤْمِنُ يَعْبُدُ رَبَّهُ حَيْثُ يَشَاءُ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ.
وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْهِجْرَةَ - إِمَّا الْكَامِلَةَ أَوْ مُطْلَقًا - قَدِ انْقَطَعَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، لِأَنَّ النَّاسَ دَخَلُوا فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، وَظَهَرَ الْإِسْلَامُ وَثَبَتَتْ أَرْكَانُهُ وَدَعَائِمُهُ، فَلَمْ تَبْقَ هِجْرَةٌ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَعْرِضَ حَالٌ يَقْتَضِي الْهِجْرَةَ بِسَبَبِ مُجَاوَرَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى إِظْهَارِ الدِّينِ عِنْدَهُمْ، فَتَجِبُ الْهِجْرَةُ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْهِجْرَةَ لَيْسَتْ كَالْهِجْرَةِ قَبْلَ الْفَتْحِ، كَمَا أَنَّ كُلًّا مِنَ الْجِهَادِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَشْرُوعٌ وَمُرَغَّبٌ فِيهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَكِنْ لَيْسَ كَالْإِنْفَاقِ وَلَا الْجِهَادِ قَبْلَ الْفَتْحِ، فَتْحِ مَكَّةَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10] الْآيَةَ (الْحَدِيدِ: 10) .
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ الطَّائِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 1]
(6/622)
(النَّصْرِ: 1 - 3) . قَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى خَتَمَهَا، وَقَالَ: النَّاسُ حَيِّزٌ وَأَنَا وَأَصْحَابِي حَيِّزٌ» وَقَالَ: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ.» فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: كَذَبْتَ. وَعِنْدَهُ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ قَاعِدَانِ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: لَوْ شَاءَ هَذَانَ لَحَدَّثَاكَ، وَلَكِنَّ هَذَا يَخَافُ أَنْ تَنْزِعَهُ عَنْ عِرَافَةِ قَوْمِهِ، وَهَذَا يَخْشَى أَنْ تَنْزِعَهُ عَنِ الصَّدَقَةِ. فَرَفَعَ مَرْوَانُ عَلَيْهِ الدِّرَّةَ لِيَضْرِبَهُ، فَلَمَّا رَأَيَا ذَلِكَ قَالَا: صَدَقَ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ، فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ: لِمَ تُدْخِلُ هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ؟ فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ مِمَّنْ قَدْ عَلِمْتُمْ. فَدَعَاهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَدْخَلَهُ مَعَهُمْ. فَمَا رُئِيتُ أَنَّهُ أَدْخَلَنِي فِيهِمْ يَوْمَئِذٍ إِلَّا لِيُرِيَهُمْ، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نَصَرَنَا وَفَتَحَ عَلَيْنَا. وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، فَقَالَ لِي: أَكَذَاكَ تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَقُلْتُ: لَا. فَقَالَ: مَا تَقُولُ؟ فَقُلْتُ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(6/623)
أَعْلَمَهُ لَهُ، قَالَ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] فَذَلِكَ عَلَامَةُ أَجَلِكَ، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 3] قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَقُولُ» . تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ. وَهَكَذَا رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ فَسَّرَ ذَلِكَ بِنَعْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَجَلِهِ. وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، ثَنَا عَطَاءٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي. بِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ فِي تِلْكَ السَّنَةِ» . تَفَرَّدَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَفِي إِسْنَادِهِ عَطَاءُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ، وَفِيهِ ضَعْفٌ، تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَفِي لَفْظِهِ نَكَارَةٌ شَدِيدَةٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ بِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَهَذَا بَاطِلٌ، فَإِنَّ الْفَتْحَ كَانَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ فِي رَمَضَانَ مِنْهَا، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ. وَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ، بِلَا خِلَافٍ أَيْضًا.
(6/624)
وَهَكَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ: ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الْوَكِيعِيُّ، ثَنَا أَبِي، ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، عَنْ أَبِي الْعُمَيْسِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي الْجَهْمِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ جَمِيعًا: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] فِيهِ نَكَارَةٌ أَيْضًا، وَفِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ أَيْضًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَنَّهَا آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ جَمِيعُهَا كَمَا قَالَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، «عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ - قَالَ لِي أَبُو قِلَابَةَ: أَلَا تَلْقَاهُ فَتَسْأَلَهُ فَلَقِيتُهُ فَسَأَلْتُهُ - قَالَ: كُنَّا بِمَاءٍ مَمَرَّ النَّاسِ، وَكَانَ يَمُرُّ بِنَا الرُّكْبَانُ فَنَسْأَلُهُمْ مَا لِلنَّاسِ مَا لِلنَّاسِ؟ مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ فَيَقُولُونَ: يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ وَأَوْحَى إِلَيْهِ كَذَا. فَكُنْتُ أَحْفَظُ ذَاكَ الْكَلَامَ، فَكَأَنَّمَا يُغْرِي فِي صَدْرِي، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَلَوَّمُ بِإِسْلَامِهِمُ الْفَتْحَ، فَيَقُولُونَ: اتْرُكُوهُ وَقَوْمَهُ، فَإِنَّهُ إِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَهُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ. فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ أَهْلِ الْفَتْحِ بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلَامِهِمْ، وَبَدَرَ أَبِي قَوْمِي بِإِسْلَامِهِمْ. فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: جِئْتُكُمْ وَاللَّهِ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ حَقًّا، قَالَ: صَلُّوا
(6/625)
صَلَاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، وَصَلَاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرُ قُرْآنًا مِنِّي، لِمَا كُنْتُ أَتَلَقَّى مِنَ الرُّكْبَانِ، فَقَدَّمُونِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَأَنَا ابْنُ سِتٍّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ، وَكَانَتْ عَلَيَّ بُرْدَةٌ إِذَا سَجَدْتُ تَقَلَّصَتْ عَنِّي. فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْحَيِّ: أَلَا تُغَطُّونَ عَنَّا اسْتَ قَارِئِكُمْ؟ فَاشْتَرَوْا، فَقَطَعُوا لِي قَمِيصًا، فَمَا فَرِحْتُ بِشَيْءٍ فَرَحِي بِذَلِكَ الْقَمِيصِ» . تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ.
(6/626)
[غَزْوَةُ هَوَازِنَ يَوْمَ حُنَيْنٍ]
[اسْتِعْدَادُ الْفَرِيقَيْنِ لِلْغَزْوَةِ]
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 25]
[التَّوْبَةِ: 25 - 27] . وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ فِي كِتَابِهِ أَنَّ خُرُوجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هَوَازِنَ بَعْدَ الْفَتْحِ فِي خَامِسِ شَوَّالٍ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَزَعَمَ أَنَّ الْفَتْحَ كَانَ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَيْهِمْ بِخَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَبِهِ قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ
(7/5)
فِي " تَارِيخِهِ ".
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هَوَازِنَ لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ شَوَّالٍ، فَانْتَهَى إِلَى حُنَيْنٍ فِي عَاشِرِهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ. فَانْهَزَمُوا، فَكَانَ أَوَّلَ مَنِ انْهَزَمَ بَنُو سُلَيْمٍ، ثُمَّ أَهْلُ مَكَّةَ ثُمَّ بَقِيَّةُ النَّاسِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَلَمَّا سَمِعَتْ هَوَازِنُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ مَكَّةَ جَمَعَهَا مَلِكُهَا مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مَعَ هَوَازِنَ ثَقِيفٌ كُلُّهَا، وَاجْتَمَعَتْ نَصْرُ، وَجُشَمُ كُلُّهَا وَسَعْدُ بْنُ بَكْرٍ وَنَاسٌ مِنْ بَنِي هِلَالٍ وَهُمْ قَلِيلٌ، وَلَمْ يَشْهَدْهَا مِنْ قَيْسِ عَيْلَانَ إِلَّا هَؤُلَاءِ، وَغَابَ عَنْهَا وَلَمْ يَحْضُرْهَا مِنْ هَوَازِنَ كَعْبٌ وَكِلَابٌ، وَلَمْ يَشْهَدْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ لَهُ اسْمٌ، وَفِي بَنِي جُشَمَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ شَيْخٌ كَبِيرٌ، لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ إِلَّا التَّيَمُّنَ بِرَأْيِهِ وَمَعْرِفَتَهُ بِالْحَرْبِ، وَكَانَ شَيْخًا مُجَرَّبًا، وَفِي ثَقِيفٍ سَيِّدَانِ لَهُمْ، وَفِي الْأَحْلَافِ قَارِبُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مُعَتِّبٍ وَفِي بَنِي مَالِكٍ ذُو الْخِمَارِ سُبَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ وَأَخُوهُ أَحْمَرُ بْنُ الْحَارِثِ وَجِمَاعُ أَمْرِ النَّاسِ إِلَى مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النَّصْرِيِّ فَلَمَّا أَجْمَعَ السَّيْرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَطَّ مَعَ النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ، فَلَمَّا نَزَلَ بِأَوْطَاسٍ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ وَفِيهِمْ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ فِي شِجَارٍ لَهُ يُقَادُ بِهِ،
(7/6)
فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ بِأَيِّ وَادٍ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: بِأَوْطَاسٍ. قَالَ نِعْمَ مَجَالُ الْخَيْلِ، لَا حَزْنٌ ضَرِسٌ، وَلَا سَهْلٌ دَهِسٌ، مَا لِي أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ، وَنُهَاقَ الْحَمِيِرِ، وَبُكَاءَ الصَّغِيرِ، وَيُعَارَ الشَّاءِ؟! قَالُوا: سَاقَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ مَعَ النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ. قَالَ: أَيْنَ مَالِكٌ؟ قَالُوا: هَذَا مَالِكٌ. وَدُعِيَ لَهُ. قَالَ: يَا مَالِكُ إِنَّكَ قَدْ أَصْبَحْتَ رَئِيسَ قَوْمِكَ، وَإِنَّ هَذَا يَوْمٌ كَائِنٌ لَهُ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَيَّامِ، مَا لِي أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ، وَنُهَاقَ الْحَمِيِرِ، وَبُكَاءَ الصَّغِيرِ، وَيُعَارَ الشَّاءِ؟ قَالَ: سُقْتُ مَعَ النَّاسِ أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ. قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أَجْعَلَ خَلْفَ كُلِّ رَجُلٍ أَهْلَهُ وَمَالَهُ لِيُقَاتِلَ عَنْهُمْ. قَالَ: فَأَنْقَضَ بِهِ. ثُمَّ قَالَ: رَاعِي ضَأْنٍ وَاللَّهِ، هَلْ يَرُدُّ الْمُنْهَزِمَ شَيْءٌ؟ إِنَّهَا إِنْ كَانَتْ لَكَ لَمْ يَنْفَعْكَ إِلَّا رَجُلٌ بِسَيْفِهِ وَرُمْحِهِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْكَ فُضِحْتَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ. ثُمَّ قَالَ: مَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلَابٌ؟ قَالَ: لَمْ يَشْهَدْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ. قَالَ: غَابَ الْحَدُّ وَالْجِدُّ، لَوْ كَانَ يَوْمَ عَلَاءٍ وَرِفْعَةٍ لَمْ تَغِبْ عَنْهُ كَعْبٌ وَكِلَابٌ، وَلَوَدِدْتُ أَنَّكُمْ فَعَلْتُمْ مَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلَابٌ، فَمَنْ شَهِدَهَا مِنْكُمْ؟ قَالُوا: عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ وَعَوْفُ بْنُ عَامِرٍ. قَالَ: ذَانِكَ الْجَذَعَانِ مِنْ عَامِرٍ لَا يَنْفَعَانِ وَلَا يَضُرَّانِ. ثُمَّ قَالَ: يَا مَالِكُ
(7/7)
إِنَّكَ لَمْ تَصْنَعْ بِتَقْدِيمِ الْبَيْضَةِ بَيْضَةِ هَوَازِنَ إِلَى نُحُورِ الْخَيْلِ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ دُرَيْدٌ لِمَالِكِ بْنِ عَوْفٍ: ارْفَعْهُمْ إِلَى مُتَمَنَّعِ بِلَادِهِمْ وَعُلْيَا قَوْمِهِمْ، ثُمَّ أَلْقِ الصُّبَىَّ عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ، فَإِنْ كَانَتْ لَكَ لَحِقَ بِكَ مَنْ وَرَاءَكَ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْكَ أَلْفَاكَ ذَلِكَ وَقَدْ أَحْرَزْتَ أَهْلَكَ وَمَالَكَ. قَالَ وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ، إِنَّكَ قَدْ كَبِرْتَ وَكَبِرَ عَقْلُكَ. ثُمَّ قَالَ مَالِكٌ: وَاللَّهِ لَتُطِيعُنَّنِي يَا مَعْشَرَ هَوَازِنَ أَوْ لَأَتَّكِئَنَّ عَلَى هَذَا السَّيْفِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ ظَهْرِي - وَكَرِهَ أَنْ يَكُونَ لِدُرَيْدٍ فِيهَا ذِكْرٌ أَوْ رَأْيٌ - فَقَالُوا: أَطَعْنَاكَ. فَقَالَ دُرَيْدٌ: هَذَا يَوْمٌ لَمْ أَشْهَدْهُ وَلَمْ يَفُتْنِي:
يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ ... أَخُبُّ فِيهَا وَأَضَعْ
أَقُودُ وَطْفَاءَ الزَّمَعْ ... كَأَنَّهَا شَاةٌ صَدَعْ
ثُمَّ قَالَ مَالِكٌ لِلنَّاسِ: إِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَاكْسِرُوا جُفُونَ سُيُوفِكُمْ، ثُمَّ شِدُّوا شَدَّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَحَدَّثَنِي أُمَيَّةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ أَنَّهُ حَدَّثَ أَنَّ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ بَعَثَ عُيُونًا مِنْ رِجَالِهِ، فَأَتَوْهُ وَقَدْ تَفَرَّقَتْ أَوْصَالُهُمْ، فَقَالَ: وَيْلَكُمْ، مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: رَأَيْنَا رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ، فَوَاللَّهِ مَا تَمَاسَكْنَا أَنْ أَصَابَنَا مَا تَرَى. فَوَاللَّهِ مَا رَدَّهُ ذَلِكَ عَنْ وَجْهِهِ أَنْ مَضَى عَلَى مَا يُرِيدُ.
(7/8)
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ «وَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثَ إِلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيَّ وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْخُلَ فِي النَّاسِ فَيُقِيمَ فِيهِمْ حَتَّى يَعْلَمَ عِلْمَهُمْ، ثُمَّ يَأْتِيَهُ بِخَبَرِهِمْ، فَانْطَلَقَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ فَدَخَلَ فِيهِمْ فَأَقَامَ فِيهِمْ حَتَّى سَمِعَ وَعَلِمَ مَا قَدْ أَجْمَعُوا لَهُ مِنْ حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَمِعَ مِنْ مَالِكٍ وَأَمْرِ هَوَازِنَ مَا هُمْ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ» . «فَلَمَّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّيْرَ إِلَى هَوَازِنَ ذُكِرَ لَهُ أَنَّ عِنْدَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ أَدْرَاعًا لَهُ وَسِلَاحًا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ فَقَالَ: " يَا أَبَا أُمَيَّةَ أَعِرْنَا سِلَاحَكَ هَذَا نَلْقَ فِيهِ عَدُوَّنَا غَدًا ". فَقَالَ صَفْوَانُ: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: " بَلْ عَارِيَةً مَضْمُونَةً حَتَّى نُؤَدِّيَهَا إِلَيْكَ ". قَالَ: لَيْسَ بِهَذَا بَأْسٌ. فَأَعْطَاهُ مِائَةَ دِرْعٍ بِمَا يَكْفِيهَا مِنَ السِّلَاحِ، فَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ أَنْ يَكْفِيَهُمْ حَمْلَهَا فَفَعَلَ» هَكَذَا أَوْرَدَ هَذَا ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ غَيْرِ إِسْنَادٍ.
وَقَدْ رَوَى يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَالزُّهْرِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِمْ - قِصَّةَ حُنَيْنٍ فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ، وَقِصَّةَ الْأَدْرَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِيهِ «أَنَّ ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ لَمَّا رَجَعَ فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ هَوَازِنَ كَذَّبَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ ابْنُ أَبِي
(7/9)
حَدْرَدٍ: لَئِنْ كَذَّبْتَنِي يَا عُمَرُ فَرُبَّمَا كَذَّبْتَ بِالْحَقِّ. فَقَالَ عُمَرُ: أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: " قَدْ كُنْتَ ضَالًّا فَهَدَاكَ اللَّهُ» .
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَنْبَأَنَا شَرِيكٌ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَارَ مِنْهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَدْرَاعًا فَقَالَ: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ؟ فَقَالَ: " بَلْ عَارِيَةً مَضْمُونَةً» قَالَ: فَضَاعَ بَعْضُهَا، فَعَرَضَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَضْمَنَهَا لَهُ، فَقَالَ: أَنَا الْيَوْمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي الْإِسْلَامِ أَرْغَبُ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَارَ مِنْ صَفْوَانَ دُرُوعًا،» فَذَكَرَهُ. وَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ هُشَيْمٍ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ عَطَاءٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَارَ مِنْ صَفْوَانَ أَدْرَاعًا وَأَفْرَاسًا،» وَسَاقَ الْحَدِيثَ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ أُنَاسٍ مِنْ آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يَا صَفْوَانُ
(7/10)
هَلْ عِنْدَكَ مِنْ سِلَاحٍ؟ " قَالَ: عَارِيَةً أَمْ غَصْبًا؟ قَالَ: " لَا، بَلْ عَارِيَةً ". فَأَعَارَهُ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِينَ إِلَى الْأَرْبَعِينَ دِرْعًا، وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُنَيْنًا، فَلَمَّا هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ جُمِعَتْ دُرُوعُ صَفْوَانَ فَفَقَدَ مِنْهَا أَدْرَاعًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَفْوَانَ " قَدْ فَقَدْنَا مِنْ أَدْرَاعِكَ أَدْرَاعًا، فَهَلْ نَغْرَمُ لَكَ؟ قَالَ لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فِي قَلْبِي الْيَوْمَ مَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ» وَهَذَا مُرْسَلٌ أَيْضًا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ أَلْفَانِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مَعَ عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ، فَفَتَحَ اللَّهُ بِهِمْ مَكَّةَ فَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا.
قُلْتُ: وَعَلَى قَوْلِ عُرْوَةَ وَالزُّهْرِيِّ وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ يَكُونُ مَجْمُوعُ الْجَيْشَيْنِ اللَّذَيْنِ سَارَ بِهِمَا إِلَى هَوَازِنَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا; لَأَنَّهُ قَدِمَ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا إِلَى مَكَّةَ عَلَى قَوْلِهِمْ، وَأُضِيفَ إِلَيْهِمْ أَلْفَانِ مِنِ الطُّلَقَاءِ. وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ فِي خَامِسِ شَوَّالٍ، قَالَ: وَاسْتَخْلَفَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدِ بْنِ أَبِي الْعِيصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ الْأُمَوِيَّ.
قُلْتُ: وَكَانَ عُمُرُهُ إِذْ ذَاكَ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً. قَالَ: وَمَضَى رَسُولُ
(7/11)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ لِقَاءَ هَوَازِنَ. وَذَكَرَ قَصِيدَةَ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيِّ فِي ذَلِكَ، مِنْهَا قَوْلُهُ:
أَبْلِغْ هَوَازِنَ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلَهَا ... مِنِّي رِسَالَةَ نُصْحٍ فِيهِ تِبْيَانُ
إِنِّي أَظُنُّ رَسُولَ اللَّهِ صَابِحَكُمْ ... جَيْشًا لَهُ فِي فَضَاءِ الْأَرْضِ أَرْكَانُ
فِيهِمْ سُلَيْمٌ أَخُوكُمْ غَيْرُ تَارِكِكُمْ ... وَالْمُسْلِمُونَ عِبَادُ اللَّهِ غَسَّانُ
وَفِي عِضَادَتِهِ الْيُمْنَى بَنُو أَسَدٍ ... وَالْأَجْرَبَانِ بَنُو عَبْسٍ وَذُبْيَانُ
تَكَادُ تَرْجُفُ مِنْهُ الْأَرْضُ رَهْبَتَهُ ... وَفِي مُقَدَّمِهِ أَوْسٌ وَعُثْمَانُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَوْسٌ وَعُثْمَانُ قَبِيلَا مُزَيْنَةَ.
قَالَ: وَحَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ الدُّئِلِيِّ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حُنَيْنٍ وَنَحْنُ حَدِيثُو عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ: فَسِرْنَا مَعَهُ إِلَى حُنَيْنٍ. قَالَ: وَكَانَتْ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ وَمَنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْعَرَبِ شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ خَضْرَاءُ يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ. يَأْتُونَهَا كُلَّ سَنَةٍ فَيُعَلِّقُونَ أَسْلِحَتَهُمْ عَلَيْهَا، وَيَذْبَحُونَ عِنْدَهَا، وَيَعْكُفُونَ عَلَيْهَا يَوْمًا. قَالَ: فَرَأَيْنَا وَنَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِدْرَةً خَضْرَاءَ عَظِيمَةً. قَالَ: فَتَنَادَيْنَا مِنْ جَنَبَاتِ الطَّرِيقِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138] إِنَّهَا السَّنَنُ، لِتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ» وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ
(7/12)
التِّرْمِذِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ سُفْيَانَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْهُ.
(7/13)
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي " تَفْسِيرِهِ " مِنْ طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: ثَنَا أَبُو تَوْبَةَ ثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلَّامٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلَّامٍ عَنِ السَّلُولِيِّ أَنَّهُ حَدَّثَهُ سَهْلُ بْنُ الْحَنْظَلِيَّةِ «أَنَّهُمْ سَارُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَأَطْنَبُوا السَّيْرَ حَتَّى كَانَ عَشِيَّةٌ، فَحَضَرَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَارِسٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي انْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ حَتَّى طَلَعْتُ جَبَلَ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا أَنَا بِهَوَازِنَ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ بِظُعُنِهِمْ وَبِنَعَمِهِمْ وَشَّائِهِمْ، اجْتَمَعُوا إِلَى حُنَيْنٍ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: " تِلْكَ غَنِيمَةُ الْمُسْلِمِينَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ ". ثُمَّ قَالَ: " مَنْ يَحْرُسُنَا اللَّيْلَةَ ". قَالَ أَنَسُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " فَارْكَبْ ". فَرَكِبَ فَرَسًا لَهُ، وَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اسْتَقْبِلْ هَذَا الشِّعْبَ حَتَّى تَكُونَ فِي أَعْلَاهُ وَلَا نُغَرَّنَّ مِنْ قِبَلِكَ اللَّيْلَةَ ". فَلَمَّا أَصْبَحْنَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مُصَلَّاهُ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ " هَلْ أَحْسَسْتُمْ فَارِسَكُمْ؟ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَحْسَسْنَا. فَثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي، وَيَلْتَفِتُ إِلَى
(7/13)
الشِّعْبِ، حَتَّى إِذَا قَضَى صَلَاتَهُ قَالَ: " أَبْشِرُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ فَارِسُكُمْ ". فَجَعَلْنَا نَنْظُرُ إِلَى خِلَالِ الشَّجَرِ فِي الشِّعْبِ، وَإِذَا هُوَ قَدْ جَاءَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي انْطَلَقْتُ حَتَّى كُنْتُ فِي أَعْلَى هَذَا الشِّعْبِ حَيْثُ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ طَلَعْتُ الشِّعْبَيْنِ كِلَيْهِمَا، فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَلْ نَزَلْتَ اللَّيْلَةَ؟ " قَالَ: لَا، إِلَّا مُصَلِّيًا أَوْ قَاضِيَ حَاجَةٍ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَدْ أَوْجَبَتْ فَلَا عَلَيْكَ أَلَّا تَعْمَلَ بَعْدَهَا» وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ الْحَرَّانِيِّ عَنْ أَبِي تَوْبَةَ الرَّبِيعِ بْنِ نَافِعٍ بِهِ.
[فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْوَقْعَةِ وَمَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مِنَ الْفِرَارِ ثُمَّ كَانَتِ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ]
قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ وَغَيْرُهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «فَخَرَجَ مَالِكُ
(7/14)
بْنُ عَوْفٍ بِمَنْ مَعَهُ إِلَى حُنَيْنٍ فَسَبَقَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا، فَأَعَدُّوا وَتَهَيَّئُوا فِي مَضَايِقِ الْوَادِي وَأَحْنَائِهِ، وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ حَتَّى انْحَطَّ بِهِمُ الْوَادِي فِي عَمَايَةِ الصُّبْحِ، فَلَمَّا انْحَطَّ النَّاسُ ثَارَتْ فِي وُجُوهِهِمُ الْخَيْلُ فَشَدَّتْ عَلَيْهِمْ، وَانْكَفَأَ النَّاسُ مُنْهَزِمِينَ لَا يُقْبِلُ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَانْحَازَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ الْيَمِينِ يَقُولُ: أَيْنَ أَيُّهَا النَّاسُ؟ هَلُمُّوا إِلَيَّ، أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ: فَلَا شَيْءَ، وَرَكِبَتِ الْإِبِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَ النَّاسِ، وَمَعَهُ رَهْطٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَخُوهُ رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ - وَقِيلَ الْفُضَيْلُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ - وَأَيْمَنُ ابْنُ أَمِّ أَيْمَنَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَمِنِ النَّاسِ مَنْ يَزِيدُ فِيهِمْ قُثَمَ بْنَ الْعَبَّاسِ، وَرَهْطٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَالْعَبَّاسُ آخِذٌ بِحَكَمَةِ بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ وَهُوَ عَلَيْهَا قَدْ شَجَرَهَا. قَالَ: وَرَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرَ، بِيَدِهِ رَايَةٌ سَوْدَاءُ فِي رَأْسِ رُمْحٍ طَوِيلٍ أَمَامَ هَوَازِنَ، وَهَوَازِنُ خَلْفَهُ إِذَا أَدْرَكَ طَعَنَ بِرُمْحِهِ، وَإِذَا فَاتَهُ النَّاسُ رَفَعَ رُمْحَهُ لِمَنْ وَرَاءَهُ فَاتَّبَعُوهُ. قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ
(7/15)
كَذَلِكَ إِذْ هَوَى لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُرِيدَانِهِ. قَالَ: فَيَأْتِي عَلِيٌّ مِنْ خَلْفِهِ فَضَرَبَ عُرْقُوبَيِ الْجَمَلِ، فَوَقَعَ عَلَى عَجُزِهِ، وَوَثَبَ الْأَنْصَارِيُّ عَلَى الرَّجُلِ فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً أَطَنَّ قَدَمَهُ بِنِصْفِ سَاقِهِ، فَانْعَجَفَ عَنْ رَحْلِهِ. قَالَ: وَاجْتَلَدَ النَّاسُ، فَوَاللَّهِ مَا رَجَعَتْ رَاجِعَةُ النَّاسِ مِنْ هَزِيمَتِهِمْ حَتَّى وَجَدُوا الْأُسَارَى مُكَتَّفِينَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.» وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَكَانَ مِمَّنْ صَبَرَ يَوْمَئِذٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ حَسَنَ الْإِسْلَامِ حِينَ أَسْلَمَ وَهُوَ آخِذٌ بِثَفَرِ بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مَنْ هَذَا؟ " قَالَ: ابْنُ أُمِّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ» .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا انْهَزَمَ النَّاسُ تَكَلَّمَ رِجَالٌ مَنَّ جُفَاةِ الْأَعْرَابِ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنِ الضِّغْنِ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ صَخْرُ بْنُ حَرْبٍ - وَكَانَ إِسْلَامُهُ بَعْدُ
(7/16)
مَدْخُولًا، وَكَانَتِ الْأَزْلَامُ مَعَهُ يَوْمَئِذٍ -: لَا تَنْتَهِي هَزِيمَتُهُمْ دُونَ الْبَحْرِ، وَصَرَخَ كَلَدَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ وَهُوَ مَعَ أَخِيهِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ - يَعْنِي لِأُمِّهِ - وَهُوَ مُشْرِكٌ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي جَعَلَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا بَطَلَ السِّحْرُ الْيَوْمَ. فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ: اسْكُتْ، فَضَّ اللَّهُ فَاكَ، فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَرُبَّنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَرُبَّنِي رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ أَنْبَأَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ هَوَازِنَ جَاءَتْ يَوْمَ حُنَيْنٍ بِالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْإِبِلِ وَالْغَنَمِ، فَجَعَلُوهَا صُفُوفًا يُكَثِّرُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا الْتَقَوْا وَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا عِبَادَ اللَّهِ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ". ثُمَّ قَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ " قَالَ: فَهَزَمَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يُضْرَبْ بِسَيْفٍ وَلَمْ يُطْعَنْ بِرُمْحٍ. قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ: " مَنْ قَتَلَ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ ". قَالَ: فَقَتَلَ أَبُو طَلْحَةَ يَوْمَئِذٍ عِشْرِينَ رَجُلًا وَأَخَذَ أَسْلَابَهُمْ. وَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي ضَرَبْتُ رَجُلًا عَلَى حَبْلِ الْعَاتِقِ وَعَلَيْهِ دِرْعٌ لَهُ، فَأُجْهِضَتْ عَنْهُ، فَانْظُرْ مَنْ أَخَذَهَا. قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: أَنَا أَخَذْتُهَا، فَأَرْضِهِ مِنْهَا وَأَعْطِنِيهَا. قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُسْأَلُ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ أَوْ سَكَتَ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ لَا يُفِيئُهَا اللَّهُ عَلَى أَسَدٍ مِنْ أُسُدِ اللَّهِ وَيُعْطِيكَهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صَدَقَ عُمَرُ ".» قَالَ: «وَلَقِيَ أَبُو طَلْحَةَ أُمَّ سُلَيْمٍ وَمَعَهَا خِنْجَرٌ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: مَا هَذَا؟ فَقَالَتْ: إِنْ دَنَا مِنِّي بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ أَنْ أَبْعَجَ بِهِ بَطْنَهُ. فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَمَا تَسْمَعُ مَا تَقُولُ أُمُّ سُلَيْمٍ؟ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اقْتُلْ مَنْ بَعْدَنَا مِنَ الطُّلَقَاءِ؛ انْهَزَمُوا بِكَ. فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ قَدْ كَفَى وَأَحْسَنَ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ» .
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْهُ قِصَّةَ خِنْجَرِ أُمِّ سُلَيْمٍ، وَأَبُو دَاوُدَ قَوْلَهُ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» كِلَاهُمَا مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ. وَقَوْلُ عُمَرَ فِي هَذَا مُسْتَغْرَبٌ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ ثَنَا أَبِي، ثَنَا نَافِعٌ أَبُو غَالِبٍ شَهِدَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: «فَقَالَ الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ الْعَدَوِيُّ: يَا أَبَا حَمْزَةَ بِسِنِّ أَيِّ الرِّجَالِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ بُعِثَ؟ فَقَالَ: ابْنَ أَرْبَعِينَ
(7/17)
سَنَةً. قَالَ: ثُمَّ كَانَ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ كَانَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ، وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ، فَتَمَّتْ لَهُ سِتُّونَ سَنَةً، ثُمَّ قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ. قَالَ: بِسِنِّ أَيِّ الرِّجَالِ هُوَ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: كَأَشَبِّ الرِّجَالِ وَأَحْسَنِهِ وَأَجْمَلِهِ وَأَلْحَمِهِ. قَالَ: يَا أَبَا حَمْزَةَ وَهَلْ غَزَوْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ، غَزَوْتُ مَعَهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَخَرَجَ الْمُشْرِكُونَ بَكْرَةً، فَحَمَلُوا عَلَيْنَا حَتَّى رَأَيْنَا خَيْلَنَا وَرَاءَ ظُهُورِنَا، وَفِي الْمُشْرِكِينَ رَجُلٌ يَحْمِلُ عَلَيْنَا فَيَدُقُّنَا وَيَحْطِمُنَا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ فَوَلَّوْا، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَى الْفَتْحَ، فَجُعِلَ يُجَاءُ بِهِمْ أُسَارَى رَجُلًا رَجُلًا فَيُبَايِعُونَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ عَلَيَّ نَذْرًا، لَئِنْ جِيءَ بِالرَّجُلِ الَّذِي كَانَ مُنْذُ الْيَوْمِ يَحْطِمُنَا لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَهُ. قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجِيءَ بِالرَّجُلِ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، تُبْتُ إِلَى اللَّهِ. قَالَ: وَأَمْسَكَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَايِعَهُ لِيُوفِيَ الْآخَرُ نَذَرَهُ. قَالَ: وَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَأْمُرَهُ بِقَتْلِهِ، وَيَهَابُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَصْنَعُ شَيْئًا بَايَعَهُ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، نَذْرِي؟! قَالَ: " لَمْ أُمْسِكْ عَنْهُ مُنْذُ الْيَوْمِ إِلَّا لِتُوفِيَ نَذْرَكَ ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا أَوْمَأْتَ إِلَيَّ؟ قَالَ: " إِنَّهُ لَيْسَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُومِيَ» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
(7/19)
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ ثَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «كَانَ مِنْ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ: " اللَّهُمَّ إِنَّكَ إِنْ تَشَأْ لَا تُعْبَدْ بَعْدَ الْيَوْمِ» إِسْنَادُهُ ثُلَاثِيٌّ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ ثَنَا غُنْدَرٌ ثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ «سَمِعَ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ - وَسَأَلَهُ رَجُلٌ مِنْ قَيْسٍ: أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ - فَقَالَ: لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفِرَّ; كَانَتْ هَوَازِنُ رُمَاةً، وَإِنَّا لَمَّا حَمَلَنَا عَلَيْهِمُ انْكَشَفُوا، فَأَكْبَبْنَا عَلَى الْغَنَائِمِ، فَاسْتَقْبَلَتْنَا بِالسِّهَامِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ، وَإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ آخِذٌ بِزِمَامِهَا، وَهُوَ يَقُولُ: " أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبَ ".» وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ عَنْ شُعْبَةَ بِهِ وَقَالَ:
أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ ... أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ إِسْرَائِيلُ وَزُهَيْرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ: ثُمَّ نَزَلَ عَنْ بَغْلَتِهِ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ بُنْدَارٍ. زَادَ مُسْلِمٌ: وَأَبِي مُوسَى. كِلَاهُمَا عَنْ غُنْدَرٍ بِهِ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ
(7/20)
قَالَ: «ثُمَّ نَزَلَ فَاسْتَنْصَرَ وَهُوَ يَقُولُ:
أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ ... أَنَا ابْنُ عَبْدُ الْمُطَّلِبْ
اللَّهُمَّ نَزِّلْ نَصْرَكَ ". قَالَ الْبَرَاءُ: وَلَقَدْ كُنَّا إِذَا حَمِيَ الْبَأْسُ نَتَّقِي بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّ الشُّجَاعَ الَّذِي يُحَاذِي بِهِ.» وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَئِذٍ: «أَنَا ابْنُ الْعَوَاتِكِ» .
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: ثَنَا عَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ الْأَسْفَاطِيُّ ثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْفٍ الْوَاسِطِيُّ ثَنَا هُشَيْمٌ أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ عَنْ سَيَابَةَ بْنِ عَاصِمٍ السُّلَمِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ حُنَيْنٍ: " أَنَا ابْنُ الْعَوَاتِكِ» .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَنْبَأَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حُنَيْنٍ، فَلَمَّا الْتَقَيْنَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ، فَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَضَرَبْتُهُ مِنْ
(7/21)
وَرَائِهِ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ بِالسَّيْفِ، فَقَطَعْتُ الدِّرْعَ، وَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ، فَأَرْسَلَنِي فَلَحِقْتُ عُمَرَ فَقُلْتُ: مَا بَالُ النَّاسِ؟ فَقَالَ: أَمْرُ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ. ثُمَّ رَجَعُوا، وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ " فَقُمْتُ فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ ثُمَّ جَلَسْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ، فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ ثُمَّ جَلَسْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ، فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ ثُمَّ جَلَسْتُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ، فَقُمْتُ فَقَالَ: " مَا لَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ؟ " فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: صَدَقَ، سَلَبُهُ عِنْدِي، فَأَرْضِهِ مِنِّي. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَاهَا اللَّهِ إِذًا لَا يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسُدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَيُعْطِيَكَ سَلَبَهُ؟! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صَدَقَ فَأَعْطِهِ ". فَأَعْطَانِيهِ فَابْتَعْتُ بِهِ مَخْرَفًا فِي بَنِي سَلَمَةَ، فَإِنَّهُ لَأَوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ فِي الْإِسْلَامِ» وَرَوَاهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا النَّسَائِيَّ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ بِهِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ نَظَرْتُ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُقَاتِلُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَآخَرُ
(7/22)
مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَخْتِلُهُ مِنْ وَرَائِهِ لِيَقْتُلَهُ، فَأَسْرَعْتُ إِلَى الَّذِي يَخْتِلُهُ، فَرَفَعَ يَدَهُ لِيَضْرِبَنِي فَأَضْرِبُ يَدَهُ فَقَطَعْتُهَا، ثُمَّ أَخَذَنِي فَضَمَّنِي ضَمًّا شَدِيدًا حَتَّى تَخَوَّفْتُ، ثُمَّ تَرَكَ فَتَحَلَّلَ، فَدَفَعْتُهُ ثُمَّ قَتَلْتُهُ، وَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ وَانْهَزَمْتُ مَعَهُمْ، فَإِذَا بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي النَّاسِ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ قَالَ: أَمْرُ اللَّهِ. ثُمَّ تَرَاجَعَ النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى قَتِيلٍ فَلَهُ سَلَبُهُ " فَقُمْتُ لِأَلْتَمِسَ بَيِّنَةً عَلَى قَتِيلِي، فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَشْهَدُ لِي، فَجَلَسْتُ، ثُمَّ بَدَا لِي فَذَكَرْتُ أَمْرَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: سِلَاحُ هَذَا الْقَتِيلِ الَّذِي يَذْكُرُ عِنْدِي، فَأَرْضِهِ مِنِّي. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَلَّا لَا يُعْطِيهِ أُضَيْبِعًا مِنْ قُرَيْشٍ، وَيَدَعُ أَسَدًا مِنْ أُسُدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ فَأَدَّاهُ إِلَيَّ، فَاشْتَرَيْتُ بِهِ خِرَافًا، فَكَانَ أَوَّلَ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ» وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَمُسْلِمٌ كِلَاهُمَا عَنْ قُتَيْبَةَ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ نَافِعٍ أَبِي غَالِبٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ الْقَائِلَ لِذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَلَعَلَّهُ
(7/23)
قَالَهُ مُتَابَعَةً لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَمُسَاعَدَةً وَمُوَافِقَةً لَهُ، أَوْ قَدِ اشْتَبَهَ عَلَى الرَّاوِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا الْحَاكِمُ أَنْبَأَنَا الْأَصَمُّ أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ حُنَيْنٍ حِينَ رَأَى مِنَ النَّاسِ مَا رَأَى: " يَا عَبَّاسُ، نَادِ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، يَا أَصْحَابَ الشَّجَرَةِ ". فَأَجَابُوهُ: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ. فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَذْهَبُ لِيَعْطِفَ بِعِيرَهُ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فَيَقْذِفُ دِرْعَهُ فِي عُنُقِهِ، وَيَأْخُذُ سَيْفَهُ وَقَوْسَهُ، ثُمَّ يَؤُمُّ الصَّوْتَ حَتَّى اجْتَمَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ مِائَةٌ، فَاسْتَعْرَضَ النَّاسَ فَاقْتَتَلُوا، وَكَانَتِ الدَّعْوَةُ أَوَّلَ مَا كَانَتْ بِالْأَنْصَارِ، ثُمَّ جُعِلَتْ آخِرًا بِالْخَزْرَجِ، وَكَانُوا صُبُرًا عِنْدَ الْحَرْبِ، وَأَشْرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَكَائِبِهِ فَنَظَرَ إِلَى مُجْتَلَدِ الْقَوْمِ فَقَالَ: " الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ ". قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا رَجَعَتْ رَاجِعَةُ النَّاسِ إِلَّا وَالْأُسَارَى عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُكَتَّفُونَ، فَقَتَلَ اللَّهُ مِنْهُمْ مَنْ
(7/24)
قَتَلَ، وَانْهَزَمَ مِنْهُمْ مَنِ انْهَزَمَ، وَأَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْوَالَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ.» .
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي " مَغَازِيهِ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَكَّةَ وَأَقَرَّ بِهَا عَيْنَهُ، خَرَجَ إِلَى هَوَازِنَ، وَخَرَجَ مَعَهُ أَهْلُ مَكَّةَ لَمْ يُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا رَكِبَانًا وَمُشَاةً حَتَّى خَرَجَ النِّسَاءُ يَمْشِينَ عَلَى غَيْرِ دِينٍ نُظَّارًا يَنْظُرُونَ وَيَرْجُونَ الْغَنَائِمَ، وَلَا يَكْرَهُونَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الصَّدْمَةُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، قَالُوا: وَكَانَ مَعَهُ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ مُسْلِمَةً، وَهُوَ مُشْرِكٌ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا. قَالُوا: وَكَانَ رَئِيسَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ، وَمَعَهُ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ يَرْعَشُ مِنَ الْكِبَرِ، وَمَعَهُ النِّسَاءُ وَالذَّرَارِيُّ وَالنَّعَمُ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي حَدْرَدٍ عَيْنًا، فَبَاتَ فِيهِمْ، فَسَمِعَ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: إِذَا أَصْبَحْتُمْ فَاحْمِلُوا عَلَيْهِمْ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَاكْسِرُوا أَغْمَادَ سُيُوفِكُمْ، وَاجْعَلُوا مَوَاشِيَكُمْ صَفًّا وَنِسَاءَكُمْ صَفًّا. فَلَمَّا أَصْبَحُوا اعْتَزَلَ أَبُو سُفْيَانَ وَصَفْوَانُ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ وَرَاءَهُمْ يَنْظُرُونَ لِمَنْ تَكُونُ الدَّائِرَةُ، وَصَفَّ النَّاسُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغْلَةً لَهُ شَهْبَاءَ فَاسْتَقْبَلَ الصُّفُوفَ، فَأَمَرَهُمْ وَحَضَّهُمْ عَلَى الْقِتَالِ وَبَشَّرَهُمْ بِالْفَتْحِ إِنْ صَبَرُوا، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ حَمَلَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَجَالَ الْمُسْلِمُونَ جَوْلَةً، ثُمَّ وَلَّوْا
(7/25)
مُدْبِرِينَ، فَقَالَ حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ: لَقَدْ حَزَرْتُ مَنْ بَقِيَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَدْبَرَ النَّاسُ، فَقُلْتُ: مِائَةُ رَجُلٍ. قَالُوا: وَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ بِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ فَقَالَ: أَبْشِرْ بِهَزِيمَةِ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَوَاللَّهِ لَا يَجْتَبِرُونَهَا أَبَدًا. فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ: تُبَشِّرُنِي بِظُهُورِ الْأَعْرَابِ! فَوَاللَّهِ لَرَبٌّ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ رَبٍّ مِنَ الْأَعْرَابِ. وَغَضِبَ صَفْوَانُ لِذَلِكَ. قَالَ مُوسَى: وَبَعَثَ صَفْوَانُ غُلَامًا لَهُ فَقَالَ: اسْمَعْ لِمَنِ الشِّعَارُ؟ فَجَاءَهُ فَقَالَ: سَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ: يَا بَنِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ، يَا بَنِي عُبَيْدِ اللَّهِ. فَقَالَ: ظَهَرَ مُحَمَّدٌ. وَكَانَ ذَلِكَ شِعَارَهُمْ فِي الْحَرْبِ. قَالُوا: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا غَشِيَهُ الْقِتَالُ قَامَ فِي الرِّكَابَيْنِ وَهُوَ عَلَى الْبَغْلَةِ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى اللَّهِ يَدْعُوهُ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَظْهَرُوا عَلَيْنَا ". وَنَادَى أَصْحَابَهُ وَذَمَّرَهُمْ: " يَا أَصْحَابَ الْبَيْعَةِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ اللَّهَ اللَّهَ، الْكَرَّةَ عَلَى نَبِيِّكُمْ ". وَيُقَالُ: حَرَّضَهُمْ فَقَالَ: " يَا أَنْصَارَ اللَّهِ وَأَنْصَارَ رَسُولِهِ، يَا بَنِي الْخَزْرَجِ، يَا أَصْحَابَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ". وَأَمَرَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ يُنَادِي بِذَلِكَ. قَالُوا: وَقَبَضَ قَبْضَةً مِنَ الْحَصْبَاءِ، فَحَصَبَ بِهَا وُجُوهَ الْمُشْرِكِينَ وَنَوَاحِيَهُمْ كُلَّهَا، وَقَالَ: " شَاهَتِ الْوُجُوهُ ". وَأَقْبَلَ أَصْحَابُهُ إِلَيْهِ سِرَاعًا يَبْتَدِرُونَ، وَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ ". فَهَزَمَ اللَّهُ أَعْدَاءَهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ حَصَبَهُمْ مِنْهَا، وَاتَّبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَهُمْ، وَغَنَّمَهُمُ اللَّهُ نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ، وَفَرَّ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ حَتَّى دَخَلَ حِصْنَ الطَّائِفِ هُوَ وَأُنَاسٌ
(7/26)
مِنْ أَشْرَافِ قَوْمِهِ، وَأَسْلَمَ عِنْدَ ذَلِكَ نَاسٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ حِينَ رَأَوْا نَصْرَ اللَّهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِعْزَازَهُ دِينَهُ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي كَثِيرُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: قَالَ الْعَبَّاسُ: «شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَلَزِمْتُهُ أَنَا وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ لَا نُفَارِقُهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ أَهْدَاهَا لَهُ فَرْوَةُ بْنُ نُفَاثَةَ الْجُذَامِيُّ فَلَمَّا الْتَقَى النَّاسُ وَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ، فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْكُضُ بَغْلَتَهُ قِبَلَ الْكُفَّارِ. قَالَ الْعَبَّاسُ: وَأَنَا آخِذٌ بِلِجَامِهَا أَكُفُّهَا إِرَادَةَ أَنْ لَا تُسْرِعَ وَأَبُو سُفْيَانَ آخِذٌ بِرِكَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيْ عَبَّاسُ نَادِ أَصْحَابَ السَّمُرَةِ ". قَالَ: فَوَاللَّهِ لَكَأَنَّمَا عَطَفْتُهُمْ حِينَ سَمِعُوا صَوْتِي عَطْفَةَ الْبَقَرِ عَلَى أَوْلَادِهَا، فَقَالُوا: يَا لَبَّيْكَاهُ يَا لَبَّيْكَاهُ، قَالَ: فَاقْتَتَلُوا هُمْ وَالْكُفَّارُ، وَالدَّعْوَةُ فِي الْأَنْصَارِ يَقُولُونَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ. ثُمَّ قُصِرَتِ الدَّعْوَةُ عَلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَقَالُوا: يَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ. فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ، كَالْمُتَطَاوِلِ عَلَيْهَا إِلَى قِتَالِهِمْ فَقَالَ: " هَذَا حِينُ حَمِيَ الْوَطِيسُ ". ثُمَّ أَخَذَ
(7/27)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَصَيَاتٍ فَرَمَى بِهِنَّ فِي وُجُوهِ الْكُفَّارِ، ثُمَّ قَالَ: " انْهَزَمُوا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ ". قَالَ: فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ فَإِذَا الْقِتَالُ عَلَى هَيْئَتِهِ فِيمَا أَرَى، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَمَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَصَيَاتِهِ، فَمَا زِلْتُ أَرَى حَدَّهُمْ كَلِيلًا، وَأَمْرَهُمْ مُدْبِرًا» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي الطَّاهِرِ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ بِهِ نَحْوَهُ. وَرَوَاهُ أَيْضًا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ نَحْوَهُ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُنَيْنًا، فَلَمَّا وَاجَهْنَا الْعَدُوَّ تَقَدَّمْتُ فَأَعْلُو ثَنِيَّةً فَاسْتَقْبَلَنِي رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَأَرْمِيهِ بِسَهْمٍ، وَتَوَارَى عَنِّي، فَمَا دَرَيْتُ مَا صَنَعَ، ثُمَّ نَظَرْتُ إِلَى الْقَوْمِ فَإِذَا هُمْ قَدْ طَلَعُوا مِنْ ثَنِيَّةٍ أُخْرَى، فَالْتَقَوْا هُمْ وَصَحَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَلَّى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرْجِعُ مُنْهَزِمًا، وَعَلَيَّ بُرْدَتَانِ مُتَّزِرًا بِإِحْدَاهُمَا مُرْتَدِيًا بِالْأُخْرَى، قَالَ: فَاسْتَطْلَقَ إِزَارِي فَجَمَعْتُهَا جَمْعًا وَمَرَرْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مُنْهَزِمٌ، وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ الشَّهْبَاءِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَقَدْ رَأَى ابْنُ الْأَكْوَعِ فَزَعًا ". فَلَمَّا غَشَوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ عَنِ الْبَغْلَةِ، ثُمَّ قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَقْبَلَ بِهِ وُجُوهَهُمْ، وَقَالَ: " شَاهَتِ الْوُجُوهُ ". فَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْهُمْ إِنْسَانًا إِلَّا مَلَأَ عَيْنَيْهِ تُرَابًا مِنْ تِلْكَ الْقُبْضَةِ، فَوَلَّوْا
(7/28)
مُدْبِرِينَ، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ، وَقَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَنَائِمَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.» .
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي " مُسْنَدِهِ ": ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفِهْرِيِّ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُنَيْنٍ، فَسِرْنَا فِي يَوْمٍ قَائِظٍ شَدِيدِ الْحَرِّ، فَنَزَلْنَا تَحْتَ ظِلَالِ السَّمُرِ، فَلَمَّا زَالَتِ الشَّمْسُ لَبِسْتُ لَأْمَتِي، وَرَكِبْتُ فَرَسِي، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي فُسْطَاطِهِ، فَقُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، قَدْ حَانَ الرَّوَاحُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " أَجَلْ ". ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قُمْ يَا بِلَالُ ". فَثَارَ مِنْ تَحْتِ سَمُرَةٍ كَأَنَّ ظِلَّهُ ظِلُّ طَائِرٍ فَقَالَ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَأَنَا فِدَاؤُكَ. فَقَالَ: " أَسْرِجْ لِي فَرَسِي ". فَأَتَاهُ بِدَفَّتَيْنِ مِنْ لِيفٍ لَيْسَ فِيهِمَا أَشَرٌ وَلَا بَطَرٌ. قَالَ: فَرَكِبَ فَرَسَهُ فَسِرْنَا يَوْمَنَا، فَلَقِينَا الْعَدُوَّ، وَتَشَامَتَ الْخَيْلَانِ، فَقَاتَلْنَاهُمْ فَوَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " يَا عِبَادَ اللَّهِ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ". وَاقْتَحَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ فَرَسِهِ، وَحَدَّثَنِي مَنْ كَانَ أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنِّي أَنَّهُ أَخَذَ حَفْنَةً مِنَ التُّرَابِ، فَحَثَى بِهَا وَجُوهَ الْعَدُوِّ وَقَالَ: " شَاهَتِ الْوُجُوهُ ". قَالَ يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ: فَحَدَّثَنَا أَبْنَاؤُهُمْ عَنْ
(7/29)
آبَائِهِمْ قَالُوا: مَا بَقِيَ أَحَدٌ إِلَّا امْتَلَأَتْ عَيْنَاهُ وَفَمُهُ مِنِ التُّرَابِ، وَسَمِعْنَا صَلْصَلَةً مِنَ السَّمَاءِ، كَمَرِّ الْحَدِيدِ عَلَى الطَّسْتِ الْجَدِيدِ، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ نَحْوَهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا عَفَّانُ ثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ ثَنَا الْحَارِثُ بْنُ حَصِيرَةَ ثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ «: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَوَلَّى عَنْهُ النَّاسُ، وَثَبَتَ مَعَهُ ثَمَانُونَ رَجُلًا مَنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَنَكَصْنَا عَلَى أَقْدَامِنَا نَحْوًا مِنْ ثَمَانِينَ قَدَمًا، وَلَمْ نُوَلِّهِمُ الدُّبُرَ، وَهُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ السِّكِّينَةَ. قَالَ: وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَتِهِ يَمْضِي قُدُمًا، فَحَادَتْ بِهِ بَغْلَتُهُ، فَمَالَ عَنِ السَّرْجِ، فَقُلْتُ لَهُ: ارْتَفِعْ رَفْعَكَ اللَّهُ. فَقَالَ: " نَاوِلْنِي كَفًّا مِنْ تُرَابٍ ". فَضَرَبَ بِهِ وُجُوهَهُمْ فَامْتَلَأَتْ أَعْيُنُهُمْ تُرَابًا قَالَ " أَيْنَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ؟ " قُلْتُ هُمْ أُولَاءِ. قَالَ: " اهْتِفْ بِهِمْ ". فَهَتَفْتُ بِهِمْ فَجَاءُوا وَسُيُوفُهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ كَأَنَّهَا الشُّهُبُ، وَوَلَّى الْمُشْرِكُونَ أَدْبَارَهُمْ» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنِي أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ تَمِيمٍ الْقَنْطَرِيُّ ثَنَا أَبُو قِلَابَةَ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
(7/30)
الطَّائِفِيُّ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيَاضِ بْنِ الْحَارِثِ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَتَى هَوَازِنَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، فَقُتِلَ مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ يَوْمَ حُنَيْنٍ مِثْلُ مَنْ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ: وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَّا مِنْ حَصًى، فَرَمَى بِهَا وُجُوهَنَا فَانْهَزَمْنَا» . وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي " تَارِيخِهِ " وَلَمْ يَنْسِبْ عِيَاضًا.
وَقَالَ مُسَدَّدٌ: ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ ثَنَا عَوْفٌ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ مَوْلَى أَمِّ بُرْثُنٍ «عَمَّنْ شَهِدَ حُنَيْنًا كَافِرًا قَالَ: لَمَّا الْتَقَيْنَا نَحْنُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ، لَمْ يَقُومُوا لَنَا حَلْبَ شَاةٍ، فَجِئْنَا نَهُشُّ سُيُوفَنَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى إِذَا غَشِينَاهُ، فَإِذَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ رِجَالٌ حِسَانُ الْوُجُوهِ فَقَالُوا: شَاهَتِ الْوُجُوهُ، فَارْجِعُوا. فَهُزِمْنَا مِنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: ثَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشُّعَيْثِيُّ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ بَدَلٍ النَّصْرِيِّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ شَهِدَ ذَلِكَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَعَمْرِو بْنِ سُفْيَانَ الثَّقَفِيِّ قَالَ: «انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، فِلَمْ يَبْقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا عَبَّاسٌ وَأَبُو
(7/31)
سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ. قَالَ: فَقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْضَةً مِنَ الْحَصْبَاءِ، فَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِهِمْ. قَالَ: فَانْهَزَمْنَا فَمَا خُيِّلَ إِلَيْنَا إِلَّا أَنَّ كُلَّ حَجَرٍ أَوْ شَجَرِ فَارِسٌ يَطْلُبُنَا. قَالَ الثَّقَفِيُّ: فَأَعْجَزْتُ عَلَى فَرَسِي حَتَّى دَخَلْتُ الطَّائِفَ.» .
وَرَوَى يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ فِي " مَغَازِيهِ " عَنْ يُوسُفَ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ اسْمُهُ زَيْدٌ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْكُدَيْمِيِّ ثَنَا مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ ثَنَا سَعِيدُ بْنُ السَّائِبِ بْنِ يَسَارٍ الطَّائِفِيُّ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَامِرٍ السُّوَائِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «عِنْدَ انْكِشَافَةٍ انْكَشَفَهَا الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَتَبِعَهُمُ الْكُفَّارُ، وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْضَةً مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَرَمَى بِهَا وُجُوهَهُمْ وَقَالَ: " ارْجِعُوا شَاهَتِ الْوُجُوهُ ". فَمَا أَحَدٌ يَلْقَى أَخَاهُ إِلَّا وَهُوَ يَشْكُو قَذًى فِي عَيْنَيْهِ.» .
(7/32)
ثُمَّ رَوَى مِنْ طَرِيقَيْنِ آخَرَيْنِ، عَنْ أَبِي حُذَيْفَةَ ثَنَا سَعِيدُ بْنُ السَّائِبِ بْنِ يَسَارٍ الطَّائِفِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي السَّائِبُ بْنُ يَسَارٍ سَمِعْتُ يَزِيدَ بْنَ عَامِرٍ السُّوَائِيَّ - وَكَانَ شَهِدَ حُنَيْنًا مَعَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدُ - قَالَ: فَنَحْنُ نَسْأَلُهُ عَنِ الرُّعْبِ الَّذِي أَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ حُنَيْنٍ كَيْفَ كَانَ؟ قَالَ: فَكَانَ يَأْخُذُ لَنَا بِحَصَاةٍ فَيَرْمِي بِهَا فِي الطَّسْتِ فَيَطِنُّ. قَالَ: كُنَّا نَجِدُ فِي أَجْوَافِنَا مِثْلَ هَذَا.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ الْفَضْلِ قَالَا: ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ ثَنَا الْعَبَّاسُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بُكَيْرٍ الْحَضْرَمِيِّ ثَنَا أَيُّوبُ بْنُ جَابِرٍ عَنْ صَدَقَةَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَاللَّهِ مَا أَخْرَجَنِي إِسْلَامٌ وَلَا مَعْرِفَةٌ بِهِ، وَلَكِنْ أَبَيْتُ أَنْ تَظْهَرَ هَوَازِنُ عَلَى قُرَيْشٍ، فَقُلْتُ وَأَنَا وَاقِفٌ مَعَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَرَى خَيْلًا بُلْقًا. فَقَالَ: " يَا شَيْبَةُ إِنَّهُ لَا يَرَاهَا إِلَّا كَافِرٌ ". فَضَرَبَ يَدَهُ فِي صَدْرِي، ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ اهْدِ شَيْبَةَ ". ثُمَّ ضَرَبَهَا الثَّانِيَةَ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اهْدِ شَيْبَةَ ". ثُمَّ ضَرَبَهَا الثَّالِثَةَ، ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ اهْدِ شَيْبَةَ ". قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا رَفَعَ يَدَهُ عَنْ صَدْرِي فِي الثَّالِثَةِ حَتَّى مَا كَانَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهُ» ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي الْتِقَاءِ النَّاسِ، وَانْهِزَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَنِدَاءِ الْعَبَّاسِ وَاسْتِنْصَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى هَزَمَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ.
(7/33)
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، ثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ ثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى ثَنَا هِشَامُ بْنُ خَالِدٍ ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: «لَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَدْ عُرِّيَ، ذَكَرْتُ أَبِي وَعَمِّي، وَقَتْلَ عَلِيٍّ وَحَمْزَةَ إِيَّاهُمَا، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أُدْرِكُ ثَأْرِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَذَهَبْتُ لِأَجِيئَهُ عَنْ يَمِينِهِ، فَإِذَا أَنَا بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَائِمًا، عَلَيْهِ دِرْعٌ بَيْضَاءُ كَأَنَّهَا فِضَّةٌ يَنْكَشِفُ عَنْهَا الْعَجَاجُ، فَقُلْتُ: عَمُّهُ وَلَنْ يَخْذُلَهُ. قَالَ: ثُمَّ جِئْتُهُ عَنْ يَسَارِهِ، فَإِذَا أَنَا بِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقُلْتُ: ابْنُ عَمِّهِ وَلَنْ يَخْذُلَهُ. قَالَ: ثُمَّ جِئْتُهُ مِنْ خَلْفِهِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ أَسَاوِرَهُ سَوْرَةً بِالسَّيْفِ إِذْ رُفِعَ شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، كَأَنَّهُ بَرْقٌ، فَخِفْتُ أَنْ يَمْحَشَنِي، فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى بَصَرِي وَمَشَيْتُ الْقَهْقَرَى، فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: " يَا شَيْبُ يَا شَيْبُ، ادْنُ مِنِّي، اللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنْهُ الشَّيْطَانَ ". قَالَ فَرَفَعْتُ إِلَيْهِ بَصَرِي وَلَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ سَمْعِي وَبَصَرِي. فَقَالَ: " يَا شَيْبُ، قَاتِلِ الْكُفَّارَ» .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَخُو بَنِي عَبْدِ الدَّارِ: قُلْتُ: «الْيَوْمَ أُدْرِكُ ثَأْرِي - وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ - الْيَوْمَ أَقْتُلُ مُحَمَّدًا. قَالَ: فَأَدَرْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَقْتُلَهُ، فَأَقْبَلَ شَيْءٌ حَتَّى تَغَشَّى فُؤَادِي،
(7/34)
فَلَمْ أُطِقْ ذَاكَ وَعَلِمْتُ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنِّي» .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي وَالِدِي إِسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: «إِنَّا لَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَالنَّاسُ يَقْتَتِلُونَ، إِذْ نَظَرْتُ إِلَى مِثْلِ الْبِجَادِ الْأَسْوَدِ يَهْوِي مِنَ السَّمَاءِ حَتَّى وَقَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ، فَإِذَا نَمْلٌ مَنْثُورٌ قَدْ مَلَأَ الْوَادِي، فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا هَزِيمَةُ الْقَوْمِ، فَمَا كُنَّا نَشُكُّ أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ» . وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنِ الْأَصَمِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ بِهِ. وَزَادَ: فَقَالَ خَدِيجُ بْنُ الْعَوْجَاءِ النَّصْرِيُّ - يَعْنِي فِي ذَلِكَ -:
وَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ حُنَيْنٍ وَمَائِهِ ... رَأَيْنَا سَوَادًا مُنْكَرَ اللَّوْنِ أَخْصَفَا
بِمَلْمُومَةٍ شَهْبَاءَ لَوْ قَذَفُوا بِهَا ... شَمَارِيخَ مِنْ عَرْوَى إِذًا عَادَ صَفْصَفَا
وَلَوْ أَنَّ قَوْمِي طَاوَعَتْنِي سَرَاتُهُمْ ... إِذًا مَا لَقِينَا الْعَارِضَ الْمُتَكَشِّفَا
إِذًا مَا لَقِينَا جُنْدَ آلِ مُحَمَّدٍ ... ثَمَانِينَ أَلْفًا وَاسْتَمَدُّوا بِخِنْدِفَا
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ شِعْرِ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النَّصْرِيِّ رَئِيسِ هَوَازِنَ يَوْمَ
(7/35)
الْقِتَالِ وَهُوَ فِي حَوْمَةِ الْوَغَى يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ:
أَقْدِمْ مُحَاجُ إِنَّهُ يَوْمٌ نُكُرْ ... مِثْلِي عَلَى مِثْلِكَ يَحْمِي وَيَكُرْ
إِذَا أُضِيعَ الصَّفُّ يَوْمًا وَالدُّبُرْ ... ثُمَّ احْزَأَلَّتْ زُمَرٌ بَعْدَ زُمَرْ
كَتَائِبُ يَكِلُّ فِيهِنَّ الْبَصَرْ ... قَدْ أَطْعُنُ الطَّعْنَةَ تَقْذِي بِالسُّبُرْ
حِينَ يُذَمُّ الْمُسْتَكِينُ الْمُنْجَحِرْ ... وَأَطْعُنُ النَّجْلَاءَ تَعْوِي وَتَهِرْ
لَهَا مِنَ الْجَوْفِ رَشَاشٌ مُنْهَمِرْ ... تَفْهَقُ تَارَاتٍ وَحِينًا تَنْفَجِرْ
وَثَعْلَبُ الْعَامِلِ فِيهَا مُنْكَسِرْ ... يَا زَيْنُ يَابْنَ هَمْهَمٍ أَيْنَ تَفِرْ
قَدْ نَفِدَ الضِّرْسُ وَقَدْ طَالَ الْعُمُرْ ... قَدْ عَلِمَ الْبِيضُ الطَّوِيلَاتُ الْخُمُرْ
أَنِّي فِي أَمْثَالِهَا غَيْرُ غَمِرْ ... إِذْ تَخْرُجُ الْحَاضِنُ مِنْ تَحْتِ السُّتُرْ
وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ أَنْشَدَ مِنْ شِعْرِ مَالِكٍ
(7/36)
أَيْضًا حِينَ وَلَّى أَصْحَابُهُ مُنْهَزِمِينَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ، وَقِيلَ هِيَ لِغَيْرِهِ:
اذْكُرْ مَسِيرَهُمُ لِلنَّاسِ كُلِّهِمُ ... وَمَالِكٌ فَوْقَهُ الرَّايَاتُ تَخْتَفِقُ
وَمَالِكٌ مَالِكٌ مَا فَوْقَهُ أَحَدٌ ... يَوْمَ حُنَيْنٍ عَلَيْهِ التَّاجُ يَأْتَلِقُ
حَتَّى لَقُوا النَّاسَ حِينَ الْبَأْسِ يَقْدُمُهُمْ ... عَلَيْهِمُ الْبَيْضُ وَالْأَبْدَانُ وَالدَّرَقُ
فَضَارَبُوا النَّاسَ حَتَّى لَمْ يَرَوْا أَحَدًا ... حَوْلَ النَّبِيِّ وَحَتَّى جَنَّهُ الْغَسَقُ
حَتَّى تَنَزَّلَ جِبْرِيلُ بِنَصْرِهِمُ ... فَالْقَوْمُ مُنْهَزِمٌ مِنَّا وَمُعْتَلِقُ
مِنَّا وَلَوْ غَيْرُ جِبْرِيلَ يُقَاتِلُنَا ... لَمَنَّعَتْنَا إِذًا أَسْيَافُنَا الْغُلُقُ
وَقَدْ وَفَى عُمَرُ الْفَارُوقُ إِذْ هَزَمُوا ... بِطَعْنَةٍ بَلَّ مِنْهَا سَرْجَهُ الْعُلُقُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا هَزَمَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ، وَأَمْكَنَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(7/37)
مِنْهُمْ، قَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ:
قَدْ غَلَبَتْ خَيْلُ اللَّهِ خَيْلَ اللَّاتِ ... وَاللَّهُ أَحَقُّ بِالثَّبَاتْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَقَدْ أَنْشَدَنِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الرِّوَايَةِ لِلشِّعْرِ:
غَلَبَتْ خَيْلُ اللَّهِ خَيْلَ اللَّاتْ ... وَخَيْلُهُ أَحَقُّ بِالثَّبَاتْ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ «فَلَمَّا انْهَزَمَتْ هَوَازِنُ اسْتَحَرَّ الْقَتْلُ مِنْ ثَقِيفٍ فِي بَنِي مَالِكٍ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا تَحْتَ رَايَتِهِمْ، وَكَانَتْ مَعَ ذِي الْخِمَارِ، فَلَمَّا قُتِلَ أَخَذَهَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ حَبِيبٍ فَقَاتَلَ بِهَا حَتَّى قُتِلَ، فَأَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ وَهْبِ بْنِ الْأَسْوَدِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا بَلَغَهُ قَتْلُهُ قَالَ: " أَبْعَدَهُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ كَانَ يَبْغُضُ قُرَيْشًا» .
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عَتَبَةَ أَنَّهُ قُتِلَ مَعَ عُثْمَانَ هَذَا غُلَامٌ لَهُ نَصْرَانِيٌّ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لِيَسْلُبَهُ، فَإِذَا هُوَ أَغْرَلُ، فَصَاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ، يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّ ثَقِيفًا غُرْلٌ. قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ الثَّقَفِيُّ: فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، وَخَشِيتُ أَنْ تَذْهَبَ عَنَّا فِي الْعَرَبِ، فَقُلْتُ: لَا تَقُلْ كَذَلِكَ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، إِنَّمَا هُوَ غُلَامٌ لَنَا نَصْرَانِيٌّ. ثُمَّ جَعَلْتُ أَكْشِفُ لَهُ الْقَتْلَى فَأَقُولُ لَهُ: أَلَا تَرَاهُمْ مُخْتَتِنِينَ كَمَا تَرَى؟
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: «وَكَانَتْ رَايَةُ الْأَحْلَافِ مَعَ قَارِبِ بْنِ الْأَسْوَدِ فَلَمَّا انْهَزَمَ
(7/38)
النَّاسُ أَسْنَدَ رَايَتَهُ إِلَى شَجَرَةٍ، وَهَرَبَ هُوَ وَبَنُو عَمِّهِ وَقَوْمُهُ، فَلَمْ يُقْتَلْ مِنَ الْأَحْلَافِ غَيْرُ رَجُلَيْنِ; رَجُلٌ مِنْ بَنِي غِيَرَةَ يُقَالُ لَهُ: وَهْبٌ. وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي كُبَّةَ يُقَالُ لَهُ: الْجُلَاحُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَلَغَهُ قَتْلُ الْجُلَاحِ: " قُتِلَ الْيَوْمَ سَيِّدُ شَبَابِ ثَقِيفٍ، إِلَّا مَا كَانَ مِنِ ابْنِ هُنَيْدَةَ " يَعْنِي الْحَارِثَ بْنَ أُوَيْسٍ» .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ يَذْكُرُ قَارِبَ بْنَ الْأَسْوَدِ وَفِرَارَهُ مِنْ بَنِي أَبِيهِ، وَذَا الْخِمَارِ وَحَبْسَهُ نَفْسَهُ وَقَوْمَهُ لِلْمَوْتِ:
أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ غَيْلَانَ عَنِّي ... وَسَوْفَ إِخَالُ يَأْتِيهِ الْخَبِيرُ
وَعُرْوَةَ إِنَّمَا أُهْدِي جَوَابًا ... وَقَوْلًا غَيْرَ قَوْلِكَمَا يَسِيرُ
بِأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدٌ رَسُولٌ ... لِرَبٍّ لَا يَضِلُّ وَلَا يَجُورُ
وَجَدْنَاهُ نَبِيًّا مِثْلَ مُوسَى ... فَكُلُّ فَتًى يُخَايِرُهُ مَخِيرُ
وَبِئْسَ الْأَمْرُ أَمْرُ بَنِي قُسِيٍّ ... بِوَجٍّ إِذْ تُقُسِّمَتِ الْأُمُورُ
أَضَاعُوا أَمْرَهُمْ وَلِكُلِّ قَوْمٍ ... أَمِيرٌ وَالدَّوَائِرُ قَدْ تَدُورُ
فَجِئْنَا أُسْدَ غَابَاتٍ إِلَيْهِمْ ... جُنُودُ اللَّهِ ضَاحِيَةً تَسِيرُ
نَؤُمُّ الْجَمْعَ جَمْعَ بَنِي قَسِيٍّ ... عَلَى حَنَقٍ نَكَادُ لَهُ نَطِيرُ
(7/39)
وَأُقْسِمُ لَوْ هُمُ مَكَثُوا لَسِرْنَا
إِلَيْهِمْ بِالْجُنُودِ وَلَمْ يَغُورُوا ... فَكُنَّا أُسْدَ لِيَّةَ ثُمَّ حَتَّى
أَبَحْنَاهَا وَأَسْلَمَتِ النُّصُورُ ... وَيَوْمٌ كَانَ قَبْلُ لَدَى حُنَيْنٍ
فَأَقْلَعَ وَالدِّمَاءُ بِهِ تَمُورُ ... مِنَ الْأَيَّامِ لَمْ تَسْمَعْ كَيَوْمٍ
وَلَمْ يَسْمَعْ بِهِ قَوْمٌ ذُكُورُ ... قَتَلْنَا فِي الْغُبَارِ بَنِي حُطَيْطٍ
عَلَى رَايَاتِهَا وَالْخَيْلُ زُورٌ ... وَلَمْ يَكُ ذُو الْخِمَارِ رَئِيسَ قَوْمٍ
لَهُمْ عَقْلٌ يُعَاقِبُ أَوْ نَكِيرُ ... أَقَامَ بِهِمْ عَلَى سَنَنِ الْمَنَايَا
وَقَدْ بَانَتْ لِمُبْصِرِهَا الْأُمُورُ ... فَأَفْلَتَ مَنْ نَجَا مِنْهُمْ جَرِيضًا
وَقُتِّلَ مِنْهُمُ بَشَرٌ كَثِيرٌ ... وَلَا يُغْنِي الْأُمُورَ أَخُو التَّوَانِي
وَلَا الْغَلِقُ الصُّرَيِّرَةُ الْحَصُورُ ... أَحَانَهُمْ وَحَانَ وَمَلَّكُوهُ
أُمُورَهُمُ وَأَفْلَتَتِ الصُّقُورُ ... بَنُو عَوْفٍ تَمِيحُ بِهِمْ جِيَادٌ
أُهِينَ لَهَا الْفَصَافِصُ وَالشَّعِيرُ
(7/40)
فَلَوْلَا قَارِبٌ وَبَنُو أَبِيهِ ... تُقُسِّمَتِ الْمَزَارِعُ وَالْقُصُورُ
وَلَكِنَّ الرِّيَاسَةَ عُمِّمُوهَا ... عَلَى يُمْنٍ أَشَارَ بِهِ الْمُشِيرُ
أَطَاعُوا قَارِبًا وَلَهُمْ جُدُودٌ ... وَأَحْلَامٌ إِلَى عِزٍّ تَصِيرُ
فَإِنْ يُهْدَوْا إِلَى الْإِسْلَامِ يُلْفَوْا ... أُنُوفَ النَّاسِ مَا سَمَرَ السَّمِيرُ
فَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا فَهُمُ أَذَانٌ ... بِحَرْبِ اللَّهِ لَيْسَ لَهُمُ نَصِيرُ
كَمَا حَكَّتْ بَنُو سَعْدٍ وَحَرْبٍ ... بِرَهْطِ بَنِي غَزِيَّةَ عَنْقَفِيرُ
كَأَنَّ بَنِي مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ ... إِلَى الْإِسْلَامِ ضَائِنَةٌ تَخُورُ
فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إِنَّا أَخُوكُمُ ... وَقَدْ بَرَأَتْ مِنَ الْإِحَنِ الصُّدُورُ
كَأَنَّ الْقَوْمَ إِذْ جَاءُوا إِلَيْنَا ... مِنَ الْبَغْضَاءِ بَعْدَ السِّلْمِ عُورُ
(7/41)
[هَزِيمَةُ هَوَازِنَ]
فَصْلٌ (هَزِيمَةُ هَوَازِنَ) .
وَلَمَّا انْهَزَمَتْ هَوَازِنُ وَقَفَ مَلِكُهُمْ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ عَلَى ثَنِيَّةٍ مَعَ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: قِفُوا حَتَّى تَجُوزَ ضُعَفَاؤُكُمْ وَتَلْحَقَ أُخْرَاكُمْ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَبَلَغَنِي أَنَّ خَيْلًا طَلَعَتْ وَمَالَكٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَى الثَّنِيَّةِ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَاذَا تَرَوْنَ؟ قَالُوا: نَرَى قَوْمًا وَاضِعِي رِمَاحِهِمْ بَيْنَ آذَانِ خَيْلِهِمْ، طَوِيلَةً بِوَادُّهُمْ. فَقَالَ: هَؤُلَاءِ بَنُو سُلَيْمٍ، وَلَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ. فَلَمَّا أَقْبَلُوا سَلَكُوا بَطْنَ الْوَادِي، ثُمَّ طَلَعَتْ خَيْلٌ أُخْرَى تَتْبَعُهَا، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَاذَا تَرَوْنَ؟ قَالُوا: نَرَى قَوْمًا عَارِضِي رِمَاحِهِمْ أَغْفَالًا عَلَى خَيْلِهِمْ. فَقَالَ: هَؤُلَاءِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، وَلَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ. فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى أَصْلِ الثَّنِيَّةِ سَلَكُوا طَرِيقَ بَنِي سُلَيْمٍ، ثُمَّ طَلَعَ فَارِسٌ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَاذَا تَرَوْنَ؟ فَقَالُوا: نَرَى فَارِسًا طَوِيلَ الْبَادِّ، وَاضِعًا رُمْحَهُ عَلَى عَاتِقِهِ، عَاصِبًا رَأْسَهُ بِمُلَاءَةٍ حَمْرَاءَ. قَالَ: هَذَا الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَأُقْسِمُ بِاللَّاتِ لِيُخَالِطَنَّكُمْ فَاثْبُتُوا لَهُ. فَلَمَّا انْتَهَى الزُّبَيْرُ إِلَى أَصْلِ الثَّنِيَّةِ أَبْصَرَ الْقَوْمَ فَصَمَدَ لَهُمْ، فَلَمْ يَزَلْ يُطَاعِنُهُمْ حَتَّى أَزَاحَهُمْ عَنْهَا.
(7/42)
[أَمْرُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَمْعِ الْغَنَائِمِ]
فَصْلٌ (أَمْرُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَمْعِ الْغَنَائِمِ) .
وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغَنَائِمِ فَجُمِعَتْ مِنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالرَّقِيقِ، وَأَمَرَ أَنْ تُسَاقَ إِلَى الْجِعْرَانَةِ فَتُحْبَسَ هُنَاكَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْغَنَائِمِ مَسْعُودَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ.
[مُرُورُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَرْأَةِ الَّتِي قَتَلَهَا خَالِدٌ]
فَصْلٌ (مُرُورُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَرْأَةِ الَّتِي قَتَلَهَا خَالِدٌ) .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ يَوْمَئِذٍ بِامْرَأَةٍ قَتَلَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَالنَّاسُ مُتَقَصِّفُونَ عَلَيْهَا، فَقَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: " أَدْرِكْ خَالِدًا فَقُلْ لَهُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَاكَ أَنْ تَقْتُلَ وَلِيدًا أَوِ امْرَأَةً أَوْ عَسِيفًا» هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ مُنْقَطِعًا.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو ثَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ حَدَّثَنِي الْمُرَقَّعُ بْنُ صَيْفِيٍّ عَنْ جَدِّهِ رَبَاحِ
(7/43)
بْنِ رَبِيعٍ أَخِي حَنْظَلَةَ الْكَاتِبِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ «خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا، وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَمَرَّ رَبَاحٌ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى امْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ مِمَّا أَصَابَتِ الْمُقَدِّمَةُ، فَوَقَفُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ خَلْقِهَا حَتَّى لَحِقَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَانْفَرَجُوا عَنْهَا، فَوَقَفَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ ". فَقَالَ لِأَحَدِهِمْ: " الْحَقْ خَالِدًا فَقُلْ لَهُ: لَا تَقْتُلَنَّ ذَرِّيَّةً وَلَا عَسِيفًا ".» وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الْمُرَقَّعِ بْنِ صَيْفِيٍّ بِهِ نَحْوَهُ.
[سَرِيَّةُ أَوْطَاسٍ]
وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ هَوَازِنَ لَمَّا انْهَزَمَتْ ذَهَبَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ، فِيهِمُ الرَّئِيسُ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ فَلَجَئُوا إِلَى الطَّائِفِ فَتَحَصَّنُوا بِهَا، وَسَارَتْ فِرْقَةٌ فَعَسْكَرُوا بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: أَوَطَاسٌ. فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَيْهِمْ أَبُو عَامِرٍ الْأَشْعَرِيُّ فَقَاتَلُوهُمْ فَغَلَبُوهُمْ، ثُمَّ سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ، فَحَاصَرَ أَهْلَ الطَّائِفِ كَمَا سَيَأْتِي.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَتَوْا الطَّائِفَ وَمَعَهُمْ
(7/44)
مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ وَعَسْكَرَ بَعْضُهُمْ بِأَوْطَاسٍ، وَتَوَجَّهَ بَعْضُهُمْ نَحْوَ نَخْلَةَ، وَلَمْ يَكُنْ فِيمَنْ تَوَجَّهَ نَحْوَ نَخْلَةَ إِلَّا بَنُو غَيْرَةَ مِنْ ثَقِيفٍ، وَتَبِعَتْ خَيْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَلَكَ فِي نَخْلَةَ مِنَ النَّاسِ، وَلَمْ تَتْبَعْ مَنْ سَلَكَ الثَّنَايَا. قَالَ: فَأَدْرَكَ رَبِيعَةُ بْنُ رُفَيْعِ بْنِ أُهْبَانَ السُّلَمِيُّ - وَيُعْرَفُ بِابْنِ الدُّغُنَّةِ وَهِيَ أُمُّهُ - دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ فَأَخَذَ بِخِطَامِ جَمَلِهِ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ امْرَأَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ فِي شِجَارٍ لَهُ، فَإِذَا بِرَجُلٍ، فَأَنَاخَ بِهِ، فَإِذَا شَيْخٌ كَبِيرٌ، وَإِذَا دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ وَلَا يَعْرِفُهُ الْغُلَامُ، فَقَالَ لَهُ دُرَيْدٌ: مَاذَا تُرِيدُ بِي؟ قَالَ أَقْتُلُكَ. قَالَ: وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا رَبِيعَةُ بْنُ رُفَيْعٍ السُّلَمِيُّ. ثُمَّ ضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ، فَلَمْ يُغْنِ شَيْئًا، قَالَ: بِئْسَ مَا سَلَّحَتْكَ أُمُّكَ، خُذْ سَيْفِي هَذَا مِنْ مُؤَخَّرِ رَحْلِي فِي الشِّجَارِ، ثُمَّ اضْرِبْ بِهِ، وَارْفَعْ عَنِ الْعِظَامِ وَاخْفِضْ عَنِ الدِّمَاغِ، فَإِنِّي كَذَلِكَ كُنْتُ أَضْرِبُ الرِّجَالَ، ثُمَّ إِذَا أَتَيْتَ أُمَّكَ فَأَخْبِرْهَا أَنَّكَ قَتَلْتَ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ فَرُبَّ - وَاللَّهِ - يَوْمٍ مَنَعْتُ فِيهِ نِسَاءَكَ. فَزَعَمَ بَنُو سُلَيْمٍ أَنَّ رَبِيعَةَ قَالَ: لَمَّا ضَرَبْتُهُ فَوَقَعَ تَكَشَّفَ، فَإِذَا عِجَانُهُ وَبُطُونُ فَخِذَيْهِ مِثْلُ الْقَرَاطِيسِ مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ أَعْرَاءً. فَلَمَّا رَجَعَ رَبِيعَةُ إِلَى أُمِّهِ أَخْبَرَهَا بِقَتْلِهِ إِيَّاهُ، فَقَالَتْ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ أَعْتَقَ أُمَّهَاتٍ لَكَ ثَلَاثًا. ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ مَا رَثَتْ بِهِ عَمْرَةُ بِنْتُ دُرَيْدٍ أَبَاهَا، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهَا:
(7/45)
قَالُوا قَتَلْنَا دُرَيْدًا قُلْتُ قَدْ صَدَقُوا ... فَظَلَّ دَمْعِي عَلَى السِّرْبَالِ مُنْحَدِرُ
لَوْلَا الَّذِي قَهَرَ الْأَقْوَامَ كُلَّهُمُ ... رَأَتْ سُلَيْمٌ وَكَعْبٌ كَيْفَ تَأْتَمِرُ
إِذَنْ لَصَبَّحَهُمْ غِبًّا وَظَاهِرَةً ... حُيْثُ اسْتَقَرَّتْ نَوَاهُمْ جَحْفَلٌ ذَفِرُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آثَارِ مَنْ تَوَجَّهَ قِبَلَ أَوْطَاسٍ أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيَّ فَأَدْرَكَ مِنَ النَّاسِ بَعْضَ مَنِ انْهَزَمَ، فَنَاوَشُوهُ الْقِتَالَ، فَرُمِيَ أَبُو عَامِرٍ فَقُتِلَ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَهُوَ ابْنُ عَمِّهِ فَقَاتَلَهُمْ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَهَزَمَهُمُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ دُرَيْدٍ هُوَ الَّذِي رَمَى أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيَّ بِسَهْمٍ، فَأَصَابَ رُكْبَتَهُ فَقَتَلَهُ وَقَالَ:
إِنْ تَسْأَلُوا عَنِّي فَإِنِّي سَلَمَهْ ... ابْنُ سَمَادِيرَ لِمَنْ تَوَسَّمَهْ
أَضْرِبُ بِالسَّيْفِ رُءُوسَ الْمُسْلِمَهْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَحَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ وَحَدِيثِهِ، أَنَّ أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيَّ لَقِيَ يَوْمَ أَوْطَاسٍ عَشَرَةَ إِخْوَةٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمْ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو عَامِرٍ وَهُوَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِ. فَقَتَلَهُ
(7/46)
أَبُو عَامِرٍ ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِ آخَرُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو عَامِرٍ وَهُوَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِ. فَقَتَلَهُ أَبُو عَامِرٍ ثُمَّ جَعَلُوا يَحْمِلُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ ذَلِكَ، حَتَّى قَتَلَ تِسْعَةً، وَبَقِيَ الْعَاشِرُ، فَحَمَلَ عَلَى أَبِي عَامِرٍ وَحَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو عَامِرٍ وَهُوَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِ. فَقَالَ الرَّجُلُ: اللَّهُمَّ لَا تَشْهَدْ عَلَيَّ. فَكَفَّ عَنْهُ أَبُو عَامِرٍ فَأَفْلَتَ، فَأَسْلَمَ بَعْدُ، فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَآهُ قَالَ: " «هَذَا شَرِيدُ أَبِي عَامِرٍ» " قَالَ: وَرَمَى أَبَا عَامِرٍ أَخَوَانِ; الْعَلَاءُ وَأَوْفَى أَبْنَاءُ الْحَارِثِ مِنْ بَنِي جُشَمَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَأَصَابَ أَحَدُهُمَا قَلْبَهُ وَالْآخِرُ رُكْبَتَهُ فَقَتَلَاهُ، وَوَلَّى النَّاسُ أَبَا مُوسَى فَحَمَلَ عَلَيْهِمَا فَقَتَلَهُمَا، فَقَالَ رَجُلٌ مَنْ بَنِي جُشَمَ يَرْثِيهِمَا:
وَإِنَّ الرَّزِيَّةَ قَتْلُ الْعَلَاءِ ... وَأَوْفَى جَمِيعًا وَلَمْ يُسْنَدَا
هُمَا الْقَاتِلَانِ أَبَا عَامِرٍ ... وَقَدْ كَانَ ذَا هَبَّةٍ أَرْبَدَا
هُمَا تَرَكَاهُ لَدَى مَعْرَكٍ ... كَأَنَّ عَلَى عِطْفِهِ مُجْسَدَا
فَلَمْ يَرَ فِي النَّاسِ مِثْلَيْهِمَا ... أَقَلَّ عِثَارًا وَأَرْمَى يَدَا
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: «لَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حُنَيْنٍ بَعَثَ أَبَا عَامِرٍ عَلَى جَيْشٍ إِلَى أَوْطَاسٍ، فَلَقِيَ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ فَقُتِلَ دُرَيْدٌ وَهَزَمَ
(7/47)
اللَّهُ أَصْحَابَهُ. قَالَ أَبُو مُوسَى: وَبَعَثَنِي مَعَ أَبِي عَامِرٍ فَرُمِيَ أَبُو عَامِرٍ فِي رُكْبَتِهِ، رَمَاهُ جُشَمِيٌّ بِسَهْمٍ فَأَثْبَتَهُ فِي رُكْبَتِهِ. قَالَ فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا عَمِّ، مَنْ رَمَاكَ؟ فَأَشَارَ إِلَى أَبِي مُوسَى فَقَالَ: ذَاكَ قَاتِلِي الَّذِي رَمَانِي. فَقَصَدْتُ لَهُ فَلَحِقْتُهُ، فَلَمَّا رَآنِي وَلَّى، فَاتَّبَعْتُهُ وَجَعَلْتُ أَقُولُ لَهُ: أَلَا تَسْتَحِي؟ أَلَا تَثْبُتُ؟ فَكَفَّ، فَاخْتَلَفْنَا ضَرْبَتَيْنِ بِالسَّيْفِ فَقَتَلْتُهُ، ثُمَّ قُلْتُ لِأَبِي عَامِرٍ: قَتَلَ اللَّهُ صَاحِبَكَ. قَالَ: فَانْزِعْ هَذَا السَّهْمَ. فَنَزَعْتُهُ فَنَزَا مِنْهُ الْمَاءُ. قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي أَقْرِئْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ اسْتَغْفِرْ لِي. وَاسْتَخْلَفَنِي أَبُو عَامِرٍ عَلَى النَّاسِ، فَمَكَثَ يَسِيرًا ثُمَّ مَاتَ، فَرَجَعْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ عَلَى سَرِيرٍ مُرَمَّلٍ، وَعَلَيْهِ فِرَاشٌ قَدْ أَثَّرَ رِمَالُ السَّرِيرِ بِظَهْرِهِ وَجَنْبَيْهِ، فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِنَا وَخَبَرِ أَبِي عَامِرٍ وَقَوْلِهِ: قُلْ لَهُ: اسْتَغْفِرْ لِي. قَالَ فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِي عَامِرٍ ". وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبِطَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِكَ " أَوْ " مِنَ النَّاسِ ". فَقُلْتُ: وَلِي فَاسْتَغْفِرْ. فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ ذَنْبَهُ، وَأَدْخِلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُدْخَلًا كَرِيمًا» قَالَ أَبُو بُرْدَةَ: إِحْدَاهُمَا لِأَبِي عَامِرٍ وَالْأُخْرَى لِأَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَلَاءِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَرَّادٍ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ بِهِ نَحْوَهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ - هُوَ الثَّوْرِيُّ - عَنْ
(7/48)
عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «أَصَبْنَا نِسَاءً مِنْ سَبْيِ أَوْطَاسٍ وَلَهُنَّ أَزْوَاجٌ، فَكَرِهْنَا أَنْ نَقَعَ عَلَيْهِنَّ وَلَهُنَّ أَزْوَاجٌ، فَسَأَلْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] . قَالَ: فَاسْتَحْلَلْنَا بِهَا فُرُوجَهُنَّ» وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ بِهِ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ - زَادَ مُسْلِمٌ: وَشُعْبَةُ - وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ عَنْ أَبِي عَلْقَمَةَ الْهَاشِمِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ «أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابُوا سَبَايَا يَوْمَ أَوْطَاسٍ لَهُنَّ أَزْوَاجٌ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، فَكَانَ أُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفُّوا وَتَأَثَّمُوا مِنْ غِشْيَانِهِنَّ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] » وَهَذَا لَفْظُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فَزَادَ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ أَبَا عَلْقَمَةَ الْهَاشِمِيَّ وَهُوَ ثِقَةٌ، وَكَانَ هَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ طَلَاقُهَا. رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ
(7/49)
وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَخَالَفَهُمُ الْجُمْهُورُ مُسْتَدِلِّينَ بِحَدِيثِ بَرِيرَةَ، حَيْثُ بِيعَتْ ثُمَّ خُيِّرَتْ فِي فَسْخِ نِكَاحِهَا أَوْ إِبْقَائِهِ، فَلَوْ كَانَ بَيْعُهَا طَلَاقًا لَهَا لَمَا خُيِّرَتْ، وَقَدْ تَقَصَّيْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي " التَّفْسِيرِ " بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَسَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي " الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ ". وَقَدِ اسْتَدَلَّ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ عَلَى إِبَاحَةِ الْأَمَةِ الْمُشْرِكَةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ، وَخَالَفَهُمُ الْجُمْهُورُ، وَقَالُوا: هَذِهِ قَضِيَّةُ عَيْنٍ، فَلَعَلَّهُنَّ أَسْلَمْنَ أَوْ كُنَّ كِتَابِيَّاتٍ، وَمَوْضِعُ تَقْرِيرِ ذَلِكَ فِي " الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
[فَصْلٌ فِيمَنِ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَسَرِيَّةِ أَوْطَاسٍ]
أَيْمَنُ ابْنُ أُمِّ أَيْمَنَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ وَيَزِيدُ بْنُ زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدٍ جَمَحَ بِهِ فَرَسُهُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: الْجَنَاحُ. فَمَاتَ وَسُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيُّ مِنْ بَنِي الْعَجْلَانِ، وَأَبُو عَامِرٍ الْأَشْعَرِيُّ أَمِيرُ سَرِيَّةِ أَوْطَاسٍ، فَهَؤُلَاءِ أَرْبَعَةٌ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
(7/50)
[فَصْلٌ فِيمَا قِيلَ مِنَ الْأَشْعَارِ فِي غَزْوَةِ هَوَازِنَ]
فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بُجَيْرِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى:
لَوْلَا الْإِلَهُ وَعَبْدُهُ وَلَّيْتُمُ ... حِينَ اسْتَخَفَّ الرُّعْبُ كُلَّ جَبَانِ
بِالْجِزْعِ يَوْمَ حَبَا لَنَا أَقْرَانُنَا ... وَسَوَابِحُ يَكْبُونَ لِلْأَذْقَانِ
مِنْ بَيْنِ سَاعٍ ثَوْبُهُ فِي كَفِّهِ ... وَمُقَطَّرٍ بِسَنَابِكَ وَلَبَانِ
وَاللَّهُ أَكْرَمَنَا وَأَظْهَرَ دِينَنَا ... وَأَعَزَّنَا بِعِبَادَةِ الرَّحْمَنِ
وَاللَّهُ أَهْلَكَهُمْ وَفَرَّقَ جَمْعَهُمْ ... وَأَذَلَّهُمْ بِعِبَادَةِ الشَّيْطَانِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيَرْوِي فِيهَا بَعْضُ الرُّوَاةِ:
إِذْ قَامَ عَمُّ نَبِيِّكُمْ وَوَلِيُّهُ ... يَدْعُونَ يَا لَكَتِيبَةِ الْإِيمَانِ
أَيْنَ الَّذِينَ هُمُ أَجَابُوا رَبَّهُمْ ... يَوْمَ الْعُرَيْضِ وَبَيْعَةِ الرِّضْوَانِ
(7/50)
وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ:
فَإِنِّي وَالسَّوَابِحُ يَوْمَ جَمْعٍ ... وَمَا يَتْلُو الرَّسُولُ مِنَ الْكِتَابِ
لَقَدْ أَحْبَبْتُ مَا لَقِيَتْ ثَقِيفٌ ... بِجَنْبِ الشِّعِبِ أَمْسِ مِنَ الْعَذَابِ
هُمُ رَأْسُ الْعَدُوِّ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ... فَقَتْلُهُمُ أَلَذُّ مِنَ الشَّرَابِ
هَزَمْنَا الْجَمْعَ جَمْعَ بَنِي قَسِيٍّ ... وَحَكَّتْ بَرْكَهَا بِبَنِي رِئَابِ
وَصِرْمًا مِنْ هِلَالٍ غَادَرَتْهُمْ ... بِأَوْطَاسٍ تُعَفَّرُ بِالتُّرَابِ
وَلَوْ لَاقَيْنَ جَمْعَ بَنِي كِلَابٍ ... لَقَامَ نِسَاؤُهُمْ وَالنَّقْعُ كَابِي
رَكَضْنَا الْخَيْلَ فِيهِمْ بَيْنَ بُسٍّ ... إِلَى الْأَوْرَالِ تَنْحِطُ بِالنَّهَابِ
بِذِي لَجَبٍ رَسُولُ اللَّهِ فِيهِمْ ... كَتِيبَتُهُ تَعَرَّضُ لِلضِّرَابِ
وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا:
(7/52)
يَا خَاتَمَ النُّبَآءِ إِنَّكَ مُرْسَلٌ ... بِالْحَقِّ، كُلُّ هُدَى السَّبِيلِ هُدَاكَا
إِنَّ الْإِلَهَ بَنَى عَلَيْكَ مَحَبَّةً ... فِي خَلْقِهِ وَمُحَمَّدًا سَمَّاكَا
ثُمَّ الَّذِينَ وَفَوْا بِمَا عَاهَدْتَهُمْ ... جُنْدٌ بَعَثْتَ عَلَيْهِمُ الضَّحَّاكَا
رَجُلًا بِهِ ذَرَبُ السِّلَاحِ كَأَنَّهُ ... لَمَّا تَكَنَّفَهُ الْعَدُوُّ يَرَاكَا
يَغْشَى ذَوِي النَّسَبِ الْقَرِيبِ وَإِنَّمَا ... يَبْغِي رِضَا الرَّحْمَنِ ثُمَّ رِضَاكَا
أُنْبِيكَ أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَكَرَّهُ ... تَحْتَ الْعَجَاجَةِ يَدْمَغُ الْإِشْرَاكَا
طَوْرًا يُعَانِقُ بِالْيَدَيْنِ وَتَارَةً ... يَفْرِي الْجَمَاجِمَ صَارِمًا بَتَّاكَا
يَغْشَى بِهِ هَامَ الْكَمَاةِ وَلَوْ تَرَى ... مِنْهُ الَّذِي عَايَنْتُ كَانَ شِفَاكَا
وَبَنُو سُلَيْمٍ مُعْنِقُونَ أَمَامَهُ ... ضَرْبًا وَطَعْنًا فِي الْعَدُوِّ دِرَاكًا
يَمْشُونَ تَحْتَ لِوَائِهِ وَكَأَنَّهُمْ ... أُسْدُ الْعَرِينِ أَرَدْنَ ثَمَّ عِرَاكَا
مَا يَرْتَجُونَ مِنَ الْقَرِيبِ قَرَابَةً ... إِلَّا لِطَاعَةِ رَبِّهِمْ وَهَوَاكَا
هَذِي مَشَاهِدُنَا الَّتِي كَانَتْ لَنَا ... مَعْرُوفَةً وَوَلِيُّنَا مَوْلَاكَا
(7/53)
وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا:
عَفَا مِجْدَلٌ مِنْ أَهْلِهِ فَمُتَالِعُ ... فَمِطْلَى أَرِيكٍ قَدْ خَلَا فَالْمَصَانِعُ
دِيَارٌ لَنَا يَا جُمْلُ إِذْ جُلُّ عَيْشِنَا ... رَخِيٌّ وَصَرْفُ الدَّهْرِ لِلْحَيِّ جَامِعُ
حُبَيِّبَةٌ أَلْوَتْ بِهَا غُرْبَةُ النَّوَى ... لِبَيْنٍ فَهَلْ مَاضٍ مِنَ الْعَيْشِ رَاجِعُ
فَإِنْ تَبْتَغِي الْكُفَّارَ غَيْرَ مَلُومَةٍ ... فَإِنِّي وَزِيرٌ لِلنَّبِيِّ وَتَابِعُ
دَعَانَا إِلَيْهِ خَيْرُ وَفْدٍ عَلِمْتُمْ ... خُزَيْمَةُ وَالْمَرَّارُ مِنْهُمْ وَوَاسِعُ
فَجِئْنَا بِأَلْفٍ مِنْ سُلَيْمٍ عَلَيْهِمُ ... لَبُوسٌ لَهُمْ مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ رَائِعُ
نُبَايِعُهُ بِالْأَخْشَبَيْنِ وَإِنَّمَا ... يَدُ اللَّهِ بَيْنَ الْأَخْشَبَيْنِ نُبَايِعُ
فَجُسْنَا مَعَ الْمَهْدِيِّ مَكَّةَ عَنْوَةً ... بِأَسْيَافِنَا وَالنَّقْعُ كَابٍ وَسَاطِعُ
عَلَانِيَةً وَالْخَيْلُ يَغْشَى مُتُونَهَا ... حَمِيمٌ وَآنٍ مِنْ دَمِ الْجَوْفِ نَاقِعُ
وَيْوَمَ حُنَيْنٍ حِينَ سَارَتْ هَوَازِنُ ... إِلَيْنَا وَضَاقَتْ بِالنُّفُوسِ الْأَضَالِعُ
(7/54)
صَبَرْنَا مَعَ الضَّحَّاكِ لَا يَسْتَفِزُّنَا ... قِرَاعُ الْأَعَادِي مِنْهُمُ وَالْوَقَائِعُ
أَمَامَ رَسُولِ اللَّهِ يَخْفِقُ فَوْقَنَا ... لِوَاءٌ كَخُذْرُوفِ السَّحَابَةِ لَامَعُ
عَشِيَّةَ ضَحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ مُعْتَصٍ ... بِسَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ وَالْمَوْتُ كَانِعُ
نَذُودُ أَخَانَا عَنْ أَخِينَا وَلَوْ نَرَى ... مَصَالًا لَكُنَّا الْأَقْرَبِينَ نُتَابِعُ
وَلَكِنَّ دِينَ اللَّهِ دِينَ مُحَمَّدٍ ... رَضِينَا بِهِ فِيهِ الْهُدَى وَالشَّرَائِعُ
أَقَامَ بِهِ بَعْدَ الضَّلَالَةِ أَمْرَنَا ... وَلَيْسَ لِأَمْرٍ حَمَّهُ اللَّهُ دَافِعُ
وَقَالَ عَبَّاسٌ أَيْضًا:
تَقَطَّعَ بَاقِي وَصْلِ أُمِّ مُؤَمَّلِ ... بِعَاقِبَةٍ وَاسْتَبْدَلَتْ نِيَّةً خُلْفَا
وَقَدْ حَلَفَتْ بِاللَّهِ لَا تَقْطَعُ الْقُوَى ... فَمَا صَدَقَتْ فِيهِ وَلَا بَرَّتِ الْحَلْفَا
خُفَافِيَّةٌ بَطْنُ الْعَقِيقِ مَصِيفُهَا ... وَتَحْتَلُّ فِي الْبَادِينَ وَجْرَةَ فَالْعُرْفَا
(7/55)
فَإِنْ تَتَبَعِ الْكُفَّارَ أُمُّ مُؤَمَّلٍ ... فَقَدْ زَوَّدَتْ قَلْبِي عَلَى نَأْيِهَا شَغْفًا
وَسَوْفَ يُنَبِّئُهَا الْخَبِيرُ بِأَنَّنَا ... أَبَيْنَا وَلَمْ نَطْلُبْ سِوَى رَبِّنَا حِلْفًا
وَأَنَّا مَعَ الْهَادِي النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ... وَفِينَا وَلَمْ يَسْتَوْفِهَا مَعْشَرٌ أَلْفَا
بِفِتْيَانِ صِدْقٍ مِنْ سُلَيْمٍ أَعِزَّةٍ ... أَطَاعُوا فَمَا يَعْصُونَ مِنْ أَمْرِهِ حَرْفًا
خُفَافٌ وَذَكْوَانٌ وَعَوْفٌ تَخَالُهُمْ ... مَصَاعِبَ زَافَتْ فِي طَرُوقَتِهَا كُلْفَا
كَأَنَّ النَّسِيجَ الشُّهْبَ وَالْبِيضَ مُلْبَسٌ ... أُسُودًا تَلَاقَتْ فِي مَرَاصِدِهَا غُضْفَا
بِنَا عَزَّ دِينُ اللَّهِ غَيْرَ تَنَحُّلٍ ... وَزِدْنَا عَلَى الْحَيِّ الَّذِي مَعَهُ ضِعْفَا
بِمَكَّةَ إِذْ جِئْنَا كَأَنَّ لِوَاءَنَا ... عُقَابٌ أَرَادَتْ بَعْدَ تَحْلِيقِهَا خَطْفَا
عَلَى شُخَّصِ الْأَبْصَارِ تَحْسِبُ بَيْنَهَا ... إِذَا هِيَ جَالَتْ فِي مَرَاوِدِهَا عَزْفًا
غَدَاةَ وَطِئْنَا الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ نَجِدْ ... لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ عَدْلًا وَلَا صَرْفَا
بِمُعْتَرَكٍ لَا يَسْمَعُ الِقَوْمُ وَسْطَهُ ... لَنَا زَجْمَةً إِلَّا التَّذَامُرَ وَالنَّقْفَا
بِبِيضٍ تُطِيرُ الْهَامَ عَنْ مُسْتَقَرِّهَا ... وَنَقْطِفُ أَعْنَاقَ الْكَمَاةِ بِهَا قَطْفَا
(7/56)
فَكَائِنْ تَرَكْنَا مِنْ قَتِيلٍ مُلَحَّبٍ ... وَأَرْمَلَةٍ تَدْعُو عَلَى بَعْلِهَا لَهْفَا
رِضَا اللَّهِ نَنْوِي لَا رِضَا النَّاسِ نَبْتَغِي ... وَلِلَّهِ مَا يَبْدُو جَمِيعًا وَمَا يَخْفَى
وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا:
مَا بَالُ عَيْنِكَ فِيهَا عَائِرٌ سَهِرُ ... مِثْلُ الْحَمَاطَةِ أَغْضَى فَوْقَهَا الشُّفُرُ
عَيْنٌ تَأَوَّبَهَا مِنْ شَجْوِهَا أَرَقٌ ... فَالْمَاءُ يَغْمُرُهَا طَوْرًا وَيَنْحَدِرُ
كَأَنَّهُ نَظْمُ دُرٍّ عِنْدَ نَاظِمِهِ ... تَقَطَّعَ السِّلْكُ مِنْهُ فَهْوَ مُنْتَثِرُ
يَا بُعْدَ مَنْزِلِ مَنْ تَرْجُو مَوَدَّتَهُ ... وَمَنْ أَتَى دُونَهُ الصَّمَّانُ فَالْحَفَرُ
دَعْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَهْدِ الشَّبَابِ فَقَدْ ... وَلَّى الشَّبَابُ وَزَارَ الشَّيْبُ وَالزَّعَرُ
وَاذْكُرْ بَلَاءَ سُلَيْمٍ فِي مَوَاطِنِهَا ... وَفِي سُلَيْمٍ لِأَهْلِ الِفَخْرِ مُفْتَخَرُ
قَوْمٌ هُمُ نَصَرُوا الرَّحْمَنَ وَاتَّبَعُوا ... دِينَ الرَّسُولِ وَأَمْرُ النَّاسِ مُشْتَجَرُ
لَا يَغْرِسُونَ فَسِيلَ النَّخْلِ وَسْطَهُمُ ... وَلَا تَخَاوَرُ فِي مَشْتَاهُمُ الْبَقَرُ
(7/57)
إِلَّا سَوَابِحَ كَالْعِقْبَانِ مَقْرُبَةً ... فِي دَارَةٍ حَوْلَهَا الْأَخْطَارُ وَالْعَكَرُ
تُدْعَى خُفَافٌ وَعَوْفٌ فِي جَوَانِبِهَا ... وَحَيُّ ذَكْوَانَ لَا مَيْلٌ وَلَا ضُجُرُ
الضَّارِبُونَ جُنُودَ الشِّرْكِ ضَاحِيَةً ... بِبَطْنِ مَكَّةَ وَالْأَرْوَاحُ تُبْتَدَرُ
حَتَّى دَفَعْنَا وَقَتْلَاهُمْ كَأَنَّهُمُ ... نَخْلٌ بِظَاهِرَةِ الْبَطْحَاءِ مُنْقَعِرُ
وَنَحْنُ يَوْمَ حُنَيْنٍ كَانَ مَشْهَدُنَا ... لِلدِّينِ عِزًّا وَعِنْدَ اللَّهِ مُدَّخَرُ
إِذْ نَرْكَبُ الْمَوْتَ مُخْضَرًّا بَطَائِنُهُ ... وَالْخَيْلُ يَنْجَابُ عَنْهَا سَاطِعٌ كَدِرُ
تَحْتَ اللِّوَاءِ مَعَ الضَّحَّاكِ يَقْدُمُنَا ... كَمَا مَشَى اللَّيْثُ فِي غَابَاتِهِ الْخَدِرُ
فِي مَأْزَقٍ مِنْ مَجَرِّ الْحَرْبِ كَلْكَلُهَا ... تَكَادُ تَأْفُلُ مِنْهُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
وَقَدْ صَبَرْنَا بِأَوْطَاسٍ أَسِنَّتَنَا ... لِلَّهِ نَنْصُرُ مَنْ شِئْنَا وَنَنْتَصِرُ
حَتَّى تَأَوَّبَ أَقْوَامٌ مَنَازِلَهُمْ ... لَوْلَا الْمَلِيكُ وَلَوْلَا نَحْنُ مَا صَدَرُوا
فَمَا تَرَى مَعْشَرًا قَلُّوا وَلَا كَثُرُوا ... إِلَّا قَدْ أَصْبَحَ مِنَّا فِيهِمُ أَثَرُ
(7/58)
وَقَالَ عَبَّاسٌ أَيْضًا:
يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الَّذِي تَهْوِي بِهِ ... وَجْنَاءُ مُجْمَرَةُ الْمَنَاسِمِ عِرْمِسُ
إِمَّا أَتَيْتَ عَلَى النَّبِيِّ فَقُلْ لَهُ ... حَقًّا عَلَيْكَ إِذَا اطْمَأَنَّ الْمَجْلِسُ
يَا خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطِيَّ وَمَنْ مَشَى ... فَوْقَ التُّرَابِ إِذَا تُعَدُّ الْأَنْفُسُ
إِنَّا وَفَيْنَا بِالَّذِي عَاهَدْتَنَا ... وَالْخَيْلُ تُقْدَعُ بِالْكُمَاةِ وَتُضْرَسُ
إِذْ سَالَ مِنْ أَفْنَاءِ بُهْثَةَ كُلِّهَا ... جَمْعٌ تَظَلُّ بِهِ الْمَخَارِمُ تَرْجُسُ
حَتَّى صَبَحْنَا أَهْلَ مَكَّةَ فَيْلَقًا ... شَهْبَاءَ يَقْدُمُهَا الْهُمَامُ الْأَشْوَسُ
مِنْ كُلِّ أَغْلَبَ مِنْ سُلَيْمٍ فَوْقَهُ ... بَيْضَاءُ مُحْكَمَةُ الدِّخَالِ وَقَوْنَسُ
يَرْوِي الْقَنَاةَ إِذَا تَجَاسَرَ فِي الْوَغَى ... وَتَخَالُهُ أَسَدًا إِذَا مَا يَعْبِسُ
يَغْشَى الْكَتِيبَةَ مُعْلِمًا وَبِكَفِّهِ ... عَضْبٌ يَقُدُّ بِهِ وَلَدْنٌ مِدْعَسُ
(7/59)
وَعَلَى حُنَيْنٍ قَدْ وَفَى مِنْ جَمْعِنَا ... أَلْفٌ أُمِدَّ بِهِ الرَّسُولُ عَرَنْدَسُ
كَانُوا أَمَامَ الْمُؤْمِنِينَ دَرِيئَةً ... وَالشَّمْسُ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهِمْ أَشْمَسُ
نَمْضِي وَيَحْرُسُنَا الْإِلَهُ بِحِفْظِهِ ... وَاللَّهُ لَيْسَ بِضَائِعٍ مَنْ يَحْرُسُ
وَلَقَدْ حُبِسْنَا بِالْمَنَاقِبِ مَحْبِسًا ... رَضِيَ الْإِلَهُ بِهِ فَنِعْمَ الْمَحْبِسُ
وَغَدَاةَ أَوْطَاسٍ شَدَدْنَا شَدَّةً ... كَفَتِ الْعَدُوَّ وَقِيلَ مِنْهَا يَا احْبِسُوا
تَدْعُو هَوَازِنُ بِالْإِخَاوَةِ بَيْنَنَا ... ثَدْيٌ تَمُدُّ بِهِ هَوَازِنُ أَيْبَسُ
حَتَّى تَرَكْنَا جَمْعَهُمْ وَكَأَنَّهُ ... عَيْرٌ تَعَاقَبُهُ السِّبَاعُ مُفَرَّسُ
وَقَالَ أَيْضًا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
فَمَنْ مُبْلِغُ الْأَقْوَامِ أَنَّ مُحَمَّدًا ... رَسُولَ الْإِلَهِ رَاشِدٌ حَيْثُ يَمَّمَا
دَعَا رَبَّهُ وَاسْتَنْصَرَ اللَّهَ وَحْدَهُ ... فَأَصْبَحَ قَدْ وَفَّى إِلَيْهِ وَأَنْعَمَا
سَرَيْنَا وَوَاعَدْنَا قَدَيْدًا مُحَمَّدًا ... يَؤُمُّ بِنَا أَمْرًا مِنَ اللَّهِ مُحْكَمَا
(7/60)
تَمَارَوْا بِنَا فِي الْفَجْرِ حَتَّى تَبَيَّنُوا ... مَعَ الْفَجْرِ فِتْيَانًا وَغَابًا مُقَوَّمَا
عَلَى الْخَيْلِ مَشْدُودًا عَلَيْنَا دُرُوعُنَا ... وَرَجْلًا كَدُفَّاعِ الْأَتِيِّ عَرَمْرَمَا
فَإِنَّ سَرَاةَ الْحَيِّ إِنْ كُنْتَ سَائِلًا ... سُلَيْمٌ وَفِيهِمْ مِنْهُمُ مَنْ تَسَلَّمَا
وَجُنْدٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لَا يَخْذُلُونَهُ ... أَطَاعُوا فَمَا يَعْصُونَهُ مَا تَكَلَّمَا
فَإِنْ تَكُ قَدْ أَمَّرْتَ فِي الْقَوْمِ خَالِدًا ... وَقَدَّمْتَهُ فَإِنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَا
بِجُنْدٍ هَدَاهُ اللَّهُ أَنْتَ أَمِيرُهُ ... تُصِيبُ بِهِ فِي الْحَقِّ مَنْ كَانَ أَظْلَمَا
حَلَفْتُ يَمِينًا بَرَّةً لِمُحَمَّدٍ ... فَأَكْمَلْتُهَا أَلْفًا مِنَ الْخَيْلِ مُلْجَمَا
وَقَالَ نَبِيُّ الْمُؤْمِنِينَ تَقَدَّمُوا ... وَحُبَّ إِلَيْنَا أَنْ نَكُونَ الْمُقَدَّمَا
وَبِتْنَا بِنَهِيِ الْمُسْتَدِيرِ وَلَمْ يَكُنْ ... بِنَا الْخَوْفُ إِلَّا رَغْبَةً وَتَحَزُّمَا
أَطَعْنَاكَ حَتَّى أَسْلَمَ النَّاسُ كُلُّهُمْ ... وَحَتَّى صَبَحْنَا الْجَمْعَ أَهْلَ يَلَمْلَمَا
يَضِلُّ الْحِصَانُ الْأَبْلَقُ الْوَرْدُ وَسْطَهُ ... وَلَا يَطْمَئِنُّ الشَّيْخُ حَتَّى يُسَوَّمَا
(7/61)
سَمَوْنَا لَهُمْ وِرْدَ الْقَطَا زَفَّهُ ضُحًى ... وَكُلٌّ تَرَاهُ عَنْ أَخِيهِ قَدَ احْجَمَا
لَدُنْ غُدْوَةٍ حَتَّى تَرَكْنَا عَشِيَّةً ... حُنَيْنًا وَقَدْ سَالَتْ دَوَافِعُهُ دَمَا
إِذَا شِئْتَ مِنْ كُلٍّ رَأَيْتَ طِمِرَّةً ... وَفَارِسَهَا يَهْوِي وَرُمْحًا مُحَطَّمَا
وَقَدْ أَحْرَزَتْ مِنَّا هَوَازِنُ سَرْبَهَا ... وَحُبَّ إِلَيْهَا أَنْ نَخِيبَ وَنُحْرَمَا
هَكَذَا أَوْرَدَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ هَذِهِ الْقَصَائِدَ مَنْ شِعْرِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ تَرَكْنَا بَعْضَ مَا أَوْرَدَهُ مِنَ الْقَصَائِدِ خَشْيَةَ الْإِطَالَةِ وَخَوْفِ الْمَلَالَةِ، ثُمَّ أَوْرَدَ مِنْ شِعْرِ غَيْرِهِ أَيْضًا، وَقَدْ حَصَلَ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ مِنْ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(7/62)
[غَزْوَةُ الطَّائِفِ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(غَزْوَةُ الطَّائِفِ) .
قَالَ عُرْوَةُ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: «قَاتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَحَاصَرَ الطَّائِفَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَمَانٍ» .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا قَدِمَ فَلُّ ثَقِيفٍ الطَّائِفَ أَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ مَدِينَتِهَا، وَصَنَعُوا الصَّنَائِعَ لِلْقِتَالِ، وَلَمْ يَشْهَدْ حُنَيْنًا وَلَا حِصَارَ الطَّائِفِ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ وَلَا غَيْلَانُ بْنُ سَلَمَةَ; كَانَا بِجُرَشَ يَتَعَلَّمَانِ صَنْعَةَ الدَّبَّابَاتِ وَالْمَجَانِيقِ وَالضُّبُورِ.
قَالَ: ثُمَّ سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الطَّائِفِ حِينَ فَرَغَ مِنْ حُنَيْنٍ فَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ:
قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلَّ رَيْبٍ ... وَخَيْبَرَ ثُمَّ أَجْمَمْنَا السُّيُوفَا
نُخَيِّرُهَا وَلَوْ نَطَقَتْ لَقَالَتْ ... قَوَاطِعُهُنَّ دَوْسًا أَوْ ثَقِيفَا
فَلَسْتُ لِحَاضِنٍ إِنْ لَمْ تَرَوْهَا ... بِسَاحَةِ دَارِكُمْ مِنَّا أُلُوفَا
(7/63)
وَنَنْتَزِعُ الْعُرُوشَ بِبَطْنِ وَجٍّ
وَتُصْبِحُ دُورُكُمْ مِنْكُمْ خُلُوفَا ... وَيَأْتِيكُمْ لَنَا سَرْعَانُ خَيْلٍ
يُغَادِرُ خَلْفَهُ جَمْعًا كَثِيفَا ... إِذَا نَزَلُوا بِسَاحَتِكُمْ سَمِعْتُمْ
لَهَا مَمَّا أَنَاخَ بَهَا رَجِيفَا ... بِأَيْدِيهِمْ قَوَاضِبُ مُرْهَفَاتٌ
يُزِرْنَ الْمُصْطَلِينَ بِهَا الْحُتُوفَا ... كَأَمْثَالِ الْعَقَائِقِ أَخْلَصَتْهَا
قُيُونُ الْهِنْدِ لَمْ تُضْرَبْ كَتِيفَا ... تَخَالُ جَدِيَّةَ الْأَبْطَالِ فِيهَا
غَدَاةَ الزَّحْفِ جَادِيًّا مَدُوفَا ... أَجَدَّهُمُ أَلَيْسَ لَهُمْ نَصِيحٌ
مِنَ الْأَقْوَامِ كَانَ بِنَا عَرِيفَا ... يُخَبِّرُهُمْ بِأَنَّا قَدْ جَمَعْنَا
عِتَاقَ الْخَيْلِ وَالنُّجُبَ الطُّرُوفَا ... وَأَنَّا قَدْ أَتَيْنَاهُمْ بِزَحْفٍ
يُحِيطُ بِسُورِ حِصْنِهِمُ صُفُوفَا ... رَئِيسُهُمُ النَّبِيُّ وَكَانَ صُلْبًا
نَقِيَّ الْقَلْبِ مُصْطَبِرًا عَرُوفَا ... رَشِيدَ الْأَمْرِ ذَا حُكْمٍ وَعِلْمٍ
وَحِلْمٍ لَمْ يَكُنْ نَزِقًا خَفِيفَا ... نُطِيعُ نَبِيَّنَا وَنُطِيعُ رَبًّا
هُوَ الرَّحْمَنُ كَانَ بِنَا رَءُوفَا
(7/64)
فَإِنْ تُلْقُوا إِلَيْنَا السِّلْمَ نَقْبَلْ ... وَنَجْعَلْكُمْ لَنَا عَضُدًا وَرِيفَا
وَإِنْ تَأْبَوْا نُجَاهِدْكُمْ وَنَصْبِرْ ... وَلَا يَكُ أَمْرُنَا رَعِشًا ضَعِيفَا
نُجَالِدُ مَا بَقِينَا أَوْ تُنِيبُوا ... إِلَى الْإِسْلَامِ إِذْعَانًا مُضِيفَا
نُجَاهِدُ لَا نُبَالِي مَا لَقِينَا ... أَأَهْلَكْنَا التِّلَادَ أَمِ الطَّرِيفَا
وَكَمْ مِنْ مَعْشَرٍ أَلَبُوا عَلَيْنَا ... صَمِيمَ الْجِذْمِ مِنْهُمْ وَالْحَلِيفَا
أَتَوْنَا لَا يَرَوْنَ لَهُمْ كِفَاءً ... فَجَدَّعْنَا الْمَسَامِعَ. وَالْأُنُوفَا
بِكُلِّ مُهَنَّدٍ لَيْنٍ صَقِيلٍ ... نَسُوقُهُمُ بِهَا سَوْقًا عَنِيفَا
لِأَمْرِ اللَّهِ وَالْإِسْلَامِ حَتَّى ... يَقُومَ الدِّينُ مُعْتَدِلًا حَنِيفَا
وَتُنْسَى اللَّاتُ وَالْعُزَّى وَوُدٌّ ... وَنَسْلُبَهَا الْقَلَائِدَ وَالشُّنُوفَا
فَأَمْسَوْا قَدْ أَقَرُّوا وَاطْمَأَنُّوا ... وَمَنْ لَا يَمْتَنِعْ يَقْبَلْ خُسُوفَا
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَأَجَابَهُ كِنَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ الثَّقَفِيُّ - قَلْتٌ وَقَدْ وَفَدَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ، فَأَسْلَمَ مَعَهُمْ. قَالَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَأَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَابْنُ الْأَثِيرِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
(7/65)
وَزَعَمَ الْمَدَائِنِيُّ أَنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ، بَلْ صَارَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ فَتَنَصَّرَ وَمَاتَ بِهَا -:
فَمَنْ كَانَ يَبْغِينَا يُرِيدُ قِتَالَنَا ... فَإِنَّا بِدَارٍ مَعْلَمٍ لَا نَرِيمُهَا
وَجَدْنَا بِهَا الْآبَاءَ مِنْ قَبْلِ مَا تَرَى ... وَكَانَتْ لَنَا أَطْوَاؤُهَا وَكُرُومُهَا
وَقَدْ جَرَّبَتْنَا قَبْلُ عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ ... فَأَخْبَرَهَا ذُو رَأْيِهَا وَحَلِيمُهَا
وَقَدْ عَلِمَتْ إِنْ قَالَتِ الْحَقَّ أَنَّنَا ... إِذَا مَا أَبَتْ صُعْرُ الْخُدُودِ نُقِيمُهَا
نُقَوِّمُهَا حَتَّى يَلِينَ شَرِيسُهَا ... وَيُعْرَفَ لِلْحَقِّ الْمُبِينِ ظَلُومُهَا
عَلَيْنَا دِلَاصٌ مِنْ تُرَاثِ مُحَرِّقٍ ... كَلَوْنِ السَّمَاءِ زَيَّنَتْهَا نُجُومُهَا
نُرَفِّعُهَا عَنَّا بِبِيضٍ صَوَارِمَ ... إِذَا جُرِّدَتْ فِي غَمْرَةٍ لَا نَشِيمُهَا
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ شَدَّادُ بْنُ عَارَضٍ الْجُشَمِيُّ فِي مَسِيرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الطَّائِفِ:.
لَا تَنْصُرُوا اللَّاتَ إِنَّ اللَّهَ مُهْلِكُهَا ... وَكَيْفَ يُنْصَرُ مَنْ هُوَ لَيْسَ يَنْتَصِرُ
إِنَّ الَّتِي حُرِّقَتْ بِالسُّدِّ فَاشْتَعَلَتْ ... وَلَمْ تُقَاتِلْ لَدَى أَحْجَارِهَا هَدَرُ
إِنَّ الرَّسُولَ مَتَى يَنْزِلْ بِلَادَكُمُ ... يَظْعَنْ وَلَيْسَ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا بَشَرُ
(7/66)
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَسَلَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي مِنْ حُنَيْنٍ إِلَى الطَّائِفِ - عَلَى نَخْلَةَ الْيَمَانِيَّةِ، ثُمَّ عَلَى قَرْنٍ، ثُمَّ عَلَى الْمُلَيْحِ، ثُمَّ عَلَى بَحْرَةِ الرُّغَاءِ مِنْ لِيَّةَ، فَابْتَنَى بِهَا مَسْجِدًا فَصَلَّى فِيهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ أَنَّهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَقَادَ يَوْمَئِذٍ بِبَحْرَةِ الرُّغَاءِ حِينَ نَزَلَهَا بِدَمٍ، وَهُوَ أَوَّلُ دَمٍ أُقِيدَ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ قَتَلَ رَجُلًا مَنْ هُذَيْلٍ فَقَتَلَهُ بِهِ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ بِلِيَّةَ، بِحِصْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ فَهُدِمَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: «ثُمَّ سَلَكَ فِي طَرِيقٍ يُقَالُ لَهَا: الضَّيِّقَةُ. فَلَمَّا تَوَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ عَنِ اسْمِهَا فَقَالَ: " مَا اسْمُ هَذِهِ الطَّرِيقِ؟ " فَقِيلَ: الضَّيِّقَةُ. فَقَالَ: " بَلْ هِيَ الْيُسْرَى ". ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا عَلَى نَخِبٍ، حَتَّى نَزَلَ تَحْتَ سِدْرَةٍ يُقَالُ لَهَا: الصَّادِرَةُ. قَرِيبًا مِنْ مَالِ رَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِمَّا أَنْ تَخْرُجَ إِلَيْنَا وَإِمَّا أَنْ نُخَرِّبَ عَلَيْكَ حَائِطَكَ ". فَأَبَى أَنْ يَخْرُجَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِخْرَابِهِ.» .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ بُجَيْرِ بْنِ أَبِي بُجَيْرٍ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ حِينَ خَرَجْنَا مَعَهُ إِلَى الطَّائِفِ فَمَرَرْنَا بِقَبْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَذَا قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ وَهُوَ أَبُو ثَقِيفٍ، وَكَانَ مِنْ ثَمُودَ وَكَانَ بِهَذَا الْحَرَمِ يَدْفَعُ عَنْهُ، فَلَمَّا خَرَجَ أَصَابَتْهُ النِّقْمَةُ الَّتِي أَصَابَتْ قَوْمَهُ بِهَذَا الْمَكَانِ، فَدُفِنَ فِيهِ، وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ دُفِنَ مَعَهُ غُصْنٌ مِنْ ذَهَبٍ، إِنْ أَنْتُمْ نَبَشْتُمْ عَنْهُ أَصَبْتُمُوهُ ". قَالَ: فَابْتَدَرَهُ النَّاسُ فَاسْتَخْرَجُوا مَعَهُ الْغُصْنَ» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بِهِ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ بِهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلَ قَرِيبًا مِنَ الطَّائِفِ، فَضَرَبَ بِهِ عَسْكَرَهُ، فَقُتِلَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالنَّبْلِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَسْكَرَ اقْتَرَبَ مِنْ حَائِطِ الطَّائِفِ، فَتَأَخَّرُوا إِلَى مَوْضِعِ مَسْجِدِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، الْيَوْمَ بِالطَّائِفِ الَّذِي بَنَتْهُ ثَقِيفٌ بَعْدَ إِسْلَامِهَا، بَنَاهُ عَمْرُو بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ وَهْبٍ وَكَانَتْ فِيهِ سَارِيَةٌ لَا تَطْلُعُ عَلَيْهَا الشَّمْسُ صَبِيحَةَ كُلِّ يَوْمٍ إِلَّا سُمِعَ لَهَا نَقِيضٌ فِيمَا يَذْكُرُونَ. قَالَ: فَحَاصَرَهُمْ بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَيُقَالُ: سَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً.
(7/67)
وَقَالَ عُرْوَةُ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: ثُمَّ سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الطَّائِفِ وَتَرَكَ السَّبْيَ بِالْجِعْرَانَةِ، وَمُلِئَتْ عُرُشُ مَكَّةَ مِنْهُمْ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَكَمَةِ عِنْدَ حِصْنِ الطَّائِفِ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً يُقَاتِلُهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُ مِنْ وَرَاءِ حِصْنِهِمْ، وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ غَيْرُ أَبِي بَكْرَةَ بْنِ مَسْرُوحٍ أَخِي زِيَادٍ لِأُمِّهِ، فَأَعْتَقَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَثُرَتِ الْجِرَاحُ، وَقَطَعُوا طَائِفَةً مِنْ أَعْنَابِهِ لِيُغِيظُوهُمْ بِهَا، فَقَالَتْ لَهُمْ ثَقِيفٌ: لَا تُفْسِدُوا الْأَمْوَالَ، فَإِنَّهَا لَنَا أَوْ لَكُمْ. وَقَالَ عُرْوَةُ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْطَعَ خَمْسَ نَخَلَاتٍ أَوْ خَمْسَ حُبْلَاتٍ، وَبَعَثَ مُنَادِيًا يُنَادِي: " مَنْ خَرَجَ إِلَيْنَا فَهُوَ حُرٌّ ". فَاقْتَحَمَ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْهُمْ، فِيهِمْ أَبُو بَكْرَةَ بْنُ مَسْرُوحٍ أَخُو زِيَادِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ لِأُمِّهِ، فَأَعْتَقَهُمْ وَدَفَعَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَعُولُهُ وَيَحْمِلُهُ» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا يَزِيدُ ثَنَا حَجَّاجٌ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ يَعْتِقُ مَنْ جَاءَهُ مِنَ الْعَبِيدِ قَبْلَ مَوَالِيهِمْ إِذَا أَسْلَمُوا، وَقَدْ أَعْتَقَ يَوْمَ الطَّائِفِ رَجُلَيْنِ.» .
وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: ثَنَا عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ بَكْرِ بْنِ خُنَيْسٍ ثَنَا الْحَجَّاجُ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «حَاصَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الطَّائِفِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ عَبْدَانِ فَأَعْتَقَهُمَا، أَحَدُهُمَا أَبُو بَكَرَةَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(7/69)
يُعْتِقُ الْعَبِيدَ إِذَا خَرَجُوا إِلَيْهِ.» .
وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: ثَنَا نَصْرُ بْنُ بَابٍ عَنِ الْحَجَّاجِ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الطَّائِفِ: «مَنْ خَرَجَ إِلَيْنَا مِنَ الْعَبِيدِ فَهُوَ حُرٌّ ". فَخَرَجَ عَبِيدٌ مِنَ الْعَبِيدِ فِيهِمْ أَبُو بَكْرَةَ فَأَعْتَقَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.» .
هَذَا الْحَدِيثُ تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ وَمَدَارُهُ عَلَى الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، لَكِنْ ذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ إِلَى هَذَا، فَعِنْدَهُ أَنَّ كُلَّ عَبْدٍ جَاءَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ عُتِقَ، حُكْمًا شَرْعِيًّا مُطْلَقًا عَامًّا. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا كَانَ هَذَا شَرْطًا لَا حَكْمًا عَامًّا، وَلَوْ صَحَّ الْحَدِيثُ لَكَانَ التَّشْرِيعُ الْعَامُّ أَظْهَرَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ ".» .
وَقَدْ قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُكَدَّمِ الثَّقَفِيُّ قَالَ: «لَمَّا حَاصَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الطَّائِفِ خَرَجَ إِلَيْهِ رَقِيقٌ مِنْ رَقِيقِهِمْ; أَبُو بَكْرَةَ وَكَانَ عَبْدًا لِلْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ وَالْمُنْبَعِثُ وَكَانَ اسْمُهُ الْمُضْطَجِعَ فَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُنْبَعِثَ وَيُحَنَّسُ وَوَرْدَانُ فِي رَهْطٍ مِنْ رَقِيقِهِمْ فَأَسْلَمُوا، فَلَمَّا قَدِمَ وَفْدُ أَهْلِ الطَّائِفِ فَأَسْلَمُوا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رُدَّ عَلَيْنَا رَقِيقَنَا الَّذِينَ أَتَوْكَ. قَالَ: " لَا، أُولَئِكَ عُتَقَاءُ اللَّهِ ". وَرَدَّ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ وَلَاءَ عَبْدِهِ فَجَعَلَهُ إِلَيْهِ.» .
(7/70)
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ ثَنَا غُنْدَرٌ، ثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدًا - وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - وَأَبَا بَكْرَةَ - وَكَانَ تَسَوَّرَ حِصْنَ الطَّائِفِ فِي أُنَاسٍ، فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَا: سَمِعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ، فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ ".» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَاصِمٍ بِهِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ هِشَامٌ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَوْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدًا وَأَبَا بَكْرَةَ «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ عَاصِمٌ: قُلْتُ لَقَدْ شَهِدَ عِنْدَكَ رَجُلَانِ حَسْبُكَ بِهِمَا. قَالَ: أَجَلْ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَأَوَّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَنَزَلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَالِثَ ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الطَّائِفِ» .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَتَانِ مِنْ نِسَائِهِ، إِحْدَاهُمَا أُمُّ سَلَمَةَ، فَضَرَبَ لَهُمَا قُبَّتَيْنِ، فَكَانَ يُصَلِّي بَيْنَهُمَا، فَحَاصَرَهُمْ وَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، وَتَرَامَوْا بِالنَّبْلِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَرَمَاهُمْ بِالْمَنْجَنِيقِ، فَحَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلُ مَنْ رَمَى فِي الْإِسْلَامِ بِالْمَنْجَنِيقِ ; رَمَى بِهِ أَهْلَ الطَّائِفِ.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ نَفَرًا مِنَ الصَّحَابَةِ دَخَلُوا تَحْتَ دَبَّابَةٍ، ثُمَّ زَحَفُوا
(7/71)
لِيَخْرِقُوا جِدَارَ أَهْلِ الطَّائِفِ فَأَرْسَلَتْ عَلَيْهِمْ ثَقِيفٌ سِكَكَ الْحَدِيدِ مُحْمَاةً، فَخَرَجُوا مِنْ تَحْتِهَا، فَرَمَتْهُمْ ثَقِيفٌ بِالنَّبْلِ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ رِجَالًا، فَحِينَئِذٍ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ أَعْنَابِ ثَقِيفٍ، فَوَقَعَ النَّاسُ فِيهَا يَقْطَعُونَ.
قَالَ: وَتَقَدَّمَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَالْمُغَيَّرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَنَادَيَا ثَقِيفًا بِالْأَمَانِ حَتَّى يُكَلِّمَاهُمْ، فَأَمَّنُوهُمَا، فَدَعَوْا نِسَاءً مِنْ قُرَيْشٍ وَبَنِي كِنَانَةَ لِيَخْرُجْنَ إِلَيْهِمْ - وَهُمَا يَخَافَانِ عَلَيْهِنَّ السِّبَاءَ إِذَا فُتِحَ الْحِصْنُ - فَأَبَيْنَ، فَقَالَ لَهُمَا ابْنُ الْأَسْوَدِ بْنُ مَسْعُودٍ: أَلَا أَدُلُّكَمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا جِئْتُمَا لَهُ؟ إِنَّ مَالَ بَنِي الْأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودٍ حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمَا - وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَازِلًا بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ: الْعَقِيقُ. وَهُوَ بَيْنَ مَالِ بَنِي الْأَسْوَدِ وَبَيْنَ الطَّائِفِ - وَلَيْسَ بِالطَّائِفِ مَالٌ أَبْعَدَ رِشَاءً وَلَا أَشَدَّ مَؤُونَةً وَلَا أَبْعَدَ عِمَارَةً مِنْهُ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا إِنْ قَطَّعَهُ لَمْ يَعْمُرْ أَبَدًا، فَكَلِّمَاهُ فَلْيَأْخُذْهُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِيَدَعْهُ لِلَّهِ وَلِلرَّحِمِ. فَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَهُ لَهُمْ.
وَقَدْ رَوَى الْوَاقِدِيُّ عَنْ شُيُوخِهِ نَحْوَ هَذَا، وَعِنْدَهُ أَنَّ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ هُوَ الَّذِي أَشَارَ بِالْمَنْجَنِيقِ وَعَمِلَهُ بِيَدِهِ، وَقِيلَ: قَدِمَ بِهِ وَبِدَبَّابَتَيْنِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ أَوْرَدَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ «اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَ الطَّائِفِ فَيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَجَاءَهُمْ فَأَمَرَهُمْ بِالثَّبَاتِ فِي حِصْنِهِمْ وَقَالَ: لَا يَهُولَنَّكُمْ قَطْعُ مَا قُطِعَ مِنَ الْأَشْجَارِ. فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَا قُلْتَ لَهُمْ؟ " قَالَ دَعْوَتُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَنْذَرْتُهُمُ النَّارَ، وَذَكَّرْتُهُمْ بِالْجَنَّةِ. فَقَالَ: " كَذَبْتَ، بَلْ قَلْتَ لَهُمْ كَذَا وَكَذَا ". فَقَالَ: صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكَ مِنْ ذَلِكَ» .
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنِ الْأَصَمِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ السُّلَمِيِّ; وَهُوَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ «حَاصَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصْرَ الطَّائِفِ فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ بَلَّغَ بِسَهْمٍ فَلَهُ دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ ". فَبَلَّغْتُ يَوْمَئِذٍ سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ عَدْلُ مُحَرَّرٍ، وَمَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ رَجُلًا مُسْلِمًا فَإِنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، جَاعِلٌ كُلَّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِهِ وِقَاءً، كُلَّ عَظْمٍ بِعَظْمٍ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَعْتَقَتِ امْرَأَةً مُسْلِمَةً فَإِنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، جَاعِلٌ كُلَّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِهَا وِقَاءَ كُلِّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِهَا مِنَ النَّارِ ".» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ بِهِ.
(7/72)
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا الْحُمَيْدِيُّ سَمِعَ سُفْيَانَ ثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي مُخَنَّثٌ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ: أَرَأَيْتَ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الطَّائِفَ غَدًا فَعَلَيْكَ بِابْنَةِ غَيْلَانَ، فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَدْخُلَنَّ هَؤُلَاءِ عَلَيْكُنَّ» قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْمُخَنَّثُ هِيتٌ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا وَمُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ بِهِ. وَفِي لَفْظٍ: وَكَانُوا يَرَوْنَهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ. وَفِي لَفْظٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أَرَى هَذَا يَعْلَمُ مَا هَاهُنَا؟! لَا يَدْخُلَنَّ عَلَيْكُنَّ هَؤُلَاءِ ".» يَعْنِي إِذَا كَانَ مِمَّنْ يَفْهَمُ ذَلِكَ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31] وَالْمُرَادُ بِالْمُخَنَّثِ فِي عُرْفِ السَّلَفِ الَّذِي لَا هِمَّةَ لَهُ إِلَى النِّسَاءِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الَّذِي يُؤْتَى; إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ قَتْلُهُ حَتْمًا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ، وَكَمَا قَتَلَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ. يَعْنِي بِذَلِكَ عُكَنَ بَطْنِهَا، فَإِنَّهَا تَكُونُ أَرْبَعًا إِذَا أَقْبَلَتْ، ثُمَّ تَصِيرُ كُلُّ وَاحِدَةٍ ثِنْتَيْنِ إِذَا أَدْبَرَتْ، وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ هِيَ بَادِيَةُ بِنْتُ غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ مِنْ سَادَاتِ ثَقِيفٍ، وَهَذَا الْمُخَنَّثُ قَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ اسْمَهُ هِيتٌ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ.
لَكِنْ قَالَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: وَكَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْلًى لِخَالَتِهِ فَاتِخَةَ بِنْتِ عَمْرِو بْنِ عَائِذٍ مُخَنَّثٌ يُقَالُ لَهُ: مَاتِعٌ. يَدْخُلُ عَلَى نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ، وَلَا يُرَى أَنَّهُ يَفْطِنُ لِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ النِّسَاءِ مِمَّا يَفْطِنُ إِلَيْهِ الرِّجَالُ، وَلَا يُرَى أَنَّ لَهُ فِي ذَلِكَ إِرْبًا، فَسَمِعَهُ وَهُوَ يَقُولُ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ: يَا خَالِدُ، إِنِ افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّائِفَ فَلَا تَنْفَلِتَنَّ مِنْكُمْ بَادِيَةُ بِنْتُ غَيْلَانَ، فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَمِعَ هَذَا مِنْهُ: أَلَا أَرَى هَذَا يَفْطِنُ لِهَذَا؟ الْحَدِيثَ، ثُمَّ قَالَ لِنِسَائِهِ: لَا يَدْخُلَنَّ عَلَيْكُمْ فَحُجِبَ عَنْ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الشَّاعِرِ الْأَعْمَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «لَمَّا حَاصَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّائِفَ فَلَمْ يَنَلْ مِنْهُمْ شَيْئًا، قَالَ: " إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ ". فَثَقُلَ عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا: نَذْهَبُ وَلَا نَفْتَحُهُ؟ فَقَالَ: " اغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ ". فَغَدَوْا، فَأَصَابَهُمْ جِرَاحٌ، فَقَالَ: " إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ ". فَأَعْجَبَهُمْ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً: فَتَبَسَّمَ.» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بِهِ،
(7/74)
وَعِنْدَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَاخْتَلَفَ فِي نُسَخِ الْبُخَارِيِّ; فَفِي نُسْخَةٍ كَذَلِكَ، وَفِي نُسْخَةٍ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «لَمَّا مَضَتْ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً مِنْ حِصَارِ الطَّائِفِ اسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ الدُّئِلِيَّ فَقَالَ: " يَا نَوْفَلُ مَا تَرَى فِي الْمُقَامِ عَلَيْهِمْ؟ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثَعْلَبٌ فِي جُحْرٍ، إِنْ أَقَمْتَ عَلَيْهِ أَخَذْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَضُرَّكَ.» .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ بَلَغَنِي «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَهُوَ مُحَاصِرٌ ثَقِيفًا: " يَا أَبَا بَكْرٍ إِنِّي رَأَيْتُ أَنِّي أُهْدِيَتْ لِي قَعْبَةٌ مَمْلُوءَةٌ زُبْدًا فَنَقَرَهَا دِيكٌ، فَهَرَاقَ مَا فِيهَا " فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا أَظُنُّ أَنْ تُدْرِكَ مِنْهُمْ يَوْمَكَ هَذَا مَا تُرِيدُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَأَنَا لَا أَرَى ذَلِكَ ".» قَالَ: ثُمَّ «إِنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ حَكِيمٍ السُّلَمِيَّةَ، وَهِيَ امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطِنِي - إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ الطَّائِفَ - حُلِيَّ بَادِيَةَ بِنْتِ غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ، أَوْ حُلِيَّ الْفَارِعَةِ بِنْتِ عَقِيلٍ، وَكَانَتَا مِنْ أَحْلَى نِسَاءِ ثَقِيفٍ، فَذُكِرَ لِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: " وَإِنْ كَانَ لَمْ يُؤْذَنْ فِي ثَقِيفٍ يَا خُوَيْلَةُ؟ ". فَخَرَجَتْ خُوَيْلَةُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَدَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَدِيثٌ حَدَّثَتْنِيهُ خُوَيْلَةُ زَعَمَتْ أَنَّكَ قُلْتَهُ؟ قَالَ: " قَدْ قُلْتُهُ ". قَالَ: أَوَ مَا أُذِنَ فِيهِمْ؟ قَالَ: " لَا ". قَالَ: أَفَلَا أُؤَذِّنُ بِالرَّحِيلِ؟ قَالَ: " بَلَى ". فَأَذَّنَ عُمَرُ بِالرَّحِيلِ، فَلَمَّا اسْتَقَلَّ النَّاسُ نَادَى سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ أَسِيدِ بْنِ أَبِي عَمْرِو بْنِ عِلَاجٍ: أَلَا إِنَّ الْحَيَّ مُقِيمٌ. قَالَ: يَقُولُ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ: أَجَلْ، وَاللَّهِ مَجَدَةً كِرَامًا. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: قَاتَلَكَ اللَّهُ يَا عُيَيْنَةُ أَتَمْدَحُ الْمُشْرِكِينَ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ جِئْتَ تَنْصُرُهُ؟ فَقَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا جِئْتُ لِأُقَاتِلَ ثَقِيفًا مَعَكُمْ، وَلَكِنِّي أَرَدْتُ أَنْ يَفْتَحَ مُحَمَّدٌ الطَّائِفَ فَأُصِيبَ مِنْ ثَقِيفٍ جَارِيَةً أَطَؤُهَا، لَعَلَّهَا تَلِدُ لِي رَجُلًا، فَإِنَّ ثَقِيفًا مَنَاكِيرُ.» .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ قِصَّةَ خُوَيْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ، وَقَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ، وَتَأْذِينَ عُمَرَ بِالرَّحِيلِ، قَالَ: وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ أَنْ لَا يُسَرِّحُوا ظَهْرَهُمْ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا ارْتَحَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، وَدَعَا حِينَ رَكِبَ قَافِلًا فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اهْدِهِمْ وَاكْفِنَا مُؤْنَتَهُمْ ".» .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ أَبِي
(7/76)
الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحْرَقَتْنَا نِبَالُ ثَقِيفٍ، فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اهْدِ ثَقِيفًا ".» ثُمَّ قَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَرَوَى يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُكَدَّمِ عَمَّنْ أَدْرَكُوا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا: حَاصَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الطَّائِفِ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُمْ، وَلَمْ يُؤْذَنْ فِيهِمْ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ فَجَاءَهُ وَفْدُهُمْ فِي رَمَضَانَ فَأَسْلَمُوا. وَسَيَأْتِي ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي رَمَضَانَ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَهَذِهِ تَسْمِيَةُ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِالطَّائِفِ فِيمَا قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فَمِنْ قُرَيْشٍ; سَعِيدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ وَعُرْفُطَةُ بْنُ جَنَّابٍ حَلِيفٌ لِبَنِي أُمَيَّةَ مِنَ الْأَسَدِ بْنِ الْغَوْثِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رُمِيَ بِسَهْمٍ فَتُوُفِّيَ مِنْهُ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ مِنْ رَمْيَةٍ رُمِيَهَا يَوْمَئِذٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ حَلِيفٌ لِبَنِي عَدِيٍّ، وَالسَّائِبُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ السَّهْمِيُّ وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ وَجُلَيْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ وَمِنَ الْأَنْصَارِ ثُمَّ مِنَ الْخَزْرَجِ ; ثَابِتُ بْنُ الْجِذْعِ السُّلَمِيُّ، وَالْحَارِثُ بْنُ سَهْلِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الْمَازِنِيُّ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، مَنْ بَنِي سَاعِدَةَ، وَمِنَ الْأَوْسِ ; رُقَيْمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ لَوْذَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَقَطْ، فَجَمِيعُ مَنِ اسْتُشْهِدَ يَوْمَئِذٍ اثَنَا عَشَرَ رَجُلًا; سَبْعَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ،
(7/78)
وَأَرْبَعَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِعًا عَنِ الطَّائِفِ قَالَ بُجَيْرُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى يَذْكُرُ حُنَيْنًا وَالطَّائِفَ:
كَانَتْ عُلَالَةَ يَوْمَ بَطْنِ حُنَيْنٍ ... وَغَدَاةَ أَوْطَاسٍ وَيَوْمَ الْأَبْرَقِ
جَمَعَتْ بِإِغْوَاءٍ هَوَازِنُ جَمْعَهَا ... فَتَبَدَّدُوا كَالطَّائِرِ الْمُتَمَزِّقِ
لَمْ يَمْنَعُوا مِنَّا مَقَامًا وَاحِدًا ... إِلَّا جِدَارَهُمُ وَبَطْنَ الْخَنْدَقِ
وَلَقَدْ تَعَرَّضْنَا لِكَيْمَا يَخْرُجُوا ... فَاسْتَحْصَنُوا مِنَّا بِبَابٍ مُغْلَقِ
تَرْتَدُّ حَسْرَانَا إِلَى رَجْرَاجَةٍ ... شَهْبَاءَ تَلْمَعُ بِالْمَنَايَا فَيْلَقِ
مَلْمُومَةٍ خَضْرَاءَ لَوْ قَذَفُوا بِهَا ... حَضَنًا لَظَلَّ كَأَنَّهُ لَمْ يُخْلَقِ
مَشْيَ الضِّرَاءِ عَلَى الْهَرَاسِ كَأَنَّنَا ... قُدُرٌ تَفَرَّقَ فِي الْقِيَادِ وَتَلْتَقِي
(7/79)
فِي كُلِّ سَابِغَةٍ إِذَا مَا اسْتَحْصَنَتْ
كَالنِّهْيِ هَبَّتْ رِيحُهُ الْمُتَرَقْرِقِ ... جُدُلٌ تَمَسُّ فُضُولُهُنَّ نِعَالَنَا
مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ وَآلِ مُحَرِّقِ
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: ثَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَبُو حَفْصٍ، ثَنَا الْفِرْيَابِيُّ، ثَنَا أَبَانٌ، قَالَ عُمَرُ: هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ. ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ صَخْرٍ - هُوَ ابْنُ الْعَيْلَةِ الْأَحْمَسِيُّ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا ثَقِيفًا، فَلَمَّا أَنْ سَمِعَ ذَلِكَ صَخْرٌ رَكِبَ فِي خَيْلٍ يُمِدُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَهُ قَدِ انْصَرَفَ وَلَمْ يَفْتَحْ، فَجَعَلَ صَخْرٌ حِينَئِذٍ عَهْدًا وَذِمَّةً لَا أُفَارِقُ هَذَا الْقَصْرَ حَتَّى يَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُفَارِقْهُمْ حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ صَخْرٌ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ ثَقِيفًا قَدْ نَزَلَتْ عَلَى حُكْمِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَنَا مُقْبِلٌ بِهِمْ، وَهُمْ فِي خَيْلٍ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّلَاةِ جَامِعَةً، فَدَعَا لِأَحْمَسَ عَشْرَ دَعَوَاتٍ: " اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأَحْمَسَ فِي خَيْلِهَا وَرِجَالِهَا ". وَأَتَاهُ الْقَوْمُ، فَتَكَلَّمَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ صَخْرًا أَخَذَ عَمَّتِي، وَدَخَلَتْ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ. فَدَعَاهُ فَقَالَ: " يَا صَخْرُ،
(7/80)
إِنَّ الْقَوْمَ إِذَا أَسْلَمُوا أَحْرَزُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَادْفَعْ إِلَى الْمُغِيرَةِ عَمَّتَهُ ". فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، وَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاءً لِبَنِي سُلَيَمٍ، قَدْ هَرَبُوا عَنِ الْإِسْلَامِ وَتَرَكُوا ذَلِكَ الْمَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْزِلْنِيهِ أَنَا وَقَوْمِي. قَالَ: " نَعَمْ ". فَأَنْزَلَهُ، وَأَسْلَمَ - يَعْنِي السُّلَمِيِّينَ - فَأَتَوْا صَخْرًا فَسَأَلُوهُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِمُ الْمَاءَ، فَأَبَى، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَسْلَمْنَا وَأَتَيْنَا صَخْرًا لِيَدْفَعَ إِلَيْنَا مَاءَنَا، فَأَبَى عَلَيْنَا. فَقَالَ: " يَا صَخْرُ، إِنَّ الْقَوْمَ إِذَا أَسْلَمُوا أَحْرَزُوا أَمْوَالَهُمْ وَدِمَاءَهُمْ، فَادْفَعْ إِلَيْهِمْ مَاءَهُمْ ". قَالَ: نَعَمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ. فَرَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَغَيَّرُ عِنْدَ ذَلِكَ حُمْرَةً; حَيَاءً مِنْ أَخْذِهُ الْجَارِيَةَ وَأَخْذِهُ الْمَاءَ» تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ وَفِي إِسْنَادِهِ اخْتِلَافٌ.
قُلْتُ: وَكَانَتِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ تَقْتَضِي أَنْ يُؤَخَّرَ الْفَتْحَ عَامَئِذٍ; لِئَلَّا يُسْتَأْصَلُوا قَتْلًا، لَأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَانَ خَرَجَ إِلَى الطَّائِفِ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَى أَنْ يُئْوُوهُ حَتَّى يُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، فَرَدُّوا عَلَيْهِ قَوْلَهُ وَكَذَّبُوهُ، فَرَجَعَ مَهْمُومًا، فَلَمْ يَسْتَفِقْ إِلَّا عِنْدَ قَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَإِذَا هُوَ بِغَمَامَةٍ، وَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَاهُ مَلَكُ الْجِبَالِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ،
(7/81)
إِنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَقَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَلْ أَسَتَأْنِي بِهِمْ; لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُهُ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ".» فَنَاسَبَ قَوْلُهُ: " بَلْ أَسَتَأْنِي بِهِمْ ". أَنْ لَا يَفْتَحَ حِصْنَهُمْ لِئَلَّا يُقْتَلُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَأَنْ يُؤَخَّرَ الْفَتْحُ لِيَقْدَمُوا بَعْدَ ذَلِكَ مُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
[فِي مَرْجِعِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنِ الطَّائِفِ وَقِسْمَةِ غَنَائِمِ هَوَازِنَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ حُنَيْنٍ]
فَصْلٌ فِي مَرْجِعِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، عَنِ الطَّائِفِ وَقِسْمَةِ غَنَائِمِ هَوَازِنَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ حُنَيْنٍ قَبْلَ دُخُولِهِ مَكَّةَ مُعْتَمِرًا مِنَ الْجِعْرَانَةِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ انْصَرَفَ عَنِ الطَّائِفِ عَلَى دَحْنَا، حَتَّى نَزَلَ الْجِعْرَانَةَ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَعَهُ مِنْ هَوَازِنَ سَبْيٌ كَثِيرٌ، وَقَدْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَوْمَ ظَعَنَ عَنْ ثَقِيفٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اهْدِ ثَقِيفًا وَائْتِ بِهِمْ ".» قَالَ: ثُمَّ أَتَاهُ وَفْدُ هَوَازِنَ بِالْجِعْرَانَةِ، وَكَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَبْيِ هَوَازِنَ سِتَّةُ آلَافٍ مِنَ الذَّرَارِيِّ
(7/82)
وَالنِّسَاءِ وَمِنَ الْإِبِلِ وَالشَّاءِ مَا لَا يُدْرَى عِدَّتُهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ - وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ - عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحُنَيْنٍ، فَلَمَّا أَصَابَ مِنْ هَوَازِنَ مَا أَصَابَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَسَبَايَاهُمْ، أَدْرَكَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ بِالْجِعْرَانَةِ وَقَدْ أَسْلَمُوا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا أَصْلٌ وَعَشِيرَةٌ، وَقَدْ أَصَابَنَا مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ، فَامْنُنْ عَلَيْنَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ. وَقَامَ خَطِيبُهُمْ زُهَيْرُ بْنُ صُرَدٍ أَبُو صُرَدٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مَا فِي الْحَظَائِرِ مِنِ السَّبَايَا خَالَاتُكَ وَعَمَّاتُكَ وَحَوَاضِنُكَ اللَّاتِي كُنَّ يَكْفُلْنَكَ، وَلَوْ أَنَّا مَلَحْنَا لِابْنِ أَبِي شَمِرٍ أَوِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، ثُمَّ أَصَابَنَا مِنْهُمَا مِثْلُ الَّذِي أَصَابَنَا مِنْكَ، رَجَوْنَا عَائِدَتَهُمَا وَعَطْفَهُمَا، وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ خَيْرُ الْمَكْفُولِينَ. ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
امْنُنْ عَلَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ فِي كَرَمٍ ... فَإِنَّكَ الْمَرْءُ نَرْجُوهُ وَنَدَّخِرُ
امْنُنْ عَلَى بَيْضَةٍ قَدْ عَاقَهَا قَدَرٌ ... مُمَزَّقٍ شَمْلُهَا فِي دَهْرِهَا غِيَرُ
أَبْقَتْ لَهَا الْحَرْبُ هُتَّافًا عَلَى حَزَنٍ ... عَلَى قُلُوبِهِمُ الْغَمَّاءُ وَالْغَمَرُ
(7/83)
إِنْ لَمْ تَدَارَكْهُمُ نَعْمَاءُ تَنْشُرُهَا
يَا أَرْجَحَ النَّاسِ حِلْمًا حِينَ يُخْتَبَرُ ... امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا
إِذْ فُوكَ تَمْلَؤُهُ مِنْ مَحْضِهَا الدِّرَرُ ... امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا
وَإِذْ يَزِينُكَ مَا تَأْتِي وَمَا تَذَرُ ... لَا تَجْعَلَنَّا كَمَنْ شَالَتْ نَعَامَتُهُ
وَاسْتَبْقِ مِنَّا فَإِنَّا مَعْشَرٌ زُهُرُ ... إِنَّا لَنَشْكُرُ آلَاءً وَإِنْ كُفِرَتْ
وَعِنْدَنَا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ مُدَّخَرُ
قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نِسَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ أَمْ أَمْوَالُكُمْ؟ " فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، خَيَّرْتَنَا بَيْنَ أَحِسَابِنَا وَأَمْوَالِنَا، بَلْ أَبْنَاؤُنَا وَنِسَاؤُنَا أَحَبُّ إِلَيْنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ، وَإِذَا أَنَا صَلَّيْتُ بِالنَّاسِ فَقُومُوا فَقُولُوا: إِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَبِالْمُسْلِمِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَبْنَائِنَا وَنِسَائِنَا. فَإِنِّي سَأُعْطِيكُمْ عِنْدَ ذَلِكَ وَأَسْأَلُ لَكُمْ ". فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ الظَّهْرَ، قَامُوا فَقَالُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ ". فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: وَمَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَتْ
(7/84)
الْأَنْصَارُ: وَمَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ أَمَّا أَنَا وَبَنُو تَمِيمٍ فَلَا. وَقَالَ عُيَيْنَةُ: أَمَّا أَنَا وَبَنُو فَزَارَةَ فَلَا. وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ: أَمَّا أَنَا وَبَنُو سُلَيْمٍ فَلَا. فَقَالَتْ بَنُو سُلَيْمٍ: بَلْ مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: يَقُولُ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ لِبَنِي سُلَيْمٍ: وَهَّنْتُمُونِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَمْسَكَ مِنْكُمْ بِحَقِّهِ فَلَهُ بِكُلِّ إِنْسَانٍ سِتُّ فَرَائِضَ مِنْ أَوَّلِ فَيْءٍ نُصِيبُهُ ". فَرَدُّوا إِلَى النَّاسِ نِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ. ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتَّبَعَهُ النَّاسُ يَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اقْسِمْ عَلَيْنَا فَيْئَنَا. حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى شَجَرَةٍ فَانْتَزَعَتْ رِدَاءَهُ، فَقَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، رَدُّوا عَلَيَّ رِدَائِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي فِي يَدِهِ لَوْ كَانَ لَكُمْ عِنْدِي عَدَدُ شَجَرِ تِهَامَةَ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ عَلَيْكُمْ، ثُمَّ مَا أَلْفَيْتُمُونِي بَخِيلًا وَلَا جَبَانًا وَلَا كَذَّابًا ". ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَنْبِ بِعِيرٍ فَأَخَذَ مِنْ سَنَامِهِ وَبَرَةً فَجَعَلَهَا بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ ثُمَّ رَفَعَهَا وَقَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ، وَاللَّهِ مَا لِي مِنْ فَيْئِكُمْ وَلَا هَذِهِ الْوَبَرَةِ إِلَّا الْخُمْسُ، وَالْخُمْسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ، فَأَدَّوُا الْخِيَاطَ وَالْمَخِيطَ فَإِنَّ الْغُلُولَ عَارٌ وَنَارٌ وَشَنَارٌ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِكُبَّةٍ مِنْ خُيُوطِ شَعَرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخَذْتُ هَذِهِ لِأَخِيطَ بِهَا بَرْذَعَةَ بَعِيرٍ لِي دَبِرٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَّا حَقِّي مِنْهَا فَلَكَ ". فَقَالَ الرَّجُلُ: أَمَّا إِذَا بَلَغَ الْأَمْرُ فِيهَا إِلَى هَذَا فَلَا حَاجَةَ لِي بِهَا. فَرَمَى بِهَا مِنْ يَدِهِ.» وَهَذَا السِّيَاقُ يَقْتَضِي أَنَّهُ
(7/85)
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، خِلَافًا لِمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَغَيْرِهِ.
وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ، فَسَأَلُوا أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَعِي مَنْ تَرَوْنَ، وَأَحَبُّ الْحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ، فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ: إِمَّا السَّبْيَ، وَإِمَّا الْمَالَ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِكُمْ ". وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَظَرَهُمْ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنَ الطَّائِفِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ رَادٍّ إِلَيْهِمْ إِلَّا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، قَالُوا: إِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا. فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُسْلِمِينَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ هَؤُلَاءِ قَدْ جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ ". فَقَالَ النَّاسُ: قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُمْ: " إِنَّا لَا نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ
(7/86)
يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عَرْفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ ". فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عَرْفَاؤُهُمْ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرُوهُ بِأَنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا.» فَهَذَا مَا بَلَغَنَا عَنْ سَبْيِ هَوَازِنَ. وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْبُخَارِيُّ لِمَنْعِ الْأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةَ وَقَوْمِهِمَا، بَلْ سَكَتَ عَنْ ذَلِكَ، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، فَكَيْفَ السَّاكِتُ؟!
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ، أَخْبَرَهُ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ أَنَّهُ «بَيْنَمَا هُوَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَهُ النَّاسُ مُقْفِلَةٌ مِنْ حُنَيْنٍ، عَلِقَتِ الْأَعْرَابُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَهُ حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ فَخَطَفَتْ رِدَاءَهُ، فَوَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: " أَعْطَوْنِي رِدَائِي، فَلَوْ كَانَ عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلًا وَلَا كَذُوبًا وَلَا جَبَانًا» تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي أَبُو وَجْزَةَ يَزِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ السَّعْدِيُّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ جَارِيَةً يُقَالُ لَهَا: رَيْطَةُ بِنْتُ هِلَالِ بْنِ حَيَّانَ بْنِ عُمَيْرَةَ. وَأَعْطَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ جَارِيَةً يُقَالُ لَهَا: زَيْنَبُ بِنْتُ حَيَّانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَيَّانَ. وَأَعْطَى عُمَرَ جَارِيَةً فَوَهَبَهَا لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ» .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: بَعَثْتُ بِهَا إِلَى
(7/87)
أَخْوَالِي مِنْ بَنِي جُمَحَ; لِيُصْلِحُوا لِي مِنْهَا وَيُهَيِّئُوهَا، حَتَّى أَطُوفَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ آتِيَهِمْ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُصِيبَهَا إِذَا رَجَعْتُ إِلَيْهَا. قَالَ: فَجِئْتُ مِنَ الْمَسْجِدِ حِينَ فَرَغْتُ، فَإِذَا النَّاسُ يَشْتَدُّونَ، فَقُلْتُ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: رَدَّ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا. قُلْتُ: تِلْكُمْ صَاحِبَتُكُمْ فِي بَنِي جُمَحَ، فَاذْهَبُوا فَخُذُوهَا. فَذَهَبُوا إِلَيْهَا فَأَخَذُوهَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأَمَّا عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ فَأَخَذَ عَجُوزًا مِنْ عَجَائِزِ هَوَازِنَ، وَقَالَ حِينَ أَخَذَهَا: أَرَى عَجُوزًا إِنِّي لِأَحْسَبُ لَهَا فِي الْحَيِّ نَسَبًا، وَعَسَى أَنْ يَعْظُمَ فِدَاؤُهَا. فَلَمَّا رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّبَايَا بِسِتِّ فَرَائِضَ، أَبَى أَنْ يَرُدَّهَا، فَقَالَ لَهُ زُهَيْرُ بْنُ صُرَدٍ: خُذْهَا عَنْكَ، فَوَاللَّهِ مَا فُوهَا بِبَارِدٍ، وَلَا ثَدْيُهَا بِنَاهِدٍ، وَلَا بَطْنُهَا بِوَالِدٍ، وَلَا زَوْجُهَا بِوَاجِدٍ، وَلَا دَرُّهَا بِمَاكِدٍ. فَرَدَّهَا بِسِتِّ فَرَائِضَ. قَالَ: فَزَعَمُوا أَنَّ عُيَيْنَةَ لَقِيَ الْأَقْرَعَ فَشَكَا إِلَيْهِ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّكَ وَاللَّهِ مَا أَخَذْتَهَا بَيْضَاءَ غَرِيرَةً، وَلَا نَصَفًا وَثِيرَةً.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: «وَلَمَّا قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَنَائِمَ بِالْجِعْرَانَةِ أَصَابَ كُلَّ رَجُلٍ أَرْبَعٌ مِنَ الْإِبِلِ وَأَرْبَعُونَ شَاةً» .
(7/88)
وَقَالَ سَلَمَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ رَجُلًا مِمَّنْ شَهِدَ حُنَيْنًا قَالَ: «وَاللَّهِ إِنِّي لِأَسِيرُ إِلَى جَنْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَاقَةٍ لِي، وَفِي رِجْلِي نَعْلٌ غَلِيظَةٌ، إِذْ زَحَمَتْ نَاقَتِي نَاقَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقَعُ حَرْفُ نَعْلِي عَلَى سَاقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَوْجَعَهُ، فَقَرَعَ قَدَمِي بِالسَّوْطِ، وَقَالَ: " أَوْجَعْتَنِي فَتَأَخَّرْ عَنِّي ". فَانْصَرَفْتُ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ إِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْتَمِسُنِي. قَالَ: قُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ لِمَا كُنْتُ أَصَبْتُ مِنْ رِجْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَمْسِ. قَالَ: فَجِئْتُهُ وَأَنَا أَتَوَقَّعُ. فَقَالَ: " إِنَّكَ أَصَبْتَ رِجْلِي بِالْأَمْسِ فَأَوْجَعْتَنِي، فَقَرَعْتُ قَدَمَكَ بِالسَّوْطِ، فَدَعَوْتُكَ لِأُعَوِّضَكَ مِنْهَا ". فَأَعْطَانِي ثَمَانِينَ نَعْجَةً بِالضَّرْبَةِ الَّتِي ضَرَبَنِي» .
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ إِلَى هَوَازِنَ سَبْيَهُمْ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا السِّيَاقُ وَغَيْرُهُ، وَظَاهِرُ سِيَاقِ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ الَّذِي أَوْرَدَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْهُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ إِلَى هَوَازِنَ سَبْيَهُمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَلِهَذَا «لَمَّا رَدَّ السَّبْيَ وَرَكِبَ، عَلَقَتِ الْأَعْرَابُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ لَهُ: اقْسِمْ عَلَيْنَا فَيْئَنَا. حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ، فَخَطَفَتْ رِدَاءَهُ فَقَالَ: " رُدُّوا عَلَيَّ رِدَائِي أَيُّهَا النَّاسُ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ لَكُمْ عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلًا
(7/89)
وَلَا جَبَانًا وَلَا كَذَّابًا» كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ بِنَحْوِهِ.
وَكَأَنَّهُمْ خَشُوا أَنْ يَرُدَّ إِلَى هَوَازِنَ أَمْوَالَهُمْ كَمَا رَدَّ إِلَيْهِمْ نِسَاءَهُمْ وَأَطْفَالَهُمْ، فَسَأَلُوهُ قِسْمَةَ ذَلِكَ فَقَسَّمَهَا، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، بِالَجِعْرَانَةِ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، وَآثَرَ أُنَاسًا فِي الْقِسْمَةِ، وَتَأَلَّفَ أَقْوَامًا مِنْ رُؤَسَاءِ الْقَبَائِلِ وَأُمَرَائِهِمْ، فَعَتَبَ عَلَيْهِ أُنَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ حَتَّى خَطَبَهُمْ، وَبَيَّنَ لَهُمْ وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِيمَا فَعَلَهُ; تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ، وَتَنَقَّدَ بَعْضُ مَنْ لَا يَعْلَمُ مِنَ الْجَهَلَةِ وَالْخَوَارِجِ، كَذِي الْخُوَيْصِرَةِ وَأَشْبَاهِهِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ، كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ وَبَيَانُهُ فِي الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَارِمٌ ثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: ثَنَا السُّمَيْطُ السَّدُوسِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «فَتَحْنَا مَكَّةَ، ثُمَّ إِنَّا غَزَوْنَا حُنَيْنًا، فَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ بِأَحْسَنِ صُفُوفٍ رَأَيْتُ، فَصُفَّتِ الْخَيْلُ، ثُمَّ صُفَّتِ الْمُقَاتِلَةُ، ثُمَّ صُفَّتِ النِّسَاءُ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ، ثُمَّ صُفَّتِ الْغَنَمُ، ثُمَّ النَّعَمُ. قَالَ: وَنَحْنُ بَشَرٌ كَثِيرٌ، قَدْ بَلَغْنَا سِتَّةَ آلَافٍ، وَعَلَى مُجَنَّبَةِ خَيْلِنَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ. قَالَ: فَجَعَلَتْ خَيْلُنَا تَلُوذُ خَلْفَ ظُهُورِنَا. قَالَ: فَلَمْ نَلْبَثْ أَنِ انْكَشَفَ خَيْلُنَا، وَفَرَّتِ الْأَعْرَابُ وَمَنْ نَعْلَمُ مِنَ النَّاسِ. قَالَ: فَنَادَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا لَلْمُهَاجِرِينَ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ يَا لَلْأَنْصَارِ ". قَالَ أَنَسٌ: هَذَا حَدِيثُ عَمِّيَهِ. قَالَ:
(7/90)
قُلْنَا لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: وَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَأَيْمِ اللَّهِ مَا أَتَيْنَاهُمْ حَتَّى هَزَمَهُمُ اللَّهُ. قَالَ: فَقَبَضْنَا ذَلِكَ الْمَالَ، ثُمَّ انْطَلَقْنَا إِلَى الطَّائِفِ فَحَاصَرْنَاهُمْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ رَجَعْنَا إِلَى مَكَّةَ. قَالَ: فَنَزَلْنَا، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي الرَّجُلَ الْمِائَةَ. وَيُعْطِي الرَّجُلَ الْمِائَةَ. قَالَ: فَتَحَدَّثَ الْأَنْصَارُ بَيْنَهَا: أَمَّا مَنْ قَاتَلَهُ فَيُعْطِيهِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُقَاتِلْهُ فَلَا يُعْطِيهِ! فَرُفِعَ الْحَدِيثُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَمَرَ بِسَرَاةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " لَا يَدْخُلَنَّ عَلَيَّ إِلَّا أَنْصَارِيُّ " أَوِ " الْأَنْصَارُ ". قَالَ: فَدَخَلْنَا الْقُبَّةَ حَتَّى مَلَأْنَاهَا. قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ " - أَوْ كَمَا قَالَ - " مَا حَدِيثٌ أَتَانِي؟ " قَالُوا: مَا أَتَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " مَا حَدِيثٌ أَتَانِي؟ " قَالُوا: مَا أَتَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالْأَمْوَالِ، وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ حَتَّى تُدْخِلُوهُ بُيُوتَكُمْ؟ " قَالُوا: رَضِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ فَرَضُوا. أَوْ كَمَا قَالَ» وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ. وَفِيهِ مِنَ الْغَرِيبِ قَوْلُهُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَوْمَ هَوَازِنَ سِتَّةَ آلَافٍ. وَإِنَّمَا كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَقَوْلُهُ: إِنَّهُمْ حَاصَرُوا الطَّائِفَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً. وَإِنَّمَا حَاصَرُوهَا قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ، أَوْ دُونَ الْعِشْرِينَ لَيْلَةً. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ ثَنَا هِشَامٌ ثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ
(7/91)
الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: «قَالَ نَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، حِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مَا أَفَاءَ مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ، فَطَفِقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي رِجَالًا الْمِائَةَ مِنَ الْإِبِلِ، فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ؟! قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: فَحُدِّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَقَالَتِهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْأَنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةِ أَدَمٍ، وَلَمْ يَدْعُ مَعَهُمْ غَيْرَهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟ ". فَقَالَ فُقَهَاءُ الْأَنْصَارِ: أَمَّا رُؤَسَاؤُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا، وَأَمَّا نَاسٌ مِنَّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا، وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَإِنِّي لَأُعْطِي رِجَالًا حَدِيثِي عَهِدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفُهُمْ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالْأَمْوَالِ، وَتَذْهَبُونَ بِالنَّبِيِّ إِلَى رِحَالِكُمْ؟ فَوَاللَّهِ لَمَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ رَضِينَا. فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَسَتَجِدُونَ أَثَرَةً شَدِيدَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنِّي عَلَى الْحَوْضِ ". قَالَ أُنْسٌ: فَلَمْ يَصْبِرُوا» تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
ثُمَّ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ جَدِّهِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ الْتَقَى هَوَازِنُ، وَمَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةُ آلَافٍ وَالطُّلَقَاءُ، فَأَدْبَرُوا، فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ". قَالُوا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، لَبَّيْكَ نَحْنُ بَيْنَ يَدَيْكَ. فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ". فَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ، فَأَعْطَى الطُّلَقَاءَ وَالْمُهَاجِرِينَ، وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ
(7/92)
شَيْئًا، فَقَالُوا، فَدَعَاهُمْ فَأَدْخَلَهُمْ فِي قُبَّةٍ، فَقَالَ: " أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ". قَالُوا: بَلَى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ» وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ أَقْبَلَتْ هَوَازِنُ وَغَطَفَانُ وَغَيْرُهُمْ بِنِعَمِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ، وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةُ آلَافٍ وَالطُّلَقَاءُ، فَأَدْبَرُوا عَنْهُ حَتَّى بَقِيَ وَحْدَهُ، فَنَادَى يَوْمَئِذٍ نِدَاءَيْنِ لَمْ يَخْلِطْ بَيْنَهُمَا; الْتَفَتَ عَنْ يَمِينِهِ فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ". قَالُوا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَبْشِرْ نَحْنُ مَعَكَ. ثُمَّ الْتَفَتَ عَنْ يَسَارِهِ فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ". قَالُوا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَبْشِرْ نَحْنُ مَعَكَ. وَهُوَ عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ، فَنَزَلَ فَقَالَ: " أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ". فَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ، وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ غَنَائِمَ كَثِيرَةً، فَقَسَّمَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالطُّلَقَاءِ، وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ شَيْئًا. فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: إِذَا كَانَتْ شَدِيدَةٌ فَنَحْنُ نُدْعَى وَيُعْطَى الْغَنِيمَةَ غَيْرُنَا. فَبَلَغَهُ ذَلِكَ، فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي؟ " فَسَكَتُوا، فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالدُّنْيَا، وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ تَحُوزُونَهُ إِلَى بُيُوتِكُمْ؟ " قَالُوا: بَلَى. فَقَالَ: " لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ شِعْبًا، لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ ". قَالَ هِشَامٌ: قُلْتُ: يَا أَبَا حَمْزَةَ وَأَنْتَ شَاهِدٌ ذَلِكَ؟ قَالَ: وَأَيْنَ أَغِيبُ عَنْهُ؟»
(7/93)
ثُمَّ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَنْصَارَ فَقَالَ: " إِنَّ قُرَيْشًا حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ وَمُصِيبَةٍ، وَإِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أُجْبِرَهُمْ وَأَتَأَلَّفَهُمْ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَرْجِعَ النَّاسُ بِالدُّنْيَا وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ إِلَى بُيُوتِكُمْ؟ " قَالُوا: بَلَى. قَالَ: " لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ " أَوْ " شِعْبَ الْأَنْصَارِ ".»
وَأَخْرَجَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ يَزِيدَ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ بِنَحْوِهِ، وَفِيهِ: فَقَالُوا: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْعَجَبُ، إِنَّ سُيُوفَنَا لِتَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، وَالْغَنَائِمُ تُقَسَّمُ فِيهِمْ! فَخَطَبَهُمْ. وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا عَفَّانُ ثَنَا حَمَّادٌ ثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى أَبَا سُفْيَانَ وَعُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعَ وَسُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو فِي آخَرِينَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، وَهُمْ يَذْهَبُونَ بِالْمَغْنَمِ؟ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ لَهُ حَتَّى فَاضَتْ، فَقَالَ: " فِيكُمْ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِكُمْ؟ " قَالُوا: لَا، إِلَّا ابْنَ أُخْتِنَا. قَالَ: " ابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ ". ثُمَّ قَالَ: " أَقُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ " قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: " أَنْتُمُ الشِّعَارُ وَالنَّاسُ الدِّثَارُ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاءِ وَالْبَعِيرِ وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ
(7/94)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى دِيَارِكُمْ؟ " قَالُوا: بَلَى. قَالَ: " الْأَنْصَارُ كَرِشِي وَعَيْبَتِي، لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَهَمْ، وَلَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ ". وَقَالَ حَمَّادٌ: أَعْطَى مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ فَسَمَّى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ.» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي؟ أَلَمْ آتِكُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَجَمَعَكُمُ اللَّهُ بِي؟ أَلَمْ آتِكُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ؟ " قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " أَفَلَا تَقُولُونَ: جِئْتَنَا خَائِفًا فَأَمَّنَّاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ؟ " قَالُوا: بَلْ لِلَّهِ الْمَنُّ عَلَيْنَا وَلِرَسُولِهِ.» وَهَذَا إِسْنَادٌ ثُلَاثِيٌّ عَلَى شَرْطِ " الصَّحِيحَيْنِ "، فَهَذَا الْحَدِيثُ كَالْمُتَوَاتِرِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ.
فَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثَنَا وُهَيْبٌ ثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ: «لَمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَسَّمَ فِي النَّاسِ فِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ شَيْئًا، فَكَأَنَّهُمْ وَجَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ، إِذْ لَمْ يُصِبْهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسَ، فَخَطَبَهُمْ فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي؟ وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللَّهُ بِي؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي؟ " كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ. قَالَ: " لَوْ شِئْتُمْ
(7/95)
قُلْتُمْ: جِئْتَنَا كَذَا وَكَذَا، أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاءِ وَالْبَعِيرِ وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ إِلَى رِحَالِكُمْ؟ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا، لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ وَشِعْبَهَا، الْأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ، إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ ".» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ بِهِ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «لَمَّا أَصَابَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَنَائِمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَقَسَّمَ لِلْمُتَأَلِّفِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَسَائِرِ الْعَرَبِ مَا قَسَّمَ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ، وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: لَقِيَ وَاللَّهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ. فَمَشَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الْأَنْصَارِ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ. فَقَالَ: " فِيمَ؟ " قَالَ: فِيمَا كَانَ مِنْ قَسْمِكَ هَذِهِ الْغَنَائِمَ فِي قَوْمِكَ وَفِي سَائِرِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟ " قَالَ: مَا أَنَا إِلَّا امْرُؤٌ مِنْ قَوْمِي. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا فَأَعْلِمْنِي ". فَخَرَجَ سَعْدٌ فَصَرَخَ فِيهِمْ، فَجَمَعَهُمْ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ، فَجَاءَ رِجَالٌ مِنَ
(7/96)
الْمُهَاجِرِينَ، فَأَذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا، وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدَّهُمْ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ مِنَ الْأَنْصَارِ أَحَدٌ إِلَّا اجْتَمَعَ لَهُ، أَتَاهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدِ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ حَيْثُ أَمَرْتَنِي أَنْ أَجْمَعَهُمْ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ، وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ؟ " قَالُوا: بَلَى. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَّا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؟ " قَالُوا: وَمَا نَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ؟ الْمَنُّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. قَالَ: " أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ: جِئْتَنَا طَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلًا فَآسَيْنَاكَ، وَخَائِفًا فَأَمَّنَّاكَ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ ". فَقَالُوا: الْمَنُّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَوَجَدْتُمْ فِي نُفُوسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا أَسْلَمُوا، وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى مَا قَسَمَ اللَّهُ لَكُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ؟! أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ إِلَى رِحَالِهِمْ بِالشَّاءِ وَالْبَعِيرِ وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ إِلَى رِحَالِكُمْ؟ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ النَّاسَ سَلَكُوا شِعْبًا وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ شِعْبًا، لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ ". قَالَ: فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ، وَقَالُوا: رَضِينَا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قَسْمًا. ثُمَّ انْصَرَفَ وَتَفَرَّقُوا» وَهَكَذَا رَوَاهُ
(7/97)
الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ صَحِيحٌ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ سَعْدٍ الْعَوْفِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: «قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لِأَصْحَابِهِ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ أَنَّهُ لَوْ قَدِ اسْتَقَامَتِ الْأُمُورُ قَدْ آثَرَ عَلَيْكُمْ. قَالَ: فَرَدُّوا عَلَيْهِ رَدًّا عَنِيفًا. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ أَشْيَاءَ لَا أَحْفَظُهَا، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " وَكُنْتُمْ لَا تَرْكَبُونَ الْخَيْلَ ". وَكُلَّمَا قَالَ لَهُمْ شَيْئًا قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ.» ثُمَّ ذَكَرَ بَقِيَّةَ الْخُطْبَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ أَيْضًا. وَهَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مُنْفَرِدًا بِهِ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ بِنَحْوِهِ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ مُوسَى عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ مُخْتَصَرًا.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ مِنْ سَبْيِ حُنَيْنٍ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، فَأَعْطَى أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ مِائَةً، وَأَعْطَى صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ مِائَةً، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ مِائَةً،
(7/98)
وَأَعْطَى الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً، وَأَعْطَى عَلْقَمَةَ بْنَ عُلَاثَةَ مِائَةً، وَأَعْطَى مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ مِائَةً، وَأَعْطَى الْعَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ دُونَ الْمِائَةِ، وَلَمْ يُبَلِّغْ بِهِ أُولَئِكَ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعُبَيْدِ ... بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ
فَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ ... يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ
وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا ... وَمَنْ تَخْفِضُ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعُ
وَقَدْ كُنْتُ فِي الْحَرْبِ ذَا تُدْرَأٍ ... فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعِ
قَالَ: فَأَتَمَّ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةً» رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِنَحْوِهِ، وَهَذَا لَفْظُ الْبَيْهَقِيِّ. وَفِي رِوَايَةٍ ذَكَرَهَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ إِسْحَاقَ فَقَالَ:
كَانَتْ نِهَابًا تَلَافَيْتُهَا ... بِكَرِّي عَلَى الْمُهْرِ فِي الْأَجْرَعِ
وَإِيقَاظِيَ الْحَيَّ أَنْ يَرْقُدُوا ... إِذَا هَجَعَ النَّاسُ لَمْ أَهْجَعِ
(7/99)
فَأَصْبَحَ نَهْبِي وَنَهْبُ الْعُبَيْدِ
بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ ... وَقَدْ كُنْتُ فِي الْحَرْبِ ذَا تُدْرَأٍ
فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعِ ... إِلَّا أَفَائِلَ أُعْطِيتُهَا
عَدِيدَ قَوَائِمِهَا الْأَرْبَعِ ... وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ
يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ ... وَمَا كُنْتُ دُونَ امِرِئٍ مِنْهُمَا
وَمَنْ تَضَعِ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعِ
قَالَ عُرْوَةُ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: " أَنْتَ الْقَائِلُ: أَصْبَحَ نَهْبِي وَنَهْبُ الْعُبَيْدِ بَيْنَ الْأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةَ؟ " فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا هَكَذَا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كُنْتَ بِشَاعِرٍ وَمَا يَنْبَغِي لَكَ. فَقَالَ: " كَيْفَ قَالَ؟ " فَأَنْشَدَهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «هُمَا سَوَاءٌ، مَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِمَا بَدَأْتَ» ". ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «اقْطَعُوا عَنِّي لِسَانَهُ» ". فَخَشِيَ بَعْضُ النَّاسِ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ الْمُثْلَةَ بِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَطِيَّةَ. قَالَ: وَعُبَيْدٌ فَرَسُهُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: «كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ نَازِلٌ بِالْجِعْرَانَةِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَمَعَهُ بِلَالٌ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: أَلَا
(7/100)
تُنْجِزُ لِي مَا وَعَدْتَنِي؟ فَقَالَ لَهُ: " أَبْشِرْ ". فَقَالَ: قَدْ أَكْثَرْتَ عَلَيَّ مِنْ " أَبْشِرْ ". فَأَقْبَلَ عَلَى أَبِي مُوسَى وَبِلَالٍ كَهَيْئَةِ الْغَضْبَانِ فَقَالَ: " رَدَّ الْبُشْرَى فَاقْبَلَا أَنْتُمَا ". قَالَا: قَبِلْنَا. ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ فِيهِ وَمَجَّ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: " اشْرَبَا مِنْهُ وَأَفْرِغَا عَلَى وُجُوهِكَمَا وَنُحُورِكُمَا وَأَبْشِرَا ". فَأَخَذَا الْقَدَحَ فَفَعَلَا، فَنَادَتْ أُمُّ سَلَمَةَ مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ أَنْ أَفْضِلَا لِأُمِّكُمَا. فَأَفْضَلَا لَهَا مِنْهُ طَائِفَةً.» هَكَذَا رَوَاهُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ ثَنَا مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَثَّرَتْ بِهِ حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَذْبَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ. فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ» .
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ الَّذِينَ أَعْطَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَهُمْ; أَبُو سُفْيَانَ صَخْرُ بْنُ حَرْبٍ وَابْنُهُ مُعَاوِيَةُ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ وَالْحَارِثُ بْنُ كَلَدَةَ أَخُو بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ وَالْعَلَاءُ بْنُ جَارِيَةَ الثَّقَفِيُّ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ وَمَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ
(7/101)
وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيُّ «أَنَّ قَائِلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَصْحَابِهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطَيْتَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعَ مِائَةً مِائَةً، وَتَرَكْتَ جُعَيْلَ بْنَ سُرَاقَةَ الضَّمْرِيَّ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَجُعَيْلٌ خَيْرٌ مِنْ طِلَاعِ الْأَرْضِ، كُلُّهُمْ مِثْلُ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ وَلَكِنْ تَأَلَّفْتُهُمَا لِيُسْلِمَا، وَوَكَلْتُ جُعَيْلَ بْنَ سُرَاقَةَ إِلَى إِسْلَامِهِ ".» .
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ مَنْ أَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ الْمِائَةِ مِمَّنْ يَطُولُ ذِكْرُهُ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِينِي مِنْ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ وَهُوَ أَبْغَضُ الْخَلْقِ إِلَيَّ، حَتَّى مَا خَلَقَ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهُ.» .
[ذِكْرُ قُدُومِ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النَّصْرِيِّ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَفْدِ هَوَازِنَ وَسَأَلَهُمْ عَنْ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ " مَا فَعَلَ؟ " فَقَالُوا: هُوَ بِالطَّائِفِ مَعَ ثَقِيفٍ. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(7/102)
" أَخْبِرُوهُ أَنَّهُ إِنْ أَتَانِي مُسْلِمًا رَدَدْتُ إِلَيْهِ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَأَعْطَيْتُهُ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ ". فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ مَالِكًا انْسَلَّ مِنْ ثَقِيفٍ، حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْجَعْرَانَةِ - أَوْ بِمَكَّةَ - فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، فَرَدَّ عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، وَأَعْطَاهُ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، فَقَالَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
مَا إِنْ رَأَيْتُ وَلَا سَمِعْتُ بِمِثْلِهِ ... فِي النَّاسِ كُلِّهِمُ بِمِثْلِ مُحَمَّدِ
أَوْفَى وَأَعْطَى لِلْجَزِيلِ إِذَا اجْتُدِي ... وَمَتَى تَشَأْ يُخْبِرْكَ عَمَّا فِي غَدِ
وَإِذَا الْكَتِيبَةُ عَرَّدَتْ أَنْيَابُهَا ... بِالسَّمْهَرِيِّ وَضَرْبِ كُلِّ مُهَنَّدِ
فَكَأَنَّهُ لَيْثٌ عَلَى أَشْبَالِهِ ... وَسْطَ الْهَبَاءَةِ خَادِرٌ فِي مَرْصَدِ
قَالَ: وَاسْتَعْمَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ، وَتِلْكَ الْقَبَائِلُ; ثُمَالَةُ وَسَلِمَةُ وَفَهْمٌ، فَكَانَ يُقَاتِلُ بِهِمْ ثَقِيفًا لَا يَخْرُجُ لَهُمْ سَرْجٌ إِلَّا أَغَارَ عَلَيْهِ، حَتَّى ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ ثَنَا الْحَسَنُ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمًا وَمَنَعَ آخَرِينَ، فَكَأَنَّهُمْ عَتَبُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ: " إِنِّي أُعْطِي قَوْمًا أَخَافُ ظَلَعَهُمْ وَجَزَعَهُمْ،
(7/103)
وَأَكِلُ قَوْمًا إِلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالْغِنَى، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ ".» قَالَ عَمْرُو: فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِكَلِمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُمْرَ النَّعَمِ. زَادَ أَبُو عَاصِمٍ عَنْ جَرِيرٍ سَمِعْتُ الْحَسَنَ ثَنَا عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِمَالٍ - أَوْ سَبْيٍ - فَقَسَّمَهُ. . .» بِهَذَا.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ: «أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَالٍ - أَوْ بِشَيْءٍ - فَأَعْطَى رِجَالًا وَتَرَكَ رِجَالًا، فَبَلَغَهُ أَنَّ الَّذِينَ تَرَكَ عَتَبُوا، فَخَطَبَهُمْ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ ".» فَذَكَرَ مِثْلَهُ سَوَاءً. تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ أَنَّ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْأَنْصَارِ وَتَأَخُّرِهِمْ عَنِ الْغَنِيمَةِ:
زَادَتْ هُمُومٌ فَمَاءُ الْعَيْنِ مُنْحَدِرُ ... سَحًّا إِذَا حَفَلَتْهُ عَبْرَةٌ دِرَرُ
وَجْدًا بِشَمَّاءَ إِذْ شَمَّاءُ بَهْكَنَةٌ ... هَيْفَاءُ لَا ذَنَنٌ فِيهَا وَلَا خَوَرُ
دَعْ عَنْكَ شَمَّاءَ إِذْ كَانَتْ مَوَدَّتُهَا ... نَزْرًا وَشَرُّ وِصَالِ الْوَاصِلِ النَّزِرُ
وَأْتِ الرَّسُولَ فَقُلْ يَا خَيْرَ مُؤْتَمَنٍ ... لِلْمُؤْمِنِينَ إِذَا مَا عُدِّدَ الْبَشَرُ
عَلَامَ تُدْعَى سُلَيْمٌ وَهْيَ نَازِحَةٌ ... قُدَّامَ قَوْمٍ هُمُ آوَوْا وَهُمْ نَصَرُوا
(7/104)
سَمَّاهُمُ اللَّهُ أَنْصَارًا بِنَصْرِهِمُ
دِينَ الْهُدَى وَعَوَانُ الْحَرْبِ تَسْتَعِرُ ... وَسَارَعُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْتَرَفُوا
لِلنَّائِبَاتِ وَمَا خَانُوا وَمَا ضَجِرُوا ... وَالنَّاسُ أَلْبٌ عَلَيْنَا فِيكَ لَيْسَ لَنَا
إِلَّا السُّيُوفُ وَأَطْرَافُ الْقَنَا وَزَرُ ... نُجَالِدُ النَّاسَ لَا نُبْقِي عَلَى أَحَدٍ
وَلَا نُضَيِّعُ مَا تُوحِي بِهِ السُّوَرُ ... وَلَا تُهِرُّ جُنَاةُ الْحَرْبِ نَادِيَنَا
وَنَحْنُ حِينَ تَلَظَّى نَارُهَا سُعُرُ ... كَمَا رَدَدْنَا بِبَدْرٍ دُونَ مَا طَلَبُوا
أَهْلَ النِّفَاقِ وَفِينَا يَنْزِلُ الظَّفَرُ ... وَنَحْنُ جُنْدُكَ يَوْمَ النَّعْفِ مِنْ أُحُدٍ
إِذْ حَزَّبَتْ بَطَرًا أَحْزَابَهَا مُضَرُ ... فَمَا وَنَيْنَا وَمَا خِمْنَا وَمَا خَبَرُوا
مِنَّا عِثَارًا وَكُلُّ النَّاسِ قَدْ عَثَرُوا
[اعْتِرَاضُ بَعْضِ الْجَهَلَةِ مِنْ أَهْلِ الشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقِسْمَةِ الْعَادِلَةِ بِالِاتِّفَاقِ]
قَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا قَبِيصَةُ ثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ
(7/105)
عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «لَمَّا قَسَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِسْمَةَ حُنَيْنٍ قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: مَا أَرَادَ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ. قَالَ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، ثُمَّ قَالَ: " رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى مُوسَى، قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسًا; أَعْطَى الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَعْطَى نَاسًا، فَقَالَ رَجُلٌ: مَا أُرِيدَ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ وَجْهُ اللَّهِ. فَقُلْتُ: لَأُخْبِرَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: " رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ ".» وَهَكَذَا رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ بِهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: «فَقَالَ رَجُلٌ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا عُدِلَ فِيهَا، وَمَا أُرِيدَ فِيهَا وَجْهُ اللَّهِ. فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَأُخْبِرَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: " مَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ يَعْدِلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟! رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى، قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ ".»
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ
(7/106)
عَنْ مِقْسَمٍ أَبِي الْقَاسِمِ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ قَالَ: «خَرَجْتُ أَنَا وَتَلِيدُ بْنُ كِلَابٍ اللَّيْثِيُّ حَتَّى أَتَيْنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ مُعَلِّقًا نَعْلَهُ بِيَدِهِ، فَقُلْنَا لَهُ: هَلْ حَضَرْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ كَلَّمَهُ التَّمِيمِيُّ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، جَاءَ رَجُلٌ مَنْ بَنِي تَمِيمٍ يُقَالُ لَهُ: ذُو الْخُوَيْصِرَةِ. فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُعْطِي النَّاسَ، فَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ، قَدْ رَأَيْتُ مَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْيَوْمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَجَلْ، فَكَيْفَ رَأَيْتَ؟ " قَالَ: لَمْ أَرَكَ عَدَلْتَ. قَالَ: فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: وَيْحَكَ! إِذَا لَمْ يَكُنِ الْعَدْلُ عِنْدِي فَعِنْدَ مَنْ يَكُونُ؟! " فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا نَقْتُلُهُ؟ فَقَالَ: " لَا، دَعُوهُ فَإِنَّهُ سَيَكُونُ لَهُ شِيعَةٌ يَتَعَمَّقُونَ فِي الدِّينِ حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهُ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يُنْظَرُ فِي النَّصْلِ فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ، ثُمَّ فِي الْقِدْحِ فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ، ثُمَّ فِي الْفَوْقِ فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ، سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ ".» .
وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «أَتَى رَجُلٌ بِالْجِعْرَانَةِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْصَرَفَهُ مِنْ حُنَيْنٍ، وَفِي ثَوْبِ بِلَالٍ فِضَّةٌ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبِضُ مِنْهَا وَيُعْطِي النَّاسَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، اعْدِلْ. قَالَ:
(7/107)
" وَيْلَكَ! وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ؟! لَقَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ ". فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَقْتُلَ هَذَا الْمُنَافِقَ. فَقَالَ: " مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي، إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ".» رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رُمْحٍ عَنِ اللَّيْثِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا أَبُو عَامِرٍ ثَنَا قُرَّةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَسِّمُ مَغَانِمَ حُنَيْنٍ، إِذْ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: اعْدِلْ. فَقَالَ: " لَقَدْ شَقِيتَ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ ".» وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ السَّدُوسِيِّ بِهِ.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْسِمُ قَسْمًا إِذْ أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اعْدِلْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَيْلَكَ! وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ؟! لَقَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ " فَقَالَ عُمَرُ بْنُ
(7/108)
الْخِطَابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي فِيهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَنْظُرُ إِلَى نَصْلِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى رِصَافِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى نَضِيِّهِ - وَهُوَ قِدْحُهُ - فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى قَذَذِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ، أَوْ مِثْلُ الْبِضْعَةِ تَدَرْدُرُ، وَيَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ ". قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ، وَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ فَالْتُمِسَ فَأُتِيَ بِهِ، حِينَ نَظَرْتُ إِلَيْهِ عَلَى نَعْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي نَعَتَ.» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ بِهِ نَحْوَهُ.
(7/109)
[ذِكْرُ مَجِيءِ أُخْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الرَّضَاعَةِ إِلَيْهِ وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ]
ِ، وَاسْمُهَا الشَّيْمَاءُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ هَوَازِنَ: " إِنْ قَدَرْتُمْ عَلَى بِجَادٍ - رَجُلٍ مَنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ - فَلَا يُفْلِتَنَّكُمْ ". وَكَانَ قَدْ أَحْدَثَ حَدَثًا، فَلَمَّا ظَفِرَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ سَاقُوهُ وَأَهْلَهُ، وَسَاقُوا مَعَهُ الشَّيْمَاءَ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، أُخْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الرَّضَاعَةِ، قَالَ: فَعَنَفُوا عَلَيْهَا فِي السُّوقِ، فَقَالَتْ لِلْمُسْلِمِينَ: تَعْلَمُوا وَاللَّهِ إِنِّي لَأُخْتُ صَاحِبِكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ. فَلَمْ يُصَدِّقُوهَا حَتَّى أَتَوْا بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.» .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ السَّعْدِيُّ - هُوَ أَبُو وَجْزَةَ - قَالَ: «فَلَمَّا انْتَهِي بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُخْتُكَ مِنَ الرَّضَاعَةِ. قَالَ: " وَمَا عَلَامَةُ ذَلِكَ؟ " قَالَتْ: عَضَّةٌ عَضِضْتَنِيهَا فِي ظَهْرِي وَأَنَا مُتَوَرِّكَتُكَ. قَالَ: فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَلَامَةَ، فَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ فَأَجْلَسَهَا عَلَيْهِ، وَخَيَّرَهَا وَقَالَ: إِنْ أَحْبَبْتِ فَعِنْدِي مُحَبَّةٌ مُكَرَّمَةٌ، وَإِنْ أَحْبَبْتِ أَنْ
(7/110)
أُمَتِّعَكِ وَتَرْجِعِي إِلَى قَوْمِكِ فَعَلْتُ ". قَالَتْ: بَلْ تُمَتِّعُنِي وَتَرُدُّنِي إِلَى قَوْمِي. فَمَتَّعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَدَّهَا إِلَى قَوْمِهَا، فَزَعَمَتْ بَنُو سَعْدٍ أَنَّهُ أَعْطَاهَا غُلَامًا يُقَالُ لَهُ: مَكْحُولٌ. وَجَارِيَةً، فَزَوَّجَتْ أَحَدَهُمَا الْآخَرَ، فَلَمْ يَزَلْ فِيهِمْ مِنْ نَسْلِهِمَا بَقِيَّةٌ.» .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ هَوَازِنَ جَاءَتْ جَارِيَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أُخْتُكَ، أَنَا شَيْمَاءُ بِنْتُ الْحَارِثِ. فَقَالَ لَهَا: " إِنْ تَكُونِي صَادِقَةً، فَإِنَّ بِكِ مِنِّي أَثَرٌ لَا يَبْلَى ". قَالَ: فَكَشَفَتْ عَنْ عَضُدِهَا، فَقَالَتْ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَنْتَ صَغِيرٌ، فَعَضِضْتَنِي هَذِهِ الْعَضَّةَ. قَالَ: فَبَسَطَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِدَاءَهُ، ثُمَّ قَالَ: " سَلِي تُعْطَيْ، وَاشْفَعِي تُشَفَّعِي ".» .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو نَصْرِ بْنُ قَتَادَةَ أَنْبَأَنَا أَبُو عَمْرٍو إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ السُّلَمِيُّ ثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى بْنِ ثَوْبَانَ أَخْبَرَنِي عَمِّي عُمَارَةُ بْنُ ثَوْبَانَ أَنَّ أَبَا الطُّفَيْلِ أَخْبَرَهُ قَالَ: «كُنْتُ غُلَامًا أَحْمِلُ عَظْمَ الْبَعِيرِ، وَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ لَحْمًا بِالْجِعْرَانَةِ. قَالَ: فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: أُمُّهُ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ» هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَلَعَلَّهُ يُرِيدُ أُخْتَهُ، وَقَدْ كَانَتْ تَحْضُنُهُ مَعَ أُمِّهَا حَلِيمَةَ السَّعْدِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَقَدْ
(7/111)
عَمَّرَتْ حَلِيمَةُ دَهْرًا، فَإِنَّ مِنْ وَقْتِ أَرْضَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى وَقْتِ الْجِعْرَانَةِ أَزْيَدَ مِنْ سِتِّينَ سَنَةً، وَأَقَلُّ مَا كَانَ عُمْرُهَا حِينَ أَرْضَعَتْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا عَاشَتْ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقَدْ وَرَدَ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ، فِيهِ أَنَّ أَبَوَيْهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ قَدِمَا عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ; قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي " الْمَرَاسِيلِ ": ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الْهَمْدَانِيُّ ثَنَا ابْنُ وَهْبٍ ثَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ السَّائِبِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ بَلَغَهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ جَالِسًا يَوْمًا، فَجَاءَهُ أَبُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَوَضَعَ لَهُ بَعْضَ ثَوْبِهِ، فَقَعَدَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ أُمُّهُ، فَوَضَعَ لَهَا شِقَّ ثَوْبِهِ مِنْ جَانِبِهِ الْآخَرِ، فَجَلَسَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَاءَ أَخُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ» وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَوَازِنَ بِكَمَالِهَا مُتَوَالِيَةٌ بِرَضَاعَتِهِ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، وَهُمْ شِرْذِمَةٌ مِنْ هَوَازِنَ، فَقَالَ خَطِيبُهُمْ زُهَيْرُ بْنُ صُرَدٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مَا فِي الْحَظَائِرِ أُمَّهَاتُكَ وَخَالَاتُكَ وَحَوَاضِنُكَ فَامْنُنْ عَلَيْنَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَقَالَ فِيمَا قَالَ:
امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا ... إِذْ فُوكَ يَمْلَؤُهُ مِنْ مَحْضِهَا دِرَرُ
امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا ... وَإِذْ يَزِينُكَ مَا تَأْتِي وَمَا تَذَرُ
فَكَانَ هَذَا سَبَبَ إِعْتَاقِهِمْ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ، فَعَادَتْ فَوَاضِلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، خُصُوصًا وَعُمُومًا.
وَقَدْ ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كَانَ النُّضَيْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ مِنْ أَحْلَمِ النَّاسِ، فَكَانَ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ
(7/112)
الَّذِي مَنَّ عَلَيْنَا بِالْإِسْلَامِ، وَمَنَّ عَلَيْنَا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ نَمُتْ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ الْآبَاءُ وَقُتِلَ عَلَيْهِ الْإِخْوَةُ وَبَنُو الْعَمِّ. ثُمَّ ذَكَرَ عَدَاوَتَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ خَرَجَ مَعَ قَوْمِهِ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى حُنَيْنٍ وَهَمْ عَلَى دِينِهِمْ بَعْدُ. قَالَ: وَنَحْنُ نُرِيدُ إِنْ كَانَتْ دَائِرَةٌ عَلَى مُحَمَّدٍ أَنْ نُعِينَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُمْكِنَّا ذَلِكَ، فَلَمَّا صَارَ بِالْجِعْرَانَةِ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لِعَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ إِنْ شَعَرْتُ إِلَّا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " أَنُضَيْرُ ". قُلْتُ: لَبَّيْكَ. قَالَ: " هَذَا خَيْرٌ مِمَّا أَرَدْتَ يَوْمَ حُنَيْنٍ مِمَّا حَالَ اللَّهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ ". قَالَ: فَأَقْبَلْتُ إِلَيْهِ سَرِيعًا، فَقَالَ: " قَدْ آنَ لَكَ أَنْ تُبْصِرَ مَا كُنْتَ فِيهِ تُوضِعُ ". قُلْتُ: قَدْ أَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَ اللَّهِ غَيْرُهُ لَقَدْ أَغْنَى شَيْئًا، وَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ زِدْهُ ثَبَاتًا ". قَالَ النُّضَيْرُ: فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَكَأَنَّ قَلْبِي حَجَرٌ ثَبَاتًا فِي الدِّينِ وَتَبْصِرَةً بِالْحَقِّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاهُ ".» .
[عُمْرَةُ الْجِعْرَانَةِ]
ِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا بَهْزٌ وَعَبْدُ الصَّمَدِ. الْمَعْنَى. قَالَا: ثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى ثَنَا قَتَادَةُ قَالَ: «سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قُلْتُ: كَمْ حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: حِجَّةً وَاحِدَةً، وَاعْتَمَرَ أَرْبَعَ مِرَارٍ; عُمْرَتُهُ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَعُمْرَتُهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَعُمْرَتُهُ مِنَ الْجِعْرَانَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، حَيْثُ قَسَمَ غَنِيمَةَ حُنَيْنٍ، وَعُمْرَتُهُ مَعَ حِجَّتِهِ.» وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا أَبُو النَّضْرِ ثَنَا دَاوُدُ، يَعْنِي الْعَطَّارَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ عُمَرٍ ; عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ وَعُمْرَةَ الْقَضَاءِ، وَالثَّالِثَةُ مِنَ الْجِعْرَانَةِ وَالرَّابِعَةُ الَّتِي مَعَ حِجَّتِهِ» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ دَاوُدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَطَّارِ الْمَكِّيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ بِهِ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ ثَنَا حَجَّاجُ بْنُ أَرْطَأَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: «اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ عُمَرٍ، كُلُّ ذَلِكَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ يُلَبِّي حَتَّى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ. غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهَذِهِ الثَّلَاثُ عُمَرٍ اللَّاتِي وَقَعْنَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مَا عَدَا عُمْرَتَهُ مَعَ حِجَّتِهِ، فَإِنَّهَا وَقَعَتْ فِي ذِي الْحِجَّةِ مَعَ الْحِجَّةِ، وَإِنْ أَرَادَ ابْتِدَاءَ الْإِحْرَامِ بِهِنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ فَلَعَلَّهُ لَمْ يُرِدْ عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ; لَأَنَّهُ صُدَّ عَنْهَا، وَلَمْ يَفْعَلْهَا» وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ نَافِعٌ وَمَوْلَاهُ ابْنُ عُمَرَ يُنْكِرَانِ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ فِيمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ كَانَ عَلَيَّ اعْتِكَافُ يَوْمٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَأَمَرَهُ أَنْ يَفِيَ بِهِ. قَالَ: وَأَصَابَ عُمَرُ جَارِيَتَيْنِ مِنْ سَبْيِ حُنَيْنٍ فَوَضَعَهُمَا فِي بَعْضِ بُيُوتِ مَكَّةَ. قَالَ: فَمَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَبْيِ حُنَيْنٍ فَجَعَلُوا يَسْعَوْنَ فِي السِّكَكِ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، انْظُرْ مَا هَذَا؟ قَالَ: مَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّبْيِ. قَالَ: اذْهَبْ فَأَرْسِلِ الْجَارِيَتَيْنِ» قَالَ نَافِعٌ: وَلَمْ يَعْتَمِرْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ وَلَوِ اعْتَمَرَ لَمْ يَخْفَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ. وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، بِهِ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَةَ الضَّبِّيِّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ عُمْرَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ فَقَالَ: لَمْ يَعْتَمِرْ مِنْهَا. وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَنْ مَوْلَاهُ نَافِعٍ فِي إِنْكَارِهِمَا عُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ وَقَدْ أَطْبَقَ النَّقَلَةُ مِمَّنْ عَدَاهُمَا عَلَى رِوَايَةِ ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِ الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ، وَذَكَرَ ذَلِكَ أَصْحَابُ الْمُغَازِي وَالسِّيَرِ كُلُّهُمْ.
(7/113)
وَهَذَا أَيْضًا كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ عُرْوَةَ، «عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا أَنْكَرَتْ عَلَى ابْنِ عُمَرَ قَوْلَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ، وَقَالَتْ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا وَهُوَ شَاهِدٌ، وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ.» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ ثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: «سَأَلَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ابْنَ عُمَرَ: فِي أَيِّ شَهْرٍ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: فِي رَجَبٍ. فَسَمِعَتْنَا عَائِشَةُ، فَسَأَلَهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ وَأَخْبَرَهَا بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا اعْتَمَرَ عُمْرَةً إِلَّا وَقَدْ شَهِدَهَا، وَمَا اعْتَمَرَ قَطُّ إِلَّا فِي ذِي الْقَعْدَةِ.» وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ بِهِ نَحْوَهُ.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ زُهَيْرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ مُجَاهِدٍ: «سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ: كَمِ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: مَرَّتَيْنِ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَقَدْ عَلِمَ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ ثَلَاثًا سِوَى الَّتِي قَرَنَهَا بِحِجَّةِ الْوَدَاعِ» .
(7/116)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ ثَنَا مُفَضَّلٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: «دَخَلْتُ مَعَ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا ابْنُ عُمَرَ مُسْتَنِدٌ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ وَأُنَاسٌ يُصَلُّونَ الضُّحَى، فَقَالَ عُرْوَةُ: أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا هَذِهِ الصَّلَاةُ؟ قَالَ: بِدْعَةٌ. فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ: أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَمِ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ؟ فَقَالَ: أَرْبَعًا، إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ. قَالَ: وَسَمِعْنَا اسْتِنَانَ عَائِشَةَ فِي الْحُجْرَةِ. فَقَالَ لَهَا عُرْوَةُ: إِنَّ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَزْعُمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ اعْتَمَرَ أَرْبَعًا، إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ. فَقَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ مَا اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا وَهُوَ مَعَهُ، وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ» وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُوسَى عَنْ شَيْبَانَ عَنْ مَنْصُورٍ بِهِ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا رَوْحٌ ثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي مُزَاحِمُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مُخَرِّشٍ الْكَعْبِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ لَيْلًا حِينَ أَمْسَى مُعْتَمِرًا، فَدَخَلَ مَكَّةَ لَيْلًا يَقْضِي عُمْرَتَهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ تَحْتِ لَيْلَتِهِ فَأَصْبَحَ بِالْجِعْرَانَةِ كَبَائِتٍ، حَتَّى إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ خَرَجَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ فِي بَطْنِ سَرِفٍ، حَتَّى جَامَعَ الطَّرِيقَ طَرِيقَ الْمَدِينَةِ بِسَرِفٍ. قَالَ مُخَرِّشٌ: فَلِذَلِكَ خَفِيَتْ عُمْرَتُهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ» وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ
(7/117)
يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ كَذَلِكَ وَهُوَ مِنْ أَفْرَادِهِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ ثَابِتَةٌ بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ مَنْعُهُ وَلَا دَفْعُهُ، وَمَنْ نَفَاهَا لَا حُجَّةَ مَعَهُ فِي مُقَابَلَةِ مَنْ أَثْبَتَهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ هُمْ كَالْمُجْمِعِينَ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ بَعْدَ غَزْوَةِ الطَّائِفِ وَقَسْمِ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ.
وَمَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ فِي " مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ " قَائِلًا: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيُّ ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْأَسَدِيُّ ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الطَّائِفِ نَزَلَ الْجِعْرَانَةَ فَقَسَمَ بِهَا الْغَنَائِمَ، ثُمَّ اعْتَمَرَ مِنْهَا، وَذَلِكَ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ شَوَّالٍ» فَإِنَّهُ غَرِيبٌ جِدًّا، وَفِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ثَنَا إِسْمَاعِيلُ ثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَخْبَرَهُ «أَنَّ يَعْلَى كَانَ يَقُولُ: لَيْتَنِي أَرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ. قَالَ: فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِعْرَانَةِ وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ قَدْ أُظِلَّ بِهِ، مَعَهُ فِيهِ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، إِذْ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ عَلَيْهِ جُبَّةٌ
(7/118)
مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فِي جُبَّةٍ بَعْدَ مَا تَضَمَّخَ بِالطِّيبِ؟ فَأَشَارَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى يَعْلَى بِيَدِهِ أَنْ تَعَالَ، فَجَاءَ يَعْلَى فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ، فَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْمَرُّ الْوَجْهِ يَغِطُّ كَذَلِكَ سَاعَةً، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، فَقَالَ: " أَيْنَ الَّذِي يَسْأَلُنِي عَنِ الْعُمْرَةِ آنِفًا؟ فَالْتُمِسَ الرَّجُلُ فَأُتِيَ بِهِ، قَالَ: " أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِكَ فَاغْسِلْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَمَّا الْجُبَّةُ فَانْزِعْهَا، ثُمَّ اصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ ".» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَأَخْرَجَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ عَطَاءٍ كِلَاهُمَا عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى عَنْ أَبِيهِ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ أَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ مِنْ كَدَاءَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ وَدَخَلَ فِي الْعُمْرَةِ مِنْ كُدَى» .
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: ثَنَا مُوسَى أَبُو سَلَمَةَ ثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ اعْتَمَرُوا مِنَ الْجِعْرَانَةِ، فَرْمَلُوا بِالْبَيْتِ ثَلَاثًا وَمَشَوْا أَرْبَعًا، وَجَعَلُوا أَرْدِيَتَهُمْ تَحْتَ
(7/119)
آبَاطِهِمْ، ثُمَّ قَذَفُوهَا عَلَى عَوَاتِقِهِمُ الْيُسْرَى.» تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ. وَرَوَاهُ أَيْضًا ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ خُثَيْمٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُخْتَصَرًا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ حَدَّثَنِي حَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ أَخْبَرَهُ قَالَ: «قَصَّرْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِشْقَصٍ أَوْ قَالَ: رَأَيْتُهُ يُقَصِّرُ عَنْهُ بِمِشْقَصٍ عِنْدَ الْمَرْوَةِ.» وَقَدْ أَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِهِ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ حُجَيْرٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بِهِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ بِهِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ ثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ ثَنَا سُفْيَانُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: «قَصَّرْتُ عَنْ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْمَرْوَةِ.» .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ أَنْ يَكُونَ فِي عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ وَذَلِكَ أَنَّ عُمْرَةَ
(7/120)
الْحُدَيْبِيَةِ لَمْ يَدْخُلْ إِلَى مَكَّةَ فِيهَا، بَلْ صُدَّ عَنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَأَمَّا عُمْرَةُ الْقَضَاءِ فَلَمْ يَكُنْ أَبُو سُفْيَانَ أَسْلَمَ، وَلَمْ يَبْقَ بِمَكَّةَ مِنْ أَهْلِهَا أَحَدٌ حِينَ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ خَرَجُوا مِنْهَا، وَتَغَيَّبُوا عَنْهَا مُدَّةَ مُقَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا تِلْكَ الثَّلَاثَةَ الْأَيَّامِ، وَعُمْرَتُهُ الَّتِي كَانَتْ مَعَ حَجَّتِهِ لَمْ يَتَحَلَّلْ مِنْهَا بِالِاتِّفَاقِ. فَتَعَيَّنَ أَنَّ هَذَا التَّقْصِيرَ الَّذِي تَعَاطَاهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، مِنْ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْمَرْوَةِ إِنَّمَا كَانَ فِي عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ كَمَا قُلْنَا. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ: ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ مُعْتَمِرًا، وَأَمَرَ بِبَقَايَا الْفَيْءِ فَحُبِسَ بِمَجَنَّةَ بِنَاحِيَةِ مَرِّ الظَّهْرَانِ.
قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا اسْتَبْقَى بَعْضَ الْمَغْنَمِ لِيَتَأَلَّفَ بِهِ مَنْ يَلْقَاهُ مِنَ الْأَعْرَابِ فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عُمْرَتِهِ انْصَرَفَ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ وَاسْتَخْلَفَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكَّةَ وَخَلَّفَ مَعَهُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ يُفَقِّهُ النَّاسَ فِي الدِّينِ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْقُرْآنَ.
وَذَكَرَ عُرْوَةُ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلَّفَ مُعَاذًا مَعَ عَتَّابٍ بِمَكَّةَ قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى هَوَازِنَ، ثُمَّ خَلَّفَهُمَا بِهَا حِينَ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَبَلَغَنِي عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا اسْتَعْمَلَ
(7/121)
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكَّةَ رَزَقَهُ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمًا، فَقَامَ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، أَجَاعَ اللَّهُ كَبِدَ مَنْ جَاعَ عَلَى دِرْهَمٍ، فَقَدْ رَزَقَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِرْهَمًا كُلَّ يَوْمٍ، فَلَيْسَتْ بِي حَاجَةٌ إِلَى أَحَدٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَتْ عُمْرَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي بَقِيَّةِ ذِي الْقَعْدَةِ، أَوْ فِي أَوَّلِ ذِي الْحِجَّةِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ قَدِمَهَا لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ. فِيمَا قَالَ أَبُو عَمْرٍو الْمَدِينِيُّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَجَّ النَّاسُ ذَلِكَ الْعَامَ عَلَى مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَحُجُّ عَلَيْهِ، وَحَجَّ بِالْمُسْلِمِينَ تِلْكَ السَّنَةَ عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ وَهِيَ سَنَةُ ثَمَانٍ. قَالَ: وَأَقَامَ أَهْلُ الطَّائِفِ عَلَى شِرْكِهِمْ وَامْتِنَاعِهِمْ فِي طَائِفِهِمْ مَا بَيْنَ ذِي الْقَعْدَةِ إِلَى رَمَضَانَ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ.
(7/122)
[إِسْلَامُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ وَذِكْرُ قَصِيدَتِهِ]
إِسْلَامُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَبُوهُ هُوَ صَاحِبُ إِحْدَى الْمُعَلَّقَاتِ السَّبْعِ، الشَّاعِرُ ابْنُ الشَّاعِرِ، وَذِكْرُ قَصِيدَتِهِ الَّتِي سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ: بَانَتْ سُعَادُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُنْصَرَفِهِ عَنِ الطَّائِفِ كَتَبَ بُجَيْرُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى إِلَى أَخِيهِ لِأَبَوَيْهِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ يُخْبِرُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَ رِجَالًا بِمَكَّةَ مِمَّنْ كَانَ يَهْجُوهُ وَيُؤْذِيهِ، وَأَنَّ مَنْ بَقِيَ مِنْ شُعَرَاءِ قُرَيْشٍ; ابْنُ الزِّبَعْرَى وَهُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ هَرَبُوا فِي كُلِّ وَجْهٍ، فَإِنْ كَانَتْ لَكَ فِي نَفْسِكَ حَاجَةٌ، فَطِرْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ لَا يَقْتُلُ أُحُدًا جَاءَهُ تَائِبًا، وَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَانْجُ إِلَى نَجَائِكَ مِنَ الْأَرْضِ. وَكَانَ كَعْبٌ قَدْ قَالَ:
أَلَا أَبْلِغَا عَنِّي بُجَيْرًا رِسَالَةً ... فَوَيْحَكَ مِمَّا قُلْتَ وَيْحَكَ هَلْ لَكَا
فَبَيِّنْ لَنَا إِنْ كُنْتَ لَسْتَ بِفَاعِلٍ ... عَلَى أَيِّ شَيْءٍ غَيْرِ ذَلِكَ دَلَّكَا
(7/123)
عَلَى خُلُقٍ لَمْ أُلْفِ يَوْمًا أَبًا لَهُ
عَلَيْهِ وَمَا تُلْفِي عَلَيْهِ أَبًا لَكَا ... فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَلَسْتُ بِآسِفٍ
وَلَا قَائِلٍ إِمَّا عَثَرْتَ لَعًا لَكَا ... سَقَاكَ بِهَا الْمَأْمُونُ كَأْسًا رَوِيَّةً
فَأَنْهَلَكَ الْمَأْمُونُ مِنْهَا وَعَلَّكَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ:
مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي بُجَيْرًا رِسَالَةً ... فَهَلْ لَكَ فِيمَا قُلْتَ بِالْخَيْفِ هَلْ لَكَا
شَرِبْتَ مَعَ الْمَأْمُونِ كَأْسًا رَوِيَّةً ... فَأَنْهَلَكَ الْمَأْمُونُ مِنْهَا وَعَلَّكَا
وَخَالَفْتَ أَسْبَابَ الْهُدَى وَاتَّبَعْتَهُ ... عَلَى أَيِّ شَيْءٍ وَيْبَ غَيْرِكَ دَلَّكَا
عَلَى خُلُقٍ لَمْ تُلْفِ أُمَّا وَلَا أَبًا ... عَلَيْهِ وَلَمْ تُدْرِكْ عَلَيْهِ أَخًا لَكَا
فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَلَسْتُ بِآسِفٍ ... وَلَا قَائِلٍ إِمَّا عَثَرْتَ لَعًا لَكَا
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَبَعَثَ بِهَا إِلَى بُجَيْرٍ فَلَمَّا أَتَتْ بُجَيْرًا كَرِهَ أَنْ يَكْتُمَهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْشَدَهُ إِيَّاهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَمِعَ: سَقَاكَ بِهَا الْمَأْمُونُ " صَدَقَ وَإِنَّهُ لَكَذُوبٌ، أَنَا الْمَأْمُونُ ". وَلَمَّا سَمِعَ: عَلَى خُلُقٍ لَمْ تُلْفِ أُمًّا وَلَا أَبًا عَلَيْهِ. قَالَ: " أَجَلْ لَمْ يُلْفِ عَلَيْهِ أَبَاهُ وَلَا أُمَّهُ ". قَالَ: ثُمَّ كَتَبَ
(7/124)
بُجَيْرٌ إِلَى كَعْبٍ يَقُولُ لَهُ:
مَنْ مُبْلِغٌ كَعْبًا فَهَلْ لَكَ فِي الَّتِي ... تَلُومُ عَلَيْهَا بَاطْلًا وَهِيَ أَحْزَمُ
إِلَى اللَّهِ لَا الْعُزَّى وَلَا اللَّاتِ وَحْدَهُ ... فَتَنْجُو إِذَا كَانَ النَّجَاءُ وَتَسْلَمُ
لَدَى يَوْمٍ لَا يَنْجُو وَلَيْسَ بِمُفْلِتٍ ... مِنَ النَّاسِ إِلَّا طَاهِرُ الْقَلْبِ مُسْلِمُ
فَدِينُ زُهَيْرٍ وَهُوَ لَا شَيْءَ دِينُهُ ... وَدِينُ أَبِي سُلْمَى عَلَيَّ مُحَرَّمُ
قَالَ: فَلَمَّا بَلَغَ كَعْبًا الْكُتَّابُ ضَاقَتْ بِهِ الْأَرْضُ، وَأَشْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَرْجَفَ بِهِ مَنْ كَانَ فِي حَاضِرِهِ مِنْ عَدُوِّهُ، وَقَالُوا: هُوَ مَقْتُولٌ. فَلَمَّا لَمْ يَجِدْ مِنْ شَيْءٍ بُدًّا قَالَ قَصِيدَتَهُ الَّتِي يَمْدَحُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ فِيهَا خَوْفَهُ وَإِرْجَافَ الْوُشَاةِ بِهِ مِنْ عَدُوِّهُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَنَزَلَ عَلَى رَجُلٍ - كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَعْرِفَةٌ - مِنْ جُهَيْنَةَ، كَمَا ذُكِرَ لِي، فَغَدَا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَصَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَشَارَ لَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ، فَقُمْ إِلَيْهِ فَاسْتَأْمِنْهُ. فَذُكِرَ لِي أَنَّهُ قَامَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ، وَوَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَعْرِفُهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ كَعْبَ بْنَ زُهَيْرٍ قَدْ جَاءَ لِيَسْتَأْمِنَ مِنْكَ تَائِبًا مُسْلِمًا، فَهَلْ أَنْتَ قَابِلٌ مِنْهُ إِنْ جِئْتُكَ بِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَعَمْ ". فَقَالَ: إِذًا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ أَنَّهُ وَثَبَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي وَعَدُوَّ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْهُ عَنْكَ، فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَ تَائِبًا نَازِعًا» قَالَ: فَغَضِبَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ عَلَى هَذَا الْحَيِّ مِنَ الْأَنْصَارِ لِمَا صَنَعَ بِهِ صَاحِبُهُمْ; وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ إِلَّا بِخَيْرٍ، فَقَالَ فِي قَصِيدَتِهِ الَّتِي قَالَ حِينَ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ ... مُتَيَّمٌ إِثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ
وَمَا سُعَادُ غَدَاةَ الْبَيْنِ إِذْ بَرَزَتْ ... إِلَّا أَغَنُّ غَضِيضُ الطَّرْفِ مَكْحُولُ
تَجْلُو عَوَارِضَ ذِي ظَلْمٍ إِذَا ابْتَسَمَتْ ... كَأَنَّهُ مُنْهَلٌ بِالرَّاحِ مَعْلُولُ
(7/125)
شُجَّتْ بِذِي شَبَمٍ مِنْ مَاءِ مَحْنِيَةٍ
صَافٍ بِأَبْطَحَ أَضْحَى وَهْوَ مَشْمُولُ ... تَنْفِي الرِّيَاحُ الْقَذَى عَنْهُ وَأَفْرَطَهُ
مِنْ صَوْبِ غَادِيَةٍ بِيضٌ يَعَالِيلُ ... فَيَا لَهَا خُلَّةٌ لَوْ أَنَّهَا صَدَقَتْ
بِوَعْدِهَا أَوْ لَوَ انَّ النُّصْحَ مَقْبُولُ ... لَكِنَّهَا خُلَّةٌ قَدْ سِيطَ مِنْ دَمِهَا
فَجْعٌ وَوَلْعٌ وَإِخْلَافٌ وَتَبْدِيلُ ... فَمَا تَدُومُ عَلَى حَالٍ تَكُونُ بِهَا
كَمَا تَلَوَّنُ فِي أَثْوَابِهَا الْغُولُ ... وَمَا تُمَسِّكُ بِالْعَهْدِ الَّذِي زَعَمَتْ
إِلَّا كَمَا يُمْسِكُ الْمَاءَ الْغَرَابِيلُ ... فَلَا يَغُرَّنْكَ مَا مَنَّتْ وَمَا وَعَدَتْ
إِنَّ الْأَمَانِيَّ وَالْأَحْلَامَ تَضْلِيلُ ... كَانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لَهَا مَثَلًا
وَمَا مَوَاعِيدُهَا إِلَّا الْأَبَاطِيلُ ... أَرْجُو وَآمُلُ أَنْ يَعْجَلْنَ فِي أَبَدٍ
وَمَا لَهُنَّ إِخَالُ الدَّهْرَ تَعْجِيلُ ... أَمْسَتْ سُعَادُ بِأَرْضٍ لَا يُبَلِّغُهَا
إِلَّا الْعِتَاقُ النَّجِيبَاتُ الْمَرَاسِيلُ ... وَلَنْ يُبَلِّغَهَا إِلَّا عُذَافِرَةٌ
فِيهَا عَلَى الْأَيْنِ إِرْقَالٌ وَتَبْغِيلُ ... مِنْ كُلِّ نَضَّاخَةِ الذِّفْرَى إِذَا عَرِقَتْ
عُرْضَتُهَا طَامِسُ الْأَعْلَامِ مَجْهُولُ ... تَرْمِي النِّجَادَ بِعَيْنَيْ مُفْرَدٍ لَهِقٍ
إِذَا تَوَقَّدَتِ الْحِزَّانُ وَالْمِيلُ ... ضَخْمٌ مُقَلَّدُهَا فَعْمٌ مُقَيَّدُهَا
فِي خَلْقِهَا عَنْ بَنَاتِ الْفَحْلِ تَفْضِيلُ ... حَرْفٌ أَخُوهَا أَبُوهَا مِنْ مُهَجَّنَةٍ
وَعَمُّهَا خَالُهَا قَوْدَاءُ شِمْلِيلُ ... يَمْشِي الْقُرَادُ عَلَيْهَا ثُمَّ يُزْلِقُهُ
مِنْهَا لَبَانٌ وَأَقْرَابٌ زَهَالِيلُ ... عَيْرَانَةٌ قُذِفَتْ بِالنَّحْضِ عَنْ عُرُضٍ
مِرْفَقُهَا عَنْ بَنَاتِ الزَّوْرِ مَفْتُولُ ... قَنْوَاءُ فِي حُرَّتَيْهَا لِلْبَصِيرِ بِهَا
عِتْقٌ مُبِينٌ وَفِي الْخَدَّيْنِ تَسْهِيلُ ... كَأَنَّ مَا فَاتَ عَيْنَيْهَا وَمَذْبَحَهَا
مِنْ خَطْمِهَا وَمِنَ اللَّحْيَيْنِ بِرْطِيلُ ... تُمِرُّ مِثْلَ عَسِيبِ النَّخْلِ ذَا خُصَلٍ
فِي غَارِزٍ لَمْ تَخَوَّنْهُ الْأَحَالِيلُ ... تَهْوِي عَلَى يَسَرَاتٍ وَهْيَ لَاهِيَةٌ
ذَوَابِلٍ وَقْعُهُنَّ الْأَرْضَ تَحْلِيلُ ... سُمْرِ الْعُجَايَاتِ يَتْرُكْنَ الْحَصَى زِيَمًا
لَمْ يَقِهِنَّ رُءُوسَ الْأُكْمِ تَنْعِيلُ ... يَوْمًا يَظَلُّ بِهِ الْحِرْبَاءُ مُرْتَبِئًا
كَأَنَّ ضَاحِيَهُ بِالشَّمْسِ مَمْلُولُ ... وَقَالَ لِلْقَوْمِ حَادِيهُمْ وَقَدْ جَعَلَتْ
وُرْقُ الْجَنَادَبِ يَرْكُضْنَ الْحَصَا قِيلُوا ... كَأَنَّ أَوْبَ ذِرَاعَيْهَا وَقَدْ عَرِقَتْ
وَقَدْ تَلَفَّعَ بِالْقُورِ الْعَسَاقِيلُ ... أَوْبُ يَدَيْ فَاقِدٍ شَمْطَاءَ مُعْوِلَةٍ
قَامَتْ فَجَاوَبَهَا نُكْدٌ مَثَاكِيلُ
(7/127)
نَوَّاحَةٌ رِخْوَةُ الضَّبْعَيْنِ لَيْسَ لَهَا ... لَمَّا نَعَى بِكْرَهَا النَّاعُونَ مَعْقُولُ
تَفْرِي اللَّبَانَ بِكَفَّيْهَا وَمِدْرَعُهَا ... مُشَقَّقٌ عَنْ تَرَاقِيهَا رَعَابِيلُ
تَسْعَى الْغُوَاةُ جَنَابَيْهَا وَقَوْلُهُمُ ... إِنَّكَ يَابْنَ أَبِي سُلْمَى لَمَقْتُولُ
وَقَالَ كُلُّ صَدِيقٍ كُنْتُ آمُلُهُ ... لَا أُلْهِيَنَّكَ إِنِّي عَنْكَ مَشْغُولُ
فَقُلْتُ خَلُّوا سَبِيلِي لَا أَبًا لَكُمُ ... فَكُلُّ مَا قَدَّرَ الرَّحْمَنُ مَفْعُولُ
كُلُّ ابْنِ أُنْثَى وَإِنْ طَالَتْ سَلَامَتُهُ ... يَوْمًا عَلَى آلَةٍ حَدْبَاءَ مَحْمُولُ
نُبِّئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَوْعَدَنِي.
وَالْعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مَأْمُولُ ... مَهْلًا هَدَاكَ الَّذِي أَعْطَاكَ نَافِلَةَ
الْقُرْآنِ فِيهِ مَوَاعِيظٌ وَتَفْصِيلُ ... لَا تَأْخُذَنِّي بِأَقْوَالِ الْوُشَاةِ وَلَمْ
أُذْنِبْ وَلَوْ كَثُرَتْ فِيَّ الْأَقَاوِيلُ ... لَقَدْ أَقُومُ مَقَامًا لَوْ يَقُومُ بِهِ
أَرَى وَأَسْمَعُ مَا قَدْ يَسْمَعُ الْفِيلُ
(7/131)
لَظَلَّ تُرْعَدُ مِنْ وَجْدٍ بَوَادِرُهُ ... إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ تَنْوِيلُ
حَتَّى وَضَعْتُ يَمِينِي مَا أُنَازِعُهُ ... فِي كَفِّ ذِي نَقَمَاتٍ قَوْلُهُ الْقِيلُ
فَلَهْوَ أَخْوَفُ عِنْدِي إِذْ أُكَلِّمُهُ ... وَقِيلَ إِنَّكَ مَنْسُوبٌ وَمَسْئُولُ
مِنْ ضَيْغَمٍ بِضَرَاءِ الْأَرْضِ مَخْدَرُهُ ... فِي بَطْنِ عَثَّرَ غِيلٌ دُونَهُ غِيلُ
يَغْدُو فَيُلْحِمُ ضِرْغَامَيْنِ عَيْشُهُمَا ... لَحْمٌ مِنَ النَّاسِ مَعْفُورٌ خَرَادِيلُ
إِذَا يُسَاوِرُ قِرْنًا لَا يَحِلُّ لَهُ ... أَنْ يَتْرُكَ الْقِرْنَ إِلَّا وَهْوَ مَفْلُولُ
مِنْهُ تَظَلُّ حَمِيرُ الْوَحْشِ نَافِرَةً ... وَلَا تَمْشِي بِوَادِيهِ الْأَرَاجِيلُ
(7/132)
وَلَا يَزَالُ بِوَادِيهِ أَخُو ثِقَةٍ
مُضَرَّجُ الْبَزِّ وَالدِّرْسَانِ مَأَكُولُ ... إِنَّ الرَّسُولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ
مُهَنَّدٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ مَسْلُولُ ... فِي عُصْبَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ قَائِلُهُمْ
بِبَطْنِ مَكَّةَ لَمَّا أَسْلَمُوا زُولُوا ... زَالُوا فَمَا زَالَ أَنْكَاسٌ وَلَا كُشُفٌ
عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلَا مِيلٌ مَعَازِيلُ ... يَمْشُونَ مَشْيَ الْجِمَالِ الزُّهْرِ يَعْصِمُهُمْ
ضَرْبٌ إِذَا عَرَّدَ السُّودُ التَّنَابِيلُ ... شُمُّ الْعَرَانِينِ أَبْطَالٌ لَبُوسُهُمُ
مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ فِي الْهَيْجَا سَرَابِيلُ ... بِيضٌ سَوَابِغُ قَدْ شُكَّتْ لَهَا حَلَقٌ
كَأَنَّهَا حَلَقُ الْقَفْعَاءِ مَجْدُولُ ... لَيْسُوا مَفَارِيحَ إِنْ نَالَتْ رِمَاحُهُمُ
قَوْمًا وَلَيْسُوا مَجَازِيعًا إِذَا نِيلُوا
(7/133)
لَا يَقَعُ الطَّعْنُ إِلَّا فِي نُحُورِهِمُ ... وَمَا لَهُمْ عَنْ حِيَاضِ الْمَوْتِ تَهْلِيلُ
هَكَذَا أَوْرَدَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ هَذِهِ الْقَصِيدَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهَا إِسْنَادًا.
وَقَدْ رَوَاهَا الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ " بِإِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ، فَقَالَ: أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ الْأَسَدِيُّ بِهَمْدَانَ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُسَيْنِ ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيٌّ ثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ ذِي الرُّقَيْبَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «خَرَجَ كَعْبٌ وَبُجَيْرٌ ابْنَا زُهَيْرٍ حَتَّى أَتَيَا أَبْرَقَ الْعَزَّافِ، فَقَالَ بُجَيْرٌ لِكَعْبٍ: اثْبُتْ فِي هَذَا الْمَكَانِ حَتَّى آتِيَ هَذَا الرَّجُلَ - يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْمَعُ مَا يَقُولُ. فَثَبَتَ كَعْبٌ وَخَرَجَ بُجَيْرٌ فَجَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ كَعْبًا فَقَالَ:
أَلَّا أَبْلِغَا عَنِّي بُجَيْرًا رِسَالَةً ... عَلَى أَيِّ شَيْءٍ وَيْبَ غَيْرِكَ دَلَّكَا
عَلَى خُلُقٍ لَمْ تُلْفِ أُمًّا وَلَا أَبًا ... عَلَيْهِ وَلَمْ تُدْرِكْ عَلَيْهِ أَخًا لَكَا
(7/134)
سَقَاكَ أَبُو بَكْرٍ بِكَأْسِ رَوِيَّةٍ
وَأَنْهَلَكَ الْمَأْمُونُ مِنْهَا وَعَلَّكَا
فَلَمَّا بَلَغَتِ الْأَبْيَاتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْدَرَ دَمَهُ، وَقَالَ: " مَنْ لَقِيَ كَعْبًا فَلْيَقْتُلْهُ ". فَكَتَبَ بِذَلِكَ بُجَيْرًا إِلَى أَخِيهِ، وَذَكَرَ لَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَهْدَرَ دَمَهُ، وَيَقُولُ لَهُ: النَّجَاءَ وَمَا أَرَاكَ تَنْفَلِتُ. ثُمَّ كَتَبَ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ: اعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَأْتِيهِ أَحَدٌ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، إِلَّا قَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ وَأَسْقَطَ مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِذَا جَاءَكَ كِتَابِي هَذَا، فَأَسْلِمْ وَأَقْبِلْ. قَالَ: فَأَسْلَمَ كَعْبٌ وَقَالَ قَصِيدَتَهُ الَّتِي يَمْدَحُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ بِبَابِ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَصْحَابِهِ كَالْمَائِدَةِ بَيْنَ الْقَوْمِ، مُتَحَلِّقُونَ مَعَهُ حَلْقَةً خَلْفَ حَلْقَةٍ، يَلْتَفِتُ إِلَى هَؤُلَاءِ مَرَّةً فَيُحَدِّثُهُمْ، وَإِلَى هَؤُلَاءِ مَرَّةً فَيُحَدِّثُهُمْ. قَالَ كَعْبٌ: فَأَنَخْتُ رَاحِلَتِي بِبَابِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَعَرَفْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصِّفَةِ، فَتَخَطَّيْتُ حَتَّى جَلَسْتُ إِلَيْهِ، فَأَسْلَمْتُ وَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّكَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، الْأَمَانَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " وَمَنْ أَنْتَ؟ " قُلْتُ: كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ قَالَ: " الَّذِي يَقُولُ ". ثُمَّ الْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: " كَيْفَ قَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ " فَأَنْشَدَهُ أَبُو بَكْرٍ:.
سَقَاكَ أَبُو بَكْرٍ بِكَأْسٍ رَوِيَّةٍ ... وَأَنْهَلَكَ الْمَأْمُورُ مِنْهَا وَعَلَّكَا
(7/135)
قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا قُلْتُ هَكَذَا. قَالَ: " فَكَيْفَ قُلْتَ؟ " قَالَ: قُلْتُ:
سَقَاكَ أَبُو بَكْرٍ بِكَأْسٍ رَوِيَّةٍ ... وَأَنْهَلَكَ الْمَأْمُونُ مِنْهَا وَعَلَّكَا
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَأْمُونٌ وَاللَّهِ ". ثُمَّ أَنْشَدَهُ الْقَصِيدَةَ كُلَّهَا حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِهَا،» وَهِيَ هَذِهِ الْقَصِيدَةُ:
بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ ... مُتَيَّمٌ عِنْدَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الرَّمْزِ لِمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِنْشَادُ ابْنِ إِسْحَاقَ وَالْبَيْهَقِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ " الِاسْتِيعَابِ " أَنَّ كَعْبًا لَمَّا انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ:
إِنَّ الرَّسُولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ ... مُهَنَّدٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ مَسْلُولُ
نُبِّئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَوْعَدَنِي ... وَالْعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مَأْمُولُ
قَالَ: فَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَنْ مَعَهُ أَنِ اسْمَعُوا. وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ قَبْلَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي " مَغَازِيهِ "، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
قُلْتُ: وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ بُرْدَتَهُ حِينَ أَنْشَدَهُ
(7/136)
الْقَصِيدَةَ. وَقَدْ نَظَمَ ذَلِكَ الصَّرْصَرِيُّ فِي بَعْضِ مَدَائِحِهِ. وَهَكَذَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْأَثِيرِ فِي " الْغَابَةِ " قَالَ: وَهِيَ الْبُرْدَةُ الَّتِي عِنْدَ الْخُلَفَاءِ.
قُلْتُ: وَهَذَا مِنَ الْأُمُورِ الْمَشْهُورَةِ جِدًّا، وَلَكِنْ لَمْ أَرَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ بِإِسْنَادٍ أَرْتَضِيهِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ لَمَّا قَالَ: بَانَتْ سُعَادُ: " وَمَنْ سُعَادُ؟ " قَالَ: زَوْجَتِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " لَمْ تَبِنْ ". وَلَكِنْ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ، وَكَأَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ تَوَهَّمَ أَنَّ بِإِسْلَامِهِ تَبِينُ امْرَأَتُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ الْبَيْنُونَةَ الْحِسِّيَّةَ لَا الْحُكْمِيَّةَ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ: فَلَمَّا قَالَ كَعْبٌ - يَعْنِي فِي قَصِيدَتِهِ -: إِذَا عَرَّدَ السُّودُ التَّنَابِيلُ. وَإِنَّمَا يُرِيدُنَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ; لِمَا كَانَ صَاحِبُنَا صَنَعَ بِهِ، وَخَصَّ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ بِمِدْحَتِهِ; غَضِبَتْ عَلَيْهِ الْأَنْصَارُ فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ يَمْدَحُ الْأَنْصَارَ، وَيَذْكُرُ بَلَاءَهُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَوْضِعَهُمْ مِنَ الْيُمْنِ:
(7/137)
مَنْ سَرَّهُ كَرَمُ الْحَيَاةِ فَلَا يَزَلْ ... فِي مِقْنَبٍ مِنْ صَالِحِي الْأَنْصَارِ
وَرِثُوا الْمَكَارِمَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ ... إِنَّ الْخِيَارَ هُمُ بَنُو الْأَخْيَارِ
الْمُكْرِهِينَ السَّمْهَرِيَّ بِأَذْرُعٍ ... كَسَوَالِفِ الِهِنْدِيِّ غَيْرِ قِصَارِ
وَالنَّاظِرِينَ بِأَعْيُنٍ مُحْمَرَّةٍ ... كَالْجَمْرِ غَيْرِ كَلِيلَةِ الْإِبْصَارِ
وَالْبَائِعِينَ نُفُوسَهُمْ لِنَبِيِّهِمْ ... لِلْمَوْتِ يَوْمَ تَعَانُقٍ وَكِرَارِ
وَالْقَائِدِينَ النَّاسَ عَنْ أَدْيَانِهِمْ ... بِالْمَشْرَفِيِّ وَبِالْقَنَا الْخَطَّارِ
يَتَطَهَّرُونَ يَرَوْنَهُ نُسُكًا لَهُمْ ... بِدِمَاءِ مَنْ عَلِقُوا مِنَ الْكُفَّارِ
دَرِبُوا كَمَا دَرِبَتْ بِبَطْنِ خَفِيَّةٍ ... غُلْبُ الرِّقَابِ مِنَ الْأُسُودِ ضَوَارِي
وَإِذَا حَلَلْتَ لِيَمْنَعُوكَ إِلَيْهِمُ ... أَصْبَحْتَ عِنْدَ مَعَاقِلِ الْأَغْفَارِ
(7/138)
ضَرَبُوا عَلِيًّا يَوْمَ بَدْرٍ ضَرْبَةً
دَانَتْ لِوَقْعَتِهَا جَمِيعُ نِزَارِ ... لَوْ يَعْلَمُ الْأَقْوَامُ عِلْمِيَ كُلَّهُ
فِيهِمْ لَصَدَّقَنِي الَّذِينَ أُمَارِي ... قَوْمٌ إِذَا خَوَتِ النُّجُومُ فَإِنَّهُمْ
لِلطَّارِقِينَ النَّازِلِينَ مَقَارِي
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَيُقَالُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ حِينَ أَنْشَدَهُ بَانَتْ سُعَادُ: «لَوْلَا ذَكَرْتَ الْأَنْصَارَ بِخَيْرٍ، فَإِنَّهُمْ لِذَلِكَ أَهْلٌ» فَقَالَ كَعْبٌ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ وَهِيَ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
قَالَ: وَبَلَغَنِي عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ أَنَّ كَعْبَ بْنَ زُهَيْرٍ أَنْشَدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ: بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ. وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ الْمُتَقَدِّمِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيِّ حَدَّثَنِي مَعْنُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَوْقَصُ عَنِ ابْنِ جُدْعَانَ فَذَكَرَهُ، وَهُوَ مُرْسَلٌ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي كِتَابِ " الِاسْتِيعَابِ فِي
(7/139)
مَعْرِفَةِ الْأَصْحَابِ " بَعْدَ مَا أَوْرَدَ طَرَفًا مِنْ تَرْجَمَةِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ إِلَى أَنْ قَالَ: وَقَدْ كَانَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ شَاعِرًا مُجَوِّدًا كَثِيرَ الشِّعْرِ مُقَدَّمًا فِي طَبَقَتِهِ هُوَ وَأَخُوهُ بُجَيْرٌ وَكَعْبٌ أَشْعَرُهُمَا، وَأَبُوهُمَا زُهَيْرٌ فَوْقَهُمَا، وَمِمَّا يُسْتَجَادُ مِنْ شِعْرِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ قَوْلُهُ:
لَوْ كُنْتُ أَعْجَبُ مِنْ شَيْءٍ لَأَعْجَبَنِي ... سَعْيُ الْفَتَى وَهْوَ مَخْبُوءٌ لَهُ الْقَدَرُ
يَسْعَى الْفَتَى لِأُمُورٍ لَيْسَ يُدْرِكُهَا ... فَالنَّفْسُ وَاحِدَةٌ وَالْهَمُّ مُنْتَشِرُ
وَالْمَرْءُ مَا عَاشَ مَمْدُودٌ لَهُ أَمَلٌ ... لَا تَنْتَهِي الْعَيْنُ حَتَّى يَنْتَهِيَ الْأَثَرُ
ثُمَّ أَوْرَدَ لَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَشْعَارًا كَثِيرَةً يَطُولُ ذِكْرُهَا وَلَمْ يُؤَرِّخْ وَفَاتَهُ، وَكَذَا لَمْ يُؤَرِّخْهَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْأَثِيرِ فِي كِتَابِ " الْغَابَةِ فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ " وَلَكِنْ حَكَى أَنَّ أَبَاهُ تُوُفِّيَ قَبْلَ الْمَبْعَثِ بِسَنَةٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَمِمَّا أَجَادَ فِيهِ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ قَوْلُهُ يَمْدَحُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
تَجْرِي بِهِ النَّاقَةُ الْأَدْمَاءُ مُعْتَجِرًا ... بِالْبُرْدِ كَالْبَدْرِ جَلَّى لَيْلَةَ الظُّلَمِ
فَفِي عِطَافَيْهِ أَوْ أَثَنَاءِ بُرْدَتِهِ ... مَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْ دِينٍ وَمِنْ كَرَمِ
[الْحَوَادِثُ الْمَشْهُورَةُ سَنَةَ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ]
فَصْلٌ فِيمَا كَانَ مِنَ الْحَوَادِثِ الْمَشْهُورَةِ، فِي سَنَةِ ثَمَانٍ، وَالْوَفَيَاتِ.
فَكَانَ فِي جُمَادَى مِنْهَا وَقْعَةُ مُؤْتَةَ وَفِي رَمَضَانَ غَزْوَةُ فَتْحِ مَكَّةَ وَبَعْدَهَا فِي شَوَّالٍ غَزْوَةُ هَوَازِنَ بِحُنَيْنٍ، وَبَعْدَهَا كَانَ حِصَارُ الطَّائِفِ ثُمَّ كَانَتْ عُمْرَةُ الْجِعْرَانَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي بَقِيَّةِ السَّنَةِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِلَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فِي سُفْرَتِهِ هَذِهِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَى جَيْفَرٍ وَعَمْرٍو ابْنَيِ الْجُلَنْدِيِّ مِنَ الْأَزْدِ، وَأُخِذَتِ الْجِزْيَةُ مِنْ مَجُوسِ بَلَدِهِمَا وَمَنْ حَوْلَهَا مِنَ الْأَعْرَابِ. قَالَ: وَفِيهَا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ بِنْتَ الضِّحَاكِ بْنِ سُفْيَانَ الْكِلَابِيِّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَاسْتَعَاذَتْ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَارَقَهَا، وَقِيلَ: بَلْ خَيَّرَهَا فَاخْتَارَتِ الدُّنْيَا فَفَارَقَهَا. قَالَ: وَفِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا وُلِدَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ، فَاشْتَدَّتْ غَيْرَةُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهَا حِينَ رُزِقَتْ وَلَدًا ذَكَرًا، وَكَانَتْ قَابِلَتُهَا فِيهِ سُلْمَى مُوَلَّاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَجَتْ إِلَى أَبِي رَافِعٍ فَأَخْبَرَتْهُ فَذَهَبَ فَبَشَّرَ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُ مَمْلُوكًا، وَدَفَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُمِّ بُرْدَةَ بِنْتِ
(7/140)
الْمُنْذِرِ بْنِ زَيْدِ بْنِ خِدَاشِ بْنِ عَامِرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، وَزَوْجُهَا الْبَرَاءُ بْنُ أَوْسِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْجَعْدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ مَبْذُولٍ. وَكَانَتْ فِيهَا وَفَاةُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الشُّهَدَاءِ فِي هَذِهِ الْوَقَائِعِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا هَدْمَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ الْبَيْتَ الَّذِي كَانَتِ الْعُزَّى تُعْبَدُ فِيهِ بِنَخْلَةَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، وَذَلِكَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ مِنْهَا.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا كَانَ هَدْمُ سُوَاعٍ الَّذِي كَانَتْ تَعْبُدُهُ هُذَيْلٌ بِرُهَاطٍ، هَدَمَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَجِدْ فِي خِزَانَتِهِ شَيْئًا. وَفِيهَا هُدِمَ مَنَاةُ بِالْمُشَلَّلِ، وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ أَوَسُهَا وَخَزْرَجُهَا يُعَظِّمُونَهُ، هَدَمَهُ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ الْأَشْهَلِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ هَذَا فَصْلًا مُفِيدًا مَبْسُوطًا فِي تَفْسِيرِ " سُورَةِ النَّجْمِ " عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19]
[النَّجْمِ: 19، 20] .
قُلْتُ: وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ قِصَّةَ تَخْرِيبِ خَثْعَمٍ الْبَيْتَ الَّذِي كَانَتْ تَعْبُدُهُ وَيُسَمُّونَهُ الْكَعْبَةَ الْيَمَانِيَّةَ مُضَاهِيَةً لِلْكَعْبَةِ الَّتِي بِمَكَّةَ، وَيُسَمُّونَ الَّتِي بِمَكَّةَ الْكَعْبَةَ الشَّامِيَّةَ، وَلِتِلْكَ الْكَعْبَةَ الْيَمَانِيَّةَ.
(7/142)
فَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسٍ عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلَا تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ؟ " فَقُلْتُ: بَلَى. فَانْطَلَقْتُ فِي خَمْسِينَ وَمِائَةِ فَارِسٍ مِنْ أَحْمَسَ، وَكَانُوا أَصْحَابَ خَيْلٍ، وَكُنْتُ لَا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَضَرَبَ يَدَهُ فِي صَدْرِي حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ يَدِهِ فِي صَدْرِي، وَقَالَ: " اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا ". قَالَ: فَمَا وَقَعْتُ عَنْ فَرَسٍ بَعْدُ. قَالَ: وَكَانَ ذُو الْخَلَصَةِ بَيْتًا بِالْيَمَنِ لَخَثْعَمٍ وَبَجِيلَةَ، فِيهِ نُصُبٌ تُعْبَدُ - يُقَالُ لَهُ: الْكَعْبَةُ الْيَمَانِيَّةُ. قَالَ: فَأَتَاهَا فَحَرَّقَهَا فِي النَّارِ وَكَسَرَهَا. قَالَ: فَلَمَّا قَدِمَ جَرِيرٌ الْيَمَنَ كَانَ بِهَا رَجُلٌ يَسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَاهُنَا، فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْكَ ضَرَبَ عُنُقَكَ. قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ يَضْرِبُ بِهَا إِذْ وَقَفَ عَلَيْهِ جَرِيرٌ فَقَالَ: لَتَكْسَرَنَّهَا وَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَوْ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ. فَكَسَرَهَا وَشَهِدَ. ثُمَّ بَعَثَ جَرِيرٌ رَجُلًا مِنْ أَحْمَسَ يُكَنَّى أَبَا أَرْطَأَةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَشِّرُهُ بِذَلِكَ، قَالَ: فَلَمَّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا جِئْتُ حَتَّى تَرَكْتُهَا كَأَنَّهَا جَمَلٌ أَجْرَبُ. قَالَ: فَبَرَّكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَيْلِ أَحْمَسَ وَرِجَالِهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ.» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ بِنَحْوِهِ.
(7/143)
[غَزْوَةُ تَبُوكَ]
[أَسْبَابُ الْغَزْوَةِ وَتَجْهِيزُ الْجَيْشِ]
سَنَةُ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ ذِكْرُ غَزْوَةِ تَبُوكَ فِي رَجَبٍ مِنْهَا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 28] (التَّوْبَةِ: 28، 29) رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِمْ، أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُمْنَعَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرْبَانِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي الْحَجِّ وَغَيْرِهِ قَالَتْ قُرَيْشٌ: لَيَنْقَطِعَنَّ عَنَّا الْمَتَاجِرُ وَالْأَسْوَاقُ أَيَّامَ الْحَجِّ، وَلَيَذْهَبَنَّ مَا كُنَّا نُصِيبُ مِنْهَا. فَعَوَّضَهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ.
قُلْتُ: فَعَزَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قِتَالِ الرُّومِ; لَأَنَّهُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْهِ وَأَوْلَى النَّاسِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ; لِقُرْبِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
(7/144)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 123] (التَّوْبَةِ: 123) فَلَمَّا عَزَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى غَزْوِ الرُّومِ عَامَ تَبُوكَ وَكَانَ ذَلِكَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ وَضِيقٍ مِنَ الْحَالِ، جَلَّى لِلنَّاسِ أَمْرَهَا وَدَعَا مَنْ حَوْلَهُ مِنْ أَحْيَاءِ الْأَعْرَابِ لِلْخُرُوجِ مَعَهُ، فَأَوْعَبَ مَعَهُ بَشَرٌ كَثِيرٌ، كَمَا سَيَأْتِي، قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَتَخَلَّفَ آخَرُونَ، فَعَاتَبَ اللَّهُ مَنْ تَخَلَّفَ مِنْهُمْ لِغَيْرِ عُذْرٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُقَصِّرِينَ، وَلَامَهُمْ وَوَبَّخَهُمْ وَقَرَّعَهُمْ أَشَدَّ التَّقْرِيعِ، وَفَضَحَهُمْ أَشَدَّ الْفَضِيحَةِ، وَأَنْزَلَ فِيهِمْ قُرْآنًا يُتْلَى وَبَيَّنَ أَمْرَهُمْ فِي سُورَةِ " بَرَاءَةَ " كَمَا قَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي " التَّفْسِيرِ " وَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّفْرِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. فَقَالَ تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 41] ثُمَّ الْآيَاتِ بَعْدَهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] فَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ نَاسِخَةٌ لِتِلْكَ. وَقِيلَ: لَا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ مَا بَيْنَ ذِي الْحِجَّةِ إِلَى
(7/145)
رَجَبٍ - يَعْنِي مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ - ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ بِالتَّهَيُّؤِ لِغَزْوِ الرُّومِ. فَذَكَرَ الزُّهْرِيُّ وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَائِنَا، كَلٌّ يُحَدِّثُ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ مَا بَلَغَهُ عَنْهَا، وَبَعْضُ الْقَوْمِ يُحَدِّثُ مَا لَمْ يُحَدِّثْ بَعْضٌ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّهَيُّؤِ لِغَزْوِ الرُّومِ، وَذَلِكَ فِي زَمَانِ عُسْرَةٍ مِنَ النَّاسِ وَشِدَّةٍ مِنَ الْحَرِّ وَجَدْبٍ مِنَ الْبِلَادِ، وَحِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ، فَالنَّاسُ يُحِبُّونَ الْمُقَامَ فِي ثِمَارِهِمْ وَظِلَالِهِمْ، وَيَكْرَهُونَ الشُّخُوصَ فِي الْحَالِ مِنَ الزَّمَانِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلَّ مَا يَخْرُجُ فِي غَزْوَةٍ إِلَّا كَنَّى عَنْهَا إِلَّا مَا كَانَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَإِنَّهُ بَيَّنَهَا لِلنَّاسِ، لِبُعْدِ الْمَشَقَّةِ وَشِدَّةِ الزَّمَانِ وَكَثْرَةِ الْعَدُوِّ الَّذِي يُصْمَدُ إِلَيْهِ لِيَتَأَهَّبَ النَّاسُ لِذَلِكَ أُهْبَتَهُ، فَأَمَرَهُمْ بِالْجِهَادِ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ يُرِيدُ الرُّومَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ فِي جِهَازِهِ ذَلِكَ لِلْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ أَحَدِ بَنِي سَلِمَةَ: " يَا جَدُّ هَلْ لَكَ الْعَامَ فِي جِلَادِ بَنِي الْأَصْفَرِ؟ " فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَتَأْذَنُ لِي وَلَا تَفْتِنِّي، فَوَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفَ قَوْمِي أَنَّهُ مَا رَجُلٌ بِأَشَدَّ عَجَبًا بِالنِّسَاءِ مِنِّي، وَإِنِّي أَخْشَى إِنْ رَأَيْتُ نِسَاءَ بَنِي الْأَصْفَرِ أَنْ لَا أَصْبِرَ. فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: " قَدْ أَذِنْتُ لَكَ ". فَفِي الْجَدِّ أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة: 49] (التَّوْبَةِ: 49) وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ. زَهَادَةً فِي الْجِهَادِ وَشَكًّا فِي الْحَقِّ وَإِرْجَافًا بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ {" وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ "} [التوبة: 81] (التَّوْبَةِ: 81، 82) .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنِي الثِّقَةُ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَارِثَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ يَجْتَمِعُونَ فِي بَيْتِ سُوَيْلِمٍ الْيَهُودِيِّ - وَكَانَ بَيْتُهُ عِنْدَ جَاسُومَ - يُثَبِّطُونَ النَّاسَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بَيْتَ سُوَيْلِمٍ فَفَعَلَ طَلْحَةُ فَاقْتَحَمَ الضَّحَّاكُ بْنُ خَلِيفَةَ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ، فَانْكَسَرَتْ رِجْلُهُ، وَاقْتَحَمَ أَصْحَابُهُ فَأَفْلَتُوا،» فَقَالَ الضَّحَّاكُ فِي ذَلِكَ:
كَادَتْ وَبَيْتِ اللَّهِ نَارُ مُحَمَّدٍ ... يَشِيطُ بِهَا الضَّحَّاكُ وَابْنُ أُبَيْرِقِ
وَظَلْتُ وَقَدْ طَبَّقْتُ كَبْسَ سُوَيْلِمٍ ... أَنُوءُ عَلَى رِجْلِي كَسِيرًا وَمِرْفَقِي
سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا أَعُودُ لِمِثْلِهَا ... أَخَافُ وَمَنْ تَشْمَلْ بِهِ النَّارُ يُحْرَقِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَدَّ فِي سَفَرِهِ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالْجِهَازِ وَالِانْكِمَاشِ، وَحَضَّ أَهْلَ الْغِنَى عَلَى النَّفَقَةِ وَالْحُمْلَانِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَحَمَلَ رِجَالٌ
(7/146)
مِنْ أَهْلِ الْغِنَى وَاحْتَسَبُوا، وَأَنْفَقَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ نَفَقَةً عَظِيمَةً لَمْ يُنْفِقْ أَحَدٌ مِثْلَهَا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ فَحَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّ عُثْمَانَ أَنْفَقَ فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ ارْضَ عَنْ عُثْمَانَ فَإِنِّي عَنْهُ رَاضٍ ".» .
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ ثنا ضَمْرَةُ ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَوْذَبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ كَثِيرٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: «جَاءَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَلْفِ دِينَارٍ فِي ثَوْبِهِ حِينَ جَهَّزَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ. قَالَ: فَصَبَّهَا فِي حِجْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَلِّبُهَا بِيَدِهِ، وَيَقُولُ: " مَا ضَرَّ ابْنُ عَفَّانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ وَاقِعٍ عَنْ ضَمْرَةَ بِهِ. وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَقَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي " مُسْنَدِ " أَبِيهِ: حَدَّثَنِي أَبُو مُوسَى الْعَنَزِيُّ. حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ حَدَّثَنِي سَكَنُ بْنُ الْمُغِيرَةِ حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ أَبِي هِشَامٍ عَنْ فَرْقَدٍ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَبَّابٍ السُّلَمِيِّ قَالَ: «خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَثَّ عَلَى جَيْشِ الْعُسْرَةِ، فَقَالَ عُثْمَانُ
(7/148)
بْنُ عَفَّانَ: عَلَيَّ مِائَةُ بَعِيرٍ بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا. قَالَ: ثُمَّ نَزَلَ مِرْقَاةً مِنَ الْمِنْبَرِ ثُمَّ حَثَّ، فَقَالَ عُثْمَانُ: عَلَيَّ مِائَةٌ أُخْرَى بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا. قَالَ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ بِيَدِهِ هَكَذَا يُحَرِّكُهَا، وَأَخْرَجَ عَبْدُ الصَّمَدِ يَدَهُ، كَالْمُتَعَجِّبِ: " مَا عَلَى عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ هَذَا» وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ عَنْ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ عَنْ سَكَنِ بْنِ الْمُغِيرَةِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلًى لِآلِ عُثْمَانَ بِهِ. وَقَالَ: غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ عَنْ سَكَنِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بِهِ. وَقَالَ: ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَإِنَّهُ الْتَزَمَ بِثَلَاثِمِائَةِ بَعِيرٍ بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: «فَأَنَا شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: " مَا ضَرَّ عُثْمَانُ بَعْدَهَا " أَوْ قَالَ: " بَعْدَ الْيَوْمِ» .
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ جَاوَانَ عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: «سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَقُولُ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَلِيٍّ وَالزُّبَيْرِ وَطَلْحَةَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ " فَجَهَّزْتُهُمْ حَتَّى مَا يَفْقِدُونَ
(7/149)
خِطَامًا وَلَا عِقَالًا قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ» وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ حُصَيْنٍ بِهِ.
[فَصْلٌ فِي مَنْ تَخَلَّفَ مَعْذُورًا مِنَ الْبَكَّائِينَ وَغَيْرِهِمْ]
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ - رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ - لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ - وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ - لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ - وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ - إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 86 - 93] (التَّوْبَةِ: 86 - 93) قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى تَفْسِيرِ هَذَا كُلِّهِ فِي " التَّفْسِيرِ " بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
(7/150)
وَالْمَقْصُودُ ذِكْرُ الْبَكَّائِينَ الَّذِينَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَحْمِلَهُمْ، حَتَّى يَصْحَبُوهُ فِي غَزْوَتِهِ هَذِهِ، فَلَمْ يَجِدُوا عِنْدَهُ مِنِ الظَّهْرِ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، فَرَجَعُوا وَهُمْ يَبْكُونَ ; تَأَسُّفًا عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالنَّفَقَةِ فِيهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانُوا سَبْعَةَ نَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَغَيْرِهِمْ ; فَمِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ وَعُلْبَةُ بْنُ زَيْدٍ أَخُو بَنِي حَارِثَةَ، وَأَبُو لَيْلَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَعْبٍ أَخُو بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ، وَعَمْرُو بْنُ الْحُمَامِ بْنِ الْجَمُوحِ أَخُو بَنِي سَلِمَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغَفَّلِ الْمُزَنِيُّ وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُونَ: بَلْ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الْمُزَنِيُّ. وَهَرَمِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَخُو بَنِي وَاقِفٍ، وَعِرْبَاضُ بْنُ سَارِيَةَ الْفَزَارِيُّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَبَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ يَامِينَ بْنَ عُمَيْرِ بْنِ كَعْبٍ النَّضَرِيَّ لَقِيَ أَبَا لَيْلَى وَعَبْدَ اللَّهَ بْنَ مُغَفَّلٍ وَهُمَا يَبْكِيَانِ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكُمَا؟ قَالَا: جِئْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَحْمِلَنَا، فَلَمْ نَجِدْ عِنْدَهُ مَا يَحْمِلُنَا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الْخُرُوجِ مَعَهُ. فَأَعْطَاهُمَا نَاضِحًا لَهُ فَارْتَحَلَاهُ، وَزَوَّدَهُمَا شَيْئًا مِنْ تَمْرٍ، فَخَرَجَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. زَادَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَمَّا عُلْبَةُ بْنُ زَيْدٍ فَخَرَجَ مِنَ اللَّيْلِ، فَصَلَّى مِنْ لَيْلَتِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ بَكَى وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَمَرْتَ بِالْجِهَادِ وَرَغَّبْتَ فِيهِ، ثُمَّ لَمْ تَجْعَلْ عِنْدِي مَا أَتَقَوَّى بِهِ، وَلَمْ تَجْعَلْ فِي يَدِ رَسُولِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَحْمِلُنِي عَلَيْهِ، وَإِنِّي أَتَصَدَّقُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بِكُلِّ مَظْلَمَةٍ أَصَابَنِي فِيهَا ; فِي مَالٍ أَوْ جَسَدٍ أَوْ عِرْضٍ. ثُمَّ أَصْبَحَ مَعَ النَّاسِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْنَ
(7/151)
الْمُتَصَدِّقُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ؟ " فَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ ثُمَّ قَالَ: " أَيْنَ الْمُتَصَدِّقُ؟ فَلْيَقُمْ ". فَقَامَ إِلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَبْشِرْ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ كُتِبْتَ فِي الزَّكَاةِ الْمُتَقَبَّلَةِ» ".
وَقَدْ أَوْرَدَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ هَاهُنَا حَدِيثَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ ثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحَارِثِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: «أَرْسَلَنِي أَصْحَابِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْأَلُهُ لَهُمُ الْحُمْلَانَ، إِذْ هُمْ مَعَهُ فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ، وَهُوَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّ أَصْحَابِي أَرْسَلُونِي إِلَيْكَ لِتَحْمِلَهُمْ. فَقَالَ: " وَاللَّهِ لَا أَحْمِلُكُمْ عَلَى شَيْءٍ ". وَوَافَقْتُهُ وَهُوَ غَضْبَانُ وَلَا أَشْعُرُ، فَرَجَعْتُ حَزِينًا مِنْ مَنْعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ مَخَافَةِ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ عَلَيَّ، فَرَجَعْتُ إِلَى أَصْحَابِي فَأَخْبَرْتُهُمْ بِالَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ أَلْبَثْ إِلَّا سُوَيْعَةً إِذْ سَمِعْتُ بِلَالًا يُنَادِي: أَيْنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ؟ فَأَجَبْتُهُ فَقَالَ: أَجِبْ، رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوكَ. فَلَمَّا أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " خُذْ هَذَيْنِ الْقَرِينَيْنِ وَهَذَيْنِ الْقَرِينَيْنِ وَهَذَيْنِ الْقَرِينَيْنِ ". لِسِتَّةِ أَبْعِرَةٍ ابْتَاعَهُنَّ حِينَئِذٍ مِنْ سَعْدٍ فَقَالَ: " انْطَلِقْ بِهِنَّ إِلَى أَصْحَابِكَ، فَقُلْ:
(7/152)
إِنَّ اللَّهَ - أَوْ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - يَحْمِلُكُمْ عَلَى هَؤُلَاءِ فَارْكَبُوهُمْ ". فَقُلْتُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْمِلُكُمْ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَا أَدَعُكُمْ حَتَّى يَنْطَلِقَ مَعِي بَعْضُكُمْ إِلَى مَنْ سَمِعَ مَقَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَأَلْتُهُ لَكُمْ، وَمَنْعَهُ لِي فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ، ثُمَّ إِعْطَاءَهُ إِيَّايَ بَعْدَ ذَلِكَ، لَا تَظُنُّوا أَنِّي حَدَّثْتُكُمْ شَيْئًا لَمْ يَقُلْهُ. فَقَالُوا لِي: وَاللَّهِ إِنَّكَ عِنْدَنَا لَمُصَدَّقٌ وَلَنَفْعَلَنَّ مَا أَحْبَبْتَ. قَالَ: فَانْطَلَقَ أَبُو مُوسَى بِنَفَرٍ مِنْهُمْ، حَتَّى أَتَوُا الَّذِينَ سَمِعُوا مَقَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَنْعِهِ إِيَّاهُمْ، ثُمَّ إِعْطَائِهِ بَعْدُ، فَحَدَّثُوهُمْ بِمَا حَدَّثَهُمْ بِهِ أَبُو مُوسَى سَوَاءً» وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ جَمِيعًا، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: «أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَهْطٍ مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ لِيَحْمِلَنَا، فَقَالَ: " وَاللَّهِ مَا أَحْمِلُكُمْ، وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ ". قَالَ ثُمَّ جِيءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَهْبِ إِبِلٍ، فَأَمَرَ لَنَا بِسِتِّ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى، فَأَخَذْنَاهَا، ثُمَّ قُلْنَا: تَغَفَّلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمِينَهُ وَاللَّهِ لَا يُبَارَكُ لَنَا. فَرَجَعْنَا لَهُ فَقَالَ: " مَا أَنَا حَمَلْتُكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمَلَكُمْ ". ثُمَّ قَالَ: " إِنِّي وَاللَّهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَا أَحْلِفُ
(7/153)
عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا ".» .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ نَفَرٌ مِنِ الْمُسْلِمِينَ أَبْطَأَتْ بِهِمُ النِّيَّةُ حَتَّى تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلَا ارْتِيَابٍ ; مِنْهُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي كَعْبٍ أَخُو بَنِي سَلِمَةَ، وَمُرَارَةُ بْنُ رَبِيعٍ أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ أَخُو بَنِي وَاقِفٍ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ أَخُو بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، وَكَانُوا نَفَرَ صِدْقٍ لَا يُتَّهَمُونَ فِي إِسْلَامِهِمْ.
قُلْتُ: أَمَّا الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ فَسَتَأْتِي قِصَّتُهُمْ مَبْسُوطَةً قَرِيبًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة: 118] (التَّوْبَةِ: 118) وَأَمَّا أَبُو خَيْثَمَةَ فَإِنَّهُ عَادَ وَعَزَمَ عَلَى اللُّحُوقِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا سَيَأْتِي.
[خُرُوجُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَبُوكَ وَخَلْفَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى أَهْلِهِ]
فَصْلٌ (خُرُوجُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَبُوكَ وَاسْتِخْلَافُهُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَى أَهْلِهِ) .
قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: ثُمَّ اسْتَتَبَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَفَرُهُ وَأَجْمَعَ السَّيْرَ، فَلَمَّا خَرَجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ ضَرَبَ عَسْكَرَهُ عَلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ،
(7/154)
وَمَعَهُ زِيَادَةٌ عَلَى ثَلَاثِينَ أَلْفًا مِنَ النَّاسِ، وَضَرَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ عَدُوُّ اللَّهِ عَسْكَرَهُ أَسْفَلَ مِنْهُ، وَمَا كَانَ فِيمَا يَزْعُمُونَ بِأَقَلِّ الْعَسْكَرَيْنِ، فَلَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَخَلَّفَ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الرَّيْبِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَاسْتَخْلَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَدِينَةِ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ: وَذَكَرَ الدَّرَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ اسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا عَامَ تَبُوكَ سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَى أَهْلِهِ وَأَمَرَهُ بِالْإِقَامَةِ فِيهِمْ فَأَرْجَفَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ، وَقَالُوا: مَا خَلَّفَهُ إِلَّا اسْتِثْقَالًا لَهُ وَتَخَفُّفًا مِنْهُ. فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ أَخَذَ عَلِيٌّ سِلَاحَهُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى لَحِقَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ نَازِلٌ بِالْجُرْفِ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالُوا فَقَالَ «: كَذَبُوا وَلَكِنِّي خَلَّفْتُكَ لِمَا تَرَكْتُ وَرَائِي، فَارْجِعْ فَاخْلُفْنِي فِي أَهْلِي وَأَهْلِكَ، أَفَلَا تَرْضَى يَا عَلِيُّ أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي» ؟ فَرَجَعَ عَلِيٌّ وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرِهِ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ رُكَانَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ سَعْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِعَلِيٍّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ بِهِ.
(7/155)
وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي " مُسْنَدِهِ ": حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُخَلِّفُنِي فِي النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟ فَقَالَ: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي؟» وَأَخْرَجَاهُ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ شُعْبَةَ نَحْوَهُ. وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ شُعْبَةَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ مِسْمَارٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَهُ - وَخَلَّفَهُ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُخَلِّفُنِي مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟ - فَقَالَ: «يَا عَلِيُّ أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي؟» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ زَادَ مُسْلِمٌ: وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ كِلَاهُمَا عَنْ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ أَبَا خَيْثَمَةَ رَجَعَ بَعْدَ مَا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّامًا
(7/156)
إِلَى أَهْلِهِ فِي يَوْمٍ حَارٍّ، فَوَجَدَ امْرَأَتَيْنِ لَهُ فِي عَرِيشَيْنِ لَهُمَا فِي حَائِطِهِ، قَدْ رَشَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَرِيشَهَا، وَبَرَّدَتْ فِيهِ مَاءً، وَهَيَّأَتْ لَهُ فِيهِ طَعَامًا، فَلَمَّا دَخَلَ قَامَ عَلَى بَابِ الْعَرِيشِ فَنَظَرَ إِلَى امْرَأَتَيْهِ وَمَا صَنَعَتَا لَهُ، فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الضِّحِّ وَالرِّيحِ وَالْحَرِّ وَأَبُو خَيْثَمَةَ فِي ظِلٍّ بَارِدٍ وَطَعَامٍ مُهَيَّأٍ وَامْرَأَةٍ حَسْنَاءَ، فِي مَالِهِ مُقِيمٌ! مَا هَذَا بِالنَّصَفِ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَدْخُلُ عَرِيشَ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا حَتَّى أَلْحَقَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَيِّئَا زَادًا. فَفَعَلَتَا، ثُمَّ قَدَّمَ نَاضِحَهُ فَارْتَحَلَهُ، ثُمَّ خَرَجَ فِي طَلَبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَدْرَكَهُ حِينَ نَزَلَ تَبُوكَ وَقَدْ كَانَ أَدْرَكَ أَبَا خَيْثَمَةَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيُّ فِي الطَّرِيقِ يَطْلُبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَرَافَقَا، حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنْ تَبُوكَ قَالَ أَبُو خَيْثَمَةَ لِعُمَيْرِ بْنِ وَهْبٍ: إِنَّ لِي ذَنْبًا فَلَا عَلَيْكَ أَنْ تَخَلَّفَ عَنِّي حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَفَعَلَ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ النَّاسُ: هَذَا رَاكِبٌ عَلَى الطَّرِيقِ مُقْبِلٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ ". فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ وَاللَّهِ أَبُو خَيْثَمَةَ. فَلَمَّا بَلَغَ أَقْبَلَ فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: " أَوْلَى لَكَ يَا أَبَا خَيْثَمَةَ! ". ثُمَّ أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرَ، فَقَالَ خَيْرًا، وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ» .
وَقَدْ ذَكَرَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قِصَّةَ أَبِي خَيْثَمَةَ بِنَحْوٍ مِنْ سِيَاقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَأَبْسَطَ، وَذِكَرَ أَنَّ خُرُوجَهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَى تَبُوكَ
(7/157)
كَانَ فِي زَمَنِ الْخَرِيفِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَقَالَ أَبُو خَيْثَمَةَ، وَاسْمُهُ مَالِكُ بْنُ قَيْسٍ، فِي ذَلِكَ:
لَمَّا رَأَيْتُ النَّاسَ فِي الدِّينِ نَافَقُوا ... أَتَيْتُ الَّتِي كَانَتْ أَعَفَّ وَأَكْرَمَا
وَبَايَعْتُ بِالْيُمْنَى يَدِي لِمُحَمَّدٍ ... فَلَمْ أَكْتَسِبْ إِثْمًا وَلَمْ أَغْشَ مُحَرَّمَا
تَرَكْتُ خَضِيبًا فِي الْعَرِيشِ وَصِرْمَةً ... صَفَايَا كِرَامًا بُسْرُهَا قَدْ تَحَمَّمَا
وَكُنْتُ إِذَا شَكَّ الْمُنَافِقُ أَسْمَحَتْ ... إِلَى الدِّينِ نَفْسِي شَطْرَهُ حَيْثُ يَمَّمَا
قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ سُفْيَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «لَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَبُوكَ جَعَلَ لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَتَخَلَّفُ، فَيَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَخَلَّفَ فُلَانٌ. فَيَقُولُ: " دَعُوهُ، إِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللَّهُ بِكُمْ، وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُمُ اللَّهُ مِنْهُ ". حَتَّى قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَخَلَّفَ أَبُو ذَرٍّ وَأَبْطَأَ بِهِ بَعِيرُهُ. فَقَالَ: " دَعُوهُ، إِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللَّهُ بِكُمْ، وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ
(7/158)
أَرَاحَكُمُ اللَّهُ مِنْهُ ". فَتَلَوَّمَ أَبُو ذَرٍّ بَعِيرَهُ، فَلَمَّا أَبْطَأَ عَلَيْهِ أَخَذَ مَتَاعَهُ فَجَعَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ، ثُمَّ خَرَجَ يَتَّبِعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاشِيًا، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ مَنَازِلِهِ، وَنَظَرَ نَاظِرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ مَاشٍ عَلَى الطَّرِيقِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُنْ أَبَا ذَرٍّ ". فَلَمَّا تَأَمَّلَهُ الْقَوْمُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ وَاللَّهِ أَبُو ذَرٍّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا ذَرٍّ يَمْشِي وَحْدَهُ، وَيَمُوتُ وَحْدَهُ، وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ» . قَالَ: فَضَرَبَ الدَّهْرُ مِنْ ضَرْبِهِ، وَسُيِّرَ أَبُو ذَرٍّ إِلَى الرَّبَذَةِ فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى امْرَأَتَهُ وَغُلَامَهُ فَقَالَ: إِذَا مِتُّ فَاغْسِلَانِي وَكَفِّنَانِي مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ ضَعَانِي عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، فَأَوَّلُ رَكْبٍ يَمُرُّونَ بِكُمْ فَقُولُوا: هَذَا أَبُو ذَرٍّ. فَلَمَّا مَاتَ فَعَلُوا بِهِ كَذَلِكَ، فَاطَّلَعَ رَكْبٌ، فَمَا عَلِمُوا بِهِ حَتَّى كَادَتْ رِكَابُهُمْ تَطَأُ سَرِيرَهُ، فَإِذَا ابْنُ مَسْعُودٍ فِي رَهْطٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: جِنَازَةُ أَبِي ذَرٍّ. فَاسْتَهَلَّ ابْنُ مَسْعُودٍ يَبْكِي، وَقَالَ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا ذَرٍّ يَمْشِي وَحْدَهُ، وَيَمُوتُ وَحْدَهُ، وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ» . فَنَزَلَ فَوَلِيَهُ بِنَفْسِهِ حَتَّى أَجَنَّهُ. إِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَلَمْ يُخْرِجُوهُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
(7/159)
مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة: 117] (التَّوْبَةِ: 117) . قَالَ: خَرَجُوا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ الرَّجُلَانِ وَالثَّلَاثَةُ عَلَى بَعِيرٍ وَاحِدٍ، وَخَرَجُوا فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، فَأَصَابَهُمْ فِي يَوْمٍ عَطَشٌ حَتَّى جَعَلُوا يَنْحَرُونَ إِبِلَهُمْ لِيَعْصِرُوا أَكْرَاشَهَا وَيَشْرَبُوا مَاءَهَا، فَكَانَ ذَلِكَ عُسْرَةً فِي الْمَاءِ وَعُسْرَةً فِي النَّفَقَةِ وَعُسْرَةً فِي الظَّهْرِ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي عُتْبَةَ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: حَدِّثْنَا عَنْ شَأْنِ سَاعَةِ الْعُسْرَةِ. فَقَالَ عُمَرُ: خَرَجْنَا إِلَى تَبُوكَ فِي قَيْظٍ شَدِيدٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا وَأَصَابَنَا فِيهِ عَطَشٌ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّ رِقَابَنَا سَتَنْقَطِعُ، حَتَّى إِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَذْهَبُ فَيَلْتَمِسُ الرَّحْلَ فَلَا يَرْجِعُ حَتَّى يَظُنَّ أَنَّ رَقَبَتَهُ سَتَنْقَطِعُ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْحَرُ بَعِيرَهُ فَيَعْتَصِرُ فَرْثَهُ فَيَشْرَبُهُ، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ عَلَى كَبِدِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَا رَسُولَ اللَّهِ «، إِنَّ اللَّهَ قَدْ عَوَّدَكَ فِي الدُّعَاءِ خَيْرًا، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا. فَقَالَ: " أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَرَفَعَ يَدَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ، فَلَمْ يُرْجِعْهُمَا حَتَّى قَالَتِ السَّمَاءَ، فَأَظَلَّتْ ثُمَّ سَكَبَتْ، فَمَلَئُوا مَا مَعَهُمْ، ثُمَّ ذَهَبْنَا نَنْظُرُ فَلَمْ نَجِدْهَا جَاوَزَتِ الْعَسْكَرَ» إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ
(7/160)
مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ قَوْمِهِ أَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ كَانَتْ وَهُمْ بِالْحِجْرِ، وَأَنَّهُمْ قَالُوا لِرَجُلٍ مَعَهُمْ مُنَافِقٌ: وَيْحَكَ! هَلْ بَعْدَ هَذَا مِنْ شَيْءٍ؟ ! فَقَالَ سَحَابَةٌ مَارَّةٌ. وَذَكَرَ أَنَّ نَاقَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَلَّتْ، فَذَهَبُوا فِي طَلَبِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَارَةَ بْنِ حَزْمٍ الْأَنْصَارِيِّ - وَكَانَ عِنْدَهُ -: إِنَّ رَجُلًا قَالَ: هَذَا مُحَمَّدٌ يُخْبِرُكُمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَيُخْبِرُكُمْ خَبَرَ السَّمَاءِ وَهُوَ لَا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ. وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أَعْلَمُ إِلَّا مَا عَلَّمَنِي اللَّهُ، وَقَدْ دَلَّنِي اللَّهُ عَلَيْهَا، هِيَ فِي الْوَادِي قَدْ حَبَسَتْهَا شَجَرَةٌ بِزِمَامِهَا ". فَانْطَلَقُوا فَجَاءُوا بِهَا فَرَجَعَ عُمَارَةُ إِلَى رَحْلِهِ، فَحَدَّثَهُمْ عَمَّا جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَبَرِ الرَّجُلِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ فِي رَحْلِ عُمَارَةَ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ زَيْدُ بْنُ اللُّصَيْتِ وَكَانَ فِي رَحْلِ عُمَارَةَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ، فَأَقْبَلَ عُمَارَةُ عَلَى زَيْدٍ يَجَأُ فِي عُنُقِهِ وَيَقُولُ: إِنَّ فِي رَحْلِي لَدَاهِيَةً وَأَنَا لَا أَدْرِي، اخْرُجْ عَنِّي يَا عَدُوَّ اللَّهِ، فَلَا تَصْحَبْنِي. فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنَّ زَيْدًا تَابَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَزَلْ مُصِرًّا حَتَّى هَلَكَ.
قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ شَبِيهًا بِقِصَّةِ الرَّاحِلَةِ. ثُمَّ رَوَى مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي
(7/161)
مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - شَكَّ الْأَعْمَشُ - قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَصَابَ النَّاسَ مَجَاعَةٌ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَذِنْتَ لَنَا فَنَنْحَرُ نَوَاضِحَنَا، فَأَكَلْنَا وَادَّهَنَّا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " افْعَلُوا ". فَجَاءَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ فَعَلْتَ قَلَّ الظَّهْرُ، وَلَكِنِ ادْعُهُمْ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ، وَادْعُ اللَّهَ لَهُمْ فِيهَا بِالْبَرَكَةِ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ فِيهَا الْبَرَكَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَعَمْ ". فَدَعَا بِنِطَعٍ فَبَسَطَهُ، ثُمَّ دَعَا بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِكَفِّ ذُرَةٍ، وَيَجِيءُ الْآخَرُ بِكَفٍّ مِنَ التَّمْرِ، وَيَجِيءُ الْآخَرُ بِكِسْرَةٍ حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَى النِّطَعِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ يَسِيرٌ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: " خُذُوا فِي أَوْعِيَتِكُمْ ". فَأَخَذُوا فِي أَوْعِيَتِهِمْ حَتَّى مَا تَرَكُوا فِي الْعَسْكَرِ وِعَاءً إِلَّا مَلَئُوهُ وَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، وَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ لَا يَلْقَى اللَّهَ بِهَا عَبْدٌ غَيْرُ شَاكٍّ فَيُحْجَبُ عَنِ الْجَنَّةِ» . وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبَى كُرَيْبٍ عَنْ أَبَى مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ. وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَلَمْ يَذْكُرْ غَزْوَةَ تَبُوكَ بَلْ قَالَ: كَانَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا.
(7/162)
[ذِكْرُ مُرُورِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَهَابِهِ إِلَى تَبُوكَ بِمَسَاكِنِ ثَمُودَ وَصَرْحَتِهِمْ بِالْحِجْرِ]
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ مَرَّ بِالْحِجْرِ نَزَلَهَا وَاسْتَقَى النَّاسُ مِنْ بِئْرِهَا، فَلَمَّا رَاحُوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «: لَا تَشْرَبُوا مِنْ مِيَاهِهَا شَيْئًا، وَلَا تَتَوَضَّئُوا مِنْهُ لِلصَّلَاةِ، وَمَا كَانَ مِنْ عَجِينٍ عَجَنْتُمُوهُ فَأَعْلِفُوهُ الْإِبِلَ، وَلَا تَأْكُلُوا مِنْهُ شَيْئًا» هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ بِغَيْرِ إِسْنَادٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَعْمَرُ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ - هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ - أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا مَرَّ بِالْحِجْرِ قَالَ: " لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ» . وَتَقَنَّعَ بِرِدَائِهِ وَهُوَ عَلَى الرَّحْلِ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ كِلَاهُمَا عَنْ مَعْمَرٍ بِإِسْنَادِهِ نَحْوَهُ.
وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: «لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمُعَذَّبِينَ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ
(7/163)
فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلَ مَا أَصَابَهُمْ ".» وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ وَمِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ نَحْوَهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا صَخْرٌ - هُوَ ابْنُ جُوَيْرِيَةَ - عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ عَامَ تَبُوكَ الْحِجْرَ عِنْدَ بُيُوتِ ثَمُودَ، فَاسْتَقَى النَّاسُ مِنَ الْآبَارِ الَّتِي كَانَتْ تَشْرَبُ مِنْهَا ثَمُودُ، فَعَجَنُوا وَنَصَبُوا الْقُدُورَ بِاللَّحْمِ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهْرَقُوا الْقُدُورَ، وَعَلَفُوا الْعَجِينَ الْإِبِلَ، ثُمَّ ارْتَحَلَ بِهِمْ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ عَلَى الْبِئْرِ الَّتِي كَانَتْ تَشْرَبُ مِنْهَا النَّاقَةُ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ عُذِّبُوا فَقَالَ: إِنِّي أَخْشَى أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ» وَهَذَا الْحَدِيثُ إِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَمْ يُخْرِجُوهُ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ أَبِي ضَمْرَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِهِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَتَابَعَهُ أُسَامَةُ عَنْ نَافِعٍ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ شُعَيْبِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ بِهِ.
(7/164)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِجْرِ قَالَ: «لَا تَسْأَلُوا الْآيَاتِ، فَقَدْ سَأَلَهَا قَوْمُ صَالِحٍ فَكَانَتْ تَرِدُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ، وَتَصْدُرُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ، فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَعَقَرُوهَا، وَكَانَتْ تَشْرَبُ مَاءَهُمْ يَوْمًا وَيَشْرَبُونَ لَبَنَهَا يَوْمًا، فَعَقَرُوهَا، فَأَخَذَتْهُمْ صَيْحَةٌ، أَهْمَدَ اللَّهُ مِنْ تَحْتِ أَدِيمِ السَّمَاءِ مِنْهُمْ، إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا كَانَ فِي حَرَمِ اللَّهِ " قِيلَ: مَنْ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " هُوَ أَبُو رِغَالٍ فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ أَصَابَهُ مَا أَصَابَ قَوْمَهُ» إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنَ أَوْسَطَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «لَمَّا كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ تَسَارَعَ النَّاسُ إِلَى أَهْلِ الْحِجْرِ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنُودِيَ فِي النَّاسِ: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ. قَالَ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُمْسِكٌ بَعِيرَهُ وَهُوَ يَقُولُ: " مَا تَدْخُلُونَ عَلَى قَوْمٍ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ؟ " فَنَادَاهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ: نَعْجَبُ مِنْهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ؟ رَجُلٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كَانَ قَبْلَكُمْ وَمَا هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكُمْ، فَاسْتَقِيمُوا وَسَدِّدُوا، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَعْبَأُ بِعَذَابِكُمْ شَيْئًا، وَسَيَأْتِي قَوْمٌ لَا يَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ شَيْئًا» . إِسْنَادُهُ حَسَنٌ وَلَمْ يُخْرِجُوهُ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ
(7/165)
حَزْمٍ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ - أَوْ عَنِ الْعَبَّاسِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الشَّكُّ مِنِّي - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ مَرَّ بِالْحِجْرِ وَنَزَلَهَا اسْتَقَى النَّاسُ مِنْ بِئْرِهَا، فَلَمَّا رَاحُوا مِنْهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّاسِ: «لَا تَشْرَبُوا مِنْ مَائِهَا شَيْئًا، وَلَا تَتَوَضَّئُوا مِنْهُ لِلصَّلَاةِ، وَمَا كَانَ مِنْ عَجِينٍ عَجَنْتُمُوهُ فَأَعْلِفُوهُ الْإِبِلَ وَلَا تَأْكُلُوا مِنْهُ شَيْئًا، وَلَا يَخْرُجَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ إِلَّا وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ ". فَفَعَلَ النَّاسُ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي سَاعِدَةَ، خَرَجَ أَحَدُهُمَا لِحَاجَتِهِ، وَخَرَجَ الْآخَرُ فِي طَلَبِ بَعَيرٍ لَهُ ; فَأَمَّا الَّذِي ذَهَبَ لِحَاجَتِهِ، فَإِنَّهُ خُنِقَ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَأَمَّا الَّذِي ذَهَبَ فِي طَلَبِ بَعِيرِهِ، فَاحْتَمَلَتْهُ الرِّيحُ حَتَّى أَلْقَتْهُ بِجَبَلَيْ طَيِّئٍ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ: " أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ يَخْرُجَ رَجُلٌ إِلَّا وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ؟ " ثُمَّ دَعَا لِلَّذِي أُصِيبَ عَلَى مَذْهَبِهِ فَشُفِيَ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَإِنَّهُ وَصَلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَرْجِعِهِ مِنْ تَبُوكَ - وَفِي رِوَايَةِ زِيَادٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ طَيِّئًا أَهْدَتْهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ» - قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ سَهْلٍ سَمَّى لَهُ الرَّجُلَيْنِ، لَكِنَّهُ اسْتَكْتَمَهُ إِيَّاهُمَا، فَلَمْ يُحَدِّثْنِي بِهِمَا.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا وُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ ثنا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ:
(7/166)
«خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ تَبُوكَ حَتَّى جِئْنَا وَادِيَ الْقُرَى، فَإِذَا امْرَأَةٌ فِي حَدِيقَةٍ لَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: " اخْرُصُوا ". فَخَرَصَ الْقَوْمُ وَخَرَصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمَرْأَةِ: " أَحْصِي مَا يَخْرُجُ مِنْهَا حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْكِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ". قَالَ: فَخَرَجَ حَتَّى قَدِمَ تَبُوكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّهَا سَتَهُبُّ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَلَا يَقُومَنَّ فِيهَا رَجُلٌ، فَمَنْ كَانَ لَهُ بَعِيرٌ فَلْيُوثِقْ عِقَالَهُ ". قَالَ أَبُو حُمَيْدٍ فَعَقَلْنَاهَا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلِ، هَبَّتْ عَلَيْنَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَقَامَ فِيهَا رَجُلٌ فَأَلْقَتْهُ فِي جَبَلِ طَيِّئٍ، ثُمَّ جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ مَلِكُ أَيْلَةَ، فَأَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ بَغْلَةً بَيْضَاءَ، وَكَسَاهُ رَسُولُ اللَّهِ بُرْدًا، وَكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ، ثُمَّ أَقْبَلَ وَأَقْبَلْنَا مَعَهُ، حَتَّى جِئْنَا وَادِيَ الْقُرَى، فَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: " كَمْ جَاءَتْ حَدِيقَتُكِ؟ " قَالَتْ: عَشَرَةُ أَوْسُقٍ، خَرْصَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنِّي مُتَعَجِّلٌ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَتَعَجَّلَ فَلْيَفْعَلْ ". قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ وَخَرَجْنَا مَعَهُ، حَتَّى إِذَا أَوْفَى عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: " هَذِهِ طَابَةُ ". فَلَمَّا رَأَى أُحُدًا قَالَ: " هَذَا أُحُدٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ دُورِ الْأَنْصَارِ؟ " قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ بَنُو النَّجَّارِ، ثُمَّ دَارُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ ثُمَّ دَارُ بَنِي سَاعِدَةَ ثُمَّ فِي كُلِّ دُورِ الْأَنْصَارِ خَيْرٌ» . وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى بِهِ نَحْوَهُ.
(7/167)
وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أَخْبَرَهُ «أَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ تَبُوكَ فَكَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. قَالَ: فَأَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ دَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا، ثُمَّ قَالَ: " إِنَّكُمْ سَتَأْتُونَ غَدًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَيْنَ تَبُوكَ، وَإِنَّكُمْ لَنْ تَأْتُوهَا حَتَّى يَضْحَى النَّهَارُ، فَمَنْ جَاءَهَا فَلَا يَمَسَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئًا حَتَّى آتِيَ " قَالَ: فَجِئْنَاهَا وَقَدْ سَبَقَ إِلَيْهَا رَجُلَانِ، وَالْعَيْنُ مِثْلُ الشِّرَاكِ تَبِضُّ بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ، فَسَأَلَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَلْ مَسَسْتُمَا مِنْ مَائِهَا شَيْئًا؟ " قَالَا: نَعَمْ. فَسَبَّهُمَا وَقَالَ لَهُمَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ غَرَفُوا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْعَيْنِ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى اجْتَمَعَ فِي شَيْءٍ، ثُمَّ غَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ فِيهِ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِيهَا، فَجَرَتِ الْعَيْنُ بِمَاءٍ كَثِيرٍ، فَاسْتَقَى النَّاسُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا مُعَاذُ يُوشِكُ إِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ أَنْ تَرَى مَا هَاهُنَا قَدْ مُلِئَ جِنَانًا» . وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ بِهِ.
(7/168)
[ذِكْرُ خُطْبَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى تَبُوكَ]
َ إِلَى نَخْلَةٍ هُنَاكَ.
رَوَى الْأَمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي النَّضْرِ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ وَيُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُؤَدِّبِ وَحَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ ثَلَاثَتُهُمْ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ أَبِي الْخَطَّابِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ تَبُوكَ خَطَبَ النَّاسَ وَهُوَ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى نَخْلَةٍ فَقَالَ: " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ وَشَرِّ النَّاسِ؟ إِنَّ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ رَجُلًا عَمِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَلَى ظَهْرِ فَرَسِهِ، أَوْ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرِهِ، أَوْ عَلَى قَدَمَيْهِ، حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمَوْتُ، وَإِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ رَجُلًا فَاجِرًا جَرِيئًا يَقْرَأُ كِتَابَ اللَّهِ لَا يَرْعَوِي إِلَى شَيْءٍ مِنْهُ» . وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنِ اللَّيْثِ بِهِ. وَقَالَ: أَبُو الْخَطَّابِ لَا أَعْرِفُهُ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عِمْرَانَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُصْعَبِ بْنِ مَنْظُورِ بْنِ جَمِيلِ بْنِ سِنَانٍ أَخْبَرَنِي أَبِي، سَمِعْتُ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ الْجُهَنِيَّ يَقُولُ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَاسْتَرْقَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ حَتَّى كَانَتِ الشَّمْسُ قَيْدَ رُمْحٍ
(7/169)
قَالَ: " أَلَمْ أَقُلْ لَكَ يَا بِلَالُ اكْلَأْ لَنَا الْفَجْرَ؟ " فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ بِي مِنَ النَّوْمِ مِثْلُ الَّذِي ذَهَبَ بِكَ. قَالَ: فَانْتَقَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَنْزِلِهِ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ صَلَّى وَسَارَ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ، فَأَصْبَحَ بِتَبُوكَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ، أَمَّا بَعْدُ ; فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَوْثَقَ الْعُرَى كَلِمَةُ التَّقْوَى، وَخَيْرَ الْمِلَلِ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ، وَخَيْرَ السُّنَنِ سُنَّةُ مُحَمَّدٍ، وَأَشْرَفَ الْحَدِيثِ ذِكْرُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْقَصَصِ هَذَا الْقُرْآنُ، وَخَيْرَ الْأُمُورِ عَوَازِمُهَا، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَشْرَفَ الْمَوْتِ قَتْلُ الشُّهَدَاءِ، وَأَعْمَى الْعَمَى الضَّلَالَةُ بَعْدَ الْهُدَى، وَخَيْرَ الْأَعْمَالِ مَا نَفَعَ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ مَا اتُّبِعَ، وَشَرَّ الْعَمَى عَمَى الْقَلْبِ، وَالْيَدَ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَمَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى، وَشَرَّ الْمَعْذِرَةِ حِينَ يَحْضُرُ الْمَوْتُ، وَشَرَّ النَّدَامَةِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَأْتِي الْجُمُعَةَ إِلَّا دُبْرًا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَذْكُرُ اللَّهَ إِلَّا هَجْرًا، وَمِنْ أَعْظَمِ الْخَطَايَا اللِّسَانَ الْكَذَّابَ، وَخَيْرَ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ، وَخَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى، وَرَأْسَ الْحِكْمَةِ مَخَافَةُ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَخَيْرَ مَا وَقَرَ فِي الْقُلُوبِ الْيَقِينُ، وَالِارْتِيَابَ مِنِ الْكُفْرِ، وَالنِّيَاحَةَ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْغُلُولَ مِنْ جُثَى جَهَنَّمَ، وَالشِّعْرَ مِنْ إِبْلِيسَ، وَالْخَمْرَ جِمَاعُ الْإِثْمِ، وَالنِّسَاءَ حَبَائِلُ الشَّيْطَانِ، وَالشَّبَابَ شُعْبَةٌ مِنَ الْجُنُونِ، وَشَرَّ الْمَكَاسِبِ كَسْبُ الرِّبَا، وَشَرَّ الْمَآكِلِ أَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالسَّعِيدَ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ، وَالشَّقِيَّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ
(7/170)
أَحَدُكُمْ إِلَى مَوْضِعِ أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ، وَالْأَمْرُ إِلَى الْآخِرَةِ، وَمِلَاكَ الْعَمَلِ خَوَاتِمُهُ، وَشَرَّ الرَّوَايَا رَوَايَا الْكَذِبِ، وَكُلَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، وَسِبَابَ الْمُؤْمِنِ فُسُوقٌ، وَقِتَالَ الْمُؤْمِنِ كُفْرٌ، وَأَكْلَ لَحْمِهِ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَحُرْمَةَ مَالِهِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ. وَمَنْ يَتَأَلَّ عَلَى اللَّهِ يُكْذِبْهُ، وَمَنْ يَسْتَغْفِرْهُ يَغْفِرْ لَهُ، وَمَنْ يَعْفُ يَعْفُ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ يَكْظِمْ يَأْجُرْهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَصْبِرْ عَلَى الرَّزِيَّةِ يُعَوِّضْهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَبْتَغِ السُّمْعَةَ يُسَمِّعِ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يَصْبِرْ يُضَعِّفِ اللَّهُ لَهُ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ يُعَذِّبْهُ اللَّهُ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِأُمَّتِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِأُمَّتِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِأُمَّتِي ". قَالَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: " أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ» وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَفِيهِ نَكَارَةٌ وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الْهَمْدَانِيُّ وَسُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ غَزْوَانَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ نَزَلَ بِتَبُوكَ وَهُوَ حَاجٌّ، فَإِذَا رَجُلٌ مُقْعَدٌ، فَسَأَلَهُ عَنْ أَمْرِهِ فَقَالَ: سَأُحَدِّثُكَ حَدِيثًا فَلَا تُحَدِّثْ بِهِ مَا سَمِعْتَ أَنِّي حَيٌّ ; «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ بِتَبُوكَ إِلَى نَخْلَةٍ فَقَالَ: " هَذِهِ قِبْلَتُنَا ". ثُمَّ صَلَّى إِلَيْهَا. قَالَ: فَأَقْبَلْتُ وَأَنَا غُلَامٌ أَسْعَى حَتَّى مَرَرْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَقَالَ: " قَطَعَ صَلَاتَنَا قَطَعَ اللَّهُ أَثَرَهُ» . قَالَ: فَمَا قُمْتُ عَلَيْهَا إِلَى يَوْمِي هَذَا ثُمَّ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ التَّنُوخِيِّ عَنْ مَوْلَى
(7/171)
لِيَزِيدَ بْنِ نِمْرَانَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ نِمْرَانَ قَالَ: رَأَيْتُ بِتَبُوكَ مُقْعَدًا فَقَالَ: مَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا عَلَى حِمَارٍ، وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اقْطَعْ أَثَرَهُ ". فَمَا مَشَيْتُ عَلَيْهَا بَعْدُ وَفِي رِوَايَةٍ: " قَطَعَ صَلَاتَنَا قَطَعَ اللَّهُ أَثَرَهُ ". .
[ذِكْرُ الصَّلَاةِ عَلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ]
َ إِنْ صَحَّ الْخَبَرُ فِي ذَلِكَ.
رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ أَخْبَرَنَا الْعَلَاءُ أَبُو مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَبُوكَ، فَطَلَعَتِ الشَّمْسُ بِضِيَاءٍ وَشُعَاعٍ وَنُورٍ لَمْ أَرَهَا طَلَعَتْ فِيمَا مَضَى، فَأَتَى جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: " يَا جِبْرِيلُ، مَا لِي أَرَى الشَّمْسَ الْيَوْمَ طَلَعَتْ بِضِيَاءٍ وَنُورٍ وَشُعَاعٍ لَمْ أَرَهَا طَلَعَتْ فِيمَا مَضَى؟ " قَالَ: ذَلِكَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ مُعَاوِيَةَ اللَّيْثِيَّ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ الْيَوْمَ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ. قَالَ: " وَمِمَّ ذَاكَ؟ " قَالَ: بِكَثْرَةِ قِرَاءَتِهِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] بِاللَّيْلِ
(7/172)
وَالنَّهَارِ، وَفِي مَمْشَاهُ وَفِي قِيَامِهِ وَقُعُودِهِ، فَهَلْ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ أَقْبِضَ لَكَ الْأَرْضَ فَتُصَلِّيَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: " نَعَمْ ". قَالَ: فَصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ رَجَعَ» . وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ غَرَابَةٌ شَدِيدَةٌ وَنَكَارَةٌ وَالنَّاسُ يُسْنِدُونَ أَمْرَهُ إِلَى الْعَلَاءِ بْنِ زَيْدٍ هَذَا، وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ.
ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ عَلِيٍّ أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ حَدَّثَنَا مَحْبُوبُ بْنُ هِلَالٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «جَاءَ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَاتَ مُعَاوِيَةُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْمُزَنِيُّ أَفَتُحِبُّ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: " نَعَمْ ". فَضَرَبَ بِجَنَاحِهِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ شَجَرَةٍ وَلَا أَكَمَةٍ إِلَّا تَضَعْضَعَتْ لَهُ. قَالَ: فَصَلَّى وَخَلْفَهُ صَفَّانِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فِي كُلِّ صَفٍّ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ. قَالَ: قُلْتُ: " يَا جِبْرِيلُ، بِمَا نَالَ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ مِنَ اللَّهِ؟ " قَالَ: بِحُبِّهِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] يَقْرَؤُهَا قَائِمًا وَقَاعِدًا، وَذَاهِبًا وَجَائِيًا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ. قَالَ عُثْمَانُ: فَسَأَلْتُ أَبِي: أَيْنَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: بِغَزْوَةِ تَبُوكَ بِالشَّامِ، وَمَاتَ مُعَاوِيَةُ بِالْمَدِينَةِ، وَرُفِعَ لَهُ سَرِيرُهُ حَتَّى نَظَرَ إِلَيْهِ وَصَلَّى عَلَيْهِ» . وَهَذَا أَيْضًا مُنْكَرٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
(7/173)
[قُدُومُ رَسُولِ قَيْصَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَبُوكَ]
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ قَالَ: لَقِيتُ التَّنُوخِيَّ رَسُولَ هِرَقْلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِمْصَ، وَكَانَ جَارًا لِي شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ بَلَغَ الْفَنَدَ أَوْ قَرُبَ. فَقُلْتُ: أَلَا تُخْبِرُنِي عَنْ رِسَالَةِ هِرَقْلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِسَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْلَ؟ فَقَالَ: بَلَى، «قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبُوكَ، فَبَعَثَ دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ إِلَى هِرَقْلَ فَلَمَّا أَنْ جَاءَهُ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا قِسِّيسِي الرُّومِ وَبَطَارِقَتَهَا، ثُمَّ أَغْلَقَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمُ الدَّارَ، فَقَالَ: قَدْ نَزَلَ هَذَا الرَّجُلُ حَيْثُ رَأَيْتُمْ، وَقَدْ أَرْسَلَ إِلَيَّ يَدْعُونِي إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ، يَدْعُونِي إِلَى أَنْ أَتْبَعَهُ عَلَى دِينِهِ، أَوْ عَلَى أَنْ نُعْطِيَهُ مَالَنَا عَلَى أَرْضِنَا وَالْأَرْضُ أَرْضُنَا، أَوْ نُلْقِيَ إِلَيْهِ الْحَرْبَ، وَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفْتُمْ فِيمَا تَقْرَءُونَ مِنَ الْكُتُبِ لَيَأْخُذَنَّ مَا تَحْتَ قَدَمِي فَهَلُمَّ فَلْنَتَّبِعْهُ عَلَى دِينِهِ أَوْ نُعْطِهِ مَالَنَا عَلَى أَرْضِنَا. فَنَخَرُوا نَخْرَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ حَتَّى خَرَجُوا مِنْ
(7/174)
بَرَانِسِهِمْ، وَقَالُوا: تَدْعُونَا إِلَى أَنْ نَذَرَ النَّصْرَانِيَّةَ أَوْ نَكُونَ عَبِيدًا لِأَعْرَابِيٍّ جَاءَ مِنَ الْحِجَازِ؟ فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّهُمْ إِنْ خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ أَفْسَدُوا عَلَيْهِ الرُّومَ رَفَأَهُمْ وَلَمْ يَكَدْ، وَقَالَ: إِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ لَكُمْ لِأَعْلَمَ صَلَابَتَكُمْ عَلَى أَمْرِكُمْ. ثُمَّ دَعَا رَجُلًا مِنْ عَرَبِ تُجِيبَ كَانَ عَلَى نَصَارَى الْعَرَبِ، قَالَ: ادْعُ لِي رَجُلًا حَافِظًا لِلْحَدِيثِ عَرَبِيَّ اللِّسَانِ أَبْعَثُهُ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ بِجَوَابِ كِتَابِهِ. فَجَاءَ بِي فَدَفَعَ إِلَيَّ هِرَقْلُ كِتَابًا، فَقَالَ: اذْهَبْ بِكِتَابِي إِلَى هَذَا الرَّجُلِ، فَمَا سَمِعْتَ مِنْ حَدِيثِهِ فَاحْفَظْ لِي مِنْهُ ثَلَاثَ خِصَالٍ ; انْظُرْ هَلْ يَذْكُرُ صَحِيفَتَهُ الَّتِي كَتَبَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ، وَانْظُرْ إِذَا قَرَأَ كِتَابِي فَهَلْ يَذْكُرُ اللَّيْلَ، وَانْظُرْ فِي ظَهْرِهِ هَلْ بِهِ شَيْءٌ يُرِيبُكَ. قَالَ: فَانْطَلَقْتُ بِكِتَابِهِ حَتَّى جِئْتُ تَبُوكَ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ بَيْنَ ظَهْرَانِي أَصْحَابِهِ مُحْتَبِيًا عَلَى الْمَاءِ، فَقُلْتُ: أَيْنَ صَاحِبُكُمْ؟ قِيلَ: هَا هُوَ ذَا. فَأَقْبَلْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَنَاوَلْتُهُ كِتَابِي، فَوَضَعَهُ فِي حِجْرِهِ ثُمَّ قَالَ: " مِمَّنْ أَنْتَ؟ " فَقُلْتُ: أَنَا أَخُو تَنُوخَ. قَالَ: " هَلْ لَكَ إِلَى الْإِسْلَامِ الْحَنِيفِيَّةِ مِلَّةِ أَبِيكَ إِبْرَاهِيمَ؟ " قُلْتُ: إِنِّي رَسُولُ قَوْمٍ وَعَلَى دِينِ قَوْمٍ، لَا أَرْجِعُ عَنْهُ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْهِمْ. فَضَحِكَ وَقَالَ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56] (الْقَصَصِ: 56) يَا أَخَا تَنُوخَ، إِنِّي كَتَبْتُ بِكِتَابٍ إِلَى كِسْرَى فَمَزَّقَهُ، وَاللَّهُ مُمَزِّقُهُ وَمُمَزِّقُ مُلْكِهِ، وَكَتَبْتُ إِلَى النَّجَاشِيِّ بِصَحِيفَةٍ فَخَرَّقَهَا وَاللَّهُ مُخَرِّقُهُ وَمُخَرِّقُ مُلْكِهِ، وَكَتَبْتُ إِلَى صَاحِبِكَ بِصَحِيفَةٍ فَأَمْسَكَهَا، فَلَنْ يَزَالَ النَّاسُ يَجِدُونَ مِنْهُ بَأْسًا مَا دَامَ فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ ". قُلْتُ: هَذِهِ إِحْدَى الثَّلَاثِ الَّتِي أَوْصَانِي بِهَا صَاحِبِي. فَأَخَذْتُ سَهْمًا مِنْ جَعْبَتِي فَكَتَبْتُهُ فِي جِلْدِ سَيْفِي، ثُمَّ إِنَّهُ نَاوَلَ الصَّحِيفَةَ رَجُلًا عَنْ يَسَارِهِ، قُلْتُ: مَنْ صَاحِبُ كِتَابِكُمُ الَّذِي يَقْرَأُ لَكُمْ؟ قَالُوا: مُعَاوِيَةُ. فَإِذَا فِي كِتَابِ صَاحِبِي: تَدْعُونِي إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، فَأَيْنَ النَّارُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سُبْحَانَ اللَّهِ! أَيْنَ اللَّيْلُ إِذَا جَاءَ النَّهَارُ؟ ! " قَالَ: فَأَخَذْتُ سَهْمًا مِنْ جَعْبَتِي فَكَتَبْتُهُ فِي جِلْدِ سَيْفِي. فَلَمَّا أَنْ فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ كِتَابِي، قَالَ: " إِنَّ لَكَ حَقًّا وَإِنَّكَ رَسُولٌ، فَلَوْ وَجَدْتُ عِنْدَنَا جَائِزَةً جَوَّزْنَاكَ بِهَا، إِنَّا سُفْرٌ مُرْمِلُونَ ". قَالَ: فَنَادَاهُ رَجُلٌ مِنْ طَائِفَةِ النَّاسِ، قَالَ: أَنَا أُجَوِّزُهُ فَفَتَحَ رَحْلَهُ، فَإِذَا هُوَ يَأْتِي بِحُلَّةٍ صَفُّورِيَّةٍ فَوَضَعَهَا فِي حِجْرِي، قُلْتُ: مَنْ صَاحِبُ الْجَائِزَةِ؟ قِيلَ لِي: عُثْمَانُ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " أَيُّكُمْ يُنْزِلُ هَذَا الرَّجُلَ؟ " فَقَالَ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ: أَنَا. فَقَامَ الْأَنْصَارِيُّ وَقُمْتُ مَعَهُ حَتَّى إِذَا خَرَجْتُ مِنْ طَائِفَةِ الْمَجْلِسِ نَادَانِي رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: " تَعَالَ يَا أَخَا تَنُوخَ ". فَأَقْبَلْتُ أَهْوِي إِلَيْهِ حَتَّى كُنْتُ قَائِمًا فِي مَجْلِسِي الَّذِي كُنْتُ
(7/175)
بَيْنَ يَدَيْهِ، فَحَلَّ حُبْوَتَهُ عَنْ ظَهْرِهِ، وَقَالَ: " هَاهُنَا امْضِ لِمَا أُمِرْتَ بِهِ ". فَجُلْتُ فِي ظَهْرِهِ، فَإِذَا أَنَا بِخَاتَمٍ فِي مَوْضِعِ غُضُونِ الْكَتِفِ مِثْلِ الْحَجْمَةِ الضَّخْمَةِ.» هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَإِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ تَفَرَّدَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ.
[ذِكْرُ مُصَالَحَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَلِكَ أَيْلَةَ وَأَهْلَ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ]
َ وَهُوَ مُخَيِّمٌ عَلَى تَبُوكَ قَبْلَ رُجُوعِهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَبُوكَ أَتَاهُ يُحَنَّةُ بْنُ رُؤْبَةَ صَاحِبُ أَيْلَةَ، فَصَالَحَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْطَاهُ الْجِزْيَةَ، وَأَتَاهُ أَهْلُ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ فَأَعْطَوْهُ الْجِزْيَةَ، وَكَتَبَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا فَهُوَ عِنْدَهُمْ، فَكَتَبَ لِيُحَنَّةَ بْنِ رُؤْبَةَ وَأَهْلِ أَيْلَةَ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذِهِ أَمَنَةٌ مِنَ اللَّهِ وَمُحَمَّدٍ النَّبِيِّ رَسُولِ اللَّهِ لِيُحَنَّةَ بْنِ رُؤْبَةَ وَأَهْلِ أَيْلَةَ، سُفُنِهِمْ وَسَيَّارَتِهِمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، لَهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ وَمُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَأَهْلِ الْيَمَنِ وَأَهْلِ الْبَحْرِ،
(7/177)
فَمَنْ أَحْدَثَ مِنْهُمْ حَدَثًا فَإِنَّهُ لَا يَحُولُ مَالُهُ دُونَ نَفْسِهِ، وَإِنَّهُ طَيِّبٌ لِمَنْ أَخَذَهُ مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ أَنْ يَمْنَعُوهُ مَاءً يَرِدُونَهُ وَلَا طَرِيقًا يَرِدُونَهُ مِنْ بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ» . زَادَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ بَعْدَ هَذَا. وَهَذَا كِتَابُ جُهَيْمِ بْنِ الصَّلْتِ وَشُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ بِإِذْنِ رَسُولِ اللَّهِ.
قَالَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَكَتَبَ لِأَهْلِ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ رَسُولِ اللَّهِ لِأَهْلِ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ، أَنَّهُمْ آمِنُونَ بِأَمَانِ اللَّهِ وَأَمَانِ مُحَمَّدٍ، وَأَنَّ عَلَيْهِمْ مِائَةَ دِينَارٍ فِي كُلِّ رَجَبٍ، وَمِائَةَ أُوقِيَّةٍ طَيِّبَةٍ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَيْهِمْ كَفِيلٌ بِالنُّصْحِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ لَجَأَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ". قَالَ: وَأَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ أَيْلَةَ بُرْدَهُ مَعَ كِتَابِهِ أَمَانًا لَهُمْ» . قَالَ: فَاشْتَرَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَبُو الْعَبَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ بِثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ.
(7/178)
[بَعْثُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى أُكَيْدِرِ دَوْمَةَ]
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَبَعَثَهُ إِلَى أُكَيْدِرِ دَوْمَةَ وَهُوَ أُكَيْدِرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ ; رَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ، كَانَ مَلِكًا عَلَيْهَا، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَالِدٍ: " إِنَّكَ سَتَجِدُهُ يَصِيدُ الْبَقَرَ ". فَخَرَجَ خَالِدٌ حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ حِصْنِهِ بِمَنْظَرِ الْعَيْنِ، وَفِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ صَائِفَةٍ، وَهُوَ عَلَى سَطْحٍ لَهُ، وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ، وَبَاتَتِ الْبَقَرُ تَحُكُّ بِقُرُونِهَا بَابَ الْقَصْرِ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: هَلْ رَأَيْتَ مِثْلَ هَذَا قَطُّ؟ ! قَالَ لَا وَاللَّهِ! قَالَتْ: فَمَنْ يَتْرُكُ هَذَا؟ قَالَ: لَا أَحَدَ. فَنَزَلَ فَأَمَرَ بِفَرَسِهِ فَأُسْرِجَ لَهُ، وَرَكِبَ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فِيهِمْ أَخٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ: حَسَّانُ. فَرَكِبَ وَخَرَجُوا مَعَهُ بِمَطَارِدِهِمْ، فَلَمَّا خَرَجُوا تَلَقَّتْهُمْ خَيْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَتْهُ وَقَتَلُوا أَخَاهُ، وَكَانَ عَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْ دِيبَاجٍ مُخَوَّصٍ بِالذَّهَبِ، فَاسْتَلَبَهُ خَالِدٌ فَبَعَثَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ قُدُومِهِ عَلَيْهِ. قَالَ: فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: رَأَيْتُ قَبَاءَ أُكَيْدِرٍ حِينَ قُدِمَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَلْمِسُونَهُ بِأَيْدِيهِمْ وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ هَذَا؟ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا» . .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ لَمَّا قَدِمَ بِأُكَيْدِرٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
(7/179)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقَنَ لَهُ دَمَهُ فَصَالَحَهُ عَلَى الْجِزْيَةِ، ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ، فَرَجَعَ إِلَى قَرْيَتِهِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي طَيِّئٍ - يُقَالُ لَهُ: بُجَيْرُ بْنُ بَجْرَةَ - فِي ذَلِكَ:
تَبَارَكَ سَائِقُ الْبَقَرَاتِ إِنِّي ... رَأَيْتُ اللَّهَ يَهْدِي كُلَّ هَادِ
فَمَنْ يَكُ حَائِدًا عَنْ ذِي تَبُوكَ ... فَإِنَّا قَدْ أُمِرْنَا بِالْجِهَادِ
وَقَدْ حَكَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِهَذَا الشَّاعِرِ: «لَا يَفْضُضِ اللَّهُ فَاكَ» . فَأَتَتْ عَلَيْهِ تِسْعُونَ سَنَةً مَا تَحَرَّكَ لَهُ فِيهَا ضِرْسٌ وَلَا سِنٌّ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ خَالِدًا مَرْجِعَهُ مِنْ تَبُوكَ فِي أَرْبَعِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَارِسًا إِلَى أُكَيْدِرِ دَوْمَةَ. فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ، إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ مَاكَرَهُ حَتَّى أَنْزَلَهُ مِنَ الْحِصْنِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ قَدِمَ مَعَ أُكَيْدِرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانُمِائَةٍ مِنَ السَّبْيِ، وَأَلْفُ بَعِيرٍ، وَأَرْبَعُمِائَةِ دِرْعٍ، وَأَرْبَعُمِائَةِ رُمْحٍ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ عَظِيمُ أَيْلَةَ يُحَنَّةُ بْنُ رُؤْبَةَ بِقَضِيَّةِ أُكَيْدِرِ دَوْمَةَ أَقْبَلَ قَادِمًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَالِحَهُ، فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَبُوكَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ بِلَالِ بْنِ يَحْيَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَانَ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ فِي غَزْوَةِ دُومَةِ الْجَنْدَلِ، وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى الْأَعْرَابِ فِي غَزْوَةِ دُومَةِ الْجَنْدَلِ. . فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(7/180)
[إِقَامَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَبُوكَ]
فَصْلٌ (إِقَامَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَبُوكَ) .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً بِتَبُوكَ لَمْ يُجَاوِزْهَا، ثُمَّ انْصَرَفَ قَافِلًا إِلَى الْمَدِينَةِ. قَالَ وَكَانَ فِي الطَّرِيقِ مَاءٌ يَخْرُجُ مِنْ وَشَلٍ، يَرْوِي الرَّاكِبَ وَالرَّاكِبَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ، بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ: وَادِي الْمُشَقَّقِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَبَقَنَا إِلَى ذَلِكَ الْمَاءِ فَلَا يَسْتَقِيَنَّ مِنْهُ شَيْئًا حَتَّى نَأْتِيَهُ ". قَالَ: فَسَبَقَهُ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فَاسْتَقَوْا مَا فِيهِ، فَلَمَّا أَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرَ فِيهِ شَيْئًا فَقَالَ: " مَنْ سَبَقَنَا إِلَى هَذَا الْمَاءِ؟ " فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فُلَانٌ وَفُلَانٌ. فَقَالَ: " أَوَلَمْ أَنْهَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنْهُ حَتَّى آتِيَهُ؟ " ثُمَّ لَعَنَهُمْ وَدَعَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ نَزَلَ فَوَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ الْوَشَلِ، فَجَعَلَ يَصُبُّ فِي يَدِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَصُبَّ، ثُمَّ نَضَحَهُ بِهِ وَمَسَحَهُ بِيَدِهِ، وَدَعَا بِمَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدْعُوَ، فَانْخَرَقَ مِنَ الْمَاءِ - كَمَا يَقُولُ مَنْ سَمِعَهُ - مَا إِنَّ لَهُ حِسًّا كَحِسِّ الصَّوَاعِقِ، فَشَرِبَ النَّاسُ وَاسْتَقَوْا حَاجَتَهُمْ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَئِنْ بَقِيتُمْ أَوْ مَنْ بَقِيَ مِنْكُمْ لَيَسْمَعَنَّ بِهَذَا الْوَادِي وَهُوَ أَخْصَبُ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمَا خَلْفَهُ» .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيُّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يُحَدِّثُ قَالَ: قُمْتُ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ وَأَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَرَأَيْتُ شُعْلَةً مِنْ نَارٍ فِي نَاحِيَةِ الْعَسْكَرِ، فَاتَّبَعْتُهَا أَنْظُرُ إِلَيْهَا. قَالَ: فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ ذُو الْبِجَادَيْنِ قَدْ مَاتَ وَإِذَا هُمْ،
(7/181)
قَدْ حَفَرُوا لَهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُفْرَتِهِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يُدَلِّيَانِهِ إِلَيْهِ، وَإِذَا هُوَ يَقُولُ: " أَدْنِيَا إِلَيَّ أَخَاكَمَا ". فَدَلَّيَاهُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا هَيَّأَهُ لِشِقِّهِ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ أَمْسَيْتُ رَاضِيًا عَنْهُ فَارْضَ عَنْهُ» . قَالَ: يَقُولُ ابْنُ مَسْعُودٍ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ صَاحِبَ الْحُفْرَةِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ إِنَّمَا سُمِّيَ ذَا الْبِجَادَيْنِ ; لِأَنَّهُ كَانَ يُرِيدُ الْإِسْلَامَ، فَمَنَعَهُ قَوْمُهُ وَضَيَّقُوا عَلَيْهِ، حَتَّى خَرَجَ مِنْ بَيْنِهِمْ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا بِجَادٌ، وَهُوَ الْكِسَاءُ الْغَلِيظُ فَشَقَّهُ بِاثْنَتَيْنِ، فَائْتَزَرَ بِوَاحِدَةٍ وَارْتَدَى بِالْأُخْرَى، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسُمِّيَ ذُو الْبِجَادَيْنِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَذَكَرَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ عَنِ ابْنِ أُكَيْمَةَ اللَّيْثِيِّ عَنِ ابْنِ أَخِي أَبِي رُهْمٍ الْغِفَارِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا رُهْمٍ كُلْثُومَ بْنَ الْحُصَيْنِ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ يَقُولُ: «غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةَ تَبُوكَ، فَسِرْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ مَعَهُ وَنَحْنُ بِالْأَخْضَرِ، وَأَلْقَى اللَّهُ عَلَيَّ النُّعَاسَ، فَطَفِقْتُ أَسْتَيْقِظُ وَقَدْ دَنَتْ رَاحِلَتِي مِنْ رَاحِلَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيُفْزِعُنِي دُنُوُّهَا مِنْهُ ; مَخَافَةَ أَنْ أُصِيبَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ فَطَفِقْتُ أَحُوزُ رَاحِلَتِي عَنْهُ حَتَّى غَلَبَتْنِي عَيْنِي فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ فَزَاحَمَتْ رَاحِلَتِي رَاحِلَتَهُ وَرِجْلُهُ فِي الْغَرْزِ، فَلَمْ أَسْتَيْقِظْ إِلَّا بِقَوْلِهِ: " حَسِّ ". فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَغْفِرْ لِي. قَالَ: " سِرْ ". فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُنِي
(7/182)
عَمَّنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ مِنْ بَنِي غِفَارٍ، فَأُخْبِرُهُ بِهِ، فَقَالَ وَهُوَ يَسْأَلُنِي: " مَا فَعَلَ النَّفَرُ الْحُمْرُ الطِّوَالُ الثِّطَاطُ الَّذِينَ لَا شَعْرَ فِي وُجُوهِهِمْ؟ " فَحَدَّثْتُهُ بِتَخَلُّفِهِمْ قَالَ: " فَمَا فَعَلَ النَّفَرُ السُّودُ الْجِعَادُ الْقِصَارُ؟ " قَالَ: قُلْتُ: وَاللَّهِ مَا أَعْرِفُ هَؤُلَاءِ مِنَّا. قَالَ: " بَلَى، الَّذِينَ لَهُمْ نَعَمٌ بِشَبَكَةِ شَدَخٍ ". فَتَذَكَّرْتُهُمْ فِي بَنِي غِفَارٍ، فَلَمْ أَذْكُرْهُمْ، حَتَّى ذَكَرْتُ أَنَّهُمْ رَهْطٌ مِنْ أَسْلَمَ كَانُوا حُلَفَاءَ فِينَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُولَئِكَ رَهْطٌ مِنْ أَسْلَمَ حُلَفَاءُ فِينَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا مَنَعَ أَحَدَ أُولَئِكَ حِينَ تَخَلَّفَ أَنْ يَحْمِلَ عَلَى بَعِيرٍ مِنْ إِبِلِهِ امْرَأً نَشِيطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ إِنَّ أَعَزَّ أَهْلِي عَلَيَّ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنِّي ; الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَغِفَارٌ وَأَسْلَمُ» . .
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: لَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَبُوكَ إِلَى الْمَدِينَةِ، هَمَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِالْفَتْكِ بِهِ، وَأَنْ يَطْرَحُوهُ مِنْ رَأْسِ عَقَبَةٍ فِي الطَّرِيقِ، فَأُخْبِرَ بِخَبَرِهِمْ، فَأَمَرَ النَّاسَ بِالْمَسِيرِ مِنَ الْوَادِي، وَصَعِدَ هُوَ الْعَقَبَةَ، وَسَلَكَهَا مَعَهُ أُولَئِكَ النَّفَرُ وَقَدْ تَلَثَّمُوا، وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَحُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ أَنْ يَمْشِيَا مَعَهُ عَمَّارٌ آخِذٌ بِزِمَامِ النَّاقَةِ وَحُذَيْفَةُ يَسُوقُهَا، فَبَيْنَمَا هُمْ يَسِيرُونَ إِذْ سَمِعُوا بِالْقَوْمِ قَدْ غَشُوهُمْ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبْصَرَ حُذَيْفَةُ غَضَبَهُ، فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ وَمَعَهُ مِحْجَنٌ، فَاسْتَقْبَلَ وَجُوهَ رَوَاحِلِهِمْ بِمِحْجَنِهِ، فَلَمَّا رَأَوْا حُذَيْفَةَ ظَنُّوا أَنْ قَدْ أُظْهِرَ عَلَى مَا أَضْمَرُوهُ مِنَ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ، فَأَسْرَعُوا حَتَّى خَالَطُوا النَّاسَ، وَأَقْبَلَ حُذَيْفَةُ حَتَّى أَدْرَكَ
(7/183)
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُمَا فَأَسْرَعَا حَتَّى قَطَعُوا الْعَقَبَةَ، وَوَقَفُوا يَنْتَظِرُونَ النَّاسَ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُذَيْفَةَ: " هَلْ عَرَفْتَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ؟ " قَالَ: مَا عَرَفْتُ إِلَّا رَوَاحِلَهُمْ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ حِينَ غَشِيتُهُمْ. ثُمَّ قَالَ: " عَلِمْتُمَا مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ هَؤُلَاءِ الرَّكْبِ؟ " قَالَا: لَا. فَأَخْبَرَهُمَا بِمَا كَانُوا تَمَالَئُوا عَلَيْهِ، وَسَمَّاهُمْ لَهُمَا وَاسْتَكْتَمَهُمَا ذَلِكَ فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا تَأْمُرُ بِقَتْلِهِمْ؟ فَقَالَ: " أَكْرَهُ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ ". .
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ هَذِهِ الْقِصَّةَ، إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَعْلَمَ بِأَسْمَائِهِمْ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ وَحْدَهُ، وَهَذَا هُوَ الْأَشْبَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُ أَبِي الدَّرْدَاءِ لِعَلْقَمَةَ صَاحِبِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَلَيْسَ فِيكُمْ - يَعْنِي أَهْلَ الْكُوفَةِ - صَاحِبُ السَّوَادِ وَالْوِسَادِ؟ - يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ - أَلَيْسَ فِيكُمْ صَاحِبُ السِّرِّ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ؟ - يَعْنِي حُذَيْفَةَ - أَلَيْسَ فِيكُمُ الَّذِي أَجَارَهُ اللَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ - يَعْنِي عَمَّارًا. وَرَوَيْنَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِحُذَيْفَةَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ بِاللَّهِ أَنَا مِنْهُمْ؟ قَالَ: لَا وَلَا أُبَرِّئُ بَعْدَكَ أَحَدًا. يَعْنِي حَتَّى لَا يَكُونَ مُفْشِيًا سِرَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قُلْتُ: وَقَدْ كَانُوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا وَقِيلَ: كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ فَجَمَعَهُمْ لَهُ فَأَخْبَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ وَبِمَا تَمَالَئُوا عَلَيْهِ. ثُمَّ سَرَدَ ابْنُ
(7/184)
إِسْحَاقَ أَسْمَاءَهُمْ، قَالَ: وَفِيهِمْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} [التوبة: 74] (التَّوْبَةِ: 74) .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: «كُنْتُ آخِذًا بِخِطَامِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقُودُ بِهِ وَعَمَّارٌ يَسُوقُ النَّاقَةَ - أَوْ أَنَا أَسُوقُ وَعَمَّارٌ يَقُودُ بِهِ - حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْعَقَبَةِ إِذَا أَنَا بِاثْنَيْ عَشَرَ رَاكِبًا قَدِ اعْتَرَضُوهُ فِيهَا. قَالَ: فَأَنْبَهْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَرَخَ بِهِمْ فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَلْ عَرَفْتُمُ الْقَوْمَ؟ ". قُلْنَا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ كَانُوا مُتَلَثِّمِينَ، وَلَكِنَّا قَدْ عَرَفْنَا الرِّكَابَ. قَالَ: " هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهَلْ تَدْرُونَ مَا أَرَادُوا؟ ". قُلْنَا: لَا. قَالَ: " أَرَادُوا أَنْ يَزْحَمُوا رَسُولَ اللَّهِ فِي الْعَقَبَةِ فَيُلْقُوهُ مِنْهَا ". قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَ لَا تَبْعَثُ إِلَى عَشَائِرِهِمْ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْكَ كُلُّ قَوْمٍ بِرَأْسِ صَاحِبِهِمْ؟ قَالَ: " لَا، أَكْرَهُ أَنْ تُحَدِّثَ الْعَرَبُ بَيْنَهَا أَنَّ مُحَمَّدًا قَاتَلَ بِقَوْمٍ، حَتَّى إِذَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ بِهِمْ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ يَقْتُلُهُمْ ". ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ ارْمِهِمْ بِالدُّبَيْلَةِ ". قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الدُّبَيْلَةُ؟ قَالَ: " شِهَابٌ مِنْ نَارٍ يَقَعُ عَلَى نِيَاطِ قَلْبِ أَحَدِهِمْ فَيَهْلِكُ» . .
(7/185)
وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَمَّارٍ: أَرَأَيْتُمْ صَنِيعَكُمْ هَذَا فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ عَلِيٍّ ; أَرَأْيًا رَأَيْتُمُوهُ أَمْ شَيْئًا عَهِدَهُ إِلَيْكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: مَا عَهِدَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا لَمْ يَعْهَدْهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَلَكِنْ حُذَيْفَةُ أَخْبَرَنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «فِي أَصْحَابِي اثَنَا عَشَرَ مُنَافِقًا، مِنْهُمْ ثَمَانِيَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ» .
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ قَتَادَةَ: «إِنَّ فِي أُمَّتِي اثْنَيْ عَشَرَ مُنَافِقًا لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ، ثَمَانِيَةٌ مِنْهُمْ تَكْفِيكَهُمُ الدُّبَيْلَةُ ; سِرَاجٌ مِنَ النَّارِ يَظْهَرُ بَيْنَ أَكْتَافِهِمْ حَتَّى يَنْجُمَ مِنْ صُدُورِهِمْ» . .
قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: وَرَوَيْنَا عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ، أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَأَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنَّ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْهُمْ حَرْبٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ، وَعَذَرَ ثَلَاثَةً أَنَّهُمْ قَالُوا: مَا سَمِعْنَا الْمُنَادِي وَلَا عَلِمْنَا بِمَا أَرَادَ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِهِ " قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ - هُوَ ابْنُ هَارُونَ - أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُمَيْعٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: «لَمَّا أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخِذٌ بِالْعَقَبَةِ،
(7/186)
فَلَا يَأْخُذْهَا أَحَدٌ. فَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُودُهُ حُذَيْفَةُ وَيَسُوقُهُ عَمَّارٌ إِذْ أَقْبَلَ رَهْطٌ مُتَلَثِّمُونَ عَلَى الرَّوَاحِلِ، فَغَشُوا عَمَّارًا وَهُوَ يَسُوقُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقْبَلَ عَمَّارٌ يَضْرِبُ وُجُوهَ الرَّوَاحِلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُذَيْفَةَ: " قُدْ قُدْ ". حَتَّى هَبَطَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا هَبَطَ نَزَلَ وَرَجَعَ عَمَّارٌ قَالَ: " يَا عَمَّارُ هَلْ عَرَفْتَ الْقَوْمَ؟ " قَالَ: قَدْ عَرَفْتُ عَامَّةَ الرَّوَاحِلِ، وَالْقَوْمُ مُتَلَثِّمُونَ. قَالَ: " هَلْ تَدْرِي مَا أَرَادُوا؟ " قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " أَرَادُوا أَنْ يَنْفِرُوا بِرَسُولِ اللَّهِ فَيَطْرَحُوهُ ". قَالَ: فَسَارَّ عَمَّارٌ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ، كَمْ تَعْلَمُ كَانَ أَصْحَابُ الْعَقَبَةِ؟ قَالَ: أَرْبَعَةَ عَشَرَ. فَقَالَ: إِنْ كُنْتُ فِيهِمْ فَقَدْ كَانُوا خَمْسَةَ عَشَرَ. قَالَ: فَعَذَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةً قَالُوا: مَا سَمِعْنَا مُنَادِيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا عَلِمْنَا مَا أَرَادَ الْقَوْمُ. فَقَالَ عَمَّارٌ: أَشْهَدُ أَنَّ الِاثْنَيْ عَشَرَ الْبَاقِينَ حَرْبٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ.» .
[قِصَّةُ مَسْجِدِ الضِّرَارِ]
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ - لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ - أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ - لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 107 - 110] (التَّوْبَةِ: 107 - 110) وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى تَفْسِيرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ فِي كِتَابِنَا " التَّفْسِيرِ " بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ كَيْفِيَّةَ بِنَاءِ هَذَا الْمَسْجِدِ الظَّالِمِ أَهْلُهُ، وَكَيْفِيَّةَ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَرَابِهِ مَرْجِعَهُ مِنْ تَبُوكَ قَبْلَ دُخُولِهِ الْمَدِينَةَ. وَمَضْمُونُ ذَلِكَ ; أَنَّ طَائِفَةً مِنَ الْمُنَافِقِينَ بَنَوْا صُورَةَ مَسْجِدٍ قَرِيبًا مِنْ مَسْجِدِ قُبَاءٍ وَأَرَادُوا أَنْ يُصَلِّيَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ ; حَتَّى يَرُوجَ لَهُمْ مَا أَرَادُوهُ مِنَ الْفَسَادِ وَالْكُفْرِ وَالْعِنَادِ، فَعَصَمَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ إِلَى تَبُوكَ، فَلَمَّا رَجَعَ مِنْهَا فَنَزَلَ بِذِي أَوَانٍ - مَكَانٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ سَاعَةٌ - نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي شَأْنِ هَذَا الْمَسْجِدِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ} [التوبة: 107] الْآيَةَ. أَمَّا قَوْلُهُ: (ضِرَارًا) فَلِأَنَّهُمُ أَرَادُوا مُضَاهَاةَ مَسْجِدِ قُبَاءٍ، (وَكُفْرًا) بِاللَّهِ لَا لِلْإِيمَانِ بِهِ، (وَتَفْرِيقًا) لِلْجَمَاعَةِ عَنْ مَسْجِدِ قُبَاءٍ {وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ} [التوبة: 107] وَهُوَ أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ الْفَاسِقُ، قَبَّحَهُ اللَّهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَبَى عَلَيْهِ،
(7/187)
ذَهَبَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ فَاسْتَنْفَرَهُمْ فَجَاءُوا عَامَ أُحُدٍ فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا قَدَّمْنَاهُ، فَلَمَّا لَمْ يَنْهَضْ أَمْرُهُ ذَهَبَ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ قَيْصَرَ ; لِيَسْتَنْصِرَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَبُو عَامِرٍ عَلَى دِينِ هِرَقْلَ مِمَّنْ تَنْصَرَّ مَعَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ، وَكَانَ يَكْتُبُ إِلَى إِخْوَانِهِ الَّذِينَ نَافَقُوا يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ، وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا، فَكَانَتْ مُكَاتَبَاتُهُ وَرُسُلُهُ تَفِدُ إِلَيْهِمْ كُلَّ حِينٍ، فَبَنَوْا هَذَا الْمَسْجِدَ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ، وَبَاطِنُهُ دَارُ حَرْبٍ وَمَقَرٌّ لِمَنْ يَفِدُ مِنْ عِنْدِ أَبِي عَامِرٍ الرَّاهِبِ وَمُجَمِّعٌ لِمَنْ هُوَ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ} [التوبة: 107] . ثُمَّ قَالَ: {وَلَيَحْلِفُنَّ} [التوبة: 107] . أَيِ الَّذِينَ بَنَوْهُ {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى} [التوبة: 107] أَيْ إِنَّمَا أَرَدْنَا بِبِنَائِهِ الْخَيْرَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 107] . ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة: 108] فَنَهَاهُ عَنِ الْقِيَامِ فِيهِ لِئَلَّا يُقَرِّرَ أَمْرَهُ، ثُمَّ أَمَرَهُ وَحَثَّهُ عَلَى الْقِيَامِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ، وَهُوَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي الثَّنَاءِ عَلَى تَطْهِيرِ أَهْلِهِ مُشِيرَةٌ إِلَيْهِ، وَمَا ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ أَنَّهُ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُنَافِي مَا تَقَدَّمَ ; لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ فَمَسْجِدُ الرَّسُولِ أَوْلَى بِذَلِكَ وَأَحْرَى، وَأَثْبَتُ فِي الْفَضْلِ مِنْهُ وَأَقْوَى، وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي " التَّفْسِيرِ " وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ بِذِي أَوَانٍ دَعَا مَالِكَ بْنَ الدُّخْشُمِ وَمَعْنَ بْنَ عَدِيٍّ - أَوْ أَخَاهُ عَاصِمَ بْنَ عَدِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَأَمَرَهُمَا أَنَّ يَذْهَبَا إِلَى هَذَا
(7/189)
الْمَسْجِدِ الظَّالِمِ أَهْلُهُ فَيُحَرِّقَاهُ بِالنَّارِ، فَذَهَبَا فَحَرَّقَاهُ بِالنَّارِ، وَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَهْلُهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ الَّذِينَ بَنَوْهُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا وَهُمْ خِذَامُ بْنُ خَالِدٍ - وَفِي جَنْبِ دَارِهِ كَانَ بِنَاءُ هَذَا الْمَسْجِدِ - وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ وَمُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ وَأَبُو حَبِيبَةَ بْنُ الْأَزْعَرِ وَعَبَّادُ بْنُ حُنَيْفٍ أَخُو سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ وَجَارِيَةُ بْنُ عَامِرٍ وَابْنَاهُ مُجَمِّعٌ وَزَيْدٌ وَنَبْتَلُ بْنُ الْحَارِثِ وَبَحْزَجٌ وَهُوَ إِلَى بَنِي ضُبَيْعَةَ، وَبِجَادُ بْنُ عُثْمَانَ وَهُوَ مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ، وَوَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ وَهُوَ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ.
قُلْتُ: وَفِي غَزْوَةِ تَبُوكَ هَذِهِ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ صَلَاةَ الْفَجْرِ، أَدْرَكَ مَعَهُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ مِنْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَهَبَ يَتَوَضَّأُ وَمَعَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَأَبْطَأَ عَلَى النَّاسِ، فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَتَقَدَّمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَلَمَّا سَلَّمَ النَّاسُ أَعْظَمُوا مَا وَقَعَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَحْسَنْتُمْ وَأَصَبْتُمْ ". وَذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَائِلًا: حَدَّثَنَا.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَدَنَا مِنَ الْمَدِينَةِ فَقَالَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ ". فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ ! قَالَ: " وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ» . تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
(7/190)
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، حَتَّى إِذَا أَشْرَفْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: «هَذِهِ طَابَةُ، وَهَذَا أُحُدٌ ; جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» . وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ بِهِ نَحْوَهُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: أَذْكُرُ أَنِّي خَرَجْتُ مَعَ الصِّبْيَانِ نَتَلَقَّى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ مُقْدَمَهُ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرِ بْنُ قَتَادَةَ أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ سَمِعْتُ أَبَا خَلِيفَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَائِشَةَ يَقُولُ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، جَعَلَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَالْوَلَائِدُ يَقُلْنَ:
طَلَعَ الْبَدْرُ عَلَيْنَا ... مِنْ
ثَنِيَّاتِ الْوَدَاعْ
وَجَبَ الشُّكْرُ عَلَيْنَا
مَا دَعَا لِلَّهِ دَاعْ
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذَا يَذْكُرُهُ عُلَمَاؤُنَا عِنْدَ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ مِنْ مَكَّةَ، لَا أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ ثَنِيَّاتِ الْوَدَاعِ عِنْدَ مَقْدَمِهِ مِنْ تَبُوكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَذَكَرْنَاهُ هَاهُنَا أَيْضًا.
قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
(7/191)
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ - وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ مِنْ بَنِيهِ حِينَ عَمِيَ - قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ قِصَّةِ تَبُوكَ، قَالَ كَعْبٌ: «لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ تَخَلَّفْتُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَلَمْ يُعَاتَبْ أَحَدٌ تَخَلَّفَ عَنْهَا، إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ، حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حَتَّى تَوَاثَقْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا، كَانَ مِنْ خَبَرِي أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزَاةِ، وَاللَّهِ مَا اجْتَمَعَتْ عِنْدِي قَبْلَهُ رَاحِلَتَانِ قَطُّ، حَتَّى جَمَعْتُهُمَا فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ، وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ يُرِيدُ غَزْوَةً إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا، حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ، غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا، وَمَفَازًا، وَعَدُوًّا كَثِيرًا، فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ، لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ، فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ، وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرٌ، وَلَا يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ - يُرِيدُ الدِّيوَانَ - قَالَ كَعْبٌ: فَمَا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ إِلَّا ظَنَّ أَنْ سَيَخْفَى لَهُ مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيُ اللَّهِ، وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الْغَزْوَةَ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلَالُ، وَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، فَطَفِقْتُ أَغْدُو ; لِكَيْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ، فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: أَنَا قَادِرٌ عَلَيْهِ. فَلَمْ يَزَلْ يَتَمَادَى بِي حَتَّى اشْتَدَّ بِالنَّاسِ الْجِدُّ، فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جَهَازِي شَيْئًا، فَقُلْتُ: أَتَجَهَّزُ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ. فَغَدَوْتُ بَعْدَ أَنْ فَصَلُوا لِأَتَجَهَّزَ فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، ثُمَّ غَدَوْتُ ثُمَّ رَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، فَلَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ، وَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ - وَلَيْتَنِي فَعَلْتُ - فَلَمْ يُقَدَّرْ لِي ذَلِكَ، فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ فَطُفْتُ فِيهِمْ، أَحْزَنَنِي أَنِّي لَا أَرَى إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ النِّفَاقُ، أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنِ الضُّعَفَاءِ، وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ، فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ: " مَا فَعَلَ كَعْبٌ؟ " فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَنَظَرُهُ فِي عِطْفَيْهِ. فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا. فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّهُ تَوَجَّهَ قَافِلًا حَضَرَنِي هَمِّي، وَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ وَأَقُولُ: بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدًا؟ وَاسْتَعَنْتُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي، فَلَمَّا قِيلَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا، زَاحَ عَنِّي الْبَاطِلُ، وَعَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَخْرُجَ مِنْهُ أَبَدًا بِشَيْءٍ فِيهِ كَذِبٌ، فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ، وَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَادِمًا، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ، فَيَرْكَعُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَ الْمُخَلَّفُونَ فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ، وَيَحْلِفُونَ لَهُ، وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا، فَقَبِلَ
(7/192)
مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَانِيَتَهُمْ، وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَجِئْتُهُ، فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ، ثُمَّ قَالَ: " تَعَالَ ". فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لِي: " مَا خَلَّفَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟ " فَقُلْتُ: بَلَى، إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنْ سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا، وَلَكِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي، لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ، إِنِّي لَأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ، لَا وَاللَّهِ مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَّا هَذَا فَقَدَ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ ". فَقُمْتُ، وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَاتَّبَعُونِي فَقَالُوا لِي: وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا، وَلَقَدْ عَجَزْتَ أَنْ لَا تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ الْمُخَلَّفُونَ، وَقَدْ كَانَ كَافِيكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَ. فَوَاللَّهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونَنِي حَتَّى هَمَمْتُ أَنْ أَرْجِعَ فَأُكَذِّبَ نَفْسِي، ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ: هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعِي أَحَدٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ، رَجُلَانِ قَالَا مِثْلَ مَا قُلْتَ، وَقِيلَ لَهُمَا مِثْلَ مَا قِيلَ لَكَ. فَقُلْتُ: مَنْ هُمَا؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الْعُمْرِيُّ وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ. فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْرًا فِيهِمَا أُسْوَةٌ، فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي، وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ
(7/194)
كَلَامِنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ، فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ وَتَغَيَّرُوا لَنَا، حَتَّى تَنَكَّرَتْ فِي نَفْسِي الْأَرْضُ، فَمَا هِيَ الَّتِي أَعْرِفُ، فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ، وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ الْقَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ، فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلَاةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَطُوفُ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ، وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلَامِ عَلَيَّ أَمْ لَا؟ ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ فَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ، فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلَاتِي أَقْبَلَ إِلَيَّ، وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي، حَتَّى إِذَا طَالَ عَلَيَّ ذَلِكَ مِنْ جَفْوَةِ النَّاسِ، مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ وَهُوَ ابْنُ عَمِّي وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَوَاللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُنِي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَفَاضَتْ عَيْنَايَ وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ. قَالَ: وَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي بِسُوقِ الْمَدِينَةِ إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ أَنْبَاطِ أَهْلِ الشَّامِ مِمَّنْ قَدِمَ بِطَعَامٍ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّنِي عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؟ فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ، حَتَّى إِذَا جَاءَنِي دَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ، فَإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ، وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ، فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ، فَقُلْتُ لَمَّا قَرَأْتُهَا: وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الْبَلَاءِ، فَتَيَمَّمْتُ بِهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهُ بِهَا حَتَّى إِذَا
(7/195)
مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً مِنَ الْخَمْسِينَ، إِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِينِي فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ. فَقُلْتُ: أُطَلِّقُهَا أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ؟ قَالَ: لَا بَلِ اعْتَزِلْهَا وَلَا تَقْرَبْهَا. وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَيَّ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي: الْحَقِي بِأَهْلِكِ فَتَكُونِي عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ. قَالَ كَعْبٌ: فَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أَخْدِمَهُ؟ قَالَ: " لَا وَلَكِنْ لَا يَقْرَبْكِ ". قَالَتْ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا بِهِ حَرَكَةٌ إِلَى شَيْءٍ، وَاللَّهِ مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ إِلَى يَوْمِهِ هَذَا. فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي: لَوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ فِي امْرَأَتِكَ كَمَا أَذِنَ لِامْرَأَةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنْ تَخْدِمَهُ. فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَسْتَأْذِنُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا يُدْرِينِي مَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَأْذَنْتُهُ فِيهَا وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ! قَالَ: فَلَبِثْتُ بَعْدَ ذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ، حَتَّى كَمَلَتْ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ عَنْ كَلَامِنَا، فَلَمَّا صَلَّيْتُ الْفَجْرَ صُبْحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً وَأَنَا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي، وَضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَى عَلَى جَبَلِ سَلْعٍ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ. فَخَرَرْتُ سَاجِدًا وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ، وَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا، وَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ، وَرَكَضَ رَجُلٌ إِلَيَّ فَرَسًا وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ، فَأَوْفَى عَلَى الْجَبَلِ، وَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنَ
(7/196)
الْفَرَسِ، فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي نَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُ إِيَّاهُمَا بِبُشْرَاهُ، وَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ، وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا، وَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنِّئُونِي بِالتَّوْبَةِ يَقُولُونَ: لِيَهْنِكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ. قَالَ كَعْبٌ: حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ حَوْلَهُ النَّاسُ، فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي وَاللَّهِ مَا قَامَ إِلَيَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ وَلَا أَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ. قَالَ كَعْبٌ: فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ: " أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ ". قَالَ: قُلْتُ: أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: " لَا بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ". وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ، وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ ". قُلْتُ فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا نَجَّانِي بِالصِّدْقِ، وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَلَّا أَتَحَدَّثَ إِلَّا صِدْقًا مَا بَقِيتُ. فَوَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَبْلَاهُ اللَّهُ فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلَانِي، مَا تَعَمَّدْتُ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِي هَذَا كَذِبًا، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللَّهُ فِيمَا بَقِيتُ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 117] إِلَى قَوْلِهِ: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] فَوَاللَّهِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ نِعْمَةٍ قَطُّ بَعْدَ أَنْ هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ أَعْظَمَ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا أَكُونَ كَذَبْتُهُ،
(7/197)
فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِلَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ أَنْزَلَ الْوَحْيَ شَرَّ مَا قَالَ لِأَحَدٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ} [التوبة: 95] إِلَى قَوْلِهِ: {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 96] (التَّوْبَةِ: 95، 96) قَالَ كَعْبٌ: وَكُنَّا تَخَلَّفْنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ عَنْ أَمْرِ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ حِينَ حَلَفُوا لَهُ فَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَأَرْجَأَ رَسُولُ اللَّهِ أَمْرَنَا حَتَّى قَضَى اللَّهُ فِيهِ، فَبِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا (التَّوْبَةِ: 118) . لَيْسَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ مِمَّا خُلِّفْنَا مِنَ الْغَزْوِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَخْلِيفُهُ إِيَّانَا وَإِرْجَاؤُهُ أَمْرَنَا عَمَّنْ حَلَفَ لَهُ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقَبِلَ مِنْهُ» . وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ بِنَحْوِهِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ. عَنِ الزُّهْرِيِّ مِثْلَ سِيَاقِ الْبُخَارِيِّ وَقَدْ سُقْنَاهُ فِي " التَّفْسِيرِ " مِنْ " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ "، وَفِيهِ زِيَادَاتٌ يَسِيرَةٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
[ذِكْرُ أَقْوَامٍ تَخَلَّفُوا مِنَ الْعُصَاةِ]
ِ غَيْرِ هَؤُلَاءِ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ طَلْحَةَ الْوَالِبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 102] (التَّوْبَةِ: 102) قَالَ: كَانُوا عَشَرَةَ رَهْطٍ تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(7/198)
فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَلَمَّا حَضَرَ رُجُوعُهُ أَوْثَقَ سَبْعَةٌ مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِسَوَارِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ مَمَرُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَجَعَ مِنَ الْمَسْجِدِ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا مَرَّ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: " مَنْ هَؤُلَاءِ؟ " قَالُوا: أَبُو لُبَابَةَ وَأَصْحَابٌ لَهُ، تَخَلَّفُوا عَنْكَ حَتَّى تُطْلِقَهُمْ وَتَعْذُرَهُمْ قَالَ: " وَأَنَا أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَا أُطْلِقُهُمْ وَلَا أَعْذُرُهُمْ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، هُوَ الَّذِي يُطْلِقُهُمْ، رَغِبُوا عَنِّي، وَتَخَلَّفُوا عَنِ الْغَزْوِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ ". فَلَمَّا أَنْ بَلَغَهُمْ ذَلِكَ قَالُوا: وَنَحْنُ لَا نُطْلِقُ أَنْفُسَنَا حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يُطْلِقُنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} [التوبة: 102] الْآيَةَ. " وَعَسَى " مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ فَأَطْلَقَهُمْ وَعَذَرَهُمْ فَجَاءُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ أَمْوَالُنَا فَتَصَدَّقْ بِهَا عَنَّا، وَاسْتَغْفِرْ لَنَا، فَقَالَ: " مَا أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ أَمْوَالَكُمْ ". فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103] إِلَى قَوْلِهِ {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 106] (التَّوْبَةِ: 103، 106) . وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَرْبِطُوا أَنْفُسَهُمْ بِالسَّوَارِي فَأُرْجِئُوا حَتَّى نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 117] إِلَى قَوْلِهِ: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] إِلَى آخِرِهَا (التَّوْبَةِ: 117، 118) . وَكَذَا رَوَاهُ عَطِيَّةُ بْنُ سَعْدٍ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِنَحْوِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَمُجَاهِدٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قِصَّةَ أَبِي لُبَابَةَ
(7/199)
وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَرَبْطِهِ نَفْسَهُ حَتَّى تِيبَ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَخَلَّفَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَرَبَطَ نَفْسَهُ أَيْضًا حَتَّى تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَرَادَ أَنْ يَنْخَلِعَ مِنْ مَالِهِ كُلِّهِ صَدَقَةً فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَكْفِيكَ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ ". قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ إِسْحَاقَ: وَفِيهِ نَزَلَ {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} [التوبة: 102] الْآيَةَ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: ثُمَّ لَمْ يُرَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا خَيْرٌ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.
قُلْتُ: وَلَعَلَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ لَمْ يَذْكُرُوا مَعَهُ بَقِيَّةَ أَصْحَابِهِ، وَاقْتَصَرُوا عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَالزَّعِيمِ لَهُمْ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عِيَاضٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنَّ مِنْكُمْ مُنَافِقِينَ فَمَنْ سَمَّيْتُ فَلْيَقُمْ قُمْ يَا فُلَانُ قُمْ يَا فُلَانُ قُمْ يَا فُلَانُ ". حَتَّى عَدَّ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ، ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ فِيكُمْ - أَوْ إِنَّ مِنْكُمْ - مُنَافِقِينَ فَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ» . قَالَ: فَمَرَّ عُمَرُ بِرَجُلٍ مُتَقَنِّعٍ وَقَدْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَعْرِفَةٌ فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ؟ فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: بُعْدًا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمَ. .
قُلْتُ: كَانَ الْمُتَخَلِّفُونَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ ; مَأْمُورُونَ مَأْجُورُونَ كَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ وَابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَمَعْذُورُونَ وَهُمُ الضُّعَفَاءُ وَالْمَرْضَى وَالْمُقِلُّونَ وَهُمُ الْبَكَّاءُونَ، وَعُصَاةٌ مُذْنِبُونَ وَهُمُ الثَّلَاثَةُ وَأَبُو لُبَابَةَ وَأَصْحَابُهُ الْمَذْكُورُونَ، وَآخَرُونَ مَلُومُونَ مَذْمُومُونَ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ.
(7/200)
[ذِكْرُ مَا كَانَ مِنَ الْحَوَادِثِ بَعْدَ رُجُوعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ مُنْصَرَفَهُ مِنْ تَبُوكَ]
قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ إِمْلَاءً، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا أَبُو الْبَخْتَرِيِّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شَاكِرٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا عَمُّ أَبِي زَحْرُ بْنُ حِصْنٍ عَنْ جَدِّهِ حُمَيْدِ بْنِ مُنْهِبٍ قَالَ: «سَمِعْتُ جَدِّي خُرَيْمَ بْنَ أَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ لَامٍ يَقُولُ: هَاجَرْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْصَرَفَهُ مِنْ تَبُوكَ، فَسَمِعْتُ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَمْتَدِحَكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لَا يَفْضُضِ اللَّهُ فَاكَ. فَقَالَ:
مِنْ قَبْلِهَا طِبْتَ فِي الظِّلَالِ وَفِي ... مُسْتَوْدَعٍ حَيْثُ يُخْصَفُ الْوَرَقُ
(7/201)
ثُمَّ هَبَطْتَ الْبِلَادَ لَا بَشَرٌ
أَنْتَ وَلَا مُضْغَةٌ وَلَا عَلَقُ ... بَلْ نُطْفَةٌ تَرْكَبُ السَّفِينَ وَقَدْ
أَلْجَمَ نَسْرًا وَأهْلَهُ الْغَرَقُ ... تُنْقَلُ مِنْ صَالِبٍ إِلَى رَحِمٍ
إِذَا مَضَى عَالَمٌ بَدَا طَبَقُ ... حَتَّى احْتَوَى بَيْتَكَ الْمُهَيْمِنُ مِنْ
خِنْدِفَ عَلْيَاءَ تَحْتَهَا النُّطُقُ ... وَأَنْتَ لَمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الْأَرْ
ضُ وَضَاءَتْ بِنُورِكَ الْأُفُقُ ... فَنَحْنُ فِي ذَلِكَ الضِّيَاءِ وَفِي
النُّورِ وَسُبْلِ الرَّشَادِ نَخْتَرِقُ
» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، عَنْ أَبِي السُّكَيْنِ زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى الطَّائِيُّ وَهُوَ فِي جُزْءٍ لَهُ مَرْوِيٌّ عَنْهُ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَزَادَ: ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذِهِ الْحِيرَةُ الْبَيْضَاءُ رُفِعَتْ لِي، وَهَذِهِ الشَّيْمَاءُ بِنْتُ بُقَيْلَةَ الْأَزْدِيَّةُ عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ مُعْتَجِرَةٍ بِخِمَارٍ أَسْوَدَ ". فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ نَحْنُ دَخَلْنَا الْحِيرَةَ فَوَجَدْتُهَا كَمَا تَصِفُ فَهِيَ لِي؟ قَالَ: " هِيَ لَكَ ".» قَالَ: ثُمَّ كَانَتِ الرِّدَّةُ، فَمَا ارْتَدَّ أَحَدٌ مِنْ طَيِّئٍ، وَكُنَّا نُقَاتِلُ مَنْ يَلِينَا مِنَ الْعَرَبِ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَكُنَّا نُقَاتِلُ قَيْسًا وَفِيهَا عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ وَكُنَّا نُقَاتِلُ بَنِي أَسَدٍ وَفِيهِمْ طُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ وَكَانَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يَمْدَحُنَا، وَكَانَ فِيمَا قَالَ فِينَا:
جَزَى اللَّهُ عَنَّا طَيِّئًا فِي دِيَارِهَا ... بِمُعْتَرَكِ الْأَبْطَالِ خَيْرَ جَزَاءِ
هُمْ أَهْلُ رَايَاتِ السَّمَاحَةِ وَالنَّدَى ... إِذَا مَا الصَّبَا أَلْوَتْ بِكُلِّ خِبَاءِ
(7/202)
هُمْ ضَرَبُوا قَيْسًا عَلَى الدِّينِ بَعْدَمَا
أَجَابُوا مُنَادِيَ ظُلْمَةٍ وَعَمَاءِ
قَالَ: ثُمَّ سَارَ خَالِدٌ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ فَسِرْنَا مَعَهُ، فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنْ مُسَيْلِمَةَ أَقْبَلْنَا إِلَى نَاحِيَةِ الْبَصْرَةِ، فَلَقِينَا هُرْمُزَ بِكَاظِمَةَ فِي جَيْشٍ هُوَ أَكْبَرُ مِنْ جَمْعِنَا، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَعْدَى لِلْعَرَبِ وَالْإِسْلَامِ مِنْ هُرْمُزَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ خَالِدٌ وَدَعَاهُ إِلَى الْبِرَازِ، فَبَرَزَ لَهُ فَقَتَلَهُ خَالِدٌ وَكَتَبَ بِخَبَرِهِ إِلَى الصِّدِّيقِ فَنَفَّلَهُ سَلَبَهُ، فَبَلَغَتْ قَلَنْسُوَةُ هُرْمُزَ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَكَانَتِ الْفُرْسُ إِذَا شَرُفَ فِيهَا الرَّجُلُ جَعَلَتْ قَلَنْسُوَتَهُ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلْنَا عَلَى طَرِيقِ الطَّفِ إِلَى الْحِيرَةِ، فَأَوَّلُ مَنْ تَلَقَّانَا حِينَ دَخَلْنَاهَا الشَّيْمَاءُ بِنْتُ بُقَيْلَةَ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ مُعْتَجِرَةٍ بِخِمَارٍ أَسْوَدَ ". فَتَعَلَّقْتُ بِهَا وَقُلْتُ: هَذِهِ وَهَبَهَا لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَدَعَانِي خَالِدٌ عَلَيْهَا بِالْبَيِّنَةِ، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، وَكَانَتِ الْبَيِّنَةُ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ وَمُحَمَّدَ بْنَ بَشِيرٍ الْأَنْصَارِيَّ فَسَلَّمَهَا إِلَيَّ، فَنَزَلَ إِلَيَّ أَخُوهَا عَبْدُ الْمَسِيحِ يُرِيدُ الصُّلْحَ، فَقَالَ: بِعْنِيهَا. فَقُلْتُ: لَا أَنْقُصُهَا وَاللَّهِ عَنْ عَشْرِ مِائَةِ دِرْهَمٍ. فَأَعْطَانِي أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَسَلَّمْتُهَا إِلَيْهِ فَقِيلَ: لَوْ قُلْتَ مِائَةَ أَلْفٍ لَدَفَعَهَا إِلَيْكَ. فَقُلْتُ: مَا كُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّ عَدَدًا أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ مِائَةٍ.
(7/203)
[قُدُومُ وَفْدِ ثَقِيفٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ]
تَقَدَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ارْتَحَلَ عَنْ ثَقِيفٍ سُئِلَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِمْ فَدَعَا لَهُمْ بِالْهِدَايَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَسْلَمَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ أَنْعَمَ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ، وَجَعَلَهُ أَمِيرًا عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ، فَكَانَ يَغْزُو بِلَادَ ثَقِيفٍ وَيُضَيِّقُ عَلَيْهِمْ، حَتَّى أَلْجَأَهُمْ إِلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ صَخْرِ بْنِ الْعَيْلَةِ الْأَحْمَسِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ بِثَقِيفٍ حَتَّى أَنْزَلَهُمْ مِنْ حِصْنِهِمْ عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقْبَلَ بِهِمْ إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ بِإِذْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ فِي ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ مِنْ تَبُوكَ فِي رَمَضَانَ، وَقَدِمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ وَفْدُ ثَقِيفٍ، وَكَانَ مِنْ حَدِيثِهِمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا انْصَرَفَ عَنْهُمْ، اتَّبَعَ أَثَرَهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ حَتَّى أَدْرَكَهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَسْلَمَ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى قَوْمِهِ بِالْإِسْلَامِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - كَمَا يَتَحَدَّثُ قَوْمُهُ -: " إِنَّهُمْ قَاتِلُوكَ ". وَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ فِيهِمْ نَخْوَةَ الِامْتِنَاعِ ; لِلَّذِي كَانَ مِنْهُمْ، فَقَالَ عُرْوَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَبْكَارِهِمْ. وَكَانَ فِيهِمْ
(7/204)
كَذَلِكَ مُحَبَّبًا مُطَاعًا، فَخَرَجَ يَدْعُو قَوْمَهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، رَجَاءَ أَنْ لَا يُخَالِفُوهُ ; لِمَنْزِلَتِهِ فِيهِمْ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى عِلِّيَّةٍ لَهُ، وَقَدْ دَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَظْهَرَ لَهُمْ دِينَهُ، رَمَوْهُ بِالنَّبْلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَأَصَابَهُ سَهْمٌ فَقَتَلَهُ، فَيَزْعُمُ بَنُو مَالِكٍ أَنَّهُ قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: أَوْسُ بْنُ عَوْفٍ. أَخُو بَنِي سَالِمِ بْنِ مَالِكٍ، وَتَزْعُمُ الْأَحْلَافُ أَنَّهُ قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ مِنْ بَنِي عَتَّابٍ يُقَالُ لَهُ: وَهْبُ بْنُ جَابِرٍ. فَقِيلَ لِعُرْوَةَ: مَا تَرَى فِي دَمِكَ؟ قَالَ: كَرَامَةٌ أَكْرَمَنِي اللَّهُ بِهَا، وَشَهَادَةٌ سَاقَهَا اللَّهُ إِلَيَّ، فَلَيْسَ فِيَّ إِلَّا مَا فِي الشُّهَدَاءِ الَّذِينَ قُتِلُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ عَنْكُمْ، فَادْفِنُونِي مَعَهُمْ. فَدَفَنُوهُ مَعَهُمْ فَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيهِ: «إِنَّ مَثَلَهُ فِي قَوْمِهِ كَمَثَلِ صَاحِبِ يس فِي قَوْمِهِ» وَهَكَذَا ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قِصَّةَ عُرْوَةَ وَلَكِنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ حَجَّةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَتَابَعَهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي ذَلِكَ وَهَذَا بَعِيدٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ حَجَّةِ أَبِي بَكْرٍ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ أَقَامَتْ ثَقِيفٌ بَعْدَ قَتْلِ عُرْوَةَ أَشْهُرًا، ثُمَّ إِنَّهُمُ ائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ، وَرَأَوْا أَنَّهُ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِحَرْبِ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ، وَقَدْ بَايَعُوا وَأَسْلَمُوا، فَائْتَمَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَذَلِكَ عَنْ رَأْيِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ أَخِي بَنِي عِلَاجٍ، فَائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ، ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى أَنْ يُرْسِلُوا رَجُلًا مِنْهُمْ، فَأَرْسَلُوا عَبْدَ يَالِيلَ بْنَ عَمْرِو بْنِ
(7/205)
عُمَيْرٍ وَمَعَهُ اثْنَانِ مِنَ الْأَحْلَافِ وَثَلَاثَةٌ مِنْ بَنِي مَالِكٍ، وَهُمْ ; الْحَكَمُ بْنُ عَمْرِو بْنِ وَهْبِ بْنِ مُعَتِّبٍ وَشُرَحْبِيلُ بْنُ غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ مُعَتِّبٍ وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ وَأَوْسُ بْنُ عَوْفٍ أَخُو بَنِي سَالِمٍ، وَنُمَيْرُ بْنُ خَرَشَةَ بْنِ رَبِيعَةَ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ كَانُوا بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا فِيهِمْ كِنَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَالِيلَ وَهُوَ رَئِيسُهُمْ، وَفِيهِمْ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ وَهُوَ أَصْغَرُ الْوَفْدِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا دَنَوْا مِنَ الْمَدِينَةِ وَنَزَلُوا قَنَاةً، أَلْفَوُا الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يَرْعَى فِي نَوْبَتِهِ رِكَابَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَآهُمْ ذَهَبَ يَشْتَدُّ لِيُبَشِّرَ رَسُولَ اللَّهِ بِقُدُومِهِمْ، فَلَقِيَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَأَخْبَرَهُ عَنْ رَكْبِ ثَقِيفٍ أَنَّهُمْ قَدِمُوا يُرِيدُونَ الْبَيْعَةَ وَالْإِسْلَامَ بِأَنْ يَشْرِطَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ شُرُوطًا، وَيَكْتَتِبُوا كِتَابًا فِي قَوْمِهِمْ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِلْمُغِيرَةِ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَا تَسْبِقُنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا أُحَدِّثُهُ. فَفَعَلَ الْمُغِيرَةُ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُدُومِهِمْ، ثُمَّ خَرَجَ الْمُغِيرَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَرَوَّحَ الظَّهْرَ مَعَهُمْ، وَعَلَّمَهُمْ كَيْفَ يُحَيُّونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَفْعَلُوا إِلَّا بِتَحِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ قُبَّةٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ هُوَ الَّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ، فَكَانَ إِذَا جَاءَهُمْ بِطَعَامٍ مِنْ عِنْدِهِ لَمْ يَأْكُلُوا مِنْهُ حَتَّى يَأْكُلَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ قَبْلَهُمْ، وَهُوَ الَّذِي كَتَبَ لَهُمْ كِتَابَهُمْ. قَالَ: وَكَانَ مِمَّا اشْتَرَطُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدَعَ لَهُمُ الطَّاغِيَةَ - وَهِيَ اللَّاتُ - ثَلَاثَ سِنِينَ، فَمَا بَرِحُوا
(7/206)
يَسْأَلُونَهُ سَنَةً سَنَةً وَيَأْبَى عَلَيْهِمْ، حَتَّى سَأَلُوهُ شَهْرًا وَاحِدًا بَعْدَ مَقْدَمِهِمْ لِيَتَأَلَّفُوا سُفَهَاءَهُمْ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ أَنْ يَدَعَهَا شَيْئًا مُسَمًّى إِلَّا أَنْ يَبْعَثَ مَعَهُمْ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَالْمُغِيرَةَ لِيَهْدِمَاهَا، وَسَأَلُوهُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ لَا يُصَلُّوا وَأَنْ لَا يَكْسِرُوا أَصْنَامَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ: " «أَمَّا كَسْرُ أَصْنَامِكُمْ بِأَيْدِيكُمْ فَسَنُعْفِيكُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَا خَيْرَ فِي دِينٍ لَا صَلَاةَ فِيهِ» ". فَقَالُوا: سَنُؤْتِيكَهَا وَإِنْ كَانَتْ دَنَاءَةً.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ «أَنَّ وَفْدَ ثَقِيفٍ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَهُمُ الْمَسْجِدَ لِيَكُونَ أَرَقَّ لِقُلُوبِهِمْ فَاشْتَرَطُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يُحْشَرُوا وَلَا يُعْشَرُوا وَلَا يُجَبُّوا وَلَا يُسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَكُمْ أَنْ لَا تُحْشَرُوا وَلَا تُعْشَرُوا وَلَا يُسْتَعْمَلَ عَلَيْكُمْ غَيْرُكُمْ وَلَا خَيْرَ فِي دِينٍ لَا رُكُوعَ فِيهِ ". وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي الْقُرْآنَ وَاجْعَلْنِي إِمَامَ قَوْمِي.» وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ بِهِ.
(7/207)
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَعْقِلِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ وَهْبٍ قَالَ: «سَأَلْتُ جَابِرًا عَنْ شَأْنِ ثَقِيفٍ إِذْ بَايَعَتْ، قَالَ: اشْتَرَطَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا صَدَقَةَ عَلَيْهَا وَلَا جِهَادَ، وَأَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ: " سَيَتَصَدَّقُونَ وَيُجَاهِدُونَ إِذَا أَسْلَمُوا ".» .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا أَسْلَمُوا وَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابَهُمْ أَمَّرَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ - وَكَانَ أَحْدَثَهُمْ سِنًّا - لِأَنَّ الصِّدِّيقَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي رَأَيْتُ هَذَا الْغُلَامَ مِنْ أَحْرَصِهِمْ عَلَى التَّفَقُّهِ فِي الْإِسْلَامِ وَتَعَلُّمِ الْقُرْآنِ.
وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَنَّ وَفْدَهُمْ كَانُوا إِذَا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ خَلَّفُوا عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ فِي رِحَالِهِمْ، فَإِذَا رَجَعُوا وَسْطَ النَّهَارِ جَاءَ هُوَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنِ الْعِلْمِ فَاسْتَقْرَأَهُ الْقُرْآنَ، فَإِنْ وَجَدَهُ نَائِمًا ذَهَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَلَمْ يَزَلْ دَأْبُهُ حَتَّى فَقُهَ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَحَبَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُبًّا شَدِيدًا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ قَالَ: «كَانَ مِنْ آخِرِ مَا عَهِدَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَعَثَنِي إِلَى ثَقِيفٍ أَنْ قَالَ: " يَا عُثْمَانُ تَجَوَّزْ فِي الصَّلَاةِ، وَاقْدُرِ
(7/208)
النَّاسَ بِأَضْعَفِهِمْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الْكَبِيرَ وَالصَّغِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ ".» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ أَخْبَرَنَا سَعِيدٌ الْجَرِيرِيُّ عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْنِي إِمَامَ قَوْمِي. قَالَ: " أَنْتَ إِمَامُهُمْ فَاقْتَدِ بِأَضْعَفِهِمْ، وَاتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا ".» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ عَفَّانَ عَنْ وُهَيْبٍ وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ زَائِدَةَ كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي عَاصِمٍ «عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّ آخِرَ مَا فَارَقَهُ رَسُولُ اللَّهِ حِينَ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى الطَّائِفِ أَنْ قَالَ: " إِذَا صَلَّيْتَ بِقَوْمٍ فَخَفِّفْ بِهِمْ ". حَتَّى وَقَّتَ لِي {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] (الْعَلَقِ: 1) وَأَشْبَاهِهَا مِنَ الْقُرْآنِ» .
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ: «حَدَّثَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ قَالَ: آخِرُ مَا عَهِدَ
(7/209)
إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ قَالَ: " إِذَا أَمَمْتَ قَوْمًا فَخَفِّفْ بِهِمُ الصَّلَاةَ ".» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُثَنَّى وَبُنْدَارٍ كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ غُنْدَرٍ بِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْلَى الطَّائِفِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّهُ «سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ يَقُولُ: اسْتَعْمَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الطَّائِفِ، فَكَانَ آخِرَ مَا عَهِدَهُ إِلَيَّ أَنْ قَالَ: " خَفِّفْ عَنِ النَّاسِ الصَّلَاةَ ".» تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنِي مُوسَى - هُوَ ابْنُ طَلْحَةَ - أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ حَدَّثَهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يَؤُمَّ قَوْمَهُ، ثُمَّ قَالَ: " مَنْ أَمَّ قَوْمًا فَلْيُخَفِّفْ بِهِمْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَالْمَرِيضَ وَذَا الْحَاجَةِ، فَإِذَا صَلَّى وَحْدَهُ فَلْيُصَلِّ كَيْفَ شَاءَ ".» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَالِمٍ سَمِعْتُ أَشْيَاخًا مِنْ ثَقِيفٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ: «قَالَ
(7/210)
لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أُمَّ قَوْمَكَ، وَإِذَا أَمَمْتَ قَوْمًا فَأَخِفَّ بِهِمُ الصَّلَاةَ ; فَإِنَّهُ يَقُومُ فِيهَا الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَالْمَرِيضُ وَذُو الْحَاجَةِ ".» .
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الْجَرِيرِيِّ عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ بْنِ الشِّخِّيرِ «أَنَّ عُثْمَانَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَالَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي وَقِرَاءَتِي. قَالَ: ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ: خِنْزَبٌ. فَإِذَا أَنْتَ حَسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْهُ وَاتْفُلْ عَنْ يَسَارِكَ ثَلَاثًا ". قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَهُ اللَّهُ عَنِّي.» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ بِهِ.
وَرَوَى مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ «أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعًا يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ، فَقَالَ لَهُ: " ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ، وَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ. ثَلَاثًا، وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ ".» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَ اللَّهُ مَا كَانَ بِي، فَلَمْ أَزَلْ آمُرُ بِهِ أَهْلِي وَغَيْرَهُمْ.» .
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ
(7/211)
عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنِي عُيَيْنَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - وَهُوَ ابْنُ جَوْشَنٍ - حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ قَالَ: «لَمَّا اسْتَعْمَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الطَّائِفِ جَعَلَ يَعْرِضُ لِي شَيْءٌ فِي صَلَاتِي، حَتَّى مَا أَدْرِي مَا أُصَلِّي، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ رَحَلْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " ابْنُ أَبِي الْعَاصِ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " مَا جَاءَ بِكَ؟ " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَرَضَ لِي شَيْءٌ فِي صَلَاتِي حَتَّى مَا أَدْرِي مَا أُصَلِّي. قَالَ: " ذَاكَ الشَّيْطَانُ، ادْنُهْ ". فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَجَلَسْتُ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيَّ. قَالَ: فَضَرَبَ صَدْرِي بِيَدِهِ وَتَفَلَ فِي فَمِي، وَقَالَ: " اخْرُجْ عَدُوَّ اللَّهِ ". فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ: " الْحَقْ بِعَمَلِكَ ". قَالَ: فَقَالَ عُثْمَانُ: فَلَعَمْرِي مَا أَحْسَبُهُ خَالَطَنِي بَعْدُ.» تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ مَاجَهْ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ رَبِيعَةَ الثَّقَفِيِّ عَنْ بَعْضِ وَفْدِهِمْ قَالَ: «كَانَ بِلَالٌ يَأْتِينَا حِينَ أَسْلَمْنَا وَصُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَقِيَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ بِفَطُورِنَا وَسَحُورِنَا، فَيَأْتِينَا بِالسَّحُورِ، فَإِنَّا لَنَقُولُ: إِنَّا لَنَرَى الْفَجْرَ قَدْ طَلَعَ. فَيَقُولُ: قَدْ تَرَكْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَسَحَّرُ لِتَأْخِيرِ السَّحُورِ. وَيَأْتِينَا بِفِطْرِنَا، وَإِنَّا لَنَقُولُ: مَا نَرَى الشَّمْسَ ذَهَبَتْ كُلَّهَا بَعْدُ. فَيَقُولُ: مَا جِئْتُكُمْ حَتَّى أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ يَضَعُ يَدَهُ فِي الْجَفْنَةِ فَيَلْقَمُ مِنْهَا» .
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْلَى الطَّائِفِيِّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ جَدِّهِ أَوْسِ بْنِ
(7/212)
حُذَيْفَةَ قَالَ: «قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ. قَالَ: فَنَزَلَتِ الْأَحْلَافُ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَأَنْزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي مَالِكٍ فِي قُبَّةٍ لَهُ، كُلَّ لَيْلَةٍ يَأْتِينَا بَعْدَ الْعِشَاءِ يُحَدِّثُنَا قَائِمًا عَلَى رِجْلَيْهِ، حَتَّى يُرَاوِحَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ، فَأَكْثَرُ مَا يُحَدِّثُنَا مَا لَقِيَ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ يَقُولُ: " لَا أَنْسَى وَكُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ مُسْتَذَلِّينَ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا خَرَجْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ كَانَتْ سِجَالُ الْحَرْبِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، نُدَالُ عَلَيْهِمْ وَيُدَالُونَ عَلَيْنَا ". فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةٌ أَبْطَأَ عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ يَأْتِينَا فِيهِ فَقُلْنَا: لَقَدْ أَبْطَأْتَ عَنَّا اللَّيْلَةَ. فَقَالَ: " إِنَّهُ طَرَأَ عَلَيَّ حِزْبِي مِنَ الْقُرْآنِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَجِيءَ حَتَّى أُتِمَّهُ ". قَالَ أَوْسٌ: سَأَلْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ تُحَزِّبُونَ الْقُرْآنَ؟ فَقَالُوا: ثَلَاثٌ، وَخُمْسٌ، وَسَبْعٌ، وَتِسْعٌ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ، وَثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَحِزْبُ الْمُفَصَّلِ وَحْدَهُ.» لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ أَمْرِهِمْ وَتَوَجَّهُوا إِلَى بِلَادِهِمْ رَاجِعِينَ،
(7/213)
بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَالْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ فِي هَدْمِ الطَّاغِيَةِ، فَخَرَجَا مَعَ الْقَوْمِ، حَتَّى إِذَا قَدِمُوا الطَّائِفَ أَرَادَ الْمُغِيرَةُ أَنْ يُقَدِّمَ أَبَا سُفْيَانَ فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْهِ أَبُو سُفْيَانَ وَقَالَ: ادْخُلْ أَنْتَ عَلَى قَوْمِكَ. وَأَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ بِمَالِهِ بِذِي الْهَرْمِ، فَلَمَّا دَخَلَ الْمُغِيرَةُ عَلَاهَا يَضْرِبُهَا بِالْمِعْوَلِ، وَقَامَ قَوْمُهُ بَنُو مُعَتِّبٍ دُونَهُ ; خَشْيَةَ أَنْ يُرْمَى أَوْ يُصَابَ كَمَا أُصِيبَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ. قَالَ: وَخَرَجَ نِسَاءُ ثَقِيفٍ حُسَّرًا يَبْكِينَ عَلَيْهَا، وَيَقُلْنَ: لَتُبْكَيَنَّ دَفَّاعْ، أَسْلَمَهَا الرُّضَّاعْ، لَمْ يُحْسِنُوا الْمِصَاعْ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَيَقُولُ أَبُو سُفْيَانَ وَالْمُغِيرَةُ يَضْرِبُهَا بِالْفَأْسِ: وَاهًا لَكَ إِهْلَاكَكِ. فَلَمَّا هَدَمَهَا الْمُغِيرَةُ وَأَخَذَ مَالَهَا وَحُلِيَّهَا أَرْسَلَ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ وَقَالَ لَهُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَمَرَنَا أَنْ نَقْضِيَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَخِيهِ الْأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودٍ وَالِدِ قَارِبِ بْنِ الْأَسْوَدِ دَيْنَهُمَا مِنْ مَالِ الطَّاغِيَةِ. فَقَضَى ذَلِكَ عَنْهُمَا.
قُلْتُ: كَانَ الْأَسْوَدُ قَدْ مَاتَ مُشْرِكًا، وَلَكِنْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ بِذَلِكَ تَأْلِيفًا وَإِكْرَامًا لِوَلَدِهِ قَارِبِ بْنِ الْأَسْوَدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَنَّ وَفْدَ ثَقِيفٍ كَانُوا بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَلَمَّا قَدِمُوا
(7/214)
أَنْزَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ الْمَسْجِدَ لِيَسْمَعُوا الْقُرْآنَ، فَسَأَلُوهُ عَنِ الرِّبَا وَالزِّنَا وَالْخَمْرِ، فَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَسَأَلُوهُ عَنِ الرَّبَّةِ مَا هُوَ صَانِعٌ بِهَا. قَالَ: " اهْدِمُوهَا ". قَالُوا: هَيْهَاتَ لَوْ تَعْلَمُ الرَّبَّةُ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَهْدِمَهَا قَتَلَتْ أَهْلَهَا. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَيْحَكَ يَا بْنَ عَبْدِ يَالِيلَ! مَا أَجْهَلَكَ! إِنَّمَا الرَّبَّةُ حَجَرٌ. فَقَالُوا: إِنَّا لَمْ نَأْتِكَ يَا بْنَ الْخَطَّابِ. ثُمَّ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَوَلَّ أَنْتَ هَدْمَهَا، أَمَّا نَحْنُ فَإِنَّا لَنْ نَهْدِمَهَا أَبَدًا. فَقَالَ: " سَأَبْعَثُ إِلَيْكُمْ مَنْ يَكْفِيكُمْ هَدْمَهَا ". فَكَاتَبُوهُ عَلَى ذَلِكَ، وَاسْتَأْذَنُوهُ أَنْ يَسْبِقُوا رُسُلَهُ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا جَاءُوا قَوْمَهُمْ تَلَقَّوْهُمْ، فَسَأَلُوهُمْ مَا وَرَاءَكُمْ؟ فَأَظْهَرُوا الْحُزْنَ وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا جَاءُوا مِنْ عِنْدِ رَجُلٍ فَظٍّ غَلِيظٍ، قَدْ ظَهَرَ بِالسَّيْفِ، يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ وَقَدْ دَوَّخَ الْعَرَبَ، قَدْ حَرَّمَ الرِّبَا وَالزِّنَا وَالْخَمْرَ، وَأَمَرَ بِهَدْمِ الرَّبَّةِ، فَنَفَرَتْ ثَقِيفٌ وَقَالُوا: لَا نُطِيعُ لِهَذَا أَبَدًا. قَالَ: فَأَهِّبُوا لِلْقِتَالِ وَأَعِدُّوا السِّلَاحَ. فَمَكَثُوا عَلَى ذَلِكَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، ثُمَّ أَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَرَجَعُوا وَأَنَابُوا، وَقَالُوا: ارْجِعُوا إِلَيْهِ فَشَارِطُوهُ عَلَى ذَلِكَ وَصَالِحُوهُ عَلَيْهِ. قَالُوا: فَإِنَّا قَدْ فَعَلْنَا ذَلِكَ، وَوَجَدْنَاهُ أَتْقَى النَّاسِ وَأَوْفَاهُمْ وَأَرْحَمَهُمْ وَأَصْدَقَهُمْ، وَقَدْ بُورِكَ لَنَا وَلَكُمْ فِي مَسِيرِنَا إِلَيْهِ وَفِيمَا قَاضَيْنَاهُ عَلَيْهِ، فَافْهَمُوا مَا فِي الْقَضِيَّةِ وَاقْبَلُوا عَافِيَةَ اللَّهِ. قَالُوا: فَلِمَ كَتَمْتُمُونَا هَذَا أَوَّلًا؟ قَالُوا: أَرَدْنَا أَنْ يَنْزِعَ اللَّهُ مِنْ قُلُوبِكُمْ نَخْوَةَ الشَّيْطَانِ. فَأَسْلَمُوا مَكَانَهُمْ، وَمَكَثُوا أَيَّامًا، ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْهِمْ رُسُلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَمَّرَ عَلَيْهِمْ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَفِيهِمُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَعَمَدُوا إِلَى اللَّاتِ، وَقَدِ اسْتَكَفَّتْ ثَقِيفٌ رِجَالُهَا وَنِسَاؤُهَا وَالصِّبْيَانُ،
(7/215)
حَتَّى خَرَجَ الْعَوَاتِقُ مِنِ الْحِجَالِ وَلَا يَرَى عَامَّةُ ثَقِيفٍ أَنَّهَا مَهْدُومَةٌ وَيَظُنُّونَ أَنَّهَا مُمْتَنِعَةٌ فَقَامَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَأَخَذَ الْكِرْزِينَ - يَعْنِي الْمِعْوَلَ - وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: وَاللَّهِ لَأُضْحِكَنَّكُمْ مِنْ ثَقِيفٍ.
فَضَرَبَ بِالْكِرْزِينِ، ثُمَّ سَقَطَ يَرْكُضُ بِرِجْلِهِ، فَارْتَجَّ أَهْلُ الطَّائِفِ بِصَيْحَةٍ وَاحِدَةٍ وَفَرِحُوا وَقَالُوا: أَبْعَدَ اللَّهُ الْمُغِيرَةَ قَتَلَتْهُ الرَّبَّةُ. وَقَالُوا لِأُولَئِكَ: مَنْ شَاءَ مِنْكُمْ فَلْيَقْتَرِبْ فَقَامَ الْمُغِيرَةُ فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا مَعْشَرَ ثَقِيفٍ إِنَّمَا هِيَ لَكَاعِ حِجَارَةٌ وَمَدَرٌ، فَاقْبَلُوا عَافِيَةَ اللَّهِ وَاعْبُدُوهُ. ثُمَّ إِنَّهُ ضَرَبَ الْبَابَ فَكَسَرَهُ ثُمَّ عَلَا سُورَهَا، وَعَلَا الرِّجَالُ مَعَهُ، فَمَا زَالُوا يَهْدِمُونَهَا حَجَرًا حَجَرًا حَتَّى سَوَّوْهَا بِالْأَرْضِ، وَجَعَلَ سَادِنُهَا يَقُولُ: لَيَغْضَبَنَّ الْأَسَاسُ فَلَيَخْسِفَنَّ بِهِمْ. فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ الْمُغِيرَةُ قَالَ لِخَالِدٍ: دَعْنِي أَحْفِرْ أَسَاسَهَا. فَحَفَرُوهُ حَتَّى أَخْرَجُوا تُرَابَهَا وَجَمَعُوا مَاءَهَا وَبِنَاءَهَا، وَبُهِتَتْ عِنْدَ ذَلِكَ ثَقِيفٌ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَسَمَ أَمْوَالَهَا مِنْ يَوْمِهِ، وَحَمِدُوا اللَّهَ تَعَالَى عَلَى اعْتِزَازِ دِينِهِ وَنُصْرَةِ رَسُولِهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي كَتَبَ لَهُمْ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ ; إِنَّ عِضَاةَ وَجٍّ وَصَيْدَهُ لَا يُعْضَدُ، مَنْ وَجَدَ يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُجْلَدُ وَتُنْزَعُ ثِيَابُهُ، وَإِنْ
(7/216)
تَعَدَّى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ فَيُبْلَغُ بِهِ النَّبِيَّ مُحَمَّدًا، وَإِنَّ هَذَا أَمْرُ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ. وَكَتَبَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ بِأَمْرِ الرَّسُولِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَلَا يَتَعَدَّهُ أَحَدٌ فَيَظْلِمَ نَفْسَهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.» .
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ - مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مَخْزُومِيٌّ - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِنْسَانَ - وَأَثْنَى عَلَيْهِ خَيْرًا - عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ لِيَةَ حَتَّى إِذَا كُنَّا عِنْدَ السِّدْرَةِ وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَرَفِ الْقَرْنِ الْأَسْوَدِ حَذْوَهَا، فَاسْتَقْبَلَ نَخِبًا بِبَصَرِهِ، يَعْنِي وَادِيًا، وَوَقَفَ حَتَّى اتَّقَفَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ صَيْدَ وَجٍّ وَعِضَاهَهُ حَرَمٌ مُحَرَّمٌ لِلَّهِ ". وَذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِهِ الطَّائِفَ وَحِصَارِهِ ثَقِيفًا.» وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِنْسَانَ الطَّائِفِيِّ وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي " ثِقَاتِهِ ". وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ. تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُهُمْ، وَقَدْ ضَعَّفَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا هَذَا الْحَدِيثَ، وَصَحَّحَهُ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ بِمُقْتَضَاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(7/217)
[ذِكْرُ مَوْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ]
ٍّ قَبَّحَهُ اللَّهُ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يَعُودُهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ، فِيهِ فَلَمَّا عَرَفَ فِيهِ الْمَوْتَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَا وَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأَنْهَاكَ عَنْ حُبِّ يَهُودَ ". فَقَالَ: قَدْ أَبْغَضَهُمْ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ فَمَهْ؟» .
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: «مَرِضَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فِي لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ شَوَّالٍ، وَمَاتَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَكَانَ مَرَضُهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَعُودُهُ فِيهَا، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ دَخَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَقَالَ: " قَدْ نَهَيْتُكَ عَنْ حُبِّ يَهُودَ ". فَقَالَ: قَدْ أَبْغَضَهُمْ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ فَمَا نَفَعَهُ؟ ثُمَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَيْسَ هَذَا بِحِينِ عِتَابٍ! هُوَ الْمَوْتُ، فَإِنْ مُتُّ، فَاحْضُرْ غُسْلِي، وَأَعْطِنِي قَمِيصَكَ الَّذِي يَلِي جِلْدَكَ، فَكَفِّنِّي فِيهِ، وَصَلِّ عَلَيَّ وَاسْتَغْفِرْ لِي. فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَالِمِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوًا مِمَّا ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(7/218)
وَقَدْ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ قُلْتُ لِأَبِي أُسَامَةَ: أَحَدَّثَكُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ «جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ لِيُكَفِّنَهُ فِيهِ، فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَيْهِ، فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَأَخَذَ بِثَوْبِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاكَ اللَّهُ عَنْهُ؟ ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ رَبِّي خَيَّرَنِي فَقَالَ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] (التَّوْبَةِ: 80) وَسَأَزِيدُ عَلَى السَّبْعِينَ: فَقَالَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ، أَتُصَلِّي عَلَيْهِ؟ ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 84] (التَّوْبَةِ: 84) فَأَقَرَّ بِهِ أَبُو أُسَامَةَ وَقَالَ: نَعَمْ» . وَأَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ: «قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ فِي يَوْمِ كَذَا: كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ فِي يَوْمِ كَذَا: كَذَا وَكَذَا؟ ! فَقَالَ: دَعْنِي يَا عُمَرُ فَإِنِّي بَيْنَ خَيْرَتَيْنِ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ غُفِرَ لَهُ لَزِدْتُ ". ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] الْآيَةَ. قَالَ عُمَرُ: فَعَجِبْتُ بَعْدُ مِنْ جُرْأَتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،» وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
(7/219)
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: «أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْرَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بَعْدَمَا أُدْخِلَ حُفْرَتَهُ، فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ، فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ - أَوْ فَخِذَيْهِ - وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ.» فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ، وَعِنْدَهُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ مُكَافَأَةً لَمَّا كَانَ كَسَا الْعَبَّاسَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَمِيصًا حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَلَمْ يَجِدُوا قَمِيصًا يَصْلُحُ لَهُ إِلَّا قَمِيصَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ. وَقَدْ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ هَاهُنَا قِصَّةَ ثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ وَكَيْفَ افْتُتِنَ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَمَنْعِهِ الصَّدَقَةَ، وَقَدْ حَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي " التَّفْسِيرِ " عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 75] الْآيَةَ. (التَّوْبَةِ: 75) .
[غَزْوَةُ تَبُوكَ آخِرُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]
فَصْلٌ (فِي كَوْنِ غَزْوَةِ تَبُوكَ آخِرَ غَزْوَةٍ وَقَصِيدَةِ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ) .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ آخِرَ غَزْوَةٍ غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يُعَدِّدُ أَيَّامَ الْأَنْصَارِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَذْكُرُ مَوَاطِنَهُمْ مَعَهُ فِي أَيَّامِ غَزْوِهِ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَتُرْوَى لِابْنِهِ عَبْدِ
(7/220)
الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَّانَ -:
أَلَسْتُ خَيْرَ مَعَدٍّ كُلِّهَا نَفَرًا ... وَمَعْشَرًا إِنْ هُمُ عُمُّوا وَإِنْ حُصِلُوا
قَوْمٌ هُمُ شَهِدُوا بَدُرًا بِأَجْمَعِهِمْ ... مَعَ الرَّسُولِ فَمَا أَلَوْا وَمَا خَذَلُوا
وَبَايَعُوهُ فَلَمْ يَنْكُثْ بِهِ أَحَدٌ ... مِنْهُمْ وَلَمْ يَكُ فِي إِيمَانِهِمْ دَخَلُ
وَيَوْمَ صَبَّحَهُمْ فِي الشِّعْبِ مِنْ أُحُدٍ ... ضَرْبٌ رَصِينٌ كَحَرِّ النَّارِ مُشْتَعِلُ
وَيَوْمَ ذِي قَرَدٍ يَوْمَ اسْتَثَارَ بِهِمْ ... عَلَى الْجِيَادِ فَمَا خَامُوا وَلَا نَكَلُوا
وَذَا الْعَشِيرَةِ جَاسُوهَا بِخَيْلِهِمُ ... مَعَ الرَّسُولِ عَلَيْهَا الْبِيضُ وَالْأَسَلُ
وَيَوْمَ وَدَّانَ أَجْلَوْا أَهْلَهُ رَقَصًا ... بِالْخَيْلِ حَتَّى نَهَانَا الْحَزْنُ وَالْجَبَلُ
وَلَيْلَةً طَلَبُوا فِيهَا عَدُوَّهُمُ ... لِلَّهِ وَاللَّهُ يَجْزِيهِمْ بِمَا عَمِلُوا
وَلَيْلَةً بِحُنَيْنٍ جَالَدُوا مَعَهُ ... فِيهَا يَعُلُّهُمُ بِالْحَرْبِ إِذْ نَهِلُوا
وَغَزْوَةً يَوْمَ نَجْدٍ ثَمَّ كَانَ لَهُمْ ... مَعَ الرَّسُولِ بِهَا الْأَسْلَابُ وَالنَّفَلُ
وَغَزْوَةَ الْقَاعِ فَرَّقْنَا الْعَدُوَّ بِهِ ... كَمَا تَفَرَّقَ دُونَ الْمَشْرَبِ الرَّسَلُ
(7/221)
وَيَوْمَ بُويِعَ كَانُوا أَهْلَ بَيْعَتِهِ
عَلَى الْجِلَادِ فَآسَوْهُ وَمَا عَدَلُوا ... وَغَزْوَةَ الْفَتْحِ كَانُوا فِي سَرِيَّتِهِ
مُرَابِطِينَ فَمَا طَاشُوا وَلَا عَجِلُوا ... وَيَوْمَ خَيْبَرَ كَانُوا فِي كَتِيبَتِهِ
يَمْشُونَ كُلُّهُمُ مُسْتَبْسِلٌ بَطَلُ ... بِالْبِيضِ تَرْعَشُ فِي الْأَيْمَانِ عَارِيَةً
تَعْوَجُّ فِي الضَّرْبِ أَحْيَانًا وَتَعْتَدِلُ ... وَيَوْمَ سَارَ رَسُولُ اللَّهِ مُحتَسِبًا
إِلَى تَبُوكَ وَهُمْ رَايَاتُهُ الْأُوَلُ ... وَسَاسَةُ الْحَرْبِ إِنْ حَرْبٌ بَدَتْ لَهُمُ
حَتَّى بَدَا لَهُمُ الْإِقْبَالُ فَالْقَفَلُ ... أُولَئِكَ الْقَوْمُ أَنْصَارُ النَّبِيِّ وَهُمْ
قَوْمِي أَصِيرُ إِلَيْهِمْ حِينَ أَتَّصِلُ ... مَاتُوا كِرَامًا وَلَمْ تُنْكَثْ عُهُودُهُمُ
وَقَتْلُهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِذْ قُتِلُوا
(7/222)
[بَعْثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ أَمِيرًا عَلَى الْحَجِّ سَنَةَ تِسْعٍ]
ذِكْرُ بَعْثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ أَمِيرًا عَلَى الْحَجِّ سَنَةَ تِسْعٍ وَنُزُولِ سُورَةِ " بَرَاءَةَ ".
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ بَعْدَ ذِكْرِهِ وُفُودَ أَهْلِ الطَّائِفِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مَبْسُوطًا. قَالَ: ثُمَّ أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَقِيَّةَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَشَوَّالًا وَذَا الْقَعْدَةِ، ثُمَّ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْحَجِّ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ ; لِيُقِيمَ لِلْمُسْلِمِينَ حَجَّهُمْ، وَأَهْلُ الشِّرْكِ عَلَى مَنَازِلِهِمْ مِنْ حَجِّهِمْ لَمْ يُصَدُّوا بَعْدُ عَنِ الْبَيْتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ عَهْدٌ مُؤَقَّتٌ إِلَى أَمَدٍ، فَلَمَّا خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفَصَلَ عَنِ الْمَدِينَةِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ التَّوْبَةِ {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 1] إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3] إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ.
ثُمَّ شَرَعَ ابْنُ إِسْحَاقَ يَتَكَلَّمُ عَلَى هَذِهِ الْآيَاتِ، وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي " التَّفْسِيرِ " وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ; لِيَكُونَ مَعَهُ، وَيَتَوَلَّى عَلِيٌّ بِنَفْسِهِ إِبْلَاغَ الْبَرَاءَةِ إِلَى
(7/223)
الْمُشْرِكِينَ نِيَابَةً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِكَوْنِهِ ابْنَ عَمِّهِ مِنْ عَصَبَتِهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي حَكِيمُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ " بَرَاءَةُ " عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ كَانَ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لِيُقِيمَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ، قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ بَعَثْتَ بِهَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ. فَقَالَ: " لَا يُؤَدِّي عَنِّي إِلَّا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي ". ثُمَّ دَعَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: " اخْرُجْ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ صَدِرَ " بَرَاءَةَ " وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ يَوْمَ النَّحْرِ إِذَا اجْتَمَعُوا بِمِنًى: أَلَا إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ كَافِرٌ، وَلَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ فَهُوَ لَهُ إِلَى مُدَّتِهِ ". فَخَرَجَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَضْبَاءِ حَتَّى أَدْرَكَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ قَالَ: أَمِيرٌ أَوْ مَأْمُورٌ؟ فَقَالَ: بَلْ مَأْمُورٌ. ثُمَّ مَضَيَا فَأَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّاسِ الْحَجَّ، وَالْعَرَبُ إِذْ ذَاكَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ عَلَى مَنَازِلِهِمْ مِنَ الْحَجِّ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ، قَامَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَأَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالَّذِي أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَجَّلَ النَّاسُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ أَذَّنَ فِيهِمْ ; لِيَرْجِعْ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى مَأْمَنِهِمْ وَبِلَادِهِمْ، ثُمَّ لَا عَهْدَ لِمُشْرِكٍ وَلَا ذِمَّةَ إِلَّا أَحَدٍ كَانَ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ، فَهُوَ لَهُ إِلَى مُدَّتِهِ، فَلَمْ يَحُجَّ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، ثُمَّ قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.» وَهَذَا مُرْسَلٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
(7/224)
وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: بَابُ حَجِّ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِالنَّاسِ سَنَةَ تِسْعٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ أَبُو الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بَعَثَهُ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُ فِي النَّاسِ أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ.» .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ ثنا اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ «أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ فِي الْمُؤَذِّنِينَ، بَعَثَهُمْ يَوْمَ النَّحْرِ يُؤَذِّنُونَ بِمِنًى أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ. قَالَ حُمَيْدٌ: ثُمَّ أَرْدَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَلِيٍّ فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِ " بَرَاءَةَ ". قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ فِي أَهْلِ مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ بِ " بَرَاءَةَ " أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ.» .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَنْبَأَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ «أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِيمَنْ يُؤَذِّنُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى. لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ. وَيَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ، وَإِنَّمَا قِيلَ: الْأَكْبَرُ. مِنْ أَجْلِ قَوْلِ النَّاسِ: الْحَجُّ الْأَصْغَرُ. فَنَبَذَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْعَامِ، فَلَمْ يَحُجَّ عَامَ
(7/225)
حَجَّةِ الْوَدَاعِ - الَّذِي حَجَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُشْرِكٌ.» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ بِهِ نَحْوَهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُغِيرَةَ عَنِ الشَّعْبِيِّ «عَنْ مُحَرَّرِ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: مَا كُنْتُمْ تُنَادُونَ؟ قَالَ: كُنَّا نُنَادِي: أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ فَإِنَّ أَجَلَهُ - أَوْ أَمَدَهُ - إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا مَضَتِ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرُ فَإِنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ، وَلَا يَحُجُّ هَذَا الْبَيْتَ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ. قَالَ: فَكُنْتُ أُنَادِي حَتَّى صَحِلَ صَوْتِي.» وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ لَكِنْ فِيهِ نَكَارَةٌ مِنْ جِهَةِ قَوْلِ الرَّاوِي: إِنَّ مَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ فَأَجَلُهُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا ذَاهِبُونَ، وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ فَأَجَلُهُ إِلَى أَمَدِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ وَلَوْ زَادَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ أَمَدٌ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَهُ تَأْجِيلُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، بَقِيَ قِسْمٌ ثَالِثٌ وَهُوَ مَنْ لَهُ أَمَدٌ يَتَنَاهَى إِلَى أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ التَّأْجِيلِ، وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَلْتَحِقَ بِالْأَوَّلِ فَيَكُونَ أَجَلُهُ إِلَى مُدَّتِهِ وَإِنْ قَلَّ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يُؤَجَّلُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ; لِأَنَّهُ أَوْلَى مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ عَهْدٌ بِالْكُلِّيَّةِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(7/226)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ ثنا حَمَّادٌ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بِ " بَرَاءَةَ " مَعَ أَبِي بَكْرٍ فَلَمَّا بَلَغَ ذَا الْحُلَيْفَةِ قَالَ: " لَا يُبَلِّغُهَا إِلَّا أَنَا أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي ". فَبَعَثَ بِهَا مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ» وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ.
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ عَنْ لُوَيْنٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَابِرٍ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ حَنَشٍ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرْدَفَ أَبَا بَكْرٍ بَعَلِيٍّ فَأَخَذَ مِنْهُ الْكِتَابَ بِالْجُحْفَةِ، رَجَعَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَزَلَ فِيَّ شَيْءٌ؟ قَالَ: «لَا، وَلَكِنْ جِبْرِيلُ جَاءَنِي فَقَالَ: لَا يُؤَدِّي عَنْكَ إِلَّا أَنْتَ أَوْ رَجُلٌ مِنْكَ ".» وَهَذَا ضَعِيفُ الْإِسْنَادِ، وَمَتْنُهُ فِيهِ نَكَارَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ زَيْدِ بْنِ يُثَيْعٍ - رَجُلٌ مِنْ هَمْدَانَ - قَالَ: «سَأَلْنَا عَلِيًا: بِأَيِّ شَيْءٍ بُعِثْتَ؟ - يَوْمَ بَعْثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فِي الْحَجَّةِ - قَالَ: بِأَرْبَعٍ ; لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ عَهْدٌ فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ، وَلَا
(7/227)
يَحُجُّ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُسْلِمُونَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا.» وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ - هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ - عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ يُثَيْعٍ عَنْ عَلِيٍّ بِهِ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فَقَالَ: عَنْ زَيْدِ بْنِ أُثَيْلٍ وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، عَنْ عَلِيٍّ.
قُلْتُ: وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ حَدِيثِ مَعْمَرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ أَخْبَرَنَا أَبُو زُرْعَةَ وَهْبُ اللَّهِ بْنُ رَاشِدٍ أَخْبَرَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو صَخْرٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا مُعَاوِيَةَ الْبَجَلِيَّ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا الصَّهْبَاءِ الْبَكْرِيَّ وَهُوَ يَقُولُ: سَأَلْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَنْ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فَقَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي قُحَافَةَ يُقِيمُ لِلنَّاسِ الْحَجَّ، وَبَعَثَنِي مَعَهُ بِأَرْبَعِينَ آيَةً مِنْ " بَرَاءَةَ " حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ، فَخَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَلَمَّا قَضَى خُطْبَتَهُ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ: قُمْ
(7/228)
يَا عَلِيُّ فَأَدِّ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقُمْتُ، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ آيَةً مِنْ " بَرَاءَةَ "، ثُمَّ صَدَرْنَا فَأَتَيْنَا مِنًى، فَرَمَيْتُ الْجَمْرَةَ، وَنَحَرْتُ الْبَدَنَةَ ثُمَّ حَلَقْتُ رَأْسِي، وَعَلِمْتُ أَنَّ أَهْلَ الْجَمْعِ لَمْ يَكُونُوا حُضُورًا كُلُّهُمْ خُطْبَةَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَوْمَ عَرَفَةَ، فَطَفِقْتُ أَتَتَبَّعُ بِهَا الْفَسَاطِيطَ أَقْرَؤُهَا عَلَيْهِمْ. قَالَ عَلِيٌّ: فَمِنْ ثَمَّ إِخَالُ حَسِبْتُمْ أَنَّهُ يَوْمُ النَّحْرِ، أَلَا وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ.» وَقَدْ تَقَصَّيْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا الْمَقَامِ فِي " التَّفْسِيرِ ". وَذَكَرْنَا أَسَانِيدَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ فِي ذَلِكَ مَبْسُوطًا بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَقَدْ كَانَ خَرَجَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ مِنَ الْمَدِينَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مَعَهُ بِخَمْسِ بَدَنَاتٍ، وَبَعَثَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِشْرِينَ بَدَنَةً، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِعَلِيٍّ فَلَحِقَهُ بِالْعَرْجِ فَنَادَى بِ " بَرَاءَةَ " أَمَامَ الْمَوْسِمِ. .
[الْأُمُورُ الْحَادِثَةُ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ]
فَصْلٌ (الْأُمُورُ الْحَادِثَةُ سَنَةَ تِسْعٍ) .
كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي فِي سَنَةِ تِسْعٍ - مِنَ الْأُمُورِ الْحَادِثَةِ غَزْوَةُ تَبُوكَ فِي
(7/229)
رَجَبٍ مِنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِي رَجَبٍ مِنْهَا مَاتَ النَّجَاشِيُّ صَاحِبُ الْحَبَشَةِ وَنَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى النَّاسِ. وَفِي شَعْبَانَ مِنْهَا - أَيْ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - تُوُفِّيَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَغَسَّلَتْهَا أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، وَصَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَقِيلَ: غَسَّلَهَا نِسْوَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فِيهِمْ أُمُّ عَطِيَّةَ.
قُلْتُ: وَهَذَا ثَابِتٌ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "، وَثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَيْضًا أَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لَمَّا صَلَّى عَلَيْهَا وَأَرَادَ دَفْنَهَا قَالَ: " «لَا يَدْخُلُهُ أَحَدٌ قَارَفَ اللَّيْلَةَ أَهْلَهُ» ". فَامْتَنَعَ زَوْجُهَا عُثْمَانُ لِذَلِكَ، وَدَفَنَهَا أَبُو طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَذَا الْكَلَامِ مَنْ كَانَ يَتَوَلَّى ذَلِكَ مِمَّنْ يَتَبَرَّعُ بِالْحَفْرِ وَالدَّفْنِ مِنَ الصَّحَابَةِ كَأَبِي عُبَيْدَةَ وَأَبِي طَلْحَةَ وَمَنْ شَابَهَهُمْ فَقَالَ: " «لَا يَدْخُلُ قَبْرَهَا إِلَّا مَنْ لَمْ يُقَارِفْ أَهْلَهُ مِنْ هَؤُلَاءِ» ". إِذْ يَبْعُدُ أَنَّ عُثْمَانَ كَانَ عِنْدَهُ غَيْرُ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هَذَا بَعِيدٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا صَالَحَ مَلِكَ أَيْلَةَ وَأَهْلَ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ وَصَاحِبَ دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مَوَاضِعِهِ. وَفِيهَا هَدْمُ مَسْجِدِ الضِّرَارِ الَّذِي بَنَاهُ جَمَاعَةُ الْمُنَافِقِينَ صُورَةَ مَسْجِدٍ، وَهُوَ دَارُ حَرْبٍ فِي الْبَاطِنِ فَأَمَرَ بِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ،
(7/230)
فَحُرِّقَ. وَفِي رَمَضَانَ مِنْهَا قَدِمَ وَفْدُ ثَقِيفٍ فَصَالَحُوا عَنْ قَوْمِهِمْ وَرَجَعُوا إِلَيْهِمْ بِالْأَمَانِ، وَكُسِّرَتِ اللَّاتُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ، لَعَنَهُ اللَّهُ، فِي أَوَاخِرِهَا، وَقَبْلَهُ بِأَشْهُرٍ تُوُفِّيَ مُعَاوِيَةُ بْنُ مُعَاوِيَةَ اللَّيْثِيُّ - أَوِ الْمُزَنِيُّ - وَهُوَ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ نَازِلٌ بِتَبُوكَ إِنْ صَحَّ الْخَبَرُ فِي ذَلِكَ، وَفِيهَا حَجَّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِالنَّاسِ عَنْ إِذْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَفِيهَا كَانَ قَدُومُ عَامَّةِ وُفُودِ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، وَلِذَلِكَ تُسَمَّى سَنَةُ تِسْعٍ سَنَةَ الْوُفُودِ، وَهَا نَحْنُ نَعْقِدُ لِذَلِكَ كِتَابًا بِرَأْسِهِ اقْتِدَاءً بِالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ.
(7/231)
[كِتَابُ الْوُفُودِ الْوَارِدِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]
[بِدَايَةُ مَقْدَمِ الْوُفُودِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ وَفَرَغَ مِنْ تَبُوكَ وَأَسْلَمَتْ ثَقِيفٌ وَبَايَعَتْ، ضَرَبَتْ إِلَيْهِ وُفُودُ الْعَرَبِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّ ذَلِكَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ، وَأَنَّهَا كَانَتْ تُسَمَّى سَنَةَ الْوُفُودِ - قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَإِنَّمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَرَبَّصُ بِإِسْلَامِهَا أَمْرَ هَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ ; لِأَنَّ قُرَيْشًا كَانُوا إِمَامَ النَّاسِ وَهَادِيَهُمْ، وَأَهْلَ الْبَيْتِ وَالْحَرَمِ، وَصَرِيحَ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَقَادَةَ الْعَرَبِ، لَا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ هِيَ الَّتِي نَصَبَتِ الْحَرْبَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخِلَافَهُ، فَلَمَّا افْتُتِحَتْ مَكَّةُ وَدَانَتْ لَهُ قُرَيْشٌ، وَدَوَّخَهَا الْإِسْلَامُ، عَرَفَتِ الْعَرَبُ أَنَّهُمْ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِحَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَدَاوَتِهِ، فَدَخَلُوا فِي دِينِ اللَّهِ - كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ - أَفْوَاجًا، يَضْرِبُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 1] (النَّصْرِ: 1 - 3) أَيْ فَاحْمَدِ اللَّهَ عَلَى مَا أَظْهَرَ مِنْ دِينِكَ، وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا.
وَقَدْ قَدَّمْنَا حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَلَوَّمُ بِإِسْلَامِهِمْ
(7/232)
الْفَتْحَ فَيَقُولُونَ: اتْرُكُوهُ وَقَوْمَهُ، فَإِنَّهُ إِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَهُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ. فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ أَهْلِ الْفَتْحِ بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلَامِهِمْ، وَبَدَرَ أَبِي قَوْمِي بِإِسْلَامِهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: جِئْتُكُمْ وَاللَّهِ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ حَقًّا، قَالَ: " صَلُّوا صَلَاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا وَصَلَاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا ". وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ وَهُوَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ".
قُلْتُ: وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ثُمَّ الْوَاقِدِيُّ وَالْبُخَارِيُّ ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَهُمْ، مِنَ الْوُفُودِ مَا هُوَ مُتَقَدِّمٌ تَارِيخَ قُدُومِهِمْ عَلَى سَنَةِ تِسْعٍ، بَلْ وَعَلَى فَتْحِ مَكَّةَ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10] (الْحَدِيدِ: 10) . وَتُقَدَّمَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ: «لَا هِجْرَةَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ ".» فَيَجِبُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ السَّابِقِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْوَافِدِينَ عَلَى زَمَنِ الْفَتْحِ مِمَّنْ يُعَدُّ وُفُودُهُ هِجْرَةً، وَبَيْنَ اللَّاحِقِ لَهُمْ بَعْدَ الْفَتْحِ مِمَّنْ وَعَدَهُ اللَّهُ خَيْرًا وَحُسْنًى، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ كَالسَّابِقِ لَهُ فِي الزَّمَانِ وَالْفَضِيلَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةَ الَّذِينَ اعْتَنَوْا بِإِيرَادِ الْوُفُودِ قَدْ تَرَكُوا فِيمَا أَوْرَدُوهُ أَشْيَاءَ لَمْ يَذْكُرُوهَا، وَنَحْنُ نُورِدُ بِحَمْدِ اللَّهِ وَمَنِّهِ مَا ذَكَرُوهُ، وَنُنَبِّهُ عَلَى مَا يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، وَنَذْكُرُ مَا وَقَعَ لَنَا مِمَّا أَهْمَلُوهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ عَنْ
(7/233)
أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ وَفَدَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُضَرَ أَرْبَعُمِائَةٍ مِنْ مُزَيْنَةَ، وَذَلِكَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ خَمْسٍ، فَجَعَلَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْهِجْرَةَ فِي دَارِهِمْ وَقَالَ: «أَنْتُمْ مُهَاجِرُونَ حَيْثُ كُنْتُمْ، فَارْجِعُوا إِلَى أَمْوَالِكُمْ ".» فَرَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ عَنْ هِشَامِ بْنِ الْكَلْبِيِّ بِإِسْنَادِهِ، أَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَدِمَ مِنْ مُزَيْنَةَ خُزَاعِيُّ بْنُ عَبْدِ نُهْمٍ وَمَعَهُ عَشَرَةٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَبَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِسْلَامِ قَوْمِهِ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَيْهِمْ لَمْ يَجِدْهُمْ كَمَا ظَنَّ فِيهِمْ، فَتَأَخَّرُوا عَنْهُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ أَنْ يُعَرِّضَ بِخُزَاعِيٍّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَهْجُوَهُ، فَذَكَرَ أَبْيَاتًا، فَلَمَّا بَلَغَتْ خُزَاعِيًّا شَكَى ذَلِكَ إِلَى قَوْمِهِ، فَحَمُوا لَهُ، وَأَسْلَمُوا مَعَهُ، وَقَدِمَ بِهِمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِوَاءَ مُزَيْنَةَ - وَكَانُوا يَوْمَئِذٍ أَلْفًا - إِلَى خُزَاعِيٍّ هَذَا. قَالَ: وَهُوَ أَخُو عَبْدِ اللَّهِ ذِي الْبِجَادَيْنِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: بَابُ وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي صَخْرَةَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ الْمَازِنِيِّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: «أَتَى نَفَرٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا. فَرُئِيَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، فَجَاءَ نَفَرٌ مِنَ الْيَمَنِ، فَقَالَ: " اقْبَلُوا الْبُشْرَى إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ ". قَالُوا: قَدْ قَبِلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ.» ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ
(7/234)
ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ «قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمِّرِ الْقَعْقَاعَ بْنَ مَعْبَدِ بْنِ زُرَارَةَ. فَقَالَ عُمَرُ: بَلْ أَمِّرِ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَرَدْتَ إِلَّا خِلَافِي. فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَرَدْتُ خِلَافَكَ. فَتَمَارَيَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، فَنَزَلَتْ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] (الْحُجُرَاتِ: 1) حَتَّى انْقَضَتْ.» وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ بِأَلْفَاظٍ أُخَرَ، قَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي " التَّفْسِيرِ " عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] الْآيَةَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا قَدِمَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُفُودُ الْعَرَبِ، قَدِمَ عَلَيْهِ عُطَارِدُ بْنُ حَاجِبِ بْنِ زُرَارَةَ بْنِ عُدُسٍ التَّمِيمِيُّ فِي أَشْرَافِ بَنِي تَمِيمٍ، مِنْهُمْ ; الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ وَالزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ التَّمِيمِيُّ أَحَدُ بَنِي سَعْدٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ وَالْحَبْحَابُ بْنُ يَزِيدَ وَنُعَيْمُ بْنُ يَزِيدَ وَقَيْسُ بْنُ الْحَارِثِ وَقَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ أَخُو بَنِي سَعْدٍ، فِي وَفْدٍ عَظِيمٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَمَعَهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيُّ وَقَدْ كَانَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وعُيَيْنَةُ شَهِدَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتْحَ مَكَّةَ وَحُنَيْنًا وَالطَّائِفَ، فَلَمَّا قَدِمَ
(7/235)
وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ كَانَا مَعَهُمْ فَلَمَّا دَخَلُوا الْمَسْجِدَ نَادَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَرَاءِ حُجُرَاتِهِ ; أَنِ اخْرُجْ إِلَيْنَا يَا مُحَمَّدُ. فَآذَى ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صِيَاحِهِمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، جِئْنَاكَ نُفَاخِرُكَ، فَأْذَنْ لِشَاعِرِنَا وَخَطِيبِنَا. قَالَ: " قَدْ أَذِنْتُ لِخَطِيبِكُمْ فَلْيَقُلْ ". فَقَامَ عُطَارِدُ بْنُ حَاجِبٍ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ عَلَيْنَا الْفَضْلُ وَالْمَنُّ وَهُوَ أَهْلُهُ، الَّذِي جَعَلَنَا مُلُوكًا، وَوَهَبَ لَنَا أَمْوَالًا عِظَامًا نَفْعَلُ فِيهَا الْمَعْرُوفَ، وَجَعَلَنَا أَعَزَّ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَأَكْثَرُهُ عَدَدًا، وَأَيْسَرَهُ عُدَّةً، فَمَنْ مِثْلُنَا فِي النَّاسِ؟ أَلَسْنَا بِرُءُوسِ النَّاسِ وَأُولِي فَضْلِهِمْ؟ فَمَنْ فَاخَرَنَا فَلْيُعَدِّدْ مِثْلَ مَا عَدَّدْنَا، وَإِنَّا لَوْ نَشَاءُ لَأَكْثَرْنَا الْكَلَامَ، وَلَكِنْ نَسْتَحِي مِنَ الْإِكْثَارِ فِيمَا أَعْطَانَا، وَإِنَّا نُعْرَفُ بِذَلِكَ، أَقُولُ هَذَا لَأَنْ تَأْتُوا بِمِثْلِ قَوْلِنَا، وَأَمْرٍ أَفْضَلَ مِنْ أَمْرِنَا. ثُمَّ جَلَسَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ أَخِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ: " قُمْ فَأَجِبِ الرَّجُلَ فِي خُطْبَتِهِ ". فَقَامَ ثَابِتٌ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ خَلْقُهُ قَضَى فِيهِنَّ أَمْرُهُ، وَوَسِعَ كُرْسِيَّهُ عِلْمُهُ، وَلَمْ يَكُ شَيْءٌ قَطُّ إِلَّا مِنْ فَضْلِهِ، ثُمَّ كَانَ مِنْ قُدْرَتِهِ أَنْ جَعَلَنَا مُلُوكًا، وَاصْطَفَى مِنْ خَيْرِ خَلْقِهِ رَسُولًا، أَكْرَمَهُ نَسَبًا، وَأَصْدَقَهُ حَدِيثًا، وَأَفْضَلَهُ حَسَبًا، فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابًا، وَائْتَمَنَهُ عَلَى خَلْقِهِ، فَكَانَ خِيرَةَ اللَّهِ مِنَ الْعَالَمِينَ، ثُمَّ دَعَا النَّاسَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، فَآمَنَ بِرَسُولِ اللَّهِ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قَوْمِهِ وَذَوِي رَحِمِهِ، أَكْرَمُ النَّاسِ أَحْسَابًا، وَأَحْسَنُ النَّاسِ وُجُوهًا، وَخَيْرُ النَّاسِ فِعَالًا، ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ الْخَلْقِ إِجَابَةً
(7/236)
وَاسْتَجَابَ لِلَّهِ حِينَ دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْنُ، فَنَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ وُزَرَاءُ رَسُولِهِ، نُقَاتِلُ النَّاسَ حَتَّى يُؤْمِنُوا، فَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مَنَعَ مَالَهُ وَدَمَهُ، وَمَنْ كَفَرَ جَاهَدْنَاهُ فِي اللَّهِ أَبَدًا، وَكَانَ قَتْلُهُ عَلَيْنَا يَسِيرًا، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ. فَقَامَ الزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ فَقَالَ:
نَحْنُ الْكِرَامُ فَلَا حَيٌّ يُعَادِلُنَا ... مِنَّا الْمُلُوكُ وَفِينَا تُنْصَبُ الْبِيَعُ
وَكَمْ قَسَرْنَا مِنَ الْأَحْيَاءِ كُلِّهِمْ ... عِنْدَ النِّهَابِ وَفَضْلُ الْعِزِّ يُتَّبَعُ
وَنَحْنُ يُطْعِمُ عِنْدَ الْقَحْطِ مُطْعِمُنَا ... مِنَ الشِّوَاءِ إِذَا لَمْ يُؤْنَسِ الْقَزَعُ
بِمَا تَرَى النَّاسُ تَأْتِينَا سُرَاتُهُمْ ... مِنْ كُلِّ أَرْضٍ هُوِيًّا ثُمَّ نَصْطَنِعُ
فَنَنْحَرُ الْكُومَ عَبْطًا فِي أَرْوِمَتِنَا ... لِلنَّازِلِينَ إِذَا مَا أُنْزِلُوا شَبِعُوا
فَمَا تَرَانَا إِلَى حَيٍّ نُفَاخِرُهُمْ ... إِلَّا اسْتَفَادُوا فَكَانُوا الرَّأْسَ يُقْتَطَعُ
فَمَنْ يُفَاخِرُنَا فِي ذَاكَ نَعْرِفُهُ ... فَيَرْجِعُ الْقَوْمُ وَالْأَخْبَارُ تُسْتَمَعُ
إِنَّا أَبَيْنَا وَلَمْ يَأْبَى لَنَا أَحَدٌ ... إِنَّا كَذَلِكَ عِنْدَ الْفَخْرِ نَرْتَفِعُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ غَائِبًا فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ حَسَّانُ: فَجَاءَنِي رَسُولُهُ، فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ إِنَّمَا دَعَانِي لِأُجِيبَ شَاعِرَ
(7/237)
بَنِي تَمِيمٍ. قَالَ: فَخَرَجْتُ وَأَنَا أَقُولُ:
مَنَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ إِذْ حَلَّ وَسْطَنَا ... عَلَى أَنْفِ رَاضٍ مِنْ مَعَدٍّ وَرَاغِمِ
مَنَعْنَاهُ لَمَّا حَلَّ بَيْنَ بُيُوتِنَا ... بِأَسْيَافِنَا مِنْ كُلِّ بَاغٍ وَظَالِمِ
بِبَيْتٍ حَرِيدٍ عِزُّهُ وَثَرَاؤُهُ ... بِجَابِيَةِ الْجَوْلَانِ وَسْطَ الْأَعَاجِمِ
هَلِ الْمَجْدُ إِلَّا السُّؤْدُدُ الْعَوْدُ وَالنَّدَى ... وَجَاهُ الْمُلُوكِ وَاحْتِمَالُ الْعَظَائِمِ
قَالَ: فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَامَ شَاعِرُ الْقَوْمِ فَقَالَ مَا قَالَ، عَرَضْتُ فِي قَوْلِهِ، وَقُلْتُ عَلَى نَحْوِ مَا قَالَ. قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ الزِّبْرِقَانُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ: " قُمْ يَا حَسَّانُ فَأَجِبِ الرَّجُلَ فِيمَا قَالَ ". فَقَالَ حَسَّانُ:
إِنَّ الذَّوَائِبَ مِنْ فِهْرٍ وَإِخْوَتِهِمْ ... قَدْ بَيَّنُوا سُنَّةً لِلنَّاسِ تُتَّبَعُ
يَرْضَى بِهَا كُلُّ مَنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ ... تَقْوَى الْإِلَهِ وَكُلَّ الْخَيْرِ يَصْطَنِعُ
قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا ضَرُّوا عَدُوَّهُمْ ... أَوْ حَاوَلُوا النَّفْعَ فِي أَشْيَاعِهِمْ نَفَعُوا
سَجِيَّةٌ تِلْكَ مِنْهُمْ غَيْرُ مُحْدَثَةٍ ... إِنَّ الْخَلَائِقَ فَاعْلَمْ شَرُّهَا الْبِدَعُ
إِنْ كَانَ فِي النَّاسِ سَبَّاقُونَ بَعْدَهُمُ ... فَكُلُّ سَبْقٍ لِأَدْنَى سَبْقِهِمْ تَبَعُ
(7/238)
لَا يَرْقَعُ النَّاسُ مَا أَوْهَتْ أَكُفُّهُمْ
عِنْدَ الدِّفَاعِ وَلَا يُوهُونَ مَا رَقَعُوا ... إِنْ سَابَقُوا النَّاسَ يَوْمًا فَازَ سَبْقُهُمُ
أَوْ وَازَنُوا أَهْلَ مَجْدٍ بِالنَّدَى مَتَعُوا ... أَعِفَّةٌ ذُكِرَتْ فِي الْوَحْيِ عِفَّتُهُمْ
لَا يَطْمَعُونَ وَلَا يُرْدِيهِمْ طَمَعُ ... لَا يَبْخَلُونَ عَلَى جَارٍ بِفَضْلِهِمُ
وَلَا يَمَسُّهُمْ مِنْ مَطْمَعٍ طَبَعُ ... إِذَا نَصَبْنَا لِحَيٍّ لَمْ نَدِبَّ لَهُمْ
كَمَا يَدِبُّ إِلَى الْوَحْشِيَّةِ الذَّرَعُ ... نَسْمُوا إِذَا الْحَرْبُ نَالَتْنَا مَخَالِبُهَا
إِذَا الزَّعَانِفُ مِنْ أَظْفَارِهَا خَشَعُوا ... لَا يَفْخَرُونَ إِذَا نَالُوا عَدُوَّهُمُ
وَإِنْ أُصِيبُوا فَلَا خُورٌ وَلَا هُلُعُ ... كَأَنَّهُمْ فِي الْوَغَى وَالْمَوْتُ مُكْتَنِعٌ
أُسْدٌ بِحَلْيَةَ فِي أَرْسَاغِهَا فَدَعُ ... خُذْ مِنْهُمْ مَا أَتَوْا عَفْوًا إِذَا غَضِبُوا
وَلَا يَكُنْ هَمُّكَ الْأَمْرَ الَّذِي مَنَعُوا ... فَإِنَّ فِي حَرْبِهِمْ فَاتْرُكْ عَدَاوَتَهُمْ
شَرًّا يُخَاضُ عَلَيْهِ السُّمُّ وَالسَّلَعُ ... أَكْرِمْ بِقَوْمٍ رَسُولُ اللَّهِ شِيعَتُهُمْ
إِذَا تَفَاوَتَتِ الْأَهْوَاءُ وَالشِّيَعُ ... أَهْدَى لَهُمْ مِدْحَتِي قَلْبٌ يُؤَازِرُهُ
فِيمَا أُحِبُّ لِسَانٌ حَائِكٌ صَنَعُ
(7/239)
فَإِنَّهُمْ أَفْضَلُ الْأَحْيَاءِ كُلِّهِمُ ... إِنْ جَدَّ فِي النَّاسِ جَدُّ الْقَوْلُ أَوْ شَمَعُوا
وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَأَخْبَرَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ أَنَّ الزِّبْرِقَانَ لَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ قَامَ فَقَالَ:
أَتَيْنَاكَ كَيْمَا يَعْلَمُ النَّاسُ فَضْلَنَا ... إِذَا اخْتَلَفُوا عِنْدَ احْتِضَارِ الْمَوَاسِمِ
بِأَنَّا فُرُوعُ النَّاسِ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ ... وَأَنْ لَيْسَ فِي أَرْضِ الْحِجَازِ كَدَارِمِ
وَأَنَّا نَذُودُ الْمُعْلِمِينَ إِذَا انْتَخَوْا ... وَنَضْرِبُ رَأْسَ الْأَصْيَدِ الْمُتَفَاقِمِ
وَأَنَّ لَنَا الْمِرْبَاعَ فِي كُلِّ غَارَةٍ ... نُغِيرُ بِنَجْدٍ أَوْ بِأَرْضِ الْأَعَاجِمِ
قَالَ: فَقَامَ حَسَّانُ فَأَجَابَهُ فَقَالَ:
هَلِ الْمَجْدُ إِلَّا السُّؤْدُدُ الْعَوْدُ وَالنَّدَى ... وَجَاهُ الْمُلُوكِ وَاحْتِمَالُ الْعَظَائِمِ
نَصَرْنَا وَآوَيْنَا النَّبِيَّ مُحَمَّدًا ... عَلَى أَنْفِ رَاضٍ مِنْ مَعَدٍّ وَرَاغِمِ
بِحَيٍّ حَرِيدٍ أَصْلُهُ وَثَرَاؤُهُ ... بِجَابِيَةِ الْجَوْلَانِ وَسْطَ الْأَعَاجِمِ
نَصَرْنَاهُ لَمَّا حَلَّ بَيْنَ دِيَارِنَا ... بِأَسْيَافِنَا مِنْ كُلِّ بَاغٍ وَظَالِمِ
جَعَلْنَا بَنِينَا دُونَهُ وَبَنَاتِنَا ... وَطِبْنَا لَهُ نَفْسًا بِفَيْءِ الْمَغَانِمِ
وَنَحْنُ ضَرَبْنَا النَّاسَ حَتَّى تَتَابَعُوا ... عَلَى دِينِهِ بِالْمُرْهَفَاتِ الصَّوَارِمِ
(7/240)
وَنَحْنُ وَلَدْنَا مِنْ قُرَيْشٍ عَظِيمَهَا
وَلَدْنَا نَبِيَّ الْخَيْرِ مِنْ آلِ هَاشِمِ ... بَنِي دَارِمٍ لَا تَفْخَرُوا إِنَّ فَخْرَكُمْ
يَعُودُ وَبَالًا عِنْدَ ذِكْرِ الْمَكَارِمِ ... هَبِلْتُمْ عَلَيْنَا تَفْخَرُونَ وَأَنْتُمُ
لَنَا خَوَلٌ مِنْ بَيْنِ ظِئْرٍ وَخَادِمِ ... فَإِنْ كُنْتُمُ جِئْتُمْ لِحَقْنِ دِمَائِكُمْ
وَأَمْوَالِكُمْ أَنْ تُقْسَمُوا فِي الْمَقَاسِمِ ... فُلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ نِدًّا وَأَسْلِمُوا
وَلَا تَلْبَسُوا زِيًّا كَزِيِّ الْأَعَاجِمِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا فَرَغَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ مِنْ قَوْلِهِ، قَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ: وَأَبِي إِنَّ هَذَا لَمُؤَتًّى لَهُ، لَخَطِيبُهُ أَخْطَبُ مِنْ خَطِيبِنَا، وَلَشَاعِرُهُ أَشْعَرُ مِنْ شَاعِرِنَا، وَلَأَصْوَاتُهُمْ أَعْلَى مِنْ أَصْوَاتِنَا. قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ الْقَوْمُ أَسْلَمُوا، وَجَوَّزَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَحْسَنَ جَوَائِزَهُمْ، وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ قَدْ خَلَّفَهُ الْقَوْمُ فِي رِحَالِهِمْ، وَكَانَ أَصْغَرَهُمْ سِنًّا، فَقَالَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ، وَكَانَ يَبْغُضُ عَمْرَو بْنَ الْأَهْتَمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ قَدْ كَانَ رَجُلٌ مِنَّا فِي رِحَالِنَا، وَهُوَ غُلَامٌ حَدَثٌ. وَأَزْرَى بِهِ. فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَا أَعْطَى الْقَوْمَ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ قَيْسًا قَالَ ذَلِكَ يَهْجُوهُ:
ظَلِلْتَ مُفْتَرِشَ الْهَلْبَاءِ تَشْتُمُنِي ... عِنْدَ الرَّسُولِ فَلَمْ تَصْدُقْ وَلَمْ تُصِبِ
سُدْنَاكُمْ سُؤْدُدًا رَهْوًا وَسُؤْدُدُكُمْ ... بَادٍ نَوَاجِذُهُ مُقْعٍ عَلَى الذَّنْبِ
(7/241)
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ الْحَنْظَلِيِّ قَالَ: «قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ وَقَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ فَقَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْأَهْتَمِ: " أَخْبِرْنِي عَنِ الزِّبْرِقَانِ فَأَمَّا هَذَا فَلَسْتُ أَسْأَلُكَ عَنْهُ ". وَأَرَاهُ كَانَ قَدْ عَرَفَ قَيْسًا. قَالَ: فَقَالَ: مُطَاعٌ فِي أَدْنَيْهِ، شَدِيدُ الْعَارِضَةِ، مَانِعٌ لِمَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ. فَقَالَ الزِّبْرِقَانُ: قَدْ قَالَ مَا قَالَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنِّي أَفْضَلُ مِمَّا قَالَ. قَالَ: فَقَالَ عَمْرٌو: وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُكَ إِلَّا زَمِرَ الْمُرُوءَةِ، ضَيِّقَ الْعَطَنِ، أَحْمَقَ الْأَبِ، لَئِيمَ الْخَالِ. ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ صَدَقْتُ فِيهِمَا جَمِيعًا ; أَرْضَانِي فَقُلْتُ بِأَحْسَنِ مَا أَعْلَمُ فِيهِ، وَأَسْخَطَنِي فَقُلْتُ بِأَسْوَءَ مَا أَعْلَمُ فِيهِ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا ".» وَهَذَا مُرْسَلٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَوْصُولًا أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ كَامِلُ بْنُ أَحْمَدَ الْمُسْتَمْلِي ثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ الْبَغْدَادِيُّ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْعَلَّافُ بِبَغْدَادَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ الطَّائِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو سَعْدِ بْنُ الْهَيْثَمِ بْنِ مَحْفُوظٍ عَنْ أَبِي الْمُقَوِّمِ يَحْيَى بْنِ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ
(7/242)
الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «جَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ وَالزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ التَّمِيمِيُّونَ، فَفَخَرَ الزِّبْرِقَانُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا سَيِّدُ بَنِي تَمِيمٍ، وَالْمُطَاعُ فِيهِمْ وَالْمُجَابُ، أَمْنَعُهُمْ مِنَ الظُّلْمِ، وَآخُذُ لَهُمْ بِحُقُوقِهِمْ، وَهَذَا يَعْلَمُ ذَلِكَ. يَعْنِي عَمْرَو بْنَ الْأَهْتَمِ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ: إِنَّهُ لَشَدِيدُ الْعَارِضَةِ، مَانِعٌ لِجَانِبِهِ، مُطَاعٌ فِي أَدْنَيْهِ. فَقَالَ الزِّبْرِقَانُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ عَلِمَ مِنِّي غَيْرَ مَا قَالَ، وَمَا مَنَعَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ إِلَّا الْحَسَدُ. فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ: أَنَا أَحْسُدُكَ؟ ! فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَلَئِيمُ الْخَالِ، حَدِيثُ الْمَالِ، أَحْمَقُ الْوَالِدِ، مُضَيَّعٌ فِي الْعَشِيرَةِ. وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ صَدَقْتُ فِيمَا قُلْتُ أَوَّلًا، وَمَا كَذَبْتُ فِيمَا قُلْتُ آخِرًا، وَلَكِنِّي رِجْلٌ إِذَا رَضِيتُ قُلْتُ أَحْسَنَ مَا عَلِمْتُ، وَإِذَا غَضِبْتُ قُلْتُ أَقْبَحَ مَا وَجَدْتُ، وَلَقَدْ صَدَقْتُ فِي الْأُولَى وَالْأُخْرَى جَمِيعًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا» وَهَذَا إِسْنَادٌ غَرِيبٌ جِدًّا.
وَقَدْ ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ سَبَبَ قُدُومِهِمْ وَهُوَ أَنَّهُ كَانُوا قَدْ شَهَرُوا السِّلَاحَ عَلَى خُزَاعَةَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُيَيْنَةَ بْنَ بَدْرٍ فِي خَمْسِينَ لَيْسَ فِيهِمْ أَنْصَارِيٌّ وَلَا مُهَاجِرِيٌّ، فَأَسَرَ مِنْهُمْ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا، وَإِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً، وَثَلَاثِينَ صَبِيًّا، فَقَدِمَ رُؤَسَاؤُهُمْ بِسَبَبِ أُسَرَائِهِمْ، وَيُقَالُ: قَدِمَ مِنْهُمْ تِسْعُونَ أَوْ ثَمَانُونَ رَجُلًا فِي ذَلِكَ، مِنْهُمْ ; عُطَارِدٌ وَالزِّبْرِقَانُ وَقَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ وَقَيْسُ بْنُ
(7/243)
الْحَارِثِ وَنُعَيْمُ بْنُ سَعْدٍ وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَرَبَاحُ بْنُ الْحَارِثِ وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ فَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ وَقَدْ أَذَّنَ بِلَالٌ الظُّهْرَ، وَالنَّاسُ يَنْتَظِرُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَخْرُجَ إِلَيْهِمْ، فَعَجِلَ هَؤُلَاءِ، فَنَادَوْهُ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ، فَنَزَلَ فِيهِمْ مَا نَزَلَ. ثُمَّ ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ خَطِيبَهُمْ وَشَاعِرَهُمْ، وَأَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَجَازَهُمْ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةٍ وَنَشًّا، إِلَّا عَمْرَو بْنَ الْأَهْتَمِ فَإِنَّمَا أُعْطِيَ خَمْسَ أَوَاقٍ لِحَدَاثَةِ سِنِّهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَنَزَلَ فِيهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 4] .
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَمَّارٍ الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ الْمَرْوَزِيُّ حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} [الحجرات: 4] قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ حَمْدِي زَيْنٌ وَذَمِّي شَيْنٌ. فَقَالَ: ذَاكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ مُتَّصِلٌ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وقَتَادَةَ مُرْسَلًا عَنْهُمَا، وَقَدْ وَقَعَ تَسْمِيَةُ هَذَا الرَّجُلِ ; فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ ثنا وُهَيْبٌ ثنا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ أَنَّهُ «نَادَى رَسُولَ
(7/244)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ - وَفِي رِوَايَةٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - فَلَمْ يُجِبْهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ حَمْدِي لَزَيْنٌ، وَإِنَّ ذَمِّي لَشَيْنٌ. فَقَالَ: " ذَاكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ".» .
[حَدِيثٌ فِي فَضْلِ بَنِي تَمِيمٍ]
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَا أَزَالُ أُحِبُّ بَنِي تَمِيمٍ بَعْدَ ثَلَاثٍ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُهَا فِيهِمْ: " هُمْ أَشَدُّ أُمَّتِي عَلَى الدَّجَّالِ ". وَكَانَتْ فِيهِمْ سَبِيَّةٌ عِنْدَ عَائِشَةَ فَقَالَ: " أَعْتِقِيهَا ; فَإِنَّهَا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ ". وَجَاءَتْ صَدَقَاتُهُمْ فَقَالَ: " هَذِهِ صَدَقَاتُ قَوْمٍ - أَوْ: قُومِي - ".» وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ بِهِ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ " الْحَمَاسَةِ " وَغَيْرُهُ مِنْ شِعْرٍ مِنْ ذَمِّهِمْ، حَيْثُ يَقُولُ:
تَمِيمٌ بِطُرُقِ اللُّؤْمِ أَهْدَى مِنَ الْقَطَا ... وَلَوْ سَلَكَتْ طُرُقَ الرَّشَادِ لَضَلَّتِ
وَلَوْ أَنَّ بُرْغُوثًا عَلَى ظَهْرِ قَمْلَةٍ ... رَأَتْهُ تَمِيمٌ مِنْ بَعِيدٍ لَوَلَّتِ
(7/245)
[وَفْدُ بَنِي عَبْدِ الْقَيْسِ]
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ بَعْدَ وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ: بَابُ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ حَدَّثَنَا قُرَّةُ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ: «قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنْ لِي جَرَّةً يُنْتَبَذُ لِي فِيهَا نَبِيذٌ فَأَشْرَبُهُ حُلْوًا فِي جَرٍّ، إِنْ أَكْثَرْتُ مِنْهُ فَجَالَسْتُ الْقَوْمَ فَأَطَلْتُ الْجُلُوسَ، خَشِيتُ أَنْ أَفْتَضِحَ. فَقَالَ: قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا النَّدَامَى ". فَقَالَ: يَا رَسُولُ اللَّهِ، إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ مُضَرَ، وَإِنَّا لَا نَصِلُ إِلَيْكَ إِلَّا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَحَدِّثْنَا بِجُمَلٍ مِنَ الْأَمْرِ إِنْ عَمِلْنَا بِهِ دَخَلْنَا الْجَنَّةَ، وَنَدْعُو بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا. قَالَ: " آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ ; الْإِيمَانُ بِاللَّهِ هَلْ تَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ الْمَغَانِمِ الْخَمْسِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ ; مَا يُنْتَبَذُ فِي الدُّبَّاءِ وَالنَّقِيرِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ» وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(7/246)
مِنْ حَدِيثِ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ بِهِ، وَلَهُ طُرُقٌ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي حَمْزَةَ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي " مُسْنَدِهِ ": حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: «إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مِمَّنِ الْقَوْمُ؟ " قَالُوا: مِنْ رَبِيعَةَ. قَالَ: " مَرْحَبًا بِالْوَفْدِ غَيْرِ الْخَزَايَا وَلَا النَّدَامَى ". فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا حَيٌّ مِنْ رَبِيعَةَ، وَإِنَّا نَأْتِيكَ مِنْ شُقَّةٍ بَعِيدَةٍ، وَإِنَّهُ يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، وَإِنَّا لَا نَصُلْ إِلَيْكَ إِلَّا فِي شَهْرٍ حَرَامٍ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ نَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا وَنَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ، آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ الْمَغَانِمِ الْخُمُسَ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ ; عَنِ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ - وَرُبَّمَا قَالَ: وَالْمُقَيَّرِ - فَاحْفَظُوهُنَّ
(7/247)
وَادْعُوا إِلَيْهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ ".» وَقَدْ أَخْرَجَهُ صَاحِبَا " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِنَحْوِهِ. وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ بِحَدِيثِ قِصَّتِهِمْ بِمِثْلِ هَذَا السِّيَاقِ، وَعِنْدَهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ: " إِنْ فِيكَ لَخَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ ". وَفِي رِوَايَةٍ: " يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَخَلَّقْتُهُمَا أَمْ جَبَلَنِي اللَّهُ عَلَيْهِمَا؟ فَقَالَ: " بَلْ جَبَلَكَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ". فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ.» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ حَدَّثَنَا مَطَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعْتُ هِنْدَ بِنْتَ الْوَزَّاعِ تَقُولُ: أَنَّهَا سَمِعَتِ الْوَزَّاعَ يَقُولُ: «أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَشَجُّ الْمُنْذِرُ بْنُ عَامِرٍ أَوْ عَامِرُ بْنُ الْمُنْذِرِ وَمَعَهُمْ رَجُلٌ مُصَابٌ، فَانْتَهَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَبُوا مِنْ رَوَاحِلِهِمْ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَّلُوا يَدَهُ، ثُمَّ نَزَلَ الْأَشَجُّ فَعَقَلَ رَاحِلَتَهُ، وَأَخْرَجَ عَيْبَتَهُ فَفَتَحَهَا، فَأَخْرَجَ ثَوْبَيْنِ أَبْيَضَيْنِ مِنْ ثِيَابِهِ فَلَبِسَهُمَا، ثُمَّ أَتَى رَوَاحِلَهُمْ فَعَقَلَهَا، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " يَا أَشَجُّ إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ
(7/248)
يُحِبُّهُمَا اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، وَرَسُولُهُ ; الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا تَخَلَّقْتُهُمَا أَوْ جَبَلَنِي اللَّهُ عَلَيْهِمَا؟ فَقَالَ: " بَلْ جَبَلَكَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ". قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، وَرَسُولُهُ. فَقَالَ الْوَازِعُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مَعِي خَالًا لِي مُصَابًا فَادْعُ اللَّهَ لَهُ. فَقَالَ: " أَيْنَ هُوَ؟ ائْتِنِي بِهِ ". قَالَ: فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ الْأَشَجُّ ; أَلْبَسْتُهُ ثَوْبَيْهِ، وَأَتَيْتُهُ، فَأَخَذَ طَائِفَةً مِنْ رِدَائِهِ يَرْفَعُهَا حَتَّى رَأَيْنَا بَيَاضَ إِبِطِهِ، ثُمَّ ضَرَبَ بِظَهْرِهِ فَقَالَ: " اخْرُجْ عَدُوَّ اللَّهِ ". فَوَلَّى وَجْهَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ بِنَظَرِ رَجُلٍ صَحِيحٍ» .
وَرَوَى الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ هُودِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَدَّهُ مَزِيدَةَ الْعَصَرِيَّ «قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ أَصْحَابُهُ إِذْ قَالَ لَهُمْ: " سَيَطْلُعُ مِنْ هَاهُنَا رَكْبٌ هُمْ خَيْرُ أَهْلِ الْمَشْرِقِ ". فَقَامَ عُمَرُ فَتَوَجَّهَ نَحْوَهُمْ فَلَقِيَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَاكِبًا فَقَالَ: مَنِ الْقَوْمُ؟ قَالُوا: مِنْ بَنِي عَبْدِ الْقَيْسِ. قَالَ: فَمَا أَقْدَمَكُمْ هَذِهِ الْبِلَادَ؟ التِّجَارَةُ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: أَمَا إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ذَكَرَكُمْ آنِفًا فَقَالَ خَيْرًا. ثُمَّ مَشَوْا مَعَهُ حَتَّى أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عُمَرُ لِلْقَوْمِ: هَذَا صَاحِبُكُمُ الَّذِي تُرِيدُونَ. فَرَمَى الْقَوْمُ بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ رَكَائِبِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ مَشَى، وَمِنْهُمْ مَنْ هَرْوَلَ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَعَى، حَتَّى أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذُوا بِيَدِهِ فَقَبَّلُوهَا وَتَخَلَّفَ الْأَشَجُّ فِي الرِّكَابِ حَتَّى أَنَاخَهَا، وَجَمَعَ مَتَاعَ الْقَوْمِ، ثُمَّ جَاءَ
(7/249)
يَمْشِي حَتَّى أَخَذَ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَّلَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ فِيكَ خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ ". قَالَ: جَبْلٌ جُبِلْتُ عَلَيْهِ أَمْ تَخَلُّقٌ مِنِّي؟ قَالَ: " بَلْ جَبْلٌ ". فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى مَا يُحِبُّ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَارُودُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَنَشٍ أَخُو عَبْدِ الْقَيْسِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ هُوَ الْجَارُودُ بْنُ بِشْرِ بْنِ الْمُعَلَّى فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ وَكَانَ نَصْرَانِيًّا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَّمَهُ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ، وَدَعَاهُ إِلَيْهِ، وَرَغَّبَهُ فِيهِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي كُنْتُ عَلَى دِينٍ، وَإِنِّي تَارِكٌ دِينِي لِدِينِكَ، أَفَتَضْمَنُ لِي دِينِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَعَمْ، أَنَا ضَامِنٌ أَنْ قَدْ هَدَاكَ اللَّهُ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ ". قَالَ: فَأَسْلَمَ وَأَسْلَمَ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُمْلَانَ فَقَالَ: " وَاللَّهِ مَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ بِلَادِنَا ضَوَالَّ مِنْ ضَوَالِّ النَّاسِ أَفَنَتَبَلَّغُ عَلَيْهَا إِلَى بِلَادِنَا؟ قَالَ: " لَا، إِيَّاكَ وَإِيَّاهَا فَإِنَّمَا تِلْكَ حَرْقُ النَّارِ ". قَالَ: فَخَرَجَ الْجَارُودُ رَاجِعًا إِلَى قَوْمِهِ، وَكَانَ حَسَنَ الْإِسْلَامِ صُلْبًا عَلَى دِينِهِ، حَتَّى هَلَكَ وَقَدْ أَدْرَكَ الرِّدَّةَ، فَلَمَّا رَجَعَ مِنْ قَوْمِهِ مَنْ كَانَ أَسْلَمَ مِنْهُمْ إِلَى دِينِهِمُ الْأَوَّلِ مَعَ الْغَرُورِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ قَامَ الْجَارُودُ فَتَشَهَّدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ وَدَعَا إِلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا
(7/250)
اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأُكَفِّرُ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ. وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ إِلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى الْعَبْدِيِّ فَأَسْلَمَ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ ثُمَّ هَلَكَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ رِدَّةِ أَهْلِ الْبَحْرَيْنِ وَالْعَلَاءُ عِنْدَهُ أَمِيرًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْبَحْرَيْنِ.
وَلِهَذَا رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَوَّلُ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ - بَعْدَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَسْجِدِ عَبْدِ الْقَيْسِ بِجُوَاثَى مِنَ الْبَحْرَيْنِ. .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ بِسَبَبِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ، حَتَّى صَلَّاهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ فِي بَيْتِهَا.» .
قُلْتُ: لَكِنْ فِي سِيَاقِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قُدُومَ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ كَانَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ ; لِقَوْلِهِمْ: وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ مُضَرَ، لَا نَصِلُ إِلَيْكَ إِلَّا فِي شَهْرٍ حَرَامٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(7/251)
[قِصَّةُ ثُمَامَةَ وَوَفْدِ بَنِي حَنِيفَةَ وَمَعَهُمْ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابِ]
ُ لَعَنَهُ اللَّهُ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: بَابُ وَفْدِ بَنِي حَنِيفَةَ وَقِصَّةِ ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ ; حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: «بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْلًا قَبْلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ. فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ " قَالَ: عِنْدِي خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ، إِنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ. فَتَرَكَهُ حَتَّى كَانَ الْغَدُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: " مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ " فَقَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ. إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ. فَتَرَكَهُ حَتَّى بَعْدَ الْغَدِ فَقَالَ: مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ فَقَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ. فَقَالَ: " أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ ". فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، يَا مُحَمَّدُ، وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ دِينٌ أَبْغَضَ
(7/252)
إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدَ الْعُمْرَةَ، فَمَاذَا تَرَى؟ فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ: صَبَوْتَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا وَاللَّهِ لَا يَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.» وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ كُلُّهُمْ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنِ اللَّيْثِ بِهِ. وَفِي ذِكْرِ الْبُخَارِيِّ هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي الْوُفُودِ نَظَرٌ ; وَذَلِكَ أَنَّ ثُمَامَةَ لَمْ يَفِدْ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا أُسِرَ وَقُدِمَ بِهِ فِي الْوَثَاقِ، فَرُبِطَ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ. ثُمَّ فِي ذِكْرِهِ مَعَ الْوُفُودِ سَنَةَ تِسْعٍ نَظَرٌ آخَرُ ; وَذَلِكَ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ سِيَاقِ قِصَّتِهِ أَنَّهَا قُبَيْلُ الْفَتْحِ، لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ عَيَّرُوهُ بِالْإِسْلَامِ وَقَالُوا: أَصَبَوْتَ؟ فَتَوَعَّدَهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَفِدُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ مِيرَةً، حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَكَّةَ كَانَتْ إِذْ ذَاكَ دَارَ حَرْبٍ لَمْ يُسْلِمْ أَهْلُهَا بَعْدُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِهَذَا ذَكَرَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ قِصَّةَ ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ وَهُوَ أَشْبَهُ، وَلَكِنْ ذَكَرْنَاهُ هَاهُنَا اتِّبَاعًا لِلْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ ثنا شُعَيْبٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ ثنا نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قَدِمَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ يَقُولُ: إِنْ جَعَلَ لِي مُحَمَّدٌ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ اتَّبَعْتُهُ.
(7/253)
وَقَدِمَهَا فِي بَشَرٍ كَثِيرٍ مِنْ قَوْمِهِ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ وَفِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِطْعَةُ جَرِيدٍ، حَتَّى وَقَفَ عَلَى مُسَيْلِمَةَ فِي أَصْحَابِهِ فَقَالَ: " لَوْ سَأَلْتَنِي هَذِهِ الْقِطْعَةَ مَا أَعْطَيْتُكَهَا، وَلَنْ تَعْدُوَ أَمْرَ اللَّهِ فِيكَ، وَلَئِنْ أَدْبَرْتَ لَيَعْقِرَنَّكَ اللَّهُ، وَإِنِّي لَأُرَاكَ الَّذِي أُرِيتُ فِيهِ مَا أُرِيتُ، وَهَذَا ثَابِتٌ يُجِيبُكَ عَنِّي ". ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَسَأَلْتُ عَنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّكَ أُرَى الَّذِي أُرِيتُ فِيهِ مَا أُرِيتُ ". فَأَخْبَرَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ فِي يَدَيَّ سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ فَأَهَمَّنِي شَأْنُهُمَا، فَأُوحِيَ إِلَيَّ فِي الْمَنَامِ أَنِ انْفُخْهُمَا، فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا، فَأَوَّلْتُهُمَا كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ بَعْدِي ; أَحَدُهُمَا الْعَنْسِيُّ وَالْآخَرُ مُسَيْلِمَةُ» .
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ ثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنِي مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِخَزَائِنِ الْأَرْضِ، فَوُضِعَ فِي كَفِّي سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَكَبُرَا عَلَيَّ، فَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنِ انْفُخْهُمَا، فَنَفَخْتُهُمَا فَذَهَبَا، فَأَوَّلْتُهُمَا الْكَذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أَنَا بَيْنَهُمَا ; صَاحِبَ صَنْعَاءَ، وَصَاحِبَ الْيَمَامَةِ» .
(7/254)
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: ثنا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَرْمِيُّ ثنا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عُبَيْدَةَ بْنِ نَشِيطٍ - وَكَانَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ - أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: «بَلَغَنَا أَنَّ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَنَزَلَ فِي دَارِ بِنْتِ الْحَارِثِ، وَكَانَ تَحْتَهُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ كُرَيْزٍ، وَهِيَ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ، فَأَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ - وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: خَطِيبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضِيبٌ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَكَلَّمَهُ، فَقَالَ لَهُ مُسَيْلِمَةُ: إِنْ شِئْتَ خَلَّيْتُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْأَمْرِ ثُمَّ جَعَلْتَهُ لَنَا بَعْدَكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْ سَأَلْتَنِي هَذَا الْقَضِيبَ مَا أَعْطَيْتُكَهُ، وَإِنِّي لَأُرَاكَ الَّذِي أُرِيتُ فِيهِ مَا أُرِيتُ، وَهَذَا ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ وَسَيُجِيبُكَ عَنِّي ". فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ رُؤْيَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي ذَكَرَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذُكِرَ لِي أَنَّ
(7/255)
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُ أَنَّهُ وُضِعَ فِي يَدَيَّ سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَفُظِعْتُهُمَا وَكَرِهْتُهُمَا، فَأُذِنَ لِي فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا، فَأَوَّلْتُهُمَا كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ ". فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: أَحَدُهُمَا الْعَنْسِيُّ الَّذِي قَتَلَهُ فَيْرُوزُ بِالْيَمَنِ، وَالْآخَرُ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ.» .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ بَنِي حَنِيفَةَ، فِيهِمْ مُسَيْلِمَةُ بْنُ حَبِيبٍ الْكَذَّابُ. وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ هُوَ مُسَيْلِمَةُ بْنُ ثُمَامَةَ، وَيُكَنَّى أَبَا ثُمَامَةَ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيُّ: هُوَ مُسَيْلِمَةُ بْنُ ثُمَامَةَ بْنِ كَبِيرِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ بْنِ هِفَّانَ بْنِ ذُهْلِ بْنِ الدُّوَلِ بْنِ حَنِيفَةَ، وَيُكَنَّى أَبَا ثُمَامَةَ، وَقِيلَ أَبَا هَارُونَ. وَكَانَ قَدْ تَسَمَّى بِالرَّحْمَنِ، فَكَانَ يُقَالُ لَهُ: رَحْمَنُ الْيَمَامَةِ. وَكَانَ عُمُرُهُ يَوْمَ قُتِلَ مِائَةً وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَكَانَ يَعْرِفُ أَبْوَابًا مِنْ
(7/256)
النِّيرَجَاتِ فَكَانَ يُدْخِلُ الْبَيْضَةَ إِلَى الْقَارُورَةِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَكَانَ يَقُصُّ جَنَاحَ الطَّيْرِ ثُمَّ يَصِلُهُ، وَيَدَّعِي أَنَّ ظَبْيَةً تَأْتِيهِ مِنَ الْجَبَلِ فَيَحْلِبُ لَبَنَهَا.
قُلْتُ وَسَنَذْكُرُ أَشْيَاءَ مِنْ خَبَرِهِ عِنْدَ ذِكْرِ مَقْتَلِهِ، لَعَنَهُ اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ مَنْزِلُهُمْ فِي دَارِ بِنْتِ الْحَارِثِ، امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، ثُمَّ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، فَحَدَّثَنِي بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ «أَنَّ بَنِي حَنِيفَةَ أَتَتْ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْتُرُهُ بِالثِّيَابِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ، مَعَهُ عَسِيبٌ مِنْ سَعَفِ النَّخْلِ فِي رَأْسِهِ خُوصَاتٌ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ يَسْتُرُونَهُ بِالثِّيَابِ كَلَّمَهُ وَسَأَلَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْ سَأَلْتَنِي هَذَا الْعَسِيبَ مَا أَعْطَيْتُكَهُ» قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، أَنَّ حَدِيثَهُ كَانَ عَلَى غَيْرِ هَذَا، وَزَعَمَ أَنَّ وَفْدَ بَنِي حَنِيفَةَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَلَّفُوا مُسَيْلِمَةَ فِي رِحَالِهِمْ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا ذَكَرُوا مَكَانَهُ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا قَدْ خَلَّفْنَا صَاحِبًا لَنَا فِي رِحَالِنَا وَفِي رَكَائِبِنَا يَحْفَظُهَا لَنَا. قَالَ: فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ مَا أَمَرَ بِهِ لِلْقَوْمِ وَقَالَ: " أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ بِشَرِّكُمْ مَكَانًا ". أَيْ لِحِفْظِهِ ضَيْعَةَ أَصْحَابِهِ، ذَلِكَ الَّذِي يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: ثُمَّ
(7/257)
انْصَرَفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَاءُوا مُسَيْلِمَةَ بِمَا أَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى الْيَمَامَةِ ارْتَدَّ عَدُوُّ اللَّهِ وَتَنَبَّأَ وَتَكَذَّبَ لَهُمْ، وَقَالَ: إِنِّي قَدْ أُشْرِكْتُ فِي الْأَمْرِ مَعَهُ. وَقَالَ لِوَفْدِهِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ: أَلَمْ يَقُلْ لَكُمْ حِينَ ذَكَرْتُمُونِي لَهُ: " أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ بِشَرِّكُمْ مَكَانًا؟ " مَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا كَانَ يَعْلَمُ أَنِّي قَدْ أُشْرِكْتُ فِي الْأَمْرِ مَعَهُ. ثُمَّ جَعَلَ يَسْجَعُ لَهُمُ السَّجَعَاتِ وَيَقُولُ لَهُمْ فِيمَا يَقُولُ ; مُضَاهَاةً لِلْقُرْآنِ: لَقَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى الْحُبْلَى أَخْرَجَ مِنْهَا نَسَمَةً تَسْعَى مِنْ بَيْنِ صِفَاقٍ وَحَشَا. وَأَحَلَّ لَهُمُ الْخَمْرَ وَالزِّنَا، وَوَضَعَ عَنْهُمُ الصَّلَاةَ، وَهُوَ مَعَ هَذَا يَشْهَدُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ نَبِيٌّ، فَأَصْفَقَتْ مَعَهُ بَنُو حَنِيفَةَ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ.
وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الرَّجَّالَ بْنَ عُنْفُوَةَ وَاسْمُهُ نَهَارُ بْنُ عُنْفُوَةَ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ وَتَعَلَّمَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، وَصَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدَّةً، وَقَدْ مَرَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفُرَاتِ بِنْ حَيَّانَ، فَقَالَ لَهُمْ: " «أَحَدُكُمْ ضِرْسُهُ فِي النَّارِ مِثْلُ أُحُدٍ» ". فَلَمْ يَزَالَا خَائِفَيْنِ حَتَّى ارْتَدَّ الرَّجَّالُ مَعَ مُسَيْلِمَةَ وَشَهِدَ لَهُ زُورًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَكَهُ فِي الْأَمْرِ مَعَهُ، وَأَلْقَى إِلَيْهِ شَيْئًا مِمَّا كَانَ
(7/258)
يَحْفَظُهُ مِنَ الْقُرْآنِ، فَادَّعَاهُ مُسَيْلِمَةُ لِنَفْسِهِ فَحَصَلَ بِذَلِكَ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ لِبَنِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ قَتَلَهُ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ يَوْمَ الْيَمَامَةِ كَمَا سَيَأْتِي.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَكَانَ مُؤَذِّنُ مُسَيْلِمَةَ يُقَالُ لَهُ: حُجَيْرٌ. وَكَانَ مُدَبِّرُ الْحَرْبِ بَيْنَ يَدَيْهِ مُحَكَّمَ بْنَ الطُّفَيْلِ وَأُضِيفَ إِلَيْهِمْ سَجَاحٌ، وَكَانَتْ تُكَنَّى أُمَّ صَادِرٍ، تَزَوَّجَهَا مُسَيْلِمَةُ وَلَهُ مَعَهَا أَخْبَارٌ فَاحِشَةٌ، وَاسْمُ مُؤَذِّنِهَا زُهَيْرُ بْنُ عَمْرٍو وَقِيلَ: جَنَبَةُ بْنُ طَارِقٍ. وَيُقَالُ: إِنَّ شِبْثَ بْنَ رِبْعِيٍّ أَذَّنَ لَهَا أَيْضًا، ثُمَّ أَسْلَمَ. وَقَدْ أَسْلَمَتْ هِيَ أَيْضًا أَيَّامَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَحَسُنَ إِسْلَامُهَا.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَقَدْ كَانَ مُسَيْلِمَةُ بْنُ حَبِيبٍ كَتَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنْ مُسَيْلِمَةَ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ، سَلَامٌ عَلَيْكَ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدْ أُشْرِكْتُ فِي الْأَمْرِ مَعَكَ، فَإِنَّ لَنَا نِصْفَ الْأَمْرِ، وَلِقُرَيْشٍ نِصْفُ الْأَمْرِ، وَلَكِنَّ قُرَيْشًا قَوْمٌ يَعْتَدُونَ. فَقَدِمَ عَلَيْهِ رَسُولَانِ بِهَذَا الْكِتَابِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ " قَالَ: وَكَانَ ذَلِكَ فِي آخِرِ سَنَةِ عَشْرٍ. يَعْنِي وُرُودَ هَذَا الْكِتَابِ.
(7/259)
قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَحَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ طَارِقٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَاءَهُ رَسُولَا مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ بِكِتَابِهِ، يَقُولُ لَهُمَا: " وَأَنْتُمَا تَقُولَانِ مِثْلَ مَا يَقُولُ؟ " قَالَا: نَعَمْ. فَقَالَ: " أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكَمَا ".» .
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «جَاءَ ابْنُ النَّوَّاحَةِ وَابْنُ أُثَالٍ رَسُولَيْنِ لِمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُمَا: " أَتَشْهَدَانِ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ " فَقَالَا: نَشْهَدُ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " آمَنْتُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَلَوْ كُنْتُ قَاتِلًا رَسُولًا لَقَتَلْتُكُمَا ".» قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: فَمَضَتِ السُّنَّةُ بِأَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَأَمَّا ابْنُ أُثَالٍ فَقَدْ كَفَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا ابْنُ النَّوَّاحَةِ فَلَمْ يَزَلْ فِي نَفْسِي مِنْهُ حَتَّى أَمْكَنَ اللَّهُ مِنْهُ.
قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَمَّا أُسَامَةُ بْنُ أُثَالٍ فَإِنَّهُ أَسْلَمَ، وَقَدْ مَضَى الْحَدِيثُ فِي إِسْلَامِهِ، وَأَمَّا ابْنُ النَّوَّاحَةِ فَأَخْبَرَنَا أَبُو زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمُزَكِّي أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ ثنا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: إِنِّي مَرَرْتُ بِبَعْضِ مَسَاجِدِ بَنِي حَنِيفَةَ وَهُمْ يَقْرَءُونَ قِرَاءَةً
(7/260)
مَا أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالطَّاحِنَاتِ طَحْنًا، وَالْعَاجِنَاتِ عَجْنًا، وَالْخَابِزَاتِ خَبْزًا، وَالثَّارِدَاتِ ثَرْدًا، وَاللَّاقِمَاتِ لَقْمًا. قَالَ: فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ فَأُتِيَ بِهِمْ، وَهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا، وَرَأْسُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ النَّوَّاحَةِ. قَالَ: فَأَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ فَقُتِلَ، ثُمَّ قَالَ: مَا كُنَّا بِمُحْرِزِينَ الشَّيْطَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَلَكِنَّا نَحُوزُهُمْ إِلَى الشَّامِ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكْفِيَنَاهُمْ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَ وَفْدُ بَنِي حَنِيفَةَ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا عَلَيْهِمْ سَلْمَى بْنُ حَنْظَلَةَ وَفِيهِمْ ; الرَّجَّالُ ابْنُ عُنْفُوَةَ وَطَلْقُ بْنُ عَلِيٍّ وَعَلِيُّ بْنُ سِنَانٍ وَمُسَيْلِمَةُ بْنُ حَبِيبٍ الْكَذَّابُ فَأُنْزِلُوا فِي دَارِ رَمْلَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ وَأُجْرِيَتْ عَلَيْهِمُ الضِّيَافَةُ، فَكَانُوا يُؤْتَوْنَ بِغَدَاءٍ وَعَشَاءٍ ; مَرَّةً خُبْزًا وَلَحْمًا، وَمَرَّةً خُبْزًا وَلَبَنًا، وَمَرَّةً خُبْزًا، وَمَرَّةً خُبْزًا وَسَمْنًا، وَمَرَّةً تَمْرًا يُنْثَرُ لَهُمْ. فَلَمَّا قَدِمُوا الْمَسْجِدَ أَسْلَمُوا، وَقَدْ خَلَّفُوا مُسَيْلِمَةَ فِي رِحَالِهِمْ، وَلَمَّا أَرَادُوا الِانْصِرَافَ أَعْطَاهُمْ جَوَائِزَهُمْ خَمْسَ أَوَاقٍ مِنْ فِضَّةٍ، وَأَمَرَ لِمُسَيْلِمَةَ بِمِثْلِ مَا
(7/261)
أَعْطَاهُمْ لِمَا ذَكَرُوا أَنَّهُ فِي رِحَالِهِمْ، فَقَالَ: " أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ بِشَرِّكُمْ مَكَانًا ". فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَيْهِ أَخْبَرُوهُ بِمَا قَالَ عَنْهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ عَرَفَ أَنَّ الْأَمْرَ لِي مِنْ بَعْدِهِ. وَبِهَذِهِ الْكَلِمَةِ تَشَبَّثَ، قَبَّحَهُ اللَّهُ، حَتَّى ادَّعَى النُّبُوَّةَ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مَعَهُمْ بِإِدَوَاةٍ فِيهَا فَضْلُ طَهُورِهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنَّ يَهْدِمُوا بَيْعَتَهُمْ، وَيَنْضَحُوا هَذَا الْمَاءَ مَكَانَهَا وَيَتَّخِذُوهُ مَسْجِدًا، فَفَعَلُوا، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ مَقْتَلِ الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ فِي آخِرِ حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَقْتَلِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ فِي أَيَّامِ الصِّدِّيقِ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ بَنِي حَنِيفَةَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
[وَفْدُ أَهْلِ نَجْرَانَ]
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ الْحُسَيْنِ ثنا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: عَنْ صِلَةَ بْنِ زُفَرَ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: «جَاءَ الْعَاقِبُ وَالسَّيِّدُ صَاحِبَا نَجْرَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدَانِ أَنْ يُلَاعِنَاهُ. قَالَ: فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: لَا تَفْعَلْ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَاعَنَّاهُ لَا نُفْلِحُ نَحْنُ وَلَا عَقِبُنَا مِنْ بَعْدِنَا. قَالَا: إِنَّا نُعْطِيكَ مَا سَأَلْتَنَا وَابْعَثْ مَعَنَا رَجُلًا أَمِينًا، وَلَا تَبْعَثْ مَعَنَا إِلَّا أَمِينًا. فَقَالَ: " لَأَبْعَثَنَّ مَعَكُمْ رَجُلًا أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ ". فَاسْتَشْرَفَ لَهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: " قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ ". فَلَمَّا قَامَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَذَا أَمِينُ
(7/262)
هَذِهِ الْأُمَّةِ ".» وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بِهِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ وَأَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ الْفَضْلِ قَالَا: ثنا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ ثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ ثنا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ يَسُوعَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ يُونُسُ: وَكَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ نَجْرَانَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ " طس " سُلَيْمَانَ: " بِاسْمِ إِلَهِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى أُسْقُفِّ نَجْرَانَ، وَأَهْلِ نَجْرَانَ، إِنْ أَسْلَمْتُمْ فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكُمْ إِلَهَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ; أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَدْعُوكُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ، وَأَدْعُوكُمْ إِلَى وِلَايَةِ اللَّهِ مِنْ وِلَايَةِ الْعِبَادِ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَالْجِزْيَةُ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ، آذَنْتُكُمْ بِحَرْبٍ وَالسَّلَامُ» .
فَلَمَّا أَتَى الْأُسْقُفَّ الْكِتَابُ فَقَرَأَهُ فُظِعَ بِهِ وَذُعِرَ بِهِ ذُعْرًا شَدِيدًا، وَبَعَثَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ يُقَالُ لَهُ: شُرَحْبِيلُ بْنُ وَدَاعَةَ - وَكَانَ مِنْ أَهْلِ هَمْدَانَ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُدْعَى إِذَا نَزَلَتْ مُعْضِلَةٌ قَبْلَهُ، لَا الْأَيْهَمُ وَلَا السَّيِّدُ وَلَا
(7/263)
الْعَاقِبُ - فَدَفَعَ الْأُسْقُفُّ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى شُرَحْبِيلَ فَقَرَأَهُ، فَقَالَ الْأُسْقُفُّ: يَا أَبَا مَرْيَمَ مَا رَأْيُكَ؟ فَقَالَ شُرَحْبِيلُ: قَدْ عَلِمْتَ مَا وَعَدَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ فِي ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ مِنَ النُّبُوَّةِ، فَمَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ ذَاكَ الرَّجُلَ، لَيْسَ لِي فِي النُّبُوَّةِ رَأْيٌ، وَلَوْ كَانَ أَمْرٌ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا لَأَشَرْتُ عَلَيْكَ فِيهِ بِرَأْيٍ وَجَهِدْتُ لَكَ. فَقَالَ لَهُ الْأُسْقُفُّ: تَنَحَّ فَاجْلِسْ. فَتَنَحَّى شُرَحْبِيلُ فَجَلَسَ نَاحِيَةً، فَبَعَثَ الْأُسْقُفُّ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شُرَحْبِيلَ. وَهُوَ مِنْ ذِي أَصْبَحَ مِنْ حِمْيَرٍ، فَأَقْرَأهُ الْكِتَابَ، وَسَأَلَهُ عَنِ الرَّأْيِ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ قَوْلِ شُرَحْبِيلَ فَقَالَ لَهُ الْأُسْقُفُّ: تَنَحَّ فَاجْلِسْ. فَتَنَحَّى فَجَلَسَ نَاحِيَةً، فَبَعَثَ الْأُسْقُفُّ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ يُقَالُ لَهُ: جَبَّارُ بْنُ فَيْضٍ. مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ أَحَدِ بَنِي الْحِمَاسِ فَأَقْرَأَهُ الْكِتَابَ، وَسَأَلَهُ عَنِ الرَّأْيِ فِيهِ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ قَوْلِ شُرَحْبِيلَ وَعَبْدِ اللَّهِ فَأَمَرَهُ الْأُسْقُفُّ فَتَنَحَّى فَجَلَسَ نَاحِيَةً، فَلَمَّا اجْتَمَعَ الرَّأْيُ مِنْهُمْ عَلَى تِلْكَ الْمَقَالَةِ جَمِيعًا، أَمَرَ الْأُسْقُفُّ بِالنَّاقُوسِ فَضُرِبَ بِهِ، وَرُفِعَتِ الْمُسُوحُ فِي الصَّوَامِعِ، وَكَذَلِكَ كَانُوا يَفْعَلُونَ إِذَا فَزِعُوا بِالنَّهَارِ، وَإِذَا كَانَ فَزَعُهُمْ لَيْلًا ضَرَبُوا بِالنَّاقُوسِ، وَرُفِعَتِ النِّيرَانُ فِي الصَّوَامِعِ، فَاجْتَمَعَ حِينَ ضُرِبَ بِالنَّاقُوسِ وَرُفِعَتِ الْمُسُوحُ، أَهْلُ الْوَادِي أَعْلَاهُ وَأَسْفَلُهُ، وَطُولُ الْوَادِي مَسِيرَةُ يَوْمٍ لِلرَّاكِبِ السَّرِيعِ، وَفِيهِ ثَلَاثٌ وَسَبْعُونَ قَرْيَةً، وَعِشْرُونَ وَمِائَةُ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَأَلَهُمْ عَنِ الرَّأْيِ فِيهِ، فَاجْتَمَعَ رَأْيُ أَهْلِ الرَّأْيِ مِنْهُمْ عَلَى أَنْ يَبْعَثُوا
(7/264)
شُرَحْبِيلَ بْنَ وَدَاعَةَ الْهَمْدَانِيَّ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ شُرَحْبِيلَ الْأَصْبَحِيَّ وَجَبَّارَ بْنَ فَيْضٍ الْحَارِثِيَّ فَيَأْتُوهُمْ بِخَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَانْطَلَقَ الْوَفْدُ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْمَدِينَةِ وَضَعُوا ثِيَابَ السَّفَرِ عَنْهُمْ، وَلَبِسُوا حُلَلًا لَهُمْ يَجُرُّونَهَا ; مِنْ حِبَرَةٍ وَخَوَاتِيمَ الذَّهَبِ، ثُمَّ انْطَلَقُوا حَتَّى أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمُوا، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمُ السَّلَامَ، وَتَصَدَّوْا لِكَلَامِهِ نَهَارًا طَوِيلًا، فَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ وَعَلَيْهِمْ تِلْكَ الْحُلَلُ وَالْخَوَاتِيمُ الذَّهَبُ، فَانْطَلَقُوا يَتَّبَّعُونَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَكَانُوا يَعْرِفُونَهُمَا، فَوَجَدُوهُمَا فِي نَاسٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي مَجْلِسٍ، فَقَالُوا: يَا عُثْمَانُ وَيَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ إِنَّ نَبِيَّكُمْ كَتَبَ إِلَيْنَا بِكِتَابٍ، فَأَقْبَلْنَا مُجِيبِينَ لَهُ، فَأَتَيْنَاهُ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ سَلَامَنَا، وَتَصَدَّيْنَا لِكَلَامِهِ نَهَارًا طَوِيلًا، فَأَعْيَانَا أَنْ يُكَلِّمَنَا، فَمَا الرَّأْيُ مِنْكَمَا؟ أَتَرَوْنَ أَنْ نَرْجِعَ؟ فَقَالَا لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ فِي الْقَوْمِ: مَا تَرَى يَا أَبَا الْحَسَنِ فِي هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ لِعُثْمَانَ وَلِعَبْدِ الرَّحْمَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: أَرَى أَنْ يَضَعُوا حُلَلَهُمْ هَذِهِ وَخَوَاتِيمَهُمْ، وَيَلْبَسُوا ثِيَابَ سَفَرِهِمْ، ثُمَّ يَعُودُوا إِلَيْهِ. فَفَعَلُوا فَسَلَّمُوا فَرَدَّ سَلَامَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: " وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ، لَقَدْ أَتَوْنِي الْمَرَّةَ الْأُولَى وَإِنَّ إِبْلِيسَ لَمَعَهُمْ ". ثُمَّ سَاءَلَهُمْ وَسَاءَلُوهُ، فَلَمْ تَزَلْ بِهِ وَبِهِمُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى قَالُوا لَهُ: مَا تَقُولُ فِي عِيسَى؟ فَإِنَّا نَرْجِعُ إِلَى قَوْمِنَا، وَنَحْنُ نَصَارَى يَسُرُّنَا إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا أَنْ نَسْمَعَ مَا تَقُولُ فِيهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
(7/265)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا عِنْدِي فِيهِ شَيْءٌ يَوْمِي هَذَا، فَأَقِيمُوا حَتَّى أُخْبِرَكُمْ بِمَا يَقُولُ اللَّهُ فِي عِيسَى ". فَأَصْبَحَ الْغَدُ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ " {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 59] " [آلِ عِمْرَانَ: 59 - 61] فَأَبَوْا أَنْ يُقِرُّوا بِذَلِكَ فَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَدَ بَعْدَ مَا أَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ، أَقْبَلَ مُشْتَمِلًا عَلَى الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ فِي خَمِيلٍ لَهُ، وَفَاطِمَةُ تَمْشِي عِنْدَ ظَهْرِهِ لِلْمُلَاعَنَةِ، وَلَهُ يَوْمَئِذٍ عِدَّةُ نِسْوَةٍ، فَقَالَ شُرَحْبِيلُ لِصَاحِبَيْهِ: قَدْ عَلِمْتُمَا أَنَّ الْوَادِيَ إِذَا اجْتَمَعَ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلُهُ لَمْ يَرِدُوا وَلَمْ يَصْدُرُوا إِلَّا عَنْ رَأْيِي، وَإِنِّي وَاللَّهِ أَرَى أَمْرًا ثَقِيلًا، وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ مَلِكَا مُتَقَوِّيًا، فَكُنَّا أَوَّلَ الْعَرَبِ طَعَنَ فِي عَيْنِهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، لَا يَذْهَبُ لَنَا مِنْ صَدْرِهِ وَلَا مِنْ صُدُورِ أَصْحَابِهِ حَتَّى يُصِيبُونَا بِجَائِحَةٍ، وَإِنَّا أَدْنَى الْعَرَبِ مِنْهُمْ جِوَارًا، وَلَئِنْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ نَبِيًّا مُرْسَلًا فَلَاعَنَّاهُ ; لَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنَّا شَعْرٌ وَلَا ظُفْرٌ إِلَّا هَلَكَ. فَقَالَ لَهُ صَاحِبَاهُ: فَمَا الرَّأْيُ يَا أَبَا مَرْيَمَ؟ فَقَالَ: رَأْيِي أَنَّ أُحَكِّمَهُ فَإِنِّي أَرَى رَجُلًا لَا يَحْكُمُ شَطَطًا أَبَدًا. فَقَالَا لَهُ: أَنْتَ وَذَاكَ. قَالَ: فَتَلَقَّى شُرَحْبِيلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ خَيْرًا مِنْ
(7/266)
مُلَاعَنَتِكَ فَقَالَ: " وَمَا هُوَ؟ " فَقَالَ: حُكْمُكَ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَيْلَتَكَ إِلَى الصَّبَاحِ، فَمَهْمَا حَكَمْتَ فِينَا فَهُوَ جَائِزٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَعَلَّ وَرَاءَكَ أَحَدٌ يُثَرِّبُ عَلَيْكَ؟ " فَقَالَ شُرَحْبِيلُ: سَلْ صَاحِبَيَّ. فَسَأَلَهُمَا فَقَالَا: مَا يَرِدُ الْوَادِيَ وَلَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ رَأْيِ شُرَحْبِيلَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَافِرٌ - أَوْ قَالَ: جَاحِدٌ - مُوَفَّقٌ ". فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُلَاعِنْهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ أَتَوْهُ، فَكَتَبَ لَهُمْ هَذَا الْكِتَابَ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا كَتَبَ مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَجْرَانَ، أَنْ كَانَ عَلَيْهِمْ حُكْمُهُ فِي كُلِّ ثَمَرَةٍ وَكُلِّ صَفْرَاءَ وَبَيْضَاءَ وَرَقِيقٍ، فَأَفْضَلَ عَلَيْهِمْ وَتَرَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ، فِي كُلِّ رَجَبٍ أَلْفُ حُلَّةٍ، وَفِي كُلِّ صَفَرٍ أَلْفُ حُلَّةٍ» . وَذَكَرَ تَمَامَ الشُّرُوطِ إِلَى أَنْ قَالَ: شَهِدَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَغَيْلَانُ بْنُ عَمْرٍو وَمَالِكُ بْنُ عَوْفٍ مِنْ بَنِي نَصْرٍ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ الْحَنْظَلِيُّ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَكَتَبَ، حَتَّى إِذَا قَبَضُوا كِتَابَهُمُ انْصَرَفُوا إِلَى نَجْرَانَ فَتَلَقَّاهُمُ الْأُسْقُفُّ وَوُجُوهُ نَجْرَانَ عَلَى مَسِيرَةِ لَيْلَةٍ مِنْ نَجْرَانَ، وَمَعَ الْأُسْقُفِّ أَخٌ لَهُ مِنْ أُمِّهِ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّهِ مِنَ النَّسَبِ يُقَالُ لَهُ: بِشْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ. وَكُنْيَتُهُ أَبُو عَلْقَمَةَ فَدَفَعَ الْوَفْدُ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
(7/267)
الْأُسْقُفِّ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُهُ وَأَبُو عَلْقَمَةَ مَعَهُ وَهُمَا يَسِيرَانِ، إِذْ كَبَتْ بِبِشْرٍ نَاقَتُهُ، فَتَعِسَ بِشْرٌ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُكَنِّي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ الْأُسْقُفُّ عِنْدَ ذَلِكَ: قَدْ وَاللَّهِ تَعَّسْتَ نَبِيًّا مُرْسَلًا. فَقَالَ لَهُ بِشْرٌ: لَا جَرَمَ، وَاللَّهِ لَا أَحُلُّ عَنْهَا عَقْدًا حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَضَرَبَ وَجْهَ نَاقَتِهِ نَحْوَ الْمَدِينَةِ، وَثَنَى الْأُسْقُفُّ نَاقَتَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: افْهَمْ عَنِّي، إِنِّي إِنَّمَا قُلْتُ هَذَا لِيَبْلُغَ عَنِّي الْعَرَبَ ; مَخَافَةَ أَنْ يَرَوْا أَنَّا أَخَذْنَا حَقَّهُ، أَوْ رَضِينَا نُصْرَتَهُ، أَوْ بَخَعْنَا لِهَذَا الرَّجُلِ بِمَا لَمْ تَبْخَعْ بِهِ الْعَرَبُ، وَنَحْنُ أَعَزُّهُمْ وَأَجْمَعُهُمْ دَارًا. فَقَالَ لَهُ بِشْرٌ: لَا وَاللَّهِ لَا أَقْبَلُ مَا خَرَجَ مِنْ رَأْسِكَ أَبَدًا. فَضَرَبَ بِشْرٌ نَاقَتَهُ وَهُوَ مُوَلٍّ الْأُسْقُفَّ ظَهرَهُ، وَارْتَجَزَ يَقُولُ:
إِلَيْكَ تَغْدُو قِلْقًا وَضِينُهَا ... مُعْتَرِضًا فِي بَطْنِهَا جَنِينُهَا
مُخَالِفًا دِينَ النَّصَارَى دِينُهَا
حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ، وَلَمْ يَزَلْ مَعَهُ حَتَّى قُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ: وَدَخَلَ الْوَفْدُ نَجْرَانَ، فَأَتَى الرَّاهِبَ لَيْثَ بْنَ أَبِي شِمْرٍ الزُّبَيْدِيَّ وَهُوَ فِي رَأْسِ صَوْمَعَتِهِ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ نَبِيًّا بُعِثَ بِتِهَامَةَ. فَذَكَرَ لَهُ مَا كَانَ مِنْ وَفْدِ نَجْرَانَ إِلَى
(7/268)
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ عَرَضَ عَلَيْهِمُ الْمُلَاعَنَةَ فَأَبَوْا، وَأَنَّ بِشْرَ بْنَ مُعَاوِيَةَ دَفَعَ إِلَيْهِ فَأَسْلَمَ، فَقَالَ الرَّاهِبُ: أَنْزِلُونِي وَإِلَّا أَلْقَيْتُ نَفْسِي مِنْ هَذِهِ الصَّوْمَعَةِ. قَالَ: فَأَنْزَلُوهُ فَأَخَذَ مَعَهُ هَدِيَّةً، وَذَهَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا هَذَا الْبَرْدُ الَّذِي يَلْبَسُهُ الْخُلَفَاءُ، وَقَعْبٌ، وَعَصَا، فَأَقَامَ مُدَّةً عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمَعُ الْوَحْيَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، وَلَمْ يُقَدَّرْ لَهُ الْإِسْلَامُ، وَوَعَدَ أَنَّهُ سَيَعُودُ، فَلَمْ يُقَدَّرْ لَهُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّ الْأُسْقُفَّ أَبَا الْحَارِثِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَهُ السَّيِّدُ وَالْعَاقِبُ وَوُجُوهُ قَوْمِهِ، فَأَقَامُوا عِنْدَهُ يَسْمَعُونَ مَا يُنَزِّلُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَكَتَبَ لِلْأُسْقُفِّ هَذَا الْكِتَابَ وَلِأَسَاقِفَةِ نَجْرَانَ بَعْدَهُ: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأُسْقُفِّ أَبِي الْحَارِثِ وَكُلِّ أَسَاقِفَةِ نَجْرَانَ وَكَهَنَتِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ، وَكُلِّ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، جِوَارُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، لَا يُغَيَّرُ أُسْقُفٌّ مِنْ أُسْقُفَّتِهِ، وَلَا رَاهِبٌ مِنْ رَهْبَانِيَّتِهِ، وَلَا كَاهِنٌ مِنْ كَهَانَتِهِ، وَلَا يُغَيَّرُ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِهِمْ وَلَا سُلْطَانِهِمْ، وَلَا مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ، عَلَى ذَلِكَ جِوَارُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَبَدًا، مَا نَصَحُوا وَأَصْلَحُوا عَلَيْهِمْ، غَيْرَ مُثْقَلِينَ بِظُلْمٍ وَلَا ظَالِمِينَ " وَكَتَبَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ وَفْدَ نَصَارَى نَجْرَانَ كَانُوا سِتِّينَ رَاكِبًا، يَرْجِعُ
(7/269)
أَمْرُهُمْ إِلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْهُمْ، وَهُمْ الْعَاقِبُ وَاسْمُهُ عَبْدُ الْمَسِيحِ وَالسَّيِّدُ وَهُوَ الْأَيْهَمُ وَأَبُو حَارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ وَأَوْسٌ وَالْحَارِثُ وَزَيْدٌ وَقَيْسٌ وَيَزِيدُ وَنُبَيْهٌ وَخُوَيْلِدٌ وَعَمْرٌو وَخَالِدٌ وَعَبْدُ اللَّهِ وَيُحَنَّسُ وَأَمْرُ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ يَئُولُ إِلَى ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ، وَهُمْ ; الْعَاقِبُ وَكَانَ أَمِيرَ الْقَوْمِ وَذَا رَأْيهِمْ وَصَاحِبَ مَشُورَتِهِمْ، وَالَّذِي لَا يَصْدُرُونَ إِلَّا عَنْ رَأْيِهِ وَالسَّيِّدُ وَكَانَ ثِمَالَهُمْ وَصَاحِبَ رَحْلِهِمْ وَأَبُو حَارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ وَكَانَ أُسْقُفَّهُمْ وَحَبْرَهُمْ، وَكَانَ رَجُلًا مِنَ الْعَرَبِ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، وَلَكِنْ دَخَلَ فِي دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ، فَعَظَّمَتْهُ الرُّومُ وَشَرَّفُوهُ، وَبَنَوْا لَهُ الْكَنَائِسَ، وَمَوَّلُوهُ وَأَخْدَمُوهُ ; لِمَا يَعْرِفُونَ مِنْ صَلَابَتِهِ فِي دِينِهِمْ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ يَعْرِفُ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ صَدَّهُ الشَّرَفُ وَالْجَاهُ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي بُرَيْدَةُ بْنُ سُفْيَانَ عَنِ ابْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ عَنْ كُرْزِ بْنِ عَلْقَمَةَ قَالَ: قَدِمَ وَفْدُ نَصَارَى نَجْرَانَ سِتُّونَ رَاكِبًا، مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ رَجُلًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ، وَالْأَرْبَعَةُ وَالْعِشْرُونَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ إِلَيْهِمْ
(7/270)
يَئُولُ أَمْرُهُمْ ; الْعَاقِبُ وَالسَّيِّدُ وَأَبُو حَارِثَةَ أَحَدُ بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، أُسْقُفُّهُمْ وَصَاحِبُ مِدْرَاسِهِمْ، وَكَانُوا قَدْ شَرَّفُوهُ فِيهِمْ، وَمَوَّلُوهُ وَأَخْدَمُوهُ وَبَسَطُوا عَلَيْهِ الْكَرَامَاتِ، وَبَنَوْا لَهُ الْكَنَائِسَ ; لِمَا بَلَغَهُمْ عَنْهُ مِنْ عِلْمِهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي دِينِهِمْ، فَلَمَّا تَوَجَّهُوا مِنْ نَجْرَانَ جَلَسَ أَبُو حَارِثَةَ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ، وَإِلَى جَنْبِهِ أَخٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ: كُرْزُ بْنُ عَلْقَمَةَ. يُسَايِرُهُ إِذْ عَثَرَتْ بَغْلَةُ أَبِي حَارِثَةَ فَقَالَ كُرْزٌ: تَعِسَ الْأَبْعَدُ. يُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ أَبُو حَارِثَةَ: بَلْ أَنْتَ تَعِسْتَ. فَقَالَ لَهُ كُرْزٌ: وَلِمَ يَا أَخِي؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لَلنَّبِيُّ الَّذِي كُنَّا نَنْتَظِرُهُ. فَقَالَ لَهُ كُرْزٌ: وَمَا يَمْنَعُكَ وَأَنْتَ تَعْلَمُ هَذَا؟ فَقَالَ: مَا صَنَعَ بِنَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ ; شَرَّفُونَا وَمَوَّلُونَا وَأَخْدَمُونا، وَقَدْ أَبَوْا إِلَّا خِلَافَهُ، وَلَوْ فَعَلْتُ نَزَعُوا مِنَّا كُلَّ مَا تَرَى. قَالَ: فَأَضْمَرَ عَلَيْهَا مِنْهُ أَخُوهُ كُرْزٌ حَتَّى أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُمْ لَمَّا دَخَلُوا الْمَسْجِدَ النَّبَوِيَّ دَخَلُوا فِي تَجَمُّلٍ وَثِيَابٍ حِسَانٍ، وَقَدْ حَانَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَقَامُوا يُصَلُّونَ إِلَى الْمَشْرِقِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " دَعُوهُمْ ". فَكَانَ الْمُتَكَلِّمُ لَهُمْ أَبَا حَارِثَةَ بْنَ عَلْقَمَةَ وَالسَّيِّدَ وَالْعَاقِبَ حَتَّى نَزَلَ فِيهِمْ صَدْرُ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَالْمُبَاهَلَةُ، فَأَبَوْا ذَلِكَ وَسَأَلُوا أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُمْ
(7/271)
أَمِينًا، فَبَعَثَ مَعَهُمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
[وَفْدُ بَنِي عَامِرٍ وَقِصَّةُ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ وَأَرْبَدَ بْنِ قَيْسٍ]
ٍ لَعَنَهُمَا اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: «وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ بَنِي عَامِرٍ، فِيهِمْ ;» عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ وَأَرْبَدُ بْنُ قَيْسِ بْنِ جَزْءِ بْنِ خَالِدِ بْنِ جَعْفَرٍ وَجَبَّارُ بْنُ سُلْمَى بْنِ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرٍ وَكَانَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ رُؤَسَاءَ الْقَوْمِ وَشَيَاطِينَهُمْ، وَقَدِمَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ عَدُوُّ اللَّهِ، عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُرِيدُ الْغَدْرَ بِهِ، وَقَدْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ: يَا عَامِرُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ أَسْلَمُوا فَأَسْلِمْ. قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ آلَيْتُ أَلَّا أَنْتَهِيَ حَتَّى تَتْبَعَ الْعَرَبُ عَقِبِي، أَفَأَنَا أَتْبَعُ عَقِبَ هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ؟ ! ثُمَّ قَالَ لِأَرْبَدَ: إِنْ قَدِمْنَا عَلَى الرَّجُلِ، فَإِنِّي سَأَشْغَلُ عَنْكَ وَجْهَهُ، فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَاعْلُهُ بِالسَّيْفِ. فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عَامِرُ بْنُ
(7/272)
الطُّفَيْلِ يَا مُحَمَّدُ، خَالِنِي. قَالَ: " لَا وَاللَّهِ حَتَّى تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ ". قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، خَالِنِي. قَالَ: وَجَعَلَ يُكَلِّمُهُ، وَيَنْتَظِرُ مِنْ أَرْبَدَ مَا كَانَ أَمَرَهُ بِهِ، فَجَعَلَ أَرْبَدُ لَا يُحِيرُ شَيْئًا، فَلَمَّا رَأَى عَامِرٌ مَا يَصْنَعُ أَرْبَدُ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، خَالِنِي. قَالَ: " لَا حَتَّى تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ". فَلَمَّا أَبَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَأَمْلَأَنَّهَا عَلَيْكَ خَيْلًا وَرِجَالًا. فَلَمَّا وَلَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ اكْفِنِي عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ ". فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عَامِرٌ لِأَرْبَدَ: أَيْنَ مَا كُنْتُ أَمَرْتُكَ بِهِ، وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ رَجُلٌ أَخْوَفَ عَلَى نَفْسِي مِنْكَ، وَايْمُ اللَّهِ لَا أَخَافُكَ بَعْدَ الْيَوْمِ أَبَدًا. قَالَ: لَا أَبًا لَكَ! لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ، وَاللَّهِ مَا هَمَمْتُ بِالَّذِي أَمَرْتَنِي بِهِ إِلَّا دَخَلْتَ بَيْنِي وَبَيْنَ الرَّجُلِ حَتَّى مَا أَرَى غَيْرَكَ، أَفَأَضْرِبُكَ بِالسَّيْفِ؟ ! وَخَرَجُوا رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ بَعَثَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ الطَّاعُونَ فِي عُنُقِهِ، فَقَتَلَهُ اللَّهُ فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي سَلُولٍ، فَجَعَلَ يَقُولُ: يَا بَنِي عَامِرٍ، أَغُدَّةً كَغُدَّةِ الْبِكْرِ فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي سَلُولٍ؟ ! قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَيُقَالُ: أَغُدَّةً
(7/273)
كَغُدَّةِ الْإِبِلِ وَمَوْتًا فِي بَيْتِ سَلُولِيَّةٍ؟ .
وَرَوَى الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ حَدَّثَتْنِي فَاطِمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَوَلَةَ، عَنْ أَبِيهَا، عَنْ جَدِّهَا مَوَلَةَ بْنِ جَمِيلٍ قَالَ: أَتَى عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: " يَا عَامِرُ أَسْلِمْ ". فَقَالَ: أُسْلِمُ عَلَى أَنَّ لِي الْوَبَرَ وَلَكَ الْمَدَرَ؟ قَالَ: " لَا " ثُمَّ قَالَ: " أَسْلِمْ ". فَقَالَ: أُسْلِمُ عَلَى أَنَّ لِي الْوَبَرَ وَلَكَ الْمَدَرَ؟ قَالَ: " لَا ". فَوَلَّى وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ يَا مُحَمَّدُ لَأَمْلَأَنَّهَا عَلَيْكَ خَيْلًا جُرْدًا وَرِجَالًا مُرْدًا، وَلَأَرْبِطَنَّ بِكُلِّ نَخْلَةٍ فَرَسًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ اكْفِنِي عَامِرًا وَاهْدِ قَوْمَهُ ". فَخَرَجَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِظَهْرِ الْمَدِينَةِ صَادَفَ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِهِ، يُقَالُ لَهَا: سَلُولِيَّةٌ. فَنَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ، وَنَامَ فِي بَيْتِهَا، فَأَخَذَتْهُ غُدَّةٌ فِي حَلْقِهِ، فَوَثَبَ عَلَى فَرَسِهِ وَأَخَذَ رُمْحَهُ، وَأَقْبَلَ يَجُولُ وَهُوَ يَقُولُ: غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبِكْرِ، وَمَوْتٌ فِي بَيْتِ سَلُولِيَّةٍ. فَلَمْ تَزَلْ تِلْكَ حَالُهُ حَتَّى سَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ مَيِّتًا. وَذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي " الِاسْتِيعَابِ " فِي أَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ مَوَلَةَ هَذَا، فَقَالَ: هُوَ مَوَلَةُ بْنُ كُثَيْفٍ الضَّبَابِيُّ الْكِلَابِيُّ الْعَامِرِيُّ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً، فَأَسْلَمَ وَعَاشَ فِي الْإِسْلَامِ مِائَةَ سَنَةٍ، وَكَانَ يُدْعَى ذَا اللِّسَانَيْنِ ; مِنْ فَصَاحَتِهِ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ
(7/274)
عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَهُوَ الَّذِي رَوَى قِصَّةَ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ: غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَعِيرِ وَمَوْتٌ فِي بَيْتِ سَلُولِيَّةٍ. .
قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَتْنِي ظَمْيَاءُ بِنْتُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَوَلَةَ بْنِ كُثَيْفِ بْنِ جَمِيلِ بْنِ خَالِدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَهُوَ الضِّبَابُ بْنُ كِلَابِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، قَالَتْ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَوَلَةَ أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَبَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَسَحَ يَمِينَهُ، وَسَاقَ إِبِلَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَدَّقَهَا بِنْتَ لَبُونٍ، ثُمَّ صَحِبَ أَبَا هُرَيْرَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَاشَ فِي الْإِسْلَامِ مِائَةَ سَنَةٍ، وَكَانَ يُسَمَّى ذَا اللِّسَانَيْنِ ; مِنْ فَصَاحَتِهِ.
قُلْتُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ قِصَّةَ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى الْفَتْحِ، وَإِنْ كَانَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْبَيْهَقِيُّ قَدْ ذَكَرَاهَا بَعْدَ الْفَتْحِ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنِ الْأَصَمِّ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنْبَأَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو ثنا أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيَّ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ إِسْحَاقِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ بِئْرِ مَعُونَةَ وَقَتْلِ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ حَرَامَ بْنَ مِلْحَانَ - خَالَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - وَغَدْرِهِ بِأَصْحَابِ بِئْرِ مَعُونَةَ، حَتَّى قُتِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ سِوَى عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ كَمَا تَقَدَّمَ.
(7/275)
قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: قَالَ يَحْيَى: فَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو عَلَى عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ ثَلَاثِينَ صَبَاحًا: «اللَّهُمَّ اكْفِنِي عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ بِمَا شِئْتَ، وَابْعَثْ عَلَيْهِ مَا يَقْتُلُهُ» . فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ الطَّاعُونَ.
وَرَوَى عَنْ هَمَّامٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ حَرَامِ بْنِ مِلْحَانَ قَالَ: وَكَانَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ قَدْ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أُخَيِّرُكَ بَيْنَ ثَلَاثِ خِصَالٍ ; يَكُونُ لَكَ أَهْلُ السَّهْلِ وَيَكُونُ لِي أَهْلُ الْوَبَرِ، وَأَكُونُ خَلِيفَتَكَ مِنْ بَعْدِكَ، أَوْ أَغْزُوكَ بِغَطَفَانَ بِأَلْفِ أَشْقَرَ وَأَلْفِ شَقْرَاءَ؟ . قَالَ: فَطُعِنَ فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ فَقَالَ: أَغُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبِكْرِ وَمَوْتٌ فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي فُلَانٍ، ائْتُونِي بِفَرَسِي. فَرَكِبَ فَمَاتَ عَلَى ظَهْرِ فَرَسِهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ خَرَجَ أَصْحَابُهُ حِينَ وَارَوْهُ، حَتَّى قَدِمُوا أَرْضَ بَنِي عَامِرٍ شَاتِينَ، فَلَمَّا قَدِمُوا أَتَاهُمْ قَوْمُهُمْ، فَقَالُوا: مَا وَرَاءَكَ يَا أَرْبَدُ؟ قَالَ: لَا شَيْءَ، وَاللَّهِ لَقَدْ دَعَانَا إِلَى عِبَادَةِ شَيْءٍ لَوَدَدْتُ لَوْ أَنَّهُ عِنْدِي الْآنَ، فَأَرْمِيَهُ بِالنَّبْلِ حَتَّى أَقْتُلَهُ
(7/276)
الْآنَ. فَخَرَجَ بَعْدَ مَقَالَتِهِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ مَعَهُ جَمَلٌ لَهُ يَبِيعُهُ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى جَمَلِهِ صَاعِقَةً فَأَحْرَقَتْهُمَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ أَرْبَدُ بْنُ قَيْسٍ أَخَا لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ لِأُمِّهِ، فَقَالَ لَبِيدٌ يَبْكِي أَرْبَدَ:
مَا إِنْ تُعَرِّي الْمَنُونُ مِنْ أَحَدِ ... لَا وَالِدٍ مُشْفِقٍ وَلَا وَلَدِ
أَخْشَى عَلَى أَرْبَدَ الْحُتُوفَ وَلَا ... أَرْهَبُ نَوْءَ السِّمَاكِ وَالْأَسَدِ
يَا عَيْنُ هَلَّا بَكَيْتِ أَرْبَدَ إِذْ ... قُمْنَا وَقَامَ النِّسَاءُ فِي كَبَدِ
إِنْ يَشْغَبُوا لَا يُبَالِ شَغْبَهُمُ ... أَوْ يَقْصِدُوا فِي الْحُكُومِ يَقْتَصِدِ
حُلْوٌ كَرِيمٌ وَفِي حَلَاوَتِهِ ... مُرٌّ لَطِيفُ الْأَحْشَاءِ وَالْكَبَدِ
وَعَيْنِ هَلَّا بَكَيْتِ أَرْبَدَ إِذْ ... أَلْوَتِ رِيَاحُ الشِّتَاءِ بِالْعَضَدِ
فَأَصْبَحَتْ لَاقِحًا مُصَرَّمَةً ... حِينَ تَجَلَّتْ غَوَابِرُ الْمَدَدِ
(7/277)
أَشْجَعُ مِنْ لَيْثِ غَابَةٍ لَحِمٍ
ذُو نَهْمَةٍ فِي الْعُلَا وَمُنْتَقَدِ ... لَمْ تَبْلُغِ الْعَيْنُ كُلَّ نَهْمَتِهَا
لَيْلَةَ تُمْسِي الْجِيَادُ كَالْقِدَدِ ... الْبَاعِثُ النَّوْحَ فِي مَآتِمِهِ
مِثْلَ الظِّبَاءِ الْأَبْكَارِ بِالْجَرَدِ ... فَجَّعَنِي الْبَرْقُ وَالصَّوَاعِقُ بِالْ
فَارِسِ يَوْمَ الْكَرِيهَةِ النَّجِدِ ... الْحَارِبِ الْجَابِرِ الْحَرِيبِ إِذَا
جَاءَ نَكِيبًا وَإِنْ يَعُدْ يَعُدِ ... يَعْفُو عَلَى الْجَهْدِ وَالسُّؤَالِ كَمَا
يَنْبُتُ غَيْثُ الرَّبِيعِ ذِي الرَّصَدِ ... كُلُّ بَنِي حُرَّةٍ مَصِيرُهُمُ
قُلٌّ وَإِنْ أَكْثَرُوا مِنَ الْعَدَدِ ... إِنْ يُغْبَطُوا يُهْبَطُوا وَإِنْ أَمِرُوا
يَوْمًا يَصِيرُوا لِلْهلَاكِ وَالنَّقَدِ
وَقَدْ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ لَبِيدٍ أَشْعَارًا كَثِيرَةً فِي رِثَاءِ أَخِيهِ لِأُمِّهِ أَرْبَدَ
(7/278)
بْنِ قَيْسٍ تَرَكْنَاهَا اخْتِصَارًا وَاكْتِفَاءً بِمَا أَوْرَدْنَاهُ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَذَكَرَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي عَامِرٍ وَأَرْبَدَ: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ - عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ - سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ - لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 8 - 11] (الرَّعْدِ: 8 - 11) . يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَرْبَدَ وَقَتْلَهُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ - هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ - وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد: 11 - 13]
[الرَّعْدِ: 11 - 13] .
قُلْتُ: وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ فِي سُورَةِ " الرَّعْدِ ". وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَقَدْ وَقَعَ لَنَا إِسْنَادُ مَا عَلَّقَهُ ابْنُ هِشَامٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فَرَوَيْنَا مِنْ طَرِيقِ الْحَافِظِ أَبِي الْقَاسِمِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَحْمَدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي " مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ " حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا مَسْعَدَةُ بْنُ سَعْدٍ الْعَطَّارُ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عِمْرَانَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنَا زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ
(7/279)
أَبِيهِمَا، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَرْبَدَ بْنَ قَيْسِ بْنِ جَزْءِ بْنِ خَالِدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ وَعَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ بْنِ مَالِكٍ قَدِمَا الْمَدِينَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْتَهَيَا إِلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ، فَجَلَسَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ: يَا مُحَمَّدُ، مَا تَجْعَلُ لِي إِنْ أَسْلَمْتُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَكَ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْكَ مَا عَلَيْهِمْ ". قَالَ عَامِرٌ: أَتَجْعَلُ لِيَ الْأَمْرَ إِنْ أَسْلَمْتُ مِنْ بَعْدِكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ وَلَا لِقَوْمِكَ وَلَكِنْ لَكَ أَعِنَّةُ الْخَيْلِ ". قَالَ: أَنَا الْآنَ فِي أَعِنَّةِ خَيْلِ نَجْدٍ، اجْعَلْ لِي الْوَبَرَ وَلَكَ الْمَدَرَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا "، فَلَمَّا قَفَا مِنْ عِنْدِهِ، قَالَ عَامِرٌ: أَمَا وَاللَّهِ لَأَمْلَأَنَّهَا عَلَيْكَ خَيْلًا وَرِجَالًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَمْنَعُكَ اللَّهُ ". فَلَمَّا خَرَجَ أَرْبَدُ وَعَامِرٌ قَالَ عَامِرٌ: يَا أَرْبَدُ أَنَا أَشْغَلُ عَنْكَ مُحَمَّدًا بِالْحَدِيثِ، فَاضْرِبْهُ بِالسَّيْفِ فَإِنَّ النَّاسَ إِذَا قَتَلْتَ مُحَمَّدًا لَمْ يَزِيدُوا عَلَى أَنْ يَرْضُوا بِالدِّيَةِ، وَيَكْرَهُوا الْحَرْبَ، فَسَنُعْطِيهِمُ الدِّيَةَ. قَالَ أَرْبَدُ: أَفْعَلُ. فَأَقْبَلَا رَاجِعَيْنِ إِلَيْهِ، فَقَالَ عَامِرٌ: يَا مُحَمَّدُ، قُمْ مَعِي أُكَلِّمْكَ. فَقَامَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَلَّيَا إِلَى الْجِدَارِ، وَوَقَفَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَلِّمُهُ، وَسَلَّ أَرْبَدُ السَّيْفَ، فَلَمَّا وَضَعَ يَدَهُ عَلَى السَّيْفِ، يَبِسَتْ يَدُهُ عَلَى قَائِمِ السَّيْفِ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ سَلَّ السَّيْفِ، فَأَبْطَأَ أَرْبَدُ عَلَى عَامِرٍ بِالضَّرْبِ، فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى أَرْبَدَ وَمَا يَصْنَعُ، فَانْصَرَفَ عَنْهُمَا، فَلَمَّا خَرَجَ أَرْبَدُ وَعَامِرٌ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كَانَا بِالْحَرَّةِ، حَرَّةِ وَاقِمٍ، نَزَلَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا سَعْدُ بْنُ
(7/280)
مُعَاذٍ وَأُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ فَقَالَا: اشْخَصَا يَا عَدُوَّيِ اللَّهِ، لَعَنَكَمَا اللَّهُ. فَقَالَ عَامِرٌ: مَنْ هَذَا يَا سَعْدُ؟ قَالَ: أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرِ الْكَتَائِبِ. فَخَرَجَا حَتَّى إِذَا كَانَا بِالرَّقَمِ أَرْسَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى أَرْبَدَ صَاعِقَةً فَقَتَلَتْهُ، وَخَرَجَ عَامِرٌ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْخُرَيْمِ، أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ قُرْحَةً فَأَخَذَتْهُ، فَأَدْرَكَهُ اللَّيْلُ فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي سَلُولٍ، فَجَعَلَ يَمَسُّ قُرْحَتَهُ فِي حَلْقِهِ وَيَقُولُ: غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْجَمَلِ فِي بَيْتِ سَلُولِيَّةٍ! يَرْغَبُ عَنْ أَنْ يَمُوتَ فِي بَيْتِهَا، ثُمَّ رَكِبَ فَرَسَهُ فَأَحْضَرَهَا حَتَّى مَاتَ عَلَيْهَا رَاجِعًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمَا {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} [الرعد: 8] إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: 11] قَالَ: الْمُعَقِّبَاتُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ يَحْفَظُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَرْبَدَ وَمَا قَتَلَهُ بِهِ فَقَالَ: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ} [الرعد: 13] الْآيَةَ. .
وَفِي هَذَا السِّيَاقِ دَلَالَةٌ عَلَى تَقَدُّمِ قِصَّةِ عَامِرٍ وَأَرْبَدَ وَذَلِكَ لِذِكْرِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ وُفُودُ الطُّفَيْلِ بْنِ عَامِرٍ الدَّوْسِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
(7/281)
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ وَإِسْلَامُهُ، وَكَيْفَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ نُورًا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، ثُمَّ سَأَلَ اللَّهَ فَحَوَّلَهُ لَهُ إِلَى طَرَفِ سَوْطِهِ وَبَسَطْنَا ذَلِكَ هُنَالِكَ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِعَادَتِهِ هَاهُنَا، كَمَا صَنَعَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ.
[قُدُومُ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَافِدًا عَلَى قَوْمِهِ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ]
ٍ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ نُوَيْفِعٍ عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَتْ بَنُو سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ ضِمَامَ بْنَ ثَعْلَبَةَ وَافِدًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدِمَ إِلَيْهِ وَأَنَاخَ بَعِيرَهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ عَلَّقَهُ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ وَكَانَ ضِمَامٌ رَجُلًا جَلْدًا أَشْعَرَ ذَا غَدِيرَتَيْنِ، فَأَقْبَلَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَيُّكُمُ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ". فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ. قَالَ: " نَعَمْ ". قَالَ: يَا ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِنِّي سَائِلُكَ وَمُغَلِّظٌ عَلَيْكَ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَلَا تَجِدَنَّ فِي نَفْسِكَ. قَالَ: " لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي، فَسَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ ". فَقَالَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ إِلَهَكَ، وَإِلَهَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ، وَإِلَهَ مَنْ هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكَ، آللَّهُ بَعَثَكَ إِلَيْنَا رَسُولًا؟ قَالَ: " اللَّهُمَّ نَعَمْ ". قَالَ: فَأَنْشُدُكَ اللَّهَ إِلَهَكَ، وَإِلَهَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ، وَإِلَهَ مَنْ هُوَ كَائِنٌ
(7/282)
بَعْدَكَ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنَّ تَأْمُرَنَا أَنْ نَعْبُدَهُ وَحْدَهُ، وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ نَخْلَعَ هَذِهِ الْأَنْدَادَ الَّتِي كَانَ آبَاؤُنَا يَعْبُدُونَ؟ قَالَ: " اللَّهُمَّ نَعَمْ ". قَالَ: فَأَنْشُدُكَ اللَّهَ إِلَهَكَ، وَإِلَهَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ، وَإِلَهَ مَنْ هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكَ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نُصَلِّيَ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ؟ قَالَ: " اللَّهُمَّ نَعَمْ ". قَالَ: ثُمَّ جَعَلَ يَذْكُرُ فَرَائِضَ الْإِسْلَامِ فَرِيضَةً فَرِيضَةً ; الزَّكَاةَ، وَالصِّيَامَ، وَالْحَجَّ، وَشَرَائِعَ الْإِسْلَامِ كُلَّهَا، يَنْشُدُهُ عِنْدَ كُلِّ فَرِيضَةٍ مِنْهَا، كَمَا يَنْشُدُهُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، حَتَّى إِذَا فَرَغَ قَالَ: فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَسَأُؤَدِّي هَذِهِ الْفَرَائِضَ، وَأَجْتَنِبُ مَا نَهَيْتَنِي عَنْهُ، ثُمَّ لَا أَزِيدُ وَلَا أَنْقُصُ. ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى بَعِيرِهِ رَاجِعًا. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنْ صَدَقَ ذُو الْعَقِيصَتَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ ". قَالَ: فَأَتَى بَعِيرَهُ فَأَطْلَقَ عِقَالَهُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: بِئْسَتِ اللَّاتُ وَالْعُزَّى. فَقَالُوا: مَهْ يَا ضِمَامُ اتَّقِ الْبَرَصَ، اتَّقِ الْجُذَامَ، اتَّقِ الْجُنُونَ. فَقَالَ: وَيْلَكُمْ، إِنَّهُمَا وَاللَّهِ لَا يَضُرَّانِ وَلَا يَنْفَعَانِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ رَسُولًا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابًا اسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِمَّا كُنْتُمْ فِيهِ، وَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَقَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِهِ بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا أَمْسَى مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَفِي حَاضِرِهِ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ إِلَّا مُسْلِمًا.
(7/283)
قَالَ: يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَمَا سَمِعْنَا بِوَافِدِ قَوْمٍ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ. وَهَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَذَكَرَهُ، وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ سَلَمَةَ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ نُوَيْفِعٍ عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِنَحْوِهِ. وَفِي هَذَا السِّيَاقِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ قَبْلَ الْفَتْحِ ; لِأَنَّ الْعُزَّى خَرَّبَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ أَيَّامَ الْفَتْحِ.
وَقَدْ قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَتْ بَنُو سَعْدِ بْنُ بَكْرٍ فِي رَجَبٍ سَنَةَ خَمْسٍ ضِمَامَ بْنَ ثَعْلَبَةَ وَكَانَ جَلْدًا أَشْعَرَ ذَا غَدِيرَتَيْنِ، وَافِدًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقْبَلَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ فَأَغْلَظَ فِي الْمَسْأَلَةِ ; سَأَلَهُ عَمَّنْ أَرْسَلَهُ، وَبِمَا أَرْسَلَهُ، وَسَأَلَهُ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، فَأَجَابَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ مُسْلِمًا قَدْ خَلَعَ الْأَنْدَادَ، فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ، فَمَا أَمْسَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي حَاضِرِهِ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ إِلَّا مُسْلِمًا، وَبَنَوُا الْمَسَاجِدَ وَأَذَّنُوا بِالصَّلَاةِ. .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ ثنا سُلَيْمَانُ - يَعْنِي ابْنَ الْمُغِيرَةِ - عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «كُنَّا نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ، فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الْعَاقِلُ، فَيَسْأَلُهُ وَنَحْنُ
(7/284)
نَسْمَعُ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَتَانَا رَسُولُكَ فَزَعَمَ لَنَا أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ. قَالَ: " صَدَقَ ". قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ؟ قَالَ: " اللَّهُ ". قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ؟ قَالَ: " اللَّهُ ". قَالَ: فَمَنْ نَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ وَجَعَلَ فِيهَا مَا جَعَلَ؟ قَالَ: " اللَّهُ ". قَالَ: فَبِالَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ، وَخَلَقَ الْأَرْضَ وَنَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ، آللَّهُ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: " نَعَمْ ". قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِنَا وَلَيْلَتِنَا. قَالَ: " صَدَقَ ". قَالَ: فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: " نَعَمْ ". قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا زَكَاةً فِي أَمْوَالِنَا. قَالَ: " صَدَقَ ". قَالَ: فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ، آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: " نَعَمْ ". قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي سَنَتِنَا. قَالَ: " صَدَقَ ". قَالَ: فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ، آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: " نَعَمْ ". قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا حَجَّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. قَالَ: " صَدَقَ ". قَالَ: ثُمَّ وَلَّى، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيًّا لَا أَزِيدُ عَلَيْهِنَّ شَيْئًا، وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُنَّ شَيْئًا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ» ". وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " وَغَيْرِهِمَا بِأَسَانِيدَ وَأَلْفَاظٍ كَثِيرَةٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي النَّضْرِ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ.
(7/285)
وَأَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِنَحْوِهِ، فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ ثنا لَيْثٌ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: «بَيْنَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُلُوسًا فِي الْمَسْجِدِ، دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ، فَأَنَاخَهُ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ وَرَسُولُ اللَّهِ مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ قَالَ: فَقُلْنَا: هَذَا الرَّجُلُ الْأَبْيَضُ الْمُتَّكِئُ. فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَدْ أَجَبْتُكَ ". فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي سَائِلُكَ فَمُشْتَدٌّ عَلَيْكَ فِي الْمَسْأَلَةِ فَلَا تَجِدْ عَلَيَّ فِي نَفْسِكَ. فَقَالَ: " سَلْ مَا بَدَا لَكَ ". فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنْشُدُكَ بِرَبِّكَ وَرَبٍّ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ، آللَّهُ أَرْسَلَكَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ نَعَمْ ". قَالَ: فَأَنْشُدُكَ اللَّهَ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؟ قَالَ: " اللَّهُمَّ نَعَمْ ". قَالَ: فَأَنْشُدُكَ اللَّهَ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنَ السَّنَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ نَعَمْ ". قَالَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنَّ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتَقْسِمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ نَعَمْ ". قَالَ الرَّجُلُ: آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَأَنَا رَسُولٌ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي، وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ، أَخُو بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ» . وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ بِهِ، وَهَكَذَا رَوَاهُ
(7/286)
أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ اللَّيْثِ بِهِ، وَالْعَجَبُ أَنَّ النَّسَائِيَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، عَنِ اللَّيْثِ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ عَجْلَانَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَذَكَرَهُ، وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعُمَرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَلَعَلَّهُ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ مِنَ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا.
[قُدُومُ ضِمَامٍ الْأَسَدِيِّ]
فَصْلٌ (فِي قُدُومِ ضِمَامٍ الْأَسَدِيِّ) .
وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قُدُومِ ضِمَادٍ الْأَزْدِيِّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَإِسْلَامِهِ وَإِسْلَامِ قَوْمِهِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ مَبْسُوطًا بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
(7/287)
[وَفْدُ طَيِّئٍ مَعَ زَيْدِ الْخَيْلِ]
ِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَهُوَ زَيْدُ بْنُ مُهَلْهِلِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مُنْهِبٍ أَبُو مُكْنِفٍ الطَّائِيُّ وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ الْعَرَبِ وَأَطْوَلِهِمْ رَجُلًا، وَسُمِّي زَيْدَ الْخَيْلِ لِخَمْسِ أَفْرَاسٍ كُنَّ لَهُ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَلَهُنَّ أَسْمَاءٌ لَا يَحْضُرُنِي الْآنَ حِفْظُهَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ طَيِّئٍ، وَفِيهِمْ زَيْدُ الْخَيْلِ وَهُوَ سَيِّدُهُمْ فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَيْهِ كَلَّمُوهُ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِسْلَامَ، فَأَسْلَمُوا فَحَسُنَ إِسْلَامُهُمْ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا حَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ مِنْ رِجَالِ طَيِّئٍ: «مَا ذُكِرَ لِي رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ بِفَضْلٍ، ثُمَّ جَاءَنِي إِلَّا رَأَيْتُهُ دُونَ مَا يُقَالُ فِيهِ، إِلَّا» زَيْدَ الْخَيْلِ فَإِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ كُلَّ الَّذِي فِيهِ ". ثُمَّ سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدَ الْخَيْرِ وَقَطَعَ لَهُ فَيْدَ وَأَرَضِينَ مَعَهُ، وَكَتَبَ لَهُ بِذَلِكَ، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِعًا إِلَى قَوْمِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنْ يَنْجُ زَيْدٌ مِنْ حُمَّى الْمَدِينَةِ فَإِنَّهُ ". قَالَ: وَقَدْ سَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاسْمٍ غَيْرِ الْحُمَّى
(7/288)
وَغَيْرِ أُمِّ مَلْدَمٍ، لَمْ يُثْبِتْهُ. قَالَ: فَلَمَّا انْتَهَى مِنْ بَلَدِ نَجْدٍ إِلَى مَاءٍ مِنْ مِيَاهِهِ يُقَالُ لَهُ: فَرْدَةُ. أَصَابَتْهُ الْحُمَّى، فَمَاتَ بِهَا، وَلَمَّا أَحَسَّ بِالْمَوْتِ قَالَ:
أَمُرْتَحِلٌ قَوْمِي الْمَشَارِقَ غُدْوَةً ... وَأَتْرُكُ فِي بَيْتٍ بِفَرْدَةَ مُنْجِدِ
أَلَا رُبَّ يَوْمٍ لَوْ مَرِضْتُ لَعَادَنِي ... عَوَائِدُ مَنْ لَمْ يُبْرَ مِنْهُنَّ يَجْهَدِ
قَالَ وَلَمَّا مَاتَ عَمَدَتِ امْرَأَتُهُ بِجَهْلِهَا وَقِلَّةِ عَقْلِهَا وَدِينِهَا - إِلَى مَا كَانَ مَعَهُ مِنَ الْكُتُبِ فَحَرَقَتْهَا بِالنَّارِ. قُلْتُ: وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ «بَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْيَمَنِ بِذُهَيْبَةٍ فِي تُرْبَتِهَا، فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَرْبَعَةٍ ; زَيْدِ الْخَيْلِ وَعَلْقَمَةَ بْنِ عُلَاثَةَ وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ» . الْحَدِيثَ. وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ فِي بَعْثِ عَلِيٍّ إِلَى الْيَمَنِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
[قِصَّةُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ]
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي " الصَّحِيحِ ": وَفْدُ طَيِّئٍ وَحَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ حَدَّثَنَا
(7/289)
مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثنا أَبُو عَوَانَةَ ثنا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: أَتَيْنَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي وَفْدٍ، فَجَعَلَ يَدْعُو رَجُلًا رَجُلًا يُسَمِّيهِمْ، فَقُلْتُ: أَمَا تَعْرِفُنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: بَلَى، أَسْلَمْتَ إِذْ كَفَرُوا، وَأَقْبَلْتَ إِذْ أَدْبَرُوا، وَوَفَيْتَ إِذْ غَدَرُوا، وَعَرَفْتَ إِذْ أَنْكَرُوا. فَقَالَ عَدِيٌّ: لَا أُبَالِي إِذًا.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأَمَّا عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ فَكَانَ يَقُولُ، فِيمَا بَلَغَنِي: مَا رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ كَانَ أَشَدَّ كَرَاهَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَمِعَ بِهِ مِنِّي، أَمَّا أَنَا فَكُنْتُ امْرَأً شَرِيفًا، وَكُنْتُ نَصْرَانِيًّا، وَكُنْتُ أَسِيرُ فِي قَوْمِي بِالْمِرْبَاعِ، وَكُنْتُ فِي نَفْسِي عَلَى دِينٍ، وَكُنْتُ مَلِكًا فِي قَوْمِي ; لِمَا كَانَ يُصْنَعُ بِي، فَلَمَّا سَمِعْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرِهْتُهُ، فَقُلْتُ لِغُلَامٍ كَانَ لِي عَرَبِيٍّ، وَكَانَ رَاعِيًا لِإِبِلِي: لَا أَبًا لَكَ، أُعْدُدْ لِي مِنْ إِبِلِي أَجْمَالًا ذُلُلًا سِمَانًا، فَاحْتَبِسْهَا قَرِيبًا مِنِّي، فَإِذَا سَمِعْتَ بِجَيْشٍ لِمُحَمَّدٍ قَدْ وَطِئَ هَذِهِ الْبِلَادَ فَآذِنِّي، فَفَعَلَ، ثُمَّ أَنَّهُ أَتَانِي ذَاتَ غَدَاةٍ فَقَالَ: يَا عَدِيُّ مَا كُنْتَ صَانِعًا إِذَا غَشِيَتْكَ خَيْلُ مُحَمَّدٍ، فَاصْنَعْهُ الْآنَ ; فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَايَاتٍ، فَسَأَلْتُ عَنْهَا فَقَالُوا: هَذِهِ جُيُوشُ مُحَمَّدٍ. قَالَ: قُلْتُ: فَقَرِّبْ إِلَى أَجْمَالِي، فَقَرَّبَهَا فَاحْتَمَلْتُ بِأَهْلِي وَوَلَدِي، ثُمَّ قُلْتُ: أَلْحَقُ بِأَهْلِ دِينِي مِنَ النَّصَارَى بِالشَّامِ. فَسَلَكْتُ الْجُوشِيَّةَ وَخَلَّفْتُ بِنْتًا لِحَاتِمٍ فِي الْحَاضِرِ، فَلَمَّا
(7/290)
قَدِمْتُ الشَّامَ أَقَمْتُ بِهَا وَتُخَالِفُنِي خَيْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتُصِيبُ ابْنَةَ حَاتِمٍ فِيمَنْ أَصَابَتْ، فَقُدِمَ بِهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبَايَا مِنْ طَيِّئٍ، وَقَدْ بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَرَبِي إِلَى الشَّامِ. قَالَ: فَجُعِلَتِ ابْنَةُ حَاتِمٍ فِي حَظِيرَةٍ بِبَابِ الْمَسْجِدِ، كَانَتِ السَّبَايَا تُحْبَسُ بِهَا، فَمَرَّ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَتْ إِلَيْهِ، وَكَانَتِ امْرَأَةً جَزْلَةً فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَ الْوَالِدُ، وَغَابَ الْوَافِدُ، فَامْنُنْ عَلَيَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ. قَالَ: " وَمَنْ وَافِدُكِ؟ " قَالَتْ: عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ قَالَ: " الْفَارُّ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ " قَالَتْ: ثُمَّ مَضَى وَتَرَكَنِي حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ مَرَّ بِي، فَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَقَالَ لِي مِثْلَ مَا قَالَ بِالْأَمْسِ. قَالَتْ: حَتَّى إِذَا كَانَ بَعْدَ الْغَدِ مَرَّ بِي وَقَدْ يَئِسْتُ، فَأَشَارَ إِلَيَّ رَجُلٌ خَلْفَهُ أَنْ قُومِي فَكَلِّمِيهِ. قَالَتْ: فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَ الْوَالِدُ، وَغَابَ الْوَافِدُ، فَامْنُنْ عَلَيَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَدْ فَعَلْتُ، فَلَا تَعْجَلِي بِخُرُوجٍ حَتَّى تَجِدِي مِنْ قَوْمِكَ مَنْ يَكُونُ لَكِ ثِقَةً حَتَّى يُبَلِّغَكِ إِلَى بِلَادِكِ، ثُمَّ آذِنِينِي ". فَسَأَلَتْ عَنِ الرَّجُلِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيَّ أَنْ كَلِّمِيهِ فَقِيلَ لِي: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَتْ: فَأَقَمْتُ حَتَّى قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ بَلِيٍّ أَوْ قُضَاعَةَ. قَالَتْ: وَإِنَّمَا أُرِيدُ أَنْ آتِيَ أَخِي بِالشَّامِ، فَجِئْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ قَدِمَ رَهْطٌ مِنْ قَوْمِي، لِي فِيهِمْ ثِقَةٌ وَبَلَاغٌ. قَالَتْ: فَكَسَانِي وَحَمَلَنِي، وَأَعْطَانِي نَفَقَةً، فَخَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ. قَالَ عَدِيٌّ: فَوَاللَّهِ إِنِّي لَقَاعِدٌ فِي أَهْلِي إِذْ نَظَرْتُ إِلَى ظَعِينَةٍ تُصَوِّبُ إِلَى قَوْمِنَا. قَالَ: فَقُلْتُ: ابْنَةُ حَاتِمٍ؟
(7/291)
قَالَ: فَإِذَا هِيَ هِيَ، فَلَمَّا وَقَفَتْ عَلَيَّ انْسَحَلَتْ تَقُولُ: الْقَاطِعُ الظَّالِمُ، احْتَمَلْتَ بِأَهْلِكَ وَوَلَدِكَ وَتَرَكْتَ بَقِيَّةَ وَالِدِكَ عَوْرَتَكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَيْ أُخَيَّةُ لَا تَقُولِي إِلَّا خَيْرًا، فَوَاللَّهِ مَا لِي مِنْ عُذْرٍ، لَقَدْ صَنَعْتُ مَا ذَكَرْتِ. قَالَ: ثُمَّ نَزَلَتْ فَأَقَامَتْ عِنْدِي، فَقُلْتُ لَهَا وَكَانَتِ امْرَأَةً حَازِمَةً: مَاذَا تَرَيْنَ فِي أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ؟ قَالَتْ: أَرَى وَاللَّهِ أَنْ تَلْحَقَ بِهِ سَرِيعًا، فَإِنْ يَكُنِ الرَّجُلُ نَبِيًّا فَلِلسَّابِقِ إِلَيْهِ فَضْلُهُ، وَإِنْ يَكُنْ مَلِكًا فَلَنْ تَزِلَّ فِي عِزِّ الْيَمَنِ وَأَنْتَ أَنْتَ. قَالَ: قُلْتُ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا الرَّأْيُ. قَالَ: فَخَرَجْتُ حَتَّى أَقْدُمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَسْجِدِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: " مَنِ الرَّجُلُ؟ " فَقُلْتُ: عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ. فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْطَلَقَ بِي إِلَى بَيْتِهِ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَعَامِدٌ بِي إِلَيْهِ إِذْ لَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ ضَعِيفَةٌ كَبِيرَةٌ فَاسْتَوْقَفَتْهُ، فَوَقَفَ لَهَا طَوِيلًا تُكَلِّمُهُ فِي حَاجَتِهَا، قَالَ: قُلْتُ فِي نَفْسِي: وَاللَّهِ مَا هَذَا بِمَلِكٍ. قَالَ: ثُمَّ مَضَى بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ تَنَاوَلَ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ مَحْشُوَّةً لِيفًا فَقَذَفَهَا إِلَيَّ فَقَالَ: " اجْلِسْ عَلَى هَذِهِ ". قَالَ: قُلْتُ: بَلْ أَنْتَ فَاجْلِسْ عَلَيْهَا. قَالَ: " بَلْ أَنْتَ ". فَجَلَسْتُ وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَرْضِ. قَالَ: قُلْتُ فِي نَفْسِي: وَاللَّهِ مَا هَذَا بِأَمْرِ مَلِكٍ. ثُمَّ قَالَ: " إِيهِ يَا عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ أَلَمْ تَكُ رَكُوسِيًّا؟ " قَالَ: قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: " أَوَلَمْ تَكُنْ تَسِيرُ فِي قَوْمِكَ بِالْمِرْبَاعِ؟ " قَالَ: قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: " فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يَحِلُّ لَكَ فِي دِينِكَ ". قَالَ: قُلْتُ: أَجَلْ وَاللَّهِ. قَالَ:
(7/292)
وَعَرَفْتُ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ يَعْلَمُ مَا يُجْهَلُ. ثُمَّ قَالَ: " لَعَلَّكَ يَا عَدِيُّ إِنَّمَا يَمْنَعُكَ مِنْ دُخُولٍ فِي هَذَا الدِّينِ مَا تَرَى مِنْ حَاجَتِهِمْ، فَوَاللَّهِ لَيُوشِكَنَّ الْمَالُ أَنْ يَفِيضَ فِيهِمْ حَتَّى لَا يُوجَدَ مَنْ يَأْخُذُهُ، وَلَعَلَّكَ إِنَّمَا يَمْنَعُكَ مِنْ دُخُولٍ فِيهِ مَا تَرَى مِنْ كَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ وَقِلَّةِ عَدَدِهِمْ، فَوَاللَّهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ تَسْمَعَ بِالْمَرْأَةِ تَخْرُجُ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ عَلَى بَعِيرِهَا حَتَّى تَزُورَ هَذَا الْبَيْتَ لَا تَخَافُ، وَلَعَلَّكَ إِنَّمَا يَمْنَعُكَ مِنْ دُخُولٍ فِيهِ أَنَّكَ تَرَى أَنَّ الْمُلْكَ وَالسُّلْطَانَ فِي غَيْرِهِمْ، وَايْمُ اللَّهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ تَسْمَعَ بِالْقُصُورِ الْبِيضِ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ قَدْ فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ ". قَالَ فَأَسْلَمْتُ. قَالَ: فَكَانَ عَدِيٌّ يَقُولُ: مَضَتِ اثْنَتَانِ وَبَقِيَتِ الثَّالِثَةُ وَاللَّهِ لَتَكُونَنَّ ; وَقَدْ رَأَيْتُ الْقُصُورَ الْبِيضَ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ قَدْ فُتِحَتْ وَرَأَيْتُ الْمَرْأَةَ تَخْرُجُ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ عَلَى بَعِيرِهَا لَا تَخَافُ حَتَّى تَحُجَّ هَذَا الْبَيْتَ وَايْمُ اللَّهِ لَتَكُونَنَّ الثَّالِثَةُ ; لَيَفِيضُ الْمَالُ حَتَّى لَا يُوجَدَ مَنْ يَأْخُذُهُ. هَكَذَا أَوْرَدَ ابْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا السِّيَاقَ بِلَا إِسْنَادٍ، وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ.
فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ سَمِعْتُ سِمَاكَ بْنَ حَرْبٍ سَمِعْتُ عَبَّادَ بْنَ حُبَيْشٍ يُحَدِّثُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: «جَاءَتْ خَيْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا بِعَقْرَبٍ، فَأَخَذُوا عَمَّتِي وَنَاسًا، فَلَمَّا أَتَوْا بِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَصُفُّوا لَهُ. قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَأَى الْوَافِدُ
(7/293)
وَانْقَطَعَ الْوَلَدُ، وَأَنَا عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ مَا بِي مِنْ خِدْمَةٍ، فَمُنَّ عَلَيَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ. فَقَالَ: " وَمَنْ وَافِدُكَ؟ " قَالَتْ: عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ قَالَ: " الَّذِي فَرَّ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ " قَالَتْ: فَمُنَّ عَلَيَّ. فَلَمَّا رَجَعَ وَرَجُلٌ إِلَى جَنْبِهِ تَرَى أَنَّهُ عَلِيٌّ قَالَ: سَلِيهِ حُمْلَانًا. قَالَ فَسَأَلَتْهُ فَأَمَرَ لَهَا. قَالَ عَدِيٌّ: فَأَتَتْنِي فَقَالَتْ: لَقَدْ فَعَلْتَ فَعْلَةً مَا كَانَ أَبُوكَ يَفْعَلُهَا. وَقَالَتْ: ائْتِهِ رَاغِبًا أَوْ رَاهِبًا، فَقَدْ أَتَاهُ فُلَانٌ فَأَصَابَ مِنْهُ، وَأَتَاهُ فُلَانٌ فَأَصَابَ مِنْهُ. قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فَإِذَا عِنْدَهُ امْرَأَةٌ وَصِبْيَانٌ أَوْ صَبِيٌّ، فَذَكَرَ قُرْبَهُمْ مِنْهُ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَيْسَ مَلِكَ كِسْرَى وَلَا قَيْصَرَ. فَقَالَ لَهُ: " يَا عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ مَا أَفَرَّكَ؟ أَفَرَّكَ أَنْ يُقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ فَهَلْ مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ؟ ! مَا أَفَرَّكَ؟ أَفَرَّكَ أَنْ يُقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ؟ فَهَلْ شَيْءٌ هُوَ أَكْبَرُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ ! " فَأَسْلَمْتُ فَرَأَيْتُ وَجْهَهُ اسْتَبْشَرَ وَقَالَ: " إِنَّ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمُ الْيَهُودُ، وَإِنَّ الضَّالِّينَ النَّصَارَى ". قَالَ: ثُمَّ سَأَلُوهُ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ فَلَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أَنْ تُرْضَخُوا مِنَ الْفَضْلِ ارْتَضَخَ امْرُؤٌ بِصَاعٍ، بِبَعْضِ صَاعٍ، بِقَبْضَةٍ، بِبَعْضِ قَبْضَةٍ " - قَالَ شُعْبَةُ: وَأَكْثَرُ عِلْمِي أَنَّهُ قَالَ: " بِتَمْرَةٍ، بِشِقِّ تَمْرَةٍ " - وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَاقِي اللَّهِ فَقَائِلٌ مَا أَقُولُ: أَلَمْ أَجْعَلْكَ سَمِيعًا بَصِيرًا؟ أَلَمْ أَجْعَلْ لَكَ مَالًا وَوَلَدًا؟ فَمَاذَا قَدَّمْتَ؟ فَيَنْظُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، وَعَنْ
(7/294)
يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ فَلَا يَجِدُ شَيْئًا، فَمَا يَتَّقِي النَّارَ إِلَّا بِوَجْهِهِ فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوهُ فَبِكَلِمَةٍ لَيِّنَةٍ، إِنِّي لَا أَخْشَى عَلَيْكُمُ الْفَاقَةَ، لَيَنْصُرَنَّكُمُ اللَّهُ وَلَيُعْطِيَنَّكُمْ أَوْ لَيَفْتَحَنَّ عَلَيْكُمْ حَتَّى تَسِيرَ الظَّعِينَةُ بَيْنَ الْحِيرَةِ وَيَثْرِبَ أَوْ أَكْثَرَ مَا تَخَافُ السَّرَقَ عَلَى ظَعِينَتِهَا» ". وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ وَعَمْرِو بْنِ أَبِي قَيْسٍ كِلَاهُمَا عَنْ سِمَاكٍ ثُمَّ قَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ سِمَاكٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا يَزِيدُ أَنْبَأَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ - هُوَ ابْنُ حُذَيْفَةَ - عَنْ رَجُلٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكَ أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْكَ. قَالَ: نَعَمْ، لَمَّا بَلَغَنِي خُرُوجُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرِهْتُ خُرُوجَهُ كَرَاهِيَةً شَدِيدَةً، فَخَرَجْتُ حَتَّى وَقَعْتُ نَاحِيَةَ الرُّومِ - وَفِي رِوَايَةٍ: حَتَّى قَدِمْتُ عَلَى قَيْصَرَ - قَالَ: فَكَرِهْتُ مَكَانِي ذَلِكَ أَشَدَّ مِنْ كَرَاهَتِي لِخُرُوجِهِ. قَالَ: قُلْتُ: وَاللَّهِ لَوْ أَتَيْتُ هَذَا الرَّجُلَ فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا لَمْ يَضُرَّنِي، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا عَلِمْتُ. قَالَ: فَقَدِمْتُ فَأَتَيْتُهُ، فَلَمَّا قَدِمْتُ، قَالَ النَّاسُ: عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ
(7/295)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي: «يَا عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ أَسْلِمْ تَسْلَمْ " ثَلَاثًا. قَالَ: قُلْتُ: إِنِّي عَلَى دِينٍ. قَالَ: " أَنَا أَعْلَمُ بِدِينِكَ مِنْكَ ". فَقُلْتُ: أَنْتَ أَعْلَمُ بِدِينِي مِنِّي؟ ! قَالَ: " نَعَمْ، أَلَسْتَ مِنَ الرَّكُوسِيَّةِ، وَأَنْتَ تَأْكُلُ مِرْبَاعَ قَوْمِكَ؟ " قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: " هَذَا لَا يَحِلُّ لَكَ فِي دِينِكَ ". قَالَ: نَعَمْ. فَلَمْ يَعْدُ أَنْ قَالَهَا فَتَوَاضَعْتُ لَهَا. قَالَ: " أَمَا إِنِّي أَعْلَمُ الَّذِي يَمْنَعُكَ مِنَ الْإِسْلَامِ ; تَقُولُ: إِنَّمَا اتَّبَعَهُ ضَعَفَةُ النَّاسِ وَمَنْ لَا قُوَّةَ لَهُ، وَقَدْ رَمَتْهُمُ الْعَرَبُ. أَتَعْرِفُ الْحِيرَةَ؟ " قُلْتُ: لَمْ أَرَهَا وَقَدْ سَمِعْتُ بِهَا. قَالَ: " فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى تَخْرُجَ الظَّعِينَةُ مِنَ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْبَيْتِ فِي غَيْرِ جِوَارِ أَحَدٍ، وَلَيَفْتَحَنَّ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ ". قَالَ: قُلْتُ: كِسْرَى بْنَ هُرْمُزَ؟ ! قَالَ: " نَعَمْ كِسْرَى بْنَ هُرْمُزَ وَلَيُبْذَلَنَّ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ ". قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ فَهَذِهِ الظَّعِينَةُ تَخْرُجُ مِنَ الْحِيرَةِ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ فِي غَيْرِ جِوَارٍ، وَلَقَدْ كُنْتُ فِيمَنْ فَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَكُونَنَّ الثَّالِثَةُ ; لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَدْ قَالَهَا» .
ثُمَّ قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ حُذَيْفَةَ عَنْ رَجُلٍ - وَقَالَ حَمَّادٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ: عَنْ رَجُلٍ،
(7/296)
قَالَ: كُنْتُ أَسْأَلُ النَّاسَ عَنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَهُوَ إِلَى جَنْبِي وَلَا أَسْأَلُهُ، قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: نَعَمْ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو عَمْرٍو الْأَدِيبُ أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَنْبَأَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، أَنْبَأَنَا إِسْرَائِيلُ أَنْبَأَنَا سَعْدٌ الطَّائِيُّ أَنْبَأَنَا مُحِلُّ بْنُ خَلِيفَةَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: «بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَشَكَى إِلَيْهِ الْفَاقَةَ، وَأَتَاهُ آخَرُ فَشَكَى إِلَيْهِ قَطْعَ السَّبِيلِ. قَالَ: " يَا عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ هَلْ رَأَيْتَ الْحِيرَةَ؟ " قُلْتُ: لَمْ أَرَهَا، وَقَدْ أُنْبِئْتُ عَنْهَا. قَالَ: " فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ". قَالَ: قُلْتُ فِي نَفْسِي: فَأَيْنَ دُعَّارُ طَيِّئٍ الَّذِينَ سَعَّرُوا الْبِلَادَ؟ " وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ ". قُلْتُ: كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ؟ ! قَالَ: " كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ ". " وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يَخْرُجُ بِمِلْءِ كَفِّهِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، يَطْلُبُ مَنْ يَقْبَلُهُ مِنْهُ فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهُ
(7/297)
مِنْهُ، وَلَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ يَلْقَاهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّمَ، وَيَنْظُرُ عَنْ شِمَالِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّمَ ". قَالَ عَدِيٌّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ شِقَّ تَمْرَةٍ، فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ ". قَالَ عَدِيٌّ: فَقَدْ رَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الْكُوفَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْبَيْتِ، لَا تَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، وَكُنْتُ فِيمَنِ افْتَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ وَلَئِنْ طَالَتْ بِكُمْ حَيَاةٌ سَتَرَوْنَ مَا قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ عَنِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ بِهِ بِطُولِهِ، وَقَدْ رَوَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ سَعْدَانَ بْنِ بِشْرٍ عَنْ سَعْدٍ أَبِي مُجَاهِدٍ الطَّائِيِّ عَنْ مُحِلِّ بْنِ خَلِيفَةَ عَنْ عَدِيٍّ بِهِ، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ سَعْدٍ أَبَى مُجَاهِدٍ الطَّائِيِّ بِهِ. وَمِمَّنْ رَوَى هَذِهِ الْقِصَّةَ عَنْ عَدِيٍّ عَامِرُ بْنُ شُرَحْبِيلَ الشَّعْبِيُّ فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَقَالَ: " لَا تَخَافُ إِلَّا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهَا ".
وَثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلِ بْنِ مُقَرِّنٍ الْمُزَنِيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ
(7/298)
تَمْرَةٍ» وَلَفْظُ مُسْلِمٍ: " «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَتِرَ مِنَ النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ» ".
طَرِيقٌ أُخْرَى فِيهَا شَاهِدٌ لِمَا تَقَدَّمَ: وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ ثنا أَبُو سَعِيدٍ عُبَيْدُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْكُوفِيُّ ثنا ضِرَارُ بْنُ صُرَدٍ ثنا عَاصِمُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُنْدُبٍ عَنْ كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ النَّخَعِيِّ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَا سُبْحَانَ اللَّهِ! مَا أَزْهَدَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فِي خَيْرٍ، عَجَبًا لِرَجُلٍ يَجِيئُهُ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ فِي الْحَاجَةِ فَلَا يَرَى نَفْسَهُ لِلْخَيْرِ أَهْلًا، فَلَوْ كَانَ لَا يَرْجُو ثَوَابًا وَلَا يَخْشَى عِقَابًا، لَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُسَارِعَ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ ; فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى سُبُلِ النَّجَاحِ. فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ ; لَمَّا أُتِيَ بِسَبَايَا طَيِّئٍ وَقَفَتْ جَارِيَةٌ حَمْرَاءُ، لَعْسَاءُ، ذَلْفَاءُ، عَيْطَاءُ، شَمَّاءُ الْأَنْفِ، مُعْتَدِلَةُ الْقَامَةِ وَالْهَامَةِ، دَرْمَاءُ الْكَعْبَيْنِ، خَدْلَةُ السَّاقَيْنِ، لَفَّاءُ الْفَخِذَيْنِ، خَمِيصَةُ الْخَصْرَيْنِ، ضَامِرَةُ الْكَشْحَيْنِ، مَصْقُولَةُ الْمَتْنَيْنِ. قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُهَا أُعْجِبْتُ بِهَا، وَقُلْتُ: لَأَطْلُبَنَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْعَلُهَا فِي فَيْئِي. فَلَمَّا تَكَلَّمَتْ أُنْسِيتُ جَمَالَهَا مِنْ فَصَاحَتِهَا. فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ، إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُخَلِّيَ عَنَّا، وَلَا تُشْمِتْ بِنَا أَحْيَاءَ الْعَرَبِ، فَإِنِّي ابْنَةُ سَيِّدِ قَوْمِي، وَإِنَّ أَبِي كَانَ يَحْمِي الذِّمَارَ،
(7/299)
وَيَفُكُّ الْعَانِيَ، وَيُشْبِعُ الْجَائِعَ، وَيَكْسُو الْعَارِيَ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَيُفْشِي السَّلَامَ، وَلَمْ يَرُدَّ طَالِبَ حَاجَةٍ قَطُّ، أَنَا ابْنَةُ حَاتِمِ طَيِّئٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا جَارِيَةُ هَذِهِ صِفَةُ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا، لَوْ كَانَ أَبُوكِ مُسْلِمًا لَتَرَحَّمْنَا عَلَيْهِ، خَلُّوا عَنْهَا ; فَإِنَّ أَبَاهَا كَانَ يُحِبُّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ، وَاللَّهُ يُحِبُّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ ". فَقَامَ» أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهُ يُحِبُّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إِلَّا بِحُسْنِ الْخُلُقِ ". هَذَا حَدِيثٌ حَسَنُ الْمَتْنِ، غَرِيبُ الْإِسْنَادِ جِدًّا، عَزِيزُ الْمَخْرَجِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَةَ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ فِي أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ عِنْدَ ذِكْرِنَا مَنْ مَاتَ مِنْ أَعْيَانِ الْمَشْهُورِينَ فِيهَا، وَمَا كَانَ يُسْدِيهِ حَاتِمٌ إِلَى النَّاسِ مِنَ الْمَكَارِمِ وَالْإِحْسَانِ، إِلَّا أَنَّ نَفْعَ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ مَعْذُوقٌ بِالْإِيمَانِ، وَهُوَ مِمَّنْ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ. وَقَدْ زَعَمَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبً فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ إِلَى بِلَادِ طَيِّئٍ فَجَاءَ مَعَهُ بِسَبَايَا، فِيهِمْ أُخْتُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَجَاءَ مَعَهُ بِسَيْفَيْنِ كَانَا فِي بَيْتِ الصَّنَمِ، يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا: الرَّسُوبُ، وَالْآخَرُ الْمِخْذَمُ. كَانَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي شِمْرٍ قَدْ نَذَرَهُمَا لِذَلِكَ الصَّنَمِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(7/300)
[قِصَّةُ دَوْسٍ وَالطُّفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو]
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ ذَكْوَانَ - هُوَ عَبْدُ اللَّهِ أَبُو الزِّنَادِ - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «جَاءَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ دَوْسًا قَدْ هَلَكَتْ، عَصَتْ وَأَبَتْ، فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ ".» انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «لَمَّا قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ فِي الطَّرِيقِ:
يَا لَيْلَةً مِنْ طُولِهَا وَعَنَائِهَا ... عَلَى أَنَّهَا مِنْ دَارَةِ الْكُفْرِ نَجَّتِ
وَأَبَقَ غُلَامٌ لِي فِي الطَّرِيقِ، فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَايَعْتُهُ، فَبَيْنَا أَنَا عِنْدَهُ إِذْ طَلَعَ الْغُلَامُ، فَقَالَ لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، هَذَا غُلَامُكَ " فَقُلْتُ: هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَأَعْتَقْتُهُ.» انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ قُدُومِ الطُّفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو فَقَدْ كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، ثُمَّ إِنْ قُدِّرَ قُدُومُهُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَقَدْ كَانَ قَبْلَ الْفَتْحِ ; لِأَنَّ دَوْسًا قَدِمُوا وَمَعَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَكَانَ قُدُومُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ
(7/301)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَاصِرٌ خَيْبَرَ، ثُمَّ ارْتَحَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ بَعْدَ الْفَتْحِ، فَرَضَخَ لَهُمْ شَيْئًا مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ كُلَّهُ مُطَوَّلًا فِي مَوَاضِعِهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ:
[قُدُومُ الْأَشْعَرِيِّينَ وَأَهْلِ الْيَمَنِ]
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: ثُمَّ رَوَى مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مِهْرَانَ الْأَعْمَشِ، عَنْ ذَكْوَانَ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ، هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً، وَأَلْيَنُ قُلُوبًا، الْإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ، وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي أَصْحَابِ الْإِبِلِ، وَالسَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ ".» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ.
ثُمَّ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ، أَضْعَفُ قُلُوبًا، وَأَرَقُّ أَفْئِدَةً، الْفِقْهُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ ".»
ثُمَّ رَوَيَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَوْرٍ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْفِتْنَةُ هَاهُنَا ; هَاهُنَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ ".» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
(7/302)
ثُمَّ رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْإِيمَانُ هَاهُنَا - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْيَمَنِ - وَالْجَفَاءُ وَغِلَظُ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ عِنْدَ أُصُولِ أَذْنَابِ الْإِبِلِ مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ ".» وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو.
ثُمَّ رَوَى مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي صَخْرَةَ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ، ثَنَا صَفْوَانُ بْنُ مُحْرِزٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: «جَاءَتْ بَنُو تَمِيمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " أَبْشِرُوا يَا بَنِي تَمِيمٍ ". فَقَالُوا: أَمَّا إِذْ بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا. فَتَغَيِّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ: " اقْبَلُوا الْبُشْرَى إِذْ لَمْ يَقْبَلُهَا بَنُو تَمِيمٍ ". فَقَالُوا: قَبِلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ.» وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ بِهِ.
وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ وُفُودِ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَلَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِوَقْتِ
(7/303)
وُفُودِهِمْ. وَوَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ، وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا قُدُومُهُمْ لَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا لِقُدُومِ الْأَشْعَرِيِّينَ، بَلِ الْأَشْعَرِيُّونَ مُتَقَدِّمٌ وَفْدُهُمْ عَلَى هَذَا، فَإِنَّهُمْ قَدِمُوا صُحْبَةَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي صُحْبَةِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ كَانُوا بِالْحَبَشَةِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ حِينَ فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ مَبْسُوطًا فِي مَوْضِعِهِ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَاللَّهِ مَا أَدْرِي بِأَيِّهِمَا أُسَرُّ ; أَبِقُدُومِ جَعْفَرٍ أَوْ بِفَتْحِ خَيْبَرَ؟» ". وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
[قِصَّةُ عُمَانَ وَالْبَحْرَيْنِ]
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، ثَنَا سُفْيَانُ، سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ، سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْ قَدْ جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ لَقَدْ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا ". ثَلَاثًا. فَلَمْ يَقْدَمْ مَالُ الْبَحْرَيْنِ حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَيْنٌ أَوْ عِدَةٌ فَلْيَأْتِنِي. قَالَ جَابِرٌ: فَجِئْتُ أَبَا بَكْرٍ، فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَوْ جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا ". ثَلَاثًا. قَالَ: فَأَعْطَانِي. قَالَ جَابِرٌ: فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ فَسَأَلْتُهُ، فَلَمْ يُعْطِنِي، ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَلَمْ يُعْطِنِي، ثُمَّ أَتَيْتُهُ الثَّالِثَةَ
(7/304)
فَلَمْ يُعْطِنِي، فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ أَتَيْتُكَ فَلَمْ تُعْطِنِي، ثُمَّ أَتَيْتُكَ فَلَمْ تُعْطِنِي، ثُمَّ أَتَيْتُكَ فَلَمْ تُعْطِنِي، فَإِمَّا أَنْ تُعْطِيَنِي، وَإِمَّا أَنْ تَبْخَلَ عَنِّي. قَالَ: أَقُلْتَ: تَبْخَلُ عَنِّي؟ قَالَ: وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَأُ مِنَ الْبُخْلِ؟ - قَالَهَا ثَلَاثًا - مَا مَنَعْتُكَ مِنْ مَرَّةٍ إِلَّا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُعْطِيَكَ.» هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ هَاهُنَا وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَمْرٍو النَّاقِدِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ بَعْدَهُ: وَعَنْ عَمْرٍو، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: جِئْتُهُ فَقَالَ لِي أَبُو بَكْرٍ: عُدَّهَا فَعَدَدْتُهَا. فَوَجَدْتُهَا خَمْسَمِائَةٍ، فَقَالَ: خُذْ مِثْلَهَا مَرَّتَيْنِ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ - هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ - عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ، عَنْ جَابِرٍ كَرِوَايَتِهِ لَهُ، عَنْ قُتَيْبَةَ، وَرَوَاهُ أَيْضًا هُوَ وَمُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ أُخَرَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ جَابِرٍ بِنَحْوِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَهُ أَنَّهُ أَمَرَهُ فَحَثَى بِيَدَيْهِ مِنْ دَرَاهِمَ، فَعَدَّهَا فَإِذَا هِيَ خَمْسُمِائَةٍ فَأَضْعَفَهَا لَهُ مَرَّتَيْنِ، يَعْنِي فَكَانَ جُمْلَةُ مَا أَعْطَاهُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ.
(7/305)
[وُفُودُ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ الْمُرَادِيِّ]
ِّ أَحَدِ، رُؤَسَاءِ قَوْمِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدِمَ فَرْوَةُ بْنُ مُسَيْكٍ الْمُرَادِيُّ مُفَارِقًا لِمُلُوكِ كِنْدَةَ، وَمُبَاعِدًا لَهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ كَانَ بَيْنَ قَوْمِهِ مُرَادٍ وَبَيْنَ هَمْدَانَ وَقْعَةٌ قُبَيْلَ الْإِسْلَامِ، أَصَابَتْ هَمْدَانُ مِنْ قَوْمِهِ حَتَّى أَثْخَنُوهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي يَوْمٍ يُقَالُ لَهُ: الرَّدْمُ. وَكَانَ الَّذِي قَادَ هَمْدَانَ إِلَيْهِمُ الْأَجْدَعُ بْنُ مَالِكٍ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: مَالِكُ بْنُ خُرَيْمٍ الْهَمْدَانِيُّ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَقَالَ فَرْوَةُ بْنُ مُسَيْكٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ:
مَرَرْنَ عَلَى لِفَاتَ وَهُنَّ خُوصٌ ... يُنَازِعْنَ الْأَعِنَّةَ يَنْتَحِينَا
فَإِنْ نَغْلِبْ فَغَلَّابُونَ قِدْمًا ... وَإِنْ نُغْلَبْ فَغَيْرُ مُغَلَّبِينَا
وَمَا إِنْ طِبُّنَا جُبْنٌ وَلَكِنْ ... مَنَايَانَا وَطُعْمَةُ آخَرِينَا
كَذَاكَ الدَّهْرُ دَوْلَتُهُ سِجَالٌ ... تَكُرُ صُرُوفُهُ حِينًا فَحِينَا
(7/306)
فَبَيْنَا مَا نُسَرُّ بِهِ وَنَرْضَى
وَلَوْ لُبِسَتْ غَضَارَتُهُ سِنِينَا ... إِذِ انْقَلَبَتْ بِهِ كَرَّاتُ دَهْرٍ
فَأَلْفَيْتَ الْأُولَى غُبِطُوا طَحِينَا ... فَمَنْ يُغْبَطْ بِرَيْبِ الدَّهْرِ مِنْهُمْ
يَجِدْ رَيْبَ الزَّمَانِ لَهُ خَئُونَا ... فَلَوْ خَلَدَ الْمُلُوكُ إِذًا خَلَدْنَا
وَلَوْ بَقِيَ الْكِرَامُ إِذًا بَقِينَا ... فَأَفْنَى ذَلِكُمْ سَرَوَاتِ قَوْمِي
كَمَا أَفْنَى الْقُرُونَ الْأَوَّلِينَا
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا تَوَجَّهَ فَرْوَةُ بْنُ مُسَيْكٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُفَارِقًا مُلُوكَ كِنْدَةَ قَالَ:
لَمَّا رَأَيْتُ مُلُوكَ كِنْدَةَ أَعْرَضَتْ ... كَالرِّجْلِ خَانَ الرِّجْلَ عِرْقُ نَسَائِهَا
قَرَّبْتُ رَاحِلَتِي أَؤُمُّ مُحَمَّدًا ... أَرْجُو فَوَاضِلَهَا وَحُسْنَ ثَرَائِهَا
قَالَ: فَلَمَّا انْتَهَى فَرْوَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ، فِيمَا بَلَغَنِي: «يَا فَرْوَةُ هَلْ سَاءَكَ مَا أَصَابَ قَوْمَكَ يَوْمَ الرَّدْمِ؟ " فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ ذَا الَّذِي يُصِيبُ قَوْمَهُ مَا أَصَابَ قَوْمِي يَوْمَ الرَّدْمِ، لَا يَسُوءُهُ ذَلِكَ؟! فَقَالَ لَهُ
(7/307)
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَا إِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَزِدْ قَوْمَكَ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا خَيْرًا ".» وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى مُرَادٍ وَزُبَيْدٍ وَمَذْحِجٍ كُلِّهَا، وَبَعَثَ مَعَهُ خَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَكَانَ مَعَهُ فِي بِلَادِهِ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[قُدُومُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ فِي أُنَاسٍ مِنْ زُبَيْدٍ]
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِ يكَرِبَ قَالَ لِقَيْسِ بْنِ مَكْشُوحٍ الْمُرَادِيِّ، حِينَ انْتَهَى إِلَيْهِمْ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا قَيْسُ، إِنَّكَ سَيِّدُ قَوْمِكَ وَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ: مُحَمَّدٌ. قَدْ خَرَجَ بِالْحِجَازِ، يُقَالُ: إِنَّهُ نَبِيٌّ. فَانْطَلِقْ بِنَا إِلَيْهِ حَتَّى نَعْلَمَ عِلْمَهُ، فَإِنْ كَانَ نَبِيًّا كَمَا يَقُولُ، فَإِنَّهُ لَنْ يَخْفَى عَلَيْنَا، وَإِذَا لَقِينَاهُ اتَّبَعْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ عَلِمْنَا عِلْمَهُ. فَأَبَى عَلَيْهِ قَيْسٌ ذَلِكَ، وَسَفَّهَ رَأْيَهُ، فَرَكِبَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِ يكَرِبَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْلَمَ وَصَدَّقَهُ وَآمَنَ بِهِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قَيْسَ بْنَ مَكْشُوحٍ، أَوْعَدَ عَمْرًا وَقَالَ: خَالَفَنِي وَتَرَكَ أَمْرِي وَرَأْيِي. فَقَالَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِ يكَرِبَ فِي ذَلِكَ:
أَمَرْتُكَ يَوْمَ ذِي صَنْعَا ... ءَ أَمْرًا بَادِيًا رَشَدُهْ
(7/308)
أَمَرْتُكَ بِاتِّقَاءِ اللَّهِ ... وَالْمَعْرُوفِ تَتَّعِدُهْ
خَرَجْتَ مِنَ الْمُنَى مِثْلَ الْ ... حُمَيِّرِ غَرَّهُ وَتِدُهْ
تَمَنَّانِي عَلَى فَرَسٍ ... عَلَيْهِ جَالِسًا أَسَدُهْ
عَلَيَّ مُفَاضَةٌ كَالنَّهْ ... يِ أَخْلَصَ مَاءَهُ جَدَدُهْ
تَرُدُّ الرُّمْحَ مُنْثَنِيَ السِّ ... نَانِ عَوَائِرًا قِصَدُهْ
فَلَوْ لَاقَيْتَنِي لَلَقِي ... تَ لَيْثًا فَوْقَهُ لِبَدُهْ
تُلَاقِي شَنْبَثًا شَثْنَ الْ ... بَرَاثِنِ نَاشِزًا كَتَدُهْ
يُسَامِي الْقِرْنَ إِنْ قِرْنٌ ... تَيَمَّمَهُ فَيَعْتَضِدُهْ
فَيَأْخُذُهُ فَيَرْفَعُهُ ... فَيَخْفِضُهُ فَيَقْتَصِدُهْ
فَيَدْمَغُهُ فَيَحْطِمُهُ ... فَيَخْضِمُهُ فَيَزْدَرِدُهْ
ظَلُومُ الشِّرْكِ فِيمَا أَحْ ... رَزَتْ أَنْيَابُهُ وَيَدُهْ
(7/309)
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَأَقَامَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِ يكَرِبَ فِي قَوْمِهِ مِنْ بَنِي زُبَيْدٍ وَعَلَيْهِمْ فَرْوَةُ بْنُ مُسَيْكٍ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْتَدَّ عَمْرُو بْنُ مَعْدِ يكَرِبَ فِي مَنِ ارْتَدَّ وَهَجَا فَرْوَةَ بْنَ مُسَيْكٍ فَقَالَ:
وَجَدْنَا مُلْكَ فَرْوَةَ شَرَّ مُلْكٍ ... حِمَارًا سَافَ مَنْخِرُهُ بِثَفْرِ
وَكُنْتَ إِذَا رَأَيْتَ أَبَا عُمَيْرٍ ... تَرَى الْحُوَلَاءَ مِنْ خُبْثٍ وَغَدْرِ
قُلْتُ: ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَشَهِدَ فُتُوحَاتٍ كَثِيرَةً فِي أَيَّامِ الصَّدِيقِ، وَعُمَرَ الْفَارُوقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَكَانَ مِنَ الشُّجْعَانِ الْمَذْكُورِينَ، وَالْأَبْطَالِ الْمَشْهُورِينَ، وَالشُّعَرَاءِ الْمُجِيدِينَ، تُوُفِّيَ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ بَعْدَمَا شَهِدَ فَتْحَ نَهَاوَنْدَ وَقِيلَ: بَلْ شَهِدَ الْقَادِسِيَّةَ وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَكَانَ وُفُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَةَ تِسْعٍ. وَقِيلَ: سَنَةَ عَشْرٍ. فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْوَاقِدِيُّ.
قُلْتُ: وَفِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ عَمْرَو بْنَ مَعْدِ يكَرِبَ لَمْ يَأْتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ قَالَ فِي ذَلِكَ:
(7/310)
إِنَّنِي بِالنَّبِيِّ مُوقِنَةٌ نَفْ ... سِي وَإِنْ لَمْ أَرَ النَّبِيَّ عَيَانَا
سَيِّدُ الْعَالَمِينَ طُرًّا وَأَدْنَا ... هُمْ إِلَى اللَّهِ حِينَ بَانَ مَكَانَا
جَاءَنَا بِالنَّامُوسِ مِنْ لَدُنِ اللَّهِ ... وَكَانَ الْأَمِينَ فِيهِ الْمُعَانَا
حُكْمُهُ بَعْدَ حِكْمَةٍ وِضِيَاءٍ ... فَاهْتَدَيْنَا بِنُورِهَا مِنْ عَمَانَا
وَرَكِبْنَا السَّبِيلَ حِينَ رَكِبْنَ ... اهُ جَدِيدًا بِكُرْهِنَا وَرِضَانَا
وَعَبَدْنَا الْإِلَهَ حَقًّا وَكُنَّا ... لِلْجَهَالَاتِ نَعْبُدُ الْأَوْثَانَا
وَائْتَلَفْنَا بِهِ وَكُنَّا عَدُوًّا ... فَرَجَعْنَا بِهِ مَعًا إِخْوَانًا
فَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَالسِّلْمُ مِنَّا ... حَيْثُ كُنَّا مِنَ الْبِلَادِ وَكَانَا
إِنْ نَكُنْ لَمْ نَرَ النَّبِيَّ فَإِنَّا ... قَدْ تَبِعْنَا سَبِيلَهُ إِيمَانَا
[قُدُومُ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ فِي وَفْدِ كِنْدَةَ]
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فِي وَفْدِ كِنْدَةَ، فَحَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ قَدِمَ فِي ثَمَانِينَ رَاكِبًا مِنْ كِنْدَةَ، فَدَخَلُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْجِدَهُ قَدْ رَجَّلُوا جُمَمَهُمْ وَتَكَحَّلُوا، عَلَيْهِمْ جُبَبُ
(7/311)
الْحِبَرَةِ قَدْ كَفَّفُوهَا بِالْحَرِيرِ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ: «أَلَمْ تُسْلِمُوا؟ " قَالُوا: بَلَى. قَالَ: " فَمَا بَالُ هَذَا الْحَرِيرِ فِي أَعْنَاقِكُمْ؟ " قَالَ: فَشَقُّوهُ مِنْهَا فَأَلْقَوْهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَحْنُ بَنُو آكِلِ الْمُرَارِ، وَأَنْتَ ابْنُ آكِلِ الْمُرَارِ. قَالَ: فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: " نَاسِبُوا بِهَذَا النَّسَبِ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَرَبِيعَةَ بْنَ الْحَارِثِ» ". وَكَانَا تَاجِرَيْنِ، إِذَا شَاعَا فِي الْعَرَبِ فَسُئِلَا: مِمَّنْ أَنْتُمَا؟ قَالَا: نَحْنُ بَنُو آكِلِ الْمُرَارِ. يَعْنِي يَنْتَسِبَانِ إِلَى كِنْدَةَ لِيَعِزَّا فِي تِلْكَ الْبِلَادِ ; لِأَنَّ كِنْدَةَ كَانُوا مُلُوكًا، فَاعْتَقَدَتْ كِنْدَةُ أَنَّ قُرَيْشًا مِنْهُمْ لِقَوْلِ عَبَّاسٍ وَرَبِيعَةَ: نَحْنُ بَنُو آكِلِ الْمُرَارِ. وَهُوَ الْحَارِثُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حُجْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ ثَوْرِ بْنِ مُرْتِعِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ كِنْدِيِّ. وَيُقَالُ: ابْنُ كِنْدَةَ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ: «لَا، نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ، لَا نَقْفُوا أُمَّنَا، وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا» . فَقَالَ لَهُمُ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ: وَاللَّهِ يَا مَعْشَرَ كِنْدَةَ لَا أَسْمَعُ رَجُلًا يَقُولُهَا إِلَّا ضَرَبْتُهُ ثَمَانِينَ.
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مُتَّصِلًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا
(7/312)
بَهْزٌ وَعَفَّانُ قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ حَدَّثَنِي عَقِيلُ بْنُ طَلْحَةَ - وَقَالَ عَفَّانُ فِي حَدِيثِهِ: أَنْبَأَنَا عَقِيلُ بْنُ طَلْحَةَ السُّلَمِيُّ - عَنْ مُسْلِمِ بْنِ هَيْصَمٍ، عَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَفْدِ كِنْدَةَ - قَالَ عَفَّانُ: لَا يَرَوْنِي أَفْضَلَهُمْ - قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَزْعُمُ أَنَّكُمْ مِنَّا. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ لَا نَقْفُو أُمَّنَا وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا ".» قَالَ: قَالَ الْأَشْعَثُ: فَوَاللَّهِ لَا أَسْمَعُ أَحَدًا نَفَى قُرَيْشًا مِنَ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ إِلَّا جَلَدْتُهُ الْحَدَّ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَعَنْ هَارُونَ بْنِ حَيَّانَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ثَلَاثَتُهُمْ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ نَحْوَهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَنْبَأَنَا مُجَالِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، حَدَّثَنَا الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ قَالَ: «قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَفْدِ كِنْدَةَ فَقَالَ لِي: " هَلْ لَكَ مِنْ وَلَدٍ؟ " قُلْتُ: غُلَامٌ وُلِدَ
(7/313)
لِي فِي مَخْرَجِي إِلَيْكَ مِنَ ابْنَةِ جَمْدٍ، وَلَوَدِدْتُ أَنَّ مَكَانَهُ شَبِعَ الْقَوْمُ. قَالَ: " لَا تَقُولَنَّ ; ذَلِكَ فَإِنَّ فِيهِمْ قُرَّةَ عَيْنٍ، وَأَجْرًا إِذَا قُبِضُوا ثَمَّ، وَلَئِنْ قُلْتَ ذَاكَ إِنَّهُمْ لَمَجْبَنَةٌ مَحْزَنَةٌ، إِنَّهُمْ لَمَجْبَنَةٌ مَحْزَنَةٌ» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ جَيِّدُ الْإِسْنَادِ.
[قُدُومُ أَعْشَى بَنِي مَازِنٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيُّ، ثَنَا أَبُو سَلَمَةَ عُبَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَنَفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي الْجُنَيْدُ بْنُ أُمَيْنِ بْنِ ذِرْوَةَ بْنِ نَضْلَةَ بْنِ طَرِيفِ بْنِ بُهْصُلٍ الْحِرْمَازِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي أُمَيْنٌ، عَنْ أَبِيهِ ذِرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ نَضْلَةَ أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: الْأَعْشَى. وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَعْوَرِ كَانَتْ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا: مُعَاذَةُ. خَرَجَ فِي رَجَبٍ يَمِيرُ أَهْلَهُ مِنْ هَجَرَ، فَهَرَبَتِ امْرَأَتُهُ بَعْدَهُ نَاشِزًا عَلَيْهِ، فَعَاذَتْ بِرَجُلٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: مُطَرِّفُ بْنُ نَهْشَلِ بْنِ
(7/314)
كَعْبِ بْنِ قُمَيْثِعِ بْنِ ذُلَفِ بْنِ أَهْضِمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحِرْمَازِ، فَجَعَلَهَا خَلْفَ ظَهْرِهِ، فَلَمَّا قَدِمَ لَمْ يَجِدْهَا فِي بَيْتِهِ، وَأُخْبِرَ أَنَّهَا نَشَزَتْ عَلَيْهِ، وَأَنَّهَا عَاذَتْ بِمُطَرِّفِ بْنِ نَهْشَلٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا ابْنَ عَمِّ، أَعِنْدَكَ امْرَأَتِي مُعَاذَةُ؟ فَادْفَعْهَا إِلَيَّ. قَالَ: لَيْسَتْ عِنْدِي، وَلَوْ كَانَتْ عِنْدِي لَمْ أَدْفَعْهَا إِلَيْكَ. قَالَ: وَكَانَ مُطَرِّفٌ أَعَزَّ مِنْهُ. قَالَ: فَخَرَجَ الْأَعْشَى حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَاذَ بِهِ وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
يَا سَيِّدَ النَّاسِ وَدَيَّانَ الْعَرَبْ ... إِلَيْكَ أَشْكُو ذِرْبَةً مِنَ الذِّرَبْ
كَالذِّئْبَةِ الْغَبْسَاءِ فِي ظِلِّ السَّرَبْ ... خَرَجْتُ أَبْغِيهَا الطَّعَامَ فِي رَجَبْ
فَخَلَّفَتْنِي بِنِزَاعٍ وَهَرَبْ ... أَخْلَفَتِ الْوَعْدَ وَلَطَّتْ بَالذَّنَبْ
وَقَذَفَتْنِي بَيْنَ عَصْرٍ مُؤْتَشَبْ ... وَهُنَّ شَرُّ غَالِبٍ لِمَنْ غَلَبْ
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ: " «وَهُنَّ شَرُّ غَالِبٍ لِمَنْ غَلَبْ ".» فَشَكَى إِلَيْهِ امْرَأَتَهُ
(7/315)
وَمَا صَنَعَتْ بِهِ، وَأَنَّهَا عِنْدَ رَجُلٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: مُطَرِّفُ بْنُ نَهْشَلٍ، فَكَتَبَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مُطَرِّفٍ: «انْظُرِ امْرَأَةَ هَذَا، مُعَاذَةَ، فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ ".» فَأَتَاهُ كِتَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُرِئَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهَا: يَا مُعَاذَةُ، هَذَا كِتَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيكِ، فَأَنَا دَافِعُكِ إِلَيْهِ. فَقَالَتْ: خُذْ لِي عَلَيْهِ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ أَنْ لَا يُعَاقِبَنِي فِيمَا صَنَعْتُ. فَأَخَذَ لَهَا ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَدَفَعَهَا مُطَرِّفٌ إِلَيْهِ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
لَعَمْرُكَ مَا حُبِّي مُعَاذَةَ بِالَّذِي ... يُغَيِّرُهُ الْوَاشِي وَلَا قِدَمُ الْعَهْدِ
وَلَا سُوءُ مَا جَاءَتْ بِهِ إِذْ أَزَالَهَا ... غُوَاةُ الرِّجَالِ إِذْ يُنَاجُونَهَا بَعْدِي
[قُدُومُ صُرَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَزْدِيِّ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ ثُمَّ وُفُودِ أَهِلِ جُرَشَ بَعْدَهُمْ]
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدِمَ صُرَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَزْدِيُّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَفْدٍ مِنَ الْأَزْدِ، فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَأَمَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُجَاهِدَ بِمَنْ أَسْلَمَ مَنْ يَلِيهِ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ قَبَائِلِ الْيَمَنِ، فَذَهَبَ فَحَاصَرَ جُرَشَ وَبِهَا قَبَائِلُ مِنَ الْيَمَنِ، وَقَدْ ضَوَتْ إِلَيْهِمْ خَثْعَمُ حِينَ سَمِعُوا بِمَسِيرِهِ إِلَيْهِمْ، فَأَقَامَ عَلَيْهِمْ قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ، فَامْتَنَعُوا فِيهَا مِنْهُ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ: شَكَرُ. فَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ وَلَّى عَنْهُمْ مُنْهَزِمًا، فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِ، فَعَطَفَ عَلَيْهِمْ فَقَتَلَهُمْ قَتْلًا شَدِيدًا، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ جُرَشَ بَعَثُوا مِنْهُمْ رَجُلَيْنِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَبَيْنَمَا هُمْ عِنْدَهُ بَعْدَ الْعَصْرِ إِذْ قَالَ: «بِأَيِّ بِلَادِ اللَّهِ شَكَرُ؟ " فَقَامَ الْجُرَشِيَّانِ، فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِبِلَادِنَا جَبَلٌ يُقَالُ لَهُ: كَشَرُ، وَكَذَلِكَ يُسَمِّيهِ أَهْلُ جُرَشَ. فَقَالَ: " إِنَّهُ لَيْسَ بِكَشَرَ، وَلَكِنَّهُ شَكَرُ ". قَالَا: فَمَا شَأْنُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: " إِنَّ بُدْنَ اللَّهِ لَتُنْحَرُ عِنْدَهُ الْآنَ ". قَالَ: فَجَلَسَ الرَّجُلَانِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، أَوْ إِلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ لَهُمَا: وَيْحَكُمَا! إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآنَ لَيَنْعَى لَكُمَا قَوْمَكُمَا، فَقُومَا إِلَيْهِ، فَاسْأَلَاهُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ فَيَرْفَعَ عَنْ قَوْمِكُمَا. فَقَامَا إِلَيْهِ فَسَأَلَاهُ ذَلِكَ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ ارْفَعْ عَنْهُمْ ". فَرَجَعَا، فَوَجَدَا قَوْمَهُمَا قَدْ أُصِيبُوا يَوْمَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،» ثُمَّ جَاءَ وَفْدُ أَهْلِ جُرَشَ بِمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْلَمُوا وَحَسُنَ إِسْلَامُهُمْ، وَحَمَى لَهُمْ حَوْلَ قَرْيَتِهِمْ.
[قُدُومُ رَسُولِ مُلُوكِ حِمْيَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]
قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَكَانَ ذَلِكَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ كِتَابُ مُلُوكِ حِمْيَرَ وَرُسُلُهُمْ
(7/316)
بِإِسْلَامِهِمْ مَقْدِمَهُ مِنْ تَبُوكَ وَهُمْ ; الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ كُلَالٍ، وَنُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ كُلَالٍ، وَالنُّعْمَانُ قَيْلُ ذِي رُعَيْنٍ وَمَعَافِرَ وَهَمْدَانَ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ زُرْعَةُ ذُو يَزَنَ مَالِكَ بْنَ مُرَّةَ الرَّهَاوِيَّ بِإِسْلَامِهِمْ وَمُفَارَقَتِهِمُ الشِّرْكَ وَأَهْلَهُ، «فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ النَّبِيِّ إِلَى الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ وَنُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ وَالنُّعْمَانِ قَيْلِ ذِي رُعَيْنٍ وَمَعَافِرَ وَهَمْدَانَ أَمَّا بَعْدَ ذَلِكُمْ ; فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكُمُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، فَإِنَّهُ قَدْ وَقَعَ بِنَا رَسُولُكُمْ مُنْقَلَبَنَا مِنْ أَرْضِ الرُّومِ، فَلَقِيَنَا بِالْمَدِينَةِ، فَبَلَّغَ مَا أَرْسَلْتُمْ بِهِ، وَخَبَّرَ مَا قَبِلَكُمْ، وَأَنْبَأَنَا بِإِسْلَامِكُمْ، وَقَتْلِكُمُ الْمُشْرِكِينَ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ هَدَاكُمْ بِهُدَاهُ، إِنْ أَصْلَحْتُمْ وَأَطَعْتُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَأَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ، وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ، وَأَعْطَيْتُمْ مِنَ الْمَغَانِمِ خُمُسَ اللَّهِ، وَسَهْمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفِيَّهُ، وَمَا كُتِبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَةِ ; مِنَ الْعَقَارِ عُشْرُ مَا سَقَتِ الْعَيْنُ وَسَقَتِ السَّمَاءُ، وَعَلَى مَا سَقَى الْغَرْبُ نِصْفُ الْعُشْرِ، وَأَنَّ فِي الْإِبِلِ فِي الْأَرْبَعِينَ ابْنَةَ لَبُونٍ، وَفِي ثَلَاثِينَ مِنَ الْإِبِلِ ابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ، وَفِي كُلِّ خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ شَاةٌ، وَفِي كُلِّ عَشْرٍ مِنَ الْإِبِلِ شَاتَانِ، وَفِي
(7/318)
كُلِّ أَرْبَعِينَ مِنَ الْبَقَرِ بَقَرَةٌ، وَفِي كُلِّ ثَلَاثِينَ مِنَ الْبَقَرِ تَبِيعٌ جَذَعٌ أَوْ جَذَعَةٌ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مِنَ الْغَنَمِ سَائِمَةٍ وَحْدَهَا شَاةٌ، وَإِنَّهَا فَرِيضَةُ اللَّهِ الَّتِي فَرَضَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَةِ، فَمَنْ زَادَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ، وَمَنْ أَدَّى ذَلِكَ وَأَشْهَدَ عَلَى إِسْلَامِهِ وَظَاهَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، لَهُ مَا لَهُمْ وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ، وَلَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ، وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، وَإِنَّهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ، فَإِنَّهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، لَهُ مَا لَهُمْ وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ، وَمَنْ كَانَ عَلَى يَهُودِيَّتِهِ أَوْ نَصْرَانِيَّتِهِ فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ عَنْهَا وَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ ; عَلَى كُلِّ حَالِمٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، دِينَارٌ وَافٍ مِنْ قِيمَةِ الْمَعَافِرِ أَوْ عِوَضُهِ ثِيَابًا، فَمَنْ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَإِنَّ لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ، وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، وَمَنْ مَنَعَهُ فَإِنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ.
أَمَّا بَعْدُ ; فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ مُحَمَّدًا النَّبِيَّ أَرْسَلَ إِلَى زُرْعَةَ ذِي يَزَنَ أَنْ إِذَا أَتَاكَ رُسُلِي فَأُوصِيكُمْ بِهِمْ خَيْرًا ; مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ، وَمَالِكُ بْنُ عُبَادَةَ، وَعُقْبَةُ بْنُ نَمِرٍ، وَمَالِكُ بْنُ مُرَّةَ وَأَصْحَابُهُمْ، وَأَنِ اجْمَعُوا مَا عِنْدَكُمْ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالْجِزْيَةِ مِنْ مَخَالِيفِكُمْ، وَأَبْلِغُوهَا رُسُلِي، وَإِنَّ أَمِيرَهُمْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَلَا يَنْقَلِبَنَّ إِلَّا رَاضِيًا.
أَمَّا بَعْدُ ; فَإِنَّ مُحَمَّدًا يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّهُ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ إِنَّ مَالِكَ بْنَ مُرَّةَ الرَّهَاوِيَّ قَدْ حَدَّثَنِي أَنَّكَ أَسْلَمْتَ مِنْ أَوَّلِ حِمْيَرَ، وَقَتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ،
(7/319)
فَأَبْشِرْ بِخَيْرٍ، وَآمُرُكَ بِحِمْيَرَ خَيْرًا، وَلَا تَخُونُوا وَلَا تَخَاذَلُوا، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ هُوَ مَوْلَى غَنِيِّكُمْ وَفَقِيرِكُمْ، وَإِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِأَهْلِ بَيْتِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ زَكَاةٌ يُزَكَّى بِهَا عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَابْنِ السَّبِيلِ وَإِنَّ مَالِكًا قَدْ بَلَّغَ الْخَبَرَ وَحَفِظَ الْغَيْبَ، فَآمُرُكُمْ بِهِ خَيْرًا، وَإِنِّي قَدْ أَرْسَلْتُ إِلَيْكُمْ مِنْ صَالِحِي أَهْلِي وَأُولِي دِينِهِمْ وَأُولِي عِلْمِهِمْ، فَآمُرُكُمْ بِهِمْ خَيْرًا، فَإِنَّهُمْ مَنْظُورٌ إِلَيْهِمْ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ".»
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا عُمَارَةُ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنْ مَالِكَ ذِي يَزَنَ أَهْدَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُلَّةً قَدْ أَخَذَهَا بِثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ بَعِيرًا وَثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ نَاقَةً. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْنٍ الْوَاسِطِيِّ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ زَاذَانَ الصَّيْدَلَانِيِّ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسٍ بِهِ.
وَقَدْ أَوْرَدَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ هَاهُنَا حَدِيثَ كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، فَقَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، ثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ قَالَ: هَذَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَنَا، الَّذِي كَتَبَهُ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ يُفَقِّهُ أَهْلَهَا، وَيُعَلِّمُهُمُ السُّنَّةَ، وَيَأْخُذُ صَدَقَاتِهِمْ، فَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا وَعَهْدًا، وَأَمَرَهُ فِيهِ أَمْرَهُ فَكَتَبَ: «بِسْمِ اللَّهِ
(7/320)
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] (الْمَائِدَةِ: 1) عَهْدًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ حِينَ بَعْثِهِ إِلَى الْيَمَنِ ; آمُرُهُ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي أَمْرِهِ كُلِّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ".» وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالْحَقِّ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ، وَأَنْ يُبَشِّرَ النَّاسَ بِالْخَيْرِ وَيَأْمُرَهُمْ بِهِ، وَيُعَلِّمَ النَّاسَ الْقُرْآنَ وَيُفَقِّهَهُمْ فِي الدِّينِ، وَأَنْ يَنْهَى النَّاسَ فَلَا يَمَسَّ أَحَدٌ الْقُرْآنَ إِلَّا وَهُوَ طَاهِرٌ، وَأَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ بِالَّذِي لَهُمْ وَالَّذِي عَلَيْهِمْ، وَيَلِينُ لَهُمْ فِي الْحَقِّ، وَيَشْتَدُّ عَلَيْهِمْ فِي الظُّلْمِ، فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الظُّلْمَ وَنَهَى عَنْهُ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [هود: 18] (هُودٍ: 18، 19) وَأَنْ يُبَشِّرَ النَّاسَ بِالْجَنَّةِ وَبِعَمَلِهَا، وَيُنْذِرَ النَّاسَ النَّارَ وَعَمَلَهَا، وَيَسْتَأْلِفَ النَّاسَ حَتَّى يَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، وَيُعَلِّمَ النَّاسَ مَعَالِمَ الْحَجِّ وَسُنَنِهِ وَفَرَائِضِهِ، وَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَالْحَجُّ الْأَكْبَرُ الْحَجُّ، وَالْحَجُّ الْأَصْغَرُ الْعُمْرَةُ، وَأَنْ يَنْهَى النَّاسَ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ صَغِيرٍ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ وَاسِعًا فَيُخَالِفُ بَيْنَ طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ، وَيَنْهَى أَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَيُفْضِي بِفَرْجِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَلَا يَنْقُضَ شَعْرَ رَأْسِهِ إِذَا عَفَا فِي قَفَاهُ
(7/321)
وَيَنْهَى النَّاسَ إِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ هَيْجٌ أَنْ يَدْعُوا إِلَى الْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ، وَلْيَكُنْ دُعَاؤُهُمْ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَمَنْ لَمْ يَدْعُ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَدَعَا إِلَى الْعَشَائِرِ وَالْقَبَائِلِ فَلْيَعْطِفُوا بِالسَّيْفِ حَتَّى يَكُونَ دُعَاؤُهُمْ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَيَأْمُرَ النَّاسَ بِإِسْبَاغِ الْوُضُوءِ وُجُوهَهُمْ وَأَيْدِيَهُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ، وَأَرْجُلَهُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَأَنْ يَمْسَحُوا رُءُوسَهُمْ كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَأُمِرُوا بِالصَّلَاةِ لِوَقْتِهَا، وَإِتْمَامِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَأَنْ يُغَلَّسَ بِالصُّبْحِ، وَأَنْ يُهَجَّرَ بِالْهَاجِرَةِ، حَتَّى تَمِيلَ الشَّمْسُ، وَصَلَاةُ الْعَصْرِ وَالشَّمْسِ فِي الْأَرْضِ مُبَدَّدَةٌ، وَالْمَغْرِبُ حِينَ يُقْبِلُ اللَّيْلُ وَلَا تُؤَخَّرُ حَتَّى تَبْدُوَ النُّجُومُ فِي السَّمَاءِ، وَالْعِشَاءُ أَوَّلُ اللَّيْلِ، وَأَمَرَهُ بِالسَّعْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ إِذَا نُودِيَ بِهَا، وَالْغُسْلِ عِنْدَ الرَّوَاحِ إِلَيْهَا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْمَغَانِمِ خُمُسَ اللَّهِ، وَمَا كُتِبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الصَّدَقَةِ مِنَ الْعَقَارِ فِيمَا سَقَتِ الْعَيْنُ وَفِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ، وَمَا سَقَى الْقَرَبُ فَنِصْفُ الْعُشْرِ، وَفِي كُلِّ عَشْرٍ مِنَ الْإِبِلِ شَاتَانِ، وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ،
(7/322)
وَفِي أَرْبَعِينَ مِنَ الْبَقَرِ بَقَرَةٌ، وَفِي كُلِّ ثَلَاثِينَ مِنَ الْبَقَرِ تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ جَذَعٌ أَوْ جَذَعَةٌ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مِنَ الْغَنَمِ سَائِمَةٍ وَحْدَهَا شَاةٌ، فَإِنَّهَا فَرِيضَةُ اللَّهِ الَّتِي افْتَرَضَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الصَّدَقَةِ فَمَنْ زَادَ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ، وَإِنَّهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ إِسْلَامًا خَالِصًا مِنْ نَفْسِهِ فَدَانَ دِينَ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، لَهُ مَا لَهُمْ وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ، وَمَنْ كَانَ عَلَى يَهُودِيَّتِهِ أَوْ نَصْرَانِيَّتِهِ فَإِنَّهُ لَا يُغَيَّرُ عَنْهَا، وَعَلَى كُلِّ حَالِمٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ دِينَارٌ وَافٍ أَوْ عِوَضُهُ مِنَ الثِّيَابِ، فَمَنْ أَدَّى ذَلِكَ فَإِنَّ لَهُ ذِمَّةَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَذِمَّةَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ عَدُوُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ".
قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ رَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جِدِّهِ هَذَا الْحَدِيثَ مَوْصُولًا بِزِيَادَاتٍ كَثِيرَةٍ وَنُقْصَانٍ عَنْ بَعْضِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الزَّكَاةِ وَالدِّيَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
قُلْتُ وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ فِي " سُنَنِهِ " مُطَوَّلًا، وَأَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ " الْمَرَاسِيلِ "، وَقَدْ ذَكَرْتُ ذَلِكَ بِأَسَانِيدِهِ وَأَلْفَاظِهِ فِي " السُّنَنِ " وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَسَنَذْكُرُ بَعْدَ الْوُفُودِ بَعْثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأُمَرَاءَ إِلَى الْيَمَنِ لِتَعْلِيمِ النَّاسِ وَأَخْذِ صَدَقَاتِهِمْ وَأَخْمَاسِهِمْ ; مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ وَأَبَا مُوسَى، وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
(7/323)
[قُدُومُ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ وَإِسْلَامُهُ]
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو قَطَنٍ، حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شِبْلٍ قَالَ: وَقَالَ جَرِيرٌ: «لَمَّا دَنَوْتُ مِنَ الْمَدِينَةِ أَنَخْتُ رَاحِلَتِي، ثُمَّ حَلَلْتُ عَيْبَتِي، ثُمَّ لَبِسْتُ حُلَّتِي، ثُمَّ دَخَلْتُ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَرَمَانِي النَّاسُ بِالْحَدَقِ فَقُلْتُ لِجَلِيسِي: يَا عَبْدَ اللَّهِ، ذَكَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ، ذَكَرَكَ بِأَحْسَنِ الذِّكْرِ. فَبَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ إِذْ عُرِضَ لَهُ فِي خُطْبَتِهِ، وَقَالَ: " يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَوْ مِنْ هَذَا الْفَجِّ مِنْ خَيْرِ ذِي يَمَنٍ إِلَّا أَنَّ عَلَى وَجْهِهِ مَسْحَةَ مَلَكٍ ". قَالَ جَرِيرٌ: فَحَمِدْتُ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى مَا أَبْلَانِي» : وَقَالَ أَبُو قَطَنٍ: فَقُلْتُ لَهُ: سَمِعْتَهُ مِنْهُ؟ أَوْ: سَمِعْتَهُ مِنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شِبْلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. ثُمَّ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ يُوسُفَ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْفَضْلِ بْنِ مُوسَى ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ يُونُسَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ،
(7/324)
عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شِبْلٍ - وَيُقَالُ: ابْنُ شُبَيْلٍ - عَنْ عَوْفٍ الْبَجَلِيِّ الْكُوفِيِّ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَلَيْسَ لَهُ عَنْهُ غَيْرُهُ.
وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ جَرِيرٍ بِقِصَّتِهِ: «يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذَا الْبَابِ رَجُلٌ عَلَى وَجْهِهِ مَسْحَةُ مَلَكٍ ".» الْحَدِيثُ وَهَذَا عَلَى شَرْطِ " الصَّحِيحَيْنِ ".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: «مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلَا رَآنِي إِلَّا تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي» . وَقَدْ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا أَبَا دَاوُدَ مِنْ طُرُقٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْهُ. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " زِيَادَةٌ: «وَشَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي لَا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي،» وَقَالَ: «اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ، وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا ".»
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ عَنْهُ
(7/325)
وَزَادَ فِيهِ: «يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذَا الْبَابِ رَجُلٌ عَلَى وَجْهِهِ مَسْحَةُ مَلَكٍ ".» فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ.
قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ السَّمَّاكُ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ سَلَّامٍ السَّوَّاقُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الْخُرَاسَانِيُّ، حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ عُمَرَ الْأَحْمَسِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «بَعَثَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " يَا جَرِيرُ، لِأَيِّ شَيْءٍ جِئْتَ؟ " قُلْتُ: أُسْلِمُ عَلَى يَدَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَأَلْقَى عَلَيَّ كِسَاءً، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: " إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ ". ثُمَّ قَالَ: " يَا جَرِيرُ، أَدْعُوكَ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَتُصَلِّيَ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ ". فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَرَانِي إِلَّا تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي.» هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «بَايَعْتُ
(7/326)
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ.» وَأَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ بِهِ، وَهُوَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ، عَنْ جَرِيرٍ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، ثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ شَقِيقٍ - يَعْنِي أَبَا وَائِلٍ -، عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اشْتَرِطْ عَلَيَّ فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِالشَّرْطِ. قَالَ: «أُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَنْصَحَ الْمُسْلِمَ، وَتَبْرَأَ مِنَ الْمُشْرِكِ ".» وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ جَرِيرٍ. وَفِي طَرِيقٍ أُخْرَى، عَنِ الْأَعْمَشِ وَعَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي نُخَيْلَةَ، عَنْ جَرِيرٍ بِهِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَاهُ أَيْضًا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قُدَامَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ أَبِي
(7/327)
وَائِلٍ، وَالشَّعْبِيِّ، عَنْ جَرِيرٍ بِهِ. وَرَوَاهُ عَنْ جَرِيرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَيْرَةَ، رَوَاهُ أَحْمَدُ مُنْفَرِدًا بِهِ. وَابْنُهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ جَرِيرٍ، رَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا مُنْفَرِدًا بِهِ. وَأَبُو جَمِيلَةَ وَصَوَابُهُ أَبُو نُخَيْلَةَ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ جَرِيرٍ، فَذَكَرَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ هُوَ أَبُو نُخَيْلَةَ الْبَجَلِيُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ حِينَ أَسْلَمَ إِلَى ذِي الْخَلَصَةِ - بَيْتٍ كَانَ يَعْبُدُهُ خَثْعَمٌ وَبُجَيْلَةُ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: الْكَعْبَةُ الْيَمَانِيَةُ. يُضَاهُونَ بِهِ الْكَعْبَةَ الَّتِي بِمَكَّةَ، وَيَقُولُونَ لِلَّتِي بِبَكَّةَ: الْكَعْبَةُ الشَّامِيَّةُ. وَلِبَيْتِهِمْ: الْكَعْبَةُ الْيَمَانِيَةُ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ؟ ". فَحِينَئِذٍ شَكَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ فِي صَدْرِهِ حَتَّى أَثَّرَتْ فِيهِ وَقَالَ: " اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ، وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا ". فَلَمْ يَسْقُطْ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ فَرَسٍ، وَنَفَرَ إِلَى
(7/328)
ذِي الْخَلَصَةِ فِي خَمْسِينَ وَمِائَةِ رَاكِبٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ أَحْمَسَ، فَخَرَّبَ ذَلِكَ الْبَيْتَ، وَحَرَّقَهُ حَتَّى تَرَكَهُ مِثْلَ الْجَمَلِ الْأَجْرَبِ، وَبَعَثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشِيرًا يُقَالُ لَهُ: أَبُو أَرْطَاةَ. فَبَشَّرَهُ بِذَلِكَ، فَبَرَّكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَيْلِ أَحْمَسَ وَرِجَالِهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ.» وَالْحَدِيثُ مَبْسُوطٌ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " وَغَيْرِهِمَا، كَمَا قَدَّمْنَاهُ بَعْدَ الْفَتْحِ اسْتِطْرَادًا بَعْدَ ذِكْرِ تَخْرِيبِ بَيْتِ الْعُزَّى عَلَى يَدَيْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِسْلَامَ جَرِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْفَتْحِ بِمِقْدَارٍ جَيِّدٍ، فَإِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُلَاثَةَ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ مَالِكٍ الْجَزَرِيِّ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ، قَالَ: إِنَّمَا أَسْلَمْتُ بَعْدَ مَا أُنْزِلَتِ الْمَائِدَةُ، وَأَنَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ بَعْدَ مَا أَسْلَمْتُ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَهُوَ إِسْنَادٌ جَيِّدٌ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا بَيْنَ مُجَاهِدٍ وَبَيْنَهُ.
وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَنَّ أَصْحَابَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ كَانَ يُعْجِبُهُمْ حَدِيثُ جَرِيرٍ فِي مَسْحِ الْخُفِّ ; لِأَنَّ إِسْلَامَ جَرِيرٍ إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ،
(7/329)
وَسَيَأْتِي فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «اسْتَنْصِتِ النَّاسَ يَا جَرِيرُ ".» وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ صَبِيًّا، وَكَانَ ذَا شَكْلٍ عَظِيمٍ، كَانَتْ نَعْلُهُ طُولُهَا ذِرَاعٌ، وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا، وَكَانَ مَعَ هَذَا مِنْ أَغَضِّ النَّاسِ طَرْفًا، وَلِهَذَا رَوَيْنَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظَرِ الْفَجْأَةِ فَقَالَ: " أَطْرِقْ بَصَرَكَ» ".
[وِفَادَةُ وَائِلِ بْنِ حُجْرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَحَدِ مُلُوكِ الْيَمَنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]
وِفَادَةُ وَائِلِ بْنِ حُجْرِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ وَائِلِ بْنِ يَعْمَرَ الْحَضْرَمِيِّ أَبِي هُنَيْدٍ، أَحَدِ مُلُوكِ الْيَمَنِ، عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَانَ أَحَدَ أَقْيَالِ حَضْرَمَوْتَ، وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ مُلُوكِهِمْ. وَيُقَالُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَّرَ أَصْحَابَهُ قَبْلَ قُدُومِهِ بِهِ وَقَالَ: «يَأْتِيكُمْ بَقِيَّةُ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ ".» فَلَمَّا دَخَلَ رَحَّبَ، بِهِ وَأَدْنَاهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَقَرَّبَ مَجْلِسَهُ، وَبَسَطَ لَهُ رِدَاءَهُ، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ فِي وَائِلٍ وَوَلَدِهِ وَوَلِدِ وَلَدِهِ ".»
(7/330)
وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْأَقْيَالِ مِنْ حَضْرَمَوْتَ، وَكَتَبَ مَعَهُ ثَلَاثَ كُتُبٍ ; مِنْهَا كِتَابٌ إِلَى الْمُهَاجِرِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ وَكِتَابٌ إِلَى الْأَقْيَالِ وَالْعَبَاهِلَةِ، وَأَقْطَعَهُ أَرْضًا، وَأَرْسَلَ مَعَهُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، فَخَرَجَ مَعَهُ رَاجِلًا، فَشَكَى إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ حَرَّ الرَّمْضَاءِ، فَقَالَ: انْتَعِلْ ظِلَّ النَّاقَةِ. فَقَالَ: وَمَا يُغْنِي عَنِّي ذَلِكَ؟ لَوْ جَعَلْتَنِي رِدْفًا. فَقَالَ لَهُ وَائِلٌ: اسْكُتْ فَلَسْتَ مِنْ أَرْدَافِ الْمُلُوكِ. ثُمَّ عَاشَ وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ حَتَّى وَفَدَ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَعَرَفَهُ مُعَاوِيَةُ، فَرَحَّبَ بِهِ وَقَرَّبَهُ وَأَدْنَاهُ، وَأَذْكَرَهُ الْحَدِيثَ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ جَائِزَةً سَنِيَّةً فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَهَا، وَقَالَ: أَعْطِهَا مَنْ هُوَ أَحْوَجُ إِلَيْهَا مِنِّي. وَأَوْرَدَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ بَعْضَ هَذَا، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ الْبُخَارِيَّ فِي " التَّارِيخِ " رَوَى فِي ذَلِكَ شَيْئًا.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْطَعُهُ أَرْضًا. قَالَ: فَأَرْسَلَ مَعِي مُعَاوِيَةَ أَنْ أَعْطِهَا إِيَّاهُ - أَوْ قَالَ: أَعْلِمْهَا إِيَّاهُ - قَالَ: فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَرْدِفْنِي خَلْفَكَ. فَقُلْتُ: لَا تَكُونُ مِنْ أَرْدَافِ الْمُلُوكِ. قَالَ: فَقَالَ: أَعْطِنِي نَعْلَكَ. فَقُلْتُ: انْتَعِلْ ظِلَّ النَّاقَةِ. قَالَ: فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ مُعَاوِيَةُ أَتَيْتُهُ، فَأَقْعَدَنِي مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ، فَذَكَّرَنِي» الْحَدِيثَ. قَالَ سِمَاكٌ: فَقَالَ: وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ حَمْلَتُهُ بَيْنَ يَدَيَّ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: صَحِيحٌ.
(7/331)
[وِفَادَةُ لَقِيطِ بْنِ عَامِرٍ الْمُنْتَفِقِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]
وِفَادَةُ لَقِيطِ بْنِ عَامِرٍ الْمُنْتَفِقِ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: كَتَبَ إِلَيَّ إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ الزُّبَيْرِيُّ: كَتَبْتُ إِلَيْكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ عَرَضْتُهُ وَسَمِعْتُهُ عَلَى مَا كَتَبْتُ بِهِ إِلَيْكَ، فَحَدِّثْ بِذَلِكَ عَنِّي. قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُغِيرَةَ الْحِزَامِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَيَّاشٍ السَّمَعِيُّ الْأَنْصَارِيُّ الْقُبَائِيُّ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، عَنْ دَلْهَمِ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَاجِبِ بْنِ عَامِرِ بْنِ الْمُنْتَفِقِ الْعُقَيْلِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمِّهِ لَقِيطِ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ دَلْهَمٌ: وَحَدَّثَنِيهِ أَبِي الْأَسْوَدُ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ لَقِيطٍ «أَنَّ لَقِيطًا خَرَجَ وَافِدًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ: نَهِيكُ بْنُ عَاصِمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْمُنْتَفِقِ. قَالَ لَقِيطٌ: فَخَرَجْتُ أَنَا وَصَاحِبِي حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
(7/332)
انْسِلَاخَ رَجَبٍ، فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَافَيْنَاهُ حِينَ انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ، فَقَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا، فَقَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنِّي قَدْ خَبَّأْتُ لَكُمْ صَوْتِي مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، أَلَا لَأُسْمِعَنَّكُمْ، أَلَا فَهَلْ مِنَ امْرِئٍ بَعَثَهُ قَوْمُهُ فَقَالُوا: اعْلَمْ لَنَا مَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ؟ أَلَا ثُمَّ لَعَلَّهُ أَنْ يُلْهِيَهُ حَدِيثُ نَفْسِهِ، أَوْ حَدِيثُ صَاحِبِهِ، أَوْ يُلْهِيَهُ الضُّلَّالُ، أَلَا إِنِّي مَسْئُولٌ، هَلْ بَلَّغْتُ، أَلَا اسْمَعُوا تَعِيشُوا، أَلَا اجْلِسُوا، أَلَا اجْلِسُوا ". قَالَ: فَجَلَسَ النَّاسُ، وَقُمْتُ أَنَا وَصَاحِبِي حَتَّى إِذَا فَرَغَ لَنَا فُؤَادُهُ وَبَصَرُهُ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عِنْدَكَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ؟ فَضَحِكَ، لَعَمْرُ اللَّهِ وَهَزَّ رَأْسَهُ، وَعَلِمَ أَنِّي أَبْتَغِي لِسَقْطِهِ، فَقَالَ: " ضَنَّ رَبُّكَ عَزَّ وَجَلَّ بِمَفَاتِيحِ خَمْسٍ مِنَ الْغَيْبِ، لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ ". وَأَشَارَ بِيَدِهِ قُلْتُ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: " عِلْمُ الْمَنِيَّةِ، قَدْ عَلِمَ مَتَى مَنِيَّةُ أَحَدِكُمْ وَلَا تَعْلَمُونَهُ، وَعِلْمُ الْمَنِيِّ حِينَ يَكُونُ فِي الرَّحِمِ، قَدْ عَلِمَهُ وَلَا تَعْلَمُونَ، وَعِلْمُ مَا فِي غَدٍ، وَمَا أَنْتَ طَاعِمٌ غَدًا وَلَا تَعْلَمُهُ، وَعِلْمُ يَوْمِ الْغَيْثِ يُشْرِفُ عَلَيْكُمْ آزِلِينَ مُسْنِتِينِ، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ، قَدْ عَلِمَ أَنَّ غَيْرَكُمْ إِلَى قَرِيبٍ ". قَالَ لَقِيطٌ: قُلْتُ: لَنْ نَعْدَمَ مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ خَيْرًا. " وَعِلْمُ يَوْمِ السَّاعَةِ ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنَا مِمَّا تُعَلِّمُ النَّاسَ، وَمَا تَعْلَمُ، فَأَنَا مِنْ قَبِيلٍ
(7/333)
لَا يُصَدِّقُونَ تَصْدِيقَنَا أَحَدٌ مِنْ مَذْحِجٍ الَّتِي تَرْبُوا عَلَيْنَا، وَخَثْعَمٍ الَّتِي تَوَالِينَا، وَعَشِيرَتِنَا الَّتِي نَحْنُ مِنْهَا. قَالَ: " تَلْبَثُونَ مَا لَبِثْتُمْ ثُمَّ يُتَوَفَّى نَبِيُّكُمْ، ثُمَّ تَلْبَثُونَ مَا لَبِثْتُمْ ثُمَّ تُبْعَثُ الصَّائِحَةُ، لَعَمْرُ إِلَهِكَ مَا تَدَعُ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا مَاتَ، وَالْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ مَعَ رَبِّكَ، عَزَّ وَجَلَّ، فَأَصْبَحَ رَبُّكَ، عَزَّ وَجَلَّ، يَطُوفُ فِي الْأَرْضِ وَقَدْ خَلَتْ عَلَيْهِ الْبِلَادُ، فَأَرْسَلَ رَبُّكُ السَّمَاءَ تَهْضِبُ مِنْ عِنْدِ الْعَرْشِ، فَلَعَمْرُ إِلَهِكَ مَا تَدَعُ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ مَصْرَعِ قَتِيلٍ وَلَا مَدْفَنِ مَيِّتٍ إِلَّا شَقَّتِ الْقَبْرَ عَنْهُ حَتَّى تُخْلِفَهُ مِنْ عِنْدِ رَأْسِهِ فَيَسْتَوِي جَالِسًا، فَيَقُولُ رَبُّكَ عَزَّ وَجَلَّ مَهْيَمْ؟ - لِمَا كَانَ فِيهِ - فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَمْسِ الْيَوْمَ. فَلِعَهْدِهِ بِالْحَيَاةِ يَحْسَبُهُ حَدِيثًا بِأَهْلِهِ ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَجْمَعُنَا بَعْدَمَا تُمَزِّقُنَا الرِّيَاحُ وَالْبِلَى وَالسِّبَاعُ؟ فَقَالَ: " أُنْبِئُكَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي آلَاءِ اللَّهِ، الْأَرْضُ أَشْرَفْتَ عَلَيْهَا وَهِيَ مَدَرَةٌ بَالِيَةٌ فَقُلْتَ: لَا تَحْيَا أَبَدًا. ثُمَّ أَرْسَلَ رَبُّكَ عَلَيْهَا السَّمَاءَ،
(7/334)
فَلَمْ تَلْبَثْ عَلَيْكَ إِلَّا أَيَّامًا حَتَّى أَشْرَفْتَ عَلَيْهَا وَهِيَ شَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ، فَلَعَمْرُ إِلَهِكَ لَهُوَ أَقْدَرُ عَلَى أَنْ يَجْمَعَكُمْ مِنَ الْمَاءِ عَلَى أَنْ يَجْمَعَ نَبَاتَ الْأَرْضِ، فَتُخْرَجُونَ مِنَ الْأَصْوَاءِ وَمِنْ مَصَارِعِكُمْ، فَتَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَيَنْظُرُ إِلَيْكُمْ ". قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ وَنَحْنُ مَلْءُ الْأَرْضِ وَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ شَخْصٌ وَاحِدٌ، يَنْظُرُ إِلَيْنَا وَنَنْظُرُ إِلَيْهِ؟! فَقَالَ: " أُنْبِئُكَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي آلَاءِ اللَّهِ، الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ آيَةٌ مِنْهُ صَغِيرَةٌ تَرَوْنَهُمَا وَيَرَيَانِكُمْ سَاعَةً وَاحِدَةً، لَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَتِهِمَا، وَلَعَمْرُ إِلَهِكَ لَهُوَ أَقْدَرُ عَلَى أَنْ يَرَاكُمْ وَتَرَوْنَهُ مِنْ أَنْ تَرَوْنَهُمَا وَيَرَيَانِكُمْ لَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَتِهِمَا ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا يَفْعَلُ بِنَا رَبُّنَا إِذَا لَقِينَاهُ؟ قَالَ: " تُعْرَضُونَ عَلَيْهِ بَادِيَةً لَهُ
(7/335)
صَفَحَاتُكُمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْكُمْ خَافِيَةٌ، فَيَأْخُذُ رَبُّكَ، عَزَّ وَجَلَّ، بِيَدِهِ غُرْفَةً مِنَ الْمَاءِ فَيَنْضَحُ قَبِيلَكُمْ بِهَا، فَلَعَمْرُ إِلَهِكَ مَا تُخْطِئُ وَجْهَ أَحَدِكُمْ مِنْهَا قَطْرَةٌ، فَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَتَدَعُ وَجْهَهُ مِثْلَ الرَّيْطَةِ الْبَيْضَاءِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَتَخْطِمُهُ بِمِثْلِ الْحُمَمِ الْأَسْوَدِ، أَلَا ثُمَّ يَنْصَرِفُ نَبِيُّكُمْ، وَيَنْصَرِفُ عَلَى أَثَرِهِ الصَّالِحُونَ، فَتَسْلُكُونَ جِسْرًا مِنَ النَّارِ فَيَطَأُ أَحَدُكُمُ الْجَمْرَ فَيَقُولُ: حَسِّ. فَيَقُولُ رَبُّكَ عَزَّ وَجَلَّ: أَوْ أَنَّهُ، فَتَطْلُعُونَ عَلَى حَوْضِ الرَّسُولِ عَلَى أَظْمَأِ وَاللَّهِ نَاهِلَةٍ عَلَيْهَا، مَا رَأَيْتُهَا، قَطُّ فَلَعَمْرُ إِلَهِكَ لَا يَبْسُطُ وَاحِدٌ مِنْكُمْ يَدَهُ إِلَّا وَقَعَ عَلَيْهَا قَدَحٌ يُطَهِّرُهُ مِنَ الطَّوْفِ وَالْبَوْلِ وَالْأَذَى، وَتُحْبَسُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ فَلَا تَرَوْنَ مِنْهُمَا وَاحِدًا ".
(7/336)
قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَبِمَ نُبْصِرُ؟ قَالَ: " بِمِثْلِ بَصَرِكَ سَاعَتَكَ هَذِهِ، وَذَلِكَ مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فِي يَوْمٍ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ وَوَاجَهَتْهُ الْجِبَالُ ". قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَبِمَ نُجْزَى مِنْ سَيِّئَاتِنَا وَحَسَنَاتِنَا؟ قَالَ: " الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ ". قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِمَّا الْجَنَّةُ وَإِمَّا النَّارُ؟ قَالَ: " لَعَمْرُ إِلَهِكَ، إِنَّ لِلنَّارِ لَسَبْعَةَ أَبْوَابٍ، مَا مِنْهُنَّ بَابَانِ إِلَّا يَسِيرُ الرَّاكِبُ بَيْنَهُمَا سَبْعِينَ عَامًا، وَإِنَّ لِلْجَنَّةِ لَثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ مَا مِنْهَا بَابَانِ إِلَّا يَسِيرُ الرَّاكِبُ بَيْنَهُمَا سَبْعِينَ عَامًا ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَعَلَامَ نَطَّلِعُ مِنَ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: " عَلَى أَنْهَارٍ مِنْ عَسَلٍ مُصَفَّى، وَأَنْهَارٍ مِنْ كَأْسٍ مَا بِهَا مِنْ صُدَاعٍ وَلَا نَدَامَةٍ، وَأَنْهَارٍ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ، وَمَاءٌ غَيْرُ آسِنٍ، وَفَاكِهَةٍ، لَعَمْرُ إِلَهِكَ مَا تَعْلَمُونَ، وَخَيْرٍ مِنْ مِثْلِهِ مَعَهُ، وَأَزْوَاجٍ مُطَهَّرَةٍ ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَنَا فِيهَا أَزْوَاجٌ؟ أَوَ مِنْهُنَّ مُصْلِحَاتٌ؟ قَالَ: " الصَّالِحَاتُ لِلصَّالِحِينَ، تَلَذُّونَ بِهِنَّ مِثْلَ لَذَّاتِكُمْ فِي الدُّنْيَا وَيَلْذَذْنَ بِكُمْ، غَيْرَ أَنْ لَا تَوَالُدَ ". قَالَ لَقِيطٌ: فَقُلْتُ: أَقْصَى مَا نَحْنُ بَالِغُونَ وَمُنْتَهُونَ إِلَيْهِ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلَامَ أُبَايِعُكَ؟ قَالَ: فَبَسَطَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ، وَقَالَ: " عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَزِيَالِ الْمُشْرِكِ، وَأَنْ لَا تُشْرِكَ بِاللَّهِ إِلَهًا غَيْرَهُ ". قَالَ: قُلْتُ: وَإِنَّ لَنَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ؟ فَقَبَضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ وَظَنَّ أَنِّي مُشْتَرِطٌ شَيْئًا لَا يُعْطِينِيهِ. قَالَ: قُلْتُ: نَحِلُّ مِنْهَا حَيْثُ شِئْنَا وَلَا يَجْنِي امْرُؤٌ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ. فَبَسَطَ يَدَهُ وَقَالَ: " ذَلِكَ لَكَ، تَحِلُّ حَيْثُ شِئْتَ وَلَا تَجْنِي عَلَيْكَ إِلَّا نَفْسُكَ ". قَالَ: فَانْصَرَفْنَا عَنْهُ ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ هَذَيْنِ مِنْ أَتْقَى النَّاسِ - لَعَمْرُ إِلَهِكَ - فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ ". فَقَالَ لَهُ كَعْبُ بْنُ الْخُدَارِيَّةِ أَحَدُ بَنِي بَكْرِ بْنِ كِلَابٍ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: بَنُو الْمُنْتَفِقِ أَهْلُ ذَلِكَ. قَالَ: فَانْصَرَفْنَا وَأَقْبَلْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ لِأَحَدٍ مِمَّنْ مَضَى خَيْرٌ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ؟ قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ عُرْضِ قُرَيْشٍ: وَاللَّهِ إِنَّ أَبَاكَ الْمُنْتَفِقَ لَفِي النَّارِ. قَالَ: فَلَكَأَنَّهُ وَقَعَ حَرٌّ بَيْنَ جِلْدِي وَوَجْهِي وَلَحْمِي ; مِمَّا قَالَ لِأَبِي عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ، فَهَمَمْتُ أَنْ أَقُولَ: وَأَبُوكَ يَا
(7/337)
رَسُولَ اللَّهِ؟ ثُمَّ إِذَا الْأُخْرَى أَجْمَلُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ وَأَهْلُكُ؟ قَالَ: " وَأَهْلِي لَعَمْرُ اللَّهِ، مَا أَتَيْتَ عَلَيْهِ مِنْ قَبْرِ عَامِرِيٍّ أَوْ قُرَشِيٍّ مِنْ مُشْرِكٍ، فَقُلْ: أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ مُحَمَّدٌ فَأُبَشِّرُكَ بِمَا يَسُوءُكَ ; تُجَرُّ عَلَى وَجْهِكَ وَبَطْنِكَ فِي النَّارِ ". قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا فَعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ وَقَدْ كَانُوا عَلَى عَمَلٍ لَا يُحْسِنُونَ إِلَّا إِيَّاهُ، وَقَدْ كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُصْلِحُونَ؟ قَالَ: " ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ بَعَثَ فِي آخِرِ كُلِّ سَبْعِ أُمَمٍ - يَعْنِي نَبِيًّا - فَمَنْ عَصَى نَبِيَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ، وَمَنْ أَطَاعَ نَبِيَّهُ كَانَ مِنَ الْمُهْتَدِينَ ".» هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا وَأَلْفَاظُهُ فِي بَعْضِهَا نَكَارَةٌ وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ " الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ "، وَعَبْدُ الْحَقِّ الْإِشْبِيلِيُّ فِي " الْعَاقِبَةِ "، وَالْقُرْطُبِيُّ فِي كِتَابِ " التَّذْكِرَةِ فِي أَحْوَالِ الْآخِرَةِ " وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ " الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
[وِفَادَةُ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]
قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو أَحْمَدَ الْأَسَدَابَاذِيُّ بِهَا أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ
(7/339)
أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ بْنِ مَالِكٍ الْقَطِيعِيُّ، ثَنَا أَبُو عَلِيٍّ بِشْرُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِئُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادِ بْنِ أَنْعُمٍ، حَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ نُعَيْمٍ الْحَضْرَمِيُّ سَمِعْتُ زِيَادَ بْنَ الْحَارِثِ الصُّدَائِيَّ يُحَدِّثُ قَالَ: «أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْتُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَأُخْبِرْتُ أَنَّهُ قَدْ بَعَثَ جَيْشًا إِلَى قَوْمِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ارْدُدِ الْجَيْشَ، وَأَنَا لَكَ بِإِسْلَامِ قَوْمِي وَطَاعَتِهِمْ. فَقَالَ لِيَ: " اذْهَبْ فَرُدَّهُمْ ". فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ رَاحِلَتِي قَدْ كَلَّتْ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا فَرَدَّهُمْ. قَالَ الصُّدَائِيُّ: وَكَتَبْتُ إِلَيْهِمْ كِتَابًا، فَقَدِمَ وَفْدُهُمْ بِإِسْلَامِهِمْ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا أَخَا صُدَاءٍ إِنَّكَ لَمُطَاعٌ فِي قَوْمِكَ ". فَقُلْتُ: بَلِ اللَّهُ هَدَاهُمْ لِلْإِسْلَامِ. فَقَالَ: " أَفَلَا أُؤَمِّرُكَ عَلَيْهِمْ؟ " قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَكَتَبَ لِي كِتَابًا أَمَّرَنِي فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مُرْ لِي بِشَيْءٍ مِنْ صَدَقَاتِهِمْ. قَالَ: " نَعَمْ ". فَكَتَبَ لِي كِتَابًا آخَرَ. قَالَ الصُّدَائِيُّ: وَكَانَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْزِلًا، فَأَتَاهُ أَهْلُ ذَلِكَ الْمَنْزِلِ يَشْكُونَ عَامِلَهُمْ، وَيَقُولُونَ: أَخَذَنَا بِشَيْءٍ كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَوَ فَعَلَ ذَلِكَ؟ " قَالُوا: نَعَمْ. فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَأَنَا فِيهِمْ، فَقَالَ: " لَا خَيْرَ فِي الْإِمَارَةِ لِرَجُلٍ مُؤْمِنٍ ". قَالَ الصُّدَائِيُّ: فَدَخَلَ قَوْلُهُ فِي نَفْسِي، ثُمَّ أَتَاهُ آخَرٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِنِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ سَأَلَ النَّاسَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، فَصُدَاعٌ فِي الرَّأْسِ وَدَاءٌ فِي الْبَطْنِ ". فَقَالَ السَّائِلُ: فَأَعْطِنِي مِنَ الصَّدَقَةِ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ
(7/340)
لَمْ يَرْضَ فِي الصَّدَقَاتِ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ، حَتَّى حَكَمَ هُوَ فِيهَا فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ، فَإِنْ كُنْتَ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ ". قَالَ الصُّدَائِيُّ: فَدَخَلَ ذَلِكَ فِي نَفْسِي أَنِّي غَنِيٌّ وَأَنِّي سَأَلْتُهُ مِنَ الصَّدَقَةِ. قَالَ: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَشَى مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ، فَلَزِمْتُهُ وَكُنْتُ قَرِيبًا، فَكَانَ أَصْحَابُهُ يَنْقَطِعُونَ عَنْهُ وَيَسْتَأْخِرُونَ مِنْهُ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ أَحَدٌ غَيْرِي، فَلَمَّا كَانَ أَوَانُ صَلَاةِ الصُّبْحِ أَمَرَنِي فَأَذَّنْتُ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ: أُقِيمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَجَعَلَ يَنْظُرُ نَاحِيَةَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْفَجْرِ وَيَقُولُ: " لَا ". حَتَّى إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ نَزَلَ فَتَبَرَّزَ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيَّ وَهُوَ مُتَلَاحِقٌ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: " هَلْ مِنْ مَاءٍ يَا أَخَا صُدَاءٍ؟ " قُلْتُ لَا، إِلَّا شَيْءٌ قَلِيلٌ لَا يَكْفِيكَ. فَقَالَ: " اجْعَلْهُ فِي إِنَاءٍ ثُمَّ ائْتِنِي بِهِ ". فَفَعَلْتُ فَوَضَعَ كَفَّهُ فِي الْمَاءِ قَالَ: فَرَأَيْتُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِهِ عَيْنًا تَفُورُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْلَا أَنِّي أَسْتَحِي مِنْ رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ، لَسَقَيْنَا وَاسْتَقَيْنَا، نَادِ فِي أَصْحَابِي: مَنْ لَهُ حَاجَةٌ فِي الْمَاءِ؟ " فَنَادَيْتُ فِيهِمْ فَأَخَذَ مَنْ أَرَادَ مِنْهُمْ شَيْئًا، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَأَرَادَ بِلَالٌ أَنْ يُقِيمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ أَخَا صُدَاءٍ أَذَّنَ، وَمَنْ أَذَّنَ فَهُوَ يُقِيمُ ". قَالَ الصُّدَائِيُّ: فَأَقَمْتُ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ أَتَيْتُهُ بِالْكِتَابَيْنِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْفِنِي مِنْ هَذَيْنِ. فَقَالَ: " مَا بَدَا لَكَ؟ " فَقُلْتُ: سَمِعْتُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَقُولُ: " لَا خَيْرَ فِي الْإِمَارَةِ لِرَجُلٍ مُؤْمِنٍ ". وَأَنَا أُومِنُ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، وَسَمِعْتُكَ تَقُولُ لِلسَّائِلِ: " مَنْ سَأَلَ النَّاسَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى فَهُوَ صُدَاعٌ، فِي الرَّأْسِ، وَدَاءٌ فِي الْبَطْنِ ". وَسَأَلْتُكَ وَأَنَا غَنِيٌّ. فَقَالَ:
(7/341)
" هُوَ ذَاكَ فَإِنْ شِئْتَ فَاقْبَلْ وَإِنْ شِئْتَ فَدَعْ ". فَقُلْتُ: أَدَعُ. فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَدُلَّنِي عَلَى رَجُلٍ أُؤَمِّرُهُ عَلَيْكُمْ ". فَدَلَلْتُهُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْوَفْدِ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَيْهِ، فَأَمَّرَهُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لَنَا بِئْرًا إِذَا كَانَ الشِّتَاءُ وَسِعَنَا مَاؤُهَا وَاجْتَمَعْنَا عَلَيْهَا، وَإِذَا كَانَ الصَّيْفُ قَلَّ مَاؤُهَا فَتَفَرَّقْنَا عَلَى مِيَاهٍ حَوْلَنَا، وَقَدْ أَسْلَمْنَا، وَكُلُّ مَنْ حَوْلَنَا عَدُوٌّ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا فِي بِئْرِنَا، فَيَسَعَنَا مَاؤُهَا فَنَجْتَمِعَ عَلَيْهِ وَلَا نَتَفَرَّقَ. فَدَعَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ فَعَرَكَهُنَّ بِيَدِهِ وَدَعَا فِيهِنَّ، ثُمَّ قَالَ: " اذْهَبُوا بِهَذِهِ الْحَصَيَاتِ، فَإِذَا أَتَيْتُمُ الْبِئْرَ فَأَلْقُوا وَاحِدَةً وَاحِدَةً، وَاذْكُرُوا اللَّهَ ". قَالَ الصُّدَائِيُّ: فَفَعَلْنَا مَا قَالَ لَنَا، فَمَا اسْتَطَعْنَا بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ نَنْظُرَ إِلَى قَعْرِهَا. يَعْنِي الْبِئْرَ.» وَهَذَا الْحَدِيثُ لَهُ شَوَاهِدُ فِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " وَالتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَعَثَ بَعْدَ عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ قَيْسَ بْنَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فِي أَرْبَعِمِائَةٍ إِلَى بِلَادِ صُدَاءٍ فَيُوَطِّئُهَا، فَبَعَثُوا رَجُلًا مِنْهُمْ فَقَالَ: جِئْتُكَ لِتَرُدَّ عَنْ قَوْمِي الْجَيْشَ، وَأَنَا لَكَ بِهِمْ ثُمَّ قَدِمَ وَفْدُهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا، ثُمَّ رَأَى مِنْهُمْ حَجَّةَ الْوَدَاعِ مِائَةَ رَجُلٍ. ثُمَّ رَوَى الْوَاقِدِيُّ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادِ بْنِ أَنْعُمٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ نُعَيْمٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ قِصَّتَهُ فِي الْأَذَانِ.
3 -
(7/342)
[وِفَادَةُ الْحَارِثِ بْنِ حَسَّانٍ الْبَكْرِيِّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنِي أَبُو الْمُنْذِرِ سَلَّامُ بْنُ سُلَيْمَانَ النَّحْوِيُّ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنِ الْحَارِثِ الْبَكْرِيِّ قَالَ: «خَرَجْتُ أَشْكُو الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ، فَإِذَا عَجُوزٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ مُنْقَطِعٌ بِهَا، فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنَّ لِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاجَةً، فَهَلْ أَنْتَ مُبَلِّغِي إِلَيْهِ؟ قَالَ: فَحَمَلْتُهَا، فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ فَإِذَا الْمَسْجِدُ غَاصٌّ بِأَهْلِهِ، وَإِذَا رَايَةٌ سَوْدَاءُ تَخْفِقُ وَبِلَالٌ مُتَقَلِّدٌ السَّيْفَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ قَالُوا: يُرِيدُ أَنْ يَبْعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَجْهًا. قَالَ: فَجَلَسْتُ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ - أَوْ قَالَ: رَحْلَهُ - فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ فَأَذِنَ لِي، فَدَخَلْتُ فَسَلَّمْتُ، فَقَالَ: " هَلْ كَانَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ تَمِيمٍ شَيْءٌ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ، وَكَانَتِ الدَّائِرَةُ عَلَيْهِمْ، وَمَرَرْتُ بِعَجُوزٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ مُنْقَطِعٌ بِهَا، فَسَأَلَتْنِي أَنْ أَحْمِلَهَا إِلَيْكَ، وَهَاهِيَ بِالْبَابِ. فَأَذِنَ لَهَا فَدَخَلَتْ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ تَمِيمٍ حَاجِزًا فَاجْعَلِ الدَّهْنَاءَ.
(7/343)
فَحَمِيَتِ الْعَجُوزُ وَاسْتَوْفَزَتْ، وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ يُضْطَرُّ مُضَرُكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: إِنَّمَا مَثَلِي مَا قَالَ الْأَوَّلُ: مِعْزًى حَمَلَتْ حَتْفَهَا. حَمَلْتُ هَذِهِ وَلَا أَشْعُرُ أَنَّهَا كَانَتْ لِي خَصْمًا، أَعُوذُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ أَكُونَ كَوَافِدِ عَادٍ. قَالَ: " هِيهِ، وَمَا وَافِدُ عَادٍ؟ " وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ مِنْهُ، وَلَكِنْ يَسْتَطْعِمُهُ. قُلْتُ: إِنَّ عَادًا قُحِطُوا فَبَعَثُوا وَافِدًا لَهُمْ يُقَالُ لَهُ: قَيْلٌ. فَمَرَّ بِمُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ شَهْرًا يَسْقِيهِ الْخَمْرَ، وَتُغَنِّيهِ جَارِيَتَانِ يُقَالُ لَهُمَا: الْجَرَادَتَانِ. فَلَمَّا مَضَى الشَّهْرُ خَرَجَ إِلَى جِبَالِ مَهَرَةَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَجِئْ إِلَى مَرِيضٍ فَأُدَاوِيهْ، وَلَا إِلَى أَسِيرٍ فَأُفَادِيهْ، اللَّهُمَّ اسْقِ عَادًا مَا كُنْتَ تَسْقِيهْ. فَمَرَّتْ بِهِ سَحَابَاتٌ سُودٌ فَنُودِيَ مِنْهَا: اخْتَرْ. فَأَوْمَأَ إِلَى سَحَابَةٍ مِنْهَا سَوْدَاءَ فَنُودِيَ مِنْهَا: خُذْهَا رَمَادًا رَمْدَدًا، لَا تُبْقِي مِنْ عَادٍ أَحَدًا. قَالَ: فَمَا بَلَغَنِي أَنَّهُ أُرْسِلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الرِّيحِ، إِلَّا بِقَدْرِ مَا يَجْرِي فِي خَاتَمِي هَذَا، حَتَّى هَلَكُوا. قَالَ أَبُو وَائِلٍ
(7/344)
وَصَدَقَ. قَالَ: وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ أَوِ الرَّجُلُ إِذَا بَعَثُوا وَافِدًا لَهُمْ قَالُوا: لَا تَكُنْ كَوَافِدِ عَادٍ.» وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْمُنْذِرِ سَلَّامِ بْنِ سُلَيْمَانَ بِهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، عَنِ الْحَارِثِ الْبَكْرِيِّ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَبَا وَائِلٍ، وَهَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الْحَارِثِ، وَالصَّوَابُ: عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنِ الْحَارِثِ كَمَا تَقَدَّمَ.
[وِفَادَةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَقِيلٍ مَعَ قَوْمِهِ]
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ السُّوسِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَغْدَادِيُّ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، ثَنَا زُهَيْرٌ، ثَنَا أَبُو خَالِدٍ يَزِيدُ الْأَسَدِيُّ، ثَنَا عَوْنُ بْنُ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَلْقَمَةَ الثَّقَفِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَقِيلٍ قَالَ: «انْطَلَقْتُ فِي وَفْدٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْنَاهُ فَأَنَخْنَا بِالْبَابِ، وَمَا فِي النَّاسِ أَبْغَضُ إِلَيْنَا مِنْ رَجُلٍ نَلِجُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا
(7/345)
دَخَلْنَا وَخَرَجْنَا، فَمَا فِي النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ رَجُلٍ دَخَلْنَا عَلَيْهِ. قَالَ: فَقَالَ قَائِلٌ مِنَّا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا سَأَلْتَ رَبَّكَ مُلْكًا كَمُلْكِ سُلَيْمَانَ؟ قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: فَلَعَلَّ لِصَاحِبِكَ عِنْدَ اللَّهِ أَفْضَلَ مِنْ مُلْكِ سُلَيْمَانَ، إِنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا إِلَّا أَعْطَاهُ دَعْوَةً، فَمِنْهُمْ مَنِ اتَّخَذَهَا دُنْيَا فَأُعْطِيَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ دَعَا بِهَا عَلَى قَوْمِهِ إِذْ عَصَوْهُ فَأُهْلِكُوا بِهَا، وَإِنَّ اللَّهَ أَعْطَانِي دَعْوَةً فَاخْتَبَأْتُهَا عِنْدَ رَبِّي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
[قُدُومُ طَارِقِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَصْحَابِهِ]
رَوَى الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خَبَّابٍ الْكَلْبِيِّ، عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ الْمُحَارِبِيِّ، حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ قَوْمِي يُقَالُ لَهُ: طَارِقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ: «إِنِّي لَقَائِمٌ بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ، إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ عَلَيْهِ جُبَّةٌ وَهُوَ يَقُولُ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا ". وَرَجُلٌ يَتْبَعُهُ يَرْمِيهِ بِالْحِجَارَةِ، يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ كَذَّابٌ فَلَا تُصَدِّقُوهُ. فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا غُلَامٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَذَا الَّذِي يَفْعَلُ بِهِ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا عَمُّهُ عَبْدُ الْعُزَّى. قَالَ فَلَمَّا أَسْلَمَ النَّاسُ وَهَاجَرُوا خَرَجْنَا مِنَ الرَّبَذَةِ نُرِيدُ الْمَدِينَةَ
(7/346)
نَمْتَارُ مِنْ تَمْرِهَا، فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ حِيطَانِهَا وَنَخْلِهَا قَلْتُ: لَوْ نَزَلْنَا فَلَبِسْنَا ثِيَابًا غَيْرَ هَذِهِ، إِذَا رَجُلٌ فِي طِمْرَيْنِ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا وَقَالَ: " مِنْ أَيْنَ أَقْبَلَ الْقَوْمُ؟ " قُلْنَا: مِنَ الرَّبَذَةِ. قَالَ: " وَأَيْنَ تُرِيدُونَ؟ " قُلْنَا: نُرِيدُ هَذِهِ الْمَدِينَةَ. قَالَ: " مَا حَاجَتُكُمْ مِنْهَا؟ " قُلْنَا: نَمْتَارُ مِنْ تَمْرِهَا. قَالَ: وَمَعَنَا ظَعِينَةٌ لَنَا وَمَعَهَا جَمَلٌ أَحْمَرُ مَخْطُومٌ فَقَالَ: " أَتَبِيعُونَ جَمَلَكُمْ هَذَا؟ " قُلْنَا: نَعَمْ، بِكَذَا وَكَذَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ. قَالَ: فَمَا اسْتَوْضَعَنَا مِمَّا قُلْنَا شَيْئًا، وَأَخَذَ بِخِطَامِ الْجَمَلِ فَانْطَلَقَ، فَلَمَّا تَوَارَى عَنَّا بِحِيطَانِ الْمَدِينَةِ وَنَخْلِهَا قُلْنَا: مَا صَنَعْنَا؟! وَاللَّهِ مَا بِعْنَا جَمَلَنَا مِمَّنْ نَعْرِفُ، وَلَا أَخَذْنَا لَهُ ثَمَنًا. قَالَ: تَقُولُ الْمَرْأَةُ الَّتِي مَعَنَا: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا كَأَنَّ وَجْهَهُ شُقَّةُ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، أَنَا ضَامِنَةٌ لِثَمَنِ جَمَلِكُمْ. إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ فَقَالَ: أَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْكُمْ، هَذَا تَمْرُكُمْ، فَكُلُوا وَاشْبَعُوا وَاكْتَالُوا وَاسْتَوْفُوا. فَأَكَلْنَا حَتَّى شَبِعْنَا، وَاكْتَلْنَا وَاسْتَوْفَيْنَا، ثُمَّ دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ، فَدَخَلْنَا الْمَسْجِدَ، فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ النَّاسَ، فَأَدْرَكْنَا مِنْ خُطْبَتِهِ وَهُوَ يَقُولُ: " تَصَدَّقُوا فَإِنَّ الصَّدَقَةَ خَيْرٌ لَكُمْ، الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، أُمَّكَ وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، وَأَدْنَاكَ أَدْنَاكَ ". إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي يَرْبُوعٍ - أَوْ قَالَ: رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَنَا فِي هَؤُلَاءِ دِمَاءٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَقَالَ: " إِنَّ أَبًا لَا يَجْنِي عَلَى وَلَدٍ ". ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.» وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ فَضْلَ الصَّدَقَةِ مِنْهُ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ عِيسَى، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ مُوسَى، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زِيَادِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ
(7/347)
جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُحَارِبِيِّ بِبَعْضِهِ. وَرَوَاهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا، عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ جَامِعٍ، عَنْ طَارِقٍ بِطُولِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَالَ فِيهِ: فَقَالَتِ الظَّعِينَةُ: لَا تَلَاوَمُوا، فَلَقَدْ رَأَيْتُ وَجْهَ رَجُلٍ لَا يَغْدِرُ، مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ مِنْ وَجْهِهِ.
[قُدُومُ وَافِدِ فَرْوَةَ بْنِ عَمْرٍو الْجُذَامِيِّ صَاحِبِ بِلَادِ مُعَانَ بِإِسْلَامِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]
َ، وَأَظُنُّ ذَلِكَ إِمَّا بِتَبُوكَ أَوْ بَعْدَهَا
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَبَعَثَ فَرْوَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ النَّافِرَةِ الْجُذَامِيُّ، ثُمَّ النُّفَاثِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا بِإِسْلَامِهِ، وَأَهْدَى لَهُ بَغْلَةً بَيْضَاءَ، وَكَانَ فَرْوَةُ عَامِلًا لِلرُّومِ عَلَى مَنْ يَلِيهِمْ مِنَ الْعَرَبِ، وَكَانَ مَنْزِلُهُ مُعَانَ وَمَا حَوْلَهَا مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، فَلَمَّا بَلَغَ الرُّومَ ذَلِكَ مِنْ إِسْلَامِهِ طَلَبُوهُ حَتَّى أَخَذُوهُ، فَحَبَسُوهُ عِنْدَهُمْ فَقَالَ فِي
(7/348)
مَحْبِسِهِ ذَلِكَ:
طَرَقَتْ سُلَيْمَى مَوْهِنًا أَصْحَابِي ... وَالرُّومُ بَيْنَ الْبَابِ وَالْقِرْوَانِ
صَدَّ الْخَيَالُ وَسَاءَهُ مَا قَدْ رَأَى ... وَهَمَمْتُ أَنْ أُغْفِي وَقَدْ أَبْكَانِي
لَا تَكْحُلِنَّ الْعَيْنَ بَعْدِي إِثْمِدًا ... سَلْمَى وَلَا تَدْنِنَّ لِلْإِتْيَانِ
وَلَقَدْ عَلِمْتَ أَبَا كُبَيْشَةَ أَنَّنِي ... وَسْطَ الْأَعِزَّةِ لَا يُحَصُّ لِسَانِي
فَلَئِنْ هَلَكْتُ لَتَفْقِدُنَّ أَخَاكُمُ ... وَلَئِنْ بَقِيتُ لَيَعْرِفُنَّ مَكَانِي
وَلَقَدْ جَمَعْتُ أَجَلَّ مَا جَمَعَ الْفَتَى ... مِنْ جَوْدَةٍ وَشَجَاعَةٍ وَبَيَانِ
قَالَ: فَلَمَّا أَجْمَعَتِ الرُّومُ عَلَى صَلْبِهِ عَلَى مَاءٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ: عِفْرَى بِفِلَسْطِينَ قَالَ:
أَلَا هَلْ أَتَى سَلْمَى بِأَنَّ حَلِيلَهَا ... عَلَى مَاءِ عِفْرَى فَوْقَ إِحْدَى الرَّوَاحِلِ
عَلَى نَاقَةٍ لَمْ يَضْرِبِ الْفَحْلُ أُمَّهَا ... مُشَذَّبَةٍ أَطْرَافُهَا بِالْمَنَاجِلِ
قَالَ: وَزَعَمَ الزُّهْرِيُّ أَنَّهُمْ لَمَّا قَدَّمُوهُ لِيَقْتُلُوهُ قَالَ:
بَلِّغْ سَرَاةَ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّنِي ... سِلْمٌ لِرَبِّي أَعْظُمِي وَمَقَامِي
قَالَ: ثُمَّ ضَرَبُوا عُنُقَهُ وَصَلَبُوهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَرَضِيَ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ وَجَعَلَ الْجَنَّةَ مَثْوَاهُ.
(7/349)
[قُدُومُ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِخْبَارُهُ إِيَّاهُ بِأَمْرِ الْجَسَّاسَةِ وَمَا سَمِعَ مِنَ الدَّجَّالِ]
ِ فِي خُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِيمَانِ مَنْ آمَنَ بِهِ
[قَالَ الْبَيْهَقِيُّ] : أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرَوَيْهِ الْمَرْوَزِيُّ بِنَيْسَابُورَ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَبِيبٍ، أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ، (ح) وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، وَأَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي قَالَا: أَنْبَأَنَا أَبُو سَهْلٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنْبَأَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، سَمِعْتُ غَيْلَانَ بْنَ جَرِيرٍ يُحَدِّثُ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَتْ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ، فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَكِبَ الْبَحْرَ، فَتَاهَتْ بِهِ سَفِينَتُهُ، فَسَقَطُوا إِلَى جَزِيرَةٍ، فَخَرَجُوا إِلَيْهَا يَلْتَمِسُونَ الْمَاءَ، فَلَقِيَ إِنْسَانًا يَجُرُّ شَعْرَهُ، فَقَالَ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا الْجَسَّاسَةُ. قَالُوا: فَأَخْبِرْنَا. قَالَ: لَا أُخْبِرُكُمْ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الْجَزِيرَةِ. فَدَخَلْنَاهَا فَإِذَا رَجُلٌ مُقَيَّدٌ فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمْ؟ قُلْنَا: نَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ. قَالَ: مَا فَعَلَ هَذَا النَّبِيُّ
(7/350)
الَّذِي خَرَجَ فِيكُمْ؟ قُلْنَا: قَدْ آمَنَ بِهِ النَّاسُ وَاتَّبَعُوهُ وَصَدَّقُوهُ. قَالَ: ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُمْ. قَالَ: أَفَلَا تُخْبِرُونِي عَنْ عَيْنِ زُغَرَ مَا فَعَلَتْ؟ فَأَخْبَرْنَاهُ عَنْهَا فَوَثَبَ وَثْبَةً كَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ وَرَاءِ الْجِدَارِ، ثُمَّ قَالَ: مَا فَعَلَ نَخْلُ بَيْسَانَ؟ هَلْ أَطْعَمَ بَعْدُ؟ فَأَخْبَرْنَاهُ أَنَّهُ قَدْ أَطْعَمَ، فَوَثَبَ مِثْلَهَا، ثُمَّ قَالَ: أَمَا لَوْ قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ لَوَطِئْتُ الْبِلَادَ كُلَّهَا غَيْرَ طَيْبَةَ. قَالَتْ: فَأَخْرَجَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَدَّثَ النَّاسَ، فَقَالَ: «هَذِهِ طَيْبَةُ، وَذَاكَ الدَّجَّالُ ".» وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ شَرَاحِيلَ الشَّعْبِيِّ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ شَاهِدًا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَسَيَأْتِي هَذَا الْحَدِيثُ بِطُرُقِهِ وَأَلْفَاظِهِ فِي كِتَابِ " الْفِتَنِ ". وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ وَفْدَ الدَّارِيِّينَ مِنْ لَخْمٍ، وَكَانُوا عَشَرَةً.
[وَفْدُ بَنِي أَسَدٍ]
وَهَكَذَا ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِ سَنَةِ تِسْعٍ وَفْدُ
(7/351)
بَنِي أَسَدٍ، وَكَانُوا عَشَرَةً مِنْهُمْ ضِرَارُ بْنُ الْأَزْوَرِ، وَوَابِصَةُ بْنُ مَعْبَدٍ، وَطُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ، الَّذِي ادَّعَى النُّبُوَّةَ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَنُقَادَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلَفٍ، فَقَالَ لَهُ رَئِيسُهُمْ حَضْرَمِيُّ بْنُ عَامِرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَيْنَاكَ نَتَدَرَّعُ اللَّيْلَ الْبَهِيمَ فِي سَنَةٍ شَهْبَاءَ، وَلَمْ تَبْعَثْ إِلَيْنَا بَعْثًا. فَنَزَلَ فِيهِمْ: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17] (الْحُجُرَاتِ: 17) ، وَكَانَ فِيهِمْ قَبِيلَةٌ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو الزِّنْيَةِ. فَغَيَّرَ اسْمَهُمْ فَقَالَ: «أَنْتُمْ بَنُو الرِّشْدَةِ ".» وَقَدِ اسْتَهْدَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نُقَادَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلَفٍ نَاقَةً تَكُونُ جَيِّدَةً لِلرُّكُوبِ وَلِلْحَلْبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهَا وَلَدٌ مَعَهَا، فَطَلَبَهَا فَلَمْ يَجِدْهَا إِلَّا عِنْدَ ابْنِ عَمٍّ لَهُ، فَجَاءَ بِهَا، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَلْبِهَا، فَشَرِبَ مِنْهَا وَسَقَاهُ سُؤْرَهُ، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهَا وَفِيمَنْ مَنَحَهَا ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَفِيمَنْ جَاءَ بِهَا. فَقَالَ: " وَفِيمَنْ جَاءَ بِهَا»
[وَفْدُ بَنِي عَبْسٍ]
ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّهُمْ كَانُوا تِسْعَةَ نَفَرٍ، وَسَمَّاهُمُ الْوَاقِدِيُّ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ
(7/352)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا عَاشِرُكُمْ ".» وَأَمَرَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ فَعَقَدَ لَهُمْ لِوَاءً، وَجَعَلَ شِعَارَهُمْ: يَا عَشَرَةُ. وَذَكَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُمْ عَنْ خَالِدِ بْنِ سِنَانٍ الْعَبْسِيِّ الَّذِي قَدَّمْنَا تَرْجَمَتَهُ فِي أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَذَكَرُوا أَنَّهُ لَا عَقِبَ لَهُ، وَذَكَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُمْ يَرْصُدُونَ عِيرًا لِقُرَيْشٍ قَدِمَتْ مِنَ الشَّامِ، وَهَذَا يَقْتَضِي تَقَدُّمَ وِفَادَتِهِمْ عَلَى الْفَتْحِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[وَفْدُ بَنِي فَزَارَةَ]
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الْجُمَحِيُّ، عَنْ أَبِي وَجْزَةَ السَّعْدِيِّ قَالَ: «لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ تَبُوكَ وَكَانَ سَنَةَ تِسْعٍ، قَدِمَ عَلَيْهِ وَفْدُ بَنِي فَزَارَةَ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فِيهِمْ، خَارِجَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ، وَهُوَ أَصْغَرُهُمْ، عَلَى رِكَابٍ عِجَافٍ، فَجَاءُوا مُقِرِّينَ بِالْإِسْلَامِ، وَسَأَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ عَنْ بِلَادِهِمْ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَسْنَتَتْ بِلَادُنَا، وَهَلَكَتْ مَوَاشِينَا، وَأَجْدَبَ جَنَابُنَا، وَغَرِثَ عِيَالُنَا، فَادْعُ اللَّهُ لَنَا، فَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ الْمِنْبَرَ وَدَعَا فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اسْقِ بِلَادَكَ وَبَهَائِمَكَ، وَانْشُرْ رَحْمَتَكَ، وَأَحْيِ بَلَدَكَ
(7/353)
الْمَيِّتَ، اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا مَرِيئًا مَرِيعًا طَبَقًا وَاسِعًا عَاجِلًا غَيْرَ آجِلٍ، نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ، اللَّهُمَّ اسْقِنَا سُقْيَا رَحْمَةٍ لَا سُقْيَا عَذَابٍ، وَلَا هَدْمٍ، وَلَا غَرَقٍ، وَلَا مَحْقٍ، اللَّهُمَّ اسْقِنَا الْغَيْثَ وَانْصُرْنَا عَلَى الْأَعْدَاءِ ". قَالَ فَمَطَرَتْ فَمَا رَأَوُا السَّمَاءَ سَبْتًا، فَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ، فَدَعَا فَقَالَ: " اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، عَلَى الْآكَامِ وَالظِّرَابِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ ".» فَانْجَابَتِ السَّمَاءُ عَنِ الْمَدِينَةِ انْجِيَابَ الثَّوْبِ.
[وَفْدُ بَنِي مُرَّةَ]
ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ: «أَنَّهُمْ قَدِمُوا سَنَةَ تِسْعٍ مَرْجِعَهُ مِنْ تَبُوكَ، وَكَانُوا ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، رَأْسُهُمُ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ، فَأَجَازَهُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِعَشْرِ أَوَاقٍ مِنْ فِضَّةٍ، وَأَعْطَى الْحَارِثَ بْنَ عَوْفٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً، وَذَكَرُوا أَنَّ بِلَادَهُمْ مُجْدِبَةٌ فَدَعَا لَهُمْ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اسْقِهِمُ الْغَيْثَ ". فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ وَجَدُوهَا قَدْ مَطَرَتْ ذَلِكَ الْيَوْمَ الَّذِي دَعَا لَهُمْ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»
(7/354)
[وَفْدُ بَنِي ثَعْلَبَةَ]
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْجِعْرَانَةَ سَنَةَ ثَمَانٍ، قَدِمْنَا عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ، فَقُلْنَا: نَحْنُ رُسُلُ مَنْ خَلْفَنَا مِنْ قَوْمِنَا، وَهُمْ يُقِرُّونَ بِالْإِسْلَامِ. فَأَمَرَ لَنَا بِضِيَافَةٍ وَأَقَمْنَا أَيَّامًا، ثُمَّ جِئْنَاهُ لِنُوَدِّعَهُ، فَقَالَ لِبِلَالٍ: " أَجْزِهِمْ كَمَا تُجِيزُ الْوَفْدَ ". فَجَاءَ بِنُقَرٍ مِنْ فِضَّةٍ، فَأَعْطَى كُلَّ رَجُلٍ مِنَّا خَمْسَ أَوَاقٍ، وَقَالَ: " لَيْسَ عِنْدَنَا دَرَاهِمُ ".» وَانْصَرَفْنَا إِلَى بِلَادِنَا.
[وَفْدُ بَنِي مُحَارِبٍ]
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ أَبِي وَجْزَةَ السَّعْدِيِّ قَالَ: «قَدِمَ وَفْدُ مُحَارِبٍ سَنَةَ عَشْرٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَهُمْ عَشَرَةُ نَفَرٍ فِيهِمْ، سَوَاءُ بْنُ الْحَارِثِ، وَابْنُهُ خُزَيْمَةُ بْنُ سَوَاءٍ، فَأُنْزِلُوا دَارَ رَمْلَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، وَكَانَ بِلَالٌ يَأْتِيهِمْ
(7/355)
بِغَدَاءٍ وَعَشَاءٍ، فَأَسْلَمُوا، وَقَالُوا: نَحْنُ عَلَى مَنْ وَرَاءَنَا. وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ فِي تِلْكَ الْمَوَاسِمِ أَفَظَّ وَلَا أَغْلَظَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ، وَكَانَ فِي الْوَفْدِ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَعَرَفَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَبْقَانِي حَتَّى صَدَّقْتُ بِكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ بِيَدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ". وَمَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجْهَ خُزَيْمَةَ بْنِ سَوَاءٍ فَصَارَتْ لَهُ غُرَّةٌ بَيْضَاءُ، وَأَجَازَهُمْ كَمَا يُجِيزُ الْوَفْدَ وَانْصَرَفُوا إِلَى بِلَادِهِمْ.»
3 -
[وَفْدُ بَنِي كِلَابٍ]
ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ «أَنَّهُمْ قَدِمُوا سَنَةَ تِسْعٍ وَهُمْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، مِنْهُمْ، لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ الشَّاعِرُ، وَجَبَّارُ بْنُ سُلْمَى، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ خُلَّةٌ، فَرَحَّبَ بِهِ وَأَكْرَمَهُ وَأَهْدَى إِلَيْهِ، وَجَاءُوا مَعَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ بِسَلَامِ الْإِسْلَامِ، وَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ سُفْيَانَ الْكِلَابِيَّ سَارَ فِيهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ الَّتِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِهَا، وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَاسْتَجَابُوا لَهُ، وَأَخَذَ صَدَقَاتِهِمْ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَصَرَفَهَا عَلَى فُقَرَائِهِمْ.»
(7/356)
[وَفْدُ بَنِي رُؤَاسِ بْنِ كِلَابٍ]
ثُمَّ ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: عَمْرُو بْنُ مَالِكِ بْنِ قَيْسِ بْنِ بُجَيْدِ بْنِ رُؤَاسِ بْنِ كِلَابِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ. «قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَقَالُوا: حَتَّى نُصِيبَ مِنْ بَنِي عُقَيْلٍ مِثْلَ مَا أَصَابُوا مِنَّا. فَذَكَرَ مَقْتَلَةً كَانَتْ بَيْنَهُمْ، وَأَنَّ عَمْرَو بْنَ مَالِكٍ هَذَا قَتَلَ رَجُلًا مِنْ بَنِي عُقَيْلٍ. قَالَ: فَشَدَدْتُ يَدَيَّ فِي غُلٍّ، وَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَلَغَهُ مَا صَنَعْتُ، فَقَالَ: " لَئِنْ أَتَانِي لَأَضْرِبُ مَا فَوْقَ الْغُلِّ مِنْ يَدِهِ ". فَلَمَّا جِئْتُ سَلَّمْتُ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ وَأَعْرَضَ عَنِّي، فَأَتَيْتُهُ عَنْ يَمِينِهِ فَأَعْرَضَ عَنِّي، فَأَتَيْتُهُ عَنْ يَسَارِهِ فَأَعْرَضَ عَنِّي، فَأَتَيْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ لَيُتَرَضَّى فَيَرْضَى، فَارْضَ عَنِّي، رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ. قَالَ: " قَدْ رَضِيتُ ".»
[وَفْدُ بَنِي عُقَيْلِ بْنِ كَعْبٍ]
ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ «أَنَّهُمْ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقْطَعَهُمُ الْعَقِيقَ - عَقِيقَ
(7/357)
بَنِي عُقَيْلٍ - وَهِيَ أَرْضٌ فِيهَا نَخِيلٌ وَعُيُونٌ، وَكَتَبَ لَهُمْ بِذَلِكَ كِتَابًا: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا مَا أَعْطَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ رَبِيعًا وَمُطَرِّفًا وَأَنَسًا، أَعْطَاهُمُ الْعَقِيقَ مَا أَقَامُوا الصَّلَاةَ، وَآتَوُا الزَّكَاةَ، وَسَمِعُوا وَأَطَاعُوا، وَلَمْ يُعْطِهِمْ حَقًّا لِمُسْلِمٍ ".» فَكَانَ الْكِتَابُ فِي يَدِ مُطَرِّفٍ. قَالَ: وَقَدِمَ عَلَيْهِ أَيْضًا لَقِيطُ بْنُ عَامِرِ بْنِ الْمُنْتَفِقِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عُقَيْلٍ، وَهُوَ أَبُو رَزِينٍ، فَأَعْطَاهُ مَاءً يُقَالُ لَهُ: النَّظِيمُ. وَبَايَعَهُ عَلَى قَوْمِهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا قُدُومَهُ وَقِصَّتَهُ وَحَدِيثَهُ بِطُولِهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
[وَفْدُ بَنِي قُشَيْرِ بْنِ كَعْبٍ]
وَذَلِكَ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَقَبْلَ حُنَيْنٍ فَذَكَرَ فِيهِمْ قُرَّةَ بْنَ هُبَيْرَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ سَلَمَةَ الْخَيْرِ بْنِ قُشَيْرٍ، فَأَسْلَمَ، فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَسَاهُ بُرْدًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَلِيَ صَدَقَاتِ قَوْمِهِ، فَقَالَ قُرَّةُ حِينَ رَجَعَ:
حَبَاهَا رَسُولُ اللَّهِ إِذْ نَزَلَتْ بِهِ ... وَأَمْكَنَهَا مِنْ نَائِلٍ غَيْرِ مُنْفَدِ
فَأَضْحَتْ بِرَوْضِ الْخُضْرِ وَهْيَ حَثِيثَةٌ ... وَقَدْ أَنْجَحَتْ حَاجَاتِهَا مِنْ مُحَمَّدِ
عَلَيْهَا فَتًى لَا يُرْدِفُ الذَّمَ رَحْلَهُ ... تَرُوكٌ لِأَمْرِ الْعَاجِزِ الْمُتَرَدِّدِ
(7/358)
[وَفْدُ بَنِي الْبَكَّاءِ]
ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ «أَنَّهُمْ قَدِمُوا سَنَةَ تِسْعٍ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا ثَلَاثِينَ رَجُلًا، فِيهِمْ مُعَاوِيَةُ بْنُ ثَوْرِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الْبَكَّاءِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ مِائَةِ سَنَةٍ، وَمَعَهُ ابْنٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ: بِشْرٌ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَتَبَرَّكُ بِمَسِّكَ، وَقَدْ كَبِرْتُ، وَابْنِي هَذَا بَرٌّ بِي، فَامْسَحْ وَجْهَهُ. فَمَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجْهَهُ، وَأَعْطَاهُ أَعْنُزًا عُفْرًا، وَبَرَّكَ عَلَيْهِنَّ، فَكَانُوا لَا يُصِيبُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ قَحْطٌ وَلَا سَنَةٌ.» وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ فِي ذَلِكَ:
وَأَبِي الَّذِي مَسَحَ الرَّسُولُ بِرَأْسِهِ ... وَدَعَا لَهُ بِالْخَيْرِ وَالْبَرَكَاتِ
أَعْطَاهُ أَحْمَدُ إِذْ أَتَاهُ أَعْنُزًا ... عُفْرًا ثَوَاجِلَ لَسْنَ بِاللَّجَبَاتِ
يَمْلَأْنَ رِفْدَ الْحَيِّ كُلَّ عَشِيَةٍ ... وَيَعُودُ ذَاكَ الْمَلْءُ بِالْغَدَوَاتِ
بُورِكْنَ مِنْ مِنَحٍ وَبُورِكَ مَانِحًا ... وَعَلَيْهِ مِنِّي مَا حَيِيتُ صَلَاتِي
(7/359)
[وَفْدُ كِنَانَةَ]
رَوَى الْوَاقِدِيُّ بِأَسَانِيدِهِ «أَنَّ وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ اللَّيْثِيَّ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَتَجَهَّزُ إِلَى تَبُوكَ، فَصَلَّى مَعَهُ الصُّبْحَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، فَدَعَاهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَبُوهُ: وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ أَبَدًا. وَسَمِعَتْ أُخْتُهُ كَلَامَهُ فَأَسْلَمَتْ، وَجَهَّزَتْهُ حَتَّى سَارَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَبُوكَ، وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى بَعِيرٍ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، وَبَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ خَالِدٍ إِلَى أُكَيْدِرِ دُومَةَ، فَلَمَّا رَجَعُوا عَرَضَ وَاثِلَةُ عَلَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ مَا كَانَ شَارَطَهُ عَلَيْهِ مِنْ سَهْمِهِ مِنَ الْغَنِيمَةِ، فَقَالَ لَهُ كَعْبٌ: إِنَّمَا حَمَلْتُكَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.»
[وَفْدُ أَشْجَعَ]
ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ «أَنَّهُمْ قَدِمُوا عَامَ الْخَنْدَقِ، وَهُمْ مِائَةُ رَجُلٍ، وَرَئِيسُهُمْ مَسْعُودُ بْنُ رُخَيْلَةَ، فَنَزَلُوا شِعْبَ سِلْعٍ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَمَرَ لَهُمْ بِأَحْمَالِ التَّمْرِ.» وَيُقَالُ: بَلْ قَدِمُوا بَعْدَمَا فَرَغَ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَكَانُوا سَبْعَمِائَةِ رَجُلٍ، فَوَادَعَهُمْ وَرَجَعُوا، ثُمَّ أَسْلَمُوا بَعْدَ ذَلِكَ.
(7/360)
[وَفْدُ بَاهِلَةَ]
قَدِمَ رَئِيسُهُمْ مُطَرِّفُ بْنُ الْكَاهِنِ بَعْدَ الْفَتْحِ فَأَسْلَمَ، وَأَخَذَ لِقَوْمِهِ أَمَانًا، وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا فِيهِ الْفَرَائِضُ وَشَرَائِعُ الْإِسْلَامِ، كَتَبَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
[وَفْدُ بَنِي سُلَيْمٍ]
قَالَ: «وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ يُقَالُ لَهُ: قَيْسُ بْنُ نُشْبَةَ، فَسَمِعَ كَلَامَهُ وَسَأَلَهُ عَنْ أَشْيَاءَ، فَأَجَابَهُ وَوَعَى ذَلِكَ كُلَّهُ، وَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَأَسْلَمَ وَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ بَنِي سُلَيْمٍ، فَقَالَ: قَدْ سَمِعْتُ تَرْجَمَةَ الرُّومِ، وَهَيْنَمَةَ فَارِسَ، وَأَشْعَارَ الْعَرَبِ، وَكَهَانَةَ الْكُهَّانِ، وَكَلَامَ مَقَاوِلِ حِمْيَرَ، فَمَا يُشْبِهُ كَلَامُ مُحَمَّدٍ شَيْئًا مِنْ كَلَامِهِمْ، فَأَطِيعُونِي وَخُذُوا بِنَصِيبِكُمْ مِنْهُ. فَلَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ خَرَجَتْ بَنُو سُلَيْمٍ، فَلَقُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(7/361)
بِقُدَيْدٍ وَهُمْ سَبْعُمِائَةٍ. وَيُقَالُ: كَانُوا أَلْفًا. وَفِيهِمُ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِهِمْ، فَأَسْلَمُوا وَقَالُوا: اجْعَلْنَا فِي مُقَدِّمَتِكَ، وَاجْعَلْ لِوَاءَنَا أَحْمَرَ، وَشِعَارَنَا مُقَدَّمًا. فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ، فَشَهِدُوا مَعَهُ الْفَتْحَ وَالطَّائِفَ وَحُنَيْنًا، وَقَدْ كَانَ رَاشِدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ السُّلَمِيُّ، يَعْبُدُ صَنَمًا فَرَآهُ يَوْمًا وَثَعْلَبَانِ يَبُولَانِ عَلَيْهِ، فَقَالَ:
أَرَبٌّ يَبُولُ الثَّعْلَبَانِ بِرَأْسِهِ ... لَقَدْ ذَلَّ مَنْ بَالَتْ عَلَيْهِ الثَّعَالِبُ
ثُمَّ شَدَّ عَلَيْهِ فَكَسَّرَهُ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ، وَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا اسْمُكَ؟ " قَالَ: غَاوِي بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى. فَقَالَ: " بَلْ أَنْتَ رَاشِدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ ". وَأَقْطَعَهُ مَوْضِعًا يُقَالُ لَهُ: رُهَاطٌ. فِيهِ عَيْنٌ تَجْرِي يُقَالُ لَهَا: عَيْنُ الرَّسُولِ. وَقَالَ: " هُوَ خَيْرُ بَنِي سُلَيْمٍ ". وَعَقَدَ لَهُ عَلَى قَوْمِهِ وَشَهِدَ الْفَتْحَ وَمَا بَعْدَهَا»
[وَفْدُ بَنِي هِلَالِ بْنِ عَامِرٍ]
ذَكَرَ فِي وَفْدِهِمْ عَبْدَ عَوْفِ بْنَ أَصْرَمَ، فَأَسْلَمَ وَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ، وَقَبِيصَةَ بْنَ مُخَارِقٍ، الَّذِي لَهُ حَدِيثٌ فِي الصَّدَقَاتِ، «وَذَكَرَ فِي وَفْدِ بَنِي هِلَالٍ زِيَادَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكِ بْنِ بُجَيْرِ بْنِ الْهُزَمِ بْنِ رُؤَيْبَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَامِرٍ، فَلَمَّا دَخَلَ الْمَدِينَةَ تَيَمَّمَ مَنْزِلَ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ بِنْتِ
(7/362)
الْحَارِثِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْزِلَهُ، رَآهُ فَغَضِبَ، وَرَجَعَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ ابْنُ أُخْتِي. فَدَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ زِيَادٌ، فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَدْنَى زِيَادًا فَدَعَا لَهُ، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ حَدَرَهَا عَلَى طَرَفِ أَنْفِهِ، فَكَانَتْ بَنُو هِلَالٍ تَقُولُ: مَا زِلْنَا نَتَعَرَّفُ الْبَرَكَةَ فِي وَجْهِ زِيَادٍ.» وَقَالَ الشَّاعِرُ لِعَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ:
يَا ابْنَ الَّذِي مَسَحَ الرَّسُولُ بِرَأْسِهِ ... وَدَعَا لَهُ بِالْخَيْرِ عِنْدَ الْمَسْجِدِ
أَعْنِي زِيَادًا لَا أُرِيدُ سِوَاءَهُ ... مِنْ غَائِرٍ أَوْ مُتْهِمٍ أَوْ مُنْجِدِ
مَا زَالَ ذَاكَ النُّورُ فِي عِرْنِينِهِ ... حَتَّى تَبَوَّأَ بَيْتَهُ فِي مُلْحَدِ
[وَفْدُ بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ]
ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّهُمْ لَمَّا قَدِمُوا، سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ فَقَالَ: «لَيْسَ ذَاكَ مِنْكُمْ، ذَاكَ رَجُلٌ مِنْ إِيَادٍ، تَحَنَّفَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَوَافَى عُكَاظًا وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ، فَكَلَّمَهُمْ بِكَلَامِهِ الَّذِي حُفِظَ عَنْهُ ".» قَالَ: وَكَانَ فِي الْوَفْدِ بَشِيرُ بْنُ الْخَصَاصِيَةِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَرْثَدٍ، وَحَسَّانُ بْنُ خُوطٍ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ حَسَّانَ:
(7/363)
أَنَا ابْنُ حَسَّانَ بْنِ خُوطٍ وَأَبِي ... رَسُولُ بَكْرٍ كُلِّهَا إِلَى النَّبِي
[وَفْدُ بَنِي تَغْلِبَ]
ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ «أَنَّهُمْ كَانُوا سِتَّةَ عَشَرَ رَجُلًا مُسْلِمِينَ، وَنَصَارَى عَلَيْهِمْ صُلُبُ الذَّهَبِ، فَنَزَلُوا دَارَ رَمْلَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، فَصَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّصَارَى عَلَى أَنْ لَا يَصْبِغُوا أَوْلَادَهُمْ فِي النَّصْرَانِيَّةِ، وَأَجَازَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ.»
[وِفَادَاتُ أَهْلِ الْيَمَنِ]
[وَفْدُ تُجِيبَ]
وِفَادَاتُ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَفْدُ تُجِيبَ
ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ «أَنَّهُمْ قَدِمُوا سَنَةَ تِسْعٍ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَأَجَازَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ مَا أَجَازَ غَيْرَهُمْ، وَأَنَّ غُلَامًا مِنْهُمْ قَالَ لَهُ
(7/364)
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا حَاجَتُكَ؟ " فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ يَغْفِرْ لِي وَيَرْحَمْنِي، وَيَجْعَلْ غِنَايَ فِي قَلْبِي. فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، وَاجْعَلْ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ ".» فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَزْهَدِ النَّاسِ.
[وَفْدُ خَوْلَانَ]
ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّهُمْ كَانُوا عَشَرَةً، وَأَنَّهُمْ قَدِمُوا فِي شَعْبَانَ سَنَةَ عَشْرٍ، وَسَأَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَنَمِهِمُ الَّذِي كَانَ يُقَالُ لَهُ: عَمُّ أَنَسٍ. فَقَالُوا: أُبْدِلْنَا بِهِ خَيْرًا مِنْهُ، وَلَوْ قَدْ رَجَعْنَا لَهَدَمْنَاهُ. وَتَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَالسُّنَنَ، فَلَمَّا رَجَعُوا هَدَمُوا الصَّنَمَ، وَأَحَلُّوا مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَحَرَّمُوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ.
[وَفْدُ جُعْفِيٍّ]
ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ «أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَرِّمُونَ أَكْلَ الْقَلْبِ، فَلَمَّا أَسْلَمَ وَفْدُهُمْ أَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَكْلِ الْقَلْبِ، وَأَمَرَ بِهِ فَشُوِيَ، وَنَاوَلَهُ رَئِيسَهُمْ،
(7/365)
وَقَالَ: " لَا يَتِمُّ إِيمَانُكُمْ حَتَّى تَأْكُلُوهُ ".» فَأَخْذَهُ وَيَدُهُ تُرْعَدُ فَأَكَلَهُ، وَقَالَ:
عَلَى أَنِّي أَكَلْتُ الْقَلْبَ كُرْهًا ... وَتُرْعَدُ حِينَ مَسَّتْهُ بَنَانِي
ثُمَّ ذَكَرَ وَفْدَ كِنْدَةَ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا بِضْعَةَ عَشَرَ رَاكِبًا، عَلَيْهِمُ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ، وَأَنَّهُ أَجَازَهُمْ بِعَشْرِ أَوَاقٍ، وَأَجَازَ الْأَشْعَثَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ.
[وَفْدُ الصَّدِفِ]
قَدِمُوا فِي بِضْعَةَ عَشَرَ رَاكِبًا، فَصَادَفُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَجَلَسُوا وَلَمْ يُسَلِّمُوا، فَقَالَ: " أَمُسْلِمُونَ أَنْتُمْ؟ ". قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: " فَهَلَّا سَلَّمْتُمْ ". فَقَامُوا قِيَامًا فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. فَقَالَ: " وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ، اجْلِسُوا ". فَجَلَسُوا، وَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ.
[وَفْدُ خُشَيْنٍ]
قَالَ: وَقَدِمَ أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ وَرَسُولُ اللَّهِ يُجَهِّزُ إِلَى خَيْبَرَ، فَشَهِدَ مَعَهُ
(7/366)
خَيْبَرَ، ثُمَّ قَدِمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَسْلَمُوا.
[وَفْدُ بَنِي سَعْدٍ]
ثُمَّ ذَكَرَ وَفْدَ بَنِي سَعْدِ هُذَيْمٍ، وَبَلِيٍّ، وَبَهْرَاءَ، وَبَنِي عُذْرَةَ، وَسَلَامَانِ، وَجُهَيْنَةَ، وَبَنِي كَلْبٍ، وَالْجَرْمِيِّينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ الْجَرْمِيِّ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ".
وَذَكَرَ وَفْدَ الْأَزْدِ، وَوَفْدَ غَسَّانَ، وَالْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، وَهَمْدَانَ، وَسَعْدِ الْعَشِيرَةِ، وَعَنْسٍ، وَوَفْدَ الدَّارِيِّينَ، وَالرَّهَاوِيِّينَ، وَبَنِي غَامِدٍ، وَالنَّخَعِ، وَبَجِيلَةَ، وَخَثْعَمٍ، وَحَضْرَمَوْتَ، وَذَكَرَ فِيهِمْ وَائِلَ بْنَ حُجْرٍ، وَذَكَرَ فِيهِمُ الْمُلُوكَ الْأَرْبَعَةَ ; جَمْدًا، وَمِخْوَسًا، وَمِشْرَحًا، وَأَبْضَعَةَ. وَقَدْ وَرَدَ فِي " مُسْنَدِ أَحْمَدَ " لَعْنُهُمْ مَعَ أُخْتِهِمُ الْعَمَرَّدَةِ، وَتَكَلَّمَ الْوَاقِدِيُّ كَلَامًا فِيهِ طُولٌ.
وَذَكَرَ وَفْدَ أَزْدِ عُمَانَ، وَغَافِقٍ وَبَارِقٍ، وَدَوْسٍ، وَثُمَالَةَ، وَالْحُدَّانِ،
(7/367)
وَأَسْلَمَ، وَجُذَامٍ، وَمَهْرَةَ، وَحِمْيَرَ، وَنَجْرَانَ، وَجَيْشَانَ. وَبَسَطَ الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْقَبَائِلِ بِطُولٍ جِدًّا، وَقَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ، وَفِيمَا أَوْرَدْنَاهُ كِفَايَةٌ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ الْوَاقِدِيُّ.
[وَافِدُ السِّبَاعِ]
حَدَّثَنِي شُعَيْبُ بْنُ عُبَادَةَ عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ قَالَ: «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ بِالْمَدِينَةِ فِي أَصْحَابِهِ أَقْبَلَ ذِئْبٌ فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَعَوَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَذَا وَافِدُ السِّبَاعِ إِلَيْكُمْ فَإِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ تَفْرِضُوا لَهُ شَيْئًا لَا يَعْدُوهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ أَحْبَبْتُمْ تَرَكْتُمُوهُ وَتَحَرَّزْتُمْ مِنْهُ، فَمَا أَخَذَ فَهُوَ رِزْقُهُ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تَطِيبُ أَنْفُسُنَا لَهُ بِشَيْءٍ. فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ ; أَيْ: خَالِسْهُمْ. فَوَلَّى وَلَهُ عَسَلَانٌ.»
وَهَذَا مُرْسَلٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَيُشْبِهُ هَذَا الذِّئْبُ الذِّئْبَ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ الْحُدَّانِيُّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «عَدَا الذِّئْبُ
(7/368)
عَلَى شَاةٍ فَأَخَذَهَا، فَطَلَبَهَا الرَّاعِي، فَانْتَزَعَهَا مِنْهُ، فَأَقْعَى الذِّئْبُ عَلَى ذَنَبِهِ فَقَالَ: أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ، تَنْزِعُ مِنِّي رِزْقًا سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيَّ؟! فَقَالَ: يَا عَجَبًا! ذِئْبٌ مُقْعٍ عَلَى ذَنَبِهِ يُكَلِّمُنِي كَلَامَ الْإِنْسِ؟! فَقَالَ الذِّئْبَ: أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ؟ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَثْرِبَ يُخْبِرُ النَّاسَ بِأَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ. قَالَ: فَأَقْبَلَ الرَّاعِي يَسُوقُ غَنَمَهُ حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ، فَزَوَاهَا إِلَى زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهَا، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُودِيَ: الصَّلَاةُ جَامِعَةً. ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ: " أَخْبِرْهُمْ "، فَأَخْبَرَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صَدَقَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُكَلِّمَ السِّبَاعُ الْإِنْسَ، وَيُكَلِّمَ الرَّجُلَ عَذَبَةُ سَوْطِهِ، وَشِرَاكُ نَعْلِهِ، وَيُخْبِرُهُ فَخِذُهُ بِمَا أَحْدَثَ أَهْلُهُ بَعْدَهُ ".» وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ وَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ بِهِ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ بِهِ، وَهُوَ ثِقَةٌ مَأْمُونٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَثَّقَهُ يَحْيَى وَابْنُ مَهْدِيٍّ.
قُلْتُ: وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَنْبَأَنَا شُعَيْبٌ هُوَ ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنِي شَهْرٌ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ حَدَّثَهُ. فَذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ بِطُولِهَا بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ. ثُمَّ رَوَاهُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، ثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَهْرَامَ، ثَنَا شَهْرٌ، قَالَ: وَحَدَّثَ أَبُو سَعِيدٍ.
(7/369)
فَذَكَرَهُ. وَهَذَا السِّيَاقُ أَشْبَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهُوَ إِسْنَادٌ عَلَى شَرْطِ أَهْلِ السُّنَنِ وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ.
[فَصْلٌ فِي قُدُومِ الْأَزْدِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]
ذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ " مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ "، وَالْحَافِظُ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْحَوَارِيِّ قَالَ: «سَمِعْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيَّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَلْقَمَةُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ سُوَيْدٍ الْأَزْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي سُوَيْدِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: وَفَدْتُ سَابِعَ سَبْعَةٍ مِنْ قَوْمِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا دَخَلْنَا عَلَيْهِ وَكَلَّمْنَاهُ، فَأَعْجَبَهُ، مَا رَأَى مِنْ سَمْتِنَا وَزِيِّنَا فَقَالَ: " مَا أَنْتُمْ؟ " قُلْنَا: مُؤْمِنُونَ. فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: " إِنَّ لِكُلِّ قَوْلٍ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ قَوْلِكُمْ وَإِيمَانِكُمْ؟ ". قَالَ سُوَيْدٌ: قُلْنَا: خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً ; خَمْسٌ مِنْهَا، أَمَرَتْنَا بِهَا رُسُلُكَ أَنْ نُؤْمِنَ بِهَا، وَخَمْسٌ أَمَرَتْنَا أَنْ نَعْمَلَ بِهَا، وَخَمْسٌ تَخَلَّقْنَا بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَنَحْنُ عَلَيْهَا إِلَّا أَنْ تَكْرَهَ مِنْهَا شَيْئًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا الْخَمْسَةُ الَّتِي أَمَرَتْكُمْ بِهَا رُسُلِي أَنْ تُؤْمِنُوا بِهَا؟ " قُلْنَا: أَمَرَتْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ. قَالَ: " وَمَا الْخَمْسَةُ الَّتِي أَمَرَتْكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِهَا؟ ".
(7/370)
قُلْنَا: أَمَرَتْنَا أَنْ نَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَنُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَنُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَنَصُومَ رَمَضَانَ، وَنَحُجَّ الْبَيْتَ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. فَقَالَ: " وَمَا الْخَمْسَةُ الَّتِي تَخَلَّقْتُمْ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ ". قَالُوا: الشُّكْرُ عِنْدَ الرَّخَاءِ، وَالصَّبْرُ عِنْدَ الْبَلَاءِ، وَالرِّضَا بِمُرِّ الْقَضَاءِ، وَالصِّدْقُ فِي مُوَاطِنِ اللِّقَاءِ، وَتَرْكُ الشَّمَاتَةَ بِالْأَعْدَاءِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حُكَمَاءُ عُلَمَاءُ كَادُوا مِنْ فِقْهِهِمْ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ ". ثُمَّ قَالَ: " وَأَنَا أَزِيدُكُمْ خَمْسًا فَتَتِمُّ لَكُمْ عِشْرُونَ خَصْلَةً ; إِنْ كُنْتُمْ كَمَا تَقُولُونَ فَلَا تَجْمَعُوا مَا لَا تَأْكُلُونَ، وَلَا تَبْنُوا مَا لَا تَسْكُنُونَ، وَلَا تَنَافَسُوا فِي شَيْءٍ أَنْتُمْ عَنْهُ غَدًا زَائِلُونَ، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَعَلَيْهِ تُعْرَضُونَ، وَارْغَبُوا فِيمَا عَلَيْهِ تُقْدِمُونَ وَفِيهِ تَخْلُدُونَ» فَانْصَرَفَ الْقَوْمُ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَفِظُوا وَصِيَّتَهُ وَعَمِلُوا بِهَا.
[وُفُودُ الْجِنِّ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ]
فَصْلٌ (وُفُودُ الْجِنِّ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ)
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ وُفُودِ الْجِنِّ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَقَدْ تَقَصَّيْنَا الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف: 29] (الْأَحْقَافِ: 29) فَذَكَرْنَا مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ وَالْآثَارِ، وَأَوْرَدْنَا حَدِيثَ سَوَادِ بْنِ قَارِبٍ الَّذِي كَانَ كَاهِنًا
(7/371)
فَأَسْلَمَ، وَمَا رَوَاهُ عَنْ رَئِيِّهِ، الَّذِي كَانَ يَأْتِيهِ بِالْخَبَرِ حِينَ أَسْلَمَ الرَّئِيُّ، حِينَ قَالَ لَهُ:
عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وَأَنْجَاسِهَا ... وَشَدِّهَا الْعِيسَ بِأَحْلَاسِهَا
تَهْوِي إِلَى مَكَّةَ تَبْغِي الْهُدَى ... مَا مُؤْمِنُو الْجِنِّ كَأَرْجَاسِهَا
فَانْهَضْ إِلَى الصَّفْوَةِ مِنْ هَاشِمٍ ... وَاسْمُ بِعَيْنَيْكَ إِلَى رَأْسِهَا
ثُمَّ قَوْلُهُ
عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وَتَطْلَابِهَا ... وَشَدِّهَا الْعِيسَ بِأَقْتَابِهَا
تَهْوِي إِلَى مَكَّةَ تَبْغِي الْهُدَى ... لَيْسَ قُدَامَاهَا كَأَذْنَابِهَا
فَانْهَضَ إِلَى الصَّفْوَةِ مِنْ هَاشِمٍ ... وَاسْمُ بِعَيْنَيْكَ إِلَى نَابِهَا
ثُمَّ قَوْلُهُ
عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وَتَخْبَارِهَا ... وَشَدِّهَا الْعِيسَ بِأَكْوَارِهَا
تَهْوِي إِلَى مَكَّةَ تَبْغِي الْهُدَى ... لَيْسَ ذَوُو الشَّرِّ كَأَخْيَارِهَا
فَانْهَضْ إِلَى الصَّفْوَةِ مِنْ هَاشِمٍ ... مَا مُؤْمِنُو الْجِنِّ كَكُفَّارِهَا
وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَكْرَارِ وُفُودِ الْجِنِّ إِلَى مَكَّةَ، وَقَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ هُنَالِكَ
(7/372)
بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَبِهِ التَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَةُ.
وَقَدْ أَوْرَدَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ هَاهُنَا حَدِيثًا غَرِيبًا جِدًّا بَلْ مُنْكَرًا أَوْ مَوْضُوعًا، وَلَكِنَّ مَخْرَجَهُ عَزِيزٌ أَحْبَبْنَا أَنْ نُورِدَهُ كَمَا أَوْرَدَهُ، وَالْعَجَبُ مِنْهُ ; فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ " دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ ": بَابُ قُدُومِ هَامَةَ بْنِ هَيْمِ بْنِ لَاقِيسَ بْنِ إِبْلِيسَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِسْلَامِهِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ دَاوُدَ الْعَلَوِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنْبَأَنَا أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ حَمْدَوَيْهِ بْنِ سَهْلٍ الْغَازِيُّ الْمَرْوَزِيُّ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَمَّادٍ الْآمُلِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَعْشَرٍ، أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «قَالَ عُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بَيْنَا نَحْنُ قُعُودٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَبَلٍ مِنْ جِبَالِ تِهَامَةَ، إِذْ أَقْبَلَ شَيْخٌ بِيَدِهِ عَصًا، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: " نَغْمَةُ جِنٍّ وَغَمْغَمَتُهُمْ، مَنْ أَنْتَ؟ ". قَالَ: أَنَا هَامَةُ بْنُ هَيْمِ بْنِ لَاقِيسَ بْنِ إِبْلِيسَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ إِبْلِيسَ إِلَّا أَبَوَانِ فَكَمْ أَتَى عَلَيْكَ مِنَ الدَّهْرِ؟ " قَالَ: قَدْ أَفْنَيْتُ الدُّنْيَا عُمْرَهَا إِلَّا قَلِيلًا ; لَيَالِيَ قَتَلَ قَابِيلُ هَابِيلَ كُنْتُ غُلَامًا ابْنَ أَعْوَامٍ، أَفْهَمُ الْكَلَامَ، وَأَمُرُّ بِالْآكَامِ، وَآمُرُ بِإِفْسَادِ الطَّعَامِ، وَقَطِيعَةِ الْأَرْحَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(7/373)
" بِئْسَ عَمَلُ الشَّيْخِ الْمُتَوَسِّمِ، وَالشَّابِّ الْمُتَلَوِّمِ ". قَالَ: ذَرْنِي مِنَ التَّرْدَادِ، إِنِّي تَائِبٌ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، إِنِّي كُنْتُ مَعَ نُوحٍ فِي مَسْجِدِهِ مَعَ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ، فَلَمْ أَزَلْ أُعَاتِبُهُ عَلَى دَعْوَتِهِ عَلَى قَوْمِهِ، حَتَّى بَكَى وَأَبْكَانِي، وَقَالَ: لَا جَرَمَ أَنِّي عَلَى ذَلِكَ مِنَ النَّادِمِينَ، وَأُعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ. قَالَ: قُلْتُ: يَا نُوحُ إِنِّي كُنْتُ مِمَّنِ اشْتَرَكَ فِي دَمِ السَّعِيدِ الشَّهِيدِ هَابِيلَ بْنِ آدَمَ، فَهَلْ تَجِدُ لِي عِنْدَ رَبِّكَ تَوْبَةً؟ قَالَ: يَا هَامُ، هُمَّ بِالْخَيْرِ وَافْعَلْهُ قَبْلَ الْحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ، إِنِّي قَرَأْتُ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ تَابَ إِلَى اللَّهِ بَالِغٌ أَمْرُهُ مَا بَلَغَ إِلَّا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، قُمْ فَتَوَضَّأْ وَاسْجُدْ لِلَّهِ سَجْدَتَيْنِ. قَالَ: فَفَعَلْتُ مِنْ سَاعَتِي مَا أَمَرَنِي بِهِ فَنَادَانِي: ارْفَعْ رَأْسَكَ، فَقَدْ نَزَلَتْ تَوْبَتُكَ مِنَ السَّمَاءِ. فَخَرَرْتُ لِلَّهِ سَاجِدًا. قَالَ: وَكُنْتُ مَعَ هُودٍ فِي مَسْجِدِهِ مَعَ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ، فَلَمْ أَزَلْ أُعَاتِبُهُ عَلَى دَعْوَتِهِ عَلَى قَوْمِهِ حَتَّى بَكَى عَلَيْهِمْ وَأَبْكَانِي، فَقَالَ: لَا جَرَمَ أَنِّي عَلَى ذَلِكَ مِنَ النَّادِمِينَ، وَأُعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ. قَالَ: وَكُنْتُ مَعَ صَالِحٍ فِي مَسْجِدِهِ مَعَ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ، فَلَمْ أَزَلْ أُعَاتِبُهُ عَلَى دَعْوَتِهِ عَلَى قَوْمِهِ حَتَّى بَكَى عَلَيْهِمْ وَأَبْكَانِي، وَقَالَ: أَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ النَّادِمِينَ، وَأُعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ. وَكُنْتُ أَزُورُ يَعْقُوبَ، وَكُنْتُ مَعَ يُوسُفَ فِي الْمَكَانِ الْأَمِينِ، وَكُنْتُ أَلْقَى إِلْيَاسَ فِي الْأَوْدِيَةِ وَأَنَا أَلْقَاهُ الْآنَ، وَإِنِّي لَقِيتُ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ، فَعَلَّمَنِي مِنَ التَّوْرَاةِ، وَقَالَ: إِنْ لَقِيتَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ. وَإِنِّي لَقِيتُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَأَقْرَأْتُهُ مِنْ مُوسَى السَّلَامَ. وَإِنَّ عِيسَى قَالَ: إِنْ لَقِيتَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ. قَالَ: فَأَرْسَلَ
(7/374)
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَيْنَيْهِ فَبَكَى، ثُمَّ قَالَ: " وَعَلَى عِيسَى السَّلَامُ مَا دَامَتِ الدُّنْيَا، وَعَلَيْكَ السَّلَامُ يَا هَامُ بِأَدَائِكَ الْأَمَانَةَ ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، افْعَلْ بِي مَا فَعَلَ مُوسَى ; إِنَّهُ عَلَّمَنِي مِنَ التَّوْرَاةِ. قَالَ فَعَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ "، وَ " الْمُرْسَلَاتِ "، وَ " عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ "، وَ " إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ "، وَ " الْمُعَوِّذَتَيْنِ "، وَ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ". وَقَالَ: " ارْفَعْ إِلَيْنَا حَاجَتَكَ يَا هَامَةُ، وَلَا تَدَعْ زِيَارَتَنَا ".» قَالَ عُمَرُ: فَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَنْعَهُ إِلَيْنَا، فَلَا نَدْرِي الْآنَ أَحَيٌّ هُوَ أَمْ مَيِّتٌ؟ ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَبُو مَعْشَرٍ قَدْ رَوَى عَنْهُ الْكِبَارُ، إِلَّا أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ يُضَعِّفُونَهُ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[سَنَةُ عَشْرٍ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ]
[بَابُ بَعْثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ]
سَنَةَ عَشْرٍ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ بَابُ بَعْثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: «ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ أَوْ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ عَشْرٍ إِلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ بِنَجْرَانَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ ثَلَاثًا، فَإِنِ اسْتَجَابُوا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَقَاتِلْهُمْ. فَخَرَجَ خَالِدٌ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِمْ، فَبَعَثَ الرُّكْبَانَ يَضْرِبُونَ فِي كُلِّ وَجْهٍ، وَيَدْعُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيَقُولُونَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا. فَأَسْلَمَ النَّاسُ وَدَخَلُوا فِيمَا دُعُوا إِلَيْهِ، فَأَقَامَ فِيهِمْ خَالِدٌ يُعَلِّمُهُمُ الْإِسْلَامَ وَكِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ هُمْ أَسْلَمُوا وَلَمْ يُقَاتِلُوا، ثُمَّ كَتَبَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ، فَإِنَّكَ بَعَثْتَنِي إِلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، وَأَمَرْتَنِي إِذَا أَتَيْتُهُمْ أَنْ لَا أُقَاتِلَهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَأَنْ أَدْعُوَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَسْلَمُوا قَبِلْتُ مِنْهُمْ وَعَلَّمْتُهُمْ مَعَالِمَ الْإِسْلَامِ وَكِتَابَ اللَّهِ، وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا قَاتَلْتُهُمْ، وَإِنِّي قَدِمْتُ عَلَيْهِمْ فَدَعَوْتُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَمَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَعَثْتُ فِيهِمْ رُكْبَانًا قَالُوا: يَا بَنِي الْحَارِثِ أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا. فَأَسْلَمُوا وَلَمْ يُقَاتِلُوا، وَأَنَا مُقِيمٌ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ آمُرُهُمْ بِمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَأَنْهَاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ، وَأُعَلِّمُهُمْ مَعَالِمَ
(7/375)
الْإِسْلَامِ، وَسُنَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى يَكْتُبَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، سَلَامٌ عَلَيْكَ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ كِتَابَكَ جَاءَنِي مَعَ رَسُولِكَ، تُخْبِرُ أَنَّ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ قَدْ أَسْلَمُوا قَبْلَ أَنْ تُقَاتِلَهُمْ، وَأَجَابُوا إِلَى مَا دَعَوْتَهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَشَهِدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَأَنْ قَدْ هَدَاهُمُ اللَّهُ بِهُدَاهُ، فَبَشِّرْهُمْ وَأَنْذِرْهُمْ، وَأَقْبِلْ وَلْيُقْبِلْ مَعَكَ وَفْدُهُمْ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ". فَأَقْبَلَ خَالِدٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقْبَلَ مَعَهُ وَفْدُ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، مِنْهُمْ ; قَيْسُ بْنُ الْحُصَيْنِ ذِي الْغُصَّةِ، وَيَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَدَانِ، وَيَزِيدُ بْنُ الْمُحَجَّلِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ قُرَادٍ الزِّيَادِيُّ، وَشَدَّادُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْقَنَانِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الضِّبَابِيُّ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَآهُمْ قَالَ: " مَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الَّذِينَ كَأَنَّهُمْ رِجَالُ الْهِنْدِ؟ ! " قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَؤُلَاءِ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ. فَلَمَّا وَقَفُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَّمُوا عَلَيْهِ وَقَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ". ثُمَّ قَالَ: " أَنْتُمُ الَّذِينَ إِذَا زُجِرُوا اسْتَقْدَمُوا؟ " فَسَكَتُوا فَلَمْ يُرَاجِعْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ ثُمَّ أَعَادَهَا الثَّانِيَةَ، ثُمَّ الثَّالِثَةَ، فَلَمْ يُرَاجِعْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ ثُمَّ أَعَادَهَا الرَّابِعَةَ، فَقَالَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَدَانِ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ نَحْنُ الَّذِينَ إِذَا زُجِرُوا اسْتَقْدَمُوا. قَالَهَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْ أَنَّ خَالِدًا لَمْ يَكْتُبْ إِلَيَّ أَنَّكُمْ أَسْلَمْتُمْ وَلَمْ تُقَاتِلُوا لَأَلْقَيْتُ رُءُوسَكُمْ تَحْتَ
(7/377)
أَقْدَامِكُمْ ". فَقَالَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَدَانِ: أَمَا وَاللَّهِ مَا حَمِدْنَاكَ وَلَا حَمِدْنَا خَالِدًا قَالَ: " فَمَنْ حَمِدْتُمْ؟ " قَالُوا: حَمِدْنَا اللَّهَ الَّذِي هَدَانَا بِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صَدَقْتُمْ ". ثُمَّ قَالَ: " بِمَ كُنْتُمْ تَغْلِبُونَ مَنْ قَاتَلَكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ ". قَالُوا: لَمْ نَكُ نَغْلِبُ أَحَدًا: قَالَ: " بَلَى، قَدْ كُنْتُمْ تَغْلِبُونَ مَنْ قَاتَلَكُمْ ". قَالُوا: كُنَّا نَغْلِبُ مَنْ قَاتَلَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَّا كُنَّا نَجْتَمِعُ وَلَا نَتَفَرَّقُ، وَلَا نَبْدَأُ أَحَدًا بِظُلْمٍ، قَالَ: " صَدَقْتُمْ " ثُمَّ أَمَّرَ عَلَيْهِمْ قَيْسَ بْنَ الْحُصَيْنِ.»
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فِي بَقِيَّةِ شَوَّالٍ، أَوْ فِي صَدْرِ ذِي الْقَعْدَةِ. قَالَ: ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ وَلَّى وَفْدُهُمْ عَمْرَو بْنَ حَزْمٍ ; لِيُفَقِّهَهُمْ فِي الدِّينِ، وَيُعَلِّمَهُمُ السُّنَّةَ وَمَعَالِمَ الْإِسْلَامِ، وَيَأْخُذَ مِنْهُمْ صَدَقَاتِهِمْ، وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا عَهِدَ إِلَيْهِ فِيهِ عَهْدَهُ، وَأَمَرَهُ أَمْرَهُ. ثُمَّ أَوْرَدَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ فِي وَفْدِ مُلُوكِ حِمْيَرَ مِنْ طَرِيقِ الْبَيْهَقِيِّ، وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ نَظِيرَ مَا سَاقَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بِغَيْرِ إِسْنَادٍ.
[بَعْثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأُمَرَاءَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ]
ِ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، يَدْعُونَهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
قَالَ الْبُخَارِيُّ: بَابُ بَعْثِ أَبِي مُوسَى وَمُعَاذٍ إِلَى الْيَمَنِ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ،
(7/378)
حَدَّثَنَا مُوسَى، ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، ثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: «بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا مُوسَى وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى الْيَمَنِ. قَالَ: وَبَعَثَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مِخْلَافٍ. قَالَ: وَالْيَمَنُ مِخْلَافَانِ. ثُمَّ قَالَ: " يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا ". - وَفِي رِوَايَةٍ: " وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا " - فَانْطَلَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى عَمَلِهِ قَالَ: وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا سَارَ فِي أَرْضِهِ، وَكَانَ قَرِيبًا مِنْ صَاحِبِهِ أَحْدَثَ بِهِ عَهْدًا، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَسَارَ مُعَاذٌ فِي أَرْضِهِ قَرِيبًا مِنْ صَاحِبِهِ أَبِي مُوسَى فَجَاءَ يَسِيرُ عَلَى بَغْلَتِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ وَقَدِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ، وَإِذَا رَجُلٌ عِنْدَهُ قَدْ جُمِعَتْ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ، أَيُّمَ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ. قَالَ: لَا أَنْزِلُ حَتَّى يُقْتَلَ. قَالَ: إِنَّمَا جِيءَ بِهِ لِذَلِكَ، فَانْزِلْ. قَالَ: مَا أَنْزِلُ حَتَّى يُقْتَلَ. فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ، ثُمَّ نَزَلَ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ كَيْفَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: أَتَفَوَّقُهُ تَفَوُّقًا. قَالَ: فَكَيْفَ تَقْرَأُ أَنْتَ يَا مُعَاذُ؟ قَالَ: أَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ، فَأَقُومُ وَقَدْ قَضَيْتُ جُزْئِي مِنَ النَّوْمِ، فَأَقْرَأُ مَا كَتَبَ اللَّهُ لِي، فَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي.» انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا إِسْحَاقُ، ثَنَا خَالِدٌ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي
(7/379)
بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ فَسَأَلَهُ عَنْ أَشْرِبَةٍ تُصْنَعُ بِهَا فَقَالَ: " مَا هِيَ؟ " قَالَ الْبِتْعُ وَالْمِزْرُ - فَقُلْتُ لِأَبِي بُرْدَةَ: مَا الْبِتْعُ؟ قَالَ: نَبِيذُ الْعَسَلِ، وَالْمِزْرُ نَبِيذُ الشَّعِيرِ - فَقَالَ: " كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ ".» رَوَاهُ جَرِيرٌ وَعَبْدُ الْوَاحِدِ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا حِبَّانُ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: " إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ ".» وَقَدْ أَخْرَجَهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ.
(7/380)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، ثَنَا صَفْوَانُ، حَدَّثَنِي رَاشِدُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ السَّكُونِيِّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: «لَمَّا بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ خَرَجَ مَعَهُ يُوصِيهِ، وَمُعَاذٌ رَاكِبٌ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي تَحْتَ رَاحِلَتِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: " يَا مُعَاذُ، إِنَّكَ عَسَى أَلَّا تَلْقَانِي بَعْدَ عَامِي هَذَا، وَلَعَلَّكَ أَنْ تَمُرَّ بِمَسْجِدِي هَذَا وَقَبْرِي ". فَبَكَى مُعَاذٌ جَشَعًا لِفِرَاقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ الْتَفَتَ بِوَجْهِهِ نَحْوَ الْمَدِينَةِ فَقَالَ: " إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي الْمُتَّقُونَ مَنْ كَانُوا وَحَيْثُ كَانُوا» ".
3 - ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ أَبِي الْيَمَانِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ السَّكُونِيِّ، «أَنَّ مُعَاذًا لَمَّا بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ خَرَجَ مَعَهُ يُوصِيهِ، وَمُعَاذٌ رَاكِبٌ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي تَحْتَ رَاحِلَتِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: " يَا مُعَاذُ، إِنَّكَ عَسَى أَلَّا تَلْقَانِي بَعْدَ عَامِي هَذَا، وَلَعَلَّكَ أَنْ تَمُرَّ بِمَسْجِدِي هَذَا وَقَبْرِي ". فَبَكَى مُعَاذٌ جَشَعًا لِفِرَاقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " لَا تَبْكِ يَا مُعَاذُ، لِلْبُكَاءِ أَوَانٌ، الْبُكَاءُ مِنَ الشَّيْطَانِ ".»
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، ثَنَا صَفْوَانُ، حَدَّثَنِي أَبُو زِيَادٍ
(7/381)
يَحْيَى بْنُ عُبَيْدٍ الْغَسَّانِيُّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ قُطَيْبٍ، عَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: " لَعَلَّكَ أَنْ تَمُرَّ بِقَبْرِي وَمَسْجِدِي، فَقَدْ بَعَثْتُكَ إِلَى قَوْمٍ رَقِيقَةٍ قُلُوبُهُمْ، يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ مَرَّتَيْنِ، فَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مِنْهُمْ مَنْ عَصَاكَ، ثُمَّ يَفِيئُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ، حَتَّى تُبَادِرَ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا، وَالْوَلَدُ وَالِدَهُ، وَالْأَخُ أَخَاهُ، فَانْزِلْ بَيْنَ الْحَيَّيْنِ ; السَّكُونِ وَالسَّكَاسِكِ ".»
وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ إِشَارَةٌ وَظُهُورٌ وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مُعَاذًا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَا يَجْتَمِعُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ ; فَإِنَّهُ أَقَامَ بِالْيَمَنِ حَتَّى كَانَتْ حَجَّةُ الْوَدَاعِ، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعْدَ أَحَدٍ وَثَمَانِينَ يَوْمًا مِنْ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنْ مُعَاذٍ، «أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ مِنَ الْيَمَنِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتُ رِجَالًا بِالْيَمَنِ يَسْجُدُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، أَفَلَا نَسْجُدُ لَكَ؟ قَالَ: " لَوْ كُنْتُ آمِرًا بَشَرًا أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ، لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا ".» وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ سَمِعْتُ أَبَا ظَبْيَانَ يُحَدِّثُ عَنْ رَجُلٍ، مِنَ الْأَنْصَارِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: أَقْبَلَ مُعَاذٌ مِنَ الْيَمَنِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي رَأَيْتُ رِجَالًا. فَذَكَرَ مَعْنَاهُ. فَقَدْ دَارَ عَلَى رَجُلٍ مُبْهَمٍ، وَمِثْلُهُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، لَا سِيَّمَا
(7/382)
وَقَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِهِ فَقَالُوا: لَمَّا قَدِمَ مُعَاذٌ مِنَ الشَّامِ. كَذَلِكَ رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَهْدِيٍّ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَفَاتِيحُ الْجَنَّةِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ".» وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا وَكِيعٌ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ، عَنْ مُعَاذٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يَا مُعَاذُ، أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ، تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ ".» قَالَ وَكِيعٌ: وَجَدْتُهُ فِي كِتَابِي، عَنْ أَبِي ذَرٍ، وَهُوَ السَّمَاعُ الْأَوَّلُ وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً: عَنْ مُعَاذٍ.
ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ، عَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي فَقَالَ: " اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ ". قَالَ: زِدْنِي. قَالَ: " أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا ". قَالَ: زِدْنِي. قَالَ: " خَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي " جَامِعِهِ " عَنْ مَحْمُودِ بْنِ غَيْلَانَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِهِ، وَقَالَ:
(7/383)
حَسَنٌ. قَالَ شَيْخُنَا فِي " الْأَطْرَافِ ": وَتَابَعَهُ فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ وَالْأَعْمَشِ، عَنْ حَبِيبٍ بِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: «أَوْصَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَشْرِ كَلِمَاتٍ قَالَ: " لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا وَإِنْ قُتِلْتَ وَحُرِّقْتَ، وَلَا تَعُقَّنَّ وَالِدَيْكَ وَإِنْ أَمَرَاكَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ، وَلَا تَتْرُكَنَّ صَلَاةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّدًا ; فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ صَلَاةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّدًا فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ، وَلَا تَشْرَبَنَّ خَمْرًا ; فَإِنَّهُ رَأَسُ كُلِّ فَاحِشَةٍ، وَإِيَّاكَ وَالْمَعْصِيَةَ ; فَإِنَّ بِالْمَعْصِيَةِ يَحِلُّ سَخَطُ اللَّهِ، وَإِيَّاكَ وَالْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ وَإِنْ هَلَكَ النَّاسُ، وَإِذَا أَصَابَ النَّاسَ مَوْتٌ وَأَنْتَ فِيهِمْ فَاثْبُتْ، وَأَنْفِقْ عَلَى عِيَالِكَ مِنْ طَوْلِكَ، وَلَا تَرْفَعْ عَنْهُمْ عَصَاكَ أَدَبًا، وَأَخِفْهُمْ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ".»
. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا يُونُسُ، ثَنَا بَقِيَّةُ، عَنِ السَّرِيِّ بْنِ يَنْعُمَ، عَنْ مُرِيحِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ:
(7/384)
" إِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ، فَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ ".»
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْهَاشِمِيُّ، ثَنَا أَبُو بَكْرٍ - يَعْنِي ابْنَ عَيَّاشٍ - ثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ مُعَاذٍ قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ، وَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا، أَوْ عَدْلَهُ مِنَ الْمَعَافِرِ، وَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ بَقَرَةً، مُسِنَّةً، وَمِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعًا حَوْلِيًّا، وَأَمَرَنِي فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالدَّوَالِي نِصْفُ الْعُشْرِ.» وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الْأَعْمَشِ كَذَلِكَ. وَقَدْ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، مِنْ طُرُقٍ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ مُعَاذٍ بِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَمْرٍو وَهَارُونَ بْنِ مَعْرُوفٍ قَالَا: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ حَيْوَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ أُسَامَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْحَكَمِ، أَنَّ مُعَاذًا قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُصَدِّقُ أَهْلَ الْيَمَنِ، فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنَ الْبَقَرِ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعًا - قَالَ هَارُونُ: وَالتَّبِيعُ الْجَذَعُ أَوِ
(7/385)
الْجَذَعَةُ - وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً، فَعَرَضُوا عَلَيَّ أَنْ آخُذَ مَا بَيْنَ الْأَرْبَعِينَ وَالْخَمْسِينَ، وَمَا بَيْنَ السِّتِّينَ وَالسَّبْعِينَ، وَمَا بَيْنَ الثَّمَانِينَ وَالتِّسْعِينَ، فَأَبَيْتُ ذَلِكَ، وَقُلْتُ لَهُمْ: حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ. فَقَدِمْتُ فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعًا، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً، وَمِنَ السِّتِّينَ تَبِيعَيْنِ، وَمِنَ السَّبْعِينَ مُسِنَّةً وَتَبِيعًا، وَمِنَ الثَّمَانِينَ مُسِنَّتَيْنِ، وَمِنَ التِّسْعِينَ ثَلَاثَةَ أَتْبَاعٍ، وَمِنَ الْمِائَةِ مُسِنَّةٍ وَتَبِيعَيْنِ، وَمِنَ الْعَشَرَةِ وَمِائَةٍ مُسِنَّتَيْنِ وَتَبِيعًا، وَمِنَ الْعِشْرِينَ وَمِائَةٍ ثَلَاثَ مُسِنَّاتٍ أَوْ أَرْبَعَةَ أَتْبَاعٍ. قَالَ: وَأَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَّا آخُذَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ شَيْئًا، إِلَّا أَنْ يَبْلُغَ مُسِنَّةً أَوْ جَذَعًا. وَزَعَمَ أَنَّ الْأَوْقَاصَ لَا فَرِيضَةَ فِيهَا. وَهَذَا مِنْ أَفْرَادِ أَحْمَدَ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ قَدِمَ بَعْدَ مَصِيرِهِ إِلَى الْيَمَنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،» وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ.
وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ شَابًّا جَمِيلًا سَمْحًا، مِنْ خَيْرِ شَبَابِ قَوْمِهِ، لَا يُسْأَلُ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ، حَتَّى كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَغْلَقَ مَالَهُ، فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنْ يُكَلِّمَ غُرَمَاءَهُ، فَفَعَلَ، فَلَمْ يَضَعُوا لَهُ شَيْئًا، فَلَوْ تُرِكَ لِأَحَدٍ بِكَلَامِ أَحَدٍ، لَتُرِكَ
(7/386)
لِمُعَاذٍ بِكَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَبْرَحْ أَنْ بَاعَ مَالَهُ، وَقَسَمَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ. قَالَ: فَقَامَ مُعَاذٌ وَلَا مَالَ لَهُ. قَالَ: فَلَمَّا حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ لِيَجْبُرَهُ. قَالَ: فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ تَجَرَ فِي هَذَا الْمَالِ مُعَاذٌ. قَالَ: فَقَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ مِنَ الْيَمَنِ وَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ عُمَرُ إِلَى مُعَاذٍ فَقَالَ: هَلْ لَكَ أَنْ تُطِيعَنِي فَتَدْفَعَ هَذَا الْمَالَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَإِنْ أَعْطَاكَهُ فَاقْبَلْهُ؟ قَالَ: فَقَالَ مُعَاذٌ: لِمَ أَدْفَعُهُ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَجْبُرَنِي؟! فَلَمَّا أَبَى عَلَيْهِ انْطَلَقَ عُمَرُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: أَرْسِلْ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فَخُذْ مِنْهُ وَدَعْ لَهُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ، إِنَّمَا بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَجْبُرَهُ، فَلَسْتُ آخِذًا مِنْهُ شَيْئًا. قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحَ مُعَاذٌ انْطَلَقَ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: مَا أَرَانِي إِلَّا فَاعِلَ الَّذِي قُلْتَ، إِنِّي رَأَيْتُنِي الْبَارِحَةَ فِي النَّوْمِ - فِيمَا يَحْسَبُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ - أُجَرُّ إِلَى النَّارِ وَأَنْتَ آخِذٌ بِحُجْزَتِي. قَالَ: فَانْطَلَقَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِكُلِّ شَيْءٍ جَاءَ بِهِ، حَتَّى جَاءَهُ بِسَوْطِهِ، وَحَلَفَ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يَكْتُمْهُ شَيْئًا. قَالَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هُوَ لَكَ لَا آخُذُ مِنْهُ شَيْئًا.»
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فَذَكَرَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: حَتَّى إِذَا كَانَ عَامُ فَتْحِ مَكَّةَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنَ الْيَمَنِ أَمِيرًا، فَمَكَثَ حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَدِمَ فِي
(7/387)
خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَخَرَجَ إِلَى الشَّامِ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَخْلَفَهُ بِمَكَّةَ مَعَ عَتَّابِ بْنِ أُسَيْدٍ لِيُعَلِّمَ أَهْلَهَا، وَأَنَّهُ شَهِدَ غَزْوَةَ تَبُوكَ فَالْأَشْبَهُ أَنَّ بَعْثَهُ إِلَى الْيَمَنِ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ لِقِصَّةِ مَنَامِ مُعَاذٍ شَاهِدًا مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَأَنَّهُ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا جَاءَ بِهِ عَبِيدٌ فَأَتَى بِهِمْ أَبَا بَكْرٍ، فَلَمَّا رَدَّ الْجَمِيعَ عَلَيْهِ رَجَعَ بِهِمْ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، فَقَامُوا كُلُّهُمْ يُصَلُّونَ مَعَهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ. قَالَ: لِمَنْ صَلَّيْتُمْ؟ قَالُوا: لِلَّهِ. قَالَ: فَأَنْتُمْ لَهُ عُتَقَاءُ، فَأَعْتَقَهُمْ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أَخِي الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، عَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ، عَنْ مُعَاذٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: " كَيْفَ تَصْنَعُ إِنْ عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟ " قَالَ: أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: " فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ " قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: " فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ". قَالَ: أَجْتَهِدُ بِرَأْيِي، لَا آلُو. قَالَ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدْرِي ثُمَّ قَالَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ ".» وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ وَكِيعٍ، وَعَنْ عَفَّانَ، عَنْ شُعْبَةَ، بِإِسْنَادِهِ وَلَفْظِهِ. وَأَخْرَجَهُ
(7/388)
أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ عِنْدِي بِمُتَّصِلٍ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ، إِلَّا أَنَّهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَسَّانَ - وَهُوَ الْمَصْلُوبُ أَحَدُ الْكَذَّابِينَ - عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ عَنْ مُعَاذٍ بِهِ نَحْوَهُ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي حَكِيمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّئِلِيِّ قَالَ: «كَانَ مُعَاذٌ بِالْيَمَنِ، فَارْتَفَعُوا إِلَيْهِ فِي يَهُودِيٍّ مَاتَ وَتَرَكَ أَخًا مُسْلِمًا، فَقَالَ مُعَاذٌ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ الْإِسْلَامَ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ ". فَوَرَّثَهُ.» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ بُرَيْدَةَ بِهِ. وَقَدْ حُكِيَ هَذَا الْمَذْهَبُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ الْقَاضِي، وَطَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَخَالَفَهُمُ الْجُمْهُورُ، وَمِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَأَصْحَابُهُمْ، مُحْتَجِّينَ بِمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ
(7/389)
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ وَلَا الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ ".»
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مُعَاذًا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَانَ قَاضِيًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْيَمَنِ، وَحَاكِمًا فِي الْحُرُوبِ، وَمُصَدِّقًا ; إِلَيْهِ تُدْفَعُ الصَّدَقَاتُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمُ. وَقَدْ كَانَ بَارِزًا لِلنَّاسِ يُصَلِّي بِهِمُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، أَنَّ مُعَاذًا لَمَّا قَدِمَ الْيَمَنَ صَلَّى بِهِمُ الصُّبْحَ فَقَرَأَ: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125] (النِّسَاءِ: 125) . فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: لَقَدْ قَرَّتْ عَيْنُ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ. انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.
[بَعْثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى الْيَمَنِ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ]
بَابُ بَعْثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى الْيَمَنِ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ، ثَنَا شُرَيْحُ بْنُ مَسْلَمَةَ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ قَالَ: «بَعَثَنَا
(7/390)
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى الْيَمَنِ. قَالَ: ثُمَّ بَعَثَ عَلِيًّا بَعْدَ ذَلِكَ مَكَانَهُ قَالَ: " مُرْ أَصْحَابَ خَالِدٍ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ أَنْ يُعَقِّبَ مَعَكَ فَلْيُعَقِّبْ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيُقْبِلْ ". فَكُنْتُ فِيمَنْ عَقَّبَ مَعَهُ. قَالَ: فَغَنِمْتُ أَوَاقِيَ ذَاتَ عَدَدٍ» انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، ثَنَا رُوحُ بْنُ عُبَادَةَ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ مَنْجُوفٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ لِيَقْبِضَ الْخُمُسَ، وَكُنْتُ أُبْغِضُ عَلِيًّا، فَأَصْبَحَ وَقَدِ اغْتَسَلَ، فَقُلْتُ لِخَالِدٍ: أَلَا تَرَى إِلَى هَذَا؟ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ. فَقَالَ: يَا بُرَيْدَةُ تُبْغِضُ عَلِيًّا؟ ". فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: " لَا تُبْغِضْهُ فَإِنَّ لَهُ فِي الْخُمُسِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ» انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، ثَنَا عَبْدُ الْجَلِيلِ قَالَ: «انْتَهَيْتُ إِلَى
(7/391)
حَلْقَةٍ فِيهَا أَبُو مِجْلَزٍ، وَابْنُ بُرَيْدَةَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ: حَدَّثَنِي أَبِي بُرَيْدَةُ قَالَ: أَبْغَضْتُ عَلِيًّا بُغْضًا لَمْ أُبْغِضْهُ أَحَدًا قَطُّ. قَالَ: وَأَحْبَبْتُ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ لَمْ أُحِبَّهُ إِلَّا عَلَى بُغْضِهِ عَلِيًّا. قَالَ: فَبُعِثَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى خَيْلٍ فَصَحِبْتُهُ مَا أَصْحَبُهُ إِلَّا عَلَى بُغْضِهِ عَلِيًّا. قَالَ: فَأَصَبْنَا سَبْيًا. قَالَ: فَكَتَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ابْعَثْ إِلَيْنَا مَنْ يُخَمِّسُهُ. قَالَ: فَبَعَثَ إِلَيْنَا عَلِيًّا، وَفِي السَّبْيِ وَصِيفَةٌ مِنْ أَفْضَلِ السَّبْيِ. قَالَ: فَخَمَّسَ وَقَسَمَ، فَخَرَجَ وَرَأَسُهُ يَقْطُرُ، فَقُلْنَا: يَا أَبَا الْحَسَنِ، مَا هَذَا؟ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْوَصِيفَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي السَّبْيِ، فَإِنِّي قَسَمْتُ وَخَمَّسْتُ فَصَارَتْ فِي الْخُمُسِ، ثُمَّ صَارَتْ فِي أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ صَارَتْ فِي آلِ عَلِيٍّ، وَوَقَعْتُ بِهَا. قَالَ: فَكَتَبَ الرَّجُلُ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: ابْعَثْنِي. فَبَعَثَنِي مُصَدِّقًا، فَجَعَلْتُ أَقْرَأُ الْكِتَابَ وَأَقُولُ: صَدَقَ. قَالَ: فَأَمْسَكَ يَدِي وَالْكِتَابَ فَقَالَ: " أَتُبْغِضُ عَلِيًّا؟ " قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: " فَلَا تُبْغِضْهُ، وَإِنْ كُنْتَ تُحِبَّهُ فَازْدَدْ لَهُ حُبًّا، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لِنَصِيبُ آلِ عَلِيٍّ فِي الْخُمُسِ أَفْضَلُ مِنْ وَصِيفَةٍ ".» قَالَ: فَمَا كَانَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ بَعْدَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ عَلِيٍّ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ: فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ غَيْرُ أَبِي بُرَيْدَةُ. تَفَرَّدَ بِهِ بِهَذَا السِّيَاقِ عَبْدُ الْجَلِيلِ بْنُ عَطِيَّةَ الْفَقِيهُ أَبُو صَالِحٍ الْبَصْرِيُّ ; وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَابْنُ حِبَّانَ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ:
(7/392)
إِنَّمَا يَهِمُ فِي الشَّيْءِ بَعْدَ الشَّيْءِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: ثَنَا أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نِيَارٍ الْأَسْلَمِيِّ، عَنْ خَالِهِ عَمْرِو بْنِ شَاسٍ الْأَسْلَمِيِّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْحُدَيْبِيَةِ قَالَ: «كُنْتُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي خَيْلِهِ الَّتِي بَعَثَهُ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ، فَجَفَانِي عَلِيٌّ بَعْضَ الْجَفَاءِ، فَوَجَدْتُ فِي نَفْسِي عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ اشْتَكَيْتُهُ فِي مَجَالِسِ الْمَدِينَةِ وَعِنْدَ مَنْ لَقِيتُهُ، فَأَقْبَلْتُ يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا رَآنِي أَنْظُرُ إِلَى عَيْنَيْهِ نَظَرَ إِلَيَّ حَتَّى جَلَسْتُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا جَلَسْتُ إِلَيْهِ قَالَ: " إِنَّهُ وَاللَّهِ يَا عَمْرُو بْنَ شَاسٍ لَقَدْ آذَيْتَنِي ". فَقُلْتُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أَعُوذُ بِاللَّهِ وَالْإِسْلَامِ أَنْ أُوذِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: " مَنْ آذَى عَلِيًّا فَقَدْ آذَانِي ".» وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ أَبَانَ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ مَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نِيَارٍ، عَنْ خَالِهِ عَمْرِو بْنِ شَاسٍ، فَذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ
(7/393)
الْمُزَكِّي، أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ الْجَوْزَجَانِيُّ، ثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ أَبِي السَّفَرِ، سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ يُوسُفَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ «عَنِ الْبَرَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ. قَالَ الْبَرَاءُ: فَكُنْتُ فِيمَنْ خَرَجَ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَأَقَمْنَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يُجِيبُوهُ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُقْفِلَ خَالِدًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَ مِمَّنْ مَعَ خَالِدٍ فَأَحَبَّ أَنْ يُعَقِّبَ مَعَ عَلِيٍّ فَلْيُعَقِّبْ مَعَهُ. قَالَ الْبَرَاءُ: فَكُنْتُ فِيمَنْ عَقَّبَ مَعَ عَلِيٍّ، فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنَ الْقَوْمِ خَرَجُوا إِلَيْنَا فَصَلَّى بِنَا عَلِيٌّ، ثُمَّ صَفَّنَا صَفًّا وَاحِدًا، ثُمَّ تَقَدَّمَ بَيْنَ أَيْدِينَا، وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَتْ هَمْدَانُ جَمِيعًا، فَكَتَبَ عَلِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْلَامِهِمْ، فَلَمَّا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكِتَابَ خَرَّ سَاجِدًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: " السَّلَامُ عَلَى هَمْدَانَ، السَّلَامَ عَلَى هَمْدَانَ ".» قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُخْتَصَرًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ يُوسُفَ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
(7/394)
الْفَضْلِ الْقَطَّانُ، أَنْبَأَنَا أَبُو سَهْلِ بْنُ زِيَادٍ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، حَدَّثَنِي أَخِي، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ عُجْرَةَ، عَنْ عَمَّتِهِ زَيْنَبَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ إِلَى الْيَمَنِ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَكُنْتُ فِيمَنْ خَرَجَ مَعَهُ، فَلَمَّا أَخَذَ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ سَأَلْنَاهُ أَنْ نَرْكَبَ مِنْهَا وَنُرِيحَ إِبِلَنَا - وَكُنَّا قَدْ رَأَيْنَا فِي إِبِلِنَا خَلَلًا - فَأَبَى عَلَيْنَا وَقَالَ: إِنَّمَا لَكُمْ فِيهَا سَهْمٌ كَمَا لِلْمُسْلِمِينَ. قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ عَلِيٌّ وَانْطَلَقَ مِنَ الْيَمَنِ رَاجِعًا، أَمَّرَ عَلَيْنَا إِنْسَانًا وَأَسْرَعَ هُوَ فَأَدْرَكَ الْحَجَّ، فَلَمَّا قَضَى حَجَّتَهُ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ارْجِعْ إِلَى أَصْحَابِكَ حَتَّى تَقْدَمَ عَلَيْهِمْ ". قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَقَدْ كُنَّا سَأَلْنَا الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ مَا كَانَ عَلِيٌّ مَنْعَنَا إِيَّاهُ، فَفَعَلَ، فَلَمَّا عَرَفَ فِي إِبِلِ الصَّدَقَةِ أَنَّهَا قَدْ رُكِبَتْ، وَرَأَى أَثَرَ الرَّاكِبِ ذَمَّ الَّذِي أَمَّرَهُ وَلَامَهُ، فَقُلْتُ: أَمَا إِنَّ لِلَّهِ عَلَيَّ لَئِنْ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ لَأَذْكُرَنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَأُخْبِرَنَّهُ مَا لَقِينَا مِنَ الْغِلْظَةِ وَالتَّضْيِيقِ. قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ غَدَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ مَا كُنْتُ حَلَفْتُ عَلَيْهِ، فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ خَارِجًا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَآنِي وَقَفَ مَعِي وَرَحَّبَ بِي، وَسَاءَلَنِي وَسَاءَلْتُهُ وَقَالَ: مَتَى قَدِمْتَ؟ فَقُلْتُ: قَدِمْتُ الْبَارِحَةَ. فَرَجَعَ مَعِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَ وَقَالَ: هَذَا سَعْدُ بْنُ
(7/395)
مَالِكِ بْنِ الشَّهِيدِ. فَقَالَ: " ائْذَنْ لَهُ ". فَدَخَلْتُ فَحَيَّيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَيَّانِي، وَأَقْبَلَ عَلَيَّ وَسَأَلَنِي عَنْ نَفْسِي وَأَهْلِي، وَأَحْفَى الْمَسْأَلَةَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَقِينَا مِنْ عَلِيٍّ مِنَ الْغِلْظَةِ وَسُوءِ الصُّحْبَةِ وَالتَّضْيِيقِ؟ فَانْتَبَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلْتُ أَنَا أُعَدِّدُ مَا لَقِينَا مِنْهُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي وَسَطِ كَلَامِي، ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَخِذِي، وَكُنْتُ مِنْهُ قَرِيبًا، وَقَالَ: " يَا سَعْدُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الشَّهِيدِ مَهْ بَعْضَ قَوْلِكَ لِأَخِيكَ عَلِيٍّ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ أَخْشَنَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ". قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ! أَلَا أَرَانِي كُنْتُ فِيمَا يَكْرَهُ مُنْذُ الْيَوْمِ وَمَا أَدْرِي، لَا جَرَمَ وَاللَّهِ لَا أَذْكُرُهُ بِسُوءٍ أَبَدًا سِرًّا وَلَا عَلَانِيَةً.» وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ عَلَى شَرْطِ النَّسَائِيِّ، وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ.
وَقَدْ قَالَ يُونُسُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ رُكَانَةَ قَالَ: إِنَّمَا وَجَدَ جَيْشُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ بِالْيَمَنِ ; لِأَنَّهُمْ حِينَ أَقْبَلُوا خَلَّفَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا، وَتَعَجَّلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَعَمَدَ الرَّجُلُ فَكَسَا كُلَّ رَجُلٍ حُلَّةً، فَلَمَّا دَنَوْا خَرَجَ عَلِيٌّ يَسْتَقْبِلُهُمْ، فَإِذَا عَلَيْهِمُ الْحُلَلُ، قَالَ عَلِيٌّ: مَا هَذَا؟ قَالُوا:
(7/396)
كَسَانَا فُلَانٌ. قَالَ: فَمَا دَعَاكَ إِلَى هَذَا قَبْلَ تَقْدَمُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَصْنَعُ مَا شَاءَ؟ فَنَزَعَ الْحُلَلَ مِنْهُمْ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَكَوْهُ لِذَلِكَ، وَكَانُوا قَدْ صَالَحُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا بَعَثَ عَلِيًّا إِلَى جِزْيَةٍ مَوْضُوعَةٍ.
قُلْتُ: هَذَا السِّيَاقُ أَقْرَبُ مِنْ سِيَاقِ الْبَيْهَقِيِّ، وَذَلِكَ أَنْ عَلِيًّا سَبَقَهُمْ لِأَجْلِ الْحَجِّ، وَسَاقَ مَعَهُ هَدْيًا، وَأَهَلَّ بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَمْكُثَ حَرَامًا. وَفِي رِوَايَةِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: إِنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ وَقَرَنْتُ
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا كَثُرَ فِيهِ الْقِيلُ وَالْقَالُ مِنْ ذَلِكَ الْجَيْشِ ; بِسَبَبِ مَنْعِهِ إِيَّاهُمُ اسْتِعْمَالَ إِبِلِ الصَّدَقَةِ، وَاسْتِرْجَاعِهِ مِنْهُمُ الْحُلَلَ الَّتِي أَطْلَقَهَا لَهُمْ نَائِبُهُ، وَعَلِيٌّ مَعْذُورٌ فِيمَا فَعَلَ، لَكِنِ اشْتُهِرَ الْكَلَامُ فِيهِ فِي الْحَجِيجِ، فَلِذَلِكَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَجَّتِهِ وَتَفَرَّغَ مِنْ مَنَاسِكِهِ وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَرَّ بِغَدِيرِ خُمٍّ، قَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا فَبَرَّأَ سَاحَةَ عَلِيٍّ، وَرَفَعَ مِنْ قَدْرِهِ وَنَبَّهَ عَلَى فَضْلِهِ ; لِيُزِيلَ مَا وَقَرَ فِي نُفُوسِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَسَيَأْتِي هَذَا مُفَصَّلًا فِي مَوْضِعِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِهِ الثِّقَةُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا قُتَيْبَةُ، ثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ شُبْرُمَةَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي نُعْمٍ، سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: «بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْيَمَنِ بِذُهَيْبَةٍ فِي أَدِيمٍ
(7/397)
مَقْرُوظٍ، لَمْ تُحَصَّلْ مِنْ تُرَابِهَا. قَالَ: فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةٍ ; بَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ، وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ، وَزَيْدِ الْخَيْلِ، وَالرَّابِعُ إِمَّا عَلْقَمَةُ - يَعْنِي بْنَ عُلَاثَةَ - وَإِمَّا عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: كُنَّا نَحْنُ أَحَقُّ بِهَذَا مِنْ هَؤُلَاءِ. فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ، يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً؟! ". قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ، نَاشِزُ الْجَبْهَةِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، مُشَمَّرُ الْإِزَارِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اتَّقِ اللَّهَ. فَقَالَ: " وَيْلَكَ، أَوَلَسْتُ أَحَقَّ النَّاسِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ؟! ". قَالَ: ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ. قَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا أَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ قَالَ: " لَا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي ". قَالَ خَالِدٌ: وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنِّي لَمْ أُؤْمَرُ أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ، وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ ". قَالَ: ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهِ وَهُوَ مُقْفٍ، فَقَالَ: " إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْبًا لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ". أَظُنُّهُ قَالَ: " لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ ثَمُودَ ".» وَقَدْ رَوَاهُ
(7/398)
الْبُخَارِيُّ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتَابِهِ، وَمُسْلِمٌ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مِنْ " صَحِيحِهِ " مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ إِلَى عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا يَحْيَى، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ وَأَنَا حَدِيثُ السِّنِّ. قَالَ: فَقُلْتُ: تَبْعَثُنِي إِلَى قَوْمٍ يَكُونُ بَيْنَهُمْ أَحْدَاثٌ وَلَا عِلْمَ لِي بِالْقَضَاءِ. قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ سَيَهْدِي لِسَانَكَ، وَيُثَبِّتُ قَلْبَكَ ". قَالَ: فَمَا شَكَكْتُ فِي قَضَاءٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ بَعْدُ» وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، ثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ حَنَشٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ. قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَبْعَثُنِي إِلَى قَوْمٍ أَسَنَّ مِنِّي وَأَنَا حَدَثٌ لَا أُبْصِرُ الْقَضَاءَ؟! قَالَ: فَوَضْعُ يَدَهُ عَلَى صَدْرِي وَقَالَ ": اللَّهُمَّ ثَبِّتْ لِسَانَهُ، وَاهْدِ قَلْبَهُ. يَا عَلِيُّ، إِذَا جَلَسَ إِلَيْكَ الْخَصْمَانِ فَلَا تَقْضِ بَيْنَهُمَا حَتَّى تَسْمَعَ مِنَ الْآخَرِ كَمَا سَمِعْتَ مِنَ الْأَوَّلِ فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ تَبَيَّنَ لَكَ الْقَضَاءُ ". قَالَ: فَمَا اخْتَلَفَ عَلَيَّ قَضَاءٌ بَعْدُ. أَوْ: مَا أُشْكِلَ عَلَيَّ قَضَاءٌ بَعْدُ.» وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ
(7/399)
شَرِيكٍ، وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ زَائِدَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ حَنَشِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ - وَقِيلَ: ابْنِ رَبِيعَةَ الْكِنَانِيِّ الْكُوفِيِّ - عَنْ عَلِيٍّ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الْأَجْلَحِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْخَلِيلِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ «أَنَّ نَفَرًا وَطِئُوا امْرَأَةً فِي طُهْرٍ، فَقَالَ عَلِيٌّ لِاثْنَيْنِ: أَتَطِيبَانِ نَفْسًا لِذَا؟ فَقَالَا: لَا. فَأَقْبَلَ عَلَى الْآخَرِينَ فَقَالَ: أَتَطِيبَانِ نَفْسًا لِذَا؟ فَقَالَا: لَا. فَقَالَ: أَنْتُمْ شُرَكَاءٌ مُتَشَاكِسُونَ. فَقَالَ: إِنِّي مُقْرِعٌ بَيْنَكُمْ. فَأَيُّكُمْ قَرَعَ أَغْرَمْتُهُ ثُلْثَيِ الدِّيَةِ، وَأَلْزَمْتُهُ الْوَلَدَ. قَالَ: فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " لَا أَعْلَمُ إِلَّا مَا قَالَ عَلِيٌّ ".»
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ، ثَنَا هُشَيْمٌ، أَنْبَأَنَا الْأَجْلَحُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ، «عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّ عَلِيًّا أُتِيَ فِي ثَلَاثَةِ نَفَرٍ، إِذْ كَانَ فِي الْيَمَنِ، اشْتَرَكُوا فِي وَلَدٍ، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَضَمِنَ الَّذِي أَصَابَتْهُ الْقُرْعَةُ ثُلْثَيِ الدِّيَةِ وَجَعَلَ الْوَلَدَ لَهُ. قَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ بِقَضَاءِ عَلِيٍّ، فَضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ.»
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، وَالنَّسَائِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، كِلَاهُمَا عَنِ الْأَجْلَحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ،
(7/400)
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْخَلِيلِ - وَقَالَ النَّسَائِيُّ فِي رِوَايَتِهِ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْخَلِيلِ - عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: «كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ: إِنَّ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ أَتَوْا عَلِيًّا يَخْتَصِمُونَ فِي وَلَدٍ، وَقَعُوا عَلَى امْرَأَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ. فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ: فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.» وَقَدْ رَوَيَاهُ - أَعْنِي أَبَا دَاوُدَ وَالنَّسَائِيَّ - مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ أَوِ ابْنِ الْخَلِيلِ، عَنْ عَلِيٍّ قَوْلَهُ فَأَرْسَلَهُ وَلَمْ يَرْفَعْهُ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنِ الْأَجْلَحِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ جَمِيعًا عَنْ خُشَيْشِ بْنِ أَصْرَمَ، وَابْنِ مَاجَهْ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ صَالِحٍ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ بِهِ.
قَالَ شَيْخُنَا فِي " الْأَطْرَافِ ": لَعَلَّ عَبْدَ خَيْرٍ هَذَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْخَلِيلِ، وَلَكِنْ لَمْ يَضْبُطِ الرَّاوِي اسْمَهُ. قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا يَقْوَى الْحَدِيثُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ كَانَ أَجْوَدَ لِمُتَابَعَتِهِ لَهُ، لَكِنَّ الْأَجْلَحَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْكِنْدِيَّ فِيهِ كَلَامٌ مَا، وَقَدْ
(7/401)
ذَهَبَ إِلَى الْقَوْلِ بِالْقُرْعَةِ فِي الْأَنْسَابِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَهُوَ مِنْ أَفْرَادِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا أَبُو سَعِيدٍ، ثَنَا إِسْرَائِيلُ، ثَنَا سِمَاكٌ، عَنْ حَنَشٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ فَانْتَهَيْنَا إِلَى قَوْمٍ قَدْ بَنَوْا زُبْيَةً لِلْأَسَدِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ يَتَدَافَعُونَ إِذْ سَقَطَ رَجُلٌ فَتَعَلَّقَ بِآخَرَ، ثُمَّ تَعَلَّقَ رَجُلٌ بِآخَرَ، حَتَّى صَارُوا فِيهَا أَرْبَعَةً فَجَرَحَهُمُ الْأَسَدُ، فَانْتَدَبَ لَهُ رَجُلٌ بِحَرْبَةٍ فَقَتَلَهُ، وَمَاتُوا مِنْ جِرَاحَتِهِمْ كُلُّهُمْ، فَقَامَ أَوْلِيَاءُ الْأَوَّلِ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْآخَرِ فَأَخْرَجُوا السِّلَاحَ لِيَقْتَتِلُوا، فَأَتَاهُمْ عَلِيٌّ عَلَى تَفِئَةِ ذَلِكَ فَقَالَ: تُرِيدُونَ أَنْ تَقَاتَلُوا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيٌّ؟! إِنِّي أَقْضِي بَيْنَكُمْ قَضَاءً إِنْ رَضِيتُمْ فَهُوَ الْقَضَاءُ، وَإِلَّا حَجَزَ بَعْضُكُمْ عَنْ بَعْضٍ حَتَّى تَأْتُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ هُوَ الَّذِي يَقْضِي بَيْنَكُمْ، فَمَنْ عَدَا بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا حَقَّ لَهُ، اجْمَعُوا مِنْ قَبَائِلِ الَّذِينَ حَضَرُوا الْبِئْرَ رُبْعَ الدِّيَةِ، وَثُلُثَ الدِّيَةِ، وَنِصْفَ الدِّيَةِ، وَالدِّيَةَ كَامِلَةً، فَلِلْأَوَّلِ الرُّبُعُ ; لِأَنَّهُ هَلَكَ مَنْ فَوْقَهُ وَلِلثَّانِي ثُلْثُ الدِّيَةِ، وَلِلثَّالِثِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَلِلرَّابِعِ الدِّيَةُ. فَأَبَوْا أَنْ
(7/402)
يَرْضَوْا، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عِنْدَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَصُّوا عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَقَالَ: " أَنَا أَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ". فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عَلِيًّا قَضَى فِينَا. فَقَصُّوا عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَأَجَازَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.» ثُمَّ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ حَنَشٍ، عَنْ عَلِيٍّ فَذَكَرَهُ.
(7/403)
[حَجَّةُ الْوَدَاعِ فِي سَنَةِ عَشْرٍ]
[حَجَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ كَانَتْ]
كِتَابُ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي سَنَةِ عَشْرٍ
وَيُقَالُ لَهَا حَجَّةُ الْبَلَاغِ، وَحَجَّةُ الْإِسْلَامِ، وَحَجَّةُ الْوَدَاعِ ; لِأَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَدَّعَ النَّاسَ فِيهَا، وَلَمْ يَحُجَّ بَعْدَهَا. وَسُمِّيَتْ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لَمْ يَحُجَّ مِنَ الْمَدِينَةِ غَيْرَهَا، وَلَكِنْ حَجَّ قَبْلَ الْهِجْرَةِ مَرَّاتٍ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ نَزَلَتْ عَامَئِذٍ. وَقِيلَ: سَنَةَ تِسْعٍ. وَقِيلَ: سَنَةَ سِتٍّ. وَقِيلَ: قَبْلَ الْهِجْرَةِ. وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا. وَسُمِّيَتْ حَجَّةَ الْبَلَاغِ ; لِأَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، بَلَّغَ النَّاسَ شَرْعَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ قَوْلًا وَفِعْلًا، وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ مِنْ دَعَائِمِ الْإِسْلَامِ وَقَوَاعِدِهِ شَيْءٌ إِلَّا وَقَدْ بَيَّنَهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَلَمَّا بَيَّنَ لَهُمْ شَرِيعَةَ الْحَجِّ وَوَضَّحَهُ وَشَرَحَهُ أَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَيْهِ وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] (الْمَائِدَةِ: 3) وَسَيَأْتِي إِيضَاحٌ لِهَذَا كُلِّهِ.
وَالْمَقْصُودُ ذِكْرُ حَجَّتِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَيْفَ كَانَتْ، فَإِنَّ النَّقَلَةَ اخْتَلَفُوا فِيهَا اخْتِلَافًا كَثِيرًا جِدًّا، بِحَسَبِ مَا وَصَلَ إِلَى كُلٍّ مِنْهُمْ مِنَ الْعِلْمِ، وَتَفَاوَتُوا فِي ذَلِكَ تَفَاوُتًا كَثِيرًا، لَا سِيَّمَا مَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَنَحْنُ نُورِدُ بِحَمْدِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ وَحُسْنِ تَوْفِيقِهِ مَا ذَكَرَهُ الْأَئِمَّةُ فِي كُتُبِهِمْ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، وَنَجْمَعُ بَيْنَهَا جَمْعًا يُثْلِجُ قَلْبَ مَنْ تَأَمَّلَهُ وَأَنْعَمَ النَّظَرَ فِيهِ، وَجَمَعَ بَيْنَ طَرِيقَتَيِ الْحَدِيثِ وَفَهِمِ مَعَانِيهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِاللَّهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ. وَقَدْ
(7/404)
اعْتَنَى النَّاسُ بِحَجَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتِنَاءً كَثِيرًا مِنْ قُدَمَاءِ الْأَئِمَّةِ وَمُتَأَخِّرِيهِمْ، وَقَدْ صَنَّفَ الْعَلَّامَةُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ الْأَنْدَلُسِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، مُجَلَّدًا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَجَادَ فِي أَكْثَرِهِ، وَوَقَعَ لَهُ فِيهِ أَوْهَامٌ، سَنُنَبِّهُ عَلَيْهَا فِي مَوَاضِعِهَا، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
(7/405)
[بَيَانُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَحُجَّ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَّا حَجَّةً وَاحِدَةً وَأَنَّهُ اعْتَمَرَ قَبْلَهَا ثَلَاثَ عُمَرٍ]
بَابُ بَيَانِ أَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَحُجَّ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَّا حَجَّةً وَاحِدَةً وَأَنَّهُ اعْتَمَرَ قَبْلَهَا ثَلَاثَ عُمَرٍ
كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، عَنْ هُدْبَةَ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ عُمَرٍ، كُلُّهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، إِلَّا الَّتِي فِي حَجَّتِهِ.» الْحَدِيثَ. وَقَدْ رَوَاهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلَهُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ عُمَرٍ ; عُمْرَةٌ فِي شَوَّالٍ وَعُمْرَتَيْنِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ.» وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ.
(7/406)
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ اعْتَمَرَ ثَلَاثَ عُمَرٍ، كُلُّهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا أَبُو النَّضْرِ، ثَنَا دَاوُدُ - يَعْنِي الْعَطَّارَ - عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ عُمَرٍ ; عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَعُمْرَةُ الْقَضَاءِ، وَالثَّالِثَةُ مِنَ الْجِعْرَانَةِ، وَالرَّابِعَةُ الَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ.» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ دَاوُدَ الْعَطَّارِ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْفَصْلُ عِنْدَ عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ وَسَيَأْتِي فِي فَصْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، حَجَّ قَارِنًا. وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
فَالْأُولَى مِنْ هَذِهِ الْعُمَرِ عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ الَّتِي صُدَّ عَنْهَا، ثُمَّ بَعْدَهَا عُمْرَةُ الْقَضَاءِ - وَيُقَالُ: عُمْرَةُ الْقِصَاصِ. وَيُقَالُ: عُمْرَةُ الْقَضِيَّةِ - ثُمَّ بَعْدَهَا عُمْرَةُ الْجِعْرَانَةِ، مَرْجِعَهُ مِنَ الطَّائِفِ حِينَ قَسَّمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي مَوَاضِعِهِ، وَالرَّابِعَةُ عُمْرَتُهُ مَعَ حَجَّتِهِ، وَسَنُبَيِّنُ اخْتِلَافَ النَّاسِ فِي عُمْرَتِهِ هَذِهِ مَعَ الْحَجَّةِ ; هَلْ كَانَ مُتَمَتِّعًا بِأَنْ أَوْقَعَ الْعُمْرَةَ قَبْلَ الْحَجَّةِ وَحَلَّ مِنْهَا؟ أَوْ مَنَعَهُ مِنَ الْإِحْلَالِ مِنْهَا سَوْقُهُ الْهَدْيَ؟ أَوْ كَانَ قَارِنًا لَهَا مَعَ الْحَجَّةِ؟ كَمَا نَذْكُرُهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ كَانَ مُفْرِدًا لَهَا عَنِ الْحَجَّةِ بِأَنْ أَوْقَعَهَا بَعْدَ قَضَاءِ
(7/407)
الْحَجَّةِ؟ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُ بِالْإِفْرَادِ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا عِنْدَ ذِكْرِنَا إِحْرَامَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ كَانَ، مُفْرِدًا أَوَمُتَمَتِّعًا أَوْ قَارِنًا.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، ثَنَا زُهَيْرٌ، ثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا تِسْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، وَأَنَّهُ حَجَّ بَعْدَمَا هَاجَرَ حَجَّةً وَاحِدَةً. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَبِمَكَّةَ أُخْرَى. وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ زُهَيْرٍ، وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ - زَادَ الْبُخَارِيُّ: وَإِسْرَائِيلَ - ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السَّبِيعِيِّ، عَنْ زَيْدٍ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ مِنْ أَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، حَجَّ بِمَكَّةَ حَجَّةً أُخْرَى ; أَيْ أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ بِمَكَّةَ إِلَّا حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ لَفْظِهِ، فَهُوَ بَعِيدٌ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ بَعْدَ الرِّسَالَةِ يَحْضُرُ مَوَاسِمَ الْحَجِّ، وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى اللَّهِ وَيَقُولُ: «مَنْ رَجُلٌ يُؤْوِينِي حَتَّى أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي؟ فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ ".» حَتَّى قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ جَمَاعَةَ الْأَنْصَارِ يَلْقَوْنَهُ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، أَيْ عَشِيَّةَ يَوْمِ النَّحْرِ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، ثَلَاثَ سِنِينَ مُتَتَالِيَاتٍ، حَتَّى إِذَا كَانُوا آخِرَ سَنَةٍ بَايَعُوهُ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ ثَالِثُ اجْتِمَاعِهِ لَهُمْ بِهِ، ثُمَّ كَانَتْ بَعْدَهَا،
(7/408)
الْهِجْرَةُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي مَوْضِعِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي حَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ، ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ، فَاجْتَمَعَ بِالْمَدِينَةِ بَشَرٌ كَثِيرٌ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ أَوْ لِأَرْبَعٍ، فَلَمَّا كَانَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ صَلَّى، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَلَمَّا أَخَذَتْ بِهِ فِي الْبَيْدَاءِ لَبَّى، وَأَهْلَلْنَا لَا نَنْوِي إِلَّا الْحَجَّ.» وَسَيَأْتِي الْحَدِيثُ بِطُولِهِ، وَهُوَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " وَهَذَا لَفْظُ الْبَيْهَقِيِّ، مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ بِهِ.
(7/409)
[تَارِيخُ خُرُوجِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْمَدِينَةِ لِحَجَّةِ الْوَدَاعِ]
بَابُ تَارِيخِ خُرُوجِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، مِنَ الْمَدِينَةِ لِحَجَّةِ الْوَدَاعِ بَعْدَ مَا اسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا أَبَا دُجَانَةَ سِمَاكَ بْنَ خَرَشَةَ السَّاعِدِيَّ، وَيُقَالُ: سِبَاعُ بْنُ عُرْفُطَةَ الْغِفَارِيُّ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُو الْقَعْدَةِ - مِنْ سَنَةِ عَشْرٍ - تَجَهَّزَ لِلْحَجِّ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالْجِهَازِ لَهُ، فَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحَجِّ لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ.» وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ.
وَرَوَى الْإِمَامُ مَالِكٌ فِي " مُوَطَّئِهِ " عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ عَمْرَةَ عَنْهَا، وَهُوَ ثَابِتٌ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "، وَ " سُنَنِ
(7/410)
النَّسَائِيِّ " وَابْنِ مَاجَهْ وَ " مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ "، مِنْ طُرُقٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ لَا نُرَى إِلَّا الْحَجَّ.» الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، كَمَا سَيَأْتِي.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، ثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، ثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَخْبَرَنِي كُرَيْبٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «انْطَلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ بَعْدَ مَا تَرَجَّلَ وَادَّهَنَ، وَلَبِسَ إِزَارَهُ وَرِدَاءَهُ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْأَرْدِيَةِ وَلَا الْأُزُرِ إِلَّا الْمُزَعْفَرَةِ الَّتِي تَرْدَعُ عَلَى الْجِلْدِ، فَأَصْبَحَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، رَكِبَ رَاحِلَتَهُ حَتَّى اسْتَوَى عَلَى الْبَيْدَاءِ، وَذَلِكَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، فَقَدِمَ مَكَّةَ لِأَرْبَعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ.» تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ. فَقَوْلُهُ: وَذَلِكَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ. إِنْ أَرَادَ بِهِ صَبِيحَةَ يَوْمِهِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ صَحَّ قَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ فِي دَعْوَاهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَبَاتَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، وَأَصْبَحَ بِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ،
(7/411)
وَهُوَ الْيَوْمُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ. وَإِنْ أَرَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِقَوْلِهِ: وَذَلِكَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ. يَوْمَ انْطِلَاقِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْمَدِينَةِ بَعْدَمَا تَرَجَّلَ وَادَّهَنَ وَلَبِسَ إِزَارَهُ وَرِدَاءَهُ - كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ وَجَابِرٌ: إِنَّهُمْ خَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ - بَعُدَ قَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ وَتَعَذَّرَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، وَتَعَيَّنَ الْقَوْلُ بِغَيْرِهِ، وَلَمْ يَنْطَبِقْ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ، إِنْ كَانَ شَهْرُ ذِي الْقَعْدَةِ كَامِلًا.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خُرُوجُهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، مِنَ الْمَدِينَةِ كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ; لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا وُهَيْبٌ، ثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ مَعَهُ بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ بَاتَ بِهَا حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ رَكِبَ، حَتَّى اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ، حَمِدَ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، وَسَبَّحَ وَكَبَّرَ، ثُمَّ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ»
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ جَمِيعًا عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ»
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمَّدٍ - يَعْنِي ابْنَ
(7/412)
الْمُنْكَدِرِ - وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ» . وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِهِ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ أَنَسٍ بِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بُكَيْرٍ، ثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ بَاتَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ حَتَّى أَصْبَحَ، فَلَمَّا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَاسْتَوَتْ بِهِ أَهَلَّ.»
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا يَعْقُوبُ، ثَنَا أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ فِي مَسْجِدِهِ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ صَلَّى بِنَا الْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، آمِنًا لَا يَخَافُ، فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ الْآخَرَيْنِ وَهُمَا عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ، وَهَذَا يَنْفِي كَوْنَ خُرُوجِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَطْعًا، وَلَا يَجُوزُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ خُرُوجُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ كَمَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَوْمَ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ ;
(7/413)
لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ أَوَّلَ ذِي الْحِجَّةِ كَانَ يَوْمَ الْخَمِيسِ ; لِمَا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ وَالْإِجْمَاعِ مِنْ أَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَفَ بِعَرَفَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ تَاسِعُ ذِي الْحِجَّةِ بِلَا نِزَاعٍ، فَلَوْ كَانَ خُرُوجُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ الرَّابِعَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، لَبَقِيَ فِي الشَّهْرِ سِتُّ لَيَالٍ قَطْعًا ; لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ، وَالسَّبْتِ، وَالْأَحَدِ، وَالِاثْنَيْنِ، وَالثُّلَاثَاءِ، وَالْأَرْبِعَاءِ، فَهَذِهِ سِتُّ لَيَالٍ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةُ، وَجَابِرٌ: إِنَّهُ خَرَجَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ. وَتَعَذَّرَ أَنَّهُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ ; لِحَدِيثِ أَنَسٍ، فَتَعَيَّنَ عَلَى هَذَا أَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ يَوْمَ السَّبْتِ، وَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تَامًّا، فَاتَّفَقَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ نُقْصَانُهُ فَانْسَلَخَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَاسْتَهَلَّ شَهْرُ ذِي الْحِجَّةِ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ جَابِرٍ: لِخَمْسٍ بَقِينَ أَوْ أَرْبَعٍ. وَهَذَا التَّقْرِيرُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا مَحِيدَ عَنْهُ، وَلَا بُدَّ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(7/414)
[صِفَةُ خُرُوجِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ لِلْحَجِّ]
بَابُ صِفَةِ خُرُوجِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ لِلْحَجِّ
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، ثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ - هُوَ ابْنُ عُمَرَ - عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ طَرِيقِ الشَّجَرَةِ، وَيَدْخُلُ مِنْ طَرِيقِ الْمُعَرَّسِ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ الشَّجَرَةِ، وَإِذَا رَجَعَ صَلَّى بِذِي الْحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الْوَادِي، وَبَاتَ حَتَّى يُصْبِحَ.» تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: وَجَدْتُ فِي كِتَابِي، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ عَزْرَةَ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ ثُمَامَةَ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ عَلَى رَحْلٍ رَثٍّ، وَتَحْتَهُ قَطِيفَةٌ، وَقَالَ: " حَجَّةٌ لَا رِيَاءَ فِيهَا وَلَا سُمْعَةَ ".»
وَقَدْ عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " فَقَالَ: وَقَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ
(7/415)
الْمُقَدَّمِيُّ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ عَزْرَةَ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ ثُمَامَةَ قَالَ: «حَجَّ أَنَسٌ عَلَى رَحْلٍ رَثٍّ، وَلَمْ يَكُنْ شَحِيحًا. وَحَدَّثَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ عَلَى رَحْلٍ وَكَانَتْ زَامِلَتَهُ.» هَكَذَا ذَكَرَهُ الْبَزَّارُ وَالْبُخَارِيُّ مُعَلَّقًا، مَقْطُوعَ الْإِسْنَادِ مِنْ أَوَّلِهِ.
وَقَدْ أَسْنَدَهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " سُنَنِهِ " فَقَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْمُقْرِئُ، أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، ثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الْقَاضِي ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ ثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، فَذَكَرَهُ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوصِلِيُّ فِي " مُسْنَدِهِ " مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَقَالَ: «حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَنْبَأَنَا الرَّبِيعُ بْنُ صَبِيحٍ، عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَحْلٍ رَثٍّ، وَقَطِيفَةٍ تُسَاوِي - أَوْ لَا تُسَاوِي - أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ حَجَّةً لَا رِيَاءَ فِيهَا ".»
(7/416)
وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي " الشَّمَائِلِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ وَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ ثَلَاثَتُهُمْ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ صَبِيحٍ بِهِ. وَهُوَ إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ مِنْ جِهَةِ يَزِيدَ بْنِ أَبَانَ الرَّقَاشِيِّ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَقْبُولِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَاشِمٌ، ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «صَدَرْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ، فَمَرَّتْ بِنَا رُفْقَةٌ يَمَانِيَةٌ، وَرِحَالُهُمُ الْأُدُمُ وَخَطْمُ إِبِلِهِمُ الْجُرُرُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى أَشْبَهِ رُفْقَةٍ وَرَدَتِ الْعَامَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ إِذْ قَدِمُوا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذِهِ الرُّفْقَةِ.» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ هَنَّادٍ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ
(7/417)
الْعَاصِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، وَأَبُو طَاهِرٍ الْفَقِيهُ، وَأَبُو زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَسَنِ، وَأَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو قَالُوا: ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ - هُوَ الْأَصَمُّ - أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، أَنْبَأَنَا سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَكِيمٍ الْكِنَانِيُّ - رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ مَوَالِيهِمْ - عَنْ بِشْرِ بْنِ قُدَامَةَ الضِّبَابِيِّ قَالَ: «أَبَصَرَتْ عَيْنَايَ حِبِّي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفًا بِعَرَفَاتٍ مَعَ النَّاسِ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ حَمْرَاءَ قَصْوَاءَ، تَحْتَهُ قَطِيفَةٌ بَوْلَانِيَّةٌ وَهُوَ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا حَجَّةً غَيْرَ رِئَاءٍ وَلَا هَبَاءٍ وَلَا سُمْعَةٍ ". وَالنَّاسُ يَقُولُونَ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، ثَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: «خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّاجًا، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْعَرْجِ نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَتْ عَائِشَةُ إِلَى جَنْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَلَسْتُ إِلَى جَنْبِ أَبِي، وَكَانَتْ
(7/418)
زِمَالَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزِمَالَةُ أَبِي بَكْرٍ وَاحِدَةً مَعَ غُلَامِ أَبِي بَكْرٍ، فَجَلَسَ أَبُو بَكْرٍ يَنْتَظِرُ أَنْ يَطْلُعَ عَلَيْهِ فَطَلَعَ وَلَيْسَ مَعَهُ بَعِيرُهُ، فَقَالَ: أَيْنَ بَعِيرُكَ. فَقَالَ: أَضْلَلْتُهُ الْبَارِحَةَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَعِيرٌ وَاحِدٌ تُضِلُّهُ! فَطَفِقَ يَضْرِبُهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْتَسِمُ وَيَقُولُ: " انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْمُحْرِمِ وَمَا يَصْنَعُ ".» وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رِزْمَةَ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ بِهِ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي " مُسْنَدِهِ " قَائِلًا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ حَفْصٍ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، ثَنَا حَمْزَةُ الزَّيَّاتُ، عَنْ حُمْرَانَ بْنِ أَعْيَنَ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: «حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مُشَاةً مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ قَدْ رَبَطُوا أَوْسَاطَهُمْ، وَمَشْيُهُمْ خِلْطُ الْهَرْوَلَةِ» فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ ضَعِيفُ الْإِسْنَادِ، وَحَمْزَةُ بْنُ حَبِيبٍ الزَّيَّاتُ ضَعِيفٌ، وَشَيْخُهُ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ. وَقَدْ قَالَ الْبَزَّارُ: لَا يُرْوَى إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَإِنْ كَانَ إِسْنَادُهُ حَسَنًا عِنْدَنَا، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي عُمْرَةٍ إِنْ ثَبَتَ الْحَدِيثُ ; لِأَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، إِنَّمَا حَجَّ حَجَّةً وَاحِدَةً وَكَانَ رَاكِبًا وَبَعْضُ أَصْحَابِهِ مُشَاةً.
قُلْتُ: وَلَمْ يَعْتَمِرِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِنْ عُمَرِهِ مَاشِيًا ; لَا فِي الْحُدَيْبِيَةِ، وَلَا فِي الْقَضَاءِ، وَلَا الْجِعْرَانَةِ، وَلَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَأَحْوَالُهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
(7/419)
وَالسَّلَامُ، أَشْهَرُ وَأَعْرَفُ مِنْ أَنْ تَخْفَى عَلَى النَّاسِ، بَلْ هَذَا الْحَدِيثُ مُنْكَرٌ شَاذٌّ لَا يَثْبُتُ مِثْلُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[صَلَاةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَادِي الْعَقِيقِ]
فَصْلٌ (صَلَاةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَادِي الْعَقِيقِ)
تَقَدَّمَ أَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، صَلَّى الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، ثُمَّ رَكِبَ مِنْهَا إِلَى الْحُلَيْفَةِ، وَهِيَ وَادِي الْعَقِيقِ، فَصَلَّى بِهَا الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ جَاءَ الْحُلَيْفَةَ نَهَارًا فِي وَقْتِ الْعَصْرِ، فَصَلَّى بِهَا الْعَصْرَ قَصْرًا، وَهِيَ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، ثُمَّ صَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، وَبَاتَ بِهَا حَتَّى أَصْبَحَ فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ جَاءَهُ الْوَحْيُ مِنَ اللَّيْلِ بِمَا يَعْتَمِدُهُ فِي الْإِحْرَامِ.
كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ ثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أُتِيَ فِي الْمُعَرَّسِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ.» وَأَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ بِهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، ثَنَا الْوَلِيدُ وَبِشْرُ بْنُ بَكْرٍ قَالَا: ثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، ثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنِي عِكْرِمَةُ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ
(7/420)
يَقُولُ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَادِي الْعَقِيقِ يَقُولُ: " أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي، فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ وَقُلْ: عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ» ". تَفَرَّدَ بِهِ دُونَ مُسْلِمٍ. فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمَرَهُ عَلَيْهِ، الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، بِالصَّلَاةِ فِي وَادِي الْعَقِيقِ هُوَ أَمْرٌ بِالْإِقَامَةِ بِهِ إِلَى أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الظُّهْرِ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ إِنَّمَا جَاءَهُ فِي اللَّيْلِ، وَأَخْبَرَهُمْ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا صَلَاةُ الظُّهْرِ، فَأُمِرَ أَنْ يُصَلِّيَهَا هُنَالِكَ، وَأَنْ يُوقِعَ الْإِحْرَامَ بَعْدَهَا، وَلِهَذَا قَالَ: " أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ وَقُلْ: عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ ". وَقَدِ احْتُجَّ بِهِ عَلَى الْأَمْرِ بِالْقِرَانِ فِي الْحَجِّ، وَهُوَ مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ قَرِيبًا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أُمِرَ بِالْإِقَامَةِ بِوَادِي الْعَقِيقِ إِلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَقَدِ امْتَثَلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَأَقَامَ هُنَالِكَ، وَطَافَ عَلَى نِسَائِهِ فِي تِلْكَ الصَّبِيحَةِ، وَكُنَّ تِسْعَ نِسْوَةٍ، وَكُلُّهُنَّ خَرَجَ مَعَهُ وَلَمْ يَزَلْ هُنَالِكَ حَتَّى صَلَّى الظُّهْرَ. كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ أَبِي حَسَّانَ الْأَعْرَجِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ أَشْعَرَ بَدَنَتَهُ ثُمَّ رَكِبَ فَأَهَلَّ» . وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ.
وَهَكَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، ثَنَا أَشْعَثُ - هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ - عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ
(7/421)
رَاحِلَتَهُ فَلَمَّا عَلَا شَرَفَ الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ.»
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَالنَّسَائِيِّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ عَنِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ عَنْ أَشْعَثَ، بِمَعْنَاهُ، وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْأَزْهَرِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَشْعَثَ أَتَمَّ مِنْهُ. وَهَذَا فِيهِ رَدٌّ عَلَى ابْنِ حَزْمٍ حَيْثُ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ فِي صَدْرِ النَّهَارِ.
وَلَهُ أَنْ يَعْتَضِدَ بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاتَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ حَتَّى أَصْبَحَ، فَصَلَّى الصُّبْحَ ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ الْبَيْدَاءَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَحَجٍّ.» وَلَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ رَجُلٌ مُبْهَمٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَبُو قِلَابَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(7/422)
قَالَ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ ": حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ، ثَنَا خَالِدٌ - يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ - ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ قَالَ: «سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ، ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِمًا يَنْضَحُ طِيبًا»
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ - زَادَ مُسْلِمٌ: وَمِسْعَرٍ وَسُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ الثَّوْرِيِّ - أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ بِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ عَنِ الرَّجُلِ يَتَطَيَّبُ ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِمًا. قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنِّي أُصْبِحُ مُحْرِمًا أَنْضَحُ طِيبًا لَأَنْ أَطَّلِيَ بِقَطِرَانٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَنَا طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ إِحْرَامِهِ، ثُمَّ طَافَ فِي
(7/423)
نِسَائِهِ ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا.» وَهَذَا اللَّفْظُ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَطَيَّبُ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ عَلَى نِسَائِهِ، وَكَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَطَيَّبَ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ عَلَى نِسَائِهِ ; لِيَكُونَ ذَلِكَ أَطْيَبَ لِنَفْسِهِ وَأَحَبَّ إِلَيْهِنَّ، ثُمَّ لَمَّا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ وَلِلْإِحْرَامِ تَطَيَّبَ أَيْضًا لِلْإِحْرَامِ طِيبًا آخَرَ.
كَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَجَرَّدَ لِإِهْلَالِهِ وَاغْتَسَلَ.» وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ عَدِيٍّ، أَنْبَأَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ غَسَلَ رَأْسَهُ بِخَطْمِيٍّ وَأُشْنَانٍ، وَدَهَنَهُ بِشَيْءٍ مِنْ زَيْتٍ غَيْرِ كَثِيرٍ.» الْحَدِيثُ تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُرْوَةَ، سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: «سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: طَيَّبْتُ
(7/424)
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُرْمِهِ وَلِحِلِّهِ. قُلْتُ لَهَا: بِأَيِّ طِيبٍ؟ قَالَتْ: بِأَطْيَبِ الطِّيبِ.» وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ وُهَيْبٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَخِيهِ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ بِهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَنْبَأَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِحْرَامِهِ حِينَ يُحْرِمُ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ.»
وَقَالَ مُسْلِمٌ: حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَنْبَأَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ وَالْقَاسِمَ يُخْبِرَانِهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيَّ بِذَرِيرَةٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ لِلْحِلِّ وَالْإِحْرَامِ» .
وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ،
(7/425)
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيَّ هَاتَيْنِ لِحُرْمِهِ حِينَ أَحْرَمَ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ.»
وَقَالَ مُسْلِمٌ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، وَيَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ، قَالَا: ثَنَا هُشَيْمٌ، أَنْبَأَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كُنْتُ أُطَيِّبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَيَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ بِطِيبٍ فِيهِ مِسْكٌ.»
وَقَالَ مُسْلِمٌ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالَا: ثَنَا وَكِيعٌ، ثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الْمِسْكِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُلَبِّي.»
ثُمَّ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الْمِسْكِ فِي مَفْرِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ.» وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، كِلَاهُمَا عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ
(7/426)
عَنْهَا. وَأَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي أُصُولِ شَعْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ.»
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، أَنَا حَمَّادٌ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفْرِقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَيَّامٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ.»
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ: ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، ثَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «رَأَيْتُ الطِّيبَ
(7/427)
فِي مَفْرِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ثَالِثَةٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ.»
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، تَطَيَّبَ بَعْدَ الْغُسْلِ، إِذْ لَوْ كَانَ الطِّيبُ قَبْلَ الْغُسْلِ لَذَهَبَ بِهِ الْغُسْلُ، وَلَمَا بَقِيَ لَهُ أَثَرٌ، وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ يَوْمِ الْإِحْرَامِ، وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ، مِنْهُمُ ابْنُ عُمَرَ إِلَى كَرَاهَةِ التَّطَيُّبِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ.
وَقَدْ رَوَيْنَا هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عَائِشَةَ ; فَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ بِبَغْدَادَ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمِصْرِيُّ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ، ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الْغَمْرِ، ثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغَالِيَةِ الْجَيِّدَةِ عِنْدَ إِحْرَامِهِ.» وَهَذَا إِسْنَادٌ غَرِيبٌ عَزِيزُ الْمَخْرَجِ، ثُمَّ إِنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لَبَّدَ رَأْسَهُ لِيَكُونَ أَحْفَظَ لِمَا فِيهِ مِنَ الطِّيبِ، وَأَصْوَنَ لَهُ مِنَ اسْتِقْرَارِ التُّرَابِ وَالْغُبَارِ. قَالَ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: إِنَّ حَفْصَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا مِنَ الْعُمْرَةِ وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ قَالَ: " إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي، وَقَلَّدْتُ هَدْيِي فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ ".» وَأَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ
(7/428)
مَالِكٍ وَلَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ عَنْ نَافِعٍ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا الْحَاكِمُ، أَنْبَأَنَا الْأَصَمُّ، أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، ثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبَّدَ رَأْسَهُ بِالْغُسْلِ. وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ، ثُمَّ إِنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَشْعَرَ الْهَدْيَ وَقَلَّدَهُ وَكَانَ مَعَهُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ.»
قَالَ اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ: «تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ وَأَهْدَى، فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ.» وَسَيَأْتِي الْحَدِيثُ بِتَمَامِهِ وَهُوَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَالَ مُسْلِمٌ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، ثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي حَسَّانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَتَى ذَا الْحُلَيْفَةِ دَعَا بِنَاقَتِهِ فَأَشْعَرَهَا فِي صَفْحَةِ سَنَامِهَا الْأَيْمَنِ، وَسَلَتَ الدَّمَ وَقَلَّدَهَا
(7/429)
نَعْلَيْنِ، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ» وَقَدْ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ قَتَادَةَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، تَعَاطَى هَذَا الْإِشْعَارَ وَالتَّقْلِيدَ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ فِي هَذِهِ الْبَدَنَةِ، وَتَوَلَّى إِشْعَارَ بَقِيَّةِ الْهَدْيِ وَتَقْلِيدَهُ غَيْرُهُ، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ هَدْيٌ كَثِيرٌ ; إِمَّا مِائَةُ بَدَنَةٍ، أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا بِقَلِيلٍ، وَقَدْ ذَبَحَ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً، وَأَعْطَى عَلِيًّا فَذَبَحَ مَا غَبَرَ.
وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ عَلِيًّا قَدِمَ مِنَ الْيَمَنِ بِبُدْنٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي سِيَاقِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَشْرَكَ عَلِيًّا فِي بُدْنِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهُ ذَبَحَ هُوَ وَعَلِيٌّ يَوْمَ النَّحْرِ مِائَةَ بَدَنَةٍ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَدْ سَاقَهَا مَعَهُ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَقَدْ يَكُونُ اشْتَرَى بَعْضَهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَهُوَ مُحْرِمٌ.
(7/430)
[الْمَوْضِعُ الَّذِي أَهَلَّ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ]
بَابُ بَيَانِ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَهَلَّ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَاخْتِلَافِ النَّاقِلِينَ لِذَلِكَ، وَتَرْجِيحِ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ
ذِكْرُ مَنْ قَالَ أَنَّهُ أَحْرَمَ مِنَ الْمَسْجِدِ الَّذِي بِذِي الْحُلَيْفَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ
تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَادِي الْعَقِيقِ يَقُولُ: " أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ وَقُلْ: عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ ".»
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: بَابُ الْإِهْلَالِ عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، ثَنَا سُفْيَانُ، ثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، سَمِعْتُ بْنَ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، ثَنَا مَالِكٌ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُولُ: «مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ. يَعْنِي مَسْجِدَ ذِي الْحُلَيْفَةِ.» وَقَدْ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ
(7/431)
عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ وَنَافِعٍ وَحَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَذَكَرَهُ، وَزَادَ: فَقَالَ: " لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ". وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ قَالَ: «قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: بَيْدَاؤُكُمْ هَذِهِ الَّتِي تَكْذِبُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا، مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ.»
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ خِلَافُ هَذَا كَمَا يَأْتِي فِي الشِّقِّ الْآخَرِ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَذَكَرَ حَدِيثًا فِيهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ: «وَأَمَّا الْإِهْلَالُ فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ.»
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي خُصَيْفُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجَزَرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: «قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: يَا أَبَا الْعَبَّاسِ، عَجَبًا لِاخْتِلَافِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِهْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَوْجَبَ! فَقَالَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ النَّاسِ بِذَلِكَ، إِنَّمَا كَانَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَمِنْ هُنَاكَ اخْتَلَفُوا ; خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاجًّا، فَلَمَّا صَلَّى فِي مَسْجِدِهِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْهِ أَوْجَبَ فِي مَجْلِسِهِ، فَأَهَلَّ بِالْحَجِّ حِينَ فَرَغَ مِنْ رَكْعَتَيْهِ.» فَسَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ أَقْوَامٌ، فَحَفِظُوا عَنْهُ، ثُمَّ رَكِبَ فَلَمَّا اسْتَقَلَّتْ بِهِ نَاقَتُهُ أَهَلَّ، وَأَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْهُ أَقْوَامٌ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ إِنَّمَا كَانُوا يَأْتُونَ أَرْسَالًا، فَسَمِعُوهُ
(7/432)
حِينَ اسْتَقَلَّتْ بِهِ نَاقَتُهُ يُهِلُّ، فَقَالُوا: إِنَّمَا أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ حِينَ اسْتَقَلَّتْ بِهِ نَاقَتُهُ. ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا عَلَا شَرَفَ الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ، وَأَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْهُ أَقْوَامٌ، فَقَالُوا: إِنَّمَا أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ حِينَ عَلَا شَرَفَ الْبَيْدَاءِ. وَايْمُ اللَّهِ لَقَدْ أَوْجَبَ فِي مُصَلَّاهُ، وَأَهَلَّ حِينَ اسْتَقَلَّتْ بِهِ نَاقَتُهُ، وَأَهَلَّ حِينَ عَلَا شَرَفَ الْبَيْدَاءِ. فَمَنْ أَخَذَ بِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَهَلَّ فِي مُصَلَّاهُ إِذَا فَرَغَ مِنْ رَكْعَتَيْهِ. وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ جَمِيعًا، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ خُصَيْفٍ بِهِ نَحْوَهُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُ أَحَدًا رَوَاهُ غَيْرَ عَبْدِ السَّلَامِ. كَذَا قَالَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ رِوَايَةُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لَهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْقَطِيعِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِيهِ، ثُمَّ قَالَ: خُصَيْفٌ الْجَزَرِيُّ غَيْرُ قَوِيٍّ، وَقَدْ رَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ بِإِسْنَادٍ لَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِلَّا أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ مُتَابَعَةُ الْوَاقِدِيِّ، وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ أَسَانِيدُهَا قَوِيَّةٌ ثَابِتَةٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قُلْتُ: فَلَوْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ لَكَانَ فِيهِ جَمْعٌ لِمَا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ مِنَ الِاخْتِلَافِ، وَبَسْطُ الْعُذْرِ لِمَنْ نَقَلَ خِلَافَ الْوَاقِعِ، وَلَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، ثُمَّ قَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ عَنْهُمَا، كَمَا سَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ وَنُبَيِّنُهُ، وَهَكَذَا ذَكَرَ مَنْ قَالَ أَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَهَلَّ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ.
(7/433)
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، أَنْبَأَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَبِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ بَاتَ حَتَّى أَصْبَحَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، فَلَمَّا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَاسْتَوَتْ بِهِ أَهَلَّ» وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَأَهْلُ السُّنَنِ، مِنْ طُرُقٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ أَنَسٍ.
وَثَابِتٌ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «وَأَمَّا الْإِهْلَالُ فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ» .
وَأَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يَرْكَبُ رَاحِلَتَهُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، ثُمَّ يُهِلُّ حِينَ تَسْتَوِي بِهِ قَائِمَةً»
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: بَابُ مَنْ أَهَلَّ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، ثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «أَهَلَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً.» وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِهِ.
(7/434)
وَقَالَ مُسْلِمٌ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ وَانْبَعَثَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً أَهَلَّ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ.» انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَأَخْرَجَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: بَابُ الْإِهْلَالِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، قَالَ أَبُو مَعْمَرٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: «كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَرُحِلَتْ، ثُمَّ رَكِبَ، فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ قَائِمًا، ثُمَّ يُلَبِّي حَتَّى يَبْلُغَ الْحَرَمَ، ثُمَّ يُمْسِكُ، حَتَّى إِذَا جَاءَ ذَا طُوًى بَاتَ بِهِ حَتَّى يُصْبِحَ، فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ اغْتَسَلَ، وَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ ذَلِكَ.» ثُمَّ قَالَ: تَابَعَهُ إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ فِي الْغُسْلِ. وَقَدْ عَلَّقَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِ الْحَجِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ. وَأَسْنَدَهُ فِيهِ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيِّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ هُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَعَنْ أَبِي الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيِّ وَغَيْرِهِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ السَّخْتِيَانِيِّ بِهِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ
(7/435)
حَنْبَلٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ أَبُو الرَّبِيعِ، ثَنَا فُلَيْحٌ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: «كَانَ ابْنُ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى مَكَّةَ ادَّهَنَ بِدُهْنٍ لَيْسَ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، ثُمَّ يَأْتِي مَسْجِدَ ذِي الْحُلَيْفَةِ فَيُصَلِّي، ثُمَّ يَرْكَبُ فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً أَحْرَمَ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ.» تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «بَيْدَاؤُكُمْ هَذِهِ الَّتِي تَكْذِبُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا، وَاللَّهِ مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ حِينَ قَامَ بِهِ بَعِيرُهُ.» وَهَذَا الْحَدِيثُ يَجْمَعُ بَيْنَ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ الْأُولَى وَهَذِهِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّ الْإِحْرَامَ كَانَ مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ، وَلَكِنْ بَعْدَمَا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَاسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ - يَعْنِي الْأَرْضَ - وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْمَكَانِ الْمَعْرُوفِ بِالْبَيْدَاءِ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، ثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، ثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، حَدَّثَنِي كُرَيْبٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ،
(7/436)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «انْطَلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ بَعْدَمَا تَرَجَّلَ وَادَّهَنَ وَلَبِسَ إِزَارَهُ وَرِدَاءَهُ، هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَلَمْ يَنْهَ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْأَرْدِيَّةِ وَالْأُزُرِ تُلْبَسُ إِلَّا الْمُزَعْفَرَةَ الَّتِي تَرْدَعُ عَلَى الْجِلْدِ، فَأَصْبَحَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، حَتَّى اسْتَوَى عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَقَلَّدَ بُدْنَهُ، وَذَلِكَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، فَقَدِمَ مَكَّةَ لِأَرْبَعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلَمْ يُحِلَّ مِنْ أَجْلِ بُدْنِهِ ; لِأَنَّهُ قَلَّدَهَا، ثُمَّ نَزَلَ بِأَعْلَى مَكَّةَ عِنْدَ الْحَجُونِ وَهُوَ مُهِلٌ بِالْحَجِّ، وَلَمْ يَقْرَبِ الْكَعْبَةَ بَعْدَ طَوَافِهِ بِهَا حَتَّى رَجَعَ مِنْ عَرَفَةَ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ يُقَصِّرُوا مِنْ رُءُوسِهِمْ، ثُمَّ يُحِلُّوا، وَذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ بَدَنَةٌ قَلَّدَهَا، وَمَنْ كَانَتْ مَعَهُ امْرَأَتُهُ فَهِيَ لَهُ حَلَالٌ، وَالطِّيبُ وَالثِّيَابُ» انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ بَهْزِ بْنِ أَسَدٍ وَحَجَّاجٍ، وَرَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ، وَعَفَّانَ بْنِ مُسْلِمٍ، كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي قَتَادَةُ قَالَ: «سَمِعْتُ أَبَا حَسَّانَ الْأَعْرَجَ الْأَجْرَدَ وَهُوَ مُسْلِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، ثُمَّ دَعَا بِبَدَنَتِهِ فَأَشْعَرَ صَفْحَةَ سَنَامِهَا الْأَيْمَنِ، وَسَلَتَ الدَّمَ عَنْهَا، وَقَلَّدَهَا نَعْلَيْنِ، ثُمَّ دَعَا بِرَاحِلَتِهِ، فَلَمَّا اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ.» وَرَوَاهُ أَيْضًا، عَنْ هُشَيْمٍ، أَنْبَأَنَا أَصْحَابُنَا، مِنْهُمْ شُعْبَةُ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. ثُمَّ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ رَوْحٍ، وَأَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، وَوَكِيعِ
(7/437)
بْنِ الْجَرَّاحِ، كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ بِهِ نَحْوَهُ. وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " وَأَهْلُ السُّنَنِ فِي كُتُبِهِمْ.
فَهَذِهِ الطُّرُقُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَنَّهُ، ( «عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَهَلَّ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ أَصَحُّ» وَأَثْبَتُ مِنْ رِوَايَةِ خُصَيْفٍ الْجَزَرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَكَذَا الرِّوَايَةُ الْمُثْبِتَةُ الْمُفَسِّرَةُ أَنَّهُ أَهَلَّ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ الرَّاحِلَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْأُخْرَى، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أَحْرَمَ مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، وَيَكُونُ رِوَايَةُ رُكُوبِهِ الرَّاحِلَةَ فِيهَا زِيَادَةُ عِلْمٍ عَلَى الْأُخْرَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرِوَايَةُ أَنَسٍ فِي ذَلِكَ سَالِمَةٌ عَنِ الْمُعَارِضِ، وَهَكَذَا رِوَايَةُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ زَيْنِ الْعَابِدِينَ، عَنْ جَابِرٍ فِي حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ الَّذِي سَيَأْتِي، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ. سَالِمَةٌ عَنِ الْمُعَارِضِ.» وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ، سَمِعْتُ عَطَاءً، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، «أَنَّ إِهْلَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ.»
(7/438)
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ قَالَتْ: «قَالَ سَعْدٌ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَخَذَ طَرِيقَ الْفُرْعِ أَهَلَّ إِذَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، وَإِذَا أَخَذَ طَرِيقَ أُحُدٍ أَهَلَّ إِذَا عَلَا عَلَى شَرَفِ الْبَيْدَاءِ.» فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيُّ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَفِيهِ غَرَابَةٌ وَنَكَارَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَهَذِهِ الطُّرُقُ كُلُّهَا دَالَّةٌ - عَلَى الْقَطْعِ أَوِ الظَّنِّ الْغَالِبِ - أَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَحْرَمَ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَبَعْدَمَا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَابْتَدَأَتْ بِهِ السَّيْرَ. زَادَ ابْنُ عُمَرَ فِي رِوَايَتِهِ: وَهُوَ مُسْتَقْبِلٌ الْقِبْلَةَ.
(7/439)
[بَسْطُ الْبَيَانِ لِمَا أَحْرَمَ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَجَّتِهِ هَذِهِ مِنَ الْإِفْرَادِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ]
بَابُ بَسْطِ الْبَيَانِ لِمَا أَحْرَمَ بِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فِي حَجَّتِهِ هَذِهِ مِنَ الْإِفْرَادِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ
ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِأَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَانَ مُفْرِدًا
رِوَايَةُ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ: أَنْبَأَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ الْحَجَّ.» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي أُوَيْسٍ، وَيَحْيَى بْنِ يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ. وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنِي الْمُنْكَدِرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ الْحَجَّ»
(7/440)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا سُرَيْجٌ، ثَنَا ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، وَعَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ عَائِشَةَ، وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ الْحَجَّ» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ عَنْهَا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ الْحَجَّ»
وَقَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، ثَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ - وَكَانَ يَتِيمًا فِي حِجْرِ عُرْوَةَ - عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ الْحَجَّ.» وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ كَذَلِكَ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ بِالْحَجِّ.»
وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ، فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ فَأَحَلُّوا حِينَ طَافُوا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ أَوْ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَلَمْ يُحِلُّوا إِلَى يَوْمِ النَّحْرِ.» وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
(7/441)
بْنِ يُوسُفَ وَالْقَعْنَبِيِّ وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ مَالِكٍ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ، وَأَهَلَّ نَاسٌ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَأَهَلَّ نَاسٌ بِالْعُمْرَةِ.» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بِهِ نَحْوَهُ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ النَّاسَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ: " مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَبْدَأَ بِعُمْرَةٍ قَبْلَ الْحَجِّ فَلْيَفْعَلْ ". وَأَفْرَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَّ وَلَمْ يَعْتَمِرْ.» فَإِنَّهُ حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَكِنْ لَفْظُهُ فِيهِ نَكَارَةٌ شَدِيدَةٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَلَمْ يَعْتَمِرْ. فَإِنْ أُرِيدَ بِهَذَا أَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ مَعَ الْحَجِّ وَلَا قَبْلَهُ، فَهُوَ قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى الْإِفْرَادِ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ بِالْكُلِّيَّةِ لَا قَبْلَ الْحَجِّ وَلَا مَعَهُ وَلَا بَعْدَهُ، فَهَذَا مِمَّا لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْعُلَمَاءِ قَالَ بِهِ، ثُمَّ هُوَ مُخَالِفٌ لِمَا صَحَّ عَنْ عَائِشَةَ وَغَيْرِهَا مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ، كُلُّهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ إِلَّا الَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ. وَسَيَأْتِي تَقْرِيرُ هَذَا فِي فَصْلِ الْقِرَانِ مُسْتَقْصًى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَكَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ قَائِلًا فِي " مُسْنَدِهِ ": حَدَّثَنَا
(7/442)
رَوْحٌ، ثَنَا صَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَخْضَرِ، ثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، أَنَّ عُرْوَةَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: «أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ، وَأَهَلَّ نَاسٌ بِالْعُمْرَةِ وَسَاقُوا الْهَدْيَ، وَأَهَلَّ نَاسٌ بِالْعُمْرَةِ وَلَمْ يَسُوقُوا هَدْيًا. قَالَتْ عَائِشَةُ: وَكُنْتُ مِمَّنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ وَلَمْ أَسُقْ هَدْيًا، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلَا يَحِلُّ مِنْهُ شَيْءٌ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ وَيَنْحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ وَلَمْ يَسُقْ مَعَهُ هَدْيًا فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ لْيُقَصِّرْ وَلْيُحْلِلْ، ثُمَّ لْيُهِلَّ بِالْحَجِّ وَلْيُهْدِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ ". قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَّ الَّذِي خَافَ فَوْتَهُ، وَأَخَّرَ الْعُمْرَةَ.» فَهُوَ حَدِيثٌ مِنْ أَفْرَادِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ نَكَارَةٌ، وَلِبَعْضِهِ شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحِ، وَصَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَخْضَرِ لَيْسَ مِنْ عِلْيَةِ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ، لَا سِيَّمَا إِذَا خَالَفَهُ غَيْرُهُ، كَمَا هَاهُنَا فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ سِيَاقِهِ هَذَا. وَقَوْلُهُ: فَقَدَّمَ الْحَجَّ الَّذِي يَخَافُ فَوْتَهُ وَأَخَّرَ الْعُمْرَةَ. لَا يَلْتَئِمُ مَعَ أَوَّلِ الْحَدِيثِ: أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. فَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ أَهَلَّ بِهِمَا فِي الْجُمْلَةِ وَقَدَّمَ أَفْعَالَ الْحَجِّ، ثُمَّ بَعْدَ فَرَاغِهِ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ - كَمَا يَقُولُهُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى الْإِفْرَادِ - فَهُوَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ هَاهُنَا، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ أَخَّرَ الْعُمْرَةَ بِالْكُلِّيَّةِ بَعْدَ إِحْرَامِهِ بِهَا فَهَذَا لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْعُلَمَاءِ صَارَ إِلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ الْمَقْضِيُّ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ عَنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ، وَدَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ، فَهَذَا قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى الْقِرَانِ، وَهُمْ يُؤَوِّلُونَ قَوْلَ مَنْ رَوَى أَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَفْرَدَ الْحَجَّ. أَيْ أَفْرَدَ أَفْعَالَ الْحَجِّ وَإِنْ
(7/443)
كَانَ قَدْ نَوَى مَعَهُ الْعُمْرَةَ، قَالُوا: لِأَنَّهُ قَدْ رَوَى الْقِرَانَ كُلُّ مَنْ رَوَى الْإِفْرَادَ. كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
رِوَايَةُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي الْإِفْرَادِ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، ثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْحَجِّ.» إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ. عَنِ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ فِي حَجَّتِهِ بِالْحَجِّ لَيْسَ مَعَهُ عُمْرَةٌ.» وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ غَرِيبَةٌ جِدًّا، وَرِوَايَةُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَحْفَظُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «أَهَلَلْنَا بِالْحَجِّ لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ» .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ وَحَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، كِلَاهُمَا عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ الْحَجَّ.» وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، ثَنَا حَبِيبٌ - يَعْنِي الْمُعَلِّمَ -
(7/444)
عَنْ عَطَاءٍ، حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ، لَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ إِلَّا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَلْحَةَ.» وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ، وَهُوَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " بِطُولِهِ، كَمَا سَيَأْتِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ.
رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ لِلْإِفْرَادِ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا عَبَّادٌ - يَعْنِي ابْنَ عَبَّادٍ - حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «أَهْلَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ مُفْرَدًا»
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ "، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبَّادٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ بِالْحَجِّ مُفْرَدًا»
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمُحَمَّدُ بْنُ مِسْكِينٍ، قَالَا: ثَنَا بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ بِالْحَجِّ.» يَعْنِي مُفْرَدًا. إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَلَمْ يُخْرِجُوهُ.
رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِلْإِفْرَادِ: رَوَى الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ رَوْحِ بْنِ
(7/445)
عُبَادَةَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الْبَرَّاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ، فَقَدِمَ لِأَرْبَعٍ مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَصَلَّى بِنَا الصُّبْحَ بِالْبَطْحَاءِ، ثُمَّ قَالَ: " مَنْ شَاءَ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً فَلْيَجْعَلْهَا ".» ثُمَّ قَالَ: رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ رَوْحٍ.
وَتَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي حَسَّانَ الْأَعْرَجِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، ثُمَّ أَتَى بِبَدَنَةٍ فَأَشْعَرَ صَفْحَةَ سَنَامِهَا الْأَيْمَنِ، ثُمَّ أَتَى بِرَاحِلَتِهِ فَرَكِبَهَا، فَلَمَّا اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ.» وَهُوَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " أَيْضًا.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيُّ: ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا أَبُو هِشَامٍ، ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، ثَنَا أَبُو حَصِينٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَجَجْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فَجَرَّدَ، وَمَعَ عُمَرَ فَجَرَّدَ، وَمَعَ عُثْمَانَ فَجَرَّدَ. تَابَعَهُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ. وَهَذَا إِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ هَاهُنَا لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، إِنَّمَا يَفْعَلُونَ هَذَا عَنْ تَوْقِيفٍ، وَالْمُرَادُ بِالتَّجْرِيدِ هَاهُنَا الْإِفْرَادُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: ثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدٍ، قَالَا: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْبَزَّازُ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى الْحَجِّ فَأَفْرَدَ، ثُمَّ اسْتَعْمَلَ أَبَا بَكْرٍ سَنَةَ تِسْعٍ فَأَفْرَدَ الْحَجَّ، ثُمَّ حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَةَ عَشْرٍ فَأَفْرَدَ الْحَجَّ، ثُمَّ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ، فَبَعَثَ عُمَرَ فَأَفْرَدَ الْحَجَّ، ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ فَأَفْرَدَ الْحَجَّ، وَتُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ وَاسْتُخْلِفَ عُمَرُ، فَبَعَثَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فَأَفْرَدَ الْحَجَّ، ثُمَّ حَجَّ عُمَرُ سِنِيهِ كُلَّهَا فَأَفْرَدَ الْحَجَّ، ثُمَّ تُوُفِّيَ عُمَرُ وَاسْتُخْلِفَ عُثْمَانُ فَأَفْرَدَ الْحَجَّ، ثُمَّ حُصِرَ عُثْمَانُ، فَأَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ لِلنَّاسِ فَأَفْرَدَ الْحَجَّ» . فِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، لَكِنْ قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: لَهُ شَاهِدٌ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
[ذِكْرُ مَنْ قَالَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ مُتَمَتِّعًا]
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، ثَنَا لَيْثٌ، حَدَّثَنَا عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: «تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ وَأَهْدَى، فَسَاقَ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، وَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَكَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى فَسَاقَ الْهَدْيَ مِنْ ذِي
(7/446)
الْحُلَيْفَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ قَالَ لِلنَّاسِ: " مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى فَإِنَّهُ لَا يُحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ وَلْيُحْلِلْ، ثُمَّ لْيُهِلَّ بِالْحَجِّ وَلْيُهْدِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ ". وَطَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ، اسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَيْءٍ، ثُمَّ خَبَّ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ مِنَ السَّبْعِ، وَمَشَى أَرْبَعَةَ أَطْوَافٍ، ثُمَّ رَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَانْصَرَفَ، فَأَتَى الصَّفَا فَطَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ لَمْ يُحْلِلْ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَأَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَهْدَى فَسَاقَ الْهَدْيَ مِنَ النَّاسِ»
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، ثَنَا لَيْثٌ، حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَمَتُّعِهِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، وَتَمَتُّعِ النَّاسِ مَعَهُ بِمِثْلِ الَّذِي أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْبُخَارِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ شُعَيْبٍ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ أَبِيهِ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ الْمُخَرَّمِيِّ، عَنْ حُجَيْنِ بْنِ الْمُثَنَّى، ثَلَاثَتُهُمْ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ
(7/448)
بِهِ. وَأَخْرَجَاهُ صَاحِبَا " الصَّحِيحِ " مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ كَمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ ; أَمَّا قَوْلُ الْإِفْرَادِ فَفِي هَذَا إِثْبَاتُ عُمْرَةٍ إِمَّا قَبْلَ الْحَجِّ أَوْ مَعَهُ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ التَّمَتُّعِ الْخَاصِّ فَلِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يُحِلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ بَعْدَمَا طَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلَيْسَ هَذَا شَأْنَ الْمُتَمَتِّعِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ إِنَّمَا مَنَعَهُ مِنَ التَّحَلُّلِ سَوْقُ الْهَدْيِ كَمَا قَدْ يُفْهَمُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «عَنْ حَفْصَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا مِنَ الْعُمْرَةِ وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ فَقَالَ: " إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي، وَقَلَّدْتُ هَدْيِي، فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ ".» فَقَوْلُهُمْ بِعِيدٌ ; لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي إِثْبَاتِ الْقِرَانِ تَرُدُّ هَذَا الْقَوْلَ وَتَأْبَى كَوْنَهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، إِنَّمَا أَهَلَّ أَوَّلًا بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ بَعْدَ سَعْيِهِ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، فَإِنَّ هَذَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، بَلْ وَلَا حَسَنٍ وَلَا ضَعِيفٍ. وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ. إِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ التَّمَتُّعُ الْخَاصُّ، وَهُوَ الَّذِي يُحِلُّ مِنْهُ بَعْدَ السَّعْيِ، فَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ فِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ مَا يَرُدُّهُ، ثُمَّ فِي إِثْبَاتِ الْعُمْرَةِ الْمُقَارِنَةِ لِحَجِّهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، مَا يَأْبَاهُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ التَّمَتُّعُ الْعَامُّ دَخَلَ فِيهِ الْقِرَانُ، وَهُوَ الْمُرَادُ. وَقَوْلُهُ: «وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ. إِنْ أُرِيدَ بِهِ بَدَأَ بِلَفْظِ الْعُمْرَةِ عَلَى لَفْظِ الْحَجِّ بِأَنْ قَالَ: " لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ عُمْرَةً وَحَجًّا ".» فَهَذَا سَهْلٌ وَلَا يُنَافِي الْقِرَانَ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ أَهَلَّ
(7/449)
بِالْعُمْرَةِ أَوَّلًا، ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ بِتَرَاخٍ، وَلَكِنْ قَبْلَ الطَّوَافِ، قَدْ صَارَ قَارِنًا أَيْضًا، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ فَرَغَ مِنْ أَفْعَالِهَا تَحَلَّلْ أَوْ لَمْ يَتَحَلَّلْ بِسَوْقِ الْهَدْيِ - كَمَا زَعَمَهُ زَاعِمُونَ - وَلَكِنَّهُ أَهَلَّ بِحَجٍّ بَعْدَ قَضَاءِ مَنَاسِكِ الْعُمْرَةِ وَقَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى مِنًى، فَهَذَا لَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَمَنِ ادَّعَاهُ مِنَ النَّاسِ فَقَوْلُهُ مَرْدُودٌ ; لِعَدَمِ نَقْلِهِ، وَمُخَالَفَتِهِ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي إِثْبَاتِ الْقِرَانِ كَمَا سَيَأْتِي، بَلْ وَالْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي الْإِفْرَادِ كَمَا سَبَقَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالظَّاهِرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّ حَدِيثَ اللَّيْثِ هَذَا عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْوِيٌّ مِنَ الطَّرِيقِ الْأُخْرَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ حِينَ أَرَادَ الْحَجَّ زَمَنَ مُحَاصَرَةِ الْحَجَّاجِ لِابْنِ الزُّبَيْرِ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ كَائِنٌ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ، فَلَوْ أَخَّرْتَ الْحَجَّ عَامَكَ هَذَا؟ فَقَالَ: إِذَنْ أَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. يَعْنِي زَمَنَ حُصِرَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ. فَأَحَرَمَ بِعُمْرَةٍ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، ثُمَّ لَمَّا عَلَا شَرَفَ الْبَيْدَاءِ قَالَ: مَا أَرَى أَمْرَهُمَا إِلَّا وَاحِدًا. فَأَهَلَّ بِحَجٍّ مَعَهَا، فَاعْتَقَدَ الرَّاوِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَكَذَا فَعَلَ سَوَاءً ; بَدَأَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، فَرَوَوْهُ كَذَلِكَ، وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِمَا سَنُبَيِّنُهُ.
وَبَيَانُ هَذَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَغَيْرُهُ، أَنَّ نَافِعًا حَدَّثَهُمْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ خَرَجَ فِي الْفِتْنَةِ مُعْتَمِرًا وَقَالَ: «إِنْ صُدِدْتُ عَنِ الْبَيْتِ صَنَعْنَا كَمَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَخَرَجَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، وَسَارَ حَتَّى إِذَا ظَهَرَ عَلَى ظَاهِرِ الْبَيْدَاءِ الْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: مَا أَمْرُهُمَا إِلَّا
(7/450)
وَاحِدٌ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ الْحَجَّ مَعَ الْعُمْرَةِ. فَخَرَجَ حَتَّى جَاءَ الْبَيْتَ، فَطَافَ بِهِ وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ، وَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ مُجْزِئٌ عَنْهُ وَأَهْدَى.» وَقَدْ أَخْرَجَهُ صَاحِبَا " الصَّحِيحِ " مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ بِهِ. وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ عَنْ نَافِعٍ بِهِ نَحْوَهُ، وَفِيهِ: ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ: هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، ثَنَا لَيْثٌ، عَنْ نَافِعٍ «أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَرَادَ الْحَجَّ عَامَ نَزَلَ الْحَجَّاجُ بِابْنِ الزُّبَيْرِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ كَائِنٌ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، وَإِنَّا نَخَافُ أَنْ يَصُدُّوكَ. قَالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] . (الْأَحْزَابِ: 21) ، إِذًا أَصْنَعُ كَمَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ عُمْرَةً. ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِظَاهِرِ الْبَيْدَاءِ قَالَ: مَا شَأْنُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِلَّا وَاحِدٌ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي أَوْجَبْتُ حَجًّا مَعَ عُمْرَتِي. فَأَهْدَى هَدْيًا اشْتَرَاهُ بِقُدَيْدٍ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَنْحَرْ وَلَمْ يَحِلَّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، وَلَمْ يَحْلِقْ وَلَمْ يُقَصِّرْ حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ فَنَحَرَ وَحَلَقَ، وَرَأَى أَنْ قَدْ قَضَى طَوَافَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِطَوَافِهِ الْأَوَّلِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: كَذَلِكَ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.» وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ
(7/451)
نَافِعٍ «أَنَّ ابْنَ عُمَرَ دَخَلَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَظَهْرُهُ فِي الدَّارِ فَقَالَ: إِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَكُونَ الْعَامَ بَيْنَ النَّاسِ قِتَالٌ فَيَصُدُّوكَ عَنِ الْبَيْتِ فَلَوْ أَقَمْتَ. قَالَ: قَدْ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَإِنْ يُحَلْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، أَفْعَلْ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] ". إِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ مَعَ عُمْرَتِي حَجًّا. ثُمَّ قَدِمَ فَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا.» وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي النُّعْمَانِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ السَّخْتِيَانِيِّ، عَنْ نَافِعٍ بِهِ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِهِمَا عَنْ أَيُّوبَ بِهِ. فَقَدِ اقْتَدَى ابْنُ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي التَّحَلُّلِ عِنْدَ حَصْرِ الْعَدُوِّ، وَالِاكْتِفَاءِ بِطَوَافٍ وَاحِدٍ عَنِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ أَحْرَمَ أَوَّلًا بِعُمْرَةٍ لِيَكُونَ مُتَمَتِّعًا، فَخَشِيَ أَنْ يَكُونَ حَصْرٌ فَجَمَعَهُمَا، وَأَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ قَبْلَ الطَّوَافِ، فَصَارَ قَارِنًا، وَقَالَ: مَا أَرَى أَمْرَهُمَا إِلَّا وَاحِدًا. يَعْنِي لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُحْصَرَ الْإِنْسَانُ عَنِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ أَوْ عَنْهُمَا. فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ اكْتَفَى عَنْهُمَا بِطَوَافِهِ الْأَوَّلِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي السِّيَاقِ الْأَوَّلِ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَرَأَى أَنْ قَدْ قَضَى طَوَافَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِطَوَافِهِ الْأَوَّلِ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: كَذَلِكَ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. يَعْنِي أَنَّهُ اكْتَفَى عَنِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِطَوَافٍ وَاحِدٍ. يَعْنِي بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَوَى الْقِرَانَ ; وَلِهَذَا رَوَى النَّسَائِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ
(7/452)
عُيَيْنَةَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَرَنَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَطَافَ طَوَافًا وَاحِدًا.
ثُمَّ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ الرَّقِّيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَأَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، وَأَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ نَافِعٍ، «أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَتَى ذَا الْحُلَيْفَةِ فَأَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، فَخَشِيَ أَنْ يُصَدَّ عَنِ الْبَيْتِ.» فَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ مِنْ إِدْخَالِهِ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ وَصَيْرُورَتِهِ قَارِنًا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ: «إِذًا أَصْنَعُ كَمَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلَهُ: كَذَلِكَ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. اعْتَقَدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَأَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ فَأَدْخَلَهُ عَلَيْهَا قَبْلَ الطَّوَافِ،» فَرَوَاهُ بِمَعْنَى مَا فَهِمَ، وَلَمْ يُرِدِ ابْنُ عُمَرَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا أَرَادَ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. ثُمَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، أَوَّلًا ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ قَبْلَ الطَّوَافِ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ قَارِنًا لَا مُتَمَتِّعًا التَّمَتُّعَ الْخَاصَّ، فَيَكُونُ فِيهِ دَلَالَةٌ لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَفْضَلِيَّةِ التَّمَتُّعِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنِي مُطَرِّفٌ، عَنْ عِمْرَانَ قَالَ: «تَمَتَّعْنَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَزَلَ الْقُرْآنُ، قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ» فَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ
(7/453)
قَتَادَةَ بِهِ. وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُتْعَةُ الَّتِي أَعَمُّ مِنَ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ الْخَاصِّ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ وَسَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ.» وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ.
وَأَكْثَرُ السَّلَفِ يُطْلِقُونَ الْمُتْعَةَ عَلَى الْقِرَانِ، كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، ثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَعْوَرُ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: اخْتَلَفَ عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَهُمَا بِعُسْفَانَ فِي الْمُتْعَةِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَنْهَى عَنْ أَمْرٍ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ.
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ أَيْضًا، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ عَنْهُمَا بِهِ. وَقَالَ عَلِيٌّ: مَا كُنْتُ لِأَدَعَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ أَحَدٍ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ أَيْضًا، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ عَنْهُمَا، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: «وَلَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّا تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: أَجَلْ، وَلَكِنَّا كُنَّا خَائِفِينَ.»
(7/454)
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ مِخْرَاقٍ الْقُرِّيِّ «سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُمْرَةٍ، وَأَهَلَّ أَصْحَابُهُ بِحَجٍّ، فَلَمْ يَحِلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَحَلَّ بَقِيَّتُهُمْ.» فَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي " مُسْنَدِهِ " وَرَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُسْلِمٍ الْقُرِّيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ - وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ - فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُتْعَةُ هَدْيٍ حَلَّ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ لَمْ يَحِلَّ. . .» الْحَدِيثَ. فَإِنْ صَحَّحْنَا الرِّوَايَتَيْنِ جَاءَ الْقِرَانُ، وَإِنْ تَوَقَّفْنَا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا وَقَفَ الدَّلِيلُ، وَإِنْ رَجَّحْنَا رِوَايَةَ مُسْلِمٍ فِي " صَحِيحِهِ " فِي رِوَايَةِ الْعُمْرَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ رَوَى الْإِفْرَادَ، وَهُوَ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ، فَتَكُونُ هَذِهِ زِيَادَةٌ عَلَى الْحَجِّ، فَيَجِيءُ الْقَوْلُ بِالْقِرَانِ لَا سِيَّمَا وَسَيَأْتِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ غُنْدَرٍ وَمُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «هَذِهِ عُمْرَةٌ اسْتَمْتَعْنَا بِهَا، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ الْحِلَّ كُلَّهُ فَإِنَّ الْعُمْرَةَ قَدْ دَخَلَتْ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.»
(7/455)
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ آدَمَ بْنِ أَبِي إِيَاسٍ، وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ غُنْدَرٍ، كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ: «تَمَتَّعْتُ فَنَهَانِي نَاسٌ، فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَأَمَرَنِي بِهَا، فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ رَجُلًا يَقُولُ: حَجٌّ مَبْرُورٌ وَمُتْعَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ. فَأَخْبَرْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.» وَالْمُرَادُ بِالْمُتْعَةِ هَاهُنَا الْقِرَانُ.
وَقَالَ الْقَعْنَبِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، «أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَالضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ عَامَ حَجَّ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَهُمَا يَذْكُرَانِ التَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَا يَصْنَعُ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ جَهِلَ أَمْرَ اللَّهِ. فَقَالَ سَعْدٌ: بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أَخِي. فَقَالَ الضَّحَّاكُ: فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَنْهَى عَنْهَا. فَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ صَنَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَنَعْنَاهَا مَعَهُ.» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: صَحِيحٌ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، كِلَاهُمَا عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، حَدَّثَنِي غُنَيْمُ بْنُ قَيْسٍ، «سَأَلْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ عَنِ التَّمَتُّعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ قَالَ: فَعَلْتُهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا يَوْمَئِذٍ كَافِرٌ فِي الْعُرُشِ.» يَعْنِي مَكَّةَ وَيَعْنِي بِهِ مُعَاوِيَةَ.
(7/456)
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَمَرْوَانَ الْفَزَارِيِّ، أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، سَمِعْتُ غُنَيْمَ بْنَ قَيْسٍ، سَأَلْتُ سَعْدًا عَنِ الْمُتْعَةِ فَقَالَ: قَدْ فَعَلْنَاهَا وَهَذَا يَوْمَئِذٍ كَافِرٌ بِالْعُرُشِ. وَفِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: يَعْنِي مُعَاوِيَةَ. وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ التَّمَتُّعِ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّمَتُّعِ الْخَاصِّ، وَهُوَ الْإِحْرَامُ بِالْعُمْرَةِ وَالْفَرَاغُ مِنْهَا، ثُمَّ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ، وَمِنَ الْقِرَانِ، بَلْ كَلَامُ سَعْدٍ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى إِطْلَاقِ التَّمَتُّعِ عَلَى الِاعْتِمَارِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اعْتَمَرُوا وَمُعَاوِيَةُ بَعْدُ كَافِرٌ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْحَجِّ، إِمَّا عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ أَوْ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ، فَأَمَّا عُمْرَةُ الْجِعْرَانَةِ فَقَدْ كَانَ مُعَاوِيَةُ أَسْلَمَ مَعَ أَبِيهِ لَيْلَةَ الْفَتْحِ، وَرُوِّينَا أَنَّهُ قَصَّرَ مِنْ شَعْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِشْقَصٍ فِي بَعْضِ عُمَرِهِ، وَهِيَ عُمْرَةُ الْجِعْرَانَةِ لَا مَحَالَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[ذِكْرُ حُجَّةِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ قَارِنًا وَسَرْدُ الْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ]
رِوَايَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَدْ تَقَدَّمَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيِّ، سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(7/457)
بِوَادِي الْعَقِيقِ يَقُولُ: " أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ، وَقُلْ: عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ ".»
وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ الْمُقْرِئُ بِبَغْدَادَ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَلْمَانَ قَالَ: قُرِئَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَأَنَا أَسْمَعُ: حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ الْهَرَوِيُّ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، ثَنَا عِكْرِمَةُ، حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَتَانِي جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَا بِالْعَقِيقِ فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ رَكْعَتَيْنِ، وَقُلْ: عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ. فَقَدْ دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ". ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْهَرَوِيِّ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا هُشَيْمٌ، ثَنَا سَيَّارٌ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ أَنَّ رَجُلًا كَانَ نَصْرَانِيًّا، يُقَالُ لَهُ: الصُّبَيُّ بْنُ مَعْبَدٍ فَأَرَادَ الْجِهَادَ، فَقِيلَ لَهُ: ابْدَأْ بِالْحَجِّ. فَأَتَى الْأَشْعَرِيَّ فَأَمَرَهُ أَنْ يُهِلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا، فَفَعَلَ، فَبَيْنَمَا هُوَ يُلَبِّي إِذْ مَرَّ بِزَيْدِ بْنِ صُوحَانَ، وَسَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: لَهَذَا أَضَلُّ مِنْ بَعِيرِ أَهْلِهِ. فَسَمِعَهَا الصُّبَيُّ فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَدِمَ أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَسَمِعْتُهُ مَرَّةً أُخْرَى
(7/458)
يَقُولُ: وُفِّقْتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنِ الصُّبَيِّ بْنِ مَعْبَدٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَذَكَرَهُ وَقَالَ: إِنَّهُمَا لَمْ يَقُولَا شَيْئًا، هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَوَاهُ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ بِهِ.
وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: «قَالَ الصُّبَيُّ بْنُ مَعْبَدٍ: كُنْتُ رَجُلًا نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمْتُ، فَأَهْلَلْتُ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، فَسَمِعَنِي زَيْدُ بْنُ صُوحَانَ وَسَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ وَأَنَا أُهِلَّ بِهِمَا، فَقَالَا: لَهَذَا أَضَلُّ مِنْ بَعِيرِ أَهْلِهِ. فَكَأَنَّمَا حُمِّلَ عَلَيَّ بِكَلِمَتِهِمَا جَبَلٌ، فَقَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمَا فَلَامَهُمَا، وَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَقَالَ: هُدِيتَ لِسُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . قَالَ عَبْدَةُ: قَالَ أَبُو وَائِلٍ: كَثِيرًا مَا ذَهَبْتُ أَنَا وَمَسْرُوقٌ إِلَى الصُّبَيِّ بْنِ مَعْبَدٍ نَسْأَلُهُ عَنْهُ. وَهَذِهِ أَسَانِيدٌ جَيِّدَةٌ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ.
وَقَالَ النَّسَائِيُّ فِي كِتَابِ الْحَجِّ مِنْ " سُنَنِهِ ": حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ
(7/459)
الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، ثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ السُّكَّرِيِّ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «وَاللَّهِ إِنِّي لَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُتْعَةِ، وَإِنَّهَا لَفِي كِتَابِ اللَّهِ، وَقَدْ فَعَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.» إِسْنَادٌ جَيِّدٌ.
رِوَايَةُ أَمِيرَيِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: «اجْتَمَعَ عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ بِعُسْفَانَ، وَكَانَ عُثْمَانُ يَنْهَى عَنِ الْمُتْعَةِ أَوِ الْعُمْرَةِ فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا تُرِيدُ إِلَى أَمْرٍ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْهَى عَنْهُ! فَقَالَ عُثْمَانُ: دَعْنَا مِنْكَ.» هَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مُخْتَصَرًا.
وَقَدْ أَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: «اخْتَلَفَ عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ وَهُمَا بِعُسْفَانَ فِي الْمُتْعَةِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَنْهَى عَنْ أَمْرٍ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا.» وَهَكَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، ثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ،
(7/460)
عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: «شَهِدْتُ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَعُثْمَانُ يَنْهَى عَنِ الْمُتْعَةِ، وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا رَأَى عَلِيٌّ أَهَلَّ بِهِمَا: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجٍّ، قَالَ: مَا كُنْتُ لِأَدَعَ سُنَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ أَحَدٍ.» وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهِ، وَمِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: «قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ: كَانَ عُثْمَانُ يَنْهَى عَنِ الْمُتْعَةِ وَعَلِيٌّ يَأْمُرُ بِهَا، فَقَالَ عُثْمَانُ لِعَلِيٍّ: إِنَّكَ لَكَذَا وَكَذَا. ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ: لَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّا تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: أَجَلْ، وَلَكِنَّا كُنَّا خَائِفِينَ.» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ. فَهَذَا اعْتِرَافٌ مِنْ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِمَا رَوَاهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَلِيًّا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَحْرَمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ قَدْ سَاقَ الْهَدْيَ، وَأَمَرَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَمْكُثَ حَرَامًا، وَأَشْرَكَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَدْيِهِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَرَوَى مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ " عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ دَخَلَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِالسُّقْيَا، وَهُوَ يَنْجَعُ بَكَرَاتٍ لَهُ دَقِيقًا
(7/461)
وَخَبَطًا فَقَالَ: هَذَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ يَنْهَى عَنْ أَنْ يُقْرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. فَخَرَجَ عَلِيٌّ وَعَلَى يَدِهِ أَثَرُ الدَّقِيقِ وَالْخَبَطِ - مَا أَنْسَى أَثَرَ الدَّقِيقِ وَالْخَبَطِ عَلَى ذِرَاعَيْهِ - حَتَّى دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ فَقَالَ: أَنْتَ تَنْهَى أَنْ يُقْرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ؟! فَقَالَ عُثْمَانُ: ذَلِكَ رَأْيِي. فَخَرَجَ عَلِيٌّ مُغْضَبًا وَهُوَ يَقُولُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا.
وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ ": ثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ ثَنَا حَجَّاجٌ، ثَنَا يُونُسُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: «كُنْتُ مَعَ عَلِيٍّ حِينَ أَمَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْيَمَنِ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي قُدُومِ عَلِيٍّ، قَالَ عَلِيٌّ: فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَيْفَ صَنَعْتَ؟ " قَالَ: قُلْتُ: إِنَّمَا أَهْلَلْتُ بِإِهْلَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: " إِنِّي قَدْ سُقْتُ الْهَدْيَ وَقَرَنْتُ ".» وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، بِإِسْنَادِهِ، وَهُوَ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَعَلَّلَهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ بِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا اللَّفْظَ فِي سِيَاقِ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ فِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ الْقِرَانُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ "، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: «خَرَجَ
(7/462)
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَخَرَجْتُ أَنَا مِنَ الْيَمَنِ، وَقُلْتُ: لَبَّيْكَ بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَإِنِّي أَهْلَلْتُ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا ".»
رِوَايَةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَنَحْنُ نُورِدُهُمْ مُرَتَّبِينَ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ:
بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ عَنْهُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، ثَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، أَنْبَأَنَا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا، فَحَدَّثْتُ بِذَلِكَ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ: لَبَّى بِالْحَجِّ وَحْدَهُ. فَلَقِيتُ أَنَسًا فَحَدَّثْتُهُ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ: مَا تَعُدُّونَا إِلَّا صِبْيَانًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا ".» وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ، عَنْ حُمَيْدٍ بِهِ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ سُرَيْجِ بْنِ يُونُسَ، عَنْ هُشَيْمٍ بِهِ. وَعَنْ أُمَيَّةَ بْنِ بِسْطَامٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ بِهِ.
ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ مَعًا ".»
تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنْهُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا
(7/463)
رَوْحٌ، ثَنَا أَشْعَثُ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ قَدِمُوا مَكَّةَ وَقَدْ لَبَّوْا بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَمَا طَافُوا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، أَنْ يُحِلُّوا وَأَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً فَكَأَنَّ الْقَوْمَ هَابُوا ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْلَا أَنِّي سُقْتُ هَدْيًا لَأَحْلَلْتُ ".» فَأَحَلَّ الْقَوْمُ وَتَمَتَّعُوا.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ قَزَعَةَ، ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ حَبِيبٍ، ثَنَا أَشْعَثُ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَلَمَّا قَدِمُوا مَكَّةَ طَافُوا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، أَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُحِلُّوا، فَهَابُوا ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَحِلُّوا، فَلَوْلَا أَنَّ مَعِيَ الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ " فَحَلُّوا حَتَّى حَلُّوا إِلَى النِّسَاءِ.» ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُ رَوَاهُ عَنِ الْحَسَنِ إِلَّا أَشْعَثُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ.
حُمَيْدُ بْنُ تِيرَوَيْهِ الطَّوِيلُ عَنْهُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ حُمَيْدٍ، سَمِعْتُ أَنَسًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجٍّ ".» هَذَا إِسْنَادٌ ثُلَاثِيٌّ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
لَكِنْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي
(7/464)
إِسْحَاقَ، وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ وَحُمَيْدٍ أَنَّهُمْ سَمِعُوا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا: «لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا، لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا ".»
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا يَعْمَرُ بْنُ بِشْرٍ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَنْبَأَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «سَاقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُدْنًا كَثِيرَةً وَقَالَ: " لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجٍّ ". وَإِنِّي لَعِنْدَ فَخِذِ نَاقَتِهِ الْيُسْرَى.» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا.
حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ الْعَدَوِيُّ الْبَصْرِيُّ عَنْهُ: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي " مُسْنَدِهِ ": حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، ثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَحَدَّثَنَاهُ سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ وَحُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، «عَنْ أَنَسٍ قَالَ: إِنِّي رِدْفُ أَبِي طَلْحَةَ، وَإِنَّ رُكْبَتَهُ لَتَمَسُّ رُكْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ» . وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ وَلَمْ يُخْرِجُوهُ، وَقَدْ تَأَوَّلَهُ الْبَزَّارُ عَلَى أَنَّ الَّذِي كَانَ يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَبُو طَلْحَةَ، قَالَ: وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا التَّأْوِيلُ فِيهِ نَظَرٌ وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ ; لِمَجِيءِ ذَلِكَ مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَنَسٍ، كَمَا مَضَى وَكَمَا سَيَأْتِي، ثُمَّ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَيْنِ أَوْلَى، وَهُوَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَقْوَى دَلَالَةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي فِي رِوَايَةِ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ أَنَسٍ صَرِيحُ الرَّدِّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ.
(7/465)
زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْهُ: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: رَوَى سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ التَّنُوخِيُّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ.» حَدَّثَنَاهُ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْجَرَوِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مِسْكِينٍ قَالَا: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَنَسٍ. قُلْتُ: وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ وَلَمْ يُخْرِجُوهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، فَقَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، وَأَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، قَالَا: ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أَنْبَأَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ مَزْيَدٍ، أَخْبَرَنِي أَبِي، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ «عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَغَيْرِهِ أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ: بِمَ أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَهَلَّ بِالْحَجِّ. فَانْصَرَفَ ثُمَّ أَتَاهُ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَقَالَ: بِمَ أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ أَلَمْ تَأْتِنِي عَامَ أَوَّلٍ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ قَرَنَ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى النِّسَاءِ وَهُنَّ مُكَشِّفَاتُ الرُّءُوسِ، وَإِنِّي كُنْتُ تَحْتَ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمَسُّنِي لُعَابُهَا، أَسْمَعُهُ يُلَبِّي بِالْحَجِّ.»
سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ الْغَطَفَانِيُّ الْكُوفِيُّ عَنْهُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ ثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ
(7/466)
مَالِكٍ يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَقَالَ: " لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ مَعًا» حَسَنٌ وَلَمْ يُخْرِجُوهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا عَفَّانُ، ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ سَعْدٍ مَوْلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ عَلِيٍّ فَأَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَجْمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَمَنْ أَرَادَ ذَلِكَ فَلْيَقُلْ كَمَا أَقُولُ. ثُمَّ لَبَّى قَالَ: لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا. قَالَ: وَقَالَ سَالِمٌ: وَقَدْ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ رِجْلِي لَتَمَسُّ رِجْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّهُ لِيُهِلُّ بِهِمَا جَمِيعًا.» وَهَذَا أَيْضًا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَمْ يُخْرِجُوهُ. وَهَذَا السِّيَاقُ يَرُدُّ عَلَى الْحَافِظِ الْبَزَّارِ مَا تَأَوَّلَ بِهِ حَدِيثَ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ أَنَسٍ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
سُلَيْمَانُ بْنُ طَرْخَانَ التَّيْمِيُّ عَنْهُ: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ، ثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَبِّي بِهِمَا جَمِيعًا» . ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: لَمْ يَرْوِهِ عَنِ التَّيْمِيِّ إِلَّا ابْنُهُ الْمُعْتَمِرُ، وَلَمْ يَسْمَعْهُ إِلَّا مِنْ يَحْيَى بْنِ حَبِيبٍ الْعَرَبِيِّ عَنْهُ.
قُلْتُ: وَهُوَ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ وَلَمْ يُخْرِجُوهُ.
سُوَيْدُ بْنُ حُجَيْرٍ عَنْهُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي قَزَعَةَ سُوَيْدِ بْنِ حُجَيْرٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «كُنْتُ رَدِيفَ أَبِي طَلْحَةَ فَكَانَتْ رُكْبَةُ أَبِي طَلْحَةَ تَكَادُ أَنْ تُصِيبَ رُكْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
(7/467)
فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهِلُّ بِهِمَا.» وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ وَلَمْ يُخْرِجُوهُ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْحَافِظِ الْبَزَّارِ صَرِيحٌ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ أَبُو قِلَابَةَ الْجَرْمِيُّ عَنْهُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كُنْتُ رَدِيفَ أَبِي طَلْحَةَ وَهُوَ يُسَايِرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَإِنَّ رِجْلِي لَتَمَسُّ غَرْزَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعْتُهُ يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَعًا.»
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ بَاتَ بِهَا حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، حَتَّى اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ حَمِدَ اللَّهَ وَسَبَّحَ وَكَبَّرَ، وَأَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهِمَا جَمِيعًا.» وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: كُنْتُ رَدِيفَ أَبِي طَلْحَةَ وَإِنَّهُمْ لَيَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا ; الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: ثُمَّ بَاتَ حَتَّى أَصْبَحَ، فَصَلَّى الصُّبْحَ، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ الْبَيْدَاءَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَحَجٍّ.
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ: تَقَدَّمَتْ رِوَايَتُهُ عَنْهُ مَعَ رِوَايَةِ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ.
عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ عَنْهُ: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
(7/468)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبَّى بِهِمَا جَمِيعًا.» هَذَا غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يُخْرِجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ السُّنَنِ، وَهُوَ عَلَى شَرْطِهِمْ.
قَتَادَةُ بْنُ دِعَامَةَ السَّدُوسِيُّ عَنْهُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا بَهْزٌ وَعَبْدُ الصَّمَدِ، الْمَعْنَى قَالَا: ثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، ثَنَا قَتَادَةُ قَالَ: «سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قُلْتُ: كَمْ حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: حَجَّةً وَاحِدَةً، وَاعْتَمَرَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ; عُمْرَتُهُ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَعُمْرَتُهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَعُمْرَتُهُ مِنَ الْجِعْرَانَةِ، فِي ذِي الْقَعْدَةِ حَيْثُ قَسَّمَ غَنِيمَةَ حُنَيْنٍ، وَعُمْرَتُهُ مَعَ حَجَّتِهِ.» وَأَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى بِهِ.
مُصْعَبُ بْنُ سُلَيْمٍ الزُّبَيْرِيُّ مَوْلَاهُمْ عَنْهُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، ثَنَا مُصْعَبُ بْنُ سُلَيْمٍ، سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: «أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ الْحَضْرَمِيُّ عَنْهُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا هُشَيْمٌ، أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ وَحُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُمْ سَمِعُوهُ يَقُولُ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا، يَقُولُ: " لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا، لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا» وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مُسْلِمًا رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، عَنْ هُشَيْمٍ بِهِ.
(7/469)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: ثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ. قَالَ: فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا ".»
أَبُو أَسْمَاءَ الصَّيْقَلُ عَنْهُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، ثَنَا زُهَيْرٌ، وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، ثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ الصَّيْقَلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «خَرَجْنَا نَصْرُخُ بِالْحَجِّ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَجْعَلَهَا عُمْرَةً، وَقَالَ: " لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً، وَلَكِنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ وَقَرَنْتُ الْحَجَّ بِالْعُمْرَةِ ".»
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ هَنَّادٍ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ الصَّيْقَلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَلَّمَ يُلَبِّي بِهِمَا.»
أَبُو قُدَامَةَ الْحَنَفِيُّ - وَيُقَالُ: إِنَّ اسْمَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ - عَنْ أَنَسٍ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ «عَنْ أَبِي قُدَامَةَ الْحَنَفِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسٍ: بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَبِّي؟ فَقَالَ: سَمِعْتُهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ: بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ، بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ.» تَفَرَّدَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ
(7/470)
وَهُوَ إِسْنَادٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَبِهِ التَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَةُ.
وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَقَرَنَ الْقَوْمُ مَعَهُ»
وَقَدْ أَوْرَدَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ بَعْضَ هَذِهِ الطُّرُقِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، ثُمَّ شَرَعَ يُعَلِّلُ ذَلِكَ بِكَلَامٍ فِيهِ نَظَرٌ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ قَالَ: وَالِاشْتِبَاهُ وَقَعَ لِأَنَسٍ لَا لِمَنْ دُونَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ غَيْرَهُ كَيْفَ يُهِلُّ بِالْقِرَانِ، لَا أَنَّهُ يُهِلُّ بِهِمَا عَنْ نَفْسِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَفِي ثُبُوتِهِ نَظَرٌ.
قُلْتُ: وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْكَلَامِ مِنَ النَّظَرِ الظَّاهِرِ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ، وَرُبَّمَا كَانَ تَرْكُ هَذَا الْكَلَامِ أَوْلَى مِنْهُ، إِذْ فِيهِ تَطَرُّقُ احْتِمَالٍ إِلَى حِفْظِ الصَّحَابِيِّ مَعَ تَوَاتُرِهِ عَنْهُ كَمَا رَأَيْتَ آنِفًا، وَفَتْحُ هَذَا يُفْضِي إِلَى مَحْذُورٍ كَبِيرٍ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
حَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي الْقِرَانِ: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ مَالِكُ بْنُ يَحْيَى، ثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: «اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ عُمَرٍ، كُلُّهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ بِعُمْرَتِهِ الَّتِي حَجَّ مَعَهَا.» قَالَ الْبَيْهَقِيُّ:
(7/471)
لَيْسَ هَذَا بِمَحْفُوظٍ. قُلْتُ: سَيَأْتِي بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى عَائِشَةَ نَحْوُهُ.
رِوَايَةُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ رُمَيْسٍ، وَالْقَاسِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ جَعْفَرٍ اللَّبَّانُ وَغَيْرُهُمْ، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى الصُّوفِيُّ، ثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، ثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ حِجَجٍ ; حَجَّتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ، وَحَجَّةٌ قَرَنَ مَعَهَا عُمْرَةً.» وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ الثَّوْرِيِّ بِهِ. أَمَّا التِّرْمِذِيُّ فَرَوَاهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ، عَنْ سُفْيَانَ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ، وَرَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - يَعْنِي الدَّارِمِيَّ - رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ فِي كُتُبِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، وَسَأَلْتُ مُحَمَّدًا عَنْ هَذَا، فَلَمْ يَعْرِفْهُ، وَرَأَيْتُهُ لَا يَعُدُّهُ مَحْفُوظًا. قَالَ: وَإِنَّمَا رُوِيَ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ مُجَاهِدٍ مُرْسَلًا.
وَفِي " السُّنَنِ الْكَبِيرِ " لِلْبَيْهَقِيِّ قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيَّ، عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ خَطَأٌ، وَإِنَّمَا رُوِيَ هَذَا عَنِ الثَّوْرِيِّ مُرْسَلًا. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَكَانَ زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ إِذَا رَوَى حِفْظًا رُبَّمَا
(7/472)
غَلَطَ فِي الشَّيْءِ. وَأَمَّا ابْنُ مَاجَهْ فَرَوَاهُ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ الْمُهَلَّبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَاوُدَ الْخُرَيْبِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بِهِ. وَهَذِهِ طَرِيقٌ لَمْ يَقِفْ عَلَيْهَا التِّرْمِذِيُّ وَلَا الْبَيْهَقِيُّ، وَرُبَّمَا وَلَا الْبُخَارِيُّ حَيْثُ تَكَلَّمَ فِي زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ ظَانًّا أَنَّهُ انْفَرَدَ بِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْ جَابِرٍ: قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَنَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا.» ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَفِي نُسْخَةٍ: صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «لَمْ يَطُفِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا طَوَافًا وَاحِدًا لِحَجِّهِ وَلِعُمْرَتِهِ.»
قُلْتُ: حَجَّاجٌ هَذَا هُوَ ابْنُ أَرْطَاةَ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَلَكِنْ قَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَيْضًا، كَمَا قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي " مُسْنَدِهِ ": حَدَّثَنَا مُقَدَّمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي عَمِّي الْقَاسِمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُقَدَّمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خَيْثَمَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ فَقَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَسَاقَ الْهَدْيَ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ لَمْ يُقَلِّدِ الْهَدْيَ فَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً ".» ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: وَهَذَا الْكَلَامُ لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنْ جَابِرٍ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ
(7/473)
بِهَذَا الْإِسْنَادِ. انْفَرَدَ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ الْبَزَّارُ فِي " مُسْنَدِهِ "، وَإِسْنَادُهَا غَرِيبٌ جِدًّا، وَلَيْسَتْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ السِّتَّةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
رِوَايَةُ أَبِي طَلْحَةَ زَيْدِ بْنِ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، ثَنَا حَجَّاجٌ - هُوَ ابْنُ أَرْطَاةَ - عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَخْبَرَنِي أَبُو طَلْحَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ» . وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ بِإِسْنَادِهِ، وَلَفْظُهُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ» . الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ فِيهِ ضَعْفٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
رِوَايَةُ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا دَاوُدُ - يَعْنِي ابْنَ يَزِيدَ - سَمِعْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ الزَّرَّادَ، يَقُولُ: «سَمِعْتُ النَّزَّالَ بْنَ سَبْرَةَ صَاحِبَ عَلِيٍّ يَقُولُ: سَمِعْتُ سُرَاقَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ". قَالَ: وَقَرَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.»
رِوَايَةُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَمَتَّعَ بِالْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ، وَهُوَ
(7/474)
الْقِرَانُ: قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ: عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ، «أَنَّهُ سَمِعَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَالضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ عَامَ حَجَّ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ يَذْكُرُ التَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَا يَصْنَعُ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ جَهِلَ أَمْرَ اللَّهِ. فَقَالَ سَعْدٌ: بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أَخِي. فَقَالَ الضَّحَّاكُ: فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَنْهَى عَنْهَا. فَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ صَنَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَنَعْنَاهَا مَعَهُ،» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ جَمِيعًا، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ مَالِكٍ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، ثَنَا سُلَيْمَانُ - يَعْنِي التَّيْمِيَّ - حَدَّثَنِي غُنَيْمٌ قَالَ: «سَأَلْتُ ابْنَ أَبِي وَقَّاصٍ عَنِ الْمُتْعَةِ فَقَالَ: فَعَلْنَاهَا وَهَذَا كَافِرٌ بِالْعُرُشِ. يَعْنِي مُعَاوِيَةَ.» هَكَذَا رَوَاهُ مُخْتَصَرًا. وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ الثَّوْرِيِّ، وَشُعْبَةَ وَمَرْوَانَ الْفَزَارِيِّ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ طَرْخَانَ التَّيْمِيِّ، سَمِعْتُ غُنَيْمَ بْنَ قَيْسٍ «سَأَلْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ عَنِ الْمُتْعَةِ فَقَالَ: قَدْ فَعَلْنَاهَا وَهَذَا يَوْمَئِذٍ كَافِرٌ بِالْعُرُشِ. قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ فِي رِوَايَتِهِ: يَعْنِي مُعَاوِيَةَ.» وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، كِلَاهُمَا عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ غُنَيْمِ بْنِ قَيْسٍ «سَأَلْتُ سَعْدًا عَنِ التَّمَتُّعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَقَالَ: فَعَلْتُهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
(7/475)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا يَوْمَئِذٍ كَافِرٌ بِالْعُرُشِ» يَعْنِي مَكَّةَ، وَيَعْنِي بِهِ مُعَاوِيَةَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ الثَّانِي أَصَحُّ إِسْنَادًا، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ اعْتِضَادًا لَا اعْتِمَادًا، وَالْأَوَّلُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَهُوَ أَصْرَحُ فِي الْمَقْصُودِ مِنْ هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ الطَّبَرَانِيُّ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: «إِنَّمَا جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ; لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَاجًّا بَعْدَ ذَلِكَ الْعَامِ.»
رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا أَبُو النَّضْرِ، ثَنَا دَاوُدُ - يَعْنِي الْعَطَّارَ - عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ عُمَرٍ ; عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَعُمْرَةَ الْقَضَاءِ، وَالثَّالِثَةَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ، وَالرَّابِعَةَ الَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ.» وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَطَّارِ الْمَكِّيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا. وَرَوَاهُ
(7/476)
الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الرَّبِيعِ وَشِهَابِ بْنِ عَبَّادٍ، كِلَاهُمَا عَنْ دَاوُدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَطَّارِ فَذَكَرَهُ. وَقَالَ: الرَّابِعَةُ الَّتِي قَرَنَهَا مَعَ حَجَّتِهِ.
ثُمَّ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَيْسَ أَحَدٌ يَقُولُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا دَاوُدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. ثُمَّ حَكَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: دَاوُدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ صَدُوقٌ، إِلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا يَهِمُ فِي الشَّيْءِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ بِوَادِي الْعَقِيقِ: " أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ، وَقُلْ: عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ ".» فَلَعَلَّ هَذَا مُسْتَنَدُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَا حَكَاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قَدْ تَقَدَّمَ فِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: «تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَأَهْدَى فَسَاقَ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ. وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ.» وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ فِي عَدَمِ إِحْلَالِهِ بَعْدَ السَّعْيِ، فَعُلِمَ كَمَا قَرَّرْنَاهُ أَوَّلًا أَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا التَّمَتُّعَ الْخَاصَّ، وَإِنَّمَا كَانَ قَارِنًا ; لِأَنَّهُ اكْتَفَى بِطَوَافٍ وَاحِدٍ بَيْنَ
(7/477)
الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَنْ حَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ، وَهَذَا شَأْنُ الْقَارِنِ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: ثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ طَوَافًا وَاحِدًا لِإِقْرَانِهِ، لَمْ يُحِلَّ بَيْنَهُمَا وَاشْتَرَى مِنَ الطَّرِيقِ. يَعْنِي الْهَدْيَ.» وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ، رِجَالُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّ يَحْيَى بْنَ يَمَانٍ - وَإِنْ كَانَ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ - فِي أَحَادِيثِهِ عَنِ الثَّوْرِيِّ نَكَارَةٌ شَدِيدَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِمَّا يُرَجِّحُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَرَادَ بِالْإِفْرَادِ الذى رَوَاهُ إِفْرَادَ أَفْعَالِ الْحَجِّ، لَا الْإِفْرَادَ الْخَاصَّ الَّذِي يَصِيرُ إِلَيْهِ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ - وَهُوَ الْحَجُّ ثُمَّ الِاعْتِمَارُ بَعْدَهُ فِي بَقِيَّةِ ذِي الْحِجَّةِ - قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: أَنْبَأَنَا مَالِكٌ، عَنْ صَدَقَةَ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: لَأَنْ أَعْتَمِرَ قَبْلَ الْحَجِّ وَأُهْدِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَمِرَ بَعْدَ الْحَجِّ فِي ذِي الْحِجَّةِ.
رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ - يَعْنِي الزُّبَيْرِيَّ - حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا قَرَنَ خَشْيَةَ أَنْ يُصَدَّ عَنِ الْبَيْتِ، وَقَالَ: " إِنْ لَمْ تَكُنْ حَجَّةٌ فَعُمْرَةٌ ".» وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ سَنَدًا وَمَتْنًا. تَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهِ الْإِمَامُ
(7/478)
أَحْمَدُ. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي يُونُسَ بْنِ الْحَارِثِ الثَّقَفِيِّ هَذَا: كَانَ مُضْطَرِبَ الْحَدِيثِ. وَضَعَّفَهُ، وَكَذَا ضَعَّفَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَالنَّسَائِيُّ. وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَتْنِ فَقَوْلُهُ: إِنَّمَا قَرَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَشْيَةَ أَنْ يُصَدَّ عَنِ الْبَيْتِ. فَمَنِ الَّذِي كَانَ يَصُدُّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنِ الْبَيْتِ؟ وَقَدْ أَطَّدَ اللَّهُ لَهُ الْإِسْلَامَ، وَفَتَحَ الْبَلَدَ الْحَرَامَ، وَقَدْ نُودِيَ بِرِحَابِ مِنًى أَيَّامَ الْمَوْسِمِ فِي الْعَامِ الْمَاضِي أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَقَدْ كَانَ مَعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَرِيبٌ مِنْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا. وَمَا هَذَا بِأَعْجَبَ مِنْ قَوْلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حِينَ قَالَ لَهُ عَلِيٌّ: لَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّا تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: أَجَلْ وَلَكِنَّا كُنَّا خَائِفِينَ. وَلَسْتُ أَدْرِي عَلَامَ يُحْمَلُ هَذَا الْخَوْفُ؟ وَلَا مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَ؟ إِلَّا أَنَّهُ تَضَمَّنَ رِوَايَةَ الصَّحَابِيِّ لِمَا رَوَاهُ، وَحَمَلَهُ عَلَى مَعْنًى ظَنَّهُ، فَمَا رَوَاهُ صَحِيحٌ مَقْبُولٌ، وَمَا اعْتَقَدَهُ فَلَيْسَ بِمَعْصُومٍ فِيهِ، فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ رَدُّ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ. وَهَكَذَا قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو لَوْ صَحَّ السَّنَدُ إِلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
رِوَايَةُ عِمْرَانِ بْنِ حُصَيْنٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ وَحَجَّاجٌ، قَالَا: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، سَمِعْتُ مُطَرِّفًا قَالَ:
(7/479)
قَالَ لِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ إِنِّي مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَنْفَعَكَ بِهِ ; «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، ثُمَّ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ حَتَّى مَاتَ، وَلَمْ يَنْزِلْ قُرْآنٌ فِيهِ يُحَرِّمُهُ، وَإِنَّهُ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ، فَلَمَّا اكْتَوَيْتُ أَمْسَكَ عَنِّي، فَلَمَّا تَرَكْتُهُ عَادَ إِلَيَّ.» وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ، عَنْ غُنْدَرٍ وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عِمْرَانَ بِهِ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ وَسَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ» الْحَدِيثَ.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيُّ: حَدِيثُ شُعْبَةَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ مُطَرِّفٍ صَحِيحٌ، وَأَمَّا حَدِيثُهُ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُطَرِّفٍ، فَإِنَّمَا رَوَاهُ عَنْ شُعْبَةَ كَذَلِكَ بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَقَدْ رَوَاهُ غُنْدَرٌ وَغَيْرُهُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ.
قُلْتُ: وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا النَّسَائِيُّ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ الْفَلَّاسِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ شُعْبَةَ، وَفِي نُسْخَةٍ: عَنْ سَعِيدٍ. بَدَلَ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ، فَذَكَرَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(7/480)
وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ: «تَمَتَّعْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ قُرْآنٌ يُحَرِّمُهُ، وَلَمْ يُنْهَ عَنْهَا حَتَّى مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.»
رِوَايَةُ الْهِرْمَاسِ بْنِ زِيَادٍ الْبَاهِلِيِّ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي عَلِيٍّ أَبُو مُحَمَّدٍ، مِنْ أَهْلِ الرَّيِّ وَكَانَ أَصْلُهُ أَصْبَهَانِيًّا، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ الضُّرَيْسِ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنِ الْهِرْمَاسِ قَالَ: «كُنْتُ رِدْفَ أَبِي فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى بَعِيرٍ وَهُوَ يَقُولُ: " لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا ".» وَهَذَا عَلَى شَرْطِ السُّنَنِ وَلَمْ يُخْرِجُوهُ.
رِوَايَةُ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، «عَنْ حَفْصَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لَكَ لَمْ تُحِلَّ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ قَالَ: " إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي، وَقَلَّدْتُ هَدْيِي، فَلَا أُحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ ".» وَقَدْ أَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ. زَادَ الْبُخَارِيُّ: وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ. زَادَ
(7/481)
مُسْلِمٌ: وَابْنِ جُرَيْجٍ، كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِهِ. «وَفِي لَفْظِهِمَا أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا مِنَ الْعُمْرَةِ وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ فَقَالَ: " إِنِّي قَلَّدْتُ هَدْيِي، وَلَبَّدْتُ رَأْسِي، فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ ".»
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ: قَالَ نَافِعٌ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَقُولُ: «أَخْبَرَتْنَا حَفْصَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يَحْلِلْنَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ. فَقَالَتْ لَهُ فُلَانَةُ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَحِلَّ؟ قَالَ: " إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ هَدْيِي فَلَسْتُ أُحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ هَدْيِي ".»
وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ، «أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ أَنْ يَحْلِلْنَ بِعُمْرَةٍ، قُلْنَا: فَمَا يَمْنَعُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ تَحِلَّ مَعَنَا؟ قَالَ: " إِنِّي أَهْدَيْتُ وَلَبَّدْتُ فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ هَدْيِي» ثُمَّ رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ، فَذَكَرَهُ. فَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُتَلَبِّسًا بِعُمْرَةٍ، وَلَمْ يَحِلَّ مِنْهَا، وَقَدْ عُلِمَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَحَادِيثِ الْإِفْرَادِ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَهَلَّ بِحَجٍّ أَيْضًا، فَدَلَّ مَجْمُوعُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَارِنٌ، مَعَ مَا سَلَفَ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ صَرَّحَ
(7/482)