وكان الأمير سيف الدين قفجاق عند خروجه من دمشق متوجها إلى حمص أقام بها عوضا عنه الأمير سيف الدين صاغان متحدثا في النيابة، فلما اتفق مقتل المنصور لاجين على ما نذكره إن شاء الله وثب عليه قرا أرسلان أحد أمراء دمشق ومسكه وسجنه، وأرسل سيف الدين بلغان بن كيجك الخوارزمي وراء قفجاق ليعلمه الخبر ويستدعيه ليعود إلى دمشق، فجاءه وهو قريب الفرات وأعلمه الحال فلم يصدق المقال، وخاف أن تكون حيلة معمولة فلم يرجع، وسار على ما هو عليه فيمن انضم إليه وساروا مجدين، فعبروا الفرات وقصدوا بلد التتار، وأنشدوا بلسان الاضطرار:
إذا ما خفت في أرض فدعها ... وحث اليعملات على وجاها
ونفسك فزنها إن خفت ضيما ... وخل الدار تنعى من بناها
فإنك واجد أرضا بأرضٍ ... ونفسك لم تجد نفسا سواها
وكان الذين تظافروا على المسير واتفقوا على هذا التدبير: الأمير سيف الدين قفجاق، والأمير سيف الدين بكتمر السلحدار، والأمير سيف الدين إلبكى الساقي، والأمير سيف الدين بوزلار، والأمير سيف الدين عزاز، الصالحي، فلحقوا بقازان وأقاموا عنده إلى أن كان منهم ما كان.
ولما استقر بهم القرار تزوجوا بنسوان من التتار، فتزوج سيف الدين قفجاق بامرأة من الأكابر، وهي أخت بلغان خاتون زوجة قازان، وأقاموا جميعا إلى أن حضر قازان إلى الشام لقصد بلاد الإسلام، فحضروا معه، ثم فارقوه واستقروا بالديار المصرية على ما سنذكره إن شاء الله.
وأما بقية الأمراء الذين كانوا في ذلك التجريد، فمنهم من مرض وقضى، ومنهم من عاد متمرضا. وقال الناس: إنهم اغتيلوا هنالك، والله أعلم بذلك.(1/318)
وفي نزهة الناظر: أقامت العساكر على السيس نحو الشهر، وأخذوا البلاد المذكورة، وكتب نائب حلب إلى السلطان يبشره بذلك، فأعيد له الجواب بالشكر والثناء له وللأمراء، وكتب منكوتمر كتابا فيه غلظ على الأمراء، من جملة ذلك: متى لم تفتح سيس لا يحضر أحد من الأمراء إلى مصر، فإنه لم يبق له عند السلطان إقطاع، وكتب إلى نائب الشام سيف الدين قفجاق أن يركب مع عسكر الشام وينزل بهم على حمص ليصل خبره إلى العدو بأن عسكر الشام مقيمون ينتظرون العبور، ثم قال: وصل مملوك نائب حلب بأن العساكر مقيمون بحلب ينتظرون دستورا، وذكر في كتابه وفاة الأمير عز الدين الموصلي نائب طرابلس، ولما جاء هذا الخبر شرع منكوتمر في التصرف في أمور الأمراء وتفريق شملهم، وأراد أن يكبر خشداشيته، ثم اتفق مع السلطان على مسك جماعة من الأمراء المصريين والشاميين، وأن يطلب الأمير حسام الدين الأستاذ دار إلى مصر بمفرده على البريد ليفرق شملهم، فإذا وصل إلى مصر يمسك، وطلب حمدان بن صلغاى وعرفه بجميع ما وقع عليه الاتفاق من مسك بعض وقتل بعض وتغيير بعض، وأوثق الأمر معه، وكتب إلى الأمير بلبان الطباخي نائب حلب وعرفه أنه ثم أمراء قد قصدوا تغيير دولتنا، ونقل عنهم كلام كثير، فينبغي أن تحسن في مسكهم وتساعد حمدان وأيدغدى شقير وبالوج، المماليك السلطانية، وركب حمدان إلى أن وصل إلى دمشق وعرف الأمير جاغان بالأمر الذي حضر بسببه، وكان معه كتاب إليه بأن يحترس على قفجاق ولا يمكنه من العبور إلى دمشق إلا بمرسوم، ثم ركب من عنده إلى أن وصل إلى قريب حمص وبطق البريد إلى قفجاق، فلما وصل إليه الخبر قال: نذهب إلى الصيد فإنه رجل نحس وما حضر في خير ولا بد معه مكيدة يفعلها، فنحن نبعد عنه، ثم إن حمدان لما ركب أوقع الله طريقه في الليل على المكان الذي نزل فيه نائب الشام وكان قد قاد غزالين، وكان متكئا، وإذا قد سمع ركض الخيل، فقام وجلس وإذا بجاغان، فقام وتلقاه وأكرمه وقال: ما هذه طريقتك؟ فقال والله جعل لنا نعاس، فخرجنا من الطريق إلى هذا المكان، وقال: النوم غلب علي فأريد أن أتكئ، فوطئوا له فراشا ونام إلى قريب الفجر، ثم قال له قفجاق نركب معك إلى حمص. قال: نعم ولكن أريد أن تطهى الأمير شماجا بلحم الغزال قبل أن أروح، فقال: نعم، وركب قفجاق وسبق وأمر بعمل الشماج، فلما وصل حمدان أحضروا الطعام بين يديه، وتقدموا للأكل، وجلس هو بحذا قفجاق نائب الشام، وأخرج سكينا من وسطه وأسرع يقطع اللحم ويأكل، ثم إنه قطع برأس السيخ لحما ورمى قدام قفجاق، ولم ير قفجاق أنه يأكل منه ولا مد يده إليه، فقال له يا أمير: لم لا تأكل معي من هذا؟ فقال له: بطني توجع، ولي أيام ما أكلت الزفر، فلما سمع هذا الكلام لم يجلس بعدها، وركب وراح، وبعد ركوبه أخذ قفجاق اللحم الذي قطعه برأس السكين ورماه للكلب، فحين أكله الكلب وقع ومات. فقال: جروه وارموه، فلما أرادوا أن يجروه تمرق لحمه من عظمه.
ثم أرسل من ساعته إلى بكتمر السلحدار وجماعة الأمراء الذين يثق بهم وأخبرهم بخبر حمدان، وأنه ما جاء في خير، وأنهم يحترزون منه، وسير أيضا بعض النجابة إلى مصر إلى أصحابه، ولما وصل حمدان إلى حلب واجتمع بنائبها أعطاه الكتاب وعرفه بسبب الأمر الذي أتى فيه، فلما سمعه الطباخي تعجب وقال: يا أمير، كيف نعمل؟ وهذا ما هو أمر قليل يحتاج فيه إلى رجال، ولا يعمل بفتن كثيرة، وطارحه بأن أيدغدى شقير وأخبره بما قال النائب، وكان حمدان قد حضر ومعه تقليد لسيف الدين طقطاى بنيابة طرابلس بحكم وفاة نائبها، وتوفى طقطاى أيضا.(1/319)
فأرسل هو وأيدغدى شقير مملوكين مع مملوك نائب حلب إلى السلطان وعرفوه بذلك، وذكر حمدان في كتابة توقف الطباخي عن مسك الأمراء، فحصل من ذلك لمنكوتمر حنق وغيظ على نائب حلب، وقال للسلطان: ينبغي مسك الطباخي وتولية أيدغدى شقير عوضه في النيابة، فقال السلطان: هذا الوقت لا يقتضى تحريك الطباخى، فكتبوا له بالشكر والثناء، وأمروه أن يتحبل على مسكهم بكل وجه، وأرسلوا تقليد الأمير سيف الدين بكتمر السلحدار بنيابة طرابلس، فإذا حضر ولبس تشريفة يمسك، ثم يمسك الأمراء المذكورون بعده، ثم إن بكتمر تجهز إلى الخروج والتوجه إلى الديار المصرية، فخرج وسار إلى أن قرب من بلبيس، فلما وقعت بطاقته طلب منكوتمر حسام الدين الأستاذدار فقال له: يمسك بكتمر قبل دخوله إلى السلطان، فقال: ما هو مصلحة في هذا الوقت، والمصلحة تأخيره إلى أن يرد الجواب من نائب حلب بمن مسك من الأمراء.
وقال صاحب النزهة: وكان سبب سلامته ما حكاه لي بعض مماليكه الذين حضروا معه، فقال: حين طلب أستاذي إلى مصر تحقق أنه إذا وصل إلى مصر ما يخلى سبيله، فأوصى على صغيرات، ووقف، وتصدق، وأخذ معه ألف دينار برسم الصدقة، وصار يتصدق بها طول الطريق، ولما وصل إلى بلبيس في آخر الليل أراد أن ينام ويستريح ساعة، فلم يأخذه النوم لكثرة فكره وقلقه، ثم قام توضأ وصلى ركعتين، وسأل الله أن ينجيه من شر من يخافه، وتضرع إلى الله كثيرا، ثم سمع المؤذن يسبح، ويقول في ابتداء كلامه: " بسم الله الرحمن الرحيم، إنا فتحنا لك فتحا مبينا "، الآية، فقام وتمرغ على الأرض، وسأل الله تعالى، وقال للعامل معه: والله لم يطب خاطري إلا عند ذلك، لأنه تفاءل باستفتاح ذلك المؤذن، وأوضح ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الفأل ويكره الطيرة، وأفضل ما يكون التفاؤل من كلام الله عز وجل، ثم ركب وهو منشرح الصدر، إلى أن دخل عند السلطان، فأقبل عليه السلطان إقبالا حسنا، وأجلسه، وشرع يسأله عن أحوال العسكر، وعن الأمراء، وعن القلاع التي فتحت، وهو يخبره بالتفصيل، والسلطان ينشرح لحديثه، وآخر كلامه أن قال له: يا أمير ما طلبتك إلا لتخبرني بما وقع بين أمير سلاح وبين الدواداري، وما السبب في ذلك. فقال: والله يا خوند ما وقع بينهما شيء يوجب الخلف، وإنما أراد الأمير علم الدين الدواداري التقدم إلى العسكر، فكره أمير سلاح ذلك منه لكونه أتابك العساكر مدة عمره، ولما حضر مرسوم مولانا السلطان امتثلوه، ومشى كل واحد في مكانته.
ثم بعد ذلك خلع عليه السلطان، وأنعم عليه بألف دينار، وخرج من عنده.
وكان منكوتمر منتظرا لمسكه، فلما رآه وقد خرج وعليه الخلعة حصل عنده ضيق الصدر، وكان قد راود السلطان في أمره مرارا عديدة إلى أن وافق على مسكه، ولكن الله تعالى أزال ذلك عن خاطره.
ثم إن منكوتمر لما دخل عند السلطان قال له: يا منكوتمر، والله ما زلت طالبا مسكه إلى أن دخل عندي، فزال ما في خاطري من ذلك، ولما رأيته استحييت منه، وذكرت له خدماً كثيرة علي، فطيب خاطرك فهذا أمر لا يفوت.
وفيها كان الروك الحسامي بالديار المصرية، وكان ابتداؤه في جمادى الأولى، فريكت البلاد، وكتبت الأمثلة وفرقت، وجلس منكوتمر ليفرقها على العساكر، فكان كل من وقع له مثال لا سبيل له إلى المراجعة فيه، فمن الجند من سعد، ومنهم من شقى، ومنهم من خاب، وأفرد للخاص السلطاني بلاد الأعمال الجيزية ونواحي الصفقة الاطفيحية، وثغرى دمياط والإسكندرية، ونواحي معينة من البلاد القبلية والبحرية.(1/320)
وقال بيبرس في تاريخه: وفيها أجمع رأي المنصور ومنكوتمر نائبه على روك النواحي والجهات، وسائر المعاملات، وجميع الإقطاعات، وتجديد ترتيبها، فرسم بجميع الدواوين والكتاب والمستوفين لتحرير المقترحات الروكية، وتحقيق ارتفاع الديار المصرية، وتعيين قوانين نواحيها، ومكلفات مساحة ضواحيها، وجملة متحصلاتها، وعقد معاملاتها، وريع أموالها وغلاتها، فجمعوا جميعا، ورتب معهم الأمير بدر الدين ألك الفارسي الحاجب، والأمير بهاء الدين قراقوش الصوابي الظاهري وطولبوا بسرعة النجاز، فعملوا المقترح بعضا بالحقيقة وبعضا بالمجاز، وجددت الإقطاعات، وجمعت النواحي والجهات وكتبت بها المثالات، وجعلت ثلاث طبقات، وجلس منكوتمر لتفرقتها على العساكر، فكان كل من وقع له مثال لا سبيل له إلى المراجعة فيه، ولا يمكنه الحيلة على تلافيه، فمن الجند من سعد، ومنهم من شقى، ومنهم من خاب، ومنهم من أنجح بما لقى، فانتقل بعضهم من بلاد عامرة إلى أراضي غامرة، ومن متحصلات وافرة إلى نواح دامرة، وفاز بعض بأكثر مما قصده، ووجد خيرا مما فقده. وكان كما قيل:
يشقى رجال ويشقى آخرون بهم ... ويسعد الله أقواما بأقوام
وأفرد للخاص السلطاني بلاد الأعمال الجيزية، ونواحي الصفقة الإطفيحية، وثغرى دمياط والإسكندرية، ونواح معينة من البلاد القبلية والبحرية، وجمعت إقطاعات الأمراء وأجنادهم، وأضيفت عبر الجند إلى عبر بلادهم.
وعين لمنكوتمر من النواحي المعروفة، والإقطاعات الموصوفة، والجهات المتميزة، والبلاد المتعينة والمختارة لنفسه وأصحابه، وكان الحكم في تعيينه لدواوينه، والاختيار لكتابه، إلا أنه لم ينتفع بمباشرة فيه، ولا تملى به، فلله در القائل:
اقنع تعز ولا تطمع تذل ... ولا تكثر تقل ولا تغتر بالأمل
وكان نجاز الروك والفراغ منه في ذي الحجة سنة سبع وتسعين وستمائة، واستقبل بالإقطاعات سنة ثمان وتسعين الهلالية، ونقلت السنة الخراجية من سنة ست إلى سنة سبع وتسعين وستمائة.
وهذا النقل جرت العادة بإثباته في الدواوين، وإمضائه للمستخدمين من تقادم السنين، وأيام الخلفاء والملوك المتقدمين، وسببه الداعي إليه أن إدراك الغلال، واعتصار الأقصاب، وقبض الخراج، إنما المعول في حسابه على السنة الشمسية، وعقد الضمانات، وأقساط المعاملات على حكم أشهر السنة القمرية، وبينهما تفاوت في عدد السنين والحساب، يعلمه العلماء والكتاب، وله دليل من آي الكتاب، وهو قوله عز وجل: " ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا "، فقيل أن التسع مقدار التفاوت بين السنين الشمسية والهلالية، فإذا مضى ثلاث وثلاثون سنة انزحفت النسبة إلى السنة الخراجية فيحتاجون إلى تحويلها بالأقلام، ونقلها على جهة الإعلام من غير نقص في الأموال، ولا خلل في الأعمال، وكتب بهذا التحويل سجلات إلى البلاد ليكون عليها العمل والاعتماد.
وقال صاحب النزهة: لما أرادوا روك البلاد، طلبوا تاجا الطويل ليعمل أوراقا بعبرة الأمراء والجند، وقوانين البلاد، واتفق الحال على أن العسكر جميعه أربع عشرة قيراطا، والسلطان أربع قراريط، وقيراطان وقف، والبقية تبقى إلى أن يسجل عليها جند بطالون لتقوية الجيش، والذي استقر للخاص الشريف السلطاني: الجيزية، والاطفيحية، ومنفلوط، والكوم الأحمر، ومرج بني هميم، والإسكندرية، ودمياط، وجرجة شمسطا، ورتب لمنكوتمر ما لم يكن لنائب قبله فكانت عبرة إقطاعه ما ينيف على مائة ألف دينار.
وهذا الروك كان سبب إتلاف الجند والعسكر لتناقص الإقطاع الذي كان لجند الحلقة، وكان عشرة آلاف درهم إلى ثلاثين ألفا ونيفا، فجمع أكثره إلى عشرين وما دونها، فصار كل من كان خبزه يعمل عشرين ألفا نجده عشرة آلاف، ومن كان يعمل عشرة نجده ستة، وتوقفت أحوال الجند، وقلت الأرزاق، فهذا هو الذي ولد حب التضاغن في القلوب، والبغضاء في النفوس، فكان أقوى الأسباب على الفتنة، كما نذكره إن شاء الله.
وفيها تقنطر المنصور لاجين بالميدان، فانكسرت يده، وانقطع أياما ثم عوفي وركب في الحادي عشر من صفر، ومدحه شمس الدين محمد بن. . . بأبيات منها:
فمصر والشام كل الخير عمهما ... وكل قطرٍ علت فيه التباشير
والكون مبتهج والوقت مبتسم ... والخير متصل والدين مجبور(1/321)
وكيف لا وعدو الله منكسر ... بالله والملك المنصور منصور
وفي نزهة الناظر: كانت عادة السلطان في لعب الآكرة العجلة والانهماك على اللعب، وعرف في الشام ومصر بجودة لعب الآكرة، وكان كثيرا ما يدع الآكرة في الهواء ويسوق تحتها، ويقوم في السرج ويأخذها من الهواء بيده ويصل بها إلى آخر الميدان، فاتفق له ذلك اليوم أنه ضرب الآكرة وساق تحتها وقام في السرج فخرج منه وسبقه رأسه إلى الأرض فالتقى الأرض بيمينه فانكسرت، وتتعتعت أضلاعه، وبقى ساعة في الأرض إلى أن نهض بنفسه وقام، فوجد جميع الأمراء قد ترجلت، وكانت العادة أن الملك إذا اتفق له وقوع من فرسه إلى الأرض لا يجسر أحد أن يتقدم إليه إلا بإذن منه لمن يختاره أو لمن له عليه إدلال مثل مملوكه الخاص أو غلامه، ويترجل سائر الأمراء، فإذا ركب ركبوا، وركب السلطان وأشار للأمراء أن يتموا لعبهم، وطلب المجبرين فعملوا في يده ما هو الواجب.
وكانت العامة يحبونه لأنه كان يحبب نفسه إليهم، فلما رأوه وهو راكب تباشروا ودعوا له، وصاح بعض الحرافيش وقال: سلامتك يا قضيب الذهب ما تستهل، أرنا يدك، وكان قد علقها بمنديل، فلما سمعه أخرج يده وأخذ المقرعة وضرب بها على معرفة الفرس، فتصايحوا ودعوا له، ثم لما طلع طلب المجبرين فلما حلوا يده وجدوا الرباط قد تغير والعضو قد انزعج، فسألوه عن ذلك، فأخبرهم بما فعله عند صياح ذلك الحرفوش، فقالوا له: يا خوند كيف تخليه يفشو؟ قال: لا كان ينكسر خاطر الناس.
ثم إنه أقام مدة شهرين إلى أن ركب، فلما ركب زينت مصر والقاهرة، وكتب إلى البلاد الشامية بعافيته، وزينت سائر الأقاليم.
وأما ما أنفق يوم ركوبه إلى الميدان فكان شيئا غريبا، وكان يوما مشهودا، وكانت جميع دكاكين الصليبة إلى آخر الكبش مملوءة بالرجال والنساء، وكان الرجل منهم يجلس بنصف درهم، وأما البيوت فإنها أكريت في ذلك اليوم بأجرة سنة، ولما عاد وطلع القلعة خلع على سائر أرباب الوظائف وسائر الأمراء والمقدمين، وأمر بالصدقات على الفقراء والمشايخ، وأفرج عن المسجونين.
وفيها: وفد سلامش بن أفاك بن بيجو التتري وأخوه قطقطو ومن معهما إلى الأبواب السلطانية، وسبب ذلك أن سلامش كان مقيما بلد الروم ومقدما على التمان المجرد فيها، فبلغه أن قازان عزم على أن يقتله، فأراد الانحياز إلى دار الإسلام طلبا للنجاة، وكاتب الملك المنصور حسام الدين لاجين مستأذنا ومعلما بوصوله مستأمنا، وأرسل من جهته شخصا يسمى مخلص الدين الرومي، فأجاب السلطان إلى ذلك، وقال: إنا لا نكره من يهاجر إلينا محبة في الله والرسول عليه السلام.
وبلغ قازان مراسلته، فجرد عسكرا لحربه وأخذه، فالتقوا معه في بلد الروم، فلما التحم القتال بينهم خامر عليه بعض من كان مضافا إليه، فلم ينجه إلا الفرار وقصد هذه الديار.
ولما وصل إلى البلاد الحلبية جهز معه من يحضره إلى الأبواب السلطانية، وعند وصوله عومل بالإكرام وقوبل بالإنعام، وخير في المقام بمصر إن شاء أو الشام، فذكر أنه ترك عياله وخلف أهله وأطفاله وسأل تجريد عسكر ليحضر أهله، فرسم بأن يجهز معه من عسكر حلب من يساعده على ما طلب، وعاد من الباب العزيز، فجرد النائب بحلب معه عسكرا إلى الروم وقدم عليه الأمير سيف الدين بكتمر الحلبي أحد الأمراء بحلب، فساروا إلى بلاد سيس، فلما وصلوا إليها شعر بهم صاحب سيس والتتار الذين ببلادها، فأخذوا عليهم مضايق الدروب وعاجلوهم بالحروب عن الهروب، فقتل الحلبي ومن معه وفر سلامش منهزما وجاء إلى قلعة ببلد الروم واعتصم بها، فأرسل قازان في طلبه، فأحضر إليه فقتله شر قتلة.
وكان قد ترك أخاه بالديار المصرية على أنه رهينة عنه واسمه قطقطو وصحبته مخلص الدين الرومي، فاستقرا بها وأعطيا إقطاعا وراتبا.
وفي نزهة الناظر: كان سلامش هذا كبير القدر معظما ببلاد الروم، وله بيت كبير في المغول.(1/322)
قال صاحب النزهة: ذكر لي من أثق به من الروميين أن جد هذا الرجل هو الذي فتح بلاد الروم في سنة إحدى وأربعين وستمائة، وملكها بعد قتل عالم كثير، وعند نزوله حضر إليه أبو بروانا وعرفه بنفسه وعرفه أيضا أن هذه أقليم عظيم، وأنه لا ينظر إلى من قتل منه، والتزم أن يحمل له كل سنة خراجا ويكون هو ومن معه رعيته، فوافقه على ذلك وقرر عليه في كل سنة ثلاثمائة وستين ألفا من الدراهم، وألف رأس غنم، وألف رأس بقر، وألف رأس جمل. وقال له بعض أمرائه: يا خوند هذا يأخذ هذا المقدار من ضيعة واحدة من هذه الإقليم. فقال له: إذا استمر هذا يجيء غيره، وبقى هذا إلى سنة أربع وخمسين وستمائة، فخرج هلاون ومات بيجو وأخذ ولده أفاك مكانه، وحضر إليه بروانا، وكان أيضا والده توفى فأكرمه وخلع عليه وقرر عليه ما كان يحمل والده لوالده، واستقر إلى أن توفى أفاك وملك سلامش ابنه البلاد وأقام فيها، وملك جبال قرمان وضياعا كثيرة، ثم عصى على ملوك المغول، فلما ملك قازان سير إليه جوبان وقطلوجا، فضربوا معه مصافا، فخامرت عليه أمراؤه فانكسر، وكان سبب عبوره إلى مصر.
ثم قال صاحب النزهة: والأصح أن سلامش أرسل كتبه في دولة لاجين، يستأذن على الدخول إلى البلاد الإسلامية، فلما وصل إلى حلب قتل لاجين، ودخل إلى مصر في الدولة الناصرية وأكرمه بيبرس وسلار.
وفيها: ابتدأ الخلف بين طقطا بن منكوتمر ملك بيت بركة بالبلاد الشمالية وبين نوغيه بن ططر بن مغل بن دوشى خان بن جنكزخان، وذلك لأسباب: منها: أن بيلق خاتون زوجة نوغيه استنفرت من ولديه وهما جكا وتكا وأظهرا لها الكره والامتهان، فأغرت طقطا بهما وأرسلت تحرضه عليهما.
ومنها: أن بعض أمراء طقطا أوجسوا خيفة من أمر بلغهم عنه ففارقوه وانحازوا إلى نوغيه، فقبلهم وأحسن إليهم وأنزلهم في حوزته وزوج واحدا منهم اسمه طاز بن منجك بابنته.
فأرسل طقطا يطلبهم منه، فمنعهم عنه، فأغضبه ذلك، وأرسل إليه رسولا وأصحبه: محراثا، وسهم نشاب، وقبضة من تراب، فلما جاء الرسول إليه وعرض ما معه عليه قال: إن لهذه الرسالة خبرا، ولهذا الزمن إشارة ورمزا، فجمع كبار قومه وذوي مشورته وقال: ما عندكم في هذا وما قصد طقطا بإرسال التراب والنشاب والمحراث؟ فقال كلا منهم مقالا، وجال في تأويلها مجالا. فقال: ما أصبتم القصد ولا أجدتم النقد، وأنا أخبركم بمراده وأعرفكم خبر فؤاده، أما المحراث فهو يقول: إن نزلتم إلى أسافل الأرض أطلعتكم بهذا المحراث، وأما النشابه فيقول: وإن طلعتم إلى الجو أنزلتكم بهذا السهم، وأما التراب فيقول: اختاروا لكم أرضا يكون فيها الملتقى، فعلموا أنه أصاب في تأويله وفهم فحوى رسالة طقطا ورسوله، فأعاد الرسول وقال: قل لطقطا إن خيلنا قد عطشت ونريد أن نسقيها من ماء تن وهو نهر على مقام صراي وفيه منازل طقطا.
فعاد الرسول بالجواب، فاستعد طقطا وجمع جنوده، وأعد حشوده، وسار للقائه، وبلغ نوغيه وأولاده مسيره إليه وعزمه حربه، فجمع العساكر التي عنده والتوامين التي تحت حكمه، والمقدمين الذين هم إليه مضافون وبه مقتادون، وهم: طاز بن منجك وهو زوج ابنته، وطنغر بن قجان، وأباجى ابن قرمشى، وقراجين أخوه، ومنجى أخوهما، وماجى، وسدن، وألاج، وصنغى، وقوشب، وصلغاى، واشق، وكبجك، وشبتكاى، وتركرى، وقطلوبغا، ومغلطاى، ومعهم ما ينيف عن مائتى ألف فارس.
وسار كل منهما لقصد صاحبه، فالتقوا على نهر يصل بين مقام طقطا ومقام نوغيه، فكانت الكسرة على طقطا وعسكره وانهزموا، وانتهت بهم الهزيمة إلى نهر تن فمنهم من عبره فسلم، ومنهم من هوى فيه فغرق، وأمر نوغيه عساكره أن لا يتبعوا موليا، ولا يجهزوا على جريح، وأخذ الغنائم والسبايا والأسلاب وعاد إلى مكانه.
ذكر القبض على الأمير بيسرى(1/323)
والسبب فيه أن منكوتمر كان يعلم عن السلطان الكتب والتوقيعات في الأيام التي وقع السلطان من الفرس في الميدان حين كان يلعب بالآكرة، وكان يخاف على السلطان من عارض، وكان يعلم أن ما في الدولة أكبر من بيسرى، ومع هذا كان البيسرى يكره منكوتمر في الباطن، وكان منكوتمر يخاف أنه إذا جرى أمر يكون البيسرى هو المقدم، وأنه إذا تقدم أوقع به، فشرع في التدبير على مسكه، وكان السلطان قد رسم فيما مضى أن يكون البيسرى كاشفا بالجيزة وأن يحضر الخدمة أيام الاثنين والخميس، وكان يجلس رأس الميمنة ويجلس فوقه حسام الدين بلال المغيثي الطواشى، لأجل كبره وتقدمه، وكان الملوك والأمراء يعظمونه، واتفق أن البيسرى حضر على عادته وقامت الأمراء، فلما رآه الطواشى قام إليه وشرع يبكي ويمسح عينه بالمنديل قدام الأمراء، فخشوا من بكائه وقالوا: يا سيدنا ما سبب بكائك؟ فقال: كلما رأيت هذا الأمير أفتكر أستاذي وأشم فيه روائح الملوك، فبلغ ذلك في وقته منكوتمر، فأثر عنده تأثيرا عظيما، وعرف السلطان بذلك، وبالغ في الكلام فيه، وما نهض من عنده إلا بعد الاتفاق على مسك البيسرى، ولكن استمهل السلطان في ذلك أياما، وبقى مفكرا في أمره، وكيف يدبر على مسكه وذلك لما كان يعلم من كبره وعظمته في النفوس وتقدمه في الدول، ولما كان يعلم من كثرة حاشيته.
واتفق في تلك المدة أن حضر مملوك نائب حلب وأخبر أن العساكر المنصورة دخلت إلى بلاد سيس وأغاروا عليها، ولكن لم يتعرضوا لحصر القلاع، فإن السبب فيه أن صاحب سيس استنجد بصاحب قبرس وبأصحاب جزائر بحر الروم وبالإفرنج، ونفق أموالا عظيمة في العسكر، واستقل بعسكر السلطان، فلما سمع السلطان ذلك وجد فرصة في أمر البيسرى، فطلب منكوتمر واتفق رأيهما على تجريد عسكر أخرى، فعين الأمير بكتمر السلحدار والأمير طقطاى ومبارز الدين اوليا بن قرمان وأضاف إليهم جماعة من العسكر ورسم لهم بالسفر، ولما سافروا وجد أكابر الأمراء قد تفرقت ولم يبق من يخشى من جهته، وجلس منكوتمر وخشداشيته وأخذوا يتحدثون في ترتيب أمراء بدمشق من جهتهم وفي مسك أمراء آخرين لتكون الدولة كلها إنشاءهم في الديار المصرية والشامية.
ثم بعد أيام لما طلع البيسرى الخدمة على العادة أخذ السلطان يسأله عن حاله وما هو فيه فقال يا خوند: أنا منشرح بما تصدق علي مولانا السلطان من قرب المكان، يعني كشف الجيزة، وهو مكان نزه وفيه الصيد وطيب الوقت، فتبسم السلطان ثم قال له: يا أمير ما تعزم على يوما عندك حتى تنشرح وتنبسط، فقام وقبل بالأرض وقال: قم يا خوند، وتواعد معه أن تكون ضيافته يوم الثلاثاء.(1/324)
ثم خرج من عنده وشرع في تجهيز أمر الضيافة الهائلة، ورأى أن المخيم الذي فيه ما يسع للسلطان وحاشيته، فطلب أمير مجلسه وقال له: اذهب إلى منكوتمر وقل له يقول للسلطان إن مخيمي ضيق، ويكون مخيم السلطان في الموضع الفلاني، فجاء هذا إلى منكوتمر وبلغ الرسالة، ثم قال له: اجلس عندي حتى أبلغ السلطان ما قلته لي، ثم شرع معه في الحديث ولم يزل يستميله ويعد له بإمرة ومالٍ، وحلف له على ذلك على أن يذهب معه إلى السلطان ويقول له: إن أستاذي اتفق مع بعض الأمراء على أن السلطان إذا حضر إلى مخيم أستاذه يوقع به الأمر ويأخذ المملكة لنفسه، فاغتر هذا بقول منكوتمر ورضى بذلك، ثم قام منكوتمر وأخذه معه، فدخل على السلطان وقال له يا خوند: هذا قد حضر من عند البيسرى ومعه نصيحة للسلطان، وهو يقصد بذلك المكافأة عليها، فأخبر السلطان بما وقع عليه اتفاقهما، فشكره السلطان وأثنى عليه، ثم رسم السلطان بتجهيز الدهليز صحبة الفراشين إلى الجيزة وأعاد الرجل بالإجابة، فجاء إلى أستاذه البيسرى وأخبره بأن السلطان أجاب إلى ذلك وأن خيامه قد طرحت، فلما أصبح البيسرى طلع إلى الخدمة بناء على أن ينزل مع السلطان لميعاده على ما مضى من الاتفاق، فلما فرغت الخدمة، قال له السلطان: ميعادنا يكون يوم الأربعاء، فعند ذلك قام وأراد النزول، فلما وصل وسط الدهليز خارج باب النحاس قامت إليه مماليك كان السلطان قد أرصدهم هناك وأمرهم بأن بيسرى إذا وصل هناك يأخذوا سيفه ويمسكونه، فضربوا على الحلقة، وأخذوا سيفه من وسطه، ومسكوه، ووقع الضجيج بعد ذلك في القلعة، وبلغ إلى أهالي المدينة، فغلقت باب زويلة مقدار ساعة من النهار، فذهب الناس بجميع ما كان جهزه البيسرى للضيافة.
ثم رسم السلطان بالحوطة على جمع موجوده، وحبس جماعة من مماليكه، وفرح منكوتمر بذلك فرحا عظيما فإنه كان كلما يراه يتنكد ويتنغص.
وكان اعتماد المنصور في مسك الأمراء الظاهرية اعتماد أستاذه الملك المنصور قلاون فإنه لم يتم له الملك حتى مسك جماعة كبيرة من الظاهرية، وأول من مسك منهم كان البيسرى هذا، وأقام في الحبس تسع سنين وأيام إلى أن أفرج عنه الملك الأشرف على ما ذكرنا، ولما تولى لاجين أراد أن يفعل مثل فعل أستاذه قلاون.
ولما مسك بيسرى أرسل يقول للسلطان: هذا جزائي منك؟ وأقسم على كرجى وهو يقيده أن يبلغ هذا إلى السلطان، فأبلغ كرجى كلامه هذا إلى السلطان، فقال له: هذا جزاؤك، بل جزاؤك أكثر من هذا، وأنا ما أقدر أن أعمل معك ما عمله كتبغا معك من الإحسان، فكان جزاؤه منك ما فعلته في حقه، فكيف آمن إليك بعده؟ .
وفيها ورد الأمير حسام الدين مهنى بن عيسى، أمير آل عيسى، فتلقاه السلطان بالإكرام والقبول، وقد ذكرنا أن الملك الأشرف خليل لما مسكه كان قد سلمه إلى حسام الدين لاجين ليوصله إلى مصر، وأوصاه أن يطبق عليه، ولا يمكنه من الاجتماع بأحد، وحكى عن أخيه محمد بن عيسى أن من جار إحسان لاجين إلى أخيه مهنى أنا لما نزلنا خربة اللصوص في الليل، وانفرد لاجين عن الناس قلت: ويل لآل مهنى ما لهم من معين، ولا مخبر لأهلهم بخبرنا، والله إن هذه الطريق شين وتهم علينا، فقال لي أخي مهنى: اسكت، فنحن لا نبالي، ومعنا هذا الأشقر الذي تخافه العرب والترك، وأراد به لاجين. وكان لاجين يسمعه، فلما أصبحنا، وجدنا إنسانا على راحلة.(1/325)
فقال أخي: يا أمير حسام الدين أما تتصدق علينا بأن تنادى هذا الرجل لعله جاء من بلادنا ومعه خبر من أهلنا، فقال نعم، وأشار إليه فحضر، فقال له أخي مهنى: من أين يا وجه العرب، فانتسب إلى قبيلة من العرب، فعرفه مهنى، ثم سأله عن أهله فأخبره عن أهلنا ومنازلنا، فقال له نقصدك أن تذهب إلى أهلنا وتخبرهم بأنا نحن طيبون، ونحن في قيد الحياة، لذلك علينا الملاقاة إذا أفرج الله عنا، فقال: نعم، إنها الأمير ... ... لاجين، فقال: يا أمير حسام الدين ترى أن تفعل معنا خيرا، والله تعالى يكافئكم، فقال: قل ما تريد، فقال: أن تأذن لنا بأن نكتب سطرين أو ثلاثة إلى أهلنا ليعلموا أنا نحن طيبون في خير، وأنا تحت حفظك وظلك، فتبسم وقال لدواداره: أعط الأمير الدواة والورق فإذا كتب كتابا توقفني عليه، فأعطاه، فكتب إلى أخيه هبة، وعرف أخيه أنه طيب في خير وعافية، وأمره أن يرحل بأهله إلى نحو الشرق إلى مكان سماه له، وأن يشن الغارة في المنازل القريبة منه، ولكن ذكر ذلك كله باللغز، فسمى تلك بأسماء أولاده، وبعض نسائه بحيث لا يفهم أحد ذلك إلا أخوه الذي كتب إليه، فلما وصل إليه الكتاب رحل هو بأهله من برية دمشق، ثم شرع في التشويش على المنازل، ونالوا بذلك مقاصدهم، ولما اتفق مجيء مهنى إلى السلطان أحسن إليه السلطان، فخلع عليه طرد وحش، وهو أول من لبس طرد وحش من آل مهنى، وكانت خلعته قبل ذلك كنجى أو مسمط، وطلب دستورا للحجاز من الشام، فأذن له بذلك وأنعم عليه.
وفيها صودر القاضي بهاء الدين بن الحلى ناظر الجيوش، وكان له خدمة على السلطان في أيام نيابته، فلما تسلطن صارت له عنده مكانة كبيرة، واتفق أنه استشاره في بعض الأيام في أمر منكوتمر، وقال له: يا قاضي بهاء الدين، قد كثرت الشكوى في هذا النائب، وفي حاشية وكتابه، وإنما أريد أن أقيم مملوكي منكوتمر، وأكون مطمئنا من جهته. وتكون أنت تدبره وتعرفه الطرق التي يسلكها القواد. فقال له: والله يا خوند، نصحك واجب على كل أحد، وخصوصا على المملوك، ولا يخفى على السلطان أن دولة الملك السعيد ما أخربها إلا مملوكه كوندك، ودولة الأشرف ما أخربها إلا بيدرا، ودولة الملك السعيد ما خربت إلا بسبب مماليكه، ومملوكك منكوتمر شاب كبير النفس، حاد الخلق، لا يرجع لأحد، وربما يجري بسببه فساد كثير، وما هذا بأمره، وإنما أمر السلطان، فسكت السلطان، ولم يجبه بشيء.
وبلغ ذلك منكوتمر في وقته، فكتمه في نفسه، وحط عليه مكائد السوء.
قال الراوي: وبلغني أن بهاء الدين لما خرج من عند السلطان اجتمع بالأمير علم الدين الدواداري، وأخبره بما جرى بينه وبين السلطان، فقال له علم الدين: أخطأت يا قاضي في هذا الرأي، وسكت عنه.
وبقى هذا الأمر إلى أن مسك قراسنقر النائب، وتولى منكوتمر النيابة، ودخلت عليه الناس تهنئه، وكان فيهم القاضي بهاء الدين فلما قبل يده وجلس، قال له: يا قاضي هذا كله ببركتك، وبركة وعظكم للسلطان، فأطرق رأسه إلى الأرض، وعلم أنه لا بد من شيء مترتب عليه من جهته مما لا طاقة له به. ثم شرع منكوتمر يعرف السلطان بما للقاضي بهاء الدين من السعادة والأموال والعقارات والبساتين بمصر والشام، فلم يزل يوحى إليه إلى أن اتفق معه على مسكه ومصادرته.
قال الراوي: وكان للقاضي من السعادة والعظمة والأحكام النافذة على جانب كبير، وكانت له مسقفة. . . كبيرة اتخذها لنفسه، وله ميل إلى الشباب من أهل المحاسن، وكان له تعلق ببعض المماليك الخاصكية، وكان لذلك المملوك عادة، يأتي إليه في بستان بالقرب من الميدان حين يخرج من الخدمة، واتفق حضوره عنده على عادته، وكان منكوتمر قد بلغه ذلك عنه فأمر باسترصاده، ولما أخبروه بذلك أمر الطواشى المقدم أن يركب ويأخذ معه عدد من النقباء، ويأتي البستان، ويكبس عليه، فركب الطواشى بمن معه وهجموا عليه في البستان، وأخرجوا المملوك منه، ولم يتعرضوا لغيره، فلما أصبح وطلع إلى الخدمة مسك وسلم إلى جمال الدين أقوش الرومي الحسامي، ومسك معه أيضا جمال الدين بن عزيز مقدم الركبدارية، ومجد الدين ناظر الأعمال الغربية وجماعة آخرون من الكتاب.(1/326)
ورسم بالحوطة على جميع ما للقاضي بهاء الدين من الأموال والأملاك والبساتين بمصر والشام، وكذلك غلاله وسواقيه وجميع دواليبه، وتولى بجميع ذلك أقوش الرومي، وأوصى منكوتمر لأقوش بعقوبة القاضي بهاء الدين لما كان في نفسه منه، وكان المذكور بالغ في عقوبته حتى أنه كان يحمى الخوذة الحديد على جمرات النار، ثم يلبسها رأسه فيجد من ذلك ألما عظيما، وعذبه بأنواع العذاب إلى أن أخذ منه جميع أمواله، فكان جملة ما أخذ منه من موجوده بمصر والشام نحو مائة ألف وثلاثين ألف دينار، وقصد منكوتمر إتلافه بالكلية.
ووقفت الأمراء وسألوا السلطان أن يصفح عنه، فقبل شفاعتهم وأمر بالإفراج عنه، وعن بقية المصادرين الذين مسكوا معه، وقرر أقوش الرومي على بهاء الدين مائة ألف درهم بشرط أن يضمن عنه جماعة من التجار، فأحضر جماعة من قيسارية جهاركس وجماعة من الجند والمقدمين، فضمنوه وأفرج عنه، ولم يمكث يومين حتى بعث إليه يطالبه بالمبلغ المذكور فخشى على نفسه من الرجوع إلى العقوبة فأخفى نفسه، فلما أخبر أقوش بذلك طلب الضمان وفرق عليهم المبلغ وأخذه منهم.
وفيها: قصد منكوتمر بقطع كثير من المباشرين وأرباب الرواتب، وعرف السلطان أن الكتاب يأخذون هذه الرواتب والجرايات بأسماء أقاربهم وعبيدهم ويكتبونه بأسماء ناس صعاليك وهم يأخذون لأنفسهم، وأن ذلك يتحصل منه شيء كثير، فطلب الوزير فخر الدين بن الخليلي وأمره أن يكتب أسماء أرباب الرواتب وأرباب الرزق، فحصل للناس بذلك قلق عظيم.
وفكر الوزير في ذلك، فأحضر إلى السلطان رسالة القاضي الفاضل في دولة السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله، فقرأها عليه، فأعجب السلطان ذلك إلى أن دمعت عيناه، ثم قال: قل لمنكوتمر لا يتحدث في هذا بالجملة الكافية.
وكان مضمون الرسالة النصيحة للسلطان صلاح الدين حين أراد أن يفعل مثل ما أراد منكوتمر أن يفعله، فبلغ هذا إلى منكوتمر، فلما دخل عليه الوزير قال له: ما أنت يا قاضي إلا نصحت السلطان نصحا كثيرا. فقال له الوزير: يا خوند النصح واجب على كل مسلم. فقال: اترك عنك الفشار وجهز لي الأوراق، وبعد يومين اتفق قتل منكوتمر على ما نذكره إن شاء الله.
وفيها: قلت المياه جدا بدمشق، وغلا سعر الثلج بالبلد جدا إلى أن أبيع الرطل منه بدرهم وثلث، وجفت الأعين من سائر البلاد، واستسقى الناس بدمشق وبيت المقدس والخليل، ورأى المسافرون أيضا شده في سائر الطرقات، وأمانيل مصر فإنه كان في هذه السنة في غاية الزيادة والكثرة.
وفي نزهة الناظر: وكان النيل في هذه السنة في الثامن عشر من ذي العقدة بلغ إلى ثمانية عشر ذراعا وست أصابع.
وفيها: حج بالناس من مصر الإمام الحاكم بأمر الله ومعه أولاده، وأعطاه السلطان سبعمائة ألف درهم.
وفي النزهة. وكان أمير الركب في هذه السنة الأمير طقجى، وحج في هذه السنة خلق كثير.
ذكر من توفي فيها من الأعيان
الشيخ الصالح الاهد حسن بن الشيخ الكبير علي الحريري.
توفى في ربيع الآخر منها بزاويته بقرية بسر، ومولده سنة إحدى وعشرين وستمائة.
الصدر إبراهيم بن أحمد بن عقبة بن هبة الله بن عطا البصراوي الحنفي.
درس وأفاد، وولى قضاء حلب في وقت، ثم سافر قبل وفاته إلى مصر، فجاء بتوقيع فيه قضاء حلب، فلما اجتاز بدمشق توفى بها في رمضان منها، وله سبع وثمانون سنة.
أحمد بن عبد الرحمن بن عبد المنعم بن نعمة المقدسي الحنبلي، الشيخ شهاب الدين عابر الرؤيا.
سمع الحديث، وروى الكثير، وكان عجبا في تفسير المنامات، وله فيه اليد الطولى، وله تصانيف فيه، ليس كالذي يؤثر عنه من الغرائب والعجائب، ولد سنة ثمان وعشرين وستمائة، وتوفى في آخر ذي القعدة منها، ودفن بباب الصغير وكانت جنازته حافلة، مشى فيها نائب السلطان والقضاة، وكان يقول للشخص جميع ما جرى له من أول العمر إلى حين جاءه، ويقول ما في بيته يخبى، وإذا قص عليه المنام لا يفسره له حتى يستتيبه ويحلفه على ملازمة الصلوات، وكان كثير الصوم والصلاة والأوراد، ولا يفطر إلى بعد العشاء الآخرة، ويصلي من المغرب إلى العشاء الآخرة ولا يكلم أحدا من الناس.
هبة الله بن عبد الله بن سيد الكل، القاضي أبو القاسم بهاء الدين القفطى بفتح القاف - نسبة إلى قفط بلدة بصعيد مصر.(1/327)
مولده بها سنة ستمائة، وقبل سنة إحدى وستمائة، وتولى قضاء إسنا والتدريس بالمدرسة العزية، وكانت إسنا مشحونة بالرافضة، فقام في نصرة السنة، وأصلح الله به خلقا، وهمت الرافضة بقتله فحماه الله منهم، وترك القضاء أخيرا، واستمر على العلم والعبادة، وكان فقيها فاضلا. متعبدا زاهدا خيرا، مشهورا، تفقه على المجد القشيري، وقرأ الأصول على شمس الدين الأصبهاني بقوص، وسمع من ابن الجميزي، وصنف في الرد على الرافضة كتابا، وانتهت إليه رئاسة العلم في إقليمه، وشرح الهادي في الفقه، وله تفسير لم يكمله، ومات بإسنا في هذه السنة، ودفن بالمدرسة المجدية.
الأمير عز الدين أيبك الموصلي نائب السلطنة بالفتوحات.
توفى فيها، وسير إليها عوضه سيف الدين كرد أمير آخور فأقام برهة واتفقت وقعة حمص على ما نذكره، فقتل فيها، فسير عوضا عنه سيف الدين قطلوبك على ما سيرد.
الأمير عز الدين طقطاى الأشرفي.
كان قد تقدم وكبرت منزلته وأخذ منية بنى خصيب دربستا كما كانت للأمير بدر الدين بيسرى، توفى فيها.
الأمير شمس الدين محمد بن سنقر الأقرع، توفى فيها.
الأمير سيف الدين كيكلدى ابن السرية، توفى فيها.
الأمير عين الغزال، توفى فيها.
الأمير قطباى والأمير طقطاى ماتا مسقيين في هذه السنة.
الأمير علم الدين سنجر، من أمراء دمشق.
توفي فيها من أثر جرح أصابه في حصار القلاع، وكان من الأمراء الناصرية، مشهورا بالشجاعة والفروسية والإقدام في الوقائع، وله طبقة عالية في سماع الحديث.
الأمير سيف الدين اسنبغا من أمراء حلب.
مات في هذه السنة من أثر جراحات حصلت له في الحصار.
الأمير شمس الدين سنقر التكريتي المعروف بأستاذ الدار الملك السعيد.
مات فيها من أثر جراحات أصابته.
الأمير سعد الدين كوجبا الناصري من أكابر الأمراء الناصرية من أمراء مصر.
توفى فيها وكانت له مباشرات بإسكندرية ومصر.
الأمير سيف الدين بلبان الفاخري نقيب الجيوش.
كان رجلا خيرا، وكان في أول أمره مشغولا بلذات الدنيا، وتوفى على توبة وخير.
الأمير علم الدين طرطش الصالحي.
كان من الأمراء الصالحية الفرسان المشهورين بالشجاعة والإقدام والكرم والفتوة، وكانت له كلمة مسموعة عند الملوك وسمعة في البلاد، مات في هذه السنة.
الأمير شمس الدين سنقر المساح.
وكان من الأمراء الأعيان المشهورين بالشجاعة والإقدام في الحروب والحصارات، وكان السلطان الملك المنصور يجعله كل سنة مقابل حصن عكا، وكان يقع له مع صاحب عكا وفرسانه وقائع كثيرة، وينصر هو عليه، وما زال المنصور يعظمه ويستشيره في سائر أموره ويحترمه حتى أنه كان يركب إلى جانبه في المواكب وغيرها.
الأمير نوروز، أتابك قازان ملك التتار.
أوقع به قازان في هذه السنة وقتله، وكان سببه أنه هم بإعدامه فأحس نيروز بذلك، فكاتب الملك المنصور لاجين بأنه يقصد الانحياز إليه، والتمس منه تجريد عسكر ليساعده عليه، فوقعت كتبه في يد قازان، فأرسل إلى نائبه قطلوشاه يأمره بأن يجرد جيشا في طلبه، وأمره بأن متى وقع له يوقع به، فلما أحس نوروز بذلك التجأ إلى صاحب هراة وهو فخر الدين بن شمس الدين كرت صاحب سجستان، فقبض على نوروز وسلمه إلى قطلوشاه، فقتله، ثم قتل قازان أخويه فيما بعد في بغداد وهما حاجى ولكزى، وأوقع بأكثر ألزامه، وقتل القاصد الواصل إليهم بالكتب من مصر.
فصل فيما وقع من الحوادث في
السنة الثامنة والتسعين بعد الستمائة
استهلت، والخليفة: الحاكم بأمر الله العباسي.
وسلطان البلاد المصرية والشامية: الملك المنصور لاجين، ونائبه بمصر مملوكه سيف الدين منكوتمر.
وقاضي القضاة الشافعي: الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد.
وقاضي القضاة الحنفي: حسام الدين الرازي.
وأما نائب الشام فكان: سيف الدين قفجق، ولكنه قد هرب إلى قازان كما ذكرنا قضيته في السنة الماضية، وكان قد استناب في الشام عوضه الأمير سيف الدين جاغان، ولما اتفق قتل لاجين على ما نذكره وثب عليه قرا أرسلان أحد أمراء دمشق فمسكه وسجنه على ما ذكرناه مفصلا.
وأما نائب حلب فإنه: سيف الدين بلبان الطباخي.
ذكر مقتل السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين(1/328)
ذكر بيبرس في تاريخه: أن السبب فيه أن لاجين فوض إلى مملوكه منكوتمر جميع الأمور، فاستبد بوظائف الملك ومهماته، وصار وقفا على إشاراته وانتهى حاله معه إلى أنه صار إذا رسم مرسوما أو كتب لأحد توقيعا وليس هو بإشارة منكوتمر يمزقه في الملأ ويرده ويمنع أستاذه منه ويصده، فاستثقل الناس وطأته، وكرهوا دولته، ورغبوا إلى الله في زوالها وتغير أحوالها، ونسبوا الذنب فيما يبدو من منكوتمر إليه لكونه جمع أمره كله عليه، وأنشد لسان حالهم:
فإن لا تكن أنت المسئ بعينه ... فإنك ندمان المسئ وصاحبه
وكان في مماليك السلطان شخص يسمى سيف الدين كرجى ممن أعان المنصور ووازره في تلك الأمور، فقدمه على المماليك السلطانية، فكان يتحدث في أشغالهم، وينظر في أحوالهم، ويدخل إلى السلطان متى أراد لا يحجبه عنه حاجب ولا راد، فغار منكوتمر من قربه وسعى في بعده، فلما ورد البريد مخبرا بأمر القلاع التي فتحها العسكر ببلاد الأرمن حسن لأستاذه أن يرسله إليها ليقيم فيها، فوافقه على إرساله، واتصل ذلك بكرجى، فدخل إلى السلطان وتضرر من الرواح إلى الجهات المعينة، وسأل الإعفاء منها وتعيين غيره لها، فأجابه وأعفاه، فكمن في نفسه من عداوته ما كمن.
واتفق بعد ذلك أن منكوتمر فاوض شخصا من الخاصكية نسيبا لطقجى، فسبه وأغلظ عليه، فتوجه ذلك إلى طقجى وشكى الحال إليه، وكان يسمى طغاى، فاجتمع هؤلاء وتشاكوا سوء سيرة منكوتمر وعمله على إبعاد الأمراء وإتلافهم، وقالوا: هذا متى طالت مدته قويت شوكته وعمل علينا واحدا بعد واحد، وأستاذه مرتبط به ومتمسك بسببه، ومتى لم نبدأ بإعدامه ما ننال من مملوكه قصدا، والصواب أنا نبدأ بأستاذه قبله، وأبرموا أمرهم فيما بينهم.
فلما كان ليلة الجمعة الحادية عشر من ربيع الآخر هجموا عليه وهو جالس يلعب بالشطرنج مع أحد جلسائه، فأرووا السيوف من دمائه، وقطعوه قطعا، وتركوه ملفعا، وخرجوا إلى دار النيابة في طلب منكوتمر، فلما أتوا إلى بابه استدعوه للنزول، فأحس بالأمر المهول، وعلم أنه مقتول، وكان طقجى ساكنا بدار الملك السعيد، فنزل منكوتمر إليه، وألقى نفسه بين يديه، واستجار به من القتل فأجاره، وقال لكرجى ومن معه: اذهبوا به إلى الجب ودلوه، فلما صار في قعر الجب عرفه الأمراء المعتقلون، فظنوا أن أستاذه نقم عليه واعتقله، وسألوه عن أمره، فأخبرهم بقتله، فثاروا إليه وشتموه وضربوه وأهانوه لما في نفوسهم منه. وقيل: إنهم وجدوا عليه رائحة النبيذ.
وقال صاحب نزهة الناظر: كان السبب لذلك أن طقجى حضر من الحجاز مستهل صفر، فوجد أن أمره قد احتكم بسفره من مصر إلى نيابة طرابلس، وأن منكوتمر قصد فرقته من خشداشيته حتى لا يكونوا مجتمعين، ولما استقر أياما طلبه السلطان وعرفه أنه عينه للنيابة لما يعلم من محبته ونصيحته وأنه متوثق به. فقال طقجى: والله يا خوند إني مدة عمري ما حكمت بين اثنين، ولا أعرف أحكم، وخرج من عنده على غير انفصال، واجتمع بكرجى وسلار وبيبرس الجاشنكير وأخبرهم بما وقع بينه وبين السلطان، وكان عندهم الخبر، فاجتمع رأيهم على أن يتحدثوا مع السلطان في قعوده، فاجتمعوا به، وترققوا له في السؤال، وقالوا: أحدث أحد ولى من السلطنة نائبا وليس له دربة بالنيابة، ولا يعرف الأحكام، فاستحى السلطان منهم، وأعفاه، وعلم بذلك منكوتمر، وتحدث مع السلطان، ولامه على موافقة هؤلاء، وخرج من عنده وهو حرج، فلقى كرجى في الطريق، فقطب في وجهه، وجفا عليه، وقال: كل واحد منكم بقى يعمل رأيه في السلطنة في السر، وحط على الأمراء الذين تكلموا معه وقت سؤالهم السلطان بإعفاء طقجى.
ثم إن منكوتمر لما علم أن السلطان قبل الشفاعة في أمر طقجى امتنع من الحضور إلى الخدمة، وجعل يحتج بأنه ضعفت رجله عن الحركة، فعلم السلطان ذلك، فطلب قاضي القضاة حسام الدين الحنفي، واختلى به، وقال له: يا قاضي أنا قد تحيرت مع منكوتمر، إن طاوعته على جميع أغراضه، واتبعت ما يشير إليه لا آمن على نفسي وعليه، وإن أنا خالفته فما يهون على، وهو على كل حال شاب ما جرب الأمر بعد ... ... - وما أدري ماذا أفعل؟ .(1/329)
وكان القاضي يعرف محبة السلطان له، فقال له: يا خوند أنا أروح إليه وأسمع ما يقول. فسلم ودخل عليه، وجعل يسأله عن حاله، فقال له: ما لي حاجة بالنيابة، ولا بالإمرية، وأنا أريد أعمل فقيرا، وتحدث في هذا الباب كثيرا، وفهم القاضي منه أنه يريد أن يسمع كلامه في كل ما في يده من مسك ناس وعمل آخرين، وإبعادهم عنه.
فلما فهم القاضي مقصوده علم أنه متى أشار على السلطان بشيء لا يرجع فيه إليه، وأنه لا يرجع إلا لكلام منكوتمر.
فدخل عليه، وعرفه ما قاله منكوتمر، وما قصده، فلم ينكر عليه شيئا، بل سير إليه وطلبه، وطيب خاطره، وقال له: افعل كل ما تختار، وأنه بعد أيام يمسك طقجى، وبعده بقليل يمسك كرجى، أو نرسله إلى نيابة موضع.
وفي تلك الأيام وصل قاصد للأمير قفجق في خفية واجتمع بطقجى وكرجى، وأعطاهما الملطفات التي معه، ... ... وأخبرهم برواح الأمراء إلى قازان، وكيف خرج قفجق من دمشق، وتولى جاغان مكانه، وأنهم يعرفوا أنكم إما أنكم توقعوا القتل في السلطان ومنكوتمر، وإما تعرفوهم فيهاجرون، وذلك حتى يعرفوا حالهم.
فلما سمع طقجى وكرجى هذا من القاصد اجتمعا مع بيبرس وسلار وعبد الله السلحدار ... ... يوافقهم على ما ... ...، وأرسلوا إليهم بأنهم يفعلون ما أشاروا به، ثم شرعوا في تدبير قتل السلطان.
ذكر قتل السلطان
فلما كانت الليلة التي يسفر صباحها عن يوم الجمعة الحادي عشر ربيع الآخر طلع في هذه الليلة نجم في السماء يسطع نوره، ويأخذ بالبصر وله ذنب يظن الرائى أنه يراه بقريب من الأرض، واشتغل الناس بالنظر إليه ... ... وقال بعضهم كان في تلك الساعة قران المشتري وزحل على رأي المنجمين، ثم وقعت الضجة في داخل المدينة، فركب الأمراء بالسلاح، وأشيع الخبر بأن لاجين قتل تلك الساعة.
وركب الأمير جمال الدين قتال السبع الموصلي مع جماعة من الأمراء ... إلى ظاهر المدينة، ووقعت الضجة في سوق الخيل، فركب كثير من الناس ولم يبق من الناس أحد في منزله.
قال الراوي: وأخبرني قاضي القضاة حسام الدين الرازي الحنفي عن كيفية قتل السلطان، فإنه كان حاضرا هناك، ونجم الدين بن العسال حاضر، وكانوا يحضرون عند السلطان ينادمونه فقال: كان السلطان جالسا وقدامه أصحاب الخدمة، وقد صلى العشاء الآخرة، وجلس بعض المماليك بين يديه يلعبون بالشطرنج، وهو ينظر إليهم، وقد أحضر له مأكول، فأكل منه، ثم رفع يده منه، وطلب الطشت فغسل يده، وقدم له الجمدار فوطة للمسح، فأخذها ومسح بها يده، وكانت الإشارة بين كرجى والمماليك أصحاب النوبة الذين اتفقوا على قتله أن كرجى إذا تقدم إلى الشمعة تكون إشارة إلى الهجوم على السلطان.
قال: ولم يشهد إلا وكرجى قد تقدم إليه وضربه على كتفه، فرفع يده يلتقى الضربة، فطارت يده وأخذ كرجى النمشة من بين يديه وضربه عند نهضته فقطع مشط رجله، فوقع وهو يقول: الله الله، فأخذته السيوف من كل جانب، ووقع بعض أطرافه إلى الإصطبل.
قال الراوي: حكى لي أنه قام على قدميه وصار يصيح: لا تفعلوا بسلطاننا، هذا ما يحل، ورفع إليه بعض السلحدارية بالسيف، وقال: اقتل بلا فضول، قال: فسكت، ولما تحققوا موته خرجوا على حميه، وفي أيديهم الشموع، ونزلت مماليك الأطباق، واجتمع الأمراء الذين داخل باب القلة، وفتحوا باب القلة وخرجوا، فوجدوا الأمير طقجى جالسا على باب القلة في انتظارهم، هو وخشداشيته، فتلقاهم، وتباشروا بما حصل لهم من الظفر، ثم أرسلوا وطلبوا بقية الأمراء المقيمين بالقلعة، فجاءوا أولا فأولا، وبسطوا من باب القلعة بسطا، وأوقدوا شموعا، ووقع الصوت في نواحي القلعة بأن السلطان قتل.
وكان منكوتمر يتحدث فيما يبطق بالأمراء المجردين، فلم يشعر إلا وقد دخل مملوك وهو يقول: يا خوند، اسمع هذه الضجة في القلعة، فنهض وقام إلى الشباك فرأى باب القلعة قد انفتح، وخرجت الأمراء، والشموع توقد، والضجة قد ارتفعت، فقال: والله فعلوا، وأشار إلى مماليكه أن يغلقوا الأبواب، ويلبسوا، ويتحصنوا.(1/330)
ثم قال كرجى للحسام الأستاذ دار: نقوم إلى دار منكوتمر ونحرقها إلى أن نخرجه، فقال له الحسام: يا أمير ما يحتاج، أنا أروح إليه وأخرجه، ومشى إلى أن وصل إلى الباب فوجد المماليك قد لبسوا، واعتدوا للقتال، فعرفه نفسه، وقال: قولوا للأمير سيف الدين يكلمني، ففتح الشباك؛ فسلم على منكوتمر وعرفه بما جرى من قتل السلطان وما ذكره كرجى من إحراق بيته، فصار يتلطف به حتى أذعن لخروجه على شرط أن يشفع الأمراء فيه، فخرج وقد شد وسطه بمنديل، ومشى صحبته إلى أن وصل إلى باب القلة، فوجد سائر الأمراء جلوسا والأمير طقجى جالس مكان النيابة، فلما رأوه قاموا إليه وتلقوه، فأخذ يد طقجى وباسها، فقام إليه وأجلسه إلى جانبه، وشرعت الأمراء مع الأمير حسام الدين الأستاذ دار يترققون السؤال لطقجى أن يلطف بأمره مع كرجى ويسأله في إبقاء نفسه عليه، فأجاب إلى ذلك.
وكان كرجى في ذلك الوقت غير حاضر، واتفق الحال أن يكون منكوتمر في الحبس إلى حين حضور كرجى، ثم يسألونه فيه، وأرسلوه مع جماعة إلى الجب بالقلعة، وكان في الجب جماعة من الأمراء منهم الأمير شمس الدين الأعسر، والأمير عز الدين الحموي نائب الشام، فلما نزل منكوتمر عندهم عرفوه، وقالوا: كيف جئت عندنا؟ فقال لهم: إن السلطان غضب عليه لأمر بلغه عنه وحلف أنه لا بد من حبسه، فأمسكوا عنه، وقصد الأعسر أن يوقع به في ذلك الوقت، فمنعه الحموي من ذلك، ورجوا أن أستاذه يرضى عليه ويكون هو الواسطة في إفراجهم من الحبس.
ولم يلبث فيه يسيرا إلا وقد أرخوا القفة التي كانوا قد نزلوه بها وصاحوا من رأس الجب على منكوتمر بالصعود، فقاموا إليه وأكرموه، وهم يظنون أن القول الذي ذكره لهم صحيح، فلما أخرجوه وجد كرجى واقفا ومعه جماعة من المماليك السلطانية، فلما وقع نظره عليه أخذ يسبه ويهينه، فلم يلتفت إليه منكوتمر؛ بل كلمه بعزة نفس لأنه تحقق أنه لا يبقى عليه، فضربه بدبوس حديد كان في يده ورماه إلى الأرض، ثم ذبحه بيده على باب الجب، وتركه ومشى إلى الأمراء. وكانت الأمراء سألوا كرجى أن يبقى عليه قبل مجيئه إلى الجب. فقال لهم: إن السلطان ما عمل معي سوءا، بل والله أحسن إلى غاية الإحسان فكبرني وأنشأني، وإنما قتلته حتى أبلغ مرادي من منكوتمر، وما أحليه في الدنيا، ولو علمت أني إذا قتلت منكوتمر يخليني السلطان بعده بالحياة لما قتلته ولا شوشت عليه.
وقال بعض الرواة: كان السلطان لاجين يوم الخميس صائما فأفطر ليلة الجمعة. ولما كان بعد صلاة العشاء الآخرة دخل عليه الأمير سيف الدين كرجى مقدم البرجية، وكان السلطان يلعب بالشطرنج وعنده قاضي القضاة حسم الدين الرازي الحنفي، وكان كرجى قد اتفق مع نغاى الكرموني سلاح دار السلطان، وكان صاحب النوبة تلك الليلة. فقال السلطان: يا أمير كرجى ما عملت؟ فقال: بيت البرجية وغلقت عليهم، وكان قد أوقف أكثرهم في دهليز الدار، فشكره السلطان وأثنى عليه للحاضرين، وقام يصلح الشمعة والنمجاة إلى جانبها، فرمى عليها فوطة، وقال للسلطان: ما تصلى؟ فقال السلطان: نعم، فقام ليصلي فضربه بالسيف على كتفه، فطلب السلطان النمجاة فلم يجدها، فقام من هول الضربة، فمسك كرجى ورماه تحته فخطف نوغاى الكرموني النمجاة وضرب بها السلطان على رجله فقطعها، فانقلب السلطان على ظهره قتيلا يخور في دمه، فصاح القاضي حسام الدين فأرادوا قتله، ثم أمسكوا عنه وتركوه مع السلطان وأغلقوا عليهم الباب.
قال القاضي: كنت عند السلطان فما شعرت إلا وستة أسياف نازلة على السلطان، وهو منكب على لعب الشطرنج، فقتلوه.
وكان رؤوس الذين اتفقوا على قتله طقجى، وكرجى، ونوغاى، وقراطرنطاى، وججك، وأرسلان، وأقوش، وبيليك الرسولي.
ذكر ترجمة السلطان لاجين
كان أصله من مماليك السلطان الملك المنصور نور الدين علي بن السلطان الملك العز أيبك التركماني.(1/331)
قال صاحب النزهة: حكى لي بعض الخدام المعزية أن قطز لما كان نائب نور الدين على المذكور أشترى لاجين وهو صغير للسلطان، ثم لما تسلطن قطز والتقى بالتتار على عين جالوت وكسرهم وعاد إلى الديار المصرية، قتل قريبا من الصالحية وتسلطن بعده الظاهر بيبرس، ولما تسلطن بيبرس شيع أولاد الملك المعز إلى بلاد الاشكرى وبقيت من جماعته بعض المماليك، وكان لاجين هذا منهم، فشرعوا في بيعهم، فاشتراه قلاون مع مملوكين آخرين، وبقى عند قلاون إلى أن تسلطن، فجاء إليه تاجره وادعى أنه لم يقبض ثمنه عند بيعه، فنودى عليه ثانيا واشتراه قلاون شراء ثانيا صحيحا بثلاثة آلاف درهم، وكان في مماليك قلاون مملوك اسمه لاجين وكان من أكابر مماليك قلاون.
فلما اشترى لاجين هذا قالوا له: لاجين الصغير، وكان بعضهم يسميه لاجين شقير لأنه كان أشقر أزرق العينين معرق الوجه طويلا، وذكر أنه كان جركسي الجنس، وكان شجاعا مهيبا، موصوفا بالشجاعة والإقدام، وفيه دين وعقل، وكان يلعب بالرمح ويرمى بالنشاب في غاية الاتقان، وظهرت له أمور من الشجاعة والإقدام في وقائع كثيرة خصوصا في نوبة أخذ طرابلس، وكان يصطلى الحرب بنفسه، ومما يدل على إقدامه ركوبه على الملك الأشرف وقتله، ثم ركوبه على السلطان الملك العادل كتبغا وقتل مماليكه.
وذكر عن القاضي حسام الدين الحنفي أنه لما بلغه تجهيز قازان لغزو بلاد الإسلام شاهده مرارا يصلي ويقف على قدميه ويكشف رأسه ويسأل الله أن يطيل عمره حتى يلتقي مع قازان وجيشه. قال: فقلت له ليلة: يا خوند كيف يكون عزمك إذا صح أمر قازان؟ قال: يا قاضي حسام الدين كنت أختار من عسكر مصر ألفى فارس ممن أعرف فيه النجابة والفروسية، وأصدم قازان حيث كان، ولو كان في عشرين ألف فارس، ويعطى الله النصر من يشاء، ولكن أنا خائف أن يدركني الأجل قبل لقائه قال: قلت له: يا خوند الأعمال بالنيات.
وذكر في السلطان أنه لما كان نائبا بالشام كان في عنفوان شبابه، وكان مشغولا بلذة العيش في اللهو والشغف بالشراب، وكان يعايش كبراء دمشق ورؤسائها، ويتخذ لهم المجالس، وينعم ويهب، وكانت له مكارم كثيرة على أهلها، فلذلك أهل الشام كانوا يحبونه ويتعصبون له.
ومن كثرة انهماكه على الشراب واللهو والطرب بلغ الشجاعي خبره إلى السلطان الملك المنصور وعرفه أنه هتك حرمة السلطان بسبب معاشرته مع عامة دمشق وانهماكه على الشراب، فغضب السلطان عليه، وعرف الأمير حسام الدين النائب ما نقله الشجاعي عنه، فأخذ حسام الدين يرد عنه ويكذب الشجاعي ويقول: إنه صاحب غرض، ثم أمر السلطان بأن يكتب إليه كتاب، فكتب كتاب فيه توبيخ وتهديد ونهاه عن الشراب والمعاشرة مع أطراف الناس، وكذلك كتب إليه الأمير حسام الدين طرنطاى، فلما وقف على الكتابين قلل ما كان يرتكبه، وصار يقضى كثرة أوقاته في الركوب إلى الصيد ونحوه، ويغيب في ركوبه شهرا وشهرين، ويصحب معه الملاهي، وقطع على هذا لذة عظيمة من العيش، ولما كثر عليه العتب من السلطان رجعه طرنطاى وسد خلله إلى أن ترك ذلك كله.
وكانت أيامه من أحسن ما تكون من العدل والإحسان إلى الرعايا، وكان دينا خيرا، مشفقا، كثير الصوم والعبادة، وقطع أكثر المكوس، وقال: إن عشت لا تركت مكسا واحدا، ولكن نائبه منكوتمر كان على خلاف ما ذكر، وكان يعمل ما يختاره، فوقع في دولته الفساد وكان ما كان.
وكانت مدة مملكته سنتين وثلاث شهور، وقيل: ثلاث سنين وشهرين، وقيل: ثلاث سنين وستا وعشرين يوما، والأول أصح، وكان عمره لما قتل نحو خمسين سنة.(1/332)
وقال صاحب النزهة: حكى لي بيجان مملوك الأمير شمس الدين قراسنقر حكاية غريبة اتفقت لأستاذه مع السلطان لاجين، وهي أنهما بعد قتل الأشرف خليل بن قلاون لما هربا ودخلا القاهرة، واختفى كل منهما في مكان، فاختفى شمس الدين قراسنقر في حارة بهاء الدين، واختفى لاجين في مأذنة جامع ابن طولون - على ما ذكرنا فيما مضى - رأى قراسنقر مناما عظيما في حق لاجين، فلما اجتمعا وهما مختفيان قال له قراسنقر: يا أشقر والله لقد رأيت رؤيا عظيمة، ولكن أخاف إذا قصصتها عليك تطمعك نفسك وتغير نيتك وتغدر بي. فقال لاجين: لا يكون ذلك إن شاء الله، فآخر الأمر أحضرا مصحفا شريفا وتحالفا، وأكدا اليمين أن أحدهما لا يخون الآخر؛ ثم شرع قراسنقر فقص المنام وقال: رأيتك راكبا وبين يديك خيول معقودة الأذناب مضفورة المعارف، مجللة الأرقاب على عادة مراكيب الملوك. قال: ثم نزلت وجلست على منبر وأنت لابس حلة الخلافة، وطلبتني فأجلستني بالقرب منك على ثالث الدرجات، وشرعت في الحديث معي، ثم رفضتني برجلك، فوقعت من المنبر، فاستيقظت عند وقوعي: وهذا يدل على قربي منك، ثم يجرى علي أمر من جهتك، ثم قال: يا أشقر النحس أنا والله حلفت وحلفتك فما أدري هل تثبت على يمينك أم لا؟ وبقى الأمر على هذا إلى أن تسلطن لاجين واستناب قراسنقر، ثم قبض عليه؛ ولكن أخلى له مكانا في بعض القاعات وأكرمه في محبسه؛ وأوصى أن تعمل له أطعمة مفتخرة، ولا تقطع من عنده فاكهة، ولا حلاوة، وكل ما يختاره من الأشياء المستطرفة، والمراسلات بينهما لا تنقطع، وكل وقت كان قراسنقر يسير إليه ويذكر له المنام المذكور ويسأل منه أن يجعل بشارة المنام الإفراج عنه وإرساله إلى أي مكان يشاء السلطان، وفي أثناء ذلك كان يذكره الأيمان المؤكدة بينهما، وكان السلطان كلما سمع من ذلك تبسم ويبعث إليه السلام ويقول له: ما بقى إلا قليل.
وتمادى الأمر على ذلك إلى ليلة الجمعة التي قتل فيها السلطان، فأرسل إليه السلطان السلام ومعه فاكهة، وقال للرسول: قل للأمير شمس الدين إني اشتهيت بسلة بلحم قديد، ولا آكلها إن شاء الله إلا وأنت معي، فلما سمع قراسنقر بذلك استبشر وفرح غاية الفرح، ولما كانت ليلة قتله أرسل إليه بسلة مطبوخة، واعتذر بأنه صائم ولا يمكنه أن يفطر على بسلة، وفي الجمعة الأخرى تكون عندي إن شاء الله، فلما سمع قراسنقر ذلك أرسل إليه إني منتظر لرؤيته ولو ساعة واحدة أو بكلمة واحدة، فإن في خاطري أن أراه قبل الموت، ولما سمع السلطان ذلك تبسم وقال للقاصد: اذهب إليه وسلم عليه، وعرفه أنه لا يجمعني وإياه إلا يوم القيامة، فلما ورد إلى قراسنقر ذلك قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وقتل السلطان في تلك الليلة.
وحكى مجد الدين الحرمي وكيل بيت المال قال: كان السلطان متزوجا ببنت الملك الظاهر بيبرس، وكانت دينة عفيفة، فحكت أنها رأت في المنام ليلة الخميس قبل قتل السلطان بليلة كأن السلطان جالس في المكان الذي قتل فيه، وكان عدة غربان سود على أعلى المكان، وقد نزل منهم غراب فضرب عمامة السلطان فرماها عن رأسه وهو يقول: كرجى كرجى مرتين، فلما أصبحت ذكرت ذلك للسلطان وقالت له: أقم الليلة عندنا، فقال: ما تم إلا ما يقدره الله تعالى. ذكر هذا النويري في تاريخه.
وذكر صاحب النزهة: أن زوجة السلطان أرسلت خادمها وراء علاء الدين ابن الأنصاري، وكان له علم في تفسير المنامات، لأجل تفسير رؤيا رأته. فقال علاء الدين: إني ضعيف لا أقدر على الطلوع إلى القلعة، ولكن قل لها: تكتب المنام في الورقة وأنا أرد الجواب عنها، فعاد الخادم إلى الخاتون وأخبرها بذلك، فأرسلت إليه ورقة مكتوبة فيها أن الخاتون رأت السلطان جالسا وهي إلى جانبه وإذا بطائر يشبه العقاب انقض عليه واختطف فخذه الأيسر وطار به إلى أن طلع من دور القاعة، وطائر آخر قاعد على خشب دور القاعة في حلية الغراب وهو يصيح كرجى كرجى كرجى ثلاث مرات، فلما وقف عليها علاء الدين قال: أيها الخادم هذا لا يفسر إلا بعد ثلاث جمع. قال: وقصدت بذلك التسويف إلى أن تنقضى إما ثلاثة أيام أو ثلاث جمع أو ثلاث شهور، وعلمت أنه يظهر سر منامها عن قريب، فوقع قتله ثاني ليلة الرؤيا.
ذكر قتل منكوتمر وترجمته(1/333)
قد ذكرنا أن كرجى هو الذي قتله، وأن طقجى ومن معه لما قتلوا السلطان أتوا إلى دار منكوتمر فدقوا عليه الباب وقالوا له: السلطان يطلبه، فأنكر حالهم، وقال: إنكم قتلتم السلطان، فقال له كرجى: نعم يا مأبون، وجئنا نقتلك، فقال منكوتمر: قال أنا في جيرة الأمير سيف الدين طقجى، فأجاره، وحلف له أن لا يؤذيه، ولا يمكن أحدا من أذيته، ففتح باب داره، وتسلموه، وذهبوا به إلى السجن، كما ذكرنا مفصلا، ثم اغتنم كرجى غيبة طقجى وأخرجه من السجن، فذبحه من أذنه إلى أذنه، وأصبح كما قال الشاعر:
ومن يحتقر في الشر بئرا لغيره ... يبيت وهو فيها لا محالة واقع
وكان منكوتمر مملوكا من أحسن الأشكال، وأكمل صفات الحسن، وكان لاجين ممن يثق به، ويعتمد عليه في سائر أموره، ولما ولى الملك ولاه النيابة كما ذكرنا، وسلم إليه مقاليد الأمور، فتعاظمت نفسه، وساءت أخلاقه، ونفر منه النفوس، وعافته الأمراء وأرباب المناصب والكتاب، وأكبر ذنوبه عند الخاصة والعامة والذي أورث له ... منهم عند عمل روك البلاد، فإن السلطان قصد بذلك إصلاح أرزاق الجند، فرجعه عن قصده، ونقص أخبازهم، وتولى تفريقها، وكان يجلس في شباك دار النيابة ويفرق المثالات، وهو مولى الوجه، ظاهر الغضب ... ... فلم يكن أحد يجسر أحد على كلمة بين يده من خير أو شر.
وكان السلطان قد كبر كرجى وقربه، وجعله مقدما على المماليك السلطانية، وكان كلما حضر عند منكوتمر من عند السلطان في رسالة لا يأخذها منه بقبول، ويولى وجهه عنه، فإذا جاوبه، جاوبه بكلام غليظ منكر. وما سمع أنه دخل إليه في شفاعة وقبلها منه، وما زال يسعى عليه وعلى طقجى إلى أن وافق السلطان على إخراجهما إلى الشام، فوقفت الأمراء ومنعوه من ذلك، كما ذكرنا، وكان قصده إبعاد هؤلاء من عند السلطان، وإنشاء قوم من حاشيته وجهته.
وكذلك كان قصده في نواب البلاد، فأوقع ذلك في قلوبهم حزازات لا يحصى عددها، ونارا تتلظى ولا يسكن وقودها، ولا يمكن خمودها، حتى جرى ما جرى.
ذكر تدبير كرجى
ولما جرى ما ذكرناه من قتل السلطان، ونائبه منكوتمر اجتمعت الأمراء للمشورة والتحدث في الأمور بينهم لسيف الدين طقجى، وسيف الدين كرجى، وأول ما بدأا فيه أن سيروا البريد إلى الشام وحلب، وكتبوا إلى النواب عما جرى من الأمور، وعرفوا نائب حلب الطباخى بأنهم قضوا الشغل الذي وقع عليه الاتفاق، وأمروه بأن يقبض على أيدغدى شقير الذي كان قصد منكوتمر أن يجعله نائب حلب، ويقبض على جاغان الذي هو نائب الغيبة في الشام، وهو الذي كان قصد منكوتمر أن يجعله نائب دمشق عوض سيف الدين قفجق.
ويقبض أيضا على حمدان بن صلغاى الذي أرسله السلطان إلى النواب، كما ذكرنا، ويقبضوا جميع الأمراء الحسامية.
وجعل الأمراء يحضرون كل يوم، ويجلسون على باب القلة، ويجلس الأمير طقجى مكان النائب، والأمراء الكبار في الميمنة والميسرة، ويمد سماط السلطان كما هي العادة.
ووقعت المشورة بينهم في أمر السلطان الذي يولى عليهم، فاتفقوا على إحضار الملك الناصر من الكرك، وإجلاسه على التخت.
والأمراء الكبار بالقلعة يومئذ الأمير سيف الدين سلار، والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والأمير حسام الدين لاجين الرومي أستاذ الدار، والأمير عز الدين أيبك الخازندار، والأمير بدر الدين عبد الله السلحدار، والأمير سيف الدين كرد الحاجب، وطقجى في مكان النائب، والأمراء حوله، وديوان الجيش قدامه، وهو يأمر وينهى معتقدا أن الرقاع قد خلت، وأن البياذق قد تفرزنت.
ولما اجتمعت آراؤهم على إحضار الملك الناصر من الكرك ليجلس في السلطنة، لأنه صاحب البيت، وابن صاحبه، ووارث ملك أخيه وولده.(1/334)
فقام كرجى بينهم يتكلم، فقال اسمعوا له، وقال: يا أمراء أنا الذي قتلت السلطان لاجين، وأخذ ثأر أستاذي، والملك الناصر الذي في الكرك صغير لا يصلح أن يكون سلطانا، وما يكون سلطان إلا هذا، وأشار إلى الأمير طقجى، وأكون أنا نائبه، فأنا ما فعلت الذي فعلت إلا أن أكون أنا وهو ها هنا، والذي يقول غير هذا يقول قدامي، قلم يقدر أحد من الأمراء أن يرد عليه الجواب، فسكتوا عن آخرهم، وبقى كل واحد ينتظر جواب غيره، فأجاب الأمير سيف الدين كرد الحاجب وقال: يا خوند الذي فعلته أنت قد علمه الأمراء، وخاطرت بنفسك، ومهما أردت ما ثم من يخالف، وانفض هذا المجلس على أن موافقة الأمراء على ما يختاره.
وفي ذلك اليوم وقعت بطاقة الأمير بدر الدين أمير سلاح، وصحبته الأمراء المجردة، وهي من أيام لاجين، كما ذكرناه، بأنهم قد وصلوا إلى الصالحية، قصد الأمير حسام الدين الأستاذ دار وكرد الحاجب إلى خدمة كرجى، وقالا له: إن الذي اخترته قد حصل، ولم يبق غير حضور هذا الرجل الكبير العقل، وهو موافق لنا في كل ما تختاره، وانقضى الأمر على هذا.
ثم كتب الأمراء الكتب في الليل إلى خشداشيتهم من الأمراء الواصلين، وعرفوهم بجميع ما جرى، وأن كرجى وطقجى قد قويت شوكتهما، وأرادا أن تكون السلطنة لطقجى والنيابة لكرجى، ووقع اتفاقا معهما على ذلك من غير اختيار منا، وإنما أكرهانا على ذلك، وعرفوهم أن يأخذوا حذرهم، ويعملوا في رأيهم على الأمير بدر الدين أمير سلاح، ويتقيدوا برأيه في جميع ما يرسم به، وأنهم منتظرون ما يرى في أمرهم وأمر الأمراء الذين بمصر، إن الأمراء المجردين إذا وصلوا إلينا يقوى أمرنا، ويشتد قلبنا.
ووقع الاتفاق أيضا من كرجى وطقجى وشاورشى والمماليك الأشرفية أن يكون كلهم يد واحدة، وتكون كلمتهم متفقة على أن تكون السلطنة لطقجى، والنيابة لكرجى، وعينوا لجماعة من حاشيتهما بإمريات وإقطاعات، واتفقوا على أن أحدا منهم لا ينزل من القلعة، ولا يلتقوا ببدر الدين أمير سلاح، ولا الأمراء المجردين الذين معه، وأن يظلوا مقيمين بالقلعة إلى حين طلوع الأمراء، ثم يتفقون عليهم، ويفعلون ما يختارونه.
فبقى الأمر على ذلك إلى أن وصلت العساكر إلى بركة الحجاج وكان ذلك في النصف من شهر ربيع الآخر من هذه السنة.
ذكر قدوم الأمراء المجردين ومقتل طقجى
لما وصلت العساكر إلى بركة الحجاج، ودخل بعضهم المدينة، شرعت الأمراء المقيمون بمصر في تجهيز الملاقاة، وشاوروا طقجى وكرجى في ذلك.
فقال كرجى: نحن ما عندنا أحد ينزل إلى ملتقى أحد، وكل واحد منهم يدخل إلى بيته، ثم إذا أصبح يطلع إلى قلعة السلطان ويلبس خلعته، ثم يروح إلى بيته وبعد ذلك ندبر ما نفعله، فقامت الأمراء على ذلك وتفرقوا.
ثم اجتمع الأمير سيف الدين كرد الحاجب بالأمير حسام الدين الأستاذدار، وقال: هذا الذي اتفقت الأمراء عليه لا ينفع، ولما يتم أمر ما دام طقجى وكرجى في القلعة، والرأي أن تعلم الأمراء أنهم إذا طلعوا خدمة القصر يوسعون الحيلة في الحكم عليهما بالنزول والملاقاة بالأمراء القادمين، فأرسلا لكل أمير مملوكا وأعلما بذلك.
فلما اجتمعوا في القلعة لخدمة القصر شرع الأمير جمال الدين قتال السبع وحسام الدين الأستاذدار وطغريل البوغاى وتحدثوا مع طقجى وكرجى وقالوا: هذا الأمير بدر الدين أمير سلاح رجل كبير، وأتابك عسكر مصر، وقديم الهجرة، وكان في الغزاة مع العدو، وقد أثر فيهم آثارا حسنة، وفتح إحدى عشرة قلعة، وله مدة سنة ونصف غائبا هو ومن معه، فيدخلون مصر ولا يجدون أحدا لاقاهم ولا التفت إليهم ولو كان السلطان في الحياة خرج بنفسه فالتقاه فأكرمه، ووافقهم سائر الأمراء في هذا الحديث، ولم يبق أحد حتى قال: والله هذا هو المصلحة، وكرجى لا يلتفت إلى سماع ما يقولون، ثم قال: لا ينزل أحد منا إليهم، فإن أردتم أنتم انزلوا ولاقوهم فإنهم خشداشيتكم، وطال شرح الكلام بينهم إلى أن استحى الأمير طقجى وقال لكرجى: قول الأمراء على هذا الوجه هو الصواب، وأنا أركب صحبة الأمراء ومماليك السلطان معي، وتركب بقية العسكر وحدهم، ويلاقون هذا الرجل ومن معه، وتكون أنت مقيما بالقلعة مع بعض مماليك السلطان إلى أن نلتقي ونرجع، فإن اختار طلوع القلعة طلعنا معه، وإن اختار غير ذلك عرفنا قصده وانتظم الأمر على الدول على هذا الوجه.(1/335)
ثم جلس طقجى وكرجى على باب القلعة وعرضا مماليك السلطان فاختارا منهم أربعمائة مملوك من خيارهم يكونون في خدمة طقجى ويركبون معه عند نزوله، ووصاهم أن يكونوا متيقظين على أنفسهم ولا يفارقون طقجى ويحفظونه إلى أن يرجع، وجهز لهم كرجى من الإصطبل خيار الخيل وخيار المراكيب.
فلما أصبحوا ثاني اليوم ركبت سائر الأمراء ووقفوا ينتظرون ركوب طقجى إلى أن نزل في عصبة شديدة وموكب كبير، وكان الأمير سيف الدين كرد الحاجب أيضا راكبا مع الأمراء والجند في موكب كبير، ولم يبق في القاهرة أحد من العامة والسوقة إلا وقد خرج للتفرج، وكان يوما مشهودا، ثم سارت الأمراء والعسكر كلهم إلى أن التقوا، وفسح الحجاب طريقا لطقجى، فساق إلى أن اجتمع بالأمير سلاح، فتصافحا على الخيل وقبل طقجى يده، ومشى إلى جانبه إلى أن وصلوا إلى قبة النصر.
فساق كرد الحاجب من وسط الموكب وقال للأمير سلاح: يا خوند الأمير يطلع إلى القلعة أو يروح إلى بيته، فقال الأمير سلاح: المرسوم مرسوم السلطان، وأنا موجوع من رجلي، فإن رسم بالطلوع طلعت. فقال له كرد: يا خوند وأين السلطان؟ فقال: ما هذا الكلام؟ فقال: السلطان - تعيش - قتله الأمير، فقال: من قتله؟ فقال كرد هذا قتله، وأشار إلى طقجى، فلما سمعه طقجى قال: نعم أنا قتلت السلطان؟ بالإنكار. قال كرد: نعم. قال طقجى: تكذب، وما خرج الكلام من فمه حتى ضربه بعض المماليك البرجية بالسيف على كتفه اليمين فلم يقطع منه شيئا، فلما أحس بالسيف ركض فرسه وخرج من الحلقة التي كان واقفا فيها مع الأمراء، فأشهرت بعد ذلك السيوف ووقعت الضجة والغلبة، وارتفع الغبار حتى لا يرى بعضهم بعضا.
ورأى كرد الحاجب أن مماليك السلطان داروا بطقجى يحفظونه، فقال لهم: يا أولادي أنتم نزلتم حتى تقابلون هذا الرجل الكبير أتابك العساكر، وإذا رآكم على هذا الحال لا يعتقد إلا أنكم نزلتم لأجل قتاله، فيحصل بذلك فتنة كبيرة، وما زال يتلطف بهم إلى أن أخرجهم من الحلقة وأوقفهم بمعزل من الناس، ثم ساق كرد، وجاء إلى الأمير سلاح وقال يا خوند: متى ما وليت عن العسكر ههنا يهلك أهل الإسلام، وكان قد قصد أن يخرج من بينهم ويذهب، فعند ذلك أمر بأن ينشر سنجقه ويحرك النقارات حربيا، ولما رأت الناس ذلك اجتمعت المماليك كلها، وقامت ساق الحرب، وبقى طقجى وحده وخلفه سلحدار واحد، ونظر إلى العسكر وقد ضربوا عليه حلقة، ولم يبق معه أحد من المماليك، فقصد أن يلتجئ إلى أمير سلاح ويستجير به، فصادفه قراقوش الظاهري والتزق به، فضربه بالسيف، فجاءت الضربة في وسط حنكه، فقطع وجهه قطعتين وفصل الحنك من الوجه ووقع إلى الأرض، واجتمعت عليه الخيل، فبقى طريحا، فجاء أمير سلاح ووقف عليه وأمر بأن يشال على قبر عال، ويحمل إلى تربته.
قال صاحب النزهة: فرأيته وقد سلب جميع ما كان عليه، ولم يجدوا شيئا يحمل عليه غير مزبلة من مزابل الحمامات، فوضع على بهيمة، ودارت به الناس إلى أن أوصلوه إلى تربته التي عمرها بجوار إصطبله ومدرسته.
ذكر مقتل كرجى
لما قتل طقجى وانهزمت المماليك الذين نزلوا صحبته كانت طائفة منهم هربت نحو القلعة، وأخبروا كرجى بأن العسكر جميعهم اجتمعوا على طقجى وهم في قتال معه، ولم يعرفوا أنه قتل أو بالحياة، فنهض كرجى من وقته وطلب سائر المماليك السلطانية الذين في القلعة، وفتح الزردخاناه وأخرج منها العدد وآلات الحرب وفرقها، وأمر بشد الخيل من إصطبل السلطان، ونزل في خمسمائة مملوك، ووقف تحت الطبلخاناه على أنه منتظر خبرا ثانيا، ثم ترادفت المماليك المنهزمة والذين حضروا مقتل طقجى، وعرفوا كرجى أنه قتل، وأن العسكر جميعهم قاصدون إليك، فوجد لذلك أمرا عظيما وقوى نفسه على ملاقاتهم بمن معه، ثم نظر إلى من معه، فرأى منهم من يناجز إلى ورائه، ومنهم من يلوى عنان فرسه، وعرف أن الأمر قد انحل ولم يبق معه غير مماليك نفسه، وأول العسكر قد بدأ وأعلامهم منشورة، فأثنى عنان فرسه إلى نحو القرافة، وتبعته الحرافيش وصاحوا عليه، وكان متولى القاهرة في ذلك الوقت ناصر الدين الشيخي، فصادفه وهو طالع من الصليبة وهو سائق، وقصد أن يرده، فرجع إليه وضربه بالسيف، فخرج فرسه، وساق إلى أن وصل بساتين الوزير، والخيل وراءه أولا فأولا، وهو يرجع إليه ويردهم عنه.(1/336)
وكان كرجى على ما كان عليه من قصر القامة شجعا، فارس الخيل، وقد تعلم فنون الحرب، ولم يزل في مراددة الخيل الواصلين إليه إلى أن قابله صمغار ابن سنقر الأشقر واصطدم هو وإياه، فتطاعنا ساعة، فأدركه محمد شاه المعروف بالأعرج الخوارزمي، وكان من الفرسان المجيدين، وقابله وما زال يتطارد معه إلى أن رماه إلى الأرض، فاجتمعت الجند عليه فذبحوه وأخذوا رأسه وأتوا بها إلى الأمير بدر الدين أمير سلاح والحسام الأستاذ دار، والأمراء وقوف عند الطبلخاناه، ورموا برأسه بين أيديهم، ففرحت الأمراء وتباشروا، ثم تفرقوا، ورجعت المجردون إلى بيوتهم.
وفي تاريخ النويري: هرب كرجى حين علم بقتل طقجى، فلحقوه آخر القرافة فقتلوه هناك.
وقال بيبرس: هرب إلى ظاهر مصر فأدركوه عند قبور أهل الذمة، فقتلوه هناك، فصرعه بغيه وأهلكه غيه، ولله أن در القائل:
قضى الله أن البغي يصدع أهله ... وأن على الباغي تدور الدوائر
ذكر عود الملك الناصر محمد بن قلاون إلى السلطنة
ولما جرى ما ذكرنا طلعت الأمراء الأكابر إلى القلعة في ثاني اليوم الذي قتل فيه طقجى وكرجى، واتفقت آراؤهم على النزول إلى الأمير بدر الدين أمير سلاح وتكون المشورة بحضرته لأجل أمر السلطنة، فنزلوا إليه وشاوروه في ذلك، وأقاموا يترددون إليه يومين والثالث إلى أن اتفقت آراؤهم على أن يسيروا بعض الأمراء إلى مدينة الكرك ليحضروا الملك الناصر منها؛ ليجتمع شمل أهل الإسلام وتسكن الفتن بينهم، فإن مماليك السلطان البرجية جميعهم التفت على الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والمماليك الصالحية والمنصورية وبعض الأشرفيه التفت على الأمير سيف الدين سلار الصالحي، فأرادوا أن يسكنوا خواطر الناس بحضور ابن أستاذهم وسلطانهم، وأن يحفظوا دولته إلى أن يبلغ مبلغ الرجال، فاتفقوا على ذلك، وقصدوا قتل من مسكوا من المماليك الذين شاركوا في قتل السلطان، ثم أخروا ذلك إلى وقت حضور السلطان من الكرك.
واتفق رأيهم على تسيير الأمير علم الدين سنجر الجاولى، والأمير سيف الدين آل ملك الجوكندار، وجهزوا لهما الهجن وما يحتاجان إليه.
واتفقوا على أن تكون الكلمة بينهم متفقة واحدة، فكانوا يجلسون ويحكمون وتكتب الكتب بالعلائم، فأول من يكتب علامته الأمير حسام الدين لاجين الأستاذ دار، ثم الأمير عز الدين أيبك الخزندار، ثم الأمير سيف الدين سلار، ثم الأمير سيف الدين كرد الحاجب، ثم الأمير جمال الدين أقوش الأفرم، ثم الأمير جمال الدين عبد الله السلحدار، ثم الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير وكانوا إذا كتبوا كتبا لسائر النواب يكتب عن ألسنة هؤلاء الأمراء ويحط كل منهم علامته عليه، ثم ينزل الجميع يوم الاثنين ويم الخميس إلى خدمة الأمير بدر الدين أمير سلاح، ويأكلون على سماطه، ويستشيرونه فيما يفعلونه، فإنه كان هو المشار إليه من الأكابر، وهو الذي سكن الفتنة بينهم في ذلك الوقت وأشار أن المسلمين لا يسكنون إلى أن تجتمع كلمتهم على ابن أستاذهم، فإنهم مماليك أبيه وأخيه، وهو وارث ملكهم، ومالك عقدهم وحلهم، وقطع من الجميع علائق الطمع، وعرفهم أن حضوره وتملكه عليهم أحق وأولى، وإن كان صغير السن وأنتم تدبرون أمره برأيكم.
ثم كتب كتابا من عنده إلى الملك الناصر، وكتابا آخر إلى جمال الدين أقوش نائب الكرك وعرفه ما اتفق من الوقائع في مصر وأن يجهز السلطان إلى الحضور لملكه.
وكان الأمير عز الدين أيبك الخزندار يجلس مكان النيابة والأمراء دونه.(1/337)
وكتبوا أيضا كتبا لوالدة الملك الناصر وعرفوها بالوقائع وطيبوا خاطرها، فأخذ نائب الكرك الكتب ودخل بها عليها وعرفها مضمونها، فظنت أن هذا مكر من حسام الدين لاجين أراد بذلك إحضار ولدها وقتله، فأبت وامتنعت، ولم تعلم أن الإرادة الإلهية حكمت له بالسعادة الطويلة، ثم إن نائب الكرك قال لها: إن امتناعك عن هذا يورث فسادا كثيرا بين المسلمين، ويوقع فتنا وسفك دماء، وحلف أن هذا الأمر حقيقة ليس فيه مكر ولا خديعة، وما زال بها إلى أن أجابت إليه، وقبلت كلامه، لما كان من سبق إحسانه إليها وإلى ولدها الناصر عند حضورهما إلى الكرك، وكان كل يوم يمد السماط بين يدي الملك الناصر ويقف هو مكان النيابة، وراعى ترتيب المملكة معه مدة إقامته في الكرك إلى حضور الأمراء بطلبه، ثم شرع في تجهيزه بما يليق به وسافر صحبته إلى أن وصل إلى مصر، فلما قرب منها ركبت إليه سائر الأمراء ولاقوه، فلما وقع نظره عليهم ترجلوا كلهم وقبلوا الأرض، وتباشروا بقدومه، وكان يوما مشهودا عظيما، ولم يبق في ذلك اليوم أحد من الأمراء والمقدمين والجند والعامة إلا وقد خرج إليه ولاقاه، وعند طلوعه أجلسوه على التخت، وجلس الأمير بدر الدين أمير سلاح والأمراء الكبار، وكان دخوله يوم السبت الرابع من جمادى الأول من هذه السنة.
وفي يوم الاثنين السادس من الشهر المذكور حلف له سائر الأمراء، وعليه خلعة الخلافة، وهو ابن أربع عشرة سنة، وزينت القاهرة ومصر، ودقت البشائر.
وكان خلو التخت من السلطنة من يوم قتل لاجين إلى يوم حضور الناصر أحدا وأربعين يوما، وبقى الأمر شورى بين ثمان أمراء لا ينفذ أمر إلا بهم ولا يخرج مرسوم إلا بخطهم أجمعين وهم: بيبرس، وسلار، وأيبك الخزندار، وعبد الله السلحدار، وبكتمر أمير جندار، والحسام أستاذ الدار، وأقوش الأفرم، وكرد الحاجب.
وقال بيبرس في تاريخه: ولما استقر الناصر بالقلعة المحروسة استدعى الأمراء الكبار، فحضروا بين يديه، وهم الأمراء المذكورون، وقال: وبيبرس الدوادار مدون هذه الآثار، فوقع اتفاق الآراء؛ واجتماع الأمراء على أن يستقر الأمير سيف الدين سلار نائب السلطنة، والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير أستاذ الدار، والأمير بكتمر جندار، والأمير سيف الدين قطلوبك حاجبا، والأمير شمس الدين الأعسر وزيرا، وفوضت نيابة السلطنة بدمشق إلى الأمير جمال الدين أقوش الأفرم، وأرسل الأمير سيف الدين كرد إلى الحصون نائبا؛ وأفرج عن الأمير شمس الدين قراسنقر الجوكندار من الاعتقال وأعاده إلى ما كان عليه من الإمرة، وأنفق في العساكر نفقة عامة، فسرت به الخاصة والعامة.
وفي نزهة الناظر: أرسل الأمير سيف الدين كرد الحاجب نائبا بطرابلس، عوضا عن الأمير عز الدين الموصلي بحكم وفاته، واستقر سيف الدين قطلوبك حاجبا، عوضا عن كرد، وكان ممن تأمر بدمشق فأخرجه لاجين إلى حلب ثم عاد إلى مصر واستقر فيها.
قال: ثم اتفق الحال على كتب الكتب إلى سائر النواب الشامية والحلبية وسائر الممالك، وسيروا بها الأمير علاء الدين مغلطاى الدمشقي، ثم اجتمع رأيهم على الإفراج عن الأمراء المسجونين وهم: شمس الدين قراسنقر، والأمير سنقر الأعسر، والأمير عز الدين أيبك الحموي، ورسموا أن يكون قراسنقر نائب الصبيبة وأعمالها؛ وولوا فخر الدين بن الخليلي وزيرا؛ ثم بعد أيام قليلة عزلوه؛ وولوا سنقر الأعسر في شهر رمضان.
ولما وصل الأمير جمال الدين أقوش إلى دمشق أفرج عن الأمير سيف الدين جاغان الحسامي وولاه البر.
ووصل كتاب نائب حلب بوصول الأمراء إلى البلاد؛ وفي خدمتهم أمراء المغل.
وذكر ابن كثير أن الأمراء الذين قفزوا إلى قازان إنما كان في أول هذه السنة، وإنما نحن ذكرناهم في السنة الماضية نحو ما ذكر بيبرس في تاريخه.
وقال ابن كثير: جاءت الكتب إلى نائب الشام سيف الدين قفجق فوجدوه قد قفز خوفا من غائلة لاجين، فسارت البرد وراءه فلم يدركوه إلا وقد اجتمع بالمغول عند رأس العين من أعمال ماردين، وتفارط الحال ولا قوة إلا بالله.(1/338)
وكان الذي شمر العزم وراءهم ليردهم الأمير سيف الدين بلغاق، وقام بأعباء البلد لغيبة النائب نائب القلعة الأمير علم الدين أرجواش، والأمير سيف الدين جاغان، واحتاطوا على من كان له اختصاص بتلك الدولة، فكان منهم جمال الدين يوسف الرومي محتسب البلد وناظر المارستان، ثم أطلق بعد مدة وأعيد إلى وظائفه، واحتيط أيضا على سيف الدين جاغان، وحسام الدين لاجين والي البر، وأدخلا القلعة.
وقدم الأمير جمال الدين أقوش الأفرم نائبا على دمشق، فدخلها يوم الأربعاء - قبل العصر - الثاني والعشرين من جمادى الأولى، وكان هروب شمس الدين قفجق ومن معه من الأمراء يوم الثلاثاء الثامن من ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وستمائة، وكانوا في خمسمائة فارس، وتوجهوا نحو الفرات، فتبعهم الأمير عز الدين بن ... ...؛ والملك الأوحد ليرجعوهم، فلم يقدروا على رضاهم، فرجعوا، ثم توجه أيدغدى شقير وكجكن من حلب ليدركوهم فوجدوهم قد قطعوا الفرات، وأدركوا بعض أثقالهم فأخذوها ورجعوا، فلما بلغوا رأس عين التقاهم بولاى في ألف فارس من المغل وأكرمهم وأحسن نزلهم، وكذلك التقاهم صاحب ماردين فأكرمهم وقدم لهم تقادم خوفا منهم أن يبلغوا قازان أنه كان يكاتب صاحب مصر، وأتموا السير حتى عبروا الموصل، ثم توجهوا إلى قازان، وهو مقيم بالأردو من أرض شبت من أعمال واسط، فلقيهم وأكرمهم، وأنعم على كل أمير منهم بعشرة آلاف دينار صرف الدينار عشرة دراهم، وأنعم على مماليكهم كل نفر بألف ومائتى درهم، والمماليك الصغار والغلمان كل نفر بستمائة درهم، وأعطى قفجق همذان فلم يأخذها، كما ذكرنا.
وقال بيبرس في تاريخه: لما قدم الملك الناصر أشرقت الدنيا بطلعته، وفرحت الخلائق برجعته، وقال الدهر بلسان حاله لا بلسان مقاله:
قد رجع الحق إلى نصابه ... وأنت من دون الورى أولى
ما كنت إلا كالسيف سلته ... يد ثم أعادته إلى قرابه
ثم أنفق في العساكر نفقة عامة، فهو حقيق بقول القائل:
الناصر الملك العالي المنار إذا ... أهل الفخار سموا للمجد والجود
الواهب المال لم تعلق بساحته ... إلا بعد الأيادي غير معدود
السابق الوعد بالحسنى يقدمها ... فما يحض على إنجاز موعود
المشتري بالندى الحمد الثمين فقد ... أضحى بكل لسان عين محمود
المشرق الوجه في ظلماء قاتمة ... والمغدق الجود في شهباء جارود
الثابت الحزم في دهياء مظلمة ... والثاقب العزم في صماء صيخود
ترب العلى ابن أبيه سطوة وندى ... أبو الوفود أخو الغر المناجيد
أغر يعرب في أفعال نائله ال ... حسنى ويعرب عن طيب المواليد
زاكي المغارس نهاب الفوارس وه ... اب النفائس ما شئت بتعريد
ماضي العزائم غفار الجرائم عف ... ار الكرائم وضاح النواجيد
يجود بالأعوجيات الجياد وبالب ... يض الحداد وبالسمر الأماليد
وبالظبي والظباء الآنسات وبالب ... زل الهجان وبالمهرية القود
يا ابن الأولى ملكوا الدنيا فامطرها ... نداهم الغمر عهدا غير معهود
وأوسعوا العدل أقصاها فمهدها ... ولم تكن قبلهم دانت لتمهيد
أحييت يا ابن الشهيد الملك مفخرة ... فيا رضى والدٍ عن خير مولود
وشدت بيت قلاون فعشت له ... في ظل ملك على الآفاق ممدود
أعدت للدولة الغراء بهجتها ... فاملك كملك سليمان بن داود
أشرقت كالشمس في أبراج رفعتها ... فكان عودك عبداً أيما عيد(1/339)
وفي نزهة الناظر: أن السلطان لاجين لما قتل سفر الأمير سيف الدين بلغاق من جهة الأمراء بمصر يعلمون الأمير سيف الدين قفجق بالوقائع التي جرت، ويعرفون صحته بالأمارات التي بينهم، ولما وصل إلى دمشق وجده قد قفز هو ومن معه إلى نحو الفرات، ولم يخبر أحدا بما حضر حتى وصل إلى حلب فوجد الأمر قد فات، وكان يوم وصوله إلى دمشق يوم سفر قفجق والأمراء من حمص، فلما وصل إلى حلب وقف نائب حلب على الكتب المكتتبة عن الأمراء، وحكى له بلغاق ما اتفق جميعه، ثم طلب بريديا من أكابر البريدية بحلب يعرف ببليان القصاص ووعد له بإمرة إذا أدرك الأمراء وأوقفهم على الكتب التي حضرت من مصر، وأمره أن يلحق بهم ولو دخلوا في البلاد، فركب المذكور من حلب على طريق الفرات، وساق تلك الليلة إلى بكرة النهار، والتقى بأيدغدى شقير وكجكن وبالوج ومعهم الأمراء الخاصكية وبعض الأمراء المجردين من مصر والشام ممن كان يلوذ بدولتهم، فلما رأوه أراد أن يعرج عن طريقهم أرسلوا إليه من أحضره، فلما رآه أيدغدى شقير قال له: إلى أين قصدت؟ قال: إلى الأمراء الذين قفزوا لعلىً ألحق بهم. فقال: من سيرك إليهم؟ قال له: نائب حلب. فقال: لأي سبب؟ فأنكره وقال: ما أعرف غير أنه سيرني إليهم قال: وأين كتابه إليهم؟ فقال: ما معي كتاب ولكن مشافهة، فأنكر أمره وقال للأمراء الذين معه: والله ما قضية هذا بخير، ثم أشار إلى بعض مماليكه أن يؤجل البريدي ويأخذ جرابه، فلما أخذه فتحه فوجد فيه كتب الأمراء وهم يعرفون قفجق بجميع ما اتفق من قتل لاجين ومنكوتمر وما مجدد من الوقائع، وكتب نائب حلب إليهم بأن الشغل قد انقضى وسألهم الرجوع، وترقق لهم في القول، فلما وقفوا على ذلك اتفق رأيهم على أن يطلقوا البريدي من غير الكتب فقال لهم البريدي: إذا قلت لهم هذا الكلام ما يصدقونني وأرد خائبا، فاستصوبوا كلامه وأعطوه الكتب، فذهب إلى طريقه.
ثم إن أيدغدى شقير شرع في خلاص نفسه وكيف يكون حاله مع نائب حلب ومع الأمراء، وكان قد أساء على نائب حلب والأمراء المجردين، وعاملهم بالغلظة والكلام الفاحش والحماقة والكبرياء؛ فإن اتفاق منكوتمر كان معه أنه إذا قضى شغل الأمراء ومسك منهم الذين بينوا له مسكهم فيستقر نائبا بحلب، وكذلك كان الاتفاق أيضا مع جاغان في أمره مع نائب الشام قفجق، فإنه إذا مسك بكتمر السلحدار ومن عينوه بالمسك من الأمراء يكون هو نائب الشام.
ولما تحقق أيدغدى وجاغان وقوع الأمير بلاجين ومنكوتمر خشداشيته، ووقفا على كتب الأمراء وكتاب نائب حلب علما أن الأمر قد فات وتحيرا فيما يعملان، ثم قوى أيدغدى شقير عزمه على أن يرجع بمن معه إلى قلعة تل حمدون ويتحصنون بها، فلم يوافقه على ذلك كجكن وقالوا: نحن بين أمرين: إما أن يفتحوا لنا القلعة أو يأبوا ذلك فنكون قد فرطنا في أمرنا، والرأي عندي أن نرجع إلى حلب وندخل على نائبها فهو على كل حال ما يرمى جانبنا ويشفع لنا، والذي قضى الله لا بد منه، فانتظم أمرهم على ذلك ورجعوا قاصدين حلب، ولما دخلوا على الأمير سيف الدين النائب أقبل عليهم بإقبال حسن، وأظهر التوجع لهم، وأمر لكل أحد بأن ينزل في منزلته.
وفيها: اتفق بمصر مطر عظيم، وجاء عقبيه سيل لم يعهد بمصر مثله، ونزل من صوب المقطم إلى القرافة وأفسد تربا كثيرة ومقابر ودورا وأملاكا، وعم سائر القرافة، وكذلك نزل من الجبل إلى أن وصل إلى باب النصر وأفسد تربا ودورا كانت معمورة مجاورة للترب.
وفيها: قتل أقطاجى بن طشتمر ابن بنت نوغيه بمدينة كفا، وذلك أن نوغيه جده لما كسر الملك طقطا استولى على البلاد، فأرسل ابن بنته الأمير أقطاجى هذا إلى بلاد قرم ليجبى المال المقرر على أهلها لأنه وهبها له، فسار إليها ومعه أمير يسمى الطبرس بن قينو وعسكره مقدار أربعة آلاف فارس، فدخل إلى كفا وهي مدينة الفرنج الجنوية بين اسطنبول وبين القرم، وطالب أهلها بمال فضيفوه وقدموا إليه شيئا من المأكول وخمر للمشروب، فأكل وشرب الخمر وحكم عليه السكر، فوثبوا عليه وقتلوه، وبلغ خبر مقتله نوغيه جده، فأرسل عسكرا كثيفا إلى قرم صحبة ماجى أحد أمرائه فنهبوها وأحرقوها، وفتكوا من القرم جماعة وسبوا من كان فيها من تجار المسلمين والفرنج، وأخذوا أموالهم، ونهبوا صار، وكرمان، وقرق ايدى، وكرج وغيرها.(1/340)
وفيها: قتل أباجى بن قرمشى وأخوه قراجين، وهؤلاء أولاد قرمشى كانوا ثلاثة إخوة من كبار المقدمين وأصحاب التوامين ببلد الشمال، وكانوا يضاهون نوغيه في المنزلة والتقدم وعدة العسكر، وكانوا قد اتفقوا معه على حرب طقطا، وشهدوه معه وعاضدوه فيه، فلما استقام لنوغيه الأمر تحكمت أولاده وهم جكا وتكا وطراى، ولم يحصل لأولاد قرمشى ما كانوا يؤملونه منهم، فوقع بينهم، وقصدوا الانفراد عنهم، وهم أباجى وقراجين وينجى، ومالوا إلى طقطا، فبلغ ذلك نوغيه وأولاده، فجرد أولاده وهم الثلاثة المذكورون ليردوهم ويمنعوهم من الانحياز إلى طقطا، والتقى الجمعان واقتتلوا يومهم ذلك، وحجز بينهم الليل، فباتوا على تعبئتهم، فلما جن الليل هرب من عسكر أولاد قرمشى أمير يسمى قطغو مقدم ألف فارس، وانحاز إلى أولاد نوغيه، فأصبحوا وقد فقدوه هو وطائفته، فلم يتقدم أحد من الفريقين لحرب الآخر.
فلما كان المساء أضرم أولاد قرمشى نارا وأزمعوا الرجوع، فأرسل إليهم أولاد نوغيه ولاطفوهم وخدعوهم وقالوا لهم: ما الحاجة إلى الخلف والحرب ونحن أقرباء وألزام، والأولى ترك الشنان وتقرير الصلح كما كان، واستمالوا ينجى وهو الأصغر، فمال إليهم، وسألوه يلاطف أخويه ويسألهم في الموادعة والمسالمة، فعاد إلى أباجى أخيه وأبلغه مقالتهم ولاطفه في الاجتماع بهم، فانقاد إلى كلامه وتوجه بنفسه إليهم.
وأما قراجين أخوه فإنه كان أثبتهم جأشا، وكان متوليا تدبير العسكر، ولم يتوجه مع أخيه، فراسلوا والدته في توجهه، فأشارت إليه بالتوجه وتقرير الصلح، فتوجه، فلما حصل الأخوان أباجى وقراجين عند أولاد نوغيه قتلوهما، وشعر ينجى بذلك فلم يعاود إليهم، بل نجا بنفسه، ونهب أولاد نوغيه تمانات أباجى وأخيه، وأتوا على أكثرهم قتلا وأسرا ونهبا، فقويت شوكتهم وكثرت عساكرهم وانبسطت أيديهم، واستظهروا حتى على أبيهم.
وفيها: تواترت الأخبار بحركة التتار وقصدهم بلاد الشام، فجرد السلطان، وبرزوا الدهليز والخيام، وكان خروجه من قلعة الجبل في الرابع والعشرين من ذي الحجة.
قال بيبرس في تاريخه: وأقمت بالقلعة نائبا، وانقضت هذه السنة المباركة.
وكان السبب لتحرك قازان وعبوره إلى البلاد ما تقدم ذكره من الغارة التي وقعت على ماردين في شهر رمضان من عسكر الشام، وكانوا أفسدوا فيها فسادا عظيما.
قال صاحب النزهة: أخبرني من حضرها أنهم كانوا يأخذون الولد من حجر أمه، والولد من كف أبيه، وكم من حرة كشفوا سترها، وكم من بكر أخرجوها من خدرها، وسفكوا دماء كثيرة، وكان صاحب ماردين على بعض أبراج القلعة يشاهد ذلك، ولما انفصل أمر الغارة ركب صاحب ماردين إلى قازان واستصحب معه ما يليق لملك مثله، وكان رجلا معظما عند المغول وسائر ملوكها فلما وصل إليه قربه وأكرمه، وعرفه صاحب ماردين ما اتفق من سلطان مصر وعسكر حلب، وما صنعوه في بلاده، وبكى بين يديه، فتوجع له قازان وسائر الخواتين وأكابر المغول، وصار قازان يكرر ويقول: هذا فعلوه في شهر رمضان وأين الإسلام مع هؤلاء القوم؟ وأخذ يتعجب من فعلهم فإنه كان قريب العهد بالإسلام، فعند ذلك طلب قازان من القضاة والعلماء بتبريز وعرفهم بما صنعوا من الفسق وشرب الخمر في شهر رمضان، وسألهم أن يفتوه في أمر قتالهم أو الغارة على بلاد الشام، فأجابوا بأن مثل هذا لا يثبت بكلام فرد شخص وخصوصا في مثل ذلك، وربما يكون لهم جواب في ذلك، فشرعوا في البحث في هذا الأمر إلى أن اتفق رأيهم أن يسيروا رسلاً إلى صاحب مصر ويذكرون له ما وقع من هذا الأمر في مثل هذا الشهر الشريف، وما ارتكبوه من المعاصي، وطيبوا خاطر صاحب ماردين ووعدوا له بنصرته والقيام في حقه وردوه إلى بلده مكرما، ثم اتفق بعد ذلك دخول قفجق نائب الشام بمن معه من الأمراء إلى بلادهم، ولما اجتمعوا بقازان حرضوه على العبور إلى بلاد الشام، وكان عنده عزم من ذلك فقوى عزمه على ذلك، وكتب إلى سائر النواب والولاة بتجهيز العساكر إلى أردو، وتواترت الأخبار بذلك في مصر، واجتمعت الأمراء، وأمروا للعسكر بتجهيزهم؛ وكتبوا الكتب بتجهيز الإقامات في المنازل، وما انسلخ شهر ذي الحجة من السنة المذكورة إلا والعسكر قد خيمت، ثم رحلوا وأرسلوا الرد إلى نائب الشام بأخذ الأهبة والتجهيز للسلطان، ولما وصلت العساكر إلى غزة أقاموا أياما ينتظرون ما يرد من الأخبار.(1/341)
ذكر وقعة الأويراتيه
والسبب لخروجهم عن الطاعة
قد ذكرنا أن أمراءهم وكبراءهم قتلوا في الدولة الحسامية لكونهم سببا في الركوب على الملك العادل كتبغا لميله إليهم لكونهم من جنسه، فالبقية منهم لما رأوا البرجية في السعادة الوافرة والسيادة العظيمة حسدوهم على ذلك، فسول لهم السلطان أن يكونوا عصبة واحدة ويكون الأمير قطلوبرس العادلي كبيرهم ورأسهم، وكان من أكابر مماليك السلطان العادل كتبغا، ولما اتفق لكتبغا ما ذكرنا كانوا أبقوه على إمرته لكونه من فرسان الخيل المعروفين، ولما اجتمعوا على ذلك عرفوه بما عزموا عليه وقالوا له: اجتمعنا ببرنطيه أحد المماليك السلطانية وخشداشه ألوص الذي كان من أكابر الأويراتية، وكان هؤلاء على جهل عظيم وكبر النفس، وكان اتفاقهم على أن يركبوا على بيبرس وسلار في موكبهما، فإذا حصل لهم مقصودهم يطلبون كتبغا ويعيدونه إلى السلطنة، ويأخذ أكابرهم إمريات أمراء البرجية.
وكان قطلوبرس رجلا عاقلا صاحب رأي وتدبير وتحقق أن أمر هؤلاء إذا ظهر كان سبب تلافه وهلاكه، ورآهم مصرين على عزمهم، وقد غلب عليهم الجهل والطمع، وما بقى له منهم مخلص، فلما رآهم على ذلك أوصاهم بكتمان أمرهم، وأن يستجلبوا من قدروا عليه من المماليك السلطانية ليكونوا عونا لهم على مقاصدهم، وتحدثوا مع جماعة منهم، ووقع الاتفاق على أن الأمراء إذا ترجلوا يوم الموكب وترجلت مماليكهم يهجم برنطيه على بيبرس ويضربه بالسيف، وآلوص على سلار، وأن الأويراتية إذا نظروا إلى سيف برنطيه وقد أشهره يجذبون سيوفهم ويضرب كل واحد منهم مخدومه، أو من يكون قريبا منه من الأمراء أي من كان.
وكانت العساكر السلطانية قد أقاموا على غزة أياما، ثم وصلوا إلى تل العجول وأقاموا هناك ينتظرون الأخبار كما ذكرنا، وكانوا قالوا لقطلوبرس أن يكون مجهزا بمن معه، فإذا رأى السيوف أشهرت ووقع الفعل نشر سنجقه وضرب طبلخاناته وعمل عمله.
ولما كان الموكب وترجلت الأمراء على العادة، وكان بيبرس يتقدم سلار احتراما له، تقدم برنطيه وهجم على بيبرس، وقد جذب سيفه وهمز فرسه إلى أن قاربه، وكانت الأمراء يحجبون بيبرس وما شعروا إلا وقد رأوا برنطيه بينهم وسيفه مشهور يريد ضرب بيبرس، وكان في الأمراء الماشين في خدمته أمير من البرجية يقال له سيف الدين طشتمر الجمقدار، وكان جمقدار الملك الأشرف، وكان له قوة وشجاعة وشكل حسن، ولما رأى برنطيه وقد هجم على بيبرس جذب هو أيضا سيفه وضرب برنطيه، ولكن وقعت الضربة على كفل فرسه، فالتفت إليه برنطيه وضربه فقطع كلوتاته وشاشه وجرح وجهه جرحاً بالغاً ثم تناولت السيوف برنطيه فقتل من وقته، ووقع الصياح في العسكر فركبوا عن بكرة أبيهم، وطلب بعض الأويراتية والمماليك الذين كانوا متفقين معهم نحو دهليز السلطان، وركبت الأمراء الذين كانوا ترجلوا، وركبت مماليكهم وساقوا خلف القاصدين الدهليز إلى أن أدركوهم داخل الدهليز، ومنهم من دخل وهجم على السلطان.
وركبت مماليك السلطان. وكذلك الأمير بكتمر الجواكندار، واعتقدوا أنهم قصدوا الهجوم على السلطان ليقتلوه، فركب ونشر العصائب السلطانية، ونشر سنجقه أيضا، واجتمعت إليه مماليك السلطان، وخرج السلطان من الدهليز، و ... ... وقصد الركوب بين مماليكه، فمنعه أمير الجندار وطيب خاطره، وقال له أمير جندار: ما عليك شيء، فكأن الأمراء وقع بينهم، أو جرى لأحد منهم شيء، فهذه الهجمة بسببه.
وخشيت الناس على أموالهم، فصار الأمير منهم يركب بعض مماليكه ويخلى البعض لحفظ خيمته ودوابه.
وكان يوما صعبا لم ير مثله، ولا أشد منه، ثم رجع بيبرس وسلار إلى مخيهما. ثم أمر الحجاب والنقباء أن يقولوا للمقدمين بأن يحضر كل مقدم بمضافيه، وكان كثير من المقدمين يأتون بمضافيهم إلى مخيم النيابة، ويرون سنجق السلطان منشورا فيرجعون إليه، وكانت الحجاب يردونهم، وأكثرهم لا يلتفتون إليهم، ويقولون: نحن إذا رأينا سنجق السلطان منشورا لا نلتفت إلى غيره.(1/342)
والتفت جماعة منهم على السلطان، ثم رأى سلار أن هذا الأمر ما سينفصل إلا عن سفك دم كثيرة، وكان صاحب عقل وتدبير حسن، فسير من جهته أحد الحجاب وبعض المماليك إلى بكتمر الجوكندار الذي هو أمير جندار يقول له: ما هذه الفتنة التي قصدتم إثارتها؟ وكيف يحل لمسلم في هذا الوقت؟ ونحن جئنا لدفع العدو، وحركنا أنفسنا وأموالنا للذب عن الإسلام وعن المسلمين، وقد بلغنا أن بعض مماليك السلطان اتفقوا مع الأويراتية على قتلنا، وسفك الدماء بين المسلمين، فإن السلطان وأنتم أشرتهم عليهم بهذا الرأي، ولكن الله عز وجل، بمنه وكرمه، قد دفع عنا ذلك، فإن كان هذا بمشورتكم فنحن مماليك السلطان، ومماليك والده الشهيد، فنحن نكون فداء للإسلام، وإن كان ما عندكم من ذلك علم فسيروا إلينا غرماءنا فنجازى الذين أرادوا قتلنا وقيام هذه الفتنة.
فلما وصل الذين أرسلهم سلار إلى السلطان، وبلغوه ما ذكر سلار، بكى السلطان، وحلف بالله أن ما عنده مما ذكروه خبر، وكذلك الأمير بكتمر حلف، وأنهم لما رأوا السيوف وقد وقعت اعتقدوا أنهم يريدون قتل السلطان ليسلطنوا أحدا منهم، واعتذروا اعتذارا كثيرا، وقالوا لهم: إن الذي قلتم حق، فإن كان يحصل لكم تشويش من السلطان ومن مماليكه، فها أنا آخذهم وأروح بهم إلى الكرك، وهي قريبة من هاهنا، وهو أنى أسير معهم فأقيم أنا وهو ومماليكه على الكرك، واحكموا أنتم بكل ما تحبون وتختارون.
فلما سمعوا ذلك خرجوا من عندهم، وأتوا إلى سلار والأمراء الذين عنده، وبلغوهم الرسالة، فصعب ذلك عليهم، وثارت نفوس البرجية، وأرادوا أن يركبوا على الأمير بكتمر فقال الأمير سلار: ما هذه مصلحة، وأنتم تعلموا برأي أمير سلاح، هو شاليش العساكر وأتابكها، وهو قدامنا بمرحلة، وأما إذا فعلتم شيئا بغير مشورته تكون حجة علينا، وقد علمتم ما اتفق له مع كرجى وطقجى عند مشورته، والمصلحة أن نعرفه جميع ما اتفق عليه، ونستشيره فلما نعمله، فإنه أتابك العساكر، وكبير الدولة، والناس يرجعون إلى رأيه.
فسيروا إليه أمير حاجب، وعرفوه كل ما وقع، وأن هذا الأمر كان باتفاق من السلطان مع مماليكه وبكتمر أمير جندار، فلما سمع كلامهم قال: إن عرف الأمراء أن هذا الحديث أنا ما أعرفه. فإني نازل عنكم ببعيد، والذي أقوله: إن دم المسلمين يتعلق بابن أستاذهم، وما أعرف غير هذا الكلام، ثم قام وخرج من عنده الحاجب. وعرف الأمراء ما قاله الأمير سلاح، بعد ذلك قال الأمير سلار: ما بقى إلا أن نلاطف أمرنا مع السلطان، وينفصل الأمر على خير.
ثم طلع الأمراء الكبار، ودخلوا على السلطان، وأصلحوا بين أمير جندار وبين الأمراء، وقبلوا الأرض بين يدي السلطان، واجتمع رأيهم على طلب الأويراتية، والكشف عن أمرهم، ومن كان السبب لقيام هذه الفتنة، فمسكوا جماعة منهم، وعاقبوهم، فاعترفوا أن الاتفاق وقع بينهم على الهجوم على الأمير ركن الدين بيبرس والأمير سلار وقتلهما، وقيام دولة الملك العادل كتبغا، وأخذ ثأر من قتل من أمرائهم، وأن المحرك لذلك برنطيه، وألوص ورأس المشورة في ذلك قطلوبرس العادلي، وسموا جماعة كثيرة من العادلية.
فاتفق رأي الأمراء على أن يستفتوا في أمرهم، فأفتوا بقتل الجميع لقوله تعالى " والفتنة أشد من القتل " ... فلما أصبحوا نصبت لهم الأخشاب، وشنق منهم نحو خمسين نفرا من أكابرهم، وصلبوهم صلبا بشيعا بكلوتاتهم وشاشاتهم، ونادى عليهم المشاعلية: هذا جزاء من يقصد إقامة الفتنة بين المسلمين ويتجاسر على الملوك.
وطلب علاء الدين قطلوبرس العادلي فلم يجدوه، فنودى في سائر الوطاق أن من أخفاه شنق.
وكان قطلوبرس تلك الليلة قد جهز أمره الجميع، وكان عزمه أن الأمر الذي عزم عليه إن جاء على وفق مراده ينشر سنجقه ويتظاهر بالركوب، وإن كان بخلاف ذلك ينجو بنفسه، فلما تحقق أن الأمر انقلب عليه خرج مختفيا من أصحابه، واستصحب معه ما يعز عليه من المال، فجاء إلى غزة واختفى بها عند بعض أصحابه.
وما علموا خبره إلا بعد يومين، وأمروا بنهب وطاقه، وجميع ماله من الدواب، وتركوا المصلوبين ثلاثة أيام، وأنزلوهم في اليوم الرابع، فحصل بسبب ذلك بكاء وتألم، وجافت الأرض من روائح أجسادهم.(1/343)
ثم قصدوا الرحيل، واجتمع الأمراء البرجية، وقالوا لبيبرس نحن ما نرحل حتى نأخذ ما بقى من غرمائنا من المماليك السلطانية، وعرفوا بيبرس أن الأمير سلار ربما كانت له يد فيما اتفق، فاتهموه، فبلغ ذلك الأمير سلار فخاف في نفسه وقال: إن لم أدارهم في ذلك قامت الفتنة. ولما تكلم معه الأمير بيبرس في أمر المماليك، وأنه ما نرحل حتى ينجز الأمر معهم وافقه على ذلك، ثم اجتمعوا بالأمير جوكندار وقالوا له: إن من المماليك السلطانية من يرضى الفتنة، ومنهم من كانوا وافقوا الأويراتية، فرأى الجوكندار أن مخالفتهم في ذلك الوقت تؤدى إلى فساد كبير، فطاوعهم على ما قالوا، واجتمعوا ودخلوا على السلطان وقالوا: إن ههنا صبيانا من المماليك يقصدون الفتن بيننا وينقلون الكلام الفاسد، ونريد أن نطمئن من جهتهم في السفرة، فقال لهم السلطان: ما الذي يفعل بهم؟ فقالوا: يرسلهم مولانا السلطان إلى الكرك فيقيمون هناك إلى أن نعود من السفر فنأخذهم إلى مصر معنا، فإذا دخلنا مصر يفعل السلطان فيهم بما يرى، فأجاب إليهم السلطان، فأمر عند ذلك بطلب جماعة فأحضروهم وسيروهم إلى الكرك صحبة النقباء ورسم السلطان بحبسهم هناك.
ثم بعد ذلك رحل السلطان بعساكره من تل العجول إلى قريتا وضربوا الدهليز هناك، وأمروا بالإقامة هناك إلى أن يكشفوا أخبار العدو من النواب.
واتفق في تلك المنزله أمر غريب من مجىء سيل عظيم من رءوس الجبال في ضحوة النهار على غفلة فأخذ من الجمال والحيل والخيم والأثقال شيئا كثيرا، فوقعت ضجة عظيمة في العسكر، ومن لطف الله تعالى أنه كان من فرد جانب، فاستمر ذلك إلى وقت العصر من ذلك اليوم. وانفسد حال جماعة كبيرة من العسكر، ومنهم من أصبح فقيرا لا يملك شيئا، فتطيرت الناس بذلك وقالوا: لا يحصل خير في هذه السفرة.
قال صاحب النزهة: واتفقت بعد ذلك نكتة غريبة وهي أنه كان رجل مشهور بالصلاح والمكاشفات، وقد كان وقعت منه أمور غريبة في نوبة الشجاعي وكتبغا قبل وقوع أمرهما، وكان لا يتكلم مع الناس، ولا يأخذ شيئا من أحد، وأكثر اجتماعه كان مع الأمير سلاح، ولكنه ما كان يتكلم معه، فإذا أخذ منه شيئا كان يفرقه على ذوى الحاجات، وكانت عادته أنه إذا ظهر أمر مما قدره الله تعالى من الخير والشر كان قبل وقوعه يلبس شيئا يناسب ذلك الأمر، وكان يعرف بالشيخ الحبشي، وكثيرا ما كان يمشي في الأسواق وعلى رأسه كلوتاه كشف.
قال: ورأيته في ذلك اليوم حين وقع السيل جالسا خلف دهليز السلطان، ثم مشى ومشيت معه إلى قريب المطبخ السلطاني، فجلس في مكان يرمى فيه العظام التي تفضل من السماط، فصار يأخذ العظم ويمشمشه، ثم ينظر إلى السماء ويهز رأسه ويقول: والله قربوا وأشار بيده إلى السماء، ثم أشار إلينا وقال: أبصروا أبصروا وقد جاءوا، فنظرنا إلى السماء، ولا ترى السماء فكأنها قد سترت بالغمام من الجراد، فاستد ما بين السماء والأرض، حتى اشتغل بالنظر إلى ذلك جميع الناس، ووقع الصياح في الوطاق، وخرج السلطان وسائر الأمراء من الخيم ينظرون إليه، ويتعجبون من ذلك ومن كثرته.
فحكى شخص هناك أنه لما كان صغير السن شاهد في بلاد الخطا جرادا مثل هذا، وإنه كان هناك رجل كبير السن أخبر أن هذا الجراد ما دخل على مكان فيه عسكر إلا وقد طرقهم أعداؤهم، ويحصل بذلك خذلان وينتصر أعداؤهم عليهم، فاشتاع ذلك الكلام بين العسكر فلم يبق أحد إلا وقد جزم بحضور العدو، وأن المسلمين ينخذلون وهذه إشارته قد لاحت.
ثم شرعت الأمراء في تفسير البريدية إلى نائب حلب ليطالعهم بالأخبار، ثم اجتمعت آراؤهم على الرحيل إلى دمشق، فاجتمعت جماعة من مقدمي الحلقة وجندها إلى الأمير جمال الدين قتال السبع وأكابر الأمراء وعرفوهم ضعف حال الجند وقلة نفقتهم، وأن هذا السيل قد أضر ببعضهم وأخذ أموالهم، فاتفقت الأمراء على الكلام مع الأمير بيبرس والأمير سلار في أمرهم، فلما اجتمعوا عرفوهم ضرر الجند وشكواهم فقالوا: حتى نصل إلى دمشق وننفق فيهم، ورسموا بالرحيل من يومهم.(1/344)
وفيها: اتفق بزلار المنصوري وأقوام من أصحاب الأمير سيف الدين قفجق الذين تسحبوا معه وهم تبديه وغيره على الخروج من بلاد التتار والهرب إلى هذه الديار، وساروا ليلا، فاطلع عليهم التتار فساقوا خلفهم فأدركوهم بحدود بلد الأكراد فاتقعوا معهم، فقتل بوزلار وعلي بن اسنبغا وغيرهما، ومسكوا تبديه وجماعة آخرين معه، وأحضروهم إلى الأرد، فتلطف بهم الأمير سيف الدين قفجق، فخلصوا.
وكان سيف الدين قفجق هذا مسموع الكلام عند قازان وذلك لأنه لما حضر عنده أعطى له همدون فلم يأخذها وقال: ليس لي قصد سوى خدمة القان، فأعجبه ذلك، وذكر أنه وجد أباه وإخوته سلاحدارية عند قازان واستمروا عنده إلى حين دخولهم الشام صحبة قازان.
وفيها: تجهز يوسف بن يعقوب صاحب مراكش لقصد تلمسان وبها صاحبها عثمان يغمراسن، فسار إليها وشدد حصارها، وكانت من أحصن المدن قد حصنها يغمراسن وولده عثمان من العدو والذخائر والغلال والحواصل، فلما رأى يوسف بن يعقوب عسر مرامها وشدة امتناعها بنى عليها مدينة من غربيها، وبنت كل قبيلة من قبائل بني مرين حواليها ربضا فصارت في الوسط، وخندقوا عليها وأحاطوا بها، وسوروا عليها سورا، وقطعوا عنها المواد والمير والأقوات، وهلك أكثر أهلها جوعا، ومات منها خلق لا يحصى.
وفيها: كان النيل ستة عشر ذراعا وثمان أصابع، وتوقف توقفا شديدا حتى أعان الله ووفى.
وفيه: حج بالناس عز الدين أيبك الخزندار، وهو أمير جندار، ومن الشام الأمير شمس الدين العينتابي.
ذكر من توفى فيها من الأعيان
الشيخ نظام الدين أحمد بن الشيخ جمال الدين محمود بن أحمد بن عبد السلام الحصيري الحنفي، مدرس النورية.
توفى في ثامن المحرم منها، ودفن يوم الجمعة تاسعه بمقابر الصوفية، كان مفتيا فاضلا، وناب في الحكم في وقت عن قاضي القضاة حسام الدين، ودرس بالنورية بعد أبيه، ودرس بعده بها الشيخ شمس الدين ابن الصدر سليمان في يوم الأربعاء الرابع والعشرين من محرم.
الشيخ الإمام العالم الزاهد جمال الدين أبو عبد الله محمد بن سليمان بن الحسن بن الحسين البلخي المقدسي الحنفي، المعروف بابن النقيب.
مولده في نصف شعبان سنة إحدى عشرة وستمائة بالقدس، واشتغل بالقاهرة، وأقام مدة بجامع الأزهر، ودرس في بعض المدارس هناك، ثم انتقل إلى القدس الشريف فاستوطنه حتى مات في المحرم منها، كان فاضلا في التفسير، له فيه مصنف حافل كبير جمع فيه خمسين مصنفا من التفاسير، وكان الناس يقصدونه للزيارة بالقدس ويتبركون بدعائه.
الشيخ أبو يعقوب المغربي المقيم بالقدس الشريف.
كان الناس يجتمعون به وهو منقطع بالمسجد الأقصى، وكان ابن تيمية يقول فيه أنه على طريقة ابن عربي وابن سبعين، وكانت وفاته في المحرم منها.
القاضي شهاب الدين يوسف بن الصاحب محيي الدين بن النحاس، أحد رؤساء الحنفية، ومدرس الريحانية والظاهرية.
وقد ولى نظر الخزانة والجامع في وقت، وكان صدرا كبيرا كافيا، توفى ببستانه بالمزة في الثالث عشر من ذي الحجة، ودرس بعده بالريحانية القاضي جلال الدين بن حسام الدين.
الصاحب الكبير الصدر الوزير تقي الدين توبة بن علي بن مهاجر بن شجاع ابن توبة الربعي التكريتي.
ولد سنة عشرين وستمائة يوم عرفه بعرفه، وتنقل في الخدم إلى أن وزر بدمشق مرات عديدة حتى كانت وفاته ليلة الخميس الثامن من جمادى الآخرة، وصلى عليه غدوه بالجامع وسوق الخيل، ودفن بتربته تجاه دار الحديث الأشرفية بالسفح، وكان في مبدأ أمره تاجرا يتردد من بغداد إلى بلاد الروم وديار بكر والجزيرة، فلما أخذ التتار بغداد قدم إلى دمشق واستوطنها، وضمن الوكالة في الأيام الظاهرية، وبقى على ذلك إلى أوائل الدولة المنصورية، وكان قد خدم الملك المنصور قلاون في الدولة الظاهرية والسعيدية وأقرضه ستين ألف درهم بلا فائدة، فلما تولى السلطنة حل عنه الضمان وأطلق له ما كان عليه مكسورا، وكان يقارب مائة ألف درهم، ورسم له بمباشرة الخزانة بدمشق أولا، ثم رتبه بعد ذلك وزيرا بالشام، وتوزر لخمس ملوك: المنصور، والأشرف، والعادل كتبغا، والمنصور لاجين، والناصر محمد، وكان من أرباب المروءات والمكارم، وحسن الأخلاق والمداراة، والهمة العالية.(1/345)
الصدر الكبير الرئيس الصاحب أمين الدين أبو الغنائم سالم بن محمد بن سالم بن الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن صرصرى التغلبي.
كان أسن من أخيه نجم الدين بن صرصرى، وقد سمع الحديث وأسمعه، وكان صدرا معظما، ولى نظر الدواوين ونظر الخزانة، ثم ترك المناصب وحج وجاور بمكة، وقدم إلى الشام فأقام بها دون السنة، وكانت وفاته يوم الجمعة الثامن والعشرين من ذي الحجة، ودفن بتربتهم بالسفح.
القاضي جلال الدين عثمان بن أبي بكر بن محمد النهاوندي.
قاضي صفد وأعمالها، وكان قاضيها منذ فتحها الملك الظاهر، وكان شكلا حسنا مهيباً، مات في هذه السنة.
الصدر الكبير الرئيس زين الدين محمد بن أحمد بن محمود العقيلي القلانسى.
مات في هذه السنة، ودفن بسفح قاسيون، وكان شيخا حسنا من الكتاب المتصرفين العقلاء، وهو والد الشيخ جلال الدين، والشيخ عز الدين المحتسب بدمشق وناظر الخزانة.
الشيخ الإمام العلامة حجة العرب بهاء الدين محمد بن إبراهيم، المعروف بابن النحاس الحلبي النحوي.
مات بالقاهرة، ودفن بالقرافة بالقرب من تربة الملك العادل زين الدين كتبغا، ومولده في سنة سبع وعشرين وستمائة بحلب، وانتقل منها إلى القاهرة واستوطنها، ومات في جمادى الأولى منها، كان إماما في العربية يشار إليه في عصره، وكان عنده مروءة وحسن خلق وكرم نفس، وله نظم كثير، فمنه قوله:
إني تركت لذي الورى دنياهم ... وظللت أنتظر الممات وأرقب
وقطعت في الدنيا العلائق ليس لي ... ولد يموت ولا عقارٌ يخرب
وله في مليح مشروط:
قلت لما شرطوه وجرى ... دمه القاني على الخد اليقق
غير بدعٍ ما أتوا في فعلهم ... هو بدرٌ ستروه بالشفق
وقال: اجتمعت أنا والشيخ شهاب الدين مسعود السنبلي والضياء المناوى، فأنشد كلٌ بيتين من شعره، فكان الذي أنشده السنبلي قوله في مليح مكارى:
علقته مكارياً ... شرد عن عيني الكرى
كأنه البدر فما ... يمل من طول السرى
وقال الضياء المناوى:
أفدى الذب يكبت بدر الدجى ... لحسنه الباهر من عبده
سموه جمرياً وما أنصفوا ... ما فيه جمرى سوى خده
وأنشد الشيخ بهاء الدين البيتين اللذين أنشدهما في المليح المشروط.
وقال الشيخ أثير الدين أبو حيان رحمه الله: كنت أنا والشيخ بهاء الدين بن النحاس نتمشى بالليل بين القصرين فرأينا صبيا مليحا يسمى جمال وهو مصارع، فقال الشيخ شهاب الدين: تعال حتى ننظم في هذا المصارع: فنظم الشيخ بهاء الدين فيه:
مصارعٌ تصرع الآساد سمرته ... تيهاً فكل مليح دونه همج
لما غدا راجحا في الحسن قلت لهم ... عن حسنه حدثوا عنه ولا حرج
ونظم الشيخ أثير الدين:
سبانى جمالٌ من مليح مصارع ... عليه دليلٌ للملاحة واضح
لئن عزمنه المثل فالكل دونه ... وإن خف منه الخصر فالردف راجح
قال الشيخ أثير الدين وسمع شهاب الدين العزازى بنظمنا فنظم:
هل حكمٌ ينصفني من هوى ... مصارعٌ يصرع أسد الشرى
مذ فر مني الصبر في حبه ... حكى عليه مدمعي ما جرى
أباح قتلي في الهوى عامداً ... وصاح كم من عاشقٍ في الورى
رميته في أسر حبي ومن أج ... فان عينيه أخذت الكرى
الشيخجمال الدين أبو الدر ياقوتبن عبد الله المستعصي الكاتب ببغداد مات في هذه السنة، وكان يكتب على طريقة ابن البواب، وهو من المشهورين في الكتابة والفضيلة والنظم وغير ذلك، وأصله رومي من مماليك الإمام المستعصم، كتب عليه خلق من الأكابر والكتاب.
ومن نظمه ما ذكره علم الدين البرزالي، قال أنشدني أبو شامة، قال أنشدني ياقوت المستعصمي لنفسه:
تجدد الشمس شوقي كلما طلعت ... إلى محياك يا شمسي ويا قمري
وأسهر الليل ذا أنس بوحشته ... إذ طيب ذكرك في ظلمائه سمري
وكل يومٍ مضى لي لا أراك به ... فلست محتسبا ماضيه من عمري
ليلي نهار إذا ما درت في خلدى ... لأن ذكرك نور القلب والبصر
وله:(1/346)
يا خليلي والمنى كاذبةٌ ... والليالي شأنها أن تسلبا
قم بنا ما قعدت حادثة ... نقض من حق الصبا ما وجبا
نعص من لام على دين الهوى ... هذه سنة أيام الصبا
وقال:
رعى الله أياما تقضت بقربكم ... قصارا وحياها الحيا وسقاها
فما قلت إيهٍ بعدها لمسامرٍ ... من الناس إلا قلبي أها
وقال:
وعدت أن تزور ليلاً فألوت ... وأتت في النهار تسحب ذيلا
قلت هلا صدقت في الوعد قالت ... هل توهمت أن ترى الشمس ليلا
الشيخ شرف الدين أبو محمد جعفر بن علي بن جعفر بن الحسن بن إبراهيم ابن علي بن النفيس بن يونس الموصلي المقرئ، المعروف بأبي الحسن البصري لأن جده الحسن من البصرة.
مات بدمشق في العشرين من جمادى الأولى، ودفن بمقابر الصوفية، ومولده في السادس عشر من ذي القعدة سنة أربع وستمائة، ذكر أنه سمع على الشيخ شهاب الدين السهروردي كتاب عوارف المعارف بالموصل، وسمع بدمشق من ابن الزبيدي، وبمصر من ابن الجميزي، وبالإسكندرية من ابن رواح، وكان شيخا حسنا صالحا، يحفظ كثيرا من الأخبار والأشعار.
كتب عنه الحافظ أبو محمد الدمياطي في معجمه قال: أنشدنا جعفر بن علي بدمشق قال: أنشدني أخي أبو محمد عبد العزيز بن علي بن جعفر الفقيه الحنفي لنفسه:
حدث عن الوجد لا شطت بك الدار ... واسمع فنون غرامي فهي اسمار
واستمل مني غريب الحب إن له ... عندي حديثا يقضى منه أوطار
كم ليلة بت والأشواق تمزج لي ... كأس الغمام ولي بالفكر سمار
والدمع والوجد والواشى ومصطبري ... واف ونام ونمامٌ وغدار
إن اخلف البرق من لآلاء غرته ... أو غرني في الهوى فالنجم غرار
أو مل سكناه في قلبي وفي بصري ... فالقلب والطرف نيران وتيار
ذنوبه كلها بالعدل قد كتبت ... فالوجد يمحو وفرط الحب عقار
وإن خبر الهجر والإعراض عن ملل ... قامت له بالهوى العذري أعذار
الشيخ الفاضل الإمام بدر الدين يونس بن إبراهيم بن سليمان الصرخدي الحنفي.
مات بصرخد، ومولده في سنة أربع عشرة وستمائة، كان فاضلا أديبا، مليح الشعر، شريف النفس، عارفا بالنحو واللغة.
كتب عنه ابن الخباز قطعة من شعره منها:
ظمئت إلى سلسال حسنك مقلة ... رويت محاجرها من العبرات
تشتاق روضا من جمالك طالما ... سرحت به وجنت من الوجنات
حجبوك عن عيني وما حجبوك عن ... قلبي ولا منعوك من خطراتي
هل ينقضى أمر البعاد ونلتقي ... بلوى المحصب أو على عرفات
وبضمنا بعد البعاد منازل ... بالخيف أو منى على الجمرات
وأفيق من ولهى عليك وينقضى ... شوقي إليك وتنطفى جمرات
الملك الأوحد نجم الدين يوسف ابن الملك الناصر داود بن المعظم، ناظر القدس الشريف.
توفي ليلة الثلاثاء الرابع من ذي الحجة، ودفن برباطه عند باب حطة عن سبعين سنة، وكان من خيار أبناء الملوك دينا وفضيلة، وإحسانا إلى الضعفاء، وروى عنه الحافظ شرف الدمياطي في معجمه، وكتب عنه حديثا واحدا.
الأمير شمس الدين بيسرى، من أكابر الأمراء المتقدمين في الخدمة في زمن المنصور وهلم جرا.
توفى بالسجن بقلعة القاهرة في التاسع عشر من شوال منها، وما قبض إلا خوفا منه لكبره وموقعه في نفوس الناس، وكان كريما، كان عليه في أيام إمرته رواتب لجماعة من مماليكه وأولادهم، وكان رتب لبعضهم في اليوم من اللحم سبعين رطلا وما يحتاج إليه من التوابل والحطب، وسبعين عليقة، ولأقلهم خمسة أرطال وخمس علائق، ولبعضهم عشرة، ولبعضهم عشرين، وبلغ ما يحتاج إليه في كل يوم لسماطه ودوره والمرتب عليه ثلاثة آلاف رطل لحم، وثلاثة آلاف عليقة كل يوم، وكانت صدقته على الفقير ألفا أو خمسمائة، ولا يعطى أقل من ذلك، وكان إنعامه ألف أردب غلة، وألف قنطار عسل، وألف دينار، وكان الملك الظاهر يقول عنه: هذا ابن ملكنا في بلادنا، وكان يعظمه، وما بدا منه شيء قط، وكان يحتمل الجتر على رءوس الملوك من زمان الظاهر إلى حين وفاته.(1/347)
وكان عمر داره المعروفة ببين القصرين في أيام الظاهر، وتجاوز الحد في عمارتها في كثرة المصروف من الذهب، وكان في تلك الأيام لا يعرف لأحد من الأمراء عمارة مع كبرهم وسعادتهم، فلامه الظاهر على ذلك وقال له: أصرفت مالك جميعه في عمرة دارك وما خليت للبيكار. فقال: خليت للبيكار صدقات مولانا السلطان، والله يا خوند ما عمرت هذه الدار حتى سمع بها من بلاد العدو. ويقال: إن بعض مماليك السلطان عمر دارا غرم عليها أموالا عظيمة، فرسم له بألفى دينار إعانة له.
ولم يعرف أنه شرب من كوز مرتين، وكان من أحسن الأشكال والفرسان المشهورين، وتوفى وعليه ديون كثيرة، وفيت عنه بعد وفاته، رحمه الله.
الأمير عز الدين أيدمر الجناحي.
مات بحلب وكان مع العسكر المجردين، وكان يتهم بذهب كثير، فلم يظهر له خير. وقال أستاذ الدار وكاتبه: كنا نعرف له صندوقين فيهما ذهب وجواهر، ولما كان ساكنا بالصالحية أودعهما عند أولاد الحافظ عبد الغني ولم نعلم لهما خبرا، فأحضر أولاد الحافظ عبد الغني وجماعة معهم بهذا السبب، فظهر أن الأمير عز الدين قد أخذ الصندوقين منهم وأودعهما عند فخر الدين العزازى التاجر بقيسارية الشرب، ولم يطلع على ذلك غير الأمير وخزنداره، وكان قال لخزنداره إكتر لنا جملا ممن لا نعرف، وقم نصف الليل، وحمل الصندوقين على الجمل وامض بهما إلى فخر الدين العزازى، ففعل الخزندار ذلك وقال له: هذه وديعة الأمير عندك إلى أن يعود من التجريدة، ثم مات الأمير وخزنداره. وقيل: إنه سقى سما.
ولما رأى فخر الدين أن أولاد الحافظ عبد الغني وجماعة آخرين قد اتهموا بهذا وهم بريئون، نهض واجتمع بالأمير سيف الدين جاغان - وهو يومئذ شاد الدواوين - وأخبره أن عنده صندوقين وديعة الأمير عز الدين أيدمر الجناحى الذي توفى بحلب، فقال له جاغان: جزاك الله خيرا أين الصندوقان؟ قال: عندي، فجهز معه العدول ووكيل بيت المال وحملوها، فكان فيهما من الذهب العين المصري ثلاثة وثلاثون ألف دينار وحلى وحوائص وكلوتات وكمرانات أكثر من ثلاثين ألف دينار، فعظم فخر الدين في أعين الناس بذلك الأمر.
الأمير شمس الدين كرتيه.
مات في هذه السنة بغزة، ودفن بها، وكان أميرا كبيرا، شجاعاً مقداماً، تترى الجنس.
الأمير بدر الدين الدواداري يعرف بالمغربي، كان أصله من المغرب، وعمل دواداراً للسلطان لاجين، وكان على عمارة جامع أحمد بن طولون، وكانت له معرفة وخبرة، ومن غريب ما اتفق له أن كاتب السر القاضي شرف الدين ابن فضل الله كان قد مرض وانقطع أياما؛ فأمر السلطان للدواداري هذا أن ينزل إليه ويسلم عليه من جهة السلطان، فنزل إليه فوجده على غاية ما يكون من الضعف، فرجع إلى السلطان. فقال له السلطان: ما رأيت من حاله؟ فقال يا خوند: ابصر كاتب سر غيره فإنه ما يجى منه شيء، وبعد سبعة أيام توفى الدواداري وطلع كاتب السر وسلم على السلطان وعزاه في الدواداري، فتعجب السلطان من أمره وقال: لا إله إلا الله كان الدواداري يريد أن يعزينا في كاتب السر، فعزانا كاتب السر فيه.
الأمير بهاء الدين قرا أرسلان المنصوري.
مات بدمشق في هذه السنة، وكان من أكابر الأمراء المنصورية، ولما مسك سيف الدين جاغان بدمشق مع من مسك من الأمراء، لما قتل السلطان لاجين ركب قرا أرسلان هذا في موكب النيابة والعصابة على رأسه، وحكم وكتب على القصص، وسولت نفسه أن يكون نائباً مستقلاً، وأن الأمراء لا يستكثرون نيابة دمشق عليه لأنه كان يدعى أنه أحق من بيبرس وأوقوش الأفرم والبرجية، ولم تطل مدته، وتوفى بقولنج أصابه.
الأمير سيف الدين تمربغا.
مات في هذه السنة، بطرابلس، وكان من الصور المبدعة في الحسن والجمال، وكان السلطان لاجين من الناظرين إليه، فحسده منكوتمر على ذلك واختار بعده عنه، فسيره صحبة الملك الناصر إلى الكرك، ثم نقله من بعد ذلك إلى طرابلس فتوفى بها.
وقال صاحب النزهة: كان في الكرم والفتوة والمكارم السنية على جانب عظيم، وكان يميل إلى اللهو والطرب، مولعاً بالشراب.(1/348)
قال: والذي شاهدت من كرمه أن السلطان أنعم عليه ليلة سفره بألف دينار، فحضرت مجلسه تلك الليلة فرأيته مغمراً بالطيب، والبليبل شاعر السلطان ومغنيه جالس عنده، فصار يغني والذهب مسكوب بين يديه، فشرع يفرقه على من حضر في مجلسه هذا، فأعطى المغني المذكور ورفقته أكثر من غيرهم، وكان له بابا يخدمه من قديم الزمان، فقال له: أنت قد كبرت ولا تقدر تجئ معنا، فأعطى له ثلاثمائة دينار.
قال: وأعطاني تسعين دينارا، رحمه الله.
الأمير جمال الدين أقوش المغيثى، نائب البيرة.
توفى في هذه السنة، وكان كبير القدر، فارسا، شجاعا مقداما، أقام في البيرة نائبا نحو أربعين سنة.
الملك المظفر تقي الدين محمود بن الملك المنصور ناصر الدين محمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب صاحب حماة، وابن ملوكها كابرا عن كابر.
توفى يوم الخميس الحادي والعشرين من ذي العقدة منها ودفن ليلة الجمعة، وكانت مدة ملكه خمسة عشر سنة وشهرا واحدا ويوما واحدا، وانقطع ملك بني أيوب من حماة بموته، وتولاها بعده قراسنقر المنصوري إلى أن ردت إليهم في سلطنة الناصر الثالثة.
نجم الدين أيوب بن السلطان الملك الأفضل علي بن السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، مات بدمشق في الرابع عشر من ذي الحجة منها.
وممن توفى في هذه السنة بحلب وغيرها: الأمير سيف الدين البسطى، وأحمد شاه، وناصر الدين محمد بن سنقر الأقرع، وعين الغزال، وبدر الدين كيكلدى بن السرية، وسيف الدين قطبية، وسيف الدين طقطية، وقيل: إن طقطيه توفى بمصر في سمنود بلده، وذلك أنه كان قد أخذ دستورا وسافر إليها وأقام بها أياما، وأن منكوتمر سير إليه من تحيل على طباخه حتى سمه في الطعام، فأحس بالوجع ونزل في الحراقة وما وصل إلا وقد توفى.
وهؤلاء كانوا من أمراء الدولة الأشرفية تحيل منكوتمر على هلاكهم، بعضهم بالسم في القمز، وبعضهم في الطعام.
/فصل فيما وقع من الحوادث في
السنة التاسعة والتسعين بعد الستمائة
استهلت والخليفة: الحاكم بأمر الله العباسي.
وسلطان البلاد المصرية والشامية وما يتبعها من الممالك: الملك الناصر محمد بن قلاوون، ونائبه بمصر: سيف الدين سلار، ونائب الشام: جمال الدين أقوش الأفرم، ونائب حلب: سيف الدين بلبان الطباخي.
واستهلت هذه السنة والسلطان مسافر إلى جهة الشام كما ذكرنا، فإنه خرج بعساكره من القاهرة في الرابع والعشرين من ذي الحجة من السنة الماضية، ولما وصل إلى غزة أقام عليها مقدار شهرين لأجل التجهيز والتهيؤ للتتار، وقد ذكرنا ما جرى من أمور الأويراتية والعسكر مع السلطان على غزة، وكانت قضيتهم على منزلة تل العجول كما ذكرنا، ثم رحل السلطان ونزل على عسقلان، ثم رحل من عسقلان متوجها إلى الشام ودخل دمشق يوم الجمعة الثامن من ربيع الأول من هذه السنة، ونزل بالقلعة.
وكان يوم دخوله مطر شديد ووحل كثير، ثم شرع في الإنفاق على العساكر والخروج الى لقاء التتار.
وفي يوم السبت ثاني يوم دخول السلطان دمشق، ورد جمال كثيرة وقفول وخلق كثير، أولاً فأولاً، جافلين من أخبار التتار. وورد مملوك نائب حلب ونائب طرابلس وصاحب حماة وأخبروا بقدوم العدو. وأنه وصل إلى شاطئ الفرات. وأخبروا أنهم في عسكر عظيم، ولما تحققوا ذلك اتفق رأيهم على النفقة في العسكر، ودارت النقباء وعرفوا سائر الأمراء والأجناد. وأصبحوا جالسين في الميدان، وشرعوا في تفريق النفقات، وسيروا لكل أمير مقدم ألف نفقة مضافية وكان كل واحد منهم يطلب مضافية ويفرق عليهم ما أرسلوه إليه من النفقة، وكان لكل جندي منهم ثلاثين أو أربعين ديناراً مصرية. وكان واحد منهم يأخذ النفقة من يده ويقلبها ويقول: إش أشتري اليوم بهذا؟ فوالله لأخليها حتى يأخذها التتار. فإن الأشياء من سائر الأصناف تحسنت وغلت جداً خصوصا الدواب وآلات الحرب، وكان الجندي منهم يقول: إش بقى إما ثلاثة أو أربعة أيام؟، فنحن أحق بالذي نشتري به، ومنهم من كان يقول: لعن الله من ينظر الى فرجة العدو، فوقع في نفوس الناس الخذلان والانكسار سلفاً وتعجيلاً.
ذكر خروج السلطان الناصر من دمشق بعساكره
إلى لقاء قازان(1/349)
ثم خرج السلطان بجيش من دمشق يوم الأحد السابع عشر من ربيع الأول من هذه السنة، ولم يتخلف أحد من الجيوش، وخرج خلق كثير من المطوعة. ولما وصلوا إلى حمص ضربوا الدهليز بها، وشرعوا يرسلون إلى العرب ويخبروهم بمجيء العدو. وشرعت الناس يتلقطون نصرة العدو على المسلمين، واشتهر ذلك بينهم، فوقع الجفل والخوف فيهم حتى أن المقدم الذي كان مضافيه خمسين نفساً أو أربعين يفتقدهم إذا كثروا قدر عشرين أو خمسة وعشرين، فصار رجال الحلقة يقول بعضهم لبعض: يا فلان من أش تنفع هذا وقت الغيبة خلّ البرجية الذين يأكلون مصر يقاتلون العدو.
ثم تواترت الأخبار بأن التتار وصلوا إلى وادي الخزندار عند سلمية، فسارت العساكر إليهم ليهجموا عليهم، وقطعوا ثلاث مراحل في مرحلة واحدة، فلما أشرفوا على مجمع المروج ركب التتار وطلَّبوا، وكان قازان فيهم وصحبته الأمراء المتوجهون إليه وهم: سيف الدين قبجق، وسيف الدين بكتمر السلاح دار، وفارس الدين ألبكى الظاهري، وسيف الدين عزاز الصالحي.
ولما أشرفوا على طلائع العدوّ نادت الحجاب والنقباء بين العسكر بأن يرموا رماحهم ويعتمدوا على الضرب بالسيوف، وكان هذا من سوء التدبير وعلامة الخذلان، فرمى جميع العسكر ما بأيديهم من الرماح إلى الأرض فحصل للخيل ضرر كثير منها لمصادمة حوافرها على أسنة الرماح وهي مطروحة على الأرض، وكان كل سنان منها يساوي مائة درهم إلى خمسين درهماً، فنظروا إلى التتار وقد ملأوا الأرض.
ثم شرعت الأمراء والحجاب في ترتيب الجيش، ورتبوا في رأس الميمنة الأمير شرف الدين عيسى بن مهنى وأخاه فضلا، ومعهما آل مرا وآل علىّ وآل كلب وجميع العربان، ونائب حلب ونائب حماة بعساكرهما، وفي الميسرة بدر الدين بكتاش الفخري، والأمير جمال الدين قتّال السبع، والأمير علم الدين الدواداري، وطغربل الإيغاني، والحاج كرت نائب طرابلس، وطلب الأمير حسام الدين لاجين الأستادار وفيه الأمراء الطبخانات من بقية الظاهرية ومضافوها، وفي القلب جمهور العسكر وفيهم سيق الدين سلار، وركن الدين بيبرس، وسيف الدين برلغي ومضافوه وسيف الدين قطلوبك الحاجب ومضافوه، والأمير عز الدين أيبك الخزندار ومضافوه، وجعلوا الجناحين المماليك السلطانية، ورتبوا أن يكون الأمير حسام الدين لاجين الأستادار صحبة السلطان يحفظه، وجعلوه في موضع بعيد عن الملاقاة خشية عليه، ورسموا للأمير علم الدين أن يكون سنجق السلطان منعزلاً عنه كي لا يُعرف أنه تحت الأعلام فيُقصد، ورتبوا جماعة من الزراقين نحوا من خمسمائة مملوك في مقدمة الجيش.
وفي ذلك الوقت حصل للأمير بيبرس إسهال مفرط وحرارة عظيمة حتى ما بقى يمكنه الركوب على الفرس ولا الثبات على ظهره، فأركبوه المحفة، وأبعدوه عن الملاقاة.
وأخذ الأمير سلار الحجاب ومعهم الفقهاء، وداروا على العسكر جميعهم، وهم يتلون الآيات المناسبة للجهاد، ويحرضون للجهاد وتوطين النفس على الملاقاة حتى غشى الناس البكاء والتوجع.
وأما قازان فإنه طلب مقدمى التوامين وأمرهم أن أحداً منهم إذا رأى جيش المسلمين لا يحمل عليه ولا يتحرك من مكانه إلى حين يرى غريمه يدخل عليه، وأراد بذلك تضعيف خيل المسلمين وكسر همة الفرسان، وأن يمكّن رماته من رمي السهام، لأن ذلك أثبت لهم وأسكن، وكذلك كان، فإنه لما وقعت الصدمة، وتحركت العساكر، وأوقد الزراقون نفطهم، واعتقد المسلمون - على ما عهدوه من اللقاء في المصاف - أنه ساعة يحمل الجيش يحمل أيضاً جيش العدو، فتقع الصدمة من الطائفتين، ويعطي الله النصر لمن يشاء.
ولما حملت العساكر وخرجت الخيول بقوة بأسها، وحدة شوطها، حتى قربوا من وجه العدو، لم يتحرك منهم أحد، ولا انزعج جيشهم، فلما شاهدوا ذلك منهم قلّ عزمهم، وانطفأ النفط الذي كان مع الزراقين في مقدم الجيش، لأنهم كانوا أوقدوه من بُعد على أنهم يتقدمون لهم، فبينما تقدم عسكر المسلمين إليهم مع بعد المسافة وثبات العدو وعدم حركتهم فرغ البارود، وبردت الهمة، بُعيد ذلك حملت التتار حملة صادقة حتى اختلطوا بالمسلمين، وأصابت سهامهم خيلاً كثيراً منهم، ورموا فرسانها.(1/350)
وأول ما أرجفوا طائفة العرب بأن أوهنوهم وأوهنوا خيولهم بالسهام، فكانوا سبب كسر الميمنة وفسادها، فإن الميمنة ولّت على أعقابها، فجاءت الهزيمة على الجيش الحلبي، فاستقلوا بأنفسهم، وأدركهم الموت، فرجع العسكر الحلبي على العسكر الحموي، ولم يقف، وتمت الهزيمة على ميمنة المسلمين من ميسرة العدو.
وأما ميسرة الإسلام فإنها صدمت ميمنة العدو فقلقلتها وفرقت شملها.
ولما عاين قازان انهزام ميمنته اعتزل في نحو ثلاثين فارساً وأخذ عن جيشه جانباً، ثم ركبت أخرياتهم الذين لم يركبوا في الصدمة الأولى وردّوهم وقوّوهم، فانكسر المسلمون، " فإنا لله وإنا إليه راجعون ".
وكان السلطان الناصر قد انعزل في جمع قليل من المماليك، ومعه من الأمراء حسام الدين الأستادار لا غير، فكان يبكي وينظر إلى السماء ويقول: ياربّ لا تجعلني كعب الشؤم على المسلمين، ويدعو الله تعالى ويتضرع إليه ويريد أن يلقي نفسه بين القوم وحسام الدين الأستادار يردّه ويمنعه.
وقال صاحب النزهة: وكان الذي مع السلطان في ذلك الوقت اثني عشر مملوكاً من الشباب، وكنت أنا الثالث عشر.
وقال بيبرس في تاريخه: لما انهزمت المسلمون وولّوا تفرقت عساكرهم المجتمعون، ونهب العدو الخيول والعدد والخزائن والأسلحة، وتبعوهم إلى حمص ونزلوا عليها، ففتحها لهم متوليها بالأمان وهو محمد بن الصارم، وأخذوا الدهاليز السلطانية والبيوتات والوطاقات ورحلوا إلى دمشق.
وأما السلطان الناصر فإنه ساق بمن معه نحو بعلبك، ولو تربص في ذلك الوقت لكان أوقع نفسه بيده إلى التهلكة، فكان سبباً لفساد المملكة.
ولقد فعل الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي يوم بدر مثل ذلك، وقال معتذراً هنالك هذه الأبيات:
الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى علوا فرسي بأشقر مزبد
وعلمت أني إن أقاتل واحداً ... أقتل ولا يضرر عدوي مشهدي
فصدفت عنهم والأحبة فيهم ... طعماً لهم بعقاب يوم مفسد
ذكر من استشهد فيها من المسلمين
كانت الوقعة يوم الأربعاء الثامن والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة، واستشهد فيها جماعة فازوا بالثواب الجزيل منهم: الأمير سيف الدين كرت نائب السلطة بالفتوحات، وكان من الأمراء الأعيان الفرسان الشجعان، وكان كثير الصدقة والخير والمعروف، وله أوقاف على وجوه البر والصدقات، وكان مشهوراً بالنخوة والمروءة، وكان عمل حاجباً، وأمير آخور، ونائب طرابلس والفتوحات.
ومنهم: الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير عز الدين الحلى، والأمير بدر الدين بيليك المنصوري المعروف بالطيار، وكان من أمراء دمشق.
ومنهم: الأمير سيف الدين نوكية التتري، مات من أثر جراحات أصابته، فحمل في محفة إلى أن توفى ودفن بأرض عسقلان أو قريباً منها، وكان هذا وصل مع الوافدين في الأيام الظاهرية وأقام قليلاً حتى مسكه الملك الظاهر وحبسه بثغر الإسكندرية، وأقام إلى أن تسلطن الملك المنصور قلاوون، ثم جعل له الأفراح وأعطى له تقدمة ألف.
ومنهم: الأمير جمال الدين بلبان التقوى، وكان من أمراء طرابلس، والأمير ركن الدين بيبرس العلمي، وكان نائباً بالمرقب. والأمير صارم الدين أزبك الطغريلي، وكان نائباً ببلاطنس. والأمير سيف الدين أقوش كرجي الحاجب.
وقال ابن كثير: واستشهد نحو ألف نفس من الحلقة والمماليك، وهؤلاء الأمراء منهم من كان استشهاده في المعركة، ومنهم من أصابته جراحة فيها فمات بعدها، وفقد في المعركة قاضي القضاة الحنفية حسام الدين الرازي، وأسر التتار عامة العوام والأتباع والغلمان والرعاع.
وقال صاحب النزهة: واستشهد أيضاً علاء الدين علي بن الشيخ الصالح إبراهيم الجعبري.(1/351)
وقال: وأما الأمير بدر الدين بيليك الطيار فإنه قتل في طريق بيسان، فإنه لما انهزم العسكر - وكان من أمراء دمشق - أخذ حريمه عند وصوله إلى دمشق وخرج بهم، وما زال إلى أن وصل حرة بيسان ونزل بأهله للراحة، وإذا بجماعة من المغل الذين كانوا صحبة مولاي قد أدركوه، وكان معه تقدير أحد عشر مملوكاً، فلما رآهم وقد قصدوه ركب، وأخذ رمحه بيده، وشد لحريمه خيلاً فأركبهم عليها، وسيّر معهم ستة أنفس، وقال: انجوا بأنفسكم وها أنا واقف إلى أن تبعدوا. فقالوا: يا خوند إرجع معنا لعلنا أن نفوتهم. قال: لا والله ما انهزم قدامهم ولكن أموت ولا أمكنهم يصلون إلى حريمي وعيني تنظر، فلما رآهم المغل عطفت طائفة منهم إليهم، فلما رآهم مال إلى نحوهم، ولما رأوه مقبلاً إليهم ظنوا أنه يسألهم في أمرهم إلى أن صار معهم، فطعن واحداً فأرماه، وطعن آخر أيضاً فأخرج حدقته، وقتل أخر، وقد بهتوا لفعله، ثم تكاثروا عليه إلى أن أرموا فرسه، فوقع على الأرض، وجرح منهم آخر وهو راجل، ثم قُتل رحمه الله شهيداً دون حريمه وماله، وكان هذا من جملة المماليك المنصورية، وكان صاحب مروءة ومكارم، وصاحب شجاعة وفروسية.
ومن الذين ماتوا من جراحة جرح في الوقعة المذكورة: سيف الدين الدواداري الصالحي النجمي، وكان قد جُرح في رجله بسهم وعند هزيمة العسكر رجع إلى أن وصل مع نائب حصن الأكراد إليها، فأقام بها يعلل جرحه إلى أن توفى.
وكان كبير القدر، فإنه عمل دوادارية الملك الصالح، وبقي بعده ينتقل من حال إلى حال إلى أن كان له مائة فارس بمصر وخمسون بدمشق، وما زال معظماً في سائر الدول، وكان له سماع عالٍ في الحديث، وله علم وفقه وديانة، وهو الذي أنشأ القاضي بدر الدين بن جماعة وأنشأ فقهاء كثيرين، ومع هذا أنه صنع له طوبة من غبار الغزوات التي حضرها وغزا فيها، وأوصى أن تكون هذه الطوبة تحت رأسه إذا دفن، وكان إذا ركب يكون شعره على قربوس سرجه الوراني وجميعه أبيض، وكانت له صدقات وبر وأوقاف على عتقائه، وله بالقدس الشريف رباط رتب فيها شيخاً وفقراء ووقفا جارياً، ولما ورد خبره إلى دمشق صلّوا عليه صلاة الغائب في جامع بني أمية وسائر جوامع دمشق، وكذلك صلوا عليه صلاة الغائب بمصر.
وذكر في النزهة أيضاً: أن سيف الدين كُرت نائب طرابلس قال للأمراء في ذلك اليوم: ها أنا أحمل لعل الله يرزقني الشهادة في هذا اليوم، ثم التفت إلى الأمير جمال الدين قتال السبع وقال: يا أمير وصيتي (197) لك على أهل بيتي، فإني والله ممن يُستشهد في هذا اليوم، فإني رأيت رؤيا تدل على الشهادة: رأيت في هذه الليلة طائر أخضر يرفرف على رأسي ويقول لي: أتل (ربنا لا تزغ قلوبنا) الآية. فتلوتها إلى آخرها، ثم حملني على جناحه الأيمن إلى أن وضعني في روضة خضراء، ثم انتبهت، فهذا يدل على الشهادة. ثم لما صدموا العدو كان هو أول من رمى فرسه بسهام كثيرة، فأصاب سهم منها نحره، فوقع إلى الأرض والسيف بيده مسلول يذب به عن نفسه إلى أن ضرب بسهم فسقط إلى الأرض، وقُتل من مماليكه عليه نحو ستة عشر مملوكاً، وجُرح نحو اثني عشر، وقُتل من عسكر طرابلس في تلك الوقعة ما ينيف على أحد عشر نفساً، وقُتل من كل أمير جماعة من المماليك وجرح آخرون.(1/352)
وجُرح الأمير بدر الدين أمير سلاح بضربة سيف في يده، وجُرح الأمير جمال الدين قتال السبع في فخذه، ولما نظر أمير سلاح إلى الهزيمة ورأى جرحه بكى بكاءً شديداً وقال لمماليكه: هاتوا لي حصاني الدويك، وكان قد اشتراه بثلاثمائة دينار، وحياصة ذهب قيمتها مائتا دينار، وخلعة أطلس، وكلوتاة زركش، ثم بعد أيام رأى بائع الفرس المذكور - وهو راكب عليه - فقال له: طاب خاطرك بالثمن الذي دفعته إليك. فقال: والله يا خوند كان أملي فيه أكثر من ذلك الثمن. فلما سمعه يقول ذلك قال له: امش معي إلى البيت، فمشى معه حتى أتى داره، فخلع عليه خلعة بكلوتاة وحياصة ذهب وأعطاه ثلاثمائة دينار، وكانت هذه القضية في دولة كتبغا، فبلغ ذلك بتخاص والأزرق وغيرهما فصار كل واحد منهم يسأله ويطلب منه هذا الفرس إنعاما عليه، فيبعث إلى كل منهم حصاناً مشتراه خمسة آلاف درهم وصحبته خمسة آلاف درهم ويقول له: إني قد حبست هذا الفرس في سبيل الله يركبه الغزاة والمجاهدون في سبيل الله، ثم إن مماليكه أحضروا الفرس المذكور في ذلك اليوم لما طلبه، وكان جنيبا مع أحد الأوشاقية فقال له مماليكه: يا خوند هذا فرس قوي شديد وأنت اليوم تضعف عن رد عنانه لما فيه من القوة، وكان من شدته رتب له أوشاقيا وحده برسم ركوبه وخدمته، ولم يسمع منهم فركبه، فلما قعد على ظهره ألوى عنانه نحو العدو وقال للأمراء: من أراد الشهادة فليتبعني، فرجعت الأمراء إليه وسألوه أن يرجع فأبى وقال: والله كنت منتظراً لهذا اليوم، وقال له الأمير علم الدين الدواداري - وكان قد خرج في مواضع كثيرة -: يا أمير أنت اليوم قوام العسكر وأتابكه، وما فينا أحد إلا وقد جرح جراحات ومعظم مماليكنا قد قتلوا، وما يحل أن تلقي نفسك في التهلكة، فلم يلتفت إليه، بل قال: يا أمير ما بقى فينا شئ، فهل تنتظر خلاف هذا اليوم؟ فتقدم نحو العدو، واتفق رأى مماليكه على منعه وساق بعضهم إليه وأخذ برأس فرسه إلى نحو حمص وبعضهم ضرب كفل فرسه بالمقرعة، فخرج من تحته مثل البرق الخاطف، وأرادوا بذلك إبعاده عن الفرس حتى يأخذوا بعنانه ويتوجهوا إلى طريق النجاة، فلما أحس الفرس بالضرب فر مثل الريح العاصف حتى لم يروا منه إلا غباره، ولم يزل يجري على ميدان واحد إلى أن وصل إلى نهر حمص، فقوى عليه العطش من كثرة الجري وشدة العدو إلى أن أرمى نفسه في النهر، وشرع يعب من الماء، وأمير سلاح ماسك بيديه الشنن رافعه على أن يرفع رأسه من الماء فلا يرفع، فشرب حتى انتفخ فؤاده، ثم طلع من النهر ووقع طائحاً وقد انفقع من شرب الماء، فلحقه مماليكه وأركبوه جنيباً آخر، فكان هذا يعد من حسناته حيث اشترى فرساً بمائتى ألف درهم لركوب ساعة واحدة.
وقال صاحب النزهة: ومن قوة خذلان العسكر الإسلامي عاينت الأمير حسام الدين لاجين المعروف بزيرياح ومعه أعناق الحسامى من المقدمين ومعهما نحو ثلاثة آلاف فارس منهزمين، وقد أفرد في أعقابهم رجل واحد من المغل ولا يلتفت إليه أحد منهم، ورأيت فتى شاباً من العرب راكباً على حجرة شقراء وليس عليه شيء يمنع السهام وقد أخذته الحمية وهو يقول: يا مسلمين أش خلفكم ما ثمة إلا رجل واحد، فلا يجيبه أحد، فلوى رأس فرسه عنهم ورجع إلى ذلك الرجل وهو يقول: الله أكبر، فلما رآه ذلك الرجل مصمماً عليه ولى فرسه ورجع عنهم، وما كان ذلك الرجل ينتظر في ذلك الوقت غير صناديق مفتوحة، وكلوتات زركش، وحوائص ذهب ملقاة، وأسلحة، وسناجب، وأكياس ذهب، ودراهم، وخزائن الأمراء الأمراء بما فيها.
ذكر ما جرى للعسكر بعد ذلك(1/353)
أما السلطان فإنه رجع في طائفة من الجيش على ناحية بعلبك، وسار إلى مصر، وسافر جماعة من أهل دمشق من أعيانها وغيرهم إلى مصر كالقاضي إمام الدين الشافعي، وقاضى المالكية جمال الدين الزواوي، وتاج الدين بن الشيرازي وعلم الدين الصوافي والي البرّ، وجمال الدين بن النحاس والي البلد، والمحتسب، وغيرهم وبقيت دمشق شاغرة ليس فيها حاكم ولا رادع سوى نائب القلعة علم الدين أُرْجواش، وهو مشغول عن البلد بالقلعة، وأما العسكر تفرقوا في كل ناحية ووصل بعضهم إلى القلاع القريبة من مكان الوقعة، ونجى بنفسه من كان فيه نهضة، وتوجه أقوام إلى جبال بعلبك وغيرها جياعاً عُراة مشاة، وتخطفت الجبلية بعض من سلك تلك الطرق وقتلوا منهم ونهبوا وسلبوا، فكان هؤلاء عدواً ثانياً، وكل من كان يهرب يرمي خوذته من رأسه ويقطع قرقله بالسكين إذا لم يلحق لحلها ويقطع البركستوان المثمنة، وكل ذلك قصداً للتخفيف.
قال صاحب النزهة: ورأيت جماعة من مماليك السلطان تخرج من وسطه كيس الفضة ويناوله لرفيقه، فإن لم يأخذه سريعاً وإلاّ يرميه من يده إلى الأرض ويسوق. قال: ورأى الأمراء البرجية مع حسن أشكالهم وتزين لباسهم قد صاروا قطعة واحدة هاربين منهزمين، وقازان في أعقابهم وقد بسط جيشه من الجانبين وانفرد هو بنفسه في صدر جيشه ورجل قدامه وبين يديه على فرسه طبل أكبر من طبل الجمالق يضربه ساعة بعد ساعة ضربة واحدة، وكلما سمعها الجيش زادت هزيمتهم وهربت فرقة منهم إلى ناحية البرية وسلكوا فيها وهلكوا بأجمعهم، وفرقة سلكت ناحية البحر المالح فهلكوا، ولم يسلم منهم إلاّ الفرقة التي سلكت الطرق التي يُسلك فيها، ولكن الذين سلكوا الجبال قاسوا من أهلها ما قاسوا مثله من التتار، وقتل من المسلمين خلق لا يعلم عددهم إلا الله تعالى.
وقال صاحب النزهة: وكان وصولنا إلى قلعة حمص والشمس في الغروب، فوجدنا أهلها فوق الأسوار يبتهلون إلى الله عز وجل بالدعاء وكانوا ينادون: يا مسلمون الرجعة الرجعة لا تسلمونا إلى العدو، يا مسلمون المروءة المروءة، ولم يلتفت إليهم أحد، فتباكوا وبكت الناس وبكى السلطان الناصر، ثم قال للأمير حسام الدين: يا أبي أنت ما قلت إن المسلمين يقفون ويقاتلون نوبة ثانية في حمص ومالي لا أنظر أحداً يقف ويقاتل. فقال: يا خوند ما يقاتلون إلا في دمشق وقصدهم أن يستجروا العدو حتى يتبعوهم ويدخلوهم في مواضع ليس لهم خبرة بها، وكل ذلك يريد به التعلل للسلطان لئلا يزداد خوفه.
قال الراوي: وما وصلنا إلى حمص إلا وأكثر الخيل قد وقفت ولم تتحرك خصوصاً خيول الأمراء والمماليك الموقرة، ولما دخل الليل انقطع التتار من خلف عسكر المسلمين. قال: ثم وصلنا إلى بعلبك صبيحة الجمعة ونحن كلنا محتاجون إلى قوت أنفسنا ولخيولنا، فوجدناها قد أغلقت، وصعدت أهلها على الأسوار وكانوا يتناولون الفضة بالحبال، فمنهم من يُعطى ما يطلبه صاحب الفضة ومنهم من يأخذ الفضة ويغيب من فوق السور ولا يراه أحد.
قال: ثم أصبحنا يوم السبت ودخلنا إلى دمشق وتلقتنا أهلها بالويل والثبور، وما أقمنا فيها غير ساعة واحدة ووقع الصياح بأن طوالع العدو قد لاحت، فخرجت الناس لا يلتفتون إلى شيء، وأكثرهم خرجوا بلا زاد، وأما أهل دمشق فمنهم من طلع القلعة ومنهم من توجه نحو القدس والخليل عليه السلام، ومنهم من طلب قلعة صفد وقلعة كرك، ومنهم من أقام وتوكل على الله، وصارت الناس كأنهم يُساقون إلى المحشر يوم القيامة، فلا يلتفت الأخ إلى أخيه ولا الأب إلى ابنه ولا المملوك إلى سيده.(1/354)
قال الراوي: وأما الفرقة التي كان سفرهم على الساحل فإنهم قاسوا شدة عظيمة من أهل جبل كسروان، فكانوا ينزلون إليهم ويمسكون عليهم المضايق، ويأخذون الجندي قبضاً بالكف، ويأخذون ما معه، ويرسلونه عرياناً إذا أحسنوا إليه، وربما يقتلونه أو يرسلون عليه حجراً من فوق فيهلك هو وفرسه، وكانوا قد استوقفوا جماعة كثيرة عن المسير، وقصدوا أن يأخذوا منهم ما يريدونه حتى يفتحوا لهم الطرق، فاتفق في ذلك الوقت حضور طائفة من العسكر الذين هم صحبة الأمير بدر الدين أمير سلاح، وصحبته الأمير بلبان الطباخي نائب حلب وجماعة من الأمراء، فلما رأوا ذلك حملوا عليهم وأزاحوهم عن الطريق، فرجعوا، واجتمعوا جماعة كثيرة ووقفوا لمنع الأمراء أيضاً، فلما رآهم الأمير بدر الدين مصممين على القتال رسم الذين معه أن يترجلوا وأن لا يتهاونوا في أمرهم كيلا يدركهم التتار فيكونون بين العدوين، فترجلوا وزحفوا عليهم وقتلوا منهم جماعة، فقام القتال بينهم من ضحوة النهار إلى الظهر، وجُرحت من جماعة أمير سلاح خلقٌ، فآخر الأمر كسروهم وفتحوا الطرق وذهبوا، وبعض الأمراء وراءهم ساقة لهم إلى أن وصلوا إلى غزة، وأقام أمير سلاح فيها ينتظر المنقطعين من العسكر، والتحق به جماعة كبيرة من الناس والجند والأمراء، وهو يُداوي المجروح، ويركّب الراجل، ويكسو العاري، ومن جملة ما وجده في غزة القاضي فتح الدين بن القيسراني، فأركبه وكساه وصحبه إلى القاهرة.
وأما قازان، فإنه لما رأى أن جيش المسلمين قد انهزموا فرح فرحاً عظيماً، وقصد أن يلحق المسلمين، فمنعه الأمير قفجق وقال له: لا تعجل فربما يكون لهم كمين ويكون انهزامهم هذا مكيدة منهم، فقبل كلامه وتوقف عن اللحوق بهم، وإلا لو مشى وراء المسلمين لكان أخذ الجميع.
ولما أصبح يوم الخميس ورأى أن أخبار السلطان والعسكر قد انقطعت اطمأن، وسيّر إلى حمص وأخذ ما وجد فيها من الأموال والودائع والذخائر، وقبض على من وجد فيها من الجند من الجرحى والمنقطعين، وفيهم جماعة من الكتاب والموقعين وممن وقف فرسه، ثم اقتضى رأيه أن يجّرد أميراً يسمى بوري ومعه جماعة يكشفون الخبر، ثم توقف من ذلك خوفاً أن يكون في الطريق جماعة من عسكر السلطان يشوشون عليه، ثم أرسل شخصاً على هيئة جاسوس ليكشف خبر السلطان هل هو أقام بدمشق أم راح إلى مصر؟، فخرج الرجل وغاب يوماً وليلة، ثم جاء وأخبر أن دمشق خالية ليس فيها لا سلطان ولا عسكر.
ولما سمع بذلك أمر بالمسير إلى الشام، لكنه انتظر المنهزمين من عسكره، ثم رجع هو إلى مكان الوقعة وهو وادي الخزندار، بينه وبين تربة خالد بن الوليد رضي الله عنه مسافة نصف يوم أو دونه، فوجد هناك بعض الجند جرحى ممن وقع في الوقعة، ووجد من أصناف الأسلحة والأقمشة المفتخرة والحوائص الذهب والكلوتات الزركش والأكياس من الذهب والفضة ما لا يوصف، وكذلك من السروج الزركش والبركستوانات والقرقلات والخوذ ما عجزوا عن حمله، وأما الدواب من الخيول المسومة فكان شيئاً كثيراً واقفة من مكان المصاف إلى قرب حمص، ورأى قازان من هذه الأشياء ما أذهله عن عقله، فإن الدولة كانت جديدة وأمراؤها كانوا يفتخرون بأنواع الزينة، وكل منهم كان يريد أن يزيد على صاحبه بالعدد المفتخرة والأشياء الحسنة.
وكان من جملة من أسره من حمص برهان الدين المنجم، فلما أحضروه بين يدي قازان عرفه قفجق وبكتمر وقالا لقازان: هذا منجم عارف، فلما رآه قازان أحضر إليه ابن الخواجا نصير الدين الطوسي حكيم الزمان، وكان هو عند قازان حكيماً ومنجماً، كما كان أبوه نصير الدين عند هلاون وأمثاله، ولما قدم هلاون الشام كان الخواجا نصير الدين معه كما ذكرنا.(1/355)
فقال له قازان: سلْ هذا المنجم كيف ما عرّف أستاذه الناصر بأمر هذه الواقعة؟ فسأله وقال له: يا حكيم كيف حكمت على صاحب مصر وعسكره أن يلاقي عدوه في مثل يوم الأربعاء وهو آخر الأربعاوات في السنة وهو يوم نحس مستمر؟ فقال له: قد عرّفته ذلك، وعرّفت أكابر عسكره، ولم يسمعوا مني ونهروني، ولم يلتفتوا إلى كلامي، وكان قد وقع ذلك، فإن السلطان عند نزوله حمص طلب الأمير سيف الدين سلار والأمير ركن الدين بيبرس وشمس الدين الفارقاني وطلبوا برهان الدين هذا، ثم شرع سلار يسأل من الفارقاني عن أحوالهم وكيف يكون أمرهم عند الملاقاة وأي الأيام يصلح لذلك، وكان الفارقاني له اليد في أحكام البلد أكثر من برهان الدين المذكور. فقال له الفارقاني: يا خوند إن قدرت أن تؤخر الملاقاة مع العدو إلى مستهل الشهر تكون النصرة إن شاء الله لكم، وماعندي في هذا اليوم طائل، وكان يوم الأحد. قال: ولا يوم الإثنين ولا يوم الثلاثاء وخصوصاً أن يكون يوم الأربعاء فإنه يوم لا يحمد فيه لقاء العدو. فقال له سلار: إذا - وافانا عدو نقول له، اصبروا حتى نبصر يوماً جيداً نلقاكم فيه. ما هذا الفشار؟ ونهضوا من عنده مثل المطرودين.
ذكر ما جرى في دمشق بعد انهزام الجيش
بتاريخ ليلة الأحد الثاني من ربيع الآخر كسر المحبوسون بباب الصغير باب السجن، وخرجوا منه قريباً من مائتي راجل. فنهبوا ما قدروا عليه، وجاءوا إلى باب الجابية فكسروا أقفال الباب الجواني وأخذوا من الباشورة ما شاءوا، وكسروا أقفال الباب البراني وخرجوا منه على حمية، فتفرقوا حيث شاءوا، لايقدر أحد على ردّهم ولا صدهم، وعاثت الحرافشة في ظاهر البلد، فكسروا أبواب البساتين، وقلعوا من الأبواب والشبابيك وغير ذلك ما قدروا عليه، وباعوه بأرخص الثمن، هذا وسلطان التتار قد قصد ورود دمشق بعد الوقعة.
واجتمع أعيان البلد والشيخ تقي الدين بن تيمية في مشهد على، واتفقوا على المسير إليه لتلقيه وأخذ الأمان منه لأهل دمشق، فتوجهوا يوم الإثنين الثالث من ربيع الآخر، فاجتمعوا به عند النبك، وكلمه الشيخ ابن تيمية كلاماً قوياً فيه مصلحة عظيمة عاد نفعها على المسلمين، ودخل المتسلمون للبلد من جهة قازان، فنزلوا بالباذرائية، وغلقت أبواب المدينة سوى باب توما، وخطب الخطبة يوم الجمعة سابع الشهر المذكور بالجامع ولم يذكر سلطاناً في خطبته، وبعد الصلاة قدم الأمير إسماعيل التترى ومعه جماعة من الرسل فنزلوا ببستان الظاهر عند الطريق، وحضر الفرمان بالأمان فطيف به في البلد، وقرىء يوم السبت ثامن الشهر. بمقصورة الخطابة، ونثر شيء من الذهب والفضة.
وفي نزهة الأنام: الذين خرجوا من دمشق لطلب الأمان من قازان هم: خطيب دمشق القاضي بدر الدين بن جماعة، والشيخ زين الدين الفارقي، والشيخ تقي الدين بن تيمية، والقاضي نجم الدين بن صصري، والصاحب فخر الدين بن الشيرجي، والقاضي عز الدين بن الزكي، والشيخ وجيه الدين ابن المنجي، والصدر الرئيس عز الدين بن القلانسي وابن عمه شرف الدين، وأمين الدين شقير الحراني، والشريف زين الدين بن عدنان، والشيخ نجم الدين ابن أبي الطيب، وناصر الدين بن عبد السلام، وشرف الدين بن الشيرجي، والصاحب شهاب الدين الحنفي، والقاضي شمس الدين الحريري، والشيخ محمد بن قوام البالسي والقاضي جلال الدين أخو قاضي القضاة إمام الدين القزويني، والقاضي جلال ابن قاضي القضاة حسام الدين، وجماعة كثيرة من الفقهاء والقراء، وتوجهوا نحو جيش التتار.(1/356)
وبقيت المدينة بلا نائب ولا حاكم، وأكل الناس بعضهم بعضاً، ومن قدر على أمر فعله، ووصلت أربعة من التتار، ومعهم الشريف القمي ونزلوا بالباذرائية، وأصبح الصباح ولم يفتح من أبواب دمشق باب، فكسرت أقفال باب توما، وكان الذي تولى كسرها نواب الولاة: الشجاع همام الدين وابن ضاعن وابن الذهبي النقيب، ووصل إلى ظاهر دمشق جماعة من التتار ومعهم أمير اسمه إسماعيل، فنزلوا ببستان الظاهر بطريق القابون، وأما الجماعة الذين خرجوا من دمشق فإنهم التقوا بالعساكر التترية بالنبك، واجتمعوا بالملك، ووقف الترجمان، وتكلم منهم، وكان المتكلم فخر الدين بن الشيرجي، وأحضروا ما كان معهم من المأكول، فلم يظهر له وقع ولا حضر قدام الملك. وقال الملك قازان: إن الذي تطلبونه من الأمان قد أرسلناه إليكم قبل حضوركم، فرجعوا إلى دمشق، وحضر الأمير إسماعيل إلى مقصورة الخطابة وحضر الخطيب ابن جماعة وفخر الدين ابن الشيرجي وابن القلانسي وابن منجي وجماعة لقراءة الفرمان، واجتمع الناس، وقرىء الفرمان على السدّة. فحمد الناس الله تعالى، وحصل للناس سكون وطمأنينة، وقرب التتار من دمشق وأحدقوا بالغوطة، وكثر العبث والفساد والنهب بالحواضر البرانية مثل العقيبة والشاغور وقصر حجاج وحكر الساق، ووصل الأمير قفجق وبكتمر السلحدار مع جماعة ونزلوا بالميدان الأخضر.
وورد مرسوم من الأمير إسماعيل بأن العلماء والقضاة والأكابر يتحدثون مع أرجواش نائب القلعة ويحسنون له تسليم القلعة وإلا يدخل الجيش البلد، ولا تبقى بعد هذا القلعة ولا البلد، فاجتمع جماعة منهم بدار الحديث وأرسلوا رسولاً إلى أرجواش فلم يجبهم، فقاموا في دار الحديث بأجمعهم إلى باب القلعة وأرسلوا إليه رسولاً ثانياً فبلغه سلامهم. فقال: ومن هم الذين أرسلوك؟ فسماهم له بأنسابهم، فقال: هم المنافقون الخائنون للمسلمين، وليس عندي جواب، ومع هذا فهذه بطاقة وصلت إلي من السلطان صاحب مصر مضمونها أنهم قد اجتمعوا على غزة وكسروا الطائفة الذين تبعتهم من التتار، وهو يوصيني بالقلعة، وكان من جملة الجماعة الواقفين بباب القلعة: بدر الدين بن فضل الله. فقال أرجواش: وصل ابن فضل الله ويقف على البطاقة فإنها بخط أحيه، فامتنع ابن فضل الله من الدخول واشتد خوفه وهرب من بين الجماعة، وتفرقت الجماعة على هذه الصورة.
وفي اليوم الثاني: حضر الأمير قفجق وجلس بالمدرسة العزيزية وأمر بالمراجعة بأرجواش في أمر القلعة، فراجعوه فلم يجبهم، وكتبوافي هذا اليوم فرمانات كثيرة من شيخ الشيوخ نظام الدين للتتار، ولم يحصل بأكثرها نفع، وخاف الناس وأصلحوا أبواب الدروب، وكثر دخول التتار للبلد، ونزل شيخ الشيوخ نظام الدين بالمدرسة العادلية وادعى أنه يصلح أمور الناس، وطلب الأموال، ووقع النهب في جبل الصالحية، ودخلوا الناصرية، والمارستان القيمري وكسروا الأبواب والشبابيك، وصعدوا إلى مغارة الدم، وإلى مغارة الجوع، ولم يعص عليهم موضع، ودخلوا إلى جامع الحنابلة، وأخذوا بسطه وكسروا القناديل والمنبر، ودخلوا في مدرسة الشيخ ضياء فنهبوها، وأخذوا من الصالحية من المطعومات والقمح والشعير والدفائن والذخائر شيئاً كثيراً حتى كان الواحد يأتي إلى الخبيئة كأنه هو الذي خبأها من سرعة هدايته إلى مكانها.
وبلغ الناس بالبلد ما جرى بالصالحية، فشق عليهم، وتوجه الشيخ تقي الدين ابن تيمية وجماعة إلى شيخ الشيوخ الذي نزل بالعادلية وشكوا إليه الحال، فخرج معهم إلى الصالحية، فسمع التتار بخروجه فهربوا، ودخل أكثر الناس عرايا عليهم الجوالق والبلاسات، واشتد الأمر وسار التتار إلى قرية المزة؛ وكان أكثر أهلها لم ينتقلوا عنها فنهبوها، وسبوا أهلها، وفعلوا بها كما فعلوا بالصالحية؛ ثم ساروا إلى داريا فاحتمى أهلها بالجامع، فلم يزالوا حتى دخلوه وفعلوا كما تقدم؛ وقتل من التتار جماعة من أهل داريا جماعة.(1/357)
ثم خرج الشيخ تقي الدين بن تيمية إلى مخيم السلطان الذي يسمونه الأردو؛ وكان بتلّ راهط، فدخل عليه ولم يمكن من الإعلام كما ينبغي، بل أذن له في الدعاء والإسراع، وقيل: إنه كان مشغول الدماغ ولم يعلم بما جرى، ولو علم كان قتل جماعة من المغل، فيحصل بذلك فتنة وتفريق كلمة، فاجتمع تقي الدين بالوزير ابن سعد الدولة ورشيد الدولة وتحدث معهما، نذكر أن جماعة من مقدمي المغول الأكابر لم يصل إليهم شيء من مال دمشق ولا بد من إرضائهم، فدخل الشيخ تقي الدين البلد، وقد ضاق الأمر بالناس، وهم في شدة عظيمة، واشتاع بينهم أن قازان يريد الدخول إلى البلد، وقد جعل ما فيه للمغول خاصة، فضاقت صدور الناس، وقيل لهم: من لم يخرج من البلد ندقه في عنقه، ومن أراد الخروج فليخرج إلى الصالحية، وكان هذا الكلام من جهة شيخ الشيوخ، ثم حمل حوائجه وخرج إلى العادلية، فقالت الناس: لو لم يكن الخبر صحيحاً لما خرج مسرعاً، فلما كان آخر النهار رجع بعض حوائجه وحضر إليه أعيان البلد وقالوا: إن رسم السلطان أن يضع على البلد شيئاً معلوماً سعينا في استخراجه، ويكون مثل الشراء عن السلطان ويمنّ السلطان بالعتق على المسلمين، وكان قد قتل في هذه الليلة رجلان من متولي أمر المناجيق من جهة أهل القلعة، وكان السلطان غضب من ذلك غضباً شديداً.
وقال الشيخ وجيه الدين بن منجي: أنا أبذل جميع ما أملكه من العين. وقال الرئيس عز الدين بن القلانسي: قد أخذ منا شيء كثير، ولم يبق إلا أن يموت بعضنا على بعض، كل هذا وشيخ الشيوخ ساكت مصمم لا يفرج كربة عن مسلم، ولكن اشتدّ الطلب من الناس فقرّر على سوق الخوّاصين مائة ألف وثلاثون ألف من الدراهم، وعلى سوق الرمّاحين مائة ألف درهم، وعلى سوق عليّ ستون ألف درهم، وعلى أكابر البلد ثلاثمائة ألف دينار، وجبيت من حساب أربعمائة ألف، ورسِّم عليهم طائفة من المغل، مع كل إنسان طائفة منهم، وضيقوا عليهم، وعصروا ابن شقير، ووعدوا ابن منجي وابن القلانمي بوعيد، والمغل محيطين بهم يضربونهم، فصار جميع أهل دمشق في الذل والهوان، وكثر النهب في البلد، والقتل عمّال في ضواحي دمشق وضياعها. يقال: إنه قتل ما يقارب مائة ألف إنسان من الجند والفلاحين والعامّة، وكثر الطلب، وعجز المطلوب، وعسر الأمر على الناس، وكان متولي الطلب الصفي السنجاري وعلاء الدين أستادار قفجق وأولاد الشيخ علي الحريري الحنّ والبنّ، وكان هؤلاء من أكبر المصائب على الناس، فنظم فيهم الشيخ كمال الدين بن الزملكاني:
لهفي على جلّق يا سوء ما لقيت ... من كل علج له في كفره فنّ
بالطمّ والرمّ جاؤوا ولا عديد لهم ... فالجنّ بعضهم والحنّ والبنّ
وقال علاء الدين الوداعي:
دهتنا أمور لا يطاق احتمالها ... فسلّمنا منها الإله له المنّ
أتتنا تتار كالرمال تخالهم ... هم الجنّ حتى معهم الحنّ والبنّ
وقال الشيخ كمال الدين ابن قاضي شهبة:
رمتنا صروف الدهر منها بسبعة ... فما أحد منّا من السبع سالم
غلاء، وغازان، وغزو، وغارة ... وغدر، وإغبان، وغم ملازم
ثم استهل شهر جمادى الأولى: ففي أول ليلة منه بات المغل منتشرين بباب البريد إلى القلعة بسبب حفظ مناجيقهم التي بالجامع، وكانت لهم مدة يحاصرون القلعة، وكسروا دكاكين باب البريد وأخذوا ما فيها، وانتقل الناس من تلك الناحية، وتركوا حوائجهم وأقواتهم، وعجزوا عن حملها، وغلقت أبواب الجوامع وترك منها باب صغير، وانقطع الناس عن الجامع.
وفي الجمعة الأولى من الشهر: نهب دير الحنابلة مرة ثانية، وسبيت من كان فيه من النساء والأولاد، ومن جملة ما أخذوا: مائة وعشرون بنتاً، وأسروا القاضي تقي الدين الحنبلي وعملوا في رقبته حبلاً يجرونه به، ثم تركوه.(1/358)
وأما البلد فأحرقت منه دار الحديث الأشرفية وما جاورها، ودار الحديث النورية، والعادلية الصغيرة، وما جاورها، وأحرقت القيمارية وما جاورها إلى دار السعادة إلى المارستان النوري، ومن الجهة الأخرى إلى المدرسة الدماغية إلى باب الفرج، وأحاطت التتار بالقلعة من جميع الجهات، وبقيت الأماكن موحشة لا يجسر أحد أن يمرّ بها، ولم تبق حارة ولا محلة إلا وقد دخلها التتار ونهبوها، واختفى الناس، وكان الرجل إذا حصلت له حاجة يخرج في أثواب رثّة وهو خائف وجل، ثم يعود مسرعاً، ولم يكن يصلي في الجامع خلف الإمام إلا رجل أو رجلان، والتتار منتشرون فيه لأجل حفظ المناجيق، وشربوا في الجامع الخمور، وانتهكوا حرمته، وفجروا فيه بالنساء، ونجسوه بالبول، وامتنع الناس عن حضور الجمعة خوفاً على أنفسهم، والأمر في المصادرة والجباية حثيثاً لم يعف عنه أحد لا غني ولا فقير.
وحصّل لشيخ الشيوخ من البراطيل فوق الثلاثين ألف دينار، وكان لا يزال الدبوس على كتفه، ويفخم كلامه، ولم يكن فيه شيء من أخلاق المشايخ، وكان كثير الطمع وكان يستهزىء بقلعة دمشق ويقول: إش هذه؟ لو أردنا أخذها أخذناها من أول يوم جئنا، وإنما الملك يريد الرفق.
كل هذا والناس في المصادرة، وكان المستخرج من الدراهم برسم خزانة الملك ثلاثة آلاف ألف وستمائة ألف سوى الدواب والقماش والسلاح والقمح والشعير، وذلك غير الذي أخذه المغول من النهب والبرطيل، وحصل لخواجا أصيل الدين بن النصير الطوسي نحو من مائتي ألف لأنه كان منجم الملك وناظر الأوقاف التي في ممالك التتار، وطلب من أوقاف دمشق أجرة النظر عن سنة كاملة، واستخرج الصفي السنجاريّ لنفسه مائة ألف درهم، وكل هذا غير الذي استخرجه قفجق لنفسه ولأمراء المغول، وسوى الرواتب المرتبة للملك في كل يوم ولخواصه، ونهب لأهل دمشق ما يقارب ذلك، وأحرق من الأملاك والأوقاف والمدارس مالا يقدر أحد على ضبط قيمته.
ذكر نسخة فرمان التي كتبها قازان
لما تولى قازان بظاهر المرج والغوطة خرج إليه أهل دمشق بمفاتيح أبوابها ونغائس هداياها، فأقبل عليهم وقبل ما أحضروه وأمنهم فكتب فرمان لأهل دمشق ونواحيها وأرسلها بأنهم آمنون وأن مغل لا يتعرضون للرعية ولا لأموالهم، وهم يقيمون جمع ما يختاره الملك، فإن البلاد بلاده والرعية رعيته، وكتب ذلك على يد الشريف، وصورة ذلك: ليعلم أمراء التوامين والألوف، وعموم عسكرنا المنصور من المغل والكرج والأرمن أن الله نور قلوبنا بالإسلام، وهدانا إلى ملة نبيه عليه السلام " أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ". وأتم الله علينا نعمته، وأنزل علينا سكينته، وقهرنا العدو الطاغية، والجيوش الباغية، وصدّرنا أن لا يتعرض أحد من العساكر على اختلاف أجناسها لدمشق وأعمالها، وسائر البلاد الشامية، وأن يكفوا أظفار التعدي عن الأنفس والأموال والحريم والعيال، والتعرض لأهل الأديان، وكل راع مسؤول عن رعيته " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى عن الفحشاء والمنكر ".
ثم أرسل قازان إلى دمشق قطلوشاه، ومعه يحيى بن جلال الدين، ورشيد الدين المسلماني، وزيره، ونجيب الدولة اليهودي، مشيره، والأمراء المصريون وهم: الأمير سيف الدين قفجق، والأمير سيف الدين بكتمر السلحدار، وأكابر دمشق صحبتهم، وكان ذلك يوم الجمعة، ولم يدركوا الخطبة بدمشق، وكان وصولهم دمشق بعد العصر، ودخلوا الجامع، وحضرت أهل دمشق، وقرىء الفرمان على المنبر، واطمأنت نفوس الناس بعض شيء، ثم أقاموا بها أياماً لجباية الأموال كما ذكرنا صورة الجباية.(1/359)
وأطاع أهل دمشق جميعهم قازان ما خلا الأمير علم الدين سنجر المنصوري المعروف بأرجواش نائب القلعة، وكان من مماليك السلطان الملك المنصور القدماء، فإنه أظهر حزماً واجتهاداً ويقظة واستعداداً ولم يسلم القلعة، بل صمم على امتناعه وأخذوه بأنواع من الترهيب والترغيب، فلم يرهب السطا ولا رغب في العطا، ونصبت عليه المجانيق، فما هاله أمرها فتح لها بابا حتى رحل قازان عن البلاد ولم ينل منها ما أراد، ولما اشتد الحصار وأحاطت بالقلعة جموع التتار خاف أن يستولوا عليها من الأماكن والمساكن التي عليها، فهدم جميع ما حولها من العمائر والبيوت وصيرها دكا، وهدم دار السعادة وكان هدمها من السعادة لئلا يتستر العدو في المنازلة بجدرانها ويتسلطوا بنصب المجانيق خلف بنيانها، فتناوبوا على حصارها أياماً متواترة، وليالي متكاثرة، ولم ينالوا منها مراماً ولا رأوا من نائبها تسليماً ولا سلاماً، فصبروا إلى أن أدركهم لطف الله، فسلموا وصابروا وما سلموا.
وعلم قازان أن أموال دمشق جميعها بالقلعة، وفيها خزانة السلطان الناصر، وأموال الأمراء وغيرهم، وأنه لا يتم له ملك ولا يملك قلعة من قلاع الشام حتى يملك قلعة دمشق، فإن أمر االقلاع معدوق بأمرها، فطلب قفجق وبكتمر وغيرهما واستشارهم في أمرها، فعرفوه أنها قلعة حصينة، وأن نائبها رجل شديد البأس وما يمكن أخذها إلا بعد قتال شديد وتلاقي العسكر.
وحضر في ذلك الوقت نجيب الدين وزير قازان من غزنة، فأشار عليه أن يعمل المنجنيق ويتوصل به إلى هدم القلعة، فرسم له عند ذلك بالإنعام الكثير، فشرع في عمل ذلك، وساعده جماعة من أهل دمشق على قطع الأخشاب وعمل المنجنيق في وسط الجامع الأموي، فبلغ ذلك أرجواش نائب القلعة، فصبر إلى أن هجم الليل، وأرسل جماعة من القلعة ومعهم النفط، فأطلقوا النار أولا في دار السعادة، ثم في سائر الأماكن القريبة من القلعة، فصارت تلك الأماكن شعلة نار، وكان فيها جماعة من التتار، فهربوا منهزمين، فبقيت النار تعمل يومين وثلاث ليال.
ولما بلغ ذلك قازان غضب غضباً شديداً وأمر لسائر المغل بالركوب، وركب هو مع الأمراء إلى أن وصل إلى القلعة، ونظر إليها، واستهون أمرها، وأمر بردم الخندق. فقالوا له: لا يمكن ردمه في شهر لأن المياه مسلطة عليه وصعبوا أمره، وكان قصدهم إخماد النار، وأشار قفجق أن يخاطب نائب القلعة بحضور قازان ويعد - له - بكل خير، وسمع قازان جوابه، فخرج قفجق وبكتمر وبعض أمراء المغل، فوقفوا قريبا من الخندق، وكان أرجواش قد نصب له كرسي عال بحيث يراهم ويرونه، فلما رأوه سلموا عليه، وسلم عليهم، ثم شرع قفجق يعرفه عن قازان بالمواعيد والعطايا، وإنه إن لم يفعل فإن الملك يفعل كذا وكذا.
فلما سمع أرجواش كلامه أجابه فأغلظ في جوابه، فقال له: يا منافق، من يتقرب إلى القلعة؟ والله لو تقرب إليها أستاذي الملك المنصور ما كان له عندي غير سهم في صدره، ولكن قل لقازان يتقدم حتى ينظر ما يجري عليه، وأخذ في سبّهم ولعنهم، وبّلغ المغل ذلك لقازان، فغضب غضباً شديداً، وأمر عند ذلك وأحدقوا بجوانبها، وما شعروا إلا وقد شقتهم سهام من أكف الرماة من سهام قسى وجرخ ونفط ومدافع ومكاحل، وكان في القلعة من الرماة أكثر من ألف رام، فنزلت السهام عليهم مثل المطر، واختلطت الرجالة بالخيالة، فقتلت طائفة وجرحت آخرون.
ورأى قازان يوماً عظيماً لم ير مثل ذلك، فتقدم قفجق والأمراء منه وقالوا له: يا خوند أمهل حتى يفرغ عمل المنجنيق تبلغ به ما تريد، وتلطفوا معه في الكلام إلى أن رجّعوه، فعند ذلك جهز أمراء من المغل يستعجلون بعمل المنجنيق.
وبقي أرجواش يكشف أمر المنجنيق إلى أن عرف أنه على الفروغ، فطلب أربعة أنفس من الرجال المعدودين فقال لهم: انزلوا واقتلوا صانع المنجنيق وارموا النفط فيه، فنزلوا وقد بايعوا أنفسهم من الله تعالى، فوجدوا المغل نائمين وعامل المنجنيق سهران في العمل، فوثب بعضهم عليه وضربه بسكين في بطنه أخرج أمعائه، وضرب كل واحد منهم آخر من رفقته فقتلوا ثلاثة، ورموا في الأخشاب النفط فعلق من ساعته، ووقع الضرب في الجامع، وقتل من المغل اثنان، وركبت المغل وهم متحيرون لم يعرفوا من أين جاءتهم الداهية، ورأوا النار تعمل في الجامع، وكانت ليلة عظيمة، ودقت الكوسات في القلعة.(1/360)
وبلغ ذلك قازان، فصعب عليه جداً، فطلب الأمير إسماعيل وأمره أن يأخذ معه جماعة من المغل ويتولى عقوبة أهل دمشق ويستخرج منهم الأموال، فركبوا، ورأى أهل دمشق منهم شدة عظيمة، فجاء قفجق إلى قازان وتلطف به وقال له: يا خوند الأموال لا تستخرج على هذه الحالة، ولكن بالتلطف على الناس. فأجاب إليه، وعين لذلك جماعة - وقد ذكرناهم - حتى جبوا الأموال التي ذكرناها.
قال صاحب النزهة: واستمر الأمر على أهل دمشق من النهب وأخذ الأموال خمسة وأربعين يوماً، فإن قازان نزل الغوطة في العشر الأول من ربيع الآخر ورحل منها في منتصف جمادى الأولى، والله أعلم.
ذكر إرسال قازان جماعة من جيشه
ذوي الطغيان إلى الأغوار وبيسان:
ولما وصل قازان إلى دمشق أرسل من عسكره عشرين ألفاً مجردين صحبة مولاي وأبشغا وجبجك وهلاجو، فنزلوا بالأغوار وبيسان وشنوا الغارات على تلك البلاد. ونهبوا ما وجدوا من المواشي والأقوات والأزواد، وقتلوا من وقع في أيديهم، وانتهت غاراتهم إلى القدس الشريف والخليل عليه السلام، ووصلوا إلى غزة وقتلوا بجامعها خمسة نفر من المسلمين كانوا به منقطعين، ثم رجعوا إلى الشام وقد عاثوا ونهبوا وسبوا وأسروا جماعات كثيرة، وحصروا قرى كثيرة وقتلوا من أهلها خلقاً كثيراً، ولما وصلوا إلى دمشق - وكان قازان قد رحل بعسكره - جبى له قبجق من أهل دمشق جباية أخرى لأجل مولاي، وخرج تقي الدين بن تيمية إلى مخيم مولاي، فاجتمع به في مكان، فرأى من معه من أسارى المسلمين، فاستنقذ كثيراً منهم. وأقام عنده ثلاثة أيام، ثم عاد.
وفي عشية يوم السبت الرابع من رجب: رحل مولاي وأصحابه، وأشمروا عن البلد، وساروا من على عقبة دمّر، فعاثوا في تلك النواحي فساداً، ولم يأت سابع الشهر وفي حواشي البلد منهم أحد، ولله الحمد.
ذكر رحيل قازان من الشام
لما ملّ قازان من الإقامة على الشام همّ بالرحيل، وكانت إقامته قدر شهرين، ثم رحل متوجهاً إلى بلاده في الخامس عشر من جمادى الأولى من هذه السنة، وكان قد ولّى الأمير سيف الدين قفجق النيابة بالبلاد الشامية، والأمير سيف الدين بكتمر السلحدار البلاد الحلبية والحموية، والأمير سيف الدين إلبكي البلاد الساحلية، ظناً أنه قد صارت الممالك الإسلامية في قبضته وانحازت إلى حوزته، فلم يتم له ما أراد، ولا بلّغه الله شيئاً من هذا المراد، وأقام بعد رحيله نائبه قطلوشاه مع جمع كثيف من الجيش، فلما كان يوم الجمعة التاسع عشر من الشهر المذكور قرىء بالجامع تقليد الأمير قفجق بنيابة السلطنة بالشام، وتولية الأمير يحيى بن جلال الدين الختني الوزارة.
وفي يوم الإثنين الثاني والعشرين من الشهر: رحل قطلوشاه والعساكر، ففرح الناس بذلك واطمأنت قلوبهم، وخرج الناس إلى جبل الصالحية وإلى الحواضر والمزارع وأظهر الناس ما تخلف من أمتعتهم، وجلسوا في الأسواق وباعوا واشتروا، واشتد الغلاء، فبلغ سعر القمح الغرارة منه بثلاثمائة درهم، ومن الشعير إلى مائتي درهم، والرطل الخبز بدرهمين، والرطل من اللحم بإثني عشر، والرطل من الجبن بإثني عشر، ومن الزيت بستةً. والبيض كل أربعة بدرهم.
وأما الأمير قفجق فإنه لما عاد من وداع قازان ركب الموكب في دمشق والعصابة على رأسه، ونادى فيها برجوع الناس، وآمنهم على أنفسهم.
وكان قد حضر إليه بعض أهل الفساد وضمنوا منه الخمر وبيعه وعين عليه كل يوم ألف درهم وجعل دار ابن جرادة خارج باب توما خمّارة وخانة.
وأخذ أموالاً أخر من أوقاف المدارس وغيرها، ثم شرع يركب بالعصابة والشاويشية بين يديه، وجهّز نحواً من ألف فارس نحو خربة اللصوص ومشى مشي الملوك في الولايات وتأمير الأمراء والمراسيم العالية النافذة والآراء، وصار كما قال الشاعر:
يا لك من قنبرة بمعمري
خلالك الجو فبيضي واصفري
ونقري ما شئت أن تنقري
ثم نهض الشيخ تقي الدين بن تيمية واجتمع بالأمير قفجق وقال له: إن الذي فعلته من ضمان الخمور شنعة كبيرة، وثلمة عظيمة في حق الإسلام، واستاذنه في إبطاله، فأذن له، وخرج بنفسه وأراق ظروف الخمر جميعها.(1/361)
ولما كان يوم الجمعة رسم للخطيب بإعادة الخطبة في سائر الجوامع باسم السلطان الملك الناصر، وكان بالجامع الأموي ذلك النهار بكاء عظيم وتضرع إلى الله تعالى وتذاكر بما كانت الناس فيه من الشدة والنهب والسبي، وكانت مدة إنقطاع الخطبة عن ملك الإسلام نحو مئة يوم، ثم أعادها الله تعالى.
وكان تقدير الذي حمل إلى خزانة قازان ثلاثة آلاف ألف دينار سوى ما أخذ من البراطيل للأمراء والوزراء وأكابر المغل، وهذا هو الذي حصره ابن المنجي، وأما الذي نهب من دمشق والأماكن التي ذكرناها فإنه لايمكن حصره، وكذا الذي كسبه الأمراء والجند يوم الهزيمة، وذكر أن الذي صحبهم من الأسرى أحد عشر ألف نفس من الرجال والنساء والأطفال، وكان معظمهم من جبل الصالحية ولم يصحب معهم إلى البلاد إلاّ القليل منهم، فإن منهم من هرب بالليالي، ومنهم من مات، ومنهم من اختفى، وأخذوا من البلد فوق عشرة آلاف فرس، وكان معظم فسادهم في جبل الصالحية، وكان غالب ذلك من طائفة الأرمن، فإن صاحب سيس كان في قلبه حزازات من فعل المسلمين في بلاده التي أخذت منهم وضياعه التي أخربت ورجاله الذين قتلوا والغارات التي كانت تتواتر على بلاده من جهة المسلمين ولما اتفق من نصرة قازان ما اتفق حضر صاحب سيس قدام قازان وسأله أن يمكنه من الدخول من الباب الشرقي والخروج من باب الجابية، ويضع السيف بين البابين ويشتفي من المسلمين ويقيم بألف ألف دينار، فوقف قفجق في طريقه وتحدث مع قازان وقال له: قد ملكت هذه البلاد وهي في يدك والمال الذي تحمله هذا تأخذه من أهل الشام من غير سفك دم، وما زال به حتى طرد صاحب سيس عن مراده.
ذكر صور الفرمانات التي كتبها قازان
وهي أربعة: الأول: كتبه إلى الأمراء والعساكر والجيوش والأكابر، وهذه نسخته: ميامين الملة المحمدية، فرمان قازان، ليعلم الأمراء والأكابر وأشراف السادات العظام، والمشايخ الكرام، وسائر مشاهير الأعراب، من الخواص والعوام، إنه في كل زمان يقتضي الدوران. يرسل الله تعالى نبياً لهداية العالم، ودلالة الإنسان إلى طريق الصواب. وحفظ الأساطير في ملل الدين، فلما انتهت النوبة إلى خاتم النبيين محمد المصطفى الذي أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أرسله إلى جميع الخلائق ليهدي كافة الأنام من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام، ويرشدهم من علائق الجثمانيات إلى زوايا الروحانيات، ويزّينهم بكمال الدين وتهذيب الأخلاق، وأنزل عليه القرآن العظيم، وعلمه الأحكام الشرعية الشريفة المطهرة لينقذ بها التابعين من نار جهنم، فالواجب على كل أحد متابعة هذا النبي ومطاوعة شريعته، والذي يخالفه يكون مأواه جهنم وبئس المصير، ومن أول بعثته ومفتتح رسالته إلى زماننا هذا كلما وقع في أمور الدين الخلل وظهر الوهن في شريعة المسلمين، وأقدم الإنسان على العصيان وأصرّ على الطغيان، وأظهر لهم من أولى الأمر شخصاً يقوى الأمور الدينية ويزكي الخلائق طراً، وينهاهم عن الأمور المستنكرة، ويردّهم إلى الطرائق المستقيمة المستحسنة، وقبل زماننا هذا قد ظهر المشركون وعبدة الأوثان، والجماعة الذين كانوا يلايمونهم من المسلمين الذين يقولون آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، ظلموا وتعدّوا، وكانوا يعلمونهم الحيف والجور على الرعية وغصب أموالهم وأكل الربا، وترك الصلاة والزكاة والصيام والصدقات وأعمال البر.(1/362)
وقدر الله من المعجز النبوي المصطفوي المحمدي على صاحبة الصلاة والسلام أننا من أولاد جنكزخان الأعظم الذي تحت حكمهم معظم الأقاليم العظيمة دخلنا في هذا الدين القويم والصراط المستقيم بغير تكليف، بل جلا نور هداية الحق ودين النبي المصطفى على قلوبنا، وكرّمنا الله بالإسلام، وفضّلنا بالعدل والإحسان ورسخ في قلوبنا محبة الدين الحنيفي، ووفقنا الله تعالى بالجهاد في قتل المشركين وعبدة الأوثان والمخالفين، وهدم بيوت الأصنام ودفع شر الظالمين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أمر الله في محكم كتابه: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان " الآية. فأمرنا في الممالك كلها ببناء المساجد ونصب المنابر وإقامة الصلوات وإيتاء الزكاة، ونهينا عن أخذ الربا، ومنعنا من سائر أنواع الظلم والخطأ، فإن الظلم مرتعه وخيم، وقررنا في بلاد الإسلام الأموال المقننة لمصالح عساكر الإسلام عند المجاهدة في سبيل الله عز وجل، حسبما اقتضاه الشرع المطهر بلا إحداث قاعدة ولا حيف ولا عدوان ولا تطاول على أحد من المسلمين، واجتهادنا في استخدام هذه المعاني زائد عن الحد، " والحمد الله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ".
وحيث آباؤنا وأجدادنا سمّونا غازان، كان ذلك بتقدير الله عز وجل في الأزل في الإلهام الإلهي الملهم بالتلقيب لهذا الاسم الذي هو مشتق من الغزو، أوجبنا على أنفسنا الغزو والجهاد، وقمع المشركين والخوارج والمتمردين والظالمين، وسمعنا أن أهل مصر والشام الذين أمسى منهم مسلمون ما لهم عهد ولا ميثاق ولا أمانة ولا ديانة، ويأخذون أموال المسلمين، ويقصدون دماءهم، توجهنا قاصدين دمارهم لدفع الحركات الردّية البادية منهم، وإثباتهم على دين الإسلام ليكونوا هم وذرياتهم مفلحين من أهل الجنة، ويحصل لنا ثواب الاجتهاد، ويردهم السؤال في معنى خللهم وزللهم في دين الإسلام. والجواب أنهم لما تحققوا أننا أولاد سلاطين ربع أقاليم الأرض، وإنا مسلمون ومعاونون دين الإسلام يجب على كل أحد مطاوعتنا، اقتداء بكلام الله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم "، فحيث عصى من عندنا سولتمش، وانخرط في الخوارج والمرتدين، وأقدم على إيذاء المسلمين ببعض بلاد الروم، وتخريب بيوتهم، ونهب أموالهم، هرب من عسكرنا المنصور، وتوجه إلى تلك البلاد، كانت الشريعة النبوية والشفقة الإسلامية تقتضي أن تمسكوه وتبعثوه مغللاً بالحديد، مسلسلاً إلى عتبتنا العالية، فتغافلتم وتهاونتم عن هذا، بل زودتموه بالعساكر والأنعام والنجدة إلى فوج من التركمان، ووعدتموه مواعيد عرقوب حتى يقع القتال بين المسلمين من عسكرنا المغول وساكني بلاد الروم، وعسى ما بلغهم أن جميع عسكرنا من المغول والأيغورية والقفجاق والخطائية، وكل من كان بعد هذا من اختلاف الملل دخلوا كافة وطرا بصدق النية في الإسلام، وأدركهم بتوفيق الله حسن الاتفاق، وارتضعوا أفاويق الوفاق، ونحن كأسنان المشط في الاستواء والنفس الواحدة في التئام الأهواء، وما كان فينا من لم يؤمن بربه الأعلى ونبيه المصطفى، وعاش على دين المغول ثمانين عاماً، فإنه في هذه السنة آمن بالله والملة الحنيفية ودخل في زمرة المهتدين والحمد الله رب العالمين.
وإذا كنتم متهاونين في قضية سولتمش وسائر الطاغين، فالله تعالى الذي هدانا للصراط المستقيم ردّه مقيداً مكبلاً على يد أقل مملوك من مماليكنا، فجاءوا به إلى عتبتنا العالية لما أنعم الله علينا بالدين القويم، ووفقنا، لتشييد قواعد سنن رسوله الكريم، وأرشدنا في عنفوان الصّبا وريعان الحداثة للانخراط في سلك أمة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وعلى آله وصحبه الكرام، عسى لم يعجبكم تقوية دين الله عز وجل التي نحن مصرون عليها. ولو وصل لأجل هذا لقلوبكم البهجة والسرور لشكرتم الرحيم الغفور، وبعثتم من يهنئنا بدخولنا في دين الحق من إخوانكم وأقاربكم، فما فعلتم من هذا شيئاً؟ ألا إن من اعتصم بالله كفاه.(1/363)
وأيضاً من أفعالكم المذمومة أن تنصبوا في كل شهر وعام سلطاناً، وتبايعون وتحلفون على طاعته والإعراض عن مخالفته، ثم تخالفونه بعد قليل، وتقتلون ذوي الأمر منكم خلافاً لما أمر الله في كتابه العزيز بطاعة أولى الأمر منكم. وتنقضون ميثاقكم، ولم توفوا بعهدكم حتى تصيروا من " الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون "، وأي جرح أقبح من هذا.
وأما سائر أخلاقكم وعدم مشروعيتها فهي واضحة غير خافية، ومستغنية عن الشرح والتفصيل. فقد وافقنا مع عمنا خان الأعظم وسائر أعمامنا وإخوتنا وعشائرنا فمنهم: قايدو، ونوقاي، وتوفتا، وقرمجي، وطو، وغيرهم، وها نحن متوجهون بأنفسنا إلى تلك البلاد بالعساكر الكثيرة التي مالا نهاية ولا حدّ، والكتائب الجرارة التي لا تحصى ولا تعدّ، ومن ولاية الإفرنج والروم والتكفور وديار بكر وبغداد بعثوا أفواجاً كثيرة لا تعد، وجعاً غفيراً لنهدي بهم سبيل الرشاد، وندفع عن سائر المسلمين الشر والفساد.
فإن كنتم تتبعون الهدى وتستقبلون عساكرنا المنصورة، فنحن في هذه النهضة الميمونة عازمون على أن لا يصدر عن أمرنا المطاع إلاّ إطفاء النائرة، ومحافظتهم في الأمن والأمان، ليستريح المسلمون في عهد الشفقة والإحسان؛ تعظيماً لأمر الله وشفقة على خلق الله، وقد حرّمنا على عساكرنا المنصورة التعرض إلى نفوس المسلمين والطموح إلى أموالهم، فإن لم تسمعوا ما رسمنا ونصحنا:
السيف أصدق أنباءً من الكتب ... في حدّه الحدّ بين الجدّ واللعب
ولما كانت همتنا المنصورة مقصورة على وضع قواعد العدل والإنصاف وعزمتنا المنيفة مصروفة إلى رفع قوانين الزور والاعتساف بحيث يستقيم الأمر في مركزه تأسّياً بقوله تعالى: " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض " الآية. ولهذا توجهنا إلى تلك الجهات، وكيف يجوز تعذيب الرعية من غير جريمة صادرة عنهم لا سيما سفك دمائهم وسبي حريمهم، فتجب علينا محافظتهم ودفع الأسواء عنهم بموجب قوله صلى الله عليه وسلم: " كلكم راعٍ وكل راعٍ مسؤول عن رعيته ". والتزمنا بمحافظة الرعية في أنفسهم وأموالهم، والسعي في ترفيه خواطرهم وتطييب قلوبهم، فينبغي أن يسكنوا في دورهم آمنين مستكنين، ويقيموا أسواقهم ويرتبوها، ويشتغلوا بالكسب والمعاملات بعد أداء وظائف العبادات وإقامة مراسم الطاعات، داعين لدوام هذه الدولة القاهرة، ودوام أيامنا الزاهرة؛ إذ وجب عليهم وعلى كافة المسلمين طاعتنا لقوله تعالى وأمره بطاعة أولى الأمر منكم؛ وعليهم أن يخطبوا على المنابر باسمنا، وعند قرب الوصول إلى بلادهم يستقبلوننا، وتصاحبنا القضاة والعلماء والصلحاء والمشايخ والسادات والفقهاء مرشدين إلى المزارات المباركة من مشاهد الأولياء ومواقف الأنبياء، مستوهبين من الله تعالى التوفيق لنيل مثوباتهم، وإحراز بركاتهم، وبعد ذلك نقصد الإحرام بحجة الإسلام وزيارة بيت الله الحرام، سيما وهو أكبر قواعد الإسلام؛ إذ هو على كافة لقوله عز وجل: " ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا ".
وقد نذرت يميننا على ذلك، وانعقد نذر بأنه ينادي من جهتنا بأن جميع المسلمين وسائر المتوكلين في أمان من الله ورسوله، ويكونون مطمئنين، فارغي البال، رافعي الحال، ونحن عاهدنا الله ورسوله على جميع ذلك، وإذا وقفوا على ما أنفذنا إليهم يبعثون إلينا من يعرف أحوالهم، وخلوص عقيدتهم، وصفاء طويتهم حين نعين الشحاني المعتبرين. وفي صحبتهم التواقيع والفرامين ليحفظوا البلاد، ويقيموا الأسواق، ولا يمكنوا أحداً من الظلم والجور، ولا تشويش خواطرهم، لأن العسكر المجهز إليهم معهم ما يكفيهم سنة وأكثر، فاستراحوا من ذلك.
فإذا تشرفوا بمطالعة هذا التوقيع الشريف، وامتثلوا مقاصده وفحواه فقد فازوا فوزاً عظيماً، وإلاّ فقد خسروا خسراناً مبيناً، وعقاب ذلك سفك الدماء وغارة الأموال بوقوع الهرج والمرج، ونحن نبرأ من ذلك، وقد أعذر من أنذر " والسلام على من اتبع الهدى ".
الثاني من الفرامين: كتبه عند رحلته من الشام، فقريء بجامع بني أمية، بقوة الله وميامين الملة المحمدية، فرمان السلطان محمود غازان:(1/364)
ليعلم الأمراء والنواب والولاة والقضاة والسادة والصدور والناس كافة بممالك الشام والسواحل أن جدنا جنكزخان كان ملكاً وابن ملك إلى سبعة جدود في بلاد المغول، وحيث أيده الله تعالى ملك بسيفه ربع الأرض المسكون، ولم يبلغنا في تاريخ من التواريخ من لدن آدم عليه السلام وإلى يومنا هذا أن ملكاً ملك من الأقاليم ما ملكه، ولا تيسر له من التأييد ما تيسر له، ونحن سادس ملك من صلبه، وكان قد سبق في تقدير الله أن يصيب أولاده ممن سلف قبلنا عين نافذة، فوقع بينهم الخلف وطال التنازع بينهم سنين كثيرة، فاجتمع من بقايا سيوفهم أمم مختلفون يتسترون في الأكنان ويتغيبون في أبعد المكان، وكان منهم سكان مصر والشام، واجتمع بها من المماليك والخوارج زمرة غرّتهم سلامتهم من المغل المشتغلين عنهم بما كان أهم عندهم منهم، وطفقوا كل قليل يختارون من بينهم مملوكاً من أرذل الأجناس، فيملكونه على الإسلام، ويحكمونه في رقاب الأنام، وحسبوا أن ذلك تدبير الملك، ولم يتعرفوا طريق النجاة من الهلك، حتى وصلت نوبة المملكة إلينا، وزفّت عروسها علينا، زين الله قلوبنا بالإسلام، وأبهجها بأنوار الإيمان، وكان من الواجب المتعين وأدب الملوك الهين أن هؤلاء المماليك يهنئوننا بما وهب الله لنا من الملك العظيم وهدانا إليه من الصراط المستقيم، ويرسلون إلينا رسلهم بتحف السلاطين، ويجدون في استجلاب مودتنا أوضح القوانين، فمرت على ذلك ثلاث سنين، وهم يجهلون حقوق الأدب، ولم يؤدوا من عوائد الملك ما يجب، ولما علموا أننا دخلنا في الإسلام راغبين، ولرضى الله سبحانه طالبين، حسبوا أنهم إذا فتحوا إلينا طريق المودّة جاءنا أكثر عسكرهم هاربين، ولم يكن لهم من التمييز أن يعلموا أن الملك يؤتيه من يشاء من عباده، وقد ملّك كثيراً من الكفار أكثر بلاده، كما بلغهم عن جنكزخان وعن كثير ممن كان، ولو كان نيل الملك بالتقوى لكان بنو فاطمة عليهم السلام على الخلافة أقدر وأقوى، ولم يرضوا بذلك حتى سلكوا من التهجم والتقحم أقبح المسالك، وقصدوا طرفاً من أطراف بلادنا على غرّة، وهجموا عليها على فترة، وكذلك سلامش لما تسحب خوفاً من ذنوب اقترفها وديون ارتكبها حموه، وأنفذوا معه عسكراً، وقصدوا أن يشعثوا الروم، وقد يكون حتف المغرور فيما يروم.
فلما رأيناهم قد تجاوزوا في البغي غاية الحد، واتخذوا المملكة لعباً واتكلوا على الجد، واغتروا بعدم التفاتنا إليهم، فكان ذلك وبالاً عليهم، لأنا رفعنا التنازع بيننا وبين أقاربنا، وجعلنا قصد مهلكتهم من مطالبنا، خشينا أن جيوشنا تستأصل من المسلمين الأصاغر والأكابر، فأرسلنا إليهم رسلاً ينذرونهم ويحذرونهم ويذكرونهم، فحبسوا الرسل وقطعوا السبل، ثم حملهم الجهل والغرة على مقابلة جيوشنا ومقاتلتهم، وتمثلوا في أنفسهم الغلبة فأقدموا على مماثلتهم، وكانوا قد عاجلونا وأكثر عساكرنا لم يركبوا خيولهم ولم يشهدوا الحرب، لما لم يعلموا تعجيلهم، وما لقيهم غير تسعة آلاف كانوا قد ركبوا معنا، فلقونا بأجمعهم، وما قابلوا جمعنا، وكان من أمرهم ما كان، وتبين لذوي البصائر أن الله لم يرض منهم ذلك العدوان، فاجتمعت معنا أمراء دولتنا، وذكروا لنا أن هذه الطائفة من المماليك لهم أربعون سنة يقصدون الحصون فيخربونها، والمدن المستصعبة فيدمرونها، حتى إنهم خرّبوا من البلاد وقتلوا من العباد ما يعادل أهل مصر والشام، وأوضحوا في ذلك مقول الكلام، والمصلحة أننا نشن الغارة على الشام من غزة إلى الفرات، وينقل من فيها من الرعية فيعمر بها ما خربوا ليقابل الفاسد بمثله، فما قبلنا مشورتهم، وقلنا: نحن لم نرض فعلهم، فنصير بما فعلوا مثلهم، وأعرضنا عن ذلك، ورحمنا الرعية، وجعلنا مأمنهم أول نعمة الله عليهم، ومبدأ عطية، وإن كان قد وقع إلى أحد من عساكرنا بعض من استضعف فقد أمنه بانتزاعه من يد من استلبه، حتى يبلغ برجوعه إلى أهله إربه، فأرسلنا إلى أهل القلاع والجبال والأعراب والتركمان والعشائر كتب الأمان ليكونوا في أمان الله ورسوله وأماننا، وإذا خفت العساكر من هذه البلاد ردّ كل إلى وطنه، ورجع كل إلى سكنه.(1/365)
ولقصدنا مصلحة الرعايا وحمايتهم، رتبنا مولاي وجبجك وأبشغا وبغا وهلاجو وقرابغا وبهادر مقدمين على أربعين ألف فارس، وتركناهم على غزة والغور، وأمرنا الأمير سبا أن يقيم على حلب وحماة وحمص في عشرين ألف راكب، وأعطينا الأمير سيف الدين قفجق نيابة السلطنة بدمشق، ورتبنا الأمير سيف الدين بكتمر نائب السلطنة بحماة وحلب، والأمير فارس الدين إلبكي نائب السلطنة بصفد وطرابلس والسواحل، وجعلنا ملك الأمراء والوزراء ناصر الدين يحيى شادا على الدواوين في هذه الأقاليم كلها، فكل من أعطاه أحد من هؤلاء الأمراء أماناً فهو أماننا، وكل جندي أراد خدمتنا فقد أمرناهم أن يعينوا له إقطاعاً يليق به، وليثقوا بما أودعه الله لهم في قلوبنا من الرأفة وحسن النية، وليطيعوا هؤلاء الأمراء طاعة موفقة، ولا يتخلف أحد عن طاعتهم، فقد أخذنا عليهم العهود بالعدل والشفقة، وإن خالف أحد أو عصى فلا بد أن يذوق كأس الردى، والله تعالى يجمع قلوب رعايانا على الهوى، إن شاء الله تعالى.
الثالث من الفرامين: فرمان الأمير سيف الدين قفجق: بتقوى الله وميامين الملة المحمدية، فرمان السلطان محمود غازان: الحمد لله الذي جرّد لنصر هذه الدولة القاهرة سيفاً قاضياً، وانتضى لتأييدها من أوليائها قاضياً قاضياً، وارتضى لها من أصفيائها من أصبح الملك عنه راضياً، نحمده ونشكره على نعمته التي أورثتنا الممالك، وجمعت لنا ما بين النصر والفتح وما أشبه ذلك، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنيل النجاة وترفع الدرجات، ونشهد أن محمداً نبيه المرسل بالهدى والصدق، والمبعوث بدين الحق صلى الله عليه صلاة تنيله الوسيلة والفضيلة، وعلى آله خير آل وأشرف قبيلة، وبعد: فإن الله تعالى لما منّ علينا بالإيمان، وهدانا إلى أشرف الأديان، حمدناه وشكرناه على أنه أضاف إلى ملكنا للدنيا ملكنا للآخرة، وجلل علينا حلل الدين الفاخرة، ونذرنا أن نعم الرعيّة بعدلنا، ونشمل البرية بفضلنا، وأن لا نسمع بمظلوم إلا نصرناه، ولا نطلع على مقهور إلا أنقذناه، فلما اتصل بنا ما بمصر من المظالم، ومن فيها من غاضب وظالم، هاجرنا لنصر الله تعالى ونصرة الدين، وبادرنا لإنقاذ من فيها من المسلمين، وراسلناهم وأنذرنا، وكاتبناهم وزجرناهم، ووعظناهم فلم تنفع فيهم العظة، وأيقظناهم فلم تكن فيهم يقظة، فلقيناهم بتقوى الله تعالى، فكسرناهم وقطعنا آثارهم، وملّكنا الله تعالى أرضهم وديارهم، وتبعناهم إلى الرمل وحطمناهم كما حطم سليمان وجنوده وادي النمل، فلم ينج منهم إلا الفريد، ولا سلم إلا البريد، فلما استقر تملكنا البلاد وجب علينا حسن النظر في العباد، فأحضرنا الفكر فيمن نقلده الأمور، وأمعنا النظر فيمن نفوض إليه مصالح الجمهور، فاخترنا لها من يحفظ نظامها المستقيم، ويقيم ما أباد من قوامها القويم، يقول فيسمع مقاله، ويفعل فتقتفى أفعاله، يكون أمره من أمرنا، وحكمه من حكمنا، وطاعته من طاعتنا، ومحبته هي الطريق إلى محبتنا، فرأينا أن الجناب العالي الأوحدي الكفيلي المجاهدي الأميري الهمامي النظامي السيفي، ملك الأمراء في العالمين، ظهير الملوك والسلاطين قفجق، هو المخصوص بهذه الصفات الجليلة، والمحتوي على هذه المناقب الجميلة، وأن له حرمة المهاجرة إلى أبوابنا، ووسيلة القصد إلى ركابنا، فعرفنا له هذه الحرمة، وقابلناه بهذه النعمة، ورأينا أنه لهذا المنصب حفيظ قمين، وعلى ما استحفظ قوي أمين، وأنه يبلغنا الغرض من حفظ الرعايا، فأقمناه مقامنا في العدل والقضايا، فلذلك رسمنا أن نفوض إليه نيابة السلطنة الشريفة بالممالك الدمشقية والبعلبكية والحمصية والساحلية والجبلية والعجلونية والرحبية من العريش إلى سلمية، نيابة تامة عامة، كاملة شاملة، يؤتمر فيها بأمره، ويزدجر فيها بزجره، ويطاع في أوامره ونواهيه، ولا يخرج أحد عن حكمه ولا يعصيه، له الأمر التام والنظر العام، وحسن التدبير وجميل التأثير والإحسان الشامل لأهل البلاد، واستجلاب الغزاة والقوّاد، وتأمين من يطلب الأمان والطاعة والامتنان متفقاً في الاستخدام والتأمين مع ملك الامراء ناصر الدين، فإن اجتماع الآراء بركة، والهمم تؤثر إذا كانت مشتركة، وكل من أمّناه فإنه أماننا أجريناه على قلمهما ولسانهما.(1/366)
وقد أنعمنا عليه بالسيف، والسنجق الشريف، والكؤوس، والبائزة الذهب برأس السبع، ورسمنا له بألف فارس من المغل يركبون لركوبه وينزلون لنزوله، وليكونوا تحت حكمه رفعةً لقدره، وتنويهاً باسمه، وسبيل الأمراء والمقدمين وأمراء العربان والتركمان والأكراد والدواوين والصدور والأعيان والجمهور بأن يتحققوا أنه نائبنا في السلطنة الشريفة، فإن له هذه المنزلة المنيعة، وليطيعوه طاعة تزلفهم لديه وتقربهم إليه، ويحصل لهم بها رضاه عنهم وإقباله عليهم وقربهم منه، وليلزموا عنده الأدب في الخدمة كما يجب، وليكونوا معه في الطاعة والموافقة على ما يحبّ.
وعلى ملك الأمراء سيف الدين بتقوى الله في أحكامه، وخشيته في نقضه وإبرامه وتعظيم الشرع وحكامه، وتنفيذ قضية كل قاض على قول إمامه وليعتمد الجلوس للإنصاف والعدل، وأخذ حق المشروف من الأشراف، وليقم الحدود والقصاص على كل من وجبت عليه، وليكف الكفّ العادية عن كل من يتعدى إليه، وقد تقدم من الأمر بالآثار الجميلة في الشام المحروس ما تشوقت إليه الأعين وتاقت إليه النفوس، وقد رده الله سبحانه إليهم ردّاً جميلاً، فليكن بمصالح الدولة ومصالح الرعية كفيلاً، والله تعالى يجعل له إلى الخير سبيلاً ويوضح له إلى مراضى الله ومراضينا دليلاً، بمنّه ولطفه.
الرابع من الفرامين: فرمان الأمير سيف الدين بكتمر السلحدار.
بقوة الله وميامين الملة المحمدية، فرمان السلطان محمود غازان: الحمد لله الذي أيدنا بالنصر العزيز والفتح المبين، وأمدنا بملائكته المقربين، وجعلنا من جنده الغالبين، نجدة على الهداية إلى سبيل المهتدين، والإرشاد إلى إحياء الدين، حمداً يوجب المزيد من فضله كما وعد الحامدين، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنظمنا في سلك المخلصين، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله خاتم النبيين، أما بعد: فإن الله تعالى لما ملكنا البلاد وفوض إلينا النظر في أمور العباد، وجب علينا أن ننظر في مصالحهم، وأن نهتم بنصائحهم، وأن نقيم عليهم نائباً يتخلق بأخلاقنا في كرم السجايا، ويبلغنا الأغراض في مصالح الرعايا، فأعملنا الفكر فيمن نقلده الأمور، وأمعنا النظر فيمن نفوض إليه مصالح الجمهور، واخترنا لها من يحفظ نظامها المستقيم، ويقيم ما تأود من قوامها القويم، يقول فيسمع مقاله، ويفعل فتقتفى أفعاله، يكون أمره من أمرنا، وحكمه من حكمنا، وطاعته من طاعتنا، ومحبته هي الطريق إلى محبتنا، فرأينا أن الجناب العالي الأوحدي المؤيدي العضدي النصيري العالمي العادلي الذخري الكفيلي السيفي سيف الدين، ملك الأمراء في العالمين، ظهير الملوك والسلاطين بكتمر، هو المخصوص بهذه الصفات الجميلة، والمحتوي على هذه السمات الجليلة، وله حرمة المهاجرة على أبوابنا، ووسيلة الوصلة إلى ركابنا، فرعينا له هذه الحرمة، وقابلناها بهذه النعمة، ورأينا أنه لهذا المنصب حفيظ مكين، وخاطبنا لسان الاختيار " إن خير من استأجرت القويّ الأمين "، وعلمنا أنه يبلغ الغرض من صون الرعايا، ويقوم مقامنا بالعدل في القضايا، فلذلك رسمنا أن نفوض إليه نيابة السلطنة الشريفة بالممالك الحلبية، والحموية، وشيزر، وأنطاكية، وبغراس، وسائر الحصون، والأعمال الفراتية، وقلعة الروم، وبهنسي، وما أضيف إليها من الأعمال والثغور، نيابة تامة عامة، كاملة شاملة، يؤتمر فيها بأمره، ويزدجر فيها بزجره، ويطاع في أوامره ونواهيه، ولا يخرج أحد عن حكمه ولا يعصيه، له الأمر التام والنظر العام، وحسن التدبير وجميل التأثير، والإحسان الشامل إلى أهل البلاد، والإحسان الشامل إلى أهل البلاد، واستجلاب الولاء والوداد، وتأمين من يطلب الأمان، ويتلقى من يترامى إلى الطاعة والخدمة بالإمتنان، متفقاً في الإستخدام والتأمين مع ملك الأمراء والوزراء ناصر الدين، فإن اجتماع الآراء بركة.. إلى آخره مثل ما في آخر الفرمان الثالث.
ثم في آخر الكل: مؤرخ في ثالث عشر جمادى الآخرة سنة تسعة وتسعين وستمائة بمقام مرج.
ذكر قدوم السلطان مصر مع أمراء دولته
بعد الانهزام في الواقعة المذكورة:(1/367)
لما جرى ما جرى من انهزام الجيش السلطاني وصل السلطان الناصر إلى القاهرة وصحبته الأمير سيف الدين سّلار، والأمير ركن الدين الأستادار، والأمير سيف الدين بكتمر أمير جاندار، ومن يلوذ به، وطلعوا القلعة في العشر الأخير من ربيع الآخر.
وقال صاحب النزهة: وكان ذلك اليوم يوم الأربعاء بكرة النهار الثاني عشر من ربيع الآخر، وكان المصاف الكائن بينهم يوم الأربعاء الثامن والعشرين من ربيع الأول بين الصلوتين، وتواردت بعده الأمراء المتأخرون والأجناد المنقطعون، وآخر من حضر كان أمير سلاح والطباخي وتغريل الأيغاني وهم الذين كانوا سافروا على الساحل وحملوا العسكر، وحملوا من وجدوه من المنقطعين، ووقع عند وصولهم في قلوب الخلق توجع كثير وأسف وبكاء، وأقاموا المأتم على من فقد، وأقاموا أياماً في الحزن والنياح على من فقد من الأمراء إلى أن منعوا من جهة السلطنة.
وقال بيبرس في تاريخه: وصل الأمير سيف الدين بلبان السلحدار المنصوري المعروف بالطباخي نائب السلطنة بالمملكة الحلبية وصحبته العسكر الحلبي، وكان عبورهم على جانب الساحل من جهة طرابلس، وصادفوا المضيق، وقاسوا مشقة عظيمة من وعر الطريق، وخرج عليهم الجبلية ونهبوا منهم جماعة وقتلوا جماعة، ووصل الأمير جمال الدين أقوش الأفرم نائب السلطنة بالشام ومعه العسكر الدمشقي، والأمير سيف الدين كراي المنصوري نائب السلطنة بصفد وصحبته العسكر الصفدي، وحضر بعدهم الأمير زين الدين كتبغا المنصوري من صرخد، وعبر في طريقه بالكرك وترك بها عائلته وأولاده، وأقبلت العساكر السلطانية واجتمعوا بالقاهرة.
وقال صاحب النزهة: الأمير زين الدين كتبغا هذا قد كان تولى السلطنة وتلقّب بالملك العادل كما تقدم ذكره، ثم لما خلعوه ولّوه نيابة صرخد، فلما دخل العدو البلاد ووصل السلطان الناصر والأمراء إلى دمشق تكلموا في أمر حضوره، فلم يعجب الأمراء حضوره وسيروا إليه، فطلبوا مماليكه وعرّفوه أنهم أعفوه من الحضور ليحفظ قلعته، فسير إليهم جماعة من مماليكه، فحضروا المصافّ، فلما اتفق ما اتفق، نزل من صرخد وسافر على البريد إلى مصر، وكان يجلس مع الأمير سيف الدين سلار والأمير ركن الدين بيبرس ويأخذ المرملة ويرمّل على العلامات التي يكتبها نائب السلطان فكان سلار يسأله أن يعفيه من ذلك، وكان كتبغا يحلف أن لا بد أن يفعله، فكانت الناس إذا رأوا ذلك يتعجبون من صنع الله تعالى وعظمة قدرته أن سلار وغيره من الأمراء الكبار وأصحاب الوظائف كانوا في خدمة كتبغا وهو سلطان يتخدمون له ويتضرعون إليه في الأمور، ثم قلب الله ذلك حتى صار كتبغا في خدمة سلار الذي هو أمير وليس بسلطان، ويرمّل على ما يكتبه من العلامات، ويسأله في أشغال كثيرة سؤال مملوك مخدومه، وهذا من غرائب الزمان وعجائب الدهر، فسبحان المعزّ والمذلّ.
ومن العجائب أن كتبغا هذا عرضوا عليه جوشناً في أيام دولته وقد أعطى فيه بيبرس الجاشنكير أربعة آلاف درهم، فلما رآه كتبغا قال للدلال: كم جاب هذا الجوشن؟ قال: يا خوند أربعة آلاف درهم على بيبرس الجاشنكير. قال: وهذا يصلح لذاك الخرياطي؟ فأخذه ووزن ثمنه، ومرت الأيام إلى أن اتفق لكتبغا ما اتفق ونفي إلى الشام ووقعت الحوطة على جميع حواصله، ووجد ذلك الجوشن في حاصله، فأخذه لاجين، ثم انتقل بالعطاء من يد إلى يد حتى وقع في يد بيبرس فعرفه وأخذه، وجعله في حاصله إلى أن اتفق حضور كتبغا بعد هذه الوقعة، ولما اجتمع بالأمراء أراد بيبرس ينكي كتبغا، فأرسل من يحضر بالجوشن المذكور، فلما حضر به قام بيبرس ولبسه، والأمراء كلهم حاضرون وكتبغا فيهم، ثم نظر بيبرس إلى كتبغا وقال: يا أمير إش تقول؟ يصلح لي هذا الجوشن فألبسه أم لا؟ فنظر إليه كتبغا ولم يعلم ما في نفس بيبرس مما قصده من إنكائه. فقال: والله يا أمير هذا كأنه قد فصّل لك، ولو لبسه غيرك ما لاق به، فنظر بيبرس إلى الأمراء وتغامزوا، وعلم كل منهم ما قصده بيبرس فيما فعله، وهذا الذي اتفق لكتبغا لم يسمع في دولة من الدول، فسبحان الفعال لما يريد.
ذكر ما دبّر السلطان وأمراء دولته بعد قدومهم(1/368)
ولما استقر ركاب السلطان في القاهرة أمر للأمراء في أخذ الأهبة والتجهيز وتحصيل أصناف السلاح، فشرعوا في ذلك ولم يدعوا صانعاً إلا وأحضروه، وأمروا للوزير بجمع الأموال من سائر الجهات لأجل النفقات، وكان من أجلّ من قام في أمر النفقة الأمير سيف الدين سلار، والأمير سيف الدين بكتمر أمير جندار.
قال صاحب النزهة: حكى لي بعض مماليك بكتمر فقال: خرجت أنا والأمير ومعنا من مماليكه ستة أنفس من المصافّ يوم الهزيمة، وإذا أنا بشخص جندي اعترضنا وبيده رمح، وقال للأمير: إلى أين يا من يأكل ثلث ديار مصر، أما تستحي من الله وأنت هارب؟ قال: فالتفت إليه الأمير فقال: ويلك أنا وحدي إش أقدر أعمل؟ فتقدم أغير أنا وأنت. فقال: لأي شيء عملت لي لما قبضت ربع خبزك، فقال: أنا وأنت نأكل، وأنت تأكل ثلث إقطاعات مصر وأنا آكل خمسة آلاف درهم، فالآن تقول: تقدم للحرب، فأعرض عنه وتولى راجعاً وهو يقول: لا بيّض الله لك وجهاً ولا لخشداشيتك. قال المملوك المخبر لهذا: قصدت أن أرجع إليه أنا وبعض رفقتي فنقتله على إساءته الأدب على الأمير، فمنعنا الأمير وقال: خلّوه فإنه معذور والله لقد قلت للأمير سلار عدة مرات انظر في حال الأجناد، فما قبل كلامي.
قال صاحب النزهة: ثم حكى سيف الدين الطشلافي خشداش سلار قال: كنت مع سلار وخرجنا من المصاف وقد جرح فرسي وجرح لسلار فرساً تحته، ولما انهزمنا سقنا إلى أن وصلنا ديوسية فوق حمص في الليل، وكان أمامنا جماعة من الجند يتحدثون وفيهم واحد يقول لرفيقه: كيف كان خروجك وإش جرى لك؟ فقال: والله كنت أنا وفلان وفلان وسمى جماعة دخلنا في ضياع من ضياع حمص ووجدنا فيها جماعة يشترون شعيراً وكنا نحن ستة نفر، قد كنّا تحالفنا أن لا نحضر المصاف لأجل ما جرى علينا من أولئك الفعلة الترك بيبرس وسلار والبرجيّة، وذلك أنهم لا يذكرون الأجناد إلا بالسّبّ والشتيمة ويقولون: والله ما هم إلا سخرة، ولقد كتبنا قصة في غزّة وأعطيناهم لهم وقلنا: إنا قد خرجنا بلا نفقة متكلين على نفقة السلطان، وما معنا شيء ننفق، وألحفنا في الطلب، فكان جوابهم لنا: والله أنتم ما تنفقون شيئاً سواء تأخذون النفقة أو لا تأخذونها، ما عندنا شيء نعطيكم حتى نصير في دمشق، فلما حصلت النفقة في دمشق ألزمنا أنفسنا أن لا نحضر المصاف لأجل ما حصل لنا من الغبن،وهؤلاء يأكلون مصر كلها وقد تقاسموها ونحن كل واحد ما يصل خبزه ألفي درهم، ومع هذا ضاقت أعينهم علينا، وهذا الذي جرى عليهم بسبب الأجناد، فإن نياتهم للأجناد كانت سيئة، فقاتلهم الله تعالى وأحوجهم إليهم، وكان سلار يسمع ذلك ويبكي ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وقعنا والله في ألسنة الناس، هم معذورون. قال: وبقيت أشاغله حتى لا يسمع ما يقولونه، وهو لا يريد إلا سماع كلامهم، فيسمع ويتوجع لهم.
ذكر تصدّيهم للنفقات على العسكر
لما اجتمع الأمراء للمشاورة لأجل النفقة كان أول من تكلم فيها الأمير سلار والأمير بكتمر الجوكندار، وشرعوا في طلب الخيل التي في الدشار جميعها من البغال والأكاديش، وكتب لسائر الأقاليم بطلب العربان المستجيزة، وأخذ الخيل من عرب الصعيد والولاة، وفي طلب السيوف والرماح وغير ذلك من آلات الحرب، وسفروا البريدية لذلك.
وتحسنت أسعار الدواب، فالفرس الذي كان يساوي ثلاثمائة درهم بيع بألف، كذلك الجمال والبغال والهجن، واشترت الأجناد الخيل حتى من الطواحين، كذلك تحسنت أسعار سائر أصناف السلاح، والقرقل الذي كان يساوي مائة درهم بيع بسبعمائة، والبركستوان التي كانت تساوي مائتي درهم بيعت بألف، والجوشن الذي كان بخمسين بيع بمائتين وثلاثمائة، والخوذة التي كانت تساوي خمسين بيعت بمائتين وثلاثمائة وما توجد إلا نادراً، وتحسن أسعار سائر أصناف آلات الحرب، وأمروا أن يُضاف إلى كل واحد من الأمراء المقدمين الألوف عشرة من البطالين يقيم بهم طول السفر، ولكل واحد من أمراء الطبلخاناة خمسة أنفس، ولأمير العشرة شخصان، واستخدم الأمراء الذين لهم مقدرة جماعة برسم الغزاة في سبيل الله احتساباً، وكذلك كثير من الأغنياء، حتى استخدمت جماعة من نساء الأمراء اللائي فيهن الخير.
ثم إن السلطان فتح بيوت الأموال والذخائر وأنفق في الجيش نفقة ما سمع مثلها، فجعل الحلقة ثلاثة أقسام:(1/369)
القسم الأول: أعطى لكل واحد منهم ثمانين ديناراً.
والقسم الثاني: لكل واحد منهم خمسة وسبعين ديناراً.
والقسم الثالث: لكل واحد منهم خمسة وستين ديناراً.
وأعطى لكل واحد من أجناد الشام خمسة عشر إردباً من القمح والشعير والفول، وأعطى لأجناد الأمراء لكل واحد منهم خمسين ديناراً.
قال بيبرس في تاريخه: هذه النفقات حين أقبلت العساكر السلطانية واجتمعوا بالقاهرة فرقت عليهم، فأزالوا شعثهم، وجددوا عُددهم، ورخصت قيمة الذهب حتى بلغ الدينار إلى سبعة عشر درهماً، وقلت الدراهم حتى طاف الجند بالدنانير فلم يجدوا من يشتريها، وارتفعت أسعار العدد وآلات السلاح، وأثمان الخيل والبغال والجمال، ولم تمض على العساكر إلا أيام يسيرة حتى عادوا إلى أحسن صورة.
وقال صاحب نظم الجمان: ثم أنفق السلطان نفقة ثانية لكل جندي اثني عشر ديناراً، وهذه النفقة حين خروج السلطان والعساكر إلى الشام بعد مجيئه إلى القاهرة بعد الانهزام على ما نذكره عن قريب إن شاء الله.
قال صاحب النزهة: وكان قد قدم إلى القاهرة خلق كثير من سائر البلاد - عقيب انهزام السلطان - من الحلبيين والحمويين والدماشقة والحمصيين ومن أهل السواحل من الأجناس المختلفة حتى ضاقت بهم القاهرة ومصر، وسكنوا القرافة وجامع ابن طولون والحسينية، وكان من ألطاف الله تعالى على خلقه أنه رخّص أسعار سائر الحبوب والمأكول فكان الأردب من القمح قبل أن يسافر السلطان بستة عشر درهماً إلى ثمانية عشر، والأردب من الشعير بعشرة، والأردب من الفول بثمانية، ثم لما دخلت العساكر وفتح الأمراء والأجناد الشون باعوا الأردب من القمح بخمسة عشر وأربعة عشر وثلاثة عشر وباعوا الأردب من الشعير بعشرة وتسعة وثمانية، وباعوا الأردب من الفول بسبعة وثمانية، ولم تتحسن إلا أسعار آلات الحرب من أصناف السلاح وأسعار الدواب.(1/370)
وقال صاحب النزهة أيضاً: وكانت الأمراء اجتمعوا عند السلطان قبل النفقة وتشاوروا أن يؤخذ من سائر التجار والسّوقة وسائر من يتسبب بمصر والقاهرة عن كل رأس دينار، وطلبوا مجد الدين عيسى بن الخشاب نائب الحسبة وقالوا له: انزل وتحدث مع القضاة في ذلك وخذ لنا الفتوى منهم. فقال لهم مجد الدين: إن عندي فتوى بخط الشيخ عز الدين بن عبد السلام، لما خرج الملك المظفر قطز إلى ملتقى نائب هلاون وهو كتبغا نوين لما سيره إلى أخذ مصر، فتلاقى معه على عين جالوت كما ذكرناه مفصلاً، وأنه لم يجد من المال ما يكفي نفقة العساكر وقصدوا أخذ المال من العامة استفتوا الشيخ عز الدين في هذا فأفتى لهم بأخذ دينار من كل أحد، وهذه الفتوى عندي، فأحضرها عندهم وقال له الأمير سلار: اكتب صورة الاستفتاء وانزل بها إلى الشيخ تقي الدين محمد بن دقيق العيد قاضي القضاة حتى يكتب عليها بخطه، فكتب مجد الدين صورة الاستفتاء ونزل بها إلى قاضي القضاة ومعه شخص من الحجاب، وتحدثوا مع الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد وناولوه صورة الاستفتاء، فأخذها وتأمل ما فيها، ثم هز رأسه وقال يا فقيه: ما القصد في ذلك؟ فقال: يا سيدي القصد أن تكتب على هذا لتطيّب خواطر الناس بالعطاء. قال: فرماها من يده وقال: لا حاجة للفتوى، وما ثم مانع إذا أراد ولاة الأمر بشيء قبل الناس، فخرج المحتسب والحاجب من عنده على هذا، وجاءوا إلى الأمراء وعّرفوهم بذلك. فقال الأمير سلار: ما بقي يمكن الكلام في ما قصدناه دون أن نجتمع بالقاضي ونعرفه بالأمر ونسأله هل هذا جائز أم لا؟ فإذا امتنع أخرجنا له فتوى الشيخ عز الدين بن عبد السلام. ففي بكرة النهار انزلوا إليه، وسلموا عليه واسألوه الإجتماع بنا لالتماس بركته، فلما أصبحوا نزلوا إليه وبلّغوه الرسالة، فقام وركب وجاء عند الأمراء، والكل حاضرون عند الأمير سلار، فلما رأوه قاموا كلهم وتلقوه من أسفل الإيوان، وأخذ السلار بيمينه والأمير بيبرس بشماله إلى أن أجلساه بينهما، وبقيت الأمراء جلسوا بين يديه وتأنّسوا به حتى فتحوا له باب النفقات وقلة الحواصل في بيت المال وبينوا له الضرورات، ثم ذكروا له أمر الفتوى. فقال الشيخ: أيها الأمراء ما المانع لما تفعلوه إذا رسمتم بشيء ولا ثمة أحد يخالف. وقال الأمير سلار: يا سيدي نريد أن يكون معنا فتوى حتى لا نقع في أمر غير جائز، فيحصل علينا الإثم. فقال الشيخ: أما الفتوى فما يمكن أن أكتبها في مثل هذا. فقال له مجد الدين ابن الخشاب المحتسب: يا سيدي هذا خط الشيخ عز الدين بن عبد السلام كتبها في أيام الملك مظفر قطز، فنظر إليه وتبسم وقال: يا فقيه تعرف كيف أفتى الشيخ عز الدين في ذلك الوقت؟ قال: لا. فقال لما سألوه الفتوى، قال لهم: إن الفتوى في هذا لها شروط إن فعلتموها صحّت الفتوى. فقالوا: ما هي؟ فقال: أن يتقدم كل أمير منكم ويحلف بالله أنه لا يملك فضة ولا ذهباً ولا لزوجته وأولاده مصاغ ولا غيره، فلما سمعوا هذا من الشيخ قام كل منهم وأحضر من موجوده وموجود أهله من حليّ وغيره، ثم حلف كل واحد منهم أنه لا يملك غير ذلك، فعند ذلك كتب لهم هذه الفتوى، ويا فقيه أما أنا فإنه يبلغني أن كل أمير يجهّز بنته بأنواع اللؤلؤ والفصوص، ويعمل بكالى فضة لبيت الماء، وقباقيب مكللة بأصناف الجواهر، وتريد مني أن أكتب فتوى على ما لا يحل، ثم قام ناهضاً وخرج، وقد أفحم كل واحد منهم عن الجواب.
وكان الشيخ قصد بهذا تسميع الأمير سلار حيث جهز بنته لما زوجها من أمير موسى ابن أستاذه الملك الصالح، والأمير بيبرس حيث جهز ابنته لما زوجها من بُرلغى قريب السلطان، وكان كل منهما قد جهز بنته بما لا يوصف ولا يضبط.(1/371)
ولما انقضى الأمر على هذا الوجه وعلموا مقصود الشيخ اقتضى رأيهم أن ناصر الدين الشيخي متولي القاهرة ينزل ويستعلم حال التجار وأرباب الأموال وينظر في أمرهم، ويأخذ من كل واحد مقدار ما يطيقه على قدر حاله، ثم بعد أيام قال ناصر الدين المذكور للأمراء: نحن نجني من المدينة ونواحيها، ونسير إلى ولاة الأقاليم كل إقليم يرتب عليه شيء ونسميه مقرّر الخيالة، فقالت الأمراء: هذا فيه شنعة كبيرة، وفيه شطط وعنف، والمصلحة أن يكون المقرر على كل أردب غلة خرّوبة، وفي القماش والسلع يؤخذ نصف السمسرة، ومعنى ذلك أن المنادي إذا باع قطعة قماش أو غيرها فإن له فيها درهمين فيكون الدرهم من ذلك باسم السلطان والدرهم الآخر للمنادي، والأردب إذا طلع للطحان يكون عليه خروبة، ومهما تحصل من هاتين الجهتين يستخدم به البطالون، فقرّر ذلك على هذا الوجه واستخدم به نحو مائتي نفر، ثم بعد ذلك شرعوا في طلب التجار من القياسر والدكاكين، واعتبر حال كل واحد منهم من قدرته وسعة ماله، فمنهم من حمل مائتي دينار، ومنهم من حمل مائة وخمسين وأربعين وثلاثين وعشرين وعشرة، واقترضوا أيضاً من التجار الكبار مما يأتي عليهم من الحقوق التي كانت توجد منهم، فانجمع من ذلك أموال عظيمة وصار يحمل أوّلاً فأولا إلى أن جمعت في بيت المال، ثم بعد ذلك شرعوا في النفقات.
ذكر خروج السلطان إلى الصالحية
قال بيبرس في تاريخه: وفي العشر الأوائل من شهر رجب من هذه السنة تجهز السلطان، والأمير سيف الدين سلار، والأمير ركن الدين الأستاذ الدار، وخرجوا بالعساكر الإسلامية، ولما وصلوا إلى الصالحية أقام السلطان بها وتوجه الأميران بالعساكر لتدبير البلاد وإصلاح ما استحكم بها من الفساد، واستصحبوا نواب الممالك الشامية وعساكر البلاد الإسلامية ليرتبوا كلاً منهم في مكانه ويعمروا كل بلد شغر من سكانه، وينظروا في المصالح التي يجب النظر فيها، ويتلافوا الأحوال التي ينبغي تلافيها، ورحلوا في الثاني والعشرين من رجب الفرد، فلما وصلوا إلى منزلة سكرير راسوا الأمير سيف الدين قفجق والأمير سيف الدين بكتمر السلحدار والأمير فارس الدين ألبكي في الحضور إلى الخدمة والطاعة، والانتظام في سلك الجماعة وتوثقوا منهم وحضروا إليهم بمنزلة سكرير، فأرسل الأمراء الأمير بدر الدين بكتوت الجوكندار المعروف بالفتاح على خيل البريد إلى الدهليز المنصور مخبراً بمهاجرتهم وحسن إنابتهم، فابتهجت بذلك الخواطر وضربت البشائر.
وفي العاشر من شعبان: وصلوا إلى الوطاق، فركب السلطان لتلقيهم، وبالغ في إكرامهم والإحسان إليهم، ورحل عائداً إلى القلعة، فوصلها رابع عشرة، وأسكنهم في القلعة، وأجرى عليهم الإقامات، ووصلهم بأجزل الصلات.
وأما الأميران سيف الدين سلار وركن الدين أستاذ الدار فإنهما دخلا دمشق، ورتبا أحوالها. وسدّدا اختلالها، وأقرا الأمير جمال الدين أقوش الأفرم في وظيفته على قاعدته، وفوضا إلى الأمير زين الدين كتبغا نيابة السلطنة بحماة، وأولياه إحساناً، ورتبا الأمير سيف الدين قطلوبك بطرابلس والفتوحات والسواحل، عوضاً عن الأمير سيف الدين كرت المستشهد في الوقعة، وأرسلا الأمير شمس الدين قراسنقر الجوكندار إلى حلب ليباشر النيابة بها بحكم إعفاء الأمير سيف الدين بلبان الطباخي منها، وأعاد كل قوم إلى وظيفتهم، وطيبا خواطر نواب الحصون، وأحسنا إلى من اعتمد المناصحة منهم، ثم عادا إلى الديار المصرية، فوصلا في العشر الأول من شوال. وعند وصولهما عينا للأمير سيف الدين قفجق نيابة الشوبك، وللأمير سيف الدين بكتمر السلحدار إمرة بالديار المصرية وتقدمة ألف فارس من العساكر الإسلامية. وللأمير فارس الدين ألبكي طبلخاناة بدمشق، واستقر الأمير سيف الدين بلبان الطباخي بالديار المصرية بخبز الأمير سيف الدين كرتيه المتوفي إلى رحمة الله.(1/372)
وقال صاحب النزهة: ولما تكامل أمر النفقة نودي في الجند بالخروج، وأي من تخلف شنق، وكان قد حصل للجند تعب كثير بسبب نقص الذهب، فإن النفقات كلها كانت ذهباً، وكان صرف الدينار بخمسة وعشرين ونصفاً، فتناقص إلى أن أصرفوا الدينار بستة عشر حتى قام نائب السلطان في ذلك وطلب الوالي وأمره أن ينزل إلى الصيارف ويلزمهم بإخراج الدراهم وصرف كل دينار بعشرين، فنزل الوالي وهو ناصر الدين الشيخي وفعل ما أمره به حتى استقرت الأحوال.
ثم خرج السلطان والأمراء من مصر في العشر الأول من رجب من هذه السنة، فكان بين دخوله مصر وإقامته وبين خروجه ثاني مرة شهرين وثمانية وعشرين يوماً، فإنه دخل في الثاني عشر من ربيع الآخر وخرج في العشر الأول من رجب.
ولما دخل السلطان الصالحية وردت كتب قفجق وبكتكر السلحدار وألبكي بخروج التتار من دمشق وسائر الأماكن، وأنهم قاصدون الديار المصرية لخدمة السلطان ويستعيذون مما صدر عنهم مما قدّره الله عليهم. فلما وقعت الأمراء على ذلك اقتضى رأيهم أن يقيم السلطان على الصالحية إلى أن يشبع الصيد والتفرج، ثم إن شاء يدخل مصر وإن شاء يقيم هناك، وأن الأمراء يرحلون ويلاقون الأمراء الذين يحضرون، ثم رحلوا طالبين دمشق، فلما وصلوا إلى أرض عسقلان لاقوا قفجق ومن معه بين غزة وعسقلان. فلما تلاقوا ترجلوا كلهم وتعانقوا وتباكوا، ولم يزالوا حتى دخلوا دمشق، وكان يوم دخولهم نهاراً عظيماً وكان في مستهل شعبان، وخرجت سائر أهل دمشق ولاقوهم، وكان يوماً مشهوداً، ثم كتبوا كتباً لسائر النواب وأهل القلاع، وسيّروا بين يديه لسائر نواحي الشام وطرابلس وحماة وحمص وحلب، وللقلاع التي في بلاد حلب نحو كختا وكركر وبهسني وعينتاب وسائر النواحي، وجلبت أهل الضياع الخيرات من سائر النواحي، وجلبت التركمان الأغنام، وكان سعر الغلة قد تحسن فوصلت الغرارة من القمح إلى ثلاثمائة، ثم انحط قليلاً قليلاً إلى أن بقيت الغرارة بمائة وخمسين، وكان الرطل من الحم بدرهمين، وكثر الجلب، وطابت قلوبهم، ووقفت الدماشقة للأمراء واستغاثوا من جماعة منهم وافقوا المغل في أخذ أموال الناس والأذى، وكانوا يدخلون معهم بيوت السعداء والأكابر من أهل دمشق ويأخذون أموال لهم ويعاقبونهم، فرسم الأمراء لوالي المدينة ووالي البرّ أن يحصّلاهم وكانوا قد أخفوا أنفسهم، فأخرجوهم من المواضع التي اختفوا فيها، فلما أحضروهم أمروا بإشهارهم فكان منهم الشريف القمي، فرسم بتسميره وتسمير ابن العوفي، وكانا برددارية، ومنهم ابن خطليجا شنق وكان كاتب خطبه الولاية، وإبراهيم مؤذن بيت لهيا، ومنهم كجكن والحاج مندوه سمّرا، وقطع لسان ابن طاعن، ثم يده ورجله، وقطع يد الشجاع همام، ثم كحل وتوفي في ليلته، وقطعت أيدي جماعة وأرجلهم، وكحلت جماعة من المستصنعية بدار الولاية، ومن الحرافيش الذين عرفتهم الدماشقة وكانوا يؤذون الناس مع المغل ويأخذون أموالهم، ثم طلب الأمير سيف الدين أرجواش نائب القلعة وخلع عليه خلعة سنية، ورسم له بعشرة آلاف درهم إنعاماً عليه، ثم عادوا طالبين مصر، فوصلوا إليها في العشرين من شوال، وركب السلطان إلى ملاقاتهم، وصحبته الأمير سيف الدين قفجق وبكتمر السلحدار وفارس الدين ألبكي.
ذكر ما تجدّد في الشام من الحوادث
بتاريخ يوم الخميس النصف من شعبان أعيد القاضي بدر الدين بن جماعة إلى قضاء قضاة دمشق مع الخطابة بعد إمام الدين القزويني، ولبس الخلعة، ولبس معه في هذا اليوم أمين الدين العجمي خلعة الحسبة.
وفي الحادي والعشرين من شعبان: تولى قضاء الحنفية شمس الدين بن الصفي، عوضاً عن حسام الدين الرازي الذي فقد يوم المعركة، وباشر تاج الدين ابن الشيرازي نظر الدواوين.
وفيها: ألزموا الناس بتعليق الأسلحة على الدكاكين، وعملوا لكل سوق مقدّما.
وفيها: طلب المقدمون من قيس ويمن، وطلب منهم جميع ما اعتمده العربان من أصحابهم من الفساد وأخذ أموال الأجناد.(1/373)
واتفق نائب طرابلس مع نائب حماة أن يركب كل منهما بعسكره إلى جبل كسروان، ثم رسم بتجهيز عسكر الشام وعسكر صفد أيضاً مع هؤلاء، فاجتمعت العساكر وجاءوا إلى جبل كسروان ووجدوا أهله كلهم مستعدين للقتال، وكان هذا الجبل حصيناً قوياً لا يمكن صعود الفرس إليه إلا بعد مشقة كبيرة مع عدم مانع منه، والراجل أيضاً لا يمكن صعوده إلا إذا كان مخفا، وكان أهله من أعظم غلاة الروافض والزنادقة، وحصل لهم في هذه السنة من الأموال من جهة العسكر لما انهزموا ما لم يحصل لأحد قبلهم، فإنهم كانوا يأخذون الأمير بطلبه عندما يتوسط الجبل قبضاً باليد، ولم يكن أحد يقدر أن يمانع عن نفسه، فإذا تعسر عليهم أحد منهم أرموا عليه حجراً يقتله أو يهشمه، وذكر أنهم كانوا في هذا الجبل نحو اثني عشر ألف رجل كلهم يرمون بقسى قوية، ولما نزلت الأمراء عليهم رتبوا أمرهم، وأصبحوا في الزحف إليهم من كل جانب، ولم يقدروا على الثبات معهم إلى الظهر حتى رجعوا وتأخروا وخرجت من العسكر جماعة كثيرة، فلما عادوا إلى الوطاق استشاروا فيما بينهم، وقالوا القتال معهم صعب، والرجوع عنهم أصعب، ثم اتفقوا أن يكون الأمير سيف الدين أسندمر نائب طرابلس بعسكره ومضافيه من ناحية من الجبل، وأن يكون الأمير زين الدين كتبغا نائب حماة ونائب حمص معه من ناحية أخرى، وأن يكون سيف الدين بهادرآص، وكجك من ناحية أخرى، وأن يكون الأمير سيف الدين قطلوبك - الذي كان نائب طرابلس وعزل - من ناحية أخرى، وأن يكون نائب الشام من ناحية أخرى، واتفقوا أن تكون المواظبة على الزحف ستة أيام. وأهل الجبل أيضاً قد تعرفوا على نواحي الجبل وجعلوا جانباً من الجبل للنساء والصبيان يرمون الأحجار.
ولما ركبوا في ذلك اليوم وزحفوا ترجل الأمير أسندمر الكرجي، ثم أرسل إلى الأمراء وأخبرهم أنه ترجل وليترجل الأمراء أيضاً، فترجلوا كلهم في ذلك اليوم، وكان أول من صعد قدام العسكر أسندمر المذكور وكان شجاعاً مقداماً، ولما رأى أهل الجبل هؤلاء قد ترجلوا وقع في قلوبهم الرعب حتى ذكر عن بعضهم أنه قال: كنت أرمي على قوس أربعين رطلاً بالدمشقي، وفي هذا اليوم لحقتني رعدة في يدي ولم أقدر على الرمي، فأوقع الله فيهم الذلة والرعب وانهزموا، وقتلوا منهم جماعة كثيرة، فلما رأوا ذلك أرموا أسلحتهم وطلبوا الأمان، فكفوا عنهم القتل وأسروا منهم جماعة كثيرة ثم حضرت مشايخ الجبل وأكابرهم والتزموا أن يحضروا جميع ما أخذوه من العسكر ولا يخلون عندهم شيئاً يساوي درهماً ولا يخفونه، فرضي العسكر بذلك، وأقاموا هناك إلى أن أحضروا جميع ما أخذوه من القماش والسلاح والعدد من السيوف والرماح والقرقلات وغير ذلك، ثم حلفوهم على اعتقادهم أنهم لا يخفون شيئاً، وبعد ذلك قرروا عليهم مائتي ألف درهم، وأخذوا جماعة من مشايخهم وأكابرهم رهائن وأصحبوهم معهم إلى دمشق إلى أن يحضروا بالمال الذي قرر عليهم، ثم كتبوا للسلطان والأمراء بذلك.
ذكر الحرب الذي وقع بين الملك طقطا وبين نوغيه
وأولاده، ومقتل نوغيه:
وفيما عزم الملك طقطا بن منكوتمر على حرب نوغيه للأخذ بثأره وإطفاء جمرة ناره. واتفق أن جماعة من أمراء نوغيه الذين كان يعتمد عليهم ويعتمدون عليه فارقوه وانحازوا إلى طقطا، فقويت بهم عزيمته واشتدت بهم شكيمته وهم: ماجي وسدن، وأتراج، واقبغا. وطيطا، ومعهم ثلاثون ألف فارس، فعزم على المسير إليهم واتصل بهم أنه هاجم عليهم: وأنه قد جمع لهم من العساكر أعداداً، واستصحب من الجيوش أمداداً، وكان قد صحبته من الخانات ومقدّمي التمانات: مرتد طقطا، ومنجك، وجهركس، وينجي، وصلجوادي، ويبلق، وتلك تمر، وأقبغا، وألطنبغا، وقجماز، وإخوة الملك وهم: برلك، وصراي بغا، وتدان، والأمراء الذين انحازوا إليه من عسكر نوغيه: وقد ذكرناهم، وركب نوغيه وأولاده وهم: جكا، وتكا، وطراي وأمراؤه وعسكره وتأهبوا اللقاء.(1/374)
فلما صار بين العسكرين مسافة يوم واحد أرسل شخصاً يسمى بُغا ومعه مائة فارس ليكشفوا له الخبر، ويعلموا أين وصل طقطا ومن معه من العسكر، فسار لكشفهم، فلما أشرف عليهم أحاطوا به وقتلوا كل من معه وسلم هو بنفسه ورجع، فأخبر نوغيه بأنهم قد دهموه، فركب نوغيه وأولاده ومن عنده والتقى الجمعان على مكان يسمى كوكان تلك واقتتلوا: فكانت الكسرة على نوغيه وقت المغرب، وانهزمت بنوه وعساكره وتفرقوا، وثبت هو على ظهر فرسه، وقد طعن في السن وتغطت عيناه بشعر حواجبه وعلاه الكبر وضعفت به القدرة فوافاه روسيّ من عسكر طقطا فعرفه بنفسه وقال له: لا تقتلني فأنا نوغيه وأحملني إلى طقطا فإن لي به ولي اجتماعاً ولي معه حديث.
فلم يصغ الروسي إلى مقاله، بل خرّ رأسه لوقته وحاله، وأحضرها إلى الملك طقطا وقال له: هذه رأس نوغيه، فقال له: وما الذي أعلمك أنه نوغيه؟ قال: إنه عرّفني بنفسه واستوقفني عن قتله، فلم أصغ إليه وأجهزت عليه، فغضب طقطا لذلك غضباً شديداً وأمر بالروسيّ فقتل لكونه تعدى على مثل هذا الرجل الكبير الشأن ولم يُحضره إلى السلطان، وقال: إن السياسة توجب قتله حتى لا يعود أحد يفعل مثل ذلك، وعاد طقطا إلى مقامه وقد ظفر بمناه، وقرّت بنصرته على أعدائه عيناه.
وأما أولاد نوغيه ومن سلم من عسكرهم فإنهم استتروا بجنح الليل واختفوا في غمار عساكر طقطا، وتنادوا بشعارهم ليظنوا أنهم من أصحابهم، وكان شعارهم على ما حكاه من شهد الوقعة معهم: اتلَ بايق، فسلموا ليلتهم تلك، وساروا مغلّسين وعادوا راجعين، وكان الذي سُبي من نسوانهم وذراريهم الخلق الكثير والجمّ الغفير، وبيعوا بالأقطار، وجُلبوا إلى الأمصار، واشترى السلطان والأمراء منهم بالديار المصرية جماعة من الطوائف التي جلبها التجار، ودخلوا في دين الإسلام بالرغبة، وأقاموا الصلاة باجتهاد ومحبة، وصاروا من أنصار الملة وأعوان الأمة.
ذكر الخلف الواقع بين ولدي نوغيه
وهما جكا وتكا
وذلك أنهما لما عادا إلى مقامهما من الهزيمة، ورجع إليهما فلّ عسكرهما الذين سلموا من القتل والغنيمة، استقر جكا في تقدمة أبيه واستأثر بها دون أخيه، فأوغر صدره وغير ضميره، وأراد مفارقته واللحاق بطقطا هو وجماعته، ولله درّ القائل في مثل ذلك:
إذا أنت لم تُنصف أخاك وجدته ... على طرف الهجران إن كان يعقلُ
ويركب حدّ السيف من أن تضيمه ... إذا لم يكن عن شفرة السيف مرْحلُ
واتصل بأخيه نفاره منه، وما أزمع عليه من الخروج عنه، فخشي غائلة ذلك، فجهز قوماً - في الباطن - إليه، فقصدوه ليلة من الليالي وهو راقد في خركاته خلي البال، فأحاطوا بالخركاة من كل الجهات، وطعنوه بالرماح وهو في الداخل حتى ظنوا أنه مات، وتركوه وعادوا، وبه رمق الحياة، فثارت الضجة في خيامه، وقام الصراخ بين أهله وألزامه، وسارعوا بإعلام أخيه إلى مصرعه، فبادر إلى نحوه سائلاً عن أمره، وموهماً أنه لم يشعر بقاصدي غدره، ودخل إليه في صورة الزائر، وأظهر له أنه متألم الخاطر، وأخذ يسأله عن القوم الذين أتوه، ويستخبره هل عرفهم حين طعنوه؟ فقال له أخوه إن الذي قتلني لن تطول مدته بعدي، وسيفقد عقيب فقدي، وإنك لتعرفه أكثر مني، وهو الذي جاءني ليسأل عني، فعلم أخوه أنه إليه يشير وله نسب تلك الحيلة والتدبير، فخرج من عنده ودسّ إليه من تمم قتله جهراً، فلما شاع ذلك بين عساكره وقومه أنكروه على أخيه، وتغيرت قلوبهم، وتشوشت خواطرهم، وفارقه كثير منهم.
وفيها: اشتهر في آخر السنة قتل جماعة من المسلمين ممن أسروهم من المغل، وكان قتلهم سراً في ديار بكر.
وقال علاء الدين علي بن مظفر الوداعي:
ما لبست الصوفَ من عبث ... ولا الخلقات مجانا
إنه زيّ لمن هو من ... فقراء الشيخ غازانا
وقال أيضاً:
أما دمشق فأهلها قد أصبحوا ... بكرية جعلوا التستّر مذهبا
سّراً وجهراً أنفقوا أموالهم ... حتى تحلل كل شخص بالعبا
وقال أيضاً:
شيخ غازان ما خلا ... أحد من تجرده
وغدا الكل لابسي ... خرقة الفقر من يده
وفيها: حج بالناس الأمير.
ذكر من توفى فيها من الأعيان(1/375)
قاضي القضاة حسام الدين أبو الفضائل الحسن بن قاضي القضاة تاج الدين أبي المفاخر أحمد بن الحسن بن أنو شروان الرازي الحنفي.
ولي قضاء ملطية مدة عشرين سنة، ثم قدم من الروم مع الملك الظاهر سنة خمس وسبعين وستمائة إلى دمشق، فتولى القضاء بها مدة، ثم انتقل إلى مصر مدة، وتولى ابنه جلال الدين بالشام، ثم سار إلى الشام، فعاد إلى الحكم بدمشق، ثم لما خرج مع الجيش إلى لقاء غازان بوادي الخزندار عند سلمية، ففقد بين الصفوف، ولم يدر ما خبره وقد قارب السبعين. وقيل: إن مولده سنة إحدى وثلاثين وستمائة.
وكان من سادات العلماء الأكابر الرؤساء الكرماء النبلاء، محبوباً إلى جميع الناس، لم يخيب قصد من قصده، ويستقّل الكثير في حق من سأله، ورزق سعادة في ولايته بالشام ومصر والروم، ولم يزل متقدماً عند الملوك.
وكان له نظم حسن، وكان مولده باقسراي من بلاد الروم في المحرم من السنة التي ذكرناها، وكان فقده يوم الأربعاء السابع والعشرين من ربيع الأول منها، وهو يوم الواقعة، وولى قضاء الحنفية بعده شمس الدين بن الحريري.
ويقال إن الجبلية أسروه وباعوه للفرنج، ولما وصل إلى قبرص جعل نفسه طبيباً، وكان صاحب قبرص مريضاً فداواه فتعافى، وكان قد وعد له أنه إذا تعافى يطلقه ويبعثه إلى بلاد المسلمين، فلما تعافى الملك مرض حسام الدين مرض الإسهال فأقام أياماً قلائل ومات إلى رحمة الله تعالى.
قاضي القضاة الإمام العالم إمام الدين أبو المعالي عمر بن القاضي سعد الدين أبي القاسم عبد الرحمن بن الشيخ إمام الدين أبي حفص عمر بن أحمد بن محمد القزويني الشافعي.
قدم هو وأخوه جلال الدين فقررا في تداريس، ثم انتزع إمام الدين قضاء القضاة بدمشق من يد بدر الدين بن جماعة، كما تقدم في السنة السابعة والتسعين، وناب أخوه عنه، وكان جميل الأخلاق كثير الإحسان قليل الأذى، ولما أزف قدوم التتر سافر إلى مصر، فلما وصلها لم يقم بها سوى أسبوع وتوفي، ودفن بالقرب من قبة الشافعي رضي الله عنه عن ست وأربعين سنة، وعاد المنصب إلى ابن جماعة المذكور مضافاً إلى الخطابة كما كان، ودرّس أخوه بعده بالأمينية.
قلت: وكانت وفاته يوم الثلاثاء الخامس عشر من ربيع الآخر، وحضر جنازته خلق كثير وترحموا عليه لغربته، ومولده في سنة ثلاث وخمسين وستمائة.
المسند الرحلة المعمر شرف الدين أبو الفضل أحمد بن هبة الله بن أحمد ابن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين بن عساكر الدمشقي.
ولد سنة أربع عشرة وستمائة، وسمع الكثير وروى، وكانت وفاته في الخامس والعشرين من جمادى الأولى منها عن خمس وثمانين سنة.
الخطيب الإمام العالم الرئيس موفق الدين أبو المعالي محمد بن محمد بن الفضل البهراني القضاعي الحموي، خطيبها، ثم خطب بدمشق عوضاً عن الفاروثي، ودرس بالغزالية، ثم عزل بابن جماعة وعاد إلى بلده، وقدم دمشق عام قازان، فمات بها فيها.
الصدر شمس الدين محمد بن سليمان بن حمايل بن علي المقدمي المعروف بابن غانم.
كان من أعيان الناس وأكثرهم مروءة، ودرس بالعصرونية وجاوز الثمانين، وكان من الكتاب المشاهير المشكورين، وهو والد الصدر علاء الدين بن غانم، ومولده بالقدس الشريف سنة خمس عشرة وستمائة، ومات في السادس عشر من شعبان، وكان قد حج هو ووالده فمات والده بمكة شرفها الله ودفن بالزاهر، وكان حجازي الأصل، وإنما مولده ببغداد بمحلة الجعافرة، وكان جعفرياً، وكان من الأجواد الكرام، رحمه الله.
الشيخ جمال الدين أبو محمد عبد الرحيم بن عمر بن عثمان الموصلي الباجربقي الشافعي.
أقام مدة بالموصل يشغل ويفتي، ثم قدم دمشق وأقام بها مدة كذلك، ودرس بالفتحية والدولعية، وناب في الخطابة، ودرس بالغزالية نيابة عن الشمس الأيكي، وكان قليل الكلام، مجموعاً عن الناس، وهو والد الشمس محمد المنسوب إلى الزندقة والإنحلال، وله أتباع ينسبون إلى ما ينسب إليه، ويعكفون على ما كان يعكف عليه.
وقد حدث جمال الدين المذكور بجامع الأصول عن بعض أصحاب مصنف ابن الأثير، وله نظم ونثر حسن، ومات بالمدرسة الفتحية بدمشق، ودفن بمقابر باب الصغير.
القاضي عماد الدين إسماعيل بن تاج الدين بن الأثير الحلبي، كاتب السر بمصر.
عدم في وقعة قازان في هذه السنة.(1/376)
القاضي علاء الدين أحمد بن عبد الوهاب بن خلف بن محمود بن بدر العلامي المعروف بابن بنت الأعزّ.
كان فصيح العبارة، جميل الصورة، لطيف المزاح، فيه مكارم أخلاق وإحسان، تولى الحسبة بالقاهرة والأحباس، ودرس بالمدرسة الكهارية والقطبية، وحج ودخل اليمن، وقدم دمشق متولياً نظر ديوان الأمير حسام الدين طرنطاي الخزندار المنصوري، ودرس بالظاهرية، والقيمرية، ولما تولى علم الدين الشجاعي نيابة السلطنة بدمشق باشر عنده مدة يسيرة، ثم أنه طلب منه دستوراً للسفر إلى مصر خوفاً منه، فأذن له فسافر، وأقام بالقاهرة إلى أن مات في ربيع الآخر منها.
وله نظم حسن، فمن ذلك قوله:
إن أومض البرق في ليل بذي سلم ... فإنه ثغر سلمى لاح في الظلم
وإن سرت نسمة في الكون عابقة ... فإنها نسمة من ربة الخيم
تنام عين التي اهوى وما علمت ... بأن عيني طول الليل لم تنم
إذا هدى الليل يطويني وينشرني ... شوق أبيت به في غاية الالم
وترسل الدمع أجفاني محاكية ... لفيض وبل من الوسمي منسجم
لله عيش مضى في سفح كاظمة ... قد مر حلواً مرور الطيف في الحلم
أيام لا نكد فيها نشاهده ... ولت بغير الرضى مني ولم تدم
وحكى الشيخ أثير الدين أبو حيان قال: استدعاني القاضي علاء الدين بن بنت الأعزّ يوماً لمأدبة صنعها لنا بالروضة تجاه مصر، وهو مكان يحفه الماء من جميع جوانبه، وحضر معنا القاضي فخر الدين بن صدر الدين المارداني، فرأينا شاباً مليحاً يسبح، ثم يخرج من الماء فيتلطخ بالتراب، فقال لنا القاضي علاء الدين: لينظم كل منا في هذا الشاب شيئاً، فقام كل منا إلى ناحية وانفرد، فنظمنا نظماً قريب الاتفاق، ولم يطلع أحد منا على ما نظم رفيقه، فكان الذي نظمه القاضي علاء الدين:
ومترب لولا التراب بجسمه ... لم تبصر الأبصار منه منظرا
فكأنه بدر عليه سحابةٌ ... والترب ليل من سناه أقمرا
والذي نظمه القاضي فخر الدين:
ومترب تربت يدا من حازه ... كقضيب تبر ضمخوه بعنبر
وكأن طرته ونور جبينه ... ليل أطلّ على صباح أنور
والذي نظمه الشيخ أثير الدين رحمه الله:
ومترب قد ظن أن جماله ... سيصونه منّا بترب أعفر
فغدا يضمخه فزاد ملاحةٌ ... أو قد حوى ليلاً بصبح أنور
وكأنما الجسم الصقيل وتربه ... كافورة لطخت بمسك أذفر
وقال الشيخ أثير الدين: وحضرنا معه مرة أخرى بالروضة، ومعنا شهاب الدين العزازي، فأنشدنا لنفسه:
تعطلت فابيضت دواتي لحزنها ... ومذ قلّ مالي قلّ منها مدادها
وللناس مسودّ الثياب حدادهم ... ولكن مبيض الدواة حدادها
ولعلاء الدين دو بيت:
للسمر معان لا ترى في البيض ... تالله لقد نصحت في تحريضي
ما الشهد إذا طعمته كاللبن ... يكفي فطنا محاسن التعريض
وله:
وقالوا بالعذار تسل عنه ... وما انا عن غزال الحسن سال
وإن أبدت لنا خداه مسكاً ... فإن المسك بعض دم الغزال
وله في دمشق:
إني أدل على دمشق وطيبها ... من حسن وصفي بالدليل القاطع
جمعت جميع محاسن في غيرها ... والفرق بينهما بنفس الجامع
وقال في حماة:
حماة غزالة البلدان أضحت لها ... من نهرها العاصي عيون
وقلعتها لها جيد بديع ... ومن سود التلول لها قرون
مات علاء الدين في هذه السنة بالقاهرة كما ذكرناه.
الشيخ الإمام الحافظ الزاهد البارع الورع بقية السلف شهاب الدين أبو العباس أحمد بن فرج بن أحمد بن محمد اللخمي الإشبيلي.
مات داخل دمشق بسكنه بتربة أم الصالح، وصلّي عليه في الجامع، ودفن بمقابر الصوفية.
وله نظم حسن، فمن ذلك قوله:
غرامي صحيح والرّجا فيك معضل ... وحزني ودمعي مرسل ومسلسل
وصبري عنكم يشهد القلب أنه ... ضعيف ومتروك وذلّي أجمل
ولا حسن إلا سماع حديثكم ... مشافهة تملي علّي فأنقل(1/377)
وأمري موقوف عليك وليس لي ... على أحد إلاّ عليك معول
ولو كان مرفوعا إليك لكنت لي ... على رغم عذّالي ترقّ وتعدل
وعذل عذول منكر لا أسيغه ... وزور وتدليس يردّ ويهمل
أقضي زماني فيك متّصل الأسى ... ومنقطعا عما به أتوصل
وها أنا في أكفان هجرك مدرج ... يكّلفني مالا أطيق فأحمل
وأجريت دمعي بالدماء مدبجاً ... وما هي إلا مهجتي تتحلّل
فمتفق جفني وسهدي وعبرتي ... ومفترق صبري وقلبي مبلبل
ومؤتلف وجدي وشجوي ولوعتي ... ومختلف حظي وما منك آمل
خذ الوجد عني مرسلاً ومعنعناً ... فغيري لموضوع الهوى يتحيل
غريب يقاصي البعد عنك وماله ... وحقك من دار الفنى متحول
فرفقاً بمقطوع الوسائل ماله ... إليك سبيل لا ولا عنك معدل
فلا زلت في عزّ منيع ورفعة ... ولا زلت تعلو بالتحني فأعزل
أروّي بسعدى والرباب وزينب ... وأنت الذي تعني وأنت المؤمل
فخذ أوّلاً من آخر ثم أولاً من ... النصف منه فهو فيه مكمل
أبرّ إذا أقسمت إني بحبّه ... أهيم وقلبي بالصباية يشعل
مولده في سنة خمس وعشرين وستمائة، وسمع الكثير، توفي في التاسع من جمادى الأولى منها.
الشيخ الإمام العالم المفتي شمس الدين محمد بن الشيخ فخر الدين عبد الرحمن ابن يوسف البعلبكي الحنبلي.
كان من فضلاء الحنابلة في الفقه والأصول والنحو والحديث والأدب، درس وأعاد وأفتى، وأفاد وروى عن ابن عبد الدايم، وشيخ الشيوخ الحموي، وخطيب مردا، واليونيني، وغيرهم، مات في تاسع رمضان، ودفن بمقابر باب توما.
وله نظم حسن فمنه قوله:
الحسن أحمع جرء من محيّا ... ريم تبارك من بالحسن حلاّه
حلو اللي غنج في طرفه دعج ... كأنما كحلت بالسحر عيناه
مهفّهف خنث الإعطاف ريقته ... من الرحيق ومن در ثناياه
داجي الغداير لا يحنو على دنف ... تذري الدموع على خديه عيناه
الغصن قامته والمسك نكهته ... والورد والندّ خداه وريّاه
بدر بدا وظلام الشعر غيهبه ... ظبي غدا وفؤاد الصبّ مرعاه
نهى رقادي فتور في لواحظه ... والخصر للجسم بالأسقام أعلاه
إن لم أنل منه وصلاً حبذا شرف ... بمهجتي إن غدت من بعض قتلاه
لله كم من صبابات حوت كبدي ... ومن غرام بقلبي ظلّ مثواه
جار الحبيب على قلبي بجفوته ... ولست أنسى طوال الدهر ذكراه
وشى الوشاة بأني قد كلفت به ... وكيف لا وفؤادي بعض أسراه
بالروح أفديه من ظبي تملّكني ... شفاء داء بقلبي قبلتي فاه
رمى فؤادي بسهم من لواحظه ... عمداً فلم يحظ ذاك السهم مرماه
أمات قلبي بالهجران منه ولو ... أراد بالوصل بعد الموت أحياه
نهى العواذل عن حبي له سفهاً ... ولو رأوا حسنه يوماً لما فاهو
يا سائلي ما اسم من أهوى لنعرفه ... اجمع أوائل أبياتي لتلقاه
قلت: اسمه أحمد بن الجوبراني، كان صاحب جمال عظيم متفق على حسنه عند أهل دمشق، وكان محبوب الشيخ، وكل من في دمشق من فضلاء عصره نظموا فيه، وتفاخروا بعشقه، وعند طلوع وقته عشقته زوجة الحميدي وإلى نوى - وكانت قرابته - وتزوجت به، وأعطت له مالاً كثيراً، فبقي معها قليلاً ومات، وماتت بعده.
ومن نظم شمس الدين المذكور دو بيت:
أصبحت بسحر المقلة الكحلا ... صبّاً دنفاً مقلقل الإحشاء
ما يطفىء ناراً أضرمت في كبدي ... إلا لثمي للشفة اللعساء
وقال شمس الدين المذكور أنشدني بدر الدين الصانع لنفسه:
لي في القدود وفي لثم الخدود ... وفي ضم النهود لبانات وأوطار(1/378)
فإن توافق فذاك السؤال يا أملي ... وإلا فدعني وما أهوى وأختار
وقال شمس الدين فعملت في المعنى:
لي في النحور وفي رشف الثغور ... وفي ضم الخصور غرام ينقرض
فإن توافق فذاك السؤال يا أملي ... وإلاّ فلاتك ممّن راح يعترض
قال: وأنشدت للشيخ عز الدين البابصري خازن كتب الخانقاة الشميصاطيّة:
قي صدرها كوكبا نور كأنهما ... ركنان لم يدنيا من لمس مستلم
صانتها في ستور من غلائلها ... فنحن في الحل والركنان في الحرم
وقال فأنشدني لنفسه:
أهوى الغزال الذي قد نمّ عارضه ... كأنه عنبر من فوق كافور
ولا أحبّ فتاة الحيّ قط ... ولو كانت من الآنسات الخرد الحور
ولشمس الدين أيضاً:
عراني الهوى الممدود من بعد ما هوى ... بجسمي الهوى المقصور حتى أذابه
وبعضهما أعيى الأنام علاجه ... فكيف بمن هذا وذا قد أصابه
وقال أيضاً:
أأحبابنا إن رمتم في مسيركم ... مياهاً ترويكم فها فيض أدمعي
وإن شئتم ناراً تأجّج وقدها ... فما قدّ آثار البين ما بين أضلعي
وله دو بيت:
ما أصرف عن جنابكم آمالي ... عمداً وأرى التخفيف من أثقالي
إلا وتردّى إليكم طمعي ... في وصلكم وعلمكم بالحال
الشيخ الفاضل الأصيل شمس الدين أحمد بن شرف الدين مفضل بن عيسى ابن إبراهيم بن مطروح، الكاتب الضرير، وهو ابن أخي الصاحب جمال الدين توفي بدمشق، ودفن بمقابر باب توما، كان كاتباً جيداً، وأضرّ في آخر عمره، وكان شاعراً فاضلاً، فمن شعره:
رويد الهوى كم ذا يراق دمي عمداً ... ويغني وجودي في أهيل الحمى وجدا
ولي بالكثيب الفرد أنّه وامق ... تذيب الحديد الصلب والحجر الصلدا
وكم وقفة لي بالغوير ورامة ... أبثّ غراماً جاوز الوصف والحدّا
وها جلدي عن حمل ما أنا واجد ... وجار الهوى ظلماً وكم نالني جهداً
ألا في سبيل الحب مهجة مغرم ... قضى نحبه شوقاً وما بلغ القصدا
الشيخ الإمام بهاء الدين أيوب بن أبي بكر بن إبراهيم بن النحاس، الحنفي الحلبي.
مات بدمشق في شوال، ودفن بمقابر الصوفية، روى عن جماعة من البغداديين وغيرهم، وكان مدرساً بالمدرسة القليجية مدة طويلة، ومولده في سنة سبع عشرة وستمائة.
الشيخ الإمام العالم العلامة بهاء الدين محمد بن يوسف بن محمد البرزالي.
مات بدمشق ودفن بمقابر الباب الشرقي إلى جانب قبر والده بالقرب من أُبيّ بن كعب رضي الله عنه، وهو والد الشيخ علم الدين البرزالي، وكانت له إجازات من بغداد وديار مصر والشام، وكان من أكثر الناس مروءة وديانة وصيانة، وكان عفيفاً نزهاً، ولم يكتب في مكتوب فيه ريبة أو منازعة.
الشيخ الإمام العالم الفاضل جمال الدين عمر بن إبراهيم بن الحسين بن سلامة العقيمي الرسعني.
مات بدمشق ودفن بسفح قاسيون، ومولده برأس العين سنة ست وستمائة، وكان فاضلاً جيد الشعر، حسن النثر، جمع مقامات كثيرة في فنون شتّى.
ومن نظمه قوله:
يا سائراً نحو الأثيل مبكراً ... عرج على أكتاف جلق مسحرا
واحبس بوادي النيربين وبانه ... يستحل أنفاس النسيم معطرا
وألمح قلائد زهرها منظومة ... والكلّ ينثر من نداه جوهرا
وأجنح إلى الروض الأريض لتس ... مع لحن الغريض عن الهزار محرّرا
حرم إذا اعتلّ النسيم بأرضه ... عبثت نعائمه بمسك أذفرا
ما ناوحت ريح الشمال رياضه ... إلا حسبناها الشمول المسكرا
أو صافحت ريح الجنوب جناحه ... إلا وجدناها كل ترب عنبرا
وقال:
سقى الله أكناف الجزيرة ريّها ... وحق لأرض تنبت الود أن تسقى
أناس متى استمسكت من حبل ودّهم ... بأيسره استمسكت بالعروة الوثقى
وقال:
يا صبر لا تفعل فصبرك أجمل ... ودع العذول بناره يتململ(1/379)
ضنّوا وما أنا بالضنين على هوى ... أنت الأخيرية وأنت الأوّل
وكلت طرفي بالسهاد وبالسهى ... فإلى خيالك والكرا أتوسل
فعلام طرفك طارق في فترة ... تدعو القلوب له وصدعك مرسل
وإلام تهجر مغرماً هجر الكرى ... حتى لقد جارت عليه العذّل
وأعجب لعذري في عذارك إنّني ... أدعى به المجنون وهو مسلسل
وقال:
شبّهت بدّر سمائها لما بدت ... منه الثريّا في قبص سندس
ملكاً مهيباً قاعداً في روضة ... حيّاه بعض الزائرين بنرجس
وقال:
أغضن النقا ابن القدود المواديس ... وابن الظبا النافرات الأوانس
لقد درست أطلالهنّ وهل ترى ... يهيج الشجي إلا الطلول الدّوارس
وعندي دواعي جمّة لفراقهم ... على أنّني من ذلك الوصل آيس
مهاة كناس فارقته فمالها ... شبيه سوى ما مثلته الكنائس
فجفني على آثارهم مطلق دمي ... ودمعي وقلبي للصّبابة حائس
أبي بيننا إلاّ جماعاً وقسوة ... تذوب لملقاها نفوس نفائس
بهاء الدين يوسف بن الشيخ تاج الدين موسى بن محمد بن مسعود المراغي، عرف بابن الحيوان.
مات بالمارستان النوري، ودفن عند والده بمقبرة باب الصغير، وكان شاباً صالحاً ذكياً، فاضلاً، له اشتغال بالعلوم وله شعر فمنه قوله:
أناشدكم بالله ألاّ وقفتم ... ليقضي أوطاراً من الوصل مغرم
أخو صبوة ما زال يكتم حبّه ... فأظهر قاني الدمع ما كان يكتم
يقولون لي ما العشق والوجد ... والأسى وما البعد حتى يشتكيه المتيّم
فوا حسرتا وأطول حزني ولوعتي ... يهتول أمر الحبّ من ليس يعلم
الشيخ الصالح الواعظ سيدي أبو محمد عبد الله بن محمد المرجاني، شيخ المغرب وواعظه بتونس.
كان عالماً متفنّناً مذكراً، حلو العبارة، كبير القدر، له شهرة في الآفاق، قدم الإسكندرية ومصر ووعظ بهما، وكان عارفاً بالحديث، وله قدم في التصوف، وكان ربما فسّر في الآية الواحدة ثلاثة أشهر، مات في هذه السنة وخلّف كتباً كثيرة، وعدة أولاد، رحمه الله.
الشيخ الإمام البارع العلامة نجم الدين أحمد بن محسّن بن مليّ الأنصاري البعلبكي، الشافعي الأصولي المتكلم.
مولده سنة سبع عشرة وستمائة ببعلبك، سمع من البهاء عبد الرحمن وابن الزبيدي وابن رواحة، واشتغل بدمشق، وأخذ العربية عن ابن الحاجب، والفقه عن ابن عبد السلام، والحديث عن زكي الدين المنذري، والأصول عن جماعة، وقرأ القانون وكتباً كثيرة في الطب، والأصول، واشتغل علي عز الدين بن مقبل في مذهب الشيعة، ودرس، وأفتى، وناظر، وتخرج به جماعة، وكان متبحراً في علوم كثيرة، فصيح العبارة، ذكياً متيقظاً، مقداماً شجاعاً، إماماً في مذهب الشيعة، يقتدى به، مات فيها بقرية بخعون من جبل الظنين.
الشيخ الإمام العالم مفتي المسلمين شمس الدين محمد بن الشيخ الإمام العلامة شيخ المذاهب قاضي القضاة صدر الين بن أبي العزّ بن وهيب الحنفي.
كان فقيهاً كبيراً في مذهبه، أفتى مدة أربعة وثلاثين سنة، ودرّس بالعذراوية، والخاتونية البرانية، والنورية، وكان لا يتردد إلى أحد ولا يخالط الناس، مات في النورية في السادس عشر من ذي الحجة، ناب في القضاء عن والده، وكان من خيار الناس.
الشيخ العارف سعد الدين محمد بن أحمد الكاشاني الفرغاني، شيخ خانقاة الطاحون.
مات في السابع عشر من ذي الحجة منها، ودفن في مقابر الصوفية، كان شيخاً فاضلاً عارفاً بكلام الشيخ محيي الدين بن العربي، وشرح قصيدة ابن الفارض.
الشيخ الإمام العارف بدر الدين الحسن بن الإمام أبي الحسن على بن أمير المؤمنين أبي الحجاج يوسف بن هود المرسي.(1/380)
توفي عشية الإثنين السادس والعشرين من شعبان منها بدمشق، ودفن بقاسيون، ومولده سنة ثلاث وثلاثين وستمائة بمرسية، وكان والده متوليها نيابة عن أخيه أمير المؤمنين المتوكل على الله محمد بن يوسف بن هود صاحب الأندلس. وكان يلبس الصوف، وعلى رأسه قبع صوف عسلي، وترك بلاده وهاجر إلى دمشق، وأقام بالخانقاة الشميصاتية وبالأندلسية وبخانقاة الطاحون.
وقال الذهبي: كان ابن هود قد حصل له زهد وفراغ عن الدنيا وسكرة عن ذاته، وغفلة عن نفسه، فسافر وترك الحشمة، وصحب ابن سبعين واشتغل عليه بعلوم الأوائل، وحج وقدم اليمن، ثم رحل إلى الشام، وكان فيه انقباض عن الناس، حمل مرة إلى والي البلد وهو سكران، أخذوه من حارة اليهود خبثاً منهما ليقصوا منه بذلك، وكان أسلم على يده جماعة، وكان يمشي في الجامع باهت الطرف، ذاهل العقل، وهو رافع أصبعه السبابة كالمتشهد.
ومن شعره:
فؤادي من محبوب قلبي لا يخلو ... وسري على فكري محاسنه يجلو
ألا يا حبيب القلب يا من بذكره ... على ظاهري من باطني شاهد عدل
تجليت لي مني عليّ فأصبحت ... صفاتي تنادي: ما لمحبوبنا مثل
أروّي بذكر الجزع عنه وبانة ... فلا البان مطلوبي ولا قصدي الوبل
وأذكر سعدي في حديثي مغالطاً ... بليلي ولا ليلي مرادي ولا جمل
ولم أر في العشاق مثلي لأنني ... تلذ لي البلوى ويحلو لي العذل
مجانين إلا أنّ ذلّ جنونهم ... عزيز على أبوابهم يسجد العقل
ومن شعره:
خضت الدجنة حتى لاح لي قبس ... وبان بان الحمى من ذلك القبس
فقلت للقلب هذا الربع ربعهم ... وقلت للسمع لا تخلو من الحرس
وقلت للعين غضي عن محاسنه ... وقلت للنطق هذا موضع الحرس
وله موشحه يصف دمشق:
أشاقك البرق ساري ... أم راعك الطيف زائر
فما لدمعك جاري ... وما لقلبك طائر
لا ذا ولا ذاك ذكراً ... مني أثارت شجونا
أيام شربي يرعى ... روض الأماني أمينا
معنى به كل معنا ... يفيد دنيا ودينا
فمن خليع عذاري ... له من الحسن عاذر
ومن حليف وقار ... ذاكي الفؤاد وذاكر
حيّاك ربع الأحبّة ... دمع الحيا المستهل
وأطلع السعد شهبه ... بأفقك المستعل
وعرس النجح ركبه ... ما بين ماء وظل
لذي قرى وقرار ... بمزهر وزاهر
عذب الجنا والنجار ... سامي العلا والمفاخر
أشبهت جنة عدن ... دمشق حسناً وطيبا
أبديت من كلّ فنّ ... للحسن معنى غريبا
لا زلت منزل آمن ... رحب الفضا خصيبا
بكل حامي الديار ... وكامل الفضل وافر
طويل باع الفخار ... بسيط كف المآثر
هل عائد لي عهد ... بروضة النيربين
إني وقد دان بعد ... ما بين ذاك وبيني
لله ودق ووقد ... بأضلعي وبعيني
فكم أجنّ بجاري ... وحاكم البين جائر
وكم أواري أوار ... والدمع لي متواتر
الصبر دونك عجز ... لا تحسبيه اختيارا
والذّل عندك عزّ ... ما آن أراه صغارا
ترنّم الطير غمز ... به إليك أشارا
معناه أنت اختياري ... وإنني جد خابر
عليك يا خير دار ... قطب السعادة دائر
عماد الدين يوسف بن أبي نصر بن أبي الفرج الشقاري.
كان زمن الظاهر أمير الركب، وكان له حجّات كثيرة، ومولده سنة عشر وستمائة، مات في هذه السنة، ودفن بالنيرب بتربته جوار الجامع.
الأمير جمال الدين أقوش المطروحي، وسيف الدين كرد، والأمير ركن الدين الجمالي، نائب غزّة، عدموا في وقعة قازان في هذه السنة.
الزين خضر بن دانيال الأنطاكي الزرّادي الضرير المقرىء.(1/381)
كان عارفاً بعلم النجم والرمل، وكان يخيط ويدخل الخيط في خرت الأبرة، وكانت خياطته في غاية الجودة، ويوصل الأوصال ويرقع ما يفصّله في مواضعه ترقيعاً حسناً، وكان آية من آيات الله، وأصله من ميحي أنطاكية وقع في قسم الأمير عز الدين الزرّاد نائب قلعة دمشق فربّاه وأقرأه القرآن، فحفظ الكتاب العزيز وتلا بالسبع على المشايخ، مات بدمشق في الثامن من شعبان منها، ودفن بمقابر باب الصغير.
الأمير عماد الدين حسن بن علي بن محمد بن النشابي الحلبي.
مات بالبقاع من أعمال بعلبك. ودفن بقاسيون بتربته، وكان قد ولى ولايات بالبر، ثم نقل إلى ولاية المدينة، ثم ولاية البر، ثم جعل أمير طبلخاناة، فمكث قليلاً ومات، وكان مشكوراً في ولايته، وعنده شهامة ونهضة وكفاية.
الأمير الكبير العالم المحدث أبو موسى سنجر الدواداري التركي البرنلي.
مولده في سنة نيف وعشرين وستمائة، وقدم من بلاد الترك في حدود الأربعين وستمائة، وكان عبس الشكل، كبير الوجه، خفيف اللحية، صغير العينين، ربعة من الرجال، حسن الخاق والخلق، مهيباً فارساً شجاعاً، ديناً، عالماً فاضلاً، حسن الحظ، حافظاً لكتاب الله، قرأ القرآن على الشيخ جبريل الدلاصي وغيره، وحفظ الإشارة في الفقه لسليم الرازي. وكتب بخطه، وحصل الأصول، وكانت له عناية بالحديث وسماعه، سمع كثيراً، وخرج له المزى جزأين عوالي، وخرج له ابن الظاهري، وحج ست مرات.
وكان من الأمراء الظاهرية، ثم نقل إلى حلب، ثم قدم إلى دمشق، وكان من أصحاب سنقر الأشقر، ثم مسك، ثم أعيد إلى رتبته، ثم أعطى تقدمة ألف، وزادت رتبته في دولة لاجين المنصور، وقدمه على الجيش في غزوة سيس، وكان له معروف كثير وأوقاف بالقدس ودمشق، وروى عن الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري، والرشيد العطار، والكمال الضرير، وابن عبد السلام، وجماعة كثيرة، وشهد الوقعة وهو ضعيف، فالتجأ بأصحابه إلى حصن الأكراد، فمات به ليلة الجمعة الثالث من رجب الفرد منها، وكان المنصور لاجين قد فوض إليه عمارة جامع ابن طولون فعمره وعمر أوقافه وقرر فيه دروس الفقه والحديث والطب.
وله شعر حسن، فمنه قوله:
سلوا عن موقفي يوم الخميس ... وعن كرات خيلي في الخميس
شربت دم العدى فرويت منه ... فشربي منه لا خمر الكؤس
وجاورت الحجاز وساكنيه ... وكان البيت في الليل أنيسي
وأتقنت الحديث بكل قطر ... سماعاً عالياً ملء الطروس
أباحت في الوسيط لكل خبر ... وألقى القوم في حر الوطيس
فكم لي من جلاد في الأعادي ... وكم لي من جدال في الدروس
وقد ذكرنا من ترجمته فيمن استشهد من الأمراء في وقعة قازان. حسام الدين الطواشي المغيثي، خادم الملك المغيث صاحب الكرك.
مات في هذه السنة، وخدم الملك الصالح، وكان معظما في الدولة المصرية يجلس فوق الأمراء كلهم.
قال صاحب النزهة: وعاينته يجلس فوق البيسري وسنقر الأشقر إلى باب القبة، وكان السلطان الملك المنصور سلم إليه الملك الصالح علاء الدين وقال له: هذا ولدك ربه، وكان مقيماً في القلعة بدار الملك الصالح أستاذه، وكان له أوقاف على تربة النبي صلى الله عليه وسلم، وأوقاف على عتقائه وأولادهم، ولما توفي أثبت مجد الدين بن الخشاب أن بعض الأوقاف التي أوقفها كان في غير عقله وأنه كان مخبلاً في ذلك الوقت وأخذ منها ما اختاره، وكانت له مكارم، وقصده الشعراء ومدحوه، وكان يهب لهم ويعطيهم، وامتدحه في وقت شرف الدين القدسي الكاتب بقصيدة مطولة منها:
مارأيت الناس مثل حسنك لالا ... هكذا هكذا وإلا فلالا
فتبسم وقال: يا شرف الدين بعد الثمانين يكون الحسن، والله أسرفت في التجمل. فقال له: يا سيدي أحسن الشعر ما كذب الشاعر فيه، فأعجبه ذلك ورسم له بخمسمائة درهم.
وكان قد خرج من مصر على نية الجهاد، فأدركه مرض منعه أن يحضر المصاف، وبقى إلى أن رجع العسكر فركبه ممالكيه إلى أن وصل منزلة السوادة، فتوفي بها ودفن هناك، ونقل بعد شقحب إلى مصر ودفن بتربته بالقرافة.
الأمير سيف الدين جاغان مملوك السلطان لاجين، مات في هذه السنة بمرض أصابه بدمشق(1/382)
الأمير علاء الدين قطلوبرس العادلي، مات في هذه السنة بعد شنقه في سوق الخيل، وأقام ثلاثة أيام، ثم دفن وكان قد هرب في نوبة الأويراتية واستخفى بمصر، ثم وجد عند مملوك له فيه هوى.
فصل فيما وقع من الحوادث في
السنة السبعمائة من الهجرة
استهلت والخليفة: الإمام الحاكم أبو العباس أحمد بن أبي علي بن الإمام أبي بكر بن الإمام المسترشد بالله أمير المؤمنين العباسي.
وسلطان الديار المصرية والبلاد الشامية: الملك الناصر محمد بن قلاون الصالحي، ونائبه بمصر: سيف الدين سلار، وفي دمشق: جمال الدين أقوش الأفرم، وفي حلب: شمس الدين قراسنقر المنصوري، وبطرابلس والسواحل: سيف الدين قطلوبك، وبصفد: سيف الدين بلبان طرنا السلحدار، وبحماة: زين الدين كتبغا العادلي، وبالكرك: جمال أقوش الأشرفي.
والقاضي الشافعي بمصر: تقي الدين بن دقيق العبد، والحنفي: شمس الدين السروجي، والمالكي: زين الدين بن مخلوف، والحنبلي: شرف الدين الحراني.
وقاضي الشافعية بدمشق: بدر الدين بن جماعة، وقاضي الحنفية: شمس الدين ابن الحريري، والمالكية: جمال الدين الزواوي، والحنابلة: تقي الدين سليمان بن مزة المقدسي، والخطيب: بدر الدين بن جماعة.
والوزير بمصر: شمس الدين سنقر الأعسر.
وصاحب المغرب: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن يحيى بن محمد وأبو يعقوب المريني.
وصاحب اليمن: الملك المؤيد هزبر الدين داود بن المظفر.
وصاحب ماردين: الملك المنصور نجم الدين غازي بن الملك الظفر الأرتقي.
وصاحب مكة: الشريف نجم الدين أبو نمى محمد بن أبي سعد بن علي بن قتادة الحسيني.
وصاحب المدينة: عز الدين جماز بن شيحة الحسيني.
وملك التتار: محمود قازان، وصاحب المملكة الشمالية: طقطاي ابن أخي الملك بركة، والمتولي على الصين قان بن قان بن جنكزخان، ومن حد بلاد خراسان إلى خان بالق الملك قيدو.
وصاحب الحبشة: الأمحري النصراني.
وصاحب الهند إلى نجد إلى كنبايت: الملك المسعود ناصر الدين محمود ابن علم الدين سنجر عتيق شمس الدين أيتمش مملوك شهاب الدين الغوري.
ذكر اختلاف عربان بحيرة
قال بيبرس في تاريخه: وفي سنة سبعمائة اختلفت عربان البحيرة، وهم طائفتان جابر ومرديس اختلافاً كثيراً أنشأ بينهم حرباً، وأفنى بعضهم بعضاً، وكانت مرديس هي المستظهرة على جابر، وقد كسرتها كسراً أعتى على الجابر، فاتصل ذلك بالأبواب السلطانية، فندبت لإخماد فتنتهم وإطفاء جمرتهم وردع المعتدين منهم، وجرد معي من أمراء الطبلخاناة عشرون أميراً، وهم: الأمير شمس الدين سنقرجاه السلحدار، والأمير حسام الدين لاجين الجاشنكير، والأمير سيف الدين بلبان الطغريلي، والأمير سيف الدين طشتمر الجمقدار، والأمير علاء الدين بن أمير مجلس، والأمير بدر الدين محمد الوزيري، والأمير عز الدين أيدمر الشمسي القشاش، والأمير بهاء الدين قراقوش الصوابي، والأمير سابق الدين بن بوزبا الساقي، والأمير ناصر الدين محمد بن طرنطاي، والأمير ناصر الدين محمد بن أيتمش السعدي، والأمير علاء الدين علي بن ددا التركماني، والأمير جمال الدين أقوش الرومي، والأمير شمس الدين الدكز السلحدار، والأمير سيف الدين قطز بن الفارقاني، والأمير علاء الدين مغلطاي المسعودي، وأصحاب الأمير مظفر الدين أمير موسى، وأصحاب الأمير جمال الدين الطشلاقي وغيرهم، وأنهى إلى الأبواب الشريفة أنهم صافون، وعلى القتال عاكفون، وذلك على ظاهر تروجة، فسرنا سيراً حثيثاً، فوجدناهم قد اتفقوا وافترقوا، فتبعناهم فانهزموا، وقصدوا جهة الليونة وغربي الإسكندرية، فأخذنا مواشيهم من الجمال والأغنام، وسقنا إلى الباب الشريف، وأحضرنا هؤلاء العربان بالأمان، وقررنا قواعدهم، ونظمنا الصلح بينهم، وعدنا إلى الأبواب الشريفة، فتواترت الأخبار بحركة التتار.
ذكر ورود القصاد من بلاد الشرق(1/383)
وردت القصاد في أوائل هذه السنة من بلاد الشرق وأخبروا أن قازان ملك التتار قد بلغه أن قفجق التحق بمصر إلى السلطان بمن معه من الأمراء، وسلم إليه دمشق، وخطب للسلطان صاحب مصر، وأبطل اسمه، فعز عليه ذلك، ورسم أن يجمع جيشه للعبور إلى الشام، وكان قد حنق على قفجق، وجمع المغول واستشارهم، فمنهم من أشار عليه بالركوب، ومنهم من قال له: يا خوند الذي حصل لك ما حصل لأحد من ملوك المغول حيث نصرت على عسكر ما عرف قط أنه انهزم من المغول، وقد بقي لك في نفوسهم هيبة، وما في الاستعجال في الركوب إليهم فائدة، فربما يكون بعد الربح الخسران، ولا تأمن أن ينصروا علينا، والمصلحة أن تبعث إليهم رسلاً في ذلك وتطالبهم أن يحملوا لك مالاً ويكون ذلك راحة للعسكر وحرمة للملك.
ثم تواترت مطالعات نواب الشام بأن التتار قاصدون البلاد، ووقع الجفل في أهل البلاد إلى الديار المصرية، وتتابعوا من جميع الأعمال حتى ملأوا الأقاليم والنواحي، وضاقت بهم الأماكن، وعجز أكثرهم عن المساكن، وظن الناس أنهم يعدمون الأقوات، فوضع الله البركة في الغلال، وأنزل الرخاء في الأسعار، فكانوا كلما تكاثروا انحطت الأسعار حتى أبيع الأردب من القمح بخمس عشرة درهماً.
وقال ابن كثير: وفي مستهل صفر وردت الأخبار بقصد التتار بلاد الشام، وأنهم عازمون على دخول مصر وانزعج الناس، وازدادوا ضعفاَ على ضعفهم، وطاشت عقولهم وألبابهم وشرعوا في الهروب إلى مصر والكرك والحصون المنيعة، فبلغت الحمارة إلى مصر خمسمائة درهم، وأبيع الجمل بألف، والحمار بخمسمائة، وبيعت الأمتعة بأرخص الأثمان وأبخسها، وجلس الشيخ تقي الدين بن تيمية في ثاني صفر بمجلسه في الجامع، فحرض الناس على القتال، وتلا عليهم الآيات والأحاديث الواردة في ذلك، وهي عن التسرع في الحركة، ونودي في البلدان لا يسافر أحد إلا بمرسوم، فتوقف الناس عن السير، وسكن جأشهم، وتحدّث الناس بخروج السلطان من القاهرة بالعساكر المنصورة، فبلغ السلطان ذلك، فقصد أن يجمع مالاً من الناس لأجل العساكر.
ذكر عزم السلطان على السفر
وأمره بجمع الأموال من الناس:
لما جرى ما ذكرناه اجتمعت الأمراء عند السلطان وتشاوروا فيما بينهم، واتفقوا على تجهيز أمرهم، وخروج السلطان مع العساكر، وأن يجمعوا مالاً يكون في الخزانة برسم نفقات العساكر، وكتبوا لنائب الشام أن يدبّر أمره ويستخدم بطّالين إلى وقت حضور السلطان، وطلبوا ناصر الدين محمد بن الشيخي، وأمروه أن ينظر في أمر التجار والكارم والأكابر، ويتفقد أيضاً من لم يخرج مع العسكر في النوبة الأولى، فيأخذ منهم شيئاً، ثم اتفق رأيهم أن يعرضوا الجيش، وذلك لأنهم استجدوا جماعة كثيرة من الجند، وكان فيهم جماعة كثيرة من أهل الصنائع والناس المجمعين، فطلب مقدمي الحلقة وأمروهم أن يحضروا الأجناد راكبين خيولهم وأرماحهم بأيديهم ويدخل كل واحد ويعرض نفسه لينظر الأمراء إلى حملة الرمح وسوقة الفرس، ويعرفون بذلك هل هو أصيل في الجندية أو دخيل فيها، وأيضاً يعرف المقدمون من كان منقطعاً يوم الواقعة الأولى ومن كان حضرها، وكان الأمراء نصبوا لهم مخيماً بميدان القبق، وأقاموا أياماً يعرضون الجيش في كل يوم عشر مقدمين من الحلقة بمضافيها.
وأما أمر المال فإن السلطان والأمراء قصدوا التوسع بشيء يعين على كلف العساكر، وسمّوا بتقدير مال على الأملياء والتجار وأرباب المعايش والأسباب بالقاهرة ومصر، فقرر، وتولاّه الأمير سنقر المعروف بالأعسر، والأمير ناصر الدين محمد الشيخي متولي القاهرة، فاستخرجا منه نحو مائة ألف دينار، وسّمي مقرر الخيانة.(1/384)
وقال صاحب نزهة الناظر: لما تولى ناصر الدين الشيخي استخراج المال المقّرر على هؤلاء المذكورين عجز عن ذلك، وبلغه كلام كثير منهم، فاختار أن يشرك الوزير معه في أمر الجباية، واتفق مع ذلك حضور بعض الجند وشكايته إليه ما قاسى من العامة ومن كلامهم الفاحش، وذكر أن الأجناد ما بقيت لهم حرمة عند العوام، وإذا وقف واحد منهم لشراء حاجته مما يتعلق بحال الجندية يسمعونه الكلام الفج ويقولون له: أما تستحون بالله تتحدثون اليوم وبالأمس كنتم هاربين، والآن تتشطرون علينا، وإذا هب واحد منهم على أحد من العامة بمقرعة في يده، ينهض إليه ويمسكها من يده ويقول: إش معنى ما كانت هذه الحرمة على مثل الذين فعلوا بكم كذا وكذا وهربتم منهم، فصارت الأجناد في ألم عظيم من مثل ذلك، وعرّف ناصر الدين الشيخي ذلك للأمراء، وأختار أن يشرك معه في هذا الأمر من هو أكبر وأكثرحرمة، فرسموا أن يكون شريكه في ذلك الأمير شمس الدين الأعسر، فإنه كان ذا حرمة عظيمة وهيبة قوية بحيث أن أحداً من العوام إذا وقف بين يديه لم يقدر أن ينطق بكلمة واحدة، فاستقام حينئذ حال ناصر الدين المذكور، ثم نودي في القاهرة بأن أيّ عاميّ يزيد في الكلام على جندي كانت روحه وماله للسلطان، فانقطعوا بعد ذلك عماهم فيه من تشويشهم على الأجناد.
قال الراوي: ثم جاء خبر من نائب الشام صحبة قاصد من عنده أن عسكر قازان يتواردون أولاً فأولا، وهو يحثهم على عبور الشام، وأنه قد استخرج من الأملاك والأوقاف وأصحاب البساتين أجرة أربع شهور وأنه استخدم بها من التركمان وغيرهم نحو ثمانمائة فارس، ونفق على كل جندي منهم ستمائة درهم نقرة، ثم أعرضهم وهم منتظرون حلول الركاب الشريف، فعند ذلك تجهزت الأمراء والسلطان للخروج.
؟؟ ذكر خروج السلطان من القاهرة متوجّهاً إلى الشّام
لأجل حركة التتار:
كان خروج السلطان مع عساكره في النصف من شهر صفر من هذه السنة، وتموا سائرين إلى أن وصلوا إلى غزّة وأقاموا عليها يومين، والثالث ورود خبر من نائب حلب ونائب الشام صحبة القصّاد أن قازان قد توجه بجيشه إلى نحو جبال أنطاكية وقد جفلت أهل السّواد بين يديه، فكتب السلطان الجواب بأن تكونوا على يقظة من أمره، وتعرفوا بحركاته كل وقت، فاقتضى رأيهم الرحيل من غزة إلى منزلة العوجاء، فضربوا الدهاليز بها، وشرعت الأجناد في تسفير جمالهم إلى تحصيل الشعير والتبن وما يحتاجون إليه، وجاءت الأمطار الكثيرة بإذن الله خارجة عن الحدّ والعادة، واستمرت ليلاً ونهاراً عشرة أيام، ثم أصبحت في نهار واحد من بكرة النهار إلى الظهر، ثم شرعت وتزايدت إلى أن منعت المسافرين والجافلين عن جلب الأشياء، فضاقت بهم الأحوال، فصار كل أمير إذا أراد طبخ شئ من الطعام يستر مطبخه باللبابيد الكثيرة حتى يتيسر إيقاد النار، فأقامت المطر على منوال واحد أحداً وأربعين يوماً بلياليها، لم يتلذذ فيها أحد بالنوم من شدة البرد والرّعد والمطر والثلج والبرد الذي يمنع الرجل عن القيام لمصلحته، وكذلك بلغت أحوال الخيول فلا يقدر أحداً منها أن يضع جنبه على الأرض ولا يشرب الماء إلا من النهر الذي يجري بين يديه، فتحسنت أسعار التبن والشعير وغير ذلك.
قال صاحب النزهة: اشترينا الحمل من التبن بأربعين درهماً، والعليقة الواحدة بثلاثة دراهم، والخبز كل ثلاثة أرغفة بدرهم، والرطل من اللحم بثلاثة دراهم، وانقطع الجلب من سائر الأماكن، ثم حصل بعد ذلك سيل عظيم من الأمطار والثلوج التي ذابت من الجبال وانحدر في النهر إلى أن فاض من جوانبه وارتفع إلى أن علا من فوق القنطرة، وجاء عقيب ذلك برد عظيم جداً حتى مات من الغلمان جماعة كثيرة من البرد، وتلفت حال العسكر، وتلف جميع ما معهم من الثياب والقماش والخيام وأنواع المأكولات بحيث أن أحداً ما كان يقدر على القعود في الخيام من المياه من كثرة المطر، ثم أجمع رأيهم على الرحيل، فنودي بالعسكر بالركوب بكرة النهار، وأول من ركب وتقدم الأمير سيف الدين سلار نائب السلطنة، وقدّامه حزمة حطب على السرج ورماها في الوحل، ثم الأمير ركن الدين بيبرس، ثم بقية الأمراء أولاً فأولا ومماليكهم وغلمانهم، وكذلك أجناد الحلقة، وبيد كل واحد قفة أو مخلاة من التراب أو الحجر أو غير ذلك فيرميه في الوحل حتى تمشي الدواب عليه.(1/385)
وهم في ذلك إذ وصل مملوك من نائب حلب ومعه اثنان من الناصحين، وأخبروا أن قازان ركب بجيشه إلى أنطاكية، ثم إلى جبل السماق ورجع إلى قرون حماة وأرض شيزر، ونهب وسبى خلقاً كثيراً، وأخذ مواشي كثيرة للتركمان وأهل البلاد، وأن صاحب سيس بذل له مالاً عظيماً في شراء أسرى كثيرة من المسلمين، وأنه صمّم على عبوره الشام، فأرسل الله على جيشه أمطاراً عظيمة وثلوجاً لم يعهدوا مثلها قبل ذلك، ومع ذلك وقع الفناء في خيولهم، وكان الفرس منهم يصيبه البرد وينزل عليه الثلج فيقع على الأرض، ثم لا ينتفع به بعد ذلك، وحكوا أن قازان كان معه خصوصاً اثني عشر ألف رأس من الخيل دشار، فلم يبق منها إلاّ ما دون الألف، وأنه لما رأى ذلك استشار أمراءه في الرجوع، فرجعوا في أسوأ حال، وتفرق عسكره، ورآه يردف بعضهم بعضاً، فلما سمع السلطان والأمراء ذلك اقتضى رأيهم أن يجردوا بعض المقدمين بمضافيهم إلى حلب لأجل تطمئن البلاد ولسمعة العدو بأن عسكر مصر قد وردوا للقائهم، فعينوا الأمير سيف الدين بكتمر السلحدار ومضافيه، والأمير بهاء الدين يعقوب ومضافيه، وأشاروا برحيل بقية العساكر إلى مصر.
؟؟؟ ذكر عود السلطان إلى مصر
ثم رحل السلطان ببقية العسكر وتوجهوا إلى مصر، فوصل السلطان إلى قلعة الجبل في عاشر جمادى الأولى، وكان العود أحمد وأولى.
واستعفى الأمير سيف الدين كراي السلحدار من نيابة صفد، ورسموا بنيابتها للأمير سيف الدين بتخاص، وأنعم على الأمير كراي بإقطاع الأمير سيف الدين بلبان الطباخي بحكم وفاته.
وكان عند العسكر فرح عظيم من رجوع السلطان إلى القاهرة بسبب ما قاسوا من الشدة والقلة، وقال بعضهم في ذلك:
أقمنا على العوجاء خمسين ليلةً ... ندبر أمراً قد حكاه انعواجها
وقال صاحب النزهة منشداً لنفسه:
يا سفرة العوجاء من سفرة ... كادت بها أرواحنا تخرج
سماؤها ممطرة دائماً ... وغيثها من برده يثلج
والشمس في أركانها ظلمة ... وصحبها مع ليلها مدلج
لا برح الجندي من أرضها ... إلاّ عليل الجسم أو أفلج
وقال ابن كثير: ولما وصلت الأخبار إلى الشام بأن السلطان صاحب مصر قد رجع عائداً إلى مصر، كثر الخوف واشتد الحال، وكثرت الأمطار جداً، وخرج كثير من الناس خفافاً وثقالاً يتحملون بأهاليهم وأولادهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، ثم قويت الأراجيف بوصول التتار، وتحقق أهل الشام عود السلطان إلى مصر، ونادى ابن النحاس متولي دمشق في الناس: من قدر على السّفر فلا يقعد بدمشق، فتصايح النساء والولدان، وبقي على الناس ذلة وخمدة وزلزلوا زلزالاً شديداً، وغلقت الأسواق، وتيقن الناس أن لا ناصر لهم، ودخل كثير من الناس إلى القلعة ولم يبق في دمشق من الأكابر إلاّ القليل، وسافر قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة وشمس الدين بن الحريري، ونجم الدين ابن صصري، ووحيد الدين بن منجا، وقد كانت سبقتهم بيوتهم إلى ديار مصر.
وجاءت الأخبار بوصول التتار إلى سرمين، وخرج الشيخ نجم الدين بن القرافي، وابراهيم الرقي، وابن قوام، وابن تيمية، وابن حيان إلى نائب السلطنة الأفرم، فقووا عزمه على ملاقاة العدو، واجتمعوا بمهني أمير العرب، فأجابه إلى السمع والطاعة، وقويت نياتهم على ذلك، وخرج طلب الأمير سلار من دمشق إلى ناحية المرج، واستعدوا للحرب والقتال بنيات صادقة.
ورجع ابن تيمية من الديار المصرية في السابع والعشرين من جمادى الأولى على البريد، وقد أقام بقلعة مصر ثمانية أيام، واجتمع بالسلطان والوزير وأعيان الدولة وحرضهم، فأجابوه، وكان الشيخ قد خرج من الشام مستهل جمادى الأولى، وقد غلت الأسعار بدمشق جداً حتى أنه بيع خروفان بخمسمائة درهم، واشتد الحال جداً.
ثم جاءت الأخبار بأن ملك التتار قد خاض الفرات راجعاً في عامه ذلك لضعف جيشه وقلة مدده، فطابت الأخبار، وسكن الناس، ورجعوا إلى منازلهم منشرحين آمنين، ولله الحمد رب العالمين، وعاد نائب السلطنة إلى دمشق من المرج، وكان فيه مخيماً مدة أربعة شهور متتابعة، وكان هذا من أعظم الرباط، وتراجع الناس من الحصون حول دمشق إلى أوطانهم.
ذكر وصول الرسل من جهة قازان(1/386)
وفي أواخر شوال: جاء مملوك نائب حلب وأخبر بحضور الرسل من جهة قازان إلى السلطان، ورُسم للأمير سيف الدين كراي المنصوري أن يتجهز إلى لقائهم، فتجهز وخرج، وقد كتبوا بالإقامات في الطرقات، وتلقاهم الأمير كراي فأحضرهم، وهم: الأمير ناصر الدين على خواجة، والقاضي كمال الدين يونس قاضي الموصل، ورفيقهما، وكانوا رسموا قبل تمثلهم بين يدي السلطان أن يلبس سائر الجيش الكلوتات الزركش والطرازات الذهب، وأن يلبسوا أفخر ما عندهم، ورتبوا من باب القلعة إلى داخل الإيوان صفّين، فدخلوا، وكان دخولهم في النصف من ذي القعدة، فلما وصلوا إلى مجلس السلطان رأوا ما أذهلهم من الحشمة والهيبة، ورأوا عسكراً كأنهم خلقوا من حسن ومهابة وجمال، وهم صور حسان ووجوه جميلة، وباسوا الأرض، وأعطوا ما معهم من الكتب.
واجتمعت الأمراء، وقُرئت الكتب بحضورهم، وفهموا ما فيها، ثم أنهم شافهوا السلطان بما حملهم قازان، فذكرها السلطان للأمراء، وأمر السلطان بإكرامهم واحترامهم، وأنزلوهم في أحسن منزلة، ورتبوا لهم الرواتب السنية، ثم اجتمعت الأمراء بعد ذلك فتشاوروا فيما بينهم عند السلطان، وطلبوا كاتب السر وأمروه أن يكتب الجواب عن سائر الفصول التي يتضمنها كتاب قازان.
وقال القاضي شرف الدين بن الوحيد في تاريخه: لما حضر الرسل من جهة قازان استحضرهم السلطان في الليل، فلما وقعوا بين يديه أحسن إليهم وقربهم منه، ولما رأى قاضي الموصل ذلك خطب خطبة بليغة وذكر آيات في معنى الصلح بين الفريقين، واتفاق الملكين والعسكرين، ثم بسط يده ودعي لمولانا السلطان، ثم بعده لمحمود قازان، ثم أوضح الرسالة التي بيده وأعاد الكلام في معنى الصلح وقال: ودفع الكتاب للسلطان وهو مختوم بغير عنوان، فلم يفتحه السلطان في تلك الليلة، ورسم بإعادة الرسل إلى مكانهم، ولما كانت الليلة التالية طلب السلطان الأمراء المقدمين الأكابر وفتحوا الكتاب، وقُرىء على السلطان فإذا هو بالخط المغلي، وهو في قطع النصف البغدادي، أوله بسم الله الرحمن الرحيم.
ذكر نسخة الكتاب
بقوة الله تعالى، وميامين الملة المحمدية، فرمان السلطان محمود غازان، ليعلم السلطان المعظم الملك الناصر أنه في العام الماضي بعض عساكرهم المفسدة دخلوا أطراف بلادنا وأفسدوا فيها، لعناد الله وعنادنا، كماردين ونواحيها، وجاهروا الله بالمعاصي فيمن ظفروا به من أهلها، وأقدموا على أمور بديعة وأحوال شنيعة من محاربة الله، وخرق ناموس الشريعة، فأنفنا من تهجمهم، وغرنا من تقحمهم، وأخذتنا الحمية الإسلامية، فحدتنا على دخول بلادهم ومقابلتهم على إفسادهم، فركبنا بمن كان لدينا من العساكر، وتوجهنا بمن اتفق منهم أنه حاضر، وقبل وقوع الفعل منا، واشتهار الفتك عنا، سلكنا سنن المرسلين، واقتفينا آثار المتقدمين، واقتدينا بقول الله تبارك وتعالى " لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " وأنفذنا صحبة يعقوب الكرجي جماعة من القضاة والأئمة الثقات، وقلنا: " هذا نذير من النذر الأولى، أزفت الآزفة، ليس لها من دون الله كاشفة ".
فقابلتم ذلك بالإصرار، وحكمتم عليكم وعلى المسلمين بالأضرار، وأهنتموهم وسجنتموهم، وخالفتم سُنن الملوك في حسن السلوك، فصبرنا على تماديكم في غيكم وإخلادكم إلى بغيكم إلى أن نصرنا الله وأراكم في أنفسكم قضاة، " أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله "، وظننتا أنهم حيث تحققوا كُنه الحال، وآل بهم إلى ما آل، أنهم ربما تداركوا الفارط من أمرهم، ورتقوا ما فتقوا بغدرهم، وأوجه إلينا وجه عذرهم، وأنهم ربما سيروا إلينا حال دخولهم إلى الديار المصرية رُسلاً لإصلاح تلك القضية، فبقينا بدمشق غير متحثحثين، وتثبطنا تثبط المتملكين المتمكنين، فصدّهم عن السعي في صلاح حالهم التواني، وعللوا نفوسهم بالأماني.(1/387)
ثم بلغنا بعد عودنا إلى بلادنا، أنهم ألقوا في قلوب العساكر والعوام، وراموا جبر ما أوهنوا من الإسلام، أنهم فيما بعد يلتقونا على حلب أو الفرات، وأن عزمهم مصر على ذلك لا سواه، فجمعنا العساكر وتوجهنا للقياهم، ووصلنا الفرات مُرتقبين ثبوت دعواهم، وقلنا لعلهم وعساهم، فما لمع لهم بارق، ولا ذرّ لهم شارق، فتقدّمنا إلى أطراف حلب، وتعجبنا من بطائهم غاية العجب، فبلغنا رجوعهم بالعساكر، وتحققنا نكوصهم عن الحرب، وفكرنا أنه متى تقدّمنا بعساكرنا الزاخرة، وجموعنا العظيمة القاهرة، ربما أخرب البلاد مرورها، وبإقامتهم فيها فسدت أمورها، وعم ضرر العباد، وخراب البلاد، فعدنا بفتياً عليها، ونظرة لطف من الله إليها.
وها نحن أيضاً الآن مهتمون بجمع العساكر المنصورة، ومشحذون غرار عزماتنا المشهورة، ومُستعملون المجانيق وآلات الحرب، وعازمون بعد الإنذار، " وما كنا مُعَدّبين حتى نبعث رسولا ".
وقد سيّرنا حاملي هذا الفرمان الأمير الكبير ناصر الدين بن علي خواجا، والإمام العالم ملك القضاة كمال الدين موسى بن يونس، وقد حملناها كلاماً يُشافهانهم بهن، فليثقوا بما تقدمنا به إليهما، فإنهما من الأعيان المعتمد عليهما، لنكون كما قال الله تعالى: " قل فلّله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين "، فتُعدّون لنا الهدايا والتحف، فما بعد الإنذار من عاذر، وإن لم تداركوا الأمر فدماء المسلمين وأموالهم مطلوبة بتدبيرهم، ومطلوبة منهم عند الله على طول تقصيرهم.
فليُمعن السلطان لرعيته النظر في أمره، فقد قال صلى الله عليه وسلم: " من ولاّه الله أمراً من أمور هذه الأمة واحتجب دون حاجتهم وخلّتهم وفقرهم، احتجب الله دون حاجته وخلّته وفقره ". وقد أعذر من أنذر، وأنصف من حذّر، " والسلام على من اتبع الهدى ".
كتب في العشر الأول من شهر رمضان سنة سبعمائة بجبال الأكراد، والحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد المصطفى وآله الطاهرين.
وسنذكر ما أجابه السلطان عن هذا الكتاب في السنة الآتية إن شاء الله تعالى.
ذكر وقوع الفناء في الأبقار
وفيها: أصاب الفناء الأبقار دون غيرها من المواشي حتى تعطلت الدواليب والسواقي، وغلت أسعارها غلواً لم يُسمع بمثله، وبيع الرأس البقر بألف درهم وما يقاربها، واستعمل الناس الخيل والجمال والحمير عوضاً عنها، فما أجدت في الحرث والكرب ولا أغنت عنها، فتعذرت الأقصاب وتعطلت، وتُرك زراعة أكثرها وأبطلت، فارتفعت قيمة القنود وبلغت عشرة دنانير القنطار. ولقد حكي عن شيخ من أهل الفلاحة ببلد أشموم أنه كان يملك من الأبقار الخيسية السارحة في تلك الجزائر ما جُملته ألف وإحدى عشرة رأساً، فماتت في هذا الفناء أولاً فأولاً حتى لم يبق له منها غير ثمانية لا سواها.
وقال صاحب نزهة الناظر: كان مبدأ فناء الأبقار في أواخر سنة تسع وتسعين وستمائة، فلما دخلت سنة سبعمائة تزايد الأمر في موتها، وتعطلت الدواليب وزراعات الأمصار، وتوقف حال أرباب السواقي، وتزايد الأمر على الناس فكان يكون في الساقية عشرة أروس يصبح الستة منها موتي، ويأتي اليوم الثاني والثالث فلا ترى منها شيء، ويحتاج صاحبها إلى شراء غيرها بقيمة زائدة، فحصل الضرر البالغ لأصحاب البساتين، خصوصاً لأهل دمياط وأشمون والمزاحميين والقليوبيين، وكذلك بلاد الصعيد ودواليب المعاصر، وقال: لقد بلغني أنه كان بدمياط رجل من أكابرها وله عدة بساتين، وكان فيها مائة واثني عشر رأساً مثمنة، فما مضى عليها ثلاث شهور إلا وقد بقيت منها تسعة أروس لا ينتفع بها.
وكتب الأمراء إلى سائر البلاد أن لا يذبح أحد شيئاً من البقر ولا من العجول، وكتبوا إلى نائب الشام بأن يجهز إليهم أبقاراً شامية من سائر البلاد للدواليب السلطانية، ثم وصلت أبقار كثيرة مع التجار، وأبيع الرأس منها بثلاثمائة، وبمائتين، وغلقت معاملة سوق البقر في تلك السنة للمقطعين، وفاضت على ذلك مائة وستون ألف درهم.
ذكر بقية حوادث مصر والشام(1/388)
وفيها: اقتضى رأي السلطان والأمراء أن يخرج الأمير شمس الدين سنقر الأعسر مع جماعة من المماليك السلطانية إلى الوجه القبلي ليحصّل من عزبة الخيل والجمال وآلات السلاح، والسبب لذلك أنهم علموا بسفر السلطان مع العسكر لحقهم الطمع في مغل الأمراء والجند، ومنعوا الحقوق، وعصوا على الولاة، وقطعوا الطريق، وأخافوا السبيل، فجرد لذلك سنقر المذكور وصحبته مائة نفر من المماليك السلطانية، فركب إلى أن وصل إليهم، وكان له في نفوس الناس حرمة عظيمة ومهابة قوية، فكبس البلاد، وأتلف كثيراً من المفسدين، ولم يزل سائراً إلى أن وصل الأعمال القوصية، ولم يدع فرساً في بلاد الصعيد من خيل العرب ولا خيل القضاة والفقهاء والمتعممين إلا أخذه، وأخذ سائر السلاح من الرماح والسيوف والدرق، فكانت عدة ما حضر معه من الخيل ألف وستون فرساً، ومن الجمال ثمانمائة وسبعون رأساً، ومن الرماح ألف وستمائة رمح، ومن السيوف ألف ومائتا سيف، ومن الدرق تسعمائة درقة، ومن الغنم ستة آلاف رأس، فأصلح تلك البلاد حتى أخذ الناس مغلهم كاملاً.
وقال بيبرس في تاريخه: جرد الأمير سيف الدين سنقر الأعسر إلى الصعيد للكشف والتمهيد، ورسم له بحسم مادة العربان، فإنهم تظاهروا بالنفاق والعصيان وتوجهنا إلى الوجه فاجتمعنا بمنفلوط وأحضرنا أعيانهم، وقررت عليهم جباية من المال والخيل والجمال والسلاح، وجبيت فكانت ألف ألف وخمسمائة ألف درهم، وألف رأس خيل، وألفي جمل، وعشرة آلاف رأس غنم، وحسمت مادتهم في ذلك الوقت.
وفيها: في يوم الجمعة الثالث والعشرين من ذي القعدة عزل شمس الدين ابن الحريري عن قضاء الحنفية بالقاضي جلال الدين أبي حسام الدين على قاعدته وقاعدة أبيه من قبله، وذلك باتفاق من الأمير سنقر الأعسر والنائب جمال الدين أقوش الأفرم.
وفيها: استقال الأمير كراي السلحدار من نيابة صفد، فأقيل، وجهز إليها عوضاً عنه الأمير بتخاص المنصوري من دمشق.
وفيها: استعفى سيف الدين قطلوبك من نيابة الحصون، فأعفي، وجهز إليها من دمشق سيف الدين أسندمر الكرجي، وأعيد قطلوبك إلى دمشق، فاستقر من أمرائها.
وفيها: ولي الأمير فارس الدين البكي الظاهري نيابة السلطة بحمص، وجهز الأمير قفجق إلى الشوبك وأعطى بأعمالها إقطاعاً.
وفيها: ألزمت السلطنة طائفتي النصارى واليهود بمصر والشام بلبس العمائم الغيار، فألبس النصارى عمائم زرقاء، واليهود عمائم صفراء، والسامرة بالشام عمائم حمراء، وغلقت كنائسها، ثم فتح بعضها أولاً فاولاً، ثم اتفق أن بعض أكابر النصارى سعى في فتح كنيسة وفتحها، واشتهر ذلك بين العامة، فوقفت حرافيش كثيرة للنائب والأمراء بسبب ذلك.
وقالوا أيضاً: إن بعض النصارى تكبروا عن لبس الأزرق، وإن بعضهم احتمى ببعض أكابر الأمراء، فاقتضى رأيهم بإشهار النداء، فأمروا والي القاهرة بالمناداة في مصر والقاهرة بأن كل من لا يلبس الزرق من النصارى، أو الصفر من اليهود ينهبه العامة، ويستحل ماله وحريمه، وأن لا يستخدم نصراني عند أمير ولا في شغل من أشغال السلطنة إلا إذا أسلم، فتسلطت عليهم العامة من الحرافيش وغيرهم، فمن رأوا منهم ما عمل بموجب النداء ضربوه إلى أن كاد أن يقتلوه، وكذا إذا رأوا أحداً منهم راكباً على حمار من غير أن يثني رجله عليها، فصار كثير منهم لا يجترئ على الركوب ويمشي في الطريق وهو خائف على نفسه وأسلمت منهم جماعة كثيرة.(1/389)
وفيها: قصد الأمراء عزل الأمير شمس الدين سنقر الأعسر عن الوزارة، وذلك لكبره وشممه وزيادته عن الحدّ وعدم توقيره لمن يكون من جهة الأمراء حتى أنه مسك التاج بن سعد الدولة، وكان مستوفي الدولة وممن يلوذ بالأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، وعراه وضربه بالمقارع ضرباً مؤلماً، فأسلم من حرارة الضرب وألزمه أن يشهد عليه بالإسلام، وبعد ذلك تحمل مال السلطان، فلما أطلقه دخل إلى زاوية الشيخ نصر والزم نفسه أن لا يخرج منها، وأرسل الشيخ نصر إلى بيبرس الجاشنكير أن يتحدث فيه ليعفى من المباشرة، ففعل ذلك واستمر عليه إلى أن وقفت الأمراء لبيرس وحسنوا له أن يطلب الأمير عز الدين أبيك البغدادي من نيابة الإسكندرية ويتولى الوزارة بالديار المصرية، عوضاً عن شمس الدين سنقر المذكور، وأجمع بيبرس مع الأمير سلاّر على ذلك وولوا أبيك المذكور الوزارة، ثم أتفق رأيهم أن يكون سمش الدين سنقر كاشف القلاع الشامية بأسرها، فينظر فيها ويصلح أمورها ويرتب الرجال وما تحتاج إليه من سائر الأصناف، فخلع عليه بذلك.
وفيها: أعرس السلطان على بنت الأمير كرتيه، وكانت تعرف بالأشرفية، فكانت زوجة أخيه الملك الأشرف، فعمل على ذلك مهما عظيماً، وخلع على سائر الأمراء وأرباب الوظائف بخلع سنية.
ذكر ما جرى في بلاد الشمال
قد ذكرنا في العام الماضي ما وقع بين ولدي نوغيه، وهما جكا وتكا، وأن جكا استقر موضع أبيه، وكان عند استيلائه على المملكة قد أقام له نائباً يسمى طنغر من أكابر الأمراء، فلما أقدم على قتل أخيه تكا نفر عنه واتفق مع طاز بن منجك - وهو صهر نوغيه زوج ابنته طغلجا - على التوجه للإغارة على بلاد أولاق والروس، فسارا بمضافيهما، ولما خلا أحدهما بالآخر تحادثا وتفاوضا في أمر جكا وجرأته وسوء سيرته وقالا: إذا كان هذا لم يبق على أخيه، فكيف يبقي علينا؟، واتفقا على أن يعودا إليه ويقبضا عليه، فعادا نحو مقامه، فشعر واحد من عسكرهما أنهما اتفقا على إعدامه، فركب وساق مسرعاً، وأعلمه بالحال تنصحا، فلما تيقن أنهما قد دهماه ركب من ساعته في مائة وخمسين فارساً من جماعته ودخل بلاد آص، وكان بها مقدم وتمان من عسكره، فآوى إليهم وأقام بينهم.
وحضر طنغر نائبه وطاز صهره إلى بيوته، فنهبوها واستولوا عليها، ووجدوه قد فاتهما.
ولما أقام جكا ببلاد آص وتحقق عسكره أنه حي موجود باق تسلّل إليه كثير منهم، فكثرت بهم عدّته وعاد لحرب طنغر وطاز، والتقى الجمعان، فاستظهر عليهم وكسرهم، وفرق شملهم، وسبى وغنم ما شاء، واسترد بيوته وغنائمه منهم.
ولقد حكى من شهد الواقعة أن أخته طلغجا - بنت أبيه نوغيه - ركبت الخيول وقابلته مع الفحول، فلما انكسر زوجها ومن معه كاتبوا طقطا يستمدونه ويلتمسون أنجادهم بعسكر يقاتلون به جكا ويعاودونه، فأمدَهم بجيش صحبة أخيه برلك بن منكوتمر، فلما جاءهم المدد من عند طقطا دعوا نزال وعادوا إلى القتال، فلم يكن لجكا بهم قبل، فهرب ولحق ببلاد أولاق، وكان ملكها والحاكم عليها متزوجاً إحدى أقاربه، فتطلع إلى حصنه معتقداً أنه يمتنع عنده، فقال لذلك أصحابه: هذا الوارد إليك هو عدو لطقطا، وهو مجدّ في طلبه، ومتى علم بمقامه عندنا سار إلى نحونا وأهلكنا، والصواب تعويقه وإعلامه بأمره، فقبض عليه وعوقه في قلعته، واسمها ترنو، وطالع طقطا بأمره، فأمره بقتله، فقتل في هذه السنة.
وخلت مملكة طقطا ممن يناوئه، وبلغ من إبادة أعاديه أمانيه، ولم يبق من أولاد نوغيه إلا أصغرهم المسمى طرنه، ورتب ينجى بن قرمشي موضع أباجي أخيه، وجهز تكل بغا ويربصار ولديه إلى بلاد نوغيه، فأما تكل بغا فإنه استقر في طقجى ونهرطنا وما يلي باب الحديد، وهي منازل نوغيه، وأقام ايربصار بنهر بيق، وتكملت بلاد الشمال للملك طقطا.
ذكر ما جرى في بلاد الغرب من الحوادث فيها(1/390)
ومن الحوادث فيها أن جزيرة جربة كانت قد خرجت عن أيدي المسلمين، كما ذكرناه في سنة ثمانين وستمائة، وأقامت بيد المزاليا نائب الإفرنسي بصقلية يجبى إليه خراجها كل عام، فهلك في هذه السنة، أعني سنة سبعمائة، فاغتنم أهلها الفرصة بهلاكه فأرسلوا إلى صاحب تونس يعلمونه بذلك ويستنجدونه، فجهز إليهم ابن عمه أبا زكريا يحيى وجهز معه تقدير عشرين قطعة من المراكب، وثلاثة آلاف فارس، وعشرة آلاف راجل، فتوجه إليها ونزل عليها، وبلغ ذلك ولد المزاليا صاحب صقلية، فتجهز في طواعيته، وجاءهم بجماعته، فلما أقبلت شوانية خرجت شواني تونس عنها، وأقلعت منها، وعاد أبو زكريا اللحياني ولم ينل مراماً ولا شفى أواما، فدخلها ابن المزاليا وتملكها وأمن أهلها، وأقام بها إلى سنة ست وسبعمائة، والله وأعلم.
وفيها: كان وفاء النيل المبارك على سبعة عشر ذراعاً وخمسة عشر إصبع، وكانت السنة من السنين المقبلة على الناس من كثرة الغلال ورخص الأسعار.
وفيها: حج بالناس الأمير سيف الدين بكتمر أمير جندار، وصنع لفقراء الحرمين معروفاً، وفرق من الأموال ألوفاً، قيل: إنه قد فرق من ماله خمسة وثمانين ألف دينار مصرية.
وقال صاحب أن الأمير بكتمر هذا جهز سبعة مراكب قمحاً وشعيراً ودقيقاً وسكراً، وزيتاً وحلواء وقاووتاً سوى ما حمله معه على الجمال، وعند وصوله إلى ينبع قد وجد ثلاث مراكب قد وصلت قبله بيومين، فأخرج جميع ما فيها وجعل كل صنف من الأصناف المذكورة كوماً بمفرده، وأمر منادياً ينادي في الركب أن أي من كان محتاجاً إلى مؤنة أو حلواء أو شيئاً من ذلك، فليحضر إلى خيمة الأمير، فحضرت الناس وفرق عليهم، ثم فرق على الأمراء والجند من الحجاج وعلى أرباب البيوت كذلك، وما فضل من ذلك فرق على أهل ينبع، وعند الرحيل بقيت بقايا من الدقيق والشعير.
ولم يحج أحد في هذه السنة من الشام، والذي حج راح إلى غزة ولحق بالمصريين عند عقبة أيلا.
ذكر من توفي فيها من الأعيان
الشيخ الصالح حسن الكردي المقيم بالشاغور في بستان يأكل من غلته، ويطعم من ورد عليه، وكان يزار، وكانت له كرامات وأحوال، ولما احتضر اغتسل وأخذ من شعره، واستقبل القبلة وركع ركعات، ثم توفي يوم الإثنين الرابع من جمادى الأولى منها وقد جاوز المائة، وصلى عليه بجامع جراح، ودفن بمقابر باب الصغير.
الشيخ يعقوب بن محمد بن حسن الزرزاري الكردي العدوي، توفي في هذه السنة.
الشيخ الإمام العالم العلامة محمود بن أبى بكر بن أبي العلاء الكلاباذي البخاري الفرضي، الملقب شمس الدين، أحد السادات الحنفية.
له المصنفات الفائقة في الفرائض وغيرها، وكان محدثاً متقناً فاضلاً، حسن الأخلاق، سمع ببخاري وقدم بغداد، فأقام بها يسمع وصنف وكتب، ثم رحل إلى دمشق والقاهرة وسمع بها من أصحاب ابن طبرزد والكندي، وحدث. قال الذهبي: هو رأس في الفرائض، عارفاً بالحديث والرجال، جم الفضائل، مليح الكتابة، واسع الرحلة، سود كتاباً كبيراً في مشتبه النسب ونقلت منه كثيراً، وسمع منه الحافظ المزي وابن سيد الناس وغيرهما، ومولده ببخارى في مستهل جمادى الأولى سنة تسع وأربعين وستمائة.
وفي تاريخ ابن كثير: توفي بدمشق في العشر الأول من ربيع الأول سنة سبعمائة. وذكر غيره: أنه مات بماردين.
الشيخ الصالح المسند عز الدين أحمد بن عبد الحميد بن عبد الهادي بن يوسف بن قدامة المقدمي.
كان شيخا مباركاً كثير الصلاة والذكر، حسن الخلق، متودداً إلى الناس، سمع جماعة، وحدث بجميع مسموعاته، مات في هذه السنة بجبل الصالحية، ودفن بتربة الشيخ موفق الدين بقاسيون.
الشيخ عماد الدين القصاص، الفقيه الأحمدي المزمزم.
مات فيها بزاويته بميدان الحمصي، ودفن بمقابر الصغير، وكان فقيراً حسناً، مليح الشيبة، معروفاً ومشهوراً.
الشيخ الصالح أبو عبد الله محمد بن أبي بكر عبد الرحمن بن عبد الله الكنجي.
جاور بجامع بني أمية بدمشق أكثر من ستين سنة، وسمع من الزين خالد، والحرستاني، وابن عبد الدايم، وابن البرهان، وكان من الصلحاء الأخبار، كثير الذكر والعبادة، مات في هذه السنة، وكان قد بلغ تسعين سنة، ودفن بمقابر باب الصغير.
الشيخ يوسف بن أحمد بن أبي بكر الغسولي الصالحي الحجار.(1/391)
كان قد انفرد بالراوية عن موسى بن الشيخ عبد القادر وبأشياء، ومولده في سنة اثنتي عشرة وستمائة، ومات في هذه السنة.
الشيخ الصالح عبد الله، المعروف بالفانولة.
كان من عقلاء المجانين، وله كرامات ومكاشفات وكان على حاله مسفة من خشونة العيش، مات بمسجد الرفاعة العتيقة بدمشق، ودفن بسفح قاسيون بتربة المولهين.
الشيخ عمار المشرقي الموله.
كانت له كرامات ومكاشفات، وكان يعلق في رقبته عظام الجمال، مات في هذه السنة.
الشيخ الكبير المعمر شمس الدين أبو إسحاق إبراهيم بن أبي بكر بن عبد العزيز الجزري الكتبي، المعروف بالفاشوشة، ويعرف أيضاً بابن سمعون.
كان مشهوراً بالكتب ومعرفيها والتجارة فيها، وكانت عنده فضيلة تامة، ومذاكرة حسنة، ومروءة كثيرة، وكرم نفس، كثير السعي في حوائج أصحابه. وعلى ذهنه قطعة جيدة من التاريخ وأيام الناس وماجراياتهم.
وله نظم حسن، فمنه قوله:
وما ذكرتكم إلا وضعت يدي ... على حشاشة قلب قل مابردا
وما تذكرت أياماً بكم سلفت ... إلا تحدر من عيني ما بردا
وله مخمس:
ولما وقفنا بالقوير وعينه ... من الربع قد بانوا وبان قرينه
وقد كاد من حزن تدك حرونه ... بكيت على الوادي ففاضت عيونه
ونحت على النادي فمالت غصونه
زماناً تذكرت الحمى وأحبتي ... ولذة عيش معهم لي تولت
سقيت رياه من سحائب مقلتي ... وأحرقت بان الجروع من حر رذى
فأسهله مسوده وحزونه
وكيف يطيق الغمض أو يعرف الكرى ... محب جرى من جفن عينيه ما جرى
ويؤلمه مس النسيم إذا سرى ... وإني امرء أضحى من السقم لا يرى
ولا يعرفون الناس إلا أنينه
سألتكم بالله يا ساكني قبا ... صلوا مغرما أمسى حزيناً معذبا
سوى حبكم لم يتخذ قط مذهبا ... يحن اشتياقاً كلما هبت الصبا
وتبكيه شجواً سرب سلع وعينه
له مهجة ذاب بطول عنائها ... وأجفانه قد فرجت من دمائها
رحلتم فأضحى ذاهب العقل تائها ... وما جادت السحب العوادي بمائها
سل الذي جادت عليكم جفونه
لقد شمتت من بعد بعدكم العدا ... وقد بان يوم البين طرفي مسهدا
فرقوا الصب بالسقام قد ارتدى ... تهيجه نوح الحمام إذا شدى
ويعلقه وجدانه وحنينه
غدا يوم وشك البين في زي حابر ... يسائل عنكم كل عاد سائر
حكمتم عليه في الهوى حكم جائر ... ولولاكم ماهاجه نوح طاير
ولافاض من أجل الظبا عيونه
ألا أيها الحادي المحث لركبه ... إذا جزت في وادي الأواك وكثبه
فقل للظبا الراتعات بسربه ... لكل محب فن وجد يحبه
وصبكم فيكم كثير فنونه
مات بدمشق في التاسع عشر من رجب منها، ودفن بسفح قاسيون، ومولده سنة اثنتين وستمائة بالجزيرة العمرية.
الشيخ أبو جلنك أحمد بن أبي بكر الحلبي، الشاعر المشهور.
كان بقلعة حلب أيام وصول التتار إليها، فنزل هو وجماعة للكشف والإغارة على التتار، فوقعت نشابة في فرسه فمات وبقى راجلاً فأسروه وأحضروه بين يدي المقدم، فسأله عن عسكر المسلمين فكثرهم ورفع شأنهم، فأمر بقتله، فقتل.
ومن نظمه قوله:
أتى العذار بماذا أنت معتذر ... وأنت كالوجد لا تبقى ولا تذر
لا عذر يقبل إذ نم العذار ولا ... ينجيك من شره خوف ولا حذر
كأنني بوحوش الشعر قد أنست ... بوجنتيك وبالعشاق قد نفروا
وكلما مر بي مرد أقول لهم ... قفوا انظروا وجه هذا الحر واعتبروا
هذا الذي قد سرت يا صاحبي له ... بقبح سيرته بين الورى سير
قد كان شكلاً نقى الخد معتدلا ... كأنه غصن بان فوقه قمر
ذا حمرة وبياض فوق وجنته ... لها اجتماع بطرف زانه الحور
وحكمه نافد في عاشقيه فلا ... يخالفون له أمراً إذا أمروا(1/392)
فعاد لحيان فانفل الجماعة إذ ... رأوا طريقاً إلى السلوان وانتصروا
وعاد في قبضتهم لا شكر جودلة ... الأفراح والدمع من عينيه منهمر
يبكي على ما مضى من حسنه اسفا ... وعسكر الشعر من خديه معتكر
لا يستطيع له رداً وكم حرصوا ... برد ذلك أقوام فما قدروا
فهذه الموتة الأولى تجرعها ... فصار أولى من الدنيا به الحفر
فاقرأ على نعشه آخر سبأ فلقد ... جاءت بما يقتضي أحواله السور
إذ كان حاجبه نوناً وناظره صاداً ... وعشاقه من حوله زمر
إذا رأى عاشقاً في النازعات غدا ... ما بعدها وهو قد أودى به الضرر
فعاد والليل يغشى نور طلعته ... وزال عن عاشقيه الهم والحصر
هذا جزاؤك يا من لا وفاء له ... والعاشقون لهم طوبى بما صبروا
وله:
جعلتك المقصد الأقصى وموطنك ال ... بيت المقدّس من روحي وجثماني
وقلبك الصخرة الصّماء حين قست ... قامت قيامة أشواقي وأشجاني
أما إذا كنت ترضى أن تقاطعني ... وأن يزورك ذا زور وبهتان
فلا تغرك نار في حشاي فمن ... وادي جهنم تجري عين سلوان
ولآخر ألطف من هذا:
أيا قدس حسن قلبه الصخرة التي ... قست فهي لا ترثي لصبّ متيم
ويا سولي الأقصى عيني باب رحمة ... ففي كبد المشتاق وادي جهنم
ولأبي جلنك المذكور في مليح يصفع عاشقه:
وشادن يصفع مغرى به ... براحة أندى من الوابل
فصحت في الناس: ألا فاعجبوا ... بحر غدا يلطم في الساحل
الأمير عز الدين أيدمر الظاهري، الذي كان نائب الشام في الأيام الظاهرية.
مات برباطه بالجبل ودفن به، وكان رجلاً كبير القدر، شجاعاً مقداماً، كريم النفس، وكانت له جماعة من المماليك أمراء، فمن جملتهم الأعسر وأيدمر النقيب وآخرون.
الأمير عز الدين محمد بن أبي الهيجاء الهمداني الإربلي متولي دمشق.
كانت لديه فضائل كثيرة في التاريخ والشعر، وربما جمع شيئاً من ذلك، قيل: جمع مجلداً ابتدأ فيه من النبي عليه السلام إلى وقعة قازان، وكان يسكن درب سعود فعرف به، فيقال: درب بن أبي الهيجاء.
وقال ابن كثير: وهو أول منزل نزلناه حتى قدمنا دمشق في سنة ست وسبعمائة.
وكانت وفاة ابن أبي الهيجاء في طريق مصر بالسّوادة، ونقل إلى جبل قاسيون، فدفن به، ومولده سنة عشرين وستمائة بإربل، ومات وله ثمانون سنة، وكان مشكور السيرة، حسن المحاضرة.
الأمير جمال الدين أفوش الشريفي، وإلى الولاة بالبلاد القبلية.
وتولى نيابة الصلت أيضا، توفي في شوال منها، وكانت له هيبةً وسطوةً.
الأمير الكبير سيف الدين بلبان السلحدار المنصوري، معروف بالطباخي.
مات بالعسكر على الساحل وهو البيكار الذي خرج فيه السلطان إلى جهة الشام، ودفن عند قبر بنيامين بن يعقوب عليه السلام، فورثه الملك الناصر بالولاء وصارت إليه أمواله ومماليكه، وكان من أعيان الأمراء وشجعانهم، وأكثرهم مماليك وأصحاب، وليّ نيابة السلطنة بحلب مدة، وكانت سيرته في ولايته حميدة، وكان قليل الأذى، كان إذا غضب على أحد يكون عقوبته البعد عنه من غير ضرب ولا مصادرة.
وفي النزهة: كان بلبان هذا اشتراه الحاج إبراهيم أخو جاشنكير الملك المنصور، فرباه وهو صغير، وكان يدخل مع أستاذه يحمل سرموحته عند قلاون وهو أمير، فرآه فطلبه منه وأخذه، وعوضه عن ثمنه ثلاثة آلاف درهم، واستمر عنده إلى أن تسلطن قلاون وكان من أمره ما كان.
الطواشي صفي الدين جوهر التفليسي المحدث.
اعتنى بسماع الحديث وتحصيل الأجزاء، وكان رجلاً جيداً، مباركاً صالحاً، ووقف أجزاءه التي ملكها على المحدثين، مات في هذه السنة، رحمه الله.
فصل في ما وقع من الحوادث في
السنة الحادية بعد السبعمائة
استهلّت هذه السنة: والسلطان هو: الملك الناصر، والخليفة هو: الحاكم بأمر الله العباسي، ونوّاب البلاد والقضاة وهم المذكورون قبلها.
ذكر جواب السلطان عن كتاب قازان(1/393)
قد ذكرنا كتاب قازان إلى الملك الناصر في السنة الماضية، وذكرنا نسخته.
وفي أول هذه السنة حصل الإهتمام بإعادة جواب كتاب قازان وإرسال الرسل إليه، فجهز إليه الأمير حسام الدين أزدمر المجيري أحد الأمراء، والقاضي عماد الدين بن السكري من أعيان القضاة والكبراء، وكتب الجواب على يدهما وأنشأ الكتاب وكتبه القاضي علاء الدين بن محيي الدين بن عبد الظاهر.
ذكر نسخة الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم: بقوة الله وميامين الملة المحمدية.
أما بعد حمد الله الذي جعلنا من السابقين الأولين الهادين المهتدين، التابعين لسنة سيد المرسلين بإحسان إلى يوم الدين، والصلاة على سيدنا محمد، والسلام على آله وصحبه الذين فضل الله من سبق منهم إلى الإيمان في كتابه المكنون. فقال سبحانه وتعالى: " والسابقون السابقون، أولئك المقربون ".
بإقبال دولة السلطان الملك الناصر. كلام محمد بن قلاون.
فليعلم السلطان المعظم محمود غازان أن كتابه ورد، فقابلناه بما يليق بمثلنا لمثله من الإكرام، ورعينا له حق القصد فتلقيناه منا بسلام، وتأملناه تأمل المتفهم لدقائقه، المستكشف عن حقائقه، فألفيناه قد تضمن مؤاخذة بأمور، هم بالمؤاخذة عليها أحرى، معتذراً في التعدي بما جعله ذنوباً لبعض طالب بها الكل، والله يقول: " ولا تزر وزرة وزر أخرى ".
أما حديث من أغار على ماردين فمن رجّالة بلادنا المتطرفة، وما نسبوه إليهم من الإقدام على الأمور البديعة، والأحوال الشنيعة. وقولهم إنهم أنفوا من تهجّمهم، وغاروا من تقحمهم، واقتضت الحمية ركوبهم في مقابلة ذلك، فقد تلمّحنا هذه الصورة التي أقاموها عذراً في العدوان، وجعلوها سبباً إلى ما ارتكبوه من طغيان فالجواب عن ذلك أن الغارات من الطرفين، لم يحصل من المهادنة والموادعة ما يكف يدها المتدة ولا يغير هممها مستعدة، وقد كان آباؤكم وأجدادكم على ما علمتم من الكفر والنفاق، وعدم المصافاة للإسلام والوفاق، ولم يزل ملك ماردين ورعاياه منفذين ما يصدر من الأذى للبلاد والعباد، عنهم متوليّين، كبر مكرهم، والله تعالى يقول: " ومن يتولهم منكم فإنه منهم ".
ومن حيث جعلتم هذا جنباً موجباً للحمية الجاهلية، وحاملاً على الانتصار الذي زعمتم أن هممكم به مليّة، فقد كان هذا القصد الذي ادعيتموه يتم بالإنتقام من أهل تلك الأطراف التي أوجب ذلك فعلها والاقتصار على أخذ الثأر ممن ثار، اتباعاً لقوله تعالى: " وجزاء سيئة سيئةٌ مثلها " لا أن تقصدوا الإسلام بالجموع الملفقة على اختلاف الأديان، وتطأوا البقاع الطاهرة بعبدة الصلبان، وتنتهك حرمة البيت المقدس الذي هو ثاني بيت الله الحرام، وشقيق مسجد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإن احتججتم بأن زمام تلك الغارة بيدنا، وسبب تعدّيهم من سببنا، فقد أوضحنا الجواب عن ذلك، وأن عدم الصلح والموادعة أوجب سلوك هذه المسالك.
وأما ما ادعوه من سلوك سنن المرسلين، واقتفاء آثار المتقدمين في إنفاذ الرسل أولاً، فقد تلمحنا هذه الصورة، وفهمنا ما أوردوه من الآيات المسطورة، والجواب عن ذلك أنهم ما وصلوا إلاّ وقد دنت الخيام من الخيام، وناضلت السهام عن السهام، وشارف القوم القوم، ولم يبق للقاء إلاّ يوم أو بعض يوم، وأشرعت الأسنة على الجانبين، ورأى كلّ خصمه رأي العين، ولا نحن ممن لاحت له رغبة راغب، فتشاغل عنها ولها، ولا ممن يسالم فيقابل ذلك بجفوة النفار والله تعالى يقول: " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ". كيف والكتاب بعنوانه، وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: ما أضمر الإنسان شيئاً إلاّ أظهره الله في صفحات وجهه وفلتات لسانه. ولو كان حضور هؤلاء الرسل والسيوف وادعة في أغمادها، والأسنة مستكنةٌ في أعوادها، والسهام غير مفوقة، والأعنة غير مطلقة، لسمعنا خطابهم، وأعدنا جوابهم.
وأما ما أطلقوا به لسان قلمهم، وأبدوه من غليظ كلمهم في قولهم: فصبرنا على تماديكم في غيّكم، وإخلادكم إلى بغيكم، فأيّ صبر ممن أرسل عنانه إلى المكافحة، قبل إرسال رسل المصالحة، وجاس خلال الديار، قبل ما زعمه من الإنذار والإعذار، وإذا فكروا في هذه الأسباب، ونظروا فيما صدر عنهم من خطاب، علموا الغدر في تأخير الجواب، وما يتذكر إلاّ أولوا الألباب.(1/394)
وأما ما يتحججوا به مما اعتقدوه من نصرة، وظنوا من أن الله جعل لهم على حزبه الغالب في كل كرة الكرّة، فلو تأملوا ما ظنّوه ربحاً لوجدوه هو الخسران المبين ولو أمعنوا النظر في ذلك لما كانوا به مفتخرين، ولتحققوا أن الذي اتفق لهم كان غرماً لا غنماً، وتدبّروا معنى قوله تعالى: " انما نملي لهم ليزدادوا إثماً ". ولم يخف عنهم ما أبلته السيوف الإسلامية منهم، وقد رأوا عزم من حضر من عساكرنا التي لو كانت مجتمعة عند اللقاء لما ظهر خبر عنهم، فإنا كنا في مفتتح ملكنا، ومبتدي أمرنا حللنا بالشام للنظر في أمور البلاد والعباد، فلما تحققنا خبركم، وقفونا أثركم، بادرنا نقدّ أديم الأرض سيراً وأسرعنا لندفع عن المسلمين ضرراً وضيراً ونؤدي من الجهاد السنة والفرض، ونعمل بقوله تعالى: " وسارعوا إلى مغفرة ردمن ربكم وجنة عرضها السموات والأرض ".
فاتفق اللقاء بمن حضر من عساكرنا المنصورة، وثوقاً بقوله تعالى: " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة "، وإلا فأكابركم يعلمون وقائع الجيوش الإسلامية التي كم وطئت موطئاً يغيظ الكفار، فكتب لها به عمل صالح، وسارت في سبيل الله يفتح الله عليها أبواب المناجح، وتعدّدت أيام نصرتها التي لو دققتم الفكر فيها لأزالت ما حصل عندكم من لبس، ولما قدرتم أن تنكروها، وفي تعب من يجحد ضوء الشمس، وما زال الله لها نعم المولى ونعم النصير، وإذا راجعتموهم قصّوا عليكم نبأ النصرة: " ولا ينبئك مثل خبير ".
وما زالت تتفق الوقائع بين الملوك والحروب، وتجري المواقف التي هي بتقدير الله فلا فخر فيها للغالب ولا عار على المغلوب، وكم من ملك أُستظهر عليه ثم نُصر، وعادوه التأييد فجبره بعدما كُسر، خصوصاً ملوك هذا الدين، فإن الله تكفّل لهم بحسن العقبى فقال سبحانه: " والعاقبة للمتقين ".
وأما إقامتهم الحجة علينا، ونسبتهم التفريط إلينا، كوننا لم نسّير إليهم رسولاً عند حلولنا بدمشق، فنحن عندما وصلنا إلى الديار المصرية لم نُزد على أن اعتددنا وجمعنا جيوشنا من كل مكان، وبذلنا في الإستعداد غاية الجهد والإمكان، وأنفقنا جزيل الأموال في جمع العساكر والجحافل، ووثقنا بحسن الحلف لقوله تعالى " مثل الذين يُنفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبةٍ أنبتت سبع سنابل ".
ولما خرجنا من الديار المصرية بلغنا خروج الملك من البلاد، لأمر حال بينه وبين المراد، فتوقفنا عن المسير توقف من أغنى رغبة عن حث الركاب، وتلبثنا تلبث الراسيات، " وترى الجبال تحسبها جامدةً وهي تمر مرّ السحاب " وبعثنا طائفة من العساكر لمقابلة من أقام بالبلاد، فما لاح لهم منهم بارق ولا ظهر، وتقدمت فلحقت من حمله على التأخير الغرر، ووصلت الفرات فما وقعت للقوم على أثر.
وأما قولهم إنا ألفينا في قلوب العساكر والعوام أنهم فيما بعد يلتقوننا على حلب أو الفرات. وأنهم جمعوا العساكر ورحلوا إلى الفرات وإلى حلب مرتقبين وصولنا، فالجواب على ذلك أنه حين بلغنا حركتهم جزمنا، وعلى لقائهم عزمنا، وخرجنا وخرج أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله ابن عم سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الواجب الطاعة على كل مسلم، المفترض المبايعة والمتابعة على كل معترض ومسلّم، طائعين لله ولرسوله في أداء فرض الجهاد، باذلين في القتال بما أمرنا الله غاية الاجتهاد، لا يتم أمر دين ولا دنيا إلا بمتابعته، ومن والاه فقد حفظه الله وتولاه، ومن عانده أو عاند من أقامه فقد أذله الله، فحين وصلنا إلى البلاد الشامية تقدمت عساكرنا تملأ السهل والجبل، وتبلغ بقوة الله في النصر الرجاء والأمل، ووصلت أوائلها إلى أطراف بلاد حماة وتلك النواحي، فلم يقدم أحد عليها، ولا جسر أن يمد حتى ولا الطرف إليها، فلم نزل مقيمين حتى بلغنا رجوع الملك إلى البلاد، وإخلافه موعد اللقاء، والله لا يخلف الميعاد، فعدنا لاستعداد جيوشنا التي لم تزل تندفع في طاعة الله تعالى اندفاع السيل، عاملين بقول الله تعالى: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ".(1/395)
وأما ما جعلوه عذراً في الإقامة بأطراف البلاد وعدم الإقدام عليها، وأنهم لو فعلوا ذلك ودخلوا بجيوشهم ربما أفسد البلاد مرورها، وبإقامتهم فيها فسدت أمورها، فقد فهم هذا المقصود، ومتى ألفت البلاد والعباد منهم هذا الإشفاق؟، ومتى اتصفت جيوشهم بهذه الأخلاق؟، وها آثارهم موجودة، ودعاوى خلافها بمشاهدة الحال مردودة، وهل هذا اعتماد من رمق شخص الإسلام بإنسانه؟، كيف ورسول الله عليه السلام يقول: " المسلم من سلم الناس من يده ولسانه "، وأسارى المسلمين عندهم في أشدّ وثاق، في يد الأرمن والتكفور منهم يخالف ما أدعوه من الإشفاق.
وقد كان المسلمون غزوا عسكر أبغا وقتلوا من قتلوا من التتار، وحصل لهم التمكن في البلاد والاستظهار. واستولوا على ملك آل سلجوق ولا تعرضوا لدار ولا جار، ولا عفوا أثراً من الآثار، ولا حصل لمسلم منهم ضرر، ولا أوذي في ورد ولا صدر، وكان أحدهم يشتري قوته بدرهمه وديناره، ويأبى أن يمتد إلى أحد المسلمين يد أضراره، هذه سنة أهل الإسلام، وفعل من يريد لملكه الدوام.
وأما ما أرعدوا به وأبرقوا، وأرسلوا فيه عنان قلمهم وأطلقوا، وما أبدوه من الاهتمام بجمع العساكر، وتهيئة المجانيق إلى غير ذلك مما ذكروه من التهويل، فالله تعالى يقول: " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ".
وأما قولهم وإلا فدماء المسلمين مطلولة، فما كان أغناهم عن هذا الخطاب، وأولاهم بأن لا يصدر عن ذلك جواب، ومن قصده الصلح والإصلاح، كيف يقول هذا القول الذي عليه فيه من جهة الله وجهة رسوله أي جناح؟ وكيف يضمر هذه النية، وينجح بهذه الطوية، ولم يخف مواقع هذا القول وخلله؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " نية المرء أبلغ من عمله ". وبأي طريق تهدر دماء المسلمين التي من تعرض إليها يكون الله له في الدنيا والآخرة مُطالباً وغريماً، ومؤاخذاً بقوله تعالى: " ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها، وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له عذاباً عظيماً ".
وإذا كان الأمر كذلك فالبشرى لأهل الإسلام بما نحن عليه من الهمم المصروفة إلى الإستعداد وجمع العساكر التي يكون لها الملائكة الكرام إن شاء الله تعالى من الإمداد، والإستكثار من الجيوش الإسلامية المتوفرة العُدد، المتكاثرة المدد، المدعوة بالنصر الذي يحفها في الظعن والإقامة، الواثقة بقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على عدوهم إلى يوم القيامة "، المبلغة في دين الله آمالاً، المستعدة لإجابة داعي الله إذ قال: " انفروا خفافاً وثقالاً ".
وأما رسلهم وهم فلان وفلان فقد وصلوا إلينا، ووفدوا علينا، فأكرمنا وفادتهم، وعززنا لأجل مُرسلهم من الإقبال مادتهم، وسمعنا خطابهم، وأعدنا جوابهم، هذا مع كوننا لم يخف علينا انحطاط قدرهم، ولا ضعف أمرهم، وأنهم ما دُفعوا لأفواه الخطوب، إلا لما ارتكبوه من ذنوب، وما كان ينبغي أن يُرسل مثل هؤلاء لمثلنا من مثله، ولا يُندب لهذا المهم إلا من يُجمع على فصل خطابه وفضله.
وأما ما التمسوه من الهدايا والتحف، فلو قدموا من هداياهم حسنة لعوضناهم بأحسن منها، ولو أتحفونا بتحفة لقابلناها بأجل عوض عنها، وقد كان عمه الملك أحمد راسل والدنا السلطان الشهيد، وناجاه بالهدايا والتحف من مكان بعيد، وتقرب إلى قلبه بحسن الخطاب، فأحسن له الجواب، وأتى البيوت من أبوابها بحسن الأدب، وتمسك من الملاطفة بأقوى سبب.(1/396)
والآن فحيث انتهت الأجوبة إلى حدها، وأدركت الآنفة من مقابلة ذلك الخطاب غاية قصدها، فنقول: إذا جنح الملك للسلم جنحنا لها، وإذا دخل في الملة المحمدية ممتثلاً ما أمر الله به مجتنباً ما عنه نهى، وانضم في سلك الإيمان، وتمسك بموجباته تمسك المتشرف بدخوله فيه لا المنّان، وتجنب التشبه بمن قال الله في حقهم: " قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان "، وطابق فعله قوله، ورفض الكفار الذين لا يحل له أن يتخذهم حوله، وأرسل إلينا رسولاً من جهته يرتل آيات الصلح ترتيلاً، ويروق جوابه وخطابه حتى يتلو كل أحد: يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً. صارت حجتنا وحجة المركبة على من خالف ذلك، وكلمتنا وكلمته قامعة أهل الشرك في سائر الممالك، ومظافرتنا له تكسب الكافرين هوانا، والمُشاهد لتصافينا يتلو قوله تعالى: " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً ".
وينتظم إن شاء الله شمل الصلح أحسن انتظام، ويحصل التمسك من الموادعة والمُصافاة بعروة لا انفصال لها ولا انفصام، وتستقر قواعد الصلح على ما يُرضي الله ورسوله عليه أفضل الصلاة والسلام.
قال صاحب النزهة: وختم الكتاب وأرسل على يد الرسل الذين ذكرناهم من جهة السلطان صحبة الرسل الواردين من جهة قازان في العشرين من المحرم من هذه السنة.
ذكر ما جرى للأمير حسام الدين المجيري مع قازان
قال القاضي جمال الدين بن الكرم في تاريخه: قال المجيري لما حضرت بين يدي قازان أوقفني بعيداً منه وسألني عن أمور كثيرة وتحدث مع الحجاب، فكان أول كلامه لي: ما اسمك؟ قلت: أُزدمر. قال: لا أنتم تتسمون بأسماء ثلاثة، قلت: نعم. قال: وما هي أسماؤك أنت؟ قلت: حسام الدين أزدمر المجيري. قال: وما معنى المجيري؟ قال: فقبلت الأرض وقلت: يحفظ الله القان، نحن يشترينا التجار ونحن صغار، ثم يجلبوننا إلى البلاد، يُنسب كل منا إلى اسم تاجره أو لقبه، وكان اسم أستاذي الذي اشتراني مجير الدين. فقالوا لي: المجيري. قال: صدقت، ثم قال: ما جنسك؟ فقلت: تركي. قال: من أيّ الترك؟ قلت: من قفجاق. قال: صدقت.
قال المجيري: لما سألني قازان عن أشياء كثيرة، فجاوبته عنها، وعرف مني الصدق في القول، قربني إليه، ثم سألني عن أشياء أخرى منها: أنه قال لي: ما محلك عند السلطان - يعني الملك الناصر -؟ قلت: جندي. قال: جندي؟ قلت: نعم. قال: فنظر إلي وأطال نظره، ثم قال: مثل ملك مصر يُرسل إلي مثلي جندياً. قلت: نعم. قال: ما أنت أمير؟ قلت: نعم. قال: على بابك طبلخاناة. قلت: نعم. قال: فكيف تقول: أنا جندي. قال: فقبلت الأرض وقلت: يحفظ الله القان إنما الأمير هو جندي السلطان، والجندي هو جندي الأمير وكلنا جند الله، ثم قال لي: أنت مملوك هذا السلطان وشراء ماله. قلت: مملوكه ومملوك أبيه وأخيه، وهو الذي أحسن لي وأنشأني وعمل معي خيراً، وعمل على بابي طبلخاناة، وإنما أنا مملوك الملك الظاهر البندقداري، ثم قال لي: كم رأيت مصافاً؟ قلت: في نفسي ما للسكوت محل، فقبلت الأرض وقلت: يحفظ الله القان، إني كنت مع جدك هلاون نوبة تمرقابو، قال: لما سمع هذا الكلام أطرق برأسه إلى الأرض، ثم التفت إلى شيخ من التركمان إلى جانبه وتحدث معه، ثم قال: كيف هربتم منا؟ فقبلت الأرض وقلت: عسكراً كثيراً لهم سنون يهربون منا، ونحن هربنا منكم مرة واحدة، وما كان هروبنا منكم خوفاً من كثرتكم ولكن احتقاراً بكم. قال الملك: كيف ذلك؟ قلت: يحفظ الله القان، نحن كسرنا التتر مرات عديدة مدة سنين من أيام جدك هلاون حتى صار ملتقاهم علينا أهون ما يكون، وإن عساكر مولانا السلطان الملك الناصر عساكر كثيرة وخلق عظيم لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، وإن لنا أعداء كثيرة من سائر الأقاليم، ولنا إقليم يُعرف ببلاد قوص، وهي تجاور بلاد السودان، تركنا فيها عشرة آلاف فارس، وتركنا أيضاً بإقليم يُعرف ببلاد دمياط مجاورة لأقاليم الإفرنج عشرة آلاف فارس، وكل هذا مع قلة اهتمامنا بالتتر، وكانت سعادة القان كبيرة، وكان في ذلك في الكتاب مسطوراً.(1/397)
قال المجيري: وكل هذا جرى بيني وبينه ولم يكن بيننا غير حاجب واحد وهو يسمع كلامي مشافهة، ولم يحصل لي منه حرج إلا في كلام واحد. قال: ثم سألني قازان فقال: كيف يترك أمراؤكم الرجال ويستخدمون الشباب، وأراد بذلك المُردان.
قال المجيري: فعلمت أنه يريد أذاي، فجاوبته بجواب أسخطه عليّ، فقبلت الأرض وقلت: يحفظ الله القان، إن أمراءنا ما كانوا يعرفون شيئاً من ذلك، وإنما هذا استجدّ في بلادنا لما جاء إلينا طرغاي، فإنه لما ورد كان معه شباب من أولاد التتر، فاشتغل الأمراء بهم عن النساء.
قال المجيري: لما سمع قازان مني هذا الجواب أطرق إلى الأرض وعظم عليه كلامي، والتفت إلى جماعة من أعيان التتر، فتحدث معهم بلسان التتر، وأنا واقف بين يديه، ثم التفت إلى القاضي عماد الدين بن السكري فقال: يا قاضي تشهد على صاحبك بما قال؟. قال: نعم، والله منذ حضرنا بين يديه إلى حين خروجنا من عنده لم يتحدث مع القاضي عماد الدين غير هذا الكلام.
قال المجيري: ثم سألني قازان على لسان حاجبه ما تقول في نسائنا ونسائكم؟ فقبلت الأرض وقلت: أيدّ الله الملك، إنه ملك عظيم، فيقبح أن نذكر النساء في مثل هذا المجلس، إن نساءنا يستحين من الله ومن الناس، فيسترن وجوههن وأما نساؤكم فأنتم أخبر بحالهن. قال: فأطرق قازان رأسه إلى الأرض زماناً، ثم أمر حاجبه أن يحطونا في لفة منجنيق ويرمونها.
قال: فلما خرجنا من عنده توضأ للموت، وقام القاضي عماد الدين ليتوضأ وهو يرتعد وتطقطق أسنانه، فتبسمت، فالتفت إلي وقال: يا حسام الدين هذا وقت الضحك. قلت له: يا قاضي لا تخف فلن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.
قال المجيري: كان قازان سألني قبل أن أخرج من بين يديه كم يكون في عسكركم مثلك تركي؟ قلت: عشرون ألف من الفرسان، فالتفت الملك غازان إلى أمير علي بن بركنجان - وكان بعيداً منه - فأشار إليه، فدنا منه وقال: ما تقول في حسام الدين؟ أصحيح ما يقوله أم لا؟ قال: والله يا خوند ما قال صحيحاً. وحق رأس القان ما في عسكر مصر مثله خمسة أنفس. قال: فالتفت نحوي وقال: يا حسام الدين تسمع ما قال ابن بركنجان. قلت: وما يقول أيدّك الله؟ قال: يقول إنك ما قلت الصحيح.
قال المجيري: فقبلت الأرض وقلت: يحفظ الله القان هو والله ما قال الصحيح، وهو من جملة الذين ما رضى بهم السلطان أن يستخدمهم في عسكر مصر وأعطاه أربعة آلاف درهم في حلب، ولو وجد في مصر أربعة آلاف ما هرب وجاء إليكم، فالتفت قازان إلى ابن بركنجان فقال له: أنت من عسكر الشام، فأطرق، فقال قازان: أنت لما جئت إلينا ما قلت أنا من عسكر مصر. قال المجيري: قلت وحق رأس القان هو أقل من في عسكر الشام.
قال: ثم لما خرجنا من بين يدي قازان على أنهم يحطونا في المنجنيق إذا بمرسوم ثانٍ أتى بأن يحبسونا في مدرسة هناك ولا يمكنوا أحداً من العبور إلينا لا المهمندار ولا غيره من الناس ممن نعرف وممن لا نعرف. قال: فعلمنا عند ذلك أنه غضبان علينا، وسنذكر ما جرى عليهم بعد ذلك إن شاء الله تعالى.
ذكر عصيان عربان الوجه القبليّ(1/398)
قال بيبرس في تاريخه: وفي هذه السنة كثرت شكوى الولاة الذين بالوجه القبلي من فساد العربان، وما ظهر منهم من العصيان والنفاق والعدوان، وأنهم لم يزدجروا بالجباية التي أخذت منهم في السنة الماضية، ولم يسيروا مع الرعية والجند السيرة الراضية، بل منعوا الحقوق واعتمدوا العقوق، وقطع أراذلهم الطريق، وهاشوا على الأجناد، وثاروا في البلاد، وأكثروا من الفساد، فسار الأمير سيف الدين سلار، والأمير ركن الدين أستاذ الدار كفيلا المماليك ومشيراها وممهدا الدولة ومدّبراها إلى الأعمال المذكورة في جموع من العساكر المنصورة، وفرقا العساكر ثلاثة فرق ليحيطوا بهم براً وبحراً، ويأخذوهم حيث حلوا سهلاً ووعراً، فتوجهت فرقة من البر الغربي، وفرقة من الحاجر، وفرقة من البر الشرقي، وضربوا على البلاد حلقة كحلقة الصيد، فبقي العربان جميعاً في حلقتهم، وحصلوا في قبضتهم، فما أفلت منهم أحد من ربقتهم، وأخذوهم بنواصيهم وأقدامهم، وجاءوهم من خلفهم وقدامهم، وأذاقوهم الوبال، ونكلوا بهم كل النكال، وأبادوا مفسديهم، وأهلكوا معتديهم، ومزقوهم تمزيقاً، وفرقوهم بيد الحتوف تفريقاً، وأوثقوا مشايخهم بالقيود، وملأوا من رهائنهم السجون، وأخذوا ما كان لهم من خيل وإبل وبقر وغنم، ومنعوا أن يركب أحد من العربان فرساً أو يحمل سلاحاً، فانطفأت جمراتهم، وزالت مضراتهم، وتمهدت تلك الأعمال تمهيداً واضحاً، وعاد من سلم من مفسدي العرب فقيراً صالحاً، وحمل أكثرهم السواك والسبحة، عوضاً عن حمل الرماح والأسلحة، وكان الذي أُخذ من موجودهم وسيق من خيولهم خمسة آلاف فرس، وعشرون ألف جمل، ومائة ألف رأس غنم، سوى الأبقار والأتن والأغنام، وتركوهم على الديار، وعادوا في أواخر شعبان وقد فرغوا من أمر العربان وتمهيد البلدان، فخلع عليهم السلطان.
وقال صاحب النزهة: وفيها كثر فساد العرب بالوجه القبلي، وقطعوا الطريق، وأوغلوا إلى أن كانوا يدخلون مدينة أسيوط ومنفلوط ويقتسمون تجارها، ويأخذون من كل واحد مبلغاً على زي الجالية، وتسمى كل واحد منهم باسم أمير من أمراء البرجية، وأمروا من بينهم كبيرين، فسموا أحدهما بيبرس والآخر سلار، ومنعوا حقوق الجند والأمراء من المغل، وكانوا يهجمون على السجون ويخرجون منها المفسدين.
ثم اتفق الأمراء على الخروج إليهم، وطلبوا ناصر الدين محمد بن الشيخي متولي الجيزة، وقالوا له أن يمنع سائر المسافرين في البر والبحر، وأي من خرج من مصر شنق، وأشاعوا بالتجهيز إلى الشام، وكتبوا الأوراق بأسماء المقدمين، كل مقدم بمضافيه من الأمراء والأجناد، فكانوا أربعة وعشرين مقدماً بمضافيها، وافترقوا أربع فرق: فرقة في البر الغربي، وفرقة في البر الشرقي، وفرقة في البحر بالحراريق، وفرقة في الطريق السالك، واتفقوا أن يضعوا السيف في الكبير والصغير والرضيع، والحقير والجليل، ولا يرحموا شيخاً ولا صبياً، ولا يبقوا على أحد من الذين يظفرون به، ولا يقع لهم في قلبهم رحمة.(1/399)
وكان سفرهم من مصر في نصف ربيع الآخر، ورسم للأمير شمس الدين الأعسر أن يكون في جهة الواحات، وصحبته خمسة من الأمراء، وتفرقت عشرون من المقدمين الألوف بأمراء الطبلخانات، وتخلف مع السلطان أربع من المقدمين، وكان أول أمرهم من الجيزة وانتهوا في عمل قوص، واستقبلوا من وجدوه بسفك دمه، فمنهم من عف عن الحريم وعن الشيخ الكبير وعن الطفل، ومنهم من استحل الجميع، وكانوا إذا وجدوا رجلاً ويريدون مسكه فيقول الرجل حضري، فيقولون له قل: دقيق، فإذا قالها: دكيك يقتلونه، وإذا قال: دقيق يتركونه، وأخذل الله العرب إلى أن ضاقت عليهم المسالك، ورماهم الله في طريق المهالك، وما أحسوا بالعساكر إلا وقد دهموهم وأخذوا عليهم الطرقات، فأي موضع قصدوه وجدوا فيه طائفة من العساكر حتى إن الغلمان والجمالين يخرجونهم من الأماكن، أما الذين قصدوا جهة البحر فإن أكثرهم قتل بالنشاب والغرق، والذي سلم نفسه إليهم قتلوه، ولم يرفعوا عنهم السيف من الأعمال الجيزية إلى الأعمال القوصية من الشرق إلى الغرب حتى جافت سائر الطرق بالموتى، وأسروا منهم، فمن اختفوا بالفلاحة نحو ألف وستمائة نفر، وحصل للعسكر من الأموال والمواشي والخيل والسلاح ما لا يحصر، والذي فهم بالتقدير وأحيط به العلم من الغنم نحو ستة عشر ألف رأس، ومن الخيل نحو ألف وثمانمائة فرس، ومن الجمال نحو إثني عشر ألف رأس، ومن الأبقار من المعاصير وغيرها نحو ثمانية آلاف رأس، وما يعلم أحد ما حصل من الكسب للجمالين والغلمان، وبيع خروف سمين بثلاثة دراهم وما دونه، وبيع الماعز بدرهم وأقل من ذلك، والجزة الصوف المرعزي بنصف، والكساء بخمسة دراهم، والرطل من السمن بربع درهم، وكذلك الرطل من العسل.
وكانوا يجدون مطامير القمح فلا يلتفت أحد إليها، ولا يجدون من يشتريها أو يحولها، وما رجعت العساكر من بلاد الصعيد إلا وقد تركوها كما قال الله تعالى: " قاعاً صفصفاً، لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا ".
وكان شخص يمشي في بلاد الصعيد بعد رجوع العسكر فلا يجد في طريقه أحداً، وإذا بات في بلد لا يجد من يحدثه فيه غير النساء أو الأطفال الصغار.
ولما وصلوا إلى القاهرة عرضوا الرجال الذين أحضروهم على السلطان، فاقتضى رأيهم أن يصفحوا عنهم ليذهبوا إلى البلاد لحفظ الزراعات والسواقي وغيرهما.
ذكر قضية الفتح أحمد بن البققي
بتاريخ يوم الإثنين الرابع والعشرين من ربيع الأول، قتل الفتح المذكور، وكان من أهل حماة، رمي بالزندقة، فمسك وسجن بالقاهرة ثم حكم فيه القاضي زين الدين بن مخلوف المالكي بما ثبت عنده من تنقيصه للشريعة المطهرة، واستهزائه بالآيات المحكمات، ومعارضته المشابهات، وذكر عنه أنه كان يحل المحرمات من اللواطة وشرب الخمر لمن يجتمع بهم من الفسقة من الترك وغيرهم من الجهلة، هذا وقد كان لديه فضيلة وله اشتغال وهيئة جميلة في الظاهر، ولبسة جيدة، ولما أوقف عند شباك الكاملية ببين القصرين استغاث بالقاضي تقي الدين بن دقيق العيد وقال: ما تعرف مني؟ فقال: إنما أعرف منك الفضيلة، ولكن حكمك إلى القاضي زين الدين، فأمر القاضي للوالي أن يضرب عنقه، فضربت وطيف برأسه في البلد، هذا جزاء من طعن في الله ورسوله.
وفي نزهة الناظر: وكان هذا الرجل من أهل حماة، وله اشتغال، وحفظ كتباً كثيرة، وكان ذكياً مفرطاً، وحفظ سائر كتب الفقه ودواوين الأشعار، وكان قليل الدين، سيء الاعتقاد، كثير الزندقة، وكان قد اشتغل بكتب المنطق والحكمة وهي التي أفسدت عليه نظامه، وكان له إدلال على القضاة وجرأة لسان من غير أن يهاب منهم.
وقال صاحب النزهة: حكى لي الشيخ فتح الدين بن سيد الناس أنه دخل يوماً على قاضي القضاة الشيخ تقي الدين، فسلم عليه ووقف بين يديه وسأله مسألة، وقصد الشيخ أن يجيبه عنها، فولى ظهره وهو يقول: وقف الهوى، وقف الهوى، فأجابه الشيخ تتمة البيت، فلم يعبأ به، وتتمته:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم
أجد الملام على هواك يلذ لي ... حباً لذكرى فليلمني اللوم(1/400)
قال: والتفت إلي الشيخ وقال لي: يا فتح الدين عقبى هذا الرجل إلى التلاف. قال: فوالله كان بين ذلك الكلام وقتله واحد وعشرون يوماً، فإنه صار يقع في حق القاضي زين الدين بن مخلوف قاضي القضاة المالكية ويسبه، ويبلغه ذلك عنه، وبلغ من أمره إلى أن شهدت عليه عنده جماعة كثيرة ممن حضروه: أنه كان عزم على جماعة في بيته وأطعمهم طعاماً، وأنه قام إلى رف عنده في البيت يتناول منه شيئاً فقصرت يده عنه، فوضع الكتاب العزيز تحت رجليه ليطول إلى الرف، فقاموا وأنكروا عليه، فشرع في سبهم بأنهم ناس حمير، ثم تلفظ بعد ذلك بالكفر، فشهدوا عليه عند القاضي زين الدين، وكتبوا محضراً بأمور، ثم أتوا بها إلى قاضي القضاة تقي الدين، فلما وقف عليها قال: ما المراد من هذا؟ قالوا: يا سيدي إثباتها. قال: ما أفتي في رجل يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ورماها من يده، فتوقف حال إثباتها.
وسعت جماعة كثيرة ممن كانوا يعنون بابن البققي من جملتهم ناصر الدين الشيخي وجماعة من أكابر القبط وغيرهم وسألوا القاضي زين الدين في أمره أن يستتيبه، وسعوا فيه بشيء كثير حتى أرادوا أن يثبتوا له جنوناً ليتخلص من هذه الورطة، فكتبوا محضراً وشهدت فيه جماعة كثيرة ممن يسمع قولهم، وأرادوا أن يثبتوه على قاضي القضاة الشيخ تقي الدين لما رأوا عنه الإعراض من إثبات كفره، وفهموا أيضاً أن للشيخ به عناية، فأحضروا المحضر إليه، فلما وقف عليه رفع رأسه وقال: من يجعل المولى فتح الدين مجنوناً؟ ما نعرفه إلا رجلاً عاقلاً، ثم لما أحضروا المحضر إلى القاضي زين الدين ونظر فيه خلاه إلى جانب منه وتفكر في أمره، واقتضى رأيه أنه يصلي تلك الليلة صلاة الاستخارة ويسأل الله في أمره، فلما نام تلك الليلة رأى كأن جماعة جاءوا إليه وبينهم كلب أسود زوبري قدر الكبش، وفي رقبته طوق وزنجير وهم يقودونه إليه، ثم قتلوه وألقوه في حفرة وهو يراه، فلما استيقظ حمد الله تعالى على تلك الرؤيا، وأصبح عازماً على قتله.
ولما فتح بابه وجد شخصاً من طلبته جالساً على الباب، فسلم عليه وناوله ورقة مكتوب فيها من شهاب الدين الأعزازي الشاعر وأخبر أن شهاب الدين المذكور حضر إلى بيته وقت الآذان وأعطاه هذه الورقة وقال: عرف قاضي القضاة ما انتظاره في هذا الزنديق، وفيها من شعره:
قل للإمام العادل المرتضى ... وكاشف المشكل والمبهم
لا تمهل الكافر واعمل بما ... قد جاء في الكافر عن مسلم
فلما وقف عليها تبسم وقال: شاعر ومكاشف، هكذا عزمنا إن شاء الله.
وكتب وهو في سجن المالكي إليه من شعره:
يا من يخادعني باسهم مكره ... بسلاسل نعمت كلمس الأرقم
اعتد لي زرداً تضايق نسجه ... وعلى فكي عيونها بالأسهم
وأرسلها إليه، فوقف عليها وقال: نرجو أن الله لا يمهله لذلك، ثم اجتمع هو والقاضي زين الدين السروجي، وشاوروا السلطان، وعرفوه زندقته وكفره، وكان قد بلغ السلطان أمره، فتحدث السلطان بكلام فهم القاضي منه المهلة عليه، فانزعج القاضي لذلك وقال: هذا الرجل ثبت عندي كفره وزندقته، وقد وجبت عندي إراقة دمه، فلما رأى السلطان تصميم القاضي قال: إذا كان لا بد فاعقدوا له مجلساً بحضور الحكام، فإذا وجب عليه أمر شرعي افعلوه، ورسم لناصر الدين بن الشيخي والحاجب بأن يحضرا المجلس، فجلست القضاة والأمراء في شباك الصالحية وطلبوه من السجن، وشقوا به بين القصرين، وهو بزنجير في رقبته، مكشوف الرأس، وهو يستغيث: يا قوم أتقتلون رجلاً يقول ربي الله ويعلن بالشهادة، إلى أن وصل إليهم، ووقعت الدعوى والإنكار، وأخرجوا الشهادة عليه والإثبات بكفره، فنهض القاضي السروجي وهو ينشد:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم(1/401)
وأشار أن يخرجوه إلى ظاهر المدرسة إلى أن وقف مقابل الشباك وهو يصيح ويعلن بالشهادة ويقرأ القرآن، والتفت الحاجب وناصر الدين للقاضي زين الدين وقالا: يا سيدنا إش ثبت عندك في هذا الرجل؟ قال: ثبت عندي كفره ووجب قتله، فنهض السروجي وقال: إضربوا رقبة الكافر ودمه في عنقي، فأشار في ذلك لعلاء الدين آقبرص بعض مقدمي الحلقة أن يضرب رقبته، وكان قوي اليد، ماضي السيف، فضربه ثلاث ضربات وأراد بذلك تعذيبه، ثم علق جسده على باب زويلة وطيف برأسه المدينة، وكان قد تكهل.
وقال ابن دانيال فيه لما ضربت عنقه:
لا تلم البق في فعله ... إن زاغ تضليلاً عن الحق
لو هذب الناموس أخلاقه ... ما كان منسوباً إلى البق
وقال فيه لما سجن ليقتل:
يظن فتى البققي إنه ... سيخلص من قبضة المالكي
نعم سوف يسلمه المالكي ... قريباً ولكن إلى مالك
ولفتح المذكور شعر، فمنه قوله:
جبلت على حبي لها وألفته ... ولا بد أن ألقى به الله معلنا
ولم يخل قلبي من هواها بقدر ما ... أقول وقلبي خالياً فتمكنا
وله أيضاً:
أين المراتب في الدنيا ورفعتها ... من الذي جاز علماً ليس عندهم
لا شك أن لنا قدراً رأوه ... وما لمثلهم عندنا قدر ولا لهم
هم الوحوش ونحن الأنس ... حكمتنا تقودهم حيث ما شئنا وتعم
وليس شيء سوى الإهمال ... يقطعنا عنهم لأنهم وجدانهم عدم
لنا المرتجان من علم ومن عدم ... وفيهم المتعبان الجهل والحشم
قلت: عارض بهذه الأبيات الأبيات التي للقاضي تقي الدين بن دقيق العيد وهي:
أهل المراتب في الدنيا ورفعتها ... أهل الفضائل مرذولون بينهم
فما لهم في توقي صبرنا نظر ... ولا لهم في ترقي قدرنا همم
قد أنزلونا لأنا غير جنسهم ... منازل الوحش من الإهمال عندهم
فليتنا لو قدرنا أن نعرفهم ... مقدارهم عندنا أو لو دروه هم
لهم مرتجان من جهل وفرط غنى ... وعندنا المتعبان العلم والعدم
وله:
لحى الله الحشيش وآكليها ... لقد خبثت كما طاب السلاف
كما تصبي كذا تضني وتشقي ... كما تشقي وغايتها انحراف
وأصفر دائها والداء جم ... بغاء أو جنون أو نشاف
ذكر غزوة سيس
وفيها كتب نائب حلب إلى السلطان والأمراء بأن تكفور صاحب سيس منع الحمل وتجاهر بالعصيان وادعى أن البلاد لقازان وأنه يحمل الحمل، فاقتضى رأيهم تجريد الأمير بدر الدين أمير سلاح والأمير عز الدين أيبك الخزندار بمضافيهما أن يدخلوا بلاد سيس ومعهما نائب حلب وحماة وحمص ويخربوها وينزعوا زرعها، وأن لا يوغلوا في عتورهم إلا إذا وجدوا فرصة، وألا يكونون في أطراف البلاد.
وقال ابن كثير: وكان رحيلهم في شهر رمضان، وفي ذي القعدة ضربت البشائر بقلعة دمشق أياماً بسبب فتح أماكن من بلاد سيس عنوة، وفي الحادي والعشرين من ذي الحجة قدم الجيش إلى دمشق، فخرج نائب السلطنة والجيش إلى تلقيهم.
ذكر الجزيرة التي سكنها الفرنج مقابل طرابلس
وفيها: كتب الأمير سيف الدين أسندمر نائب طرابلس إلى السلطان بأن الإفرنج قد أنشأوا جزيرة مقابل طرابلس، واتخذوها لهم حصناً ونقلوا إليها عدداً ورجالاً، وتزايد أمرهم إلى أن صاروا يركبون البحر ويتجرمون فيه ويأخذون المراكب، وأضر ذلك بحال أهل الساحل، وأنه قصد على تجريد عسكر في مراكب تأتي إليهم مع جند طرابلس، ولعل الله أن يظفر المسلمون بها، وأخذ من فيها من الإفرنج قبل أن يشتد أمرها ويقوى حال العدو فيها، وهم يريدون أن يعمروا فيها قلعة، فإذا بنوها يصعب على المسلمين أمرها، فلما وقف السلطان على الكتاب أمر للوزير بالإهتمام في تعمير شواني، وفي المحرم من السنة الآتية: جهزت الشواني وتكملت.(1/402)
قال بيبرس في تاريخه: وفي المحرم من سنة ثنتين وسبعمائة جهزت الشواني للسفر إلى جزيرة أرواد، وهي جزيرة قبالة انطرطوس في البحر المالح، وكان قد اجتمع فيها جمع من الفرنج الذين جلوا من الساحل وسكنوها، وأحاطوا بها سوراً وحصنوها، فجهزت الشواني لقصدها، وجرد فيها جماعة من الجند لأخذها، ولما تجهزوا وتكملوا ولم يبق إلا سفرهم ركب مقدم الأجناد الذين سفروا فيها في الشيني الكبير وهو جمال الدين أقوش العلائي المعروف بوالي البهنسا، ومعه جماعة، وخرجوا قبالة مقياس مصر ليلعبوا وينحدروا، فانقلب الشيني في خروجه، فغرق القدم المذكور وأكثر من كان فيه، فجهز عوضاً عنه سيف الدين كهرداش، وسفر بالشواني، فوصلوا إلى الجزيرة وأوقعوا بأهلها وأخذوا ما كان فيها، وأحضروا منها عدة أسرى وعبروا بهم عند وصولهم إلى القاهرة مصفدين، وشقوا بهم المدينة مقيدين وبقوا في الأسر مخلدين.
وقال ابن كثير: وفي يوم الأربعاء الثاني من صفر من سنة إثنتين وسبعمائة فتحت جزيرة أرواد المذكورة، وقتلوا منها نحواً من ألفين، وكانت الأسرى قريباً من خمسمائة نفس.
وقال صاحب النزهة: وكانت الشواني مشحونة بالعدد والسلاح والنفطية والزاد، وفيها جماعة من الحلقة، ومن كل مقدم نفران، ومن الطبلخانات والعشرات، وجرد أيضاً من المماليك السلطانية جماعة من الزراقين، وزينت الشواني بأشياء من الآلات، وباتت الناس تلك الليلة، لم يبت أحد في بيته، وغلقت مصر والقاهرة يومين لأجل التفرج، وكان من أول بولاق إلى الصناعة خلائق من البرين لا يحصى عددهم حتى إن الإنسان لا يستطيع أن يضع قدمه إلى الأرض، وأما بقية مراكب البحر والشخاتير الصغار فإنها طبقت وجه البحر، والمركب الذي كان يكرى بعشرة أكروه بمائة درهم.
ففي صبيحة يوم السبت الثاني عشر من محرم سنة ثنتين وسبعمائة: نزل السلطان والنائب وسائر الأمراء، ووقفت العساكر جميعهم على بربستان الخشاب، وعدى الأمراء في الحراريق إلى الروضة، ثم أمر بخروج الشواني واحدة بعد واحدة، فخرج الشيني الأول ولعب ساعة ولعبوا فيه بالنفط، وصاحت الخلائق من الجانبين، ثم الثاني، ثم الثالث، ثم خرج الرابع وهو الذي كان فيه أقوش العلائي، ولعبت فيه الهوى، فمال ميلة، فانقلب فصار أعلاه أسفله، وصرخت الناس عن صوت واحد، وتكدر ذلك الصفاء، فتحيرت الأمراء والسلطان، وحزنوا حزناً عظيماً، وأدركت المراكب إليه، وخلصوا منه خلقاً وغرق آخرون، وممن غرق أقوش المذكور المقدم فيه.
ومن الغرائب أن أقوش هذا كان فيه من الكبر والحمق ما لا يوصف، ومن الظلم وقتل النفس ما لا يعد، وكان هو الذي زين هذا الشيني من عنده بأفخر زينة وأكمل عدة، وعند نزوله إليه قدمت له الاسقالة، فمشى عليها إلى أن جلس، ثم عند الخروج استعجل، فقال له الرئيس: طول روحك يا خوند، فانحرف وشتمه وقال: اخرج لا كتب الله علينا بالسلامة ولا أحيانا أن نرد إليهم.
قال الراوي: وأغرب من ذلك أن هذا الشيني انحدر إلى أن وقف عند بولاق وبقي هناك ثلاثة أيام مقلوباً إلى أن ركب والي الصناعة والرئيس ومعهم رجال، فجاءوا إليه وأقلبوه ووجدوا زوجة الرئيس وولدها وهي ترضعه وهما بالحياة، فسألوها عن حالها فقالت: إن الشيني لما انقلب لم يحصل عليها تشويش أصلاً ولا بذل عليها من الماء، فتعجبوا من ذلك وقالوا: قدرة الله أعظم من هذا.(1/403)
ثم رسم السلطان بأن يجهز شيني آخر عوض ذلك، فجهزوه وكانوا قد أحضروا رؤساء من الإسكندرية ودمياط، ثم سافروا إلى أن وصلوا إلى طرابلس ودقت بوقاتهم، ووجدوا أهل طرابلس أيضاً قد تجهزوا كما ينبغي مما يحتاجون إليه من العدد والنفط وآلات الحصار، ثم ركبوا نصف الليل ورئيت لهم الجزيرة وجه الصبح، وصاحوا بالتكبير والتهليل، وزعقت البوقات والطبلخانات، وقاموا في المقاديف قومة رجل واحد، فتوجه كل مركب بمقدمه على الميناء ونفر الفرنج أيضاً، فبينما يركبون مراكبهم سبقت مراكب المسلمين بمقدميها على الساحل، وتسابقت الفرسان من المقابلة إلى أن أحاطوا الساحل وتقاتلوا بالسيوف في الوجوه والصدور وبالرماح بالطعن في المحاجر والنحور، وانعزلت الجرخية ناحية والأقحية ناحيةً، ولم تتعال الشمس صبيحة ذلك اليوم حتى خذلت الكفار، وانتصرت ملة الإسلام، وملأوا من قتلاهم الأرض، ورجع من بقي إلى قلعتهم وأغلقوها، وزحفت الرجال إليهم، وأرسلوا سهامهم إلى من فيها، فثبتوا ساعة مقاتلين، ثم وقع كلهم ما بين قتلى وجرحى، وصاحوا طالبين الأمان، وسلموا أنفسهم، وملك المسلمون القلعة أيضاً، وكان ذلك اليوم يوم الجمعة الثامن والعشرين من صفر عام ثنتين وسبعمائة، وأخذوا جميع ما فيها من حواصل وسلاح، ووجدوا فيها تجاراً ومعهم تجارة.
وكانت هذه القلعة اعتنى بها وبعمارتها صاحب قبرس مع جماعة من أكابر الفرنج على أنهم يتخذونها سكناً لهم ويسمونها عكا الصغيرة، ثم هدها المسلمون إلى أن صارت دكاً دكاً، فحصل للمسلمين بذلك السرور التام والشكر على دين الإسلام.
ذكر وفاة الخليفة
الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين أبي العباس أحمد بن محمد بن الحسن بن أبي بكر بن الحسن بن علي القبي بن الراشد بالله الهاشمي العباسي البغدادي ثم المصري.
بويع بالخلافة في الدولة الظاهرية في أول سنة إحدى وستين وستمائة، فاستكمل أربعين سنة في الخلافة، وكانت وفاته ليلة الجمعة الثامن عشر من جمادى الأولى منها بالمناظر المعروفة بالكبش بمرض عراه، وصلى عليه العصر بسوق الخيل، وصلى عليه الشيخ كريم الدين عبد الكريم الآملي شيخ الصوفية، ودفن بجوار مشهد السيدة نفيسة رضي الله عنها، ومشى الأمراء والكبراء والقضاة والحكام والأعيان في جنازته إكراماً لمحله، وخلف من الأولاد سليمان، وهو أول من دفن بمصر من الخلفاء العباسيين.
وقال صاحب النزهة: وصلى عليه شيخ سعيد السعداء كريم الدين المذكور ومعه الصوفية كلهم، وحضر السلطان أيضاً جنازته، وصلى عليه بجامع ابن طولون.
وقال بعض معاصرينا في تاريخه: وتولى تغسيله والصلاة عليه شيخ الشيوخ كريم الدين عبد الكريم المذكور، وخلّف من الأولاد سليمان أبو الربيع وإبراهيم أبو إسحاق.
ذكر خلافة الإمام المستكفي بالله
بو الربيع سليمان بن الإمام الحاكم بأمر الله
بعهد من أبيه بويع له يوم وفاة أبيه، وتقدير عمره عشرون سنة، وخطب له على المنابر، واستمر في صحبة السلطان والركوب معه كأنهما أخوان، وفي اللعب بالصوالجة في الميدان، والسفر والتفرج في الصيد، وأجري له الإكرام والإحسان.
وقال ابن كثير: وكان أبوه عهد إليه وكتب له بذلك تقليداً، وقرئ بحضرة السلطان والدولة يوم الأحد العشرين من ذي الحجة منها، وكان يوماً مشهوداً.
ذكر مجلس عقد فيه لليهود
وفي شوال: عقد مجلس لليهود الخيابرة، وألزموا بأداء الجزية أسوة أمثالهم من اليهود، فأحضروا كتاباً معهم يزعمون أنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وضع الجزية عنهم، فلما وقف فيه الفقهاء تبينوا أنه كذب مفتعل لما فيه من الألفاظ الركيكة والتواريخ المخبطة واللحن، وحاققهم عليه الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وبين لهم كذبهم، وخطأهم وأنه مزور مكذوب، فأنابوا إلى أداء الجزية، وخافوا من أن يستعاد عليهم بالسنين الماضية.
وقال ابن كثير: وقد وقفت أنا على هذا الكتاب، فرأيت فيه شهادة سعد بن معاذ عام خيبر، وقد توفي قبل ذلك بنحو من ثلاث سنين، وشهادة معاوية بن أبي سفيان ولم يكن أسلم إذ ذاك وإنما أسلم بعد ذلك بنحو من سنتين، وفيه: كتب علي بن أبي طالب، وهذا لحن لا يصدر عن أمير المؤمنين على أنه يسند إليه علم النحو من طريق أبي الأسود الدؤلي عنه.(1/404)
قال ابن كثير: وقد جمعت فيه جزءاً مفرداً وذكرت فيه ما جرى أيام القاضي الماوردي وكبار أصحابنا في ذلك العصر.
ذكر بقية الحوادث
وفيها: عزل شمس الدين الأعسر عن الوزارة، وسفر إلى الشام لكشف القلاع، وقرر عوضه نائب الإسكندرية الأمير عز الدين أيبك البغدادي، وهو الرابع من الوزراء الأمراء الترك أرباب السيوف والأقلام: أولهم علم الدين سنجر الشجاعي، ثم الأمير بدر الدين بيدرا قبل النيابة، ثم شمس الدين الأعسر، وهذا عز الدين أيبك.
وفيها: في يوم الثلاثاء العاشر من ربيع الآخر: شُنق الشيخ علي الحوراني بواب الظاهرية على بابها، بسبب أنه اعترف بقتل الشيخ زين الدين السمرقندي.
وقال الشيخ علم الدين البرزالي في تاريخه: وفي وسط ربيع الأول ورد كتاب من حماة يخبر فيه أنه وقع في هذه الأيام ببارين من عمل حماة برد كبار على صور حيوانات مختلفة، منها سباع وحيات وعقارب وطيور ومعز وبلشون، ورجال في أوساطهم حوائص، وأن ذلك ثبت بمحضر عند قاضي الناحية، ثم نقل ثبوته إلى قاضي حماة.
وفيها: نقل ناصر الدين محمد الشيخي من ولاية القاهرة إلى الخاص السلطاني بالجيزية، وبقي فيها إلى أن نقل إلى الوزارة.
وفيها: ولي الأمير سيف الدين أفجبا المنصوري نيابة غزة.
وفيها: في شوال، حصل بالشام جراد عظيم أكل الزروع والثمار، وجرد الأشجار حتى صارت كالعصي، ولم يعهد مثل هذا.
وقال ابن كثير: وفيها ولد كاتبه - يعني نفسه - إسماعيل بن عمر ابن كثير القرشي البصراوي الشافعي.
وفيها: ظهر بالقاهرة إنسان سمى نفسه المهديّ وادعى أنه من ذرية الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وأنه ينذر بوقائع يعلم وقوعها، فاعتقل امتحاناً لنقله، فلم يصح شيء من قوله، وظهر أن به فساداً في عقله، فعزَر تأديباً له، ثم خلَى سبيله.
وفيها: كان خروج بكتمر الحسامي من وظيفة الأمير آخورية، بسبب غيظ الأمراء عليه، لأنه نقل عنه أنه يكثر الحديث مع السلطان ويذكر الأمراء عنده، وكان الأمراء قد اتفقوا أنهم لا يدعون أحداً يجتمع بالسلطان أو يتحدث معه، مع ما كان في نفوسهم منه من تكبره عليهم، فأخرجوه إلى الشام من غير إقطاع، وأقام مدة إلى أن توفي الأمير علاء الدين مغلطاي التقوى بدمشق وطالع نائب الشام بسببه، فرسم بإقطاع له، وتولى عوضه في الأمير آخورية علم الدين سنجر الصالحي.
وفيها: وصل كتاب نائب الشام يخبر بحضور القاضي علاء الدين بن القاضي شرف الدين بن القلانسي، وشرف الدين بن الأثير من عند قازان، وذلك أنهما كانا مع الوزير نجيب الدين وزير قازان، فإنه كان أخذهما رهينة إلى أن يحضر أخوه عبد اللطيف الذي كان معوقاً عند السلطان، والمذكوران قد تحيلا بحيل كثيرة حتى تخلصا، واختفى ابن القلانسي بتبريز، وتحيل وبذل مالاً إلى أن منَ الله عليهما بالخلاص.
ذكر تحرك طراي بن نوغيه
لطلب ثأر أبيه وأخويه
فشرع في التحيل لإدراك مطلبه، فلحق بصراي بغابن منكوتمر، وقد ذكرنا أن أخاه طقطا رتبه في مقام نوغيه، فتوصل طراي إليه ولازمه، فلما آنس منه الميل إليه فاتحه في أمر أخيه طقطا، وفاوضه في أنه أحق منه بالمملكة وأقدر على تدبير السلطنة، فاستغواه فمال معه، وانصاع إلى خداعه، وركب في تمانه وعبر على نهر إتل وهو جامد بفرسانه، وخطر بباله أن يستشير أخاه برلك ويستعينه، فنزل العسكر ناحية، وتوجه جريدة، فاجتمع ببرلك وشاوره في أمره، فأظهر له الموافقة لهواه، ثم بادر لوقته بإعلام طقطا بما هم به صراي بغا أخوه وطراي بن نوغيه من الوثوب عليه، فركب طقطا لوقته في خواصه وبطانته، وجهز إلى نحوهما من أحضرهما، فقتلا بين يديه وتفرق عسكرهما، وأرسل طقطا ولده إيل بصار إلى المكان الذي كان قد رتب صراي بغا، فاستقر به عوض أخيه.
وفيها هرب قراكسك بن جكا بن نوغيه، وهرب معه اثنان من أقاربه، وهما جركتمر ويلقطلو، وذلك أنه لما قتل طقطا أخاه صراي بغا وطراي بن نوغيه أرسل برلك في طلب قراكسك، فانهزم هو وهذان المذكوران وطرحتهم الجفلة إلى بلاد ششمن إلى مكان يسمى بدول بالقرب من كزل، ومعهم نحو من ثلاثة آلاف فارس، فأواهم ششمن وأصحابه، وأقاموا عندهم يغيرون على الأطراف ويأكلون بالأسياف.
قال بيبرس في تاريخه: إلى يومنا هذا.(1/405)
وفيها: حج الأمير ركن الدين بيبرس أستاذ الدار في جماعة من ألزامه وخواصه، وكان رحيله من البركة مستهل ذي القعدة.
وقال بيبرس في تاريخه: فندبت للتقدم على الركب المصري وكان ركباً كبيراً، وقد جمع خلقاً كثيراً.
وحج في هذه السنة ثلاثون أميراً، وجعلوا ركباناً ثلاثة يتعاقبون في المنازل والمراجل.
قال: ولما حصل اجتماعنا في الحرم الشريف حضر إثنان من أولاد الشريف نجم الدين بن نمي أحدهما يسمى عطيفة والآخر أبو الغيث، وشكوا إلى المقر المشار إليه بحضرة من حضر من الأمراء في أخويهما الكبيرين، وهما أسد الدين رميثة وعز الدين حميضة، وذكرا أنهما لما اتفقت وفاة والدهم الشريف ابن نمى في هذه السنة، وثبا عليهما وأساءا إليهما واعتقلاهما ظلماً وبغضاً، فتحيلا وهربا من مكان سجنهما، وتوجها إلى بني عمهما أولاد إدريس بن قتادة، وأقاما عندهم، وسألا إنصافهما من أخويهما، ومقابلتهما بما جنياه عليهما، فاتفقت الآراء بإمساك رميثة وحميضة وتأديبهما بالسجن والعزل لإساءتهما على بني أبيهما، والجرأة عليهما وغير ذلك من أمور نقلت عنهما، فأمسكا، ونسبت إليهما ورتب المشار إليهما عطيفة وأبا الغيث عوضاً عنهما، وأحضرا هذان إلى الأبواب السلطانية واعتقلا مدة.
وقال صاحب نزهة الناظر: لما فرغ الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير من الوقوف بعرفة، ورجع إلى طواف الزيارة وطواف الوداع بعده، وقف له أبو الغيث وعطيفة وبقية إخوتهما من البنات، وشكوا من أخويهم حميضة ورميثة وبالغوا في الشكوى، فأرسل الأمير ركن الدين وراءهما، فحضرا بالحرم الشريف فقال لهم: اسمع يا حميضة لأي شيء تفعل كذا حتى يشكو منك أخويك؟ فأجابه بقوة نفس وقال: يا أمير نحن نفتصل مع إخوتنا، وأنتم قد قضيتم حجكم وجزيتم خيراً، فلا تدخلوا بيننا. فغضب بيبرس لذلك غضباً شديداً، وأشار إلى الأمير سيف الدين طشتمر الجمقدار أن يلكمه، فلكمه فأرماه إلى الأرض، وما قام إلا وقد وجد روحه مكتفاً هو وأخاه، ووقع الصوت في الحرم بمسكهما، فتصايحت النسوان والعبيد، وطلعوا على البيوت وأسطحة الحرم بالأحجار، وركبت الأشراف والعبيد.
فلما رأت الأمراء ذلك أدركوا خيولهم وركبوها، وركّبوا الأميرين المذكورين مكتفين مزنجرين في رقابهما، وهم يصيحون يا لبني حسن، يا لبني أولاد نمى، فخرجت البنات من مكة وسبقت خيل الشرفاء، ومسكوا طرق الأبواب والأزقة، وسمعت أيضاً بقية الأمراء النازلين في الوطاق، فركبوا بالقسى والرماح، واستعدوا، ولما رأى بنو الحسن الجند والأمراء من خلفهم ومن بين أيديهم أخذ كل منهم في طريق، وخرج منهم نحو ثلاثة عشر نفراً، وقتل ستة نفر، وقيل ثمان رءوس من الخيل، وخرجت جماعة من الذين على الأسطحة إلى أن خرجوا إلى المخيم وطلبوا أبا الغيث وعطيفة وولوهما مكة، وخلعوا عليهما ودخلوا بالممسوكين مصر مزنجرين وأودعا السجن مدة.
قال صاحب النزهة: وكان وصول الأمير ركن الدين بيبرس من الحجاز الشريف في أول المحرم من سنة اثنتين وسبعمائة، وكان خروجه من مصر نصف ذي القعدة، ووصل إلى مكة في التاسع والعشرين منه، فكان سفره أربعة عشر يوماً.
قلت: بيبرس هذا هو بيبرس الجاشنكير أحد أركان الدولة بمصر، وليس هو بيبرس الدوادار، فإن بيبرس الدوادار كان أمير الركب على ما ذكرنا عنه الآن، وقد ذكرنا أيضاً أنه ذكر أن بيبرس الجاشنكير قد رحل من البركة مستهل ذي القعدة، وهذا صاحب النزهة ذكر أنه رحل في نصف ذي القعدة وبينهما تفاوت كثير على ما لا يخفى.
ذكر من توفي فيها من الأعيان
الشيخ الإمام العالم العامل شرف الدين أبو الحسن علي بن الشيخ الإمام العلامة الحافظ تقي الدين أبي عبد الله بن أبي الحسين بن عبد الله بن عيسى ابن أحمد بن محمد بن محمد اليونيني البعلبكي.(1/406)
وكان أكبر من أخيه الشيخ قطب الدين، وولد شرف الدين سنة إحدى وعشرين وستمائة، تفقه وسمع الكثير، وكان عابداً عالماً، كثير الخشوع، وكانت وفاته أنه دخل في الخامس من رمضان إلى خزانة الكتب التي بمسجد الحنابلة ببعلبك ليعزل كتبه من كتب الوقف وعنده خادمه الشجاع، فدخل عليه فقير اسمه مؤمن المصري، فضربه بعصى على رأسه ضربات، ثم أخرج سكيناً صغيراً فجرحه في رأسه، فاتقى بيده فجرحه في يده، فدخل عليه الناس، وأمسك وحمل إلى متولي البلد وضرب، فصار يظهر الاختلال ويتكلم بكلام غير منتظم، فحبس بعد الضرب الكثير.
وأما الشيخ فإنه حمل إلى داره، وأقبل على أصحابه وتحدث معهم على جاري عادته، وأتم صومه، فحصل له حمى واشتد مرضه، فلما كان يوم الجمعة الثاني عشر من رمضان مات، وصلي عليه بدمشق وغيرها صلاة الغائب.
وقال ابن كثير: ودفن بباب سطحا.
الصدر ضياء الدين أحمد بن الحسين، ابن شيخ السلامية.
والد القاضي قطب الدين موسى الذي تولى فيما بعد نظر الجيوش الإسلامية الشامية، وفي وقت المصرية أيضاً، وكانت وفاته يوم الثلاثاء العاشر من ذي القعدة، ودفن بقاسيون.
المعضد المعمر الشيخ الجليلي بقية السلف شهاب الدين أبو المعالي أحمد بن إسحاق بن محمد بن المؤيد بن علي بن إسماعيل بن أبي طالب الأبرقوهي الهمداني، ثم المصري.
ولد بأبرقوه من بلاد شيراز في رجب أو شعبان سنة خمس عشر وستمائة، وسمع الكثير من الحديث على المشايخ الكثيرين، وخرجت له مشيخات، وكان شيخاً حسناً متيقظاً، وكانت وفاته بمكة بعد خروج الحجيج بأربعة أيام، ودفن بالمعَلا، رحمه الله.
الإمام العالم الكامل الأوحد العلامة شمس الدين أبو الندى معد ابن الشيخ الإمام العلامة زين الدين أبي الفتح نصر الله بن رجب، المعروف بابن الصيقل الجزري.
مات بهرمز، وكان فقيهاً شافعياً، متفنناً بعلوم كثيرة، صنف المقامات الزينية خمسين مقامة على منوال الحريري.
الشيخ الإمام العالم الصالح الزاهد العابد مفتي المسلمين ركن الدين عبيد الله ابن محمد بن عبد العزيز السمرقندي الحنفي.
مات بالمدرسة الظاهرية بدمشق، وجد بالبركة بها ميتاً، ولم يعلم حاله، فغسل وكفَن، وصلَى عليه، ودفن بمقابر الصوفية، وكان كثير الصوم والصلاة والاجتهاد في العبادة، وكان ورده كل يوم مائة ركعة، فلما اتفق له ذلك مسك يحيى قيم دار الحديث الظاهرية وضرب، فاعترف بقتل الشيخ ركن الدين، فشنق على باب الظاهرية في عاشر ربيع الآخر.
الشيخ جمال الدين عثمان بن أحمد بن عثمان بن هبة الله بن أبي الحوافر، المتطبب بالقاهرة.
مولده سنة تسع وعشرين وستمائة، وكان رئيس الأطباء بالديار المصرية، وإليه تنسب الحمام التي بمصر عند الجامع الجديد، مات في هذه السنة.
شيخ الشيوخ فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ تاج الدين أبي بكر عبد الله ابن شيخ الشيوخ عماد الدين عمر بن علي بن محمد بن حموية الجويني.
مات في ربيع الأول بالشميساطية، ودفن بسفح قاسيون عند أخيه، وله من العمر خمسون سنة، وتولى عوضه في المشيخة قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة.
الخطيب علاء الدين علي بن الحسن بن عبد الله الشافعي، المعروف بابن الجابي، خطيب جامع جراح ظاهر باب الصغير.
مات في هذه السنة، وكان يقصد لسماع خطبته من حسن صوته، وكان مهووساً بعلم الكيمياء، وتولى مكانه الشيخ شرف الدين الفزاري.
الشيخ العالم الصدر وجيه الدين محمد بن عثمان بن أسعد بن النمجي الحنبلي.
مات بمدرسته دار القرآن بدمشق، ودفن بقاسيون، ومولده سنة ثلاثين وستمائة بدمشق.
الشيخ الصالح الزاهد العابد العارف القدوة عيسى بن الشيخ ثروان بن الشيخ محمد بن الشيخ الكبير ثروان التدمري البياني.
مات بدمشق، ودفن بباب الصغير جوار قبر الشيخ أبي البيان، وكان شيخ البيان، وكان له صيت وقبول تام وكلمة مسموعة، وكان عمره جاوز تسعين سنة.
الصدر الكبير الفاضل مجد الدين يوسف بن محمد بن علي الأنصاري، المعروف بابن القباقبي.
مات بالقاهرة، ودفن بتربة ابن عبد الظاهر، كان فاضلاً في صناعة الترسَل وحساب الديوان، ولَى كتابة الدرج بالفتوحات الطرابلسية.
وله نظم حسن، فمن ذلك قوله في زهر الباقلاء:
عطّر زهر الباقلا الرّبى ... فنشره في الروض منشور(1/407)
لا يعجب الناشق من ريحه ... فإنه مسك وكافور
وقال وقد وقع بدمشق ثلج عظيم:
طمت الثلوج على الوهاد مع الربى ... فالكون يعجب منه وهو مفضفض
فانهض لتجمع شمل أنس مقبل ... بلذاذة فاليوم يوم أبيض
وكتب إلى الأمير علم الدين الدواداري:
يا من كفاني وحرب الدهر قائمة ... بنصرة شمتها من فضله الخدم
حللت من بابك العالي بذي سلم ... فليهني أنني من جيرة العلم
الشريث الكبير أبو نمي محمد بن الأمير أبي سعد حسن بن علي بن قتادة الحسني، صاحب مكة منذ أربعين سنة، توفي في هذه السنة وكان حليماً وقوراً ذا رأي وسياسة وعقل ومروّة، وخلف من الأولاد أحداً وعشرين ولداً ذكراً، ومن البنات عشرة.
وقال بيبرس: ويكنى أبا مهدي أيضاً، وساق نسبه، وهو محمد بن أبي سعد حسن بن علي بن قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى بن حسين بن سليمان بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم.
الأمير الكبير المجاهد المرابط علم الدين أرجواش بن عبد الله المنصوري، نائب قلعة دمشق.
كان ذا همة وشهامة وقصد صالح، قدّر الله على يديه حفظ معاقل الشام لما ملكت التتار أيام قازان، وكانت وفاته بقلعة دمشق ليلة السبت الثاني والعشرين من ذي الحجة، وأخرج منها ضحوة يوم السبت، فصلي عليه، وحضر نائب السلطنة فمن دونه، ثم حمل إلى قاسيون ودفن في تربته.
وقال صاحب النزهة: ولم يخلف غير أربع بنات، ووجد له من تركته من الذهب خمسة عشر ألف دينار، ومن الفضة خمسين ألف درهم، وأوصى بعتق مماليكه وجواريه، وأوقف عليهم وقفاً، ووجد له في زرد خاناته ثمانمائة قوس حلقة ومائتا عدة كاملة.
وقال: حكى لي من كان خصيصاً بمنادمته، ولم يعرف أنه اجتمع بأحد غيره، أنه لحقه في بعض الأيام قولنج، فأحضر له طبيب يهودي، فوصف له حقنة ولم يجسر أحد يصف له صفة الحقنة غير ذلك النديم، فلما رآها قال: ما هذه؟ قال: هي الحقنة، فنهض وقعد، وأراد أن يشربها، فقال له الرجل: يا خوند هذا ما يشرب. فقال: وما يعمل به. فقال له كذا وكذا، فحين سمع ذلك تغيّر لونه، ثم توجه إلى اليهودي فقال: ويلك يا ملعون، أنا اشتراني الملك المنصور بعشرة آلاف درهم وما قدر أن يعيّر في دبري شيئاً، وأنت جئت في آخر عمري تحط في دبري عظماً، ثم أشار لمماليكه أن يسقوا اليهوديّ تلك الحقنة، فكتّفوه وأسقوه إياه، فلما شربها مات في اليوم الثاني.
الأمير عز الدين أيبك بن عبد الله النجيبي الدوادار، والي البر بدمشق، وأحد الأمراء الطبلخانات بها.
مات بدمشق يوم الثلاثاء السادس عشر من ربيع الآخر منها، ودفن بسفح قاسيون، وكان مشكور السيرة، ولم تطل مدته.
قنجي بن أردنو بن دوشى خان بن جنكزخان صاحب غزنة وبامبان.
توفي في هذه السنة، واختلف بنو عمه وأولاده وهم: بيان، وكبلك، وطقتمر، وبغاتمر، ومنفطاي، وصاصي، وافترق بعضهم من بعض، وكان كبلك قد استقر في الملك بعد أبيه، وسار أخوه بيان إلى طقطا مستنجداً مستمداً على أخيه، فأمدّه وعضده، وسار كبلك إلى قيدو مستغيثاً ومستعيناً، فأعانه وأيّده، ثم التقى الجمعان واقتتل الأخوان، فكسر كبلك وأدركه أجله، فهلك، واستقر بيان أخوه في المملكة الغزنوية.
فصل فيما وقع من الحوادث في
السنة الثانية بعد السبعمائة
استهلّت هذه السنة: والخليفة المستكفي بالله أمير المؤمنين بن الحاكم بأمر الله العباسي.
وسلطان البلاد: الملك الناصر محمد بن قلاون، ونائبه بمصر الأمير سيف الدين سلاّر، ونائب الشام الأمير جمال الدين أقوش الأفرم، ونائب حلب شمس الدين قراسنقر، وقضاة مصر والشام هم المتقدم ذكرهم.
وفيها: وصلت رسل من جهة قازان، ولم تعد معهم رسل السلطان، وقد ذكرنا أن السلطان جهز إليه الأمير حسام الدين أزدمر المجيري أحد الأمراء، والقاضي عماد الدين بن السكري من أعيان القضاة والكبراء.
وقال ابن كثير: ولم يعد رسل السلطان هؤلاء المذكورون إلاّ بعد هلاك قازان في أيام خربندا، وكان وصول رسل قازان يوم الأحد الثامن من محرم هذه السنة.(1/408)
وقال بيبرس في تاريخه: وتواترت الأخبار بحركة التتار، ثم وردت كتب النواب بالبلاد الحلبية مخبرة بأن قطلوشاه نائب قازان قد تحرك إلى جهة الفرات، ويخشى من تقدمه إلى هذه الجهات، وأنه قدّم بين يدي قدومه كتاباً محشواً من خبثه ولؤمه ومضمونه ما معناه أن بلادهم في هذه السنة قد أمحلت، وأراضيهم من الأعشاب والمراعي خلت، وأن التتار على عزم الانتشار لارتياد المروج والأماكن التي توجد بها المرعى ويروج، وربما وصلت منهم طائفة إلى صوب الفرات لأجل قصد الأعشاب، فيحصل بهم الارتياب، وليس قصدي سوى الانتجاع والنزول بمهما صادفوا به خصباً من تلك البقاع، فإذا سمع أهل البلاد الحلبية وسكان الأعمال الفراتية باقترابهم لا يبرحون من أماكنهم ولا ينزحون من مواطنهم، فلا بأس عليهم وليس ثمّ تعرض عليهم، فعلم أن هذا الكلام عين الخداع، ولم يلج القلوب ولا الأسماع.
ثم تواترت الأخبار بقدوم التتار، وأنهم جاسوا خلال الديار، وقدمت طائفة منهم من جهة الرحبة، ووصلت إلى دير بسير، وجاءت طائفة على مرعش، فجفلت الرعية من البلاد الحلبية، وحصل التأهب والاهتمام، وبرزت المراسيم السلطانية بالاستخدام، وأن كل أمير من الأمراء بمصر والشام يستخدم نظير الربع من عدته ويضيفهم إلى جماعته، وقرر إلى أهل البلاد من الحواضر والبواد خيّاله يقومون بها من أموالهم، ويقيمونها من أحوالهم، واتفقت الآراء عند الاجتماع في المشاورة على تجريد مقدّمة من العساكر تقوية لجأش أهل الشام، وتثبيتاً لجيوشه على المقام إلى أن يتضح الحال ويزول الإشكال.
وقال صاحب النزهة: لما وصل القاصد إلى السلطان والأمراء، وأخبرهم بأن قازان مجتهد على دخوله البلاد، وقع اتفاق الأمراء مع السلطان على أنه لا بدّ من تجريد عسكر ويكون صحبتهم أمير كبير يشار إليه في الأمور، فإن فيه إرداعاً للعدو وتطميناً للإسلام وأهل القلاع والنواب، ويكونون مقيمين في دمشق، فإن وجدوا حركة قازان صادقة كتبوا إلى مصر فيخرج السلطان بمن بقي من الأمراء والعساكر، وإن كان قازان يبعث من يختاره من جنسه، ورأى نائب الشام والأمراء أن يلاقوهم بجميع عسكر الشام، فالرأي رأيهم في ذلك، وإن بلغهم أن عسكر قازان كثيرون يتأخرون قدامهم منزلةً بمنزلة إلى أن يدركهم السلطان مع العسكر، وما نهضوا من المشورة حتى وقع اتفاقهم على تعيين أمراء للتجريدة.
ذكر من جرد من الأمراء
ومن مضافهم إلى الشام
قال بيبرس في تاريخه: جرّد الأمير ركن الدين بيبرس أستاذ الدار، والأمير حسام الدين لاجين الرومي أستاذ الدار، والأمير سيف الدين طغريل الإيغاني، والأمير سيف الدين كراي المنصوري السلحدار، والأمير شمس الدين سنقرجاه المنصوري، وجامع هذا التأليف - وأراد به نفسه بيبرس الدوادار - قال: فكنا ستة من مقدمي الألوف، وجماعة المضافين من الأمراء والمقدمين، فرحلنا من مسجد التبر في الثامن عشر من رجب الفرد من هذه السنة، وسرنا على اسم الله وبركته، فلما وصلنا قاقون تواترت الأخبار بصحة وصول التتار، وأن قازان كان فيهم، وعبر الفرات معهم، وبلغ إلى الرحبة، فقصد منازلها ورام وحاولتها، وبها يومئذٍ نائب يسمى علم الدين سنجر الغتمي، فأرسل إليه الإقامات صحبة ولده، فتلطف به واستوقفه عما أزمعه من المحاصرة والمنازلة، وأرسل يقول له: الملك الآن سائر إلى الشام لقصد المدن العظام، وهذا بلد سهل المرام، فإذا أخذت البلاد التي قدامك وحويت تلك الممالك التي هي أمامك، فهذا البلد بين يديك وما يتعسّر أمره عليك، وخاطبع بهذا ومثله، فاستوقفه عن التعرض إليها، ثم أنه رحل ولم يعج عليها، وأخذ ولد علم الدين الغتمي المذكور صحبته إلى بلاد الشرق، ثم لم يلبث أن عاد راجعاً وعبر الفرات قاطعاً، وعدّى نحو بلاده مسارعاً، وجرّد من العسكر الذي وجهه نحو الشام قطلوشاه نائبه، ومعه اثني عشر تومان، لقصد هذه البلدان، وأخبروا أنه لما عاد عن الرحبة كتب منها كتاباً إلى أهل الشام يستغويهم ويستميلهم عن مضافرة أهل مصر ويخدعهم، وجعله ملطفاً، ودسه إلى من يوصله إليهم.
ذكر نسخة الفرمان الذي سطّره قازان
من رحبة الشام
بسم الله الرحمن الرحيم فرمان السلطان محمود غازان(1/409)
ليعلم الأمير أفرم وأكابر الأمراء، ورعاه العساكر. والأجناد، والقضاة والسادات، والأئمة والصدور، والأكابر، والمشاهير والرؤساء، وعوام الرعايا من أهل دمشق، أنه حيث خصنا الله تعالى بالعناية الأزلية، والسعادة الأبدية، وشرح صدرنا للإسلام، ونوّر قلبنا للإيمان، وأورثنا سلطنة الآباء والأجداد، وأمدنا بالنصرة المتواترة الأمداد، تصدينا لإثابة الشكر على نعمائه حسب الإمكان، فعاهدنا الله تعالى على ملازمة البر والإحسان، ودفع الرزايا عن الرعايا، وإيصال البرّ إلى البرايا، سيّما طوائف المسلمين، وطبقات المؤمنين، وأن لا نرخص في القتال، ما لم يبدأنا به الجهال، فكل لبيب يعلم أن البادي أظلم، والذي يحقق ذلك ما عرفه الداني والقاصي، من طريقتنا المسلوكة مع المطيع والعاصي، وما ترتب بيننا وبين أنسابنا الأصاغر والأكابر، وتركنا المقاتلة إلا مع باد مكابر.
وحيث كان أهل مصر والشام، يحبّون ويؤدّون قوة الإسلام، كان الواجب عليهم إظهار السرور، وإبداء الحبور بإسلام ذراري جنكزخان، وعساكرهم التي لا غاية لأواخرهم وتؤمن غلبة المتسلطين في تلك البلاد، وإنفاذ الرسل إلينا عن الوداد، وإرسال التحف والهدايا، والشكر لله ولنا على تلك المزايا، فما أبصرنا منهم في عموم الأوقات إلا ما لا يحسن من الحركات حتى أنهم عمّوا على ماردين وديار بكر طغياناً، وأقدموا على القتل والنهب فيها عدواناً، فدعتنا الحمية على الإسلام إلى الفساد بالإنتقام، وهممنا بأن نجر إليهم العساكر، ونبيد البادي منهم والحاضر، فصادفتهم المراحم العميمة التي لم تزل لنا خلقاً وشيمة، فتوقفنا مقتدين بقوله تعالى: " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " فأنفذنا الإيلجية مع قضاة ثقات، لعلهم في أمرهم يتفكرون، وإلى الإنابة يهتدون، فأتوهم بصرائح النصائح، وهدوهم إلى جداد المصالح، فعصى سلطان مصر عنواً ونفوراً، وأودعهم السجن تجبراً وغروراً، فأفضت حركاتهم الذميمة إلى أن هال عليهم الجنود، وحل عليهم ما حل بعاد وثمود، ولولا رفقنا المجبول بنا لأضحت شام خالية الديار.
وأما ما أصاب من لاحقه بعض العساكر من بعض الرعية فما كان أحد بذلك مأموراً، وكان أمر الله قدراً مقدوراً.
وجرم جرّه سفهاء قوم ... فحلّ بغير جانيه العقاب
ولما ثنينا عنان العزيمة ترحما على البراء من الجريمة، ثنينا لتركيب الحجة الرسالة، لعلهم ينتهون عن التمادي في الجهالة، فما سمعوا من الرسول قيلاً، وحبسوه زماناً طويلاً.
وأما في الإعادة، فقد خالفوا الذاهبين في العادة، لأنهم لم يصحبوه واحداً من رسلهم، ليتداركوا ما فرط من زللهم، ويا ليت ما حملوه من الجواب، كان متضمناً لوجه من الصواب، فإن كتابهم دلّ على فساد آرائهم، وتعمقهم في متابعة أهوائهم، فقد ضمنوا مهذين المقال مطواه، وكتبوا اسم سلطانهم بالألقاب البليغة بالذهب أعلاه، واسم الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام بالمداد، واسمنا بعد عدّة سطور للعناد، فحملنا ذلك على عدم معرفتهم بالرسوم والآداب، وقلة ممارستهم مراسيم الخطاب والجواب.(1/410)
وحيث أردنا أن لا يتأذى بذلك المسلمون، صفحنا عنهم وتلونا: فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون وعاودنا إرسال الإيلجيّة مع أكابر القُضاة، وحملنا إليهم الخلع والموهبات، ليسلكوا مسالك الموافقات، ويجتنبوا جوانب المحالفات، فوصل الخبر عقيب توجه الإيلجيّة أن القوم قصدوا ديار بكر، وحلّوا حُبي الكيد والمكر، فأمرنا بركوب العساكر وإهلاك الباغين بالسيوف البواتر، فانتهى خبر ذلك إليهم، وفزعوا من سطواتنا عليهم، فأخذوا عن ديار بكر جانباً، وأصبح صحيح أملهم كاذباً، لكنهم عموا على خرت برت وملطية وسيس، وأخربوا أطرافها وحواليها بالحيلة والتلبيس، ولا شبهة لأحد إن خرت برت وملطية من ولايتنا وصاحب سيس من الداخلين في شريعة طاعتنا، وقد كانوا أظهروا للإيلجية الألية، واستلزم إقدامهم على ذلك كذب القضية، وأيضاً كاتبوا الأكراد والروم بخطاب الأخ مراراً، ودعوهم إلى إثارة الشر والفتن سراً وجهاراً، وما علموا أن صحارى بلادنا مملوءة من أمثال أولئك، ولا التفات لأحد إلى ذلك، وكتبوا أيضاً إلى ملك الكرج بار بن داود، وأثبتوا البّر والعبودية، مع أنه عندنا خالص النية والطوية، وحرضوه على العصيان، والبغي والكفران، وأرسلوا الرسل إلى طقطا وسائر أنسابنا بدست قفجاق، وأغروهم على إظهار الخلاف والشقاق، فوقفنا واطلعنا على ما يمكرون، وتوقفنا النظر بم يرجع المرسلون، فلما أتوا وقصوا العجب بما رأوا، وذكروا أنهم أمسكوا في البيوت إلى حين الإعادة، وقالوا هذه عادتنا وبئست العادة، وقد أتوا بمكتوب مسطور، على الوضع المذكور، فأفصح ذلك أنهم يتكبرون، وحيث يناسب التواضع يتجبرون، وإلا كيف يسوغ أن تكون مكاتباتهم مع المذكورين كذلك، والكتاب الذي أنفذ إلينا بذلك، لا سيما إذا زعموا الألية وخلوص النية، فما عساه أفضى إلى هذا الندا، كما أفضى مراراً فيما مضى، لكنه وصل الخبر حالته أنهم أنفذوا بيبرس بشبهة الحج مع جمع وافر، وعموا على ملوك مكة - شرفها الله تعالى - وأخذوهم بأنهم دعوا لنا في المواسم الشريفة، والمقامات المنيفة، وأي مسلم يقصد بيت الله الحرام، الواجب تعظيمه على كافة الأنام، وهو البيت المطهر للطائفين والعاكفين والركع السجود، ويستوي فيه الأمير والمأمور، والسلطان والجنود.
فحيث لم يبق من وجوه العدد شيء، تبيّن أن آخر الطبّ الكيّ، فشحذنا عرار العزم متوكلين واثقين، بما عودنا الله من النصر العزيز والفتح المبين، ونهضنا من قرب منا من الجنود، ورفعنا على السماك الألوية والبنود، عازمين على الإقامة هذه الصيفية بالشام، منتقمين لما في الضمير من الانتقام، والله المستعان وعليه التكلان.
وإنما المراد من تسطير هذا الفرمان الرابع: أنّا حيث نعلم أن أهل الشام من أهل الدهاء والفطنة، فلا يشاركون المصريين في الشر والفتنة، ولا يرون بما يؤول إلى وقوع المصريين في العذاب والمحنة، أردنا أن ننّبههم من رقدة الغفول، ونوضح لهم طرف الود والقبول، بينّا لهم أنهم هل وجدوا في قواعد الأصول والفروع، وصحائف المعقول والمشروع، وجهاً يقتضي أن يتبع من ليس إتباعه ضرورة، ولا نزلت في وجوبه آية ولا سورة، ويخالفوا من لاتعُارض شوكته، ولا تُطاق سطوته، فتصيبهم المحن والفناء، وينزل بساحتهم الجهد والبلاء، وها نحن قد وردنا بالجنود المجندة، والجيوش المؤيدة، وسيصل إلينا من الروم والكرج، وتكفور والإفرنج، عساكر لا تُحصى، كالنجوم في موعد مُقرر ووقت معلوم، ويكون مصيف الجميع ببلاد الشام وحواليها، وجبالها وصحاريها، فكشفنا القناع وركبنا الحجة، وقدمنا الوعيد وأظهرنا المحجة، وعقدنا النية بأنه كل من سلك سبيل مخالفتنا، ولم ينتهج طريق طاعتنا، فإنا نأمر برعي غلاتهم، وسبي أزواجهم وبناتهم، وبقطع أشجارهم، وبقتل صغارهم وكبارهم، ونحرق مساكنهم، ونتبع مخافيهم ومكانهم، ونجعل أطلالهم، ممحوة بالطمس، وأجسادهم كأن لم تغن بالأمس.(1/411)
وإن لاح لهم الإحتراز فليستدركوا فارطهم، وليرحموا أنفسهم وأزواجهم وأولادهم وأموالهم، وليبادروا إلى ما هو السبب للخلاص، ويدخلوا في طاعتنا عن صدق وإخلاص، وليتحققوا أنا لا نريد منهم خزائن ولا أموالاً، فإن الله تعالى قد أتانا من المال ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة، أغنانا بما أعطانا، عما هو في أيدي من سوانا، وفيما مُنحنا من المملكة العريضة، والسلطنة المُستفيضة، والعساكر والجيوش غير المحصورة، والألوية والأعلام المنصورة، مُتسع وكفاية، بل يخطبون باسمنا، ويضربون الدينار بسكتنا حتى نقرر الجمهور على أمورهم، من أميرهم ومأمورهم، زائدين في الإقطاعات والمشاهرات، والمرتبات والإقرارات.
ولا يخفى عليهم أن الشام كان في الأعوام الماضية، والأيام الخالية، تارة مع الروم وأخرى مع العراق، وعن مصر لا زال منقطع العلاق، إلى زمان تغلب طائفة من أهل الخروج والفتن، فكما كانوا يتصورون أن الثغر هو العراق وديار بكر، فليتصوروا بعد اليوم أنه غزّة وحدود الرمل، وكما كانوا يستمدون منهم علينا، يستمدون منا عليهم، ولا يعتمدوا على القلاع، فإنهم بالمحاصرة يعجزون، ومن الإضطرار يُسلّمون، ومهما تركوا الوساوس والخيالات، وأطاعونا بصدق النيات، فهم في أمان الله الملك العلام، وأمان الرسول عليه السلام، وأماننا في النفس والأهل والمال، ولا صيبهم في عساكرنا أذية في عموم الأحوال.
وكتب في رابع شعبان سنة اثنتين وسبعمائة.
والحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين أجمعين وسلم تسليماً.
وفي نزهة الناظر: كُتب ونحن بأرض الرحبة، على عزم الركوب، في مستهل شعبان المبارك، وقال أيضاً: واتفق قبل وصول رسله حضور البطائق من حلب، تخبر عن نائب الرحبة ما أخبره.
وكان قد وصل إلى دمشق الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير بمن معه من الأمراء المجردين، ووقفوا على سائر الأحوال، واتفق أمرهم على أن يكتبوا للسلطان وللنائب يعرفونهم بالحال، ويستحثوهم على الخروج، ثم توارد خيل حلب وحماة أولاً فأولاً.
وكان أهل دمشق عند حضور عسكر مصر اطمأن أمرهم، وطابت نفوسهم، فلما وصلت جفال حلب، أخذ كل أحد لنفسه الخلاص، واعتّدوا للرحيل، واشتروا الدواب للسفر، فوقع اتفاق الأمراء مع نائب الشام أن ينادي بدمشق أن أي من خرج من بيته حلّ ماله ودمه، ثم وقع اتفاق الأمراء أن يجردوا عسكراً من الشام، ويقيمون بين حماة وحمص، فيكون في ذلك قوة وطمأنينة لأهل البلاد، فجردوا الأمير سيف الدين بهادر آص، والأمير سيف الدين قطلوبك المنصوري، وآنص الجمدار، وكتبوا لنائب حماة وطرابلس وحلب أن يركبوا بالعسكر، ويكون الجميع مقيمين بين حماة وحمص، وركبوا إلى أن وصلوا.
وفي بكرة ذلك النهار حضرت جماعة من العربان وأخبروا أن طائفة من المغل قد طرقت نحو القريتين للغارة، فاجتمع الأمراء بنائب حلب وقالوا: ينبغي أن يركب بعض العرب على الهجن ويكشف خبر هذه الطائفة وهم في مثل ذلك، وإذا قد حضر الأمير ثابت بن يزيد وعرفهم أن الخبر صحيح، وطائفة من المغل كبست على القريتين وأخذت وتركمانها وجميع ما فيها من المواشي، ولم يدعوا فيها أحداً، وساقوا أموالاً عظيمة، وأنهم عازمون العود، وبكرة النهار يكونون بالقُرب من عُرض.
ذكر إغارة التتار على القريتين(1/412)
قال بيبرس في تاريخه: وعند دخولنا دمشق استبشر أهلها وفرحوا، واتصل بنا اجتماع عسكر حلب صحبة الأمير شمس الدين قراسنقر المنصوري، نائب السلطنة بها، وعسكر حماة صحبة الأمير زين الدين كتبغا المنصوري الملقب بالعادل، وعسكر طرابلس صحبة الأمير سيف الدين أسندمر الكرجي نائب السلطنة بها، ومن كان قد جُرد إليهم من العساكر الدمشقية وهم: الأمير سيف الدين بهادر آص، والأمير سيف الدين آنص الجمدار وغيرهما، واتفق وصول مقدمة التتار إلى قريب القريتين فأغاروا عليها في خمسة آلاف فارس، وبها جمع كثير من التركمان الجافلين بحريمهم وأولادهم وأغنامهم، فوقع التتار عليهم وحووهم وما في يديهم، فاتصل بهؤلاء الأمراء الخبر، فركبوا على الأثر، وجردوا سيف الدين أسندمر، وسيف الدين بهادر آص، وسيف الدين آنص، وسيف الدين تمر الساقي، وشجاع الدين غُرلو الزيني مملوك الأمير زين الدين كتبغا، وهو يومئذ من أمراء حماة، وناصر الدين محمد ولد الأمير شمس الدين قراسنقر المنصوري، في ألف وخمسمائة فارس إلى نحو هؤلاء التتار الذين شنوا هذه الغارة، فساقوا خلفهم إلى مكان يسمى عُرض، فوجدوهم قد نزلوا بما كسبوا، واطمأنوا بما غنموا، وفرحوا بما أوتوا، فأشرفوا عليهم وأقبلوا من أمامهم، فظن هؤلاء أنهم من عسكرهم قد جاءوا في أثرهم، فما تحركوا من أماكنهم حتى خالطوهم واتصلوا بهم، فتحققوا أنهم من العساكر الإسلامية والعصابة المحمدية، فاعتزلوا ناحية وتركوا المواشي والغنائم مهملةً ليتشاغل العسكر بالنهب وينهمكوا على الكسب، فينالوا منهم الغرض إذا تشاغلوا بالعرض، ففطن الأمراء بمكائدهم، وعرفوا أن المكر عادتهم، فما عرجوا على الغنائم، بل تفرقوا على القوم أربع فرقات، وجاءوهم من أربع جهات، ورتبوا أن الفرقة الواحدة تحمل عليهم وتتقدم إليهم، فإذا اشتغلوا بقتالها واستعدوا لنزالها يحيط بهم الفرق الثلاث من سائر الجهات، ففعلوا كذلك وأخلطوا بهم فدهكوهم بهذا التدبير، وغلب القليل من المسلمين جمعهم الكثير، وكسروهم، واستنقذوا التركمان الذين كانوا أسروهم، وخلصوا النسوان والولدان، واقتلعوا منهم المواشي والأموال، وأبلوا بلاءً حسناً، وفازوا بالأجر والثناء، وتفاءلوا بهذه البداية المباركة، وأيقنوا النُصرة المتداركة، وكانت هذه مقدمة لنتيجة الظفر، وقضية موجبة للتأييد المنتظر، سالبة ما استلبه فُراط التتر، ولم يُستشهد في الوقعة إلا الأمير سيف الدين آنص الجمدار، وناصر الدين محمد بن باشقرد الناصري.
وقال صاحب النزهة: كان السبب لغارة المغل على القريتين أن قطلوجاً لما عدّى الفرات طلب بعض أمراء التوامين وقال له: اركب بمن معك من عسكرك، وأغر على طريقك أي جهة رأيتها قريبة منك، واقتل وانهب واسب وسُق ما تجده وما تقدر عليه من أسرى المسلمين، وكان قصد بذلك إيقاع هيبته في قلوب الرعية والعساكر، ثم أنه أول ما جاءت طريقه على القريتين رأى بها بيوت التركمان والعرب والخلق الكثير، وقد سرحوا مواشيهم إلى أن سدت تلك الأرض، فضربوا عليهم حلقة ووضعوا فيهم السيوف، فلما رأوهم صاحوا بالأمان، وأقاموا ذلك اليوم وتلك الليلة، إلى أن ساقوا جميع أموالهم، وأخذوا مواشيهم، وشرعوا في أخذ الرجال والنساء والأطفال، وربطوا الجميع أسرى، وساقوهم بين أيديهم، والرجال تبكي، والنساء يصحن، والأطفال يتصاعون.(1/413)
فلما جاء الخبر بذلك إلى الأمراء عينوا جماعة من الأمراء وهم الذين ذكرناهم ومعهم يزيد بن ثابت بجماعة من عربه، وكلهم بالهجن راكبون، وفرس كل واحد منهم جنيباً على يده، وساروا ذلك اليوم إلى أن دخل عليهم الليل فاستراحوا ساعة واحدة، وجاء في ذلك الوقت بعض العرب وأخبرهم أن العدو يكونون في نصف الليل نازلين على عُرض بمن معهم من الكسب والأسرى، فركبوا وساروا الليل كله إلى أن انبثق الفجر، وجاء في ذلك الوقت بعض العرب أيضاً وأخبروا أن العدو قد نزلوا في الليل وإنكم قربتم منهم، ثم أن الأمراء نزلوا واستراحوا، وتوضؤوا لصلاة الفرض، ثم بعدها صلاة الموت، وودّع بعضهم بعضاً، ثم ساقوا على نفس واحد إلى أن طلع قرص الشمس، فتراءت مضارب العدو، وكانوا تحت تل من تلك الأرض، فساق الأمراء بمن معهم إلى أن ركبوا التلّ، ثم قال لهم سيف الدين بهادر آص: إعلموا يا أمراء أن هذه الوقعة هي وقعة الانفصال بيننا وبينهم، فإن كانت النصرة لنا فهي بشارة تستمر بنا، وإن كان غير ذلك فنعوذ بالله. وقال الأمير سيف الدين أسندمر: كل زوجة لي طالق وكل جارية ومملوك لي حر إن ولّيت ظهري حتى أبلغ قصدي، وإن مت فما يكون لي موتة أكرم منها، ثم شرع كل واحد منهم يقول بمثل هذه المقالة، وكانت العدو في المقام، وكان يحرسهم أمير ومعه خمسمائة فارس، وأول من حمل بمن معه الأمير سيف الدين أسندمر، وصاح الله أكبر، فجاوبه العسكر بصوت واحد حتى الأسرى: الله أكبر، الله أكبر، وكانت الأسرى نحواً من ستة آلاف نفس.
وكانت هذه الساعة ساعة عظيمة، وقتل المسلمون منهم خلقاً كثيراً، وأفنوا أكثرهم على السيف، وأسروا منهم نحو مائة وثمانين أسيراً، ومن وجد مجروحاً قتلوه، ثم كتبوا بهذا الفتوح لنائب حلب ونائب حماة، ورفعوا بعد ذلك طالبين الأمراء.
وكانت الوقعة في الحادي عشر من شعبان من هذه السنة، واستشهد فيها الأمير آنص، وناصر الدين بن الباشقردي الناصري، ونحو ستة وخمسين من الجند ومماليك الأمراء، وجرحت نحو ثمانين نفراً، وقتلت خيول كثيرة.
ولما سبق البشير إلى الأمراء، ركب الأمير شمس الدين قراسنقر نائب حلب، والأمير زين الدين كتبغا نائب حماة، وبقية الأمراء والعسكر، والتقوهم ودعوا لهم، وفرحوا.
ولما نزلوا الخيم اجتمع رأيهم على أن يكتبوا لنائب الشام والأمراء المصريين ويبشرونهم بما فتح الله من النصر على الأعداء، وخلاص اسرى المسلمين، فكتبوا كتاباً، وخلقوا عنوانه، وأول الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم " إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً "، " وينصرك الله نصراً عزيزاً ". ثم عرفوهم بما اتفق من لطف الله تعالى ونصره، فاستبشرت الأمراء بذلك، وضربت البشائر، وفرح أهل دمشق وشكروا الله على ذلك، وتيقن كل أحد منهم أنهم منصورون على عدوهم.
ثم في ذلك الوقت وصلت جماعة من العرب وأخبروا أن قطلوشاه جاس خلال الديار، وقد سارت خيوله سيراً غير حثيث ينتظر قازان يأتي من بعده، فاتفق رأي الأمراء على أن يكتبوا للسلطان ويستحثوه على الخروج بالعسكر، ويعرفوه بما اتفق من النصر، فلما وصل الكتاب إلى السلطان فرح فرحاً عظيماً، وأمر بعرض العساكر والخروج سريعاً.
وقال ابن كثير: قدمت الأسارى دمشق يوم الخميس منتصف شعبان، وكان يوم خميس النصارى، ثم لما قوي خبر التتار خافت الأمراء والعسكر أن يدهمهم التتار لإقتراب محنتهم، فرحلوا ونزلوا المرج يوم الأحد الخامس والعشرين من شعبان، ودخل التتار إلى حمص وبعلبك، وعاثوا في الأرض فساداً، وقلق الناس قلقاً عظيماً وخافوا خوفاً شديداً، واختبطت دمشق لتأخير قدوم السلطان ببقية الجيش، وقال الناس: لا طاقة لجيش الشام مع هؤلاء المصريين بلقاء العدو لكثرتهم، وتحدث الناس بالأراجيف، فاجتمع الأمراء يوم الأحد المذكور بالميدان الأخضر وتحالفوا على لقاء العدو، وشجعوا أنفسهم، ونودي في البلدان لا يجفل أحد، فسكن الناس، وجلس القضاة، بالجامع، وحلفوا جماعة من الفقهاء والعامة على حضور الغزاة، وتوجه الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله إلى العسكر الواصل من حماة، فاجتمع بهم في القطيعة فأعلمهم بما تحالف عليه الأمراء والناس من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك، وحلفوا معه.(1/414)
وكان الشيخ ابن تيمية يحلف للأمراء وللناس أنكم لمنصورون في هذه الكرة على التتار، ثم يقول إن شاء تحقيقاً لا تعليقاً، وكان يتأول في ذلك أشياء منها قوله تعالى: " ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور ".
ولما كان يوم الأربعاء الثامن والعشرين من شعبان: خرجت العساكر الشامية فخيمت على الجسور ومعهم القضاة.
ولما كان ليلة الخميس: ساروا إلى ناحية الكسوة، وقد وصلت التتار إلى القطيعة، فانزعج الناس لذلك، ولم يبق حول دمشق من القرى والحواضر أحد، وامتلأت القلعة، وازدحم الناس في المنازل والطرقات، وخرج تقي الدين بن تيمية صبيحة يوم الخميس المذكور من باب النصر بمشقة كبيرة، وفي صحبته جماعة ليشهد القتال بنفسه ومن معه، وبقي البلد ليس فيه حاكم، وعاثت اللصوص والحرافيش في بساتين الناس يخربون وينهبون، وانقطعت الطريق إلى الكسوة، وظهرت الوحشة على البلد، ويتعجبون من أمر الجيش مع كثرتهم أين ذهبوا، ولا يدرون ماذا فعل الله بالناس، فانقطعت الآمال، وألح الناس في الدعاء والابتهال.
ذكر ما جرى لعسكر الشام
وما فعل التتار القادمون
ولما كان الناس في الحيرة والدهشة من قدوم التتار وتأخر السلطان، وعدم علمهم بأمر عسكر الشام، جاء فخر الدين إياس أحد أمراء دمشق آخر نهار يوم الخميس التاسع والعشرين من شعبان يبشر بوصول السلطان واجتماع العساكر المصرية والشامية، وقد أرسل ليكشف هل طرق البلد أحد من التتار، فوجد الذين يكشفون الخبر أن التتار قد عرجوا عن دمشق إلى ناحية العساكر، ولم يشتغلوا بالبلد، لأنهم كانوا يقولون: إن غلبنا فالبلد لنا وإن غلبنا فلا حاجة لنا به، فعند ذلك نودى في البلد بتطييب الخواطر لأن السلطان قد وصل وإن التتار غير متوجهين إلى البلد، فسكنت قلوب الناس، والله المستعان.
وقال بيبرس في تاريخه: ولما عاد التتار الذين انهزموا من القريتين اجتمعوا مع بقية عساكرهم وتحدثوا في مشاورهم وقالوا: إن السلطان لم يتحرك من الديار المصرية في هذه الأيام، وما ثم إلا بعض العسكر المصري وعسكر الشام، واتفقوا على المبادرة ليغتنموا الفرصة على زعمهم وأقبلوا مسرعين بطمهم ورمهم، فكثرت الأراجيف لمفاجأتهم والإنذار بمهاجمتهم، هذا والسلطان ومن معه لم يتحقق حالهم، ولا علم قبالهم، فتقسمت الأفكار والظنون، وتطلعت لقدومه العيون، واجتمعنا للاستخارة، واقتدحنا زناد الاستشارة، فأجمعنا على استطلاع الحال قبل العزم على الترحال.
قال: فتوجهت مستكشفاً، وللأخبار متعرفاً، فلما وصلنا القطيعة صادفنا عسكر حلب وحمص وحماة قد تقدموا جائين، وأقبلوا متواترين، وأخبروا بأن العدو سائر سير المجد في الرواح والغدو، وقد اقترب الإفدام من الأقوام، ودنت الخيام من الخيام، فرجعنا إلى مرج راهط، وخرج الأمير ركن الدين الأستادادار، والأمير جمال الدين أقوش الأفرم، ومعهما الأمراء المصريون والشاميون، فاقتضت الآراء التأخر عن المرج قليلاً والنزول من دونه ولو ميلاً، ريثما يحصل التوثق من وصول السلطان واجتماع العساكر قبل أن يلتقي الجمعان، فلما رجعوا إلى خلف شيئاً يسيرا ولت الأطلاب، وعادت العساكر على الأعقاب حتى إن أكثرهم ترك حماله، ورمى أثقاله، وأهمل قماشه وماله، ولم يتهيأ ردهم ولا أمكن صدهم، وعبروا على مدينة دمشق بهذه الصورة، فتصدعت قلوب أهلها المكسورة، وعجوا وضجوا واستصرخوا ولجوَا، وحملهم مادهموه من انتقاض العزائم على أن صرحوا بالشتائم، وبادر أكثرهم بالجفل لينجو، وقالوا: إذا رجعت عنا العساكر فأيَ حياة نرجو، فحصل بلطف الله التوقف والتثبط والتمسك بالمرج والتضبط، فما كان إلا كلمح شرارة أو وحي إشارة حتى أتى البريد مخبراً بإقبال الملك الناصر وأطلاب العساكر، فزال البأس وغلب الرجاء اليأس، ثم أقبل السلطان في جيوشه، وأسوده الكاشرة ووحوشه، فقويت القلوب، وانحلت الكروب، واجتمعت العساكر المصرية والشامية وتكتبت الكتائب المحمدية.
وقال صاحب النزهة: وقد كان السلطان كتب إلى نائب الشام والأمراء وعرفهم بأنه خرج من مصر وصحبته الخليفة المستكفي بالله أبو الربيع سليمان، فلما وصل إليهم الخبر فرحوا واستبشروا بذلك وطابت خواطر العامة بكون العسكر مقيمين عندهم، وكون السلطان في الطريق وهو جاي.(1/415)
وفي ثالث اليوم من ذلك: جاءت الأمراء المقيمون بمصر وهم: نائب حلب، ونائب حماة، ونائب طرابلس، فلاقتهم الأمراء الذين بدمشق واجتمعوا، فلما نزلوا للمشورة تحققوا أن قطلوبغا نائب قازان بمن معه من العسكر قد وصل إلى قرون حماة طالباً دمشق طلباً لقلعتها، فإنه بلغه ما جرى على السرية التي غارت على أهل القريتين، وبلغه أن نائب الشام متوجهاً للقائه بعسكر الشام، فعند ذلك اجتمعت سائر الأمراء: نائب حلب قراسنقر، ونائب حماة كتبغا العادل، ونائب طرابلس أسندمر، ونائب الشام الأفرم، والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والأمير حسام الدين الرومي، ومبارز الدين بن قرمان، وكراي المنصوري، وتغريل النوغاي، وسائر أمراء مصر والشام، على أنهم يخرجون إلى مرج دمشق ويلاقون العدو فيه، ولا يدعونهم يدخلون دمشق.
فلما انتظم الحال على هذا لم يعجب هذا الرأي الحسام الأستاذ الدار ولا تحدث معهم في هذا الرأي، فقال له بيبرس: ما لك لا تتكلم مع الأمراء؟ فهذا ليس وقت السكوت، وأنت رجل كبير ورأيت ما لا رأيناه، وجرت عليك التجاريب، فلا يحل لك أن تسكت، فإن رأيت خيراً من هذا الرأي تكلم، حتى نوافقك على هذا إن رأيناه مصلحة، وإلا فأنت تعلم شيئاً فيه مصلحة وتسكت عنه تطالب به يوم القيامة. فقال يا أمراء: أنا أقول ما أعلم أنه يخلصني عند الله تعالى، ولكن ما يعجب ذلك بعض الأمراء. قال له بيبرس: قل حتى نسمع. فقال: اعلموا أن هذا عدو ثقيل، وهو قاصدكم وطامع فيكم لكون أنكم نواب البلاد، ولا يعلم أن عسكر مصر مع السلطان، قد قربوا منكم، فمتى لاقيناهم يجري علينا ما لا نحبه من غلبة العدو علينا، فيتفرق شمل العسكر الذين تجمعوا، ويحضر السلطان والعسكر على حال الفساد، ويكون العدو خلفنا، فيتوهم عسكر السلطان، وتنكسر قلوب الناس، ويقع العتب علينا أيضاً من السلطان حيث يقول: كنتم صبرتم حتى اجتمعنا كلنا جملة، والحال أنكم سمعتم بقدومي، فلا يفيد بعد ذلك الندم، وهذا السلطان قد قرب وبقي بيننا وبينه يوم أو يومان، والمصلحة عندي أن نرجع إليه، ونجتمع بين يديه، وتكون الآراء رأياً واحداً، واللقاء جملة واحدة، ويعطي الله النصر لمن يشاء.
فلما سمع بيبرس هذا الكلام التفت إلى الأمراء فقال: والله أنا لا أخرج عن إشارة هذا، فإن الذي قاله وأشار إليه ما عليه فيه جناح عند الله، ثم قال نائب الشام للحسام الأستاذ الدار: يا أمير أنت إذا خرجت الساعة يغير العدو على دمشق من بعدك، ويضع السيف في أهلها، فماذا يكون عذرك عند الله؟ فقال له الحسام: يا أمير إن العدو إذا علم بخروج العسكر من دمشق لا يلتفت إليها، ولا يكون عزمه إلا على اللحوق بالعسكر ويقول: إن دمشق في يدنا، ومع هذا يتوهم عن خروج العسكر.
فلما سمع الأمراء هذا الكلام منه أمروا ساعتئذ بقلع الخيام والركوب، ونادى المنادي بالرحيل، فوقع الصوت في دمشق، فتحير أهلها ودهشوا بحيث لا يغفل الوالد على ولده، ولا الولد على والده، وسيبت النساء والبنات، وغلت أسعار الجمال والحمير، فبلغ كل حمار كان يساوي مائة بخمسمائة وستمائة، وكل جمل كان يساوي ثلاثمائة بيع بألف وأكثر، وفي الناس من نجا بنفسه وخلى حريمه، ومن كان ظهره ثقيلاً طلع القلعة، وما جاء الليل إلا ودمشق يبكي عليها ويندبها النوادب.
وأما الجند والعسكر فإن أحداً منهم لا يلتفت إلى رفيقه ولا إلى خشداشه، ولا ينظر المملوك إلى أستاذه، وخرجت الغلمان والحمالة على وجوهها، والصناديق التي فيها الأكل والحلواء يرمونها لأجل الخفة، وكان يوماً عظيماً، وأما فقراء دمشق ومشايخها وصلحاؤها وفقهاؤها وقضاتها، فقد اجتمعوا بالجامع الأموي، ووطنوا أنفسهم على الموت، وكشفوا رؤوسهم يتضرعون إلى الله تعالى ويبكون، ولم يزالوا كذلك إلى أن طلع الفجر، ولاحت للناس مواكب العدو وجحافله، وقد رجعوا عن دمشق وركبوا أعالي الغوطة، ففرحت الناس لذلك وعلموا أن الله قد استجاب دعاءهم ورحمهم.(1/416)
وكان سبب عدولهم عن دمشق أن جواسيس قطلوشاه قد حضروا إليه في الليل، وعرفوه أن النواب مع عساكرهم، لما سمعوا بوصولك إليهم، وتحققوا أن عسكرك عظيم، وأنهم ليس لهم طاقة للملاقاة، اتفقوا على أن يخلوا لك دمشق حتى تدخل إليها وتشتغل بأهلها، وينجون هؤلاء بأنفسهم، مع أنا سمعنا أن لهم عسكراً خرجوا من مصر وهم مقبلون، فهؤلاء قد ذهبوا إليهم حتى يعتضدون بهم، ثم يرجعون جملة واحدة ويعملون شيئاً وأنتم مشغول في المدينة، فلما سمع قطلوشاه ذلك أعلم أمراءه بذلك وأكابر عسكره، واتفق رأيهم أن لا يدخلوا دمشق، فإنه إن دخلوا يفسد أمرهم ويشتغل العسكر بالكسب، فيحصل الفساد إن عاد عسكرهم علينا، ومع هذا يمكن أن يكون هذا مكيدة من نائب الشام، فعند ذلك ركبوا وقصدوا الطريق التي من وراء المرج حتى ينزلون من خلف دمشق على الكسوة، ثم يتتبعون آثار عسكر الشام، فحيثما يتلاقون يهم يحطمونهم.
فلما رأت أهل دمشق ذلك حمدوا الله تعالى، واستمروا مقيمين في الجامع، مشتغلين بالدعاء والقنوت في الصلوات.
قال الراوي: وكان يوم خروج الشاميين من دمشق يوم نزول السلطان الملك الناصر بعساكره على رأس العقبة، وكان يوم استهلال شهر رمضان المعظم.
ذكر خروج السلطان من القاهرة
ووصوله إلى شقجب
كان خروج السلطان من مصر في الثالث من شعبان من هذه السنة، وأسرع في السير إلى أن وصل إلى راس العقبة مستهل رمضان كما ذكرنا، والتقى الأمراء بالسلطان وترجلوا وباسوا الأرض، وما لحقوا أن يقفوا إلا وأجناد العدو قد وصلت بوصوله، فوقف السلطان وأمر للنقباء والحجاب أن يدوروا على الجيش ويأمروهم بلبس الأسلحة والاستعداد للملاقاة، وبقي السلطان والأمراء راكبين في الموكب سائرين، واستعد العساكر باللبس والتجهيز.
وفي ذلك الوقت وقع كلام فج بين الأمير شمس الدين سنقر العلائي - أحد الأمراء البرجية - وبين الأمير حسام الدين الأستادار، وكان هذا سنقر من جمرة البرجية التي تتعد وكان مدلاً بشبابه وقوة ساعده وفروسيته، ولما رأى الأمراء سلَم عليهم، ورآهم على تلك الصورة، أنكر عليهم، فصار كل أحد منهم يحكي له حكاية، ومال بعضهم فيها على حسام الدين الأستادار حيث أنه منع العسكر عن ملاقاة العدو، وترك دمشق وأخذ العسكر وأخلاها، وأشار إليهم أن الملاقاة تكون بحضور السلطان، وأن الأمير ركن الدين بيبرس وافقه على هذا الرأي، فتبعته الأمراء، فما سمع سنقر هذا الكلام إلا وقد ركض فرسه وسط الموكب وقال للأمير بيبرس: يا أمير إش هذا الرأي الذي فعلته بالناس حتى أفسدت حال العسكر، وكسرت قلوب أهل دمشق، ونهبت أموالهم، وسمعت من واحد قد كبر وخرف وما يشتهي الموت، والأمير حسام الدين إلى جانب السلطان يتحدث معه ويسمع كلامه، ثم التفت بيبرس إليه وقال له: اسكت، ما هذا الكلام؟ ثم قال حسام الدين: يا أمير - يخاطب سنقراً - أما أنا فإني أشرت إليهم، فالله يطالبني بها يوم القيامة إن كان قصدي فساد المسلمين، وأما أني كبرت فصحيح، ولكني ما خرفت، فوقع بينهما كلام كثير، ثم غضب بيبرس وصاح على سنقر العلائي وأخرجه من مكان كان واقفاً فيه.
قال الراوي: سمعت من قال: إني رأيت حسام الدين تخرج الدموع من عينيه، وقد بلت شيبته، وهو يتمثل بأبيات من شعر الطغرائي:
تقدمني رجال كان سوطهم ... وراء خطوي إذا أمشي على مهل
هذا جزاء امرئ أقرانه درجوا ... من قبله فتمنى فسحة الأجل
ذكر وقعة شقحب
قال صاحب النزهة: هذه الوقعة عرفت بين الناس بوقعة شقحب، ثم بغباغب، فإنها كانت مشتملة على طرف شقحب وغباغب والصنمين، قلت: هذه أسماء قرى هناك، وهي أراضي وعرة ذات أحجار سود.
قال بيبرس في تاريخه: ذكر كسرة التتار على مرج الصفر في غرة الشهر الأزهر: لما انتظم شمل العسكر انتظام الجمان، واصطفت صفوفه كأنها بنيان، أضحوا كما قال أبو الطيب المتنبي:
وإذا رأيت إلى السهول رأيتها ... تحت العجاج فوارساً وجنائبا
وإذا نظرت إلى الجبال رأيتها ... فوق السهول عواسلاً وقواضبا
فكأنما كسى النهار بها دجى ... ليل واطلعت الرماح كواكبا
أسد فرائسها الأسود يقودهم ... أسد تصير له الأسود ثعالبا(1/417)
وقال النويري: لما وصل الملك الناصر رتب العساكر الإسلامية ميمنة وميسرة وقلباً، والتقى الفريقان بمرج الصفر نصف النهار.
وقال صاحب النزهة: وكما قدر الله تعالى وصول السلطان والعسكر وجدوا قطلوشاه ومن معه من المغل قد وصلوا، ووقف على أعلا النهر وقد نظروا العساكر من علوه، فظنوا أنها عسكر الشام، فتباشروا، وأخذت الحجاب في ترتيب المواكب والأمراء والمقدمين، واجتمع الجميع قدام السلطان، وحضر الخليفة أبو الربيع، ووقفت أكابر الأمراء والنواب، وأجمعوا على تعيين أمراء للميمنة، وأمراء للميسرة.
ووقف السلطان في القلب بلوائه، والخليفة بإزائه، والأمير سيف الدين سلار، والأمير ركن الدين أستادار، والأمير عز الدين أيبك الخزندار، والأمير سيف الدين بكتمر أمير جاندار، والأمير جمال الدين أقوش نائب الشام ومن معه من عساكر الشام، وبلرغي، وأيبك الحموي، وبكتمر الأبو بكري، وقطلوبك، ونوغيه السلحدار، وأغرلو الزيني.
وفي الميمنة: الأمير حسام الدين الرومي أستاذ الدار، والأمير جمال الدين أقوش الموصلي، والأمير بهاء الدين يعقوبا الشهرزوري، والأمير مبارز الدين بن قزمان، ومبارز الدين بن سواري أمير سنجار.
وفي الميسرة: الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح، والأمير شمس الدين قراسنقر المنصوري نائب حلب ومن معه من العسكر الحلبي، والأمير سيف الدين بتخاص المنصوري نائب صفد، والأمير سيف الدين طغريل الإيغاني، والأمير بكتمر السلحدار، والأمير بيبرس الدوادار صاحب التاريخ.
وفي الجناح الأيمن: الأمير سيف الدين قفجاق نائب حماة ومعه العسكر الحموية، وجماعة العربان فيهم مهنى وآل فضل.
وقال صاحب النزهة: وفي الجناح الأيمن شمس الدين قراسنقر نائب حلب مع مهنى وآل فضل، والأمير بهاء الدين أولياء بن قزمان، وفي الجناح الأيسر: سيف الدين برلغي، وعلم الدين الجاولي، وشمس الدين سنقر الكمالي.
وقال صاحب النزهة: كانت الأمراء قصدوا أن يعزلوا السلطان مع جماعة بناحية عن المصاف، فأبى ذلك ولام الأمراء وقال: والله أنا أول من يحمل قدامكم. فقال له أسندمر كرجي نائب طرابلس: يا خوند نحن ما نريد منك أن تحمل، ولا للملوك عادة بالجملة، ولكن إثبت أنت مكانك، فإذا ثبت السلطان ثبت العسكر. فقال له: يا أمير إن اخترتم هانوا قيداً فقيَدوا فرسي به حتى أموت وهو واقف، فأعجب ذلك الأمراء ودعوا له.
وقال ابن كثير: ولما اصطفت العساكر والتحم القتال ثبت السلطان ثباتاً عظيماً، ويقال: إنه أمر بجواده فقيد حتى لا يهرب، وبايع الله في ذلك الموقف.
وقال صاحب النزهة: ولما تكامل ما رتبوا وقف كل أحد مكانه، والخليفة إلى جانب السلطان يتلو كتاب الله ويذكر ما أعد الله للمجاهدين من الثواب والأجر، ويقول: أيها المجاهدون لا تقاتلوا لأجل سلطانكم، فقاتلوا لأجل حريمكم، فعند ذلك ما كنت ترى إلا أدمعاً على الخدود تترادف، وزعقات من صميم الأكباد تتضاعف، وعاينت جماعة من الجند وقع بهم الاختلال في عقولهم في ذلك الوقت ووقعوا إلى الأرض، وبقي الأمير سيف الدين سلار في حفدته ومضافيه، والأمير ركن الدين في حفدته من البرجية ومضافيه، يترددان بين القلب والميمنة، وكان هؤلاء جمرة الإسلام، وعليهم العمدة في الأحكام، وكل منهما في نحو أربعين طبلخاناة.
قال الراوي: وبلغني من أحد الأمراء أنه سمع بيبرس يقول: أنا عاهدت نفسي الموت، وذلك حين قال له سلار: يا أخي أنت تعلم أن الحديث فينا كثير، وأنا نسبوني إلى التتار لكوني من جنسهم، وأنت نسبوك إلى أنك تبغض الجند، فبالله أوص لأصحابك بالثبات وإلا لا يبقى لنا وجه عند أحد بعد هذا اليوم، وتعاهدوا، ووثق بعضهم بكلام بعض، ثم نشروا السناجق والأعلام الخليفتية والسلطانية، وسيروا النقباء فداروا على الركبدارية والغلمان والجمالة، وجمعوا الجمع، وأوقفوهم صفاً واحداً خلف أستاذيهم ليكثر بهم السواد، ونادى منادي: أي جندي خرج من المصاف بغير عذر أو جرح، فدمه حلال، وعدته وفرسه لهم، وكذلك الجمالة والغلمان.
ذكر ما اعتمد عليه قطلوشاه في ذلك اليوم(1/418)
ولما تناهى ترتيب المسلمين، عاين ذلك قطلوشاه مقدم المغل وهو أعلى الخيل، وهو في جيش قد سدّ السهل والوعر، ثم شرع في ترتيب أمره، فقصد أن يرتب مقابل كل موكب موكباً، وجمع الأمراء على ذلك، فلم يجد في أمرهم فسحة، ووجد ميسرة المسلمين قد انتشرت، وبينهم وبين التتار النهر الكبير هناك فلا يمكن الوصول إليهم، فمشوا إلى آخر النهر إلى أن وصلوا إلى رأس الميمنة، فوجدوا رائجاً مديداً، ولكن وجدوا مخافاً للجبل، فتشاوروا في أمر نزولهم، واتفق رأيهم على أنهم لا يجدون مكاناً للنزول أسهل من هذه المخاضة، وأنهم ينزلون جملة واحدة. وأنهم إذا كسروا هذه الطائفة التي بين أيديهم يدورون خلف الذين يبقون، فإنهم لما رأوا ميمنة المسلمين ورأوا عسكرهم أمثال هؤلاء استحقروهم.
وقال بيبرس: وفي الوقت الحاضر أقبلت كراديس التتار كقطع الليل، لا يبين فيها الرجل من الخيل، وقد عراهم القتام والغبار، وفيهم من مقدميهم الكبار: قطلوشاه، وسوتاي أقطاجي، وجوبان بن تداون، ومولاي، وقرمشي بن الناق، وطوغان، وسبوشي بن قطلوشاه، وطغريل ابن آجاي، وآبشقا، وأولا جغان، والكان، وطيطق في مائة ألف من المغول والكرج والأرمن وغيرهم.
ذكر كيفيّة الوقعة
قال صاحب النزهة: لما رأت التتار عسكر الإسلام وهم على الجبل صاحوا وضربوا الطبول، ونزلوا وقد أحاطوا النهر، ووقفوا عند المخاضة، وكان مقابلهم من ذلك الجانب الأمير حسام الدين الأستادار. والأمير بهاء الدين أوليا بن قزمان، ولما رآهم حسام الدين قال: بسم الله نية الغزاة، فجذب سيفه ومشى، وقال بعض مماليكه: يا خوند ارجع قليلاً عن يمينك أو عن شمالك، فلم يلتفت إليهم إلى أن صدمته الخيل، وصدمت ابن قزمان أيضاً، فكان الاثنان بينهم كالواحد في ألف، فإن الجميع اجتمعوا على مخاضة واحدة، وطلعوا طلوع رجل واحد، وكان الأمير الجاولي رديفهم، وبرلغي رديف الجاولي، والأمراء متصلون بعضهم ببعض، وارتفع الغبار، ولم يشعر الناس إلا وقد اندق الجاولي وبرلغي على الكمالي، ورأى بيبرس وسلار ذلك، فصاح سلار: هلك والله الإسلام، وصاح على بيبرس والأمراء البرجية، فنهض الأمراء المنهزمون وصدموا جيش المغل، فرجّعوها قهراً، ورموا منهم جماعة كثيرة إلى أن كشفوهم عن المسلمين.
وكان جوبان وقرمشي ومن معهما قد ساقوا يعينون مولاي وهو خلف المسلمين، فرأوا قطلوشاه وقد انكسر، فعادوا إليه، ووقف في وجه بيبرس وسلار.
وكان السلطان والأمراء قد رأوا سلار وبيبرس قد خلى مكانهما، ورأوا أطلاب العدو تتواتر، فخرج أسندمر وقطلبك وقفجق والمماليك السلطانية وردفوهما، ولما رأى سلار السلطان والأمراء أخذ على جانب وتمكن من العدو، وطعن فيهم وأبادهم، ولم يبق أمير إلا وقد ألقى نفسه للموت، فلما رأى المغل ذلك أخذوا جهةً وتمكنوا منها، وكان الأمير سيف الدين برلغي بين أيديهم، فصدموه ومزّقوا طلبه وفرقوه، ثم صاروا أيّ جهة مالوا إليها فرقوها، وتم الحرب بين سلار بمن معه من الأمراء والسلطان وبين قطلوشاه تارةً تارة، وكل من الفريقين قد ثبت.
ولم يعلم سلار والأمراء أن الجانب الذي نزلوا عليه قتلت أمراؤهم وانهزم من كان معهم، وأن طائفة من المغل ساقت وراء المنهزمين، وفي ذلك نهبت خزائن السلطان، فإن الكسرة حيث انتهت بالمسلمين على تلك الطريق جعلت الناس بين أيديهم، وتفرق من كان حول الخزائن، ولما رأى السواد الأعظم ذلك صاروا يبركون جمال الخزائن البخاتي ويكسرون الصناديق، ويخرجون أكياس الذهب والفضة، فيأخذ كل أحد ما يقدر عليه.(1/419)
ومازالت الحرب بينهم إلى أن مالت الشمس للغروب، وكان الملتقى بينهم بعد الظهر، ثم مال قطلوشاه بمن معه إلى جانب جبل إلى جانبه، وطلع عليه وفي نفسه أنه منصور، ورجع جماعة منهم كانوا وراء المنهزمين، ومعهم جماعة من أسراء المسلمين وفيهم الأمير عز الدين أيدمر النقيب من المماليك السلطانية، فلما اجتمعوا قال قطلوشاه: هذا عسكر كثير وليس الأمر كما ظننا فلا بد أن نعلم خبرهم، فاقتضى رأيهم أن يحضروا أسيراً من الأسرى ويستخبروا منه خبر العسكر، وقالوا لقطلوشاه: إن في الأسرى رجلاً وهو أمير، وهو عز الدين أيدمر المذكور، فأمر بإحضاره، فأحضروه بين يديه وقال: أنت من أمراء الشام؟ قال: لا أنا من أمراء مصر. فقال له: وما جاء بك ههنا؟ فقال: جئت مع السلطان. قال: مع الملك الناصر. قال: نعم. قال: وأين السلطان وعسكر مصر؟ قال: الكل واقفون. قال له: وعسكر مصر جميعهم الساعة ههنا حاضرون والملك الناصر حاضر. قال له: نعم. قال: فأي وقت وصلتم إلى ههنا، فأخذ يعرفه ويخبره بجميع أمور السلطان من يوم خرج من مصر إلى هذا اليوم. ومن جملة ما قال له: هذا الذي كسرتموه من الميمنة فقط، وعسكر الملك الناصر كثير، فلم يصدقوه حتى أحضروا غيره، فسألوه فأخبر نحو ما أخبره عز الدين أيدمر، ثم سألوا غيره وغيره إلى أن سألوا جماعة كثيرة، فالكل أخبروا بخبر واحد، ولما تحققوا صدق مقالهم وقعوا في بحر زخار، فقال لهم مولاي: تحققتم أن هذا هو الملك الناصر قالوا: ما بقي شك في أمره. فقال: ألم تعلموا أن الخان قازان قد كتب يغلق، وعاهدنا أننا إذا رأينا أو سمعنا أن الملك الناصر حاضر بعسكره أو بغير عسكره لا نضرب معه مصافاً؟ فقال له قطلوشاه: لو علمنا من الأول أن الملك الناصر حاضر ههنا ما ضربنا معه رأساً، ولكن اعتقادنا أنه نائب الشام مع عسكر الشام، والآن فقد وقعنا كلنا في فم السبع فما بقي إلاّ الموت جميعاً أو الحياة جميعاً، وهم في ذلك الكلام إذا بالكوسات قد دقت والبوقات قد زعقت، حتى ملأت الأرض وأزعجت القلوب، وكان ذلك برأي الأمراء حيث رأوا التتار قد تجمعوا فوق الجبل حتى تقع الهيبة في قلوبهم، وحتى يسمع المنهزمون فيرجعون.
ولما سمعوا حسّ الكوسات، قال مولاي لقطلوشاه: هذا الطبل ما يدق إلاّ للسلطان، وأنا ما أخالف يسق الخان، فضرب طبله وخرج من قدام قطلوشاه بتومانه، ونزل من الجبل بين العشائين، ولم يزل إلى أن طلع من المخاضة التي نزلوا منها، وعلم به بعض العسكر، فلم يجسر أحد أن يقربه ولا أن يتبعه.
وبات الأمراء والناس في هذه الليلة والنيران قد ملأت الأرض، والمشاعل توقد، وكذلك التتار قد أوقدوا النيران وباتوا محترسين على أنفسهم، ولم يزل في تلك الليلة النقباء والحجاب ومعهم سلار وبيبرس وأسندمر وقبجق وأكابر الأمراء دائرين على الأمراء والأجناد يوصونهم بأن يكونوا على يقظة من أمرهم، فعرفهم الأمير سيف الدين قفجق أن التتار لو قتلوا عن آخرهم في هذا المكان ما ينزل أحد منهم في الليل ولا يقاتل، وإنما لا بد لهم من النزول غداً.
ذكر هزيمة التتار
قال الراوي: وما أصبح الصباح إلا وقد انضم شمل عساكر السلطان، وأخذ كل أحد موضعه، وأما قطلوشاه فإنه شاور مع بعض الأمراء الكبار الذين معه فيما يفعله، وقد تحققوا في أنفسهم الموت، فوقع رأيهم على أن يقيموا على الجبل ولا ينزلوا ويقاتلوا العسكر إلى أن يفنوا ولا يسلموا أنفسهم، وما زالوا محترسين على أنفسهم إلى أن طلعت الشمس وقوي نورها، فنظروا إلى عسكر قد ملأ الأرض، ولم يروا مثلهم في أعمارهم، وأراهم الله في عيونهم في كثرة لا تحصى ولا تعد.
ثم شرع المسلمون يريدون أن يهجموا عليهم، فمنعهم الأمراء، وفرقوا العساكر حول الجبل على بعد.
وشرع قطلوشاه والأمراء ورتبوا عسكرهم، فجعلوا كل مقدم إلى جهة، ونزل منهم بعض ركاب وجماعة من الرجالة وقصدوا قتال العسكر.(1/420)
ولما رأى السلطان والأمراء ذلك جعلوا قبالة كل مقدم مع طائفته أميراً من الأمراء، وأضافوا إليه من كان يناسبه، وخرج مماليك السلطان إلى مقابل قطلوشاه وجوبان، فشرعوا يقاتلون معهم تارةً بالرمي وتارةً بالهجوم عليهم، وقد لاح للإسلام وجه النصر على الأعداء، وصار كل مقدم من الأمراء يقاتل بالنوبة، يقاتل واحد ثم يذهب ويجيء غيره، وكذلك فعل المغل، والسلطان والأمراء واقفون ينظرون إليهم، فإذا قتل فرس واحد منهم أحضروا غيره في الساعة حتى أن بعضهم كان يقتل له فرس وفرسان وثلاثة من النشاب.
ولم يزالوا في القتال إلى أن توسطت الشمس من نهار الأحد. وانفصل القتال بينهم، وطلع قطلوشاه ومن معه من التتار وقد قاسوا نهاراً عظيماً، وقتل منهم نحو ثمانين رجلاً، وخرجت جماعة وركبتهم الذلّة، وقاسوا من قلة الماء أمراً عظيماً لأنهم لم يحسنوا انحصارهم على الجبل، فما أخذوا من الماء إلا قليلاً، ولما رأوا ذلك أجمعوا على النزول بكرة النهار، فمن مات مات ومن له أجل عاش، وذبحوا من خيولهم وشووا وأكلوا.
ولما أصبحوا اعتمدوا على النزول، وهرب منهم ناس من الأسرى وجاءوا إلى السلطان وأخبروه بما هم فيه من الذلة والعطش والخوف، وأنهم اتفقوا على أن يصدموا الجيش، وأنهم قد تحققوا الموت، فعند ذلك تشاور أكابر الأمراء، ووقع رأيهم على أن يفسحوا لهم طريقاً ولا يتقرب إليهم أحد إلى أن ينزل الجميع قدام العسكر، ثم يركبون ظهورهم.
ولما أرادوا النزول رأوا جماعة من المغل قد عدمت خيولهم وبقوا رجالة، وما بقي مع أحد من الأمراء فضلة خيل، فاتفقوا أن يأخذوا خيول الأرمن الذين معهم، فأخذوا منهم نحو مائتي فرس وأعطوا هؤلاء، ثم شرعوا في تجهيز حالهم إلى الساعة الرابعة من النهار، ثم ضربوا طبولهم ونزلوا، وكل منهم قد أعدّ نفسه للموت وتموا سائقين إلى أن وصلوا إلى النهر، ورموا خيولهم فيه، فمن كان فرسه قوياً طلع ومن كان فرسه قليل القوة وقف فيه، ولما طلعوا منه تبعتهم خيول المسلمين، وأنزل الله عليهم الذلة والمسكنة، ومزّقت جموعهم، وتفرقوا بحيث لم يلتفت أحد إلى أحد.
وكانت تلك الأراضي وعرةً كما ذكرنا لا يتمكن الفرس من حط رجلها إلا على حجر، فقاست خيول المسلمين من ذلك شدة.
وأما التتار فإن راكباً منهم ما يهرب مقدار رمية نشاب إلا وقد وقع على الأرض.
ولو عاينت ما كنت ترى غير رؤوس ترمى بالسيوف، ورجال يقبض عليهم بالأيادي والكفوف، وتمت خيل المسلمين تابعة أثرهم إلى أن صار وقت العصر، فرجعت الأمراء واجتمعوا عند السلطان، واتفق رأيهم على تجريد أمراء يتبعونهم، فجردت جماعة منهم بمضافيهم من أصحاب الخيول الجياد، فتزودوا وساروا وراءهم، ورسم للعرب أيضاً أن يتبعوا آثارهم، فأيّ موضع أدركوا منهم جماعة يقبضون عليهم ويقتلونهم ويأسرونهم.
وقال النويري: التقى الفريقان بمرج الصفر نصف النهار، فاضطربت ميمنة المسلمين، واستشهد جماعة من الأمراء، وانهزم بعضهم إلى دمشق، وأردف القلب الميمنة فردّت التتار عنها، وأما الميسرة فثبتت وحملت على ميمنة التتار وكان مقدمهم مولاي، فولى منهزماً وتبعهم المسلمون، وحجز الليل بينهم، والتجأ التتار إلى الجبل وأحاطت العساكر الإسلامية بهم وضايقوهم أشد مضايقة إلى الصباح، ثم أفرج لهم الأمير أسندمر فرجة من رأس الميسرة، فخرجوا منها هاربين على أعقابهم، وتبعتهم العساكر الإسلامية فأبادوهم قتلاً وأسراً وغنموا منهم خيلاً عظيمة حتى بيع الأكديش بخمسة دراهم.
وقال ابن كثير: وأصبح الناس يوم الجمعة أول رمضان في هم شديد وخوف أكيد لا يعلمون ما خير الناس، فبينما هم كذلك إذ جاء الأمير غرلو العادلي، فاجتمع بنائب القلعة، ثم عاد سريعاً ولم يدر أحد ما الخبر، ولم يفهم أحد من العامة فيم جاء غرلو.
وأصبح الناس يوم السبت على ما كانوا عليه من شدة الحال، فرأوا من المآذن سواداً وغبرة من ناحية العسكر والعدوّ، فغلب على الظنون أن الوقعة في هذا اليوم، فابتهلوا إلى الله بالدعاء في الجامع والبلد، وطلعت النساء والصغار على الأسطحة، وكشفوا رؤوسهم وضج البلد ضجة عظيمة، ووقع في ذلك الوقت مطر عظيم غزير، ثم سكن الناس.(1/421)
فلما كان بعد الظهر قرئت بطاقة بالجامع تتضمن أن في الساعة الثانية من نهار السبت هذا اجتمعت الجيوش، ووصل الركاب السلطاني إلى مرج الصفّر، وفيه طلب الدعاء من الناس، والأمر بحفظ القلعة والتحرّز على الأسوار، فدعي الناس في المأذنة والجامع والبلد، وانقضى النهار، وكان يوماً مزعجاً هائلاً.
وأصبح الناس يوم الأحد يتحدثون بكسر التتار، وخرج ناس إلى ناحية الكسوة، فرجعوا ومعهم شيء من المكاسب ورؤوس التتار، وصارت أدلة الكسر تقوى قليلاً قليلاً، ولكن الناس مما عندهم من شدة الخوف لا يصدقون.
فلما كان بعد الظهر قرىء كتاب السلطان إلى متولي القلعة يخبر باجتماع الجيش ظهر السبت بشقحب وبالكسرة، ثم جاءت بطاقة بعد العصر من النائب جمال الدين الأفرم إلى نائب الغيبة مضمونها أن الوقعة كانت من العصر يوم السبت إلى الساعة الثانية من يوم الأحد، وأن السيف كان يعمل في رقابهم ليلاً ونهاراً، وأنهم وهنوا وركنوا إلى الفرار، وأنه لا يسلم منهم إلا القليل، فأمسى الناس وقد استقرت خواطرهم ودقت البشائر بالقلعة.
وفي يوم الإثنين الرابع من رمضان: رجع الناس من الكسوة، ودخل ابن تيمية وأصحابه البلد، ففرح الناس به ودعوا له، وذلك لأنه ندب العسكر الشامي إلى أن يسير إلى ناحية السلطان، وحرّض السلطان وبشره وجعل يحلف له بالله الذي لا إله إلا هو إنكم منصورون عليهم في هذه الكرة، ويقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، وأفتى للناس بالفطر يومئذٍ، وكان يدور على الأطلاب فيأكل من شيء معه من يده فيأكل الناس ويناول في الشاميين قوله عليه السلام: " إنكم تلاقوا العدو غداً والفطر أقوى لكم "، يعزم عليهم في الفطر عام الفتح، كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وأما السلطان فإنه رجع مع الأمراء إلى مكان الوقعة، فوجدوا المجاهدين قد ملأوا تلك الأرض، وهم بين تلك الأحجار مطروحين، وكل من رأوه وجدوه مستقبل القبلة، وسبابته تشير بالشهادة، ووجهه يتقد نوراً، فكأنه في حال الحياة، وكل من رأوا من قتلى المغل وجدوه ملقى على وجهه، ثم أمر السلطان بأن يروح بدر الدين الفتاح مبشراً إلى مصر، وكتب معه كتاب البشارة، وكان النائب في مصر عز الدين البغدادي، وكتب إلى غزة أيضاً بالبشارة، وأمر النائب فيها أن لا يمكن أحداً من المنهزمين من التوجه إلى مصر، وكتب أيضاً إلى سائر القلاع والحصون بالبشارة والتهنئة بما فتح الله على الإسلام بالنصر على الأعداء، وأقام السلطان إلى يوم الثلاثاء، ثم ركب إلى نحو دمشق.
ذكر دخول السلطان دمشق مؤيداً منصوراً
قال ابن كثير: ثم دخل السلطان إلى دمشق يوم الثلاثاء خامس رمضان، وبين يديه أبو الربيع سليمان الخليفة ونزل بالقصر الأبلق، ثم تحول إلى القلعة يوم الخميس، وصلى بها الجمعة، وخلع على النواب وأمرهم بالرجوع إلى بلادهم، واستقرت الخواطر، وذهب الناس، وطابت قلوب الناس.
ولما دخل السلطان دمشق خرجت إليه سائر الدماشقة من الصلحاء والمشايخ والحكام والكتاب والعامة حتى لم يبق بدمشق مخلوق، وتلقوه بالدعاء والثناء، وازدحموا عليه حتى لم يبق لفرسه مكان يمشي عليه من كثرة العامة، وضربت البشائر والكوسات، وسيقت الأسارى بين يدي موكبه مقرنين في الأصفاد، وسناجقهم بأيديهم منكوسة، وطبولهم معكوسة.
وكان السلطان لما دخل دمشق ولي وعزل، وأمر ونهى، وقطع ووصل، وعزل ابن النحاس عن ولاية المدينة، وعوض عنه بالأمير علاء الدين أيدغدى أمير علم، وعزل صارم الدين ابراهيم والي الخاص عن ولاية البر، وعوّض عنه بحسام الدين لاجين الصغير رحمه الله.
ذكر ما جرى للتتار بعد انهزامهم(1/422)
وقال صاحب النزهة: لما انكسرت التتار انتشروا في الأرض، فكان الرجل منهم يقع من نفسه، وآخر يقف فرسه فينزل ويمشي ساعةً، ثم يقطع من لباده الذي عليه قطعة فيلفها على رجليه، هذا هم الذين غفل عسكر الإسلام عنهم، وأما الذي يصادفه أحد منهم فإما يقتله أو يأسره ويقوده مثل الكلب، وقد ملئت الأرض من دمائهم ومن أجسادهم، فأوقع الله عليهم الذلة والصغار حتى يقبض على واحد منهم فلا يمد يده ولا يقاتل، وإذا كان في يده قوس أو سيف يرميه إلى الأرض، وإذا رأى الرجل طالبه يمدّ رقبته إليه ويسلم نفسه من غير قتال، وقتلت منهم الغلمان والحرافيش خلقاً كثيراً، وكان الجند ومماليك الأمراء يتذاكرون في قتلاهم، فمنهم من يقول: قتلت عشرين وآخر يقول: قتلت ثلاثين، وآخر يقول: قتلت عشرة، ونحو ذلك، وأما العرب فقد فعلوا بهم من النهب والقتل ما لا يحصى، ومنهم خلق كثير ماتوا عطشاً في البراري، وكذلك دوابهم، ومنهم ناش التجأوا ببساتين دمشق فدخلوا فيها، فكان الرجل يجيء إلى بستانه فيجد فيها اثنين وثلاثة فيقتلهم، ولا يقدر أحد منهم على منعه من الخوف والجوع والتعب، ولما علم الأمراء بذلك نادوا في دمشق إن من وجد أحداً من المغل أو الأرمن ولم يحضره إلى نائب الشام فقد حل دمه، فصار من يظفر بواحد منهم أو أكثر يأتي به إلى النائب، فالنائب إما يقتله وإما يستخلصه لنفسه.
وقال بيبرس في تاريخه: لما حصل التظافر على التتار أسرع مولاي أحد مقدميهم في الفرار، وفرّ معه منهم زهاء عشرين ألفاً، ثم افترق التتار ثلاث فرق: الأولى فرقة فيها جوبان في زهاء ثلاثين ألفاً، والثانية فرقة فيها قطلوشاه ومعه تقدير ثلاثين ألفاً، والفرقة الثالثة كانت مع طيطق تقدير عشرين ألفاً، فحملت العساكر عليهم فصيروهم رميماً، وركبوا أكتافهم فغادروهم هشيماً.
ولما كان من غد يوم الوقعة يوم الإثنين ثالث رمضان: جرد خيل الطلب في الآثار، فكان فيها الأمير سيف الدين سلار، والأمير عز الدين أيبك الخزندار وتتابعت العساكر تقفو قفى التتار، وتأخذ من حماتهم وكماتهم الثأر بالبتّار، فامتلأت من قتلاهم القفار، وأمسوا حديثاً في الأمصار، وعبرة لأولى الأبصار:
مضوا متسابقي الأعضاء فيهم ... لأرجلهم بارؤوسهم عثار
إذا فاتوا السيوف تناولتهم ... بأسياف من العطش القفار
وسرح السلطان واحداً من أسراهم ليخبرهم بما تم، وأرسل على يده كتاباً تحدث فيه بنعمة ربه وما منحه من نصرة حزبه.
ذكر نسخة الكتاب الصادر من السلطان من مرج الصفر إلى قازان في رابع شهر رمضان:
الحمد لله على ما جدّد لنا من النعمة التامة، وسمح به من الكرامة العامة حين أعاد النعيم إلى كماله، والسرور إلى أتم حاله، فاستأنست النفوس إلى استمرار عوائدها، وارتاحت القلوب إلى معجز فوائدها، وأضاءت شمس المعالي، وطلعت بدورها بالسعد المتوالي، إذ كانت غلطة من الدهر فاستدركها، وسقطة بدت عنه فما تركها، فقرّت بذلك العيون، وتحققت في بلوغ الآمال الظنون، فلله الشكر الجزيل ما أومض في الجو بارق، وسرى في الآفاق نجم طارق.
وبعد: فليعلم الملك الجليل محمود، جامع الجيوش وحاشد الجنود، أنه تظاهر بدين الإسلام، وأشهر ذلك بين الأنام، وأبطن خلاف ما ظهر، وتظاهر بالباطل والحقّ ستر، ثم فعل ما قدره الله عز وجل وما حكم به القدر، فحملنا ذلك على أنه تقدير، وأن ليس يجدي فيما أراد الله عز وجل تدبير، فما لبث الملك إلا أيسر مدّة، وأرسل رسله إلينا مجدّه، وهو يطلب الصلح ويحرّض عليه، ويذكر الإسلام ويندب إليه، وزعم أنه ليس يختار الفساد في الأرض، فإن الواجب علينا وعليه إصلاح ذوي الدين وأنّ ذلك فرض، فعلمنا مقصده في مقاله، وتستر منا بستر يلوح وجه القدر من خلاله، فأكرمن رسله كرامة تليق بفعالنا، وسمعنا رسالتهم وجاوبناهم على مقتضى حالهم لا مقتضى حالنا، وأعدناهم إليه بما هم مصرّون عليه، فعاد رسوله يطلب رسولاً يسمع كلامه وليس يخفي عنا مقصده ومرامه، فأرسلنا إليه ما طلب، وركبناه فرس البغي فيا بئس ما ركب.(1/423)
فما كان إلا عند وصول رسلنا إليه، فجهز عسكره وأظهر من الغدر ما لم يكن يخفى عليه، وأمرهم بما عاد وباله عليهم، وحرّضهم على ما وجدوه حاضراً لديهم، ثم تقدم معهم وعدى بهم ماء الفرات، وجهزهم ورجع، وعلم أن الغلبة من قراه، فما كان إلا أن دخلوا البلاد، وعملوا بما أمرهم من الفساد، وتفرقت خيولهم في الأطراف والأوقاف، وقطعوا أيدي الأشجار وأرجل الزروع من خلاف، ونزلوا بالقرب من حلب، وشنوا الغارات وجدّوا في الطلب، وجيوشنا الشامية لهم بالمرصاد، وقد أخلصوا لله تعالى نية الجهاد، وهم يتقدمون إليهم كل وقت ويظهرون لهم الضعف والتأخير ليتوسطوا البلاد ويحصل هناك التدبير، فعاد منهم تومان إلى القريتين، فجهز من جيوشنا إليهم ألفان، فوجدوهم قد أخذوا أغنام التركمان، فوافوهم بالقرب من عرض فكانا كفرسي رهان، فلم يلبث الباغون ساعة من النهار، حتى عجل الله بأرواحهم إلى النار، وبقيت أجسادهم ملقاة بأرض عرض إلى يوم العرض، ولم يفلت منهم إلا من يفعل الخير إنهم قد صاروا أخياراً، ثم أخذ منهم جماعة أسارى: كرج، وأرمن، ومغل، ونصارى.
فما أقنعهم ذلك، ولا اكتفى بأرواحهم مالك، وهموا طالبين الغوطة، ولم يعلموا أن من دونها رماحاً مشروعة وجياداً مربوطة، وعساكر يتأخرون عنهم قليلاً بعد قليل، وجيوشنا ترصدهم بالغداة والأصيل، فلما عاينوا دمشق المحروسة ظنوا أنهم بدخولها يستبشرون، وما علموا أنهم من حولها إلى جهنم يحشرون، فعبروا عليها وطلعوا إلى جبل يعرف بالمانع، فأخذ الرعب من قلوبهم بالمجامع، وتحققوا أن نتيجة الغدر الهلاك، وأن مصرع البغي ليس لهم منه فكاك، فمالوا إلى جانب البرية للفرار، وطلبوا أطراف الميمنة للذلة والانكسار، فضربت عليهم جيوشنا حلقاً، وسلبوهم أثواب الحياة والبقاء، ودارت بهم الخيول وبثت سنابكها سماء من العجاج نجومها الأسنة، فطارت إليهم عقبان من الجياد قوادمها القوادم وخوافيها الأعنة، وتصوبت عيون السمر إلى قلوبهم كأنها تطلب سويداها، وقصدت أنهار السيوف أكبادهم فكأنها أرادت تروي صداها، فشربوا كأس المنون لما تبلجت صفحات الصفاح، وعانتهم عيون الرماح، وأنشأت لهم الحوافر غمامةً من الغبار، ونزلت عليهم أمطار من السهام كمطار الشرار، وأخذتهم رعود من الصهيل وأبرقت في جوانبها بروق من كل سيف صقيل، ولم تغب الشمس حتى افترشوا أديم الأرض والوعر والسهل، والتجأ من بقي منهم إلى جبل يعصمهم من القتل، وباتوا عليه ليلة الأحد، وأيقنوا أن ليس ينجو منهم أحد، وندموا حيث لا تنفعهم الندامة، وأيسوا من الخلاص وقنطوا من السلامة، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وظنوا أن أرواحهم من أجسادهم قد ذهبت، ونادوا بلسان حالهم، وقد قربت مدّة آجالهم، اعتقنا أيها الملك الرحيم، واعف عنا أيها الملك العظيم، فإننا جميعنا مسلمون ولا تؤاخذنا بما جناه كفارنا المسرفون، فإننا منهم بريئون، فأردنا أن يطلب النصر من حيث عوّدنا من العفو، فأمرنا جيوشنا أن تفتح لهم طريقاً ليذهبوا، وتركناهم من فعالنا يتعجبوا، ففروا فرار الشاة من الأسد، ولم يلتفت منهم والد إلى ولد.
فلو رأيت أيها الملك ذلك اليوم، لبقيت زماناً يروعك رؤياه في النوم، وما كنت ترى من جيشك إلا قتيلاً أو أسيراً وكان يوماً على الكافرين عسيراً فلله درّه من يوم تصاحب فيه الذئب والنسر، والقيد والأسر، وهلك الذين هم ديوية الفرسان، قد قادهم الذل والصغار ورعاة العربان، والكرج قد لحقت بقية آثارهم، وعجل الله بدمارهم، والأرمن وقد سيق من سلم منهم في القيود إلى خزانة البنود.
ولو نظرت عيناك ما جرى من أرض حوران إلى الفرات، لراعك وأرعبك من الهول ما كنت تراه، ولو رأيت أصحابك كيف بقوا طعم الرخم والذباب، لقلت من هول ما شاهدت: يا ليتني كنت تراباً، وكيف لك بالتراب؟ ولكن روعك من السماع أسهل عليك من العيان، فنظرك إلى من عاد إليك من أصحابك يكفيك في البيان، وإنما لو حضرت لرأيت ذلك المقام مشهود، الذي فيه الملائكة شهود.(1/424)
ولقد نصحنا لك أيها الملك فما ارعويت، وبذلنا من القول فما رعيت، وركبت من خيل البغي أجرى كُميت، وقلنا لك إن من جرد سيف البغي كان به المقتول، فلم تعِ القول ولم تضغ لمن يقول، فاستيقظ لنفسك، وتلق هذه المصيبة التي تدخل بها إلى رمسك، ولا يغرك بالله الغرور، واعلم أن ذلك في الكتاب مسطور، واندك المين بالإيمان، ودع عنك ما يسوله الشيطان، فإنه ما يأمرك إلا بما جنيت ثماره، ولا تحصد إلا ما زرعت بذاره.
وأنت تزعم أن الإسلام شريعتك وبه تدين، فنجتمع نحن وأنت على كلمة الإيمان، ولا تعثوا في الأرض مفسدين وتخرج عن بغداد والعراق ونعيدها إلى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي شرق به ظلام الآفاق، ونتبع نحن وأنت أمره ونؤيد به هذا الدين، ومن فعل غير هذا فعليه اللعنة إلى يوم الدين، لتعلم أنك كما تزعم متمسك بشريعة المسلمين، وإن أنت سولت لك نفسك خلاف ذلك، فأنت لا محالة هالك، وعن قليل تخلو منك العراق والعجم، ويصير وجودك إلى العدم، وقد أوضحنا لك القول لكيلا تميل، وهديناك إلى أقوم سبيل، ثم تتقدم بإرسال رسلنا المسيّرة إليك في أتم الكرامة، وتسيّر معهم من يوصلهم إلينا في حرز الأمن والسلامة، وترتحل بمن بقي من جيشك إلى طبرستان، وتخلى لمالكها هذه الأوطان.
وبلغنا أنك قلت إن خيلك ورجلك تدخل الديار المصرية، فقد صدقت أنت لكن المنجمين غلطوا في القضية، أما الخيل فإنها دخلت مجنوبة، وأما الرجال فكان في حلوقهم الطبول وبأيديهم الصناجق مقلوبة، فقد صدقت منهم المقال، وتباركت بهذا الفأل، وعن قليل نأتيك برجال تميد من تحتها الأرض وتزحف، فترى ما يهولك حتى تتمنى أن تنجو ولو على بطنك تزحف، فتيقظ من رقدة المنام، وبادر الرحيل، والسلام.
ذكر من استشهد من أمراء المسلمين
الأمير حسام الدين الأستادار، والأمير مبارز الدين أوليا بن قرمان، والأمير شمس الدين سنقر الكافري، والأمير عز الدين أيدمر الشمسي القشاش، والأمير جمال الدين أقوش الشمسي الحاجب، وعز الدين أيدمر الرفا المنصوري، وعز الدين أيدمر النقيب، وعلاء الدين علي بن ددا التركماني، وحسام الدين علي بن باخل، واستشهد من أجناد الأمراء وغيرهم تقدير ألف فارس.
وقال صاحب النزهة: وكان ولد الأمير حسام الدين الأستادار قد حمل والده في تابوت وأحضره إلى دمشق على أنه يدفنه بها، فشاور الأمراء، فأنكر عليه الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير والأمير سيف الدين سلار وقالا: إحضره، فأحضره، وكشفوا التابوت ورأوا تلك الشيبة الحسنة وقد تخضبت بالدماء وفي وجهه أثر ضرب السيوف وقد أصاب نحره النُشّاب، وقد ملء سلاحه دماً، فلما رأوا ذلك تباكوا، وتمنى كل منهم أن يموت هذه الموتة، وأشاروا لبعض أمراء دمشق ووالي البر أن يركبوا ويذهبوا إلى موضع الوقعة ويجمعوا من يجدونه من الموتى من الأمراء وغيرهم، ويدفنون الجميع - من غير أن يغسلوهم - في مكان واحد، ثم تبنى عليهم قبة، وأمروا أن يدفنوا الجند والمماليك الذين قتلوا مع أستاذهم خارج القبة.
وقال الراوي: أخبرني من حضر دفنهم، شاهد الأمير أوليا بن قرمان وعليه من الأنوار والجلالة والمهابة ما لا رآه على أحد غيره، وأخبر عن بعض العسكر الذين أسروا من عدة جوبان أنهم لما قصدوا للقتال كان ابن قرمان هذا راكباً حصاناً أشهب، وأنه كان يعرف أستاذهم جوبان، فما جعل دأبه إلا هذا، وكان يحمل إلى أن يكاد يقرب منه، فتردّه جماعته، فينعطف، فيأتي من مكان آخر، وعلم جوبان أيضاً قصده إياه، قصده في جماعته ولم يبق بينهما إلا القليل، فرماه سلحدار جوبان بياسج في خاصرته، فمال عن فرسه، ثم استوى، ثم قصده ثانياً، فقتل فرسه بسهمين متواليين ووقع إلى الأرض، ونهض ابن قزمان قائماً، فرماه ذلك السلحدار في وجهه وفي صدره إلى أن وقع واستشهد. فقال جوبان: هذا أمير كبير، عرفه بلبسه وفرسه.
وأما الأمير حسام الدين الأستادار فإنه من حين وقع بينه وبين سنقر العلائي قدام الأمراء والسلطان لم يسمع أحد عنه كلاماً غير وصيته لولده على بناته ومماليكه، ثم قال: كنت انتظر هذا اليوم، والله لا عشت بعد هذا اليوم، وقد عشنا سعداء، ونرجو أن نلقى الله ونحن شهداء، ثم إنه من حيث جذب سيفه وتقدم لم يلتفت إلى أحد بوجهه، ولا سمعوا منه غير الله أكبر، فقاتل حتى قتل.(1/425)
ذكر رحيل السلطان من دمشق ودخوله القاهرة
أقام السلطان بدمشق مع العسكر إلى يوم عيد الفطر، وقد ذكرنا أنه قد دخلها في الخامس من رمضان، وكان عيداً عظيماً لما اتفق فيه من نصرة أهل الإسلام واجتماع شملهم بالأمن والطمأنينة، ثم رحل السلطان من دمشق في الثالث من شوال، فوصل في ذلك اليوم شمردل الركاب، وأخبر السلطان والعسكر أن القاهرة قد صنعوا فيها زينة عظيمة وقلاعاً، والناس في أرغد عيش وأطيبه.
وقال ابن كثير: عاد السلطان إلى مصر مع العسكر في يوم الثلاثاء الثالث من شوال، ودخل القاهرة يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من شوال مؤيداً منصوراً، وزين له البلد، وكان يوماً مشهوداً، ويوم دخوله القاهرة كانت الأسارى بين يديه مقرنين في الأصفاد، وسناجق بأيديهم منكوسة، وطبولهم معكوسة، وشق المدينة، ولما وصل السلطان إلى تربة والده الشهيد الملك المنصور قلاون ترجل ودخل إلى ضريحه وزاره ثم ركب والأمراء في ركابه يمشون إلى أن طلع القلعة، وتحت حوافر فرسه شقق حرير مبسوطة.
وقال بيبرس في تاريخه: وكانت مدة هذه السفرة السافرة عن وجه النجاح، المشرقة إشراق الصباح منذ استقلال ركابه وإلى حين إيابه ثمانين يوماً، وصل فيها إلى الشام وكسر عدوَ الإسلام، ورتب أحوال البلاد وأعاد النازحين بين الربى والوهاد.
وقال صاحب النزهة: لما قدم السلطان إلى القاهرة خرج إليه سائر من كان في مصر من الجند والعامة وسائر المتعيشين والحرافيش، ولم يبق في البيوت من النساء والأطفال أحد، وبلغت بيوت الأرباع التي على طريقه كل بيت منها بمائة درهم وأكثر، وأقلها خمسون درهماً، وكان عبوره من باب النصر لأجل ما اتفق من نصب القلاع التي صنعها الأمراء وتباهوا فيها لما حضر الأمير بدر الدين الفتاح بالبشارة بنصرة المسلمين وهزيمة العدو كما ذكرنا.
وكانوا قد قرأوا كتاب البشارة بحضور نائب الغيبة الأمير أيبك البغدادي، وكان من إنشاء القاضي علاء الدين بن عبد الظاهر.
بسم الله الرحمن الرحيم: " نصر من الله وفتح قريب "، خصه الله من البشائر بأحسنها وأجملها، ومن التهاني بأتمها وأكملها، ومن المسرات بأوفرها وأجزلها.
نعلمه أن التتار المخذولين كانوا قد امتدوا إلى البلاد المحروسة ووصلوا إلى حمص، وتعدوا جهة دمشق، وكانت العساكر المنصورة بحلب وحمص قد انضموا إلى دمشق، وعند وصولنا إلى مرج شقحب ساق التتار المخذلون، ووصلوا إلى المنزلة التي نحن بها، وكانوا في العدد الذي لا يحصى، وذكر عدتهم عن مائة ألف أو يزيدون، وللوقت قابلناهم بالعزائم الصادقة، والنيات الخالصة وركبنا بالجيوش المؤيدة، وصدمناهم بالعساكر المنصورة الصدمة العظمى، وما زال الحرب إلى أن نصر الله تعالى عليهم، وقتل منهم ما لا يحصى عددهم إلا الله، ثم بعد ذلك استند من بقي منهم إلى جبل واجتمعوا به، فأحاطت عساكرنا المنصورة بهم، ومازلنا راكبين بأنفسنا وخيولنا، مجاهدين في الليل والنهار، والحرب قائمة على أوزارها، وفي كل وقت يتناقص عددهم حتى امتلأت من قتلاهم الأرض، وانهزموا من بين أيدينا، وكسبت العساكر المنصورة من أموالهم وخيولهم ما فتح الله، وبقينا يومين وليلة في مضايقتهم في الجبال التي تحصنوا بها إلى ظهورهم ثاني شهر رمضان، فنزلوا على حمية وساقت عساكرنا المنصورة في إثرهم إلى أن قتلوهم عن آخرهم بقوة الله تعالى.
وسطرت هذه المكاتبة، ونحن نحمد الله تعالى طيبون سالمون، نحن وأمراؤنا وعساكرنا المنصورة، وقد رحلنا إلى دمشق، وكتبنا للجناب أن يشيع خبر هذه البشارة " ألا بذكر الله تطمئن القلوب ".(1/426)
ولما وقف عليها، وفرحت قلوب الناس، واطمأنت أهل البلاد، واتفق رأيه مع الأمير بدر الدين الفتاح أن يصنعوا زينة مفتخرة، يراها السلطان والعسكر، وذكروا زينة السلطان الملك الأشرف عند أخذ عكا، وطلب سائر مباشري الأمراء وعرفهم أن مرسوم السلطان برز: يعمل كل أمير قلعة وتزيينها بأفخر ملبوس، ويكون من باب النصر إلى باب السلسلة، وعرفهم أنه متى فرغ شهر رمضان وتأخر عمل ذلك كانت روحه وماله للسلطان، وكتب مراسيم لسائر الأقاليم أنهم لا يدعون في بلاد الأمراء من مغاني العرب ولا من أرباب الملهى أحد إلا ويرسلوه إلى المدينة، وكل أمير في بلده مغاني وتكون في قلعة ذلك الأمير، وطلب ناصر الدين الشيخي متولي المدينة وعرفه أن يأخذ أستادرية الأمراء ويرتب لكل أحد مكاناً ويسلمه إليه، ثم شرع المباشرون في طلب الصناع بحيث أنه نودي على أرباب الصنائع أن أحداً منهم لا يعمل عند أحد وأن أحداً لا يستعمل أحداً منهم حتى يفرغ العمل الذي عينوه، ثم وقع الاهتمام في أمر العمل، وتحسنت معيشة التجار سيما تجارة الخشب والقصب وآلة النجارة، واستعملت الحرافيش بالأجرة، وشرع كل أحد يفتخر بصنعه على غيره من أرباب جنسه، وعملوا قلاعاً حسنة عظيمة، ووضعوا فيها آلات الحرب والحصار وجعلوا فيها من الصور المضحكة والوحوش والخيالة والفرسان، وزين كل أحد قلعته بأفخر ما يقدر عليه من الفصوص واللآلىء والحرير والزركش والأشياء المفتخرة.
وما فرغ شهر رمضان إلاّ وجميع القلاع قد تكامل عملها وزينتها.
وكان أول القلاع على باب النصر، صنعه متولي المدينة، ودخل على النائب بهذا السبب، وصنع فيها من كل شيء من الهزل والجدّ، وعمل حيضاناً برسم السكر والليمون، وعين هنالك مماليك بأيديهم كاسات يسقون الجند والأمراء.
وعند وصول السلطان إلى باب النصر ترجلت أرباب الوظائف، وأول من ترجل على كبر سنه كان الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح، وأخذ السلاح، فطلبه السلطان وسأله أن يركب ويحمل السلاح وهو راكب، فأبى ذلك، وحمل الأمير مبارز الدين الرومي أمير شكار القبة والطير، والأمير سيف الدين بكتمر أمير جندار العصاة، والأمير سيف الدين سنجر الجمقدار الدبّوس، ومشت سائر الأمراء في منازلها، وكان كل أمير من أصحاب القلاع بسط شققاً أطلس كل واحد من حد قلعته إلى قلعة صاحبه، وكان السلطان يمشي هوينا والأسراء بين يديه مقيدين، والأرقاب المضروبة معلقة في أرقابهم، ونحو ألف رأس على الأرماح مشتالة، ونحو ألف وستمائة أسير وطبولهم مخرقة في حلوقهم.
وكانت الثانية من القلاع للأمير علاء الدين مغلطاي أمير مجلس، وبعده لابن أيتمش السعدي، ثم للأمير علم الدين الجاولي، ثم للأمير سيف الدين تغريل الأيغاني، ثم للأمير سيف الدين بهادر اليوسفي، ثم للأمير سيف الدين سودي، ثم للأمير بدر الدين بيبلك الخطيري، ثم برلغي، ثم للأمير مبارز الدين أمير شكار، ثم للأمير عز الدين أيبك الخزندار، ثم للأمير شمس الدين سنقر الأعسر، ثم للأمير ركن الدين بيبرس الدوادار، ثم للأمير شمس الدين سنقر الكمالي، ثم للأمير مظهر الدين موسى بن الملك الصالح، ثم للأمير سيف الدين آل ملك، ثم للأمير علم الدين الصوابي، ثم للأمير جمال الدين الطشلاقي، ثم للأمير سيف الدين آدم، ثم للأمير سيف الدين سلار نائب السلطنة، ثم للأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، ثم للأمير بدر الدين أمير سلاح، ثم للطواشي شهاب الدين مرشد الخزندار على باب المنصورية وبعده للأمير سيف الدين بكتمر أمير جندار، ثم للأمير عز الدين أيبك البغدادي، ثم لابن الأمير سيف الدين أمير سلاح، ثم للأمير بكتوت الفتاح، ثم تباكر التغريلي، ثم للأمير قلىّ السلحدار، ثم لبكتمر السلحدار، ثم للاجين زيرباج الجاشنكير، ثم لطيبرس الخرداري نقيب الجيش، ثم لبلان طرنا، ثم لسنقر العلائي، ثم لبهاء الدين يعقوبا، ثم للأمير الأبو بكري، ثم لبهادر العزي، وكو كاي بعده، ثم لقرا لاجين، ثم لكراي المنصوري، ثم للأمير جمال الدين الموصلي قتال السبع على باب زويلة، ومنه اتصل القلاع إلى باب السلسلة، وأولها من باب النصر كما ذكرنا، وكانت عدة القلاع سبعين قلعة.
ذكر ما استجد في هذه السنة من الولايات(1/427)
وفيها استعفى الأمير سيف الدين بتخاص من نيابة صفد، وتولاها الأمير شمس الدين سنقرجاه المنصوري، وأقام بتخاص بمصر، ورسم بنقل الأمير سيف الدين قفجق من مدينة الشوبك إلى نيابة حماة بحكم وفاة نائبها، ورسم للأمير سيف الدين بلبان الجوكندار بنيابة حمص بحكم وفاة نائبها الأمير سيف ألبكي، وكان بلبان المذكور نائب قلعة دمشق تولاها عوضاً عن الأمير سنجر المعروف بأرجواش بحكم وفاته، ثم تولى نيابة قلعة دمشق عوضاً عن بلبان المذكور الأمير ركن الدين بيبرس التلادي، ثم استعفى الأمير بلبان المذكور عن نيابة حمص، وتولاها الأمير عز الدين الحموي الظاهري.
وفوض قضاء القضاة الشافعية بالشام للقاضي نجم الدين أبي العباس أحمد ابن صصري الشافعي، عوضاً عن بدر الدين بن جماعة، وطلب بدر الدين للقاهرة، فتولى قضاءها، عوضاً عن تقي الدين ابن دقيق العيد بحكم وفاته، وفوضت خطابة جامع بني أمية لزيد الدين عبد الله بن مروان الشافعي الفارقي، وفوضت مشيخة الشيوخ بالشمبساطية للقاضي جمال الدين الزرعي، ثم عزل، وفوضت للشيخ أبي عز الدين بن عبد السلام، ثم عزل، وفوضت للشيخ صفي الدين محمد الأرموي المعروف بالهندي بسؤال من الصوفية، وباشر الشيخ شرف الدين الفزاري مشيخة دار الحديث الظاهرية، عوضاً عن الشيخ شرف الدين الناسخ.
ذكر الزلزلة الكائنة بالبلاد المصرية
قال بيبرس في تاريخه: وفيها في يوم الخميس الثالث والعشرين من ذي الحجة: حدثت زلزلة عظيمة بكرة النهار بالقاهرة ومصر وسائر أعمال الديار المصرية، وخاصة في ثغر الإسكندرية، وكانت عظيمة حتى أن الجدر تساقطت، والجبال تشققت، والمباني تهدمت، والصخور تقطعت، والمياه من خلال الأرضين تفجرت، ومادت الأرض بمن عليها، وماجت المساكن بساكنيها، وتشعثت الأسوار والأركان، وثار الصراخ بكل مكان، وخرجت النساء حاسرات إلى الطرقات، وظن الناس أنها إماتة الأحياء وقيامة الأموات، وابتهلوا إلى رب السموات لما عراهم من المخافات، فأدركتهم رأفته، وأنقذتهم رحمته بأن سكّن زلزالها، وخفّف أهوالها، ولو دامت ثلث ساعة من النهار لم يبق على الأرض دار ولا ثبت بها جدار، فكان تقصير مسافتها وتخفيف آفتها لطفاً من الله بعباده، ومنّةً على ساكني بلاده، وأثرت في البحرين العذب والأجاج، وأثارت فيها الأمواج، وارتج كل منهما غاية الارتجاج، وكان تأثيرها قوياً جداً بالإسكندرية والنواحي الغربية، وهدمت بالثغر أكثر الأبراج والأسوار، ورمت جانباً وافراً من المنار، وفاض البحر المالح وطمى، وتعطمط الماء وأغرق قماش القصارين، وكسر قوارب البحارين، وقطع مراسي المراكب الفرنجية وطرح أكثرها إلى الأسوار والشعاب.
ولما عاين أهل الثغر هيجان البحار، وانهدم المنار، وتساقط المآذن والأسوار وتناثر الأحجار من الجدران، وتداعي الأركان المشيدة البنيان، بادروا مسرعين وخرجوا من باب السدرة هاربين، ولما سكّن الله حركتها، وأذهب رجفتها، تراجعوا إلى أماكنهم، وعادوا إلى مساكنهم.
وتواترت الأخبار، فإن الزلزلة المذكورة كانت قوية الأثر في البلاد الغربية والجزائر البحرية، وجهات الفرنجية، وأنها أيضاً حدثت في تلك الساعة وذلك النهار ببلاد الكرك والشوبك والسواد وتلك الأقطار.
وحكي أن شخصاً من الباعة يبيع اللبن في بعض الحوانيت بالقاهرة سقط في الزلزلة حانوته عليه، وظنه الناس قد مات وأقام ثلاثة أيام ولياليها تحت الردم، ثم نظف التراب ووجد الرجل سالماً وأخرج حياً سوياً، لأنه تشبكت عليه الأخشاب، وحملت عنه الطوب والتراب، وسلمت له من حانوته جرة لبن، فكان يقتات منها إلى أن نظف عنه الردم.
وفيها: سقط جانب من قلعة صفد وأسوارها، وبرج الباب، عند حدوث هذه الزلزلة، فرممت في السنة القابلة.
وفيها: تهدّم جانب من جامع بني أمية وأعيد ترميمه، وأقام الناس أياماً وهم خائفون وجلون، ومن مكان إلى مكان ينتقلون، ولمعاودة الزلزلة متوقعون وكان ذلك في الصيف فتوالت بعدها سموم تلفح فتشوي الوجوه حين تنفخ، ولم يمت مع ذلك إلاّ نفر قليل بالقاهرة ومصر وثغر الإسكندرية.(1/428)
وقال النويري: وجزر البحر باسكندرية، ثم رجع فأتلف أموالاً عظيمة للتجار، وغرق جماعة كثيرة، وانكشف البحر بساحل عكا، فظهر في قاعه شيء كثير مما ألقاه أهل عكا في مدة حصارها، فتبادر الناس لأخذه، فرجع البحر عليهم فغرّقهم عن آخرهم.
وقال صاحب النزهة: قد تقدم ذكر الاهتمام بعمل القلاع والتفاخر في زينتها، وكان ابتداء ذلك خامس رمضان وانتهاؤه في العشر الأخير، وتهتكت الخلائق على التفرج عليها، ولم يخشو الله تعالى، واستمروا على ذلك إلى أن استهل شوال، ومشى فيهم المنكر والأمور القبيحة، وصار لكل قلعة أهل يحمل إليها من المحرمات، ويتجاهرون بالمعاصي، وتهتكت بسبب ذلك مخدّرات النساء، وافتضح من كان يخشى الفضيحة من كل مستور، ولم يبق في المدينة من أكابر البيوت من الأمراء وغيرهم من الأعيان إلا من خرج من بيته مع غلمان أو خدام أو قهرمانات، وكان يرى ما يذهله ويروع به عقله، حتى كان يطرح الحشمة ويستحسن الفضيحة.
وطمس الله على قلوبهم، لقضائه السابق وأمره اللاحق، حتى أرسل الله عليهم زلزلة عظيمة يوم الخميس الثالث والعشرين من ذي الحجة عند صلاة الصبح، فتزلزلت الأرض بأركانها، وسمعت للحيطان قعقعة ورعدة، وكذلك السقوف، ومالت الأرض بالماشي وأخرجته عن طريقه، وأرمت الراكب، وقيل للخلق إن السماء انطبقت على الأرض، فكان الماشي يهرب من الخوف إلى زقاق آخر فيجد فيه من الرعد والقعقعة أكثر مما هرب منه، وخرجت النساء مستبيّات حاسرات، فما قدرت من الخوف أن تأخذ شيئاً تستتر به، وكذلك البنات والأطفال، وخرجت الفقراء من المساجد والزوايا، وأسقطت كثير من النساء الحبالى حملها، وورد على البحر ريح بموج عاصف متلاطم، ففاض البحر فيضاً حتى طلع بالمراكب التي على ساحل البحر وحدفهم من البحر مع الريح مقدار رمية نشاب، ثم لما عاد الماء إلى حاله بقيت المراكب على اليبس، فتقطعت مراسها، وكذلك مراكب المسافرين اقتلعها الريح من وسط البحر إلى ساحل البر.
وقد ضرب كثير من الأمراء خياماً في الفضاء وأخرجوا حريمهم إليهم، وكذلك خرجت خلق كثير نحو بولاق والجزيرة والروضة وغير ذلك، وأصبحت المدينة إذا نظر إليها إنسان لا يجد فيها بيتاً صحيحاً، إما هدم منه حائط أو وقع منه جانب، أو اشتق بناؤه، وهمت الأزربة التي على البيوت، وبقيت الأتربة والطوب أكواماً أمام البيوت، وقنتوا في صبح الجمعة وفي ليلتها وفي سائر الجوامع والمساجد، وأقاموا ليلتهم ويومهم إلى حين صلاة الجمعة واقفين يبتهلون إلى الله تعالى ويتضرعون.
ثم جاءت الأخبار من إقليم الغربية أن بعض بلادها وهي تعرف بسخا هدم جميعه حتى لم يبق فيه حائط، فصار كوماً، وكذا جرى على قريتين أخريتين وكذا وقع بإقليم الشرقية.
ثم شرع الأمراء والسلطان في افتقاد الأعمال الضرورية التي لا بد منها ومن إصلاحها.
وقد أفلح الأمير سيف الدين سلار نائب السلطنة ما هدم من الجامع العمري بمصر، وأصرف عليه مالاً جزيلاً.
وتصدى الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير لعمارة جامع الحاكم بأمر الله، وقد كان هدم منه حائط كبير ووقعت مأذنته، ولما نزل إليه ومعه المهندسون والمباشرون قال لهم: اجعلوا بالكم في هدم ما يستحق الهدم، فإني سمعت أن في ركن من أركان هذه المأذنة ذهباً كثيراً ادخره الحاكم بأمر الله، وربما أحاط بحكمته أن يعرض على هذا الجامع عارض من أمر الله يكون ذلك الذهب برسمه وعمارته، فإنه كان رجلاً حكيماً، ثم إنه عمّره كما ينبغي وزاد فيه زيادة واسعة للمصلين، وجدّد المأذنة وعمر فيها زيادة، وأوقف عليه أوقافاً حسنة، ووضع فيه مدرساً، وحديثاً، وصدقة، ومؤذنين، وقراء، وفقهاء، ورتب لهم الرواتب والصدقات، وأوقف وقفاً يكفي ذلك كله، وعند هدم المأذنة وجدوا في ركن منها كفاً بزنده ملفوفاً في قطن، وعليه أسطر مكتوبة لم يعلم أحد ما هي، والكف طرية، وعجزوا عن قراءة الكتابة.
وتصدى الأمير سيف الدين سلار لعمارة الجامع الأزهر وإصلاحه، وإصلاح مأذنته، وإصلاح الواجهة التي وقعت، وجدّد فيه جميع أماكنه، وبلّطه وبيّضه، وأنفق عليه نفقات كثيرة، وكان للأمير شمس الدين سنقر الأعسر مشاركة له في الجامع الأزهر.(1/429)
وعمر جامع الصالح الذي خارج باب الزويلة من مال بيت المال، وكان الأمير علم الدين سنجر مشده، وأرصدوا لعمارة مأذنة المنصورية الأمير سيف الدين كهرواس الزرّاق، وأصرف على عمارتها من مال الوقف، ورسم للأمير ركن الدين بيبرس بالسفر لثغر إسكندرية ليكشف ما هدم من المنار وغيره، وأن يرمم جميع ما يحتاج إلى الترميم، وكان نائب إسكندرية كتب إلى السلطان أن هدم من المنار ستاً وأربعين بدنة، ومن السور خمس عشرة بدنة، ورسم السلطان أن يعمر جميع ذلك من مال السلطان.
ذكر ظهور دابة عجيبة من النيل
بتاريخ يوم الخميس الرابع من جمادى الآخرة: ظهرت دابة عجيبة الخلق من بحر النيل إلى أرض المنوفية، وهذه صفتها: لونها لون الجاموس بلا شعر، وآذانها كآذان الجمل، وعيناها وفرجها مثل الناقة، يغطي فرجها ذنب طوله شبر ونصف طرفه كذنب السمك، ورقبتها مثل غلظ الكيس المحشوّ تبناً، وفمها وشفتاها مثل الكربال، ولها أربعة أنياب اثنان من فوق واثنان من أسفل طولها دون شبر وعرض أصبعين، وفي فمها ثمانية وأربعون ضرساً وسناً مثل بنادق الشطرنج، وطول يديها من باطنها إلى الأرض شبران ونصف، ومن ركبتها إلى حافرها مثل أظافر الجمل، وعرض ظهرها مقدار ذراعين ونصف، وطولها من فمها إلى ذنبها خمسة عشر قدماً، وفي بطنها ثلاثة كروش، ولحمها أحمر، وزفرته مثل السمك، وطعمه كلحم الجمل، وغلظ جلدها أربع أصابع ما تعمل فيه السيوف، وحمل جلدها على خمسة جمال في مقدار ساعة من ثقله على جمل بعد جمل، وأحضروه إلى القلعة المعمورة بحضرة السلطان، وحشوه تبناً، وأقاموه بين يديه، ذكر هذا الشيخ علم الدين البرزالي في تاريخه.
وقال النويري: وهي التي تسمى فرس البحر، كانت تطلع ترعى في البرّ، ثم تعود إلى البحر، فرصدها الصيادون وصادوها بالمنوفية، وهي سوداء قدر البغل، بأظلاف كأظلاف البقر، وذنب قصير، وسلخت وحمل جلدها إلى القاهرة وحشّي تبناً، وتعجب الناس منه.
قال صاحب النزهة: وكانت هذه الدابة تأتي من نحو جزيرة مقابل شبرا، وتنتقل في الأماكن، وتؤذي كثيراً من الزرع والمواشي، ولا يجسر أحد على أن يقربها، وبلغ ذلك الأمراء، وطلبوا متولي الجزيرة وأمروه أن يجمع عليها أهل البلاد ويتحيلون على مسكها، فجمعوا خلقاً كثيراً، وتتبعوا آثارها أياماً، وهي كلما رأت الرجال تحيد عنهم، وإذا غلبت تنزل إلى البحر، إلى أن أرموها في مكان وحل وتكاثروا عليها إلى أن قتلوها.
ذكر ما أبطله الأمير بيبرس من الأمور المنكرة
- رحمه الله - منها: كتب إلى مكة أن لا يمكنوا الزيدية من الآذان الذي كانوا يجهرون فيه بقولهم: حيّ على خير العمل، وأن لا يقتدوا بإمام منهم، ولا يدعوا أهل السنة أن يصلوا معهم.
ومنها: ما كانت أهل مكة تربط الحاج بالصعود إلى التمسك بالعروة الوثقى، فكان الحاج يقاسي من الصعود إليها أمراً عظيماً حتى يصل إليها، وكان أكثر الشدة على النساء، وربما كان ينكشف عوراتهم، وكان كثير من الحرامية يقفون ويعاينون الناس عند انكشاف ما عليهم من نفقة مربوطة على وسطه من ذهب أو فضة فيتحيلون على أخذها.
ومنها: أن النصارى كانوا يزعمون أن كبراءهم من علمائهم كانوا يزعمون أن إصبعاً من أصابع أحد الحواريين موضوعاً في تابوت، فإذا جاء أوان احتياجهم إلى زيادة النيل يرمون ذلك الإصبع في البحر فيزداد، ومتى لم يرموه لم يزد شيئاً، وكان يجتمع في ذلك اليوم الذي يرمى الإصبع فيه خلق من سائر الأقاليم من أهل الملة النصرانية ويركبون الخيل في ذلك اليوم ويلعبون عليها، وكان أهل مصر والقاهرة يرحلون إليهم في المراكب والخيل، ويضربون الخيام على جانبي البحر وفي وسط الجزائر، ولا يبقى شيء من الملاهي وأرباب الطرب إلاّ ويكون هناك في ذلك اليوم، ويجتمع هناك نساء خواطى، وربما يقتل فيه قتيل، وتقوم فيه فتن، وتباع فيه الخمور، بنحو مائة ألف درهم.(1/430)
قال صاحب التاريخ: حكى لي بعض النصارى أنه باع في ذلك اليوم خموراً بإثني عشر ألف درهم، ولما جاء أوان عيده سيّر الأمير ركن الدين بيبرس متولي المدينة وجماعة من الحجاب ومنعوهم من ذلك، وكتب للولاة أن ينادوا في النصارى أن لا يخرج أحد في ذلك اليوم، ولما بلغ ذلك النصارى اجتمعوا بالتاج بن سعد الدولة ودخلوا عليه على أن يتحدث مع الأمير بيبرس، لما كانوا يعلمون من منزلته عنده، فشرع في الحديث معه من طريق الأموال، وأن هذا يحصل منه مال عظيم، والعادة جارية به، فلم يلتفت إلى كلامهم وقال: إن كان النيل ما يزيد إلا بهذا الإصبع لا يزيد ولا يطلع، وإن كان الله عز وجل يتصرف فيه كيف يشاء فهؤلاء يفشرون، فأبطله.
ومنها: أن القمامة التي بالقدس الشريف كان في وسطها قنديل كبير، صنعته أكابر النصارى، وفي كل سنة يوم معلوم عندهم يجتمع إليه النصارى من سائر الأجناس، ولا يوقد ذلك القنديل في كل السنة إلا في ذلك اليوم، ولا يظهر نوره إلا في الرابعة من ذلك اليوم، ومتى أبطأ في ذلك الوقت يقولون: إن نيل مصر في هذه السنة شحيح، وكانت عادة السلطان يبعث إليها قرب هذا اليوم من يثق بأمانته. فيحصّل شيئاً كبيراً من الذهب والفضة وسائر التحف، ثم يحضره إلى السلطان، وينقل من زيت ذلك القنديل إلى سائر نصارى البلاد من الملوك وغيرهم على سبيل التبرك عندهم، وكان هذا القنديل يشتعل من ذاته، وهو أمر عظيم عندهم، فهو الذي يكون سبباً لضلال النصارى وثباتهم على دينهم الباطل، واتفق أن نجم الدين بن الحباب سافر إليه في الدولة المنصورية حتى يتحقق أمر هذا القنديل، فلما حضر فحص عن ذلك واجتهد فيه إلى أن انكشف له أنه مصنوع من أدوية بحكمة مذكورة عندهم، وأن الشمس في الرابعة من النهار يقوى جرمها فيقع شعاعها من طاقة قريبة من القنديل المذكور، فإذا وقع يطلقون موضع وقوع جرم الشمس شيئاً من القلفونية المصنوعة بالحكمة فتصل قوتها إلى فتيلة ذلك القنديل فيشتعل، فلما ظهر له ذلك كتب إلى الوزير والسلطان في ذلك فتهاونوا في أمره، فأمر الأمير بيبرس بمنعه وتبطيله، فأنكروا عليه من حيث أنه يحصل من ذلك كل سنة جملة من المال لبيت المال، ولم يزل يسعى فيه إلى أن كتب السلطان بإبطال ذلك القنديل، وكان آخر ذلك في صحيفته.
وفيها: كان صاحب سيس جهّز مركباً من مراكب الإفرنج وفيه أصناف كثيرة مقدار ما يساوي قيمتها مائة ألف دينار، على أنه يدخل بلاد قبرص والجزائر، فاتفق أن الله عز وجل أراد أن يجعلها غنيمة لأهل الإسلام، فأرسل ريحاً عاصفاً أتى به إلى ميناء دمياط، فأخذه المسلمون وغنموه.
وفيها: كان الجدب والقحط والغلاء ببلاد الشمال - بلاد طفطاي - لأنهم زرعوا ثلاث سنين فلم ينبت لهم شيء، فهلك الخفّ والحافر، وبلغت حالهم من القحط إلى أن صاروا يبيعون أولادهم ونسوانهم في الأسواق، فاشتراهم الفرنج والتجار وجلبوهم إلى سائر البلاد خصوصاً إلى مصر.
ذكر القصائد التي مدح بها السلطان في هذه الغزوة
وأول من نظم في ذلك القاضي علاء الدين بن عبد الظاهر، نظم فيها مجلداً صغيراً وسماه: الروض الزاهر في غزوة السلطان الملك الناصر، وتوصل إلى أن قرأه عليه، وأنعم عليه بمائة دينار، من غير أن يعلم بها بيبرس وسلار.
ومن نظمه قوله:
هم زعموا بأنك ليس تأتي ... ركبت إلى لقائهم البريدا
ولاذوا بالفرار فلم تدعهم ... وأعددت السلاسل والقيودا
ومنها: قصيدة من نظم الشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد الملك العزازي الشاعر:
لقد تمت النعمى وضوعفت البشرى ... وأظهر هذا الفتح في الأوجه البشرا
فمن كان ذا ندر فهذا أوانه ... ومن كان ذا وتر فقد أدرك الوترا
هناء هناء أيها الناس فالهدى ... علا الشرك والإيمان قد غلب الكفرا
ولما غزا غازان عقر ديارنا ... وأعطاه من يعطي ومن يمنع النصرا
تمرّد طغياناً وتاه تجبراً ... ولم يستبن نصحاً ولم يستفق سكرا
وظنّ بأن لا غالباً لجنوده ... ولا قاهراً حتى فتكنا بهم قهرا
وراسلنا في الصلح مكراً وخدعة ... وأي امرىء يرضى الخديعة والمكرا(1/431)
فسار له منّا رسول مذكّر ... يحذّره العقبى فلم تنفع الذكرا
وعاودنا بغيّاً وللبغى مصرع ... فشاهد من إقدامنا الآية الكبرى
وأنصفت الأيام في الحكم بيننا ... وكانت له الأولى وكانت له الأخرى
هو الدهر لا يبقى على فرد حالة ... فطوراً يرى حلواً وطوراً يرى مرا
رعى الله يوم المرج للترك أنفساً ... تدرّعت الإقدام والبأس والصبرا
غداة يرون القتل في الله طاعة ... صيام يودون الحمام لهم فطرا
إذا ذكروا أحداً تمنوا بأنهم ... رأوا أحداً أو شاهدوا قبله بدرا
تنادوا وقالوا في الثبات حياتنا ... ومن ههنا نلقى النجاة أو الخسرا
وجاءت جيوش المغل كالرمل كثرة ... وقد ملأت سهل البسيطة والوعرا
وأقبل سلطان الزمان محمد ... يقود العتاق الجرد والعسكر المحبرا
فطارت قلوب المارقين مخافةً ... وذعراً ويا ما أقبل الخوف والذعرا
رأت سيّفاً شهباً وبيضاً قواضباً ... وخطية سمرا وألويةً صعرا
وحزباً من الأتراك شوساً ضراغما ... يذودون عن مصر وعن ساكني مصرا
وكان نهار السبت بالنصر شاهداً ... صدوقاً وكان الوقت قد زاحم العصرا
فكرّت وكرّ المسلمون فلا تسل ... لدى الروع عن بحرٍ غدا صادماً بحرا
ومدّ سواد النقع ليلاً فأطلعت ... ذبال القنى في كل داجية فجرا
ولله در الترك كم سفكت دماً ... وكم فلقت رأساً وكم طعنت نحرا
وكم طعنت بالسمر حتى تقصّفت ... وكم ضاربت بالبيض حتى انثنت حمرا
أمالوا عروش الكافرين وكافحوا ... عن الديّن يرجون المثوبة والأجرا
فذلّت وكان العزّ ملء رؤوسها ... وقد أوطأتها الترك من بأسها جمرا
وولّت ولاذت بالجبال تحصّنا ... ولولا تخاف القتل لاختارت الأسرا
وجافت رحاب الأرض من قتلائها ... ولكنها طابت لنا شقهاً نشرا
ولمّا أتى الفتّاح بالفتح نحونا ... شكرنا الذي يستوجب الحمد والشكرا
فحمداً لمن أعلى منار نبيّه ... وشكراً لسلطان أباد العدى قسرا
أجلّ الملوك النّاصر بن قلاون ... وأبركهم وجهاً وأرحبهم صدرا
لقد خلّف المنصور هدياً وهيبةً ... ومنقبةً طولى ومنقبة بكسرا
فلا زالت الأقدار طوع مراده ... ولا زال يعلو فوق هام السهى قدرا
وقال الفقيه عبد الواحد التبريزي - الخطيب بعجلون - قصيدة منها:
الله أكبر: جاء النصر والظفر ... والحمد الله، هذا كنت أنتظر
وأبرز القدر المحتوم بارئه ... سبحانه بيديه النفع والضرر
وهوّن الصعب بالفتح المبين لكم ... ربّ يهون عليه المقفل العسر
أين النجوم وتأثير القران وما ... تخرّصوا فيه من إفكٍ وما زجروا
قد دبّر الله أمراً غير أمرهم ... وخاب ما زخرفوا فينا وما هجروا
وأقبل العسكر المنصور يقدمه ... من الملائك جند ليس تنحصر
كنانة الله مصر جندها ثبتت ... لا ريب فيه وجند الله تنتصر
ثاروا سراعاً إلى إدراك ثأرهم ... وهجّروا في طلاب المجد وابتكروا
وأسهروا أعيناً في الله ما رقدوا ... أكرم بقومٍ إذا نام الورى سهروا
وأوجفوا نفراً بالخيل ملجمة ... وبالركاب وما ملوا ولا نفروا
حتى أتوا جلقا في يوم ملحمة ... فيه الأسود أسود الغاب تهتصر
والجو أغبر والتتار راجفة ... مثل الجراد على الدنيا قد انتشروا(1/432)
حتّى إذا عبّ مثل البحر جحفلنا ... ومدّ قبضاً على أعدائنا جزروا
لاذوا بشمّ شماريخ الجبال فما ... حمتهم قلل منها ولا مغر
ومزقوا شذراً بين الزحام فكم ... شلوٍ تنازع فيه الذئب والنّمر
أين المفرّ وقد حام الحمام بهم ... هيهات لا ملجأ يرجى ولا وزر
جاءوا وقد حفروا من مكرهم قلباً ... ألقاهم الله قسراً في الذي حفروا
أتوا فراة وقد راموا النجاة فكم ... حلّت بهم عبر فيها وما اعتبروا
جميعهم قتلوا صبراً وقد جعلت ... عظامهم بنواحي جلّق صبر
لم يقبروا في نواويس ولا جدثٍ ... وإنما في بطون الوحش قد قبروا
والطير ترعى نهاراً لحمهم فإذا ... ما الليل جنّ ففي إقحافهم تكر
ملك أعيد به عصر الشباب لكم ... مسترغداً صافياً واستوقف العمر
إنا لنرجوه من بغداد ينهلها ... بماء دجلة ريّا ثم تصطدر
نؤمّها وإمام المسلمين معاً ... ثقوا بقولي فهذا منه منتظر
فدام للدّين والدنيا يسوسهما ... فكر له فيه سرّ الله مستتر
وعمره الجمّ أعياداً مجدّدة ... وأشهراً بعزيز النصر تشتهر
وقال الشيخ بدر الدين محمد بن عمر البزار، المعروف بالمنبجي، الشاعر في ذلك أيضاً قصيدة:
وافي على قدر ما يختاره القدر ... وجاء عمّا جناه الدهر يعتذر
وإن أساءت لياليه التي سلفت ... ظلماً فقد أحسنت أيامه الأخر
وبعد إدراكك الثارات منتصراً ... فكل ذنب جناه قبل مغتفر
بشاير طار بالإقبال طائرها ... لمثلها كانت الآمال تنتظر
فتح على جبهة الأيّام أسعده ... بالجدّ والسعد والتأييد مسطر
ما شاهد الناس فتحاً مثله أبداً ... إلا فتوحاً تولّى أمره عمر
سارت بأخبارها الركبان واقعة ... لم تحوّ أمثالها الأخبار والسير
وفي اللّيالي إذا عدّت محاسنها ... السمّار في كل ناد ذكرها سمر
عم السرور بها كل النفوس فما ... للنّاس في لذة من بعدها وطر
إن البغاة بني خاقان أقدمهم ... على هلاكهم الطغيان والأشر
راموا وقد حشدوا غلباً فما غلبوا ... وحالوا النصر تضليلاً فما نصروا
أتوا وقاد مكر الله الخبير بهم ... فردّ كفارهم بالغيظ إذ مكروا
وطبّقوا الأرض من سهل ومن جبل ... كأنما هم جراد فيه منتشر
داسوا بلادك لا يثنى أعنّتهم ... عن قصدها جهلهم والتيه والبطر
غرتهم فلتة في الدهر عن غلط ... منه فحلت بهم من بعدها الغير
وأمّلوا أنّها مثل التي ذهبت ... فغودروا ودماهم في الفلا غدر
قابلتهم بجيوش ما لهم قبل ... ببأسها فلقد قلّوا وإن كثروا
قاموا وأقعدتهم عن قصدهم بشبا ... البيض الرقاق فقد غابوا وإن حضروا
أفنيتهم بليوث منك باسلة ... وهل تقاوم آساد الشرى الحمر
فكم قتيل لهم من بعد صولته ... تحت السنابك أمسى وهو منعقر
عصابة لم تزل بالحق ظاهرة ... في الحرب بالله والأملاك تنتصر
من سيد الرسل بالتأييد قد وعدت ... فالنصر يخدمها ما زال والظفر
يا وقعة المرج الصفر افتخرت ... بك الوقائع في الآفاق والعصر
رفعت بالنصر أعلام الهدى ولقد ... جرّدت للشرك كسراً ليس ينجبر
يوم تدارك جمع المسلمين به ... من لم يزل في يديه النفع والضرر(1/433)
يا من أوامره والله يعضده ... بها الليالي مع الأيام تأتمر
لولا يثبّتك الله العزيز بعدة ... لم يبق للدين لا سمع ولا بصر
قرّت به أعين الإسلام وابتهجت ... به القلوب وكادت فيه تنفطر
نامت عيون الرعايا في ذرى ملك ... في رعيهم طرفع عاداته السهر
المخجل السيف عزماً وهو منصلت ... والمرعب الليث بأساً وهو مهتصر
والثابت الجأش والإقدام في دحضٍ ... فيه التثبّت إلاّ عنده عسر
يا ناصر الدين يا من حسن دولته ... أمست على دول الماضين تفتخر
فأوقدت نيران حرب أصبحوا حطباً ... للجمر منها لها شوك القنى شرر
دارت عليهم رحى الحرب الزيون فما ... لجمعهم بعدها عين ولا أثر
وضاقت الأرض مذ ولّوا بما رحبت ... عليهم فهم بالخوف قد حصروا
وألبسوا الذلّ حتى أن أشجعهم ... يأتي إليك بألفٍ منهم نفر
وأصبحوا بعد ذاك الكبر يحسد ... قتلاهم من الذلّ والتقريع من أسروا
وبعد قد أمنا من كل حادثة ... فما لنائبةٍ منه ناب ولا ظفر
بالسيد الناصر المنصور جحفله ... زهت برونقها الآصال والبكر
هزّت معاطفها الدنيا به فرحاً ... وطاب بالأمن في أيامه العمر
أزال عنّا مخافات النفوس فما ... يدور بالخوف أوهام ولا فكر
يا من به راقت الأوقات وابتسمت ... بعد العبوس فما في صفوها كدر
لا زال ملكك ملكاً لا نفاذ له ... ما شق شقّة جلباب الدجى سحر
وقال الشيخ تقي الدين عبد الله بن تمام الحنبلي قصيدة طويلة، منها قوله:
كرّر عليّ فمالي بعدها وطر ... بشارة كنت أرجوها وأنتظر
هبّت علينا بنصر الله هاتفة ... لم ترو أخبارها الأخبار والسير
نتلو أحاديثها دأباً وندرسها ... كأنها بيننا الآيات والسور
وقال صاحب نزهة الناظر:
لمثل ذا اليوم كان الدهر ينتظر ... فليهنك اليوم هذا النصر والظفر
يا يوم شقحب لو عاش الألى سلفوا ... من الملوك لهذا اليوم ما ذكروا
لله درك والأعداء قد بسطت ... خيولهم سرباً في الأرض تنتشر
صدمتهم بخيول لو صدمت بها ... صرف الزمان لولى وهو منذعر
يأتوا بليل تمنّوا أنه لهم ... ليل الضرير وصبح ليس ينتظر
وجاوزوا النهر خوضاً من دمائهم ... محمّراً وصفاه منهم كدر
ولّوا ظهورهم والسيف حاكمها ... كأنهم حمر واستنفروا نفروا
وأصبح الدين منصوراً بناصره ... والكفر يخذل والإسلام منتصر
وشتّت الله شملاً كان مجتمعاً ... وضرب الله أرقاب الألى كفروا
فإن تكن زلة للدهر واحدة ... فقد أتاك وهو يعتذر
فليهنك اليوم هذا الفتح يا ملكاً ... وافى لك الفتح ما وافى به عمر
وافت لغازان أخبار معنعنة ... فصدّق الخبر لمّا عاين الخبر
وأصبح النوح تترى في منازلهم ... بالحزن والويل والتعديد والفكر
كل يؤمل أن يلقى لصاحبه ... حتى يراه فلا عين ولا أثر
وأحسن ما قيل في هذه الوقعة قصيدة شمس الدين الطيبي، وهذه هي:
برق الصوارم للأبصار تختطف ... والنقع يحكي سحاباً بالدما تكف
أحلا وأغلا وأعلا قيمة وسناً ... من ريق ثغر الغواني حين يرتشق
وفي قدود القنى معنى شغفت به ... لا بالقدود التي قد زانها الهيف
ومن غدا بالخدود الحمر ذا كلفٍ ... فإنّني بخدود البيض لي كلف(1/434)
ولامة الحرب في عيني أحسن من لام ... العذار الذي في الخدّ منعطف
كلاهما زرد هذا يفيد وذا يردي ... فشأنهما في الفعل مختلف
والخيل في طلب الأوتار صاهلة ... ألذّ لحناً من الأوتار تختلف
ما مجلس الشرب والأقداح دائرة ... كموقف الحرب والأبطال تزدلف
والعزّ من تحت طلّ الرمح مقترن ... بالعزّ والذلّ يأباه الفتى الصلف
لا عيش إلاّ لفتيان إذا انتدبوا ... ثاروا وإن بذلوافي غمّة كشفوا
يقي بهم ملة الإسلام ناصرها ... كما يقي الدرّة المكنونة الصدف
قاموا لقوة دين الله ما وهنوا ... لما أصابهم فيه ولا ضعفوا
وجاهدوا في سبيل الله فانتصروا ... من بعد ظلمٍ ومما ساءهم أنفوا
لمّا أتتهم جيوش الكفر يقدمهم ... رأس الضلاّل الذي في عقله جنف
جاءوا وكل مقامٍ ظل مضطرباً ... منهم وكل مقام بات يرتجف
فشاهدوا علم الإسلام مرتفعاً ... بالعدل فاستيقنوا أن ليس ينصرف
لاقاهم الفيلق الجرار فانكسروا ... خوف العوامل بالتأنيث فانصرفوا
يا مرج صفّر بيّضت الوجوه كما ... فعلت من قبل فالإسلام يؤتلف
أزهر روضك أزهى عند لفحته ... أم يانعات رءوس فيك تقتطف
غدران أرضك قد أضحت لواردها ... ممزوجة بدماء المغل تغترف
زلّت على كتف المصريّ أرجلهم ... فليس يدرون أنّى يؤكل الكتف
آووا إلى جيل لو كان يعصمهم ... من موج فوح المنايا حين يختطف
دارت عليهم من الشجعان دائرة ... فما نجا سالم منهم وقد زحفوا
ونكّسوا منهم الأعلام فانهزموا ... ونكصوهم على الأعقاب فانتصفوا
ففي جماجمهم بيض الطلا زبروا ... وفي كلاكلهم سمر القنا قصفوا
فرّوا من السيف ملعونين حيث سروا ... وقُتلوا في البراري حيث ما ثقفوا
فما استقام لهم في أعوج بهج ... ولا أجارهم من مانع كثف
وملّت الأرض قتلاهم بما قذفت ... منهم وقد ضاق منها المهمة القذف
والطير والوحش قد عافت لح ... ومهم ففي مراح الضواري منهم قذف
ردوا فكل طريق نحو أرضهم ... يدل جاهلها الأشلاء والجيف
وأدبروا فتولى قطع دابرهم ... والحمد لله قوم للوغى ألفوا
ساقوهم فسقوا شط الفراة ... وماوطهم بعباب السيف فانحرفوا
وأصبحوا بعد لا عين ولا إثر ... غير القلاع عليها منهم شغف
يا برق بلغ إلى غازان قصتهم ... وصف فقصتهم من فوق ما تصف
بشرّ بهلكهم ملك العراق لكي ... يعطيك حلوانها حلوان والنجف
وإن يسل عنهم قل تركتهم ... كالنحل صرعى فلا تمر ولا سعف
ما أنت كفؤ عروس الشام مخطبها ... جهلاً وأنت إليها الهائم الدنف
قد مات قبلك آباء بحسرتها ... وكلهم مغرم مغرس بها كلف
إنّ الذي في جحيم النار مسكنه ... لا يستباح له الجنان والغرف
وإن تعودوا تعد أسيافنا لكم ... ضرباً إذا قابلتها رضب الحجف
ذوقوا وبال تعديكم وبغيكم في ... أمركم ولكأس الخزي فارتشفوا
فالحمد لله معطي النصر ناصره ... وكاشف الضرّ حيث الحال منكشف
ذكر ما اتفق لقطلوشاه ومن معه من التتار(1/435)
قد ذكرنا عند نزولهم من الجبل اتبعهم العسكر وجردوا خلفهم الأمراء وقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وكذلك العرب قتلوا منهم، ومات أكثرهم من العطش والجوع، والذي سلم منهم أو خرج قُتل في الطريق، وقتلت أهل المدن والضياع منهم خلقاً عظيماً، وما وصل قطلوشاه إلى الفرات إلا في نفر يسير، ولم يعد الفرات سالماً إلاّ مولاي فإنه ما عدم له إلاّ نفر يسير من الذين انقطعوا منه فإنه خرج أولاً وذهب كما ذكرنا، ولم يقابل العسكر، وبلغ الخبر إلى غازان، وإلى همدان، ووقعت الضجات، واستقبلهم أهل البلاد بالبكاء والعويل، وخرجت أهل تبريز وغيرها، وركبت النساء والخواتين لسماع أخبارهم، لينظرن من قتل ومن بقي، ونظر الخلائق إلى عسكر مُبدد ما بين ماش وراكب، ومحمول ومجروح، ونادب على ولده وعلى أخيه.
قال الراوي: وحكى لي من حضرهم من تجار تبريز أنه أقام مدة شهرين لم يسمع غير بكاء ونياحة وتعديد بلسان المغل، ولما وُصف لقازان كيفية انكسارهم، وما جرى عليهم، خرج من منخريه دم كثير إلى أن كاد يقتله، ودخل إلى خركاته، ولم يجتمع بأحد من الأمراء، ولا من الخواتين إلى أن أخبروا له أنّ مولاي وصل، وحكى له طرفاً من أمره، وأقام إلى أن وصل قطلوشاه وعسكره، وملك مسامعه من البكاء والتعديد، وخرجت نساء المغل وأهل العسكر لملتقى رجالهم وأولادهم فلم يجدوا من كل عشرة واحداً، فركب الأُردو عن بكرة أبيهم، فهنّى بعضهم باللقاء، وقيل لبعضهم: خلفّناه في ماردين أو غيرها. وقيل لبعضهم: جُرح. وقيل لبعضهم: أُسر، ومثل هذا الكلام.
فلما علم غازان بذلك خرج وجلس على التخت، وطلب أمراء التوامين الذين كانوا قد تأخروا عنده، والخواتين، فأجلسهم على العادة، ورسم بحضور قطلوشاه وجوبان وسوتاي، ومن كان معهم من الأمراء، وأوقفهم بين يديه موقف الذلّ، وقال للحاجب: قل لهم كيف خالفتم يسق السلطان حتى كسرتم عسكره؟ فقالت الأمراء: نحن كنا مع نائبك ويسقك أن لانخالفه فيما يفعله. فقال لقطلوشاه: كيف خالفت يسقي ولاقيت الملك الناصر صاحب مصر وعسكره. فردّ عليه الجواب بما اتفق له من سوقه خلف عسكر الشام وكيف أدركهم وكسرهم، وأن سلطان مصر وصل في ذلك الوقت على غفلة منه، فلم يقبل له عذراً، ورسم أن يقيد بالكلاليب، فقامت الأمراء والخواتين وشفعوا فيه، وقالوا له: إن له على الخان خدمةً كبيرةً، وأنه اجتهد غاية الاجتهاد. ولكن أتاه الأمر بغير ما حسبه، وما زالوا به وهم واقفون بين يديه، والخواتين قد كشفن رءوسهن إلى أن عفي عنه، ورسم أن يوقفوه على بعد من بين يديه وهو ممسوك بين الحجاب، ويقوم كل من حضر بين يدي الخان فيخرج إليه ويتفل في وجهه، وهذه حدّ الإهانة عندهم للكبير إذا لم يقتلوه، ثم رسم أن يخرج مع جماعته وعسكر آخر إلى كيلان ولا يوريه وجهه إلى أن يملكها، وكان من أمره ما سنذكره إن شاء الله، وطلب بعدها مولاي ورماه وضربه تسع عصا وقال: كنت متّ معهم. وأهانه الإهانة البالغة.
وفيها: كان النيل أوفى على ستة عشر ذراعاً، وكان كسر الخليج خامس المحرّم.
وقال صاحب النزهة: الصحيح أن النيل غلّق ثمانية عشر ذراعاً.
وفيها: حج بالناس سيف الدين برلغي.
ذكر من توفي فيها من الأعيان
الشيخ الإمام شيخ الإسلام بقية المجتهدين قاضي القضاة تقي الدين محمد بن الشيخ ال صالح بقية السلف مجد الدين أبي الحسن علي بن وهب بن مطيع ابن أبي الطاعة القشيري المصري، المعروف بابن دقيق العيد.
ولد يوم السبت الخامس والعشرين من شعبان سنة خمس وعشرون وستمائة بساحل مدينة ينبع من أرض الحجاز، وتوفي يوم الجمعة الحادي عشر من صفر ببستان عند باب اللوق، وصلي عليه تحت القلعة، وحضر جنازته: نائب السلطان، والأمراء، وأعيان الدولة، وخلق كثير من الناس، ودفن بالقرافة.
وكان أجل من بقي من علماء المسلمين علماء وديانة وعملاً، وكان من علماء الحديث، وكان إماماً متقناً، متفنناً، أصولياً، فقيهاً، أديباً، نحوياً، شاعراً، ناثراً، مجتهداً، وافر العقل، كثير السكينة، تام الورع، شديد التديّن، مديم السهر، مكباً على المطالعة والجمع، قلّ أن ترى العيون مثله.(1/436)
وكان قد قهره الوسواس في أمر المياه والنجاسات، وله في ذلك حكايات عجيبة، وكان كثير التسري والتمتع، وكان مهوّساً بعلم الكيمياء، معتقداً صحتها، وكان له عدة أولاد بأسماء الصحابة العشرة، تفقه بأبيه وبالشيخ عزّ الدين بن عبد السلام وغيرهما، واشتهر اسمه في حياة مشايخه، وتخرج به أئمة، وكان عارفاً بمذهبي مالك والشافعي، كان مالكياً أولاً، ثم صار شافعياً.
وقال ابن كثير: سمع الحديث الكثير، ورحل وخرج، وصنّف فيه إسناداً ومتنا بمصنفات عديدة مفيدة فريدة: وانتهت إليه رئاسة العلم في زمانه، وفاق جميع أقرانه، ودرس في أماكن كبار كثيرة، ثم ولي قضاء مصر سنة خمس وتسعين وستمائة، ومشيخة دار الحديث الكاملية.
وقال بيبرس: وكانت مدة ولايته ست سنين وسبعة أشهر وأياماً.
وقال النويري: وكان نشوه بمدينة قوص، وتفقه على أبيه، وعزل نفسه عن القضاء، وسئل في العود: فامتنع، فألحّ عليه، فعاد، وهو الذي نقل خلع القضاة من الحرير إلى الصوف، وكان يخلع على القضاة قبله الحرير الكنجي، وتولى بعده القضاء بدر الدين بن جماعة.
وقال صاحب النزهة: وصلى عليه السلطان وسائر الأمراء والأكابر. وهو آخر من ولى القضاء من المجتهدين الذين لم ير في دولة الترك من ولي منصب القضاء مثله.
قال: ويذكر له نكتة غريبةً، وهي: أنه اتفق أن شخصاً أحضر إليه فتياً فكتب عليها، فلما فارقه تذكر أنه كتب فيها ما لا يجوز، فقلق لذلك قلقاً عظيماً ولم يحكم ذلك النهار. فلما كان بكرة اليوم الثاني حضر الرجل ومعه الفتوى، وسأل الشيخ أن يكتب له عليها بخط مفسّر وذكر أنه من حين خرج من عند الشيخ بالفتوى عرضها على الناس، فكل من أخذها لم يحسن قراءتها لكون حروفها مخبطةً ولم يظهر منها شيء ولا حرف واحد. فأخذها فكتب عليها بما يجوز.
وروى عنه الشيخ فتح الدين بن سيد الناس شيئاً كثيراً من لطافته وكرمه واحتمال نفسه، ومن أشعاره الرائقة، ومن ذلك قوله:
أفكّر في حالي وقرب منيّتي ... وسيري حثيثاً في مصيري إلى القبر
فينشىء لي فكري سحائب للأسى ... تسحّ هموماً دونها وابل القطر
إلى الله أشكو من وجودي فإنني ... تعبت به مذ كنت في مبدء العمر
تروح وتغدو للمنايا فجائع ... تكدّره والموت خاتمة الأمر
وله:
سحاب فكري لا يزال هامياً ... ولبل همي لا أراه راحلا
قد أتعبتني فكرتي وهمّتي ... فليتني كنت مهيناً جاهلا
وقال الشيخ شمس الدين محمد بن نباتة، أنشدني الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد لنفسه:
أتعبت نفسك بين ذلّة كادح ... طلب الحياة وبين حرص مؤمل
وأضعت عمرك لا خلاعة ماجنٍ ... حصلت فيه ولا وقار مبجّل
وتركت حظ النفس في الدنيا ... وفي الأخرى ورحت عن الجميع بمعزل
وله دو بيت:
الجسم تذيبه حقوق الخدمة ... والقلب عذابه علو الهمّة
والعمر بذاك ينقضي في تعب ... والراحة ماتت فعليها الرحمة
ومن العجب أن هذين البيتين حفظهما الشيخ تاج الدين أحمد أخو الشيخ تقي الدين، فاتفق له أنه قال: بينا أنا وقت الهاجرة بمسجد الجواري بالحسينية؛ إذ غلبتني عيناي فنمت ورأيت والدي الشيخ مجد الدين، فسلم عليّ وسألني عن حالي فقلت يا سيدي بخير. فقال: كيف محمد أخوك؟ - يعني الشيخ تقي الدين - فقلت: بخير، الساعة كنت عنده وأنشدني دو بيت، وأنشدته البيتين المذكورين. فقال: سلم عليه وقل:
الروح إلى محلها قد تاقت ... والنفس لها مع جسمها قد عاقت
والقلب معذّب على جمعهم ... والصبر قضى وحيلتي قد ضاقت
فانتبه تاج الدين، وقد حفظ الدو بيت المذكور.
وله أيضاً:
يا معرضاً عني ولست بمعرض ... يا ناقضاً عهدي ولست بناقض
أتعبتني بخلائق لك لم تفدفيها وقد جمحترياضة رائض
أرضيت أن تختار رفضي مذهباً ... فيشيع للأعداء أنك رافضي
وقال شهاب الدين بن الكويك التاجر الكارمي: اجتمعت به مرة فرأيته في ضرورة شديدة. فقلت له يا سيدي ما تكتب ورقة لصاحب اليمن وأنا أقضي فيها الشغل. فكتب ورقة لطيفة فيها:(1/437)
تجادل أرباب الفضائل إذ رأوا ... بضاعتهم موكوسة الحظّ في الثمن
وقالوا عرضناها فلم نلف طالباً ... ولا من له في مثلها نظر حسن
ولم يبق إلاّ رفضها وإطراحها ... فقلت لهم لا تعجلوا السوق باليمن
وأرسلها إليه. فأرسل له مائتي دينار، واستمرّ يرسلها له في كل سنة إلى أن مات صاحب اليمن، رحمه الله.
الشيخ برهان الدين إبراهيم بن فلاح بن محمد بن حاتم السكندري.
سمع الكثير وتفقه، ودرس القوصية، وأعاد وأفتى، وناب في الخطابة مدة، وفي الحكم عن ابن جماعة، وكان ديناً فاضلاً، ولد سنة ست وثلاثين وستمائة، ومات يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من شوال، عن خمس وستين سنة، ودفن بالقرب من الصندلاوي بباب الصغير.
الشيخ المحدث شرف الدين عمر بن محمد بن عمر بن الحسن بن خواجا إمام الفارسيّ، شيخ الحديث بدار الحديث الظاهرية.
مات بها وقد ناهز التسعين سنة، ودفن عند مسجد القدم، وكان قد أوصى به، وأوصى أيضاً أن يشتري بخمسمائة درهم حلاوة صابونية وتفرق على قبره بعد دفنه على من يشيع جنازته، ففعلوا ذلك، فأكل الناس وترحموا عليه، وكان مشكور السيرة، حسن المخالطة.
الشيخ محيي الدين عثمان بن الشيخ أحمد بن عثمان ابن إمام الكلاّسة، إمام مشهد عروة.
مات في هذه السنة في عاشر شوال، ودفن بقاسيون، وكان من القراء الصيّتين.
الشيخ الإمام شمس الدين محمد بن إبراهيم بن يحيى الصنهاجي، إمام المالكية بجامع دمشق.
مات بالمارستان النوري ودفن بباب الصغير، وكان فقيهاً فاضلاً من أهل العلم والصلاح، وتولى مكانه أبو الوليد بن الحاج الإشبيلي.
الصدر الكبير العالم الفاضل كمال الدين أبو العباس أحمد بن أبي الفتح محمود ابن أبي الوحش أسد بن سلامة بن سلمان بن فتيان الشيباني. المعروف بابن العطار، كاتب الدرج الشريف منذ أربعين سنة.
مات بباب البريد، وحمل إلى قاسيون فدفن في تربة له في نواحي الكهف، وكان فيه تلاوة قرآن، وذكر، وملازمة للصلوات مع الجماعة. واقتنى كتباً كثيرة جليلة، وله ترّسل ونظم، فمن نظمه:
قل يا نسيم فإن رجعت مخبراً ... برضاهم ومبشراً بقبول
فلك الهناء لأمنحك رقتي ... ولأخلعنّ عليك ثوب نحول
الأمير فارس الدين ألبكي الساقي المنصوري نائب حمص.
كان أميراً كبيراً مقدّماً. مات في هذه السنة يوم الثلاثاء الثامن من ذي القعدة، وهو الذي توجه إلى قازان ملك التتار وعاد إلى الشام. وولى مكانه عز الدين أيبك الحموي، وكان نائباً بصرخد، فنقل إلى حمص، كذا قال النويري.
وقال بيبرس: تولى عوضه الأمير بلبان الجوكندار المنصوري، وكان نائباً بقلعة دمشق.
الأمير شمس الدين سنقر العينتابي. توفي في هذه السنة بدمشق، وكان من أمرائها.
الأمير سيف الدين بكش رأس النوبة الجمدارية، توفي في هذه السنة.
الأمير ناصر الدين بن باشقرد الناصري الأيوبي.
تقنطر به فرسه في سوق الخيل، فوقع ميتاً، ودفن بجبل قاسيون عند والده. وكان شاباً حسناً جميلاً.
الأمير حسام الدين الأستادار، استشهد في الوقعة المذكورة وكان يعرف بالرومي.
وكان مملوك السلطان الملك المنصور قلاون، اشتراه من تاجر، وذكر أنه رومي ولقبه بلاجين، وكبّره عنده، وترقى إلى أن عمله أستاذ الدار، وحكي عنه أنه قال: ما أنا من الروم، وإنما جنسي وبيتي من التركمان، وكان أبي وأمي مسلمين، وكان اسمي خليلاً واتفق أن زوقنا كبست وأُغير عليها، فأُسر كل من فيها، وباعوني في بلاد الروم، ثم اشتراني تاجر وجلبني إلى مصر، وكان له تلاوة وسماع حديث.
الأمير أوليا بن قرمان، وقد ذكرناه من المستشهدين في الوقعة المذكورة.
وكان قد وفد إلى مصر في الدولة الظاهرية، وكان يُقال ابن قرمان، ولم يكن كذلك وإنما كان ابن أخت قرمان.
الأمير عز الدين أيدمر الرفا، ذكرناه في المستشهدين.
وكان من الأمراء المنصورية المشهورين بالفروسية والشجاعة، وحكي من أكابر مماليكه أنه أخذه التركمان. ثم وصل إلى بيت الملك الناصر صاحب حماة.
الأمير عز الدين أيدمر القشاش. قد ذكرناه في المستشهدين أيضاً.(1/438)
وكان له تقدم وسمعة في الولايات، وحرمة كبيرة، وآخر ولايته ولاية الغربية، وأضيفت له ولاية الشرقية، وكان يتحدث في الإقليمين، وكانت له اختراعات في الأعمال من جملتها: كان يضرب في الأرض خوازيق ويضع على علوها صاري ببكرة، فإذا علق عليه أحد من المفسدين يجذبونه إلى فوق جداً، ثم يُرخونه إلى أن يقع على خازوق من تلك الخوازيق، فيخرج من جسده حيث يقع منه، وكانت له مهابة في النفوس ولم يجسر أحد في أيام ولايته أن يلبس مئزراً أسوداً، ولا يتقلد بسيف، ولا يحمل عصيً، ولا يركب فرساً. ورُئي في المنام بعد موته راكباً حصاناً أشهب. وعليه عدة الحرب، وبيده رمحه، وعليه مهابة عظيمة، فقيل له: بم نلت هذه؟ فقال: غفر الله لي بعمارتي جسر السقفي، وهو جسر كان أنشأه بين ملفة صندفا وبين أرض سمنود. وكان في آخر عمره عرض له وجع المفاصل، فدخل على الأمراء أن يعفوه عن الولايات. فأُعفي وأقام في بيته إلى أن خرج السلطان إلى لقاء العدو، فتجهّز للسفر. فقيل له: إنك ما تحمل على الركوب على الخيل، فلم يسمع كلامهم وما زال راكب المحّفة إلى أن قامت الحرب، فركب فرسه وهو في غاية ما يكون من الألم ورجلاه متورمتان. فقيل له: أنت ترمي نفسك للموت. فقال: ويلكم لمثل هذا اليوم كنت أنتظر، وإلا كيف يخلّص القشاش نفسه من ربّه. فرفص فرسه وحمل عليهم ورمحه في يده. ووصل إلى صدر العدو وكأنه ليس به ألم، فلم يزل يقاتل حتى قُتل، ووجد فيه نحو من ست جراحات، رحمه الله.
الشيخ نجم الدين أيوب الكردي، قُتل في هذه الوقعة.
كان قد ورد من البلاد في سنة سبع وثمانين وستمائة، ومعه جماعة من الأكراد، وأقام بدمشق مدة سنتين، ونال من أمرائها حظاً كبيراً. وظهرت له أمور من المكاشفات والصلاحية. وكان لا يدخل إليه أمير إلاّ ويطالبه بالهدية، ولا بد أن يحمل له شيئاً من الدنيا، واتبعوا أمره فيما يأخذه، فوجدوه يتصدق به ولا يدخره. ثم رحل إلى مصر ويوم عبوره حصلت له معرفة مع ابن قرمان المذكور. فأخذه إلى بيته. ثم بنى له زاوية بجوار بيته. وأقام فيها إلى أن خرج السلطان للقاء العدو، فخرج معهم. ولما التقوا بالعدو كان راكباً بآلة الحرب، واقفاً إلى جانب ابن قرمان، فقُتل معه، ثم دفنا جملة واحدة.
الأمير عثمان بن يغمراس بن عبد الواد صاحب تلمسان.
توفي في هذه السنة على فراشه. وجلس بعده ولده محمد بن عثمان بن يغمراس.
قال بيبرس في تاريخه: وقد أمضهم الحصار ومسّهم الجهد. فأقام أربع سنين والمحاصرة مستمرة والمضايقة متضاعفة، وعدمت الأقوات وغلت الأسعار، فبلغ الحمل من الملح إلى مائة دينار والحمل من القمح إلى ستين ديناراً كباراً ولحم الفرس الواحد إلى مائة دينار، والشاة إلى عشرة دنانير، والثور إلى ستين ديناراً. والدجاجة إلى ثلاثة دنانير. وورد على المحاصرين خبر من بلاد العدو فأوجب رحيلهم.
الملك العادل زين الدين كتبغا. توفي بحماة نائباً عليها بعد صرخد كما ذكرناه.
وكانت وفاته يوم عيد الأضحى ونُقل إلى تُربته بسفح قاسيون غربي الرباط الناصري، وله عليها أوقاف داره على وظائف قراءات وغيرها، وكان من كبار المنصورية، وقد تملك بعد مقتل الأشرف خليل بن المنصور قلاون، ثم عزله عنها لاجين وحوله إلى صرخد، فكان بها حتى قُتل لاجين وعاد المُلك إلى الملك الناصر محمد بن قلاون فاستُنيب بحماة، وكانت وفاته بها.
وكان من خيار الملوك وأعدلهم، وأكثرهم براً.
ورتب بحماة عوضه الأمير قفجق، فتوجه إليها وولي النيابة فيها، وكان نائباً بالشوبك.(1/439)
وقد تقدم في ترجمته أنه أُخذ في نوبة حمص هو وبيدرا عقيب كسرة المغل على عين جالوت، وحكى أنه لما فتح هلاون الشام أحضر منجماً حاذقا يقال له: نصير الطوسي، فقال: أبصر من يملك مصر من مقدمي عسكري فقد قيل إني لا أملكها. فنظر فلم يجد من الأسماء من يملكها إلا كتبغا، وكان صهر هلاون يسمى كتبغا نُوين، فظنه هلاون إياه، فأنفذه على العسكر الذي خذله الله على عين جالوت على يد الملك المظفر قطز، وكان بين ذلك وبين ملك كتبغا هذا مصر خمسة وثلاثين سنة، وملك صاحب هذا الاسم لكنه ليس من أصحاب هلاون. والذي اتفق لهذا ما اتفق لأحد من الملوك في دولة الترك، فإنه خرج من السلطنة إلى نيابة بلد، ثم حضر إلى مصر وجلس مع الأمراء، وصار يُرمل على ما يكتبه نائب السلطان، ويمشي في خدمته، ويخاطب بالأمير، وهذا لم يتفق أحد أصلاً والله أعلم.
فصل فيما وقع من الحوادث في
السنة الثالثة بعد السبعمائة
استهلت هذه السنة، وخليفة الوقت: المستكفى بالله بن الحاكم العباسي.
وسلطان البلاد: الملك الناصر محمد بن قلاون، ونائبه بمصر الأمير سلاّر، وقاضي الشافعية بدر الدين بن جماعة، ونائب الشام جمال الدين أقوش الأفرم، وقاضي الشافعية بدمشق نجم الدين بن الصصري.
ذكر المدرسة الناصرية التي بين القصرين
قال ابن كثير: وفي هذه السنة كمل عمارة المدرسة الناصرية بين القصرين.
وكان الملك العادل زين الدين كتبغا قد شرع في عمارتها وابتدأ في إنشائها، فلم تطل مدته لتمام بنائها، فعند عود الملك الناصر إلى مملكته ثانياً أمر بتكميلها، ورسم بترتيبها، ورتب الدروس على المذاهب الأربع، فللحنفية شمس الدين السروجي، وللمالكية زين الدين علي، وللحنابلة شرف الدين عبد الغني الحراني، وللشافعية الشيخ الفاضل صدر الدين محمد بن المرحل المعروف بابن الوكيل، ونقل الملك الناصر والدته من التربة المجاورة لمشهد السيدة نفيسة إلى قبة المدرسة المذكورة، ودُفنت بها، وعيّن لها أوقافاً جارية.
وفي النزهة: وكانت هذه المدرسة داراً تُعرف بدار الأمير سيف الدين بلبان الرشيدي. ولما تسلطن الأمير زين الدين كتبغا وتلقب بالملك العادل اختار أن يجعل له مدرسة ومكاناً يُدفن فيه، فسعى له جماعة ودلّوه على هذا المكان لأنه مجاور لمدرسة السلطان قلاون أستاذه، وفي وسط المدارس، ففرح بذلك واشتراه من ورثته، وشرع في عمارته، وجلب إليه سائر الصناع، وعمل لها باباً عجيباً، وهو رخام أبيض قطعة واحدة، وكذلك واجهة الباب وأعتابه، وأصل ذلك أن الملك الأشرف خليل بن قلاون لما أخذ حصن عكا وجد فيها بناءً عظيماً من أيام السنين من العمائر العجيبة جداً، وكان هذا الباب في هذا البناء، وكان الأشرف قد رتب علم الدين الدوادار الصالحي على تخريب سور عكا وسور عثليث وغيرهما من القلاع التي فتحها الله على يديه، ولما سمع الأمير بدر الدين بيدرا نائب السلطنة بهذا الباب أرسل إلى الأمير علم الدين المذكور وطلب منه هذا الباب، وسأله أن يحمله إلى مصر، ويكون ذلك إحساناً منه إليه، ولما انتهى شغل الأمير علم الدين حمل هذا الباب إلى مصر، وقدمه له، وكان عند بيدرا إلى أن جرى عليه ما جرى في قضية الأشرف، وقُتل كلاهما وتسلطن كتبغا، وشرع في عمل هذه المدرسة، فأخبره من كان يعرف هذا الباب أنه عند ورثة بيدرا وأنه معدوم المثل، فسأل كتبغا ورثة بيدرا عن ذلك. فأحضروه إليه وأمر بوضعه باباً للمدرسة، ولما اتفق لكتبغا ما اتفق، وقدم الناصر محمد إلى مصر اشتراها القاضي زين الدين المالكي بطريق الوكالة عن السلطان الناصر، وشرع في استكمال عمارتها، وشرع في شراء أملاك ليوقفها عليها، فمن جملتها قيسارية أمير على بالشّرابشييّن. والربع المعروف بالدهشة، وحوانيت بباب الزهومة، والحمام المعروف بالفخرية بجوار السيفية، ودار والدة السلطان قلاون، والحمامان اللتان تعرفان بالشيخ خضر، وخان الطعم بظاهر دمشق0
ذكر الإفراج عن الشريفين أسد الدين رُمثية وعز الدين حميضة
ولدي الشريف نجم الدين بن نُمي:(1/440)
ولما اتفق وصول الأمير سيف الدين بُرلغى الأشرفي من الحجاز الشريف، أخبر عن أميري مكة أبي الغيث وأخيه عُطيفة بأنهما عاجزان وليست لهما حرمة، وأن عبيدهما يشوشون على الحاج وأن الحال تقطع من مكة، اتفق رأي الأمراء بين يدي السلطان على إخراج الشريفين رميثة وحميضة من الإعتقال في الإسكندرية، وكان قد سبق سؤالهما في الإفراج عند حضور الأمراء والسلطان من الغزاة، وأن يقيما بمصر في خدمة السلطان، ولما ذكر سيف الدين برلغى ما ذكر، أمر السلطان بإخراجهما، وسيّروا أمير جندار إليهما، فأحضرهما، ولما قدما اقتضى رأي الأمير بيبرس والأمير سلار أن يخلع عليهما وأن يلبسا الكلوتات الزركش، فامتنع حُميضة من ذلك، وقالوا له: متى خالفت ذلك رجعت إلى السجن، فعند ذلك لبس، وأجلسوهما فوق الأمراء لشرف نسبهما، ثم أرسل إليهما سائر الأمراء ما يحتاجان إليه من سائر الأشياء، وخصوصاً - أحسن إليهما غاية الإحسان - سلار وبيبرس، وكانا يركبان مع السلطان في الميدان، وألزموا حُميضة أن يلعب الأكرة مع السلطان والأمراء تلعب، واتصل بهم اتصالاً حسناً.
وقال بيبرس في تاريخه: وأُنعم عليهما وأُعيدا إلى منصبهما، وعُزل أخواهما عُطيفة وأبو الغيث، وسيّر صحبتهما الأمير عز الدين أيدمر الكوندكي، فرتبهما في الإمرة.
ذكر تجريد العساكر إلى سيس
قال ابن كثير: وفي هذه السنة أمر السلطان بتجريد العساكر إلى سيس، وسبقه أن طائفة من العسكر الحلبي دخلت بلاد الأرمن غارة، فكبستهم التتار ببلاد سيس وسلموا، فجرد السلطان الأمير بدر الدين بكتاش الفخري ومعه عدّة من العسكر المصري ثلاثة آلاف، فتوجهوا إلى دمشق، ووصلوها ثاني عشر رمضان، وأضيف إليهم ألفان من دمشق صحبة الأمير بهادر آص، وساروا، فأخذوا معهم نائب حمص الأمير بلبان الجوكندار، ووصلوا إلى حماة، فصحبهم الأمير قفجق نائب حماة، وجاء إليهم الأمير أسندمر نائب طرابلس، وانضاف إليهم الأمير قراسنقر نائب حلب، وانفصلوا كلهم عنها، فافترقوا فرقتين: فرقة سارت صحبة قفجق إلى ناحية ملطية وقلعة الروم، والفرقة الأخرى صحبة قراسنقر ودخلوا الدربندات، وحاصروا تل حمدون، فتسلموه عنوةً في الثالث عشر من ذي القعدة، بعد حصار طويل، ووقع الإتفاق مع صاحب سيس على أن تكون للمسلمين من نهر جهان إلى حلب، وللأرمن من النهر إلى ناحيتهم، وأن يعجلوا حمل سنتين، ووقعت الهدنة على ذلك بعد ما قُتل خلق كثير من أمراء الأرمن ورؤسائهم.
وقال النويري: وتأخر بدر الدين بكتاش في حلب عن هذه الغزوة لمرض عرض له. وإن تلّ حمدون لما فتحوها كان بها جماعة من نواب القلاع المجاورة لها لقبض مال فلما أطلقهم المسلمون وصل رسول صاحب سيس يقول: إن هؤلاء الذين بتلّ حمدون هم ملوك القلاع، وكلما أردت بذل الطاعة وإرسال الحمول للسلطان خالفوني وعصوني، فإن أنتم مسكتموهم سلموا إليكم القلاع والأموال. فأرسل الأمراء من أدركهم قبل وصولهم إلى مأمنهم وكانوا ثمانية، فقتلوهم إلا واحداً اسمه السرماق صاحب قلعة نُجمية، فإنه لما شاهد الموت أسلم وقال: أنا لي أخ في خدمة السلطان الملك الناصر، وأنا أُسلّم قلاعي إلى السلطان، والتزم له فتح سيس بألفي فارس، فعادت العساكر إلى مصر ووصلوها في المحرم سنة أربع وسبعمائة.
وقال صاحب النزهة: ولما تأخر بدر الدين أمير سلاح في حلب لمرض عاقه عن الذهاب مع العسكر أرسل طلبه صحبة ولده، ودخلت العساكر إلى بلاد سيس وأخربوا الضياع، وأحرقوا جميع المزارع، وأسروا أهلها، وبلغهم أن قلعة تل حمدون قد تجمع فيها جماعة كثيرة من الأرمن، فنزلوا عليها وأقاموا أياماً في حصارها إلى أن فتح الله عز وجل وتسلموها بالأمان، وكان فيها ثمانية من ملوك الأرمن أصحاب القلاع، وكانوا قد أتوها على سبيل زيارة كنيسة فيها، فبلغهم وصول العسكر، فخافوا النزول منها واستأمنوا، فأعطاهم الأمراء أماناً وأمهلوهم يومين، فبلغ ذلك صاحب سيس، فصعب عليه ذلك لكون مثل هذا الحصن يخرج من يده بمكيدة فعلها الأرمن، فأرسل قاصده إلى نائب حلب، وجرى ما ذكرناه آنفاً.
ذكر وفود جنكلى بن البابا إلى السلطان
أحد مقدمي التتار إلى السلطان:(1/441)
قال ابن كثير: وفي هذه السنة ورد إلى الأبواب الشريفة الأمير سيف الدين جنكلى بن شمس الدين المعروف بابن البابا، أحد مقدمي التتار ومعه حريمه وألزامه عدتهم أحد عشر نفراً منهم أخوه نيروز، فأقبل عليه السلطان وأمره طبلخاناة، ثم نقله إلى أمير مائة، وكان مقام المذكور ببلاد آمد، وكان يُكاتب السلطان بالنصيحة، فلهذا عظم شأنه.
قال صاحب النزهة: وفيها ورد مملوك نائب حلب وعرف السلطان أن جنكلى ابن البابا نائب رأس العين سير إليه وكاتبه في الدخول إلى مصر، فكتب السلطان إلى نائب حلب بالركوب إليه وتلقيه والإكرام إليه، وكذلك كتب لنائب دمشق وأن يخهز له الإقامات.
وفي ثالث ذي الحجة منها: قدم جنكلى المذكور، وكان قد جهز حاله وهو في بلاده إلى أن اتفق موت قازان وبلغه ذلك، فوجد الفرصة فركب بمن معه من ألزامه وأقاربه، وأخذ كلّ ما عز عليه، وركب على نية افتقاد ما حوله من البلاد التي يتولاها وقصد الفرات وعدّى، وبلغ ذلك نائب حلب، فكتب إلى بهسني وكختا وسائر النواب بالركوب إليه وإكرامه، وعند وصوله إلى حلب تلّقاه نائبها وأكرمه، وكذلك نائب دمشق إلى أن وصل إلى مصر، وركب الأمير ركن الدين بيبرس إلى لقائه ومعه سائر الأمراء إلى قبة النصر، وأحضروه بين يدي السلطان، وباس الأرض ثم يده، فقّربه وتحدث معه، ووعده بكل خير، ورسم له أن يسكن في القلعة، وعند استقراره رسم للأمير بهاء الدين قراقوش الظاهري أن يذهب ثانياً إلى صفد ورسم بإقطاعه لجنكلى المذكور، وكتب له زيادةً على ذلك مائة ألف درهم، ورسم لأمير على أخو قطلوبك بعشرة، ولنيروز الذي جاء معه تقدمة.
قال ابن كثير: وفيها وصل أيضاً الأمير بدر الدين بأهله من آمد ومعه جماعة إلى مصر، فأقبل عليهم السلطان وأحسن إليهم.
ذكر وصول الرسول من جهة البرشوني الفرنجي
قال ابن كثير: وفيها وصل رسول من جهة الريداكون البرشوني، أحد ملوك الفرنج، برسالة تتضمن الشفاعة في النصارى الذين بمصر ليجروا على عوائدهم، وينعم عليهم بفتح كنائسهم، فقبل شفاعته وفتحت لهم كنيستان بالقاهرة: كنيسة لليعاقبة بحارة زويلة، وكنيسة بالبندقانيين للملكية، وعاد الرسول إلى بلاده، وسيّر صحبته فخر الدين عثمان الأفرمي، فلما وصلا إلى إسكندرية وركبا منها في البحر تفاوضا مفاوضةً أدّت إلى أن رسول البرشوني طرح عثمان من المركب إلى القارب الذي خرج من الميناء، فشيعهم هو وغلمانه، فأقلع من فوره، فرجع فخر الدين عثمان إلى مصر.
وفي النزهة: وصل رسول البرشوني وصحبته هدية حسنة خارجة عن عادته، فإن تناهى في التحف والأشياء المفتخرة من المصاغ والبلور والذهب للسلطان وأرباب الوظائف من الأمراء وغيرهم، فأعجب السلطان والأمراء ذلك، وكان في كتابه سأل أن يحضر إليه رسول من جهة السلطان فإنه اختار أن يشافهه، فرسم بتجهيز فخر الدين عثمان استادار الأمير عز الدين الأفرم، وكان قد تأمر وولي ولاية القاهرة أياماً وعزل، فتجهز وأولع في الطمع حتى اقترض على ذمته نحو ستين ألف درهم غير ما كان في حاصله، واشترى أصنافاً كثيرة من أصناف صالحة لتلك البلاد، ولما فرغ الرسل من التجهيز تمثلوا بين يدي السلطان وباسوا الأرض، وأخرجوا في ذلك الوقت مُلطفاً صغيراً وقالوا للترجمان: إن الملك كان أوصى إليهم أن السلطان إذا قضى حاجته في الكنائس نُخرج هذا الملطف ونعطيه، وإن لم يجب إلى ذلك فلا تعطوه، فلما قُرىء على السلطان وجد في ضمنه أنه طلب بعض الأسرى المحبوسين في مصر، وذكر أن أباه وأمه قد توفيا ولم يبق غير أخته، وأنها قد دخلت على زوجته أن تسأل صدقات السلطان أن يجمع بينها وبين أخيها، فرسم السلطان أن يفك قيد هذا الأسير المطلوب ويُسلم إليهم، ثم كتب لمتولي الإسكندرية بإكرامهم وتسفيرهم، ولما وصلوا إلى إسكندرية باتوا تلك الليلة على نية السفر، وعند طلوع الشمس تغير الهواء وأعاقهم عن الخروج من الميناء، وعندما تضاحى النهار وقعت بطاقة: إن كانت الرسل قد سافروا تحيلوا على ردهم إلى اسكندرية إن أمكن ذلك، وإن كانوا ما سافروا عوّقوهم وخذوا منهم ذلك الأسير الذي فكّ قيده وسُلم إليهم، وأحضروه إلى مصر، ويأذن السلطان بعد ذلك للسفر.(1/442)
وكان الموجب لذلك أن هذا الأمير لما طلب من بين الأُسراء كان قد حصل بينه وبين أحد منهم كلام أوجب التباغض بينهما، اجتمع بمشدّ الأمراء وعرّفه أن له نصيحة يريد أن يُبديها للسلطان، فعرّف المشد بذلك للأمراء وبلغوا السلطان فطلبه، فلما حضر قال: إن هذا الأسير الذي شفع فيه صاحب برشونة وأجاب إليه السلطان ابن ملك كبير في البلاد، وله مال عظيم، ولو طلب السلطان منه ملء مركب ذهباً أعطاه وأعطى أضعافه. فقيل له: كيف أصل أسر هذا وما جرى عليه؟ فقال: هذا كان قد حضر بمركب تجارة إلى مدينة طرابلس وأخذ منها متجراً عظيماً، وتردد إليها مرات، وكان يتردد أيضاً إلى جزيرة أرواد لما كانت عامرة، وجعل له فيها حواصل كثيرة، ولما أُخذت جزيرة أرواد واستولى عليها المسلمون كان هو مقيماً فيها، وأُخذ مع جملة الأسراء وقال: أنا أعرف بلده وأعرف أباه وأمه وما هو عليه من الدنيا الواسعة وأنا أُسرت معه، وتم الأمر علينا إلى هذه الأيام، ولما بلغ والده أن ابنه في قيد الحياة وأنه أسير عندكم، فتحيل ودخل على صاحب برشونة وقدم له هدية عظيمة، وهو الذي أقام بجميع ما جهزه إلى السلطان من عنده ما قيمته أربعون ألف دينار، وكتب صاحب برشونة إلى السلطان بسبب الكنائس وما كان قصده إلا خلاص هذا الأسير، وإنما جعل ذكر الكنائس حجةً وسلماً إلى وصول قصدهم.
فعند ذلك كتب بطائق إلى متولي الإسكندرية، وسيروا بعدها البريد، فسبقت البطاقة، وأراد الله عز وجل أن لا يبلغهم آمالهم، وفسدت الريح إلى أن أدركهم الأمر، فركب متولي إسكندرية في الحال وأخذ الأسير منهم وأعاده للقيد، وسيره صحبة البريد إلى مصر، وعرف رسول صاحب برشونة أن السلطان علم خبر هذا الأسير ورسم أن يرجع إلى مكانه، وسافروا أنتم، فلم يمكنهم الكلام بعد ذلك، وعلموا أن الذي جاءوا بسببه لم يتم لهم، وخشيوا عاقبة أمرهم، فأقلعوا من وقتهم وسافروا.
ولما بعدوا عن إسكندرية تشاوروا فيما بينهم في أمر الرسول الذي معهم من جهة السلطان، فاتفقوا على أن يأخذوا جميع ما معه من جهة السلطان، ثم يقتلوه ويسافروا، فتصدى شخص من عقلائهم فقال: قتل الرسول ليس بجيد وأيضاً إذا قتلناه نخشى عاقبة ذلك، وربما يصعب ذلك على الملك أيضاً، وصاحب مصر لا يُعاند، فعند ذلك اقتضى رأيهم أن يأخذوا جميع ما معه ويردّوه إلى إسكندرية، ولما انتظم الأمر بينهم على ذلك قاموا إليه وأخذوه وحده ووضعوه في قارب، وكان رجلاً ضخماً وقالوا له: رُح إلى مكان جئت منه، فلو كان قتل الرسول جائزاً لقتلناك ورميناك في البحر، فسألهم أن يردوا عليه شيئاً من ماله فإنه أخذه بالدين، فأبوا أن يردوا عليه شيئاً، وقالوا: هذا بعض ما جبناه إلى ملككم، وأقلعوا، ورجع هو بالقارب إلى الإسكندرية وليس معه سوى ما عليه من القماش، فجهزّه متولي الإسكندرية إلى القاهرة، وكتب إلى السلطان وعرفه بخبره، ولما وصل إلى مصر دخل إلى الأمراء وشكى حاله فقال: إني تداينت أموالاً كثيرةً على ذمتي وأُخذ جميعها، وبكى بين أيديهم، فكان جواب سلاّر: نحن سيرنا رسولاً ما سيرنا تاجراً، وأرسلوا إلى متولي الإسكندرية وأمروا له بأن يحتاط على من عنده من الإفرنج التجار وغيرهم من برشونة، وإن لم يكن عنده أحد منهم يترقب حضورهم، فإذا حضر أحد منهم يعرف الأبواب الشريفة بذلك.
ذكر بقية الحوادث في هذه السنة
منها: أنه ولد للملك الناصر ولد من زوجته أردكين خاتون بنت الأمير سيف الدين نوكيه السلحدار الظاهري، وسماه عليّاً ولقبّه علاء الدين، ثم لُقبّ بعد ذلك بالملك المنصور، وكانت هي زوجة أخيه الملك الأشرف رحمه الله.
وقال صاحب النزهة: وعملت له الأمراء مهماً كبيراً وفرحوا به، وقصد السلطان أن يقيم عنده المغاني سبعة أيام فلم يوافقه الأمراء على ذلك وعملوه يوماً واحداً.
ومنها: أنه ارتفع سعر الغلال بالديار المصرية فبلغ الأردب من القمح إلى أربعين درهماً فما فوقها، ثم أخذ في الانحطاط.
ومنها: أنه وقع الموتان في الحيوان بحلب والشام وأعمالها، فقيل إن الذي نفق منها يناهز ثمانين ألف رأس.
قال بيبرس: ووصلت ريح الوباء التي أصابتها إلى الديار المصرية، فنفق من خيول العسكر شيء عظيم.(1/443)
ومنها: أنه وقع ببلاد قاقون وغزة والساحل وما حولها جراد لا يحصى كثرة فجمع الفلاحون منه شيئاً كثيراً، ولم يؤذ الزروع وغيرها.
ومنها ما قال بيبرس في تاريخه: وفي هذا العام شملني الإنعام بأن رُشحت بحمل الجتر السلطاني في المواكب، وهي وظيفة معزوقة بذوي المراتب، فشكرت الله تعالى على ذلك.
ومنها: أن القاضي صدر الدين بن المرحل قدم من دمشق إلى القاهرة، ومعه كتاب نائب الشام إلى الأمير ركن الدين بيبرس، والأمير سيف الدين سلار نائب السلطان، بسبب وظائف كانت بيده وخرجت عنه، وكان هذا الرجل مشهوراً بالفضيلة، والشعر الحسن، والمنادمة الحسنة، وله شهرة بشغفه الشراب، ومنادمة الأكابر، وبهذه الأشياء اتصل بنائب الشام حتى كتب معه في حقه، ولما اجتمع الأمير بيبرس اتفق مبيته عنده تلك الليلة.
قال الراوي: فحكى لي شمس الدين البلخي المؤذن شيئاً من بعض لطائفه، أنه لما بات عند الأمير بيبرس تلك الليلة أحضر إليه الأمير بيبرس بعد العشاء سلطانية كبيرة ملآنة بالسكر وماء الليمون مع بعض السقاة، وكان ذلك الساقي تركياً صاحب وجه حسن، ولكنه كان أجروداً كبيراً في العمر، فلما ناوله المشروب أخذه منه وبهت في وجهه زماناً، ثم التفت إليّ وقال: يا شمس الدين إن هذا شاب مليح. قال: فقلت له: يا مولانا لا يغرك نظر الشمع، هذا كبير ولكنه أجرود، ومع ذلك يا مولانا هو رجل مأبون ما منه خلاف، فقال: وإلي الآن، قلت له: نعم، فشرب منه فأنشأ يقول:
شاب قلبي بشاب من سنى البدر أوجه ... كلما شاب ينحني بيّض الله وجهه
ثم أنه حصل له ما طالع به نائب الشام، فكتب له توقيع بالعدراوية، ودار الحديث، وخطابة الجامع الأموي والإمامة، ثم سافر إلى دمشق، وأوقف نائب الشام على توقيعه، فعلّم عليه، وكان الخطيب إذ ذاك الشيخ شرف الدين الفزاري، وكان قد تولى الخطابة بحكم وفاة الشيخ زين الدين الفارقي.
وكان الناس فرحوا بتولية الشيخ شرف الدين الخطابة لكونه من أهل الصلاح والدين والعلم، فلما بلغ أهل دمشق أن صدر الدين المذكور قد تولى هذه الوظائف المذكورة تعصبوا عليه، واتفقوا أنه إذا حضر وأراد أن يخطب لا يصلون وراءه، وكان حضوره من القاهرة يوم الأربعاء، فصبروا عليه إلى أن كان يوم الجمعة، اجتمعت أكابر دمشق مثل: كمال الدين ابن الزملكاني، وإمام الدين القزويني، وعلاء الدين بن العطار، والشيخ علي الكردي، والشيخ تقي الدين بن التيمية، وأصحابه، وقاضي الشافعية، وقاضي الحنفية، ومنعوا الناس عن سماع خطبته والصلاة خلفه، وكان نائب الشام ركب إلى الجامع للصلاة، فرأى المدينة قد انقلبت إلى أن دخل الجامع، وخرج الشيخ صدر الدين وهو لابس حلة الخطابة، وما لحق أن يصعد المنبر حتى صاحت الناس في وجهه، وخرجت جماعة، فخرجوا من الجامع وهم يصيحون ويقولون: أين الإسلام؟ كيف يجوز أن يكون هذا الرجل خطيب المسلمين وإمامهم، وصدر الدين لم يعلم ما يقال من قوة غلبة الناس والصياح، وما صدّق نائب الشام فراغه من الصلاة وسكون الحال حتى خرج وركب إلى دار السعادة، فحضرت إليه القضاة وابن تيمية والمشايخ، وقد نظموا محضراً على صدر الدين، وشهدوا عليه فيه أنه رجل فاسق يشرب الخمر، وأن الصلاة خلفه لا تجوز، وقرىء المحضر بحضرته.
ورأى نائب الشام أنه لا يقدر على دفع هؤلاء، وعرف أن هذا الأمر لا يتم لصدر الدين، فمشى في طوعهم، وقال: أنا ما وليت هذا الرجل، وإنما جاب توقيعاً سلطانياً، وأنا امتثلت ما رُسم به، وعلّمت على توقيعه، وأنا أطالع السلطان فيه، فمهما رسم به اتبعناه، وكتب من وقته وعرّف للسلطان وللأمراء ما وقع من الأمر، وبقي صدر الدين يصلي بالجامع، ولكن أكثر الناس لا يصلون وراءه، ويصلون في الكلاّسة وغيرها إلى أن ورد الجواب أن يتبع ما يقوله القضاة وأهل الشرع، فإذا لم يختاروا صدر الدين يستقر من كان قبله، فطلب نائب الشام أكابر دمشق والقضاة، واستقر بشرف الدين الفزاري في الإمامة والخطابة، وهرعت الناس إليه، وكان حسن الصوت، فخطب خطبة في العزل والولاية، وكان يوماً مشهوداً.
ذكر ما اتفق لناصر الدين الشيخي مع الدواوين وتوليته الوزارة(1/444)
كان ناصر الدين هذا متولي القاهرة، ثم انتقل إلى ولاية الجيزية، ففي ولايته على الجيزية تعاظم على الوزير وعلى المباشرين لقوة حرمته، وما كان أحد منهم يجسر عليه، وقلّ متحصل أرباب الأقلام في أعمال الجيزة، فاتفق رأيهم مع الوزير أن يثبتوا في حقه وفي حق مماليكه أموالاً سلطانية، فسعى الوزير عند نائب السلطان سلاّر في أمره، لأنه كان يعلم أن سلار يكره ناصر الدين الشيخي، فقرر معه أن يحضر الأمراء عند النائب، ويحضر المباشرون، ويطلبون ناصر الدين وينظرون في أمره، فلما أصبحوا طلبوا ناصر الدين وسائر الدواوين والنظار، وشرعوا في المحاققة، وكان التاج الطويل مستوفي الدولة حاقق معه كثيراً، وكلما سألوه فصلاً من الأموال أجاب عنه ناصر الدين، وإذا أنكروا المصروف أخرج لهم خصمه بالشواهد، فأبطل كلامهم وأدحض صحتهم، فتزايد الكلام بينهم إلى أن قال التاج الطويل: يا ناصر الدين مال السلطان ما يؤخذ بالفجور. فقال ناصر الدين: ويلك أنتم أكلتم مال السلطان، وأنتم تقاسمتموه، ثم نهض واقفاً، ثم قال للأمراء: وحق نعمة السلطان هؤلاء هم الذين أكلوا مال السلطان، فسلموني إياهم آخذ منهم ثلاثمائة ألف دينار للسلطان، واكتب خط يدي بذلك. فقال له التاج الطويل: يا ناصر الدين بقيت تأمر وتنهي، لو طلعت رأسك إلى السماء أنت عندي ضامن بتقارير مكتوبة عليك مثل سائر الضُمان، فلما سمع بيبرس بذلك غضب فقال: والك ما كفى كذبكم حتى تجعل أميراً من أمراء السلطان مثل الضامن الذي يأكل المقارع؟ والله ما يأكل مال السلطان غيركم يا مناحيس يا كلوب، فنهره وأشار بقيامه من المجلس.
وكان في المجلس من الأمراء: الأمير سيف الدين سلاّر، والأمير برلغى، والبغدادي، وأيبك الخزندار، وبكتمر الخزندار، وغيرهم، فلما رأوا أن بيبرس مال عليه، وشدّ من ناصر الدين، مالوا معه عليه، وشدوا من ناصر الدين، ثم التفت إلى ناصر الدين وقال له: اعلم ما تقول إنك تحمل من جهتهم المبلغ الذي ذكرته. قال: نعم يا خوند وأكثر مما قلت، ثم قال الأمير بيبرس للوزير والحجاب: اجمعوا جميع الدراوين وسلموهم له يفعل فيهم ما يختاره، ويطالبهم بالحساب والمال، وإذا لم يقم بالذي قاله أخذته من أجنابه.
وما بقي مستوفي ولا كاتب ولا متصرف ولا معين ولا مشد حتى سُلّم إليه، غير القاضي تاج الدين بن السنهوري، والقاضي شهاب الدين بن الواسطي، فإنهما كانا ناظرين في ذلك الوقت، وكانا محترمين لأمانتهما.
ولما جمعهم ناصر الدين عنده طلب منهم حساب ثلاث سنين، ورسّم عليهم، وضيّق عليهم، وخصوصاً على التاج الطويل فإنه أهانه ونكل به، فما مضى عليهم أيام يسيرة حتى أظهر في حقهم أموالاً كثيرة من حاصل الأهراء والقنود والدواليب وغيرها، وعرف الأمراء بذلك، وقام معه بن سعيد الدولة وعرّف الأمير بيبرس في الباطن أن ناصر الدين ظهر عليهم، وكان كلامه عند بيبرس مقبولاً، فتحدث بيبرس مع سلار والأمراء، وشكر من فعل ناصر الدين، فرسموا له باستخراج الأموال منهم وعقوبتهم، فعند ذلك شدّ عليهم ناصر الدين، فشرعوا في تحصيل الأموال وتبع موجودهم، ثم سعوا عند أكابر الأمراء حتى دخلوا على ناصر الدين بأن يلطف في أمرهم، وحذّره بعض الناس أيضاً عاقبة أمرهم، وعرف ناصر الدين للأمير بيبرس أنه حمل من جهتهم لبيت المال ثلاثمائة ألف درهم، وهي التي وجد لهم.
فحاصل الأمر لما كثر عليه الشفاعات رسم بالإفراج عنهم، وأعيدوا إلى مباشراتهم ووظائفهم، وكان الوزير هو الأمير عز الدين البغدادي، وكان بينه وبين ناصر الدين وقعة كبيرة بسبب المباشرين وما جرى عليهم، وأراد أن يعزل نفسه عن الوزارة، ولم يجد سبيلاً لذلك، غير أنه سأل أن يحج في خدمة الأمير سيف الدين سلار، وكان سلار في تجهيز الحج، فأجيب إليه، فعلم ناصر الدين بذلك فسعى بواسطة الأمير سيف الدين بكتمر أمير جندار، وسيف الدين برلغى، وسيف الدين بينجار، وبالأمراء الذين يُسمع كلامهم عند سلاّر، وأهدى إلى كل واحد من هؤلاء ما يناسبه، وحصل لهم بلاد في الجيزيّة بالإجارة من ديوان السلطان، وعمل لهم سواقي وغير ذلك، حتى ملأ أعينهم، ثم استعمل الأكواز الفضة والذهب، والسلاسل الذهب والفضة، وما يناسب سفر الحاج لمثل سلاّر نائب السلطان، وحصل، وكان في ذلك الوقت لا يوجد، وغير ذلك من الأشياء الحسنة وقدّم الجميع لسلار.(1/445)
وكان سلار يكرهه لقربه من بيبرس وتعرضه للأمراء، ومع ذلك لما نظر إلى ما قدمه أعجبه ذلك، وأراه البشاشة والقبول، وشكره على ذلك، ثم بعد أيام خاطبه الأمير سيف الدين برلغى، والأمير سيف الدين بكتمر أمير جندار، وغيرهما، وقالوا: يا خوند من تعملون وزيراً وأنتم تسافرون بخير وسلامة. فقال: النُظار يتحدثون إلى حين نعود من الحج. فقال بكتمر الجوكندار: أنا أعرف واحداً يصلح للوزارة. فقال: من؟ قال: ناصر الدين الشيخي، فلما سمعه أحمرّ وجهه وظهر فيه الغضب. وقال: يا أمير ما يكفي ما سمعنا في حقه حتى نعمله وزيراً.
وبقي الأمير على ذلك إلى أن خرج الحاج، وتأخر الأمير سلاّر خلف الحجاج قليلاً، ففي يوم خروجه جاء إليه الأمير برلغى، وبكتمر الجوكندار، وطغلق، وتباكز، وجماعة آخرون من الأمراء، وسألوه أن يقبل شفاعتهم، وتولى ناصر الدين الوزارة إلى أن يحضر الأمير من الحجاز، فإذا حضر بخير وسلامة ووجده قد حصل من الأموال ما يرضيه يُبقيه وإلا فعل فيه ما يختاره، فقام برلغى وباس يده، وكذلك الجوكندار، وساعدتهما الأمراء الحاضرون ممن كان يتعصب لناصر الدين، فعلم الأمير سلار أنه لا يمكن ردّ كلامهم، ولا يفيد التعلل بعد وقوف هؤلاء، فأجاب إلى سؤالهم ورسم بكتابة توقيعه، وأحضروه، وباس يده، وما جاء آخر النهار حتى كُتب التوقيع، وفُصّلت له الخلعة، ولما أحضروا توقيعه قام الأمير سيف الدين برلغى وأخذ الدواة، وأخذ الأمير بكتمر الجوكندار المرملة، والأمير سلار ينظر إليهم وهم معتنون بأمره، ولكن قلبه يكره ذلك، فعلم على توقيعه وألبسوه الخلعة، وحضر ليبوس يده، فالتفت إليه والأمراء حاضرون وقال له: اسمع يا ناصر الدين أنا أقول لك قدام هؤلاء الأمراء: تعرف أشْ كنت وأين وصلت؟ وما أوصلك إلى هذه المنزلة سيفك ولا رمحك ولا فروسيتك؟ وإنما أوصلك شطارتك ومعرفتك وأمانتك، وأنا ما يمكنني أن أخالف هؤلاء، وإياك إذا حضرتُ من الحجاز أسمع عنك أنك ظلمت أحداً من الرعية، أو جددت ظلماً، أو أحدثت حادثاً، أو خنت في مال السلطان، فأسلخ جسد جنبك بالمقارع. فقال: يا خوند: ما يكون إلا ما يبيّض وجهي عندك، وباس يده وخرج من عنده، وهو طائر من فرحه بما نال، وما علم أن ليس لإرتقاء هذه الدرجة بقاء، ويصير ذلك التنعم إلى شقاء، وكل من تعدى درجته سقط، ومن استعلى على أبناء جنسه هبط.
وقال الشاعر:
ومن طلب العلياء ولم يك أهلها ... تُرجّله الأيام لو كان راكبا
قال الراوي: ولما خرج ناصر الدين من عند سلار نظر إليه من ورائه نظر المغضب، ومسك لحيته بيده وقال: يا قواد إن عشت ورجعت إن لم أقتلك تحت المقارع فلا يكون اسمي سلار.
ثم إن ناصر الدين جلس في دست الوزارة وحكم، وركب في اليوم الثاني في موكب عظيم، ثم طلب سائر المباشرين والولاة، فعزل ناساً وولى آخرين، ومدحته الشعراء مثل شهاب الدين الأعزازي، وشرف الدين القدسي، وغيرهما، فأحسن إليهم، وكان فيه كرم وأريحية، وسكن في دار الحاج بهادر آص المجاورة لمشهد الحسين رضي الله عنه، لأنه كان تزوج بزوجته، وكان إذا نزل من القلعة ينزل في حفدة كثيرة، وجميع أرباب الوظائف في خدمته إلى أن يصل إلى داره، وكانوا يترجلون له من بعيد حتى عز الدين الأشقر مشد الدواوين، والأمير بدر الدين المحسني متولي القاهرة، وكل منهما يعضده ويُنزله، ولا يلتفت إلى أحد منهم، وكان يفعل فعل من لا يفتكر في عاقبته، ومن غر بدنياه وسلامته، وسنذكر ما جرى عليه إن شاء الله تعالى.
ذكر وفاة قازان بن أرغون
بن أبغا بن هلاون بن طولو بن جنكزخان في الثالث عشر من شوال منها:
قال بيبرس في تاريخه: وفيها، أي في سنة ثلاث وسبعمائة، اتفقت وفاة قازان ملك التتار بمقام جبل من نواحي الري، وذلك أنه لما بلغه انكسار جيوشه، واقتناص وحوشه، فاعتورته الهموم، واستولت عليه الغموم، ثم وصلت إليه صُبابات عسكره المغلول، مشمولة بالذلة والخمول، فسقط في يده، وفتّ ذلك في عضده، فمرض بحمى حادة، كان بها الحمام موصولاً، والحتف مقروناً، فمات مكموداً، وما نال مقصوداً، وأدركه الردى، وكفى الله شر العادي والعدى، وكانت مدة مملكته ثمان سنين وعشرة أشهر.(1/446)
وقال ابن كثير: توفي قازان بالقرب من همدان ونُقل إلى تربته بتبريز، بمكان يُسمى بالشام، ويقال: إنه مات مسموماً، والله أعلم.
وفي نزهة الناظر: لما حصل من كسر عسكر قازان ما حصل، وما عدم من أمرائه وأكابر المغل لم يطق ينظر إلى وجه بقية أمرائه ولا يتحدث معهم، وعزل نفسه عن النوم مع أزواجه، وصار كلما ركب يجد في أي مكان يجوز عليه أو ينزل عزاءً وبكاءً وتعديداً على من عدم من أهله، واشتاع بين نساء المغل أن قازان هو الذي قتل هؤلاء لأنه ما كانت عادة المغل أن يدخلون الشام بغير ملك، ومتى كان للمغل عادة بالدخول إلى بلاد الإسلام.
واتفق في هذه الأيام وصول خبر من كيلان أن نائبه قطلوشاه قتل هو وأميران معه من أمراء المغل وجماعة من الذين كانوا معه، فازداد ناراً على نار وحرقة على حرقة، ولا سيما اشتاع الخبر بين نساء المغل وبقية العسكر أن أحداً من ملوك المغل لم يظفر بأخذ هذا المكان، وكانت عادة الملوك من المغل إذا أرادوا هلاك أحد من أمرائهم أرسلوه إلى هذا المكان، فلا بد وأن قازان سير قطلوشاه إلى هذا المكان ليُقتل هناك والجماعة الذين معه، ولما سمع بذلك قازان ازداد غيظاً في نفسه وانطلقت نيران في كبده بسبب ما اتفق لعساكره، وبقي متحيراً لا يدري أي جهة يقصد إلى أن قوي عزمه على جمع العساكر ليغزو بلاد الإسلام، ثم يتوجه إلى بلاد كيلان، وطلب وزراءه وأمرهم أن يحصلوا أموالاً لأجل النفقات.
ولما سمع الأمراء بذلك أرادوا أن يسألوه أن يؤخر الغزاة في هذه السنة، ولم يجسر أحد على الكلام معه.
ووجد قازان في نفسه من الانحصار وضيق الصدر، فطلب حكيماً وعرّفه بحاله. فقال له: إنه يصلح للملك الركوب والتنزه، وأمر بالتجهز إلى الري، وما وصل إليها إلاّ وقد أحسّ في جسمه بالألم.
فمن الناس من أخبر أنه مات من دُبلة على قلبه.
ومنهم من أخبر ان أمراء المغل اتفقوا مع امرأة غازان على إهلاكه وقالوا لها: إن الملك يريد إفناء المغل، ثم يدخل عسكر مصر وسلطانها إلى هذه البلاد ويخربوها، وإن القُصاد حضروا من مصر وعرفوهم بذلك، وإن سلطان مصر عزم على أن يفعل بهذه البلاد ما فعله قازان ببلادهم، وجهزوا لها فصوصاً مثمنةً وجواهر مقوّمة على أن تسقيه شيئاً يمرض به، ليشتغل بنفسه عن الركوب، ولم يزالوا بها إلى أن وافقتهم على ما اختاروا، وكان قازان يحب زوجته محبة عظيمة، واسمها بلغان خاتون، فصنعت له شيئاً من السموم في مشروب وسقته.
ومنهم من يقول: إنها سمته في منديل الجماع، فسقطت محاشمه بعد أيام. وحُمل إلى تربة كان صنعها على مرحلة من تبريز، فسّماها دمشق الصغيرة، وعمّر فيها عمارات عظيمة، وأوقف عليها أوقافاً كثيرة.
ذكر جلوس خربندا أخ قازان في السلطنة بعده
قال بيبرس في تاريخه: جلس خربندا أخو قازان في السلطنة، ولُقبّ غياث الدين محمد، وله من الأولاد: أبو يزيد وبسطام.
وقال ابن كثير: وكان جلوسه على سرير المملكة بتاريخ الثالث والعشرين من ذي الحجة، ولُقبّ أولجاتو سلطان، ولقب أيضاً غياث الدين محمد، وخُطب له على منابر العراق، وخراسان وتلك النواحي.
وقال صاحب النزهة: وكان خربندا في جهة الروم، وكان قازان أرسل إليه ليحضر عنده، فحضر قبل وفاة أخيه، ولما تولى رسم لعسكره الذي جمعه قازان أن يذهب كل أحد منهم إلى مكانه، ثم طلب رسل السلطان الملك الناصر الذين عوقهم قازان عنده من يوم أرسلهم الناصر فأكرمهم وأنعم عليهم، ورسم بتجهيزهم، وتجهيز رسول من جهته صحبتهم، ليسعى بينه وبين السلطان بالودّ والمحبة وبرد الجواب.
ذكر خروج السلطان إلى الصيد والتنزه(1/447)
وفيها قصد السلطان الصيد والفرجة، وطلب الأمير ركن الدين بيبرس وعرفه أن صدره ضيق وأنه يختار أن يتصيد نحو البحيرة، فأجاب إليه، وسيّر وراء ناصر الدين الشيخي الوزير وعرّفه أن السلطان يقصد الخروج إلى الصيد نحو البحيرة، وأمره أن يجهز الإقامات، فقال له الوزير: يا خوند ما لهذا الأمر إلا أن يخرج المملوك بنفسه بهذا السبب، وأيضاَ أريد أن أكشف أحوال الإسكندرية وما يتحصل منها، وللسلطان فيها مصالح، فرسم له بذلك، وكتب لسائر الولاة بتجهيز الإقامات، ثم خرج الوزير والمباشرون معه قبل خروج السلطان، ووصل إلى الإسكندرية، وخرج إليه الأمير بدر الدين أمير شكار وتلقاه، فلم يكرمه الوزير، ولم يُرَوْ له وجهاً، وكان الأمير بدر الدين هذا له حرمة عند سائر الأمراء وتقدم في الدولة، وله وصلة بالأمير سلار والأمير بيبرس، فلما رآه تكبر عليه لم يلتفت إليه، ورجع إلى الإسكندرية، وشرع ناصر الدين في طلب الدواوين والحُسّاب، وطلب التجار وقصد العسف بأهلها، فلم يمكنه أمير شكار من ذلك، وأرسل إليه ناصر الدين يقول له إن أموال السلطان ضائعة وأنت تمنعني من استخراجها، وأرسل إليه أمير شكار يقول له: إن قصدك أن تخرب الإسكندرية وترميها في رقبتي، فاصبر إلى أن يجيء نائب السلطان وهو الذي تسلمتُ منه هذا الثغر فيتسلمه مني.
وفي أثناء هذه المفاوضة وصل مركب من تجار الإفرنج فيه بضائع كثيرة وتجارة عظيمة فيها الموجب للسلطان أربعون ألف دينار، فتحدث فيها ولم يعارضه أمير شكار فيها.
واتفق وصول السلطان على تروجة، فطلب ابن عبادة وهو وكيل السلطان، فقال له: أبصر لي دراهم ترسلها إلى الإسكندرية يُشترى بها هدية، فقال يا خوند: ما ثم الآن حاصل، فقال له: اقترض من أح من التجار ونحن نوفيه.
فركب ابن عبادة إلى أن وصل قريب إسكندرية، فوجد الوزير نازلاً بخيمة فما أمكنه أن يتعداه، فنزل وسلم عليه، فرحب به وأكرمه، وسأله إش قصده؟ وعرفه ما سأله السلطان، وما هو فيه من قلة النفقة، وحاله ضعيف، وأن الأمراء ما يدعون له تصرفاً ولا له خزانة.
وكان ناصر الدين ناظراً إلى حال السلطان مُلتفتاً إلى القرب منه، لأنه لما كان والي مصر، كان الأمراء رسموا له أن يكبس بيوت المنجمين، ويأخذ كتبهم وأوراقهم، لأنه بلغهم أنهم أخبروا أن الملك الناصر تطول أيامه وأنه يقتل الأمراء، ولما وقف ناصر الدين على كتبهم وأوراقهم وجد فيها أن الناصر يصلح شأنه جداً في آخر دولته وتطول أيامه، فلذلك كان ناصر الدين يتقرب إليه حتى تكون له منزلة عنده، ولما سمع كلام ابن عبادة قال يا مولانا: ملك مصر لا يجد لنفسه شيئاً حتى يقترض، ثم قال له: ارجع إليه وعرفه أن عندي ألفي دينار حاصلة، فإن كان السلطان يأذن لي أجيء إليه وأحضرها له، وقل له: إني أحق بجميع ما يختاره السلطان، فركب ابن عبادة وجاء إلى السلطان وأخبره بما جرى، ففرح بذلك فرحاً كثيراً.
وفي اليوم الثاني حضر ناصر الدين، ودخل على السلطان، وباس الأرض، وأجلسه بين يديه، ورحب به، وشرع السلطان يقول له ما هو فيه مع الأمراء من قلة نفاذ الكلمة وقصر اليد، فقال ناصر الدين: يا مولانا السلطان مهما تحتاج إليه عرفني به أحمل إليك، ولا تتكل على الطلب من الأمراء، وطول روحك يا خوند فإن الأمور مصيرها إليك، وجسّر السلطان على الأمراء، وهون أمرهم عليه، ثم نهض من عنده.
وكان هناك أصحاب النوبة والجمدارية، فسمعوا ما جرى بينه وبين السلطان، ثم إن السلطان أقام هناك أياماً، ثم رجع إلى المدينة، وكذلك ناصر الدين رجع إلى المدينة، بعد أن حصّل مالاً جزيلاً، وذهباً كثيراً، وكساوي هائلة، وبلغ الأمير ركن الدين بيبرس جميع ما جرى له مع السلطان، وأضمر في نفسه، ثم إن ناصر الدين عرّف بيبرس أن أمير شكار قد غلب على إسكندرية، وحصّل منها أموالاً عظيمةً، وكانت إسكندرية في ذلك الوقت ليس فيها للسلطان إلا شيء قليل، وكان فيها متجر وبيع وشراء لسائر الأمراء مثل سلار وبيبرس والجوكندار وبرلغى وغيرهم.
وفيها: بلغ النيل المبارك بعد وفائه إلى ستة عشر ذراعاً وستة عشر إصبعاً، وكان قد توقف في أوائل الأمر، وتحسن فيه سعر الغلة.
وفيها توجه سلار إلى الحجاز الشريف بعد رحيل الركب المصري بأيام قلائل، وحج صحبته من الأمراء: الأمير عز الدين أيبك البغدادي.(1/448)
والأمير شمس الدين سنقر الكمالي الحاجب.
والأمير علم الدين سنجر الجاولي الأستادار.
والأمير سنقر الأعسر.
والأمير سيف الدين كوري الصالحي السلحدار.
والأمير سيف الدين سودي.
والأمير سيف الدين الملك الجوكندار.
والأمير بدر الدين بكتوت الشجاعي.
والأمير بدر الدين بكتوت القرماني.
والأمير نظام الدين آدم.
والأمير علاء الدين علي.
والأمير سيف الدين سموك.
والأمير سيف الدين أدكاون الحسامي.
والطواشي شهاب الدين بن مرشد الخزندار.
وآخرون من الأمراء جملتهم خمسة وعشرون أميراً، وحجوا وتوجهوا من المدينة النبوية إلى القدس الشريف، فقدّسوا حجهم، والتحقوا بالركب، ودخلوا المدينة صحبة سلار.
وكان الذي حج بالركب المصري فيها سيف الدين الناق الحسامي، وجهز سلار في البحر عشرة آلاف أردب قمح برسم الصدقة، وجهز سنقر الأعسر ألف أردب، وكل أمير منهم سيّر على قدره لأجل الصدقة، وتصدقوا، وانتفع أهل الحرمين والمجاورين بها نفعاً كثيراً.
ذكر من توفي فيها من الأعيان
الشيخ القدوة الورع أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد بن معالي بن محمد ابن عبد الكريم الرقي الحنبلي.
ومولده بالرقة في سنة سبع وأربعين وستمائة، اشتغل وحصل وسمع شيئاً من الحديث، وقدم دمشق فسكن بالمأذنة الشرقية في أسفلها، بأهله، إلى جانب الطهارة بالجامع وكان معظماً عند الخاص والعام، فصيح العبارة، كثير العبادة، خشن العيش، حسن المجالسة، لطيف المفاكهة، كثير التلاوة، عارفاً بالتفسير والحديث والفقه والأصلين، وله مصنفات وخطب وشعر حسن، وفي عمره ما أكل شيئاً من الوقف، وكان يعرض عليه المناصب فلا يتولى شيئاً، وكانت له رياضات ومجاهدات، وكانت وفاته بمنزله ليلة الجمعة الخامس عشر من المحرم، وصلَى عليه نائب السلطان وأكثر أهل البلد، ودفن بسفح قاسيون بتربة الشيخ أبي عمر، رحمهما الله.
الخطيب ضياء الدين أبو محمد عبد الرحمن بن الخطيب جمال الدين أبي الفرج عبد الوهاب بن علي بن أحمد بن عقيل العقيلي السلمي.
خطيب بعلبك نحواً من ستين سنة، بعد والده، وكان مولده في سنة أربع عشرة وستمائة، سمع الكثير، وتفرد عن القزويني، وكان رجلاً جيداً حسن القراءة، من كبار العدول، توفي ليلة الإثنين ثالث صفر، ودفن بباب سطحا.
الشيخ زين الدين أبو محمد عبد الله بن مروان بن عبد الله بن الحسن الفارقي، شيخ الشافعية.
ولد سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وسمع الحديث الكثير، واشتغل، ودرَس في عدَة مدارس، وأفتى مدة طويلة، وهو الذي عمر دار الحديث بعد خرابها من زمن قازان حين احترقت، وقد باشرها سبعاً وعشرين سنة، من بعد النووي إلى حين وفاته، وكانت معه الشامية البرانية، والخطابة، وإنما باشر الخطابة تسعة أشهر قبل وفاته، وقد انتقل إلى دار الخطابة، وكانت وفاته بها يوم الجمعة بعد العصر، وصلَى عليه ضحى يوم السبت القاضي ابن صصرى عند باب الخطابة، وبسوق الخيل قاضي الحنفية ابن الحريري، وعند الجامع بالصالحية قاضي الحنابلة تقي الدين سليمان، ودفن بتربة أهله شمالي تربة الشيخ أبي عمر، رحمه الله.
الشيخ حسن بن السراج الحلبي - من قرية باب الله - المقرىء، وكان هو الملقن بالكلاسة، وكان مجتهداً على التلاوة، وعمر حتى انحنى كثيراً زائداً عن حد الركوع، مات في هذه السنة ودفن بمقبرة باب الصغير.
الصدر كمال الدين موسى بن قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان.
مات فيها بقاسيون، ودفن عند والده، ومولده سنة خمسين وستمائة، وكان عاقلاً ذكياً ذا مروءة.
الشيخ الصالح الزاهد بدر الدين علي بن محمد السمرقندي الحنفي.
شيخ خانقاة خاتون، وشيخ الخانقاة الشبلية، مات في هذه السنة ودفن بقاسيون، وكان ديناً، متنعماً، يلبس الرفيع من الثياب الحسان، وعنده تجمل ومكارم أخلاق.
الصاحب الوزير الصدر الكبير فتح الدين أبو محمد عبد الله بن محمد بن أحمد ابن خالد بن محمد بن نصر القرشي المخزومي، المعروف بابن القيسراني الحلبي.(1/449)
كان شيخاً جليلاً، ديناً فاضلاً، شاعراً مجيداً، من بيت الرئاسة والوزارة، وولي وزارة دمشق مدة، ثم أقام بمصر موقعاً مدة، وكان له اعتناء بعلوم الحديث وسماعه وإسماعه، وله مصنف في أسماء الصحابة الذين خرج لهم في الصحيحين، وأورد شيئاً من أحاديثهم في مجلدين موقوفين بالمدرسة الناصرية بدمشق، وقد خرج عنه الحافظ الدمياطي، وهو آخر من توفي من شيوخه، وتوفي بالقاهرة يوم الجمعة الحادي والعشرين من ربيع الآخر، وأصلهم من قيسارية الشام، وكان جده موفق الدين أبو البقاء خالد وزيراً لنور الدين الشهيد، وكان والده عز الدين وزير الملك الناصر صاحب دمشق، وكان من الكتّاب المجيدين، توفي في الأيام الصلاحية سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، وأبوه محمد بن نصر، ولد بعكا قبل أن يأخذها الفرنج سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، فلما أخذت بعد التسعين وأربعمائة انتقل أهلهم إلى حلب، فكانوا بها.
وكان شاعراً مطيعاً، وله ديوان مشهور، ومعرفة جيدة بالنجوم والهيئة، وغير ذلك، ومولده سنة ثلاث وعشرين وستمائة، ودفن بتربته بجوار مشهد السيدة نفيسة رضي الله عنها.
ومن نظمه:
بوجه معذبي آيات حسن ... فقل ما شئت فيه ولا تُحاشي
ونسخة حسنة قُرئت وصحت ... وها خط الكمال على الحواشي
وله في مليح بوجهه أثر:
قالوا بوجه الذي أحببته أثر ... يشينُه فأنئذ في الوصف والقصر
فقلت قد جاء بالآيات ظاهرة ... قس حُسنه وهي تُغنينا عن الأثر
فكان كالشمس لكن خاف يوصف ... بالتأنيث يوماً فحاكى صورة القمر
القاضي الإمام شمس الدين سلمان بن إبراهيم بن إسماعيل الحنفي الملطي.
كان نائباً في الحكم مدة طويلة بدمشق عن قاضي القضاة حسام الدين الرازي الحنفي، وناب أيضاً بالقاهرة عن السروجي، وكان رجلاً مباركاً ديّناً صالحاً، مات بدمشق فيها، ودفن بقاسيون.
القاضي علاء الدين علي بن عبد الرحيم بن مراجل الكاتب.
كان ماهراً في صناعة الكتابة والحساب، ويعرف بلسان التركي، وعند فضيلة تامة، وأدب حسن، وهو والد الصاحب تقي الدين سليمان بن مراجل، مات في السادس عشر من ذي القعدة.
ومن نظمه:
أأحبابنا شوقي إليكم مضاعف ... وذكركم عندي مع البعد وافرُ
وقلبي لما غبتم طار نحوكم ... وأعجب شيء واقع وهو طائرُ
وله:
هذا كتاب محب رق حاسده ... من فرط وجد بكم أضحى يكابده
غرامه فيكم أضحى يحاكمه ... وشوقه نحوكم والله قائده
وشوقه حاصل والقلب عندكم ... باق وخاطره فيكم يراوده
والدمع مصروفة قد صح شاهده ... يود ناظركم لو كان شاهده
والليل يحييه كي يرعى فراقده ... ومن يموت به وجداً فراقده
عاهدتموه على حفظ الوداد لكم ... وهو المليّ بما قد كان عاهده
قد مسّه الضر من طول السقام ... فما يضر طيفكم لو كان عائده
وقال وهو بمصر لما دخل إليها في سنة إحدى وسبعمائة:
أقول في مصر إذ طال المقام بها ... وساء من سوء خلقي أهلها خُلقي
يا أهل مصر أجيبوني السؤال عسى ... يُسكن الله ما ألقاه من قلقي
هل فيكم من يُرجى للنوال ومن ... يلقى لوفد بوجه ضاحك طلق
أم عندكم لغريب في دياركم ... بقية من يد أو عارض غدق
فقيل لي ذاك مما ليس نعرفه ... وإنما سُقتنا فيها على الملق
الصدر شرف الدين محمد بن شمس الدين سعيد بن محمد بن سعيد، المعروف بابن الأثير، كاتب الإنشاء بدمشق.
مات في سابع ربيع الأول، ودفن بسفح قاسيون، وكان شاباً حسناً، عاقلاً وقوراً، خلّصه الله من أسر التتار ورجع إلى أهله.
الشيخ الصالح العارف المحقق السيد الشريف أبو فارس عبد العزيز بن عبد الغني ابن سرور بن سلامة، المعروف بالمنوفي.
مات بمنزله بمصر ليلة الإثنين خامس عشر ذي الحجة، ودفن بالقرافة، وكان من الصلحاء الأخيار المعمرين، وله ديوان شعر، فمنه قوله:
خيامٌ بنجد كل فلب ثوى بها ... وكل محب قد غدا في طلابها(1/450)
وتمّ لليلى العامرية مضرب ... إذا جئت تلقاه قريب قبابها
تجلّت على عشاقها من خبائها ... وقد لاح بدر التم تحت نقابها
على رغم عُذالي وصلت لحبها ... وطفت سبوعاً كاملاً بخبائها
وقبلت أعتاباً لها ومواطناً ... ومرغت خدي في التراب ببابها
ولي شرف إن صح لي ما ذكرته ... إذا فزت في الدنيا بلثم ترابها
ولما رأتني خاطبتني بلطفها ... وقد أسكرتني من لذيذ شرابها
ودارت كؤوس العتب بيني وبينها ... وما العيش إلا ساعة من عتابها
نعم جودها عدل نعم سخطها رضىً ... نعم كل عذب في أليم عذابها
لقد كملت حُسنً وفاقت ملاحة ... وقد ملكت منها تمام نصابها
وفي حبها كم مات من مغرم بها ... فلة جاوبته عاش عند جوابها
وكم في رُبى نجد قتيل صبابة ... وكم طائح قد ظل بين شعابها
وكم عاشق بين الخيام مُوله ... يهيم بها في بعدها واقترابها
سبت قلبه والحجب ما ارتفعت له ... فما حاله عند ارتفاع حجابها
وله يعارض بانت سعاد:
قلبي وإن أطنب العذال مشغول ... عن الملام فمهما شئتم قولوا
ما يكتم السرّ إلا كيّس فطن ... ويظهر الصبر إلاّ ما جد قيل
ويودع السرّ إلاّ عند من ... تثبت له العدالة لا زيغ ولا ميل
ما كل علم إذا الغيبة اتسعت ... له العقول ولا ماء الحسانيل
أيضاً ولا كل مديح بالقريض إذا ... نظمته حسنت فيه الأقاويل
يا مدّعي مدح من أسرى الإله به ... ليلاً فلم يدر إلا وهو محمول
ماذا تقول إذا ما رمت تمدحه ... وقد أتاه بوحي الله جبريل
هذا ومركبه متن البراق ... وقد جاءت ببشراه تورية وإنجيل
وأنزلت فيه من حب الآله طه ... وشورى ويس وتنزيل
فمن يرى أنه وفيّ المديح له ... فعقله وجلال الله مخبول
هذا هو الحق عندي والدليل على ... ما قلته أنه بالعلم منقول
ما يمدح المصطفى إلا الإله ... وقد جاءت بذلك آيات وتأويل
إن النبيّ لمولى يستجار به ... عبد بسيف الهوى والحط مقتول
يرجو شفاعته يوم المعاد ... إذا قال الآله له قل أنت مقبول
صلى عليه إلآه العرش ما ... طلعت شمس وما لاح في الظلماء إكليل
وازنت من قال قبلي وهو مرتجل ... بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
النصير - بفتح النون - ابن أحمد بن علي المناوي الحمامي، الأديب المشهور. مولده بمنية خصيب في سنة تسع وستمائة.
قال الشيخ صلاح الدين الصفدي: أخبرني الحافظ العلاّمة أثير الدين أبو حيان من لفظه قال: كان المذكور بمصر أديباً كيّس الأخلاق، يتحرّف باكتراء الحمامات، ثم طعن في السنّ وضعف عن ذلك، وكان يستجدي بالشعر، وكتبت عنه قديماً وحيثاً. قال: وأنشدني أثير الدين من لفظه، قال: أنشدني النّصير المذكور لنفسه قوله:
لا تفه ما حييت إلا بخير ... ليكون الجواب خيراً لديكا
قد سمعت الصّدى وذاك جماد ... كل شيء تقول ردّ عليكا
قال الصفدي: وأنشدني له أثير الدين أيضاً:
أقول للكأس إذ تبدّت ... في كفّ أحوى أغنّ أحور
خربت بيتي وبيت غيري ... وأصل ذا كعبك المدوّر
قال: وأنشدني له أيضاً:
إن الغزال الّذي هام الفؤاد به ... استأنس اليوم عندي بعدما نفرا
أظهرتها ظاهر باتوقد ربضت ... فيها الأسود رآها الظبي فانكسرا
قال: وأنشدني له أيضاً:
قالوا افتضحت بحبّه ... فأجبت لي في ذا اعتذار
من لي بكتمان الهوى ... وبخدّه نمّ العذار
قال: وأنشدني له أيضاً:
ما زال يسقيني زلال رضابه ... لما خفيت ضيء وذبت توقّدا(1/451)
ويطيني حيّاً رويت بريقه ... فإذا دعا قلبي يجاوبه الصّدا
قال: وأنشدني له أيضاً:
ماذا يضرك لو سمحت بزورة ... وشفعتها بمكارم الأخلاق
وردعت نفسك حين تمنعك اللقا ... وتقول هذا آخر العشاق
قال: وأنشدني له أيضاً:
إنّي لأكره في الأنام ثلاثةً ... ما إن لها في عدّها من زائد
قرب البخيل وجاهلاً متعاقلاً ... لا يستحي وتودّداً من حاسد
ومن البليّة والرزيّة أن ترى ... هذي الثلاثة جمعت في واحد
وقال الصّفدي: أنشدني القاضي جمال الدين إبراهيم بن شيخنا الشهاب محمود قال: أنشدني النصير لنفسه بقلعة الجبل قوله:
رأيت فتى يقول بشط مصر ... على درج بدت والبعض غارق
متى غطّى لنا الدرج استقمنا ... فقلت نعم وتنصلح الدقائق
وله أيضاً:
ومذ لزمت الحمّام صرت فتىً ... خلاً يداري من لا يداريه
أعرف حرّ الأشياء وباردها ... وآخذ الماء من مجاريه
وقال الصفدي: أنشدني الشيخ العلامة فتح الدين محمد بن محمد بن محمد ابن سيد الناس قال: أنشدني النصير الحمامي لنفسه:
رأيت شخصاً آكلاً كرشة ... وهو أخو ذوقٍ وفيه فطن
وقال ما زلت محبّاً لها ... قلت من الإيمان حبّ الوطن
وكتب النصير إلى السراج الورّاق:
أتى فصل الخريف علي جدّاً ... بأمراض لواعجها شداد
وأعذر عائدي إن لم يعدني ... وربّ مريض قوم لا يعاد
فأجاب الوراق عن ذلك:
خلائفك الربيع فليس يخشى ... خريفاً في الجسوم له اعتياد
ولا والله لم أعلمك إلا صحيحاً ... والصّحيح فما يعاد
وكتب إليه يستدعيه إلى حمامه:
من الرأي أن تواصل خلوة ... لها كبد حرّي وفيض عيوني
تراعي يوماً فيك من حرّ قلبها ... وتبكي بدمع قارح وحزين
غدا قلبها صباً عليك وأنت إن ... تأخرت أضحى في حياض منون
وله دو بيت:
في وجهك للجمال والحسن فنون ... في طرفك للسحر فتور وفتون
أنّى يسلو هواك يا من باتت ... عيناه تقول للهوى كن فيكون
وله:
إن عجّل النوروز قبل الوفا ... عجّل للعالم صفع القفا
فقد كفى من دمعهم ما جرى ... وما جرى من نيلهم ما كفي
الخطيب شهاب الدين أبو حفص عمر بن كثير بن ضوء بن كثير بن ضوء ابن درع القرشي.
من بني حصلة، وهم منسوبون إلى الشرف، وبأيديهم نسب. وهو والد الشيخ الإمام الحافظ عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير صاحب التاريخ المشهور.
ولد عمر المذكور في قرية يقال لها الشركوين غربيّ بصرى، بينها وبين أذرعات، في حدود سنة أربعين وستمائة، واشتغل بالعلم عند أخواله بني عقبة ببصرى، فقرأ البداية في مذهب أبي حنيفة، وجمل الزجاجي، وعني بالنحو والعربية واللغة، وحفظ أشعار العرب حتى كان يقول الشعر الجيد الرائق الفائق في المديح والمراثي، وقليل من الهجاء، ونزل بمدارس بصرى، وأمّ بمبرك الناقة شمالي البلد، ثم انتقل إلى خطابة القرية شرقي بصرى، وتمذهب للشافعي، وأخذ عن النووي وعز الدين الفزازي، فأقام نحواً من ثنتي عشرة سنة، ثم تحول إلى خطابة مجيدل القرية التي منها والدة الشيخ عماد الدين إسماعيل ولده، فأقام بها مدة طويلة، وقد ولد له عدّة أولاد من والدة الشيخ عماد الدين ومن أخرى قبلها، فأكبرهم إسماعيل، ثم يونس، وإدريس، ومن والدة الشيخ عماد الدين عبد الوهاب، وعبد العزيز، ومحمد، وأخوات عدّة.(1/452)
قال ابن كثير في تاريخه: ثم أنا أصغرهم وسميّت باسم الأخ إسماعيل لأنه كان قد قدم دمشق فاشتغل بالعلم، وسقط من سطح الشامية البرانية، فمات بعد أيام، ووجد عليه والده وجداً كبيراً، ورثاه بأبيات، قال: فلما ولدت أنا له بعده سمّاني باسمه، فأكبر أولاده إسماعيل وأصغرهم إسماعيل. ثم قال: وكانت وفاة الوالد في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعمائة بقرية مجيدل، ودفن بمقبرتها الشمالية عند الزيتونة، وكنت إذ ذاك صغيراً ابن ثلاث أو نحوها، لا أدركه إلا كالحلم، ثم تحولنا بعده في سنة سبع وسبعمائة إلى دمشق صحبة الأخ كمال الدين عبد الوهاب، وقد تأخرت وفاته إلى سنة خمسين، فاشتغلت على يديه بالعلم.
ومن أشعار عمر بن كثير والد الشيخ عماد الدين إسماعيل:
نأى النوم عن جفني فبتّ مسّهداً ... أخاً كلف جلف الصبابة مكمدا
سمير الثريا والنجوم مدلهاً ... فمن ولهي خلت الكواكب ركّدا
طريحاً على فرش الصبابة والأسى ... فما ضركم لو كنتم لي عوّدا
تقلبني ايدي الغرام بلوعة ... أرى النار من تلقائها لي أبردا
ومزّقني صبري بعد جيران حاجز ... سعيد غرام بات في القلب موقدا
فأمطرته دمعي لعل زفيره ... يقلّ فزادته الدموع توقدا
فبتّ بليل أنعى ولم أر ... على النأي من بعد الأحبّة مسعدا
فيالك من ليل تباعد فجره ... عليّ إلى أن خلته أن يخلدا
غراماً ووجدّاً لا يحدّ أقلّه ... بأهيف معسول المراشف أغيدا
له طلعة كالبدر زان جمالها ... بطرّة شعر حالك اللون أسودا
يهزّ من القدّ الرشيق مثقفاً ... ويشهر من جفنيه سيف مهندا
إلى ورد خديه وآس عذاره ... وضوء ثناياه فنيت تجلدا
غدا كل حسن دونه متقاصرا ... وأضحى له رب الجمال موحّدا
أيا كعبة الحسن التي طاف حولها ... فؤادي أما للصدّ عنك من فدا
قنعت بطيف من خيالك طارقاً ... وقد كنت لا أرضى بوصلك سرمدا
وقد شفني شوق تجاوز حدّه ... وحسبك من شوق تجاوز واعتدا
سألتك إلا ما مررت بحينا ... بفضلك يا ربّ الملاحة والندا
غلطت بهجراني ولو كنت صائباً ... لما صدّك الواشون عني ولا العدا
الشيخ شهاب الدين أحمد بن سامة بن كوكب الطّائي الحنفي، إمام المدرسة الفارقانية التي بحارة الوزيرية.
سمع من جماعة، وكتب وروى، توفي في هذه السنة، وكان عدلاً يشهد على القضاة، ويكتب الشروط والإسجالات.
الأمير زين الدين قراجا أستادار الأفرم.
توفي في المحرم منها، ودفن بتربته بميدان الحصى عند النهر.
الأمير الكبير عز الدين أيبك الحموي.
ناب بدمشق مدة، ثم عزل عنها إلى صرخد، ثم نقل قبل موته بستة أشهر إلى نيابة حمص، فكانت وفاته بها يوم الأحد عشر بن ربيع الآخر، ونقل إلى تربته بالسفح، غربيّ زاوية ابن قوام، وإليه ينسب الحمام بمسجد القصب الذي يقال له حمام الحموي، عمّره في أيام ولايته، وكان أميراً عاقلاً، شجاعاً مقداماً، كثير التلاوة، وكان من مماليك المنصور صاحب حماة هو والأمير علم الدين أبو خرص، وكان ضنيناً بهما، فأرسل الملك الظاهر وطلبهما منه، فاعتذر بمرضهما، فأرسل من يحضرهما في محفات، فأرسلهما إليه، وعند وصولهما أمّرهما، وصار لهما صورة في الدولة الظاهرية وغيرها، وولاه الملك الأشرف نيابة دمشق، عوضاً عن الشجاعي في سنة إحدى وتسعين، فاستمر في النيابة إلى سنة خمس وتسعين، ولما تملك كتبغا العادل عزله وولى غرلوا العادلي عوضه، وأرسله إلى صرخد، فأقام بها إلى هذه السنة، ثم أعطي نيابة حمص فأقام بها قليلاً، ومات في التاريخ المذكور.
الأمير ركن الدين بيبرس التلاوي، مشد الدواوين بالشام.
توفي يوم الإثنين تاسع رجب ودفن بقاسيون، وكان ظالماً عسوفاً جباراً، وكانت مدة ولايته سنة واحدة وستة وأربيعن يوماً، أقام منها مريضاً تسعة أشهر وأياماً، وولى الشدّ مكانه شرف الدين قيران الدواداري، وكان مشداً بطرابلس، فنقل إلى دمشق.(1/453)
الأمير سيف الدين بكتمر السلحدار الظاهري.
توفي فيها، وهو أحد من كان توجه إلى قازان وعاد، وكان من أكابر الأمراء الشجعان الفرسان المقاديم في الحروب، وخدم الدولة الظاهرية والمنصورية، وكان يرمي على ستة وخمسين رطلاً بالدمشقي مع خفة ولطافة، وكان يحبّ الطرب ويتولع بالسماع والرقص فيه، ويلبس الكامليات، ويتعانى الطرافة في ملبسه، وفي الأكل المفتخر من الطعامات، وله مكارم كثيرة على الناس.
الملك قازان بن أرغون بن أبغا بن هلاون بن طلوبن بن جنكزخان.
مات في هذه السنة، وقد ذكرناه وقازان - بالقاف، ويقال بالغين المعجمة، وبعد الألف زاي معجمة، وفي آخره نون - وكان تسمّى بمحمود لما أظهر الإسلام، كما أن أخاه خربندا تسمى بمحمد.
فصل في ما وقع من الحوادث في
السنة الرابعة بعد السبعمائة
استهلّت هذه السنة: والسلطان: الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاون، وقد عاد من صيده وتنزهه في بلاد البحيرة، وقد ذكرنا خروجه من القاهرة في السنة الماضية وما اتفق لناصر الدين الشيخي الوزير معه.
وذكر بيبرس في تاريخه: خروج السلطان إلى الصيد في هذه السنة.
وقال: وفي سنة أربع وستمائة توجه الركاب الشريف إلى الإسكندرية والجهات الغربية متصيداً في الحمامات ومتفرجاً في تلك الجهات، ولما قضى وطره إلى دياره، وكان عوده في جمادى الأولى.
قلت: التوفيق بين الكلامين أن سفره كان في أواخر السنة الماضية وعوده في هذه السنة، والله أعلم.
ذكر مجيء ناس إلى خدمة السلطان
من بلاده ومجيء رسل من ملوك بلاده غيره:
منهم ما قال بيبرس في تاريخه: وفد إلى الأبواب الشريفة من الشرق أعيان العربان منهم: الأمير قطايا بن سيف أمير بني كلاب وجماعة من شيوخهم، فأكرم مثواهم، وأصغى لنجواهم، وشملتهم الصدقات بالإقطاعات، وعادوا إلى حلب وقد نال كل فوق ما طلب.
وقال صاحب النزهة: وفي مستهل المحرم تواترت الأخبار بوصول الأمير سيف الدين قطايا بن الأمير سيف أمير بني كلاب، وكان هذا الرجل قد خرج عن طاعة السلطان وأفسد في نواحي حلب وقطع الطريق، فطلبته السلطنة، فدخل هو وجماعته إلى بلاد الشرق، وأقاموا مع المغل وأكرموهم إكراماً كثيراً، فلما اتفق موت غازان كاتب نائب حلب، ورجع إلى الطاعة، وورد إلى مصر، وأقبل عليه السلطان والأمراء وأكرموه، وكتبوا لنائب حلب بردّ أخبارهم وإكرامهم، وهؤلاء قوم معروفون بالفروسية والشجاعة، وكانوا يركبون ويغيرون على المغل كل وقت، وكان يتفق لهم معهم وقائع غريبة، وما كانوا يخرجون من بلاد المغل إلا بالكسب والغنيمة.
ومنهم ما ذكره بيبرس وغيره: أنه قدم إلى مصر الأمراء الذين توجهوا إلى بلد سيس في السنة الحالية وهم: الأمير بدر الدين أمير سلاح، والأمير علم الدين سنجر الصوابي، والأمير سُنقرجاه المنصوري، ومن معهم من العسكر المنصور بعد ارتجاع القلاع التي كان الأرمن قد عدوا عليها وتطرقوا إليها وخربوا تل حمدون.
ومنهم: رسل السلطان الذين كانوا قد توجهوا إلى قازان وعوقهم قازان عنده كما ذكرنا، وهما الأمير حسام الدين أزدمر المُجيري، والقاضي عماد الدين علي بن عبد العزيز ابن السكري، وقد عادوا إلى الديار المصرية في رمضان، وحضر صحبتهما رُسل خربندا برسالة مشتملة على طلب الصلح وكف الغارات من الجهتين، فأحسن السلطان إلى رسل خربندا وأعادهم، وأرسل صحبتهم علاء الدين علي بن سيف الدين بلبان القلنجي، أحد مقدمي الحلقة، والقاضي صدر الدين سليمان المالكي الشبرامريقي، وشُبرا مريق: قرية من قرى الغربية من أعمال مصر، وتوجهوا في ذي القعدة وعادوا في رمضان سنة خمس، ومعهم رسول خربندا.
وفي نزهة الناظر: وعند تملك خربندا بلاد قازان وجلوسه على التخت جهّز رسل السلطان: حسام الدين المجيري ومن معه بعد أن أنعم عليهم، وكتب معهم كتاباً خاطب فيه السلطان بالأخوة، وسأل إخماد الفتن والصلح بين المسلمين، وآخر كلامه في كتابه: وعفا الله عما سلف، ومن عاد فينتقم الله منه. وسيّر صحبتهم قليلاً من الهدية، ولما وردوا أكرمهم السلطان أيضاً وأجاب إلى سؤالهم، وأرسل معهم هدية تليق به.
ومنهم: رسل الملك طقطاي صاحب سراي وبر القفجاق، وصلوا إلى الأبواب الشريفة.(1/454)
قال بيبرس في تاريخه: وفي هذه السنة وصل رسول من جهة الملك طقطا اسمه قرقجي، فأكرم غاية الإكرام، وأُنزل بمنظرة الكبش في خير مقام، وتفرّج في الجيزة والأهرام، ثم أُعيد جوابه، وجُهزّ إلى مُرسله بأنواع التحف والهدايا، وسُفرّ الأمير سيف الدين بلبان الصرخدي صحبته رسولاً من الباب العزيز.
وقال صاحب النزهة: وصل رسول طقطاي ومعه هدية وتحف، وكان قد حمل مماليك وجواريا كثيرة، فمات أكثرهم فب البحر وبقي منهم قليل، ولما حضر قدّم بعضهم وباع بعضهم، ومن جملة مضمون كتابه: أن السلطان يركب بعسكره وهو أيضاً يركب بعسكره ويأخذون بلاد قازان وعسكره بينهم، ويكون لكل منهما مكان يصل إليه خيله، وكتب السلطان في جوابه: أن الله عز وجل كفاهم أمر غازان، وأن أخاه قد سيّر إليه رسولاً فسأله الصلح، وأنه أسلم واتبع الدين المحمدي والشريعة الإسلامية.
ومنهم: جماعة وصلوا من جهة أبي يعقوب المريني صاحب الغرب، وفيهم رسول سمي علاء الدين أيدغدي الشهرزوري، أصله من أولاد الشهرزورية الذين نُفيوا إلى المغرب في الدولة الظاهرية، وحضر صحبته من جهة صاحب المغرب المذكور هدايا جليلة، وتحف كثيرة، وخيل عربية، وبغال مغربية، وجمال وقماش، وجملة كثيرة من الذهب العين على سبيل الإمداد والهدية، ووصل معه ركب كبير فيه من المغاربة خلق كثير لقصد الحجاز الشريف، ولما كان أوان الحج حج الرسول المذكور، وحجوا معه جميعاً، وعادوا إلى مرسله في سنة خمس وسبعمائة.
وفي النزهة: وكان علاء الدين أيدغدي المذكور من أصحاب الأمير بهاء الدين يعقوبا أمير الأكراد الشهرزورية، ولما حصل له العبور إلى مصر مُسك يعقوبا في الدولة الظاهرية هو وجماعة من أكابرهم، فهرب هذا الرجل مع جماعة من الأكراد إلى بلاد البحيرة، ثم دخلوا إلى الإسكندرية، وكان معه شيء من المال، واجتمع بجماعة من المغاربة وعاشرهم إلى أن أخذوا له بضائعاً تصلح للمغرب، وركب معهم في مركب هو وأصحابه، ولما وصلوا إلى أبي يعقوب المريني عرّفوه بحاله، فأكرمه وقرّبه، فوجده كافياً للأمور، فتعاظم عنده في تلك المدة إلى أن مكنّه في التحدث في الوزارة، وسار فيها سيرة حسنة، وعرف أخلاق المغاربة لطول مدته عندهم، وكان وقت دخوله إليهم شاباً، ثم سأل المريني ان يحج ويقضي فرضه، فأنعم له بذلك، وجهّز أيضاً صحبته جماعة من أهله وأقاربه، وتبعتهم جماعة كثيرة، وسيّر صحبته خيلاً وبغالاً، وتحفاً سنية تصلح للملوك، وأخذ الوزير أيضاً صحبته ما يليق به، ولما دخل على السلطان أكرمه وقرّبه وأمر بإنزالهم في الميدان، ورتبّ لهم كل ما يحتاجون إليه، ورسم للوزير والمباشرين أن يجهزوهم بكل ما أمكن.
ومنهم متملك دُنقلة وبلاد النوبة واسمه أياي، وصل إلى مصر وأحضر معه هدية من الرقيق والهجن والجمال والأبقار والشبّ والسُنباذج، وأُنزل بدار الضيافة، وقُبلت هداياه، وشُرّف بالخلع الملوكية والتشاريف السلطانية، وسأل أن يجرد معه عسكراً لينهض به على إعداده، فجرف معه جماعة من أجناد الأمراء وجند الولايات وعربان الصعيد، وجعل سيف الدين طُقصُبا الذي كان والي قوص مقدماً عليهم.
وقال صاحب النزهة: وجرّدوا من مصر نحواً من ثلاثمائة فارس من جند الحلقة والأمراء، فخرجوا إلى أن وصلوا في المركب والبر أيضاً إلى قوص، وأقاموا إلى أن اكتمل الجند والعرب، ورحل طقصبا بالعسكر جميعه وصحبتهم ملك دنقلة، فبلغه خبر بهروب صاحب دنقلة صحبته جماعة كثيرة من السودان، وعلم أنه لا ينال طائلاً، واتفق مع الملك، ورجع بالعسكر إلى مصر.
ومنهم: جماعة من التتر نحو مائتي فارس وصلوا في جمادى الأولى منها بنسائهم وأولادهم وأموالهم، ودخلوا دمشق تاسع الشهر، وقيل: إن فيهم أربعة من السلاحدارية للملك قازان.(1/455)
وقال صاحب النزهة: ورد مملوك نائب حلب يخبر أن جماعة من المغل قصدوا بلاد الإسلام، وفيهم جماعة من ألزام قازان، وفيهم بعض أولاد سنقر الأشقر، وعند وصولهم إلى مصر تلقوهم ملتقى حسناً، وأكرموهم، وأعطوا بعضهم الأخباز، وأطلقوا لبعضهم الرواتب، وفرق منهم جماعة على الأمراء، وكان فيهم ناس من ألزام الأمير بدر الدين جنكلي بن البابا، فأخذهم إليه، وكان السبب لحضورهم أن الأمير سيف الدين سلار كان سيّر جماعة من القصاد بسبب حضور والدته وبقية إخوته، ووقع النحيل في أمرهم، فلم يجدوا التمكّن من ذلك، واتفق موت غازان وتفرق عسكره بحيث لم يلتفت أحد على أحد، فتحيلوا وخرجوا بهم، ووصلوا إلى قريب حلب، ووجس في خاطرهم الدخول إلى مصر والاجتهاد في الرغبة في الإسلام، ولما وصلوا إلى مصر حصل لهم الخير، وعند حضور والدة الأمير سيف الدين سلار وإخوته: فخر الدين داود وسيف الدين جبا، عمّر لوالدته في الميدان الذي أنشأه الملك العادل، وكان اصطبل الجوق في الدولة المنصورية، ثم آل أمرها إلى أن يعرف بحكر الخازن.
وقال الراوي: أخبرني شخص من جهتهم أن هذين الاثنين افترقا عن أخيهما سلار في وقعة أبلستين للملك الظاهر مع تداون، وبعد ذلك لم يكن أحد يعرف حال صاحبه ولا مكانه إلى أن أراد الله باجتماعهم في هذه المدة.
ذكر بقية الحوادث في هذه السنة
منها: أن الأمير سيف الدين سلار قدم من الحجاز في رجب المحرم، وذكر عنه أنه أنفق في هذه السفرة ما لم ينفق أحد من الأمراء مثله، ولما أراد أن يحج طلب مباشريه وقال لهم: جهزوا لي أشياء لأعمل خيراً ما سبقني أحد إليه، واعملوا أضعاف ما عمله الأمير سيف الدين بكتمر أمير جندار لما حج، وقد ذكرنا ما فعله فيما مضى، وقال لهم أيضاً: خذوا معكم شيئاً كثيراً من الذهب والفضة، واحملوا من الغلال في المراكب، فإن سلمت فيها ونعمت، وإلاّ يكون معنا شيء نعوّض عنها، فأوسقوا ثماني مراكب ما بين غلّة ودقيق وسكر وغير ذلك، وجهّزوا المال في صناديق صحبته.
وعند وصوله إلى مكة شرّفها الله جلس وسيّر أستاداره بدر الدين أبا غدّة وجماعة ممن يثق بهم إلى المجاورين بالحرم، واستعلم من كل منهم ما عليه من الدين وكم مؤنته في السنة، وما يحتاج إليه، فداروا على الجمع وكتبوا أسماءهم وأسماء أصحاب الديون، فطلب الجميع وأوفى ما على المجاورين وغيرهم من الديون، ثم أعطى لكل واحد منهم مؤنة سنة، وفي ذلك الوقت وصل قاصده من جدّة وأخبره بوصول المراكب سالمة إلى جدة، فرسم بحمل ما فيها، ثم سيّر إلى بيوت أهل مكة وطلب الجمع، الجليل منهم والفقير، وأعطى لهم من الذهب والفضة والغلة مؤنة سنة حتى لم يبق في مكة لا كبير ولا صغير، ولا شيخ ولا شاب، ولا فقير ولا غني، ولا شريف ولا عبد إلاّ وقد حصل له من ذلك شيء، ولما فرغ من ذلك طلب الحاج من الزيلع وفرق عليهم من الذهب والفضة والغلة والسكر والحلواء شيئاً كثيراً، وكان الزيلع تطوف بالبيت ويقولون في طوافهم: يا سلار كفاك الله همّ النار، ثم سيّر المباشرين إلى جدة وفعلوا بأهلها كما فعل هو بأهل مكة.
ولما أتم سلار حجّه ركب إلى المدينة، وعند وصوله وادي بني سالم وقفت العرب التي بالجبال التي هناك، وعبثوا على الحاجّ، وأخذوا أطرافهم، ونهبوا جمالاً كثيرة، فركبت الأمراء عليهم وقاتلوهم بالحجارة ساعة، فانهزموا، فتبعوهم إلى الجبال، وأخذوا منهم خمسين نفراً، وجرحوا منهم جماعة، وأحضرهم الأمير سيف الدين سلار إلى المدينة واستفتى العلماء فيهم، فأفتى الجميع بقوله تعالى: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ". الآية، فأمر عند ذلك بقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.
قال الراوي: وبلغني ممن حضر هذه القضية، أنه من الخمسين، صبي ما دون البلوغ، فرحمه الأمراء، وسألوا سلاراً بإطلاقه، فأمر بإطلاقه، فقال: لا والله لست أكون سالماً دون أبي وأخي وأصحابي ولي أسوة بهم، فأمر عند ذلك بقطعه، فتعجبت الناس من قوة نفس هذا الصبيّ.
ولما وصل سلار إلى مصر أراد مباشروه أن يرفعوا حساب ما نفق في هذه السفرة فلم يرض بذلك، وقال: مال أنفقناه في سبيل الله من وجه حل، فنرجو قبوله، ولا ينبغي أن نحاسب فيه.(1/456)
ومنها أن الأمير سيف الدين أسندمر نائب طرابلس كتب إلى السلطان والأمراء أن أميراً من أمراء طرابلس يقال له سيف الدين بالوج الحسامي - من مماليك لاجين - أساء عليه الأدب في دار السلطنة بحضور الأمراء كلهم، وأخرق حرمة السلطنة، فالمسؤول تأديبه، فكتب السلطان بأن يطلبه قدام الأمراء ويأخذ سيفه ويحبسه، فلما وصل إليه الكتاب طلبه وأخذ سيفه وأهانه وحبسه.
وكان السبب في ذلك أن شخصاً من السمرة كان يتحدث في ديوان النائب ويتجر له في سائر الأصناف، فطغى بسبب ذلك حتى صار يركب الحجورة العربية بالسروج المحلاة بالذهب والفضة، ولم يدع كلاماً لأحد في طرابلس حتى صار يحكم في الجيش، وحصّل أموالاً عظيمة له وللنائب، وتألم منه أهل طرابلس ألماً عظيماً، ولم يخلّوا أحداً من الأمراء حتى شكوه إليه، ولم يكن أحد منهم يجترىء أن يبلغ ما يفعله للنائب إلى أن تزايد أمره وفشى طغيانه، ثم أن بالوج المذكور اتفق مع الأمراء على أن يتحدث مع النائب بسبب ذلك بشرط أن يساعدوه عند فتح الكلام، فاتفقوا على ذلك، ولما حضروا يوم الموكب للخدمة شرع الأمير بالوج وفتح الكلام، وقال: يا خوند أهل طرابلس جميعهم يشكون من هذا السامري، وعندهم ألم كثير وضرر عظيم بسببه. فالتفت إليه النائب كالمغضب وقال: يكذب أهل طرابلس فإنهم مراجفون مناجيس، وأنت أيضاً بقيت مثلهم، وكان بالوج شرس الأخلاق، فقال: يا أمير أقول لك إن هؤلاء ناس مسلمون يشتكون من هذا الخنزير الكافر وتقول لي أنت منهم، يعني تقول لي تكذب. قال: نعم، فلما سمع بالوج هذا الكلام نهض قائماً، وقال: والله لأضربن عنق هذا السامريّ حيث وجدته، فالسلطان ما يشنقني لأجل سامريّ خبيث، ثم اتفق ما ذكرناه من النائب في حقه، فتزايد السامريّ على الناس إلى أن وقع منه كلام في يوم من الأيام يوجب قتله، فشهدت جماعة بذلك من العدول وغيرهم، وكتبوا بذلك محضراً وأرسلوه إلى قاضي المالكية بدمشق، فأثبته القاضي، ثم اجتمع بالقاضي الشافعي والحنفي، وتوجهوا إلى ملك الأمراء جمال الدين الأفرم وعرّفوه بالقضية، فكتب إلى الأمراء بمصر وعرّفهم بجميع ما وقع، وعرّف أيضاً أن هذا الرجل خصيص بنائب طرابلس، فقام الأمير ركن الدين في ذلك وكتب إلى اسندمر نائب طرابلس أن يرسل هذا السامري إلى دمشق ليتولى أمره القاضي المالكي، ويفعل فيه ما يجب عليه بالشرع، ويطلق سيف الدين بالوج عن الحبس، فلما وصل الكتاب إلى أسندمر، وفيه الإنكار عليه بسبب ما بلغ الأمراء من أمر السامريّ، وعلم أنه لا دافع عنه، وتصوّر أن السامريّ إذ وصل إلى دمشق يحدّث بما كان يفعله هو، أراد به أسندمر نفسه، فيقع بسبب ذلك في أمر أعظم مما كان، فطلب سيف الدين بالوج، واعتذر إليه وقال: ما كنت أعرف حال هذا الملعون وما كان يفعله حتى ظهر لي في هذا الوقت، وخلع عليه وطيب خاطره، ثم طلب السامريّ بين يديه وأهانه وقيده، وحعله في زنجير، وسلّمه إلى البريديّ، وسيّر معه بعض مماليكه ووصّى بهم بأنكم إذا وصلتم إلى حمص وركبتم منها في الليل اضربوا رقبة السامري، وخذوا معكم رأسه، فإذا وصلتم إلى الشام عرفوا نائب الشام بأنا لما نزلنا في حمص جاءت علينا جماعة في الليل وضربوا رقبته، وهم من أهل طرابلس، فإنهم اتبعونا من طرابلس لما خرجنا منها، فما وقعت لهم فرصة في قتله إلا في حمص، وكانوا أرادوا أن يفعلوا هذا وهم في طرابلس ولكن ما اتفق لهم ذلك، وذلك أن الأمير سيف الدين بالوج لما كان في الحبس، وأخذ بعض الناس هذا السامري إلى أن ركب في ليلة من مكان كان يتنزه فيه، فوقفوا له في طريقه، فضربه بعضهم بالسيف على أن يطيّر رقبته، فلم تجيء الضربة إلاّ على شاشه فأرمته من رأسه، ووقع السامريّ على الأرض مذعوراً، فهرب أولئك القوم ونجا السامري، ولما بلغ ذلك نائب طرابلس قال: هذا شغل بالوج، سلّط عليه هؤلاء القوم، ولما سمع نائب الشام بذلك طلب القضاة وأخبرهم بما جرى على السامري في الطريق وأراهم رأسه، فقالوا: قد قتله الله وكفى المسلمين شرّه.(1/457)
ومنها: أنه حضرت جماعة من الكارم من جهة اليمن في هذه السنة، وأخبروا أن الملك المؤيد صاحب اليمن تعرّض لهم، ولم يجزهم على عادتهم، وقال لهم: إن السلطان صغير، وقطع أيضاً الهدية التي كانت ملوك اليمن ترسلها إلى صاحب مصر، خارجاً عما كان مقرراً عليهم في كل سنة في الأيام الظاهرية، فإن الملك المظفر ولي اليمن نحو أربعين سنة، ولم يقطع ما كان عليه من المقرر وهو ستة آلاف دينار في كل سنة، كان يشتري بها أصناف المتجر، ويسيرها إلى قلعة الإسماعيلية فكانت ترصد هناك، وهذا كانت عادتهم من تقادم السنين مع هدية يختص بها السلطان، فلما ولي ولده الأشرف أياماً قليلة وخرج عليه هزبر الدين ملك اليمن قطع الجهتين، وتجاهر للتجار بصغر السلطان، ولما سمع الأمراء بذلك اقتضى رأيهم أن يسيّروا إليه رسولاً وكتاباً وينتظرون ما يجيء جوابه، فعينوا لذلك مقدماً من مقدمي الحلقة يقال له ناصر الدين الطوري، ومعه القاضي شمس الدين محمد بن عدلان، وكتبوا كتاباً، وأغلظوا عليه في الكلام، وهدّدوه وقالوا له: لا تحوج نفسك إلى مجيء عسكر إليك، فيكون دماء أهل اليمن في ذنبك.
وكتب الكتاب القاضي ناصر الدين بن عبد الظاهر، ومن محاسن كتابه: أنه غير خاف عليك ما كان والدك عليه وما صار إليه، وكان عندنا بالاستعفاء والجنوح إلى سبيل الوفاء، وسلك فيه من التلطف أبهج المسالك، واجتنب أن يوقع نفسه في المهالك، وحسم تلك المادة أن ترعى، وربما أوصى بها أصلاً وفرعاً، ووافاه الموت فقصم عروة عتابها، وفي حال بين المسألة وبين أعتابها وأفضت نوبة الملك إلينا فدانت لنا الرقاب وتباطت لنا الهضاب، وكاتبنا الملوك شرقاً وغرباً، ووصلت إلينا هداياهم، وكان اعتقادنا أنه أول ملك تصل إلينا كتبه، فكان أوحدهم عقوقاً وأوعرهم طريقاً، فكما علمت أن عدونا المقهور، وسلطاننا الناصر المنصور، وعلمت أمر التتار، وما لها من المنازلة في طول المدد، وقوة الجأش، واقتياتهم ما على الأرض من خشاش، فما لبث ملكهم أن سلّم جيشه وولّى، بعدما قال أنا ربكم الأعلى، وكانوا مائة ألف أو يزيدون، هذا وهم العدو الأكبر، والخصم الأقدر، فما ظنك بمن هو أضعف ناصراً، وأقلً عدداً، ممن قد ألف الوساد، وأوصل النوم، وجفى السهاد، وجعل دأبه فينةً، زاعماً بعدم الوصول إليه من بعد المسافة، وهي أقرب إلينا من حبل الوريد، ولا مانع عنه في اقتحام الأهوال، وما ذلك على جندنا ببعيد، والطريق التي استولى عليها الملك المسعود ابن مولانا السلطان الملك الكامل معروفة، ومسالكها مألوفة، ونحن نحمد الله ما ثارت إلينا سحابة إلا وجنت بحمد الله ثمراتها من حيث حلّت، ولا أتيحت سفينة إلا ألقت ما فيها وتخلّت، فيقف عند حدّه ويستدرك هزله بجدّة، فما بعد العتاب من ألم، ويقتفي سنن المهادنة، فمن أشبه أباه فما ظلم، ويقدّم ما في ذمته لبيت مال المسلمين من الحقوق، ويتجنب طريق العقوق، فمن النهج أن لا تكون عقوق.
وقرئت هذه النسخة على السلطان والأمراء، فطلبوا الطوري والقاضي شمس الدين وعرفوهما ما يقولانه، واتفق رأيهم أن يكتب الخليفة أيضاً إليه كتاباً وينهاه، فكتب من جهته كتاباً وأغلظ على الملك المؤيد فيه، وأمره ونهاه.
ومنها: أن قاضي القضاة المالكي بدمشق حكم بإراقة دم شمس الدين ابن الشيخ جمال الدين عبد الرحيم الباجربقي بمقتضى ما ثبت عنده ما يوجب ذلك، فهرب المذكور واختفى، ثم حكم تقي الدين سليمان الحنبلي بحقن دمه بثبوت عداوة الشهود الشاهدين عليه، فأنكر المالكي عليه ذلك وأشهد على نفسه أنه باق على ما حكم به من إراقة دمه، فاستمر هروب الباجربقي لذلك.(1/458)
ومنها: أن نجم الدين أبا بكر بن بهاء الدين بن خلكان ادعى بدمشق أنه حكيم الزمان، وأنه يخاطب بكلام يشبه الوحي من جملته: يا أيّها الحكيم افعل كذا، يا أيها الحكيم افعل كذا، وادعى أنه قد اطلع على علوم كثيرة وطلسمات عظيمة منها: طبل إذا ضرب به انكسر العدو وانهزم، وغير ذلك، وادعى أنه أرسل إلى الملك الناصر بمصر أنه إذا اجتمع به عمل له طلسمات عظيمة في فنون شتى، فعقد مجلس بدمشق بحضرة النائب جمال الدين أقوش الأفرم وطولب بإقامة البرهان على صحة دعواه، فلم ينهض، فاستتيب وأطلق على أنه لا يعود، فأقام مدة، ثم عاد إلى دعواه فأمسك واستتيب وأطلق، فأقام مدة، ثم عاد إلى دعواه، فأودع المارستان وأقام مدة، ثم خرج منه، فتوجّه إلى القاهرة وعاد إلى دعواه، فأمسكه الأمير سيف الدين ألجاي الدوادار واستتابه وأطلقه، فأقام مدة، ثم عاد إلى دعواه ولم يزل مصرّاً عليها، وكان هذا الرجل قبل هذه الدعوى ينوب عن الحكام بالشام، فلما غلب عليه هذا الحال ترك الولايات الحكميّة وأخذ في هذه الحال.
ومنها: أن الشيخ تقي الدين ابن تيمية توجه ومعه جماعة إلى مسجد النارنج بدمشق، فأحضر جماعة من الحجارين وقطع صخرة هنالك كان الناس يزورونها ويندرون لها، وكان لهم فيها أقاويل كثيرة فأزالها.
وقال صاحب النزهة: وفيها وصل كتاب نائب الشام يذكر فيه عن الشيخ تقي الدين بن تيمية أنه جرى بينه وبين أهل دمشق منازعة بسبب الصخرة التي كانت بمسجد النارنج، وكان كثير من الدماشقة يترددون إليها يدّعون أن فيها أثر قدم النبي صلى الله عليه وسلم، ويتغالون في أمرها، ففسدت بذلك حال جماعة كثيرة من الرجال والنساء، واتفق أن الشيخ تقي الدين أنكر ذلك، وأنكر على جماعة كثيرة، فوقع بينهم تنازع، فبلغ ذلك إلى نائب الشام، وبلغ أنه يريد قطعها، وأكابر الشام والقضاة لا يمكنونه، وآخر الأمر قام الشيخ فيه قياماً عظيماً، وركب بنفسه، وأخذ جماعة من الحجارين ودخل المسجد، وأخذ الفأس بيده، وقطع الحجارون بعده، ولم يبق لها أثر، وكيف يكون العمل في هذا الرجل؟ فإنه يقول: إن هذه بدعة، وإنه لم يصح عنده شيء فيها، فكتب الجواب عن كتاب نائب الشام: أن الأمر إن كان على ما زعمه ابن التيمية فقد فعل الخير وأزال بدعة في الإسلام، وإن كان أمره غير صحيح فبينوا عليه عدم صحة ما فعله وتعديه، ثم قابلوه على ما فعله.
ومنها: كان دخول الأمير مظفر الدين موسى بن الملك الصالح علاء الدين علي بن الملك المنصور على بنت الأمير سلار نائب السلطان.
وقال صاحب النزهة: وكان سلار مملوك الملك الصالح، وهو الذي ربى أمير موسى المذكور، وأحسن تربيته، ورأى أن ابن أستاذه أحق وأولى من غريب يأتي، فعرف السلطان والأمراء بذلك، وسرعوا في أمر التهادي والتقادم للعرس، فقدّموا شيئاً كثيراً، ويقال: إن سلار أقام ثلاث سنين يعمل جهاز بنته من سائر الأصناف، وعمل من كل شيء حتى عمل برسم بيت الخلاء بكلة من الفضة والنحاس المكفت، وكان جملة ما صنعه من الجهاز - على ما نقله من يوثق به - مبلغ مائة ألف وستين ألف دينار، وكان المهم في القلعة، ولم يبق أحد من الأمراء إلاّ وقد مشى في خدمته، وكان الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير هو الذي تولى أمر ذلك المهم، وجميع الأمراء، وحمل له من الشمع ثلاثمائة وثلاثون قنطاراً.
ومنها: أن نيابة صفد فوضت لسيف الدين سنقرجاه المنصوري، عوضاً عن الأمير بتخاص، وحضر بتخاص إلى مصر وأقام بها، وفوضت الحجوبية بدمشق للأمير بكتمر الحسامي.
ومنها: أنه ظهر في معدن الزمرد بمصر قطعة كبيرة لم تكن ظهرت في المعدن من أول ظهوره إلى ذلك الوقت مثل ذلك، وكان وزنها مائة وخمسة وسبعين مثقالاً، فسرقها الضامن وحملها إلى ملك اليمن، فدفع له فيها مائة ألف وعشرين ألف، فما رضي ببيعها ورجع بها، فأخذت منه وحملت إلى الملك الناصر، فانفطرت مرارة الضامن ومات، وهذا المعدن لا يوجد في الدنيا إلا بالديار المصرية فقط، والله أعلم.
ومنها: أنه أجدب الشام من الغور إلى مصر جدباً عميماً، وقلت المياه حتى ارتحل بعض أهلها من عدم الماء واختلاف أنواء السماء.
ذكر الإيقاع بناصر الدين الشخي الوزير(1/459)
قال بيبرس في تاريخه: وفيها أوقع بناصر الدين الشيخي الوزير إيقاعاً شديداً، وعزل عن الوزارة عزلاً مبيداً، وخلع من الإمارة خلعاً عنيفاً عتيداً، وطولب بالمال، وجنح سعده فمال وآل إلى شر مآل، وبسط عليه العقاب، وعذّب أمر العذاب، فأدركه حتفه، وفارقه إلفه، ومات شرّ ميتة، فكثر الشامت بوفاته، والناعت لسوء صفاته، والذاكر لظلماته ومحدثاته التي كان بها يتوصل إلى أرباب الدول، ويتوسل بأحداثها في تولية العمل، ولا يفكرفي جانب الله عز وجل، ولا يعلم أن الدعاء لا بد من تأثيره وإن طال الأجل، فأسخط الله عليه الذين أرضاهم بظلم عباده، وعجل له عذاب الدنيا قبل عذاب معاده، فلله در القائل:
وابغ رضى الله فأغنى الورى ... من أسخط المولى وأرضى العبيد
قلت: وناصر الدين المذكور كان من أولاد القاهرة فقيراً، وكان يتكسب بخياطة الكوافي والأقباع، ثم امتدت به أسباب الأطماع، فسافر مع الفقراء المجردين، ووصل إلى بلد ماردين، واتفق إلمامه بابن الصاحب، وهو الأمير شمس الدين محمد المعروف بابن التيتي، وحضر معه إلى الديار المصرية عند تردده في الرسيلة من جهة أحمد سلطان بن هلاون في الدولة المنصورية، ولما أقام شمس الدين المذكور بالأبواب السلطانية أقام المذكور وتظاهر بالجندية، وأعطى مبلغاً مرتباً على ساحل الغلة بالقاهرة ومصر، فما لبث أن تحدث في المعاملة حديثاً كثيراً، وأظهر فصولاً وأبدى فضولاً، وألزم بها لمقطعها ضماناً، وحدد فيها رسوماً ظلماً وعدواناً، ثم توصل حتى أنه باشر شدّ الدواوين، وانتقل منه إلى ولاية القاهرة، ومنها إلى ولاية الخاص بالجيزيّة، ثم طمحت نفسه إلى الإمارة، وسوّلت له طلب الوزارة، فبذل بذولاً قرّرها، ووعد أرباب الدولة وعوداً كررها وكثّرها، فتولى الوزارة كما ذكرنا، وآثر فيها ما شرحنا، ولم يخل من تفتيق مظلمة وتجديد حادثة مؤلمة، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، وأولاه ما كان به من الهوان أولى، وأنجز للظالم وعيده، وللمظلوم وعده، إن وعده كان مفعولاً، فليحذر الغافل إذا نزقت به الأيام إلى المعاقل، فإن لها بعد الرفع وضعاً، وبعد التمكين صرعاً، وليأخذ بالرفق ويتجنب الجور والخرق. قال الشاعر:
فإن المظالم يوم المعاد ... لمن قد تزوّدها شر زاد(1/460)
وقال صاحب نزهة الناظر: وكان السبب للإيقاع به أنه لما حضر الأمير سلار من الحجاز بلغه من خواصه ما فعله ناصر الدين المذكور عند سفر السلطان إلى بلاد البحيرة للتصيد، وما تحدّث للملك الناصر من السّر وحمله إليه ألفي دينار كما ذكرنا، وأنه جسّره على أمور كثيرة لم تكن في ذهنه، وأن السلطان ملتفت إليه التفاتاً كبيراً، وكل ما كان يحتاج إليه طلبه منه فيحمله إليه، ولما سمع سلار بذلك خرج عليه نقماً كان في نفسه منه، فكتم ذلك في باطنه إلى أن جهّز الأمير ركن الدين بيبرس لأجل سفر الحجاز، وعلم أنه متى أوقع به في غيبة بيبرس كان يتوهم أنه كياد في حقه حيث ما فعله وهو حاضر، فاستشار الأمير علم الدين الجاولي في أمره واتفق الحال على أن يقيموا شخصاً من القبط يرافع عليه ويظهر في جهته أموالاً كثيرة أخذها هو ومماليكه، فأحضروا شخصاً من القبط وأمروه بذلك، فكتب أوراقاً عليه بجملة مستكثرة، ولما حضر الأمراء في دست المملكة شرع الأمير سلار وتحدث فيه بأنه فعل كذا وأخذ. فقالت الأمراء: إذا ظهر أنه حاق قطع جلده بالمقارع، فعند ذلك. رسم بطلبه وطلب مماليكه، كبك وبكتوت وغيرهما، وكان قد أرصد هؤلاء يتحدثون في أعمال الجيزة، فلما حضر قال له سلار: اسمع إش يقول هذا الرجل فيك بأنك أخذت من مال السلطان كذا وكذا، وإنك خنت، وقد عرفت كيف شرطت على نفسك، ثم قال للمرافع: تكلم معه وقل له على هذه الفصول التي ذكرتها عنه، فأخذ ناصر الدين يتكلم بعزة نفس وقال: إش هذا النجس حتى أتكلم معه أو يسمع منه في حقي، فما هو أتم كلامه حتى قال سلار: وأنت أيضاً يا قواد يا نجس ما كنت بين الخلق حتى تكبر نفسك ونتكلم بنفس وعزة، وإذا عرف أحد خيانتك تخرق به قدامنا، فما لنا عندك حرمة، ثم التفت إلى الحاجب وقال له: انزل على رأسه، فضربه على رأسه إلى أن أخرب شاشه، ثم طلب مشد الدواوين وقال له: خذ هذا ومماليكه واستخلص منهم مال السلطان، ولم يتكلم أحد من الأمراء كلمة واحدة، وخرج به مشد الدواوين منكّلاً به وقد أخذ سيفه.
وفي اليوم الثاني: شاور عليه مشد الدواوين الأمير عز الدين الأشقر فقال له: اطلبه قدامك وطالبه بالمال وإلا أسلخ جلده بالمقارع، فخرج عز الدين وطلبه إليه، وعرّفه ما رسم به نائب السلطان. فقال: السمع والطاعة، وشرع في تحصيل المال وفي بيع خيله وعدته وجميع حواصله أولاً فأولا، وصار مشد الدواوين كل يوم يخرجه وينكل به، وكان في نفسه منه شيء كثير لما سبق له من إهانته إياه وتكبرّه عليه، وجلس يوم الثلاثاء في الصناعة، وسيّر وراءه من أحضره من القلعة، وهو راكب حمار وعليه أربع رسل، ودخلوا به إلى سوق مصر ونواحي أسواق الصناعة، فقامت إليه أهل مصر وصاحوا عليه وسبوه ولعنوه وأرادوا أن يرجموه، فمنعهم من ذلك مماليكه، فبلغ ذلك سلاراً وكان يعلم أن الأمير بيبرس ممن يعينه ويساعده، وبقي ينتظر أن بيبرس يفتح معه كلاماً في حقه فلم يتكلم بشيء في حقه.
ثم أقاموا اياماً إلى العشر الأول من شهر رمضان يتشاورون فيمن يولّوه وزيراً يدبّر أمر الدولة، فاقتضى رأيهم وزارة القاضي سعد الدين بن عطايا، وسنذكر توليته، وقد ذكرنا أن ناصر الدين هذا كان قد تزوج بامرأة الأمير سيف الدين بهادر رأس نوبة، وسكن في بيتها المجاور لمشهد الحسين رضي الله عنه، وكانت أولادها جركتمر وأمير علي وخليل أولاد بهادر خصيصين بخدمة الأمير بيبرس، وكانوا يسعون لناصر الدين عند بيبرس، وبيبرس تارة يجيبهم، وتارة ما يردّ عليهم كلاماً، ومع هذا كان لبيبرس عناية لناصر الدين في الباطن، ولكن كان يعلم أن سلاراً يكرهه، ولا يريد أن يعارضه في أمر يفعله هو.(1/461)
وبقي الأمر على هذا إلى ليلة عيد الفطر، وطلعت زوجته إلى بيت بيبرس، ودخلت على أهله في أمر زوجها ناصر الدين، وتكلمت امرأة الأمير بيبرس معه في أمره، فوعد لها بأن يتكلم في خلاصه، ولما جلست الأمراء في الشباك، وهنّوا نائب السلطان سلاراً، فتح الأمير بيبرس معه الكلام في أمره وقال: هذه ليلة العيد، تصدّق على هذا المسكين وارسم بخلاصه. فقال له سلار: يا أبي أنت غافل عما فعل هذا، والله والله أنت تعلم محلك عندي، لو كان هو إلى اليوم باقياً في الوزارة ما كنت أنا ولا أنت في الحياة، وأنا أعرفك به، فإن كان ذهبه يسيراً وأمرت لي بخلاصه أخلّصه، ثم شرع يحدثه ما فعله في غيبته، وكيف راح إلى الإسكندرية، وكيف اجتمع مع السلطان وتكلم معه شيئاً كثيراً، ومن جملة ما قال: أش هم هؤلاء وأراد به إيانا، فأي وقت اشتهيت مسكتهم مثل الكلاب، واتفق معه على أمور كثيرة في الفساد والإيقاع بنا، وجسّر السلطان على أمور ما كانت في نفسه، وهذا الرجل قد قصد فتنة كبيرة بين المسلمين، والله عز وجل يقول: " والفتنة أشد من القتل ". فإن كنت تختار أن نطلقه، نفرج عنه، قد عرفتك ذنبه، فلما سمع بيبرس ذلك منه تحقق أن سلار ما يفعل كذباً. فقال له: من يرمي فتنة بين المسلمين يستحق هذا وأنحس منه، ثم قام من عنده وشرع في تجهيزه إلى الحجاز الشريف.
ولما استهل شهر ذي القعدة: ركب الأمير بيبرس والأمراء صحبته، وأمر لمشد الدواوين بعقوبة ناصر الدين المذكور وضربه بالمقارع، فأقام يعاقبه سبعة أيام، وتوفي بعدها من ألم الضرب، وكان فيه عصبية ومروءة وأريحية، وكان ينبعث للخير، وله كتابة حسنة، ومعرفة بالحساب.
قال صاحب النزهة: وكان أصله من بلادماردين، وكان قدم إلى الديار المصرية مع رسل السلطان أحمد وقاصد صاحب ماردين، وكان ماشياً طول الطريق فقيراً، ثم عمل صنعة الأقباع في مصر في دكان أشهراً، ثم عمل جندياً شاداً في موضع، وصار يكثر التردّد إلى خدمة الحسام يرتاق مشدّ الكيالة مدة طويلة إلى أن عرف الدخل والخرج، ثم ضمن ساحل الغلة وفاض معه جملة، ثم خدم الصاحب ابن الخليلي وبعض الأمراء، وقدم لهم الهدايا والتقادم، وأرغب حكام الدولة إلى أن تولى مشد الدواوين، ومنه تنقل إلى شدّ الأعمال الخيرية، ثم إلى الطبلخاناة، وعمل ولاية القاهرة مضافاً للجيزة، ثم انتقل إلى الوزارة، ومنها كان هلاكه.
ذكر تولية ابن عطايا الوزارة
قد ذكرنا أن سلاراً شاور الأمراء في منصب الوزير، واتفق رأيهم على تولية القاضي سعد الدين محمد بن عطايا، وكان ناظراً بديوان البيوت السلطانية، وله إلمام بالأمير علم الدين الجاولي من جهة أستادرية الدار، ففوضت إليه الوزارة، وخلع عليها، وحملت إليه دواتها وبغلها، وكانت مباشرته لها في الثاني عشر من شهر رمضان.
وقال ابن كثير: وتولى ابن عطايا الوزارة بعناية علم الدين سنجر الجاولي، وجلس يوم الأربعاء الثاني عشر من شهر رمضان.
وقال النويريّ: رأيت الصاحب شمس الدين بن عطايا قبل وزارته بثلاثة أيام قائماً بين يدي علم الدين سنجر يقرأ عليه ورقة حساب، ورأيته يوم جلس في الوزارة والأمير سنجر الجاولي جالس بين يديه، وقد وقع الصاحب وكتب علم الدين بالامتثال وذيل على خطه، وكان علم الدين المذكور أستاذ الدار.
ذكر حج الأمير بيبرس
حج الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير المنصوري وصحبته جماعة من الأمراء وهم: الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار، والأمير يعقوبا، وآخرون من الأمراء، وأولاد الأمراء، وتسامعت الناس بحج الأمير ركن الدين بيبرس وكثروا، فاجتمع عالم كثير إلى أن خرج المحمل إلى البركة، ورأى أمير الركب خلقاً كثيراً لم يعهد الناس مثلهم، واجتمع رأي الأمراء على أن يكون الحج ثلاث ركوب: ركب صحبة الأمير بيبرس الدوادار، وركب صحبة الأمير بهاء الدين يعقوبا، وركب صحبة الأمير عز الدين أيبك الخزندار، وتأخر الأمير ركن الدين بيبرس إلى العشر الأخير من شوال، ثم قصد أن يسافر مع الحاج وعرض له أمر أخره إلى أن سافر مستهل ذي القعدة على الهجن مخففاً.(1/462)
وحصل للحاج في هذه النوبة أمر لم يعهد بمثله، لأنهم كانوا ثلاث ركوب، ومن حين خرجوا من مصر لم يجد أحد ماء يروي دوابه إلى العقبة، وعند نزولهم إلى العقبة قل الواصل، وتحسّن الشعير، وبيع الأردب من الشعير بخمسين درهماً، وتم الأمر على ذلك وهم يرجون وصول المراكب إلى ينبع من مراكب الأمراء والتجار، فلم يصل شيء، وغرقت مراكب كثيرة، فتخبطت أحوال الناس، وغلت الأسعار، ثم عند رحيلهم إلى وادي النار لفح الناس هؤلاء بسموم، فهلك خلق كثير، ونشفت قربهم حتى صارت كالقدّ من اليبس، ولم يجدوا في الوجه ماء إلا قليلاً، ولفح الناس هواء أيضاً، فكان الركاب يقعون من الجمال موتى، وأما المشاة فإن أكثرهم ماتوا، وبعضهم انقطعوا، وهرب المقومون، وقاست الناس شدة عظيمة، وتاه ركبّ الأمير يعقوب بدليله، فانقطعت منه جماعة كثيرة وماتوا، واشتد الغلاء إلى أن بيعت الويبة من الشعير بأربعين درهماً، والبقسماطة بإثني عشر درهماً، وكانت سنة شديدة، وسمت الناس تلك السنة سنة راعم، وبلغ الخبر مع المبشرين إلى الأمير سيف الدين سلار وبقية الأمراء، فجهزوا للحاج من الأمراء ولغيرهم الإقامات والجمال بالأحمال، واستقبلوا الحاج بالشعير إلى قريب ينبع بجمال العرب، وبالدقيق وغيره إلى عيون القصب وعقبة، وأرسلوا إلى نائب غزة أن يجلب للناس الزيت والعسل وغير ذلك، فألزم نائب غزة تجاراً كثيرين بذلك، وحضرت أيضاً جماعة إلى العقبة من الكرك والشوبك ومعهم أصناف كثيرة، وحصل للناس بذلك رفق عظيم.
وفيها: كان وفاء النيل على سبعة عشر ذراعاً وثمانية عشر إصبعاً.
وفيها: حج بالناس عز الدين أيبك الخزندار المنصوري أمير الركب المصري كما ذكرناه، وحج بالركب الشامي الأمير ركن الدين بيبرس المعروف بجالق، ومعه سيف الدين جوبان المنصوري.
ذكر من توفي فيها من الأعيان
الشيخ شرف الدين عبد المؤمن بن خلف بن الحسن بن شرف بن الخضر ابن موسى الدمياطي، شيخ الحديث بمدرستي الظاهر والمنصور ببين القصرين.
وكان إماماً في وقته، صدراً في طبقته، مات فيها بالقاهرة، ودفن بباب النصر.
وقال ابن كثير: ولم يزل في إسماع الحديث دائماً إلى أن أدركته وفاته وهو صائم في مجلس الإملاء، فغشي عليه وحمل إلى منزله، فمات من ساعته يوم الأحد الخامس عشر من ذي القعدة، وكان مولده في سنة ثلاث عشرة وستمائة، وكان جمع معجماً لمشايخه الذين لقيهم بالحجاز والشام والجزيرة والفرات ومصر يزيدون على ألف وثلاثين شيخاً، وهو عندي بخطه رحمه الله.
وذكر بعضهم وفاته في السنة الآتية، وكان يخرج بالحافظ زكي الدين المنذري، وروى عنه المزيّ والذهبي وخلق، وكان مولده بتونه، قرية من أعمال تنيس، ونشأ بدمياط، ومات وله اثنان وتسعون سنة.
الشيخ المحدث الصالح نور الدين علي بن مسعود بن نفيس الموصلي، ثم الحلبي.
مات بالمارستان الصغير بدمشق، ودفن بسفح قاسيون، وكان رجلاً صالحاً من المشهورين بطلب الحديث وكتابته وقراءته عن نحو خمسين سنة، روى عن ابن رواحة، وأصحاب البوصيري، وأصحاب الخشوعي، وغيرهم.
الشيخ الإمام علم الدين عبد الكريم بن علي بن عمر، المعروف بالعراقي.
كان عالماً كثير الفضائل، شافعي المذهب، جاوز الثمانين، مات في هذه السنة، وولى مكانه بالقبة المنصورية الشيخ عز الدين النمراوي.
الشيخ الكبير المعمّر ركن الدين أحمد بن عبد المنعم بن أبي الغنائم المقرىء، القزويني، الصوفي، الطاوسي.
مات بالشميساطية، ودفن بقابر الصوفية، وكان يذكر أن مولده في شعبان سنة إحدى وستمائة، وكانت وفاته في سابع جمادى الأولى منها.
الشيخ أمين الدين محمد بن الشيخ قطب الدين محمد بن أحمد القسطلاني.
مات بمكة في المحرم منها، وكان شيخاً صالحاً من بيت الصلاح والحديث، أسمعه أبوه بمكة على مشايخها والواردين إليها شيئاً كثيراً، وكان عنده فضيلة في علم الحديث، وكان شيخ الحديث بمكة، روى عن ابن الجميّزي وغيره.
الشيخ العالم نجم الدين عمر بن أبي القاسم بن أبي الطيب.
مات بداره داخل باب الفرج، ودفن بمقبرة باب الصغير، وكان رجلاً جيداً، مشكوراً في ولاياته، باشر نظر المارستان النوري، ونظر ديوان الخزندار، صاحب حماة، ونظر الخزانة، ووكالة بيت المال، وكان مدرّساً بالكروسية نحو أربعين سنة، وسمع الحديث من الجمال العسقلاني، وغيره.(1/463)
الشيخ بهاء الدين عبد المحسن بن الصاحب محيي الدين محمد بن أحمد ابن هبة الله بن أبي جرادة.
مات بالديار المصرية، ودفن بمقابر باب النصر، روى عن يوسف بن خليل وغيره، وكان شيخاً جليلاً فاضلاً.
الشيخ الحكيم الفاضل الأديب النحوي شهاب الدين أبو بكر بن يعقوب ابن سالم الديري الرحبي، المعروف بالشاعور.
مات في أوائل هذه السنة ببلاد اليمن بقلعة تعز، كان قد حصل مالاً كثيراً، وحصل له إقبال من أهل اليمن، ومن صاحبها الملك المؤيد، وله التصانيف المفيدة.
الشيخ الإمام الزاهد أبو القاسم خلف بن عبد العزيز بن محمد القبتوري الإشبيلي.
مات بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم في أوائل السنة، ومولده في سنة خمسة عشر وستمائة، وله نظم ونثر، وفضائل كثيرة، فمن شعره.
ماذا جنيت على نفسي بما كتبت ... كفي فيا ويح نفسي من أذى كفّي
ولو يشاء الذي أجرى علّي بذا ... قضاءه الكف عني كنت ذا كفي
وله:
واحسرنا لأمور ليس يبلغها ... مالي وهّن مني نفسي وآمالي
أصبحت كالآل لا جدوى لديّ ... وما ألوت جدّاً ولكن جدّي الآل
الصاحب زين الدين أحمد بن الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب الكبير بهاء الدين علي بن محمد بن سليم، المعروف بابن حنا.
كان رئيساً كبيراً، فقيهاً شافعياً، ذا حرمة وافرة، ودين متين، وله قضيلة تامة في العلوم الشرعية، روى الحديث عن سبط السلفي وغيره، مات في صفر منها ودفن في قبر كان قد حفره لنفسه تحت رجلي الشيخ ابن أبي حمزة بالقرافة قبلى الحوش الظاهريّ.
الصدر شرف الدين محمد بن علي بن محمد بن سعيد التميمي، المعروف بابن القلانسي.
مات بداره بقاسيون، ودفن به، وكان من بيت كبير، وورث أموالاً كثيرة، وهو صاحب حمام الزهور بجبل الصالحية بدمشق، سمع في صغره من السخاوي، والقرطبي، والعزّ بن عساكر، وابن مسلمة، وغيرهم، وهو خال المولى عز الدين بن القلانسي.
شمس الدين محمد بن الصاحب شرف الدين إسماعيل بن أبي سعد الآمدي، عرف بابن التيتي.
مات بالقاهرة، جفلت به الفرس فوقع وتعلقت رجله بالركاب فتكسرت أعضاؤه، وحمل إلى منزله، فبقي قليلاً ومات، وكان رجلاً فاضلاً، عارفاً خبيراً، خالط الملوك والدول، وباشر المناصب الجليلة، وكان نائب دار العدل بالقاهرة، يقعد مع القضاة، وله سماع كثير من ابن المقير، وابن الجميزي، والكفرطابي، وغيرهم، ومات وله من العمر خمس وستون سنة.
شمس الدين محمد بن الخطيب شيخ بن ثابت العرضي، خطيب داريا. مات بمدرسة سيف الدين السامري بدمشق، سمع من والده، وغيره.
الشريف الأمير عز الدين جماز بن شيحة الحسيني، صاحب المدينة النبوية. مات فيها، وكان شيخاً كبيراً، أضر في آخر عمره، وقام بالأمر بعده ولده الشريف ناصر الدين منصور.
الأمير ركن الدين بيبرس الموفقي المنصوري، مات فيها بدمشق، وظهر بعد موته بقليل أن مماليكه خنقوه وهو سكران، وجرى في ذلك فصول كثيرة، وادعى أولاد سنقر الأشقر أنه مملوكهم باق على ملكهم، فلم يثبت لهم ذلك.
الأمير سيف الدين بهادرسمز المنصوري.
مات بأرض المرج، كان مع نائب السطنة والأمراء في الصيد، فدهمهم في الليل طائفة من العرب فقاتلوهم، فقتل من العرب أكثر من نصفهم، ودخل سمز بينهم ولم يرجع عنهم، فضربه واحد منهم برمح فقتله، وحمل إلى قبر البيت فدفن هناك.
وقال ابن كثير: لما دهمهم العرب كان يرميهم بالنشاب ويقول: أنا بهادر دمشق، فرماه بعض العرب بحربة وقال: خذها، وأنا عصفور بن عصفور، فقتله.
الأمير مبارز الدين سواري بن بركري الجاشنكير الرومي، أمير شكار، توفي في هذه السنة.
الشيخ تاج الدين بن الرفاعي، شيخ الأحمدية بأمّ عبيدة من مدة مديدة.
وكان يكتب عنه إجازات الفقراء، توفي في هذه السنة، ودفن هناك عند سلفه بالبطائح.
فصل فيما وقع من الحوادث في
السنة الخامسة بعد السبعمائة
استهلت هذه السنة، والسلطان، الملك الناصر محمد بن قلاون.
والخليفة المستكفي بالله العباسي.
ونائب الشام: جمال الدين الأفرم، ونائب حلب: شمس الدين قراسنقر المنصوري.
ذكر من قدم من الرسل ومن غيرهم(1/464)
وفيها: وصل رسول الملك المؤيد صاحب اليمن، ومعه الهدية الثمينة من البهار والقنا والشاشات والتحف، فقومت هديته فكانت أقل قيمة من الهدايا الجاري بها عادة أبيه، فصدرت إليه الكتب الشريفة بالإنكار والتهديد والإغلاظ والوعيد، وأرسلت على يد بدر الدين محمد الطوري أحمد مقدمي الحلقة، فلم يصادف منه لما اجتمع به قبولاً، ولا أعاد معه رسولاً، فرجع بعد مدة.
وفيها وصل من بلاد التتار اثنان من أخوة المقر السيفي سلار. أحدهما بعد الآخر ببرهة يسيرة، وهما الأمير سيف الدين جبا، والأمير فخر الدين داود، ووصلت والدته صحبة الأول، فقرّت عينه بجمع شمله، وحضور أهله بعد طول الافتراق والإياس من التلاق، فإن له منذ فارقه أهله وانصدع شمله، من نوبة الأبلستين في الدولة للظاهرية في سنة خمس وسبعين وستمائة، ثلاثين سنة معدودة إلى هذه المدة المحدودة، فأتوه من شاسه البلاد، وبلغ بقربهم المراد، كما صنع الله ليوسف بن يعقوب، وابتهجت بجمعهم القلوب.
قد يجمع الله الشتيتين بعدما ... يظنان كل الظن أن لا تلاقيا
فأمّر كل منهم بطبلخاناة، وانتظم عقدهم جميعاً، وعاد خبائهم منيعاً.
وفي كتاب اللطائف: كان وصول سيف الدين ووالدته وأولاده أولاً في العشر الأوسط من صفر، وبعدهم وصل داود في العشر الأول من جمادى الأولى.
وفيها: وصلت رسل من جهة ملك الكرج إلى القسطنطينية لقصد الأبواب الشريفة، فجهز الأشكريّ معهم رسولاً من عنده وأرسلهم، فوصلوا في البحر إلى ثغر الإسكندرية، ومنها إلى الأبواب الشريفة برسالة يسألون فيها أن تعاد إليهم كنيسة معروفة بهم بالقدس الشريف تسمى المُصلّبة، كانت قد أخذت منهم منذ مدة، وبني فيها مسجد بمئذنة، فأعيدت إليهم، ورُدّت ضالتهم عليهم.
وقال ابن كثير: وكان الشيخ خضر انتزعها منهم في الدولة الظاهرية، وجعلها زاوية فأعيدت عليهم بمقتضى فتاوى العلماء، وأذن لهم في الاستواء في الركوب، وكانوا قبل ذلك يركبون عرضاً من ناحية واحدة.
وفيها: كان عود رسول البرشوني الواصل من جهته، وفخر الدين عثمان الأفرمي المجهّز في صحبته، فلما خرجا من الأبواب الشريفة، ووصلا إلى الإسكندرية ركبا المركب، وعزما على الإقلاع، فتفاوضا مفاوضة أفضت إلى الخصام، فاستشاط الفرنجي غضباً، وطرح فخر الدين من المراكب إلى قارب الخيمة التي خرج من الميناء مُشيعاً للمركب على العادة، هو وغلمانه، ولم يعطهم شيئاً مما كان معهم، وأقلع من فوره، فعاد المذكور إلى الثغر، وحضر إلى الباب العزيز خائباً مُسعاه، مُجدباً مرعاه.
وفيها عاد علاء الدين أيدغدي الشهرزوري رسول المريني من الحجاز، وجهّز إلى بلاد المغرب، وجُهز صحبته الأمير علاء الدين أيدغدي التُليلي، وعلاء الدين أيدغدي الخوارزمي، وصحبتهم ما يليق من الهدايا النفيسة والتحف الثمينة، وسيّر صحبتهم خمسة عشر تترياً من المأخوذين في وقعة مرج الصُفّر، وخمس مماليك أتراك، وغير ذلك.
وفيها: وصل إلى دمشق رسل خربندا، ومعهم صدر الدين المالكي الخطيب رسول المسلمين، فأقاموا بدمشق يومين وتوجهوا إلى الديار المصرية.
ذكر من أنعم عليه بوظيفة أو إمرة أو أُفرج عنه
وفي أول المحرم: باشر القاضي جلال الدين القزويني الحكم بدمشق نيابة عن القاضي نجم الدين بن صصري.
وفيها: رسم للأمير سيف الدين بكتمر الحاجب أن يباشر شدّ دمشق، فامتنع من الدخول في ذلك إلا بشروط، وكتب مطالعة، فعاد الجواب بما اشترطه، وأجيب إلى سؤاله.
وقال ابن كثير: تولى سيف الدين بكتمر الحسامي الحاجب بدمشق وشد الدواوين بالشام، عوضاً عن شرف الدين قيران، واحتيط على قيران المذكور.
وفيها: رُسم للقاضي شمس الدين محمد بن إبراهيم بن سليمان الأذرعي بقضاء الحنفية بالشام، عوضاً عن شمس الدين الحريري.
وفي شهر جمادى الآخرة: أُمرت جماعة بدمشق وأقطعوهم جبال الجرذبين والكسروانيين وهم: علاء الدين بن معبد البعلبكي، وسيف الدين بكتمر عتيق بدر الدين بكتاش أستادار حسام الدين لاجين، وعز الدين خطاب العراقي، وركبوا بالشرابيش، ثم بعد ذلك توجهوا لأجل عمارة الجبال وحفظ ميناء البحر من جهة بيروت وتلك النواحي.(1/465)
وفيها: قصور الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح الصالحي من الكبر وعجز القدرة، وسأل الإعفاء من الخدمة، فأجيب إلى سؤاله، وارتجع إقطاعه إلى الخاص السلطاني، وأضيفت أجناده إلى الحلقة المنصورة.
وفيها: أفرج عن الأمير سيف الدين الحاج بهادر السلحدار، وأعطى إمرة بدمشق، فسافر إليها.
ذكر غزوة سيس
وفيها: جرّد الأمير شمس الدين قراسنقر المنصوري نائب حلب عسكراً إلى بلد سيس ليُغيروا عليها، وذلك أن صاحبها أخرّ حمل المال المقرر عليه، وقطع القطيعة، فتوجه العسكر المذكور صحبة سيف الدين قشتمر الشمسي، ومعه من أمراء حلب: شمس الدين آقسنقر الفارسي، وفتح الدين بن صُبرة المهمندار، وسيف الدين قشتمر النجيبي، وسيف الدين قشتمر المُظّفري، ومن معه من الحلقة والأجناد فدوّخوا تلك البلاد، وشنّوا الغارة على الأرمن.
وكان التتار المجردون ببلد سيس قد علموا بهم، وكمنوا لهم في موضع مخرجهم، فلما رجعوا ونزلوا بأثناء الطريق خرجوا إليهم وصالوا عليهم، ودهموهم بغتةً: ولما اقتتلوا قُتل من المسلمين جماعة، وأُسر الأمراء الأربعة المذكورين، وجماعة من الجند وأرسلوهم إلى الأُردو.
فلما خرجت هذه الوقعة استشعر صاحب سيس الخور، وتحقق وقوعه في الغرر، وأيقن أنه من السطوات الشريفة على خطر، فأرسل إلى الأمير شمس الدين قراسنقر رسلاً يبدي الطاعة، ويذكر الإنابة، والقيام بما عليه من القطيعة، ويسأل الصفح والإغضاء والمسامحة والإعفاء، فوردت كتب المشار إليه إلى الأبواب العالية يعرض ذلك على الآراء الشريفة ويذكر ما التمسه المذكور ويستأذن في هذه الأمور، فاقتضى الحال أن يُجرد عسكراً إلى حلب، ويكتب لصاحب سيس بأنه أجيب إلى ما طلب، فإن حقق قوله بفعله وحمل ما جرت عادته بحمله أعفى من الإغارة وكفى من الإستثارة، وإن سوف وتوقف كانت الجيوش قريبة من إرهاقه متمكنة من خناقه.
قال الراوي: فجُرد أربعة آلاف فارس وجماعة من الأمراء والمقدمين وأصحاب الطبلخانات والمئين صحبة الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح.
قال بيبرس في تاريخه: وكنت في المجردين، فرسم لي بالحديث معه في تقدمة العسكر، وتدبير أحوال التجريد، وتلقي الوارد والصادر من البريد، لأن المشار إليه كان قد مكن منه الكبر وخانه الثُّقبان، السمع والبصر، فلم يكن يستبين شخصاً، ولا يُسمع لمخاطب نصاً، فتحدثت في التقدمة وأسبابها، وحملت عنه جميع أتعابها، ولم أقطع أمراً دون عرضه عليه، وتوصيله إليه، رعاية لقدمته، وحفظاً لسابقته. وكان في التجريد من مقدمي الألف: الأمير جمال الدين الموصلي قتال السبع، والأمير شمس الدين الدكز السلحدار، وجماعة من الحلقة. وكان الخروج من القاهرة في منتصف شعبان من هذه السنة. ولما وصلنا غزة أقمنا بها، وصدرت الكتب إلى الأمير شمس الدين قراسنقر معلمة له بذلك، فكاتب صاحب سيس يخبره بالصورة، وينذره بحركة العساكر المنصورة ويعرفه أنه إن بذل الطاعة والإنابة، وعجّل القطيعة قرين الإجابة، فإنه يوفر من المغزى الصائر، ويغني من الغزو الثائر، وإلا فالعساكر تطأ بلاده وتستأصل طريفه وتلاده، فعند ورود هذه الرسائل عليه، أرسل يبذل الإذعان، ويلتمس تحقيق الأمان بالأيمان، ووصلت رسله إلى الأمير شمس الدين، فأرسلهم إلى الأبواب العالية، ونحن بظاهر غزة نازلون، فاقتضى الحال عودنا، إذ قد حصل الغنى عن العنا، فعادت العساكر. وكان الرحيل من غزة آخر شوال، والوصول إلى الباب الشريف أول ذي الحجة، ولما وصل الأمير بدر الدين أمير سلاح إلى الأبواب العالية استعفى من الخدمة لأجل كبره فأجيب إلى سؤاله، وقد ذكرناه عن قريب.(1/466)
وقال ابن كثير: لما جرّد هؤلاء الأمراء المذكورين إلى غزوة سيس، كان ولد قطلوشاه بأطراف بلاد الروم في ثلاثة آلاف فارس، فأرسل إليهم صاحب سيس، وبذل لهم مالاً جزيلاً، وكان عنده جمع من الفرنج فاجتمعوا هم والتتار في ستة آلاف فارس، فلما بلغ العسكر الحلبي اجتماعهم أشاروا على مقدمهم قشتمر بالرحيل بالغنائم قبل أن يدركهم العدو، فلم يرجع إلى رأيهم وقال: أنا وحدي ألقي هذا الجمع، ففارقه بعض الأمراء في نحو ربع العسكر، وساقوا تلك الليلة كلها فنجوا، وبقي بقية العسكر، فأدركهم التتار ومن انضم إليهم من الفرنج والأرمن، فانهزم العسكر الحلبي من غير قتال، وأسر التتار منهم الأمراء الأربعة المذكورين وجماعة من الجند، وأرسلوهم إلى الأردو، وسلم قشتمر في جماعة ووصل إلى حلب، ثم إن صاحب سيس ندم وخاف العاقبة وكتب إلى نائب حلب يبذل له الطاعة والأموال ويسأل العفو، فكاتب النائب الملك الناصر في ذلك، فأجيب إلى سؤاله، ثم جرى ما ذكرناه الآن.
ذكر قضية جبال الكسروان
قال ابن كثير: وفيها توجهت العساكر الشامية إلى جبال الكسروان، وكان أهلها قد طغوا واشتدت أذيتهم، وتطرقوا إلى أذى العسكر عند انهزامه في سنة تسع وتسعين وستمائة، وتراخى الأمر وحصل الإغفال. فزاد طغيانهم وخرجوا عن الطاعة، فتوجه إليهم الشريف زين الدين بن عدنان، ثم توجه بعده تقي الدين بن تيمية، وقراقوش الظاهري، ووعظوهم فلم يفد فيهم، فعند ذلك رسم بتجريد العساكر إليهم من كل مملكة من المماليك الشمالية، فتوجه أقوش الأفرم من دمشق يوم الإثنين ثاني المحرم بالعساكر الشامية، وصحبته من الرجالة نحو خمسين ألفاً على ما قيل، وتوجهوا إلى جبال الكسروانيين والجرذيين، وطلع إليهم سيف الدين أسندمر النائب بطرابلس من أصعب المسالك، واجتمعت عليهم العساكر من الرجال والتراكمين الأبطال، فأبادوهم قتلاً وتشتيتاً في البلاد، وسُبيت نساؤهم، وبيعت أولادهم، واستخدم أسندمر المذكور منهم جماعة بطرابلس، وانقطع أثرهم من الجبال، وعاد العسكر إلى دمشق، وقُتل في هذه الوقعة الأوحد ابن الملك الزاهر، أحد أمراء دمشق، وعاد الناس إلى دمشق في رابع صفر.
ذكر مهلك قطلوشاه نائب خربندا ملك التتار
قال بيبرس في تاريخه: وفيها هلك قطلوشاه نائب قازان، وكان قد استقر به خربندا على قاعدته، وجرّده إلى بلاد كيلان لقتال الأكراد والغارة على تلك البلاد، فسار إليهم، وقد حشدوا واستعدوا، فخرجوا للقائه، واقتتلوا معه، فكانت لهم النصرة وعليه الكسرة، فعلت كلمتهم لأنها كلمة التوحيد، وتبدّد التتار أي تبديد، وقتل قطلوشاه في الوقعة.
قلت: وكان السبب في تجريد خربندا نائبه قطلوشاه إلى بلاد كيلان ما بلغه عنهم أنهم على مذهب يخالف مذهب المسلمين، فقال: لابد لي أن أبعث إلى كيلان وأطلب أكابرهم وأجمع بينهم وبين فقهاء تبريز، فيبحثون معهم في عقيدتهم، فإن لم يظهر لها صحة ضربت أعناقهم، فكتب إلى ملوك كيلان، وكانوا سبعة عشر ملكاً، وكبيرهم الذي يرجعون إليه يقال له: نوبرشاه، فلما وصل إليه رسول خربندا وناوله الكتاب وقرأه. قال: من أين لخربندا معرفة بهذا الأمر؟ فسألوا الرسول عن ذلك. فقال: قد بلغ الملك من الشيخ براق، وهو شيخ يعتقد فيه الملك اعتقاداً عظيماً بأنكم على مذهب شخص من أهل دمشق يقال له: ابن تيمية، وقد وقع عليه الإنكار من المسلمين، وقد ذكر عنكم أنكم مجسّمون، وأن مذهبكم بطال، وما أنتم على شيء من الدين.
ولما سمعوا بذلك جمعوا فقهاءهم وأخبروهم بهذا الخبر. فقالوا: أيّ من راح منا أو منكم إلى خربندا يقتل بلا خلاف لأن فقهاءهم لا يرجعون إلينا، فأيّ شيء يذكر لهم يردّونه، ثم يفتون في إباحة أرواحنا وأموالنا. فقال نوبرشاه: ما الحيلة في ذلك؟ فقالوا: نحن نكتب عقيدتنا ونسيّرها إليهم ونقول: هذه عقيدتنا ما نعتقد بشيء غيرها. فقال لهم نوبرشاه: افعلوا ذلك.(1/467)
فخرجوا من عنده وكتبوا بعد البسملة: اعلم أيها الملك العظيم الشأن، صاحب الأقاليم والبلدان، أنا نحن قوم منقطعون في هذه البلاد، وقد نقل عنا بأنا مجسمون، فنعوذ بالله من ذلك، ونحن نرى بأن من يجسّم ماله توبة عندنا، وليس حده إلا القتل، وأما ما ذكره الملك من أمر حضورنا وتمثلنا بين يديه لنبحث مع الفقهاء، فالملك لا يخفى عليه أن ضد كل أحد من جنسه، ونحن في هذه البلاد نتسبب ولا نتناول شيئاً في الجوامك، وجميع فقهاء بلادكم أصحاب الجوامك، وأكثرهم يتناولونها بغير استحقاق، فنحن نرى بحرمة هذا، بل فيهم أناس بلغنا أنهم يتناولون من المكس ومن المظالم، فمن هذا الوجه بيننا وبينهم نزاع، فإذا بحثنا معهم لا ينصفوننا، وأما عقيدتنا فهذه، وكانوا كتبوا عقيدة على طريقة أهل السنة والجماعة كما هي المذكورة في الكتب.
فعاد رسول خربندا بذلك، فلما وقف عليه ازداد غضباً فقال: لا بد من إحضارهم، فأرسل رسولاً آخر، فلما حضر قال له نوبرشاه: ارجع من حيث أتيت، فما عندنا أحد يروح، وأنتم قوم تتار، فإش تعرفون من أمور الدين، فإن كان قصدكم خراب البلاد فافعلوا. فقال الرسول: إن لم تسمعوا كلام الملك يأتي إليكم بنفسه بعساكر المغل جميعها، فيخرب البلاد، ويسفك الدماء، ويسبي الحريم والأولاد. فقال له نوبرشاه: افعلوا ما شئتم.
فرجع الرسول وأخبر خربندا بذلك، فغضب غضباً شديداً، وطلب نائبه قطلوشاه وأخبره بالخبر، ثم جمع أمراءه وأمرهم بالتجهيز، وكان قد سيّر جوبان إلى ناحية باب الحديد، ولما جمعت عساكره ولم يبق إلا الرحيل تقدم إليه وزيره رشيد الدولة وقال: أيّد الله القان، هذا الأمر الذي عوّلت عليه لم يعول عليه أحد من القانات، فهذا الذي تفعله يخرّب بلادك، ويضعف أجنادك، ويجعل لك عدوّاً في وسط بلادك، والصواب أن تبطل هذا الرأي، فإن كان قصدك أهل كيلان فأنا أحضرهم إليك، فقال: لا بدّ لي من الدخول إلى بلادهم على كل حال، فسكت رشيد الدولة وركب عدو الله في عساكره، ومعه أمراء التوامين والألوف، وكان أشدّ المغل حنقاً على أهل كيلان قطلوشاه.
ولما نزلوا على مكان، كان بني به مدينة، فأقاموا هناك ثلاثة أيام، وجرد عساكره فكانوا سبعين ألفاً، ثم أرسل إلى جوبان وهو في ناحية باب الحديد وأمره أن يجوز إلى كيلان، ويضع فيهم السيف ولا يرفعه عنهم حتى يفنيهم، ثم هم أن يركب من هذه المنزلة تقدم إليه أمراء الألوف وقطلوشاه معهم. فقالوا له: يا خوند إش هؤلاء؟ أوباش العجم، حتى تذهب إليهم بنفسك وتقلّ حرمة المغل بذلك - فقال: من يشفيني فيهم في هذه النوبة؟ فقال قطلوشاه: أنا أذهب إليهم وأخرب ديارهم، وأقتل رجالهم، وأسوق إليك نساءهم وأولادهم، فلما سمع بذلك خربندا قال: أخاف عليكم أن يجري مثل نوبة مرج الصفّر. فقالوا: يا خوند ليس هذا مثل ذلك، فإن هؤلاء ناس أعجام أوباش، لا قدر لهم ولا قدرة، ولا لهم عسكر، فعند ذلك أمر قطلوشاه أن يأخذ أمراء التوامين ويسير، وأوصاه أن لا يبقي على كبير ولا على صغير، فسار قطلوشاه طالباً بلاد كيلان.(1/468)
وبلغ ذلك أهل كيلان، فوقع فيهم صائح بذلك، وبلادهم كلها جبال وأودية ودر بندات وعرة ما يقدر أحد أن يسلكها إلا بمشقة عظيمة، واجتمع أهلها مع ملوكهم وحصّنوا الدربندات، واجتمعوا كلهم في مكان واحد، وكان أمر ملوكهم وغيرهم يرجع إلى ثلاثة أنفس، وهم: نوبرشاه ودوباج وزكايزن، فتشاوروا فيما بينهم، واتفقوا على أن يسيّروا جواسيس، وقالوا: إن قصدونا من رأس الدربند نزلنا إليهم، وربما يقع الصلح بيننا وبينهم لأنه لا قدرة لنا معهم، فسارت الجواسيس وغابوا أربعة أيام، ثم حضروا وأخبروا أن المغل وصلت إلى رأس الدربند وهم في جمع عظيم قد سدّوا تلك الأراضي، فحصل لهم فزع وخوف، فقال لهم دوباج: يا قوم أنتم تعلمون أن بيني وبين قطلوشاه صحبة عظيمة، وله عندي لباس فتوة، فإن رأيتم أن أسيّر إليه ولدي ومعه شيء من الهدية، ويدخل عليه، فلعله أن يردّ هذا العسكر عنا، ومهما أرادوا نحمل إليهم، فاستصوبوا ذلك منه، ثم جهز ابنه ومعه عشرة من أكابر كيلان، ومعهم هدية سنية، ولما وصلوا إلى رأس الدربند لاقاهم طوالع قطلوشاه. فقالوا لهم: نحن رسل ملوك كيلان فحملوهم إلى قطلوشاه، فتقدم ابن دوباج وقبّل الأرض، وقدم ما معه من الهدية، ثم قال: إن والد المملوك يقبل الأرض بين يدي النوين، ويذكر أن بينكم وبينه صداقة ومودة، ويسألكم أن تكونوا سبباً للصلح نظراً في حال المساكين أهل كيلان، وهؤلاء أكابرهم، وقد أحضرتهم بين يديك، فافعل فيهم ما شئت. فقام هؤلاء ودعوا له ولخربندا وتحدثوا، فقال لهم: ما الذي تريدون؟ فقالوا: نريد أمان القان على حريمنا وأولادنا، وكل ما يطلبه القان والنوين يحمله، وندخل تحت ما يرسم به، فعند ذلك ضحك قطلوشاه اللعين وقال: هيهات هيهات، فأمر بضرب رقبة ابن دوباج، فضربوا رقبته، ثم علقوا رأسه في رقبة واحد من هؤلاء العشرة، وكان من فقهائهم، وقال لهم: روحوا في أسرع وقت وقولوا لهم: يحضر الجميع بأولادهم ونسائهم وملوكهم حتى نحضرهم بين يدي القان، فمن شاء قتله ومن شاء أبقاه وأخذ كل ما كان معهم، ثم شيّعهم، فخرجوا ولا يصدقون بالنجاة.
ولما وصلوا قصوا بقصّتهم، ولما علين دوباج إلى رأس ابنه قامت عليه القيامة، وحزن على ولده حزناً عظيماً ووبّخ نفسه على إرساله ولده، ثم أقسم بالله وبالنبي صلى الله عليه وسلم أنه إن مكّنه الله منهم لأنزل بهم ما يتحدث به الركبان في كل زمان ومكان.
وكان له أخ يسمى جوان يغير ما يشاء على بلاد العجم، أشد بأساً منه والأكثر شجاعة. وكان مغرماً بتواتر الغارات على بلاد الكرج، وكان له مدة شهر غائباً في بلاد الكرج وكان دوباج متعلقاً بسبب غيبته، وكان يتمنى أن يكون عنده ليلاقي به التتار.
وأما باقي ملوك كيلان فقد ضعفت قلوبهم، وتشاوروا فيما بينهم، وقالوا ما لنا قدرة بهؤلاء العدو، وقد عجز عنهم سلطان مصر وجيشه، فاتفقوا كلهم على النزول إلى قطلوشاه إلا اثنان منهم عارضا بذلك، هما: دوباج وزكايون، فإنهما قالا: لا سمع ولا طاعة، ولا نبدل إيماننا بكفر ونحن قط ما رأينا ولا سمعنا بعبور التتار إلى بلادنا، وعندنا سناجق الخليفة، ونحن على إيمانه وعهوده، ومن قال غير هذا ما نسمع منه، فمال إليهما أكثر أهل كيلان. وشجعان الرجال، ومن في رأسه نخوة الإسلام، والفقهاء، والعلماء.
ولما مضى ذلك النهار وأقبل الليل ركب نوبرشاه، وأخذ أصحابه، وسار بهم يطلب قطلوشاه. ولما أصبح دوباج لم يجد إلا زكايون لا غير، والبقية راحوا إلى التتار، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، راحت والله البلاد منا، وصعدت أكثر الناس إلى الجبال والمواضع المنيعة، وتحصنوا فيها.
وركب دوباج وزكايون. وأخذ معهما الفقهاء وأهل بلادهما، وكان هؤلاء أصحاب البلاد الجوانية من كيلان على جانب البحر، فتشاوروا فيما بينهم. وكانوا جماعة كثيرة. وقالوا إذا كان هؤلاء قد وطنوا أنفسهم إلى الذلة فنحن ما نقدر على ذلك، وكانت لهم في ساحل البحر مائة مركب. فنقلوا إليها أولادهم ونساءهم وما يعز عليهم من أموالهم، وأوسقوا بها المراكب. وقالوا، إذا رأينا التتار تدخل إلى بلادنا وملوكها ركبنا في المراكب. فاتفقوا على ذلك، ولكن في قلب دوباج نار بسبب غيبة أخيه.(1/469)
ثم سيروا كشافة إلى رؤوس الجبال، وهم في ذلك، فإذا أخو دوباج قد وصل، ومعه أصحابه - ورفقته، ومعهم غنائم كثيرة، فلاقى أخاه، وهو يبكي وينوح لأجل ولده، وأظلمت الدنيا في وجهه بسبب ذلك، وغضب على أخيه على تسييره ولده إلى قطلوشاه الكافر الظالم، وقال: وإش هذه المراكب الموسوقة، فأخبروه بحكايتهم، فلما سمع بذلك، قال: والله العظيم لقد كان في قلبي من هؤلاء الكلاب من سنة عبر قازان إلى بلاد الشام، وقال لأخيه: وكم مرة أردت الغارة على بلادهم، وتمضي أنت! ويلك إذا هربنا من أعداء الله ورسوله، فأين الإيمان؟ وأين الإسلام؟ ثم إنه جمع رجاله، وكانوا سبعمائة فارس مجردين لخوض البلاد، وكان قد جعل عليهم مقدماً يسمى توكل، رجل طويل، عريض الهامة، معجر الوجه، مكسر الأبدان، عريض القلال، وافي النيبال، صاحب زنود عريضة، وأعضاد قوية، فقال له: يا توكل خذ أصحابك وسيرهم إلى رأس الدربند، فاكشفوا لنا خبر هؤلاء الكلاب، ولا تنزل من مكانك وإن جاء قطلوشاه، ثم أرسل وأعلمني بذلك، فقال له: السمع والطاعة، فسار من ساعته، وثبت قلوب الناس من الغم، وقال: كونوا مكانكم فوحدي ألتقي أعداء الله، وسوف ترون مني ومنهم العجب.
وسمعت أهل تلك البلاد بقدوم جوان شير، فأتت الناس من جميع الجهات ثم كتب كتباً إلى جبال اللكّزية والقيدية، وكان بينه وبينهم هدنة ومصاحبة، وقال لهم: هؤلاء العدو قاصدون إلينا، وأنتم تعرفون أن آباءنا وأسلافنا قط ما أطاعوا التتار، فإن هؤلاء قوم ما يحبون إلاّ الفساد وهتك حريم الناس، فإن تخليتم عنا أخذونا، ثم عبروا إليكم، ولما وقفوا على كتبه وكان مقدمهم يومئذٍ شخص يقال: أمير حاج ابن ناجي. قال: والله ما نقعد عن نصرة جوان شير، فإن له علينا أيادي كثيرة.
فتجهزوا وساروا إليه في جمع كثير، فلاقاهم دوباج، وأنزلوهم في أعز مكان، وحملوا إليهم ما يحتاجون إليه من سائر الأشياء، ثم تشاوروا فيما بينهم في أمر العدو. فقال جوان شير: قد رأيت رأياً فلا تخالفوني فيه. فقالوا: ما هو؟ فقال: يأخذ أمير حاج رجاله ويسير بهم، ويُمسك لنا رأس الدربند، فإذا رآهم وقد دخلوا الدربند يُعلمنا بذلك، فنقوم وندور من خلفهم ونقطع الطريق عليهم، فإذا رآنا وقد التقينا، وكان النصر لنا، لا يمّكن أحداً من الخروج. فقال دوباج: أنت تعلم إنك تكسر هؤلاء الجيش العظيم. فقال له: إما أكسرهم أو أموت، فلا أبالي بما يكون بعدي. فقال أمير حاج: يا جوان شير إعلم أني ما جئت إليك بهؤلاء الرجال إلا ونحن قد بايعنا الله على أنفسنا، فمُرنا بما تريد. فدعى لهم جوان شير، ثم ركب أميرها من وقته وسار بجيشه إلى الدربند، وكان جوان شير قد أوصى له بأنه إذا رأى أنا نحن كسرنا التتار لا يمكن أحداً من الخروج، وإن رأى أنهم كسرونا يذهب هو بمن معه إلى رؤوس الجبال، ثم يذهب إلى بلاده.
وفي ذلك النهار وصلت إلى جوان شير أخبار من عند توكل: بأن أول العدو قد وصلوا إلى رأس الدربند، وهم معولون على العبور، وقد منعناهم، فألحقوا بنا سريعاً، أو ترسل إلينا وتعلمنا ماذا نفعل لأنهم خلق كثير. فلما سمع جوان شير بذلك طلب أخاه دوباج وزكايون وقال لهما: إني قد عولت على أمر. فقالا: ما هو؟ فقال: أسير إلى رأس الدربند بمن معي، وكان معه أربعمائة رجل، ومع التوكل ستمائة، فأضرب مع العدو رأساً في الدربند في آخر النهار، ثم أظهر لهم الإنهزام، فيتحققون منا الإنكسار ولا يتبعوننا من وجهين: أحدهما: إقبال الليل وهجوم الظلام وهم لا يعرفون حال تلك الأرض.
والآخر: يستخفون بنا لقلتنا ويستحقرون شأننا، ثم آخذ أنا بقية الجيش الذين عند توكل ونطلب موضع مقدمهم، ويكون رجاله قد تفرقوا لأجل طلب الكسب، فآخذهم بعون الله تعالى. فقالوا له: أفعل ما بدا لك. فأخذ أربعمائة فارس، وسار بهم تحت الظلام في تلك الليلة وصبيحة الغد، وأما توكل فإنه لما أصبح ثار عليه غبار حتى سدّ الدربند وعلا على عنان السماء، ثم انكشف عن خيل قد سدّت الأرض بكثرتها وأظلمت الدنيا من غبرتها.(1/470)
ولما رأت المغل رجال العجم تقدمت كالعقبان، وصاح توكل على رجاله فكبروا، وذكروا النبي صلى الله وسلم، ثم حملوا، ورشّت المغل السهام عليهم كالمطر، واختلطت الخيل بالخيل، فصار النهار كالليل، وكان مقدم هؤلاء المغل شخص يقال له: دمندار، فلما رأى ما حل بهم من العجم نبه رجاله، وصرخ في أبطاله، فحملت المغل حملة رجل واحد، فبينما هم في الحرب الشديدة، إذ وصل من المغل تومان مع شخص يسمى نوين رمضان، فرأى الحرب في عمل عظيم، فعند ذلك تأخرت العجم وقد كثر عليهم الرجال، ولما رأى ذلك توكل كشف رأسه وزعق: إلى أين يا لئام؟ تسلمون البلاد إلى هؤلاء الأوغاد؟ أما لكم نخوة الكرام؟، ثم نادى: يا لدين محمد صلى الله عليه وسلم، فحمل، فعند ذلك تراجعت العجم كأنهم أسود قد خرجت من الآجام. فلله درّ توكل في ذلك اليوم، لقد قاتل قتالاً شديداً، ما رأت الراؤون مثله، ولا سمعت السامعون نظيره، ولقد قاتل بستمائة فارس مع عشرين ألف فارس من أول النهار إلى آخره، ولما أمسى الليل تأخرت المغل وخرجوا من الدربند، ونزلت العجم مكانهم.
ثم افتقد توكل أصحابه، فوجد مائة نفس عدموا، وجُرح أكثر البقية، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أفغدا لا يبقي معي أحد، فأرسل تلك الليلة فارساً يعلم جوان شير إن لم تلحقنا لا يبقي منا أحد، فلما علم بذلك جوان شير أسرع في السير حتى وصل إليهم في آخر الليل، ولما رآهم على تلك الحالة ضاق صدره إلا أنه أضمر ذلك في نفسه، فشرع يثّبت قلوبهم ويشجعهم.
ولما أشرق الصبح، ركب ورفع على رأسه السناجق، ودقت الطبول، ونُفخ في البوقات، وصاحت العجم، ورأى الترك ذلك فعلموا أن مدداً جاء لهم، وكان قطلوشاه قد وصل إلى رأس الدربند، فلما رأى المغل على تلك الحالة استعجزهم فقال: إش هؤلاء العجم حتى طولتم هذا المقدار، فقالوا: يا نوين والله قد قاسينا منهم أمس ما قاسينا يوم مرج الصفّر. فضحك قطلوشاه من ذلك ثم أمرهم بالحملة، ولما رأت العجم ذلك أعلنوا بالتكبير والتهليل، ثم حملوا وتصادموا في وسط الدربند، وتقدم جوان شير، وعمل بالمغل حتى أيقنوا بالهلاك، وخُيلّ لهم أن قد نزل عليهم من السماء عذاب، ولكنهم يستطيلون لكثرتهم، وتخبلت العجم أيضاً، فلما رأى جوان شير ذلك مزّق درعه، ورمى خوذته عن رأسه، وصرخ: يا لدين محمد! إلى أين تفرون يا بني الأندال وتتركون حريمكم وأولادكم إلى أعداء الله ورسوله، فلله درّ فارس ما أجرأه، وسيد بأمور الحرب ما أخبره وأدراه، فلقد زلزل المغل عن مكانهم، وأنزل بهم الويل والثبور، ومن خلفه أولاد أخيه وهم ينادون: يا لثأرات أخينا الذي قتله قطلوشاه حين راح إليه في الرسيلة لأجل الإصطلاح، كما ذكرنا.
ولقد أخبر من حضر هذه الوقعة أن جوان شير غير في ذلك اليوم عشرة أروس من الخيل. وكلما رجع لأجل تغيير الفرس يتزاحم أصحابه في الهروب إلى الخيام، فإذا رجع هدر كالأسد فيرجع أصحابه إلى الحرب، ففي أقل من ساعة أخرج المغل من الدربند، فنظر إلى ذلك قطلوشاه فكفر ونحر وعتى وتجبر، ثم حمل بمن معه وكان آخر النهار، ولما رأى جوان شير ذلك، قال لأصحابه: انقلعوا من بين أيديهم لأن الليل قد أقبل، وأكون أنا خلفكم، فتقلعوا وخرجوا من الدربند، وصاحب المغل وراءهم من سائر النواحي، وتبعوهم، وقالوا: لو حمل قطلوشاه من أول النهار ما وقفت العجم ساعة واحدة، وانقطع جوان شير من خلف العجم ومعه جماعته الخواص، ورأى ذلك أمير حاج بن ناجي مقدم اللكزية من رأس الدربند وقال: والله ما بقي تقوم لهم قائمة، وروحوا بنا في رؤوس الجبال. وأما المغل فإنهم لا زالوا خلف العجم إلى دخول الليل، ورجعوا إلى قطلوشاه، وكان نازلاً في رأس الدربند من داخل، وقالوا له: إنا لم نزل سعياً وراء العجم حتى أظلم علينا الليل، ففرح قطلوشاه فرحاً عظيماً، وقال: إلى أين تذهبون؟ والله لا أبقي منهم أحداً لا صغيراً ولا كبيراً.(1/471)
ثم إنه بات مكانه في تلك الليلة إلى الصباح، فلما أصبح ركب وسار يطلب كيلان وبلادها، فنظر إلى المدينة وإلى رستاقها وما فيها من الأموال والخيل والأبقار والأغنام، وكان دوباج نادى فيهم بأن يتركوا أموالهم وأولادهم ويحفلوا بأنفسهم فقط، فلما عاين قطلوشاه ذلك قال لأصحابه: والله لقد رابني أمر العجم، وأخاف من ردهم علينا. فقالت له الأمراء: وكيف يكون ذلك؟ فقال: لأنهم ما حصنوا أموالهم ولا أولادهم، وأخاف أن تكون ذلك مكيدة كانوا قد دبروها حتى نشتغل وتنصرف عسكرنا، ثم يرجعون إلينا. فضحك دمندار وقال: أطال الله عمر النوين، ومن أين للأعجام هذا الفهم؟ وهم مثل البقر السارحة، غير أنهم أرادوا النجاة لأرواحهم وتركوا أموالهم وأولادهم، فعند ذلك تفرقت المغل في البلاد والشعاب والأودية والتلال في طلب الكسب، فحاشوا أموالاً لا تعد ولا تُحد، ولم يبق عند قطلوشاه إلا اليسير من المغل، والباقي تفرقوا في طلب الكسب.
وكان جوان شير لما انكسر أرسل إلى أمير حاج بن ناجي أمير اللكزية: لا يهولنكم ما جرى علينا، فنحن هربنا من بين أيديهم مكراً منا وحيلة دبرناها لعل الله أن يجعل فيها دمارهم، فاحفظوا أنتم الدربند، وانظروا منا العجب، ولما سمع أمير حاج هذه الرسالة قال للرسول: والله لولا وصولك إلينا في هذه الساعة لعولت على المسير إلى بلادي.
وأما جوان شير ودوباج وزكايون فإنهم قد جمعوا العجم، فكان فرسانهم ألفين وخمسمائة، ومُشاتهم ثلاثين ألف راجل، وقد بايعوا الله تعالى وتحالفوا بالله الذي لا إله إلا هو أنهم لا يولون من بين أيدي المغل ولو يبقي واحد منهم.
ثم أن جوان شير أرسل كشافة يكشفون الخبر فقال لهم: إذا رأيتم قطلوشاه قد وصل إلى مرج الجاموس تعالوا اعلموني بذلك. فسارت الكشافة، وإذا قطلوشاه مع عسكره قد أشرفوا على المرج، فعادوا في الحال وأعلموا جوان شير. فقال جوان شير: الحرب خدعة فما ترون في أمر الكبسة على هؤلاء بالليل؟ فقالوا له: افعل ما بدا لك، فركب وركبت العساكر، وساروا على طريق ليس فيه ديدبان قطلوشاه، فساروا بين جبال شامخات، وأماكن وعرات، وآجام وغابات، ومع ذلك هم خبيرون بتلك الأراضي لأنها أرضهم، ثم قال لهم جوان شير: يا قوم قد قربنا منهم ولم يبق بيننا وبينهم إلا هذا الجبل، والرأي عندي أن تنزلوا وتستريحوا، وتُريحوا خيولكم إلى آخر الليل، وفي وقت السحر في الغلس نكبسهم فنزلوا.(1/472)
وقال جوان شير: أنا أروح وأكشف هؤلاء، فمنعوه ولم يسمع منهم، فأخذ معه جماعة ممن يثق بهم ويتكل عليهم في الشدائد، وساروا وهم مشاة، فصعدوا إلى ذلك الجبل، ثم نزلوا إلى مرج الجاموس، فإذا هم نازلون فيه، وهم آمنون مطمئنون، وخيولهم سارحة، فدار جوان شير مع أصحابه حولهم. فقال: القوم نحو ثلاثين ألفاً والباقي تفرقوا في طلب الكسب، ثم رجعوا إلى أصحابهم فقال لهم: قوموا ندهمهم قبل إسفار الصبح. فقاموا وركبوا، وساروا غير بعيد، فإذا بصياح من خلفهم يقول: قد دهمت الخيل من ورائنا فقال دوباج: قد عملت التتار علينا الحيلة وسبقونا إلى ما قد دبرناه. فقال لهم جوان شير: سيروا أنتم هُوينا وأنا أرجع وأكشف لكم هذا. فأطلق عنان جواده وطلب المكان الذي سمع منه الصياح، فلما قرب منه سمع صهيل الخيل وزمجرة الفرسان وقعقعة السلاح. فقال: هذا والله عسكر لا محالة وهلكنا لا محالة. فأنصت إليهم وإذا هم يتحدثون بالعجمي ويقولون: ما نظن أن نلحق بجوان شير لأنه رجل مقدام على البلاء وربما يكبس الكفرة من قبل وصولنا إليه، فناداهم جوان شير بالعجمي: من أنتم رحمكم الله؟ فأنا جوان شير. فلما سمعوا به تسابقت إليه الفرسان وفي أوائلهم نشاوور الشُشتري صاحب مازندران، وهم أربعة آلاف فارس كأنهم الأسود العوابس، وقد أتوا إلى نُصرة جوان شير، فلما تلاقوا اعتنقوا على ظهور الخيل وساروا يطلبون دوباج وزكايون، فتلاقوا واعتنقوا وفرحوا ولم ينزلوا، بل ساروا من وقتهم فأشرفوا على أعداء الله وهم على الحالة التي خلاّهم جوان شير - ولهم - يزك من ناحية كيفان ففرق جوان شير أصحابه حولهم من الخيالة والرجالة، وقال لهم: لا تخرجوا حتى تسمعوا النفير وقد ضرب، فكل منهم يحرك كوسانه ويخرج من مكانه، ودَوّسُوهم بسنابك الخيول. ففعلوا مثل ما قال، وصرخوا صرخةً واحدةً وقالوا: الله أكبر فتح الله ونصر. قال: فنادتهم الجبال والأشجار، فخيل للمغل بأن السموات قد انطبقت على الأرض، وثأر قطلوشاه وقد طار فؤاده، ثم قال: حسبت هذا الحساب، ونطّ على ظهر جواده، وكان هذا الجواد لا يبرح واقفاً في النوبة، فلما ركب صرخ في مماليكه وأتباعه وقال: لا تفارقوني وإذا هو بدمندار ورمضان نوين وسيباوجي ونوينات المغل وأمراؤها وقد أقبلوا إلى قطلوشاه، فلما رآهم وقد اشتد ظهره، وقال لهم: ماذا ترون في هذه الحيلة التي تمت علينا؟ فقال سيباوجي: اعلم أنهم عملوا شيئاً، وما تم معهم. فقال له: وكيف العمل؟ فقالت الأمراء: ها نحن قد اجتمعنا عليك والآن يلوح الضوء فنأخذهم على رؤوس الرماح والمرهفات الصفاح. فقال لهم دبندار: إش هذا الكلام والله ما يصبح الصباح إلا وعسكرنا على الأرض وهم أشباح بلا أرواح. وهم في الكلام فإذا العجم قد صرخت كالأسود فكشف جوان شير رأسه وحمل، فحملوا معه حملة الأسود على فرائسها.
وبينما قطلوشاه في جماعته وأصحابه، وهو يحرضهم على القتال، إذ هجم عليه جوان شير وضربه ضربة صادقة، فوقعت الضربة على بيضته فغدتها نصفين وقطعت أذنه، وحافت رأسه ووجهه، فصاح وصرخ، وقال: أيها الفارس لا تعجل علي فأنا قطلوشاه، فانتظر وأعطيك ما شئت، فلم يلتفت إلى كلامه، وجذبه وأخذه أسيراً، وقاده حقيراً، ووصل نشاوور إلى دمندار، وضربه من حديد فأرماه، وأخذه أسيراً، ووصل دوباج إلى ابن قطلوشاه، وهو هارب، فقال له: إلى أين يا لئيم ابن اللئيم، فأنا الذي أقتلك لآخذ ثأري، وأُقر عيني، ثم أخذه أسيراً، فعند ذلك عملوا السيوف في المغل، وقتلت منهم جماعة لا تحصى، والذين هربوا وأتوا إلى الدربند فوجدوها مسدودة، كما ذكرنا.
وكان قطلوشاه لما عبر بعساكره أخلى الدربند، وكان أمير حاج نزل إليها في اللكزية، وسدوها بالأحجار والأخشاب.
وهرب جماعة من المغل. ودخلوا الدربند، والعجم مشغولون بالقتال والأسر، فلحقهم نشاوور وجوان شير على مسيرة يوم. ثم عادوا والمغل معهم أسارى في القيود.(1/473)
ثم احترست العجم، وجمعوا ما حصّلوا من خيول المغل. وأثاثهم، وقماشهم، وساروا إلى أن أتوا مدينة دوباج، وهي على يقال لها ذماهي، فالتقاهم أهل المدينة مهللين ومكبرين إلى أن دخلوا البلد، ولما استقروا قام إليهم دوباج وهو يبكي ويصرخ بسبب ولده الذي قتله قطلوشاه، وأرسل رأسه إليه - كما ذكرنا - فقالت له أمراء العجم: لا تبك. فهؤلاء المغل بين يديك، ونحن نمتثل كلامك، فافعل بهم ما تريد، فقال: والله إني أريد أن أعذبهم عذاباً ما عُذبّ به أحد في العالم. فقالوا له: إفعل ما تريد. فعند ذلك طلب قطلوشاه والأمراء الذين كانوا معه، وكانوا سبعين أميراً، وطلب جماعة من اليهود المزينين، وأمرهم بأن يقطعوا أيديهم وآذانهم وأنوفهم، ويحلقوا ذقونهم، ففعلوا بهم ذلك، ثم أركبوهم حميراً وداروا بهم في بلادهم، ثم أمر بعد ذلك بأن تنصب لهم خوازيق، فلما نظر قطلوشاه إلى ذلك عرف ما يريد به وبكى وتحسر، ونظر إلى دوباج، وقال له: يا أمير ارحمني، فالله عليك لا تهلكني بهذه الخوازيق، واعلم بأنك ميت بعدي، وبلادك تخرب، فقدم إلي حبلاً، وما يضيع فيّ، فقال له: يا كلب بن كلب ما عملت معي من الخير حتى أقدم لك جميلاً، وقد قتلت ولدي وقطعة كبدي. فأمر لمماليكه بأن يشيلوه فشالوه، وهو يبكي ويقول: هل من مخبر يخبر خربندا بحالنا، وما نحن فيه، وأرموه على الخازوق فدخل في دبره وخرج من ظهره.
وأقاموا أياماً والعجم يأتون برجال من المغل حيث خمسة وعشر مقشرة، وأكثر وأقل، ويضربون رقابهم، فحسبوا القتلى منهم. فمات أربعون ألف نفس، وسبعون أميراً من الأمراء الكبار، فهذا الذي جرى على هؤلاء المغل.
وأما خربندا فإنه كان نازلا على مدينته الجديدة التي بناها، وهو ينتظر خبر قطلوشاه ساعة بساعة، وفي بعض الأيام ركب إلى الصيد إلى ناحية الدروب. فإذا بغبار قد لاح من بعيد، فقال: إيتوني بخبر هذا، وأظنه من عسكري، فتسابقت إليه الخيل. ثم رجعوا ومعهم بعض ناس من المنهزمين، فلما رأوا خربندا أرموا أنفسهم على الأرض، وحثوا التراب على رؤوسهم، وعووا مثل ما تعوي الكلاب، ونعوا لأهلهم وأصحابهم، ثم احكوا لخربندا بما جرى عليهم مفصلاً. فقال خربندا: ما فعل قطلوشاه؟ فقالوا: ما نعلم إلا أنهم تبعونا إلى الدربند، وكانوا قد مسكوا الدربند، فقاتل قطلوشاه بمن معه وهم مشاة، والظاهر أنهم أخذوا أسرى.
ولما سمع بذلك خربندا ألوى رأس فرسه ورجع، وبات تلك الليلة بأشر بيات، ولما أصبح أرسل كشافة إلى رأس الدروب ليستصحوا الأخبار، ورحل هو طالبا مدينة تبريز، ثم بعد مدَة رجعت كشافته وأخبروا بما جرى على عسكره، وما فعلوا بقطلوشاه وبقية الأمراء، ولما سمع بذلك خربندا طار فؤاده وخرج من عقله من الغضب والقهر، وكان في ذلك الوقت الشيخ براق حاضرا وهو الذي كانت هذه الفتنة من تحت رأسه. وكان بينه وبين قطلوشاه مودة عظيمة. فقال لخربندا: لا تحمل الهم فأنا اسير إلى بلاد كيلان فأحضر بقطلوشاه ومن معه، وكان يعتقد أنهم أحياء. فقال له خربندا: افعل بما تريد، فركب الشيخ براق وسار طالباً كيلان.
وأما خربندا فإنه انقطع عن الركوب سبعة أيام، فلما رأت المغل ذلك خافوا أن يطمع أعداؤه في الملك. فقالوا لجوبان نائب أبي سعيد: هذه التي فعلها الملك ما هي عادة الملوك فإنه قوي يوري الناس الضعف، وهذا نقص في حقه. فقال لهم جوبان: اليوم أركب إليه وأتحدث معه في هذا الأمر. فقام وركب، وجاء إلى باب خربندا وطلب العبور، فمنعوه، ثم قال لبعض الخدام: اعبر وقل للملك إن جوبان على الباب يريد أن يتحدث مع الملك من باب النصيحة، فدخل الخادم واستأذن له، فأذن، فدخل جوبان وقبّل الأرض ودعا له. فقال له خربندا: ما معك من النصيحة؟ فقال له: أيد الله الملك، الملوك يورون الناس القوة عند الضعف لأجل حرمة المملكة، وأنت توري الضعف عند القوة، فلا تحمل هذا الهم على قلبك، فرجالك أجواد، وليوثك أفراد، وسيوفك حداد، ويُخشى أن يسمع الملك الناصر صاحب مصر فيطمع فيك وفي مملكتك. فقال له: يا جوبان كيف لا أحمل الهم وقطلوشاه وسبعون أميراً في الأسر وأكثر عسكري قد فني. فقال يا مولانا: أما أمر الأجناد هين، فإن المغل لو باتت عند نسائها ليلة واحدة لجابت النساء أكثر من ذلك، ولم يزل عليه جوبان حتى أمر بشد الخيل للصيد، فركب وركبت معه الأمراء وسار يطلب الصيد.(1/474)
وأما الشيخ براق فإنه وصل إلى دربند كيلان، فمسكه اللكزية الذين يحفظون الدربند، وأتو به إلى دوباج، فلما مثل بين يديه سلم عليه، فقال له دوباج: أنت براق. فقال: نعم، فأمره بالجلوس، فجلس وكان قد بلغه منه أنه هو الذي حرض المغل على الدخول إلى بلادهم، ثم قال دوباج: الحمد لله الذي أتى بك يا شيخ براق من غير تعب، فوالله لقد كان في قلبي نار من جهتك، ثم قال له: لماذا أتيت في هذا الوقت؟ فقال له: اعلم أن سلطان البلاد، ومالك رقاب العباد خربندا قد سيرني إليكم ناصحاً، لما علم أنني صادق، وكلامي للحق موافق، وهو يأمركم أن تحلوا قطلوشاه ومن معه من الأمراء وتبعثوا إليه ما عليكم من الأموال، وأن ترجعوا عما تعتقدون من مذهب المجسمة، وتعتقدوا بما قاله الأشعري، وإلا سار إليكم بعساكر تضيق لها الأرض.
فلما سمع دوباج بذلك قال له: أنت يا براق ما جئت إلا في هذا الأمر. قال: نعم. فقال له: فكأنك تحب قطلوشاه، فقال: نعم، لأنه أخي وصاحبي. فقال له يا فقير: وأين الإسلام الذي عندك إذا كان مثل هذا أخوك؟ وإش هذه الحالة التي أنت عليها؟ محلوق الذقن والرأس وقد خليت شواربك كأنك شيطان، إش هذا الذي تعتقده من الأديان؟ اليوم أخلي منك الأوطان، وأفجع فيك أصحابك والخلان، ثم قال: ردوه إلى أخيه قطلوشاه فإنه يحبه، فأخذوه وجاءوا به إلى قطلوشاه وهو قاعد على الخازوق، وهو ميت قديد، فلما رآه على هذه الهيئة بكى وصاح، ثم نظر فإذا هم قد نصبوا له خازوقاً مثله بجنب قطلوشاه، فقال لهم: ما هذا؟ قالوا له: هذا مجلسك الذي أمرنا بأن نجلسك عليه، فقال: يا قوم لا تفعلوا فما أظن دوباج يفعل بهذا لأنه صاحب دين ويقين صادق، وهو صالح من الصالحين، فقالوا له: لا تطول هذا الكلام، فلا بد لك من الجلوس على هذه الخشبة، ونصبوا مع خشبته ثلاثين خشبة لأصحابه، وأقعدوا جميعهم على الخوازيق، ولم يتركوا منهم إلا واحداً من غلمانهم ليروح بالخبر، ثم قطعوا أنفه وأذنيه، وقالوا له: اذهب واعلم حربندا بالذي رايت، فسار وهو ذليل حقير حتى وصل إلى جوبان، فلما رآه جوبان على هذه الهيئة قام ودخل على خربندا.
وكان خربندا ينتظر قدوم الشيخ براق، فقال له يا مولاي: قد جاء واحد من أصحاب الشيخ براق، وهو مقطوع الأذنين والأنف ومحلوق الذقن والشنبات، فقال: أتوني به، فلما دخلوا به عليه أرمى روحه على الأرض، وبكى وانتحب، ونعى الشيخ براق، فقال خرنبدا: ويلك حدثني ما جرى لكم، فحدثه بجميع ما جرى، وأنه رأى قطلوشاه ومن معه من الأمراء قاعدين على الخوازيق وهم أموات صاروا قديداً، فلما سمع خربندا بذلك أرمى روحه على الأرض من سريره، وبكى حتى غشي عليه لأجل براق وقطلوشاه والأمراء الذين معه، ثم قال: كيف هان عليهم عملوا هذا بالشيخ الصالح، ثم قال: والله يا أمراء لقد حملت هماً على الشيخ براق أكثر من همي على قطلوشاه وعسكري، ثم نادى بالتجهيز إلى كيلان ويكون البيكار ثلاث سنين إما تفنى المغل أو تخرب كيلان، ثم إنه فتح الخزائن وأنفق الأموال، وسنذكر ما جرى بعد ذلك.
واعلم أن قضية الشيخ براق مع أهل كيلان إنما كانت سنة ست وسبعمائة، لأن المؤرخين ذكروا قدوم الشيخ براق إلى الشام في سنة ست وسبعمائة على ما سنذكره إن شاء الله، وإنما ذكرناها في هذه السنة قصداً لسوق ما جرى لأهل كيلان مع عسكر خربندا على تمامها وكمالها من غير فصل بأجنبي.
ذكر ترجمة الشيخ براق
كان أصله رومياً من بعض قرى توقات، وكان يمشي وفي صحبته مائة فقير كلهم محلوقة اللحى وقد وفروا شواربهم، عكس ما وردت به السنة، وعلى رؤوسهم قرون لبابيد، ومعهم أجراس وكعاب وجواكين خشب، وكانت له منزلة عند قازان، ذلك أنه سلط عليه نمراً، فزجره فانهزم منه، فحظي عنده، وصارت له مكانة، وأعطاه في يوم ثلاثين ألفاً ففرقها كلها، ومن طريقة أصحابه أنهم لا يقطعون الصلاة، ومن ترك صلاة ضربوه أربعين جلدة، وكان الشيخ براق يزعم أنه إنما سلك هذا الزي ليخرب به على نفسه، ويرى أنه في زي المسخرة، وإنما المقصود الباطن ونحن إنما نحكم بالظاهر، والله متولي السرائر.(1/475)
وقال صاحب النزهة: كان الشيخ براق شيئاً عجيباً، قد حلق ذقنه وترك شواربه، وعمل على رأسه من اللباد على صفة قرون البقر، وعلّق في رقبته أجراساً وكعاب الأبقار والأغنام، وفي رقبته سلاسل الحديد، وهو جبّار من الجبابرة، ومعه مائتا نفس بهذه الصفة.
قال: وهؤلاء الذين يأكلون الحرام، وأكثرهم ما يصومون شهر رمضان، وقد جعل براق له منهم نائباً وقاضياً ووزيراً وحاجباً ومحتسباً وسلحدارية، وله طبلخاناة، وكان كلامه مقبولاً عند التتار، وأمره مسموعاً نافذاً خصوصاً عند الملك خربندا، وكان يقال عند التتار إنه يركب السباع، ولما قتل في بلاد كيلان على ما ذكرنا كان عمره ما ينيف على أربعين سنة.
ذكر بقية الحوادث
منها ما قال ابن كثير: وفي يوم السبت تاسع جمادى الأولى حضر جماعة كثيرة من الفقراء الأحمدية الرفاعية إلى نائب السلطنة بالقصر بدمشق، وحضر ابن تيمية، فسألوا من النائب بحضرة الأمراء أن يكفّ تقي الدين إنكاره عليهم وأن يُسلم لهم حالهم، فقال لهم الشيخ: هذا لا يمكن ولا بد لكل أحد أن يدخل تحت الشريعة قولاً وفعلاً، ومن خرج عنها وجب الإنكار عليه على كل أحد، فأرادوا أن يفعلوا أشياء من الأحوال التي يتعاطونها في سماعهم، فذكر الشيخ أن هذا كله من باب الحيل والبهتان، ومن أراد منكم أن يدخل النار فليدخل الحمام وليغسل جسده غسلاً جيداً ويدلكه بالخل، ثم يدخل النار إن كان صادقاً، ولو فرض أن أحداً من أهل البدعة دخل النار، فإنه لا يدل على صلاحه، بل هذا من الأحوال الدجالية المخالفة للشريعة المحمدية إذا كان صاحبها على غير الطريقة السنية، فابتدر شيخ المُنيبع الشيخ صالح وقال: نحن أحوالنا تتفق عند التتار ما تتفق عند الشرع، فضبط عليه هذه الكلمة الأمراء والحاضرون، وكثر الإنكار عليهم من كل أحد، ثم اتفق الحال على أنهم يخلعون الأطواق الحديد من رقابهم، وأن من خرج منهم عن السنة ضُربت عنقه، وصنف ابن تيمية جزءاً لطيفاً في طريقة الأحمدية وأصل مسلكهم، وما في ذلك من مقبول ومردود بالشرع.
ومنها ما ذكره ابن كثير أيضاً: أن في خامس رمضان يوم الإثنين جاء كتاب من الأبواب السلطانية وفيه الكشف عما كان وقع للشيخ ابن تيمية بسبب فُتيا الطلاق، وأن يُحمل إلى مصر، وكذلك نجم الدين بن صصري، فتوجها على البريد يوم الإثنين ثاني عشر رمضان، وكان دخول تقي الدين إلى غزة يوم السبت، فعمل فيها مجلساً بجامعها، ودخلا معاً إلى القاهرة يوم الإثنين الثاني والعشرين من رمضان، وعُقد لإبن تيمية مجلس بالقلعة، وأراد أن يتكلم فلم يمكن على عادته، وحُبس ببرج هناك أياماً، ثم نقل إلى الجُبّ ليلة عيد الفطر هو وأخواه زين الدين وشرف الدين.
وأما ابن صصري فإنه أكرم وجُدّد له توقيع بالقضاء، وخُلع عليه، وجاء بعده كتاب إلى دمشق فيه الحط على ابن تيمية ومخالفته في العقيدة، وأن يُنادى بذلك في البلاد الشامية، وألزم أهل مذهبه مخالفته، وكذلك وقع بمصر تُجاه الجاشنكير والشيخ نصر المنبجي، وساعدهم طائفة كثيرة من الفقهاء، وجرت فتن منتشرة، وحصل للحنابلة بمصر إهانة كثيرة جداً، وكان قاضيهم كثير العقل، كثير العلم، وهو شرف الدين الحراني، ولولاه نال أصحابه أذى كثير، فلطف الله بهم إذ كان هو قاضيهم.
وقال بيبرس في تاريخه: استدعى الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية الحنبلي من دمشق لأمور نقلت عنه، وعُقد له مجلس بحضور الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير والأمير سيف الدين سلار والقضاة وغيرهم، واقتضى الحال اعتقاله مدة، ثم خُليّ سبيله أياماً، ثم ردّ إلى السجن.(1/476)
ومنها: أن أبا سعيد ابن عم محمد بن الأحمر - صاحب مالقة - أخذ مدينة سبتة بالأندلس، وكانت في يد شخص من أهل الأندلس يسمى العسفي، كان أولاً ينوب فيها عن الموحدين، فخلع طاعتهم لما وهت مملكتهم واستبد بها وانتمى إلى المريني إذ كان أشد شوكة وأكثر جماعة، وجعل له جعالة يحملها إليه كل سنة، فاتفق بينه وبين شخص يسمى ابن زيد مستحفظ القلعة التي بسبتة شيئاً، ووقع بينهما واقع، فكاتب ابن زيد صاحب مالقة وهو ابن عم الأحمر يستدعيه ليُسلم له قلعة سبتة، فعزم على التوجه إليه وخشي من ظهور أمره واتصال خبره بالعسفي فيحتاط لنفسه، فلا يبلغ منه مراماً، فأعمل الحيلة، وورّي بقصد طنجة، وكتب إلى العسفي بسببه يقول له: إن أهل طنجة قد كاتبوني وقرروا الأمر معي أن يُسلموها إلي على أن أوجه إليهم بأربعين ألف دينار وأسير إليهم وأتسلمها، وقصدت أن تكون لي مساعداً بأمرين: أحدهما: أن تُسعفني ببعض المال.
والثاني: أن أجعل عبوري على سبتة وتسير جفاني - يعني المراكب - من تحتها ليخفى على من بطنجة أمرنا، فنأتيهم بغتة فنظفر بالبغية.
فمشت هذه الخدعة على صاحب سبتة، وظن المكيدة حقاً، وسار أبو سعيد على الأثر بجفانه وأنصاره وأعوانه إلى نحة سبتة، فلما رأى النواظير والأحراس مراكبه مقبلة أخبروا صاحب سبتة. فقال: لا بأس عليكم منه، فإن له مقصداً هو قاصده، فلما جنّ الليل طرق البلد على غفلة، وتسلم القلعة من مستحفظها من أول وهلة واحتلها، وانبسط في البلد، هو ومن معه، فأخذها وأسر أولاد العسفي، وساقهم إلى غرناطة في الأسر، واستولى على سبتة بكيده، وبقيت في يده وأيده.
ومنها: أنه في رمضان جاء كتاب من مقدم الخدّام بالمشهد النبوي يستأذن السلطان في بيع طائفة من قناديل الحرم النبوي، ففيها قنديلان من ذهب زنتهما ألف دينار، وأن يصرف ذلك في بناء مئذنة عند باب السلام، الذي عنده المطهرة، فرسم بذلك، وشرع في بنائها، وولي خطيبها سراج الدين عمر قضاءها، مع الخطابة بدمشق، ذلك على الروافض.
ومنها: أن في هذه السنة اختلفت السوقة والعامة في أخذ الفلوس المصكوكة عدداً، وقرروا أمرها وزناً، وقطع سعرها - بدرهمين ونصف - الرطل، واستمرت على ذلك.
ومنها: أن في شهر رجب قرأ الشيخ جمال الدين المزي فصلاً في الرد على الجهمية من كتاب أفعال البخاري تحت قبة النسر، فغضب بعض الفقهاء الحاضرين وقالوا: نحن المقصودون بهذا التكفير، وسعوا به إلى قاضي القضاة ابن صصري، فأحضره إلي بين يديه ورسم بحبسه، فبلغ ذلك الشيخ ابن تيمية فقام حافياً وأصحابه خلفه إلى الحبس فأخرجه منه، وطلع القاضي إلى النائب، وطلع الشيخ تقي الدين، التقوا عند النائب، وتخاصما، فأسقط تقي الدين على القاضي، وذكر نائبه جلال الدين، وأنه آذى أصحابه بسبب غيبة ملك الأمراء، فأمر ملك الأمراء أن يُنادى في المدينة: من تكلم في العقائد حلّ قتله، ونهبت داره. وكان قصد الأمراء تسكين الفتنة.
ومنها في رجب طلبوا القضاة والمفتين والفقهاء والشيخ تقي الدين بن تيمية إلى حضرة نائب دمشق، بالقصر الأبلق، فلما اجتمعوا عنده سأل الشيخ تقي الدين عن عقيدته، فأملى شيئاً منها، ثم أحضر عقيدته: الواسطية، وقرئت في المجلس، وبحث فيها، وبقي مواضع أخر أخرت لمجلس آخر، ثم اجتمعوا يوم الجمعة الثاني عشر من رجب، وحضر المجلس أيضاً الشيخ صدر الدين الهندي، وبحثوا معه، وسألوه عن مواضع، وجعل الشيخ صدر الدين يتكلم معه، ثم رجعوا عنه، واتفقوا على أن الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني يحاققه، ورضوا بذلك، وانفصل الحال أن الشيخ تقي الدين أشهد على نفسه الحاضرين أنه شافعي المذهب، يعتقد ما يعتقده الإمام الشافعي، رضي الله عنه، فرضي منه بهذا القول وانصرفوا، وبعد ذلك حصل من أصحاب الشيخ تقي الدين كلام، وقالوا: ظهر الحق مع شيخنا، فأحضر واحد منهم إلى القاضي جلال الدين القزويني، وأمر بتعزيزه، فشفع فيه، وكذلك فعل القاضي الحنفي بإثنين من أصحابه.
ومنها: أن الله تعالى أغاث الشام بالأمطار، ووقع الرخاء، وكان عالياً.
وفيها انتهت زيادة النيل إلى ستة عشر ذراعاً واثني عشر إصبعاً.
وفيها حج بالناس حسام الدين لاجين الجاشنكير المنصوري، أميراً على الركب المصري، وكان على الركب الشامي الأمير شرف الدين حسين ابن حيدر.
ذكر من توفي فيها من الأعيان(1/477)
الشيخ عيسى بن الشيخ القدوة الكبير سيف الدين رجيحي بن سابق بن الشيخ يونس.
توفي في هذه السنة، ودفن بزاويتهم التي بالشرف الأعلى، غربي الوراقة المطلة على الميدان الأخضر. وكانت وفاته يوم الثلاثاء سابع عشر المحرم منها.
الخطيب شرف الدين أبو العباس أحمد بن ابراهيم بن سباع بن ضياء الفزاري المقرىء، النحوي، المحدث، شيخ الشافعية.
ولد سنة ثلاثين وستمائة، وسمع الحديث الكثير، وانتفع على المشايخ في ذلك العصر كابن الصلاح، والسخاوي، وغيرهما، وتفقه، وأفتى، وناظر، وبرع وساد أقرانه، وكان أستاذاً في العربية، واللغة، والقراءات، وإيراد الأحاديث النبوية، مات عشية الأربعاء تاسع شوال عن خمس وسبعين سنة، ودفن عند أبيه وأخيه العلامة الشيخ تاج الدين عبد الرحمن بباب الصغير؛ وولي الخطابة بعده ابن أخيه العلامة برهان الدين شيخ الشيخ ابن كثير.
ورثاه الشيخ شمس الدين بن الصائغ بقوله:
لا تطمعي يا عين في الإغفاء ... وثقي بعهد دائم وبكاء
فلقد بليت بصدمة ما مثلها ... صبري عدمت بها وعزّ عزائي
مالي وما للنائبات فقد رمت ... قلبي بأنواع من البرحاء
يا ليلة حققت فيها ما جرى ... كم بتّ تبكي بليلة ليلاء
قالوا خطيب المسلمين أصيب في ... عليائه فقضى بسهم قضاء
فوجمت في البر الفسيح تألماً ... حتى حسبت بضيقة النداء
وترنم الحادي فقلت له: اتئد ... فالحزن قدّامي وكان ورائي
أفلت نجوم المجد بعد طلوعها ... وخبت بروق العلم بعد ضياء
وتوقدت شمس النهار تأسفاً ... وأصيبت السراء بالضراء
"................................. " ... وبكى الرجاء سائر الأرجاء
وجدوا على الشيخ الإمام أخي العلم ... اء قطب الأئمة سيد العلماء
من للمنابر عند مجتمع الورى ... لعظيمة يا فارس الخطباء
وهي قصيدة طويلة.
الصدر علاء الدين علي بن معالي الأنصاري الحراني الحاسب، يعرف بابن الوزير.
كان فاضلاً، بارعاً في صناعة الحساب، وانتفع به جماعة. وكانت وفاته في أواخر صفر منها فجأة، ودفن بقاسيون.
الشريف الرئيس الصدر عماد الدين يحيى بن أحمد بو يوسف بن السراج الحنفي، المعروف بالبصراوي، ناظر ديوان الأشراف.
كان من أعيان الأشراف، ديناً، صالحاً، ورعاً، من أهل السنة، وكان على ذهنه طرف جيد من التاريخ والمحاضرات، كثير المحفوظ، وكان أميناً في مباشرته، باشر ديوان الأشراف نحو خمسين سنة، مات بدمشق، ودفن بمقابر الصوفية.
الأديب الفاضل بدر الدين محمد بن عبد الله، المعروف بابن البابا، المغزى الشاعر.
وكان قد توجه من دمشق إلى طرابلس، إلى نائبها الأمير سيف الدين أسندمر ومدحه بقصيدة فأدركه أجله، فمات بها، ومن شعره:
لاح مثل الهلال وهو منير ... وانثنى كالقضيب وهو نضير
رشا فات اللحاظ كحيل الطرف ... ساجي الجفون أحور غرير
بابلي الألفاظ حلو لما ... بابلي اللحاظ فيها فتور
يتهادى مثل "......... " ولم لا ... وهو من ريق ثغره مخمور
فهو للأحياء روض أنيق ... وهو للثّم جنة وحرير
شفّني خدّه وناهيك خدّ ... وسباني عذاره المستدير
وسقاني من ريقه العذب ... كأساً كالحمّيا مزاجها كافور
بشفاه مثل العقيق ... وثغر لؤلؤي كأنه بلور
وهي طويلة.
الشيخ الصالح تقي الدين حسين بن صدقة بن بدران الموصلي.
كان رجلاً صالحاً، خيراً، على قدم التجريد لا يملك شيئاً، وربما بقي أياماً لا يحصل له ما يأكله وهو صابر لا يسأل أحداً، وعنده فضيلة.(1/478)
وله شعر، فمنه قوله في مجد الدين يوسف بن القباقبي وكان بديع الحسن، وقد رآه يشتغل في النحو على شيخه النور المصري:
يحق لقلبي لا يقرّ قراره ... إذا بان من أهوى وشط مزاره
فيا عذلي لا تنكروا فرط ذلّتي ... فذلّ المعنّي للحبيب فخاره
تمرّ ليالي الصبر شوقاً وحسرة ... وتفنى بما قاساه ليلاً نهاره
بليت بمن لا يعرف العطف قلبه ... كذلك قلبي ليس تخمد ناره
فيا منيتي رفقاً بمن عيل صبره ... غداً نازحاً عنه وشط مزاره
وصله فإنّ الهجر راح بعمره ... فحتى متى هذا الغرام حواره
ولم أنس يوماً فيه شاهدت يوسف ... كبدر على غصن زهاه اخضراره
فحاولت أخفي الغرام فلم أطق ... وقام بعذري في هواه عذاره
فكن أيها المصريّ يا أفصح الورى ... سجياً بعلم النحو فهو اختياره
وعلمه باب العطف كيما يرّق لي ... ويحنو فقد أوّدى بقلبي نفاره
وعرّفه معنى الوصل في شرح درسه ... جعلت جوار للذي عزّ جاره
القاضي شمس الدين محمد بن محمد بن بهرام الشافعي، خطيب حلب، المعروف بالدمشقي.
باشر نيابة الحكم بدمشق عن قاضي القضاة بهاء الدين بن زكي، وتولى قضاء القضاة بحلب، وكان ديناً صالحاً ورعاً، مات بحلب في مستهل جمادى الأولى منها وقد بلغ الثمانين.
القاضي مجد الدين سالم بن أبي الهيجاء بن حميد الأذرعي، قاضي نابلس.
أقام قاضياً بها مدة أربعين سنة، وعزل عنها في آخر عمره، فحمله أولاده على التوجه إلى الديار المصرية للتسبب فأدركه أجله هناك، ومات في ثاني عشر صفر، ودفن بمقابر باب النصر، رحمه الله.
الشيخ شمس الدين محمد بن الشيخ عماد الدين أحمد بن العماد إبراهيم بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي.
مات بدمشق بالمارستان الصغير، ودفن بقاسيون، وكان شيخاً كبيراً، كثير الصلاة والذكر، صحب الفقراء طول عمره، وروى عن أبي مسلمة، والمرسي وغيرهما.
الملك الأوحد تقي الدين شادي بن الملك الزاهر مجير الدين داود بن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بن ناصر الدين محمد بن شيركوه بن شادي ابن مروان.
مات بقرية من عمل الجرد، وحمل منها إلى الصالحية فدفن بتربة والده بسفح قاسيون، وكان أحد الأمراء بدمشق، معظماً في الدولة، وكان لديه فضيلة وخبرة بالأمور، ومولده سنة ثمان وأربعين وستمائة، وكانت وفاته في ثاني صفر منها آخر نهار الأربعاء.
ذكر فيما وقع من الحوادث في
السنة السادسة بعد السبعمائة
استهلت هذه السنة: والخليفة: المستكفي بالله العباسي.
وسلطان البلاد المصرية والشامية: الملك الناصر محمد بن قلاون، ونواب مصر والشام وقاتها هم المذكورون في التي قبلها.
والشيخ تقي الدين بن تيمية مسجون بالجب في قلعة الجبل.
ذكر من قدم من الرسل وغيرهم
وفيها: عادت الرسل السلطانية من عند طقطا ملك التتار وهم: الأمير سيف الدين بلبان الصرخدّي، وسيف الدين بلبان الجكمي، وفخر الدين إياز أمير آخور الشمسي، وصحبتهم رسول اسمه نامون من جهة الملك المذكور، فبولغ في إكرامه، وأعيد بجواب لرسالته، وحهّز معه شمس الدين بكمش الخزنداري رسولاً، وفخر الدين إياز أمير آخور الشمسي.
وقال بيبرس في تاريخه: وكان من مساهلة سفرهم وتيسيره لهم على ما أخبر به من لسانه سيف الدين الجكمي المذكور إنهم استهلوا هلال صفر من هذه السنة في قرم، وسافروا أول الشهر، فوصلوا في العشر الأخير منه إلى إسكندرية، وتوجهوا في الحراريق إلى مصر فوصلوها سلخ صفر، وكانت المسافة شهراً من قرم إلى إسكندرية.
وفيها: وصلت رسل صاحب سيس بالقطيعة إلى الباب العزيز، وأطلق من أسرى المسلمين مائتين وسبعين أسيراً، وأوصلهم إلى حلب.
وفيها: وصل فتح الدين بن صبره من بلاد التتار، وكان قد أُسر في جملة الأمراء الذين أُسروا ببلاد سيس كما ذكرنا.(1/479)
وفي يوم الخميس التاسع من جمادى الأولى دخل الشيخ براقي إلى دمشق وصحبته فقراؤه، أكثر من مائة فقير، وقد ذكرنا صفاتهم وزيّهم وهيئتهم في ترجمة الشيخ براق في السنة الماضية، فنزلوا بالُنيبع، وحضروا صلاة الجمعة برواق الحنابلة، ثم توجهوا نحو القدس فزاروا، ثم استأذنوا في الدخول إلى مصر، فلم يؤذن لهم، فعادوا إلى دمشق، فصاموا بها رمضان، ثم انشمروا راجعين إلى بلاد الشرق إذ لم يجدوا بدمشق قبولاً ولا منزلاً ومقيلاً.
وفي بعض التواريخ، ونظم في الشيخ براق السراج المحار موشحة أولها:
جتنا عجم من جُوّا الروم ... صور تحير فيها الأفكار
لهم قرون مثل الثيران ... إبليس يصبح منهم زنهار
وهي طويلة: ولما قدم دمشق أراد الدخول إلى الأفرم في الميدان، فأرسل الأفرم نعامة كان قد تعاظم أمرها وتفاقم شرها فلا يكاد يقاومها أحد، فلما عرضوه لها قصدته، فتوجه إليها وركبها، فطارت به في الهواء في الميدان تقدير خمسين ذراعاً إلى أن قرب من الأفرم فقال له: أطير بها إلى فوق شيئاً آخر. فقال: لا، ثم أحسن إليه، وكان القان قازان أحضره مرة وأحضر له سبعاً ضارياً، فركب على ظهره ولم ينله سوء، فأعظم قازان ذلك، ونثر عليه عشرة آلاف ديناراً فلم يتعرض لشيء منها.(1/480)
وقال صاحب النزهة: وكان خربندا أرسله إلى الشام في الرسلية وذلك لأمر جرى له كما سنذكره إن شاء الله تعالى، ولما توجه الشيخ براق إلى الشام كان معه بيرق خربندا وكتابه إلى سائر البلاد أن يخدموه أوفر خدمة، ولم يزل سائراً حتى وصل من ناحية الروم إلى بلاد سيس، فسمع صاحب سيس بقدومه، فركب إلى ملتقاه وأنزله في دار المضيف، وحمل إليه كل ما يحتاج، وكان معه خط خربندا بأنه يعطيه عشرة آلاف درهم، فأحضرها له وسير معه جماعة من أصحابه في خدمته إلى دربساك، وهي حده إلى بلاد المسلمين، ولم يزل براق حتى وصل إلى حلب، وعلم قراسنقر بقدومه فطلبه إليه، فلما حضر قرّبه وأدناه، ولما خلا به حدثه وسأله لما جاء به، فقال: جئت حتى أصلح بين الملك الناصر وبين خربندا بحيث أن لا يعلم بذلك أحد غيره، وفي الحال أرسل قراسنقر بريدياً إلى الملك الناصر يُعلم بذلك، وبعد قليل جاء البريدي وطلبه إلى دمشق، فجهز قراسنقر معه جماعة يخدمونه إلى دمشق، ودخلها في يوم مشهود لأنه قد كان وقع صيته بين الناس بأن شيخاً جاء من بلاد التتار يركب السبع، واجتمع خلق كثير عنده إلى أن دخل ميدان دمشق إلى القصر الأبلق، وحوله أصحابه، وكان نائب السلطان الأفرم جالساً في شباك القصر الذي يشرف على الميدان، وحوله أمراء دمشق مثل: بهادر رأس نوبة، وقطلبك الشيخي، وبكتمر أمير آخور، والبدري، وقطلوبك الوشاقي، فلما رآهم براق زمجر وأخذه حال الفقراء، وحمل عليهم يطلبهم، وكان في الميدان طير نعامة لها أربع سنين يربونها في الميدان، فلما رأت الشيخ براق حملت عليه، وقبضت بفمها على رقبته، وكادت أن تقصفها، وأرمت براق تحته وبركت فوقه، ولو لم يدركه الرجال لمات براق تحته، فتعجبت الناس منه، وعلم براق أن هذه عبرة ليعتبرها، فأسّرها في نفسه، ثم لما قام تقدم إلى الأفرم وسلّم عليه، وكذلك سلّم على الأمراء، فقال له بهادر آص: أش هذا يا براق؟ أنت تقول: إنك تركب الأسد في خراسان، فهذا طير من طيور الشام عمل بك ما حارت به الأوهام، ولكن أزلْ ما قلبك، واستغفر ربك، وتأدب مع رجال الشام، ثم إن بهادر آص حقق النظر فيه، فإذا هو محلوق الذقن، وقد عفى عن شواربه، وفي رقبته خيوط من صوف الأغنام، وفيها كعاب البقر والغنم والأحراش. فقال له: إش هذا؟ هو دينك. فقال يا أمير: المملوك رجل فقير من جملة فقراء المسلمين. فقال له بهادر آص: ما أنت مسلم. فقال له: لم؟ فقال له: بدليل واضح لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو صادق في المقال: " قصّوا الشوارب واعفوا عن اللحى ". وأنت خالفت، قصّيت اللحية وعفوت عن الشارب، وهذه مخالفة لدين الإسلام ولمحمد عليه السلام، والله لولا حرمة مولانا السلطان لأضربن رقبتك. فقال براق: استغفر الله من سوء فعلي، ثم إن بهادر آص طلب مقصاً، فقص شواربه، ثم أمر ملك الأمراء أن ينزلوهم في اللمُنيبع، وأن ينقلوا إليهم كل ما يحتاجون إليه، ورتب لهم كل يوم: خمس أروس من الغنم، وقنطار خبز، وعشرين رطلاً من الحلاوة السكرية، وعشرة أطباق فاكهة، ثم أرسل البريدي إلى مصر بسببه، فرجع البريدي بطلبه، فجهزه النائب ورتب له الإقامات في الطرقات إلى غزة، ولما ورد غزة، فإذا بمرسوم السلطان حضر بالإقامة إلى حين يطلبهم، وذلك أن السلطان لما جاء إليه خبره شاور الأمراء فيه وما يكون الصواب، فاتفق رأيهم على أن لا يمكن من الدخول إلى مصر، فربما يكون من دخوله غائلة، فأرسل إليه مملوكاً من مماليكه يقول له: اكتب ما معك من المشافهة وسيّره، ثم رجع براق من غزة إلى دمشق، وصاحب دمشق جهّزه إلى أطراف البلاد وسار يطلب خربندا.
ذكر من أنعم عليه بإمرة أو وظيفة ومن قطع
وفيها: تولى بكتوت الجوكندار المعروف بالفتاح وظيفة أمير جندار على ما نذكره.
وفيها: تولى قضاء الحنفية بدمشق يوم الأحد العشرين من ربيع الأول القاضي شمس الدين الأذرعي الحنفي، ثم عزل، وتولى عوضه قاضي القضاة صدر الدين أبو الحسن علي بن الشيخ صفي الدين أبي القاسم بن محمد الحنفي البصراوي، وذلك يوم الجمعة التاسع والعشرين من ذي القعدة منها.(1/481)
وفيها: سفّر الأمير علم الدين سنجر الجاولي الأستادار إلى الشام، وقُطع خُبزه من مصر لتغيّر حصل من ركن الدين بيبرس من جهته، وبعد وصوله إلى الشام بمدة أنعم عليه بإقطاع وإمرة، وكان قد تقدم إلى الدواوين بمحاققته على ما يتعلق بمباشرته، فعملوا عليه أوراقاً بجملة، وطُولب بجملتها، فشملته الصدقات السلطانية بالإعفاء من كلها، بعد وصوله إلى الشام بمدة أيام.
وفي الثامن من ذي الحجة: عزل الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب عن شدّ دمشق، وولي عوضه الأمير جمال الدين أقوش الرسمي وإلى الولاة، وأعيد سيف الدين بكتمر إلى الحجوبية بدمشق.
وفيها: صرف القاضي سعد الدين بن عطايا عن الوزارة، وصودر على مائة ألف درهم خرّجت في معاملة البيوت مذ كان يباشرها، فقام بثمانين ألف منها، ثم سومح وأطلق، فلزم بيته، واستوزر عوضاً عنه القاضي ضياء الدين أبو بكر بن عبد الله النشائي، وكان يباشر ذلك الوقت نظر الدواوين، وقبله استيفاء المقابلة، فلما صارت الوزارة إليه كان فيها محكوماً عليه إلا أنه اعتمد لين الجانب وخفض الجناح، ومسالمة الناس. وكان الأمر والنهي والحل والعقد إلى التاج بن سعيد الدولة، فإنه كان مستبداً بالإشارة والنظر على الوزارة.
قال ابن كثير: وفي أول المحرم ظهر الوحشة بين الملك الناصر وبين الأمراء: سلار النائب، وركن الدين بيبرس الجاشنكير، وكان السلطان قد امتنع عن العلامة زماناً حتى ظنه الناس مريضاً، ثم عبرا له في ثالث الشهر، فتنكر لهما ومنعهما، فاستعطفاه وألانا له الكلام حتى رضي وخلع عليهما. ولما خرجا قويت نفوسهما، وأظهرا ما بنفوسهما، ورسما بأن يركب جماعة من العسكر وتقف تحت القلعة، فركب شمس الدين الأعسر بعد العشاء، فظهر السلاح، وشق القاهرة، ووقف تحت القلعة، وكذلك ركبت إخوة سلار، وهم: داود، وسمول، وحبا، فخرج إليهم بعض الوشاقية، فراسلوهم بالنبل، ووصل معهم سمول أخي سلار إلى الشباك الذي يجلس فيه السلطان.
وبات الأمراء تلك الليلة على مساطب الدركاه بباب القلة، ولما أصبحوا ترددت المراسلة بينهم وبين السلطان على لسان أقوش الموصلي، وسيف الدين أكراي، وبهاءالدين يعقوبا الشهر زوري، وسألوا رضى السلطان، والتمسوا منه بعض الخاصكية الذين هم سبب إثارة هذه الفتنة، فسيرهم إليه بعد أن استحلفهم أنهم لا يتعرضون إليهم بمكروه، وهم: سيف الدين بيبغا، الذي كان من خواص السلطان، وسيف الدين خاص ترك، وسيف الدين بقتمر، فأرسلوهم من وقتهم إلى القدس، وانتظم الصلح.
ولما بلغ ذلك الأمير أقوش الأفرم - نائب دمشق - أرسل يلوم الأمراء، ويعنفهم على ما وقع منهم في حق الأمراء، ويسأل إعادتهم، وإلاّ حضر هو بنفسه، فأعادوهم، فلم يسكن الأمير بيبغا القلعة بل بسويقة العزى، ثم لم يلبث أن مرض ومات، في السنة المذكورة.
وفي خامس عشر المحرم منها - بعد إخراج المماليك السلطانية - رسم بإخراج سيف الدين بكتمر الجوكندار وقطع خبزه، فأخرج من ساعته إلى الشام، فلما وصل إلى غزة عيّنت له الصبيبة فتوجه إليها فاستوحشها، فسأل غيرها، فعينت له صرخد، واتفقت وفاة الأمير سنقرجاه المنصوري - نائب صفد - فرسم له بها، فتوجه إليها، ولما خرج من مصر تولى بعده وظيفة أمير جاندار بمصر بكتوت الجوكندار المعروف بالفتاح.
ذكر بقية الحوادث
منها: ابتداء الأمير بيبرس في عمارة الخانقاه والتربة داخل بابي النصر، موضع دار الوزارة، فعمرت، وأوقف عليها أوقافاً جليلة، ومات قبل فتحها، فأغلقها الملك الناصر مدة ثم فتحها، ورتب فيها جماعة من الصوفية وأبقى بعض الأوقاف التي كانت لها، وارتجع البقية، وأما التربة فاستمرت مغلقة إلى آخر سنة خمس وعشرين وسبعمائة، كما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها: كملت عمارة الجامع الجديد الذي بسفح قاسيون، والذي أنشأه جمال الدين أقوش الأفرم، وخطب فيه شمس الدين أبو العز الحنفي يوم الجمعة الرابع والعشرين من شوال.(1/482)
وفيها: وردت كتب من حماة تتضمن حدوث أمر غريب، متضمنة فيها محضر مثبوت بأنه كان في حصن الأكراد جبلين بالقرب من بارين - من بلد حماة - بينهما واد تجري الماء فيه، فانتقل نصف الجبل الواحد من موضعه، وتعدى الوادي، والتصق بالجبل الآخر، ولم يسقط في الوادي الذي بينهما شيء من الحجارة، وبقي ما انسلخ منه منقطعاً من الجبل كهيئة محراب، والماء جار على العادة، وكشف ذلك القاضي والحاكم ببارين، وعمل به محضراً، وكان طول النصف الذي انفصل من الجبل مائة ذراع وعشرة أذرع، وعرضه خمسة وخمسون ذراعاً، ومسافة الوادي الذي بين الجبلين مائة ذراع، واسم الجبل: بنبابة، واسم القرية القريبة منه: دانة.
وفيها: إهتم الأمراء المصريون بتعزير الخيول السوابق ورياضتها حتى إذا بلغت الحد من التعزير وأخذت مأخذها من التسيير خرجوا جميعاً إلى بركة الحجاج، وتتباهى وتتهادى حتى إذا كان انتهاء المطلق تقدم فرس الأمير سيف الدين سلار وانطلق ففاز بالسبق، وكان الرهن لمن سبق، وجملته سبعة آلاف درهم لمن سبق - عن كل فرس مائة درهم، وعدة الخيول الأخرى سبعين فرساً.
وفيها: في آخر يوم من رمضان أحضر نائب السلطنة الأمير سلار القضاة وجماعة من الفقهاء كالباجي والجزري وغيرهما، وتكلموا في إخراج ابن تيمية من السجن، فاشترط بعض الحاضرين شروط عليه في ذلك، وأرسلوا إليه المحضر فامتنع، وصمم، وتكررت الرسالة ست مرات فلم يجب، وطال عليهم المجلس، فتفرقوا عن غير شيء، فطلب النائب أخاه الشيخ شرف الدين عبد الله، وأخاه الآخر زين الدين عبد الرحمن، وجرى بينهما وبين المالكي كلام كثير. ولما كان يوم الجمعة أحضروا شرف الدين وحده، وحضر شمس الدين بن عدلان في مجلس النائب، ووقع بينهما بحث كثير.
وفيها: في يوم عرفة عقد مجلس الأبلق بدمشق، وحضر القضاة والعلماء، وحضر موسى أحد فقهاء الباذرائية من المارستان فاعترف إنه مصر على القول بخلق القرآن، وأصر على ذلك، فاختلفوا في تكفيره، ورسم بتعزيره، فضرب وأخذ ونودي عليه، وحبس، ثم أحضر إلى مجلس قاضي القضاة نجم الدين بن صصري، وأظهر التوبة، والتبرؤ من ذلك، فأطلق سبيله.
وفيها اختلف أهل جزيرة جربة فيما بينهم، فسعى محمد بن السمو من - شيخ الوهّبية - في ابن أمغر شيخ النكارة، ونقل إلى الفرنج عنه أموراً منكرة، فأمسكوه، وسيّروه إلى بلاد صقلية، فاعتقل هناك ثم إنه فدى نفسه بمال، فأطلقوه، فعاد إلى جربة، وحشد حشوداً كثيرة، وقصد ابن السمو من ومن معه من الفرنج، فخرجوا لقتاله والتقوا معه، فكانت الكسرة على ابن السمو والفرنج، وظهر ابن أمغر عليهم، وأرسل يعلم صاحب تونس باستظهاره وسأله نجدة، وأرسل الفرنج الذين بحربة يعلمون أصحابهم بصقلية بحالهم ويسألونهم إنجادهم، فكان منهم ما ذكره، إن شاء الله تعالى.
ذكر قضية أبي يعقوب المريني صاحب المغرب ومقتله
وكان أبو يعقوب هذا بمدينة تلمسان، وهو نازل فيها، محاصراً إياها، وكان قد ضايقها سنين كثيرة، ونفذ ما كان لأهلها ولصاحبها من الأزواد والأقوات، وخلت من سكانها، فمنهم من تسلّل من الضرّ والضيق، ومنهم من مات، ولم يكن بقي عندهم إلى هذه الغاية إلا شيء يميرهم مقدار شهر لا غير، واتفق موته مقتولاً.(1/483)
وكان سبب قتله: أنه كان قد تعلق بخدمته شخص من بني عبد الوادّ يسمّى الزعيم، من أصحاب صاحب تلمسان، فحظي عنده، وبقي في خدمته سنين ثم غضب عليه، فسجنه مدة طويلة، وكان له وزير يقال له العزّ، فلما سجن الزعيم العبد الوادي تعرّض العز الوزير إلى حرمه، ثم إن المريني رضي عن الزعيم، وأطلقه ونفاه إلى بلد الأندلس، اتفق بعد مدة أن ولدت جارية من جواري المريني اسمها إزرزارة بنتاً، ومعنى هذا الإسم الغزالة، فبشّر بها المريني فأنكرها، وقال: ما أعلم أنني باشرت أمها. فقالت له إحدى النساء الحاضرات. إن مولاي باشرها وهو على حالة سكر فسلم وأمسك، وبلغ الزعيم الخبر وهو يومئذ بالأندلس، وكان قد اطلع على ما فعله العز الوزير بحريمه، فأرسل يقول للمريني: إنني لم يشق عليّ تعرض الوزير العزّ إلى حرمي كما شق على تعرضه لحرمك، وما فعله بإزرارة حتى إنه أولدها الطفلة التي أنكرت كونها منك، وهي في الحقيقة منه، فاستشاط المريني غضباً، وأمر من ساعته بإحضار العزّ وجبّه، وقلع عينيه، وصلبه، واستدعى الخادم الذي هو زمام داره واسمه عنبر، واتهمه بمواطأة العزّ على فساد حريمه، وأمر بإخراجه ليقتل، وفيما هم مارون به رآه جماعة أصحابه الأزمة والخدام، فسألوه عما جرى، فقال لهم: يجر لنا خير وهاهم ذاهبون بي إلى القتل وكلكم يقتل بعدي، فانظروا لنفوسكم ماذا تصنعون؟ وكان أبو يعقوب قد خضّب لحيته بالحناء ذلك النهار، واستلقى مضطجعاً في خضابه داخل داره، وليس عنده إلا بوابة الباب، فهجم عليه خادم من الخدم وفي يده سكين فضربه في جوفه وابتدر الخروج عنه، وأغلق الباب عليه، فصاحت البوابّة فدخل أصحابه عليه فأدركوه وبه بعض الرمق.
وكان ابنه أبو سالم عنده فقال له: إني ميت فانظر في أمرك.
وقضى أبو يعقوب من يومه، فأمر ابنه أبو سالم أن تضرب الطبول، فضربت واستدعى أعيان القوم لمبايعته، فبلغ ذلك ابن أخيه أبا ثابت عامر بن عبد الله، وعمه يحيى، وكانا على مباشرة الحصار، فاشتورا واتفقا على أن يقصدا أبا سالم ويمنعاه من السلطنة، وأن تكون لأبي ثابت دونه، ويكون عمه يحيى مدبراً لأمره، وأبرما هذا الرأي بينهما.
ولما اتفق المذكوران على هذا الرأي أرسلا إلى محمد بن عثمان صاحب تلمسان العتيقة، وهو على شفا جرف هار لما توالى عليه من تضييق وحصار، وصالحاه، ورفعا عنه المحاصرة، والتمسا منه المناصرة، فأمدهما بمن كان قد بقي عنده من الجند، وتوجها نحو أبي سالم، فهرب منهما وخرج على وجهه، فحصل في يد بعض أهل البلاد، فأمسكوه وأرسلوا يخبرون ابن أخيه بأنهم قد قبضوا عليه، فأرسل جماعة من فوارس الفرنج والمسلمين فقتلوه هناك، وجاءوا إليه برأسه.
واستقر أبو ثابت المذكور في هذه السنة، وأمر بقتل الخادم الذي أقدم على قتل أبي يعقوب، فقتل من وقته، وأخذ الخدم كافةً فقتلوا، وأضرمت لهم النيران، وزجّوهم فيها بالرماح، ولم يترك أبو ثابت بمملكته خادماً خصّياً حتى أباده، ثم وثب على عمه بسعاية قومه فقتله ثاني يوم، فكان بين يحيى وبين أخيه أبي يعقوب يوم واحد أو يومان، ورحل أبو ثابت من تلمسان وأطلق لمحمد بن عثمان العبد الوادي كل ما كان عنده بتسلمان الجديدة من الحواصل والذخائر والغلال والأزواد، وكان شيئاً كثيراً، وأخذ المال صحبته، وكان من الذهب ثلاثمائة حمل، كل حمل إثنان وعشرون ألف دينار كباراً، ومن الفضة مائتين وسبعين حملاً، ومن حفائظ الذهب التي تكتب في آخر جمعة من رمضان للتعوذ والتبرك على عادة المغاربة وقر إثني عشر بغلاً، وسار إلى فاس، وجهز مستحفظاً من بني عمه إلى مراكش اسمه يوسف بن أبي عياد، وجهز معه جماعة ليقيم بها، وأرسل إليه شخصاً من الحاضرة يسمى الحاج محمد، ولقبه المحنة، ليكون على جباية الأموال، فوقع بينهما، فقتله ابن أبي عياد، فكانت الأحنة قاتلة للمحنة، وخلع يوسف المذكور طاعة أبي ثابت وعصي عليه، وقعد بما في يديه من العمل، فسار أبو ثابت لقتاله على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها: انتهت زيادة النيل إلى ستة عشر ذراعاً وخمسة عشر أصبعاً.
وفيها: حج بالناس الأمير سيف الدين نُغيه قفجاق السلحدار أميراً على الركب المصري، ومن الشام ركن الدين بيبرس المجنون.(1/484)
ولما حضر المبشرون من الحج أخبروا أن أمير الحاج حصل بينه وبين أمير مكة حميضة وعبيده كلام أوجب سفك الدماء، وذلك أنه يوم النزول من عرفة شرعت عبيد الشريف تخطف التجار وتتعرض للحاج، فأخذوا من بعض التجار قماشاً، فمنعهم، فضربوه، فصاح صياحاً منكراً إلى أن أفلت الركب، فسمع أمير الحاج نُغيه، فأرسل بعض مماليكه ليكتشفوا الخبر، فحضر من عرّفه الأمر، فأشار لمماليكه بمسكهم، فساقوا إليهم، فانهزموا، فلحقوا البعض بعد أن خرج منهم جماعة، ووقع الصوت في مكة بوصول العبيد، فركب حُميضة لابساً سلاحه، وركب معه بنو حسن، وكان عند حميضة جهل كبير، فجاء الخبر إلى الأمير نُغيه، فركب هو ومماليكه وركب من كان في الركب من الأمراء والجند ووقع الصوت، ثم أن نغيه نادى للحجاج أن لا يخرج أحد من خيمته، وتوجه هو ومن معه فأشاروا عليه بأن يقف إلى أن يحضروا إليه، فلم يقبل وساق، فلقي جماعة من السرو، فظن أنهم عبيد للشرفاء، فوضع السيف فيهم، فترجل إليه بعض الأمراء وعرّفه أن هؤلاء أناس صالحون، ووصل الخبر إلى حميضة أن أمير الركب قتل السرو - وهو واصل إليك، وهو رجل تتري لا يعرف الإسلام، فحكموا على حميضة بالرجوع، فرجع إلى مكة، وبلغ ذلك نغيه فلم يرجع، ووصل إلى مكة، ونظر الأشراف إلى جيش لا يهابون شريفاً ولا غيره، فهربوا، وخرج إليه شيوخ مكة والمجاورون وسألوه، فرجع وقتل في هذه النوبة من السرو خلق كثير.
ذكر من توفي فيها من الأعيان
القاضي تاج الدين صالح بن ثامر بن حامد بن علي الجعبري الشافعي، نائب الحكم بدمشق، ومعيد الناصرية.
وله فضائل، وعلوم، وديانة، وأمانة، مات في ربيع الأول عن ست وسبعين سنة، ودفن بقاسيون.
الشيخ ضياء الدين أبو محمد عبد العزيز بن محمد بن علي الشافعي الطوسي، مدرس النجيبية، شارح الحاوي، ومختصر ابن الحاجب.
كان شيخاً فاضلاً، دخل الحمام وخرج، فغشي عليه ومات، وشُكّ في موته، وأخّروا دفنه إلى ثاني يوم، ودفن بمقابر الصوفية، وكانت جنازته حفلة.
وقال ابن كثير: وكان موته في التاسع والعشرين من جمادى الأولى منها.
الشيخ الجليل سيف الدين الرجحي بن سابق الدين هلال بن يونس، شيخ اليونسية بمقامهم.
مات فيها ودفن في داره التي كان يسكنها داخل باب توما، وتعرف بدار أمين الدولة، وكان ضخم الهامة جداً، محلوم الشعر، وخلف أولاداً، وجلس مكانه ولده الشيخ حسام الدين فضل، وكان له حرمة وافرة، ومنزلة عالية في الدولة من حين قدم من الشرق في زمان المنصور قلاون، وكان عنده أتباع كثير.
الشيخ جمال الدين إبراهيم بن محمد سعد الطيبي، المعروف بابن السواملي، والسوامل الكاسات.
كان معظماً ببلاد الشرق جداً، وكان تاجراً كبيراً، مات في جمادى الأولى منها، وكان قد سافر في أول عمره إلى الصين ومعه مال يسير، ففتح عليه، وتمول إلى الغاية، وكان ينطوي على دين وكرم وبر وصدقة، واعتقاد في أهل الخير، وكان يحمل إلى الشيخ عز الدين الفاروثي في كل عام ألف مثقال، ثم مالت عليه التتار بالأخذ حتى تضعضع حاله وقلت أمواله، وانتقل إلى واسط.
قال ابن منتاب، قال لي جمال الدين السواملي: ما بقي لي شيء سوى هذا الحبّ، وأراني حبّاً فيه ثمانون ألف دينار، فبعثه إلى الصين، فكسب الدرهم تسعةً، وولي ابنه سراج الدين عمر نيابة الملك بالمعبر، وصار ابنه محمد ملك شيزار، وابنه عز الدين كامل جميع الممالك التي لفارس، ورزق جمال الدين من السعادة ما لاحد لها.
قيل: إنه اشترى صدفة مجوفة بدرهم، وذلك في أول سعادته، وكسرها، فخرج منها درة بيضاء مدورة زنتها خمسة عشر حبة، فقيل: إنها قومت على الملك أيضاً بستين ألف دينار، وهي التي كانت أول سعادته، وكان من حسنات الزمان، رحمه الله.
الشيخ العابد الصالح خطيب دمشق شمس الدين محمد ابن الشيخ أحمد بن عثمان الخلاطي، إمام الكلاّسة.(1/485)
كان شيخاً حسناً بهي المنظر، باشر إمامة الكلاسة قريباً من أربعين سنة، وخطب لحطابة جامع دمشق من غير سؤال منه ولا طلب، فباشرها ستة أشهر ونصفاً، وكان حسن الصوت، طيب النغمة، عارفاً بصناعة الموسيقى، مع ديانة وعفة، وكانت وفاته فجأة بدار الخطابة يوم الأربعاء ثامن شوال عن اثنتين وستين سنة، ودفن بقاسيون فوق مغارة الجوع، وكان أولاً أمّ بالمسجد الذي بالقرب من المارستان النوري مدة وهو صبي، ثم انتقل إلى إمامة مشهد ابن عروة، ثم لما مات والده انتقل إلى إمامة الكلاسة، رحمه الله.
الشيخ القدوة العابد أبو عبد الله بن مطرف.
توفي بمكة في رمضان، وكان مجاوراً بمكة ستين سنة، وكان يطوف في كل ليلة خمسين أسبوعاً، توفي عن تسعين سنة، رحمه الله.
الشيخ الصالح عمر السعودي.
توفي بزاويته بالقرافة في ثاني جمادى الآخرة، ودفن بها.
القاضي شرف الدين محمد بن القاضي فتح الدين بن عبد الله بن القيراني الحلبي، أحد كتاب الدرج بمصر.
توفي فيها، ودفن بالقرافة، وكان ديناً فاضلاً، سمع الحديث النبوي.
القاضي جمال الدين أبو بكر محمد بن عبد العظيم بن علي بن سالم الشافعي، المعروف بابن السفطي، خليفة الحكم العزيز.
توفي فيها ليلة الإثنين حادي عشر شعبان بالقاهرة، ودفن بالقرافة، ومولده سنة ثمان وعشرين وستمائة، وولي نيابة الحكم بالقاهرة نحواً من أربعين سنة وتركها في آخر عمره.
الصاحب الكبير شهاب الدين أحمد بن أحمد بن عطا الحنفي الأذرعي.
مات في هذه السنة، ودفن قبالة داره بسفح قاسيون، وكان رجلاً حسناً متواضعاً، مليح الملتقى، حصّل أملاكاً كثيرة، وعمّر عمائر كثيرة، وخالط الدولة من الأيام الظاهرية، وولي الوزارة في دولة الملك العادل زين الدين كتبغا أياماً يسيرة، وولي حسبة دمشق مدة مضافاً إلى الديوان العادلي، وغير ذلك.
الصدر الرئيس بدر الدين محمد بن فضل الله بن مجلي العدوي.
مات بدمشق، ودفن بقاسيون، وكان من أعيان الكتاب المتصرفين، جاوز السبعين من العمر، وهو أخو القاضي شرف الدين، والقاضي محي الدين، وهو الأوسط، وكان التتار قد أخذوه معهم من دمشق في سنة تسع وتسعين وستمائة، ولطف الله به وخلّصه حتى مات بين أهله وولده، رحمه الله.
الصدر علاء الدين علي بن الحسن بن النحاس المعروف بابن عمرون.
مات بدمشق ودفن بقاسيون، وكان ناظر ديوان الحشرية بدمشق، وخدم في عدة جهات، وأقطار كبار، وكان مشكور السيرة.
الشيخ أبو بكر بن مسعود بن عصرون القدسي، المعروف بالزرعي.
مات في دمشق، ودفن بمقابر الصوفية، وكان فقيراً، وعمّر، وأضر في آخر عمره، ومولده في سنة اثنتي عشرة وستمائة.
وله شعر، فمنه في زهرة السفرجل:
زهر السفرجل قد أتاك مبشر ... بالورد وهو لذلك غير مخلّد
فكأنه عيسى بن مريم قد أتى ... للعالمين مبشراً بمحمد
وله:
لا سحر إلا الذي تبديه عيناك ... ولا ملاحة إلا "......... " لمحياك
قال زجل:
مالي وللناموس ... أش بي عبوس
الشرب بالقادوس يحيي النفوس
الشرب في الماجور قلبي يحنّ ... ومجلسي معمور، من كل فن
ودع نصير طنبور ... أنقر أطنّ
أرنّ بالناقوس ... بين القوس
الشرب بالقادوس يحيي النفوس
يوم أرى عندي ... نكرش خليع
فذاك يكون سعدي ... وأنا جميع
وكلما عندي ... أرهن وبيع
وأجور في السالوس ... وأهجم وبوس
الشرب بالقادوس يحيي النفوس
ما العيش يا حضار ... عيش خطيب
غير الزهّر والطار ... وأغيد حبيب
مالي ويلتقيان ... كأني خطيب
قاعد كذا كيموس ... أسمع دروس
الشرب بالقادوس يحيي النفوس
يا عاذلي اقصر ... عن الملام
في الراح واستبصر ... يا ذا الغلام
وكلما نقتدر ... نوش المدام
واخلع الملبوس ... على الجلوس
الشرب بالقادوس يحيي النفوس(1/486)
ما أحسن الخضرة ... ما بيننا
وساقي الخمرة ... هو زيننا
ما عندنا فكرة ... ولا عنا
ووقتنا محروس ... من كل بوس
الشرب بالقادوس يحيي النفوس
وله موالياً:
لما رقم طرز أطلس ... وجنتو سندس
قال العذول صباحو ... قد رجع حندس
دعو فورد خد ... وذ قد ملي كندس
فقلت ما أظرف ... الأطلس مع القندس
وقال:
جاء البشير يبشرنا بعزل البرد ... فقدّم الباطيه يا صاحبي والنرد
واشرب على وجه أغيد في الملاحة فرد ... يجلو عليك البنفسج في رياض الورد
وقال له دو بيت:
عرج بربوع جيرة قد خانوا ... عهدي وناءوا كأنّهم ما كانوا
ساروا سحراً وأضرموا حين باتوا ... من قلبي من مرامهم نيران
الأمير سيف الدين بلبان الجوكندار المنصوري، نائب حمص.
توفي فيها، وتولاها سيف الدين بكتمر الساقي، وكان بلبان المذكور من خيار الترك، ولي نيابة قلعة صفد، وشدّ دمشق، ونيابة القلعة بها، ونيابة حمص في آخر عمره.
الأمير علم الدين سنجر الصوابي الجاشنكير، أحد الأمراء المقدمين بمصر، توفي فيها.
الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح.
كان أصله من مماليك الأمير فخر الدين بن الشيخ، وارتجع إلى مملكة السلطان الملك الصالح، وكان من أكابر الأمراء الصالحية المترددين في الغزوات، المشهورين بالهير والصدقات، ولما قتل الملك المنصور لاجين أجمعوا على تمليكه فلم يوافق، وأشار بالملك الناصر محمد بن قلاون، وفي آخر عمره طلب النزول عن الإمرة لكبر سنه، فأجيب إلى ذلك، فأقام في منزله حتى مات، وكان منزله داخل القاهرة. ووفاته في ربيع الأول من هذه السنة وكان بين موته وقطع خبزه ثلاثة أشهر كوامل، وكان ذا همة ونهضة، ورأي ومعرفة، وهو آخر من مات من الأمراء الصالحية النجمية من الركب الأول رفيق الملوك. وقيل: آخر من مات ركن الدين بيبرس الجالق.
الأمير علاء الدين علي بن الملك القاهر عبد الملك بن المعظم شرف الدين عيسى بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب.
توفي فيها بدمشق، ودفن بقاسيون.
الأمير فارس الدين أصلم الردّادي، توفي فيها.
الأمير سيف الدين كاوركا المنصوري، توفي فيها.
الأمير بهاء الدين أصلم بن مرداش، توفي فيها بدمشق.
الأمير بهاء الدين يعقوبا الشهرزوري، مات في سابع عشر ذي الحجة منها بمصر.
الأمير عو الدين أيبك الطويل الخازندار المنصوري.
مات فيها، ودفن بقاسيون، وكان أميراً ديناً، كبير القدر، له بر وصدقة.
الطواشي الكبير الصالح شمس الدين صواب السهيلي الخزندار.
مات فيعا بالكرك، وقد قارب المائة سنة، وكان الملك الظاهر قد سلّم إليه قلعة الكرك، فاستمر بها إلى سنة إحدى وثمانين وستمائة في أيام الملك المسعود نجم الدين خضر بن الظاهر، فتوجه إلى الحجاز الشريف في جملة الركب الشامي، فلما وصل إلى تبوك لحقه الأمير عينه أمير بني عقبة وقبض عليه وحمله إلى الملك المنصور قلاون، فلما ملك المنصور قلعة الكرك أعاده إليها وثوقاً بأمانته وديانته، فلم يزل بها إلى أن مات فيها، وكان له برّ ومعروف، ورباط وتربة، وكان كثير المال كبير السن.
الطواشي شهاب الدين فاخر المنصوري، مقدم المماليك السلطانية.
توفي في سابع ذي الحجة منها، وكان ذا مهابة وسطوة، وأخلاق حسنة.
ذكر فصل فيما وقع من الحوادث في
السنة السابعة بعد السبعمائة
استهلت هذه السنة: والخليفة المستكفي بالله العباسي.
والسلطان: الملك الناصر محمد بن قلاوون، ونائب دمشق الأفرم، ونائب حلب قراسنقر، وصاحب البلاد الشمالية طقطا، وصاحب العراقين وما ولاها الملك خربندا، وصاحب اليمن المؤيد هزبر الدين داود.
وذكر بيبرس في تاريخه في هذه السنة: وقوع الوحشة بين السلطان الملك الناصر محمد وبين الأمراء سلاّر وبيبرس وغيرهما، وقد ذكرناه في السنة الماضية كما ذكره ابن كثير.
ذكر إغارة خربندا على بلاد كيلان(1/487)
قال بيبرس في تاريخه: وفيها وصل الأمير فتح الدين صبرة المهمندار من بلاد التتار، وأخبر من لسانه أن خربندا سار إلى بلاد كيلان وأغار عليها، ونهب من بها من العجم والأكراد، وقتل منهم خلقاً يتجاوز الأعداد، وسبى النسوان والأولاد، وباعوهم بتبريز وتلك البلاد، مجازياً لهم مما فعلوه من كسر عسكره وقتل قطلوشاه نائبه.
قلت: قد ذكرنا فيما مضى قضية قطلوشاه وكيف قتل، ولما جاء الخبر بذلك إلى خربندا اغتم غناً شديداً وأمر بأن ينادي في عسكره بأن البيكار ثلاث سنين إلى كيلان، إما تفنى المغل أو تموت كيلان، ثم إنه فتح الخزائن، ونفق الأموال، وأمر أن من قتل له أخ أو قريب فليتزوج بامرأته، وإن كان ما له أخ ولا قريب فليتزوجها أكبر غلمانه، وأخذت العساكر الأموال، وأخذوا في إصلاح أحوالهم.
وقد كانت جماعة من ملوك كيلان قد هربوا وجاءوا إلى قطلوشاه، لما سار قطلوشاه إلى بلادهم، وكان قطلوشاه قد أرسلهم إلى خربندا، فلما جرى للمغل ما جرى من الإنكسار والهزيمة، وقتل قطلوشاه، ندم هؤلاء على مجيئهم، واجتمعوا عند كبيرهم نوبرشاه، وقالوا له: أخطأنا في مجيئنا إلى ههنا، وتركنا أموالنا وأولادنا، وجرى علينا ما جرى، وما بقينا نقدر على الرواح إلى كيلان، ولا نأمن على أنفسنا من المغل، فقال لهم: والله يا قوم ما ظننت أصلاً أن أهل كيلان تكبس التتار، ولكن النصر بيد الله تعالى ينزله على من يشاء من عباده، فما بقي إلا أننا نستغفل خربندا ونهرب طالبين بلادنا. فقالوا: ما يكون عذرنا عن جوان شير - وكان أكبر ملوكهم - وعند أصحابه إذا لامونا على خطئنا. فقال: نقول لهم: كان رواحنا لكم لأنا خشينا عواقب الأمور، فقلنا إن جرى أمر والعياذ بالله كنا لكم عليه عند الشدة، ونكون عيناً لكم عندهم، فاتفقوا على مثل ذلك، ولم يعلموا ما قدره الله في الأزل.
ثم إنهم خرجوا في بعض الليالي، وباتوا خارج تبريز في وليمة صنعت لهم، فقاموا في نصف الليل وركبوا، وطلبوا بلادهم. فسمع خربندا بذلك، وأركب جوبان خلفهم ومعه ألفا فارس، فساقوا خلفهم ولاحقوهم في أرض سوداء ليس فيها أنيس، ولا حس حسيس.
ولما رأى هؤلاء غبار التتار، قال بعضهم لبعض: جاءنا الفناء، خذوا في رواحكم، وقالوا: وماذا نصنع في هذه البرية، فقال نوبر شاه: نقاتل عن أنفسنا، وإلاّ أيّ من سلّم نفسه يقعدونه على الخازوق، كما فعل بقطلوشاه، وكانت عدتهم خمسة عشر أميراً ومائتي جندي، فتحالفوا أنهم لا يسلمون أنفسهم حتى تشقط رؤوسهم عن أبدانهم. فعند ذلك نزلوا عن خيولهم، واعتدوا للحرب ووهبوا أنفسهم لله عز وجل، وأيقنوا الموت، وهم في ذلك، فإن الغبار قد انكشف، وأظهرت التتار الإهتمام، فتسابقوا إليهم، وكان أسبق الناس إليهم قجمرن، وكان من فرسان التتر المشهورين، ولما رأته المغل، وهو قاصد إليهم حملوا عليه، وضجوا بكلمة التوحيد، ووثبت عليهم التتار "......... " فلم يفكروا فيه، وواجهوهم بالرماح، فكم من رأس قد طارت، وكم من دماء قد سالت، وفي ذلك الوقت "............ " فحمل كل منهما على صاحبه، فرمى كلتمر على نو برشاه - زعيمهم - فأصاب نحره، وخرج من ظهره، ثم ولّى فصوّب نو برشاه رمحه إليه - وهو في ألم شديد مشرف على الموت - وطعنه بين كتفيه، فخرج الرمح من صدره، فوقع كلاهما، فولّى هذا إلى الجنة وذاك إلى النار.
فلما نظر جوبان إلى ذلك أظلمت الدنيا في عينيه، وصرخ فيمن معه من التتار، وضربوا عليهم حلقة، وشرعوا في الحرب، فلله در العجم، لقد قاتلوا قتال الموت، وجعلوا الآخرة نصب أعينهم، وما أمسى الليل إلاّ والقوم صرعى على وجه الأرض، ولم يسلم منهم أحد. فأمر جوبان بأن تحز رؤوسهم، وبات تلك الليلة في مكان الوقعة.
ولما أصبحوا رحلوا طالبين خربندا، فلّما وصلوا، ومعهم رؤوس هؤلاء، فرح خربندا فرحاً عظيماً بذلك الثأر، وخلع على جوبان، وولاّه موضع قطلوشاه، وجعله صاحب المشورة والتدبير.
وكان ذلك الوقت مستهل الشتاء، فأعطى خربندا الأمراء دستوراً ليروح كل أمير إلى مشتاه، ويتجهز، فإذا خرج الشتاء يجتمعون ليسير بهم خربندا إلى كيلان، وسار خربندا أيضاً إلى مشتاه، وهو موضع يسمى موغاي.(1/488)
وفي أول الربيع رجع إلى تبريز، وأمر بحضور العساكر، وكتب إلى جبال الأكراد يأمرهم بالحضور، فحضرت أمراء الأكراد، ومعهم خلق عظيم، ولم يخّل طائفة من بلاده حتى سير خلفهم، فجمع خلقاً لا يحصون.
وكان لأهل كيلان جواسيس أتوا إليهم، وأعلموهم بأن خربندا قد جمع العساكر، وهو قاصد إليكم، فتحصنوا في الجبال، وسدّوا الدربندات، وتجهزوا للملتقى معه، وكتبوا إلى أمير حاج، وتشاوروا بأن يجهزا أحوالهما حتى إذا سيروا خلفهما يكونان متجهزين، فأخذا في التجهيز، ثم إن جوان شير قال: إني أريد أن آخذ معي مائة فارس، وأكشف الأخبار، فسار غير بعيد، ثم رجع، وقال: الذي طلبت من الله قد أعطاني. فقالوا له: وما ذاك؟ فقال: كنت أريد من الله أن يسوق إلينا من نأخذ الخبر، وقد ساق الله إلينا جماعة منهم، فحين رأيتهم رديت، فقالوا: وكم يكون هؤلء؟، قال: مقدار أربعين فارساً أو أقل، ثم إنه فرّق أصحابه ما بين تلك الرجوم، وقال لهم: إذا سمعتم حس الطبل باز اخرجوا وأمسكوا عليهم الطرق من بين أيديهم وأنا آخذ عليهم الدرب من خلفهم.
وكان خربندا لما نزل على قنغر أولان طلب علجاً من علوج المغل - يقال له: زنبور، كان معروفاً عندهم في المهمات، وقال له: اذهب واكشف لي جبال كيلان ودربنداتها، وكان أخبر الناس ببلاد كيلان، فأخذ معه خمسين فارساً، وسار بهم، فلما أشرف على هذه الرجوم، وكانت تعرف عندهم برجوم الغيلان، قال لأصحابه: يا قوم هذا مكان نحس، وعر مضيق، ونخاف من هذا المكان، فقال له بعض المغل: يا زنبور تخاف في قنغر أولان من جوان شير؟، فقال: نعم، فتضاحكت المغل عليه، فاستحى زنبور، وسار قدامهم، وقلبه خائف، فلما توسط الرجوم نظر إلى الأرض فإذا عليها أثر خيل جديد، فصرخ في المغل، فتشوشوا وهموا بالرجوع، وإذا قد خرج من خلفهم جوان شير وضرب عليهم طبل بازه، فخرج أصحابه من كل ناحية وأخذتهم الصيحات من جميع الجهات، وتنادوا جوان شير، قال لهم زنبور: ما قلت لكم، ما سمعتم مني، وضحكتم علي ورديتم نصيحتي، ولا بقي لكم غير الصبر على البلاء، ثم صرخ زنبور في أصحابه، وحمل على العجم، وهو على مقدمتهم فرمى واحد من العجم بسهم فأرماه، فتهاربت العجم من بين يديه، وفتحوا له طريقاً، خرج هو وأصحابه وطلبوا صوب كيلان، لأن جوان شير كان قد ملك الطريق الذي جاءوا منه.
ولما رأى جوان شير أن طرائق المغل قد أخذت خرج على أصحابه وقال لهم: دونكم وإياهم، ثم أطلق عنان فرسه، وكان حصاناً كرجياً أبرش، إن حمحم أدهش، وإن صهل أرعش، وساق وراءهم فأيقنت المغل بالدمار، ثم لحق جوان شير الهاربين فطعن فارساً منهم فأرماه، ثم الثاني، ثم الثالث، ثم وصل أصحابه إليه وأحاطوه بهم، ومسكوا منهم ثلاثين فارساً، وهرب زنبور ومعه عشرة من أصحابه، والتجأوا إلى تل عال، وأسندوا ظهورهم إليه، وأخذوا قسّيهم بأيديهم، وأيقنوا بالحمام، وجاء جوان شير بمن معه، فضربوا عليهم حلقة، ونادى جوان شير ويلكم يا كلاب، سلّموا أرواحكم وإلا نزل بكم الدمار، ولما رأى زنبور أن الذي ينادي جوان شير طلب منه الأمان عليه وعلى من معه، فأمنهم جوان شير، وسلّموا أنفسهم، وفرح بذلك جوان شير، ثم سأل عن خربندا، فأخبروه بأنه نازل على قنغر أولان ومعه خلق لا تحصى، وهو قاصد إليكم وقد سيّرنا لنكشف له الأخبار.
ثم قال جوان شير لتوكل: خذ معك عشر فرسان وخذ هؤلاء الأسرى وسرّ بهم إلى البلاد، فقال له: وأنت؟. فقال: أنا قد عولت أن أغار على دشارات خربندا وعسكره ما داموا آمنين من جهتنا. فقال توكل: لا تفعل. فقال: لا غنى عن ذلك، ثم قال توكل: فإن كان لا بد من ذلك فأنا ما أروح مع هؤلاء، ولا أنقطع عنك، وسألتك بالله العظيم أن لا تحرمني الغزوة في هذه النوبة فقال جوان شير: أين الفارس منكلي؟ فأجابه بالتلبية. فقال له: سر بهؤلاء، فسار منكلي بهم.(1/489)
ورجع جوان شير وأصحابه طالبين دشارات المغل، فسار في ذلك اليوم والثاني وعند آخر النهار أشرف على قنغر أولان وإذا عليها عساكر قد سدت تلك الأراضي، ونصبت خيام وقباب لا تحصى، ودشارات الخيل والجمال سارحات في البرية، فلما عاين جوان شير ذلك أكمن بأصحابه في جانب من العسكر بين كثبان رمل إلى أن ولّى النهار وأقبل الليل، ولما أظلم الليل قام ومعه أصحابه وقصدوا موضع الدشارات فأتوها وهي سارحة، والرعاة نيام لكونهم آمنين في هذا الموضع، فضربوا عليها الحلقة، ومن الغرائب أنهم وقعوا بدشار خربندا من خيوله الخاص التي يعتمد عليها، وخيل الأمراء أيضاً، وهي سبعة آلاف حصان، ثم ساقوها من بعد ما تمكنوا من قمم الرعيان، وقال للدليل: افتح عينك واسلك طريق السلامة ولا تخف، فها نحن خمسون فارساً خلفك، ثم ساروا والخيل أمامهم وجوان شير وراء الكل، ولم يزالوا سائرين إلى الصبح، فما أصبحوا إلا في أراضي بعيدة.
ثم علم بذلك المغل وبلغوا الخبر لخربندا بأن جوان شير ساق الدشارات، فماجت عساكره، وركب خربندا وقد خفق فؤاده، وطار رقاده، وكان إلى جانبه رشيد الدولة الوزير، وسعد الدين، وقدامه جوبان، وأتته أمراء الألوف من كل جانب، ولم يزالوا واقفين إلى طلوع الفجر، وكان جوبان سير جماعة من أصحابه يكشفون له الدشارات فينظرون ما نقص منها، فحضروا عند الصباح وقالوا: إنما ساقوا خيل خربندا الخاص ودشارالأمراء، فأعلم جوبان بذلك لخربندا، فصعب عليه وكبر لديه وقال: ما دلّهم على هذا إلا أحد من جندنا، وإلاّ كيف يكون هذا؟ فقال جوبان: طيب قلبك يا خوند، فأنا آتيك بها، فإلى أين يسيرون بها ونحن في طلبهم، ثم إنه انتخب خمسة آلاف فارس وسار خلفهم، وخربندا يقول له: اجعل بالك من حيلة تعمل عليك، فلا تهمل لهم أمراً، وقلبي خائف من جهة الكشافة الذين سيّرناهم، فلا يكون التقاهم في الطريق شيطان العجم - يعني جوان شير - فقال جوبان: إن زنبوراً خبير بهذه الأراضي، وما أظن أنه يسلك على الطريق الجادة ثم سار جوبان على عجل، ويقطع الأراضي في اليوم الأول والثاني والثالث.
وأما جوان شير فإنه جدّ في السير، وكلّما يقف فرس من الدشارات يعرقبه، ولم يزل كذلك حتى أشرف بمن معه على دربند كيلان، ثم جاوزوا الدربند، فإذا دوباح التقاهم ومعه ألف فارس وخمسمائة راجل، وذلك لأنه لما وصل إليه منكلي ومعه زنبور وأصحابه، وأخبره منكلي بأن جوان شير قد عوّل على أن يذهب ويسوق دشارات خربندا وأمرائه، ففزع من ذلك وخاف على جوان شير، وركب من وقته وساق بمن معه إلى أن التقى جوان شير، وكان آخر النهار، ولما رأى دوباج تلك الخيل تعجب منها، وكان لها أيام وهي في السوق والطرد، وفي الدربند عشب ومرعى ومياه تجري من تلك الجبال، فوقفت تلك الخيل في تلك المراعي واشتغلت بها. فقال لهم دوباج؛ انزلوا بنا نبيت في هذه الليلة ههنا ونستريح ونريح الخيل ونقوم وقت الصباح، فأجابوه إلى ئلك ونزلوا.
ولما دخل الليل أخرج دوباج من أصحابه يزكا إلى باب الدربند فباتوا ليلتهم إلى الصباح، ثم عولوا على الرحيل، وإذا باليزك قد جاءوا من باب الدربند وأخبروا بأنهم رأوا غباراً قد ظهر من الدرب الذي جاءوا منه. فقال جوان شير: هذا والله خيل خربندا وقد جاءوا وراءه. فقال دوباج: تخّلى الدشارات، وتأخذ معك مائة فارس وتدبر لنا عليهم مكيدة، ثم إن جوان شير ودوباج وأصحابهما جميعهم ساروا إلى رأس الدربند، وإذا بالغبار قد نما ولحق بعنان السماء، فقال دوباج عندي رأي. فقالوا: وما هو؟ فقال: أنا أكمن خارج الدربند في لحف هذا الجبل بين الصخور والأحجار، ويقف جوان شير بجماعة مقدار سبعين أو ثمانين فارساً، فإذا رأوك يحملون عليك لأنهم لا يعتقدون أن معك أكثر من هؤلاء، فصابروا ساعة، ثم اهربوا واطلبوا الدربند، فإذا ساروا وراءك وعبروا إلى الدربند أخرج أنا من خلفهم، وأملك عليهم الدرب، وترد أنت أيضاً بمن معك "......... ".(1/490)
وسار الوزير يطلب خربندا ومعه جماعة من أهل كيلان من أكابرها وأعيانها حتى وصلوا إلى خربندا، وحدثه الوزير بما جرى، فرضى خربندا بما وقع عليه الإنفاق، ثم خلع على هؤلاء وردهم إلى بلادهم في إكرام، ثم رحل خربندا، وسار حتى وصل إلى قنغر أولان، وإذا بها خراب، وقد وقع من قلعتها ثلاثة أبراج وبدنتان من الزلزلة، وخرب أكثر بيوتها، وأقام عليها ثلاثة أيام، ثم رحل حتى أتى تبريز، ونزل من قلعتها، ثم سيّر خلف أمرائه وملوك بلاده، فأتى جميعهم وجمعهم للمشورة، وتحدث معهم في الركوب إلى الشام، وذلك لأنه أمن من جهة كيلان ومن جهة خراسان. فقال رشيد الدولة: الرأي عندي أن تتركوا حديث الشام، وذلك لأن العسكر ضعيف، ولهم ثلاث سنين في البيكار، ووافقه الأمراء على كلامه، فسكتوا عن ذلك واشتغلوا بغيره. وسنذكر ما جرى بعده في السنة الآتية والتي بعدها إن شاء الله.
ذكر مقتل هيثوم صاحب سيس
قال بيبرس في تاريخه: وفيها: وئب مقدم من مقدمي التتار، كان مجرداً ببلاد سيس، مقدماً على التومان المقيم بها، اسمه برلغو على هيثوم صاحب سيس فقتله.
قيل: كان السبب في ذلك أن برلغو قصد أن ينشىء مدرسة ببلد أذنه، ويجعل فيها مئذنة، فلم يوافق هذا رأي صاحب سيس، وأرسل إلى خربندا يشكوه ويقول له: إنه اتفق مع أهل الشام وواطأ بلاد الإسلام، فأطلع بعض أصحاب برلغو المقيمين بالأردو على ذلك، فأرسلوا يعرفونه بشكوى المذكور منه، فخاف على نفسه، وخطر له أن يحيل بالذنب على صاحب سيس ويحتال عليه، فعزم على أن يعمل له طوى وهي الوليمة ويدعوه، ورتب مع أصحابه إذا حضر واستقر به القرار يقتلونه فلما هيأ له الضيافة حضر إليه هو وإخوته وهم: الناق، وليون وأوشين، فما استقر بهم القرار إلا وقد وثب أصحاب برلغو عليهم وبذلوا السيوف فيهم، فقتب هيثوم والناق، وجرح برلغو، جرحه بعض الأرمن، فسار متوجهاً نحو الأردو، وأمسك شخصاً يسمى أيدغدي الشهرزوري من مماليك الأمير شمس الدين قراسنقر نائب حلب، كان عند صاحب سيس من جهة المشار إليه، وجهه له في طلب القطيعة، وعلم برلغو به، فأمسكه وأخذه معه على أنه إذا قدمه إلى خربندا يثبت فعله عن صاحب سيس في مواطأته للمسلمين ومراسلته لهم، ثم إن أخاً صاحب سيس المسمى ليون توجه إلى الأردو واستصحب معه نساء أخويه الذين قتلا، لابسات الحداد، متذرعات بالسواد، شاكيات من قتل أصحابهن، فلما وقف خربندا على الخبر أمر بقتل برلغو بالسيف، فقتل على مكانته، وأقر صاحب سيس على مملكته وأعاده إلى بلاده.
ذكر ما اتفق لابن تيمية في هذه السنة
وفي يوم الجمعة رابع عشر صفر: اجتمع قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة بابن تيمية في دار الأوحد من قلعة الجبل، وطال بينهما الكلام، ثم تفرقا قبل الصلاة، وابن تيمية مصمم على عدم الخروج من السجن، فلما كان يوم الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الأول: جاء الأمير حسام الدين مهنى ابن عيسى ملك العرب إلى السجن بنفسه، وأقسم على الشيخ ليخرجن إليه، فلما خرج أقسم لا يعود حتى يأتي معه إلى دار سلار: فاجتمع به بعض الفقهاء في دار سلار وجرى بينهم بحوث كثيرة، ثم فرقت بينهم الصلاة، ثم اجتمعوا إلى المغرب، وبات تقي الدين عند سلار، ثم اجتمعوا يوم الأحد بمرسوم السلطان أول النهار، ولم يحضر أحد من القضاة، بل اجتمع هناك الفقيه نجم الدين ابن رفعة، وعلاء الدين بن الباجي، وتقي الدين ابن بنت سعد، وعز الدين النمراوي، وشمس الدين بن عدلان، وانفصل المجلس على خير، فبات الشيخ عند نائب السلطنة.
وكان حسام الدين مهنى يريد أن يستصحبه معه إلى الشام، فأشار سلار بإقامة الشيخ مدة بمصر ليرى الناس فضله، ويجتمعوا به، وكتب الشيخ كتاباً إلى الشام بمضمون ما وقع من الأمور.
ثم عقد له مجلس بالصالحية بعد ذلك كله، ونزل الشيخ بالقاهرة بدار ابن شقير، وأكب الناس على الإجتماع به ليلاً ونهاراً.
وفي بعض التواريخ: وفيها حضر إلى الأبواب الشريفة الأمير حسام الدين مهنى بن عيسى، فأكرمه السلطان وخلع عليه، فخاطب السلطان في أمر الشيخ ابن تيمية، فأجاب سؤاله فيه، وأحضر مهنى بنفسه إلى الجبّ وأخرجه منه، ثم جرى ما ذكرناه.(1/491)
وفي شوال اجتمع نحو خمسمائة من الصوفية، وفيهم شيخ الشيوخ كريم الدين الآملي إلى الحاكم الشافعي، فاشتكوا الشيخ ابن تيمية من كثرة ما ينال من ابن عربي، فلم يثبت من ذلك شيء، وجرى كلام فيما يتعلق بالإستغاثة، فعنفه الحاكم وقال: هذا يعزز، ثم خيرته الدولة بين المسير إلى الإسكندرية أو إلى الشام بشروط، وبين الحبس، فاختار الحبس على ذلك.
فأشار عليه بعض أصحابه بالشام، فاختارها، فأركب على البريد، فلما انفصل لحقه بريدي آخر فرده، ثم أحضره إلى الحاكم الشافعي فقال له: الدولة لا ترضى إلا بالحبس، فأناب القاضي شمس الدين التونسي المالكي. فقال: ما ثبت عليه شيء وامتنع أن يحكم، فأناب نور الدين الزواوي المالكي، فامتنع أيضاً. فقال الشيخ: أنا أمضي بنفسي إلى السجن من غير حكم للمصلحة، فحبس في حبس القاضي - في المكان الذي كان فيه تقي الدين بن بنت الأعز حين سجن - وجعل عنده من يخدمه، وكل ذلك بإشارة الشيخ نصر المنبجي، فأقام الشيخ في السجن مدة يستفتيه الناس ويزورونه ويتوالونه ويحبونه.
وقال بعضهم: في شوال اجتمع الشيخ ابن عطا السكوني وشيخ الخانقاة وجميع الصوفية، فكانوا أكثر من خمسمائة نفس وطلعوا إلى القلعة، فلما وصلوها كان هناك جماعة من أرباب الصنائع، فاختلطوا معهم، فصاروا جمعاً كثيراً، فلما رآهم أهل الدولة قالوا لهم: اش مرادكم؟ قالوا: إن تقي الدين بن تيمية تكلم في مشايخ الطريقة وأنه قال: لا ينبغي أن يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم، وسألوا أن يعقد لهم وله مجلس، فردوا الأمر في ذلك إلى قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة الشافعي، ففوض ابن جماعة إلى القاضي تقي الدين الزواوي المالكي، فاقتضى الحال تسفيره إلى الشام، فسافر مع البريدي، ثم ردوه، وحبس بحبس الحاكم.
وفيها: عقد مجلس بالقصر الأبلق لنجم الدين بن خلكان بحضور نائب السلطنة، وأحضروا مسطوراً كتب عليه بالتوبة في سنة أربع وسبعمائة، وذكروا أنه تجدد منه أمور بعد ذلك واختلفوا في أمره، فبعضهم أشار بقتله وبعضهم رأى ضربه وتعزيزه، ومنهم من جنح إلى استتابته وحبسه عن الناس، والرفق به، وهو الشيخ برهان الدين بن الشيخ تاج الدين، فرسم نائب السلطنة أن يعمل بقوله، وانفصل الحال على ذلك، وكتب عليه مكتوب آخر بالتوبة والإقلاع عما صدر منه من الكلام في المغيبات، ووضع بالمارستان مدة، وأخرج منه وأقام بالنيرب.
ذكر من أنعم عليه بإمرة أو وظيفة أو قطع
وفيها: تولى نيابة غزة الأمير ركن الدين بيبرس العلائي الحاجب، عوضاً عن الأمير سيف الدين أقجبا.
وفيها: نزل سيف الدين كراي المنصوري عن إقطاعه وعدته، واستقال من إمرته، واختار الإنقطاع والتخلي عن الإقطاع، وارتجع خبزه، وأعطى للأمير يتخاص ومضى إلى القدس، وأقام ببلاد غزة.
ذكر ما فعل الملك طقطا صاحب البلاد الشمالية ملك التتار
وفيها: نقم طقطا على الفرنج الجنوية الذين بقرم وكفا والبلاد الشمالية، لأمور قيلت عنهم منها: استيلاؤهم على أولاد التتار واستجلابهم إلى هذه الأقطار وغير ذلك، فأرسل جيشاً إلى مدينة كفا وهي مسقط رؤوسهم، فأحسوا بوصولهم فتهيأوا في مراكب في البحر وركبوا وساروا إلى بلادهم، فلم يظفر التتار منهم بأحد، فنهب طقطا أموال من كان منهم بمدينة صراي وما يليها.
ذكر العزم على تجهيز العساكر إلى اليمن
وفيها: وقع عزم ولاة الأمور بمصر على تجهيز عسكر إلى اليمن، لأن صاحبها الملك المؤيد هزبر الدين داود ابن الملك المظفر صلاح الدين يوسف بن رسول منع الهدية التي كانت العوائد جارية بإرسالها إلى الأبواب السلطانية، فبرز المرسوم على أن كل مقدم ألف منهم يُعمر مركباً كبيراً يسمى جلبة، وقياسة لطيفة تسمى فلوة، برسم حمل الأزواد والآلات، وتسفيرها إلى جهة الطور والسويس على الظهر لتركب هناك وتُرمى في البحر وتُسّفر، فاشترك كل مقدم ألف ومضافيه في مركب وقارب، وندب عز الدين أيبك الشجاعي المشد إلى قوص لعمارة هذه المراكب، وانقضت هذه السنة والإجتهاد مستمر في ذلك، على أنه إذا تنجزت الأشغال توجه العسكر المجرد صحبة سيف الدين سلار.(1/492)
فسأل أعيان الكارم الإمهال إلى أن يتوجه الرسل إلى صاحب اليمن ويعود الجواب، فأمهلوا، وأرسل القاضي شمس الدين بن عدلان والأمير سنقر السعيدي رسلاً إلى اليمن، وكُتب إلى صاحب اليمن كتاب من الخليفة ليتقدم بين يدي البعوث المجهزة بألفاظ مرجزة، وهذه نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم ". " إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ". أما بعد حمد الله مانح القلوب السليمة هُداها، ومرشد العقول إلى أمر معادها ومبداها، وموفق من اختاره إلى محجة صواب لا يضل سالكها، ولا تُظلم عند اختلاف الأمور مسالكها، ومُلهم من اصطفاه لإقتفاء آثار السنن النبوية، والعمل بموجبات القواعد الشرعية، والإنتظام في سلك من طوقته الخلافة عقودها، وأفاضت على سُدّته الجليلة برودها، وملّكته أقاصي البلاد وأناطت بأحكامه السديدة أمور العباد، وصارت تحت خوافق أعلامه أعلام الملوك الأكاسرة، وشيدت بأحكامه مناهج الدنيا ومصالح الآخرة، وتبختر كل منبر بذكره في ثوب من السيادة معلم، وتهللت من ألقابه الشريفة أسارير كل دينار ودرهم، الذي يحمده أمير المؤمنين على أن جعل أمور الخلافة ببني العباس منوطة، وجعلها كلمة باقية في عقبه إلى يوم القيامة مُحوطة، ويُصلى على ابن عمه محمد الذي أخمد الله بمبعثه ما ثار من الفتن، وأطفأ برسالته ما اضطرم من نار الإحن، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين حموا حمى الخلافة وذادوا عن مواردها، وعمدوا إلى تشييد المعالم الدينية فأقاموها على قواعدها، صلاة دائمة الغدو والرواح، متصلاً أولها بطرةّ الليل وآخرها بجبين الصباح، هذا وأن الدين الذي فرض الله على الكافة الإنضمام إلى شُعبه، وأطلع فيه شموس هداية تشرق من مشرقه ولا تغرب في غربه، جعل الله حكمه بأمرنا منوطاً، وفي سلك أحكامنا مخروطاً، وقلّدنا من أمر الخلافة المعظمة سيفاً طال نجاده، وكثر أعوانه وأنجاده، وفوّض إلينا أمر الممالك الإسلامية، فإلى حُرمنا تُجبى ثمراتها، ويُرفع إلى ديواننا العزيز نفيها وإثباتها، يخلف الأسد إذا مضى في غابة شبله، ويلقى في الخبر والخبر مثله.
ولما أفاض الله علينا حُلة الخلافة، وجعل محلنا الشريف محل الرحمة والرأفة، وأقعدنا على سدة خلافة طالما تشرفت بالخلائف من آبائها، وابتهجت بالسادة الغطاريف من أسلافنا، وألبسنا خلعة من ملابس السؤدد مصبوغة، ومن سواد العيون وسويداوات القلوب مصوغة، أمضينا على سدتنا الشريفة أمر الخاص والعام، وقلدنا كل إقليم من عملنا من يصلح سياستها على الدوام، واستكفينا بالكفاة من عمالنا على أعمالنا، واتخذنا مصر دار مقامنا وبها سدة مقامنا لما كانت في هذا العصر قبة الإسلام، وقبة الإمام، وثانية دار السلام، تعين علينا أن نتصفح جرائد أعمالنا، ونتأمل نظام عمالنا، مكاناً فمكاناً، وزماناً فزماناً، فتصفحناها فوجدنا قطر اليمن خالياً من ولايتنا في هذا الزمن، عرّفنا هذا الأمر من اتخذناه والممالك الإسلامية عيناً وقلباً، وصدراً ولباً وفوضنا إليه من الممالك الإسلامية فقام فيها قياماً ما أقعد الأضداد، وأحسن في ترتيب ممالكها، فهابه الإصدار، وغاته الإيراد، وهو السلطان الأجل السيد الملك الناصر، لا زالت أسباب المصالح على يديه جارية، وسحابة الإحسان من أفق راحته سارية، فلم يعد جواباً لما ذكرناه، ولا عذراً عما أبديناه إلا بتجهيز شرذمة من جحافله المشهورة، وتعيين أناس من فوارسه المذكورة، يقتحمون الأهوال، ولا يعبأون بتغييرات الأحوال، يرون الموت مغنماً إن صادفوه، وسبا المرهف مكسباً إن صافحوه، لا يشربون سوى الدماء مدامة، ولا يلبسون غير الترايك غمامة، ولا يعرفون طرباً إلا ما أصدره صليل الحسام من غنى، ولا ينزلون قفراً إلا ونبت ساعة نزولهم قنا.(1/493)
ولما وثقنا منه بإيفادهم راجعنا رأينا الشريف فاقتضى أن يكاتب من بسط يده في مهالكها، واحتاط على جميع مسالكها، واتخذ أهلها خولاً، وأبدى في خلال ديارها من عدم سياسته خللاً، برز مرسومنا الشريف النبوي أن يكاتب من قعد على تخت ملكها، وتصرف في جيع أمور دواتها، فطولع بأنه ولد السلطان الملك المظفر يوسف بن عمر الذي له شبهة تمسك بأذيال المواقف المستعصمية، وهو مستصحب الحال على زعمه، أو ما علم الفرق بين الأحياء والأموات، أو ما تحقق الحال التي بين النفي والإثبات، أصدرناها إلى الرحاب الثغرية، والمعالم اليمنية، نُشعر من تولى فيها فاستبد، وتولى كبره، فلم يعرج على أحد أن أمراء اليمن ما برحت نوابنا، تحكم فيه بالولاية الصحيحة، والتفويضات التي هي غير جريحة، وما زالت تحمل إلى بيت المال المعمور ما تمشي به الجمال وئيداً، وتقذفه بطون الجواري إلى ظهور اليعملات وليداً، ويطالعنا بأمر مصالحه ومفاسده، ومجال معاهده ومُعاهده، ولك أسوة بوالدك فلان، هلاّ اقتضيت ما سنّه من آثاره، ونقلت ما دونته أيدي الزمن من أخباره.
واتصل بمواقفنا الشريفة أمور صدرت منك: منها: وهي العظمى التي ترتب عليها ما ترتب: قطع الميرة عن البيت الحرام، وقد علمت أنه وادٍ غير ذي زرع، ولا يحلّ لأحد أن يتطرق إليه بمنع.
ومنها: انصبابك إلى تفريغ مال بيت المال في شراء لهو الحديث، ونقض العهود القديمة بما تبديه من حديث.
ومنها: تعطيل أجياد المنابر من عقود اسمنا، وخلو تلك الأماكن من أمر عقدنا وحلنا.
ولو أوضحنا لك ما اتصل بنا من أمرك لطال ولاتسعت فيه دائرة المقال، رسمنا بها، والسيف يود لو سبق القلم حدّه، والعلم المنصور يود لو فات العلم، واهتز بتلك الروابي قدّه، والكتائب المنصورة تختار لو بدرت عنوان الكتاب، وأهل العزم والحزم يودون إليك إعمال الركائب، والجوار المنشآت قد تكونت من ليل ونهار، وبرزت كصور الأفيلة لكنها على وجه الماء كالأطيار. وما عمدنا إلى مكاتبتك إلا للإنذار، ولا جنحنا إلى مخاطبتك إلا للأعذار، فاقلع عما أنت بصدده من الخيلاء والإعجاب، وانتظم في سلك من استخلفناه، فأخذ بيمينه ما أعطى من كتاب، وصُن بالطاعة من زعمت أنهم مقيمون تحت لواء علمك، ومنتظمون في سلك أوامر كلمك، وداخلون تحت طاعة قلمك، فلسنا نشن الغارات على من نطق بالشهادتين لسانه وقلبه، وامتثل أوامر الله المطاعة عقله ولبه، ودان الله بما يجب من الديانة، وتقلد عقود الصلاح، والتحف مطارف الأمانة، ولسنا ممن يأمر بتجريد سيف إلا على من علمنا أنه خرج عن طاعتنا، ورفض كتاب الله، ونزع عن مبايعتنا.
فأصدرنا مرسومنا هذا إليه نقص عليه من أنباء حلمنا ما أطال مدة دولته، وسيد قواعد صولته، ونستدعي منه رسولاً إلى مواقفنا الشريفة، ورحاب ممالكنا المنيفة، لينوب عنه في قبول الولاية مناب نفسه، وليجن بعد ذلك ثمار شفقاتنا إن غرس شجر طاعتها، ومن سعادة المرء أن يجني ثمار غرسه، بعد أن يُصحبه من ذخائر الأموال ما كثر قيمته وخفّ حملاً، وتعالى رتبةً وحسن مثلاً، واشرط على نفسك في كل سنة قطيعة ترفعها إلى بيت المال، وإياك ثم إياك أن تكون عن هذا الأمر ممن مال، ورتّب جيشاً مقيماً تحت علم السلطان الأجل الملك الناصر للقاء العدو المخذول التتار، ألحق الله أولهم بالهلاك وآخرهم بالبوار، وقد علمت تفاصيل أحوالهم المشهورة، وتواريخ سيرهم المنكورة، فأحرص على أن يخصك في هذا المشرب السائغ أوفر نصيب، وأن تكون ممن جهز جيشاً في سبيل الله، فرمى بسهم فله أجر، كان مصيباً أو غير مصيب، ليعود رسولك من دار الخلافة بتقاليدها وتشاريفها، حاملاً أهله أعلامنا المنصورة، شاكراً بر مواقفنا المبرورة، وإن أبى حالك إلا أن استمريت على غيك، واستمريت مرعي بغيك، فقد، فقد منعناك التصرف في البلاد، والنظر في أحكام العباد حتى تطأ خيلنا العتاق مشمخرات حصونك، وتعجل حينئذ ساعة منونك. وما علمناك غير ما علمه قلبك، ولا فهمناك غير ما حدسه لبك، ولا تكن كالصغير تزيده كثرة التحريك نوماً، ولا ممن غره الإمهال يوماً فيوماً، أعلمناك ذلك فاعمل بمقتضاه، موفقاً إن شاء الله.
ذكر قضية أبي ثابت المريني(1/494)
قال بيبرس في تاريخه: وفي هذه السنة سار أبو ثابت عامر بن عبد الله ابن أبي يعقوب المريني لمحاربة يوسف بن أبي عياد متحفظ قلعة مراكش لخروجه عن الطاعة، فخرج يوسف لمحاربته والتقيا على مراكش، فكانت الهزيمة على ابن أبي عياد، فأُخذ أسيراً، وقُتل من جماعته تقدير ألف نفر، وعاد أبو ثابت إلى طنجة ظافراً، وكان بها أقدام من عرب رباح وغيرهم قد نافقوا عليه فقتلهم، وقتل منهم خلقاً، ثم أقام بطنجة فمرض ومات، وكانت مدته سنة وثلاثة أشهر وأياماً.
وجلس بعده علي بن يوسف بن يعقوب، عمه، وذلك أنه كان مع العسكر لما مات ابن أخيه، فاستقر في الأمر وظن أنه يتم له فوثب عليه شخص اسمه عبد الله بن أبي مدين، كان وزير الدولة فخلعه لليوم الثاني من جلوسه، ووافقه العسكر على ذلك.
ولما خلع على المذكور اتفق عبد الله الوزير مع الأشياخ ونصبوا سليمان ابن عبد الله وبايعوه، فاستمال الناس إليه، وأخرج الأموال المدخورة وفضها فيهم، وفرقها عليهم، وزاد في أعطيات بني مرين، وأحسن إليهم، وأبطل المكوس، ووضع المظالم، وأحسن إلى الرعية، فمالت إليه النفوس، وقبض على المخلوع، واعتقله بطنجة، واستوزر عبد الله المذكور وأقام ثنتين من بني مرين لجباية الأموال، أحدهما يسمى رجو بن يعقوب، والآخر إبراهيم ابن عيسى.
وقال بيبرس أيضاً وفيها: خرج الشيخ أبو إدريس بن إبراهيم بن عيسى المريني ابن عم أبي يعقوب من المغرب قاصداً الحج، فاتفق وصوله إلى تونس في أواخر هذه السنة، فسأله صاحب تونس أن يتوجه إلى جزيرة جربة مقدماً على جيش جهزه إليها، فأجابه وأخر حجه وتوجه.
ذكر بقية الحوادث
منها: أنه جُرد الأمير شرف الدين أمير أحمد بن قُصرا التركمان، والأمير بدر الدين بيليك المُحسني إلى برقة لتمهيد العربان الثائرين بذلك الوجه، فساروا في شعبان وأوقعوا بأهل العصيان، واستاقوا إبلهم وعادوا.
ومنها ما قاله بيبرس في تاريخه وفيها: مدّا النيل مداً أروى البلاد وشمل الربى والوهاد، وكان قد قصّر منذ سنوات عن المعتاد، وتضرر بتقصيره أهل السواد، فلطف الله تعالى في عامه وأجراه بإنعامه، فانتهت زيادته إلى تسعة عشر ذراعاً إلا ثلاثة أصابع، وكانت بركته كثيرة، وبلغ غاية ما بلغته الآمال العزيزة، وزُرعت البلاد زرعاً شاملاً، وخُضّرت تخضيراً كاملاً، وأقبل الزرع إقبالاً أعجب الزراع، فاهتزوا طرباً، وتاهوا به عُجباً وعَجباً، فلما كان في أواسط نيسان الموافق لشهر شوال من السنة العربية وبرمهات من السنة القبطية، وهو وقت كمال الغلة وختامها، وحين نهايتها وتمامها، أرسل الله تعالى عليها ريحاً زعزعاً، فخفقت من الحّب ما كان مُمرعاً، فهاف أكثر الزروع وجف معظم الضروع، حتى ترك أكثرها في الأرض بغير حصاد، وغالب الناس لم يسترد ما بذر، وأكثرهم من خسر وانكسر، ولم يتحصل للأمراء وأصحاب الإقطاعات إلا النذر اليسير من الغلات، واحتبسوا بأكثرها بالمسامحات تخفيفاً عن الفلاحين ورغبة في العمارة والتوطين، فكان ذلك كما قال عز من قائل في محكم تنزيله: " إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض ". إلى قوله " لقوم يتفكرون ". وتميزت أسعار الغلال حتى انتهى القمح إلى خمسين درهماً الأردب، ثم انحط يسيراً بعد يسير بلطف المسهل كل عسير.
وفيها: حج بالناس الأمير طغريل السلحدار الإيغاني، أميراً على الركب المصري، وبالركب الشامي الأمير سيف الدين بلبان البدري.
ذكر من توفي فيها من الأعيان
الشيخ صالح الأحمدي الرفاعي، شيخ المنيبع.
وكان التتار يكرمونه لما قدموا دمشق ولما جاء قطلوشاه نائب ملك التتار نزل عنده، وهو الذي قال لإبن تيمية حين تناظروا بالقصر: نحن ما يتفق حالنا إلا عند التتار وأما قدام الشرع فلا.
الشيخ الصالح أبو حقص عمر بن يعقوب بن أحمد السعودي، توفي يوم الأربعاء ثاني جمادى الآخر منها.
الشيخ فخر الدين عثمان بن جوشن السعودي، توفي فيها، وجلس أحد أولاده مكانه.
الصدر الرئيس أمين الدين يوسف بن محمد بن رجب الرومي المحتسب بدمشق.
مات فيها، ودفن بتربته جوار الصوفية، وكان مشكور في حسبته. أقام متوليها سنين، وعزل قبل موته بنصف سنة، ومات وهو ناظر المارستان النوري، وكان موصوفاً بالأمانة والكفاية في جميع أموره.(1/495)
الصدر الكبير شرف الدين محمد بن فتح الدين عبد الله بن محمد بن أحمد ابن خالد القيسراني الحلبي، أحد أعيان الموقعين بالديار المصرية.
مات في مستهل شعبان بالقاهرة، ودفن بالقرافة الصغرى، وكان مشكور السيرة، حسن الطريقة، كثير التلاوة ولديه فضيلة مشهورة، وبيته مشهور، رحمه الله.
أفضى القضاة جمال الدين أبو بكر محمد بن عبد العظيم بن علي بن سالم الشافعي المعروف بابن السقطي.
مات بالقاهرة، ودفن بالقرافة الصغرى، كان مشكور السيرة في قضاياه، ناب في القاهرة مدة أربعين سنة، وترك القضاء في آخر عمره، ومولده سنة اثنين وعشرين وستمائة، ووفاته في حادي عشر شعبان منها.
الشيخ الصالح أبو القاسم عمر اليونيني السّلاري.
مات بزاويته خارج باب النصر بدمشق، كان رجلاً صالحاً خيراً، وهو ابن أخت الشيخ ناصر الدين السلاوي، ومولده في سنة خمس وعشرين وستمائة.
الشيخ المسند شهاب الدين محمد بن أبي العز بن مشرف البزاز الأنصاري الدمشقي.
مات بدمشق، ودفن بسفح قاسيون، وكان قد تفرد بالرواية عن ابن صبّاح، واشتهر بالرواية، وصار متسمعاً بدار الحديث الأشرفية، رحمه الله.
الصاحب الكبير الفاضل تاج الدين محمد بن الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب الكبير الوزير بهاء الدين علي بن محمد بن سليم المصري الدار والوفاة، المعروف بابن حنا.
سمع من سبط السلفي جزء الذهلي، ومن الشرف المزيني بدمشق، مات بمنزله ببركة الحبش، وحمل إلى تربته بالقرافة بالقرب من مشهد الإمام الشافعي رضي الله عنه، وكانت عنده رئاسة وحشمة وكرم نفس، وحسن عقيدة في الفقراء والصالحين، وجده لأمه الوزير شرف الدين الفائزي، وهو من بيت رئاسة ووزارة كابراً عن كابر، وهو الذي اشترى الآثار النبوية على ما يقال بأربعمائة ألف درهم، وهي قطعة من العترة، وبرود، ومخصف، وملقط، وقطعة من قصعة، وجعلها في المكان المعروف بالمعشوق، انتهت إليه رئاسة عصره بمصر، وكان يتباهى في المطاعم والملابس والمساكن، وكان كثير الصدقات والتواضع.
قال القاضي شرف الدين بن فضل الله: اجتزت على تربته بالقرافة فرأيت إلى جانبها مكتباً للأيتام وهم يكتبون القرآن في الألواح، فإذا أرادوا مسحها غسلوا ألواحهم وسكبوا ذلك الماء على قبره، فسألت عن ذلك، فقيل لي: هذا شرط الواقف، وهذا قصد جيد، وعقيدة صحيحة.
وله شعر حسن، فمنه قوله:
لله في الأحوال لطف جميل ... فاغن به عن ذكر قال وقيل
ولا تفارق أبداً بابه ... فمنه قد جاء العطاء الجزيل
واشكر على الإنعام فيما مضى ... كم أسبل الستر زماناً طويل
وأخيبه المعرض عن بابه ... خلّى كريماً أم البخيل
فقل لمن عدد أنعامه ... كل لسان عند هذا كليل
وله موشح:
قد انحل الجسم أسمر أكحل ... وأوحل القلب فيه مذحل
يميل ... وعنه لا أميل
يحول ... وعنه لا أحول
أقول ... إذ زاد بي التحول
أما حل عقد الصدود ينحل ... ويرحل عن نجمي المزحّل
برغمي ... كم يستبيح ظلمي
ويرمي ... بحربه لسلمي
وجسمي ... مع التزام سقمي
منحل وقد غدا مزحل ... فلم حل سفك دمي وما حل
متوج ... بالحسن هذا الأبهج
مدبخ ... عذاره البنفسج
مفلح ... يرنو بطرف ادعج
مكحل وريقه المنحل ... مفحل بالعنبر المحلل
كم أبعد ... وكم أبيت مكمد
ويعمد ... بهجره لا يفقد
ويجهد ... في ارتضاء من قد
تمحل والحاسدون دحّل ... ومحل والوعد منه أمحل
قلاني ... واشترط هذا الجافي(1/496)
رماني ... في عشقه زماني
خلاني ... أشكو لمن يراني
قد انحل الجسم أسمر أكحل ... وأوحل القلب فيه مذ حل
وله أيضاً:
بالله انشدوا لي فؤادي ... قد ضاع وقت الرحيل
واستجيروا كل حادي ... واستوقفوهم قليل
لا أوحش الله منكم ... يا أهل وادي العقيق
والله مذ غبت عنكم ... انسان عيني غريق
والقلب قد سار عنكم ... مرفقاً بذلك الرقيق
غربتموه عن بلادي ... والظن فيكم جميل
يهيم في كل وادي ... ما ترحموا ابن السبيل
قد ذاب قلبي وطرفي ... وشرح حالي يطول
ما تنظرون لضعفي ... أو تسمعوا ما أقول
يا جفن ما صرت تخفي ... ما اشتكي عن عذول
أشمت بي الأعادي ... كم ذا عليهم تميل
قد سار عني رقادي ... وصار ليلي طويل
فاشهد إن جزت نجداً ... فاقرىء عليها السلام
وجز ديار..... ... وانزل بتلك الخيام
وقل لهم مات وجداً ... قتل ذاك الغرام
وإن صحبت فادي ... ..................
في حبكم بالبعاد ... وليس عنكم بديل
يا لائم الصب جهلاً ... دع عنك ما لا يفيد
أكثرت في الحب عذلاً ... والصبر عنك بعيد
وأنت يا شوق مهلاً ... كم ذا عليهم يزيد
هذي العرب في البوادي ... ترعى ذمام النزيل
من فضلهم والأيادي ... تلقاك ظل ظليل
البرق يخق وهناً ... يحكي فؤادي الحزين
والد تبكي حزناً ... في دارهم بالأفين
والجسم أصبح مضني ... والقلب معهم رهين
يا ساكناً بفؤادي ... ارحم خضوع الذليل
فأنت مالك قيادي ... بكل فضل جزيل
الأمير الكبير ركن الدين العجمي بيبرس الصالحي النجمي، المعروف بالجالق.
أحد الأمراء البحرية، كان رأس الجمدارية في أيام الصالح نجم الدين أيوب، وأمره الملك الظاهر، رحمه الله، وكان من أكابر الدولة، كثير المال. وكان له مدة بالشام. مات بالرملة في منتصف جمادى الأولى، ونقل إلى القدس، وكان قد أسّن فكان آخر البحرية، وخاتمة الأمراء النجمية، رحمه الله.
الأمير علاء الدين مغلطاي البيسري، توفي فيها بدمشق.
الأمير بهاء الدين يعقوبا بن نور الدين بدل الشهرزوري.
مات بالقاهرة، وكان من أكابر الأمراء مقدمي الألوف بالديار المصرية، وله مكانة عالية في الأيام الظاهرية، والمنصورية. وكان من فرسان المسلمين المشهورين، رحمه الله.
الأمير شمس الدين الخضر الحلبي، المعروف بشلّحونه.
كان في أيام الظاهر والي القاهرة، واستمر في الولاية أيام الظاهر والمنصور، ولما تولى الأشرف عزله وجعله شاد الدواوين لأنه كان ناهضاً أميناً في جميع ما تولاه، وعنده معرفة ومروءة وديانة، ولقب شلحونة زمن الولاية، لأنه كان إذا أراد أن يضرب أحداً يقول: شلحونه، فبقيت عليه لقباً. وكان والده أمير جاندار الملك الظاهر صاحب حلب.
علاء الدين أيدمر السناني.
مات فيها، ودفن بمقابر الحمزيين بدمشق. كان معروفاً بتعبير المنامات، وينظم الشعر الجيد، وخدم بقلعة دمشق، وبقي في مغارة بها.
ومن شعره:
سفرت فخلت الصبح حين تبلجا ... في جنح فودٍ كالظلام إذا شجا
فتاته فتاكة من طرفها ... كم حاول القلب النجاة فما نجا
نحلت نضير الغصن قامة قدها ... وحبت مهاة الجزع طرفاً أدعجا
تفتر عن برد نقى برده ... بالرشف حر حشاشتي قد أثلجا
ما إن دخلت رياض جنةٍ وجهها ... فرأيت عنها الدهر يوماً مخرجا
لما رشفت رحيق فيها ظامياً ... فازددت إلا حرقة وتوهجا(1/497)
تعطو برخص طرفته بعندم ... وتريك ثغراً كالأقاح مفلجا
أنى نظرت إلى رياض جمالها ... عاينت ثم مفوقاً ومدبحا
زارت وعمر الليل في غلوائه ... فغدا من الشمس البهية أبهجا
وسرى نسيم الروض ينكر إثرها ... فتعرفت آثاره ونأرجا
وله:
ورد الورد فأوردنا المداما ... وأرح بالراح أرواحاً هيامي
وأجلها بكراً على خطابها ... بنت كرم قد أبت إلا الكراما
ذات ثغر جوهري وصفه ... في رحيق رشفه يشفي الأواما
برقعت باللؤلؤ الرطب على ... وجنتها كالنار لا تألو ضراماً
أقبلت تسعى بها شمس ضحى ... تخجل البدر إذا يبدو تماما
بجفون بابلي سحرها ... سقمها أهدى إلى جسمي السقاما
ونضير الورد في وجنتها ... نبته أنبت في قلبي الغراما
ودّت الأغصان لما خطرت ... لو حكت منها التثني والقواما
قال لي خالٌ على وجنتها ... حين ناديت أما تخشى الضراما
منذ ألقيت بنفسي في لظى ... خدها ألفيت برداً وسلاما
السلطان أبو ثابت عامر بن عبد الله بن يعقوب المريني.
توفي فيها بطنجة، وكانت مدة سلطته سنة وثلاثة أشهر وأياماً، وجلس بعده علي بن يوسف بن يعقوب المريني، وقد مر خبر قضيته.
والحمد لله وحده.
يتلوه فصل فيما وقع من الحوادث في السنة: الثامنة بعد السبعمائة، إن شاء الله تعالى.(1/498)