طارق وشجعت ايطاليا هجرة الالوف من العائلات الايطالية ضمن شروط لابد من توفرها في الراغبين بالاستيطان في ليبيا المسلمة ومن هذه الشروط: كثرة عدد افراد الاسرة بحيث تكون اكثر من سبعة، وايضاً الصحة، والقراءة والكتابة وان تكون هذه الاسرة من اعضاء الحزب الفشيستي، او ذات الوعي السياسي، وكان معظم القادمين هم من المناطق الفقيرة في شمال ايطاليا وخرجوا من ايطاليا وسط دعاية عالمية.
واستقبلوا في طرابلس وبنغازي استقبال الابطال ونقلوا في سيارات الجيش الى القرى التي كانت جاهزة لهم وكان بالبو يرافقهم من نابولي حتى القرى التي اغتصبوها من الشعب المسلم المسكين وأعطيت كل اسرة منزلاً ومزرعة جاهزة للعمل وكانت الحقول قد زرعت وفي كل اسطبل كان يوجد بقرة وبغل، وادوات وحبوب وعلف وكذلك عربات وخشب للوقود وفي كل بيت كان هناك طعام يكفي لاسبوع (1)، حتى الكبريت والشمع كان موجوداً جاهزاً وسخر الشعب الليبي المسلم لخدمة النصارى واستعبد النصارى الحاقدون المسلمين في حربهم لليبيا واهتموا بطرابلس ولبده وصبراته وشحات لجعلها دعاية للحكومة الايطالية ودعوة انحلالية للخمور والدعارة في حوض البحر المتوسط على مستوى عالمي وكانت اهداف الامبراطورية الفاشيستية حسب تعبير الطبل الاجوف موسليني (تغييراً اقليمياً حربياً تجارياً فحسب بل تغييراً روحياً واخلاقياً ايضاً) وعمل على إنسلاخ المسلمين من اخلاقهم ودينهم ورضوا بأن يحصر دين المسلمين في الشعائر التعبدية. وقد أعلن بالبو مرة إنه (لن يكون في ليبيا حكام ومحكومون، وبدلاً من ذلك سيكون فيها ايطاليون كاثوليك، وايطاليون مسلمون، متحدين من جماعة مشتركة كعناصر بناءة في تنظيم جبار للامبراطورية الفاشيستية) وحرموا الشعب الليبي المسلم من كل حقوقه الطبيعية فلا فرصة في التعلم والتعليم والثقافة والتثقيف ولم يكن الفاشيستيون يرون نهاية لوجودهم في بلادنا العزيزة وكانت الطبقة المثقفة الصغيرة اما في المنفى، او لاصوت لها.
وقد أخمدت كل معارضة بقسوة بالغة وأضعف البناء القبلي التقليدي بتعيين زعيم لكل عدد من القبائل
_________
(1) انظر: تاريخ ليبيا، ص158،159،160،163.(3/225)
والفاشيستيون يأمرون والشعب المستضعف ينفذ بدون سؤال او تعليل وكان التعليل الكافي الذي ربى عليه الشعب (يجب عليك لأنه يجب عليك أن تفعل كذا وكذا) وكانت السياسة التعليمية الايطالية رسمت من اجل تخريج عدد كبير من التلاميذ الليبيين الذين يتكلمون الايطالية ويخلصون الولاء لإيطاليا (1).
وعملوا على القضاء على الاخلاق الاسلامية وبث روح الكثلكة في المدارس بين الاطفال، والقضاء على مصارف اهل البلاد والتعليم الديني واغلقوا الكتاتيب ودور العلم الوطنية وأكثروا من إقامة دور الفحش ومنعوا الليبيين من اداء فريضة الحج وازداد امتهانهم للدين الاسلامي بدرجة شنيعة فكان من اسوء فعالهم، إن القى قائد طبرق الايطالي بالمصحف الشريف الى الارض، ثم اخذ يطأ عليه بقدمه على مشهد من جماعة من المسلمين (إنكم معشر المسلمين لايمكن أن تصيروا بشراً مادام هذا الكتاب بين ايديكم).
وسخروا المسلمين واستعبدوهم في بناء الطرق والقلاع والمزارع والقرى ونشط المبشرون الطليان في دعوتهم، وعمدت الحكومة الى تشجيعهم وارغمت النساء على التنصير والزواج من الطليان.
وزاحموا أهالي البلاد في الصناعة والتجارة وسيطروا عليها سيطرة كاملة ومنعوا الناس من التظلم، وقيدوا حرياتهم، فمنعوهم من محادثة بعضهم بعضاً، ومن قراءة الصحف والمجلات والكتب، ومن مراسلة اقاربهم في الخارج، حتى صاروا في سجن داخل بلادهم محرومين من كل صلة تربطهم بالعالم العربي والاسلامي.
لقد كان من احلام الفاشيست اعادة الامبراطورية الرومانية الغابرة فقرروا لذلك امتلاك البلدان الاسلامية القائمة على شواطئ البحر الابيض المتوسط، ثم ابادة أهل هذه البلاد وافنائهم وتحويلها الى رقعة لاتينية، وانها لوقاحة منقطعة النظير ان يعمل شعب على ابادة شعوب ليحل محلها بالقوة ولكن هذا هو منطق الصليبيين الحاقدين وبلغ استهتارهم، أنهم ألزموا خطباء الجمعة بالدعاء على المنابر لملك ايطاليا، عم نويل
_________
(1) انظر: تاريخ ليبيا، ص164،167،170.(3/226)
الثالث، وعندئذ امتنع المسلمون عن صلاة الجمعة فلما هاج الرأي العام الاسلامي على هذا الفعل، استكتبوا الأئمة تكذيباً بتوقيعاتهم، جاء فيه ان الدعاء كان بمحض ارادتهم، ومن تلقاء أنفسهم، ومن غير تدخل من جانب الحكومة الفاشيستية!!
فهل رأيت وقاحة ابلغ من هذه؟
وفي عهد بادوليو صاروا يمنعون الناس من اداء الحج ويضعون العراقيل في سبيلهم، حتى يجبروا على تركه.
كان اقبح مافعل المارشال بادوليو إنه امر بأن ترصف (الصالة) في قصره بالبلاط المنقوش عليه (محمد) - صلى الله عليه وسلم - وبعد انتهاء مرحلة الحرب المسلحة كما علمنا نفذ الشطر الثاني من برنامج إبادة الليبيين وإفنائهم، ونعني ذلك ما أغتصبه الطليان من الاراضي والمزارع وإعطائها للعائلات الفاشيستية بالقوة، وترك اصحاب الارض الحقيقين وابناء البلاد يتضورون جوعاً ويخدمون هؤلاء الحاقدين كخدماً وعبيداً (1).
واراد الله ان ينتقم للمجاهدين من الطليان بقدرته وجبروته وعزته وحكمته النافذة التي لا يعلمها كثير من عباده وبعد أن اطمأن النصارى الكاثوليك في ليبيا جاءت الحرب العالمية الثانية قدراً من الله وتسليطاً من الله من ظالم على ظالم {وكذلك نولى بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون} (سورة الانعام، آية129).
وبعد أن اطمأنت الامبراطورية الايطالية الى سلطانها، ودانت لها الاقطار الليبية من اقصاها الى أقصاها من بعد استشهاد المختار عام 1931م حتى عام 1942م.
احد عشر عاماً من اليأس المطلق الذي لايبشر بشيء من الامل، أهل الحل والعقد الليبيين بعيدين عن البلاد.
نصف الشعب او يزيد اهلكوا، او اخرجوا من ديارهم ظلماً وعدواناً البقية الباقية مستضعفة في بلادها لا حول ولا قوة بها.
غراسياني ينفخ اوداجه، ويختال على ارض المسلمين يمنة ويسرة حيث شاء (2).
_________
(1) انظر: حياة عمر المختار، ص172.
(2) حياة عمر المختار، ص185.(3/227)
ثم جاء من ورائه بادوليو الماريشال العجوز ليتم قصة ابادة الشعب الليبي ويسلم الاراضي الى رعاع الطليان.
ليل هنا وليل هناك وظلام دامس وظلم مخيم ويأس مرير وذلة اصابت المسلمين وعزة زائفة سيطرت على النصارى الحاقدين وكانت قصة خروج الطليان من بلادنا غريبة جداً ينبغي أن يتدبر فيها ليعلم الناس وليطمئنوا الى عدل الله المنتقم الجبار ولو بعد حين وكانت قصة هزيمة ايطاليا في ليبيا بدأت في الحرب الثانية في سبتمبر وحرصت ايطاليا أول الامر على عدم دخولها حتى اذا رأت فرنسا تنهار على أثر الزحف الالماني الخاطف عليها أعلنت ايطاليا الحرب على انكلترا وفرنسا في 10 يوليو 1940م وبدأ الجبل الاخضر يضيق حول عنق الامبراطورية الجوفاء العرجاء ودخلت ايطاليا الحرب بقيادة زعيمها موسوليني الطبل الاجوف طمعاً في الغنائم، وكانت توقن ان الارض قد دانت لحليفتها ألمانيا فأخلف الله ظنها وافضى الامر الى زوالها نهائياً من الوجود كامبراطورية صاحبة مستعمرات واندحرت ايطاليا باندحار المانيا في شمال افريقيا، ولم تغرب شمس يوم 7 ابريل عام 1943م حتى كانت جيوش المانيا وايطاليا بقيادة رومل المنهزمة قد اخلت القطر الطرابلسي بأجمعه.
وكانت فرحة عظيمة شاملة عمت قلوب الناس وعبر عنها الملك السابق بقوله: (إني احمد الله الذي جعلني أشهد خروج هؤلاء الطليان الظالمين من بلادنا) وتدفق الليبيون الى بلادهم التي ترعوعوا فيها وأُخرجوا منها ظلماً وزوراً وهكذا استدار الزمان وسلط الله الانكليز على الطليان ونزل العار بهم (1).
لقد ارادت إيطاليا إبادة المسلمين في ليبيا فبادوا هم وبقي المسلمون في ليبيا واراد غرسياني إعدام المختار فهلك وبقي المختار علماً وقدوة لأجيال المسلمين.
_________
(1) انظر: حياة عمر المختار بتصرف، ص185 الى 188.(3/228)
الفصل الثالث
الليبيون بين المهجر والاستقلال
المبحث الأول
الليبيون في المهجر
هاجر الليبيون الى تونس والجزائر، وتشاد، وسوريا، والاردن ولبنان، ومصر، والحجاز، وتركيا وتركوا أوطانهم بسبب الظلم والجور الذي وقع من الطليان، وشرعوا في جمع شتاتهم في المهجر استعداداً ليوم قريب تتاح لهم فرصة تخليص بلادهم من الاحتلال الطلياني البغيض وكانت قلوبهم تتقطع شوقاً للرجوع الى ديارهم وتفجرت ملكاتهم الشعرية وتركوا لنا بعض القصائد المعبرة عن الشوق للأوطان.
أولاً: قال الشاعر احمد رفيق في هذه المعاني:
كادت تطير باضلعي أشواقي
يوم الفراق فهل يكون تلاقي
ودعته والله يعلم انني
ودعت راحة قلبي الخفاق
لو كان قبل اليوم يوم قيامة
كان الفراق قيامة العشاق
وطني من الايمان حبك ليس لي
من عليك وأنت ذو استحقاق
ويقول ايضاً:
يا أيها الوطن المقدس عندنا
شوقاً إليك فكيف حالك بعدنا؟
كنا بأرضك لا نريد تحولا
عنها ولا نرضا سواها موطنا
في عيشة لو لم تكن ممزوجة
بالذل كانت ماألذ وأحسنا
عفنا رفاة العيش فيك مع العدا
وأبى شمم النفوس وعزنا(3/229)
الى أن يقول:
جعلوك مسخرة بايدي صبية
لا يبعدون عن الحمير تمدنا
قالوا لنا جئنا نمدن أرضكم
اين التمدن والذي قالوا لنا؟
هدموا من الأخلاق في أوطاننا
أضعاف ما شادوه فيها من بنا (1)
ثانياً: وقال الاستاذ محمد الطيب قصيدة فاضت من الشعور لامن الشعر كما قال رحمه الله:
ماجنة الحسن إلا في طرابلس
عهدي به وسناها مشترق عال
يابرقة الخير يادار الاحبة ما
أقسى الفراق بقلبي يوم ترحال
وصوت ذكرك (يابرقا) يردده
قلبي فيشغلني عن كل أشغالي
نار الفراق لها في مهجتي شرر
لولا الدموع لاوهت جسمي البالي
دار الاحبة لا أبغي بها بدلاً
فلا بمصر ولا بالشام آمالي
ولا العراق ولا صنعا تغيرني
عن حب (برقة) ولا الخضراء تحلالي
ولا دمشق ولا الدنيا باجمعها
انسى بها برقة الفيحاء من بالي
فهي النعيم اذا ماجئت أذكرها
طاب المقام بها في عصري الخالي
حصباؤها ذهب والتبر تربتها
وماؤها من رحيق الشهد سيال
وأهلها عرب قعساء همتهم
شادوا المفاخر جيلاً بعد أجيال
الدهر يعرفهم أسداً غطارفة
في حالة الجد لا في القيل والقال
عرّج بها يارعاك الله في اسف
وأروى الربوع بدمع منك شتال (2)
_________
(1) انظر: برقة العربية، ص531،532.
(2) انظر: برقة العربية، ص532،533.(3/230)
ثالثاً: وأما المجهاد بشير بك السعداوي فقد قال:
قالوا تحن الى بلاد وأهلها
فاجبتهم هي بغيتي ومرادي
تالله لم أشغف بغير طلالها
ولا منيتي مالت لغير بلادي
في حب هاتيك الديار وأهلها
ذابت حشاشة مهجتي وفؤادي
بالله ياريح الصبا ونسيمه
إن زرت يوماً منزلاً لسعادي
أبسط لها شوقي وفرط صبابتي
وأهدي تحياتي لها وودادي
وأخفض جناح الذل عني وقل لها
أسرفت في هجري وفي ابعادي
حر النوى أوها فؤادي وإنني
متهتك متمزق الاكبادي
مذ غردت بالبين اغربة النوى
من بيننا ماذقت طعم رقادي
أمسى سميري في الدجى بدر السما
والبدر جسم لايجيب منادي
فلطالما ناديت في غسق الدجى
حبي فتذهب صيحتي في وادي
لهفي على تلك الديار وأهلها
قوم لهم في المكرمات اياد
لازلت أصبو بحبهم وودادهم
رغما على انف الزمان العادي (1)
وقال أيضاً:
ياحاد الركب حث السير في عجل
نحو المواطن بين السهل والجبل
وقف بذاك الحمى والاربع الدرس
وجول الطرف الاكام والقلل
الى أن يقول:
عهدي بها وأسود الليل رابضة
حول الكنائس لها غاب من الاسل
واليوم قد أصبحت والذل رائدها
وتشتكي دولة الاوغاد والسفل
قوم أحلو بها لا أصل يردعهم
ولا خلاق سوى الفحشاء والزلل
_________
(1) انظر: برقة العربية، ص531.(3/231)
ظنوا بأن وعدوا أنا نصدقهم
وعندنا وعدهم كذباً بلا خجل
لا تيأس ياربوع العز وانتظري
فإن دولتهم من انقص الدول (1)
لقد ضاق المهاجرون ألوان العذاب في المهجر ومع ذلك فقد واصلوا الجهاد وهم في ديار الهجرة حتى ضاقت بهم ايطاليا ضرعاً وبرز من المجاهدين في مصر السيد ادريس السنوسي الذي قال في حقه الجنرال غراسياني: (إذا أردنا أن نقضي مرة واحدة على العصيان يجب ان يغيب ادريس من عالم الوجود فإذا مات هو مات معه التمرد والعصيان، يجب لتحقيق هذا ان نضغط على مصر حتى تسلمه لنا أو نقض المهمة وراء ستار) (2) وأما في بلاد الشام فقد ظهرت جهود بشير السعداوي واضحة العيان، فقد قام مع إخوانه الميامين بصور شتى من صور الجهاد، فقد شمروا عن ساعد الجد والعمل، فتأسست في دمشق في عام 1928م (جمعية الدفاع الطرابلسي والبرقاوي بالشام) وانتخب بشير السعداوي رئيساً لها وكانت هذه الجمعية تضم إليها مجموعة من المجاهدين كسكرتير الجمعية عمر فائق شنيب (بك)، وأمين الصندوق فوزي النقاش ثم عبد الغني الباجقمي، وكامل عياد، وعبد السلام أدهم، والبمباشي طارق، ومحمد ناجي التركي، ومصطفى بن نوح، وأحمد راسم، وابوبكر قدوره، وابو بكر التركي، وخليفة بن شعبان، وعمل هؤلاء الاخوة الابطال جميعاً على إعداد البحوث التي تكشف عن أعمال الطليان وفظائعهم في القطر الليبي، وصاروا ينشرونها في الصحف والجرائد، والمنشورات، واظهر بشير السعداوي نشاطاً واسعاً ونشر بحوثاً مقالات كثيرة، وسار عمر فائق شنيب على نفس المنوال. وفي عام 1929م وضعت الجمعية الميثاق الوطني المشهور للشعب الطرابلسي البرقاوي؛ فنصت المواد على التالي:
المادة الاولى: تأليف حكومة وطنية ذات سيادة قومية لطرابلس وبرقة يراسها زعيم مسلم تختاره الامة.
_________
(1) انظر: برقة العربية، ص531.
(2) انظر: برقة العربية، ص531.(3/232)
المادة الثانية: دعوة جمعية تأسيسية لسن دستور البلاد.
المادة الثالثة: انتخاب الأمة مجلساً نيابياً حائزاً على الصلاحية التي يخوله إياها الدستور.
المادة الرابعة: اعتبار اللغة العربية اللغة الرسمية في دوواين الحكومة والتعليم.
المادة الخامسة: المحافظة على شعائر الدين الاسلامي وتقاليد القطر في جميع ارجائه.
المادة السادسة: العناية بالأوقاف وإدارتها من قبل لجنة اسلامية منتخبة.
المادة السابعة: العفو العام عن جميع المشتغلين بالسياسة داخل القطر وخارجه.
المادة الثامنة: تحسين العلاقات والمصالح بين الأمة الطرابلسية البرقاوية والدولة الايطالية بمعاهدة خاصة يعقدها الطرفان ويصدقها المجلس النيابي (1).
وقامت الجمعية بفتح فرع لها في تونس عام 1930م برئاسة محمد عريقيب الزليطني، وحققت الجمعية بعض النجاحات الكبيرة وكان الأمير ادريس السنوسي قد أولا عنايته الخاصة، وأمدها بالمساعدات القيمة، فيرسل لها الاعانات المالية حيناً وبالمعلومات والاخبار الجديدة عن القطر الليبي حيناً آخر وتمكنت الجمعية من دعم مركزها ومتابعة النشر والقيام بحملة صحفية واسعة تهيب بالأمة الاسلامية والعربية أن تنهض للوقوف بجانب الشعب الليبي بكل الطرق. ونشرت اللجنة التنفيذية للجاليات الطرابلسية البرقاوية نص الميثاق وقدمت له بنداء خاطبت فيه مواطنيها في الاقطار العربية، جاء فيه: (أيها الاخوان الاعزاء.
إن الواجب يقضي عليكم أن تعملوا لخير بلادكم وذلك بتنظيم صفوفكم وجمع كلمتكم وأن توؤلفوا في كل قطر تسكنونه (جمعية) تلم شعشكم وتجمع شملكم وأن توطنوا نفوسكم على التضحية والقيام بالواجب الوطني؛ فالله لايضيع أجر من أحسن عملا؛ وارفعو أصواتكم بالشكوى مما تلاقيه أمتكم البائسة من مظالم الايطاليين واملؤا الصحف بالمقالات
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص373.(3/233)
والفضاء بالاحتجاجات وانشروا النشرات وقفوا للحوادث بالمرصاد وانتهزوا الفرصة وفكروا فيما يعود على وطنكم بالنفع؛ فالفكرة الناضجة تكوّن الأمم وتبعث فيها روح اليقظة والانتباه؛ ثم ربوا نشأكم على حب الوطن، والحرية والاستقلال، أرضعوهم هذه المبادئ مع اللبان وانفثوها في صدروهم منذ عهد الصبا ونعومة الاظفار، علموهم مناقب السلف الصالح وأبطال التاريخ والفتح الاسلامي فإنها تبث في نفوسهم علو الهمة وروح الشهامة والمبادئ الوطنية وليكن شعاركم الاستقلال وتخليص وطنكم من الأغلال، وفكروا في الوسائل التي تقربكم من هذه الغاية الشريفة؛ فإن الدولة الايطالية مهما اشتد بها الصلف والغرور إذا رأتنا أمامها أمة ناهضة منتشرة في الآفاق واقفة لها بالمرصاد تحارب الظلم والاستبداد ولا تدين لسنن الاستعمار والاستعباد لابد أن تذعن لمطالبنا الحقة ولميثاقنا القومي الذي عاهدنا الله على تحقيقه ببذل النفس والنفيس والله مع الصابرين) (1).
لقد استطاعت الجمعية أن توسع دائرة نشاطها، وطلبت من شكيب ارسلان في عام 1929م ان يقف معها لما كان بالحجاز، ولبى الأمير شكيب نداء الليبيين وشرع في نشر مخازي ومظالم الطليان في الصحف والمجلات العالمية والعربية وفي نشرات صغيرة حتى يسهل تداولها وحققت مقالات شكيب هدفها وانتبه العالم الاسلامي لما يفعله الطليان في ليبيا بسبب مقالاته الرائعة التي دبجها بقلمه السيال.
واستمرت الجمعية في نشاطها وتوالت نشراتها تصف فظائع الطليان وتحذر الامة من تصديق دعايتهم الكاذبة المغرضة وتسوق الحجج والبراهين والأدلة على انتهاك ابسط حقوق الانسان في ليبيا، وتفننت في ابتكار وسائل عدة لإيصال هذه النشرات الى داخل ليبيا وبذلت جهوداً عظيمة لتوزيع نشراتها في جميع انحاء العالم العربي، لقد نجحت في حرب الاقلام وشاركت في المؤتمر الاسلامي في القدس وعرضت قضيتها وهذا نص الوثيقة التاريخية التي قدمتها:
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص374.(3/234)
رابعاً: وثيقة تاريخية عن القضية الطرابلسية البرقاوية تقدمت بها الجمعية الطرابلسية البرقاوية للمؤتمر الاسلامي في القدس:
بسم الله الرحمن الرحيم
منذ أن أخذ الاوروبيون يشنون الغارة على البلاد الاسلامية بحجة الاستعمار لم تفجع بلاد اسلامية -بعد الاندلس- بمثل مافجعت بطرابلس -برقة، تلك البلاد التي منذ سطا عليها الايطاليون وسيوف نقمتهم لم تبرح اعناق أهلها بدون رحمة ولا شفقة، حتى آلت الى مجزرة بشرية تمثل فيه أفظع الأدوار الهمجية.
لا نريد أن نطيل البحث في مناقشة الوسائل التي تذرعت بها الدولة الايطالية لاحتلال طرابلس- برقة التي لاتربطها بها أية علاقة، ونكتفي هنا بنظرة عامة في تطور القضية الطرابلسية منذ الاحتلال الايطالي الى يومنا هذا، اذ أن المجال لايسمح بسرد جميع الحوادث مفصلة:
لقد أغارت الدولة الايطالية على القطر الطرابلسي - البرقاوي في 5 تشرين الاول سنة 1911م على حين غفلة من أهلها، وكان مع خلوه من المعدات الحربية لم يكن به من الحماية العثمانية سوى ثلاثة آلاف جندي مبعثرين في عدة مناطق. بيد أن سكان تلك البلاد الذين كلهم كتلة عربية- اسلامية واحدة قد فطروا على عزة النفس والاباء ولذلك قاموا في وجوه الغاصبين قومة رجل واحد يدافعون عن أوطانهم ويذودون عن حياتهم بقلوب ملؤها الايمان بالله والاعتماد عليه.
واستمرت الحرب سنة كاملة لم تتمكن من خلالها الجنود الايطالية من التقدم شبراً عن مرمى مدافع اسطولهم، الى أن اضطرت الدولة العثمانية الى عقد صلح مع الايطاليين منحت فيها الطرابلسيين استقلالهم الاداري وسحبت جنودها وهي مرغمة.
وعقب ذلك أخذ الايطاليون يدعون اهالي البلاد الى السكينة ويظهرون لهم حسن النية لخير تلك البلاد فوضعت الحرب اوزارها وألقى اكثر اهالي طرابلس وبرقة السلاح وعادت السيوف الى أغمادها. ولكن رجال الدولة الايطالية ماكادوا(3/235)
يظفرون بتجريد الاهالي من السلاح حتى قلبوا لهم ظهر المجن واخذوا يسومونهم سوء العذاب وينتقمون من كل من حرض الناس على قتالهم فيخلقون لهم تهماً واهية ويزجون بعضهم في أعماق السجون ويرمون بالبعض الى جزر ايطاليا.
فثارت ثائرة القوم من تلك الافعال المنافية للعهود والمناقضة للوعود فانقضوا على ايطاليا. وكان اول وقعة دموية جرت وقعة تسمى بوقعة (القرضابية) وهو مكان قرب خليج سرت. جرت تلك الوقعة في اوائل سنة 1914م أضاع فيها الايطاليون ماينيف على (8000) جندي. وعقب ذلك ازداد حقد الايطاليين على الأهلين فانهالوا على العرب بالقتل والتعذيب فقتلوا في يوم واحد من الاعيان ورؤساء القبائل رمياً بالرصاص 300 نسمة في فضاء سرت وأخذوا يقتلون الابرياء الشيوخ والاطفال والنساء والرجال.
وعلى أثر ذلك اشتعلت في بلادنا حرب سرى لهيبها في كل ناحية من النواحي وظلت الفتن تتقد الى أن نشبت الحرب العالمية فأرسلت الحكومة العثمانية بعض القواد العسكريين منهم نوري باشا شفيق أنور باشا الشهير. عندئذ اضطرت الجنود الايطالية أن تنسحب من كل المواقع التي أشغلتها أثناء السلم وتتحصن في مدينة طرابلس، زواره، الخمس، بنغازي، درنة، طبرق، الى أن انتهت الحرب الكبرى فخرجت ايطاليا منها وعسكرها منهوك القوى لما لاقى من الهزيمة تلو الهزيمة في ساحات الاوروبية.
ورغم ذلك ساقت عدة فيالق من جيوشها الى طرابلس-برقة وجهزت منهم مائة ألف جندي زحفت بهم على خطوط المجاهدين في منطقة طرابلس. وماكادت تدور رحى الحرب بين الفريقين حتى انهزم ذلك الجيش العرمرم شر هزيمة وغنم المجاهدون منهم اسلحة ومعدات حربية كثيرة.
ولما باءت الدولة الايطالية في تلك التجربة بالفشل وعلمت أنها غير قادرة على اخضاع الشعب بقوة الحديد والنار عمدت الى التضليل والتمويه فسنت قانوناً سمته(3/236)
"القانون الاساسي" وأعلنته في سنة 1919م ومع أنه جاء غير ضامن لحقوق الاهلين قبلو به بغية حقن الدماء وراحة الفريقين وانتظروا من رجال الحكومة الايطالية تنفيذه ثم مالبث أن ظهر انهم اتخذوه غشاوة على أعين الناس واخذوا يبثون بذور الفساد من وراء الحجب ويوزعون على بعض سخفاء العقول المبالغ الطائلة من الاموال والسلاح والذخائر الحربية لايقاد نار الفتن بين الأهلين والتفريق بين الوطن وبين الاخ وأخيه.
وكادوا يصلون الى رغائبهم ويوقعون البعض في تلك الحبائل التي نسجتها اياديهم الأثيمة، لولا أن عقلاء البلاد ادركوا تلك الدسائس وتلافوا الأمر بعقد مؤتمر عام في مدينة غريان ضم نخبة من رجالات البلد في سنة 1920م فتبادلوا الآراء وفكروا فيما ينقذ البلاد من الفتن والفوضى.
وكان الجيش الايطالي وقتئذ كما ذكرنا منحصراً في بعض المدن الساحلية وبعد المداولة في جلسات متوالية قرروا الاجماع مايلي:
(ان الحالة التي آلت إليها البلاد لا يمكن تحسنها إلا بإقامة حكومة قادرة ومؤسسة على مايحتمه الشرع الاسلامي من الأصول تحت زعامة رجل مسلم منتخب من الأمة لا يعزل إلا بحجة شرعية واقرار مجلس النواب، وتكون له السلطة الدينية والمدنية والعسكرية بأكملها بموجب دستور تقره الامة بواسطة نوابها وان يشمل حكمه جميع البلاد بحدودها المعروفة.
وقد تناقش المؤتمر في ذلك لايتنافى منافع دولة ايطاليا التي جاءت الى وطننا من أجلها مع اللزوم القطعي لراحتنا وسلامتنا وبين ثقته في ان الشعب الايطالي لا يرضى في هذا الزمن الذي تنال فيه كل الامم أكبر أمانيها، أن يقيم نفسه من أجل مطامع وأوهام فئة المستعمرين عقبة في سبيل النظام والامن والعدل في طرابلس الغرب ولذلك لاتزال للأمة ثقة في أن تسعف بضرورياتها وان لاتصادم في أمنية لاترضى ولا يستقر لها حال بغيرها.(3/237)
وقد أنبنا للمطالبة بذلك وفداً من حضرات نوري بك السعداوي ومحمد خالد بك القرقني ومحمد فرحات بك ومحمد الصادق بك ابن الحاج ليراجع كل مصدر يرى ضرورة مراجعته لتحقيق الغاية المذكورة في القرار المبين أعلاه داعين المولى جل شأنه أن يوافقهم وان يحقق أماني أمتنا.
حرر في 6 ربيع الاول سنة 1339هـ.
ثم انتخب المؤتمر هيئة حكومية عهد إليها ادارة شؤون البلاد الداخلية التي عمت فيها الفوضى بسبب الفتن التي خلقها رجال الحكومة الايطالية. وذهب الوفد المشار إليه في ذلك الحين الى رومية ليبلغ حكومتها ما أجمع عليه الشعب من المطالب وأخذ يراجع المقامات الرسمية وغير الرسمية فلم يكن حظي من رجال الحكومة الايطالية سوى الاعراض والاستخفاف بمهمته.
أما هيئة الحكومة الوطنية التي عهدت إليها ادارة شؤون البلاد فإنها أخذت في اقرار دعائم الامن وتنظيم الشؤون الادارية كالدوائر المالية والقضائية وتنظيم الجيش لما سيحدث من الطوارئ فساد الامن ورجعت الطمأنينة بعد الخوف الذي استولى على النفوس وانصرف الاهلون الى معائشهم ومصالحهم.
أما منطقة بنغازي فان نوري باشا الذي اوفدته الحكومة العثمانية إليها خلال الحرب العالمية حمل الاهالي على التعرض على القطر المصري وهي خطة رسمتها وزارة الحربية العثمانية فجهز جيشاً مؤلفاً من "5000" فجاهد بالاتفاق مع السيد أحمد الشريف السنوسي وتجاوزا به الحدود المصرية وترك السيد أحمد الشريف وكيلاً عنه في برقة ابن عمه السيد ادريس السنوسي.
ولما دخل المجاهدون الحدود المصرية اصطدموا بالجيوش الانكليزية وبعد حروب بين الفريقين تراجع المجاهدون بصورة غير منظمة وخلال ذلك عمت الفاقة منطقة برقة واشتدت المجاعة.
فرأى السيد ادريس من الحكمة أن يعقد هدنة مع الإيطاليين وأوقف رحى(3/238)
الحرب وبعد انتهاء الحرب الكبرى بايعه الشعب البرقاوي بالامارة ووافقت على ذلك الحكومة الإيطالية بمقتضى معاهدة عقدت بين الفريقين.
بيد أن رجال الحكومة الإيطالية كعادتهم في كل عهد يعقد معهم أخذوا ينقضون العهود، فاضطر الأمير السيد أدريس أن يوحد مساعيه مع حكومة طرابلس الوطنية وعقدت الاتفاقية بين الفريقين المعروفة باتفاقية (سرت) المتضمنة توحيد القطرين الشقيقين والتضامن على المطالبة بحقوقهما معا، وتنص المادة الخامسة من هذا الاتفاق على توحيد الزعامة وتنصيب أمير واحد للقطرين.
وما كادت هذه الاتفاقية تتم حتى هاجم الإيطاليون سواحل مصراته في منطقة طرابلس سنة 1922م فأعلنت الحكومة الوطنية الحرب في كل المناطق واستمرت الحرب بشدة هائلة ثلاثة أسابيع عجز الإيطاليون خلالها عن التقدم ولو كيلومتراً وضحت البلاد بألوف الخلق في سبيل الدفاع، كما أن الإيطاليين خسروا أضعاف ذلك لأنهم كانوا المهاجمين. ولما أيقنوا بالخيبة والفشل طلبوا توقيف القتال بغية التفاهم وانتدبوا للمذاكرة السنيور (بيلا) والسنيور (رابكس) وخرجا في الموعد المضروب الذي قررته الحكومة الوطنية في مكان يسمى (فندق الشريف) وقد كتبت الحكومة الوطنية للوالي الكتاب الآتي: (باندفاع أسلافكم مع تيار الفتنة و التفريق حدثت في البلاد حالة فوضوية وقفت الحكومة الإيطالية أمامها موقف المتفرج فاضطرت الأمة إلى عقد مؤتمر في غريان بلغت مقرراته الصائبة إلى الحكومة وأرسلت وفدها للمطالبة بما أجمع عليه المؤتمر فلم يكن حظه إلا الأعراض والاستخفاف بمهمة ذلك الوفد مع استمرارها على خطة المراوغة و التفريق.
ولما حال الحوار على وفدنا وهو يستعطف المصادر الرسمية وغير الرسمية والحكومة مصرة على تلك السياسة المنفردة. وتحقق أهل القطرين طرابلس - برقة أن حياتهما محفوفة بالخطر في الحال والاستقبال وان ماداهم أحد القطرين لابد أن يحيق بالآخر لما بينهما من العلائق المادية والمعنوية لاسيما ان ادارتهما إلى عهد(3/239)
الاحتلال واحدة عندئذ تبادل عقلاء الفريقين المراسلات والآراء فيما يضمن الراحة ويفسح مجال الاخاء ويسهل سير الأمتين العربية والإيطالية في سبيل الحياة الاقتصادية مع المحافظة على حق إيطاليا السياسي.
فقرر الفريقان بالاجماع في سرت اتفاقية من جملة فصولها المطالبة بتوحيد ادارة القطرين وهو الحل النهائي الذي لايبقى معه ريب لهذه القضية المعضلة التي لاتريدها سياسة المراوغة والتفريق وطول الأمد الا تحكيما في عقد الخلاف فتصبح من الأمراض المزمنة ويعسر حلها فضلاً عما تصاب به الأمتان من الخسارة ومايفوتهما من المنافع كما لايخفى. أما نحن أهل القطرين فان الأدوار المحزنة والتجارب المؤلمة أرشدتنا إلى صورة حل هذه المشكلة حلا لاحظنا فيه المنافع الإيطالية سياسية كانت أو اقتصادية وهو أن تؤسس حكومة نيابية للقطرين يرأسها رجل مسلم تنتخبه الأمة وتكون له السلطات الإدارية جميعها مع السلطة الدينية ولانظن أن الحكومة لاتستحسن هذا الحل المفيد ان تجردت عن ملاحظة الأشكال والاعتبارات ووجهت دقيق نظرها إلى الحقائق والجوهريات. كنا قررنا مهادنة للتفاهم والمفاوضة وعلمنا خلالها أن سفركم إلى روما بقصد التفاهم مع حكومة جلالة الملك والحصول على إذن وصلاحية واسعة تخول لكم المفاوضة معنا للوصول إلى مايرفع الخلاف الذي لاتتحمل البلاد دوامه ورعاية لأحكام اتفاقية سرت المذكورة فانا في انتظار مندوبي برقة الذين قرب وصولهم بالنظر لاشعار سمو الأمير السيد محمد ادريس ومتى وصلوا يتعين الزمان والمكان للمذاكرة التي لاتشك أنها ستبنى على أساس الاخلاص وحسن النية والأمل وطيد في أن دولتكم ستضم إلى تاريخ حياتكم السياسية فخراً آخر في حل المشكلات واقبلوا يادولة الوالي عاطر التحية وفائق الاحترام.
وبعد استمرار المذاكرة ثلاثة أشهر والإيطاليون يراوغون في أحاديثهم مراوغة الثعالب تبين أن الغاية من توقيف القتال وتلك المذاكرة الاستفادة من الوقت لاعداد العدة للحرب وقد تجلت فكرتهم هذه في تكليفهم الأخير وهو طلبهم تسليم السلاح الذي بيد الأهلين قبل كل حل وإلا الحرب، عندئذ لم تر الحكومة الوطنية بداً(3/240)
من رفض هذا الطلب وخوض غمار الحرب، واستؤنف القتال الذي لم يزل شرره يستطير من ذلك التاريخ إلى يومنا هذا.
إن الحكومة الإيطالية بعد أن اتخذت كل مافي وسعها من الوسائل لتفريق كلمة أبناء البلاد ولم تنجح ورأت ذلك الشعب متضامناً مستميتاً في سبيل الشرف والمطالبة بحقوقه عمدت إلى تنفيذ سياسة الشدة والإرهاق خصوصاً بعد استلام الفاشيست زمام الحكم فإنهم أضافوا إلى تلك الشدة فكرة إبادة ذلك الشعب وامحائه لتخلو لهم الديار ويستخلفوا فيها المستعمرين من أبناء جلدتهم الذين ضاقت بهم أرضهم وهكذا أخذ الفاشيست في تنفيذ سياستهم الغاشمة ومابرحوا ينزلون بذلك الشعب العربي ضروب العذاب فلا يرحمون طفلاً صغيراً ولاشيخاً كبيراً.
فإنهم يحكمون البلاد بأحكام عسكرية وأعمدة المشانق منذ الاحتلال حتى يومنا هذا لم تزل منصوبة في كل بلد من ذلك القطر فادارة البلاد تحت حكم عسكري مطلق اليد لايسأل عما يفعل وله في كل لواء وقضاء وناحية حاكم اداري وجميع الدوائر المالية والعدلية والبلدية يديرونها بمعرفتهم وليس للأهلين مشاركة في شؤون بلادهم ولايستخدمون منهم حتى الخدم ولا الحجاب أيضاً الذين يقفون على الأبواب وجميع المعاملة باللغة الإيطالية والأغرب من هذا كله أن جباة الأموال من الفاشيست فيطرحون الضرائب ويجبونها من المكلف وهو لايدري ماعليه ولايعرف بأية نسبة تجبى منه تلك الضريبة بل انه مرغم على ادائها عن يد وهو صاغر واذا سأل سائل عن أساس الضريبة يعد خائناً ويعاقب العقاب الأليم.
وبالجملة فان السياسة المرهقة التي تتمشى عليها الحكومة الفاشيستية لم يسبق لها مثيل منذ ان عرف التاريخ، فسفك الدماء وقتل النفوس البريئة والتجاوز على الأعراض والنفي والحكم بالسجن المؤبد وسلب الأموال وغصب الأملاك والأراضي من أيدي أصحابها وقذف البشر من الطائرات وإلقاء بعضهم مكبلين بالأغلال في لجج البحر وقتل الأسرى وهتك حرمات الدين ودوس القرآن الكريم تحت الأقدام أمام جماهير من المسلمين وهدم أضرحة بعض الصحابة الكرام(3/241)
والأولياء واتخاذها اصطبلات للحيوانات والترنم بالأناشيد في الطعن بالدين الإسلامي فحدث عن ذلك ولاحرج، ولانريد أن نأتي في هذه العجالة على ذكر الفظائع التي كتب فيها تأليف خالص يغنينا عن التفصيل فان فيه من الفظائع ماتتفطر منه الأكباد ويذيب الفؤاد.
ومنه يعلم القارئ أن سياسة الفاشيست في ذلك القطر ترمي إلى إبادة أهله فقد كان عدد الشعب الطرابلسي - البرقاوي قبل الاحتلال الإيطالي يربو على (1.500.000) نسمة وقد صرح الجنرال غريسياني قائد الحركات العسكرية إنه بعد الاحصاء الدقيق تبين أن سكان طرابلس - برقة لم يتجاوز عددهم (700) ألف ولاريب من أنهم قد أفضوا على ذلك الشعب المسلم بين قتل وتهجير والبقية الباقية ايضاً محكومة بالفناء لأن الضغط الشديد وشد الخناق على الاعناق لابد أن يؤدي الى تلك النتيجة وعدا ذلك فان مرافق الحياة في تلك البلاد قد استولى عليها جميعاً فالمسلم لايتمكن من الاشتغال بالزراعة ولا بالتجارة و بأية حرفة تؤمن معاشة فالتاجر لايمكنه التوسع بالتجارة والتحول في البلاد لتوسيع نطاق عمله بل أنهم يحددون له المبالغ التي يمكنه أن يتاجر بها والايام التي يمكنه التي يتغيبها في الاقطار المجاورة وصنف البضاعة واذا تغيب عن الاجل المضروب له او تاجر بأصناف غير مسموح له تسحب من يده إجازة ويعاقب؛ زد على ذلك أنهم أطفأوا نور العلم وتركوا ذلك الشعب يتخبط في دياجيرالجهل فلم تكن في تلك البلاد إلا بضع مدارس ابتدائية اسست في عهد الترك يعلمون فيها الاطفال باللغة الايطالية للوصول الى اماتة اللغة العربية حتى لاتبقى ناحية من مقومات ذلك الشعب إلا ويقضى عليها القضاء المبرم.
ولما رأت الجاليات الطرابلسية البرقاوية التي تقطن مختلف الاقطار الاسلامية ما أحاط ببلادها من الاخطار فكرت في تأليف لجنة للدفاع عما حل ببلادها من الضيم الفظيع والظلم المريع وانتخبت هذه اللجنة ووضعت اساساً لعملها "الميثاق الوطني" وهذه مواده:(3/242)
1 - تأليف حكومة وطنية ذات سيادة قومية لطرابلس - برقة يرأسها زعيم مسلم تختاره الأمة.
2 - دعوة جمعية تأسيسية لسن دستور البلاد.
3 - انتخاب الامة مجلساً حائزاً على الصلاحية التي يخوله اياها الدستور.
4 - اعتبار اللغة العربية اللغة الرسمية في دواوين الحكومة والتعليم.
5 - المحافظة على شعائر الدين الاسلامي وتقاليد القطرين في جميع أرجائه.
6 - العناية بالاوقاف وادارتها من قبل لجنة اسلامية.
7 - العفو العام عن جميع المشتغلين بالسياسة داخل القطر وخارجه.
8 - تحسين العلاقات بين الامة الطرابلسية البرقاوية والدولة الايطالية بمعاهدة يعقدها الطرفان ويصدقها المجلس النيابي.
ومنذ تأسست هذه اللجنة أخذت على عاتقها القضية بشتى الوسائل الداخلية في حيز امكانها فأذاعت على الملأ السياسة الهوجاء التي تتمشى عليها الدولة الايطالية في تلك البلاد بواسطة الصحف والنشرات والرسائل وهي ترسل في كل موسم حج الى مكة المكرمة عشرات الآلاف من النشرات لتحيط المسلمين في جميع الاقطار علماً بما هو حادث في تلك الديار النائية ولم تكتف بذلك بل خاطبت طاغية الفاشيست وبينت له عقم سياسة الحديد والنار التي يتعقبها في طرابلس وبرقة ولكن نصحها له لم يزده إلا غروراً وعتواً كبيراً وقد اقتنعت بعدم الفائدة من مراجعة أولئك الطغاة الذين لا يرضيهم إلا تمزيق اللحوم والولوغ في دم البشر.
لذلك يتحتم على المسلمين الاهتمام باخوانهم في الدين والقومية في تلك البلاد النائية اولئك المساكين الذين تقطعت بهم الاسباب واعوزتهم الوسائل وسدت في وجوههم السبل إلا سبل الموت وفي الموت راحة البائسين ولطالما ملأنا الفضاء بأصواتنا ورفعنا شكوانا الى العالم الاسلامي ليصرخ في وجوه وحوش الفاشيست(3/243)
عساهم يرجعون عن غيهم ويؤوبون الى رشدهم رحمة بالانسانية وشفقة على البشرية ولكن انى للمسلمين الذين تفرقت كلمتهم وانحلت عرى جامعتهم أن يتضامنوا على القيام بمثل هذا الواجب، ولما كان المؤتمر الاسلامي الموقر من ضمن واجبه التفكير في مثل هذه الشؤون الهامة فها أننا نبسط بين يديه قضية من أهم القضايا التي يجب العناية بها فان ذلك الشعب المفجوع في وطنه ودينه اذا لم تشمله عناية المخلصين من اخوانه المسلمين الذين يهمهم أمر الدين سيصبح "لاسمح الله" أثراً بعد عين وفي ذلك مافيه من المسؤولية الكبرى والبلاء العظيم.
فيا أيها السادة الاكرام.
إن الشعب الواقف في وجوه أعدائكم منذ احدى وعشرين سنة هو منكم، والدين المهان في تلك الديار هو دينكم. وأولئك الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل الله همّ شهداؤكم، هنالك في تلك الصحارى المحرقة والفيافي المقفرة اخوان لكم {صدقوا ماعاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا}.
أجل. إن إخوانكم في تلك الديار النائية يستصرخونكم ويناشدونكم الله أن تعملوا على معالجة شؤونهم ونشلهم من براثن الاعداء قبل أن يقضى عليهم فيموتوا وبذلك تفقدون قطراً اسلامياً فتحه جدودكم الكرام ودفعوا فيه راية الاسلام منذ اربعة عشر قرناً.
وقد اصيبت اليوم تلك التربة التي خضبت بدم الشهداء تخيم عليها سحابة سوداء تمطر ظلماً وجوراً على أخوانكم البؤساء، هناك تسمعون الصراخ والعويل والبكاء والنحيب، هنالك الانسانية المعذبة، هناك تحار الأفكار وتزيغ الابصار، ولا منجد، ولا مغيث، ولا معين.
فإن تلك البلاد طائفة من المسلمين لم يزالوا شاكين السلاح يذودون عن أوطانهم ويدافعون عن كيانهم وعدوهم الجائر يتربص بهم الدوائر، فنرجوا أن تفكروا(3/244)
فيما يخفف عنهم المصائب التي تحل قبل أن تمزقهم القوى الغاشمة ولا نخال إنها تعوزكم الوسائل لمد يد المساعدة لاولئك البؤساء وأنتم رجال الاسلام الذين يمثلون (400) مليون مسلم في الكرة الارضية والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه (1).
رئيس اللجنة التنفيذية للجاليات
الطرابلسية البرقاوية
بشيرالسعداوي
26 رجب سنة 1350هـ
6 كانون الاول سنة 1931م
لقد تزعم اللجنة التنفيذية للجاليات الطرابلسية البرقاوية السيد بشير السعداوي ويعتبر من الشخصيات الفريدة في التاريخ الليبي المعاصر، فقد قام بدور فعال في حركة الجهاد التي كانت تتصدى للاستعمار الايطالي في ليبيا، وبعد أن أخضعت إيطاليا منطقة طرابلس بالكامل وتوقفت حركة الجهاد من الاقليم اختار بشير السعداوي العيش في المهجر ولكن نشاطه الجهادي السياسي المعادي للاستعمار الايطالي في الخارج لم يتوقف، وظل يحرض الليبيين على الصمود في وجه الممارسات الايطالية الغاشمة وأخذ يحث الدول والشخصيات العربية والاسلامية على مساندة الشعب الليبي، وتقديم كافة صور الدعم الممكنة له، واستفاد من عمله كمستشار للملك عبد العزيز في التعريف بالقضية الليبية.
استمرت الجمعية الطرابلسية البرقاوية في عملها وفي عام 1940م أعيد تشكيل الجمعية من جديد في دمشق برئاسة الدكتور كامل عيد يضم إليه نخبة من أفاضل المجاهدين، كالسيد عبد الغني الباجقمي أميناً للسر، وابي بكر قدورة وغيرهما، وبقيت الجمعية تعمل من ذلك الحين تحت إرشاد الامير ادريس وتوجيهاته (2).
_________
(1) انظر: حاضر العالم الاسلامي (3/ 385).
(2) انظر: السنوسية دين ودولة، ص375.(3/245)
خامساً: ايطاليا تحتل الحبشة:
كانت ايطاليا تسعى حثيثاً لتحقيق طموحاتها الجنونية الهادفة الى انشاء امبراطوريتها القديمة في افريقيا الشرقية ولذلك أغارت على الحبشة واحتلتها بالقوة، وتمت السيطرة التامة في عام 1936م وكان الليبيون المجندون من قبل ايطاليا وقوداً لتلك المعارك المحرقة حاولت عصبة الامم ان تنزل العقوبات الاقتصادية على ايطاليا ولكن بدون جدوى واصبحت الحبشة جزءاً من امبراطورية ايطاليا واتخذ ملكها لقب امبراطور اثيوبيا وكان من نتائج ذلك الاحتلال أن تغيرت العلاقات بين بريطانيا وإيطاليا لمصلحة المجاهدين في ليبيا.
وقامت بريطانيا بالاتصال بالامير ادريس عن طريق الكولونيل برملو (بك) ورتب لقاءً بين ادريس السنوسي وادميرال الاسطول الانكليزي الرابض بالاسكندرية وتحدث الأدميرال الى الامير السنوسي عن المستقبل الطيب الذي ينتظر بلاده ولكن تلك المقابلة والأحاديث لم تؤتي ثمارها لان بريطانيا لا ترغب في إعلان الحرب على إيطاليا وكان رجال حكومتها شديدي الحرص على السلم في اوروبا باسم سياسة التسكين والتهدئة ولذلك رفعت العقوبات الاقتصادية عن ايطاليا نهائياً في عام 1937م، وترك أمر الليبيين لأهله، وهكذا منطق المصالح ينظر للاحداث.
ومع اقتراب الحرب العالمية الثانية أصبح البريطانيون يسعون لايجاد تحالف قوي مع المعارضة الليبية ومدوا خيوطهم لكافة المعارضين، وخصوصاً أقواهم الأمير ادريس السنوسي.(3/246)
المبحث الثاني
الحرب العالمية الثانية
إن الحرب العالمية الثانية آية من آيات الله في تصريف أمر الدول والشعوب والأمم وفق سننه وقوانينه في المجتمعات البشرية ومن السنن الواضحة في حياة الأمم أنه عندما تتجبر أمة من الأمم وتعلو في الأرض ويصيبها البطر والكبرياء يهيأ الله لها أسباب الانهيار والزوال قال تعالى: {ألم تر كيف فعل ربك بعاد - إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد - وثمود الذين جابوا الصخر بالواد - وفرعون ذي الاوتاد - الذين طغوا في البلاد - فأكثروا فيها الفساد - فصب عليهم ربك سوط عذاب - إن ربك لبامرصاد -} (سورة الفجر، الآيات من 6 - 14).
وقال تعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا} (سورة الاسراء، آية:16).
أي أمرناهم بالامر الشرعي من فعل الطاعات وترك المعاصي؛ فعصوا وفسقوا فحق عليهم العذاب والتدمير جزاء فسقهم وعصيانهم. وفي قراءة {أمرّنا} (1) بالتشديد أي جعلناهم أمراء. والترف وإن كان كثرة المال والسلطان من اسبابه إلا أنه حالة نفسية ترفض الاستقامة على منهج الله وليس كل ثراء ترف (2).
إن هلاك الأمم يكون كذلك بفشو الظلم وعدم إقامة العدل فلقد أمر سبحانه وتعالى بالعدل وحرم الظلم عن نفسه وجعله بين العباد محرماً كما في الحديث القدسي: (ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم حرماً فلا تظالمو) (3).
لقد اختلت الموازين وانعدمت القيم وتحكم الجبابرة الطغاة في المسلمين المستضعفين ووزع المجتمع بين سادة (الايطاليين) و عبيد (الليبيين) وأرادت حكمت
_________
(1) انظر: تفسير ابن كثير (5/ 58).
(2) انظر: منهج كتابة التاريخ الاسلامي للوابل، ص65.
(3) رواه مسلم (4/ 1994) رقم 2577.(3/247)
الله ومشيئته أن يخلص الشعب المظلوم من القوى الباغية فجائت الاسباب التي قادت الامم المتجبرة الى الحرب العالمية الثانية.
بدأت الحرب العالمية الثانية في سبتمبر 1939 م بالهجوم الالماني النازي على بولندة، وحرصت ايطاليا في بداية الامر على عدم الدخول فيها حتى اذا رأت فرنسا تسقط أمام الجيوش الألمانية؛ أعلنت الحرب على انكلترا وفرنسا في 10 يونيه 1940م فمهدت بذلك العمل الى زوال امبراطوريتها الافريقية وانهيار دولتها الفاشيستية في النهاية، وكان دخول ايطاليا الحرب الى جانب المانيا فرصة ثمينة بالنسبة لليبيين في المهاجر وفي أوطانهم ينتظرونها للتحرر والخلاص، واسترداد حقوقهم التي اغتصبها العدو في أعوام طويلة، فما دخلت ايطاليا الحرب حتى شرع الليبيون في العمل، واتصل فريق منهم بالمفوضية الفرنسية بالقاهرة وغادروا مصر فعلاً الى الجزائر حيث اتصلوا بالجنرال (نوجس) واتفقوا معه على أن يجهزوا حملة من الليبيين الموجودين في الجزائر وتونس للعمل ضد إيطاليا في ليبيا إلا أن هذا المشروع لم ينفذ بسبب استسلام فرنسا للزحف الألماني.
وكان الأمير ادريس في مصر يتحين تلك الفرصة بمجرد أن تحقق بأن الحرب العالمية لا محالة واقعة شرع بجمع زعماء الليبيين والتشاور معهم ودراسة احتمالات الموقف، ووضع الخطط المناسبة التي يجب أن يسيروا عليها وعقد الزعماء الليبيين اجتماعاً تاريخياً في منزل الامير ادريس السنوسي بالاسكندرية لبحث المستجدات واتخاد قرار نهائي وكان تاريخ ذلك الاجتماع 6 رمضان 1358هـ/20 اكتوبر 1939م اجتمع فيه حوالي اربعين شيخاً من رؤساء الليبيين وزعمائهم الموجودين بمصر في منزل الامير ادريس في جهة فكتوريا برمل الاسكندرية، وظلوا يبحثون ثلاثة أيام بتمامها، واسفر تبادل الرأي عن اتخاذ قرار بتفويض الامير في ان يقوم بمفاوضة الحكومة المصرية او الحكومة الانكليزية بشأن تكوين جيش سنوسي مهمته الاشتراك في افتتاح الاقطار الليبيية واسترجاع ارض الوطن عند دخول ايطاليا الحرب الى جانب ألمانيا ووقعوا على وثيقة تاريخية مهمة في يوم 9 رمضان 1358هـ/23 اكتوبر 1939م جاء فيها:(3/248)
(بعد حمد الله والصلاة والسلام على رسول الله، قد اجتمع زعماء ومشايخ الجالية الطرابلسية البرقاوية المهاجرين بالديار المصرية في اليوم السادس من شهر رمضان المعظم 1358هـ بالاسكندرية وتشاوروا في حالتهم الاستقبالية وقر قرارهم على انتخاب من يمثلهم في كل الامور ويعرب عن آرائهم وبذلك وضعوا ثقتهم في سمو السيد محمد ادريس السنوسي الذي يمثلهم تمثيلاً حقيقياً لما له من المكانة الرفيعة في نفوسهم حيث يرونه أحسن قدوة يقتدى بها. وقد قبل منهم ذلك على أن تكون هيئة منتخبة شورية مربوطة به ومربوط بها لتكون الاداة المبلغة والمعربة عن منتخبيها وهي التي تمثل جميعهم تمثيلاً صحيحاً وأن يعين وكيلاً لها يقوم مقامه في حالة الغياب ويكون من أفراد الهيئة في حالة حضوره وللهيئة الحق في تثبيت هذا الوكيل او رفضه بأغلبية الأصوات وعليه حرر هذا التوقيع رؤساء القبائل الطرابلسية البرقاوية.
والمولى سبحانه وتعالى يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه) (1).
وكان عدد الذين وقعوا على هذا التفويض من ترهونة مصراته، وبنغازي، وورفلة، وغريان والقصور، والمنفة، والعواقير، والبراعصة، والعبيد، والمغاربة، والحاسة وغير ذلك من القبائل الطرابلسية والبرقاوية واحد وخمسين شيخاً منهم من المجاهدين القدماء، عبد السلام الكزة عن قبيلة العواقير، وصالح الاطيوش رئيس قبيلة المغاربة، عبد الحميد العبار، وعون محمد سوف، وأحمد شتيوي، وعبد الحميد أبو مطاري، ومحمد توفيق الغرياني، وابراهيم احمد الشريف وغيرهم (2).
وبادرت (جمعية الدفاع الطرابلسي البرقاوي) بعقد اجتماع في دمشق في يوم 29 شوال 1358هـ واطلعت على صورة القرار الموقع عليه من زعماء ورؤساء المجاهدين في مصر بتاريخ 9 رمضان 1358هـ/ 23 اكتوبر 1939م ووافقت عليه وقالت في بيان لها: (أن جميع الزعماء ورؤساء القبائل وكبار المجاهدين بدون استثناء اتفقت كلمتهم وتعاهدوا جميعاً على أن يدينوا بالولاء والطاعة والاخلاص لسمو الامير
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص379.
(2) المصدر السابق نفسه، ص379.(3/249)
ادريس المهدي السنوسي وأنهم عقدوا عليه الآمال في حالهم ومستقبلهم ليمثل أمام الحكومات والسلطات والهيئات آماني القطر الطرابلسي البرقاوي تمثيلاً حقيقياً صحيحاً، ويتكلم باسم الجميع على أن تكون هيئة منتخبة منهم وله نائب يقوم مقامه عند مسيس الحاجة، وتليت التوقيعات فتبين أنها هي توقيعات من بأيديهم الحل والعقد في القطر الطرابلسي البرقاوي من الاحرار الذين عاهدوا الله على الدفاع عن الوطن وحقوق الأمة، فكان ماجاء فيه من الغاية السامية ابلغ الأثر في نفوس الجميع لأنه حقق رغباتهم الصادقة في توحيد الكلمة وبرهن على ثبات هذه الامة في المطالبة بحقوقها وولائها بالامارة أولاً وآخراً وهو محط آمال الجميع في الحاضر والمستقبل لإخلاصه للوطن ودفاعه المجيد عنه ولايوجد من يشذ عن آرائه الصائبة ولا من يخالفه في التضحية بالنفس والنفيس في سبيل سعادة الوطن والأمة واعلاء كلمة الله، قرر الجميع تأييد قرار إخوانهم الطرابلسيين البرقاويين في القطر المصري بدون قيد ولا شرط، وكلفت الهيئة تنظيم هذا القرار الاجماعي للأعراب لسمو الأمير السيد محمد ادريس المهدي السنوسي في الثقة التامة به والولاء الكامل له مادام متمسكاً بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - متخذاً التأهبات اللازمة للقيام بعمل جدي حين تدعو الظروف إليه، وهذه تواقيعنا تشهد أمام الله والوطن بعهدنا هذا، ومن ينكث فإنما ينكث على نفسه، والله ولي الجميع) (1).
وشرع ادريس السنوسي في مفاوضة الانكليز، فأسفرت مباحثاته عن السماح له بتشكيل فصائل من القبائل الليبية المهاجرة لاسترداد حريتها واستخلاص بلادها من العدو الايطالي، وإعادة الاستقلال للبلاد، ودعا الأمير ادريس مشايخ القبائل وزعماء المجاهدين الموجودين بمصر أو اولئك الذين كانوا في خارجه وذلك للاجتماع في مكان بالقاهرة في يوم الخميس 8 اغسطس سنة 1940م من اجل دراسة الأحداث والتطورات الأخيرة.
وانعقد الاجتماع قبل الموعد المعين بيوم واحد في احد أحياء القاهرة واستمر
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص380.(3/250)
البحث طيلة يومي 7، 8 أغسطس، وفي يوم 9 أغسطس سنة 1940م وصلت الجمعية الوطنية الليبية الى القرارات التالية:
1 - وضع الثقة في بريطانيا العظمى التي مدت يد المساعدة لتخليص الوطن الطرابلسي البرقاوي من براثن الاستعمار الايطالي الغاشم.
2 - إعلان الامارة السنوسية والثقة التامة بالأمير السيد محمد ادريس السنوسي المهدي المبايع له بالامارة على القطرين.
3 - تعيين هيئة تمثل القطرين طرابلس وبرقة تكون مجلس شورى للأمير المشار إليه.
4 - خوض غمار الحرب ضد إيطاليا بجانب الجيوش البريطانية وتحت علم الامارة السنوسية.
5 - تعيين حكومة سنوسية تدير الشؤون اللازمة في الوقت الحاضر مؤقتاً.
6 - تعيين هيئة للتجنيد يكون مقرها ضمن مقر الحكومة السنوسية.
7 - التوسل لدى الحكومة البريطانية بواسطة الامير المشار إليه بطلب المخصصات اللازمة للتجنيد وإدارة الحكومة وتعيين ميزانية خاصة ونظام مؤقت مستمد من الميثاق الوطني حسب عوائد وتقاليد العرب.
8 - تفويض سمو الامير بمراجعة الدولة البريطانية لعقد الاتفاقيات، والمعاهدات السياسية، والمالية، والحربية التي توفي هذه الغاية وتضمن للوطن حريته واستقلاله (1).
وفي يوم 9 أغسطس حضر الجنرال ويلسن الى مكان الاجتماع فأستقبله سمو الامير وألقى الجنرال كلمة على الحاضرين قال فيها: (إن اشتراككم مع قوات صاحب الجلالة في سحق العدو المشترك هو تحرير لوطنكم واسترداد أملاككم
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص381.(3/251)
وحريتكم واستقلالكم) ثم أضاف أنه على استعداد لتزويد الجيش بكل مايلزمه من أسلحة وعتاد (1).
وقد تحدث الأمير ادريس السنوسي بنفسه عن تلك الأحداث فقال: (عندما أعلنت ايطاليا الحرب على بريطانيا بتاريخ 10 يونيه 1940م اتصل بي في مقر اقامتي بمنطقة الحمام الجنرال ويلسون، آمر القوات البريطانية في مصر تحت قيادة الجنرال ويفل، وطلب مني المساعدة في المجهود الحربي ضد الايطاليين، فدعوت الزعماء الليبيين الى عقد اجتماع بالقاهرة خلال شهر أغسطس، لمناقشة الاجراء الذي ينبغي لنا اتخاذه لتحديد موقفنا من الحرب، ولم يبد البرقاويون أي اعتراض على انتهاز الفرصة لاستئناف الجهاد ضد الطليان، باعتبار أنه لايمكن أن يعود علينا إلا بالكسب، فنحن لن نخسر اكثر مما خسرنا على أي حال.
ولكن موقف الطرابلسيين كان أكثر حرجاً بسبب الخوف من أن تنتهي الحرب بانتصار دول المحور، فيأخذ عليهم الطليان أنهم حاربوا في صفوف الأعداء، وكنت شخصياً على يقين كامل من أن النصر النهائي سوف يكون من نصيب الحلفاء لأيماني بحتمية انتصار الحرية على الطغيان، وعملت جهدي لاقناع الحاضرين بأن يضعوا ثقتهم في قدرة بريطانيا بحيث نوحد كلمتنا في مساندتها في الحرب.
وجاء قرار الأغلبية (باستثناء بعض الطرابلسيين) معبراً عن الثقة في الحكومة البريطانية، والاعتراف بي مفوضاً عن الليبيين في علاقتهم مع بريطانيا، والاتفاق على انشاء جيش ليبي يسمى (القوة العربية الليبية) للقتال الى جانب القوات البريطانية ضد الايطاليين، فأصدرت تعليمات فورية بالبدء في تجنيد جيش من الليبيين المقيمين بمصر، وعين قائد للجيش ضابط بريطاني برتبة كولونيل (اي عقيد) يدعى بروميلو سبق له العمل في خدمة القوات العربية العراقية، بينما أقيم مركز القيادة بفندق سميراميس في القاهرة. بينما أقيم ضابط الاتصال الكولونيل آندرسون
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص382.(3/252)
من خيرة المتخصصين في الدراسات العربية، وقد امضى في مصر فترة من الوقت، فخبرته بالشؤون المحلية ساعدت كثيراً في تسهيل انشاء الجيش.
وكان مكتبي في شارع بركات ومحل سكني شقة بالدور الارضي في مبنى من طابقين بشارع حشمت باشا في حي الزمالك ... والقوة العربية الليبية تكونت في معظمها من البرقاويين اللاجئين بمصر، ومن ضمنهم بعض المجاهدين الذين فروا بعد اشتراكهم في مقاومة الايطاليين، ولم يلبث الجيش أن وصل الى قوة قوامها أربع كتائب قتالية وكتيبة أركان. وكان مستودع السلاح والذخيرة ومعسكر التدريب يقع عند الكيلو تسعة بجوار الأهرام، استغرقني العمل في الاشراف على تجنيد المتطوعين ومعالجة المشاكل العديدة المتعلقة برفع مستوى القدرة القتالية للجيش الذي كان على أحر من الجمر لخوض المعركة وبعد أول هزيمة لحقت بجيش غراسياني قرب سيدي براني في ديسمبر 1940م وقع في الاسر آلاف الليبيين المجندين بالجيش الايطالي ونقلوا الى معسكرات أسرى الحرب في منطقة قتال السويس؛ فأخذت أتردد على تلك المعسكرات لمحاولة اقناعهم بالانضمام الى القوة العربية الليبية وامتنع أغلب الطرابلسيين خوفاً من تعريض عائلاتهم لانتقام الطليان من جهة ولأنهم من جهة اخرى كانوا سعداء بمجرد الخروج من خضم الحرب، وفي الوقت نفسه كانت وحدات الجيش الليبي الناشئ ترسل الى خطوط القتال أولاً بأول حالما ينتهي تدريبها، ومنها كتيبتان شاركتا في معركة الدفاع عن طبرق عام 1941م) (1).
ووجه الامير ادريس نداءً نقلته أمواج الأثير الى شعبه في ليبيا بين لهم فيه تحالفه مع بريطانيا ضد ايطاليا وحثهم على الجهد والعمل للتخلص من الاستعمار الايطالي البغيض (2).
اولاً: الليبيون في الحرب:
قدم الليبيون بقيادة السيد ادريس كل ماعندهم لدعم الحلفاء ضد المحور،
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص64، 65، 66.
(2) انظر: ادريس السنوسي للأشهب، ص76.(3/253)
وكانت كتائب المجاهدين قد قامت بدور بارز في حرب الصحراء، وكذلك الاهالي المدنيون فقد كانوا يقدمون للجيش البريطاني مساعدات جريئة بعد أن أصبحت بلادهم كلها الى ميدان قتال هائل مزروع بالألغام وكانت قبائل برقة تأوي الجنود البريطانيين الفارين من الاسر، وقامت بتوصيلهم الى مواقع وحداتهم التي ضلوا طريق العودة إليها في بعض الاوقات، وكان هذا الموقف عظيم الأهمية والفائدة للوحدات البريطانية العاملة خلف خطوط الأعداء، مثل مفرزة العمليات الصحراوية البعيدة المدى التي كانت تغير على المواقع الامامية للايطاليين في الصحراء الليبية، ومثل قوة بنياكوف لحرب العصابات التي اشتهرت باسم (جيش بوسكي الخصوصي).
وقد اعترف البريطانيون رسمياً بأهمية المساعدات التي قدمها السنوسيون أثناء الحرب، وذلك حين نوه بها وزير الخارجية ايدن في تصريح ادلى به أمام مجلس العموم البريطاني بتاريخ 8 يناير 1942م (1)، وفيما يلي نصه:
(اتصل السيد ادريس السنوسي بالسلطات البريطانية في مصر قبل مضي شهر واحد على سقوط فرنسا، بينما كان موقفنا في افريقيا متأزماً للغاية، وبعدئذ تم انشاء قوة سنوسية من بين انصاره الذين فروا من الاضطهاد الايطالي في فترات مختلفة خلال العشرين سنة الماضية، وهذه القوة ادت عدة مهام جديرة بالاعتبار أثناء المعارك الظافرة التي دارت بالصحراء الغربية شتاء عام 1940 - 1941م، كما أنها تقوم بدور فعال في سياق الحملة الجارية حالياً وأود أن انتهز هذه الفرصة للتعبير عن مشاعر التقدير الحار التي تحملها حكومة صاحب الجلالة للمساهمة التي قدمها ويقدمها السيد ادريس السنوسي وأنصاره دعماً للمجهود الحربي البريطاني، ونحن نرحب باشتراكهم مع قوات صاحب الجلالة في مهمة دحر العدو المشترك، وان حكومة صاحب الجلالة المصممة على ألا يعود السنوسيون في برقة بأي حال من الأحوال للوقوع تحت السيطرة الإيطالية مرة أخرى لدى انتهاء الحرب) (2).
_________
(1) انظر: الملك ادريس عاهل ليبيا، ص66، 67.
(2) انظر: الملك ادريس عاهل ليبيا، ص67.(3/254)
ثانياً: وصف آثار الحرب على برقة:
كانت غرب مصر وبرقة مسرحاً لأطول حملة في الحرب العالمية الثانية وضربت المدن والموانئ والقرى والمطارات والطرق والتركيبات التي أقامها الطليان. وتحطم أمل إيطاليا في استعمار ليبيا وخلال احتلال بريطانيا برقة سنة 1940م-1941م واندحار الطليان أتيحت فرصة الليبيين للجهاد ضد الإيطاليين ومستعمراتهم فلم يقصروا في ذلك وبهجوم رومل الألماني المشهور في ربيع عام 1941م أجبر البريطانيين على التقهقر إلى مصر وبحلول شتاء 1941م-1942م عندما طردت جيوش المحور مرة أخرى من برقة كانت الديار الليبية ترزخ تحت الدمار والخراب.
وقد كتب الصحفي البريطاني مورهيد عن ذلك فقال: المدينة الجميلة (درنة) قد احترقت ونهبت وخربت المزارع الإيطالية وأما بنغازي في شتاء 1941م (فلم تعد مدينة البته) فقد حطمتها المتفجرات الثقيلة وتركتها خالية خربة ومحزنة باردة. وأغلقت المتاجر والأسواق، وتتابع الخراب بعد الخراب واستمر سلاح الطيران البريطاني مدة عام كامل بقصف المدينة ليل نهار حتى أصبحت أثراً بعد عين (1) ومرة أخرى أجبر البريطانيون على التخلي عن برقة. ولم يعودوا لاحتلالها إلا في خريف 1942م للمرة الثالثة والأخيرة. وأقلع الاستعماريون الإيطاليون الذين كانوا قبل سنوات أربع قد حاولوا أن يدفعوها بطابع الاستقرار، ولكنهم فرّوا إلى إيطاليا هاربين. أما بقية المدنيين منهم فقد رجعوا لبلدهم أو هربوا إلى طرابلس براً أو بحراً أو جواً.
تسليم طرابلس:
وفي يناير 1943م كان جيشان من جيوش الحلفاء يلتقيان حول طرابلس جيش مونتجمري الثامن وجيش فرنسي بقيادة ليكلرك الجنرال الفرنسي ويصف حاكم طرابلس الإيطالي الذي سلم المدينة للحلفاء تلك اللحظات الرهيبة بالنسبه له: (كانت تلك المقابلة أول مقابلة مع القوات البريطانية وكنا نتصور أنها ستكون لحظة مهيبة أو
_________
(1) انظر: تاريخ ليبيا، ص172، 173.(3/255)
عنيفة وكنا نتوقع عدوان المعتدي ونعد أنفسنا لما يجري وأصبح الحاكم واحداً من الفاشيست الكثيرين الذين ذهلوا في ذلك الصباح: (لقد ذهبوا كلهم القادة الذين أقسموا اليمين على الدفاع عن المدينة حتى آخر حجر - كلهم هربوا وأقلعت آخر سفينة اسعاف من زوارة، لاتحمل الجرحى، ولكن تحمل الضفائر الذهبية والصدور المحلاة بالحرير والأوسمة. ويضيف حاكم طرابلس الإيطالي في مرارة: (إن المدنيين الذين لايحملون الأوسمة هم الذين بقوا هناك) وفي صباح 23 يناير تسلّم (مونتوجمري) عند باب بن غشير استلام المدينة بصفة رسمية بحضور الحاكم ونائبه ورئيس البلدية واحتلت بقية البلاد وانتزعت من الهيمنة الإيطالية بينما الطبل الأجوف موسوليني يحث شعبه على تحمّل خسارة طرابلس (بشجاعة ورجولة رومانية) وحينها كان وزير الدولة البريطاني لشئون الشرق الأوسط يعلن بأن قادة الفاشيست بليبيا سيعتقلون، وأن المنظمات الاجتماعية والنوادي الإيطالية ستغلق وأن المدارس الفاشستية ستنتهي.
ثالثاً: أثر الليبيين في القتال:
لعب الجيش الليبي دوراً نشيطاً في حملات 1940 - 1943 وساعد المدنيون الليبيون جيوش الحلفاء المقطوعة خلف خطوط المحور. وترك المجندون الجيش الإيطالي كلما واتتهم الفرصة، والتحقوا بالبريطانيين وقد انتقد بعض القادة من الليبيين سياسة إدريس في تأييد بريطانيا قبل أن يحصل على ضمانات أكيدة باستقلال ليبيا. وزاد ضغطهم لدرجة إن بعض القادة اضطر أن يهدد بالانسحاب من التعاون مع بريطانيا وكان كل ماوعد به البريطانيون علانية هو أن أعلن ايدن وزير الخارجية في مجلس العموم في 8 يناير 1942 (بأن حكومة صاحب الجلالة مصممة في نهاية الحرب على أن لايرجع السنوسيون في برقة بأي حال تحت السيطرة الإيطالية).
وإعلان (ايدن) المذكور لم يعد حتى باستقلال برقة، فضلاً عن عدم ذكره لمنطقة طرابلس. والواقع يمكن أن يفهم منه الانذار المسبق بنية السيطرة البريطانية وقوة أخرى. ومع ذلك، وبعد الرفض البريطاني لحق ادريس في المطالبة باستقلال ليبيا في فبراير 1942م(3/256)
قنع ادريس بالوعود الشفوية التي أعطت له (1) ومعلوم أن الضعيف لايستطيع أن يملي شروطه في عالم السياسة والهيمنة على الشعوب ولكن الضعيف ان دخل في هذه اللعبة عليه أن يسمع ويطيع وينفذ ويرضى بالفتات على الموائد.
لقد اعترفت بريطانيا بالدور الخطير الذي قام به الليبيون في الحرب العالمية الثانية ضد المحور، وتحدثت الصحافة في تلك الفترة عن دور الليبيين في تلك الحرب، فبعنوان (صفحة جديدة في تاريخ ليبيا للمستر هـ. م فوت H.M.Foot، مساعد المعتمد البريطاني في عمان، ونائب الحاكم العسكري البريطاني في برقة سابقاً (مجلة المنتداء الفلسطينية العدد السابع (أكتوبر سنة 1943م) قال:
قليل من الناس يذكر حملة الصحراء الغربية المصرية في الحرب الماضية أيام كنا نحارب عدواً غير جيش ألمانيا الافريقي وغير الجيوش الإيطالية. نعني بهذا العدو جماعة صغيرة من الأعراب كانت تركب الإبل وليس لديها من السلاح إلا النذر اليسير، ولكنها مع ذلك شغلت جزءاً هاماً من القوى البريطانية طول الحرب الماضية تقريباً، ولم يكن بين هؤلاء الليبيين وبين بريطانيا العظمى خلاف، ولكنهم عقدوا النية على طرد الإيطاليين من بلادهم فتصدوا لمنازلة قوى الحلفاء الجبارة.
إن المقاومة التي أبداها هؤلاء العرب القلائل ضد الفرق الإيطالية تلك المقاومة الطويلة الباسلة، لهي قصة رائعة من قصص البطولة، فقد أمضوا في كفاحهم ثلاثين عاماً بين تلال برقة وصحاريها، وفي أثناء ذلك علق زعماؤهم على أعواد المشانق وصودرت أملاكهم وقتلت مواشيهم.
أما الأهالي أنفسهم فانهم سيقوا مع أطفالهم إلى معتقلات كبيرة في صحراء العقيلة ومع كل ذلك لم يدب اليأس في قلوبهم، وإنه ليتسنى للذين خالطوا هؤلاء العرب منا واستمعوا في مضاربهم إلى حديث الثورة التي أشعلوا نيرانها ضد الطليان أن يتفهموا قوة كفاحهم وماينطوي عليه من مجد وفخار، فكثير من رجالهم
_________
(1) انظر: تاريخ ليبيا، جون رايت، ص175، 176.(3/257)
مازالوا يحملون آثار جراح بليغة، ويندر أن تجد عائلة منهم لم تصب في فرد من أفرادها على يد الإيطاليين.
إن تلك الشجاعة التي اشتهر بها الليبيون عن جدارة واستحقاق وقد تبدت مرة أخرى في الحملات الأخيرة، فنحن لانزال نجهل قسطاً كبيراً من المساعدة التي قدموها لنا خلف خطوط الأعداء، كما أن مساعدتهم الفردية لكثير من الضباط البريطانيين شواهد ناطقة على الكرم العربي وحب العرب للمجازفة.
يقول هؤلاء الضباط إن كل خيمة عربية كانت بمثابة ملجأ وأن كل عربي كان بمثابة دليل. ومن طريف مايروى أن أحد المدفعيين البريطانيين أصيب بجرح فأواه عربي إلى أحد الكهوف وسهر على راحته ستة أشهر. فلما تماثل للشفاء حمله فوق جمله مسافة 400 ميل وأوصله إلى العلمين. قام العربي بكل ذلك وسلم الجندي الجريح إلى إحدى الوحدات دون أن يعلن عن اسمه أو يطلب مكافأة، وليس هذا الحادث الوحيد من نوعه، فإنه ماكان ليتسنى لمئات من جنودنا أن يعودوا الى وحداتهم دون مساعدة العرب، تلك المساعدة التي كانوا يقومون بها عن طيب خاطر والتي كانت تعرض حياتهم لخطر الموت، ولم يتطرق الوهم الى قلوب العرب حين كنا نتراجع تراجعاً كلياً وحين ظن الناس أن الدائرة قد دارت علينا، بل كانوا أبداً على استعداد لتقديم المساعدة.
وقد جرى اثناء احتفال عظيم في درنة أقامه الطليان على أثر استيلاء المحور على طبرق أن كان بين النظارة ضابط بريطاني متخف، فلم يفكر واحد من الاهلين أن يكشف أمره ويفضحه.
ومن الطبيعي أن تتضاءل قوة العرب بعد كفاح دام ثلاثين سنة، فقد انتهت ثورتهم بسقوط كفرة عام 1929م، وكانت النتيجة أن انتشر الليبيون المنفيون في أنحاء الشرق الادنى، أما الذين بقوا منهم في برقة فقد أرغموا على قبول حكم الموظفين الطليان والقانون الايطالي أيضاً. وشر من هذا أن اللغة الايطالية حلت محل اللغة العربية في المدارس وأخذ الجيل الناشئ ينسى العربية.(3/258)
ولقد كنت أخشى أن نجد فيهم شعباً متخاذلاً جباناً، ولكن الأمر كان لحسن الحظ عكس ذلك، فالشيوخ والزعماء مستقيمون في معاملاتهم، عادلون في أحكامهم، يتصفون بالشجاعة والصراحة. نعم إن وقت التخلص من الاضطهاد قد جاء وكان مجيئه في الوقت المناسب -قبيل فوات الأوان- فلو تأخر الخلاص نصف جيل لتمت عملية تحويل الشباب العربي الى خدم أذلاء لايطاليا.
ولو سئلت عن أهم ما يستلفت النظر في برقة لقلت انه النشاط العجيب والعزيمة الماضية يتحلى بها قوم يجمعهم دين واحد، وتجمعهم شجاعة يمتاز بها كل واحد منهم ومقاومة مستمرة للاضطهاد، فقد مضى عليهم ثلاثون عاماً وهم يقاسون الأهوال، وترك ذلك في نفوسهم أثراً سيئاً فهم لايتحلون باللطف الزائد والدماثة التي يتحلى بها العرب في سائر الاقطار، وتنقصهم خبرة الآخرين ومعارفهم، أما التقاليد العربية القديمة وأعني بها الكرم والشجاعة فلا ينازعهم فيها منازع (1).
وأما الاستاذ (ف. بنيكوف) فقد القى محاضرة أذيعت في محطة لندن اللاسلكية في 31 مايو 1947م بعنوان عرب ليبيا الكرام جاء فيها: اشتركت في القتال أثناء الحرب الماضية بين بلدان مختلفة مدة خمس سنوات متوالية ومازلت أستعيد ذكراها جميعاً بالغبطة والسرور لا لشيء سوى لأني رجل حرب وقتال ونزال ولكن المدة التي أحمل لها أطيب الذكريات هي تلك التي قضيتها في برقة بين الاحتلال البريطاني الثاني للجبل الاخضر وتحرير البلاد نهائياً بعد معركة العلمين ومن أسباب ذلك أنني وإن كنت إنكليزياً وربيت في انكلترا على الطريقة الانكليزية إلا أني أجد الحياة مع العرب في الجبل الاخضر أخف ظلاً واسعدها حالاً من الحياة في إحدى المدن الغربية الكبيرة، وهناك سبب آخر هو أني وثقت عرى الصداقة مع بعض رجال القبائل العربية هناك، وهم رجال يمتازون بذكاء ووقار وشجاعة عظيمة وخلال سامية وأخلاق فاضلة ولا تقل منزلتهم في نفسي عن منزلة أي شخص آخر من بنى وطني وجلدتي.
_________
(1) انظر: ميلاد دولة ليبيا الحديثة، د. محمد فؤاد شكري، ص107، 108.(3/259)
ولعلي أحمل للجبل الأخضر هذه الذكريات الطيبة لسبب ثالث وهو أن العرب هناك علموني طرقاً جديدة في فنون الحرب والقتال علمتها بدوري فيما بعد لزملائي الجنود ومارسناها على نطاق واسع في إيطاليا وغيرها بنجاح وتوفيق.
زرت الجبل الأخضر لأول مرة عندما احتللنا مدينة درنة في سنة 1941م، وهناك وثقت عرا الصداقة والمودة مع كثيرين من العرب، أخص بالذكر منهم الشيخ عبد القادر بوبريدان والشيخ علي بو حامد وكلاهما من قبيلة العبيدات وبعد بضعة شهور منيت الجيوش البريطانية بنكسات متوالية، واحتل العدو برقة مرة اخرى حتى بلدة غزالة غربي طبرق، وكانت هيئة القيادة البريطانية العليا في القاهرة في حاجة ماسة الى معلومات عن حركات العدو، فأرسلت بناء على طلبي لجمع تلك المعلومات بمساعدة العرب في منطقة تمتد من بني غازي الى غزالة، ومن المهام الاخرى التي كلفت بها أن أنسف مستودعات العدو وطائراته.
أنزلتني إحدى الدوريات مع جماعتي في إحدى الامسيات بالقرب من (بلدة الزلخ) ومن هناك امتطيت صهوة الخيول والجمال الى المكان الذي نقصده، وكان بين أفراد جماعتي عربيان: أحدهما الملازم سعد علي رحومه وهو من الجيش السنوسي التابع للشيخ السيد ادريس السنوسي والآخر جندي عادي، وزرت في المرحلة الاولى معظم قبائل العبيدات الغربية وبعض قبائل البراعصة والدرسة، وقوبلنا في كل مكان بالترحيب الودي وكرم الضيافة رغم أن البلاد بأسرها كانت في قبضة العدو رغم مايتعرض له العرب من أخطار محققة، إذا علم أنهم كانوا يأوون ضابطاً بريطانياً، وآمل أن يكون كل من السيد عبد القادر بوبريدان والسيد علي بوحامد مازالا على قيد الحياة الى ألان، وأن يذكرا مجلساً عقدناه في ذلك الوقت مع مشايخ قبيلة العبيدات الآخرين في مكان لايبعد كثيراً على درجة عظيمة من الخطورة والأهمية، بل ويمكنني أن أقول الآن أن الحرب في الصحراء ربما اتخذت شكلاً آخر بدون تلك المعلومات، ويرجع معظم الفضل في ذلك الى اخلاص العرب الذين يرقبوا بعين لا يغمض لها جفن طريق مرتوبة، وأولئك الذين أخذوا يتنقلون من بني(3/260)
غازي الى المرج الى القبة الى درنة الى المخيلي العزيات للحصول على المعلومات عن حركات العدو وخططه الحربية.
وكان جمع المعلومات جزءاً يسيراً من واجباتنا، فمن عملياتنا الهجومية الموفقة العديدة غزوة قمنا بها في شهر يوليو سنة 1942م بمساعدة العرب الذين وضعوا خطتها بدقة ومهارة لنسف مستودع كبير للبترول خارج بلدة العقبة مباشرة، وكانت تدور في ذلك الوقت معركة هامة في عين غزالة، وكان لخسارة العدو تلك الكمية الهائلة من البترول في هذا الوقت الحرج أكبر الأثر في عرقلة عملياته الحربية.
وأصبنا بعد ذلك بنكبات متوالية وفقدنا (طبرق) ولو لم تكن للعرب قلوب قدت من الصلب جرأة وشجاعة لاعتقدوا أننا فقدنا كل شيء ولحاولوا الفرار بأنفسهم، ولكن أصدقاءنا العرب وقفوا الى جانبنا قلباً وقالباً، ولم يخن من سكان الجبل الاخضر باسره سوى شخص واحد يجدر بي أن لا أذكر اسمه لينطوي في زوايا العار والنسيان. وقد ذهب الى الجنرال بياتي القائد الايطالي وأطلعه على أمرنا وأمر محطتنا اللاسلكية، ولكن خيانته لم تجده فتيلاً لأن القبائل ناصرتنا، وطافت بدوريات الجنرال الايطالي في كل مكان إلا المكان الذي كنا فيه فجعلت منهم أضحوكة الصحراء بأسرها.
ولقد غررنا بالعدو مرات عديدة لا يتسع بي المقام لذكرها الآن، ولكن اريد ان اتحدث عن مغامرة لنا قدر لها النجاح والتوفيق بمساعدة اخواننا العرب، وقد ذهبت في احدى ليالي الصيف الى درنة عقب سقوط طبرق وهناك رسمنا انا والشيخ علي البرعصي خطة لتهريب عدد كبير من الاسرى البريطانيين الموجودين في قبضة الطليان وكان بعضهم في المستشفى وبعضهم الاخر في المعسكر خارج المدينة التي كانت تعج بالجنود والالمان والطليان وأنها كانت تضم بعض العناصر المعادية لبريطانيا في ذلك الوقت وكنت اثناء تلك الغارة ارتدي ملابس عسكرية كضابط محارب، فلم يكن عقابي اذا وقعت في يد العدو يتجاوز الاعتقال حتى نهاية الحرب، ولكن اذا قدر سؤ الطالع لأحد زملائي العرب ان يقع في قبضة العدو لكان جزاؤه الموت على حبل المشنقة.(3/261)
إن انسى لن انسى مأدبة العشاء التي اقامها لي السيد علي قبل رحيلي حيث كنا على احسن ما يكون من البهجة والسرور فيمكنني اذا ان اخفي ما أشعر به من سعادة لذكريات الجبل الاخضر وأنا أعلم ان الاخطار والمشاق والاهوال لم توهن من عزائم رجاله قيد شعرة، بل أطلقت ألسنتهم بالفرح والفكاهات.
ولم اكن الشخص الوحيد الذي نعم في ظل العناية العربية الكريمة بالراحة والامن والطمأنينة فإن مئات من الطيارين والاسرى الفارين وغيرهم ممن ضلوا عن وحداتهم كانوا موضع عناية العرب وحسن ضيافتهم الى ان اعادوهم سالمين الى صفوفهم، وتتجلى قيمة هذه المعونة اذا عرضنا ان العرب انفسهم في ذلك الوقت كانوا يعانون نقصاً فادحاً في جميع ضروريات الحياة، فلم يكن لديهم ما يكفي من الملابس، وكان الشاي والسكر أثمن من الذهب، ومع ذلك كانوا لا يتاونون عن التضحية بالقليل الذي لديهم عن رضى وطيب خاطر.
ولعلي اكون مبالغاً اذا قلت ان جميع جنود الجيش البريطاني الذي قاتلت في الجبل الاخضر يدينون بالشكر للعرب، فكثير منا مدينون لهم بحياتهم، وسوف لاننسى كيف مهد ولاء العرب و إخلاصهم وتضحياتهم طريق النصر الاخير الحاسم.
لقد مر عرب برقة على وجه خاص بوقت عصيب حقاً، فقد خاضوا غمار حروب مستمرة متواصلة مدة ثلاثين عاماً فقدوا فيها نصف عددهم ولكن روحهم المعنوية ما زالت قوية جبارة، وما زالوا يعيشون كما عاش آبائهم وأجدادهم من قبل رجال محاربين احراراً.
لقد اتيحت لي فرصة المعيشة مع هؤلاء القوم القليلين في العدد الاقوياء بالروح، واستطيع أن أقول إني لا أثق في شعب آخر مثل ثقتي بهم وأرجو أن تتاح لي فرصة زيارة أصدقائي في الجبل الأخضر، مرة أخرى، وآمل أن أراهم جميعاً في أحسن صحة وأسعد حال، وقد اتسعت مضارب خيامهم، وزادت أنعامهم، وأصلحت آبارهم ونشر السلام جناحيه على ربوعهم اليانعة الخضراء (1).
_________
(1) انظر: ميلاد دولة ليبيا الحديثة، ص110، 111، 112.(3/262)
هذه بعض الوثائق التاريخية المهمة من بعض ضباط الجيش البريطاني من الذين شاركوا في الحرب العالمية الثانية ضد دول المحور تدلنا على الدور العظيم الذي قام به المجاهدون لتحرير بلادهم من إيطاليا.
رابعاً: اعلان مونتجمري بعد الاحتلال الثالث وحكم الإدارة البريطاني:
وفي أعقاب الاحتلال البريطاني الثالث لمنطقة برقة أعلن الجنرال (مونتوجمري) في 11 نوفمبر 1942م، في رسالة إلى الشعب، بأن المنطقة ستدار من قبل حكومة عسكرية بريطانية حتى نهاية الحرب العالمية، وليس حتى نهاية الحرب في شمال افريقيا. وأضاف قائلاً: (لن تتدخل الحكومة العسكرية في المسائل المتعلقة بالشئون السياسية الخاصة بالمستقبل ولكنها ستحكم بحزم وعدل وبالنظر إلى مصالح الشعب في البلد).
وفي يناير 1943م كانت ليبيا كلها قد احتلت، وأصبحت تحت الحكم العسكري لقوتين: البريطانية في منطقتي برقة وطرابلس، والفرنسية في فزان حسب اتفاق عقد بين الجنرال (الكسندر) الانكليزي والجنرال (ليكلرك) الفرنسي (1).
الطريق نحو الاستقلال:
كان طريق ليبيا نحو الاستقلال فريد من نوعه بالمقارنة مع جميع البلدان الأخرى التي استقلت بعد الحرب العالمية الثانية. ففي سنة 1943م أصبحت القوات الإيطالية، وكذلك سلطتها لا وجود لها في البلد وحلت محلها القوات والسلطات البريطانية والفرنسية. وفي نهاية الحرب اشتركت كل من الولايات المتحدة وروسيا مع بريطانيا وفرنسا كقوى تريد (مصالح) لها في ليبيا، وتريد أن يكون لها دور في تقرير مصير بريطانيا وفرنسا كقوى تريد (مصالح) لها في ليبيا، وتريد أن يكون لها دور في تقرير مصير مستقبلها وكنتيجة لذلك، وجهت حركة الاستقلال، لاكما حدث في المستعمرات الأخرى ضد القوى الاستعمارية الحاكمة، بل ضد المقترحات التي ظهرت في الحوار العالمي حول مستقبل ليبيا والنقطة التي اتفق عليها في هذا الحوار وهي
_________
(1) انظر: تاريخ ليبيا، ص176، 177، 178.(3/263)
اعتبار الليبيين غير أكفاء لحكم انفسهم وكان الرأي الغالب ان تقسم ليبيا وتوضع تحت وصاية قوتين أو ثلاثة لمدة اربع سنوات بعد الحرب.
وفي سنة 1945م، ظهر رأي قوى ضد استقلال ليبيا وبموافقة الاتحاد السوفياتي أيضاً، وكان الضمان الوحيد الذي أعطي الليبيين حول مستقبلهم هو بيان (ايدن) ولكن لم يطبق إلاّ في منع رجوع الإيطاليين إلى برقة وكان شعبنا المنكوب في تلك الفترة خالياً من قيادة إسلامية رشيدة أو شخصيات إسلامية فعالة إذ جل القادة والدعاة استشهدوا وقتلوا وماتوا في الفترة العصيبة التي سبقت هذه الأحداث فلم تبق إلا بعض الشخصيات السياسية الوطنية الخيرة والجمعية المحلية وبعض القيادات الدينية الضعيفة وزعماء الحركة السنوسية الذين أصبحوا يعانون من ضغط الانجليز وكان تعداد شعبنا قد بلغ أكثر من مليون بقليل، وكانت تجربته السياسية بسيطة وكان مستوى التعليم بينهم منخفضاً. وكانوا فقراء للغاية. إذ كان يقدر متوسط الدخل الفردي 15 جنيهاً في العام.
وقد تلا الحرب انهيار اقتصادي وتضخم خطير وانتشرت البطالة وحطمت الحرب المدن والقرى والمنشآت والطرق وخاصة في منطقة برقة وزرعت الأراضي بالألغام لذا كانت ليبيا سنة 1945م - وهي تحت احتلال جيوش ثلاثة - ضحية حرب وفي حاجة إلى مساعدات اقتصادية وطبية واجتماعية وفنية وغيرها.
وحكمت الإدارة الحربية البريطانية في منطقتي طرابلس وبرقة والإدارة الفرنسية في فزان، حسب شروط اتفاقية (لاهاي) لسنة 1907م الخاصة بالتصرف الحربي والعسكري. واعتبرت ليبيا مقاطعة عدو محتلة. وكانت حكومتها، حسب القانون الدولي، تقوم على أساس (العناية والصيانة. وبقيت القوانين السارية المفعول زمن الاحتلال الإيطالي هي نفسها السارية المفعول بعد ذلك، مع تجريدها من العناصر الفاشيستية ومن سوء حظ بلادنا العزيزة أن تبقى هذه الإدارات الأجنبية العسكرية طيلة تلك السنين العديدة. وأصبحت السلطات البريطانية العسكرية التشريفية والإدارية(3/264)
والسياسية - كلها تصدر عن القائد العام لقوات الشرق الأوسط وعين سنة 1944م العميد (بلاكلي) حاكماً لطرابلس، والعميد (ويوكان كمنج) في برقة (1).
وسيطرت بريطانيا على نواحي البلاد الإدارية واستعانت بعناصر ليبية وطورتها وأعدتها اعداداً يخدم مصالحها وبالنسبة لفزان فعزلت عن طرابلس وبرقة وأصبحت تابعة لفرنسا التي جعلت من فزان قلعة لها في الدفاع عن مصالحها في افريقيا أما بريطانيا فكانت تنظر إلى منطقتي طرابلس وفزان على انهما ذواتي أهمية استراتيجية. وأصبحت طبرق أشبه بوصلة في سلسلة القواعد البريطانية من جبل طارق إلى سنغافورة، بينما صارت قاعدة العدم الجوية مركزاً مرحلياً على طريق جنوبي افريقيا والمحيط الهندي والشرق الأقصى وكانت بريطانيا تفكر في أن تصبح منطقة برقة قاعدة بديلة في الشرق الأوسط إذا ماجلت عن قناة السويس، عند انتهاء الاتفاقية الانجلو-المصرية.
وقبل نهاية الحرب العالمية الثانية دخلت إلى ليبيا قوة غربية ثالثة بإقامة قاعدة (للوجود الامريكي) وهي قاعدة امعيتيقة حالياً والملاحة سابقاً شرقي مدينة طرابلس وقد ذكرت صحيفة (نيويورك تايمز) انفقت الولايات المتحدة الأمريكية حتى فبراير 1945م مبلغ مائة مليون دولار على تطوير قاعدة هويلس (سابقاً). وأصبحت القاعدة الأميركية الأولى في افريقيا التي لعبت في الخمسينات دوراً هاماً في استراتيجية الحرب الباردة، كواحدة من سلسلة القواعد الاميركية من غربي أوروبا وشمال افريقيا وجنوب شرقي آسيا التي تحيط بالكتلة الشيوعية (2).
وهذه الفوضى التي حدثت لبلادنا من أسبابها سقوط الخلافة الإسلامية العثمانية التي حافظت على سلامة ديار المسلمين من نفوذ النصارى والملاحدة لقرون عديدة، وإن الأمة الإسلامية بدون خلافة رشيدة على منهج النبوة لاتملك لنفسها ضراً ولا نفعاً وتكون العوبة في أيدي الدول الإستعمارية الكبرى بأنماط وأشكال استعمارية
_________
(1) انظر: تاريخ ليبيا، ص178، 179.
(2) انظر: تاريخ ليبيا، جون رايت، ص180، 181.(3/265)
متجددة وتصبح لشعوبنا الإسلامية تبعية عميا لغيرها في أمورها العسكرية والسياسية والاقتصادية والتعليمية وما وصل إليه شعبنا من انحدار شديد في مجالاته المتعددة إلا لبعده عن عقيدته وإسلامه ودينه.
خامساً: اعتراض الليبيين لموقف الدول الكبرى من قضيتهم العادلة:
عارض المجاهدون الليبيون موقف الدول الكبرى من قضيتهم، ووجهوا نقدهم وسهامهم إلى الدول الكبرى وخصوصاً الحكومة البريطانية التي لم تلتزم بعهودها مع الليبيين، وبرّر بعض الزعماء أسباب نخالفهم مع بريطانيا بأسلوب علمي أدبي رفيع وهذه وثيقة تاريخية تثبت ماذهبت إليه وهي عبارة عن موضوع كتبه المجاهد عمر فائق شنيب في عام 1945م بعنوان (ليبيا مهد البطولة) قال بعد أن افتتح موضوعه بالبسملة:
إذا استشفيت من داء بداء ... فاقتل ما أعلك ماشفاكا
كثر الأخذ والرد في قضية ليبيا الباسلة ذات الشعب المحارب في صفوف الحلفاء من سنة 1940، ليبيا التي لم ترضخ للاستعمار الإيطالي فحاربت 21 سنة بلا إنقطاع، ليبيا التي اشترك جيشها وشعبها في طرد العدو منها، ليبيا المضحية بمليون نسمة من خيرة أبنائها في سبيل عروبتها واستقلالها وحريتها، ليبيا التي رفعت رأس العروبة عالياً من سنة 1911 إلى 1945 وكثر عدد الطامعين فيها والمتزلفين اليها - بعد أن كان بعضهم علة شقاء عليها - وتعددت الدوافع فتباينت المنافع، وتضاربت الآراء فكثرت التكهنات وجلها - إن لم أقل كلها - لايخلو من غايات ومناورات ومساومات بعيدة عن محجة الصواب كل ذلك على حساب ليبيا الدامية.
وكل يدعي وصلا بليلى ... وليلى لاتقر لهم بذاكا
حتى أبهم الأمر لا على المنصفين الذين يهتمون بلب الحقائق ليأخذوا منها درساً وعبرة أو يجابهوا الموقف على ضوءها. بل على الليبيين أنفسهم الذين أصبحوا في حيرة من أمرهم، وبمعزل عما يراد بهم، وهم الذين اشتهروا بالأفعال في ميادين النضال، لابزخرفة الأقوال ولله در من قال:
إذا اشتبهت دموع في خدود ... تبين من بكى ممن تباكى(3/266)
لذلك رأيت لزاماً علي أن أصرح بالحقيقة الناصعة ولو كانت مؤلمة جارحة من على منبر الصحافة العربية الحرة - التي أخذت في هذه الأيام تشد أزر ليبيا والليبيين - لأضع أمام الرأي العام العربي ولو صورة (مصغرة) عن حقيقة ماقدمه الشعب الليبي من تضحيات قاسية في سبيل حريته واستقلاله ومناصرته للحلفاء في هذا الصراع العالمي الذي قيل عنه إنه دفاع عن المبادئ الانسانية الحرة للتخلص من الوحشية الغادرة. والاستعمار البغيض ليكون على بصيرة من قضية ليبيا العتيدة التي استهتر بها القريب وطمع فيها البعيد والتي لاتنفصل عن قضية العروبة المقدسة بأي حال من الأحوال.
1 - أقول لإخواني الليبيين عامة - على اختلاف نزعاتهم وأهدافهم في الطرق الموصلة لوحدتهم واستقلالهم:- احذروا ولاتنخدعوا، ووحدوا صفوفكم تحت راية أميركم، وأن ماترونه الآن في جو السياسة هو الدعاية، وأن ماتتصورونه منها هو الظن، وأن الظن لايغني عن الحق شيئا، فاعتمدوا على أنفسكم وأعدوا العدة لمستقبلكم واشكروا كل من يناصركم لمبدأ العروبة الصادق الذي يحمي الجار ولايرضى العار.
2 - وتيقنوا أن كان هناك ثمة عتاب أو لوم أو مايسمى بمسؤولية عما يقع في ليبيا في الحال أو ما يقع لها في الاستقبال فكل ذلك يقع بالدرجة الأولى على عاتق الدولة البريطانية بل وعلى بعض رجالها الذين ائتمناهم على وطننا وأرواحنا، وسلمنا إليهم مقدراتنا وذلك أمام التاريخ والإنسانية والوجدان، وبالدرجة الثانية على أنفسكم أنتم فيما إذا تخاذلتم وتفرقتم وغرتكم الأقوال المعسولة فسبحتم في بحر الأماني المجهولة:
إن الاستقلال يؤخذ ولا يعطى فشجرة الحرية رويتموها بدمائكم وستثمر بمجهوداتكم وتضامنكم:
فالدولة البريطانية هي الدولة الوحيدة التي اشتهرت ببعد النظر وتقدير العواقب، ولكنها مع ذلك في هذه القضية الهامة إن لم أقل أضرت بمصالحها الخاصة وبمصالح الليبيين عامة أقول بصراحة إنها نسيت أو تناست لسوء(3/267)
حالها أو لسوء حظنا موقفها في سنة 1940 عندما كانت واقفة في الميدان تجاه القوة الغازية الفاشستية وحدها بلا حليف ولامعين، مصيرها معلق في كفة القدر، والعدو في إبان منعته وسطوته يتقدم في الأراضي المصرية بعد أن احتل موقع (سيدي براني) وقد طعنت يومذاك فرنسا الذي يقول عنها زعيمها المحنك الجنرال ديجول اليوم: (يجب أن تعاد مستعمرات إيطاليا إليها)! طعنت من الخلف فركعت على ركبتيها مسلمة للعدو، ولكن صدق من قال:
من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت ايلام
ففي تلك الساعة العصيبة القاسية - على بريطانيا العظمى - كما قال عنها وزير خارجيتها المستر ايدن في تصريحه لمجلس النواب البريطاني يوم 7 يناير 1942 ماندرجه بالحرف الواحد: (إني أصرح بأن السيد ادريس السنوسي اتصل بالهيئات المسؤولة بمصر خلال شهر من انهيار فرنسا في وقت لم يكن الموقف العسكري في افريقيا ملائماً لنا على الإطلاق، فتألف جيش سنوسي يضم الذين تخلصوا من نير الظلم الإيطالي بين حين وآخر في خلال العشرين سنة الماضية وقام هذا الجيش بمساعدات قيمة أثناء القيام بتلك العمليات الحربية الموفقة في الصحراء الغربية في شتائي 1940م و 1941م. وهو الآن يقوم أيضاً بنصيب قيم في الحملة العسكرية الحالية فانتهز هذه الفرصة لأعبر عن التقدير العام الذي تحمله حكومة صاحب الجلالة البريطانية للنصيب الذي قام به وما زال يقوم به السيد إدريس السنوسي وأتباعه في المجهود الحربي البريطاني وإننا نرحب بتعاونهم مع قوات صاحب الجلالة البريطانية في مهمة سحق العدو المشترك. وقد وطدت حكومة صاحب الجلالة البريطانية عزمها على أنه متى انتهت الحرب لن تسمح بوقوع السنوسيين في برقة تحت النير الإيطالي مرة أخرى بأي حال من الأحوال).
قلنا في تلك الساعة العصيبة التي كانت فيها أعظم الدول ومنها فرنسا - لا الشعوب الصغيرة - ترتعد فرقاً وتنهار سراعاً تحت ضربات النازية الفاشستية الخاطفة، نعم في تلك الساعة الرهيبة التي اقتنعت فيها الدول والشعوب بأن زوال(3/268)
بريطانيا من الوجود شيء مقدور، بل وأصبحت تحدد لانهيارها الأيام لا الشهور تقدم أمير ليبيا الشجاع غير هياب ولا وجل وعقد مجلساً حربياً ضم ممثلي البلاد من قادة الحركة الوطنية قديماً وحديثاً - وهم بقايا السيوف الأماجد ولم ينفض اجتماعهم التاريخي الذي حضره الجنرال ولسن يوم 9 أغسطس 1940 وخطب فيهم قائلاً: (إن اشتراككم مع قوات صاحب الجلالة في سحق العدو المشترك هو لتحرير وطنكم واسترداد أملاككم وحريتكم واستقلالكم) ثم أعلن الحرب على إيطاليا وانضم إلى الحليفة البريطانية في إبان محنتها وقدم لفخامة الجنرال ولسن قرار الجمعية الوطنية الليبية الذي رفعه بدوره إلى لندن، وبعد أن استعرض ما اتفق عليه زعماء المهاجرين بقيادة زعيمهم الأكبر ادريس السنوسي قال.
على هذا الأساس الواضح بني جهاد ليبيا لحريتها واستقلالها، وعلى هذا الأساس سلمت ليبيا بأرواح أبنائها وثروتها ومدنها لبريطانيا العظمى، ولم يمض على هذا القرار برهة وجيزة حتى تكون الجيش الليبي بضباطه وجنوده تحت علمه الوطني الذي استعرضه الجنرال ولسون في احتفال عسكري رسمياً، حيا فيه العلمين: الإنجليزي والليبي فأعجب به، وقد اشترك هذا الجيش فعلياً في كل المعارك الدامية في سيدي براني وفي حصار طبرق، وفي طرد العدو من الوطن، وفي كل موقعة رأت القيادة العامة البريطانية وجوده فيها ضرورياً خلف خطوط الأعداء وخارجها وفي الجبهة نفسها وعلى قناة السويس وفي فلسطين وغيرها - بكل شجاعة وبسالة وحزم.
وهل اكتفى أمير البلاد المطاع بذلك؟ كلا. بل أرسل الرسل إلى المدن والقرى ومواطن البادية ونشر في طول البلاد وعرضها أوامر كانت موفقة. ووقع النشرات التي كانت تلقى على الشعب من الطيارات واستصرخ الشعب لمناصرة بريطانيا من محطات الاذاعة وزود ضباط الاستعلامات البريطانية الذين يعملون خلف خطوط الاعداء سراً بالرجال الامناء والتوصيات للزعماء وأهل الوطن لاخفائهم وارشادهم ومدهم بالمساعدات والمؤن.(3/269)
فهب الشعب الليبي على بكرة أبيه رجالاً ونساءً شيباً وشبانا كل يعمل على قدر إستطاعه خلف خطوط الاعداء في إخفاء ضباط الاستعلامات وتموينها وإنقاذ الجرحى وتمريضهم واخفائهم وتهريب الاسرى من الضباط والجنود البريطانيين والطيارين الذين وقعوا في قبضة الاعداء وإبلاغهم مأمنهم وإظهار عورات الاعداء بواسطة الأدلاء على محال قواتهم واستحكاماتهم وطيرانهم ووقودهم. وتدمير ادوات حربهم ومؤنهم، حتى اضطر العدو أن يجعل في ليبيا قوة عظيمة خاصة لمراقبة السكان والتنكيل بهم حيث ثبت لديه أن ضباط الاستعلامات البريطانيين كانوا يحضرون اجتماعات الاعداء سراً بدون أن يعرفوا بينهم وذلك بفضل تدابير زعماء الوطن.
وقد استسلم ماينوف عن 17.000 جندي ليبي -كان قد جندهم العدو قسراً- وذلك عندما شاهدوا أعلام وطنهم المقدسة تخفق على الدبابات ومزينة بها المصفحات وفي طلائع الجيوش؛ ثم اشترك معظم هؤلاء مع إخوانهم في الدفاع عن أوطانهم وقد استشهد الكثير من جنود وضباط الجيش، كما أسر البعض منهم أثناء هذه الحرب براً وبحراً، ولم يزل بعضهم مفقوداً والبعض لا يعلم عنه شيء منذ وقع في معتقلات الاعداء.
واستهدفت المدن للخراب الأبدي والدمار الذي لايعوض كطبرق الذي اصبحت اثراً بعد عين، وبنغازي عاصمة برقة التي دمر ثلاثة أرباعها وقسماً من درنة وسرت وطرابلس وغيرها، وتعرض الكثير من المدنيين العزل للقتل والشنق والنهب، حتى أن الفاشيست شنقوا في يوم واحد في مدينة واحدة وهي المرج (300) رجلاً، وغير هذا كثير، حتى أنه في ذلك اليوم صادر الفاشيست جميع مافي الأسواق عنوة واقتداراً وهدما مايقدر بنصف ثروة التجار، وتبددت ثروة البلاد وتشتت الأهلون سنين في البراري والقفار بعد أن دمرت مدنهم وهدمت أملاكهم وقتلت نساؤهم وأطفالهم وضاعت ثروتهم ولا مجال الآن لايضاح موقف الليبيين في انتصار العلمين، ذلك الانتصار الذي غير وجهة الحرب، وماقدموه من مجهودات كادت أن تقضي على(3/270)
البقية الباقية من الليبيين حيث نسفوا مخازن البنزين ودمروا معدات الحرب التي أعدها الألمان والطليان كأحتياطي لهم في برقة يعتمدون عليها في تقدمهم على مصر، وهو مايقدر بمئات الملايين، وسيخصص لذلك فصل مدعم بالارقام والبراهين في الكتاب الأبيض الذي ينشر عن العالم قريباً عن موقف لييا المشرف في هذه الحرب وعن معاملة أصدقائها الانكليز لها، كما سيبين فيه عملهم ضد الطيارين الألمان الذين أنزلوا بعد الفتح بالبارشوات، افبعد هذا كله، وبعد فتح ليبيا باشتراك أهلها وتضحياتهم هذه يجوز أن تكون ليبيا الباسلة موضع مساومة؟ أو يجوز أن تطبق فيها أحكام عسكرية جائرة وغير ملائمة لطبيعة أهلها؟ أو يطبق على شعبها المحارب في صفوف الحلفاء مايسمونه بالقانون الدولي؟ ذلك القانون الذي لم يطبق منه حرف واحد في الحبشة لا، ولا حتى في بلاد العدو المحتلة التي سلمت إدارتها لأهلها تحت أشراف الحلفاء مع أن وضع الحبشة لايختلف عن وضع لييا دولياً من حيث دخولها تحت الحكم الايطالي واعتراف الدول بضمها إليه، وخروجها منه باشتراكها في هذه الحرب؟ أو يبدل في ليبيا استعمار باستعمار؟ أو تفكر إيطاليا
الغادرة ناكثة العهود التي جربت حظها في ليبيا وخبرت ذلك الشعب العربي الأبي في حروب متواصلة معه 21 سنة أن تعود إليه؟
اللهم إن هذا بعيد عن العدل، بعيد عن الانصاف، وحتى عن احكام القانون الدولي الذي قبر من يوم احتلال الحبشة فشيعت جنازته عصبة الامم التي التحقت به سنة 1935م وعن كافة الوعود والعهود وعن الغايات السامية التي قيل إن الدول الحليفة حاربت من أجلها، وعن الشرف البريطاني الذي لايقر مثل هذا العمل فيما أظن بوجه من الوجوه.
فلو كانت الدولة البريطانية أقامت الحق والعدل والعهود أقل وزناً أو قدرت هذه الجهود والتضحيات حق قدرها أو أعادة النظر في موقفها سنة 1940م -لأننا عند اشتراكنا معها لم تكن هناك روسيا ولا أمريكا ولا فرنسا- لما كانت في هذا المأزق الحرج الدولي من جهة. ولكانت ليبيا اليوم تتمتع بحكومة وطنية تحت إدارة أميرها،(3/271)
مندمجة في الجامعة العربية، ولما كان اختلف وضعها عن وضع الحبشة من يوم طرد العدو منهما.
ولكن الدولة البريطانية بجحود بعض رجالها لهذه التضحيات وبميلهم للأعداء -لأنهم إفرنج- وتخليهم عن الاصدقاء -لأنهم عرب- أضروا بهذه القضية التي لها مساس بالسلم العالمي، وأساءوا لأهل ليبيا وهم الذين أخلصوا لهم في إبان محنتهم بل وعاملوهم معاملة لاتمت للانصاف والمروءة بصلة في كل مرافق الحياة الاقتصادية والسياسية والكرامة والعزة القومية. وفي نفس الوقت واجهوا وسيواجهون مشكلات عديدة كانوا في غنى عنها لأن امتلاك القلوب أهم بكثير من استعبادها والسيطرة على الشعوب بدون إرادتها معناه الحقيقي تكوين عداوتها.
3 - بتر ليبيا بل والشمال الأفريقي من جسم الجامعة العربية يوم انعقادها في القاهرة كان أكبر محك دقيق للجامعة (فيما إذا كانت هي الجامعة) ولغاياتها أهدافها المقدسة عند الدول التي تهتم بمعرفة قوة الاتحاد العربي وضعفه بودنا يومئذ أن ألقينا أنفسنا في أحضانها بصفتنا أمة عربية مجاهدة أن تقف موقف المدافع عن الجميع والمطالب بحقوق الجميع وتضمنا إليها شاءت السياسية الغامضة -الفرقة الجامعة- أم ابت فتكون بذلك أحيت عضوا منها تشد أزره في الملمات، لأن ليبيا هي القنطرة الوحيدة التي تعبر منها العروبة الى الشمال الافريقي، أما اليوم فلا ادرى على الوجه الاصح هل يسمع صوتها بشأن ليبيا أم يصبح صرخة في واد بعد أن تقاربت السياسات الاستعمارية التي كانت متباعدة يوم انعقادها، واخشى ما أخشاه أن العرب رغم يقظتهم ووحدتهم المبتورة سيواجهون تضحيات جديدة ومصاعب شديدة وسيلعب بهم دور آخر يكونون فيه هم كبش الفداء - لاسمح الله- لأن الغرب لايرتد والشرق لايتعظ.
4 - مع استنكارنا الشديد واحتجاجنا القطعي الذي ليس عليه مزيد للضربة التي كانت ذكرتها جريدة التايمس وبعض الصحف الاستعمارية الاخرى والتقولات التي تقع أحياناً من بعض المغرضين بأن الليبيين يكرهون المصريين نقول بكل صراحة(3/272)
مادمنا نقر الحقائق: انها وقعت بعض غلطات مؤلمة من بعض رجال الادارة في الحدود الغربية المصريةولم تزل تقع احياناً منهم ومن غيرهم، وربما كانت تلك الغلطات مدبرة بعلة خفيت عنهم لا يعلمها إلا الله والراسخون في تفرقة الشعوب وهي انه بعد ان كان المصريون هم الذين آووا وايدوا اخوانهم الليبيين من سنة 1911م الى يومنا هذا ولهم عليهم الايادي البيضاء في جهادهم وهجرتهم، فعندما تقرر رحيل المهاجرين الى وطنهم بعد فتحه كان الواجب يتحتم ان يودعوا بما هو لائق في كرم وسخاء وتسامح وصلة رحم وحق جوار بل ومساعدات قيمة أدبية ومادية لمن هم منهم وإليهم شان المصريين الذين جبلوا على هذه المزايا العالية في كل أدوار حياتهم ولكن انعكست الآية فتصدى للمهاجرين بعض الموظفين الذين لا يقدرون العواقب فجردوهم من أمتعتهم واقواتهم وفتشوا نساءهم -بصورة مخجلة- وصادروا حليهن ومامعهم من نقود جنوها في هجرتهم او جلبوها معهم عند التجائهم واضطروهم بهذا العمل لتهريب مايسدون به الرمق او مايسترون به العورة لأن الحالة وقتئذ في ليبيا بلغت درجة الى أن دفن أهالي ليبيا أمواتهم بدون اكفان وأصبحت نساؤهم لايجدون مايسترن به العورات بسبب منع التجارة عنهم والتضييق عليهم ومازالت أموالهم وأشياؤهم محجوزة عند السلطات المصرية بحجة التهريب ومخالفة القوانيين، نعم وإن كان للموظفين بعض العذر وعلى الليبيين بعض الوزر للأسباب الآنفة الذكر إلا أن هذا العمل الذي وقع بين شعب واحد ووطن واحد -كما يعتقد الليبيون وأبناء مصر- جرأ الغير على الاستخفاف بالعلائق الحسنة بين الشعبين، وأن ماوقع من الليبيين من تضحيات وما عانوه من مشقات وأزمات هي بين سمع
إخوانهم المصريين وبصرهم في وطنهم دفاعاً عن بلادهم التي هي الحصن الحصين لمصر العزيزة حيث كانت أرواحهم فداء لها لو تدبروا الأمر بعين المصلحة والأخوة ربما كانت تلك الغلطات مدبرة من الغير لتتخذ منها جريدة مثل التايمس والجرائد الاستعمارية مادة للحط من قيمة الروابط الودية بين الشعبين المتجاورين لغاية بعيدة المرمى ستظهر نتائجها الأيام المقبلة.(3/273)
وأني اعتقد عقيدة ثابتة أن الليبيين عامة والسنوسيين خاصة لم ينسوا ولن ينسوا فضل مصر ولا عطف مصر وزعماء مصر مهما حدث أو يحدث لأن الشعب المصري الكريم برئ من تلك الغلطات المدبرة ومصر هي الملجأ الوحيد ليس لليبيين فحسب بل للعرب والعروبة لاسيما وتربط مصر وليبيا روابط لا انفصام لها من جهة الدين والجوار واللغة والنسب ولا نريد أن نوضح اكثر من ذلك فعظماء مصر وأكابرها يعلمون اكثر من هذه الحقائق ويعلمون مايكنه الليبيون من اخلاص ومحبة للتاج المصري وصاحبه المفدى، وسيأتي يوم يتضح فيه كل شيء بالوثائق لأننا متنا هذه الروابط وأدلينا بما فيه المصلحة للطرفين في بدء الحركة سنة 1940م وفي أثناء الحرب 1942م قبل غيرنا ممن تبنى هذه المشاريع اليوم، ومع ذلك يشكر كل من يسعى لتوحيد الشعوب العربية ويعمل على اسعادها ولكل مجتهد نصيب:
كان بودنا أن لاتهمل الصحافة العربية الحرة ماقدمه الليبيون في هذه الحرب من تضحيات قاسية من سنة 1940م حتى لاتفقد مادة قيمة تساعدها في الدفاع اليوم عن الحق المهضوم وتستعين بها على ماتسجله للتاريخ والأجيال المقبلة، ولكن السياسات التي كمت أفواه الصحف وكسرت أقلام الصحافيين حتى حضرت عليهم ذكر كلمة ليبيا كان جائرة عليها وعلينا وعلى التاريخ والانسانية وها أننا نستبشر اليوم بتعويض مافقدته الصحافة فلها خالص الشكر وعاطر الثناء.
وأخيراً بصفتي -احد قادة الحركة الوطنية وعضو الجمعية الوطنية التي ارتبطت مع بريطانيا يوم 9 أغسطس 1940م - اصرح بأن الوضع الحالي في ليبيا شاذ لايتناسب في شيء مع العدل والانصاف ولا مع وعود الحلفاء بأي وجه كان، بل أن مايعانيه الشعب الليبي اليوم لايختلف عن الاستعمار البغيض وان الشعب الليبي يتطلب إقامة حكومة وطنية شرعية تحت إدارة أميره المطاع (إدريس السنوسي) بأسرع مايمكن ليحقق لها اختيار الجهة التي ترغب في الارتباط بها.
اقول هذا لدول الحلفاء عامة ولدولة بريطانيا العظمى خاصة قبل أن يعم الاستياء الذي أخذ يتسرب الى النفوس وتتبدل وجهات النظر من الاخلاص والمحبة والتعاون(3/274)
النزيه الى المقت البغيض والمشاكسة ويطغي اليأس فتنعكس الآية ولا ينفع الندم، وإن ليبيا رغم قلة عددها وفقدان عددها ومعرفتها بأنها لاتقوى على مقاومة الدول المعظمة مع أنها جربت في حرب إيطاليا تفضل أن تضرب يومياً بالف بل بمليون قنبلة ذرية حتى ينقطع فيها النسل والذرية على أن يطأ ارضها ايطالي أو أن تمس كرامتها أو ينقص شيء من حريتها واستقلالها وحقها في الحياة او يقرر مصيرها الغير بدون ارادتها، وهي علمت الشعوب معنى التضحية في سبيل الحرية والاستقلال من سنة 1911م الى يومنا هذا والتاريخ شاهد عدل، وقد قلنا في بعض مذكراتنا لرؤساء الوفود في المؤتمر الذي كان منعقداً في سان فرانسيسكو - بعد أن شرحنا لهم الحالة يومئذ بوجه التفصيل- هذه العبارات: (هذا إذا كان هناك مايسمى عدل أو مايسمىحق، أما إذا كانت الوعود والعهود المقطوعة للشعوب الضعيفة هي بمثابة الطابور الخامس عند الحلفاء فلا حق لهذه الشعوب في المطالبة بالحق وليس لها إلا أن تموت) وسنعود للموضوع مرة أخرى: ومن لم يعرف ليبيا على حقيقتها فعليه بالاختبار فلا زال اشبال عمر المختار يعملون على ذلك الغرار؛
ألا لايجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
هذا بعض ماكتبه ونشره السيد عمر فائق شنيب وهو كما قدم نفسه أحد قادة الحركة الوطنية فبالاضافة الى ذلك نقول أنه كان من خيرة اولئك القادة وقد لازم الحركة الوطنية الأخيرة منذ 9 أغسطس 1940م الى أن توفاه الله سنة 1953م، فقد عين أميناً عاماً لمكتب سمو الامير، وكان ضمن أعضا المؤتمر الوطني البرقاوي، وذهب الى هيئة الامم المتحدة عضواً ورئيساً للوفد الوطني مرتين ثم وقع الاختيار عليه ليكون عضواً بالجمعية الوطنية التأسيسة الليبية وانتخب نائباً لرئيسها كما انتخب رئيساً للجنة الدستورية وعين وزيراً للدفاع بالحكومة الليبية المؤقتة التي عهد إليها أن تتسلم السلطات من الادارتين (البريطانية والفرنسية) وأخيراً عين رئيساً للديوان الملكي، وكان قد وضع بحثاً مفصلاً عن القضية الليبية كان صريحاً في التفاصيل التي(3/275)
تناولها في ذلك البحث، وقد أجاب فيه عن الكثير من الامور الغامضة وقد لفت فيه نظر جهات معينة كان الكثير من حسنى الظن قد تأثر بتصرفاتها وأراد طبعه سنة 1949م في مصر إلا أن الرقابة المفروضة يومذاك قد حذفت الكثير منه ووافقت على طبع ماوافقت عليه فرفض شنيب الطبع إلا إذا كان كاملاً، ولا يزال ذلك البحث مفقوداً نأمل أن تتكاثف الجهود ليرى النور وتستفيد منه الأجيال الصاعدة (1).
سادساً: الجمعيات التي أسست خارج ليبيا:
وأسست جمعية في مصر بزعامة احمد السويحلي وقامت بنشاط كبير وفتح عام 1943م نادي طرابلس الغرب الثقافي وشكلت الجاليات الليبية التي تقطن مختلف أرجاء العالم الاسلامي لجنة للدفاع عن حقوق بلدها بزعامة بشير السعداوي واتخذت ميثاقاً وطنياً بها قدمته الى المؤتمر الاسلامي الذي انعقد في القدس عام 1931م وطالبت اللجنة المسلمين في أقطار الأرض لتقديم المساعدة لإخوانهم المنكوبين في ليبيا.
وتحرك الامير ادريس سياسياً مع بداية الحرب العالمية الثانية ومن الشخصيات التي كان لها أثر سياسي في مصر في تلك الفترة بالنسبة للجالية الليبية احمد السويحلي واحمد المريض وعون سوف وتوفيق الغرياني ومحمد العيساوي وعبد السلام الكزة وعبد الحميد العبار.
وشكل الامير ادريس السنوسي جيشاً وفوض أمره الى صفي الدين السنوسي الذي جند 14.000 من المهاجرين الليبيين و 120 ضابطاً وشكلت الجمعية الوطنية الليبية التي قررت اعلان بيعة السنوسي. وتفويضه بدون قيد او شرط وخوض الحرب الى جانب بريطانيا ورفض بعض زعماء الليبين ذلك. وفي معركة العلمين حققت بريطانيا نصراً حازماً على ألمانيا بقيادة رومل. وشارك السنوسيون مع الانكليز رافعين العلم السنوسي وكانت المعارك السياسية مستمرة ومستعرة بين الليبيين ولكن الكفة رجحت لصالح السنوسيين.
_________
(1) انظر: ادريس السنوسي للأشهب، ص101 الى 111.(3/276)
وظهرت بعض الزعامات الوطنية المتناثرة في بلادنا وعادت الى الظهور الأحزاب التي أسست أثناء المفاوضات الليبية الايطالية، في نهاية الحرب العالمية الاولى، وأسست احزاب جديدة على أيدي القادمين من المهجر وكانت الاحزاب بليبيا امتداداً لتأثير الحركات الحزبية في مصر وسوريا وغيرها ولبنان بواسطة العائدين من المهجر وكانت سرعة نموها كبيرة، لدرجة أن الليبيين وخاصة في منطقة طرابلس اصبحوا بعد ست سنوات يقومون بالمظاهرات مما يدل على نمو الوعي السياسي.
وظهر في عام 1942م (نادي عمر المختار الرياضي) الذي كان له نشاط سياسي يهدف الى توحيد برقة وطرابلس يقوده الشباب في تلك الفترة الحرجة من تاريخ بلادنا.
وفي مطلع عام 1944م أصبح النادي يعلن بصراحة انتقاده للادارة البريطانية ويظهر اتجاهاً وحدوياً مع الاتجاه الطرابلسي من أجل اتحاد وطني.
ولم يكن الاتجاه الاسلامي في هذه المرحلة المظلمة ممثلاً إلا في شخصية الأمير السنوسي بكونه الوريث الشرعي للحركة السنوسية، وبعض الأفراد القلائل؛ والشيوخ التقليديين.
وفي سنة 1947م أصبح البريطانيون يرون الحاجة الى منح برقة نوعاً من الحكومة الذاتية تحت زعامة ادريس وأوصت لجنة بريطانية ببرنامج استقلال على ثلاث مراحل، وتحت الاشراف البريطاني أما في طرابلس، فكان الوضع يختلف، وظهر الخوف هناك من عودة الحكم الايطالي للمنطقة، وخاصة وجود الجالية الايطالية الكبيرة بمطامعها وتطلعاتها.
واقتصرت غالبية الاحزاب والجماعات في منطقتي برقة وطرابلس على حاجتهم لدولة متحدة واصبح (نادي عمر المختار) يشدد انتقاده ضد البريطانيين وضد سياسة ادريس المتحالف مع بريطانيا (1).
_________
(1) انظر: تاريخ ليبيا، ص181، 182، 183.(3/277)
سابعاً: حل الاحزاب وانشاء المؤتمر الوطني في برقة واضطراب الاحزاب في طرابلس:
وقام ادريس بإيقاف نشاط نادي عمر المختار ومنع جميع الاحزاب السياسية عن العمل في ديسمبر 1947م وألف الأمير ادريس المؤتمر الوطني بحجة التحدث باسم أهالي برقة جميعاً. إلا أن المؤتمر كان يتكون من الجيل القديم من قادة القبائل الموالين له وكان المؤتمر برئاسة أخيه محمد رضا السنوسي وفي طرابلس كانت الأحزاب السياسية في اضطراب وبلبلة. ووجد في المنطقة أكثر من عشرة أحزاب وجماعات ونوادي ذات اهداف مختلفة تسعى كلها للاستقلال وتوحيد مناطق طرابلس وبرقة وفزان. ولكن الاختلاف كان على من يقود هذا الاتحاد. وهل هو ملكي او جمهوري وقد تكونت من الحزب الوطني الكتلة الوطنية بقيادة احمد الفقي حسن لمناهضة السنوسية والدعوة لإقامة جمهورية. وكان يوجد حزب الاستقلال ولجنة تحرير الليبية المتعاونة مع الجامعة العربية، ويرأسها بشير السعداوي.
وبقي في ليبيا 48000 إيطالي، ظهر بينهم حزب فاشيستي بدعم من روما، وحزب معاكس له ايطالي.
وارسلت الدول الكبرى لجنة لتقصي وضع ليبيا فوجدوا رغبة عارمة في الاستقلال التام واوضح تقرير اللجنة الرغبة الليبية الاجماعية للاستقلال التام واضافت اللجنة ان ليبيا لم تكن في وضع اقتصادي يمكنها من الاعتماد على نفسها، وإيضاً غير مؤهلة للاستقلال ... وقالت اللجنة في تقريرها بأن حوالي 94% من السكان أميوّن، ولا يوجد بها مايزيد عن 15 ليبياً متخرجاً دون أن يكون فيهم طبيب واحد، وأن متوسط الدخل الفردي 15 جنيهاً في السنة، وأن نسبة الوفيات بين الاطفال 40% ورأت بريطانيا أن تكون برقة تحت الرعاية البريطانية. وأن تكون منطقة طرابلس تحت الوصاية الايطالية، وفزان تحت الوصاية الفرنسية.
أما الولايات المتحدة فقد اتخذت موقفاً مغايراً، إذ اقترحت ان توضع ليبيا كلها(3/278)
تحت وصاية الامم المتحدة لمدة عشر سنوات، على أن تحتفظ امريكا بقاعدة هويلس (الملاحة) الجوية والتسهيلات الحربية الاخرى وكانت بريطانيا مستعدة للموافقة على اقتراح الولايات المتحدة؛ إلا أن فرنسا عارضت ذلك.
أما الاتحاد السوفياتي، فقد حبذ في البداية الخطة الاميركية، بوصاية الامم المتحدة، لكنه عارض فيما بعد الوصاية على منطقة طرابلس لمدة عشر سنوات، بحجة أنه لو حدث ذلك، فإن (النظام السوفياتي) لن يصل الى منطقة طرابلس ولم تقبل بريطانيا او فرنسا هذا العرض بارتياح.
وهكذا ياأخي القارئ كانت بلادك منذ خمسين عاماً لا تملك لنفسها خيراً ولا نفعاً ولا حلاً ولا عقداً.
ومع نمو الوعي الوطني والحس السياسي قامت مظاهرات جماعية لم تدع شكاً في الشعور العام المعادي للخطة. وسارت الجماهير الكبيرة المنظمة عبر شوارع طرابلس محتجة ضد الوصاية الايطالية على طرابلس، وقدّر عدد الذين اشتركوا في المظاهرة بستين ألفاً، بما في ذلك مظاهرات جاءت من مدن اخرى، وكانت منظمة تنظيماً محلياً. وصاحب المظاهرات دعاية واسعة جلبت رأي عالمي وعربي للقضية الليبية.
وفي خلال هذه المظاهرات اتحد الحزب الوطني والجبهة الوطنية المتعددة وغيرهما في حزب المؤتمر الطرابلسي تحت قيادة بشير السعداوي واستمر حزب المؤتمر في تنظيم المظاهرات والاحتجاجات حتى رفضت نهائياً خطة (بيفن- سفورزا) من قبل الامم المتحدة. وكان هذا سبباً في بروز الحزب على أنه القوة السياسية الرائدة في منطقة طرابلس وفي الجمعية العمومية في 18 مايو 1949م كانت كل الدلائل تشير الى أن قرار الخطة سوف يحصل على أغلبية الثلثين في منع استقلال ليبيا ولكن مندوب هايتي (اميل لوت) عارض الوصاية الايطالية على منطقة طرابلس وكانت النتيجة أن فشلت الخطة عند الاقتراع عليها، وذلك بسبب نقص صوت واحد كان مطلوباً لتأمين الأغلبية التي أعطت اصواتها لقرار الخطة (33 مقابل 17 وغياب 8) وكان الذي اقنع (اميل لوت) بالوقوف مع الشعب الليبي الدكتور علي العنيزي -رحمه الله تعالى-.(3/279)
واستطاعت الوفود العربية في الأمم المتحدة أن تقنع بسهولة الوفد السوفياتي وبعض الوفود الاخرى المعارضة لمصلحة استقلال ليبيا وبفشل التصويت على وضع الوصاية الايطالية لم يعد هناك سبب يدعو كتلة امريكا اللاتينية لدعم بقية القرار واقترعت ضده بالفعل مما سبب له هزيمته بأغلبية 37 صوتاً ضد 14 وغياب 7 أصوات وقد دعم استقلال ليبيا دول اسلامية وعربية مثل باكستان وسوريا ولبنان وكذلك الهند لمصالحها.
وقد تغير موقف الروس بشكل ملفت للنظر، فبعد أن كانوا في وقت ما يريدون الوصاية السوفياتية على منطقة طرابلس، ثم ارجاع ليبيا لإيطاليا أصبحوا سنة 1949م ينادون باستقلالها خلال ثلاثة أشهر وجلاء جميع القوات الاجنبية عنها.
واصبحت بريطانيا ترى لمصلحتها استقلال ليبيا كلها، وخاصة اذا امكن الحفاظ على القواعد البريطانية في منطقتي طرابلس وبرقة.
ورفضت خطة بيفن-سفورزا وأعلن ادريس، استقلال برقة بتأيد بريطاينا ونصب نفسه اميراً عليها وأصبحت الحكومة المحلية مسؤولة عن الشؤون الداخلية. أما الشؤون القضائية والمالية فبقيت تحت مسؤولية المستشارين البريطانيين، وكذلك ظلت الأمور الخارجية والدفاعية والاملاك الايطالية تحت السيطرة البريطانية.
وأصبح استقلال ليبيا شيئاً لابد منه بالنسبة للامم المتحدة وأعيدت قضية ليبيا الى اللجنة السياسية في صيف عام 1949م وسمح لإيطاليا بالاشتراك بالنقاش، وكذلك لممثلين من المؤتمر الوطني البرقاوي، وحزب المؤتمر الوطني الطرابلسي، وممثلين من الجالية اليهودية بطرابلس وفي اكتوبر بدأت لجنة فرعية في وضع قرار يتضمن جميع النقاط الرئيسية الواردة في مقترحات وفود الهند والعراق وباكستان والولايات المتحدة، واتفق على القرار بأغلبية ساحقة في الجمعية السياسية في 12نوفمبر، ثم قدم بعد اسبوع الى الجمعية العامة (1).
_________
(1) انظر: تاريخ ليبيا، ص188، 189، 190.(3/280)
المبحث الثالث
قرار الامم المتحدة بشأن ليبيا
وفي 21 نوفمبر 1949م تبنت الجمعية العامة القرار الذي اقترحته وفود الهند والعراق وباكستان والولايات المتحدة وتبنته الجمعية بأغلبية 48 صوتاً ضد صوت واحد (الحبشة) وغياب تسعة فيها فرنسا وخمس دول شيوعية.
ويتضمن القرار مايلي:
1 - أن تصبح ليبيا المكونة من مناطق برقة وطرابلس وفزان دولة مستقلة ذات سيادة.
2 - أن يصبح هذا الاستقلال ساري المفعول في أسرع وقت ممكن وألا يتأخر باي حال من الأحوال عن أول يناير 1952م.
3 - أن يقرر دستور ليبيا، يضم شكل الحكومة من قبل ممثلين عن سكان مناطق برقة وطرابلس وفزان يجتمعون ويتشاورون معاً في جمعية وطنية.
4 - ومن أجل مساعدة شعب ليبيا على وضع دستور وإقامة حكومة مستقلة يرسل مندوب من الأمم المتحدة الى ليبيا، تعينه الجمعية العامة، ومعه مجلس لمساعدته ونصيحته.
5 - أن يقدم مندوب الامم المتحدة، بالمشاورة مع المجلس، تقريراً سنوياً مع التقارير التي يعتبرها ضرورية، ويضاف الى هذه التقارير الى مذكرة او وثائق يرغب مندوب الامم المتحدة او أي عضو في مجلس في أن يضعها أمام انتباه الامم المتحدة.
6 - أن يتكون المجلس من عشرة أعضاء، وبالتحديد:
أ- ممثل ترشحه حكومة كل من البلدان التالية: مصر وفرنسا وإيطاليا وباكستان والمملكة المتحدة والولايات المتحدة.(3/281)
ب- ممثل عن شعب كل من المناطق الثلاثة في ليبيا، وممثل عن الاقليات.
7 - أن يعيين مندوب الامم المتحدة الممثلين المذكورين في الفقرة 6 - ب بعد التشاور مع القوى الادارية ومع ممثلي الحكومات المذكورين في الفقرة 6 - أ ومع الشخصيات القيادية وممثلي الاحزاب السياسية والمنظمات في المناطق المعينة.
8 - وإنجاز لمهامه، يشاور مندوب الامم المتحدة ويسترشد بمشورة أعضاء مجلسه، ويجب أن يكون معلوماً أن بمكانه أن يقابل أشخاصاً مختلفين لسماع النصيحة بخصوص المناطق المختلفة او المواضع المختلفة.
9 - يمكن لمندوب الامم المتحدة أن يقدم المقترحات الى الجمعية العام، والى المجلس الاقتصادي والاجتماعي والى السكرتير العام فيما يخص الاجراءات التي يمكن أن تتبناها الامم المتحدة خلال الفترة الانتقالية بخصوص المشاكل الاقتصادية والاجتماعية في ليبيا.
10 - أن تقوم القوى الادارية بالتعاون مع مندوب الامم المتحدة:
أ- باتخاذ جميع الخطوات اللازمة حالاً لنقل السلطة الى الحكومة دستورية مستقلة.
ب- إدارة المناطق بهدف مساعدة إقسامه الوحدة الليبية والاستقلال والتعاون في تكوين الادارات الحكومية وتنسيق نشاطاتها من اجل هذه الغاية.
ج- تقديم تقرير سنوي للجمعية العامة حول الخطوات المتحدة لتطبيق هذه التوصيات.
11 - أن تدخل ليبيا الامم المتحدة حسب المادة (4) من الميثاق، بعد أن تصبح دولة مستقلة.
وبعد اسبوعين عينت الجمعية العامة مساعد السكرتير العام (ادريان بلت، مندوبا للامم المتحدة في ليبيا).(3/282)
إن الخطوات المذكورة نحو الاستقلال على حسب تقديري وفهمي للحقيقة لا نعتبره استقلال بمفهومه الذي وضع له هذا المصطلح ان الامة التي تحكم شرع ربها من ذاتيتها وشخصيتها وعقلها وقلبها وعقيدتها هي تلك الامة الحرة المستقلة التي رضيت بالله ربا وبالاسلام ديناً وبمحمداً نبياً ورسولاً بل انتقلت بلادنا من الاستعمار الايطالي النصراني الحاقد الى استعمار من نوع آخر في أموره الدستورية والسياسية والاقتصادية والتعليمية فأن إذن الاستقلال ولازال أمر الله وحكمه مغيباً في واقع شعبنا وحياته الى كتابة هذه السطور ولذلك فهو يأن من وطئة الظالمين الذين حكموا شعبنا بقوانين ارضية طينية وغيبوا شرع الله عنه ظلماً وبهتاناً وزوراً، وعلى الاحرار من ابناء شعبنا ان يعملوا ليلاً ونهاراً سراً واعلاناً من اجل الاستقلال الحقيقي وكسر القيود المكبل بها شعبنا. ولا يتحقق ذلك إلا عندما يحكم شرع الله ودستور الاسلام الخالد على شعبنا المسلم الذي عان ولايزال يعاني من تكبيل حريته واستقلاله واتخاذ قراره وماذلك على الله بعزيز.
وكان موعد استقلال ليبيا سيحل بعد 700 يوم من وصول مبعوث الامم المتحدة لبدء مهمته. وعندما وصل المبعوث (أدريان بلت) الى ليبيا في رحلة استطلاعية لمدة اسبوعين في 18 يناير 1950م، لخص مهمته على أنها لمساعدة شعب لييا على وضع دستوره واقامة حكومة مستقلة (1).
وكان أول واجب عليه هو أن يكمل عضوية المجلس المنصوص عليه في قرار الجمعية المكلف باستشارته وقد عين ممثلو مصر وفرنسا وإيطاليا وباكستان والمملكة المتحدة والولايات المتحدة من قبل حكوماتهم المعنية وطلب (بلت) مرشحاً متفق عليه من كل المناطق الليبية الثلاثة وممثلاً للجاليات الايطالية واليهودية واليونانية بمنطقة طرابلس وقدمت فزان مرشحاً واحداً، إلا أن برقة قدمت ثمانية وطرابلس سبعة، والاقليات اربعة. وبعد التشاور مع القوى الحاكمة الاجانب، عين (بلت) أسد الجربي ممثلاً لبرقة ومصطفى مزران عن منطقة طرابلس. وأحمد الحاج السنوسي عن فزان
_________
(1) انظر: تاريخ ليبيا، ص193.(3/283)
وجياكو مو مارشينو الايطالي للاقليات وأنشئ مجلس ليبيا (المشهور بمجلس العشرة) في 15 ابريل 1950م. وكان يضم ثلاثة ليبيين وممثلين عن دولتين اسلاميتين مستقلتين (مصر وباكستان) وإيطاليين (واحد يمثل إيطاليا والآخر يمثل الاقليات الاجنبية بليبيا) وثلاثة يمثلون ثلاثة قوى غربية هي: بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، ولذلك يعتبر تكوين عضويته - أي المجلس- تحيزاً للغرب بمعدل سبعة مقابل ثلاثة، على اعتبار ان ممثلي برقة وفزان كانا خاضعين لتأثير بريطانيا وفرنسا، وان الثلاثة هم ممثلوا مصر وباكستان وطرابلس ايضاً تابعة للقوى الاجنبية المسيطرة.
وكانت معارضة قوية جداً محتجة على دخول الايطاليين والاقليات الاخرى في تقرير مصير الشعب المسلم في ليبيا ولوجود تخوف من تدخل الادارة البريطانية في الانتخابات وبذلك ألغيت خطط بليت.
إلا أنه لم يأييس واستطاع استدراج بعض الشخصيات الدينية والوطنية وشكل جميعة وطنية من طرابلس وفزان وبرقة والغيت كثيراً من الاقتراحات واخمدت الاصوات المعارضة (1) وبعد ان حازت الجمعية الوطنية السلطات كي تقرر الشكل التنظيمي والدستوري لمستقبل الدولة، وتختار من اعضائها لجنة لوضع الدستور عقدت الجمعية اول اجتماع لها في طرابلس في 25 يناير نوفمبر سنة 1950م وانتخب مفتي طرابلس رئيساً لها واتفقت خلال اسبوع على أن تكون ليبيا دولة ديمقراطية فدرالية ذات سيادة، وأن تكون الدولة ملكية دستورية ودعم ممثلوا برقة وفزان الاتحاد بقوة وقبل الطرابلسيون ذلك.
وظهر بشير السعداوي كشخصية وطنية فذة وكان من أكبر المتحمسين للوحدة وكان له شعبية ومساندة معظم الوطنيين في تطلعاته نحو وحدة البلاد ووقف ضد الجمعية الوطنية وقاد حملات ضدها وتسائل بشير السعداوي رحمه الله عن اهلية الجمعية الوطنية في نداء وجهه الى الامم المتحدة والجامعة العربية واستمر بشير
_________
(1) انظر: تاريخ ليبيا، ص198، 199.(3/284)
السعداوي يهاجم عدم اهلية الجمعية الوطنية طيلة النصف الاول من عام 1951م وكسب تأييد عبد الرحمن عزام وقام عزام ايضاً بالهجوم على الجمعية الوطنية وان قراراتها غير قانونية ومخالفة لرغبات الشعب الليبي وقررت اللجنة الدستورية للجامعة العربية بأنه لاحاجة للاتحاد في بلد يوحده الجنس واللغة والعادات والدين وأكثر من ذلك فإن الجمعية لم ينتخبها الشعب ليس لها سلطة البث في أمور تؤثر على مستقبل البلاد وقام بلت بإرسال مفتي طرابلس وهو عضو من الجمعية الوطنية الى مصر ليخطب ود الجامعة العربية وتلاشت عداوة الجامعة العربية بالتدريج.
وفي الرابع من ديسمبر 1950م أقرت الجمعية الوطنية العلم الليبي وانتخبت لجنة الدستور على اساس ستة اعضاء من كل منطقة لتحضير وتقديم مسودة دستور، وقامت اللجنة بدورها بتشكيل مجموعة عاملة من ستة اعضاء لكتابة المسودة وتقديمها فصلاً بعد آخر للجنة وكان (بلت) وخبراء آخرون من الامم المتحدة مستعدين لتقديم المشورة عند اول اجتماع للمجموعة العاملة في 11 ديسمبر. ودرست دساتير احد عشر اتحاداً منها الهند، وسويسرا وفنزويلا وقورنت ببعضها وأخذت دساتير مصر والعراق والاردن ولبنان وسوريا، وكذلك حقوق الانسان كنماذج لفعل الحريات الاساسية وغيبت عن المسلمين في ليبيا قواعد النظام الاسياسي في الاسلام ومن هذه القواعد التي غيبت عن المسلمين مفهوم الحاكمية فمدلول لا إله إلا الله يعني إنه لاخالق ولا رازق ولا محي ولا مميت ولا نافع ولا ضار إلا الله، ويعني أيضاً لا مشرع ولا محلل ولا محرم إلا الله، وغاب عن المسلمين في ليبيا أن التحاكم الى الدساتير الوضعية ووضع القوانين البشرية يتنافى مع بديهيات التصور الاسلامي والعقيدة الاسلامية، إن الله الذي جعل الاسلام ديناً هو الذي جعله عقيدة ونظاماً وإن الله ليأبى على الناس أن يبتغوا لأنفسهم ديناً غير هذا الدين {ومن يبتغ غير الاسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} (سورة آل عمران، آية85).
ان الذين ارادوا الفصل بين العقيدة الاسلامية والنظام والاسلامي إنما هم اعداء الاسلام ونحن نقول أن الاسلام عقيدة وشريعة، فإن العقيدة والشريعة أمران(3/285)
متلازمان، لا ينفك احدهما عن الآخر، وان الفصل بينهما ضلال وكفر وردة فإن الايمان بالعقيدة وترك الشريعة كفر، وان الاخذ بالشريعة وترك العقيدة كفر.
وهذه الفعلة الشنيعة في الجري خلف الدساتير الارضية وقوانين الدول الغربية العلمانية وغيرها يدل دلالة قاطعة على خطورة الامر الذي وصلت إليه بلادنا من الضعف العقدي والشرعي.
قال تعالى: {ألم تر الى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا الى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلال بعيد} (سورة النساء، آية 60).
وقال تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم، وأن الظالمين لهم عذاب أليم} (سورة الشورى، آية 21).
وليس لاحد من خلق الله أن يشرع غير ماشرع الله واذن به كائناً من كان والله وحده هو الذي يشرع لعباده بما انه -سبحانه- هو مبدع هذا الكون ومدبره بالنواميس، ولا يتحقق هذا إلا حين يشرع الله المحيط بتلك النواميس. وكل ماعدا الله قاصر عن تلك الاحاطة بلا جدال فلا يؤتمن على التشريع لحياة البشر مع ذلك القصور.
ومع وضوح هذه الحقيقة الى حد البداهة، فإن الكثيرين يجادلون فيها، أو لايقتنعون بها وهم يجرؤون على استمداد التشريع من غير ما شرع الله، زاعمين انهم يختارون الخير لشعوبهم، ويوائمون بين ظروفهم والتشريع الذي ينشؤونه من عند انفسهم. كأنما هم أعلم من الله وأحكم من الله. أو كأنما لهم شركاء من دون الله يشرعون لهم مالم يأذن به الله. وليس أخيب من ذلك وأجرأ على الله (1).
والذي دفعني الى الوقوف عند هذه النقطة المظلمة من تاريخ بلادنا وهي اختيار دستورها من دساتير ارضية وتركهم لتشريع رب البرية هو كون شعبنا مسلماً مؤمناً
_________
(1) انظر: سيد قطب في ظلال القرآن، دار الشروق، 2/ 3512.(3/286)
وإنما فرض عليه ذلك من أعداءه اعداء دينه وإلا موقف المسلم من ذلك بيّن وواضح وإليك موقف المسلم كما بينه القرآن الكريم قال تعالى: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ماتذكرون} (سورة الاعراف، آية3).
فالمسلم يهرع الى شرع ربه ودستوره برضى وطواعية ورغبة وتسليم.
وقال تعالى: {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا الى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون} (سورة النور، آية51).
فشريعتنا الاسلامية ربانية شاملة شمول العلم الالهي، محيطة بمشاكلهم احاطة العليم الخبير، لا تدع صغيرة ولا كبيرة إلا وقد أوجدت لها حلاً، وهي يسيرة سهلة تحقق اليسر والسهولة وترفع الحرج عن الناس لأنها لا تكلفهم إلا وسعهم (1).
وتدخل الامم المتحدة في مصيرالشعوب باسم مصلحة الشعوب واسعادها والأخذ بيدها نحو الحرية والاستقلال والنور والديمقراطية يعلم الله إنهم لكاذبون {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون} (سورة المائدة، آية50).
والتاريخ البشري يشهد أن اسعد الفترات التي كانت تعيشها البشرية على الاطلاق، تلك الفترة التي تحكم فيها بشريعة الله سبحانه وتعالى حيث كانت تنعم بالامن والايمان والسلامة والسلام، وكان العدل والرخاء والاستقرار يسود المجتمعات التي حكمت بشرع الله (2).
والحكم معدود في كتبنا الفقهية من العقائد والاصول لا من الفقهيات والفروع، فالاسلام حكم وتنفيذ، كما هو تشريع وتعليم، كما هو قانون وقضاء، لاينفك واحد منها عن الآخر.
لقد كان الضغط على البلاد عظيماً ولذلك لم يستطع الامير ادريس وكذلك القوى الوطنية المسلمة من جعل دستور البلاد ربانياً نابعاً من الكتاب والسنّة وفهم
_________
(1) انظر: النظام السياسي في الاسلام، ابوفارس، ص30.
(2) المصدر السابق نفسه، ص31.(3/287)
السلف الصالح وبحيث يكون الاسلام هو المصدر الرئيسي والوحيد الذي يستمد الشعب منه قوانينه ودستوره كيف لا والله تعالى يقول: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} (سورة النحل، آية:79) ومعلوم أن الاسلام دين ودولة وصالح لكل زمان ومكان.
والمصلح الاسلامي إن رضي لنفسه أن يكون فقيهاً مرشداً يقرر الاحكام ويرتل التعاليم، ويسرد الفروع والاصول، وترك أهل التنفيذ يشرعون للأمة مالم يأذن به الله، ويحملونها بقوة التنفيذ على مخالفة أوامره فإن النتيجة الطبيعية أن يكون صوت هذا المصلح صرخة في وادي ونفخة في رماد قد يكون مفهوماً أن يقنع المصلحون الاسلاميون برتبة الوعظ والارشاد اذا وجدوا من أهل التنفيذ اصغاء لاوامر الله. وتنفيذاً لاحكامه، وايصالاً لآياته وآحاديث نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأما الحال كما نرى التشريع الاسلامي في وادي والتنفيذ في وادي آخر. فإن قعود المصلحين الاسلاميين عن المطالبة بالحكم جريمة اسلامية لا يكفرها إلا النهوض واستخلاص قوة التنفيذ من الذين لايدينون الاسلام الحنيف (1).
ومضت المجموعة العاملة والمختصة من الجمعية الوطنية لمناقشة الجنسية الليبية واللغة وسلطات الملك، والمسؤليات الوزارية والبرلمان وتشكيل مجلس الشيوخ وقانون الانتخابات. وقد أجريت تعديلات عند تقديم الفصول الى اللجنة وقدمت مسودة الى الجمعية الوطنية في سبتمبر 1951م واستمرت المناقشات ثلاثة اسابيع وكان هناك عدة خلافات فكان البرقاويون يصرون على أن تكون بنغازي هي العاصمة واصر الطرابلسيون بتأييد الفزانيين على أن تكون طرابلس هي العاصمة واستقر الرأي على أ ن تكون طرابلس وبنغازي عاصمتين مشتركتين منعاً للنزاع وأقر الدستور كله من 213 مادة بإشراف (بلت) مبعوث الامم المتحدة.
وأشاد (بلت) بإنجاز الليبيين للدستور في مدى عشرة أشهر، وتزايدت قوة الشعور بالوعي الوطني الليبي واتحاد جميع الممثلين في قراراتهم لإنشاء ليبيا المتحدة
_________
(1) انظر: رسائل حسن البنا، ص272.(3/288)
التي سماها الدستور (المملكة الليبية) وسميت المناطق الولايات بدل من دول. وكانت السلطة التشريعية مخولة للملك ومجلس الشيوخ والبرلمان على أن يكون أعضاء مجلس الشيوخ 24 عضواً ثمانية من كل ولاية نصفهم معين من قبل الملك والنصف الآخر منتخب. أما النواب فينتخبون من الذكور البالغين بمعدل واحد عن كل عشرين ألف من السكان، ويختار أعضاء الوزارة المركزية من البرلمان الاتحادي، ويعين الملك رئيس الوزراء ووالي كل ولاية.
وبدأ تخطيط نقل السلطات من الادارات البريطانية والفرنسية للاتحاد الليبي في مطلع سنة 1951م وقسمت لجنة بلت نقل السلطات على أربع مراحل من سبتمبر الى نهاية السنة. وفي فبراير سنة 1951م أصدرت الجمعية الوطنية قرار بتشكيل حكومات محلية لاستلام السلطة من السلطات الادارية وفي 3 مارس أصدرت الادارة البريطانية بموافقة ادريس بياناً بتأليف حكومة محلية في طرابلس ولم يكن حزب المؤتمر الوطني الطرابلسي راضٍ عن سير الامور بتحكم بريطانيا في إجراءات نقل الوضع الى السلطات المحلية (1).
وكان (بلت) قد دعا الامم المتحدة منذ اول تقرير سنوي له الى مساعدة ليبيا مالياً بسبب فقرها وحاجتها. قال: (مالم توجد الوسائل لتحسين الزراعة وخلق رأسمال استثماري جديد، فهناك خطر كبير في انهيار الاقتصاد الليبي وتحوله الى اقتصاد رعوي، مع مايترتب على ذلك من نتائج اجتماعية وسياسية ربما تعرض وجود الدولة الجديدة للخطر) وقدمت الامم المتحدة مساعدات للدولة الجديدة وقامت منظمة اليونسكو ومنظمة الصحة بمساعدة محدودة واستطاعت المنظمة الدولية تقرير كيفية حصول ليبيا على الوسائل الادارية والاجتماعية والاقتصادية لصيانة استقلالها المزيف وتعهدت بريطانيا بتقديم مايسد العجز في المزانية للسنة المالية 52/ 1953 لولايتي طرابلس وبرقة، وكذلك فرنسا لفزان وكان التعليم من أهم حاجات البلاد وحاول (بلت) أن يقدم مافي وسعه من أجل النهوض المطلوب للدولة الجديدة.
_________
(1) تاريخ ليبيا، ص202، 203.(3/289)
وأعلن استقلال بلادنا في 24 ديسمبر سنة 1951م قبل اسبوع من الموعد النهائي الذي حددته الامم المتحدة وأصبح الدستور معداً للتنفيذ وتولت الحكومة المؤقتة البلاد وأصبح لها صلاحيات كاملة.
وكان أول رئيس للحكومة المؤقتة محمود المنتصر وفتحي الكيخيا نائباً له ووزيراً للعدل والمعارف وأصبح عمر شنيب مديراً للديوان الملكي وعين الملك ادريس حكام الولايات الثلاثة. وتقدم بطلب انضمام ليبيا للامم المتحدة واليونسكو وغيرها من المنظمات الدولية.
وأصبح المستر (بلت) صديقاً حميماً لليبيين الذين اقتنعوا بالاستقلال وسميت باسم ادريان بلت شارعان مطلان على البحر في كل من طرابلس وبنغازي، وكان حصول ليبيا على استقلالها تحت اشراف الامم المتحدة دعاية ممتازة للمنظمة الدولية وغاب في وقع الحياة في ليبيا دستورها الرباني المستمد من عقيدة الشعب ودينه (1).
اولاً: أعضاء اللجنة التحضيرية المختصة بالاعداد للجمعية الوطنية:
الشيخ محمد ابو الاسعاد العالم ... ابو الربيع الباروني
السيد سالم القاضي ... السيد ابراهيم بن شعبان
السيد سالم المريض ... السيد احمد عون سوف
السيد علي رجب ... السيد علي المخطوف
9. السيد طاهر الحريري ... 10. الحاج علي بدوي
11. السيد ابو القاسم بوقيعة ... 12. السيد احمد الطبولي
13. السيد محمد بن عثمان الصيد ... 14. السيد المهدي (قاضي غدامس)
15. السيد خليل القلال ... 16. السيد عمر فائق شنيب
17. السيد احمد عقيلة الكزة ... 18. الحاج عبد الكافي السمين
_________
(1) انظر: تاريخ ليبيا بتصرف وزيادة وحذف، ص206، 207، 208.(3/290)
19. السيد الطايع البيجو ... 20. السيد محمود بوهدمة
21. الحاج رشيد الكيخيا (1)
ثانياً: الجمعية الوطنية التأسيسية (لجنة الستين، كل من السادة):
عمر فائق شنيب
محمد السيفاط بوفروة
عبد الحميد دلاف
رافع بوغيطاس
احميده المحجوب
سالم الأطرش
خليل القلال
الطايع البيجو
احمد عقيلة الكزة
محمود بوهدمه
عبد الكافي السمين
سليمان الجربي
محمد بورحيم
عبد الجواد الفريطيس
المبروك الجيباني
الكيلاني لطيوش
طاهر العسبلي
عبد الله عبد الجليل سويكر
حسين جربوع
ابوبكر بوذان
احمد عون سوف
عبد العزيز الزقلعي
منير برشان
علي تامر
احمد السري
مختار المنتصر
سالم المريض
محمد المنصوري
محمد الهنقاوي
محمد بوالأسعاد العالم
علي الكالوش
عبد المجيد كعبار
_________
(1) انظر: مجلة الجبهة الوطنية لانقاذ ليبيا، جماد الآخرة 1412هـ، ديسمبر 1991م، السنة العاشرة، العدد 39.(3/291)
عبد الله بن معتوق
محمد الهمالي
ابراهيم بن شعبان
يحيى مسعود بن عيسى
ابوبكر بونعامة
محمود المنتصر
الطاهر القرمانلي
علي بن سليم
السنوسي حمادي
علي بدوي
الفيتوري بن محمد
الشريف علي بن محمد
طاهر القذافي بريدح
منصور بن محمد
المبروك بن علي
طاهر بن محمد
محمد بن عثمان الصيد (1)
محمد الامير
علي عبد الله القطروني
ابوالقاسم بوقيلة
احمد الطبولي
علي السعداوي
ابوبكر بن احمد
السيد سعد
الأزهر بن علي
عبد الهادي بن رمضان
علي المقطوف
السيد العكرمي (2)
ثالثاً: مبايعة الجمعية الوطنية التأسيسية للأمير محمد ادريس السنوسي ملكاً دستورياً للمملكة الليبية المتحدة عام 1950م:
بسم الله الرحمن الرحيم
{إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله، يد الله فوق أيديهم، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً}.
_________
(1) مجلة الانقاذ الوطني، العدد 39، جماد الاخر 1412هـ، ديسمبر 1991م، ص24،25.
(2) المصدر السابق نفسه، ص26.(3/292)
نحن ممثلي شعب ليبيا من برقة وطرابلس وفزان، المجتمعين في طرابلس الغرب من جمعية وطنية تأسيسية بإرادة الله، والمزودين بالصلاحيات الكاملة المعترف بصحتها واستيفائها الشكل القانوني، والعازمين على تأليف اتحاد بيننا وتكوين دولة اتحادية ديمقراطية مستقلة ذات سيادة، نظام الحكم فيها ملكي دستوري نستهل عملنا بحمد الله وشكره على ماقد منّ علينا من نعمة في تحرير بلادنا واستقلالها وإننا اعترافاً بإخلاص صاحب السمو محمد إدريس السنوسي أمير برقة المعظم وجهاده الطويل المثمر لخير ليبيا وشعبها، وتحقيقاً لرغبة الشعب العامة وإقراراً للبيعات الشرعية السابقة التي صدرت من ممثلي الشعب الشرعيين لسموه، وحرصاً على سعادة بلادنا واتحادها تحت تاج ملك نجد فيه المثل الأعلى للصفات التي يتطلبها هذا المنصب السامي.
فإننا، ننادي بسمو الأمير السيد محمد إدريس السنوسي أمير برقة العظيم ونبايعه ملكاً دستورياً للمملكة الليبية المتحدة، نرجو من جلالته أن يتفضل ويقبل ذلك.
وإننا قررنا انتقال الجمعية الوطنية التأسيسية بكامل هيئتها إلى بنغازي لرفع هذا القرار التاريخي لجلالة الملك المعظم، وتلقى قبول جلالته لهذه البيعة طرابلس الغرب، في يوم السبت 22 صفر الخير سنة 1370 هجرية الموافق 2 ديسمبر سنة 1950م (1).
رابعاً: خطاب الملك إدريس بإعلان استقلال ليبيا يوم 24 ديسمبر 1951م
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى شعبنا الكريم:
يسرنا أن نعلن للأمة الليبية الكريمة أنه نتيجة لجهادها وتنفيذاً لقرار هيئة الأمم المتحدة الصادر في 21 نوفمبر 1949م قد تحقق بعون الله استقلال بلادنا العزيزة وإنا لنبتهل إلى المولى بأخلص الشكر وأجمل الحمد على نعمائه ونوجه
_________
(1) انظر: الملك ادريس عاهل ليبيا حياته وعصره، ص155.(3/293)
إلى الأمة الليبية أخلص التهاني بمناسبة هذا الحادث التاريخي السعيد ونعلن رسمياً أن ليبيا منذ اليوم أصبحت دولة مستقلة ذات سيادة، ونتخذ لنفسنا من الآن فصاعداً لقب صاحب الجلالة ملك المملكة الليبية المتحدة، ونشعر أيضاً بأعظم الإغتباط لبداية العمل منذ الآن بدستور البلاد كما وضعته وأصدرته الجمعية الوطنية في 6 محرم سنة 1371هجرية الموافق 7 من أكتوبر 1951م وإنه لمن أعز أمانينا كما تعرفون أن تحيا البلاد حياة دستورية صحيحة، وسنمارس من اليوم سلطاتنا وفقاً لهذا الدستور. ونحن نعاهد الله في هذه الفترة الخطيرة التي تجتازها البلاد أن نبذل كل جهدنا حتى تحتل بلادنا العزيزة المكان اللائق بها بين الأمم الحرة. وعلينا جميعاً أن نحتفظ بما اكتسبناه بثمن غال وأن ننقله بكل حرص وأمانة إلى أجيالنا القادمة. وإننا في هذه الساعة المباركة نذكر أبطالنا ونستمطر شآبيب الرحمة والرضوان على أرواح شهدائنا الأبرار ونحييّ العلم المقدس رمز الجهاد والإتحاد وتراث الأجداد راجين أن يكون العهد خير وسلام للبلاد ونطلب من الله أن يعيننا على ذلك ويمنحنا التوفيق والسداد. إنه خير معين (1).
وإن من أهم المراجع التي تكلمت عن المملكة الليبية ومعركة الدستور والاستقلال هي:
1 - ليبيا في العصور الحديثة ... د. نيقولا زيادة
2 - ليبيا الحديثة ... د. مجيد خدوري ترجمة نيقولا زيادة
3 - السنوسية دين ودولة ... د. محمد فؤاد شكري
4 - صفحات من المذكرات السرية لعبد الرحمن عزام.
5 - ادريس السنوسي للأشهب.
_________
(1) انظر: الانقاذ العدد 39، جماد الاخر 1412هـ، ديسمبر 1991م.(3/294)
خامساً: قصيدة بمناسبة الاستقلال للشاعر الكبير أحمد رفيق المهدوي:
عيد عليه مهابة وجلال ... عيد وحسبك أنه استقلال
يوم عليه من السعادة بهجة ... وعليه من نور السرور جمال
يوم سعيد فيه نالت أمة ... ملكاً تمجد ذكره الأجيال
واستقبل التاريخ مظهر دولة ... فأهل برج السعود هلال
وبدا يسير إلى التكامل بدرها ... فتحققت بظهوره الآمال
وتحررت أعناقنا فتنفست ... أرواحنا وتبسم الإقبال
وتحطمت تلك القيود وكسرت ... تلك الكبول وفكت الأغلال
وإلى حياة حرة في عيدنا ... هذا تكلل بالنجاح نضال
أعظم بعيد السماء تهللت ... فرحاً به شهداؤنا الأبطال
وزها بتاج النصر شعب قاده ... ملك أغر كأنه الرئبال
يا أيها الشعب الكريم إلى العلا ... سر لايعوقك في المسير كلال
سر كالزمان مع الزمان ملائماً ... إن الزمان مسيرة استعجال
قد أصبح الطيار لايرضى به ... عصره لعلم الضوء فيه مجال
أضحى جناح العلم قاب القوس ... من قمر السماء ودونه أميال
فابنوا على العلم البناء وأسسوا ... بالعدل ملكاً لايليه زوال
قوموا بأمر الملك شورى بينكم ... إن التحكم والخلاف وبال
ومصائب الأوطان من أخرابها ... إن قام بين المفسدين جدال
وتخيروا النواب عنكم واحذروا ... من أن تقوم بأمركم جُهّال
الملك محتاج إلى تدبيره ... بعقول من عركتهم الأحوال
بالمخلصين وهم قليل فانظروا ... فيهم ولاتغرركم الأشكال
وإلى الشباب الحي خير تحية ... فهم الرجاء .. وفيهم الآمال
وعلى كواهلهم وفي أعناقهم ... عهد على أن يحفظوا مانالوا
ما بالقليل ولا الصغير فإنه ... فضل عظيم إنه استقلال
نصر عزيز جل مانحه له ... من روحنا التكبير والإجلال
عاش المليك وشعبه وبلاده ... في عز دستور زهاه كمال (1)
_________
(1) انظر: ادريس السنوسي للأشهب، ص203، 204، 205.(3/295)
المبحث الرابع
الملك ادريس رحمه الله وشيء من سيرته
أولاً: اهتمامه بالدين والعلم والأخلاق:
كان الملك محمد ادريس رحمه الله تعالى يرى أن الحياة السعيدة لا تقوم إلا على الدين والعلم والاخلاق ولنستمع إليه وهو يقول:
(إن سنن الاسلام السياسية تعتمد على دعائم متينة محكمة، فلو حفظت هذه السنن وسيست بها الحكومة الاسلامية لما أصاب دولة الاسلام ما أصابها. لاريب أن ضعف المسلمين يرجع الى اهمال هذا النظام وتركه، واذا ما أراد المسلمون أن ينالوا مجدهم فليرجعوا الى قواعد حكومتهم الاولى ولا يظنوا أن ذلك رجوعاً الى الوراء بل على العكس فهو التقدم والتكامل) (1).
وقال أيضاً: (إن بعث الروح الاسلامية أمر يحدث قوة لايستهان بها، ولا سبيل الى بعث هذه الروح إلا إذا فرقنا بين المدنيتين الحقيقية والصناعية وأخذنا الاولى باليمين والاخرى بالشمال وفتحنا باب الاجتهاد ورجعنا الى قواعد السياسة الاسلامية) (2).
وقال أيضاً: (فمن تخلق منا بغير الأخلاق الاسلامية نجده فاسد التربية منحطاً في مستواه الاخلاقي، معطل الاستعداد الفكري الحر؛ مشوش العقل والاعتقاد، مقلداً تقليداً أعمى) (3).
وقال أيضاً: (إذا ماأراد المسلمون أن يصلحوا مافسد من أحوالهم فليرجعوا الى روح الاسلام لأنه أكثر موافقة لرقي الامم وسعادة الحياة ومدنيتها ولن تتبدد هذه الغياهب المظلمة إلا بنور العلم؛ فالاسلام هو الدين الانساني الطبيعي المسالم لكل من أحب السلام) (4).
_________
(1) انظر: ادريس السنوسي، ص241.
(2) المصدر السابق نفسه، ص241.
(3) انظر: ادريس السنوسي، ص241.
(4) المصدر السابق نفسه، ص241.(3/296)
لقد كان الملك ادريس رحمه الله تعالى نصيراً للدين والعلم والاخلاق ولذلك قام بتوجيه شعبه منذ تحرير بلادنا من الاستعمار الايطالي الى التعليم والاكثار من المدارس، والاهتمام بالاطفال ولما تولى أمر المملكة الليبية وجه المسؤولين الى وجوب العناية بالتعليم وتعميمه واهتم بوزارة المعارف، وتبرع بقصر المنار لوزارة المعارف ليكون نواة للجامعة الليبية.
وفي عام 1954م من شهر نوفمبر أصدر الملك ادريس توجيهاته الى حكام الولايات الثلاث برقة، وطرابلس، وفزان لاتخاذ السبل الكفيلة بضرورة تدريس العلوم الدينية على الطلبة في جميع المدارس كمادة أولية مفروضة، وفرض الصلاة في أوقاتها (الخمس) على طلاب المدارس من بنين وبنات في كافة انحاء المملكة لإعداد هذا الجيل إعداداً اسلامياً رشيداً.
واهتم بتطوير معهد السيد محمد بن علي السنوسي حتى أصبح جامعة متميزة من حيث التعليم، والنظام والاستعداد، وكان يحث شعبه على الصلوات الخمس ويحذرهم من المعاصي والذنوب وقام بتوجيه رئيس الوزراء ورئيس الديوان والولاة الليبيين وحملهم مسؤولية تهاون موظفي الدولة في أداء الصلوات الخمس ومسؤولية شرب الخمر، وحملهم المسؤولية العظمى أمام الله ثم أمام الملك، وكانت حيثيات هذا التوجيه مدعمة بالأحاديث النبوية الشريفة، وكان الانذار الذي يحمله هذا التوجيه شديداً (1).
وكان يرى أن أركان النصر للشعوب في ثلاثة ركائز بالتمسك بالدين الكامل، والخلق الفاضل والاتحاد الشامل ولذلك قال: (أنصح العرب الاشقاء بالتمسك بالدين الكامل والخلق الفاضل، والاتحاد الشامل؛ فلن يغلب شعب يحرص على هذه الأركان) (2).
وقال: (الاتحاد العربي ضروري، والعصبية العربية مشروعة ومعقولة شريطة أن لاتتعارض مع الأخوة الاسلامية وأن لا تعتدي على حقوق الآخرين) (3).
_________
(1) انظر: ادريس السنوسي، ص243.
(2) المصدر السابق نفسه، ص246.
(3) المصدر السابق نفسه، ص246.(3/297)
وقال: (يجب على العرب والمسلمين أن يحرروا الفكر من قيود التقليد وأن يعتبروا الدين صديقاً للعلم) (1).
وقال أيضاً: (لقد نبغ في العرب رجال لو انهم تماسكوا وتضافروا لأوجدوا في البلاد العربية حركة فكرية) (2) وقال: (إن كل شيء يمكن نيله إذا ماانتصرت حرية الفكر فبدونها لايحصل أي تقدم ولا أي رقي ولا أي صلاح، لايمكننا الوقوف الى جانب القوى التقدمية إلا إذا عممنا التربية والتعليم كما ينبغي وبذلك ننشئ نشأً جديداً يكون أهلاً للنظر وللفكر والعمل) (3).
إن الاهتمام بالدين والعلم والأخلاق عند الملك ادريس رحمه الله نابع من عقيدة الاسلام، ومن فهمه لكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ويرى أن الحضارة الصحيحة هي التي تقوم على الدين والعلم والاخلاق وبهذه المقومات قامت الحركة السنوسية؛ فعندما سأله كاتب دنمراكي أجرى معه مقابلة صحفية اثناء وجوده بالمنفى عن موقفه اتجاه الاحتلال الايطالي لليبيا آنذاك، فجاء رده مؤكداً لنظرته للحياة الروحية باعتبارها أهم من الوجود المادي، إذ قال في معرض حديثه إن الحضارة التي يريد الايطاليون إدخالها الى بلادنا تجعل منا عبيداً للظروف، ولذا وجب علينا أن نحاربهم، فهي تبالغ في إضفاء الأهمية على قشرة الحياة الخارجية، كالتقدم الفني والآلي مثلاً -وتعتبر مظاهر الابهة والسلطان معياراً للحكم على قيمة الفرد أو الأمة في حين تستهين بالنمو الداخلي للانسان، وأستطيع أن اقول لك شيئاً واحداً وهو أنه حيث تسود الدعوة السنوسية يستتب السلام والرضا من كل جانب (4).
ثانياً: حبه للشعب وحب الشعب له:
عندما عينت الجمعية الوطنية التأسيسية الليبية حكومة مؤقتة في شهر ابريل عام 1951م برئاسة محمود المنتصر رأت الحكومة أهمية زيارة الملك ادريس لمنطقة
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص246.
(2) انظر: ادريس السنوسي، ص246.
(3) المصدر السابق نفسه، ص246.
(4) انظر: مجلة الانقاذ، 29 جمادى الآخر 1412هـ ديسمبر 1991، ص66.(3/298)
طرابلس تلبية لرغبة الشعب الطرابلسي لهذه الزيارة ولبى الملك تلك الرغبة وابتهجت المدن الليبية في الغرب بهذه الزيارة واستقبلته الوفود من الرجال، والنساء والشيوخ والشباب وعندما وصل موكبه الى طرابلس واخترق شارع عمر المختار كان بعض العملاء المندسين يتربصون بالملك الدوائر وقذف موكبه ببعض القنابل ولكن الله سلّم، وظهرت من الملك شجاعة نادرة، وثبات عجيب فلم يهتز من بدنه شعرة واحدة، وماكاد يذاع نبأ هذه المحاولة الفاشلة في ليبيا حتى اجتمعت جموع الشعب في أسرع من لمح البصر من شدة حبها لزعيمها وقائدها وشرعة تهنئ بعضها بسلامة قائدها وبهذه المناسبة قال احمد رفيق المهدوي:
وقاك الله من شر الاعادي ... ودام علاك ياأمل البلاد
وعشت لامة جعلتك رمزاً ... لوحدتها وروحاً للجهاد
حياتك بيننا لله نور ... أيطفئ نوره أهل الفساد
أتم الله نعمته علينا ... بحفظك واهتدائك للسداد
فدم ملكاً على عرش متين ... محاطاً بالمحبة والوداد (1)
وقد أجاب الملك ادريس عن هذه الحادثة فقال: إن هذه الحادثة لم تكن أبداً من ليبي ولن يقدم عليها أحد من أبناء ليبيا، وإنني أحمد الله جلت قدرته الذي وقى هذه البلاد شر المصائب الى أن قال: والضرر الذي يلحق بقضية البلاد أخطر من الضرر الذي يلحق بشخصنا أو بأي شخص آخر، وقال: إننا لسنا من أي حزب ولن نتحزب لحزب دون آخر، وإنما نحن للجميع ونسعى لخير الكل ولصالحهم، هذا هو مبدؤنا الذي فطرنا عليه وعملنا من أجله زهاء ثلاثين سنة، ونحن لانعتبر أنفسنا إلا فرد من أفراد هذا الشعب لايهمه غير مصلحة الشعب ومستقبل البلاد (2).
وقام بزيارة ترهونة والزاوية وغريان، ويفرن ومصراته وزليطن والخمس، وكان
_________
(1) انظر: ادريس السنوسي، ص191.
(2) المصدر السابق نفسه، ص192.(3/299)
يستقبل من الشعب بالحب والود والوفاء وقام الشعراء بنظم القصائد تعبيراً عن فرحتهم بهذه المناسبة فقد قال عبد الغني البشتُي:
اليوم يوم المجد والعلياء ... اليوم يوم العزة القعساء
اليوم يوم القطر من سلومه ... للبحر للسودان للخضراء
اليوم يومك ليبيا بل إنه ... يوم العروبة ساطع الأضواء
يوم قد انبعث له من يثرب ... الروضة الفيحياء باللألاء
يوم قد أمتدت له من (مكة) ... أنوار طه من بني الزهراء
يوم المليك ومرحباً بك يومه ... يوم أغر بليبيا الفيحاء
إدريس يانسل النبي محمد ... أهنأ بملكك في سنى وعلاء
ملك قد اختار الاله مليكه ... من أشرف الآباء والأبناء
تاج على هام القلوب منصب ... ولواؤه في الشرق خير لواء
إني أرى الأملاك في عليائهم ... يتباشرون بسيد البطحاء
يتباشرون بملكه في رفرف ... عال من الأضواء واللألاء
لم لا؟ وأنت سليل احمد من له ... ما يبتغيه المجد من علياء
الله اكبر عشت يافخر العلا ... للعرب، بل للشرق خير وفاء
تحمي حمى الاسلام ترفع صرحه ... وتعيد فيه بسيرة الخلفاء
مولاي شعبك روعت ألبابه ... يد أرعن يبغيك بالضراء
نفديك بالارواح إن شئت الغداة ... ونجود بالأموال والأبناء
مولاي: أبقاك الاله لليبيا ... دهراً سعيداً في أعز علاء (1)
لقد كانت اعمال الملك من اسباب محبة الليبيين له فقد اصدر اوامره بأن لا يعفى من الضريبة الجمركية كل ما يرد الى الديوان الملكي، وبأن لا يلقب بصاحب
_________
(1) انظر: ادريس السنوسي، ص192،193.(3/300)
الجلالة تقدساً بذات الله جل جلاله وقال: إن الجلالة لله وحده، وما انا الا عبد من عباد الله (1).
ويعتبر هذا الحدث سابقة تاريخية من أروع ما شهد في دنيا الملوك ولقد تأثر ريفلي رئيس جريدة بريد طرابلس التي كانت تصدر باللغة الايطالية لهذا الحدث وكتب مقالاً جاء فيه: إن الرغبة التي ابداها الملك ادريس ليست في حاجة الى تعليق، لأنه عندما تبوأ العرش كان تواضعه معروفاً، وسهره المتواصل وعطفه ورعايته لشعبه فإن دل هذا على شيء فإنما يدل على الديمقراطية التي تجلت في اسما معانيها، ولقد اتاح الحظ لليبيا - وهي لاتزال في بداية حياتها - أن تكون على رأسها شخصية صالحة مختارة تخاف الله العلي الاجل، وعندما قبل مهمته الصعبة الخطيرة بأن يقود شعبه الى ما كتبه له القدر من مصير، فإن ذلك كان استجابة لأمر ربه الذي يمده بنوره فيما يتخذ من قرارات وفي اعماله وقد تبين له ان لقب (الجلالة) هو لقب ضخم لا يتفق مع اساسه الديني الذي يرى ان المولى وحده صاحب الجلالة العظمى وهو وحده الخالد العلي الأعلى ... ولم يكن هذا التصرف بغريب على الملك محمد ادريس المهدي السنوسي الذي ينحدر من سلالة شريفة اراد الله تعالى أن يمكن في قلبها الايمان والثقة به، وفي عالمنا هذا الذي يسير سيراً حثيثاً نحو المادية فإن تصرفاً مثل هذا يتعدى أي احتمال ويدل دلالة قاطعة على أن أي مسبب حتى وإن كان ذلك المسبب سامياً يمكنه أن يكون وسيلة لإظهار تواضع منبثق عن عقيدة راسخة في عظمة الله) (2).
وقد حدثني السيد احمد العرفي عندما كنا معاً في السجن السياسي بطرابلس عن حادثة تدل على تعظيم الملك ادريس للمولى عز وجل وهي أنه كان هناك مسجداً جديداً في مدينة البيضاء وجاء الملك لافتتاحه ومع مجيئه ودخوله المسجد شرع الناس في الهتاف بحياة الملك ادريس، فغضب وأمر الناس بالصمت وقال لهم هذا المكان لا
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص232.
(2) انظر: ادريس السنوسي، ص232،233.(3/301)
ينبغي أن يذكر فيه غير اسم الله واستشهد بقول الله تعالى: {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحد} ولذلك أحبه شعبه وأحب شعبه المسلم كانت الارادات السامية تصدر من الملك لتجسد هذه المعاني الرفيعة من التواضع والبساطة والبعد عن المظاهر وتحاشي الشبهات، فقد اصدر إرادة سامية بأن لايطلق اسمه على الشوارع، والمؤسسات بقصد التمجيد والتخليد محتسباً عند الله ماعمله لصالح أمته وشعبه، وأصدر إرادة سامية بأن لا تنشر صور ذاته على العملة او على طوابع البريد ابتعاداً عن المظاهر الدنيوية الزائلة، واصدر إرادة سامية بأن لايتخذ من ذكرى ميلاده عيداً رسمياً وأن لاتقام الاحتفالات بهذه المناسبة، وذلك لأنه ليست مما جرى به العمل في السلف الصالح رضوان الله عليهم (1).
واصدر امراً بتعديل قانون البيت المالك، وألغى بموجب ذك الأمر حصانات وامتيازات الأسرة، كما ألغى ألقاب الامارة والنبل من أعضاء البيت السنوسي وأمر أيضاً بأن لايقبل أية هدية يرى الشعب فرادى او جماعات أن يقدمها له في اية مناسبة تتعلق بذاته او غيرها من المناسبات وبهذه المناسة صدر بلاغاً من الديوان الملكي يتعلق بأحد المواضيع التي نحن بصددها: (بالنظر لما أشيع من أن هناك هيئات حكومية وشعبية ستقوم بتقديم هدايا ثمينة الى حضرة مولانا الملك المعظم وذلك بمناسبة قرانه السعيد فقد أمر حفظه الله بأنه لن يقبل هذه الهدايا بدون استثناء، ويطلب من الذين يرغبون في تقديمها الى مقامه السامي أن يوزعوا المبالغ التي جمعت او خصصت لهذا الغرض على الفقراء والمعوزين والله يجزي أجر من أحسن عملا) (2).
كان الملك ادريس رحمه الله يقوم صباح كل يوم مبكراً لأداء صلاة الفجر في وقتها ويشرع في قراءة القرآن الكريم وأوراده اليومية ويتناول إفطاره حوالي الساعة التاسعة ثم يخرج الى مكتبه حوالي الساعة العاشرة فيستقبل موظفي الديوان
_________
(1) انظر: مجلة الانقاذ العدد 29، ص76.
(2) انظر: ادريس السنوسي، ص234.(3/302)
والخاصة الملكية لتصريف الاعمال اليومية ويستقبل زوراره من الضيوف ورجال الحكومة وأصحاب الحاجات من الحادية عشر الى الواحدة ثم يتناول طعام الغذاء بعد تأدية صلاة الظهر مباشرة، وكانت الجولة البرية من أحب الرياضات عنده وكان يستقبل بعض زواره قبل صلاة المغرب وبعد صلاة العشاء يتناول الشاي عادة مع موظفي القصر وضيوفه وينام عادة حوالي الحادية عشر مساءً.
وكان يحب المطالعة في مكتبته الخاصة ويعكف عليها طويلاً وأحب ماعنده قراءة القرآن، ودراسة كتب الحديث، ومطالعة كتب التاريخ العام، وكان يحرص في غالب الاحيان على استماع نشرات الاخبار من المذياع.
وكان لايهتم بالمظاهر في تحركاته وقد ذكر السيد عمر فائق شنيب قصة طريفة عندما كان رئيس الديوان الملكي. كان مولانا الملك يريد أن يتوجه من بنغازي الى البيضاء وحضرت سيارات الحرس ولما شاهدنا قبل التحرك قال لي: لا داعي لأن تكن معنا هذه السيارات ونكتفي بسيارة واحدة تحمل بعض الضروريات، وكان قد فاتني أن أصدر هذا الامر الى قائد الحرس وبينما نحن في الطريق لفت نظري الملك الى أمره السابق وقال: لماذا يكون معنا هذا الحرس فقلت له يامولاي إن هذا لم يكن حرس لكم ولكنه محروساً بكم (1).
كان الملك رحمه الله في يوم ربيع 1953م راجعاً من جولته التقليدية ورأى سيارة واقفة بسبب خلل فيها، وكان صاحبها الاستاذ محمد بن عامر، فأمر الملك سائق سيارته أن تقف حتى تلحق به سيارة الحرس وأمر هذه السيارة بأن تعود الى الاستاذ ابن عامر لتحمله حيث شاء (2).
وخرج الملك ادريس ذات مرة في جولته المسائية المعتادة ولم يصحب معه حرساً ودخل الى بعض المزارع في منطقة البيضاء، وعندما دخل الى احدى البساتين وجد صاحب البستان منهمكاً في سقايته فحياه بتحية الاسلام، وكان البستاني لا يعرف
_________
(1) انظر: ادريس السنوسي، ص237.
(2) المصدر السابق نفسه، ص237.(3/303)
الملك شخصياً ولم يخطر بباله أن الملك يصل الى ذلك الموقع بمفرده كأي شخص ترمي به الطريق، وبدأ الملك يسأل البستاني عن أنواع الشجر والمحصول وما الى ذلك، وكان صاحبنا يجيب عن كل سؤال في حين أنه منهمك في عمله، وعندما فرغ الملك من الأسئلة وأراد الانصراف سأله البستاني قائلاً: (من حضرتك من غيار صغاره) وهذا هو سؤال كل شخص في برقة لمن لايعرفه، فأجابه الملك بقوله: (أنا ادريس) ولشدة ماكانت دهشة الرجل عندما سمع الاجابة قفز مسرعاً وعانق الملك قائلاً: مرحباً، مرحباً، أنت سيدي ادريس ولد سيدي المهدي، مرحباً مرحباً، وأخذ يرد الترحاب والتساؤل في استغراب (1).
إن هذه الصفات الرائعة تدلنا على جوانب مضيئة في شخصية الملك ادريس الاسلامية وحبه لمعالي الأمور، واهتمامه بالتواضع والبساطة كما تدلنا على أنه تحصل على قسط من التربية الايمانية من حركة اجداده الميامين الطيبين الطاهرين.
ثالثاً: نصحه لزعماء العرب، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر:
كان كثير الاتصال بجميع إخوانه ملوك ورؤساء العرب والمسلمين مسترشداً مستعيناً او ناصحاً أميناً، وقد بذل جهوداً كبيرة ومساعي جليلة لدى كل من الملك عبد العزيز آل سعود والامام يحيى حميد الدين أثناء الظروف العصيبة التي مرت بالسعودية واليمن وكان بينهما سوء التفاهم ماكاد أن يكون ثغرة يتسرب منها التدخل الاجنبي، فكتب للمك عبد العزيز، والامام يحيى ناصحاً أميناً، وأظهر كل من الزعيمين تقديره لشعور ادريس السنوسي، وقد تبودل بينه وبينهما عدد من الرسائل في هذا الصدد وهذه صورة من رسالة ارسلها الى الملك عبد العزيز رحمه الله: قال بعد البسملة: (الى عين الملوك الكرماء وحامي حوزة الحنفية السمحاء صاحب الجلالة الملك عبد العزيز آل سعود أدام الله بدور سعوده، ولازال يعمر الأنام بعدله العمري وجوده وبعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، لقد بلغنا عن حكمة جلالتكم البالغة ماشرح صدر كل ودود، وكمد كل معاند حسود، وجعل كل
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص238.(3/304)
موحد يرقص لصنعكم طرباً، مفتخراً بجلالكم بين الملوك عجماً وعرباً فقد جاء حكم جلالتكم العادل في تلك القضية التي كانت بين حكومة جلالتكم وبين حكومة جلالة ملك اليمن كالصاعقة على رؤس الذي يصطادون في الماء العكر، وهم من بدت البغضاء من أفواههم وماتخفي صدورهم أكبر، فسقط بحمد الله في أيديهم ورد كيدهم في نحرهم، بعدما كانوا يعتقدون أن الدولتين واقعتان لامحالة في حرب، وكانت في نظرهم على قاب قوسين أو أقرب، ولكن الله سلم وكفى الله المؤمنين القتال، بما أوتيتموه من حكمة وروية فضربتم للناس خير مثال، وحمدنا الله كثيراً على أن الدسائس لاتجد
منفذاً لجانبكم الحصين، وذلك ليقظتكم وسهركم على مصالح الإسلام والمسلمين، فقد تداركتم الأمر بحكمتكم قبل الفوات، وحزتم بذلك من العالم العربي والإسلامي أصدق الدعوات، وإني أتقدم إليكم أيها الأخ الكريم بخالص شكري القلبي على عدم تفضيلكم المصلحة الخاصة دون المصلحة العامة مما جعل الألسنة تلهج بالدعاء لجلالتكم أبقاكم الله للإسلام ذخراً وعضداً، وللدين الحنيف ركناً وسنداً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الإمضاء (محمد إدريس السنوسي) (1)
ب- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
بذل الملك إدريس رحمه الله مافي وسعه في القضايا التي تتنامى إلى سمعه، فيغضب لله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وإن كانت هناك أمور لم يتدخل فيها لكونها خارجة عن إرادته وقدرته بحكم الوجود البريطاني والأمريكي.
وإليك أخي القارئ هذه الرسالة التي وجهها إلى الحكومة الاتحادية في 13 يوليو 1960م التي عممت على جميع الإدارات الحكومية، ثم نشرتها الصحف ووسائل الإعلام بسبب حصول ابن عمه عبد الله عابد السنوسي امتياز تنفيذ طريق فزان بكيفية مريبة، فأطلق الملك صرخته المدوية (لقد بلغ السيل الزبى).
_________
(1) انظر: ادريس السنوسي، ص227.(3/305)
وكانت الرسالة موجهة إلى رئيس الحكومة الاتحادية والوزراء والوكلاء، وكل مسؤل بها، وإلى والي طرابلس، ووالي برقة، ووالي فزان ونظارهن ومديريهن ومتصريفيهن، وكل مسؤول فيهن: إنه قد بلغ السيل الزبى، ومايصم الاذان من سوء سيرة المسؤولين في الدولة من أخذ الرشوة سراً وعلانية، والمحسوبية القاضيتين على كيان الدولة وحسن سمعتها في الداخل والخارج، مع تبذير أموالها سراً وعلانية، وقد قال الله تبارك وتعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون} (سورة البقرة، آية).
ولقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديثه الشريف: (لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم) وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديثه: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان).
وإنني بنعمة الله وقدرته سوف أغيره بيدي إن شاء الله ولن تأخذني في الله ولا في طهارة سمعة بلادي لومة لائم والسلام).
وبالرغم من إن التحقيقات التي أجريت قد أثبتت براءة ذمة حكومة كعبار من التهم التي علقت بها، إلا أن الملك رأى أن نزاهة الحكم لاتتحمل وجود مثل تلك الشبهات، فطلب من الحكومة تقديم استقالتها، فتقدمت بها وقبلها الملك في 16 أكتوبر 1960م (1).
رابعاً: أدب العبارة في خطاب الملك إدريس وسمو معانيها وتواضعها الجم والدعوة إلى الخير والتقوى:
تميزت خطابات ملك ليبيا السابق برصانة الأسلوب، ومتانة التعبير، وقوة الحجة، وحرص الراعي على الرعية، ونصحه لشعبه وكانت خطاباته عامرة بالدعوة إلى الخير والتقوى ومكارم الأخلاق وهذا خطاب ألقاه بمناسبة توحيد الحكم في المملكة وألغى الحكم الاتحادي في عام 1963م يوم 26 إبريل يؤكد ما ذهبت إليه:
_________
(1) انظر: مجلة الانقاذ العدد 39، ص69،70.(3/306)
مواطني الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
في هذه اللحظات التاريخية التي تمر بها أمتنا المجيدة، وفي هذه المرحلة التي يجتازها ركبنا الصاعد يسرني غاية السرور أن أعلن للشعب الليبي الكريم انتهاء العمل بشكل الحكم الإتحادي والبدء رسمياً في نظام الوحدة الشاملة الكاملة تطبيقاً للتعديل الدستوري الذي وافقت عليه المجالس النيابية والتشريعية بالإجماع وإنني لأحمد الله تعالى كثير الحمد وأتوجه إليه بالشكر العظيم والثناء الجميل على مامنّ به سبحانه وتعالى من نعمة حتى مشاهدة ولادة هذا الأمل الوطني الكبير ووفقنا جميعاً بتأييده وعونه إلى تحقيق هذه الأمنية الغالية.
إن الوحدة التي تبدأ اليوم عهدها الميمون هدف جديد من أهدافنا الوطنية التي جاهدنا من أجلها وضحى شعبنا في سبيلها، فهي ثمرة طيبة للجهاد ووفاء لأجر الصابرين، وهي بعد ذلك، خير وبركة ورمز لاجتماع الكلمة وتآلف القلوب ووعاء للمحبة والتآخي والوئام ومبدأ يتبوأ مكان السمو في عالم الأخلاق والفضيلة، وحبل الله المتين الذي أمرنا سبحانه وتعالى بالاعتصام بعروته الوثقى، قال تعالى وهو أصدق القائلين: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولاتفرقوا} وهو الدين القويم دين سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وقال تعالى: {ولاتفرقوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).
فالحمد لله الذي جمع على المحبة قلوبنا ووحد على الوفاق بلادنا وجعلنا من أمة التوحيد التي هي خير أمة أخرجت للناس.
وإني لأنتهز فرصة إعلان الوحدة المباركة السعيدة فأوصيكم جميعاً بتقوى الله تعالى ومراعاة وجهه في السر والعلن، وأحثكم على مضاعفة الجهد وبذل المزيد من العمل حتى نوفر لبلادنا الإزدهار والرخاء والرفاهية ونعيش جميعاً في ظل الوحدة أمة قوية في خلقها، عزيزة في شخصيتها، متينة في بنائها، نظيفة في سمعتها، إن(3/307)
الوحدة تلقي على كواهلنا مسؤوليات جساماً وتضع نصب أعيننا واجبات كثيرة فعلينا أن نكون بها ونحافظ عليها، كما نحافظ على استقلالنا ونحوطها بالرعاية والحدب، ونغذيها بمشاعر المحبة والوطنية حتى نستمر في طريق النمو والإكتمال، فالوحدة ليست غاية في ذاتها وإنما هي وسيلة إلى عمل الخير وطريق إلى آفاق الإصلاح والفلاح وواجبنا أن نأخذ منها القاعدة الصالحة للإنطلاق إلى الأهداف العليا، ومصباح النور الذي ينير مواقع خطواتنا في طريق العمل الدؤوب والسعي المجدي والتعاون المثمر المفيد، إن كل مواطن مسؤول على حماية الوحدة وتفرض هذه المسؤولية أن شعار الوحدة تحت لوائه الخفاق كل السواعد العاملة، والهمم المتوثبة، والكفاءات الخلاقة، ويشمل كل بقعة تستظل بسماء هذا الوطن العزيز ويستمتع كل مواطن بخيراتها العميمة، ويعيش في كنفها عيشة الطمأنينة والسعادة والاستقرار، أبلغ شكر لنعمة ضيافتها، وأسمى مراتب الحق أن يحب المرء لأخيه مايحب لنفسه، وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الاثم والعدوان. وفقنا الله جميعاً الى مايحبه ويرضاه، وألهمنا الرشد والصواب، وجعل وحدتنا فاتحة عهد سعيد يفيض خيره ويزيد نفعه وتعم بركاته، ونبدأ مرحلة تنشط فيها العزائم، وتقوى الارادات، فإنه تعالى أقرب مسؤول يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ومنه الهداية والتوفيق وإليه الملجأ والنصير (1).
إن هذا الخطاب مليء بأدب العبارة، وسمو المعاني، والتواضع الجمع والدعوة الى الخير والبر والتقوى.
خامساً: اهتمام الملك ادريس بالثورة الجزائرية:
كان السنوسيون منذ زمن المؤسس الأول للحركة الامام محمد بن علي السنوسي مهتمين بأمر الجهاد في الجزائر وواصل الملك ادريس جهوده المادية والمعنوية لدعم ثورة الجزائر التي اندلعت في 1/ 11/1954م وقد اثبتت الوثائق التاريخية جهوده العظيمة، وأعماله الجسيمة في هذا الباب، فقد ذكر السيد مصطفى احمد بن حليم
_________
(1) انظر: مجلة الانقاذ العدد 39، ص63.(3/308)
في كتابه صفحات مطوية من تاريخ ليبيا السياسي في الباب التاسع تحت عنوان ثورة الجزائر ودور ليبيا الخطير في مساندتها مايقيم الحجة والبرهان على صدق الملك ادريس لدعمه للثورة الجزائرية، فقد ذكر السيد مصطفى بن حليم عندما كان بالقاهرة أن الرئيس جمال عبد الناصر اتصل به ودعاه لاجتماع منفرد معه، وفاجأه قائلاً: أنه يود أن يتحدث معه عن الثورة الجزائرية التي اندلعت وشرح جمال عبد الناصر لمطصفى بن حليم أنه اتفق مع الملك سعود والأمير فيصل على أن تقوم المملكة العربية السعودية بتقديم كافة الأموال اللازمة لشراء السلاح والعتاد والإمدادات اللازمة للثورة الجزائرية وأن يقوم رجال الجيش المصري والمخابرات بشراء ذلك السلاح والعتاد وإيصاله الى الحدود الليبية وهو يأمل أن يشرف رئيس الحكومة (السيد مصطفى بن حليم) بنفسه بنقل ذلك السلاح والعتاد عبر ليبيا الى الحدود الجزائرية حيث يستلمه منه ممثلوا الثورة الجزائرية ثم قال جمال عبد الناصر لمصطفى بن حليم أولعلك ستخشى الفرنسيين وتخاف بطشهم؟).
فرد عليه مصطفى بن حليم رئيس وزراء ليبيا سابقاً وقال له: (ياريس لعلك لا تعرف أن جد الملك إدريس جاء الى ليبيا من الجزائر هارباً من الطغيان الفرنسي وأمضى حياته في نشر الدعوة الاسلامية وإيقاظ الأمة الاسلامية لتقاوم موجة الطغيان والتنصير الفرنسي، ووالد الملك ادريس ظل يقاوم تغلغل المد الفرنسي في تشاد والسودان والنيجر، حتى لقي وجه ربه والسيد احمد الشريف والملك ادريس أفنيا عمرهما في الجهاد ضد الطليان ... ) (1). ورد جمال عبد الناصر على هذه الاجابة المقنعة بقوله: (ألاتستوعب الدعابة؟ إنني أعرف كل هذا وأعرف أن الليبيين أبطال جهاد ولكنني رغبة أن أرى رد فعلك .. وتبين لي أنك مغربي حاد المزاج لاتتقبل الدعابة بروح مرحة) (2).
كانت القوات البريطانية المتواجدة في ليبيا والمنتشرة على طول البلاد من طبرق الى غرب طرابلس، والجواسيس الانكليز يسيطرون على مراكز حساسة، وموظفون من
_________
(1) انظر: صفحات مطوية من تاريخ ليبيا السياسي، ص351.
(2) انظر: صفحات مطوية من تاريخ ليبيا السياسي، ص351.(3/309)
الانكليز ايضاً في شرطة ولاية طرابلس، وفرنسا لاتزال تحتل جنوب ليبيا (فزان) ولسفاراتها في طرابلس وبنغازي جهاز مخابرات من الطراز الاول وله أعوان وعيون منتشرة في طول البلاد وعرضها، بين السيد بن حليم تلك الملابسات لجمال عبد الناصر الذي أجاب: (أنني على علم تام بأن ما أطلبه منك عمل ينطوي على خطورة كبيرة، ومغامرة خطيرة ... ) (1) ثم أضاف: (لولا أنني مطمئن لوطنية الملك ادريس ووطنيتك وحرصكما الشديد على تحرير الشمال الافريقي من نير الاستعمار الفرنسي البغيض لما طلبت منكم ماطلبت، وعلى أية حال فأنا رهن إشارتكم لأي عون أو نصح أو مساعدة في سبيل هدفنا النبيل لتخليص الجزائر من ربقة الاستعمار، بعد ذلك قام جمال عبد الناصر بتعريف مصطفى بن حليم بالسيد أحمد بن بلاّ (2).
كان قائد قوة دفاع برقة الفريق محمود بوقويطين لايثق في جمال عبد الناصر ويراه حريصاً على تفجير القلاقل وزعزعة النظام داخل ليبيا ولربما اتخذ من ستار مرور السلاح إلى الجزائر كوسيلة لتوزيع السلاح داخل ليبيا ضد المملكة وعُرِض الأمُر على الملك رحمه الله فقال: (من ناحية لايمكننا أن نرفض مساعدة ثوار الجزائر في جهادهم، هذا واجب ديني محتم علينا تلبيته ولايمكننا أن نتردد في القيام به .. ومن ناحية أخرى فإنني لا أريد أن أعرّض استقلال هذا الوطن الذي ضحينا في سبيله بكل عزيز وغال واستشهد في سبيله مئات الآلاف من الليبيين، ولا أود أن أقامر بهذا الاستقلال خصوصاً مع فرنسا التي خرجت عن طورها وترتكب كل يوم الكثير من الجرائم والحماقات في قمع كل حركة استقلالية في الشمال الإفريقي ... ومع توتر علاقتنا مع فرنسا بعد طلبنا إجلاء قواتها عن فزان فإنها ستلتمس أي عذر لترتكب معنا حماقة كبرى .. ) (3).
لقد وافق الملك إدريس على تمرير السلاح من مصر عبر الأراضي الليبية وقام بتوجيه وزير الوزراء والمسؤولين عن هذه الأمور باتخاذ الأسباب اللازمة للجمع بين
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص352.
(2) المصدر السابق نفسه، ص352.
(3) انظر: صفحات مطوية من تاريخ ليبيا السياسي، ص353.(3/310)
الأمرين مساعدة المجاهدين في الجزائر، وعدم تعريض استقلال البلاد لأي هزة من أي نوع كانت وقام مدير عام قوة دفاع برقة الفريق محمود بوقويطين باتخاذ إجراءات الرقابة التي ستصاحب قوافل السلاح عبر برقة، واتخذ رئيس الوزراء مجموعة خيرة من ضباط مدينة طرابلس يشرف عليهم المجاهد العقيد عبد الحميد بيّ درنه للإشراف على هذه المهمة الخطيرة وباشر الليبيون مع إخوانهم الجزائريين تنفيذ ما اتفقوا عليه وتسرب السلاح من ليبيا إلى الجزائر تدريجياً واستمر هذا الحال في سرّية وكفاءة تامتين لمدة سنة تقريباً وكان الملك رحمه الله يبارك تلك الأعمال الجبارة (1).
ويحدثنا السيد مصطفى بن حليم عن قصة طريفة حدثت له مع السفير الفرنسي في ليبيا حيث قال: أذكر هنا قصة طريفة حدثت في منتصف سنة 1955م، فقد كنا في أوائل الصيف وأذكر كان يوم خميس وكنت على موعد مع الأخ أحمد بن بلاّ (من زعماء ثورة الجزائر) وبعض مساعديه، دعوتهم للغداء ثم التباحث بعد ذلك في أمور السلاح والعتاد والثورة ... وأثناء النهار اتصلت بي وزارة الخارجية الليبية تقول أن السفير الفرنسي يلح في طلب مقابلتي حاملاً رسالة من إدجار فور رئيس الحكومة الفرنسية، وبدون تفكير قلت ليحضر السفير الساعة الخامسة إلى المنزل (منزل رئيس الحكومة) ناسياً موعدي السابق مع بن بلاّ وجماعته، ورجعت إلى مسكني عند الثالثة وتناولت الغداء مع الأخ أحمد وجماعته والعقيد بيّ درنه ومساعديه ثم بدأنا مناقشة طويلة لاختيار أحسن المواقع التي تخزن فيها شحنات السلاح القادمة، وأثناء انهماكنا في هذه المناقشة الدقيقة دخل كبير المباشرين، (وبرغم أوامري بعدم دخول أحد علينا في ذلك الاجتماع)، واستأذن وأسرّ في أذني أن السفير الفرنسي وصل وأدخله في الصالون المجاور!! وارتبكت ثم قلت للأخ أحمد بن بلاّ أستأذنكم لبضع دقائق فقد حان موعد كنت نسيته مع السفير الفرنسي! وأضفت لعله لم يسمع مناقشتنا .. ! وذهبت لاستقبال (مسيو دي مارساي) الذي كان يحمل لي رسالة عاجلة من رئيس وزراء فرنسا يرجو المساعدة في القبض على طريق العدالة الفرنسية
_________
(1) انظر: صفحات مطوية من تاريخ ليبيا السياسي، ص354،355،356.(3/311)
المدعو (بن بلاّ) وتمكنت بصعوبة كبيرة من السيطرة على عضلات وجهي وكتم ضحكة ساخرة ...
وقلت للسفير أرجو أن تحضروا لنا صوراً للمجرم (بن بلاّ) صور مواجهة وصور جانبية ووصف دقيق للرجل وتقدموا هذه المعلومات للسير يجادير جايلز بك في طرابلس وللفريق بوقويطين في برقة، وسأصدر تعليماتي لهما بمساعدتكم بكافة الوسائل، وودعت السفير ثم أستأنفت الاجتماع فسألني الأخ أحمد عن سبب زيارة السفير قلت أراد المساعدة في القبض عليك! قال وماذا قلت له؟ قلت وعدته بالمساعدة بعدما يقدم لي تفاصيل كافية تمكن رجال الشرطة من القبض عليك وضحكنا كثيراً .. ) (1).
لقد تدهورت العلاقات بين ليبيا وفرنسا بعدما تأكد للحكومة الفرنسية أن ليبيا تقف وراء حركة الجهاد في الجزائر مؤيدة لها قولاً وفعلاً، وتسربت الأخبار عن الدور السري الخطير الذي كانت تقوم به ليبيا بزعامة ملكها في مساندة الشعب الجزائري ومده بالسلاح والعتاد بالإضافة إلى التأييد السياسي، والمعنوي أثر اعتراض الطيران الفرنسي للطائرة التي كانت تحمل احمد بن بلا ورفاقه وهم في طريقهم من الرباط الى تونس، وإرغمت الطائرة على الهبوط في مطار الجزائر وتم اعتقالهم هناك (2).
لقد استشاط غضباً نواب اليمين في البرلمان الفرنسي ووصلت حملتهم على دور ليبيا في نصرة حركة الجهاد في الجزائر حد الهستريا، الأمر الذي جعل الحكومة الفرنسية تحاول التملص من تعهداتها بالجلاء عن الجنوب الليبي في فترة اقصاها نوفمبر سنة 1956م وقامت فرنسا بأرسال السفير (بالائي) الى الحكومة الليبية وأبلغها بأن الحكومة الفرنسية لاتستطيع أن تنفذ جلاء قواتها عن فزان بعد ماتبين لها مواقف الحكومة الليبية المعادية لفرنسا، وكان رد رئيس الوزراء الليبي بأن حكومته سوف ترفع القضية الى مجلس الأمن وطلبت من الرئيس أيزنهاور الامريكي لكي يتدخل وينصح حلفاءه الفرنسيين باحترام ميثاقهم مع ليبيا (3).
_________
(1) انظر: صفحات مطوية من تاريخ ليبيا السياسي، ص357،358.
(2) المصدر السابق نفسه، ص359.
(3) انظر: صفحات مطوية من تاريخ ليبيا السياسي، ص360.(3/312)
لقد وقف الملك وحكومته وشعبه مع القضية الجزائرية، وكانت الحكومة الليبية شديدة الحرص على الادعاء بأنها تقف موقفاً محايداً تماماً، فبينما تعطف على آمال الشعب الجزائري في الحرية والاستقلال إلا أنها لا تساعد على أعمال العنف! ولذلك فهي تدعو فرنسا وثوار الجزائر الى الجلوس الى طاولة المفاوضات للوصول الى حل سلمي! كان كل هذا ستار دبلوماسي لأن مساعدات ليبيا للجزائر زادت نوعاً ومقداراً بل سمح للمؤسسات الشعبية في أنحاء ليبيا بتكوين جمعيات شعبية لنصرة الشعب الجزائري وجمع التبرعات، وإرسال برقيات التأييد للثورة الجزائرية، وبرقيات الشجب للحكومة الفرنسية، وكانت الحكومة الليبية برئاسة بن حليم تدعي أن لا دخل لها بالأعمال الشعبية العفوية، وأن خير سبيل أمام فرنسا هو الاستجابة لنصائحها باتباع الطرق السلمية مع الثورة الجزائرية وإيقاف القمع والقتل والتشريد التي تقوم بها القوات الفرنسية في الجزائر (1).
كان رئيس الحكومة الليبية مصطفى بن حليم متعاطفاً مع القضية الجزائرية ووجد دعماً معنوياً من الملك نفسه، فمضى في طريقه بثقة واطمئنان حتى أنه لما زار عدنان مندريس رئيس وزراء تركيا ليبيا في عام 1957م في شهر فبراير اختلى بن حليم بعدنان مندريس وبدأ بحديثه عن دور الاتراك العظيم في نشر الاسلام وزعامتهم للامة الاسلامية عبر قرون عديدة من التاريخ الاسلامي المجيد، وشدد على روابط الدين التي تربط الاتراك ببقية الأمة الاسلامية، وعلى أن لتركيا دورها الاسلامي العظيم بالرغم من دعاوي العلمانية، ثم عرّج بحديثه عن شمال أفريقيا وشرح لمندريس مدى الظلم والقتل والتشريد الذي يعاني منه شعب الجزائر المجاهد ومحاولات فرنسا قمع ثورته الاسلامية وتنصيره وفرنسته، ثم دخل في صلب الموضوع وقال لعدنان بك: (أنني آمل أملاً قوياً أن تمد تركيا الشقيقة المسلمة الكبرى يد المساعدة لشعب الجزائر المجاهد في محنته الراهنة).
قال عدنان مندريس أنه كمسلم يعطف بكل جوارحه على الشعوب الاسلامية
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص358،359.(3/313)
جميعاً وبنوع خاص على شعوب الشمال الافريقي وهو على إدراك تام بما يعانيه الشعب الجزائري في حربه الاستقلالية، ثم قال ولقد بذلت تركيا الكثير من المساعي السرية الحميدة لدى حكومة باريس موصية وناصحة بأن مشكلة الجزائر لا تحل بالقوة والقمع بل بحلول سياسية وتفاوض مع ممثلي سكان الجزائر، وأضاف أنه على استعدد لمضاعفة هذه المساعي بل وتوسيعها بحيث تشمل ضغطاً ودياً لدى دول حلف الاطلنطي الاخرى مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وإيطاليا، وقام السيد مصطفى بن حليم يشكر عدنان مندريس على مساعيه الدبلوماسية الطيبة وحثه على المواصلة وقال له: (أن مساعدة شعب الجزائر تتطلب أكثر من المساعي الحميدة فهي تتطلب عوناً مادياً، مالاً وسلاحاً ونظر عدنان مندريس الى مصطفى بن حليم وظهر على وجهه الاضطراب واختفت الابتسامة التي كانت تلازمه كثيراً ثم قال للسيد مصطفى بن حليم: يا أخي العزيز أنت تعرف أن تركيا عضو هام في حلف الاطلسي فكيف ترى أن تقدم لثوار الجزائر سلاحاً من سلاح الحلف (الاطلسي) لكي يحاربوا به عضواً هاماً آخر من ذات الحلف أعني فرنسا؟ فقال مصطفى بن حليم: أنا أعرف أن تركيا من أقوى الدول الاسلامية وهي التي كانت تتولى القيادة والريادة للأمة الاسلامية لقرون عديدة، فكيف ترى أنت يا أخي العزيز ألا تمد تركيا العون المادي للجزائريين المسلمين الذين تقتلهم قوات فرنسا وتشردهم او تعذبهم أنكل التعذيب؟ ومالهم من ذنب إلا أنهم يسعون لنيل حريتهم واستقلالهم؟
كرر مندريس مخاوفه الشديدة من عواقب اكتشاف اية شبهة بأن تركيا تمد الثورة الجزائرية بأي عون مادي .. وكرر عدة مرات بان هذا سيسبب طرد تركيا من حلف الاطلسي وهو الركيزة الرئيسية التي يرتكز عليها دفاع تركيا في مواجهة الخطر الروسي العظيم، وكان بن حليم يشعر بأن مخاوف عدنان مندريس حقيقية فهدأ من روعه وقال له أن الثورة الجزائرية في أشد الحاجة الى أنواع كثيرة من الأسلحة الحديثة وهذه الاسلحة متوفرة لديكم، فاذا أعطيتكم كشفاً مفصلاً بهذه الاسلحة وأهديتموها أنتم الى شقيقتكم ليبيا فليس في هذا مايثير أي شك او ريب لدى فرنسا وقال مصطفى لعدنان بأن الليبيين سوف يقومون بتسريب السلاح(3/314)
إلى الإخوان الجزائريين تدريجياً وواعده بأن لايعلم هذا السر إلا القيادة الجزائرية العليا، بل عدد قليل من أفراد تلك القيادة العليا وواصل بن حليم حديثه مع ضيفه رئيس وزراء تركيا عدنان مندريس واستعرض له ماضي تركيا الإسلامي وتاريخها في الذود عن الإسلام، وإعلاء كلمته ومزج السياسة بالعاطفة الدينية، إلى أن قال عدنان مندريس: سنقدم لكم هدية السلاح، وأرجو الله أن يوفقكم في إيصالها لأولئك الذين يحتاجونها في الدفاع عن دينهم، أما نحن في تركيا فإننا نقدم الهدية لجيش ليبيا الشقيقة فقط، وشدد على المحافظة على السرية المطلقة، وبعد أسابيع قليلة وصلت هدية السلاح التركي واستلمها الجيش الليبي في احتفال عسكري ثم بدأ تسريبها تدريجياً إلى مجاهدي الجزائر (1).
كان الملك إدريس رحمه الله بعيد النظر، فبعد أن استقال السيد مصطفى بن حليم من الحكومة في آخر مايو عام 1957م عينه مستشاراً خاصاً له بمرتب رئيس وزراء وأصر على بقاء بن حليم في خدمة الدولة وشرح الملك لرئيس وزراءه السابق أنه سيحتاج إليه قريباً ثم عرض عليه أن يرسله سفيراً لليبيا في باريس، لأن علاقته الممتازة مع رجال الثورة الجزائرية ولأن الحكومة الفرنسية قد وصلت لقناعة بأن قضية الجزائر لاتُحل عسكرياً وإنما بالمفاوضة مع سكان الجزائر وعندما ردّ بن حليم على الملك بقوله أن الحكومة الفرنسية أصبحت على علم تام بالدور الذي قام به في مساعدة الثورة الجزائرية وتهريب السلاح والعتاد لها، وأن الثقة منعدمة بينهم وبينه، رد الملك بأن هذا هو خير مؤهل يجعل الحكومة الفرنسية تستعمل مساعيك كقناة للوساطة مع الثورة الجزائرية لتأكدها من أن زعماء الجزائر سيتقبلون نصحك قبولاً حسناً ويثقون بما تنقل لهم من اقتراحات وأضاف الملك: (عليك أن تكمل رسالتك نحو الثورة الجزائرية) (2) لقد كانت مهمة سفير ليبيا في فرنسا البحث مع الحكومة الفرنسية عن سبل سلمية لإعطاء شعب الجزائر حق تقرير مصيره،
_________
(1) انظر: صفحات مطوية من تاريخ ليبيا السياسي، ص 361،362،363.
(2) انظر: صفحات مطوية من تاريخ ليبيا السياسي، ص364.(3/315)
وتشجيع الحكومة الفرنسية على انتهاج سياسة التفاهم والتفاوض مع جبهة تحرير الجزائر والإقلاع عن سياسة القمع والعنف والتشريد ضد الشعب الجزائري (1).
وبدأ السفير مصطفى بن حليم بتنفيذ دوره الذي رسمه له الملك، وقام الملك إدريس بطلب رسمي من الجنرال ديجول الذي أصبح رئيساً للجمهورية بأن يطلق سراح أحمد بن بلاّ ورفاقه من السجن أو على الأقل أن يخفف وطأة السجن إلى اقامة جبرية أو شيء من هذا القبيل وأجاب الجنرال ديجول على طلب الملك إدريس بواسطة سفير ليبيا بفرنسا مصطفى بن حليم الذي حمله ديجول رسالة إلى الملك إدريس بأن مسعاه لن يذهب سدى، وبعد أيام نُقل أحمد بن بلاّ ورفاقه إلى فيلا في ضاحية (شانتييي) بجوار باريس (2).
وفي يناير عام 1961م، زار ليبيا الكونت دوباري، موفداً من طرف الجنرال ديغول رئيس الجمهورية آنذاك، واستقبله محمد عثمان الصيد بصفته رئيساً للحكومة في طرابلس وكان الكونت دوباري يحمل رسالة خطية من ديغول للملك إدريس السنوسي، وأبلغ المبعوث الفرنسي السيد محمد الصيد رئيس الوزراء أن الجنرال ديجول يريد إبلاغ الملك إدريس عبر هذه الرسالة، أن فرنسا ستعمل قريباً على إيجاد حل لقضية الجزائر يضمن مصلحة الجزائريين ويلبي المطامح العربية، لكنه يرجو من القادة العرب خاصة أولئك الذين تعرف عليهم إبان الحرب العالمية الثانية، ومنهم الملك إدريس تفهم ظروف فرنسا الداخلية، ومساعدته حتى يمكن اخراج هذا الحل إلى حيز الوجود، وبالفعل لم تمضي أربعة أشهر حتى بدأت مفاوضات الاستقلال بين فرنسا والجزائر في 20 مايو 1961م في ايفيان.
عقب إطلاق سراح أحمد بن بله ورفاقه الأربعة، وكان يطلق عليهم (الزعماء الخمسة) من السجون الفرنسية، قام هؤلاء الزعماء بزيارة إلى ليبيا واحتفى بهم الليبيون حكومة وشعباً احتفاءً كبيراً، واستقبلهم الملك إدريس السنوسي، وحثهم على التضامن ونكران الذات وذكرهم بالحديث الشريف الذي يقول فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص366.
(2) المصدر السابق نفسه، ص374،375.(3/316)
(رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر) وطلب منهم الإهتداء بهذا الحديث ودعاهم إلى نبذ جميع أشكال الخلاف والشقاق والأنانية التي تضر إن وجدت بالجزائر واستقلالها.
كانت الحكومات الليبية المتعاقبة بعد حكومة بن حليم تدعم ثورة الجزائر وكان من وراء ذلك التأييد غير المنقطع الملك إدريس بتوجيهاته المستمرة، وكان يكن في أعماقه عطفاً خاصاً على ثورة الجزائر الإسلامية.
إن المملكة الليبية بحكومتها وشعبها ساعدت ثوار الجزائر في معركتهم المقدسة ضد فرنسا وقاموا بمد الثورة بالسلاح والذخائر والمساعدات وقد حدثني السيد محمد القاضي عبد الكبير الذي كان معي في المعتقل السياسي بطرابلس عام 1983م وكان حاكماً لمنطقة فزان زمن المملكة فقد أخبرني عن اشراف الحكومة على مخازن الأسلحة وتوصيلها للمجاهدين في الجزائر وقد توفي رحمه الله بعد خروجه من السجن وقد قضى في سجون ليبيا من عام 1969م إلى سنة 1988م وكان رجلاً عجيباً في دينه وصفاء فطرته، حفظ القرآن الكريم بعد الخامسة والأربعين من عمره، وكان يتحدث الانجليزية والفرنسية والإيطالية وكان شعلة من النشاط والاجتهاد والتعليم وقد جاوز الستين من عمره، وكان يحافظ على صيام السنن، والنوافل، والقيام والرياضة البدنية، وكان يقول لي أن أمله في الله أن يغفر له ذنوبه وأن يكون سجنه تكفير للذنوب والخطايا، وأن السجن وقفة مع الذات وفرصة لمحاسبة النفس لاتعوض أبداً وإن الذي أكرمني الله به في السجن لولا أن الله منّ علي به ما تحصلت عليه أبداً وماوصلت إليه لقد كان فريداً في سنه، وفريداً في نشاطه، فرحمة الله عليه.
إن جميع الساسة والقادة العسكريين زمن المملكة الليبية والذين كانت لهم علاقة مباشرة بمد الثورة في الجزائر يشهدون أن الملك رحمه الله كان مسانداً لحركة الثورة، وحريصاً على نجاحها، ولم يقصر معها لامادياً، ولامعنوياً.(3/317)
المبحث الخامس
نظرة في كتاب الملك إدريس رحمه الله في اتحاد العرب وائتلاف الموحدين وبعض المقابلات الصحفية
هذا الكتاب ذكره المؤرخ الليبي محمد الطيب الأشهب رحمه الله تعالى ونقل لنا منه نقولاً مهمة ولاندري أين الكتاب الآن، كان هذا الكتاب قد وضعه إدريس السنوسي بقلمه كرسالة شاملة في عام 1929م شكلت بحثاً سياسياً علمياً عاماً، تناول فيه الموقف الإسلامي العربي والدولي من جميع الوجوه على حقيقته، فجاء بحثاً متميزاً مدعوماً بالحجج العقلية، والبراهين المنطقية، والأدلة التاريخية وتحدث فيه عن العوائق، والمشاكل التي تواجه تقدم العالمين (الإسلامي والعربي) والأسباب التي أخرت المسلمين والعرب، والوسائل التي يجب اتخاذها لتمكين العرب من تحقيق وحدتهم التي يراها ضرورية، وتحدث عن الخلافة الإسلامية ومالها وماعليها، وعن سبب انهيارها، وتكلم عن المشاكل الدولية وعن الإستعمار وأهدافه، وعن المدنية الإسلامية والحضارة العربية، وعن دولة الإسلام وماتلاها من دول وحكومات عربية، وتحدث عن الأخطاء التي ارتكبت في مختلف عصور التاريخ الإسلامي والعربي، ثم انتقل من هذه المواضيع العامة إلى موضوع الوحدة العربية وما يقاسونه (1).
أولاً: حديثه عن الوحدة العربية وحالة العرب:
قال رحمه الله: كل إنسان يعرف أن جزيرة العرب كانت قبل البعثة النبوية مضطربة بفعل الجهالة والفوضى والشقاق إلى أن قال: وكان لابد من إصلاح أساس النظام، وعلى هذه الحاجة ظهر الإسلام.
وقال في موضع آخر من بحثه: صار العرب بعد زوال الحكومات العربية تابعين لكل متبوع ولم يعنوا برفعة أمتهم، ولم ينتهوا من رقدتهم وبالأخص منهم من كانت دياره محتلة بالحكومات غير العربية لقد فسدت أخلاقهم وسجاياهم تحت
_________
(1) انظر: ادريس السنوسي، ص218.(3/318)
سيطرة الدول المختلفة، وظلوا ناسين عظمتهم ومدنيتهم وقد تعودوا طأطأة الرؤوس للذل، ومن الطبيعي أن لاتحتفظ أمة ببأسها وسجاياها، وخصالها في سلطان حكومة مستبدة، وهكذا شرع العرب يتغيرون ويفسدون على أن العرب لن ينسوا جنيستهم وقتاً ما، وليس فيهم من خرج عن عروبته.
إن عربة العرب الماضية لتؤثر تأثيرها النفسي الآن، وإن التاريخ يعيد نفسه، وإن العربية مثل الإسلام صبغة لاتزول واستطرد إدريس السنوسي في بحثه إلى أن قال: فإذا نال العرب استقلالهم أو استقلت كل مقاطعة عربية إدارياً، واتحدت مع بقية أخواتها فإنهن يقمن امبراطورية عظيمة وحكومة متحدة على نسق واحد.
واستطرد في حديثه عن العرب إلى أن قال: إنهم محتاجون إلى تربية أخلاقية، وتنمية عقولهم المنهوكة منذ مدة من الزمن حتى يستردوا شملهم العربي وأخلاقهم العالية، وفي الحقيقة أن جملة البلاد العربية أصبحت في سبات عما يراد بها من الممالك الأخرى ولن تستيقظ إلا على أصوات مدافع المستعمرين، ورب أمة لاتعرف نفسها حتى تصاب بمظالم الأجانب (1).
ثانياً: الأخوة الإسلامية والعروبة:
قال: حقاً إن الإسلام يمنع تغلب الجنسية ولكن لا يأبى تكامل الأمم إذا لم يضر بسائر البلاد الإسلامية، ولم يضيع الأخوة الدينية والذي يمكنه الرقي في هذا العصر هو الذي يفهم الإحساس القومي، ولايمكن الرقي بغير هذا لأن الارتقاء رهين باتحاد الجماعات وتعاونها، والكمال لايكون إلا بالأمة كلها، وما كان لرقي الأفراد إلى الآن فائدة كبيرة في الأمة، ولهذه الأمنية يربي السياسيون الأمم، والاتحاد القومي موجود بنفسه، ويكفي فيه أن يكون الإنسان عربياً، فإن الفرد من هذه الأمة العربية يدرك بفطرته وبفكره الأول أنه ابن هذه الأمة التي زلزلت الأرض حيناً من الزمن، وحق له أن يفهم ذلك، وهذا العصر هو عصر القوميات فلا تستطيع الأمة العربية أن
_________
(1) انظر: ادريس السنوسي، ص218.(3/319)
تقف بعيداً عن هذا التيار، والعرب هم أساس الإسلام ومنشأه فإذا ماتماسكوا وتكاتفوا وشدوا أزرهم ينهض الإسلام بلا ريب، ولاخوف على المسلمين من تفرق الكلمة إذا ماعرب الجزيرة نهضوا، ومن أجل هذا نرى أن العصبية العربية معقولة ومشروعة، بل وضرورية، على شرط أن لا تتعارض مع الأخوة الإسلامية، وأن لاتتعدى على الآخرين وبهذه الوسيلة تقوى الأمة العربية ويقوى الإسلام معها (1).
ثالثاً: الحجاز هو قطب رحى الجزيرة العربية:
قال الملك إدريس رحمه الله: لاريب أن الحجاز هو قطب رحى الجزيرة العربية، ومنه منشأ الرجال الذين نشروا في العالم أسمى مبادئ الحرية وعلموا الناس أجمل معاني العدل، والتسامح، والعلم، والقابض الآن على أزمة أموره هو جلالة الملك عبد العزيز آل سعود، وفي بلاد اليمن جلالة الإمام يحيى بن حميد الدين، وهذان الملكان المستقلان المسيطران على صميم أحفاد عدنان وقحطان لاريب في أنهما يشعران بثقل المسؤولية أمام الله وأمام أهل الجزيرة وعموم المسلمين، وهما الآن أمام صحيفة يسطر لهما التاريخ فيها من جديد كما سطر لغيرهما في الماضي، ولايعزب عن ذكائهما كيف يجب أن تدار دفة الأمور لإعادة مجد العرب والإسلام، وتعريف الأمم ماتجهله من مدنيتهم وآدابهم وحضارتهم، وليس هناك مايقرب بين الشعوب ويعرف بعضها بالبعض الآخر غير الأعمال المجيدة النافعة والآخذة بأسباب الإصلاح من كل وجوهه المعلومة في هذا العصر، عصر المعارف والفنون، فعليهما أن يعرفا كيف يقودان صميم الأمة العربية من أحفاد عدنان وقحطان في القرن العشرين، إنهما يريدان أن يقفا بالأمة العربية في مستوى واحد مع الأمم التي سبقتهم الآن بمراحل، فعليهما إذن أن يستعدا للكفاح في معترك هذه الحياة، وعليهما أن يخلقا في أرض الجزيرة حيث لا امتيازات ولا عوائق مدنية جديدة وشعباً قادراً على السير وحده، ولم يكن هذا بالشيء العسير لأن الفرصة سانحة للعمل (2).
_________
(1) انظر: ادريس السنوسي، ص218.
(2) انظر: ادريس السنوسي، ص219.(3/320)
رابعاً: العمل الإصلاحي على وجهين: ديني ومادي:
وقال أيضاً: والعمل الإصلاحي على وجهين: ديني ومادي، أما الديني فهو تحرير الفكر من قيد التقليد، واعتبار الدين صديقاً للعلم وحاكماً عليه وفهم الدين على طريقة السلف الصالح، ووضع ترتيبات ونظام للحج يكفل راحة الحجاج ورفاهيتهم وأمنهم وأما المادي فهو: الاتحاد وتحسين المواصلات في البلاد العربية، ومد السكك الحديدية، وخطوط التلغراف، والتليفون وتعميمها، وتعبيد الطرقات لسير السيارات فبذلك ترتبط الممالك ارتباطاً منظماً، ثم وضع برامج واسعة وثابتة لنشر المعارف في عموم أنحاء المملكة بتعميم المدارس الدينية والثقافية، وتأسيس جماعة عربية بمكة لتعمل على ترقية الأمة العربية فنياً وأدبياً ولتنظيم الوحدة ومتجه السير وحرية الرأي، ثم المداومة على عقد المؤتمر الإسلامي في كل سنة أوان الحج وتنظيم طرق الدعاية إليه ونشرها في عموم الأقطار الإسلامية والعربية (1).
خامساً: الزعيم الأساسي هو الذي يؤسس حكومة راسخة البنيان:
وقال: إن الزعيم الأساسي هو الذي يؤسس حكومة راسخة البنيان لاتزول بزوال الأفراد والأسر، وهو صاحب النظريات السامية التي تؤثر في حياة الأجيال مع المحافظة على دوام السلام بقدر المستطاع ومراعاة الظروف الواقعية حتى لايعتري بنيانه الخلل وهو لايزال وليداً (2).
سادساً: أيها العرب اتحدوا وكونوا كالبنيان المرصوص:
وقال أيضاً: أيها العرب اتحدوا وكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، فإن الواجب المقدس يدعوكم أن توحدوا صفوفكم وأن تجاهدوا جميعاً في سبيل الذود عن حياض بلادكم ودينكم، وليس الجهاد هو القتال فحسب، بل إن أول الجهاد هو أن تعرفوا معنى الأخوة العربية وتوحيد السبيل، ثم تدافعوا بكل مااستطعتم كلما
_________
(1) المصدر السابق، ص219.
(2) انظر: ادريس السنوسي، ص220.(3/321)
أمكنكم الدفاع، وأوله باليد، وليس معنى ذلك هو إشهار السلاح فقط، ولكنه التعلم، تعلم كل مايمكن أن تتفوقون به من الصنائع، وباللسان أي ببذل كل ما أوتيتم من النصيحة والإرشاد، وبالقلم، أي بتأسيس الصحف وارتباطها ببعضها لتوحيد الفكرة وتوجيه الرأي العام، وبعمل الملاجئ، والمستشفيات للفقراء واليتامى والمرضى حتى لايضطرون إلى الإلتجاء للمؤسسات الأجنبية التي قد تدس لهم السم من عقائد دخيلة، ومذاهب فاسدة مفسدة، ثم إنشاء المدارس الوطنية وتشجيع التجارة الوطنية والإكتفاء بمصنوعات البلاد.
وبعد أن تحدث في هذا الموضوع بإسهاب قال: والشعب العربي هو الآن على أبواب نهضة عظيمة ستتجاوز بعون الله ماكان عليه قبل قرون، وأن التاريخ سيعيد نفسه - والأحفاد كما قيل هم سر الجدود -.
إن الشعب العربي له مواهبه العظيمة في الحرب والسياسة، وفي العلم والإقدام، هذا مالاينكره أحد، والبلاد العربية في نظر عموم المسلمين متقدمة، ولها المكان المرموق لوجود البيت الحرام وكذلك قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وبيت المقدس (1).
وقال في مكان آخر من البحث: إن الإسلام معناه الاتحاد والإسلام واحد لايقبل التجزئة ولكن مع الأسف الشديد فقد أدى الجدل الكلامي إلى الاختلاف فتفرق المسلمون إلى معتزلة وأهل سنة، وتفرقت المعتزلة شعباً وتفرق أهل السنة في الاجتهاد إلى مذاهب وهذا الاختلاف تجاذبته الأغراض السياسية، ولاسبيل لحسم هذا الخلاف إلا بالعودة إلى الإسلام الذي بينه صاحب الرسالة على بساطة أسلوبه وسمو معانيه وجوهره (2).
فلنفكر قليلاً في إنصاف وتعقل، ولننظر إلى الحقيقة ولنرجع إلى أوامر النبي وكنه الإسلام ونستعرض هذه المصائب التي انتابتنا منذ عصور طويلة، فإنه لايوجد شيء مهلك كمنازعتنا معشر المسلمين ... إلى أن قال: إن هذه الفوضى
_________
(1) انظر: ادريس السنوسي، ص221.
(2) المصدر السابق نفسه، ص221.(3/322)
أفسدت الجماعة الإسلامية جيلاً بعد جيل، أفسدت الثبات والصبر والسعي المضطرد والاجتهاد والتفكير ثم قال: إن المسلمين لعدم تمسكهم بروح الإسلام أصبحوا في ضعف وانحطاط، وقد ذهب استعدادهم الفكري لانكبابهم على المنقولات، فالتقليد في الفكر لم يكن فضيلة، فكيف نقف هكذا صغار أمام الماضي؟ وكيف ننتظر من أسلافنا كل شيء كمن ينتظر الميراث ليعيش به؟ (1)
هذه بعض النقولات من كتابه اتحاد العرب وائتلاف الموحدين يعطي الباحث خطوطاً عريضة في نظرة الملك إدريس رحمه الله لبعض القضايا التي تتعلق بنهوض الأمة وسعيها نحو التمكين.
وزيادة في إيضاح المنهج السياسي الذي كان يتبناه الملك إدريس ننقل هذه المقابلة الصحفية التي أجريت عام 1942م بين الملك ومندوب جريدة البصيرة التي كانت تصدر في الإسكندرية حيث أجاب على عدة اسئلة تتعلق بالوحدة العربية، ونهوض الأمة فقال: من المشاهد الآن أن العالم يسعى إلى التكتل داخل مجموعات قوية كبيرة، والعرب في بلادهم المختلفة لاحياة لهم أقصد حياة العز والقوة - إلا إذا اتحدوا داخل نطاق من التعاون التام، التعاون الذي يجمع بين الثقافة والصناعة، والاقتصاد، وبذلك تستطيع المجموعة العربية الكبيرة المؤلفة من ثمانين مليوناً أن تحتفظ لنفسها بين الأمم العالمية بمكانة مرموقة محترمة والوحدة العربية عندي أقرب إلى التحقيق في وقتنا الحاضر من اتحاد شرقي اسلامي، فإنه من المشاهد في بقاع الأرض المختلفة أن وحدة الدم واللسان والثقافة هي أكبر العوامل في تقارب الشعوب، واتحاد المصالح، وهذه الأمور جميعها متوفرة في الأمم العربية أكثر من توفرها في العالم الإسلامي، زد على هذا أن الأمم العربية متجاورة الحدود، ومتقاربة التخوم مما يجعل الاتحاد بينها أقوى أثراً وأسرع تنفيذاً وأجاب عن سؤال آخر لنفس المندوب بقوله:
إن الواجب المقدس الذي يحتمه الدين وتفرضه الوطنية على كل عربي هو أن
_________
(1) انظر: ادريس السنوسي، ص221.(3/323)
يجاهد الطغيان بكافة الوسائل التي يملكها حتى يزول هذا الرعب الزاحف وتشرق شمس الحرية والكرامة الإنسانية على الأمم العربية والعالم أجمع من جديد (1) وعن سؤال آخر أجاب: إن الأهداف التي ترمي إليها والتي طالما سفكنا دماءنا في سبيل تحقيقها هي الحرية الكاملة، والإستقلال الشامل، ولاننسى نحن الطرابلسيين واجباتنا حيال النهضة العربية الكبرى باعتبارنا وحدة من الوحدات التي تتكون منها المجموعة العربية.
سنعمل كما عملنا في السابق متعاونين مع الأحرار العالميين على أن يسود الشرق العربي روح النهوض في المرافق العلمية والإجتماعية والإقتصادية والثقافية حتى يؤدي رسالته الإنسانية ويستعيد مجده الغابر (2).
وعندما التقت به مجلة صوت الشرق في فبراير عام 1957م وجهت له بعض الأسئلة فأجاب: إن ليبيا تمد يدها لكل بلد عربي شقيق بإخلاص، واضعة كل مالها وأناسها في سبيل نصرة حرية هذا البلد، وتأييده في الذود عن حياضه وعزته وكرامته، ولن ننسى أبداً نصرة وتأييد البلاد العربية الشقيقة، والبلاد الحرة الصديقة لنا في جهادنا وكفاحنا في سبيل تحقيق استقلال ليبيا وتحريرها من الاستعمار إلى أن قال: أنصح العرب الأشقاء بالتمسك بالدين الكامل، والخلق الفاضل، والإتحاد الشامل، فلن يغلب شعب يحرص على هذه الأمور الثلاثة (3).
إن دراسة كتابه المذكور، وتصريحاته الصحفية تبين للباحث ضعف القول القائل بأن الملك إدريس لايفهم في أمور السياسة وأقرب إلى أهل التصوف من كونه رجل دولة، ولاتوجد لديه رؤية سياسية واضحة ولايعرف كيف تساس أمور الأمم والشعوب؟
إن حياة هذا الرجل لغنية بالعبر والدروس والمواعظ، التي تحتاجها الأجيال الصاعدة التي تستلهم من الماضي مايفيدها في حاضرها ومستقبلها وفق رؤية وتصور نابع من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
_________
(1) انظر: ادريس السنوسي، ص225.
(2) المصدر السابق نفسه، ص226.
(3) المصدر السابق نفسه، ص226.(3/324)
سابعاً: مكانة الصحافة في زمن الملك إدريس، وحرية الكلمة في مجلس النواب:
إن كثيراً من الحكام والملوك والقادة لايتحملون النقد، ولاكلمة الحق الموجهة إلى حكوماتهم أو ذواتهم ويقتدون بفرعون مصر الذي قال الله فيه: {ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} (سورة غافر، الآية) ويستعملون كافة الأساليب الوحشية لتكميم الأفواه، ومصادرة الحريات ويبررون مواقفهم أمام شعوبهم عند قمع الأخيار والمصلحين كما قال تعالى: {وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد} (سورة غافر، الآية: 26).
وهكذا كل الطغاة يقولونها عندما يواجهون المصلحين، وكلما تواجه الحق والباطل، والإيمان والكفر، والصلاح، والطغيان، على توالي الزمان واختلاف المكان.
وهكذا الطغاة في كل زمان ومكان يقدمون أنفسهم على أنهم الحريصون على الفضائل، الغيورون على الأخلاق، الراغبون في التعمير والتقدم، والأمن والإزدهار، بينما يقدمون أهل الخير والصلاح على أنهم مفسدون مخربون، ضالون، مضلون، أعداء الله والأمة والوطن، وحلفاء الشيطان ورؤوس الفتنة، ودعاة الضلال، ولهذا يجب القضاء عليهم قبل تحقيق أهدافهم الخبيثة (1).
إن الملك إدريس رحمه الله سمح للمصلحين أن يتكلموا وينقدوا الدولة والحكم وشجع الصحافة، والنواب على قول كلمة الحق وحتى الذين يتجاوزون حدود القانون من المعارضة يعترفون بالمعاملة الحسنة التي يلاقونها من الشرطة فقد ذكر الأستاذ محمد بشير المغيربي في كتابه وثائق جمعية عمر المختار مايدل على ماذهبت إليه فقد قال: (لابد أن أقول بعد كل ذلك أننا طيلة تلك المرحلة ونحن نعارض ونواجه بحدة وبشدة وتتخذ ضدنا إجراءات بالسجن والاعتقال والنفي وتحديد
_________
(1) انظر: قصص السابقين للخالدي (5/ 105).(3/325)
الإقامة إننا لم نتعرض لإهانة أو إذلال معنوي أو جسدي بل أن كل ماطبق علينا من تلك الإجراءات كان في جو من الإحترام وبما لايجرح كرامتنا أو يحط من أنسانيتنا .. ) (1).
إن من يدرس دور الصحافة في فترة الملك يلاحظ أنها كانت حرة ولكل شخص الحق في حرية التعبير عن رأيه وفي إذاعة الآراء والأنباء بمختلف الوسائل وذلك في حقوق الحق الدستوري المنظم لقانون المطبوعات الذي ظهر عام 1959م.
كان قانون المطبوعات يشترط موافقة مجلس الوزراء على وقف إصدار الصحيفة مما أعطاها منعة وحصانة ضد أي قرار تعسفي في حالة تفرد جهة معينة بذلك وأعطت الحكومة الليبية زمن الملك السابق رحمه الله حرية للصحف في مباشرة نشاطها دون تدخل أو تعويق إداري، ورغم أنه بدرت من الحكومة بعض الممارسات التعسفية في حق بعض الصحف إلا أن طبيعة النظام الحاكم كانت دائماً تعطي مجالاً وبراحاً للأخذ والعطاء، كما أن دستورية المؤسسات تضمن للصحف والمجلات حقوقها، وعندما قامت الحكومة في عام 1952م بإغلاق صحيفة التاج عارضت الصحيفة ذلك القرار، ورفعت دعوى ضد الحكومة وألقى الشاعر أحمد رفيق المهدوي قصيدة في تجمع لرفض القرار جاء فيها:
التاج يشكو لرب التاج مالاقى
من الوزارة تعطيلاً وإغلاق
وزارة جاوزت مالا يطاق فأكثرت
على الشعب اعناتاً وإرهاق
وقد نشرت القصيدة في اليوم التالي في جميع الصحف ولم يتعرض الشاعر لأي أذى ويوم تعرضت صحيفتي البلاغ والميدان للإغلاق ودخلت هذه الصحف في معارك قضائية عنيفة ضد وزارة الإعلام كانت هذه الصحف تدافع عن وجهة نظرها علانية أمام الجميع وفي المحاكم وكانت هناك نوعان من الصحافة حكومية وأهلية: فالصحافة الحكومية من أشهرها (ليبيا الحديثة، برقة الجديدة، فزان،
_________
(1) انظر: وثائق جمعية عمر المختار، ص8.(3/326)
طرابلس الغرب) ومع كونها حكومية إلا أنها لم تخل في مرات عديدة من نقد واضح للسلطات الحاكمة، رغم كونها من أدواتها الإعلامية، ونذكر هنا بالقصيدة الشعبية التي نشرتها صحيفة حكومية:
(وين ثروة البترول ياسمسارة ... اللى ع الجرائد نسمع بأخباره)
وقد تضمنت القصيدة رسالة جرئية وعنيفة في مهاجمة الحكومة (1).
ب- أما الصحافة الأهلية وهي قائمة على الشكل التجاري فكانت تتلقى دعماً غير مباشر من الحكومة على هيئة (إعلانات - اشتراكات) وبقدر ماكان ذلك يشكل دعماً مالياً عُد بمثابة ضغط غير مباشر وربما قيدها أحياناً عن التمتع بحرية كاملة وقد ساهمت في انضاج الرأي العام المحلي وتوعيته سياسياً، وقد عرفت صحف كالبلاغ والرقيب بمقالاتها المنتقدة للحكومة، كما اشتهرت صحيفة (الحقيقية) بأسلوبها الساخر في تناول الحكومة والتعريف بمساوئها، ولم تتوان الصحف بما فيها الحكومية عن نقدها وفضحها لبعض مشاريع الدولة حتى تلك التي كان وراءها مقربون كعبد الله عابد السنوسي (مشروع طريق فزان)، حيث نشرت القصة لأول مرة في صحيفة المساء في 20/ 8/1960م تقدمت المعارضة على أثرها بطلب إسقاط حكومة عبد المجيد كعبار عن طريق البرلمان وهو ماحدث في 16/ 10/1960م.
وأهم الصحف والجرائد التي ظهرت في زمن المملكة الليبية وقبلها بقليل هي:
1 - صحيفة الوطن أنشأها مصطفى بن عامر 1943م.
2 - صحيفة (التاج) لصاحبها عمر الأشهب ظهرت عام 1951م.
3 - مجلة (ليبيا) أنشأها مصطفى بن عامر 1951م.
4 - صحيفة (شعلة الحرية) أنشأها أحمد زارم 1951م.
5 - صحيفة (الصريح) أسسها إبراهيم أحمد البكباك 1951م.
_________
(1) انظر: الانقاذ العدد 39 بقلم طاهر احمد، ص78، 79.(3/327)
6 - صحيفة (الليبي) أنشأها علي محمد الديب سنة 1951م.
7 - صحيفة (المنار) مؤسسها عمر الأشهب 1952م.
8 - صحيفة (الدفاع) أسسها صالح بويصير 1952م.
9 - صحيفة (اللواء) أسسها علي رجب 1952م.
10 - صحيفة (البشائر) مؤسسها علي زاقوب 1953م.
11 - صحيفة (الزمان) أسسها عمر الأشهب 1954م.
12 - مجلة (طرابلس الغرب) أصدرها مكتب المطبوعات والصحافة والنشر الحكومي سنة 1954م.
13 - صحيفة (طرابلس الغرب) رئيس تحريرها فخر الدين عبد السلام ابو خطوة 1954م.
14 - مجلة (صوت المربي) صدرت عن اللجنة الثقافية لرابطة المعلمين ظهرت عام 1955م.
15 - مجلة (النور) صاحب الامتياز عقيلة بالعون العدد الأول 1/ 5/1957م.
16 - مجلة (الأفكار) ورئيس تحريرها راسم قدري 1955م (1).
17 - صحيفة (الرائد) أنشأها بشير يوسف الطويبي سنة 1956م.
18 - مجلة (الضياء) صاحب الامتياز عمر الأشهب أول عدد 1/ 3/1957م.
19 - صحيفة (العمل) أحمد حسين أبو هدمه 1958م.
20 - صحيفة (الطليعة) سالم علي شيته 1958م.
21 - صحيفة (الرقيب) رئيس تحريرها رجب المغربي 1961م.
22 - مجلة (الهدى الإسلامي) الشيخ محمد أمين هلال رجب 1381هـ - 1961م.
23 - صحيفة (البلاغ) لصاحبها علي وريث 1963م.
_________
(1) الانقاذ العدد 39 جمادى الاخرة 1412هـ، ديسمبر 1991م، ص80.(3/328)
24 - صحيفة (الأمة) رئيس تحريرها عبد الله عبد المجيد 1963م.
25 - صحيفة (الميدان) فاضل المسعودي 1964م.
26 - صحيفة (الحرية) رئيس تحريرها محمد عمر الطاشاني 1964م.
27 - صحيفة (الحقيقة) صاحبها محمد بشير الهوني 1966م.
28 - صحيفة (الديلي نيوز) رئيس تحريرها عبد الرحمن خليفة الشاطر.
29 - صحيفة (الريبوتاج) رئيس تحريرها عبد القادر طه الطويل 1967م.
30 - صحيفة (الشعلة) رئيس تحريرها حسين الكيلاني الضريريط 1967م.
31 - صحيفة (الفجر) محمد فريد سيالة.
32 - صحيفة (ليبيا الحديثة) رئيس تحريرها صالحين عبد الجليل عمر.
33 - مجلة الإذاعة، الكشاف، صحف برقة، طرابلس، الرأي العام، ليبيا تايمز (1).
وهذا العرض لإسماء الصحف والجرائد يدل على نهضة فكرية وسياسية جيدة للغاية، كما يدل على مرونة الملك وحكومته وبعدهم عن مصادرة الأصوات المعارضة لسياسة الدولة.
الاستاذ مصطفى بن عامر وكلمة حول الميزانية العامة في مجلس النواب:
كانت العناصر الحية، والحريصة على مصلحة شعبنا تستطيع أن تتكلم بكل وضوح وصراحة في مجلس الأمة ويحفظ لنا التاريخ مرافعة مهمة في مجلس الأمة الليبي عام 1955م وقد تكلم الكثير ممن نقدوا سياسة الحكومة من أمثال الشيخ عبد العزيز الزقلعي وغيره إلا أن مرافعة الاستاذ مصطفى بن عامر كانت أقوى بياناً وأوضح حجة، وادق عبارة، واسهل اسلوباً، ومرافعته التاريخية يلاحظ الباحث وجود حرية في القول والنقد، والتعبير تمتع بها نواب الشعب وتلك الحرية حسنة من حسنات ذلك النظام الذي كان يقوده الملك ادريس رحمه الله.
_________
(1) الانقاذ العدد 39، ص80،81.(3/329)
وقد جاء في كلمة مصطفى بن عامر في مرافعته: (لقد سبق لي وأنا لست عضواً في المجلس حين وضعت المعاهدة البريطانية والاتفاقية الامريكية أمامكم لتقولوا كلمتكم فيها، أن ابلغتكم آرائي عن هذين القيدين الحديدين اللذين صيغا للبلاد وأعدا لمنع تقدمها من طريق العزة والكرامة والحرية رغم ماقدمته بريطانيا وأمريكا الى خزينة الحكومة من فتات الاعانات، وفضلات المساعدات التي ظهرت ارقاماً ضخمة في الميزانية الحالية والميزانيات السابقة، ولكن أي أثر احداثته تلك الأرقام الضخمة في النهضة الاقتصادية، وفي العدالة الاجتماعية اللهم إلا إذا احدثنا تعريفاً جديداً لحقيقة النهضة، وحقيقة العدالة وفسرناهما تفسيراً يتمشى مع الاوضاع السائدة التي تقوم على ترف الاقلية، وبؤس الاغلبية، واعتبار الفساد ضرورة لا بد منها، والاصلاح حلماً من أحلام الطيش والغرور، لقد مددنا أيدينا للانكليز والأمريكان وأخذنا منهم الشلنات والدولارات، واعطيناهم أعز مانملك وأكرم مانحرص عليه فماذا عملنا بما أخذنا لاشيء، .. أين موقفنا هذا من ذلك الموقف الذي كنا نقفه في وجه الادارة البريطانية السابقة عندما كانت تدعي وجود عجز في الميزانية وما كان يبلغ نصف مليون جنيه وكنا نعتبر هذا العجز مفتعل نتيجة الاسراف المقصود لإقامة حجة علينا ومع ذلك فقد عاشت ليبيا تحت حكم الادارة البريطانية تسعة اعوام تخللتها سنون عجاف كان الجفاف فيها أشد من الجفاف الآن لكننا لم نشاهد بؤساً كما نشاهد اليوم ولم يمت احد من الجوع مثلما حدث في هذا الوقت كما أعلن ذلك أحد النواب المحترمين في قاعة هذا المجلس بالرغم من وجود القمح الامريكي الذي ظن أنه لن يترك بيتاً جائعاً. ولآن نريد أن نعرف مامعنى أن نصبح دولة مستقلة ذات سيادة.
معنى ذلك أن نضخم ارقام الميزانية حتى يقال أنها ميزانية دولة لا ميزانية مستعمرة ونبني المنازل لسكنى الوزراء ونقيم العمارات ونؤثثها وننشيء المكاتب الفاخرة ونستورد السيارات والسخانات وآلات التدفئة والمكانس الكهربائية ومكيفات الهواء ونتقل من عاصمة الى عاصمة ونبعث بالسفراء والوزراء الى امريكا والشرق.(3/330)
أمعنى ذلك أن يصبح جميعاً وزراء ونظاراً وأعضاء مجالس نيابية وتشريعية ورؤساء دوائر ومتصرفين ومدراء ومستشارين وسكرتيرين وكتاباً وطباعين ومباشرين ونتقاضى الرواتب والمكافآت والعلاوات ونتطاحن على التعينات والترقيات والدرجات. . أمعنى ذلك أن نشمخ بأنوفنا حينما نقلد منصباً حكومياً ونمشي في الارض مرحاً ونأبى أن نخاطب إلا بالعرائض ومن وراء حجاب ونمسي ونصبح وإذا هنا خلق لا عهد له بهذه الدنيا ومن فيها؟ لعل هذا هو المعنى الذي ادركه المسؤولون من إعلان الاستقلال وقيام دولة وممارسة السيادة لعل هذا هو المعنى الذي أدركوه وطبقوه وتفهموا فقراته على من تصرف الاموال وعلى من تنفق؟
لا بل انظروا حواليكم ايها السادة كم كلفكم هذا الاثاث الفخم الذي يحيط بكم ألم تكن هناك مقاعد صالحة ولائقة قبل هذه وإن كانت غير جميلة ولا أنيقة ولكنها كانت كافية بل فوق الكافية.
لما أنفقتم آلاف الجنيهات في هذه المظاهر والمناظر وميزانيتكم تئن من العجز والاجنبي يحتل بلادكم وشعبكم يرزح تحت أثقال عيشة بائسة؟ أريد أن أعرف اهذا هو معنى الاستقلال أم هو الاسراف والتبذير والأبهة والترف، وأين الاقتصاد والإنتاج والعمل والاجتهاد. اريد الجلوس على الكراسي العادية والمناضد الخشبية قليلة التكاليف، فماذا يلحقنا من ضرر لو أننا فعلنا ذلك اللهم إلا الأجر عند الله والذكر الحسن عند الشعب ومن وراء ذلك خير الوطن ونفع البلاد بل إني استطيع أن أتطرف في التوفير وعدم التبذير الى أبعد من ذلك. وأتصور عندما أعلن استقلال ليبيا وقيل إن في ميزانيتها عجزاً يحتاج تغطية من المساعدات الاجنبية واجتمع اول مجلس نيابي يمثل البلاد أتصور أن هذا المجلس رفض أن يكلف ميزانية الدولة الناشئية أي شيء لحساب اثاث قاعة وفضل اعضاؤه المحترمون البساطة على كل ماعداها وأن يأتي الزوار من هنا وهناك لينظروا الى ممثلي الشعب وهم يضربون أروع الأمثلة في التقشف والعزوف عن المظاهر على حساب الامة الفقيرة هم يباشرون أعمالهم لمصلحة أمتهم على هذه الصورة الرائعة(3/331)
لخالية من الزخرف والبهرجة كأنهم في بيت من بيوت الله يعبدون الله بالعمل لصالح المجموع فنحن مسلمون وشعار الاسلام في كل عمل عبادة.
أيكون ذلك لو كان دليلاً على تأخر وانحطاط؟ لم لا يكون دليلاً على وعي كامل وشعور رفيع بالمسؤولية وتفهم عال لحقيقة الاستقلال وبداية سليمه قوية في تشييد الكيان السليم القويم؟ ولعل عشاق المظاهر يرون في ذلك عاراً ومهزلة لايليق أن توصم بهما دولتنا الفتية وليس من الكرامة والشرف أن يجتمع مجلس الامة على تلك الصورة. وإلى اولئك أذكر أن العار الذي يطمس الشرف هو أن نسمح لأقدام المحتلين أن تدوس أرضنا وهي عرضنا مقابل حفنة من المال ننفقها على مظاهر كاذبة ومناظر زائلة والمهزلة التي تطيح بالكرامة هي أن نتجاهل قدر أنفسنا وحقيقة وضعنا وظروفنا وإمكانياتنا.
إني أشعر وأنا أتصفح الميزانية بأسى عميق وأسف شديد، إذ أن ذاكرتي تعود بي الى الماضي القريب المليء بالآمال واستعرض الذكريات وأقارن بينها وبين الحاضر المشحون بالآلام واتطلع الى المستقبل فلا أملك إلا التوجه الى الله ان يلطف بنا ويهئ لنا من أمرنا رشداً.
أذكر ايها السادة ذلك اليوم الأغر الذي صدر فيه قرار هيئة الامم المتحدة التاريخي بالاستقلال ليبيا (مساء 21 نوفمبر 1949) وأذكر أن جريدة كتبت في اليوم التالي تعليق على هذا القرار: (منذ البارحة سيكون علينا أن نعمل وننتج أكثر مما قاتلنا وكافحنا وسيكون علينا أن نكد ونجد حتى يفوق مانصبه من عرق وماذرفناه من دموع وأهرقناه من دماء أمامنا تركة عهدين يتطلبان التصفية النهائية حتى لانكون بعد ذلك مطالبين بميراث عهد الايطاليين الذين خرجوا من ديارنا بعد صراع عنيف وضحايا جمة وخلفوا ممتلكات مدمرة وعامرة ولكنها كلها ملك شرعي في ارض الوطن لأهل الوطن ... وعهد البريطانيين الذين قسموا البلاد الواحدة واقتسموها سلباً حلال، وضيعوا عليها الفرص وشوهوا معالمها ووضعوا في طريقها نهضتها كل معرقل وعائق. أمامنا هذه التركة أو هذه المشكلة التي يجب أن يوضع لها حد، ثم أمامنا ما أمام كل شعب مثلنا(3/332)
من الحاجة الى إحصاء كل ماله وما عليه وتفهم كل دقيقة من لوازمه وضرورياته وتنسيق جميع متطلباته في جدول تراعى فيه الأهمية والاسبقية ثم المباشرة في العمل بما يستحق من العناية والاتقان في صغير الامور وكبيرها.
هذا الكلام قالته الجريدة منذ خمسة أعوام وكأنها تلخص برنامجاً يجب أن تسير عليه الدولة الجديدة إذا أرادت أن تكون دولة. قالت هذا وقلوب الجميع مفعمة بالآمال. والآن أعود لتلاوة ماقلت ونفسي مليئة بالآلام، كيف لا أيها السادة، ونحن بدل أن نكد ونجد تخاذلنا وتكاسلنا، وبدل أن نقتصد ونجتهد أسرفنا وبذرنا وبدل أن نصفي التركة المتروكة لنا جعلنا نحن من أنفسنا تركة في الحاجة الى تصفية.
وبدل أن نحل المشكلة التي تواجهنا زدنا عليها مشاكل لا يمكن حلها وبدل أن ننتج أصبحنا نستجدي الاغاثة ونجلس في طلب الصدقة بدل من أن نحصي ونتفهم ضرورياتنا ولوازمنا صرنا نفرط في الكماليات حتى جعلناها ضرورة لازمة.
والاستقلال معناه أن نعيش في بلادنا ونملك أمر نفوسنا ولا نكن عالة على غيرنا في أي أمر من الأمور .. من أجل هذا الاستقلال بذلنا الأرواح وأهرقنا الدماء وذرفنا الدموع ولكي نحافظ على هذا الاستقلال، بهذا المعنى كان يجب أن نعصر اجسامنا عرقاً نتيجة الكد والجهد حتى نوفر المبالغ التي تسدد عجزنا ولكننا عكسنا الأمر وقلبنا الوضع:- فلابد من التضحية ولابد من نكران الذات وضرب الامثال للأجيال القادمة في الخلاص والتفاني الى أبعد الحدود (1).
لقد كانت مرافعة الاستاذ مصطفى بن عامر في مجلس الامة في سنة 1955م مفخرة تاريخية للاجيال حيث أن من اجدادنا من هو بهذه الشجاعة والاخلاص والحرص على تحرير البلاد من الغاصبين والدعوة الى الأخذ بالاسباب التي تؤدي الى هذا السبيل، وإن شعبنا في هذه الفترة الحرجة من تاريخه الجهادي لهو احوج الى أمثال الاستاذ مصطفى بن عامر لخوض معارك التحرير الفعلية في كافة مجالاتها التشريعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية .... الخ.
_________
(1) انظر: وثائق جمعية عمر المختار لمحمد المغيربي، ص410، 411، 412.(3/333)
فنحو أسلمة بلادنا الحبيبة وأرجاع عز الأمة التليد نحن ساعون وعلى ربنا متوكلون.
ثامناً: استقالة الملك عام 1965م الاولى واستقالته الثانية قبل الانقلاب العسكري باشهر عام 1969م:
مع مرور الزمن وتقدم السن رأى الملك ادريس ان يتخلى عن الملك وأن يقدم استقالته، ويترك الى الشعب أو ممثيله اسناد الامر الى من احق منه او أقدر على حمل الامانة والقيام بالواجب المطلوب ولذلك لم يتردد الملك ادريس في عام 1965م في عهد حكومة السيد محمود المنتصر الثانية ان يقدم استقالته بسبب التقدم في العمر، وخشيته نتيجة لذلك من التقصير في القيام بماعليه من الواجب والمسؤوليات الى البرلمان الليبي تاركاً له أن يتخذ مايراه مناسباً من نظام للحكم لصالح البلاد، ومن رئيس للدولة فيها؛ ولكنه عندما تقاطرت الى مدينة طبرق، حيث كان يقيم الملك الجماهير الغفيرة من مختلف اطراف البلاد، وفي مقدمتهم الكثيرون من كبار قادة البلاد بما في ذلك قادة المعارضة فيها، واحاط الآلاف منهم بالقصر عدة أيام يطالبون بالحاح الملك المحبوب بالعدول عن استقالته، وبقائه ملكاً لبلاده الى ماشاء الله، فإنه لم يكن بوسع الملك سوى الرجوع عن هذه الاستقالة، موضحاً إن استقالته هذه كان قد تحدث بشأنها من قبل مع بعض رؤساء الحكومات الليبية، الذين كان من بينهم السيد مصطفى بن حليم، والسيد محمد بن عثمان الصيد، وهي كانت فقط بسبب تقدمه في السن، وخشيته من يؤدي ذلك الى التقصير في حسن القيام بما عليه من المسؤوليات، ولم تكن هذه الاستقالة بسبب خلاف مع الحكومة الليبية أو البرلمان الليبي، حيث كان كل منهما كما ذكر الملك قائماً بواجبه، وباذلاً جهده في خدمة البلاد، ولكنه امام معارضتهم لهذه الاستقالة فلا يسعه إلا العدول عنها، على أن يكون لهم الحق في رفع يده عن الحكم إذا ماشعروا، مستقبلاً بعجزه عن حمل ماعليه من الواجبات وتكليف من هو أقدر منه على حملها (1).
_________
(1) انظر: السنوسيون مخطوطة لم ترى النور بعد طلب مني مؤلفها عدم ذكر اسمه.(3/334)
وقد كانت استقالة الملك ادريس الثانية والاخيرة هي تلك المؤرخة في 4/ 8/1969م، والتي وجهها أثناء رحلة استشفائية الى تركيا ثم اليونان الى كل من رئيس وأعضاء مجلس الشيوخ ورئيس وأعضاء مجلس النواب، ورئيس الوزراء ورئيس مجلس الشيوخ عبد الحميد العبار ورئيس مجلس النواب مفتاح عريقيب، عندما جاءا الى تركيا في ذلك الوقت للاجتماع بالملك بناءً على طلبه وفي هذه الاستقالة أكد الملك ادريس أنه وقد تقدم به العمر حتى وهن العظم منه، وبلغ من العمر عتياً ولهذا فهو قد قرر التخلي عن العرش الى الامير ولي العهد الحسن الرضا السنوسي مشترطاً موافقة البرلمان على ذلك، ومن ثم عليه حلف اليمين واعتلاء العرش، ومطالباً في هذه الاستقالة الشعب الليبي بتقوى الله ومخافته وحمد الله تعالى وشكره على ماأكرم بلاده من النعم، وأفاض عليها من الخير، وأن عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وذلك خوفاً من أن يرفع الله تعالى عنها نعمه وخيره ويوليها الأشرار من عباده، وكان نص هذه الرسالة:
بسم الله الرحن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصبحه أجمعين.
أما بعد؛
ياأخواني الاعزاء رئيس وأعضاء مجلس الشيوخ واعضاء مجلس النواب، يعني مجلس الامة الليبية، ورئيس الحكومة الليبية.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أقدم لكم هذا الخطاب قائلاً: منذ أن قلدتني هذه الامة الكريمة الليبية ثقتها الغالية بتبوئي هذا المقام الذي شغلته بعد اعلان استقلال بلادنا العزيزة ليبيا.
قمت بما قدر الله لي مما اراه واجب عليّ نحو بلادي واهلها وقد لا يخلو عمل كل انسان من التقصير، وعندما شعرت بالضعف قدمت استقالتي قبل الآن ببعض سنوات فرددتموها فطوعاً لأرادتكم سحبتها، واني الآن نسبة لتقدم سني وضعف(3/335)
جسدي اراني مضطراً ان أقول ثانية اني عاجز عن حمل هذه الامانة الثقيلة، ولا يخفى انني بليت في سبيلها خمسة وخمسين سنة قبل الاستقلال وبعده قد اوهنت جلدي مداولة الشؤون وكما قال الشاعر:
(سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم)
وقد مارست هذه القضية وعمري 27 سنة والآن في الثانية والثمانين ولله الحمد اتركها في حالة هي احسن مما باشرت في بلائي بها، فاسلمها الآن لولي العهد السيد الحسن رضا المهدي السنوسي الاول) على أن يقوم بعبئها الثقيل امام الله وامام اهل هذه البلاد الكريمة على نهج الشريعة الاسلامية والدستور الليبي بالعدل والانصاف فاعتمدوه مثلي مادام على طاعة الله ورسوله والاستقامة.
وبعد اعتماده من مجلس الامة يحلف اليمين الدستورية امام مجلس الامة قبل أن يباشر سلطاته الدستورية، واني ان شاء الله عقدت العزم الاكيد على اجتناب السياسة بتاتاً والله على ما أقول وكيل.
والذي اختتم به قولي بأن اوصي الجميع من ابناء وطني بتقوى الله في السر والعلن، وانكم جميعاً في ارغد عيش وانعم النعم من الله تبارك وتعالى.
فأحذروا من ان يصدق عليكم قوله تعالى: {وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بانعم الله فاذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون} فالله الله مما يغضب الله. وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان ولا تفرقوا، قال - صلى الله عليه وسلم - لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (1).
محمد ادريس المهدي السنوسي
في 21 جمادى الاول 1389هـ
الموافق 4 أغسطس 1969م
_________
(1) انظر: الملك ادريس عاهل ليبيا، ص165، 166.(3/336)
تاسعاً: نزاهة ملك ليبيا وعفته واقوال المؤرخين فيه ووفاته:
حينما وقع الانقلاب في سبتمبر 1969م كان الملك في رحلة الى تركيا واليونان ولم يكن معه مال خاص ينفق منه، ومع ذلك فحينما عرض عليه المسؤول المالي للرحلة استلام ماتبقى في عهدته من مخصصات رفض الملك ذلك بعزة نفس وقال له: (يابني أنا بالأمس كنت ملك ليبيا، ولكني لم اعد كذلك اليوم، وبالتالي فإن هذا المال لم يعد من حقي، ويجب أن يسلم الى خزينة الشعب).
تقول الملكة فاطمة في رسالة لها بتاريخ 13 سبتمبر 1969م تصف فيها حالها ومال زوجها الملك بعد وقوع الانقلاب: (إننا نحمد الله على أن تيجان الملكية لم تبهرنا قط، ولا نشعر بالأسف لفقدها، فنحن كنا دائماً نعيش حياة متواضعة، ولم يغيب عن أذهاننا مثل هذا اليوم، كما نحمد الله كثيراً على أننا لا نملك مليماً واحداً في أي مصرف حتى يشغل بالنا المال، ولم نغير أبداً معاملتنا لاصدقائنا وهي لن تتغير مع الايام) (1).
لقد تحدث الكثيرون عن سيرة ملك ليبيا السابق ويجدر بنا أن نشير الى بعض اللذين عاصروه واتصلوا به شخصياً، واطلعوا عن قرب على الكثير من اخلاقه الرفيعة ففي مقال نشر في صحيفة الشرق الاوسط في عددها بتاريخ 23 يونيو 1983م نعى السيد مصطفى بن حليم رئيس وزراء ليبيا السابق الملك محمد ادريس السنوسي وتحدث عن جهاد ليبيا تحت قيادته وكان ضمن ماقاله عن شخصيته: (لقد عرفت الملك ادريس رحمه الله معرفة حميمة على مدى نصف قرن تقريباً عرفته منذ كنت صبياً وعملت معه وزيراً ثم رئيساً لحكومته ثم مستشاراً له، كما عرفته وأنا مواطن عادي، وكما عرفته وهو لاجئ في مصر وكنت دائماً التردد عليه في ملجئه في القاهرة وفي طول نصف القرن عرفت فيه المجاهد المسلم الزاهد المتواضع لم يعر مباهج الدنيا أي اهتمام، وكان الملك المؤمن الورع والاب العطوف والقائد الحكيم المتواضع، كما كان يحن دائماً للهجرة الى مكة والمدينة المنورة ليجاور في الأراضي
_________
(1) انظر: الملك ادريس عاهل ليبيا، ص153،154.(3/337)
المقدسة، مرة واحدة رأيته يتلوى ألماً ويبكي دماً ويهدر هديراً، وهو الهادي الصبور كان ذلك يوم سقوط القدس الشريف في ايدي الصهاينة، كان يخشى الله في السر والعلانية كان كريماً ندي اليد، خجولاً طالما صرف مخصصاته الرسمية في أوجه الخير سراً وفي سنة 1955م عندما أنشئت الجامعة الليبية تبرع بقصر المنار في بنغازي ليكون لها المقر وكذلك فعل سنة 1956م تنازل عن قصر الغدير كمقر للكلية العسكرية كان دائماً يتردد على الاراضي المقدسة للحج والعمرة (1).
ويقول الدكتور مجيد خدوري عن دوره في إنشاء الدولة الليبية وتحقيق الوحدة الوطنية: إن الدور الذي قام به الملك ادريس في إنشاء الدولة الليبية بالغ الاهمية إذ انه لم يكتف بأن اقدم على العمل بجرأة لتخليص برقة من ايطاليا في الحرب العالمية الثانية فحسب، بل استعمل نفوذه الشخصي وحنكته السياسية لاقناع أصحاب النفوذ من الزعماء الطرابلسيين بوجوب الالتفاف حول النظام الاتحادي الذي لولاه ماكانت لتتم وحدة ليبيا قط ولما كان حفيداً وخليفة للسيد محمد السنوسي، فضلاً عن ذلك فقد كسب أيضاً ثقة زعماء القبائل البرقاوية وأحاط نفسه بنفر من الرجال المقتدرين الذين تفانوا في تأييده كان بعض هؤلاء الزعماء قد تبعوه الى المنفى، والآخرين الذين ظلوا في البلاد لمقاومة الايطاليين قاموا بذلك بتوجيه، فلما عاد الى برقة بعد الحرب لم يكن ثمة مجال للتساؤل عمن يمكن أن تؤول إليه الرئاسة في برقة، ولم يكن الزعماء الطرابلسيين يجهلون أثر الملك ادريس في توحيد البلاد، إذ أنهم ادركوا أنه الشخص الوحيد الذي يكن له لجميع الاحترام، لكنهم اختلفوا على شكل الحكومة المنوي إنشاؤها، وعلى الحدود الدستورية لاختصاصاته ... قبل عرش ليبيا بدافع من شعوره بالواجب الوطني ليزود البلاد المقسمة بالزعامة اللازمة لها) (2).
واما المؤرخ دي كاندول صاحب كتاب الملك ادريس عاهل ليبيا فقد قال: (على الرغم من محاولات تشويه صورة الملك في اذهان الناس وتهويل بعض نقاط
_________
(1) انظر: الانقاذ العدد 39، ص64،65.
(2) انظر: الانقاذ العدد 39، ص65.(3/338)
الضعف التي لاينفرد بها عن بقية البشر، إلا أن الحقبة الطويلة التي قضاها في خدمة بلاده وأمته قد ترسخت في أعماق التاريخ بما يكفي للصمود أمام كل المساعي الخبيثة.
إن الملك ادريس رمز لعهد مضى ولن يعود، لكنه عهد زاهر يجدر بالليبيين جميعاً والعرب عموماً أن يعتزوا به) (1).
وقال ايضاً: (كانت الدعاية التي رافقت الانقلاب كاذبة مفترية في مزاعمها ضد الملك الذي حاولت أن تصوره مثل فاروق فاسقاً متهتكاً فاسد الذمة وهو أبعد مايكون عن تلك الصفات، فسمعته الشخصية كانت فوق مستوى الشبهات سواء في بلاده وفي العالم العربي عامة كرجل شديد الورع والتقوى كرّس حياته لحرية شعبه وكان في سلوكه الخاص مثلاً للاعتدال والاستقامة الكاملة وان الحملة الدعائية التي تواصلت ضده على ذلك النحو كانت من نوع الاسفاف الرخيض الذي لايقوم على أساس) (2).
وفاته:
استقر الملك ادريس رحمه الله تعالى في مصر حيث بقى مدة حياته الأخيرة بها، ولم يغادر مصر إلا مرتين ذهب فيها الى مكة للحج، وكانت وفاته في القاهرة بتاريخ 25 مايو 1983م وهو في سن الرابعة والتسعين (3).
وقد دفن الملك رحمه الله تعالى في المدينة المنورة، وكان قد طلب من جلالة الملك خالد بن عبد العزيز في لقاء لهما بموسم الحج سنة 1977م أن يأذن بدفنه متى حانت المنية في البقيع فكفل الملك خالد للملك ادريس رغبته رحمهما الله ثم إن الملك فهد بن عبد العزيز اجاز ذلك بعد وفاة الملك خالد بن عبد العزيز، ونقل جثمانه من القاهرة الى المدينة المنورة في طائرة مصرية خاصة (4).
_________
(1) انظر: الملك ادريس عاهل لبييا حياته وعصره، ص45.
(2) انظر: الملك ادريس عاهل لبيبا، ص141.
(3) المصدر السابق نفسه، ص151.
(4) المصدر السابق نفسه، ص151.(3/339)
فنسأل الله له الرحمة والمغفرة والرضوان ونقول ماقاله المولى عز وجل: {ربنا اغفر لنا ولأخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا أنك رؤوف رحيم} (سورة الحشر، آية 10).
لقد تركت مايتعلق بالممكلة الليبية متعمداً في ذلك، الى وقت آخر إن كان للعمر بقية واذن الله في مواصلة هذه الرحلة الطويلة التي بدأتها من الفتح الاسلامي الى هذا الكتاب، لأنني أشعر بضعف المادة التي أمامي فيما يتعلق بتلك الاحداث لان قضايا ذلك العصر على جانب كبير من الاهمية بالنسبة لملابساتها وآثارها الممتدة الى عصرنا الحاضر وخصوصاً وأنني قد بحثت في أسباب سقوط الممكلة بحثاً دقيقاً وطلبت من رجال عاشوا في تلك المرحلة ليساهموا معي في تتبع الأسباب التي أدت الى سقوط المملكة الليبية ولكن التفاعل كان ضعيفاً واعتذر البعض لأسباب أمنية وقد علمت بأن بعض الذين عاصروا تلك الأحداث قد كتبوا مذكرات مهمة عن المرحلة وينتظرون الوقت المناسب لنشرها لذلك رأيت من الحكمة والتعقل التريث حتى يأذن الله في نشرها لأنها سوف تساهم في إيجاد معلومات تساعد الباحثين على تقصي الحقائق للوصول الى نتائج صحيحة مبنية على معلومات يقينية ولا يفتوتني في هذه الخاتمة أن أشيد بالمجهودات القيّمة التي قاما بها كل من الوزيرين السابقين؛ مصطفى بن حليم ومحمد عثمان الصيد في كتابة مذكراتهم ثم نشرها بغية استفادة الاجيال منها.
إن الجهود التي قاما بها الوزيران السابقان تستحق الثناء والتقدير لأنها أصبحت مرجعاً مهماً لتلك المرحلة وأخذت قيمتها التاريخية والعلمية وتعتبر من المبادرات الرائعة والرائدة لأن اصحابها عاشوا تلك الاحداث وساهموا في صناعتها، كما أنهم حطموا جدار الصمت، وكتبوا تاريخهم السياسي الذي في حقيقته اصبح ملكاً للأجيال الصاعدة بغض النظر عن اختلاف الآراء حول تلك المذكرات.
إن فترة المملكة الليبية من عام 1951م الى 1969م غنية بالأحداث على المستوى(3/340)
المحلي والأقليمي والدولي تحتاج الى دراسة واعية وباحث مدقق يتوخى العدل والانصاف يعتمد على الله ثم على الوثائق والحجج والبراهين.
إن الاعتناء بتاريخ بلادنا وبلاد المسلمين تظهر اهميته في هذا العصر الذي استخدم فيه التاريخ كأداة لتوجيه الشعوب وتربيتها كما يريد القادة والساسة، بل استعان بهذا العلم أصحاب المذاهب الفكرية الهدامة في فلسفة مذاهبهم المادية وتدعيمها حتى أصبح هذا العلم عند الامم المتقدمة في مكانة سامية لا يعلوها علم آخر.
إن دراسة التاريخ بوجه عام، وتاريخ الأمة المسلمة على وجه الخصوص لاينبغي في دراستها تحقيق الرغبات، والحاجات الدونية، بل من أجل الوصول الى القمة العلية ألا وهي إحياء الامة بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومعرفة كيفية التعامل مع سنن النهوض والصعود بالشعوب، واجتناب سنن السقوط والهبوط ولهذا قال تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثاراً في الأرض} (سورة غافر: آية 8).
هذا وقد انتهيت من كتابة هذه السلسلة التاريخية يوم الثلاثاء 1 ربيع الاول 1420هـ الموافق 15 يونيو 1999م، والفضل لله من قبل ومن بعد وأساله سبحانه وتعالى أن يتقبل هذا العمل قبولاً حسناً وأن يكرمنا برفقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين واختم هذا الكتاب بقول الله تعالى: {مايفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها ومايمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم} (سورة فاطر: آية2).
وبهذه الابيات:
إليك وجهت يامولاي آمالي ... فاسمع دعائي وارحم ضعف أحوالي
أرجوك يامولاي لا نفسي ولا ولدي ... ولا صديقي ولا أهلي ولا مالي
لما عرفتك لم أنظر الى أحد ... فلا الرعية أرجوها ولا الوالي
فلا تكلني الى من ليس يكلؤني ... وكن كفيلي فأنت الكافل الكالي (1)
_________
(1) كلأه إذا حفظه (قل من يكلؤكم).(3/341)
واسقني كأس حب من ودادك يا ... مولاي فهو شراب سلسل حالي
فلا وحقك ماللقلب من شغف ... إلا بحبك فاشرح لي به بالي
وفيه سلوان قلبي عن علائقه ... وسلسبيلي وسلوائي وسلسالي
ومنه أحيى ومن فقدي له مرض ... ومرهمي أبداً منه وإبلالي (1)
أنا الفقير الى مولاي يرحمني ... إذ تقضى بهول الموت إمهالي
أنا الفقير الى مولاي يرحمني ... في بطن لحد وحيش مظلم خالي
هناك لحمي لدود القبر فاكهة ... والعظم مني رميم في الثرى بالي
أنا الفقير الى مولاي يرحمني ... يوم القيامة من عنف وأهوال
أنا الفقير الى مولاي يحشرني ... في زمرة المصطفى المختار والآل
صلى الإله على أرواحهم أبداً ... ضعفاً على قدر زخار وهطال (2)
_________
(1) الإبلال: الشفاء من المرض.
(2) الزخار: صفة للبحر، وهطال: صفة للغيث.(3/342)
الخلاصة
- ولد محمد ادريس السنوسي يوم الجمعة في العشرين من شهر رجب 1307هـ الموافق 12 مارس 1890م بزاوية الجغبوب.
- كان مولده يوم فرح وسرور لأتباع الحركة السنوسية، وخصوصاً أهالي الجغبوب، فعطل معهد الجغبوب، والكتاتيب القرآنية، ودور الأعمال، ونحرت الجزر، ومدت الموائد، وقدمت الصدقات شكراً لله تعالى.
- نشأ محمد ادريس في رعاية ابوية وبعد وفاة أمه احتضنته جدته لوالدته واهتم والده بتربيته تربية صالحة، وبدأ تحفيظه للقرآن الكريم بنفسه مع دخوله في سن السابعة من عمره.
- تتلمذ على مجموعة من أفاضل العلماء اشتهر من بينهم العلامة العربي الفاسي، واحمد ابي سيف، والعربي الغماري، وحسين السنوسي، واحمد الريفي وأحمد الشريف السنوسي.
- أتقن القراءات، وعلوم الحديث، كما أتقن البخاري، ومسلم، ومسند أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وموطأ مالك، ومسند ابي حنيفة، ومسند الامام احمد، وكتاب الام للشافعي، وغير ذلك من كتب الفقه والحديث والتفسير واللغة، وعلوم التاريخ، وتقويم البلدان، وتحصل على إجازات عدة.
- لما تقدمت به السن أصبح له مجلساً عامراً بالعلماء والأدباء، وكان يحب العلماء ويجلهم ويكبر مافي نفوسهم من العلم، وينزلهم منه منزلة خاصة، ويحيطهم بعطفه وكانت أحب العلوم إليه الحديث الشريف، وعلم التاريخ والأدب والسياسة.
- كان لا يتحدث في موضوع إلا ويعلل رأيه فيه بعد تدقيق وتمحيص ثم يأتي بالحجج الدامغة والبراهين القاطعة، تارة من كتاب الله، وطوراً من الحديث الشريف، وحيناً من أقوال السلف الصالح وأئمة المسلمين.(3/343)
- كان قوي الذاكرة، سريع الخاطر متين الحجة، وله اهتمام خاص بالفقراء والمساكين، وكان جميل المعشر، رحيماً باتباعه وخدمه، فيعود مريضهم بنفس متواضعة ويصفح عن المذنبيين منهم مالم يكن الذنب مغضباً لله ولرسوله وكان يميل الى اقتناء جياد الخيل، وله شغف بجمع انواع الاسلحة ويجمع الكتب.
- كان حريصاً على وحدة الصف السنوسي أمام أعداء الاسلام، فبعد أن بدأ الطليان هجومهم الغادر على الاراضي الليبية ورأى بعض الاخوان أن يسندوا الزعامة الى ادريس السنوسي كحق موروث بدلاً من أحمد الشريف رفض ادريس ذلك العرض وبذلك اجتمعت كلمة المجاهدين على احمد الشريف.
- سافر الى الحجاز لتأدية فريضة الحج عام 1330هـ، 1912م وكانت تلك الرحلة مليئة بالدروس والعبر وأصبح لها أثر عميق في تفكيره حيث احتك بالحكومة المصرية، وبزعيم الثورة العربية الكبرى الشريف حسين وقادة الانكليز في مصر وتكونت له قناعات مهمة فيما يتعلق بمجريات السياسة الدولية، وبطبيعة الصراع بين الاتراك والانكليز واتخذ لنفسه منهجاً سار عليه لخدمة شعبه ووطنه وبلاده.
- رأى أنه ليس لمصلحة الحركة السنوسية الدخول مع الاتراك في حربهم ضد الانكليز وبعد رجوعه من الحج نصح أحمد الشريف بعدم الدخول في الحرب مع الاتراك ضد الانكليز وأعلن رأيه ذلك بصراحة.
- بعد انتهاء المعارك بين احمد الشريف وبريطانيا ظهر محمد ادريس على مسرح العمل السياسي الليبي وكان لبروزه مصلحة للبلاد، لما تمتع به من صفات أهلته لزعامة لبرقة؛ وآلت الأمور الى أن بايعه القبائل في شرق ليبيا بالإمارة.
- دخل الامير محمد ادريس السنوسي في مفاوضات مع الانكليز لكي يتوصل معهم الى اتفاق مؤقت يهدف به فتح الطرق مع مصر، حتى يتغلب على شبح المجاعة الذي هدد البلاد.
- اشترط الانكليز للدخول في المفاوضات ضرورة دخول حليفتها في الحرب العالمية الاولى إيطاليا لتلك المفاوضات، واضطر الأمير ادريس للموافقة على ذلك الشرط.
- لم يكن موقف الامير ادريس قوياً في المفاوضات بسبب هزيمة جيش السيد احمد(3/344)
الشريف في مصر بينما كان رصيده الوحيد في ولاء قبائل برقة، وحرص الانكليز على كسبه لصفهم.
- كانت ثورة الاتراك ضد السنوسية من العوامل التي ساعدت في دفع محمد ادريس نحو التقارب مع السياسة البريطانية، وقد بدأت تلك الثورة في أواخر عام 1916م وانتشرت في جهات عديدة حتى توجت بالنصر على السنوسية في فزان خلال شهر سبتمبر عام 1917م وطردوا منها محمد عابد السنوسي الذي التجأ الى الكفرة وترك واحة واو، وأصبحت فزان منذ ذلك الحين بيد الاتراك.
- استمر الاتراك في مضايقة محمد ادريس، وتضييق الحصار عليه وعملوا على الاطاحة به وأرسل نوري باشا بعثته الاولى الصغيرة الى الكفرة لضرب النفوذ السنوسي هناك إلا أن تلك البعثة فشلت وانتهت بوقوع أعضائها في ايدي صفي الدين السنوسي الذي استطاع أن يكشف أمرهم بسرعة، وأودعهم السجن.
- كان الأمير محمد ادريس على قناعة راسخة أن النصر في الحرب العالمية الاولى سيكون للحلفاء ولذلك حرص على التقارب من بريطانيا، صاحبة التفوق في منطقة الشرق ومن أجل تقليل الخسائر والمحافظة على كيان السنوسية الذي تعمل تركيا على تحطيمه في البلاد في تلك المرحلة، واتخذ قراراً بالانسحاب من الحرب ضد إيطاليا وبريطانيا ووافقه زعماء القبائل التابعين للحركة السنوسية على ذلك.
- كان ابناء البيت الادريسي في مصر هم حلقة الاتصال بين الامير ادريس والحكومة البريطانية وتم الاتفاق على سفر وفد بريطاني وايطالي الى اجدابية لعقد صلح بين الاطراف الثلاثة.
- وصل في أواخر عام 1916م الى زويتينة وفد من الانكليز والايطاليين ومعهم من المصريين احمد محمد حسنين افندي، ومحمد الشريف الادريسي وابنه محمد المرغني، وكانوا جميعاً ضمن الوفد الانكليزي اضافة الى الكولونيل تالبوت الذي له دراية كبيرة بشؤون الشمال الافريقي، والضابط اللفتنت هسلم وكان الوفد الايطالي يتكون من الكولونيل بيلا، والكومانداتور بياجنتيني، ومترجمهم.
- بدأت المفاوضات بين الاطراف الثلاثة خلال شهري اغسطس، وسبتمبر سنة 1916م،(3/345)
وكان الوفاق والتفاهم ظاهر بين الجانبين الانكليزي والسنوسي أما العلاقات الايطالية فقد كانت مغايرة لذلك تماماً.
- كانت مهمة الوفد الانكليزي يسيرة، فلم تكن هناك أية صعوبة في الوصول الى اتفاق مع السنوسيين ولكن الصعوبة تكمن في إصرار الكولونيل تالبوت رئيس الوفد على عدم التوقيع على أي اتفاق مع السنوسيين قبل ان ينتهي ادريس من الاتفاق مع الايطاليين ويتم التوقيع من الطرفين على هذا الاتفاق.
- في أوائل عام 1917م تمت اتصالات جديدة بين الانكليز، والايطاليين والسنوسيين وقد لعب محمد الشريف الادريسي وابنه المرغني دوراً هاماً في إنجاح هذ الاتصالات وموافقة جميع الاطراف على تجديد المفاوضات.
- طالت مدة المفاوضات، فاستغرقت الفترة مابين شهر يناير الى منتصف ابريل تقريباً، والجلسات المعقودة، والحوار مستمر وكانت لضغوط الانكليز اثر على الطرفين الايطالي والسنوسي حتى تم التوصل الى اتفاق ارتضاه الجميع.
- كانت معاهدة عكرمة في طبرق خير وسيلة لتحقيق السلم وصون مصالح العرب المجاهدين في برقة، كما أنه اتيحت فرصة لمحمد ادريس لتنظيم القبائل تنظيماً من شأنه أن يجمع الكلمة ويقضي على بذور الفتنة والاضطراب، كما ساعد ذلك الاتفاق على تأييد نفوذ محمد ادريس حتى بدأ الاهالي من ذلك الحين يلقبون محمد ادريس بالمنقذ.
- تركزت جهود الأمير ادريس بعد تلك المعاهدة على أمرين: إقامة الحكومة الوطنية الرشيدة التي تحفظ مصالح البلاد، وتتولى زعامة القبائل في برقة، وتطالب بكل حقوقهم، ومقاومة نفوذ الطليان ومنع اتصالهم بالعرب بكل الوسائل في داخل البلاد.
- اتخذ محمد ادريس إجدابية مركزاً لقيادته وذلك لعدة أسباب نجملها فيما يلي؛ لما تميزت به من موقع استراتيجي هام، وقوعها في منتصف قاعدة مثلث رأسه في الكفرة وقاعدته النوفلية والجبل الاخضر، كما أنها تمثل الامتداد الطبيعي لواحات جالوا وأوجلة جخرة، والكفرة، وهذا يعطيها بعداً استراتيجياً هاماً، ومن أهم(3/346)
المناطق في تجارة القوافل، كانت موطناً لمعظم القبائل التي كانت تؤيد الحركة السنوسية ولغير ذلك من الأسباب.
- قام محمد ادريس بوضع نواة لجيش نظامي واجتهد في تسوية الخلافات بين بعض القبائل، وتمكن من القضاء على عناصر السلب والنهب والقتل.
- قام محمد ادريس بتشكيل مجلسين احدهما يضم كبار العلماء والاخوان ويقال عنه المجلس الخاص وله السلطات التشريعية والتنفيذية وأما المجلس الثاني فكان أعضاؤه من شيوخ واعيان القبائل ويقال له مجلس الاعيان.
- كان الأمير محمد ادريس يدير دفة العلاقات مع ايطاليا بمنتهى الحذر واللياقة، والكياسة، والدبلوماسية، والسياسة، وحرص على توثيق علاقته مع الوالي الايطالي الكونت جاكومودي مارتينو، وعين عمر باشا منصور الكيخيا ممثلاً له في بنغازي، وكان لعمر باشا خبرة سياسية نادرة، حيث كان نائباً في مجلس المبعوثان العثماني في استانبول.
- كان الايطاليون يرغبون في نقص الاتفاقات السابقة لأنهم كانو يطالبون بالسيادة التامة على ليبيا، وإنهم قبلوا بالأمر الواقع مؤقتاً، لذلك حاولوا أن يتقربوا من السكان، أملاً في أن ينتهي الامر بهم الى القبول بالسيادة الايطالية.
- بعد انهزام تركيا في الحرب العالمية الاولى اضطر الأتراك للاستسلام وعقدوا مع الحلفاء معاهدة جزيرة موندروس في 31 اكتوبر عام 1918م تعهدت فيها تركيا بسحب قواتها من طرابلس الغرب وأن تقطع علاقتها بها.
- كان لسقوط تركيا سبب رئيسي في ظهور فكرة الجمهورية الطرابلسية وطرحت على بساط البحث، واشترك فيها رمضان بك، وعزام بك، والباروني باشا، والأمير عثمان، ومختار بك كعبار.
- في يوم السبت الثالث عشر من صفر سنة 1337هـ الموافق 16 نوفمبر سنة 1918م اجتمعت الوفود الطرابلسية في جامع المجابرة بمسلاته وهو أكبر جامع فيها.
- تشكل مجلس إدارة الجمهورية من سليمان الباروني، واحمد بك المريض، ورمضان السويحلي، وعبد النبي بالخير، وشكل مجلس شورى الجمهورية، والمجلس الشرعي لها.(3/347)
- قامت الحكومة بإرسال عدة بلاغات الى كل من رئيس الحكومة الايطالية، ورئيس امريكا ولسن، ورئيس الوزراء الانكليزي، ورئيس الجمهورية الفرنسية إلا أن تلك الدول لم تعترف بها.
- في 30 سبتمبر سنة 1919م أعلن الطرابلسيون رسمياً عن تأسيس حزب الاصلاح لأجل الدفاع عن مكاسب البلاد، وايقاظ الوعي الجماهيري السياسي، وأسندوا رياسته الى أحمد بك المريض، ورياسة شرفه الى رمضان بك.
- انتهز الايطاليون فرصة المهادنة ليلقوا بذور الفتنة بين العرب والبربر من جهة وبين البدو والحضر من جهة اخرى، وبين سكان البلدان المتجاورة.
- كانت من أكبر الفتن الحرب الطاحنة بين الزنتان والبربر فقدت بها طرابلس من ابنائها مالا يعلم عدده إلا الله.
- استغل الايطاليون ذلك الصراع وتلك الفتن، وتحركت جيوشهم للقضاء على الطرابلسيين، فاحتلوا فزان في 31 اكتوبر عام 1922م، وفي 17 نوفمبر 1922م، احتلوا غريان وبدأت المدن تتساقط أمام الجيوش الايطالية.
- بعد التطورات الخطيرة، والانشقاقات العظيمة التي وقعت بين الزعماء رأى عقلاء طرابلس ضرورة الاجتماع في مؤتمر غريان ليتدارسوا الاوضاع الراهنة، ويتخذوا حيالها موقف مشترك.
- كانت الفتنة بين طرابلس وبرقة قد اشتدت مع اندلاع الحرب العالمية الاولى، وحصل فتور بين البرقاويين والطرابلسيين، واستمر لمدة خمس سنوات.
- كان عقلاء طرابلس وبرقة لاترضيهم تلك الحالة المزرية التي لايرضى عنها عقل ولا شرع ولا عرف فبادر السيد احمد المريض بإرسال رسالة لأخيه الامير محمد ادريس السنوسي، وكانت مليئة بالمعاني الرفيعة والعبارات السامية، ورد على تلك الرسالة الامير محمد ادريس وترتب على ذلك اجتماع سرت العظيم بين الوفد الطرابلسي والبرقاوي.
- كانت الحكومة الايطالية تتابع الأخبار ومايدور بين برقة وطرابلس، وخافوا أن يترتب على اتفاق طرابلس وبرقة مالا تحمد عقباه، فقرر وولبي احتلال مصراته قبل أن يصل الليبيون الى نتيجة في مؤتمر سرت.(3/348)
- بعد فشل المفاوضات بين ايطاليا والطرابلسيين في فندق الشريف في 10 ابريل سنة 1922م رأى الطرابلسيون ضرورة إرساله وفد الى الامير محمد ادريس ليبايعوه بالامارة تنفيذاً لما قررته هيئة الاصلاح المركزية في فندق الشريف.
- بادر الامير محمد ادريس بمصافحة تلك اليد الممدودة وقبل البيعة دون تردد وأجاب على كتاب البيعة في 22 ربيع الاول 1341هـ الموافق 22 نوفمبر 1922م.
- تغيرت العلاقات الايطالية السنوسية وحدثت بعض الاشتباكات بين الطليان والعربان بسبب حرص الطليان على نزع السلاح منهم ومرض الامير ادريس مرضاً شديداً ونصحه الاطباء بالذهاب الى مصر للعلاج.
- قام الامير ادريس قبل هجرته بتنظيم أمور الجهاد، وبحث الأمر مع زعماء ورؤساء برقة من جانب، ومع بشير السعداوي والوفود الطرابلسية من جانب آخر.
- عهد الامير بالأعمال السياسية والعسكرية في برقة الى عمر المختار نائباً عنه في تنظيم معسكرات المجاهدين وعهد بالمسائل الدينية وما يتعلق بالأسرة السنوسية الى أخيه محمد رضا.
- استطاع الايطاليون بقواتهم الجرارة، وطائراتهم القضاء على حركة المقاومة رويداً رويداً، ثم هاجموا في آخر الأمر ورفلة وعندئذ انحلت المقاومة تماماً، واضطر بشير السعداوي الى مغادرة سرت في عام 1924م بعد أن مكث بها سنة تقريباً.
- كان السعداوي رحمه الله من أشد المجاهدين تحمساً في هذه الفترة العصيبة، ومن أعظمهم مثابرة على الجهاد، وكان يتحلى برجاحة العقل، والرزانة والهدوء، ويتصف بالقدرة على النظر البعيد وتقليب وجوه الرأي في عواقب الامور.
- أصبحت برقة وحدها تحمل على عاتقها عبء الجهاد منفردة ضد العدو، وكان والي برقة الجديد بونجيو فاني قد بدأ يحل الأدوار المختلفة في برقة عنوة واقتدار.
- بدأ الجهاد بقيادة عمر المختار في برقة ضد إيطاليا من غير هوادة أو لين، أو ضعف، أو خوار.
- ولد الشيخ عمر المختار من أبوين صالحين عام 1862م وقيل 1858م وكان والده مختار بن عمر من قبيلة المنفة من بيت فرحات وكان مولده بالبطنان في الجبل الأخضر.(3/349)
- بعد وفاة والده توالى تربيته الشيخ حسين الغرياني هو وشقيقه محمد، فأدخلهما مدرسة القرآن الكريم بالزاوية، ثم ألحق عمر المختار بالمعهد الجغبوبي لينضم إلى طلبة العلم من أبناء الإخوان والقبائل الأخرى.
- مكث في معهد الجغبوب ثمانية أعوام ينهل من العلوم الشرعية المتنوعة كالفقه، والحديث والتفسير، ومن أشهر شيوخه الذين تتلمذ عليهم، السيد الزروالي المغربي، والسيد الجواني، والعلامة فالح الظاهري المدني وغيرهم كثير.
- كان عمر المختار شديد الحرص على أداء الصلوات في أوقاتها وكان يقرأ القرآن يومياً، فيختم المصحف الشريف كل سبعة أيام منذ أن قال له الإمام محمد المهدي السنوسي ياعمر وردك القرآن.
- إن من أسباب الثبات الذي تميز به عمر المختار حتى اللحظات الأخيرة من حياته إدمانه على تلاوة القرآن الكريم والتعبد به، وتنفيذ أحكامه، لأن القرآن الكريم مصدر تثبيت وهداية وذلك لما فيه من قصص الأنبياء مع أقوامهم، ولما فيه من ذكر مآل الصالحين، ومصير الكافرين والجاحدين وأوليائه بأساليب متعددة.
- ظهرت صفة الشجاعة في شخصية عمر المختار المتميزة في جهاده في تشاد ضد فرنسا، وفي ليبيا ضد إيطاليا وقد حفظ لنا التاريخ رسالة منه إلى الشيخ الشارف الغرياني بين له فيها أنه لايخاف طائرات العدو ولا مدافعه ولا دباباته ولا جنوده من الطليان ولايخاف حتى من السم الذي وضعوه في الآبار ووضعوه على الزروع النابتة في الأرض، كما ظهرت فيه صفة الكرم وكان يردد على ضيوفه مقولته المشهورة (إننا لانبخل بالموجود ولانأسف لمفقود).
- تفوق عمر المختار على أقرانه بصفات عدة منها، متانة الخلق ورجاحة العقل، وحب الدعوة، ووصل أمره إلى الزعيم الثاني للحركة السنوسية محمد المهدي السنوسي فقدمه على غيره واصطحبه معه في رحلته الشهيرة من الجغبوب إلى الكفرة عام 1895م.
- وفي عام 1897م أصدر محمد المهدي قراراً بتعيين عمر المختار شيخاً لزاوية القصور بالجبل الأخضر قرب المرج، وقام عمر المختار بأعباء المهمة خير قيام، فعلّم الناس أمور دينهم، وساهم في حل النزاعات بين القبائل وعمل على جمع(3/350)
كلمتهم وسعى في مصالحهم، وسار في الناس سيرة حميدة، فظهرت في شخصيته أخلاق الدعاة من حلم وتأني وصبر ورفق وعلم وزهد.
- عندما اندلعت الحرب الليبية الإيطالية عام 1911م كان عمر المختار وقتها بواحة جالو خفّ مسرعاً إلى زاوية القصور وأمر بتجنيد كل من كان صالحاً للجهاد من قبيلة العبيد التابعة لزاوية القصور.
- أعجب الضباط الأتراك بالمختار وبشجاعته وبالآراء السديدة التي تصدر عنه فكأنما هي تصدر من قائد ممتاز تخرج عن كلية عسكرية وكان قدومه إلى معسكرات المجاهدين مشجعاً وباعثاً للروح المعنوية في قوة خارقة.
- في شهر مارس عام 1923م سافر إلى مصر لمقابلة الأمير محمد ادريس، وكان عمر المختار عظيم الولاء للسنوسية وزعمائها، وشيوخها.
- حاولت إيطاليا بواسطة عملائها بمصر الاتصال بالسيد عمر المختار وعرضت عليه عروضاً مغرية لترك الجهاد، واستمرت عروضهم حتى بعد رجوعه للبلاد وحاولوا استمالته بالمال الطائل، والمناصب الرفيعة، والجاه العريض في ظل حياة رغدة ناعمة ولكنهم لم يفلحوا.
- من أشهر المعارك التي خاضها المختار في تلك المرحلة معركة بئر الغبي، ومعركة أم الشفاتير عقيرة الدم.
- كانت المعسكرات التي يقودها عمر المختار على أساس قبلي ويعتبر الدور وحدة عسكرية، وإدارية، واجتماعية يرأسها قائمقام.
- كان مجئ بادوليو إلى ليبيا بداية مرحلة جهادية حاسمة بالنسبة للمجاهدين وكان تاريخ تعيينه في شهر يناير من عام 1929م وكان برنامجه يتلخص في تخفيض الجيش إلى القدر الذي يكفي للقيام بحرب العصابات، والمحافظة على هيبة الحكومة مع انفاق الأموال المتوفرة في مد الطرق في الجبل الأخضر مما يسهل عليه التنقلات العسكرية، فإذا ما أتم له ذلك قام بهجوم شامل كاسح على المجاهدين يقضي على المقاومة نهائياً، ومن أجل ذلك سعت إيطاليا إلى مفاوضة السيد عمر المختار لتهدئة الأحوال.(3/351)
- دخل عمر المختار في المفاوضات مع قناعته بأنها لاتجدي نتيجة لضغوط بعض قادة الجهاد، ولأقامت الحجة على الحكومة الإيطالية، وقد ظهر في تلك المفاوضات حرص المختار على رفض الخضوع لأي إرادة أو سلطة غير سلطة الله وكان مصراً في شروطه على تطبيق الشريعة الإسلامية بين المسلمين ورفض كل ماعداه من قوانين وضعية في مفاوضاته.
- أظهر بادوليو قبول الشروط ولكنه نكث بوعوده وأخذ يستعد للقضاء على المجاهدين، وشرع الطليان يبذرون بذور الشقاق في صفوف المجاهدين على أمل أن يضعفوا من قوتهم، وفي اجتماع سيدي رويفع ادعى سيشلياني أنه لايمكن إبرام الاتفاق النهائي إلا في بنغازي.
- أراد المجاهدون أن يقطعوا حجة الطليان فاتفقوا على أن يحضر اجتماع بنغازي السيد الحسن رضا السنوسي، وكان عمر المختار مقتنعاً بعدم جدوى الاجتماع ولكنه اضطر مكرهاً، وعاد الحسن يحمل شروطاً إيطالية مجحفة فرفضها عمر المختار والمجاهدون.
- كان عمر المختار بجانب إيمانه الراسخ واسع الأفق عالماً بواقعه مدركاً لما يجري حوله متابعاً له وقد كان ذلك أكبر عون له بعد الله على صحة مواقفه وقوتها التي فرضت الاحترام على أعدائه قبل أصدقائه.
- خاطب السيد عمر المختار المجاهدين وأبناء شعبه قائلاً، فليعلم إذاً كل مجاهد أن غرض الحكومة الإيطالية إنما بث الفتن، والدسائس بيننا لتمزيق شملنا وتفكيك أواصر اتحادنا ليتم لهم الغلبة علينا واغتصاب كل حق مشروع لنا كما حدث كثير من هذا خلال الهدنة.
- نقضت الحكومة عهودها وغدرت بالمجاهدين وكان السيد حسن الرضا أول من ذاق مرارة غدرهم.
- عين الجنرال غراسياني حاكماً لبرقة ونائباً للمرشال بادوليو الحاكم العام، وكان غراسياني معظماً ومقدماً عند قومه وقام بأعمال عسكرية في فزان شنيعة للغاية واستطاع أن يقضي على حركة الجهاد في فزان في 25 فبراير 1930م وكان حقوداً على الإسلام والمسلمين ولم يرقب في مؤمن إلاً ولا ذمة.(3/352)
- سافر إلى روما ورجع بتعليمات من موسوليني وحكومته هدفها القضاء المبرم على حركة الجهاد، مهما كلف ذلك، وبكل الطرق والوسائل للقضاء على القضية البرقاوية.
- لم يمضي على وصول غراسياني سوى أيام قلائل حتى أنشأ ماعرف في تاريخ الإستعمار الإيطالي الأسود باسم المحكمة الطائرة إبريل 1930م ثم شرع في سياسة عزل الأهالي الخاضعين عن المجاهدين وجمع الإخوان السنوسيين وشيوخ الزوايا وأئمة المساجد ومعلمي القرآن بها مع ذويهم جميعاً، ومشائخ وأعيان القبائل، وبكل من يربطه أي نوع من أنواع الصلات بأحد المجاهدين أو المهاجرين، جيئ بهذه المجموعات يساقون إلى مراكز التعذيب ثم إلى السجون ولم يشفع في أحدهم سن الشيخوخة الطاعنة، أو الطفولة البريئة أو المرض المقعد، أو الضرر الملازم.
- وأنشئت معتقلات جديدة في بنينه والرجمه، والمقرون وسلوق والبريقة والعقيلة وسيقت القبائل إلى تلك المعتقلات الشنيعة.
- غيّر عمر المختار خطته وطور أساليبه القتالية لما يتماشى مع المرحلة واعتمد على عنصر المباغتة وركن إلى مفاجأة القوات الإيطالية في أماكن متفرقة ونقل دائرة عملياته إلى الناحية الشرقية في الدفنا نظراً لقربها من الحدود المصرية.
- عزم غراسياني على مد الأسلاك الشائكة في الحدود الليبية المصرية المصطنعة من قبل الاستعمار مايزيد عن 300كم من البحر المتوسط إلى مابعد الجغبوب وقد كلف الدولة الإيطالية عشرين مليوناً فرنكاً إيطالياً.
- مع شدة قبضة الاستعمار الإيطالي على المدن إلا أن ذلك لم يمنع الأهالي من القيام بواجبهم المقدس، واستطاعت المخابرات الإيطالية أن تقبض على عدد من الليبيين الذي زودوا حركة الجهاد بالمؤن والمعلومات وتمّ اعدامهم.
- بعد أن استطاعت القوات الإيطالية أن تعتقل قبائل برقة في معسكرات واسعة، وأخذ غراسياني في مد الأسلاك الشائكة على طول الطريق على البحر المتوسط إلى مابعد الجغبوب ليفصل برقة عن مصر وكان قد شرع في جمع قواته الضخمة من مختلف وحدات الجيش الإيطالي والجيوش الملونة، من المرتزقة ومن(3/353)
المعدات الحربية لإحتلال الكفرة وقد كتب غراسياني عن اهتمامه بإحتلال الكفرة، وعن الاستعدادات التي اتخذتها الحكومة الإيطالية أكثر من خمسة وأربعين صفحة.
- قام الأمير شكيب أرسلان بدور مشكور في كتابة المقالات عن ماحدث في برقة وطرابلس وقد اتصل به عمر المختار وأرسل إليه رسالة شكر عن دوره العظيم.
- قامت إيطاليا بتصعيد حملات الانتقام من الليبيين والمجاهدين خصوصاً، فقامت بسياسية التهجير، وسياسة القتل والرمي في البحر، وبهتك الأعراض وخصوصاً في الكفرة، وقتلهم لأهل العلم، وكبار الشيوخ ورمي الأبرياء من الطائرات، وانتزعت الأراضي من الأهالي، ورحلت الأطفال إلى إيطاليا، ونشطت حركة التنصير بين الأهالي.
- كان غراسياني يملك القوات الضخمة في البر والبحر والجو، والسلطة الغاشمة المستبدة في برقة، والخزائن المرصوفة بالأموال والسجون والمعتقلات والمشانق، ومع هذا يضعف ويسيطر عليه العجز أمام المجاهدين وقائدهم العظيم حتى دفعه تفكيره إلى حرق الغابات بعد أن تمكن من حرق الأكباد، والأفئدة والأجسام لقد وقع تحت تأثير عصبي حاد من جراء ما أصابه من الفشل الذريع وكان في طريقه إلى الإستقالة أو الإقالة لولا تقدير الله بوقوع عمر المختار في الأسر.
- ظل عمر المختار في الجبل الأخضر يقاوم الطليان على الرغم من هذه الصعوبات الجسيمة التي كانت تحيط به وبرجاله وفي صباح 11 سبتمبر 1931م وقع من على جواده في إحدى المعارك فأصيب في إحدي يديه بجروح ثم وقع في الأسر ثم أرسل إلى سجن بنغازي.
- وفي الساعة الخامسة مساءً في 15 سبتمبر 1931م جرت محاكمة الشيخ عمر المختار وكانت محكمة صورية شكلاً وموضوعاً، وقد استغرقت المحاكمة من بدئها إلى نهايتها ساعة واحدة وخمسة عشر دقيقة فحسب وحكم عليه بالإعدام.
- في يوم 16سبتمبر من صباح يوم الإربعاء من سنة 1931م عند الساعة التاسعة صباحاً نفذ الطليان في (سلوق) جنوب مدينة بنغازي حكم الإعدام شنقاً في شيخ الجهاد، وأسد الجبل الأخضر بعد جهاد طويل ومرير.(3/354)
- قام المسلمون بتأبين الشيخ عمر المختار وقيلت القصائد في رثائه ومن أشهر ماقيل قصيدة أحمد شوقي، وقصيدة نعمان عبد الوهاب، والأستاذ أبو الخير الطرابلسي، والأستاذ حسن الغناي.
- بعد سقوط عمر المختار رحمه الله في الأسر تجمع المجاهدون بين يوم وليلة وأجمعوا على تنصيب الشيخ المجاهد يوسف بورحيل قائداً للجهاد الإسلامي، ووكيلاً عاماً للجهاد.
- حشدت إيطاليا قواتها وواصلت شن حملاتها بشراسة منقطعة النظير ضد المجاهدين فقتل حمد بوخير الله أحد الزعماء، وقتل يوسف بورحيل، وجرح عصمان الشامي فأخذ أسيراً، وأما عبد الحميد العبار فاستطاع أن يجتاز الأسلاك الشائكة بجواده رغم مطاردة القوات الإيطالية له.
- وبهذه النهاية المؤلمة الحزينة انكسرت شوكة المجاهدين، وتعثرت خطواتهم واخمدت حركة الجهاد وذهب الأجداد تاركين خلفهم تاريخاً بطولياً كفاحياً رائعاً من أجل العقيدة، والدين والشرف والكرامة.
- سعى الفاشيست إلى إعادة الامبراطورية الرومانية الغابرة فقرروا لذلك امتلاك البلدان الإسلامية القائمة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط ثم إبادة أهل هذه البلاد وافنائهم وتحويلهم إلى رقعة لاتينية.
- هاجر الليبيون إلى تونس والجزائر، وتشاد، وسوريا، والأردن، ولبنان، ومصر، والحجاز، وتركيا وتركوا أوطانهم بسبب الظلم والجور الذي وقع من الطليان وشرعوا في جمع شتاتهم في المهجر استعداداً ليوم قريب تتاح لهم فرصة تخليص بلادهم من الاحتلال الطلياني البغيض، وكانت قلوبهم تتقطع شوقاً للرجوع إلى ديارهم وتفجرت ملكاتهم الشعرية وتركوا لنا بعض القصائد المعبرة عن الشوق للأوطان.
- ضاق المهاجرون ألوان العذاب في المهجر ومع ذلك فقد واصلوا الجهاد وهم في ديار الهجرة حتى ضاقت بهم إيطاليا ضرعاً، وبرز من المجاهدين في مصر السيد ادريس السنوسي وفي بلاد الشام بشير السعداوي الذي أسس الجمعية الطرابلسية البرقاوية.(3/355)
- مع اقتراب الحرب العالمية الثانية أصبح البريطانيون يسعون لإيجاد تحالف قوي مع المعارضة الليبية ومدوا خيوطهم لكافة المعارضين وخصوصاً أقواهم الأمير إدريس السنوسي.
- إن الحرب العالمية الثانية آية من آيات الله في تصريف أمر الدول والشعوب والأمم وفق سننه وقوانينه في المجتمعات البشرية ومن السنن الواضحة في حياة الأمم أنه عندما تتجبر أمة من الأمم وتعلو في الأرض ويصيبها البطر والكبرياء يهيأ الله لها أسباب الأنهيار والزوال.
- كان الأمير ادريس في مصر يتحين تلك الفرصة بمجرد أن تحقق بأن الحرب العالمية لامحالة واقعة شرع يجمع زعماء الليبيين والتشاور معهم ودراسة احتمالات الموقف، ووضع الخطط المناسبة التي يجب أن يسيروا عليها.
- عقد الزعماء الليبيين اجتماعاً تاريخياً في منزل الأمير ادريس السنوسي بالاسكندرية في 6 رمضان 1358هـ/20 أكتوبر 1969م اجتمع فيه حوالي أربعين شيخاً من رؤساء الليبيين وزعمائهم الموجودين في مصر واسفر تبادل الرأي عن اتخاذ قرار بتفويض الأمير في أن يقوم بمفاوضة الحكومة المصرية أو الانكليز بشأن تكوين جيش سنوسي مهمته الاشتراك مع الحلفاء عندما تدخل إيطاليا الحرب إلى جانب المانيا ووقعوا على وثيقة تاريخية مهمة في يوم 9 رمضان 1358هـ/23 أكتوبر 1939م.
- بادرت جمعية الدفاع الطرابلسي البرقاوي بعقد اجتماع في دمشق في يوم 29 شوال 1358هـ واطلعت على صورة القرار الموقع عليه من زعماء ورؤساء المجاهدين في مصر ووافقت عليه.
- شرع ادريس السنوسي في مفاوضة الانكليز، فأسفرت مباحثاته عن السماح له بتشكيل فصائل من القبائل الليبية المهاجرة لاسترداد حريتها، واستخلاص بلادها من العدو الإيطالي.
- دعا الامير ادريس مشايخ القبائل وزعماء المجاهدين الموجودين في مصر واجتمع بهم في يوم الخميس 8 أغسطس سن 1940م من اجل دراسة الأحداث والتطورات الاخيرة.(3/356)
- اتخذت الجمعية الوطنية الليبية عدة قرارات من أهمها؛ وضع الثقة في بريطانيا العظمى، إعلان الامارة السنوسية، تعيين هيئة تمثل القطرين طرابلس وبرقة، خوض غمار الحرب ضد إيطاليا، تعيين حكومة سنوسية مؤقتة، ....
- قدم الليبيون كل ماعندهم لدعم الحلفاء ضد المحور وكانت كتائب المجاهدين قد قامت بدور بارز في حرب الصحراء وكذلك الاهالي المدنيون فقد قدموا للجيش البريطاني مساعدات جريئة.
- كانت غرب مصر وبرقة مسرحاً لأطول حملة في الحرب العالمية الثانية وضربت المدن والموانئ والقرى والمطارات والطرق، والتركيبات التي اقامها الطليان.
- في يناير 1943م كان جيشان من جيوش الحلفاء يلتقيان حول طرابلس جيش مونتجمري الثامن، وجيش فرنسي بقيادة ليكلرك الجنرال الفرنسي وقام حاكم طرابلس الايطالي بتسليم المدينة للحلفاء.
- في أعقاب الاحتلال البريطاني الثالث لمنطقة برقة أعلن الجنرال مونتجمري بأن المنطقة ستدار من قبل حكومة عسكرية بريطانية حتى نهاية الحرب العالمية وليس حتى نهاية الحرب في شمال افريقيا.
- عارض الليبيون موقف الدول الكبرى من قضيتهم، ووجهوا نقدهم وسهامهم الى الدول الكبرى وخصوصا الحكومة البريطانية التي لم تلتزم بعهودها مع الليبيين.
- في عام 1947م أصبح البريطانيون يرون الحاجة الى منح برقة نوعاً من الحكومة الذاتية تحت زعامة ادريس واوصت لجنة بريطانية ببرنامج استقلال على ثلاث مراحل، وتحت الأشراف البريطاني أما طرابلس فكان الوضع يختلف وظهر الخوف هناك من عودة الحكم الايطالي للمنطقة، وخاصة وجود الجالية الايطالية الكبيرة بمطامعها وتطلعاتها.
- اقتصرت غالبية الاحزاب والجماعات في منطقتي برقة وطرابلس على حاجتهم لدولة متحدة واصبح نادي عمر المختار يشدد انتقاده ضد بريطانيا وضد سياسة ادريس المتحالف معهم.
- قام الامير ادريس بإيقاف نشاط نادي عمر المختار ومنع جميع الاحزاب السياسية عن العمل في ديسمبر 1947م وألف المؤتمر الوطني بحجة التحدث باسم أهالي برقة جميعاً.(3/357)
- ارسلت الدول الكبرى لجنة لتقصي وضع ليبيا فوجدوا رغبة عارمة في الاستقلال التام وأوضح تقرير اللجنة الرغبة الليبية الاجماعية للاستقلال التام.
- أصبح استقلال ليبيا شيئاً لابد منه بالنسية للامم المتحدة وأعيدت قضية ليبيا الى اللجنة السياسية في صيف 1949م وسمح لايطاليا بالاشتراك بالنقاش وكذلك الممثلين من المؤتمر الوطني البرقاوي، وحزب المؤتمر الوطني الطرابلسي، وممثلين من الجالية اليهودية بطرابلس، وفي اكتوبر بدأت لجنة فرعية في وضع قرار يتضمن جميع النقاط الرئيسية الواردة في مقترحات وفود الهند والعراق وباكستان والولايات المتحدة.
- في 21 نوفمبر 1949م تبنت الجمعية العامة القرار الذي اقترحته وفود الهند والعراق وباكستان والولايات المتحدة وتبنته الجمعية بأغلبية 48 صوتاً ضد صوت واحد هو الحبشة وغياب تسعة منها فرنسا وخمس دول شيوعية.
- أعلن استقلال ليبيا في 24 ديسمبر عام 1951م واصبح الدستور معداً للتنفيذ وتولت الحكومة المؤقتة البلاد وأصبح لها صلاحيات كاملة وكان أول رئيس للحكومة المؤقتة محمود المنتصر، وفتحي الكيخيا نائباً له ووزيراً للعدل والمعارف وأصبح عمر شنيب مديراً للديوان الملكي وعين الملك ادريس حكام الولايات الثلاثة، وتقدم بطلب انضمام ليبيا للامم المتحدة واليونسكو وغيرها من المنظمات الدولية.
- كان الملك رحمه الله يرى ان الحياة السعيدة لا تقوم إلا على الدين والعلم والاخلاق ولذلك اهتم بهذه الركائز اهتماماً عظيماً ولذلك احبه شعبه.
- كان الملك كثير الاتصال بجميع ملوك ورؤساء العرب والمسلمين مسترشداً مستعيناً او ناصحاً أميناً، وقد بذل جهوداً كبيرة ومساعي جليلة بين الحكام لإصلاح ذات البين وتقريب وجهات النظر، والدعوة للاتحاد.
- بذل الملك رحمه الله مافي وسعه في القضايا التي تتنامى الى سمعه، فيغضب لله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وكانت هناك أمور قد خرجت عن إرادته وقدرته بحكم الوجود البريطاني والأمريكي.
- تميزت خطاباته برصانة الاسلوب، ومتانة التعبير، وقوة الحجة، وحرص الراعي(3/358)
على الرعية، ونصحه لشعبه وكانت خطاباته عامرة بالدعوة الى الخير والتقوى ومكارم الاخلاق.
- كان السنوسيون منذ زمن المؤسس الأول للحركة الامام محمد بن علي السنوسي مهتمين بأمر الجهاد في الجزائر وواصل الملك ادريس جهوده المادية والمعنوية لدعم ثورة الجزائر التي اندلعت في 1/ 11/1954م وقد اثبتت الوثائق التاريخية جهوده العظيمة، وأعماله الجسمية في هذا الباب.
- ترك الملك رحمه الله تعالى كتاباً يبحث في قضايا الامم والشعوب والدول، تناول فيه الموقف الاسلامي العربي والدولي من جميع الوجوه على حقيقته، وتحدث فيه عن الاسباب التي أخرت المسلمين والعرب، والوسائل التي يجب اتخاذها لتمكين العرب من تحقيق وحدتهم التي يراها ضرورية وتحدث عن الخلافة الاسلامية ومالها وماعليها، وعن سبب انهيارها، وتكلم عن الاستعمار وأهدافه ويعتبر هذا الكتاب مهماً لمعرفة عقيلة الملك رحمه الله في التفكير.
- إن دراسة كتاب الملك المذكور، وتصريحاته الصحفية تبين للباحث ضعف القول القائل بأن الملك ادريس لا يفهم في أمور السياسة وأقرب الى أهل التصوف من كونه رجل دولة، ولا توجد له رؤية سياسية واضحة ولا يعرف كيف تساس أمور الأمم والشعوب.
- كان الملك يؤمن بأهمية النقد الايجابي في نهضة الشعوب وبناء الامم ولذلك سمح للمصلحين أن يتكلموا وينقدوا الدولة والحكم وشجع الصحافة، والنواب على قول كلمة الحق.
- مع مرور الزمن وتقدم السن رأى الملك ادريس أن يتخلى عن الحكم وأن يقدم استقالته، ويترك الى الشعب أو ممثليه اسناد الامر الى من أحق منه او أقدر على حمل الامانة والقيام بالواجب المطلوب، فقدم استقالته عام 1965م في عهد حكومة محمود المنتصر الثانية، ولكن الضغوط الشعبية اضطرته للرجوع عن هذه الاستقالة.
- كانت استقالته الثانية هي المؤرخة في 4/ 8/1969م والتي وجهها الى كل من(3/359)
رئيس وأعضاء مجلس الشيوخ، ورئيس واعضاء مجلس النواب، ورئيس الوزراء عندما كان في رحلته الاستشفائية في تركيا.
- حينما وقع الانقلاب في سبتمبر 1969م كان الملك في رحلة الى تركيا واليونان ولم يكن معه مال خاص ينفق منه، ومع ذلك، فحينما عرض عليه المسؤول المالي للرحلة استلام ماتبقى في عهدته من مخصصات رفض ذلك بعزة نفس وقال له: (يابني أنا الامس كنت ملك ليبيا، ولكني لم أعد كذلك اليوم، وبالتالي فإن هذا المال لم يعد من حقي، ويجب أن يسلم الى خزينة الشعب.
- استقر الملك ادريس رحمه الله تعالى في مصر حي بقي مدة حياته الأخيرة بها، ولم يغادر مصر إ لا مرتين ذهب فيها الى مكة للحج، وكانت وفاته في القاهرة بتاريخ 25 مايو 1983م وهو في سن الرابعة والتسعين.
- دفن الملك رحمه الله في المدينة المنورة وكان قد طلب من الملك خالد بن عبد العزيز في لقاء لهما بموسم الحج سنة 1977م أن يأذن بدفنه متى حانت المنية في البقيع فكفل الملك خالد للملك ادريس رغبته رحمهما الله ثم إن الملك فهد بن عبد العزيز اجاز ذلك بعد وفاة الملك خالد ونقل جثمانه من القاهرة الى المدينة المنورة في طائرة مصرية خاصة.
وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.(3/360)
أهم مراجع ومصادر البحث
(أ)
1. ادريس السنوسي، لمحمد الطيب الاشهب، دار العهد الجديد للطباعة، لصاحبها كامل مصباح، الطبعة الثانية، مكتبة القاهرة، بميدان الأزهر.
2. أعلام الموقعين عن رب العالمين، شمس الدين ابو عبد الله محمد بن ابي بكر ابن القيم، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية بيروت، طبعة 1407هـ.
3. إيطاليا والسنوسية، يوسيرا فبريتز، ترجمة محمد السيد ابومدين نسخة مخطوطة بشعبة الوثائق، مركز دراسة جهاد الليبيين ضد الغزو الايطالي.
(ب)
4. برقة العربية امس واليوم، محمد الطيب احمد ادريس الأشهب، مطبعة الهواري شارع محمد علي بمصر.
5. برقة الدولة العربية الثامنة، زيادة نقولا، بيروت طبعة عام 1950م.
6. برقة الهادئة، الجنرال رود لفو غراسياني، ترجمة ابراهيم سالم بن عامر، دار مكتبة الاندلس، الطبعة الثالثة، يناير 1980م.
(ت)
7. تاريخ ليبيا المعاصر، محمد عامر، منشورات جامعة دمشق، طبعة عام 1411هـ/1991م.
8. تاريخ ليبيا، جون رايت، كتاب مصور، دار الفرجاني، طرابلس، طبعة عام 1972م.
9. تاريخ حرب طرابلس، ابراهيم لطفى، مطبعة مؤسسة الأمير فاروق بنها 1946م.(3/361)
10. تفسير القرآن الكريم، ابن كثير، ابوالفداء اسماعيل بن كثير، تحقيق عبد العزيز غنيم، وحمد احمد عاشور، ومحمد ابراهيم البناء، مطبعة الشعب القاهرة.
11. الثبات، د. محمد بن حسن بن عقيل، دار الاندلس الخضراء بجدة الطبعة الثانية، 1417هـ/1997م.
12. جهاد الابطال في طرابلس الغرب، الطاهر احمد الزوي، ط3، بيروت، دار الفتح للطباعة والنشر 1962م.
13. جذور النضال العربي في ليبيا، محمد عبد الرزاق مناع، ط2، بنغازي عام 1972م.
14. الجهاد والقتال في السياسة الشرعية، محمد خير هيكل، دار البيارق، الطبعة الاولى 1414هـ/1993م.
(ح)
15. الحركة الوطنية شرق ليبيا، مصطفى هويدي، منشورات مركز دراسات جهاد الليبيين ضد الغزو الايطالي، طبعة 1988م.
16. حاضر العالم الاسلامي، تأليف لوثروب ستودارد الامريكي نقله الى العربية الاستاذ عجاج نويهض وعلق عليه الأمير شكيب ارسلان، دار الفكر.
17. حياة عمر المختار، محمود شلبي، دار الجيل، بيروت، الطبعة الرابعة 1982م/1402هـ.
(د)
18. الدولة العربية المتحدة، أمين السعيد، القاهرة، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه عام 1938م.
(ذ)
19. ذكريات عزام، الحلقة 8، مجلة المصورة، القاهرة عام 1332هـ/1950م.(3/362)
(ر)
20. رمضان السويحلي البطل الليبي الشهير بكفاحه للطليان، محمد مسعود فشيكه، دار الفرجاني، طرابلس - ليبيا، الطبعة الاولى 1394هـ/1974م.
(س)
21. السنوسية دين ودولة، د. محمد فؤاد شكري، دار الفكر، طبعة 1948م.
22. السنوسيون في برقة، بريتشارد إيفانز، ترجمة عمر الديراوي أبوحجلة، طرابلس مكتبة الفرجاني.
23. سنن ابي داود، سليمان بن الأشعث، تحقيق عزت عبيد الدعاس، حمص، الناشر محمد السيد.
24. سنن الترمذي لأبي عيسى الترمذي، تحقيق احمد شاكر، مطبعة مصطفى الحلبي، القاهرة.
25. السنن الالهية في الأمم والجماعات والأفراد في الشريعة الاسلامية، د. عبد الكريم زيدان، مؤسسة الرسالة، الطبعة الاولى 1413هـ/1993م.
26. سنن النسائي، احمد بن شعيب، الناشر دار إحياء التراث العربي، بيروت.
(ش)
27. شرح اصول اعتقاد اهل السنة والجماعة، الالكائي، تحقيق د. احمد بن سعد حمدان الغامدي، دار طيبة، الرياض السعودية.
(ص)
28. صفحات من تاريخ ليبيا الاسلامي، على محمد الصلاّبي، دار البيارق عمان، الطبعة الاولى 1418هـ/1998.
29. صحيح البخاري، للامام محمد بن اسماعيل البخاري، دار الطباعة العامرة باستانبول 1315هـ المكتب الاسلامي، استانبول - تركيا.(3/363)
30. صحيح مسلم، للامام ابي الحسن مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، دار الحديث، القاهرة الطبعة الاولى 1412هـ/1991م.
31. صفحات مطوية من تاريخ ليبيا السياسي، مطصفى بن حليم، وكالة الأهرام للتوزيع والنشر، مطابع الاهرام التجارية قليوب، مصر.
(ط)
32. الطريق الى الاسلام، محمد اسد، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة السابعة 1981م.
(ع)
33. عبد النبي بالخير، داهية السياسة وفارس الجهاد، محمد المرزوقي، الدار العربية للكتاب، عام 1398هـ/1978م.
34. الأعلام لخير الدين الزركلي، دار العلم، بيروت الطبعة الثالثة 1389هـ.
35. عمر المختار نشأته وجهاده من 1862م الى 1931م دراسات في حركة الجهاد الليبي، اعمال الندوة العلمية التي عقدها مركز دراسة جهاد الليبيين ضد الغزو الايطالي بمناسبة الذكرى الخمسين لاستشهاد عمر المختار، اشراف الدكتور عقيل محمد البربار، كلية الآداب والتربية- جامعة قاريونس.
36. عمر المختار، لمحمد الطيب الاشهب، سلسلة ابطال الجهاد والسياسة في ليبيا.
37. الأعمال الشعرية الكاملة، احمد شوقي، دار العودة، بيروت، طبعة 1986م.
(ف)
38. فقة التمكين في القرآن الكريم، علي محمد الصلاّبي، رسالة دكتوراه لم تطبع بعد.
39. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشرق.
(ق)
40. قضية ليبيا، محمد الشنيطي، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1951م.(3/364)
41. قادة الغرب يقولون دمروا الاسلام أبيدوا أهله، جلال العالم، مؤسسة الرسالة، بيروت لبنان، طبعة 1405هـ/1985م.
42. قواعد التعامل مع العلماء، د. عبد الرحمن بن معلا اللويحق، دار الوراق، السعودية، الطبعة الاولى 1415هـ/1994م.
(ك)
43. كفاح الليبيين في بلاد الشام، تيسر بن موسى.
44. ليبيا اليوم، محمد الطيب الأشهب، بغداد، مطبعة أسعد عام 1955م.
45. ليبيا في العصور الحديثة، نقولا زيادة، القاهرة، دار الرائد للطباعة 1966م.
46. ليبيا من الاستعمار الايطالي الى الاستقلال، د. نقولا زيادة، جامعة الدول العربية، معهد الدراسات العربية العالية، طبعة عام 1958م.
47. ليبيا الحديثة، مجيدي خدوري، ترجمة د. نقولا زيادة، دار الثقافة، بيروت.
(م)
48. المغرب الكبير، جلال يحيى، الاسكندرية، الدار القومية للطباعة والنشر 1966م.
49. الملك ادريس، عاهل ليبيا حياته وعصره، تأليف: ئي. آف. دي كاندول، قام بطباعتها وأشرف على ترجمتها محمد عبده بن غلبون عام 1989م.
50. المغني لابن قدامة، عبد الله بن احمد بن محمد بن قدامة (موفق الدين، ابو محمد) على مختصر الخِرَقي ومعه الشرح الكبير على متن المقنع عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي، دار الكتاب العربي، بيروت 1392هـ/1972م.
51. المهذب، في فقه مذاهب الامام الشافعي، ابراهيم بن علي بن يوسف الفيروزبادي الشيرازي - معه بأسفل الصفحة: النظم المستعذب في شرح غريب المهذب، محمد بن أحمد بن بطال الركبي، مطبعة عيسى الباب الحلبي.(3/365)
52. ميلاد دولة ليبيا، محمد فؤاد شكري، مطبعة الاعتماد القاهرة، عام 1957م.
53. مجلة الانقاذ تصدر عن الجبهة الوطنية لأنقاذ ليبيا، العدد 29.
54. معجم معارك الجهاد في ليبيا 1911م-1931م، ط3، خليفة محمد التليبي، دار الثقافة 1973م.
55. مجموع فتاوى شيخ الاسلام ابن تيمية، جمع عبد الرحمن بن قاسم، الطبعة الاولى، السعودية.
56. مذكرات مجاهد، محمود الجهني.
57. مجلة البحوث التاريخية، العدد الاول، السنة السادسة عام 1984م.
58. مجلة البيان، العدد الخامس عشر، ربيع الثاني، 1988م.
59. مجلة المنار، ج9، م3.
60. منهج كتابة التاريخ الاسلامي، محمد صامل العلياني السلمي، دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة الاولى، 1406هـ/1986م.
61. محطات من تاريخ ليبيا المعاصر، مذكرات محمد عثمان الصيد، إخراج طوب للاستثمار والخدمات، الرباط بالمغرب، الطبعة الاولى 1996م.
62. نونية القحطاني، لأبي محمد عبد الله بن محمد الأندلسي، الطبعة الثالثة 1410هـ/1989م مكتبة السوداي للتوزيع.
63. النظام السياسي في الاسلام، د. محمد ابوفارس، دار الفرقان، عمان - الاردن، الطبعة الثانية 1407هـ/1986م.
64. وثائق جمعية عمر المختار، محمد بشير المغيربي، مؤسسة دار الهلال، الطبعة الاولى يناير 1993م.(3/366)