ـ[الثمار الزكية للحركة السنوسية في ليبيا]ـ
المؤلف: عَلي محمد محمد الصَّلاَّبي
الناشر: مكتبة الصحابة الشارقة - الإمارات، مكتبة التابعين، القاهرة - مصر
الطبعة: الأولى، 1422 هـ - 2001 م
عدد الأجزاء: 3 (الجزء 1، 2 في ترقيم مسلسل واحد)
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع](/)
صفحات من التاريخ الإسلامي في الشمال الأفريقي ... (7)
الحركة السنوسية
في ليبيا
الإمام محمد بن علي السنوسي
ومنهجه في التأسيس
(التعليمي والحركي والتربوي والدعوي والسياسي)
- الجزء الأول -
تأليف
علي محمد محمد الصلابي(/)
الإهداء
الى العلماء العاملين، والدعاة المخلصين،
وطلاب العلم المجتهدين، وأبناء الأمة الغيورين
أهدي هذا الكتاب سائلاً المولى عز وجل بأسمائه
الحسنى وصفاته العُلا أن يكون خالصاً
لوجهه الكريم
قال تعالى: ................ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِهِ فَلْيَعمَل عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشرِك بِعِبَادَةِ رَبِه أَحَدَاً.
(سورة الكهف، آية 110)(1/3)
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حَق تقاتِهِ ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون} (سورة آل عمران: آية 102).
{ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم اعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطعِ الله ورسوله فقد فازاً فوزاً عظيماً} (سورة النساء، الآية1).
أما بعد؛
يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت.
هذا الكتاب السابع يتحدث عن الحركة السنوسية في ليبيا وقد سميته (الإمام محمد بن علي السنوسي ومنهجه في التأسيس، التعليمي، الحركي، التربوي، الدعوي).
وقد ذكرت في مقدمة الكتاب الأول من سلسلة (صفحات من التاريخ الاسلامي في الشمال الأفريقي)؛ أن اهتمامي بالتاريخ كانت بدايته خلف أسوار السجن السياسي في ليبيا، وقد اكرمني الله تعالى أن ألتقي في مدرسة يوسف عليه السلام ببعض وجهاء بلادنا في فترة الستينات من ذوي الثقافات المتنوعة، والخبرات المتعددة، والاتجاهات(1/5)
المتباينة، وقد حرصوا على توريث تجاربهم وخبراتهم، وتاريخهم للأجيال القادمة، وقد استمعت الى بعض أبناء الحركة السنوسية وهم يتحدثون على ماقام به الدعاة والمجاهدون من أبناء الحركة في إعزاز دين الله، ونصرة أهله والدعوة إليه في الصحراء الكبرى، وغرب ووسط أفريقيا، وبلاد الحجاز، ومصر والشمال الأفريقي، وكان لذلك الحديث أثره في نفسي ومن ثم اهتميت بجمع المعلومات عن كل ما يتعلق بالحركة السنوسية، من أجل الكتابة عنها، ودراستها، دراسة تحليلية وافية، وكنت شديد الفرح بكل معلومة أحصل عليها من أفواه رجال الحركة، فأكتبها على أوراق الصابون، وأوراق البسكويت، وأوراق حليب الكورنيش بواسطة أقلام الرصاص، والجرافيت التي كنا نستخرجها من بطاريات الشحن الصغيرة؛ لأنه كان من الصعوبة بمكان الحصول على أوراق أو أقلام في المعتقل.
وبعد خروجي من السجن في 3/ 3/1988م وقد أكرمني الله بوضوح الهدف، والشعور بوجوب الدعوة الى الله تعالى، والإستعداد للتضحية في سبيلها قال الشاعر:
خرجنا من السجن شم الأنوف
كما تخرج الأسد من غابها
نمرّ على شفرات السيوف
ونأت المنية من بابها
وعندما خرجنا من المعتقل، كانت الصحوة الاسلامية قد امتدت في شرايين المجتمع الليبي، لقد غمرتني سعادة كبرى بظهور التيار الاسلامي، وامتلاء المساجد وانتشار الحجاب، وظهور التدين في المناسبات الاجتماعية إلا أنه بعد احتكاكي ببعض أبناء الصحوة، لاحظت أنها عاطفة جياشة ينقصها العلم الشرعي من الكتاب والسنة، كما وأنني لمست أنقطاعاً واضحاً عند هذا الجيل المبارك عن تاريخ أجداده وجهادهم ضد فرنسا في وسط أفريقيا والصحراء الكبرى، وجهادهم العظيم ضد ايطاليا في طول البلاد وعرضها، وجهادهم ضد بريطانيا على الحدود المصرية الليبية، وللأسف الشديد لايتذكرون من فتوحات الصحابة والتابعين لليبيا والشمال الأفريقي(1/6)
إلا ثقافة ضحلة لاتسمن ولاتغني من جوع، لذلك ازدادت قناعتي بأهمية كتابة تاريخ بلادنا ليس من الحركة السنوسية فقط؛ بل ليمتد من الفتح الاسلامي الى العصر الحديث، وبعد خروجي من بلادنا العزيزة لطلب العلم ألتحقت بالجامعة الاسلامية بالمدينة النبوية، وكانت فكرة كتابة التاريخ قد استقرت في ذهني، وشرعت في تنفيذها مستعيناً بالله العليم الحكيم، ومتضرعاً الى التواب الرحيم أن يلهمني الصواب، وييسر لي الأسباب، وبعد عشر سنين ظهرت تلك الفكرة بفضل الله ومنه وتوفيقه الى حيز الوجود في سلسلة صفحات من التاريخ الاسلامي في الشمال الأفريقي طبع منها ستة كتب، وانتشرت في المكاتب العربية، والمعارض الدولية، ووصلت الى كثير من القراء، فكانت بين مادح وذام، ومنتقد ومستدرك؛ قال الشاعر:
إن تجد عيباً فسدَّ الخللا
جل من لاعيب فيه وعلا
وقال الشاعر:
من الذي ما ساء قط
ومن له الحسن فقط
وقد وصلتني ملاحظات علمية قيمة أشكر أخواني على حسن نصحهم، وجميل أهدائهم، وتشجيعهم، وأدعو الله العلي الكبير ان يوفقني وأياهم لخدمة دينه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وتاريخ الاسلام المجيد.
وها أنا الآن أقدم للجزء الأول للكتاب السابع وقد أطلع عليه بعض المختصين بعلم التاريخ، وقد قال أحد المؤرخين: إن مايقوم به هذا الباحث الشاب رد عملي على كل من يريد أن يفصل ليبيا عن جذورها الاسلامية الممتدة في أعماق التاريخ، ومن النوادر اللطيفة عندما كنت أكتب في هذا الكتاب طرق باب بيتي مجموعة من الشباب الليبي المهاجر، فأدخلتهم وأكرمتهم وبدأت أحدثهم عن الدرر، والجواهر، والأمجاد العظيمة التي يزخر بها تاريخ بلادنا المعاصر، فقال أحدهم لي أحدهم لانريدك أن تكتب التاريخ وإنما نريدك أن تصنعه؛ فقلت لهم: أنتم تصنعونه وأنا أكتبه، فضحك(1/7)
الجميع، وماكانت تلك الكلمة لتثنيني عن هدفي الذي هيمن على نفسي ومشاعري وأحاسيسي، فبذلت له وقتي وجهدي ومالي سائلاً المولى عز وجل أن تكون أعمالي خالصة لوجهه الكريم.
إنني كلما توغلت في دراسة التاريخ ازددت قناعة بأهميته في تكوين الأمم، وتربية الشعوب، وتحقيق الآمال، وبناء الدول، ومحاربة الباطل، وإزالة الظلم، ونشر العدل.
إن هذا الجزء الأول من الكتاب السابع يعرّف القارئ الكريم بالإمام محمد بن علي السنوسي حامل لواء النهضة الحديثة في ليبيا، ومرسي قواعدها، وموقد جذوة الإيمان في قلوب قبائلها.
يتحدث هذا الكتاب عن حياة هذا الإمام الذي بارك الله في علمه وعمله واحيا الله به شعباً حمل لواء الدعوة والجهاد في الصحراء الكبرى، ووسط أفريقيا ولم يتردد في بذل ماله ورجاله من أجل نصرة دين الله تعالى.
ويسلط الأضواء على جوانب متعددة في منهج الحركة السنوسية، ليبين للقارئ الكريم أن شعب ليبيا عندما أكرمه الله تعالى بداعية رباني، استطاع أن يفجر طاقته الكامنة تحول الى مجتمع اسلامي قوي حمل مشاعل النور في قلب أفريقيا المظلمة وبذل الغالي والنفيس في سبيل الاسلام.
ويوضح للقارئ الكريم أن ابن السنوسي يعتبر رائداً من رواد مدرسة الاصلاح الاسلامي في الشمال الأفريقي ووسطها وغربها عمل على نشر الاسلام الصحيح، ومحاربة البدع، والخرافات، والشعوذة بأنواعها وأشكالها، التي لحقت به في عصورها المتأخرة في مشرقه ومغربه على حد سواء.(1/8)
إن هذا الجهد المتواضع يزيل اللثام عن شخصية علمية دعوية ربانية كان لها أثر ولازال في لييا خصوصاً وافريقيا عموماً ويجيب القارئ على كثير من الأسئلة التي يحتاجها المهتمون بدراسة الدعوات الاصلاحية، والتي يبحث عن إجابتها دعاة الاسلام في لييا خصوصاً.
ماهي رحلات ابن السنوسي العلمية؟ وماهي العلوم التي درسها؟ ومن هم شيوخه؟ وماسر نجاحه؟ وماهي صفاته؟ وكيف تعرف على أحوال المسلمين واخلاقهم؟ وكيف استطاع أن يتصل بالكثير من القادمين من مختلف أنحاء العالم الاسلامي؟ وماهي خطة عمله التي سار عليها؟ وهل استفاد من حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وتجربة محمد علي باشا حاكم مصر؟ وماهو اسلوبه في التعامل مع الدولة العثمانية، وعلمائها؟ وكيف تعامل مع الطرق الصوفية، والقبائل البدوية، والقبائل الوثنية؟ وماهي حقيقة الزوايا السنوسية؟ وهل استطاع ابن السنوسي أن يجعل من قبائل ليبيا قوة اسلامية يحسب لها حسابها الاقليمي، والدولي؟ وهل كانت مفاهيم الحركة السنوسية سلفية؟ وماهي علاقة ابن السنوسي بحركة الجهاد ضد ايطاليا وفرنسا؟ وهل كان من الممكن أن يخرج أبطال الجهاد، من أمثال أحمد الشريف، وعمر المختار وغيرهم لولا الله ثم جهود ذلك المصلح العظيم؟
نعم علامات استفهام كثيرة نحاول الاجابة عليها في الجزء الأول ثم الجزء الثاني بإذن الله تعالى.
هذا وإنني لم آتي بجديد، وإنما وفقني الله تعالى للجمع والترتيب والتحليل، فإن كان خيراً؛ فمن الله وحده، وإن أخطأت السبيل فأنا عنه راجع إن تبين لي ذلك والمجال مفتوح للنقد، والرد والتعليق والتوجيه، كما أقرر بأنني قد استفدت كثيراً في كتابي هذا من الجهود التي سبقتني، ككتاب (السنوسية دين ودولة) لمحمد فؤاد شكري، والحركة السنوسية، للدجاني، وبرقة العربية أمس اليوم للأشهب، والسنوسي الكبير للأشهب، والفوائد الجليلة في تاريخ العائلة السنوسية لعبد القادر بن علي، والمجموعة المختارة للإمام ابن السنوسي التي جمعها(1/9)
محمد عبده بن غلبون وإخوانه، وغيرها من الكتب، وقد دونت مااختصرته من مباحث وأشرت إليه في هامش الكتاب للأمانة العلمية، كما أنني انتهجت منهجاً دعوياً، تاريخياً يعتمد على توسيع النقاط البيضاء المشرقة، وتضييق النقاظ السوداء المظلمة، مساهمة مني في علاج الهزيمة النفسية التي يمر بها شعبنا المظلوم ومتضرعاً لله تعالى الحي القيوم أن يحي شعبنا وأمتنا بالإيمان والقرآن الكريم، وسنة سيد الخلق أجمعين.
وقد قمت بتقسيم الجزء الأول من الكتاب السابع في السلسلة التاريخية الى مقدمة، وثلاثة فصول، وخاتمة، وهي كالآتي:
الفصل الأول: الإمام محمد بن علي السنوسي، ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: اسمه ونسبه وشيوخه ورحلاته في طلب العلم.
المبحث الثاني: اسباب اختيار ابن السنوسي برقة مركزاً لدعوته.
المبحث الثالث: إقامة ابن السنوسي في الحجاز وعودته الى برقة.
الفصل الثاني: البعد التنظيمي، والمنهج التربوي، والبعد السياسي عند ابن السنوسي ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: البعد التنظيمي.
المبحث الثاني: المنهج التربوي.
المبحث الثالث: البعد السياسي.
الفصل الثالث: اسلوبه الدعوي، وثروته الفكرية، وصفاته الربانية ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الأسلوب الدعوي.(1/10)
المبحث الثاني: الجانب الفكري عند ابن السنوسي من خلال كتبه.
المبحث الثالث: من أهم صفات ابن السنوسي.
ثم نتائج البحث.
وأخيراً: أرجو من الله تعالى أن يكون عملاً خالصاً لوجهه الكريم وأن يثيبني على كل حرف كتبته ويجعله في ميزان حسناتي وأن يثيب إخواني الذين أعانوني بكافة مايملكون من أجل إتمام هذا الكتاب.
((سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين)).
الفقير الى عفو ربه ومغفرته
علي محمد محمد الصّلابي(1/11)
المدخل
أحوال العالم الاسلامي قبيل ظهور الحركة السنوسية
بدأ الضعف والانحلال يدب في أوصال الأمة الاسلامية بعد وفاة صلاح الدين الأيوبي الذي هزم الصليبين، وطهر بلاد المسلمين منهم، ومما زاد الأمر سوءً احتلال التتار للمماليك الاسلامية، وتمزيقهم للأمة، والعمل على إزالت معالمها الحضارية، والدينية، والعلمية، وشاءت إرادة الله النافذة أن يلطف بهذه الأمة، فأكرم الله العثمانيين بالتمكين، وكان قمة ذلك التمكين في زمن السلطان محمد الفاتح الذي أجرى الله على يديه فتح القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية عام 857هـ/1453م، وبذلك عادت للأمة هيبتها، وقوتها، ومجدها، وعزتها، وتولى العثمانيون زعامة الأمة الاسلامية، وكان الشعب العثماني قد تميز بالحماس، وحب الجهاد، وعشق الشهادة في سبيل الله، وسلامة الفطرة، والبعد عن الأمراض الاجتماعية التي اصابت غيره من الشعوب، أضف الى ذلك القيادة الربانية التي كانت تقود الشعب نحو ساحات الوغى، وتعمل على نشر الاسلام، وتزيل العوائق من أمام الأمم المفتوحة، ليعرض عليها الاسلام صافياً نقياً من كل شائبة، وهيمن الاسلام من جديد على زعامة العالم وقيادته، وأصبحت الدولة العثمانية تحكم في ثلاث قارات: أوروبا، وأفريقيا، وآسيا، وتوغلت في أوروبا، حتى بلغت الجيوش العثمانية أسوار فينا، وكانوا سادة البحر المتوسط من غير نزاع، وقد جمعوا بين السيادتين، البرية، والبحرية، وبين السلطتين الروحية والسياسية (1).
(ولكن من سوء حظ المسلمين. أخذ الترك في الانحطاط ودب إليهم داء الأمم من قبلهم: الحسد والبغضاء، واستبداد الملوك وجورهم، وخيانة الأمراء وغشهم للأمة. وإخلاد الشعب الى الدعة والراحة. وكان شر ما أصيبوا به الجمود في العلم والجمود في صناعة الحرب، وتنظيم الجيوش) (2).
_________
(1) انظر: امام التوحيد، محمد عبد الوهاب، ص8،9.
(2) انظر: ماذا خسر العالم بإنحطاط المسلمين للندوي، ص148.(1/12)
وأخذت ملامح القوميات العرقية تظهر على مسرح الأحداث في الدولة، وتفجرت الثورات في البلقان، وشرعت في تشكيل جمعيات قومية سراً، وعلناً، وبدأت التوجيهات العلمانية تظهر في الأمة، وعمل اليهود والنصارى على تقوية هذه الاتجاهات المفسدة، فاليهود أرادوا الانتقام لأن العثمانيين منعوهم من فلسطين، والنصارى يريدون أن ينتقموا لحملاتهم الصليبية التي فشلت في تحقيق أهدافها أمام جهاد عماد الدين، ونور الدين، وصلاح الدين.
كانت الأحزاب العلمانية، والجمعيات السرية، والعصبيات القومية، تنخر في كيانها الدولة العثمانية؛ فظهر من يدعو الى القومية الطورانية، والعربية، والكردية ... الخ وبدأت الثورات تتفجر في البلدان، وأخذت الحركات الانفصالية تتكاثر، وأخذت الدول الأوروبية في دعمها، وتعد المشاريع لاقتسام تركة الرجل المريض، وكان العالم الاسلامي آنذاك منضوي تحت لواء الدولة العثمانية التي فقدت عوامل النهوض، واهملت شروط التمكين، وتباعدت عن اسبابه، وتخلفت عن ركب الحضارة، فدخلت الأقاليم الاسلامية في دوامة التدهور، والظلام الحالك، والمحنة الشاملة، والجهل المطبق والظلم الفادح، والفقر المدقع، فتفجرت الثورات بدوافع مختلفة، فمرة بدوافع العرق والقومية، واخرى دفاعاً عن النفس ضد الجور، والتعسف والظلم، وتارة بدافع الحقد، والتعصب، وكانت اليهودية والصليبية خلف تمزيق السلطنة، وإضعافها، فكثرت مصائبها، وتعددت جبهاتها، وأصبح مركز الخلافة، مفككاً، ضعيفاً، متدهوراً، منحلاً، وقد اصيبت الولايات، كالجزائر، وتونس، وليبيا، ومصر، والشام والحجاز، بالضعف الشديد، والتدهور المريع، بسبب الظلم والاستبداد، وانتشار الجهل، وجمود العلم، وغياب القادة وصاحب هذا الانهيار في كيان الدولة، أحداث خطيرة، كان لها أثر فعال على المسلمين وجميع جوانب حياتهم، الفكرية، والدينية، والعلمية والسياسية فمن ذلك:
أ. احتل الفرنسيون مصر عام 1798م وظلوا فيها حتى عام 1801م، وتمكن محمد علي باشا من الانفراد بحكمها بعد خروج فرنسا
(1805 - 1848م) وكان هذا(1/13)
الرجل مصيبة كبرى على الأمة، واستطاعت الدول الأوروبية، والمحافل الماسونية أن تحقق اهدافها بواسطته، فعمل على:
تحطيم الدولة السعودية الأولى التي كانت خنجراً مسموماً في ظهر الاطماع البريطانية في الخليج العربي خصوصاً، والمشرق عموماً.
فتح البلاد على مصرعيها لإقامة مؤسسات معادية للدين الاسلامي والمسلمين؛ كالمحافل الماسونية، والارساليات التبشيرية، والأديرة والكنائس، ومدارس تتعهد التيارات القومية المعادية للاسلام، وبث الافكار المعادية للأمة.
اتاح الفرصة لشركات أوروبية تحكمت في اقتصاد البلاد.
منح امتيازات واسعة للأوروبيين، ومنع المسلمين منها.
خنق التيار الاسلامي الأصيل، وضيق على العلماء والفقهاء، ولم يسمح للمسلمين أن يتكتلوا من أجل أهدافهم السامية، وغير ذلك من المساوئ.
ب- وفي عام 1830م احتلت فرنسا الجزائر، وفشلت الدولة العثمانية في منعها، وحاولت فرنسا جعل الجزائر قطعة منها، ثم امتد نفوذها الى تونس عام 1881م، ودخلت الى السودان الغربي.
ج- احتلت بريطانيا عدن عام 1839م وبدأت في توسيع نفوذها وسلطانها على دول الخليج العربي، وبعض بلاد الشام، وحاولت الدولة العثمانية وقف السرطان الصليبي الذي انهك جسم الأمة ولكنها فشلت وأصبحت الأمة تعاني من الآثار المترتبة بسبب ابتعادها عن شرع الله تعالى؛ فمن الناحية الاجتماعية، تفشى الجهل، وأصبح عاماً شاملاً لكل الديار الاسلامية، وضمر الايمان، وتقاعست النفوس، وكان النزاع بين الأمراء مستمراً على حطام الدنيا، وأصبح كل حزب بما لديهم فرحون، وولاة الدولة العثمانية همهم جمع الاموال، وتكثير الأملاك إلا مارحم الله، وأخذ الظلم الذي استشرى يعجل بزوال الدولة العثمانية، أما من الناحية العلمية؛ أصبحت الأمة في ليل حالك وظلام دامس؛ وتفشى الجهل في كل طبقات الأمة(1/14)
وفي جوانبها الثقافية كالأدب، والعلم، والصناعات، ... وكان العالم الاسلامي من شرقه الى غربه مصاباً بالجدب العلمي، وشبه الشلل الفكري، وأصبح في حالة غيبوبة، واستولى عليه النعاس الشديد، ومات فيه النشاط، والحيوية، والأبداع، والاجتهاد في العلم والدين، والأدب، والشعر، والحكمة ودخلت الأمة في نفق التقليد الأعمى، وكان مظلماً شديد الظلمة.
وأصبحت الجامعات الكبرى كالأزهر، والزيتونة تهتم بالمتون وتترقى في الشروح، ومن بلغ الذروة في العلم والمعرفة فهم ما في الحواشي، وعاش العالم الاسلامي في عزلة سياسية وعلمية مخيفة، فلا علاقة له بشعوب الارض إلا من خلال النزاع السياسي، والصدام العسكري، فتجمدت حياته العلمية وانتهت الى ترديد كتب وعبارات الأقدمين والمجتهد النحرير من يفهمها (1).
(وأصبح العلم مع الزمن، احتكاراً لأسر معينة، وغدت طبقة العلماء طبقة اجتماعية ذات امتيازات خاصة، واتخذت موقفاً صلباً ضد كل تجديد في عالم الفكر، فقد قاوموا إدخال المطابع الى الدولة وطباعة الكتب الدينية الاسمية ... ) (2).
وكان العلماء هم المشرفون على التربية والتعليم في الدولة، ولم يستطع العلماء أن يجعلوا للتعليم في المدارس والمعاهد برنامجاً متطوراً يتناسب مع عصرهم، وقد تحدث بعض المفكرين عن عيوب التعليم متخذين من الأزهر الشريف مثلاً على ماوصلوا إليه؛ فقد قال محمد خليل المرادي عن عيوب التعليم في الأزهر مايلي:
1. قبول أبناء الأكابر والأغنياء في الأزهر ممن لايتمعون بمستوى تعليمي جيد.
2. تدني مستوى الأساتذة.
3. استئثار بعض الاساتذة بتعليم كثير من المواد بحيث يعينون بدلاء عنهم مقابل مرتب زهيد.
_________
(1) انظر: امام التوحيد، ص17.
(2) انظر: زعماء الاصلاح في العصر الحديث، ص6.(1/15)
4. تحديد الموضوعات، وضيق النظر في التدريس، فقد كان الهدف في التعليم تلقي بعض المعلومات المحدودة، أما تجاوز هذه المعلومات أو مجرد التساؤل عن صحتها، فقد يثير الشكوك ومقاومة العلماء أو قد يصل الى حد العقاب والطرد من المعهد أو فقدان مصدر العيش ناهيك عن التشهير (1).
هذه أهم ملامح الحياة الأدبية والعلمية في ذلك العصر.
أما من الناحية الصناعية:
فقد ضيع المسلمون الأعمار، وأخلدوا الى التقليد الأعمى، ورضوا بالجمود، ولم يبتكروا في الصناعات، بل أضاعوا ماكان لديهم من صناعات قديمة، وفقدوا مهارتهم، وحاول السلطان العثماني سليم الثالث أن يهتم بالإصلاح الصناعي، فأنشأ مدارس جديدة، وكان يعلم نفسه في مدرسة الهندسة، وألف جيشاً على الطراز الحديث فثار عليه الجيش لغرابة ذلك، وتم قتله.
ومن الناحية الدينية:
(كان علماء الدين في الدولة العثمانية يعتبرون أنفسهم حماة الشريعة والحريصين على التمسك بمذهب أهل السنة، إذ كان دين الدولة الاسلام ومذهبها الرسمي هو المذهب الحنفي، وكان على رأس هؤلاء العلماء شيخ الاسلام ووظيفته شبيهة بوظيفة الخليفة العباسي الذي كان يقيم في القاهرة في ظل حكم الممالك، وكان مركزه معادلاً لمركز الصدر الأعظم (رئيس الوزراء)، ويتمتع شيخ الاسلام بصلاحية إصدار الفتاوى في القضايا الكبرى، كأن يصدر فتوى بعزل السلطان أو أعلان الجهاد، ولكنه من الناحية العملية يعين من قبل السلطان ويلي شيخ الاسلام في منصبه (قاضيا العسكر) في الروملي، والاناضول، وقاضي استانبول، ويليهم عدد من القضاة يكونون جميعاً مع شيخ الاسلام (المجلس الاعلى للعلماء) (2).
_________
(1) انظر: الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة، علي المحافظة، ص14 - 15.
(2) انظر: الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة، ص12.(1/16)
وجمد المسلمون في علوم دينهم فليس لديهم إلا ترديد بعض الكتب الفقهية، والنحوية، والصرفية، ونحوها، وجمدوا على فقه المذاهب، وجل همهم التعمق في الحواشي، وحفظ المتون، دون القدرة على الاجتهاد.
وجعلوا لكل مذهب من المذاهب الفقهية مفتياً وإماماً، وتعددت الجماعات في المسجد الواحد كل ينتصر لمذهبه، وكل يصلي خلف إمام حسب المذاهب المتواجدة في ذلك المسجد، كما أن الافتاء في أي مسالة حسب مذهب السائل، وحرم على الناس خروجهم عنها، وأغلق باب الاجتهاد بمغاليق من حديد، وكان علماء الدين كما وصفهم المؤرخ الجبرتي: (انهم قد زالت هيبتهم من النفوس، وانهمكوا في الأمور الدنيوية والحظوظ النفسانية والوساوس الشيطانية، ومشاركة الجهال في المآتم، والمسارعة الى الولائم في الافراح والمآتم، يتكالبون على الاسمطة، كالبهائم، فتراهم في كل دعوة ذاهبين، وعلى الخوانات راكعين ولما وجب عليهم من النصح تاركين) (1).
أمور يضحك السفهاء منها
ويبكي من عواقبها اللبيب
وعندما دخل نابليون بونابرت مصر غازياً، استفاد من أمثال أولئك العلماء وألف منهم ديوان القضاء وقال: (إني استعين بهم لاتقاء أكثر العقبات إذ أن أكثرها دينية، ولأنهم لا يعرفون أن يركبوا حصاناً، ولا أن يقوموا بأي عمل حربي، وقد استفدت منهم كثيراً، واتخذتهم وسيلة للتفاهم مع الشعب) (2).
لقد انتشرت في ذاك العصر الدعوات المنحرفة، والأفكار المسمومة، وكثرت مظاهر تقديس القبور، وطلب الحاجات من أصحابها، وبناء القباب الضخمة عليها
_________
(1) انظر: امام التوحيد، ص22.
(2) انظر: انتشار دعوة الشيخ خارج الجزيرة العربية، ص12.(1/17)
والصلاة حولها، وارتكاب البدع الخطيرة، وانتشر التصوف المنحرف في ارجاء البلاد الاسلامية، شرقها، وغربها، عربيها وعجميها، لقد ضاع مفهوم العبادة الصحيح، والولاء والبراء، وانحرفت الأمة عن كتاب ربها وسنة رسولها - صلى الله عليه وسلم -، فكان من الطبيعي أن تتعرض لضربات أعدائها، وأطماعهم الشريرة، فإذا نظرنا للدولة العثمانية، نجدها قد انقلبت الى مطايا استبداد وفوضى واغتيال، وكثر السلب والنهب، وفقد الأمن، وانحرفت بعض السلاطين عن الصواب يقول محمد كمال جمعة: (وكانت قصور السلاطين والوزراء وكبار رجال الدولة مملؤة بالجواري والسبايا، وكان بعض أولئك السبايا أجنبيات من بلاد أجنبية فكن عيوناً لدولهن على الدولة العثمانية) (1).
(وقد تعالى سلاطين هذه الدولة على الرعية فإذا خاطبوا الرعية كانوا لايوجهون الخطاب إليها مباشرة بل يقولون لولاتهم بلغوا عبيد بابنا العالي) (2).
وكانت الدولة العثمانية في آخر زمانها لا تحارب التصوف المنحرف بمختلف طرائقه وبصوره التي بعدت عن الاسلام بعداً شاسعاً، وكانت قد دخلت من عادات بعضها نصرانية، كالرهبانية، واللعب بذكر الله، وابتداع أساليب فيه، كالرقص، والغناء والصياح، والتصفيق ... الخ.
فإذا نظرنا الى بلاد فارس؛ نجد الدولة الصفوية الرافضية قد عاصرت الدولة العثمانية، وكانت تدعي الاسلام وهي دولة رافضية على مذهب الامامية وكانت تغالي في الرفض حتى أنها حاربت الدولة العثمانية لأنها منسوبة الى السنية أشد الحرب بتحريض من النصارى والصليبيين، واستجابة لمعتقدهم الفاسد.
أما إذا نظرنا الى بلاد الهند؛ فقد كانت الدولة المغولية؛ لكنها كانت بقية ورثها أبناء ملك الهند المغولي أكبر خان، وقد قرب الشاعر الشيعي المسمى الملا مبارك ووليده، أبا الفائز (وكان شاعراً متصوفاً) وأبا الفضل (وكان فيلسوفاً على طريقة
_________
(1) انظر: انتشار دعوة الشيخ خارج الجزيرة العربية، ص12.
(2) المصدر السابق نفسه، ص13.(1/18)
الصوفية المنحرفة)، وجعل فتح اله الشيرازي من أكابر علماء الشيعة من فارس مستشاره الشرعي، وهو شديد الوطأة على علماء أهل السنة، وألغى اللسان العربي من بلاطه وجعل الفارسي مكانه، وكان ميالاً الى التصوف المنحرف ويراه أرقى طريقة إسلامية، وهو على طريقة تصوف أهل وحدة الوجود، وله عقائد أخرى منها تناسخ الأرواح - أخذه عن البراهمة (1).
مما دعا الشيخ العالم ولي الله الدهلوي (ت1176هـ) في نهاية هذا العصر المغولي أن يقوم بجهود تكسر الجمود، وتطلق العقول لتتمش مع صلاحية الاسلام لكل زمان ومكان (2)، لكن انتهت دولة المغول في الهند، وطمعت البرتغال الكافرة في مسلمي الهند بسبب فساد ملوك هذه الدولة المغولية، وقامت حروب داخلية كثيرة، وتغلب فيها الهندوس واستعمرتها شركة الهند الشرقية الانجليزية حوالي 1175هـ (3).
وأما المغرب الأقصى:
كانت دولة العلويين تعاني من خلافات القبائل وثورات البربر ونزاع الطامعين على العرش، وتحاول جاهدة في الحفاظ على نفسها أمام أطماع الدول الاستعمارية، وقد كان لها قبل ذلك القرن اسطول بحري قوي حمى حدودها البحرية، وفرض احترامها على الدول الأوروبية ولكنها خسرته في عهد السلطان سليمان الذي اهمله واختار اتباع طريقة عقد المعاهدات مع الدول الأوروبية، وعندما حاول ابنه السلطان عبد الرحمن اعادة بناء الاسطول وقفت له تلك الدول بالمرصاد واجبرته على التخلي عن عزمه (4).
وبدأت الدول الأوروبية تستقطع من العالم الاسلامي دولاً كلما اتيحت لها الفرصة، لقد اهتز المسلمون لاحتلال الصليبيين لأجزاء من الوطن الاسلامي اهتزازاً
_________
(1) انظر: موجز تاريخ تجديد الدين واحيائه للمودوي، ص69 - 79.
(2) المصدر السابق نفسه، ص79،80.
(3) انظر: انتشار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص20،21.
(4) انظر: الحركة السنوسية، ص12.(1/19)
عنيفاً، كما أثر عليهم احتكاكهم بالغرب، واطلاعهم على تقدمه، بالاضافة الى إحساس بعضهم بتخلف المسلمين وانحطاطهم.
ومن هذا نبعت حركات الاصلاح التي تتابعت في العالم الاسلامي منذ النصف الثاني للقرن الثامن عشر، بتأثير عوامل عديدة منها؛ إحساس بعض العلماء الربانيين بسوء الاوضاع في العالم الاسلامي، وتحدي العالم الصليبي الأوروبي للعالم الاسلامي احتلاله أجزاء منه، فقامت حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نجد، وكان الدافع لها إحساس مؤسسها بإنحطاط المسلمين، وتأخرهم؛ لقد أذن الله سبحانه وتعالى بظهور دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب، بعد ما أطبقت الجهالة على الأرض، وخيمت الظلمات على البلاد، وانتشر الشرك والضلال والابتداع في الدين، وانطمس نور الاسلام، وخفي منار الحق والهدى وذهب الصالحون من أهل العلم فلم يبقى سوى قلة قليلة لا يملكون من الأمر شيئاً، واختفيت السنة وظهرت البدعة، وترأس أهل الضلال والأهواء واضحى الدين غريباً والباطل قريباً، حتى لكان الناظر الى تلك الحقبة السوداء المدلهمة ليقطع الأمل في الإصلاح ويصاب بيأس قاتل في اية محاولة تهدف الى ذلك.
فكانت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- تعد البداية الحقيقية لما حدث في العالم الاسلامي من يقظة جاءت بعد سبات طويل، وما تمخض عنها من صحوة مباركة ورجعة صادقة الى الدين (1).
لقد كان أثر دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عظيماً في العالم الاسلامي، ويكفي في ذلك أن تكون عقيدة أهل السنّة آخذة في الظهور والزيادة والقوة، بعد أن كانت غريبة ومحاربة في أكثر البلاد، وبدأت الأمة تلتمس كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لتسير على هدى الاسلام الصحيح في حياتها.
وظهر الامام محمد بن علي السنوسي بدعوته الاسلامية بعد وفاة محمد بن عبد الوهاب
_________
(1) انظر: الانحرافات العقدية والعلمية للزهراني (2/ 358).(1/20)
بعشرات السنين وكان لدعوته، أثر في مسيرة الأمة الاسلامية في الشمال الأفريقي، وغربها ووسطها، وكذلك في الحجاز وغيرها من أقطار العالم الاسلامي، ونترك للصفحات القادمة إعطاء القارئ الكريم صورة واضحة عن حياته، ورحلاته، وأعماله، وكيف عاش واقع المسلمين المؤلم، وخطر الأوروبيين المحدق، فاندفع يعمل محاولاً الاصلاح، وماهي العوامل التي أثرت عليه ودفعته الى القيام بحركته؟ وماهي مؤلفاته وأفكاره؟ وماهو نظامه الحركي الذي سار عليه حتى وصل الى ماوصل إليه؟
هذا ماسوف نتركه للكتاب للإجابة على هذه الأسئلة وغيرها.(1/21)
الفصل الأول
الإمام محمد بن علي السنوسي
المبحث الأول
اسمه ونسبه وشيوخه ورحلاته في طلب العلم
أولاً: اسمه ونسبه:
هو الشيخ محمد بن علي بن السنوسي بن العربي بن محمد بن عبد القادر بن شهيدة بن حم بن يوسف بن عبد الله بن خطاب بن علي بن يحيى بن راشد بن أحمد المرابط ابن منداس بن عبد القوي بن عبد الرحمن بن يوسف بن زيان بن زين العابدين بن يوسف بن حسن بن ادريس بن سعيد بن يعقوب بن داود بن حمزة بن علي بن عمران بن إدريس بن إدريس بن عبد الله الكامل ابن الحسن المثنى بن الحسن السبط ابن علي (1) بن أبي طالب الهاشمي القرشي.
ولد سنة 1202هـ صبيحة يوم الاثنين الموافق الثاني عشر من ربيع الأول عند طلوع الفجر ولذلك سماه والده محمداً تيمناً باسم النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانت ولادته بضاحية (مَيْثاً) الواقعة ضفة وادي شِلْف بمنطقة الواسطة التابعة لبلدة مستغانم في الجزائر (2) وتوفي والده بعد عامين من ولادته، وتولت عمته فاطمة تربيته وتنشئته تنشئة صالحة وكانت من فضيلات أهل زمانها، ومتبحرة في العلوم ومنقطعة للتدريس والوعظ يحضر دروسها ومواعيظها الرجال (3) واهتمت السيدة فاطمة بابن أخيها الذي أظهر حباً عظيماً لتحصيل العلوم، فأخذ يطلب العلوم من شيوخ مستغانم، وغيرها من البلاد المجاورة لها مع تعهد عمته له ومن أشهر شيوخه في تلك المرحلة، فمنهم من أخذ عنهم القرآن الكريم مع القراءات السبع، محمد بن قعمش الطهراوي زوج
_________
(1) انظر: المجموعة المختارة للإمام السنوسي، ص7.
(2) انظر: الفوائد الجلية في تاريخ العائلة السنوسية، عبد القادر بن علي (1/ 8).
(3) انظر: السنوسية دين ودولة، د. محمد فؤاد شكري، ص11.(1/22)
عمته، وابنه عبد القادر وكانا عالمين جليلين صالحين وابن عمه الشيخ محمد السنوسي الذي تولاه بعد وفاة عمته في الطاعون عام 1209هـ وعمره لم يتجاوز السابعة واتم على ابن عمه حفظ القرآن الكريم برواياته السبع مع علم رسم الخط للمصحف والضبط وقرأ عليه الرسالات الآتية، مورد الظمآن، المصباح، العقيلية، الندى، الجزرية، الهداية المرضية في القراءة المكية، حرز الأماني للشاطبي، وغيرها مما هو من وظائف قارئ القرآن (1)
وبعد أن أتم مايلزمه من لوازم حفظ القرآن واتقانه شرع ابن عمه الشيخ محمد السنوسي في تعليمه العلوم العربية ثم الدينية بالتدرج وتربيته على العمل بما تعلم وكان يزوده بتراجم العلماء والقادة والفقهاء وتوفي ابن عمه عام 1219هـ فجلس محمد بن علي على شيوخ من مستغانم وهم: محي الدين بن شلهبة، ومحمد بن ابي زوينة، وعبد القادر بن عمور، ومحمد القندوز، ومحمد بن عبد الله، وأحمد الطبولي الطرابلسي، وكلهم من جهابذة العلماء في زمانهم ومكث يطلب العلم في مستغانم سنتين كاملتين (2).
وفي أوائل 1221هـ خرج من مستغانم إلى بلدة مازونه ومكث بها سنة واحدة وتتلمذ على مجموعة من المشائخ هم، محمد بن علي بن أبي طالب، أبو رأس المعسكري، وأبو المهل أبو زوينه (3).
وبعد ذلك رحل إلى مدينة تلمسان وأقام بها مايقارب من السنة وتتلمذ على كبار شيوخها (4).
ثانياً: نبوغ مبكر:
كان الشيخ محمد بن علي السنوسي في صغره يميل إلى الإنزواء والإنفراد ويمضي وقتاً طويلاً في التفكير العميق، ويتألم من حال الأمة وما وصلت إليه من الضعف والهوان والضياع وكان يبحث عن عوامل النهوض، وأسباب توحيد صفوف الأمة، واحياء الملة الإسلامية، وحدث ذات مرة أن وجده بعض العلماء جالساً فوق
_________
(1) انظر: الفوائد الجلية (1/ 10) ..
(2) انظر: الفوائد الجلية (1/ 10).
(3) المصدر السابق نفسه (1/ 11).
(4) المصدر السابق نفسه (1/ 11).(1/23)
كثيب من الرمال تظهر على صفحات وجهه المشرق علامات التفكير العميق، فلما سألوه عن السبب في ذلك، أجاب بأنه (يفكر في حال العالم الإسلامي الذي لايعدو عن كونه قطيعاً من الغنم لاراعي له على الرغم من وجود سلاطينه وأمرائه ومشايخ طرقه وعلمائه، فمع أن هناك عدداً كبيراً من المرشدين وعلماء الدين الموجودين في كل مكان، فإن العالم الإسلامي لايزال مفتقراً أشد الافتقار إلى مرشد حقيقي يكون هدفه سوق العالم الإسلامي أجمع إلى غاية واحدة ونحو غرض واحد والسبب في هذا إنعدام الغيرة الدينية لدى العلماء والشيوخ وإنصرافهم إلى الخلافات القائمة بينهم قد فرقتهم شيعاً وجماعات فأصبحوا لايعنون بنشر العلم والمعرفة ولايعملون بأوامر الدين الحنيف، وهو دين توحيد أساسه الاتحاد وجمع الكلمة. زد على هذا أن على هؤلاء العلماء والشيوخ واجب عظيم في حق الملة الإسلامية، إذ أن الشعوب المجاورة في السودان والصحراء من افريقية الغربية - لاتزال تعبد الأوثان، ومع هذا فانهم بدلاً من وعظ هذه الشعوب الوثنية وإرشادهم إلى الدين القويم، مازالوا يفضلون القبوع في كل مسجد من مساجد المعمورة غير عاملين بعلمهم لاهم لهم إلا راحة أجسامهم، حريصين على لذاتهم، غير قائمين بواجبات مراكزهم، لاضمائر لهم تؤنبهم على إهمالهم إرشاد هؤلاء المساكين، الوثنيين (1).
ومع ذلك فقد بلغ السيد من القوافل الواصلة إلى بلده مستغانم أن الإسلام مغلوب على أمره في كل محل، (وأن المقاطعات والخطط المعمورة تذهب من أيدي المسلمين في كل وقت وبسرعة البرق، فالإسلام في حالة التدهور المخيف. تم ختم كلامه بقوله: (هذا ما أفكر فيه! فلما سألوه وماذا يجب على المسلمين عمله لتلافي ماذكرت، أجاب: سأجتهد، سأجتهد) (2).
لقد كان تفكيره في حال الأمة مبكراً، واجتهد في البحث عن العلل والأسباب التي أدت إلى التدهور والضعف المخيف في كيان الأمة وذكر أن من أسباب هذا
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص13.
(2) انظر: السنوسية دين ودولة، ص13.(1/24)
الضياع فقدان القيادة الراشدة، وغياب العلماء الربانيين، وانعدام الغيرة الدينية، والإنشغال بالخلافات التي فرقتهم شيعاً وجماعات، والتفريط في حق دعوة الناس إلى الإسلام، وضياع الأقاليم الإسلامية، ولذلك اهتم بالبحث عن عوامل النهوض فرأى أن بدايتها في الإيمان العميق الذي هو أساس كل خير وسبب لحصول البركات ونزول الأرزاق قال تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ... } (سورة الأعراف، الآية: 9).
إن الإيمان هو القضية الأولى والأساسية لهذه الأمة، فإذا تخلف المسلمون عن غيرهم في وسائل الحياة الحرة الكريمة فمرد ذلك إلى انحرافهم عن فهم الإسلام فهماً سليماً، وعن ضعف إيمانهم بقيمه ومثله ولاسبيل إلى إصلاح حالهم ومآلهم إلا بالإيمان على الوجه الذي بينه الله في كتابه، ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في سنته. وهو أن يكون طاقة دافعة إلى العمل، وقوة محركة للبناء، وحافزاً طبيعياً للتفوق (1).
وقد وصل إلى حقيقة مهمة ألا وهي أهمية العلم في نهوض الأفراد والجماعات والأمم، لأن العلم ظهير الإيمان، وأساس العمل الصالح، ودليل العبادة (2).
فبعد أن قطع المرحلة الأولى من طلب العلم في بلده الجزائر اشتاقت نفسه للمزيد:
قال أبو اسحاق الألبيري - رحمه الله -:
فلو قد ذقت من حلواه طعماً
لآثرت التعلم واجتهدت
ولم يشغلك عن هوى مطاع
ولادنيا بزخرفها فتنا
ولا ألهاك عنه أنيق روض
ولاخدر بزينتها كلفتا
فقوت الروح أرواح المعاني
وليس بأن طعمت ولاشربتا
ثالثاً: الرحلة إلى فاس:
وكانت المرحلة الثانية في الطلب، حيث قصد مدينة فاس في المغرب الأقصى
_________
(1) انظر: التمكين للأمة الاسلامية، محمد السيد، ص41.
(2) انظر: التمكين للأمة الاسلامية، ص62.(1/25)
ومكث فيها سبع سنوات تقريباً، فأخذ العلم بالرواية عن أفاضل علماء فاس مثل، حمودة بن حاج، حمدون بن عبد الرحمن، والطيب الكيراني، محمد بن عامر المعواني، وأبي بكر الأدريسي، وادريس بن زيان العراقي، ومحمد بن منصور، ومحمد بن عمر الزروالي، ومحمد البازعي، والعربي بن أحمد الدرقاوي، وكان العربي الدرقاوي من شيوخ الطريقة الشاذلية، وتبحر ابن السنوسي في معرفة الطرق الصوفية إلى جانب التفقه في علوم الدين، وتحصل على إجازات من علماء راسخين وأصبح مدرساً بالجامع الكبير بمدينة فاس ونال المشيخة الكبرى بها (1) وأقبل الناس عليه لما رأو من صلاحه وتقواه وفهمه الدقيق لعلوم الشريعة، وروحه الفياضة، وعقله المتنور، وفكره الناضج، وخشيت حكومة السلطان سليمان من نفوذه وبدأت العراقيل، ووجد أن لافائدة ترجى من بقائه بفاس وقرر الارتحال عنها بعد أن تبلورت أصول الدعوة في ذهنه وعزم على محاربة الأوهام والخزعبلات التي أبعدت الاسلام عن حقيقته، وحجزته بينه وبين أتباعه من أن يحقق لهم ماحققه في عهده الأول من رفعة وتلك هي الوسيلة الوحيدة التي تمنح المسلمين القوة، وتمكن لهم من دفع عدوهم عنهم، كما أن تجربته مع السلطان أكسبته خبرة في التعامل مع الحكام في المستقبل، ولقد لاحظ في فاس تباعد الأمة عن دينها وعقيدتها وانحرافها عن كتاب ربها وسنة نبيها وكيف بدأ الغزو الأوروبي يؤثر على المدن المغربية؟ وكيف دخلت البلاد في الصراعات والخلافات الداخلية؟ ولعل الذي جعله يبقي في المغرب الأقصى مدة سبع سنين متتالية جامع القرويين الذي وجد فيه جماعة من العلماء الذين ذكرت بعضهم، وكان يتشوق الى لقائهم (2)
ولقد تعمق أحساسه بالخطر الأوروبي وشعر بالاخطار التي كانت تتهدد هذه البلاد من الدول الصليبية، ولقد سمع بعض الناس يتحدثون عن النكبات التي حاقت بها من هذه الدول منذ قرنين من الزمن، حين احتل الاسبان أجزاء كثيرة منها، كالمرسى الكبير، ووهران، وعنابة وتنس ومدينة الجزائر، ومستغانم (مسقط رأسه) ومازالت أعمالهم الشنيعة، وأفعالهم
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص14.
(2) انظر: دراسات وصور من تاريخ الحياة الأدبية للحاجري، ص278 ..(1/26)
القبيحة يرويها جيل عن جيل من القتل الذريع، والسبي الشنيع، وإهدار كل حرمة، وتحويل المساجد الى كنائس كانت تلك الأمور محل تأمل وتفكر من قبل ابن السنوسي (1).
لقد كانت تجربة فاس ثرية بالنسبة لابن السنوسي وقد نقل لنا شكيب ارسلان عن أحمد الشريف السنوسي مادرسه جده في فاس والشيوخ الذين أخذ عنهم فقال: (ومنهم العلامة الهمام سيدي محمد بن الطاهر الفيلالي الشريف العلوي قرأت عليه مختصر السعد، وجمع الجوامع، السلم، وجملة صالحة من مختصر الشيخ خليل، وهو يروي عن الحافظ بن كيران والعلامة الزروالي وشيخهم العلامة ابن الشقرون باسانيدهم السابقة وغيرهم من أماثل علماء فاس. ومنهم العلامة المتقي المتفنن ابو المواهب سيد أبوبكر بن زياد الادريس حضرته في علوم كثيرة وقرأت عليه الفرائض والحساب والاربعين ومضاعفاتها والاسطرلابيين وصناعتها والعلوم الاربعة الرياضة والهندسة والهيئة والطبيعة والارثماطقيقي واصول قواعد الموسيقى والمساحة والتعديل والتقويم وعلم الاحكام والنسب والوقف والتكسير والجبر، والمقابلة وغيرها الخ .... ) (2) ولقد بقي ابن السنوسي مهتماً بهذه العلوم وقام بتدريسها لبعض طلابه ومريديه.
ويمكن للباحث أن يلاحظ عدة عوامل أثرت في شخصيته لما كان في الجزائر، وظهور خطوط واضحة بعد انتهاء تجربة المغرب الأقصى في فاس، أما العوامل التي أثرت في شخصيته لما كان بالجزائر منها:
1 - تأثر ابن السنوسي مما كان يراه من ظلم الولاة العثمانيين، ومن الثورات التي كانت تقوم بها القبائل ضدهم.
2 - لمس أطماع الدولة الأوربية في بلاده.
3 - ولادته في بيت شريف مشهور بالعراقة والأصالة، وتأثره بتاريخ أجداده الأدارسة الذين حكموا المغرب، ولذلك صمم على السير في طريق أجداده ولقد برز اهتمامه بتاريخ أجداده في الكتاب الذي ألفه فيما بعد عنهم وسماه " الدرر السنية في أخبار السلالة الادريسية ".
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص279.
(2) انظر: الحركة السنوسية للدجاني، ص47 نقلاً عن حاضر العالم الاسلامي.(1/27)
4 - نشأته في بيئة علمية حببت اليه العلم وفتحت عينيه على حقائقه الكثيرة، فأبوه وعدد من أجداده كانوا من الفقهاء والعلماء.
5 - تأثره بعمته فاطمة التي أشرفت على تربيته في طفولته الأولى وقد بقى ابن السنوسي في كهولته يذكر بعض توجيهاتها له.
6 - التقاليد والأعراف التي ورثتها أسرته ساعدت في صقل شخصيته، من ذلك اهتمام الأسرة بتربية علمية عملية فيها الدراسة وفيها الفروسية (1).
وأما الخطوط العريضة التي اتضحت في شخصيته بعد الإقامة بفاس فمنها:
1 - الصوفية التي تعمق ابن السنوسي في دراستها وساعدته الظروف على ذلك حيث كانت فاس مركزاً نشطاً للطرق الصوفية، وميداناً خصباً لنشاطها، ومعلوم لدى الباحثين أن الشمال الافريقي على وجه خاص حافل بالحركات الصوفية ولدى أهلها اهتمام كبير بها. وكان من الطبيعي أن يتأثر ابن السنوسي بالنظام المغربي للصوفية. ولقد استمر اهتمامه بالصوفية حتى آخر حياته وبقى خطها واضحاً في شخصيته حتى انه نظم طريقة خاصة عرفت باسمه وكتب كتاباً سماه (السلسبيل المعين في الطرائق الأربعين) تحدث فيه عن الطرق الصوفية عامة ووصف الطريق المثلى التي رضى بها والتي عرفت بنسبتها إليه (2) وكانت تجربته في الصوفية قد أعطته خبرة في التعامل معها فهو لم يقبل الصوفية على اطلاقها، ولم يرفضها بالجملة، بل قيدها بالكتاب والسنة وجعل طريقته مبنية على (متابعة السنة في الأقوال والأحوال والاشتغال بالصلاة على النبي في عموم الأوقات) (3) وقد اهتم بالصوفية اهتماماً كبيراً وظهرت
_________
(1) انظر: الحركة السنوسية للدجاني، ص43.
(2) امام التوحيد محمد بن عبد الوهاب للقطان، ص109.
(3) انظر: السلسبيل، ص7.(1/28)
هذه النزعة في منهجه التربوي الذي جعله لأتباعه والذي سنفصله في الصفحات القادمة بإذن الله تعالى.
2 - اهتمامه بالدراسة الفقهية، فقد واصل ابن السنوسي في فاس دراسته الفقهية على المذهب المالكي ودرس كتب الفقه على يد شيوخه وقد ذكر في مقدمته للموطأ انه أخذه على طريقتي المغاربة والمشارقة، وذكر اثنين من شيوخه المغاربة وهما محمد بن عامر المعداني، ومحمد بن عبد السلام الناصري ولقد ظهرت سعة اطلاعه في الفقه المالكي وفقه المذاهب الأخرى في تأليفه، ولقد بقى اهتمامه بالجانب الفقهي حتى آخر حياته، واستمر على المذهب المالكي مع اجتهاده فيه ومخالفته للمالكية في مجموعة من المسائل سنبينها في الصفحات القادمة ان شاء الله، ونلاحظ بأن اهتمام ابن السنوسي بالتصوف والفقه اكسبت حركته طابعاً متميزاً، فهو لم يغلُ في صوفيته ولم يغرق في شطحاتها كما انه لم يغل ولم يقف عند الحروف الفقهية ولم يتجمد في فهم احكامها بل زاوج بين دراستها، فأكسب صوفيته طابع السنة ولجمها بحدود الشرع وأعطى فقهه رونقاً وروحانية متألقة بعيدة عن الجمود.
3 - اهتمامه بالحركات الإصلاحية، والوقوف في وجه الحكام ضد انحرافهم، والوقوف معهم لتحقيق الإصلاح وتنظيم تكتل شعبي يسند هذه المطالبة ويعززها، فقد زاد هذا الاهتمام بفاس عاصمة الدولة المغربية ومركزها المهم في نشر الوعي، وإشعاع العلم (1) يقول الدكتور محمد فؤاد شكري: (ولما كان حبه لمنفعة المسلمين ورغبته في أن يرى العدل باسطاً جناحيه على أهل السلطنة وعلى شعوب الإسلام طراً، هي كل مايريد في حياته، فقد أكثر من الموعظة الحسنة في أثناء دروسه، وجرب مع الأهلين وأصحاب الشأن في فاس طرق الإرشاد بالحسنى تارة وبالشدة أخرى، ولكن دعوته إلى العدل والخير وجمع كل المسلمين وتطهير النفوس والابتعاد عن المنكر لم تثمر
_________
(1) انظر: الحركة السنوسية للدجاني، ص51.(1/29)
ثمرتها، بل إن كل ماحدث هو تنبه حكومة السلطان مولاي سليمان إلى هذه الدعوة وتلمس الخطر من جانبها، خشية أن تنقلب الدعوة الدينية إلى أخرى سياسية، فقد تعصف بالسلطنة .. وعلى ذلك فقد شددت الحكومة في مراقبة السيد، فوجد ألا فائدة ترجى من بقائه في فاس وقرر الارتحال) (1).
رابعاً: الأسباب التي جعلت ابن السنوسي يغادر فاس:
في عام 1235هـ (2) غادر ابن السنوسي فاس إلى الجزائر وقد ذكر المؤرخون عدة أسباب جعلته يغادر فاس منها:
1 - أن فتناً كثيرة ثارت في فاس، حيث عمت الفوضى المدينة واضطر أهل الحل والعقد أن يقوموا بضبطها. ثم حدثت فتنة أخرى بسبب نزاع جرى بين القاضي والمفتي رفع أمره للسلطان سليمان فأخر المفتي عن الفتوى، فغضب للمفتي جماعة من المدرسين وطلبة العلم وتحزبوا على القاضي فكتبوا رسماً يتضمن الشهادة بجوره وجهله (3) ثم اضطرمت نار الفتنة حتى انتهت بخروج أهل فاس على السلطان سليمان، وعزموا على بيعة المولى ابراهيم بن يزيد زوج ابنة السلطان، فامتنع أولاً فهددوه قائلين " إن لم نبايعك بايعنا رجلاً من آل المولى ادريس - رضي الله عنه - " فخاف خروج الأمر من بيتهم فوافق (4)، وكان من العلماء الذين حضروا البيعة محمد العربي الدرقاوي وهو أحد أساتذة ومشايخ ابن السنوسي، ولم يكن دور ابن السنوسي كبيراً في تلك الأحداث، وكانت الأحوال في فاس تدعو ابن السنوسي للمغادرة وخصوصاً بعد أن استطاع السلطان سليمان استعادتها ودخول شيخه الدرقاوي إلى السجن وتزعزع مركز العلماء والطلاب الذين وقفوا ضد السلطان سليمان ولاشك
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص14.
(2) انظر: سياحتي في صحراء أفريقيا الكبرى لصادق المؤيد، ص66.
(3) انظر: الاستقصاء للناصري (8/ 146).
(4) انظر: الاستقصاء للناصري (8/ 150).(1/30)
أن تلك الأحداث أكسبته خبرات كثيرة وأضافت إلى رصيده تجارب مهمة في حياته المستقبلية (1).
2 - ومن الأسباب التي شجعت ابن السنوسي على مغادرة فاس انه كان قد اخذ حظاً وافراً من الدراسة على علمائها وتاقت نفسه للأخذ على علماء جدد، ولذلك نراه في طريق عودته من فاس يدخل في أعماق صحراء الجزائر ليتعرف على أشهر الزوايا وليقابل مقدميها حتى بلغ عين مهدي (2) ومكث فيها مدة قصيرة ثم قصد " الأغوات " التي كانت تمتاز بموقعها في جنوب الجزائر بوصفها ملتقى القوافل الآتية من السودان الغربي. وفيها مكث بعض الوقت يلقى دروساً في الفقه والشريعة ثم ارتحل منها إلى مسعد ثم إلى جلفة ثم إلى بوسعده وهو في أثناء رحلته يوعظ ويدرس ويفقه الناس بأمور دينهم (3) وكانت لرحلته في جنوب الجزائر أثر في انضاج شخصيته، وفي إعداده لما أخذ نفسه به، فهاهو ذا يشهد ذلك العالم الذي يختلف إلى حد بعيد عن العالم الذي عهده في مدن الجزائر وفي فاس بالمغرب الأقصى، وهاهو ذا يرى ميادين جديدة للدعوة والإصلاح تتفتح له، عالم بدوي بعيد عن صور الحضارة وتعقيداتها، ثم هو في الوقت نفسه ملتقى الإسلام والوثنية.
ولقد كانت تلك البوادي، على سكونها وهدوئها، تضطرب بألوان من الحركات الدينية والاقتصادية، وكانت الزوايا الدينية التي يقوم عليها أصحاب الطرق الصوفية هي أهم مراكز هذه الحركات، أو لعلها المراكز الوحيدة لها، وكانت هذه الزوايا، أو هذه المراكز الثقافية، تضع في الغالب على طرق التجارة التي تربط السودان بالشمال، وتنتقل بواسطتها السلع في قوافل ماتزال رائحة وغادية.
وفي هذه الزوايا يلتقي رجال القوافل القادمون من الجنوب والعائدون من الشمال، يجلسون إلى شيوخها، ويستروحون بالتلقي عنهم، والانغمار في جوهم،
_________
(1) انظر: الحركة السنوسية، ص55.
(2) انظر: السنوسية دين ودولة، ص14.
(3) انظر: الحركة السنوسية، ص57.(1/31)
وبتبادل الأحاديث المختلفة عن البلاد التي جاءوا منها أو مروا بها وبذلك كانت تلك الزوايا محلاً ثرياً غنياً بالمعلومات (1) وأخبار الشعوب الإسلامية، وفي هذه الزوايا كان نشاط ابن السنوسي في السودان الغربي يقوم بواجب الدعوة إلى الله تعالى وقد أيقن أن من عوامل نهوض الأمة القيام بهذا الدور العظيم، فإن الإسلام الذي آمن به ابن السنوسي لايكتفي بأن يكون في نفسه صالحاً مهتدياً، وإنما يريد منه أن يكون مصلحاً هادياً، متسلحاً بالعلم، ومتحلياً بالحلم، ومتجملاً بالصبر، ومتحرراً من كل القيود التي تشده الى الأرض، وتقعد به عن كلمة الحق، وأظهار الاسلام لكل أنواع البشر، وفي كل البقاع، لم يبالي ابن السنوسي بالتعب والنصب في سبيل رسالته ودعوته بل كان محتسباً الأجر والمثوبة عند الله تعالى وكان يرى أن شرفه منوط بأداء تلك الرسالة المقدسة.
وقد مكث في تلك الديار مايقارب العامين معلماً ومربياً وداعياً.
ولقد استفاد من هذه التجربة دروساً عظيمة جعلته يركز في مستقبله على دعوة البداية لما رأى فيهم من صفاء الفطرة، وجمال الخلق، وحب التدين وبعدهم عن الفساد وتعقيد الحياة الاجتماعية، وسيطرة الأهواء السياسية كما لاحظ ذلك في المدن التي عاش فيها (2).
3 - ومن الأسباب التي جعلته يغادر فاس رغبته الملحة لحج بيت الله الحرام، وزيارة مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولذلك غادر بلاد السودان الغربي في رفقة قافلة ذاهبة الى المشرق (3).
خامساً: رحلته الى المشرق:
كان التفكير عند ابن السنوسي للسفر الى مكة طبيعياً، فهو من ناحية لابد وأنه تاقت نفسه الى بيت الله الحرام وحلم طويلاً بالعيش في الأراضي المقدسة، وقضاء
_________
(1) انظر: دراسات وصور، للحاجري، ص81،82.
(2) دراسات وصور؛ للحاجري، ص282.
(3) المصدر السابق نفسه، ص283.(1/32)
فريضة الحج. كما أنه رأى في الإقامة بمكة فرصة لقاء كبار علماء العالم الاسلامي وقد استقرت في نفسه نصيحة أحد شيوخه إذ قال له: (إن الارتحال المستمر صعب فإذا أردت أن تستزيد من العلم فما عليك إلا السفر الى مكة حيث يلتقي جميع علماء المسلمين) (1). بالإضافة الى التعرف على الشعوب الاسلامية عن قريب.
وقد ذكر بعض المؤرخين (2) أن ابن السنوسي قبل أن يسافر الى المشرق رجع الى بلده مستغانم وفيها قام بإتمام أول زواج له إذ بنى باحدى بنات عمومته ثم نشب بينه وبين أقاربه الأدنين خلاف حول أملاكه وذلك لأنهم كانوا قد وضعوا أيديهم عليها ولم يرسلوا له بشيء من ريعها طيلة مدة غيابه وطالب أولاد عمه بالريع وتسليم الملك له فامتنعوا عن ذلك فرفع عليهم قضية وربحها فسلمت له الحكومة أملاكه أما الريع فلم يجدوا منه شيئاً يدفع له لذا قامت الحكومة بسجن اولاد عمه فتنازل ابن السنوسي عن طلبه وطلب اخلاء سبيلهم فكان له ذلك. ثم انه بعد ذلك صفى أملاكه وانتقل الى جهة قسطنطينية وجاء عند عرب اسمهم اولاد نايل كانوا في جنوب شرق القسطنطينية فبنى عندهم زاوية ومارس هناك الوعظ والتعليم والارشاد.
وقرر بعد ذلك (ابن السنوسي) الارتحال الى مكة وعرض على زوجته ان ترافقه فلم ترغب في ذلك، فرأى أن يطلقها لعلمه بطول المدة التي يرغب فيها بالانقطاع عن بلده (3) وولد له من زواجه الأول طفل توفى وهو صغير ثم ماتت أمه بعد ذلك (4).
وغادر ابن السنوسي الجزائر ودخل تونس وقابس وجامع الزيتونة واستفاد من شيوخها واستفاد الطلاب منه وطلب منه التدريس ولبى الطلب ثم واصل سيره ودخل طرابلس الغرب وكان ذلك في حكم يوسف القرمانلي الذي كان مستقلاً عن الدولة العثمانية، فأكرم نزله ومكث في مدينة طرابلس وضواحيها مدة للوعظ والارشاد والتعليم ونفع العباد ولم يترك بها مسجداً معروفاً إلا ألقى فيه دروساً وتعلق به آل المنتصر وأصبحوا فيما بعد هم النائبون عنه في طرابلس وسافر الى
_________
(1) انظر: الحركة السنوسية، ص59.
(2) منهم، احمد الدجاني.
(3) انظر: الحركة السنوسية للدجاني، 58.
(4) انظر: الفوائد الجليلة (1/ 13).(1/33)
زليطن للوعظ والارشاد والدعوة واستطاع أن يكسب لدعوته انصاراً من مصراته وزليطن وطرابلس ومن أشهر الأسر التي أصبحت من ركائز الدعوة السنوسية فيما بعد؛ آل المحجوب، وآل الآشهب، وآل الدردني، وآل عمران بن بركة، وآل يوسف، وآل بن فرج الله وآل المقرحي وآل الثني وآل الغرياني وآل العيساوي وآل الغزالي وآل الهوني وآل الزناتي (1) وساعده على تعلق الناس به خلق كريم، وطلعة بهية، وقبول من رب العالمين.
ونستطيع أن نحدد تاريخ دخول ابن السنوسي بطرابلس الغرب من حديث حفيده احمد الشريف الذي تحدث عن اجتماع جده بأحد مريديه وهو عمران بن بركة (فكان اجتماعه به اثناء مروره عليهم قادماً من المغرب الى المشرق سنة ثمان وثلاثين بعد المئتين والالف في بلده زليتن بغرب طرابلس الغرب) (2).
ومن خلال مروره على طول الساحل الافريقي تعرف على احوال مسلمي المغرب وكون فكرة عن أوضاعهم، واتاحت له تلك الرحلات التعرف على اناسٍ كثيرين وعلى اماكن كثيرة، وقد استفاد من هذا التعارف فيما بعد عند عودته من الحجاز، وكان من طبيعة ابن السنوسي ان يوطد علاقاته بمن يتعرف عليهم ووثق صلته بأشخاص كثيرين ونجح في كسب قلوب الكثيرين حتى ان رجلاً كعمران بن بركة كان يريد مرافقة ابن السنوسي ولكنه طلب منه التريث والانتظار حتى يرسل له (3).
ووصل ابن السنوسي سيره ودخل برقة وقبل وصوله الى مدينة اجدابيا مر على نجع شيوخ المغاربة الشيخ علي لطيوش فأكرمه وقام بخدمته خير قيام دون سابق معرفة ورافقه الى اجدابيا وجهزه الى اوجله، ولم يمر ببنغازي ولا الساحل وتعرف على الشيخ عمر بوحوا الاوجلي وكان في رفقته عبد له، وعبد الله التواتي واستمر في رحلته مع الصحراء بواسطة القوافل حتى وصل القاهرة (4).
_________
(1) المصدر السابق نفسه، (1/ 15،16،17).
(2) انظر: احمد الشريف، ص8 نقلاً عن الدجاني، ص59.
(3) انظر: الحركة السنوسية للدجاني، ص60.
(4) انظر: الفوائد الجليلة (1/ 15 الى 21).(1/34)
سادساً: دخوله القاهرة:
دخل ابن السنوسي مصر وكان الحكم آنذاك لمحمد علي باشا وكان صاحب الجولة والصولة وكان ذلك في عام 1239هـ/1824م وكان محمد علي باشا قد قبض على زمام الأمور في مصر بقوة منذ سنة 1805م وكانت فرصة لابن السنوسي ليتعرف على تجربة محمد علي باشا عن قرب وقد لاحظ ابن السنوسي عدة أمور جعلته لايرتاح الى نوع الحكم الذي أقامه محمد علي باشا وطريقة الاصلاح وازدادت قناعة ابن السنوسي فيما بعد بخطورة حركة محمد علي باشا التي كانت سياسته تخدم أعداء الاسلام وهيئة سياسته المنطقة بأكملها لمرحلة استعمارية مازالت آثارها تعاني منها الامة حتى اليوم لقد استطاعت السياسة النصرانية الأوروبية ان تحقق أهدافها الآتية بواسطة محمد علي باشا:
تحطيم الدولة السعودية الأولى التي كادت أن تكون خنجراً مسموماً في ظهر الأطماع البريطانية في الخليج العربي خصوصاً والمشرق عموماً.
فتح الأبواب على مصراعيها لإقامة مؤسسات معادية للدين الاسلامي والمسلمين في محافل ماسونية وإرساليات تبشيرية وأديرة وكنائس ومدارس في بذر التيارات القومية المعادية للإسلام، وبث الافكار المعادية لمصالح الامة الاسلامية.
إتاحة الفرصة لشركات أوروبية تتحكم في الاقتصاد.
منح امتيازات واسعة للأوروبين، ومنع أهالي مصر والشام من تلك الامتيازات.
خنق التيار الاسلامي الأصيل، وضيق على العلماء والفقهاء ولم يسمح للمسلمين أن يتكتلوا من أجل اهدافهم النبيلة (1).
وأما حالة الأزهر في ذلك الوقت فقد كان في انحطاط، فالعلوم التي تدرس فيه
_________
(1) انظر: الدولة العثمانية عوامل النهوض واسباب السقوط، لعلي الصلابي، ص590.(1/35)
تراكم عليها الغبار لقدمها وفقدت لمعانها وبريقها لانعدام الإبداع فيها والتزام التقليد؛ أما علماء الأزهر فقد عمل محمد علي باشا على اضعاف دورهم ووقعت بينهم المنافسات والضغائن واستعان بعضهم بالحكام واستعداء السلطة على بعضهم وعمل محمد علي باشا على تقويض صف العلماء؛ كالخلاف الذي وقع بين الشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الأزهر، وبين بعض المشايخ الآخرين حيث ترتب على ذلك الخلاف صدور الأمر من محمد علي باشا الى الشيخ الشرقاوي بلزوم داره وعدم الخروج منها ولا حتى الى صلاة الجمعة (1)، وسبب ذلك كما يقول الجبرتي: (أمور وضغائن ومنافسات بينه وبين إخوانه ... ، فأغروا به الباشا ففعل به ماذكر فامتثل الأمر ولم يجد ناصراً وأهمل أمره) (2).
وقد أصيبت العلوم الدينية في الأزهر بالجمود والتحجر نتيجة لعدة عوامل منها؛
الاهتمام بالمختصرات:
(فأصبح الفقهاء ينقلون أقوال من قبلهم، ويختصرون مؤلفاتهم في متون موجزة، ويأخذون هذه الأقوال مجردة من أدلتها من الكتاب والسنة، مكتفين بنسبتها الى اصحابها) (3).
ويذكر الإمام الشوكاني اهتمام الناس في عصره بهذه المختصرات والخطورة التي تنطوي على ذلك فيقول: (قد جعلوا غاية مطالبهم ونهاية مقاصدهم العلم بمختصر من مختصرات الفقه التي هي مشتملة على ماهو من علم الرأي والرواية، والرأي أغلب، ولم يرفعوا الى غير ذلك رأساً من جميع أنواع العلوم، فصاروا جاهلين بالكتاب والسنة وعلمهما جهلاً شديداً، لأنه تقرر عندهم أن حكم الشريعة منحصر في ذلك المختصر، وأن ماعداه فضلة أو فضول فاشتد شغفهم به وتكالبهم عليه، ورغبوا عما عداه، وزهدوا فيه زهداً شديداً) (4).
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص590.
(2) انظر: عجائب الآثار (3/ 134).
(3) انظر: واقعنا المعاصر، ص56.
(4) انظر: البدر الطالع بمحاسن مابعد القرن السابع (1/ 86).(1/36)
الشروح والحواشي والتقريرات:
انتشرت الشروح والحواشي والتقريرات في تلك الفترة في الأزهر الشريف وفي عموم الأمة، فكانت كالأغلال التي كبلت العقول وأدت الى جمود العلوم وكانت توجد بعض الحواشي والشروح المفيدة ولكنها لاتكاد تذكر، وكانت مناهج التعليم بعيدة عن منهج أهل السنة والجماعة، وكان الازهر مركزاً لعلوم المتكلمين البعيدة عن روح الاسلام وأصيبت المناهج الاسلامية بالاضافة الى الجمود موجة من الجفاف: ( ... وأصبحت الدراسات الاسلامية دراسة لا حياة فيها ولا روح، وجرت عدوى هذه الدراسات الى جميع أبواب الفقه حتى الأبواب التي كانت يجب أن تكون دراسة الروح أهم عنصر فيها ... ) (1).
الإجازات:
من عوامل تدهور الحياة العلمية في الأزهر في تلك الفترة التساهل في منح الاجازات؛ فكانت تعطى جزافاً، إذ كان يكفي أن يقرأ الطالب أوائل كتاب أو كتابين مما يدرسه الأستاذ حتى ينال إجازة بجميع مروياته وكثير ما أعطيت لمن طلبوها من أهل البلاد القاصية عن طريق المراسلة، فكان العالم في القاهرة يبعث الى طالب في مكة بالإجازة دون أن يراه أو يختبره (2).
فكان ذلك التساهل من الأمور التي شغلت المسلمين عن تحصيل العلوم، كما كان ينبغي، وهكذا كان التساهل في منح الإجازات عاملاً مهماً من عوامل انحدار المستوى التعليمي وضعف العلوم الشرعية، حيث أضحىالهدف عند كثير من المنتسبين الى العلم، حيازة أكبر عدد من هذه الإجازات الصورية التي لم يكن لها في كثير من الأحيان أي رصيد علمي في الواقع (3).
_________
(1) المجتمع الاسلامي، محمد المبارك، ص210.
(2) الانحرافات العقدية والعلمية للزهراني (2/ 59).
(3) المصدر السابق نفسه (2/ 64).(1/37)
رفض فتح باب الاجتهاد:
أصبحت الدعوى بفتح باب الاجتهاد تهمة كبيرة تصل الى الرمي بالكبائر، وتصل عند بعض المقلدين والجامدين الى حد الكفر، وكانت الدعوة الى قفل باب الاجتهاد توارثها المتعصبون على مر العصور واصبح حرصهم في أواخر الدولة العثمانية ظاهراً ونافحوا من أجل عدم فتحه، ومقاومة كل من يحوم حوله مما شجع المتغربون بالسعي الدؤوب لاستيراد المبادئ والنظم من أوروبا ولقد ترتب على إغلاق باب الاجتهاد آثاراً خطيرة لاتزال أضرارها تنخر في حياة المسلمين الى يومنا هذا. (فحين يتوقف الاجتهاد مع وجود دواعيه ومتطلباته فما يحدث؟
يحدث أحد الأمرين: إما أن تجمد الحياة وتتوقف عن النمو، لأنها محكومة بقوالب لم تعد تلائمها؛ وإما تخرج على القوالب المصبوبة، وتخرج في ذات الوقت من ظل الشريعة، لأن هذا الظلم لم يمد بالاجتهاد حتى يعطيها، وقد حدث الأمران معاً، الواحد تلو الآخر .. الجمود أولاً ثم الخروج بعد ذلك من دائرة الشريعة) (1).
لقد عانت الأمة من قفل باب الاجتهاد وكانت الدولة العثمانية في أواخر عهدها لم تعطي هذا الباب حقه وكانت عجلة الحياة أسرع وأقوى من الجامدين والمقلدين الذين ردوا كل جديد، وخرج الأمر من أيديهم: (وهكذا توقفت الحركة العقلية عند المسلمين إزاء كل جديد تلده الحياة، والحياة ولود لا تتوقف عن الولادة أبداً، فهي تلد كل يوم جديداً لم تكن تعرفه الانسانية من قبل وكان من هذا أن مضى الناس -من غير المسلمين- يواجهون كل جديد، ويتعاملون معه، ويستولدون منه جديداً، وهكذا سار الناس من غير المسلمين قدماً في الحياة ووقف المسلمون حيث هم لايبرحون مكانهم الذي كان عليه الآباء والأجداد من بضعة قرون) (2).
_________
(1) انظر: واقعنا المعاصر، ص159.
(2) انظر: سد باب الاجتهاد وماترتب عليه، د. عبد الكريم الخطيب، ص144.(1/38)
التعصب المذهبي:
استمر التعصب المذهبي في الأزهر يضعف المستوى التعليمي، وانحدرت العلوم، وتكبلت العقول والأفهام وفرق بين كلمة المسلمين وأفسد ذات بينهم، وزرع العداء والشقاق بين أفرادهم وجماعتهم بعد أن تحزبوا طوائف وجماعات، كل طائفة تناصر مذهبها، وتعادي غيرها من أجله، وفي تلك الفترة تفاقم هذا التعصب وعم الاقطار الاسلامية ولم يسلم منه قطر ولا مصر؛ فالجامع الأزهر كان ميداناً رحباً للصراعات المذهبية خصوصاً بين الشوافع والاحناف وذلك من أجل التنافس الشديد على مشيخة الأزهر (1). إن العصبية المذهبية أوجدت حواجز كثيفة بين المسلمين في القرون الأخيرة؛ فأضعفت شعورهم بوحدتهم الاسلامية اجتماعياً وسياسياً، وأورثت فيما بينهم من العداوات ماشغلهم عن أعداء الاسلام على اختلاف أنواعهم، وعن الاخطار المحدقة بالمسلمين والاسلام ... ) (2).
كانت زيارته لمصر قد رسخت في نفسه ضعف دولة الخلافة من جهة، وزاد ضعفها بظهور حكومة محمد علي باشا على مسرح الأحداث في مصر وقد وصل الى قناعة مهمة في الإصلاح والنهوض من أهمها:
1. أن المسلمين كانوا في حاجة ضرورية الى العلماء الربانيين الذين يقومون بنشر الدعوة للدين القويم.
2. أهمية احياء مبدأ الشورى على مستوى الحكومات وخطورة الحكام المستبدين الذين يتحكمون في رقاب الأمة بإسم الاسلام.
3. خطورة جمود العلماء وتعصبهم وتقاعسهم في نشر العلوم النافعة بين جميع طبقات الشعب.
4. أهمية تعلم الصنائع وتعميمها لسد حاجات الشعب، وتحبيب عوام المسلمين الفروسية، والرياضة واستعمال السلاح.
_________
(1) انظر: عجائب الآثار (2/ 242).
(2) انظر: الانحرافات العقدية والعلمية (2/ 86).(1/39)
5. خطورة التسويف وترك العمل الجاد الخلاق.
وقد عمل ابن السنوسي في تلك الفترة على اكمال فكره ورأيه وظهر بهذه النتيجة التي تقول؛ أنه في حاجة ملحة الى تحصيل علوم كثيرة غير العلوم العقلية والنقلية التي استفادها من فاس، واقتنع أن تفوق أوروبا هو وليد العلم الذي سبب لهم التفوق في مجال الصناعة والرياضة، والفنون الحربية العملية وقد لمس ذلك في المشاريع التي اشرفت عليها فرنسا وبريطانيا في مصر في زمن محمد علي باشا.
والنتيجة الثانية أن من أسباب عدم تقدم الاسلام وعدم اتحاده؛ اختلاف المذاهب وكثرة الطرق، والحكم الفردي الاستبدادي، وابتعاد الأمة عن روح الاسلام المتمثل في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - (1).
وبعد هذه التجربة القصيرة في مصر قرر مواصلة سفره الى الحجاز بعد أن أقام عاماً واحداً وقد أحدثت زيارته لها آثاراً في نفسه من ذلك انه ازداد إيماناً بأن دولة الخلافة كانت في طريق الانحلال والاضمحلال، وقد ذكر المؤرخ التركي احمد حلمي قوله: (وأحدثت هذه الزيارة في نفسه تبدلاً عظيماً وانتقش في ذهنه ان الدولة العثمانية في طريق الانحلال والاضمحلال) (2)
لقد خبر ابن السنوسي اوضاع الدولة العثمانية في وطنه الاول الجزائر حيث تسلط الولاة الاتراك وحكمهم الاستبدادي، وعجز الدولة عن منعهم من الظلم، وجاء الى القاهرة فرأى حكم محمد علي باشا وانفراده بشؤون مصر، فزاد اقتناعاً بعجز الدولة وضعفها (3).
سابعاً: دخول الحجاز:
دخل ابن السنوسي الحجاز عام 1240هـ/1825م، ونزل بمكة المكرمة وكانت تلك الزيارة لمكة ذات اثر كبير في قيام الدعوة السنوسية وظهور شأنها، و ساعد على هذا جملة اسباب:
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص18.
(2) انظر: الحركة السنوسية، ص65.
(3) المصدر السابق نفسه، ص65.(1/40)
1 - استطاع ابن السنوسي ان يتحصل على انباء عظيمة عن احوال واخلاق المسلمين الوافدين الى مكة.
2 - اتيحت له فرصة طيبة للإحتكاك بعلماء وفقهاء ومفكري الامة، وتبادل معهم الآراء، والافكار في كيفية النهوض وإعادة مجد الامة.
3 - كانت مكة منبراً مهماً للدعوة ولذلك اشتغل ابن السنوسي بنشر العلوم وتحصيلها و المناظرة فيها واجتهد في دراسة المذاهب الاسلامية حتى حذق مخاطبة جميع العالم الإسلامي.
4 - اتيحت له دراية بحركةالشيخ محمد ابن عبد الوهاب عن قرب وعاشر اتباع الدعوة السلفية ومريديها وتتلمذ على علمائها وشيوخها ودرس الحركة السلفية دراسة واعية في مواقفها السياسية واجتهاداتها العملية
5 - شيوخه في مكة:
اقبل ابن السنوسي في مكة على العلماء يتعرف عليهم ويأخذ عنهم، لقد كان تشوقه للعلم وتواضعه في اخذه يبدوا جلياً في أي مكان حل فيه وكانت مكة تضم عدداً من العلماء المسلمين يمثلوا المذاهب والاتجاهات الفكرية المختلفة، ففيهم الصوفي وفيهم المالكي وفيهم السلفي، وهذا جعله يطلع على معظم الاتجاهات في عصره، ومن اشهر العلماء الذين اخذ عنهم:
1 - ابو سليمان عبد الحفيظ العجمي مفتي مكة وقاضيها.
2 - ابو حفص عمر ابن عبد الرسول العطار، وقد ذكرهما في رسالته التي كتبها، كمقدمة لموطأ مالك باعتبارهما العالمين الذين يروي الموطأ عنهما من المشارقة.
3 - احمد الدجاني، حيث اخذ عنه ابن السنوسي عدداً من الطرق الصوفية وغيرهم كثير.
4 - احمد ابن ادريس من افضل شيوخ ابن السنوسي وقد تأثر به ابن السنوسي تأثراً عظيماً وقد اخذ عنه ابن السنوسي عدداً من الطرق الصوفية، ودرس ودرس عليه(1/41)
الحديث والسنة، ولد محمد ابن ادريس سنة 1173هـ بميسورة (1) اصله من المغرب الاقصى وتلقى العلم على اكابر علمائها ثم هاجر الى مكة واستقر في الحجاز، واصبح من علماء وقته ومر هذا العالم بالجزائر وتونس وطرابلس وبنغازي سيراً على الاقدام، واستقر فترة من الزمن في بنغازي، ثم رحل الى الاسكندرية بحراً، واثنى على اهل بنغازي واهل الجبل الاخضر لما رأى عندهم من محبة الخير والصلاح وقال فيهم (هذه بلادنا فيه تحيا اورادناحيها سعيد وميتها شهيد طوبى لمن اراد الخير لأهلها وويل لمن اراد الشر بأهلها) (2).
ودخل الحجاز واستمر يتنقل بين مكة والمدينة والطائف ما يقارب ثلاثين سنة واستفاد منه خلق كثير من اصقاع العالم الإسلامي، من مصر، والسودان، والهند، واليمن، وبلاد المغرب وغيرهم وكان دخول الحجاز عام 1213هـ (3)
وعندما دخل سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود الحجاز عام 1221هـ لم يتعرضوا للشيخ احمد بن ادريس بأذىوكذلك اتباعه وقد وصف ابن ادريس بانه ذو ميول سلفية
قضى ابن السنوسي سنوات عديدة مع استاذه ابن ادريس الى ان اضطر الاخير الى الارتحال من الحجاز: (وكان سبب الارتحال مالقيه ابن ادريس من عنف السلطات الحكومية، ومعارضة علماء مكة الذين صاروا ينقدون السيد على اعتبار انه كان لا يتفق في منهجه مع ما اعتاد عليه هؤلاء من ازمان طويلة حتى صاروا يعدونه مبتدعاً ثم انقلب نقدهم اضطهاد اضطر بسببه السيد ابن ادريس لمغادرة مكة الى صبياً العسير) وكانت (صبيا العسير) ضمن املاك الدولة السعودية ومبادىء الدعوة السلفية متمكنة في نفوس اهلها وهذا ماكان يكرهه علماء الدولة العثمانية في مكة واتباعها.
ان ارتحال احمد ابن ادريس الى صبيا دليل على حسن الصلة التي بينه وبين اتباع
_________
(1) انظر: الدجاني، ص67.
(2) انظر: الفوائد الجلية، ص24.
(3) المصدر السابق نفسه، ص21 الى 23.(1/42)
حركة الشيخ محمد ابن عبد الوهاب (1) وسافر ابن السنوسي مع استاذه الى صبيا واقام معه هناك حتى وفاته (2).
ان تتلمذ ابن السنوسي على احمد ابن ادريس افاده كثيراً وقد توثقت العلاقة بين ابن السنوسي وشيخه ابن ادريس واصبحت علاقة قوية جداً يوضحها احمد الشريف في كتابه الانوار القدسية ما نقله عن ابن ادريس ( ... أما ولدنا السيد محمد بن السنوسي فنحن أمرناه أن يدل الخلق على الله ويجذب الطالبين الى الله اياكم ثم اياكم من كل مايقطعكم عن صحبته فانه النائب عنا قد اختاره الله لذلك، وقد طلب منا مراراً أن نجعل ذلك لمن يقوم به غيره فلم نر فيه المصلحة إلا هو ... ونحن ماأقمناه حتى أقامه الله ورسوله فقد قام امتثالاً لأمرهما فلم يكن له غرض لطلب دنيا ولا طلب جاه) (3).
لقد اخذ ابن السنوسي من شيخه الاذن لإعطاء العهود وتلقين الذكر فأذن له وأمره (أن يدل الخلق على الله ويجذب الطالبين الى الله) (4) ولم يلبث ابن السنوسي طويلاً بعد ذلك حتى بنى أول زاوية له في الحجاز وباشر الدعوة في حياة شيخه ابن ادريس وشرع ابن السنوسي في إلقاء الدروس في مكة وتعليم من يجتمع حوله من المريدين وطلاب العلم، ويعتبر المؤرخون زاوية ابي قيس أول الزوايا التي أسسها ابن السنوسي بعد اعتزامه القيام بالدعوة واختياره لنظام الزوايا كوسيلة لنشر تعاليمه وأفكاره، ومكث في الحجاز في رحلته الاولى خمسة عشر سنة استطاع أن يجمع خلالها من التلاميذ والاتباع والمريدين أعداداً كثيرة، مما حرك ضده عداوة شيوخ مكة وعلمائها الذين كانوا يخالفونه وينقدون اعتماده الصريح الخالص على الكتاب والسنة في دروسه واقتفاء السلف الصالح في إرشاده وتعليمه، وإقامته الحجة على أن الاجتهاد لم يغلق بابه، وزاد على ذلك أن السلطات الحكومية بدأت تشعر بخطورته،
_________
(1) انظر: الحركة السنوسية، ص101.
(2) انظر: السنوسية دين ودولة، ص21.
(3) انظر: الانوار القدسية مخطوطة، ص68.
(4) المصدر السابق نفسه.(1/43)
وخطورة الدعوة التي يحملها من جراء التفاف الناس حوله، وكان ابن السنوسي على اتصال مستمر بأبناء ابن ادريس في صبيا وهي تابعة للحركة السلفية، وكان العداء على أشده بين الحكومة العثمانية والاشراف بمكة وبين اتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب وهكذا كثرت الصعاب والعوائق في طريقه وفكر في الانتقال بالدعوة الى مكان آخر، ولاشك أن قامته الطويلة في مكة أثرت على جوانب كثيرة في تفكيره ووجهت اتجاهه الاصلاحي الوجهة التي سار عليها، فهناك في مكة أخذ كفايته على العلماء، ودرس معظم الاتجاهات الفكرية، والتقى بأستاذه ابن ادريس، وكذلك بوفود الحجيج القادمين من مدن وقرى العالم الاسلامي وتعرّف على احوالهم، وزاد فهماً للداء الذي ينخر فيهم، وكانت هذه الجموع من الحجيج تربة خصبة استطاع أن يبذر فيها دعوته واختار منهم من يصلح لمعاونته (1).
ولم ينس القضية الجزائرية واذكاء جذوة الجهاد في نفوس ابناء الجزائر ضد فرنسا، وعندما قدم محي الدين الجزائري برفقه ولده وأشراف قومه الى مكة إلتقى بهم ابن السنوسي وأكرمهم غاية الاكرام، وبعد ان ارادوا السفر ودعهم وقال لهم: إن الدين الاسلامي يحتم على كل مسلم أن يدافع عنه بقدر استطاعته ويحرْم على المسلمين الاستسلام للعدو الغاصب المعتدي والمنتهك لحرمات الدين والاسلام والمعطل لأحكام الله واني استوصيك بولدنا عبد القادر هذا خيراً فإنه ممن سيذود عن حرمات الاسلام ويرفع راية الجهاد فكان هذا سبباً في ايجاد روح الجهاد والمقاومة فيهما وتفكيرهما فيه ومعلوم لدى الباحثين جهاد عبد القادر محي الدين الجزائري في الجزائر (2).
زواجه الثاني:
وفي فترة اقامته في الحجاز تزوج ابن السنوسي زوجته الثانية السيدة خديجة الحبشية وقد قام بتزويجه استاذه ابن ادريس الذي رآه يعيش عزباً منذ طلاقه لزوجته
_________
(1) انظر: الحركة السنوسية، ص72.
(2) انظر: الفوائد الجليلة (1/ 44).(1/44)
الاولى. وكانت السيدة خديجة تتصف بالتقوى والصلاح. وقد قامت بدورها نحو زوجها فهيأت اسباب الراحة له ورافقته في رحلاته، ورضيت باسلوب حياته الصعب الذي يتصف بالانتقال المستمر والعمل المرهق. وقد توفيت فيما بعد بالجغبوب بعد وفاة ابن السنوسي بحوالي عشرين سنة عام 1296هـ (1).
ثامناً: رحلته من الحجاز الى المغرب:
تضافرت عدة اسباب دفعت ابن السنوسي لمغادرة مكة منها؛ توفي استاذه احمد بن ادريس، عداوة شيوخ مكة وعلمائها لما كان يطرحه ابن السنوسي، خوف الحكومة العثمانية من علاقته بأبناء احمد بن ادريس في عسير وهي أرض تابعة لأتباع الحركة الوهابية، دعوة مريديديه من أهالي المغرب لزيارة بلادهم ()، وأضاف عبد القادر بن علي رغبة ابن السنوسي للجهاد في بلاده ضد الفرنسيين؛ فعقد النية وصمم على السفر للاشتراك في جهاد فرنسا في الجزائر، والتحق بركبه عدد كثير من اتباعه واخوانه وعين الشيخ عبد الله التواتي على زاوية ابي قيس بمكة للقيام بشؤون الاتباع وكان سفره ذاك في آخر عام 1255هـ في 26 ذي الحجة حسبما هو مذكور في مذكرة مرافقيه الشيخ محمد بن صادق البكري، ثم سافر الى مصر من مكة ومعه عدد كبير من الاخوان وذلك آخر عام 1255هـ ودخلها أول عام 1256هـ وزار الجامع الأزهر وألقى دروساً نافعة ووقف احد كبار مشايخ الأزهر وقال: (انصتوا أيها العلماء لقد حل بين أظهركم عالم الأمة المحمدية ونبراس الشريعة المطهرة وشمس سماء المعارف الإلهية:
إذا صلصل الباز فلا ديك صارخ
ولا فاخت في ايكة يترنم
ألا وهو الشيخ الكامل سيدي محمد بن علي السنوسي الحسني الأدريسي فارتج الجامع بعلمائه ولم يمكث الشيخ بمصر غير مدة قليلة ثم سافر) (2).
_________
(1) انظر: الحركة السنوسية، ص72.
(2) انظر: رحلة الحشائشي، ص150.(1/45)
وتعرض ابن السنوسي لهجوم الشيخ عليش المالكي بسبب دعوة ابن السنوسي لفتح باب الاجتهاد وقد ذكر محمد عبده في كتابه الاسلام والنصرانية أن ابن السنوسي تعرض للقتل: (ألم يسمع السامعون ان الشيخ السنوسي كتب كتاباً في أصول الفقه زاد فيه بعض المسائل على أصول المالكية وجاء في كتاب له مايدل على دعواه أنه ممن يفهم الأحكام من الكتاب والسنة مباشرة وقد يرى ما يخالف رأي مجتهد أو مجتهدين فعلم بذلك أحد المشايخ المالكية وكان المقدم من علماء الجامع الأزهر الشريف فحمل حربة وطلب الشيخ السنوسي ليطعنه بها لأنه خرق حرمة الدين وتبع سبيل غير سبيل المؤمنين، وربما كان يجترئ الاستاذ على طعن الشيخ بالحربة لو لاقاه وإنما الذي خلص السنوسي من الطعنة ونجى الشيخ المرحوم من سوء المغبة وارتكاب الجريمة باسم الشريعة هو مفارقة السنوسي للقاهرة) (1).
وقد تعرض الشيخ ابن السنوسي في مصر لمرض اضطر على أثره أن لايأكل شيئاً من الزاد سوى مقدار بسيط من الحليب صباحاً ومثله مساءً فقط وكان الذي يقدم له الحليب رجل تركي، فوضع له سماً في الحليب فلما شرب منه سقطت اسنانه في الإناء واشتد به الألم حتى يئس منه جميع الاخوان وأخيراً منَّ الله عليه بالشفاء بعد معالجات إلا أنه سبب له مضاعفات من جسمه تخرج على جلده جبة (أي قشرة تشبه جبة الحنش وصارت له عادة يسلخها رأس كل عام وقت أخذه لذلك الحليب، ولما تحسنت صحته أرسل للشيخ عبد الله التواتي في مكة ولما حضر إليه ارسله الى قابس بتونس يرفقه بعض الاخوان ومعهم زوجته الحبشية وأمر بعض الأخوان أن يواصل رحلته الى الجزائر (2).
وكان ابن السنوسي في سفره ذلك قد قصد المدينة المنورة للوداع ثم نزل ببدر في الصلاة وإن حصلت في اثناء سفره يقصر ويجمع في الصلاة وإن حصلت له اقامة ببلد أو غيرها واستمر على ذلك يقصر ويجمع إلى تسعة عشر يوماً، تارة يجمع جمع تقديم وتارة
_________
(1) انظر: الاسلام في القرن العشرين، للعقاد، ص130.
(2) انظر: الفوائد الجليلة (1/ 47 الى 50).(1/46)
جمع تأخير، وهو في عمله هذا يخالف المالكية ويتبع الاحاديث الواردة في قصر الصلاة وجمعها بعد ان اعتقد صحتها (1).
وبعد الشفاء من مرضه اجتهد في الدعوة الى الله وتعليم الناس وارشادهم واقام مدداً متفاوتة في عدد من المدن والقرى فترك في كل منها ركائز وأنصاراً، وقد تميز أسلوبه الدعوي بالبساطة وباتفاقه مع مستواهم العقلي (2).
وواصل ابن السنوسي رحلته براً من سيوه الى جالوا ثم أوجله وكان برفقته الشيخ عمر بوحوا، ومحمد الشفيع، والمهدي الفيلالي ثم توجه الى برقة ونزل على نجع عائلة اللواطي من العواقير، ففرحوا وقاموا باكرامه ورفقائه ورافقوه الى منتجع قبيلة المغاربة فنزل على الشيخ علي لطيوش فأكرم ابن السنوسي ورافقه الى محل يسمى الهيشة مابين سرت ومصراته وهناك قابله آل المنتصر ومعهم اعيان مصراته فدخل معهم إليها وبعد مدة قليلة واصل سيره الى بلدة زليتن ومنها الى طرابلس ونزل في بيت احمد المنتصر وترك عنده بعض الاخوان وولي سفره الى زوارة ودخل حدود تونس (3) وشعرت المخابرات الفرنسية بخطورة ابن السنوسي منذ فترة طويلة وحاولت ان ترصد تحركاته مع الحجيج الجزائري والمغاربة عموماً، فبثت المخابرات الفرنسية عيونها وآذانها على طول الحدود وجاءته الأخبار بذلك وتقرر ان لايواصل شخصياً سيره، وندب محمد بن صادق وحمّله بعض الاموال والاسلحة لتوصيلها الى الأمير عبد القادر الجزائري (4) وعاد الى طرابلس، وتبنى ابن السنوسي دعم حركة الجهاد في الجزائر بالاموال والاسلحة والرجال مااستطاع الى ذلك سبيلا، وقد أوفد في فترات متفاوتة عدداً من تلاميذه النجباء من أمثال محمد بن الشفيع، وعمر الفضيل المعروف بأبي حواء، والشيخ ابو خريص الكزة (5)، وقد نقل محمد الطيب الاشهب عن دوفربيه الفرنسي مايشير الى اعتقاد الفرنسيين بتدخل ابن السنوسي في
_________
(1) انظر: الحركة السنوسية، ص75.
(2) انظر: الحركة السنوسية، ص76.
(3) انظر: الفوائد الجليلة (1/ 50).
(4) المصدر السابق نفسه (1/ 50).
(5) انظر: الحركة السنوسية، ص78.(1/47)
اعمال المقاومة في الجزائر؛ فدوفرييه يقول: (إن السنوسية هي المسؤولة عن جميع اعمال المقاومة التي قامت ضد فرنسا في الجزائر وانها السبب في الثورات المختلفة التي قامت ضد فرنسا كثورة محمد بن عبد الله في تلمسان وصحراء الجزائر سنة 1848 - 1861 وعصيان محمد بن تكوك في الظهرا عام 1881م ..... الخ).
وقد بين المؤرخ الليبي عبد القادر بن علي الذي رافق احمد الشريف السنوسي حوالي اربعين سنة أن بعض الاخوان من السنوسية شاركوا في الجهاد الجزائري حتى ان بعضهم أكل تمرات غرس نواها وطلع وكبر وأثمر وأكل من ثمرها وهو في ميدان الجهاد (1).
وقد عثر المؤرخ احمد الدجاني على خطاب ارسله احد تلاميذ ابن السنوسي من الجزائر الى مدير غدامس التركي (غدامس في ليبيا) وارشدنا الخطاب الى ان دعوة ابن السنوسي بلغت الجزائر وان عدداً من اتباعه كانوا يقاتلون الفرنسيين فيها ومنهم مرسل الخطاب وتاريخ الخطاب سنة 1268هـ. وقد كان ابن السنوسي في الحجاز في ذلك التاريخ. ومن بين ماجاء فيه ( ... وأما انا عبد الله حين قدمت بلاد وارقلة ففتح الله علينا بها وصارت محمدية بعد ما كانت في يد الرومي دمره الله وخليفة الرومي فيها، سبحان من حكم الضعيف في القوى وصار القوي من عبده مخذولاً مذموماً، لكن من بركة الشريف شيخنا سيدي محمد بن علي السنوسي - رضي الله عنه - ونفعنا وإياكم به آمين. وصاروا عربان وارقلة وقصورها وقبائل الشعامبة وقصور تغورت وعربانها والأرباع والخرزلية والحجاج وكثير من عربان الظهيرة وقصور بني مصاب كلهم تحت طاعة الله ورسوله وطاعتنا والمجاهدين كل يوم في الزيادة ... وبعث لنا الرومي دمره الله في هذه الساعة ثلاثة أمحل ... تلاقينا معهم وصرنا مثل الشامة البيضاء في ثور اسود فنصرنا الله نصراً عزيزاً واعلننا على اعدائه، ووقع القتال بيننا بالبارود والسيوف حتى كسرناهم كسرة عظيمة وقتلنا منهم نحو ثلاثة ماية
_________
(1) انظر: الفوائد الجليلة (1/ 51).(1/48)
وستة وثمانون رجلاً وقلعنا من الخيل كثير والبنادق بلا عدد والخزنة والابل والأخبية والحمدلله على ذلك .... ) (1).
إن الحقائق التاريخية تثبت للباحث اهتمام ابن السنوسي بالجهاد في الجزائر ضد فرنسا وحاول أن يشارك بنفسه إلا أن الظروف منعته من ذلك، وعمل على ارسال تلاميذه بالاسلحة والمال وتحريض اتباعه في الجزائر على القتال وقد استمر اتباع السنوسية والشعب الليبي في دعم حركة الجهاد حتى تم دحر الاحتلال الفرنسي من الجزائر وتحصلت الجزائر على استقلالها عام 1962م.
تاسعاً: ابن السنوسي في طرابلس:
عاد ابن السنوسي من قابس الى طرابلس مع صحبة مجموعة من الاخوان في عام 1257هـ ونزل ضيفاً عزيزاً على عائلة المنتصر، وتخوف الوالي العثماني من ابن السنوسي واستطاع عميد عائلة المنتصر أن يقنع الوالي علي عشقر بأن ابن السنوسي من المخلصين والمحبين للدولة والخلافة، وعمل على جمع الوالي العثماني بابن السنوسي وقد تأثر الوالي بورعه وقد فصّل محمد الطيب الأشهب في هذه النقطة فقال: (فبعد أن وصل قابس عاد الى طرابلس وذلك في أوائل 1257هـ وكان حاكم طرابلس يومئذ علي باشا عشقر الذي وصلته انباء مشوهة عن دعوة السنوسي وحركته التي قيل على لسان رواة الحاكم العثماني انها ترمي الى ما يبعث على قلق السلطات العثمانية وكان رواية هذه الاتهامات هو احد شيوخ الطرق الصوفية سامحه الله.
فأمر علي عشقر بالقبض على رفاق الامام السنوسي الموجودين بمنزل الحاج احمد باشا المنتصر ريثما يتسنى القبض على شخص الامام. وتقدم المنتصر بوساطته في ان يبقى الاخوان السنوسيون في منزله وقدم بذلك ضماناً شخصياً متعهداً أن يخبر الحكومة عن الإمام السنوسي حينما يعود. وشاء الله أن يصل الامام فجأة وماكان يعلم عما حدث فلما علم أصر على رؤية الوالي وهناك اجتمع بمجلس علمي وقف فيه الوالي على حقيقيته فاعتذر له وانضم إليه اثنان في المجلس المقرحي
_________
(1) انظر: نص الرسالة الكامل عن سجل رقم 196/ 3/501، دار المحفوظات-طرابلس.(1/49)
والقزيري ... ) (1). وكان العلامة المقرحي من طليعة علماء طرابلس وقد كلفه اشقر باشا مع غيره من العلماء بمناقشة الامام ابن السنوسي فما كاد يستمع إليه حتى تأثر به واصبح من اتباعه ومريديه.
وكان رأي العلماء الذين ناظروا ابن السنوسي بأنه نعمة من الله ساقها إليهم وفرح الباشا بذلك واعتذر لابن السنوسي، وقال له هذه بلادك والاهل اهلك، فأنفعهم بقدر استطاعتك ونحن في الحاجة الشديدة لامثالك، فأقام ابن السنوسي في طرابلس مدة يعلّم الناس ويذكرّهم ويبصرّهم بأمور دينهم، وتعلق الناس به، وسارت إليه الركبان (2).
ويذكر بعض المؤرخين أن الوالي العثماني علي عشقر أخذ عن ابن السنوسي طريقته وصار من أتباعه، ويبدو أن الدولة العثمانية كانت في حاجة ماسة الى يد قوية تستعين بها في ضبط الأمور على أساس استتباب الأمن واخماد الفتن والمصادمات في داخل البلاد التي استمرت سبع سنوات مضت قريباً (3) وأن الأحداث في تلك السنة كانت على أشدها حيث كانت الثورة مشتعلة في جبل نفوسة بقيادة غومة المحمودي، وسيف النصر في سرت ضد الدولة العثمانية واستطاع غومه المحمودي وسيف النصر أن يستقل كل منهما بمنطقته لفترة من الزمن مقابل دفع مبلغ معين للولاة، ثم تفاقم أمرهما، فعمل الوالي العثماني على الخلاص منهما ونجح في القبض عليهما، فأما غومه فنفاه من طرابلس، وأما عبد الجليل سيف النصر فقطع رأسه (4).
ولذلك حرص الوالي العثماني من الاستفادة من نفوذ ابن السنوسي في ليبيا وخصوصاً بعد أن ظهر منه حرصه على الأمن واجتماع الكلمة، ونبذه للتنافر والخصام بين جميع المسلمين وشعوبهم (5) وقد كانت نظرة الوالي العثماني تدل على بعده السياسي، وحرصه على الأمن واستقرار البلاد، وحبه للدعوة الى الله تعالي.
_________
(1) انظر: السنوسي الكبير، للأشهب، ص104.
(2) انظر: الفوائد الجليلة (1/ 30).
(3) انظر: السنوسية دين ودولة، ص30.
(4) انظر: الحركة السنوسية، ص80.
(5) انظر: السنوسية دين ودولة، ص30.(1/50)
عاشراً: ابن السنوسي في برقة:
واصل ابن السنوسي سيره الى سرت وبرفقته امراء من آل المنتصر بأمر عميد الأسرة، وأعيان من مصراته ودخل سرت ووجد هناك كوكبة من الفرسان في انتظاره، هم بعض اعيان وشيوخ، ووجهاء برقة من العواقير والمغاربة واهل الجبل الاخضر ومدينة بنغازي فرحبوا بسيادته ورافقوه في رحلته ومر في طريقه بالكثير من القبائل وبعد وصوله الى بنغازي تنافست بيوتات بنغازي البارزة في اكرامه، كعائلة الكيخية، وآل شتوان، وآل منينة وقام في بنغازي شهر رمضان كاملاً وبعد العيد جاء رجلان من قبيلة العواقير لشراء الكفن للشيخ ابي شنيف الكزة زعيم قبيلة العوافير عموماً الذي مرض مرضاً تحقق اقاربه منه بالموت، ولما وصل الرجلان الى بنغازي دخلوا على الرجل الصالح علي خريبيش وكانت لهم به معرفة، واخبروه بمرض الشيخ ابو شنيف وطلبوا منه الدعاء له بالشفاء فقال لهم هنا رجل صالح عالم نزوره أنا وأنتم ونطلب منه الدعاء له بالشفاء فلما التقوا بابن السنوسي اظهر لهم عدم الانزعاج واطال لهم في المجلس وهم كأنهم على نار فألحوا في طلب الأذن لهم بالخروج فقال لهم: ربما هذا المريض يدفن بعض الحاضرين ثم قال لهم نخرج معكم إليه ففرحوا وفعلاً ترك بعض اخوانه وثقل اثاثه وخرج معهم مخفاً وكان الشيخ أبي شنيف نازلاً بأهله بمكان يسمى الظاهر يبعد عن بنغازي بمسافة يوم كامل فلما وصل الى الشيخ ابي شنيف وكان في حالة غيبوبة ومرضه في بطنه وهي منتفخة فوقف عليه ووضع يده الشريفة على بطنه فأنتفشت كأنها قربة منفوخة وافاق في الحال وتكلم، فعلت اصوات النساء بالزغاريد وسرت القبيلة بشفاء عميدها العظيم (1).
لاشك أن ابن السنوسي قد أخلص في دعوة الله لشفاء هذا المريض، وقرأ عليه بعض الأدعية النبوية المباركة وربما سورة الفاتحة وقرأ عليه القرآن الكريم وهذا جائز في الشرع، فعن ابي سعيد الخدري - رضي الله عنه -؛ أن ناساً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا في سفر؛ فمروا بحيٍّ من أحياء العرب؛ فاستضافوهم. فقال لهم: هل
_________
(1) انظر: الفوائدالجليلة (1/ 53).(1/51)
فيكم راقٍ؟ فإن سيد الحي لديغ أو مصاب؛ فقال رجل منهم: نعم. فأتاه فرقاه بفاتحة الكتاب؛ فتبسم وقال: (وماأدراك أنها رقية؟) ثم قال: (خذوا منهم واضربوا لي بسهم معكم) (1) وقد علّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأمة كيف يفعلون مع مرضاهم، فكان - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى المريض يدعو له ويقول: (أذهب الباس. رب الناس واشف أنت الشافي. لا شفاء إلا شفاءً لايغادر سقماً) (2).
لقد كانت حادثة شفاء زعيم قبيلة العواقير على يدي ابن السنوسي مدخلاً عظيماً للدعوة الى الله في قبائل برقة واعتبره المؤرخ عبد القادر بن علي اول فتح لابن السنوسي في برقة والجبل الأخضر وأقام في نواجع العواقير مايقرب من الشهر واجتمعت على سيادته الناس من انحاء برقة لزيارته وطلب الدعاء منه (3)، وقد انتشرت بين الناس كرامات نسبت لابن السنوسي وقد ذكر الحشائشي أن ابن السنوسي عندما قدم من المغرب الى الحجاز على طريق قابس من أعمال تونس نزل بحي من أحياء العرب ولم يظهر الشيخ انه من العلماء وليس معه إلا أربعة أنفار، فأكرم نزله رب الحي المذكور لما رأى عليه من المهابة، فلما أراد المسير من عنده أهداه رب المكان بغلته ليركبها بالطريق فأخذها الشيخ من عنده ولما ركبها في اليوم الأول من سفره عثرت به فسقط من أعلاها وانكسرت ذراعه الأيمن من حينه ورجع الى رب الحي المذكور فتلقاه مذعوراً وفي الحال أحضر له أناساً عالمين بجبر الكسر، فطفقوا يعالجون الشيخ بمطارق من الحديد تحمى في النار ثم تجعل على محل الألم ومع ذلك فإن النار لم تؤثر في ذراعه؛ فتعجب الناس من ذلك وعرفوا فضله، ومن هناك أخذ الشيخ في الاشتهار (4).
إن المفتاح الكبير لقبائل برقة هو قناعتها بأن ابن السنوسي ولي من أولياء الله الصالحين ولذلك سمعت لنصائحه، واطاعت أوامره، فأرشدهم الى كتاب الله وسنة
_________
(1) انظر: مسلم، كتاب السلام، باب جواز أخذ الأجرة على الرقية (4/ 1727) رقم 2201.
(2) انظر: مسلم، كتاب السلام، باب استحباب رقية المريض (1/ 1722) رقم 2191.
(3) انظر: الفوائد الجليلة (1/ 53).
(4) انظر: رحلة الحشائشي، ص145.(1/52)
رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وعلماء الأمة يثبتون الكرامات للصالحين: (فأولياء الله المتقون هم المقتدون بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فيفعلون ما أمر به وينتهون عما عنه زجر، ويقتدون به فيما بين لهم أن يتبعوه فيه، فيؤيدهم بملائكته وروح منه، ويقذف الله في قلوبهم من أنواره، ولهم الكرامات التي يكرم الله بها أولياءه المتقين، وخيار أولياء الله كراماتهم لحاجة في الدين أو لحاجة بالمسلمين، كما كانت معجزات نبيهم - صلى الله عليه وسلم - كذلك. وكرامات أولياء الله إنما حصلت ببركة اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .... ) (1).
(ومما ينبغي أن يعرف أن الكرامات قد تكون بسبب حاجة الرجل، فإذا احتاج إليها الضعيف الإيمان أو المحتاج، أتاه منها مايقوي إيمانه أو يسد حاجته، ويكون من هو أكمل ولاية منه مستغنياً عن ذلك، فلا يأتيه مثل ذلك لعلو درجته وغناه عنها، لا لنقص ولايته، ولهذا كان هذه الأمور في التابعين أكثر منها في الصحابة) (2) ومن عقيدة أهل السنة والجماعة الإيمان بكرامات الأولياء (3).
إن ابن السنوسي صحت معرفته بالله ورسوله ودينه وصدقت متابعته للشرع ظاهراً وباطناً، ونحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحد، ولذلك فتح الله عليه بما لم يفتح على غيره، من إلهامات صحيحة، وفراسات صائبة، وأحوال صادقة، قال تعالى: {ولو أنهم فعلوا مايوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً وإذاً لأتيناهم من لدنا أجراً عظيماً ولهديناهم صراصاً مستقيماً} (سورة النساء، آية 66 - 68) وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: (اقتربوا من أفواه المطيعين واسمعوا منهم مايقولون فإنه تتجلى لهم أمور صادقة) (4).
وقال ابن عثمان النيسابوري (من أمّر السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة؛ لأن الله تعالى يقول في كتابه {وإن تطيعوه تهتدوا} (5).
_________
(1) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (11/ 274).
(2) المصدر السابق نفسه (11/ 283).
(3) انظر: الانحرافات العقدية والعلمية (1/ 508).
(4) مجموع فتاوى ابن تيمية (10/ 473،474).
(5) انظر: الجامع لأخلاق الراوي، باب أدب الطلب (1/ 80).(1/53)
وقال الكرماني (من غض بصره عن المحارم، وأمسك نفسه عن الشبهات، وعمّر باطنه بدوام المراقبة، وظاهره باتباع السنة، وعود نفسه أكل الحلال لم تخطي له فراسة) (1).
بعد شهر من بقائه في نجع العواقير واصل سيره متوغلاً في برقة الحمراء ومنها الجبل الاخضر وبصحبته جمع غفير من الاخوان ومشايخ مختلف القبائل من الحاربي والعواقير حتى وصل الى مكان يسمى ماسة وتقدم من ماسة الى محل يسمى دنقلة حيث مكان الزاوية البيضاء بالقرب من ضريح الصحابي الجليل رويفع بن ثابت الانصاري - رضي الله عنه - (2) وقد شرع الاخوان السنوسيون في تأسيسها قبل مجيء ابن السنوسي وذلك بتوجيه منه، وهي أول زاوية يؤسسها ابن السنوسي خارج الحجاز ولها مقام كبير عند السنوسية ويطلق عليها أم الزوايا، وقد بنيت زاوية البيضاء خارج البلدة وعلى بعد حوالي ثلاثة كيلومترات منها ويلاحظ الباحث أن ابن السنوسي اختار لها موقعاً استراتيجياً جيداً يتميز بسهولة الدفاع عنه وصعوبة الوصول إليه. كما يلاحظ أيضاً أنه أحسن بناءها. ولقد تميزت كل الزوايا التي أنشئت ببرقة بالموقع الاستراتيجي، كما أنها تتتابع بانتظام مما يدل على أن ابن السنوسي كان يرمي الى جعلها كالقلاع لتقوم بصد المعتدين في الحروب لانه كان يتوقع هجوم الأعداء عليها (3) ولا ننسى زعيم البراعصة الشيخ ابوبكر بوحدوث الذي وقف بجاهه وماله ونفسه مع الحركة السنوسية، وكان من تواضعه يشارك العمال في كافة أعمالهم بنفسه فضلاً عن اتباعه وكان بجلالة قدره ممن يخلط الطين للبنائين الذين يبنون المسجد والزاوية البيضاء رغبة في الثواب (4).
وشرع ابن السنوسي من الزاوية البيضاء يعلم الناس ويذكرهم بالله ويرشدهم الى طريق النجاة في الدنيا والآخرة، وبدأت القبائل تتوافد إليه وتطلب زيارته لها
_________
(1) انظر: قواعد التحديث للقاسمي، ص149.
(2) انظر: الفوائد الجليلة (1/ 54).
(3) انظر: الحركة السنوسية، ص83.
(4) انظر: الفوائد الجليلة (1/ 56).(1/54)
تبركاً به وتطلب اقامة زوايا لها اسوة بالزاوية البيضاء، فكان - رضي الله عنه - يتوجه بنفسه الى القبيلة أو المكان المطلوب اقامة الزاوية فيه وأحياناً ينتدب بعض الاخوان لذلك وهكذا بدأت القبائل تتسابق والزوايا تنتشر (1).
وظل في نواحي برقة والجبل الأخضر يزور القبائل، ويؤسس الزوايا حتى تم تأسيس ماينوف عن عشرين زاوية كما كان طيلة هذه السنوات يتردد مابين القبائل ويصلح مابينها ويزيل ما تأصل بينهم من الاحقاد والمشاجرات التي طال أمدها رغم ضررها وكان يعظهم ويذكرهم ويرشدهم الى إخوة الاسلام، ورابطة الايمان، ويحثهم على التعاون على البر والتقوى، ويأمرهم بترك العقائد الفاسدة والعادات القبيحة مثل التبرج والاختلاط، وقتل النفس بأتفه الأسباب وعدم الانقياد لأوامر الدين والدولة، وكان يأخذ منهم العهود والمواثيق على أنهم ينقادون لأوامر مشايخ الزوايا ويرجعون إليهم في مختلف قضاياهم وحل مشاكلهم، ويدخلون ابناءهم في الزوايا ليتعلموا القرآن وأمور دينهم، كما كان يأخذ عليهم عهوداً بأحترام الزوايا ومشائخها والاخوان وان يبذلوا جهودهم لمساعدة الزوايا والاخوان فيما هو ضروري لبقائها عامرة وكل قبيلة تطالب اقامة زاوية لها تقيمها لهم بالشروط المتقدمة (2).
والزوايا التي تم تأسيسها خلال السنوات الأربع المتقدمة في الجبل الأخضر وبرقة (البيضاء، شحات، بنغازي، درنه، ماره، ام الرزم، والعرقوب، توكرة، طلميثه، الطيلمون، الفائدية، المخيلي، القصور، المرج، ام ركبه في (فزان)، مرزق، زويلة، هون، سوكنه (في طرابلس) مزده، طبقة الرجبان، تونين، مصراطه، ازليتن، زله، وفي تونس زوايا الجريد.
وعلى الحركة الاسلامية المعاصرة في بلادنا وغيرها أن تراجع حسابتها وتتفقد الاماكن التي كانت منارات للعلم والتربية والدعوة، وتعمل على احياء مااندرس منها على منهج صحيح وسليم وقويم من عقيدة السلف، ومنهج أهل السنة
_________
(1) المصدر السابق نفسه (1/ 58).
(2) انظر: الفوائد الجليلة (1/ 59).(1/55)
والجماعة، مع الاستفادة من خبرات الحركات المعاصرة وتجديد الوسائل، لعل الله ينفعنا وينفع بنا ويهدينا سواء السبيل.
زواجه الثالث:
في أواخر عام 1258هـ جمع ابن السنوسي اخوانه في ليلة من الليالي وقال لهم تعلمون اخواني انني تقدمت بي السن (وكان سنة آنذاك سبعة وخمسون سنة) وضعف جسمي وقوتي بعد شربي للسم ولم يبقى لي مأرب في النساء غير اني رأيت سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - في منامي وقال لي خذ احدى بنات هذا الرجل أي السيد احمد بن فرج الله تأتيك بولدين يكونان من المهاجرين والانصار وانني امتثالاً لامره - صلى الله عليه وسلم - اريد ان اخطب من اخينا السيد احمد احدى بناته، ثم عقد - رضي الله عنه - على فاطمة وهي الوسطى من البنات (1).
إن الرؤية الصالحة في المنام بشرى تزف لعباده الصالحين، وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام إذا لم يخالف الشريعة لايوجد ما يمنع من تنفيذه وكانت بشرى صادقة وقد وقعت كما رآها ابن السنوسي.
إن أمر الرؤية في حياة ابن السنوسي واضح وجلي، ويستأنس بها في رحلاته واعماله وبالنسية لرؤية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام فلا خلاف بين أهل العلم فيها، فعن ابي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي) (2) وفي رواية عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي) (3) وفي رواية عن ابي قتادة - رضي الله عنه - قال: (قال النبي - صلى الله عليه وسلم - من رآني فقد رأى الحق) (4).
_________
(1) انظر: الفوائد الجليلة (1/ 58).
(2) انظر: البخاري، فتح الباري، كتاب التعبير، باب من رأى النبي، رقم 6993.
(3) المصدر السابق نفسه، رقم 6994.
(4) المصدر السابق نفسه، رقم 6995.(1/56)
المبحث الثاني
أسباب اختيار ابن السنوسي برقة مركزاً لدعوته
تمهيد
إن أقليم برقة أحد أقاليم ليبيا الثلاثة (برقة، طرابلس، فزان)، بل أكبر هذه الأقاليم من حيث المساحة (700 الف كيلومتر مربع) وإن لم يكن أكثرها سكاناً، ويمتد هذا الاقليم من هضبة السلوم شرقاً وحدود طرابلس غرباً، وكان يعرف عند الرومان باقليم (سيرينة) التي سماها العرب (قيرين) أو (قرناه) ثم أصبح يعرف منذ الفتح الاسلامي باقليم برقة (1).
وسطح الاقليم متنوع بين سهل ساحلي يضيق في الجزء الأوسط بحيث يتكون من جيوب ساحلية تنحشر بين رؤس صخرية تصل الى الساحل، ولكن في جناحي برقة: في البطانان شرقاً، وفي برقة البيضاء والحمراء غرباً، يتسع هذا السهل الساحلي بحيث يمتد عشرات الاميال الى أن يلتقي بالصحراء (2)، والى جانب هذا السهل الساحلي يوجد الجبل الأخضر الذي يرتفع عن مستوى سطح البحر بحوالي ألف متر وتكسوه الخضرة الدائمة، ويرتفع الساحل ارتفاعاً مباشراً ولكنه ينحدر تدريجياً نحو الصحراء في الجنوب، وبه الأراضي الصالحة للزراعة المساحات الكبيرة التي ترويها مياه الامطار الغزيرة.
والى الجنوب من الجبل الأخضر توجد الصحراء الواسعة التي تكون معظم مساحة الأقليم وهذه الصحراء مستوية وان وجد بها بعض الكثبان والهضبات فهي مستوية أيضاً، وفي صحراء برقة توجد أودية عميقة بعضها يمتلئ بالماء فترة ما وبعضها يكون جافاً طول السنة (3)، كما توجد بعض الآبار والينابيع المتناثرة وسط الصحراء تحيط بها واحات فقيرة مثل الجغبوب والكفرة، وجالو، وأوجلة (4).
_________
(1) انظر: النجوم الزاهرة (8/ 282).
(2) انظر: د. نقولا زيادة: ليبيا، ص1.
(3) انظر: الجغرافيا السياسية لأفريقيا، د. فيليب رفلة، ص338.
(4) انظر: في تاريخ العرب الحديث، د. رأفت الشيخ، ص240.(1/57)
وسكان برقة يعيشون في تنظيم قبلي اتضحت صورته منذ الفتح الاسلامي ثم عندما زحفت قبائل بني هلال، وبني سليم من مصر الى المغرب منذ القرن الخامس الهجري - الحادي عشر الميلادي، أصبحت هذه القبائل تنقسم الى قسمين رئيسين: القبائل السعدية، وقبائل المرابطين، ويذكر البعض أن السعديين هم قبائل بني سليم، وأن المرابطين هم بقية القبائل العربية اليمنية التي جاءت مع الفتح الاسلامي والتي اختلطت مع سكان البلاد وعربتهم، وأن ثمة قبائل من المرابطين لها شرف في النسب الى بيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن أهم القبائل السعدية، العبيدات، وعائلة فايد، والحسا والبراعصة، والدرسة، والعبيد، وعرفة، والعواقير، والمغاربة، وأهم قبائل المرابطين: المنفة، والقطعان، والحوطة، والفواخر والزوية (1).
وقبائل برقة تعيش نفس التنظيم القبلي العربي من حيث انقسامها الى عشائر وبطون وأفخاذ، وللقبيلة أرض تملكها وتنتقل في ارجائها، وأفراد كل قبيلة متضامنون في أداء ما عليهم من واجبات وفي الحصول على مالهم من حقوق، ولكل قبيلة رئيس أو شيخ له الرياسة العامة على أفرادها. ومنذ أيام الفتح الاسلامي حتى العصر الحديث كان الحكم في برقة يأخذ القبيلة بعين الاعتبار في تقسيم البلاد الى وحدات ادارية، بحيث تكون القبيلة أساساً لتطبيق النظام ومساعدة الحكام (2).
كان القبائل في برقة تعيش حياة غير مستقرة؛ فيما عدا الواحات، وكثيراً ما تتقاتل من أجل المراعي أو مياه الآبار (3).
وقد توفرت في برقة ظروف ملائمة لظهور الحركات السنوسية بوصفها حركة اسلامية شاملة:
أن برقة منفصلة عن الاقطار المجاورة بالصحارى والفيافي التي تحيط بها.
تتألف برقة من قبائل عربية بدوية تربطها أنماط حياة اجتماعية متجانسة.
_________
(1) انظر: في تاريخ العرب الحديث، ص240.
(2) المصدر السابق نفسه، ص240.
(3) المصدر السابق نفسه، ص241.(1/58)
يقوم النظام القبلي في برقة على (عصبيات) دموية مشتركة وتقاليد وأعراف متشابهة.
لاتزال المناطق الريفية بعيدة عن سيطرة المدن.
لم يمارس الحكام العثمانيون إلا سيطرة ضعيفة على المناطق الداخلية (1).
إن النظام القبلي في برقة كان حلقة مفقودة في خطة ابن السنوسي ووجد ضالته في ذلك المجتمع، فقد أوجد النظام القبلي القواعد السياسية التي اقيمت عليها الحركة السنوسية، إن النظام القبلي في برقة تميز بالتعقيد ووجود مؤسسات متطورة لها مصالحها الاقتصادية، وتركيبتها الاجتماعية ويرجع نجاح الحركة السنوسية في برقة في بعض جوانبه الى التكيف مع هذه التركيب القبلي المعقد (2)، إن الحركة السنوسية وجدت بنية اقتصادية، وتركيبية اجتماعية استطاعت أن تتفاعل معها الحركة، لقد استطاع ابن السنوسي أن يشيد على البناء القبلي تنظيماً ارشادياً ووعظياً، ولم يكن من الممكن اقامة مجتمع جديد بدون ذلك البناء القبلي (3).
لقد وجد ابن السنوسي ضالته في قبائل برقة، ووجدت القبائل ضالتها المنشودة في دعوة ابن السنوسي.
كانت قبائل برقة قبل مجيء ابن السنوسي تتخبط في دياجير الظلام، حيث استفحل الجهل في تلك القبائل رغم اعتناقها الاسلام الذي تنتسب إليه اسمياً وبالفطرة، ولم يبقى لها من الاسلام إلا اسمه ومن القرآن إلا رسمه وإليك بعض الصور من هذا الانحراف الخطير:
اتخذت بعض القبائل مواقع من برقة لتأدية فريضة الحج بدلاً من الحج الى بيت الله الحرام.
كانت بعض القبائل لا ترى ضرورة صيام رمضان فتكلف ثلاثين شاباً قوياً،
_________
(1) انظر: المجتمع الليبي، د. عبد الجليل الطاهر، ص244.
(2) انظر: المجتمع والدولة والاستعمار في ليبيا، د. علي حميده، ص116.
(3) انظر: المجتمع الليبي، ص253.(1/59)
فيصومون يوماً واحد، ويرون بذلك قد أدوا واجب الصيام على المسنيين والعجزة وارباب الأعمال من أهل القبيلة.
كثر الأدعياء والدجالين الجهلة الذين يدعون لأنفسهم مقام الولاية والصلاح دون معرفة أصول الدين وعلى غير علم به، وكان حقهم في هذا المقام هو بالتوارث خصوصاً إذا ماكان بين هؤلاء الأدعياء من له صلة بنسب شريف ولهؤلاء مكانتهم في نظر العامة التي اعتقدت أنهم يتصرفون في ملكوت الله أحياء وأمواتاً، وأنهم في حالة الغضب أو الرضى يشقون ويسعدون.
لقد غابت كثير من شعائر الدين بين تلك القبائل (1).
كانت القبائل يكثر بها الجهل قلما تجد من يعرف القراءة والكتابة، فكل من يصل إليه كتاب يذهب به الى اقرب المدينتين إليه بنغازي أو درنة لقراءته.
كان القوي منهم لا يتورع في الحصول على ماتصبو إليه نفسه بالقوة حتى أن الضعيف لا يرى له حقاً.
كانوا لايرون في شن الغارات والغزو والقتال عيباً، فكل قبيلة من القبائل العربية تعمل ما يعزز مركزها ويقوي شوكتها في نظر القبيلة الاخرى.
كانت الحروب تندلع بين القبائل بأقل الاسباب واتفهها، فتارة من أجل شخص حلب ناقة غيره بدون استئذانه، وتارة من أجل شخص ضاف آخر فلم يكرم وفادته، ومرة من أجل بهيمة أكلت زرعاً، وحيناً من أجل رجل تزوج امرأة ولها ابن عم لا يريد زواجها منه ... الخ فبمثل هذه الاسباب كانت تقع الحروب الكثيرة التي جرت القبائل الى هاوية الخراب والدمار، ولم يمر وقت طويل بدون حرب، ومن أهم الحروب التي وقعت ببرقة قبل مجيء ابن السنوسي حرب العبيدات وأولاد علي، وحرب قبائل الجبارنة مع الفوائد، ثم الجبارنة مع الحرابي المعروف بحرب (بياض)، وحرب المغاربة مع الزواوات، الى غير ذلك من الحروب الكثيرة (2).
_________
(1) انظر: السنوسي الكبير، محمد الطيب، ص116.
(2) انظر: برقة بين الأمس واليوم للأشهب، ص162،163.(1/60)
ولكن الدعوة السنوسية استطاعت أن تزكي النفوس، وتقوى الايمان، وتنشر العلم، وتزيل الجهل، وتحارب الظلم، وتحبب العدل الى نفوس تلك القبائل، وبعد فترة من الزمن اصبح من تلك القبائل علماء عاملون يدعون الى الخير وبه يعدلون ولقد استطاع الشاعر أبوسيف مقرب حدوث البرعصى أن يصف الحالة التي كان عليها قومه وكيف تحولوا عنها نتيجة للدعوة السنوسية:
وكم من حريم قد أباحوا واجحفوا
بمال غني لايخافون عادياً
وكم جهول أسود اللون خلقة
كساه لبوس العلم ابيض صافياً
وكم بدوي في الفلا خلف نوقه
يبول على الاعقاب أشعث حافياً
تلافاه في مهوى الضلالة هاوياً
فأصبح نجماً بالهداية عالياً
فتاهوا به فخراً على كل حاضر
ومن جاور الأعلى يحوز المعاليا (1)
وهذه قصيدة الشاعر الأديب الاستاذ احمد شنيب المعروفة بـ (عقيدة وخلود) توصف حال المجتمع الليبي فتقول:
ارض الجدود وقد جفاك بنوك
حتى استحل دم العروبة فيك
ماخطبهم باعوا الهداية بالدجى
وتفرقوا، وبجهلهم خذولك
وتشتتوا في الأرض لا من غاية
غير التناحر والدم المسفوك
شعب تفرق شمله وقبائل
لم يدركوا (التعارفوا) فرموك
ياوحيهم ماجاء عمرو غازيا
إلا لنشر الحق في ناديك
ودم الصحابة لم يرق عفواً ولم
يستشهد الابرار حين غزوك
وهبوا حياتهم لنصرة ربهم
والدين والقرآن كي يحموك
عادت عصور الجاهلية بينهم
وتصدع الاسلام بين يديك
واحسرتاه على الحنفية كم غدت
تبكي كرامة مجدها المهتوك
لا الدين أصبح يهتدي بجلاله
لا السنة العصماء تسعد فيك
والمسلمون أدلة ليست لهم
من دينهم غير اسمه ياسوك
_________
(1) انظر: السنوسي الكبير، ص20.(1/61)
ساءت موازين الحياة وبالهوى
ساسوا الأمور، وخسفهم ساموك
وتطلع الغرب الغريب توثباً
واعد عدته لكي يرو يك
ابناء روما في الشمال تحفزوا
وبنوا فرنسا في الجنوب قلوك
الله يارض الجدود ومن سوى
رب السماء من الأذى ينجيك
ان الذي بعث النبي محمداً
للتائهين اعز من يهديك
ياابن السنوسي الكبير تحية
من أمة في عصرها المنهوك
جاءت إليك تحط كل رجائها
وتطوف حول ركابك المبروك
او لست سيد عصره وامامها
والقائد الاعلى بغير شريك
في لينه حزم، وفي ايمانه
كل اليقين بنصر خير مليك
وغناه في قصد، وفاقته على
اسمى التجمل في اعف سلوك
ياارض قرى خاطراً وتقدمي
بتحية الاكبار من هاديك
حملت آثاماً فجاء مطهراً
اكرم به من مؤمن يحبوك
وغدوت اشتاتاً فاقبل هادياً
ومبشراً، والى العلا يدعوك
ويلم شعث المسلمين ويبتني
ركنا يقام وامة تفديك
ويعيد للدين القويم بهاءه
ويقيل عثرة شعبك المملوك (1)
إن اختيار ابن السنوسي لبرقة كان قراراً حكيماً، يدل على معرفته للمنطقة جيداً، فقد اتصفت برقة بفراغها السياسي وبجهلها العلمي وبكونها مخرجاً لأواسط أفريقيا (2).
وظل ابن السنوسي خمس سنين وقيل ستة في برقة، ينشئ الزوايا وينظمها، ويرسم مناهج الدعوة ومبادئها ويبث دعوته الاصلاحية عن طريق هذه الزوايا. ثم عاد بعد هذه السنوات الخمس الى الحجاز، المركز الأول لدعوته، ومنذ ذلك الوقت
_________
(1) انظر: المهدي السنوسي للأشهب، ص142،143.
(2) انظر: الحركة السنوسية، ص88.(1/62)
كان للدعوة عنده مركزان رئيسيان: شرقي في الحجاز وغربي في برقة، وعن هذين المركزين أخذت الدعوة السنوسية تنتشر بواسطة الزوايا هنا وهناك (1).
إن سفر ابن السنوسي الى مكة يدلنا على إنه كان لديه مشروعات دعوية كثيرة في العالم الاسلامي، وأن هدفه فتح أراضي جديدة لدعوته، لقد استطاع ابن السنوسي أن يرسي قواعد الدعوة في برقة ويثبت أسسها، فغادر برقة وهو مطمئن الى أن دعوته ستنتشر، وقد خلف وراءه عدداً من الاخوان للاشراف على الحركة.
لقد كان ابن السنوسي يخطط في تنظيمه بحيث يكفل الاستمرار بغض النظر عن وجوده أو عدم وجوده (2).
_________
(1) انظر: دراسات وصور للحاجري، ص290.
(2) انظر: الحركة السنوسية، ص88.(1/63)
المبحث الثالث
إقامة ابن السنوسي في الحجاز وعودته الى برقة
سافر ابن السنوسي الى الحجاز، واستمرت مدة اقامته حوالي ثماني سنوات، وحفلت هذه السنوات بنشاط دعوي عالمي لابن السنوسي، دل على قدرته التنظيمية، وذكائه في تصريف شؤون الحركة، وشرع في إنشاء الزوايا، وكثر دخول الناس في الدعوة، وتعرض لمتاعب من قبل بعض العلماء وقد تحدث الصادق المؤيد عن ذلك فقال: (مع أن المرحوم ابن السنوسي عندما كان في الحجاز لم يتعرض للهجوم على الطرق الصوفية الأخرى، فإنه اصبح هدفاً لنقمة الآخرين ونقدهم. ومع ذلك فقد توسع نفوذ السنوسية ودخلت الصحراء جزيرة العرب حيث اعتنقها عدد من القبائل كبني حارث وبني حرب، كما انتشرت الطريقة بواسطة الحجاج: وهذا سر انتشارها بسرعة خارقة في الحجاز واليمن على الخصوص.
وعلى الرغم مما وقع للسيد السنوسي من رقابة ومنافسة وعداء، فقد كان عدد المريدين في ازدياد، ولذلك أسس زوايا أخرى عدا الزاوية الرئيسية التي في جبل ابي قبيس في المدينة والطائف والحمراء وينبع وجدة) (1).
وكانت كل زاوية من هذه الزوايا عمل خاص (فزاوية أبي قبيس فيها مسجد شريف ومدرسة للتعليم ومساكن لقبول الزوار والمسافرين، وتكتظ هذه الزاوية بالناس في موسم الحج خاصة. أما زاوية جدة فكانت تستقبل الوافدين من المنسوبين للطريقة وغيرهم وتتولى إسكانهم وإعاشتهم مجاناً، فهي محل ضيافة عامة) (2).
واستطاع ابن السنوسي أن يساهم في تربية وتعليم القبائل من الحجاز، وارشدهم الى دينهم وعمل ابن السنوسي بالاضافة الى تأسيس الزوايا على تعليم مريديه بنفسه، فجلس في مكة يدرِّسهم الفقه والعلوم الأخرى. كما ألف لهم عدداً من
_________
(1) انظر: الحركة السنوسية، ص89.
(2) انظر: سياحتي في صحراء أفريقيا، ص75.(1/64)
الكتب منها كتابه (بغية المقاصد وخلاصة الراصد) المسمى بالمسائل العشر. وقد انتهى كما تشير الى ذلك النسخة المطبوعة سنة 1264هـ أي أثناء اقامته في الحجاز، ومنها رسالة كتبت مقدمة لكتاب موطأ الامام مالك في أول سنة 1267هـ (وذلك حين بداءته لقراءة الموطأ) بغية إعطاء طلابه فكرة عن الكتاب (1)، وربما قد كتب بعض مؤلفاته الأخرى في تلك الفترة، كإيقاظ الوسنان في العمل بالحديث والقرآن، والدرر السنية في أخبار السلالة الادريسية، والسلسبيل المعين، وقد ظهر في كتبه هذه اتجاهه الصوفي واعتماده على الكتاب والسنة وقوله بالاجتهاد.
وكان طوال إقامته في الحجاز، يحرص على الحج كل عام، ويتصل بالناس ويدعوهم الى دعوته ويضم من يستجيب منهم وكان على اتصال مستمر بأتباعه في برقة يوجههم ويصدر إليهم تعاليمه وارشاداته بواسطة الرسائل. ويذكر الأشهب: (أنه كان يندب سنوياً من يزور مختلف الزوايا لإبلاغ توصياته وتوجيهاته) (2).
وكان ابن السنوسي قد ترك زوجته وولديها محمد المهدي ومحمد الشريف في برقة وكان على اتصال بهم عن طريق الرسائل وكان قد عين عمران بن بركة ومحمد بن ابراهيم الغماري للأهتمام بشؤون أهله وولديه وقد ذكر عبد القادر بن علي، بأن ابن السنوسي عندما بشر بمولوده الجديد قال (الآن ظهر الصباح وخفي المصباح) وكان يقصد بالصباح ابنه والمصبح نفسه (3).
وعندما بلغ محمد المهدي الخامسة من عمره (أرسل ابن السنوسي الى الاخوان الكافلين له وقال لهم أدخلوه الكتّاب وعلموه الوضوء والصلاة ففعلوا كما أمر) (4).
وعندما بلغ محمد المهدي السابعة من عمره أرسل إليهم، ليوجهونه إليه مع زوج خالته، فارتحل به، ولما اجتمع ابن السنوسي بولده سر به سروراً عظيماً وطلب لوح
_________
(1) انظر: النسخة المطبوعة من المسائل العشر.
(2) انظر: السنوسي الكبير، ص43.
(3) انظر: الفوائد الجليلة (1/ 60).
(4) احمد الشريف المخطوط، ص76.(1/65)
قراءته فوجد أوله (وإنك لعلى خلق عظيم) فازداد سروراً، وزوَّره الروضة الشريفة ولقنه ماعنده من الدعاء ثم زوّره المآثر كلها التي بالمدينة، كمسجد المائدة ومسجد القبلتين وجبل أحد، وقبور شهداء احد، وقبر حمزة - رضي الله عنه - (1).
وكان قبل مجيء ابنه قد تزوج ابن السنوسي زوجته الرابعة والأخيرة (ابنة حسن البسكري). وكانت بدرنة مع أختها وأخواتها وتوفي والدها، فأرسل ابن السنوسي الى ابن أخ حسن البسكري أن يأتي بالأم وبناتها، وكانت أكبر البنات تحت عبد الله البسكري ابن أخ حسن البسكري، فرحل بها الى الحجاز وتزوجها ابن السنوسي ورزقت منه بولد وتوفي صغيراً ولم يفارقها حتى مات (2).
وعندما بلغ محمد المهدي التاسعة غادر والده المدينة الى مكة وتركه مع زوجة أبيه البسكرية فأعتنت به كثيراً. وفي جمادي من سنة 1269هـ طلب ابن السنوسي ابنه محمد المهدي من المدينة وأرسل يطلب من الأخوان في برقة بإرسال ابنه محمد الشريف.
وذكر احمد الشريف رحلة والده فقال: (فأرتحل محمد الشريف من الجبل وهو ابن سبع سنين ومعه والدته وجده السيد أحمد بن فرج الله ومروا على العقبة ثم منها الى الاسكندرية ثم الى كرداسة، ثم نزلوا بمصر ببيت الشيخ عمر الزروالي أقاموا بها أياماً ثم الى السويس وركبوا البحر قاصدين جدة .. وأتتهم ريح عاصفة قبل نزولهم قلعت بالمركب حتى أيقنوا الغرق. وتقطعت الأشرعة وآخر الأمر سلمهم الله ورمتهم الريح على الينبع فنزلوا بها وأقاموا أياماً للاستراحة. ثم ارتحلوا الى المدينة المنورة فزاروا الروضة الشريفة واجتمعوا بالباشا الذي رحب بهما وأعطاه ساعة تساوي مئة، وبعد ذلك بني جامع الزاوية التي بالمدينة بناءً متقناً من نفسه جزاه الله خيراً. وكان بالمدينة يومئذ السيد عبد الله التواتي وأكرمهم غاية الاكرام. وأقاموابها ثلاثة أشهر ونصف ثم ارتحلوا منها الى مكة المشرفة منتصف ذي القعدة سنة
_________
(1) أنظر: احمد الشريف المخطوط، ص78.
(2) انظر: الحركة السنوسية، ص93.(1/66)
تسع وستين بعد المئتين والألف صحبة السيد التواتي .. وتخلف السيد عبد الله لوجع في رأسه وحمى معه آخر فناما ليستريحا ويلحقا بالقافلة، فلم يشعروا إلا وهبت الريح .. وقطاع الطريق قد أحاطوا برواحلهما لينهبوا ماعليها فقاموا إليهم للمدافعة عما أرادوه فضربوا السيد عبد الله بفأس على رأسه فسقط على الأرض وجرحوا صاحبه، وأكتشف رجال القافلة الأمر بعد أن أرسلوا رسولاً ينظر سبب تأخر الرجلين، فتوقفوا لدفنه وساروا في خوف وحزن يحرسهم العسكر الذي أرسله الباشا الى أن وصلوا مكة المكرمة (1).
وقد حزن ابن السنوسي على مقتل عبد الله التواتي الذي كان من أوائل رفاقه وكان المسؤول الأول عن نشاط الحركة في الحجاز، وقد أمر ابن السنوسي بنقله الى بدر، حيث دفن بجوار الشهداء رضي الله عنهم أجمعين (2).
كان عبد الله التواتي من كبار العباد في الحركة السنوسية وقد حدثني استاذي في اللغة العربية الشيخ راشد الزبير السنوسي عندما كنا معاً في المعتقل السياسي بطرابلس الغرب بأن عبد الله التواتي كان يقول والله لازاحمنَّ اصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - على ابواب الجنان بركبتي، وكان عبد الله التواتي شديد الاخلاص لابن السنوسي حتى أنه دعا الله أن يكون فداء له ولأنجاله (3)، وقد أصاب قاتليه مرض مزمن وماتوا ميتة بشعة، وانتشر خبر وفاتهم بين قبائل الحجاز، فأصبحوا يتحاشون السنوسية واتباعهم ولا يمسونهم بسوء أبداً حتى أن أهل مكة والمدينة كانوا اذا أرادوا الحج أو الزيارة فلا يخرجون إلا مع الركب السنوسي لكي يأمنوا حياتهم وامتعتهم (4).
أولاً: عودة ابن السنوسي الى برقة:
بعد وصول محمد الشريف ابن السنوسي الى مكة وكان بصحبته جده لأمه احمد بن فرج الله ووالدته وعمران بن بركة الفيتوري، وكثير من الاخوان، وحج
_________
(1) انظر: أحمد الشريف المخطوط، ص79.
(2) انظر: الفوائد الجليلة (1/ 72).
(3) انظر: الحركة السنوسية، ص90.
(4) انظر: الفوائد العلية (1/ 73).(1/67)
الجميع مع ابن السنوسي، وقدم من برقة في هذا الحج كثير من اعيانها ووجهائها ومشائخ القبائل منهم (1)، الشيخ ابو شنيف الكزة والشيخ عمر جلغاف، وعبد الله ابو سويحل، والحاج محمد كاهية وغيرهم ليلتمسوا من السيد عودته الى البلاد المتعطشة لدعوته، فكان يعدهم خيراً، ومما يلفت النظر أن الشيخ ابو شنيف الكزة الذي تجشم مشاق الطريق لرؤية السيد كان عمره يتجاوز المائة سنة، لقد كان شوق الاخوان في برقة الى ابن السنوسي عظيماً، فهذا احمد الطائفي يرسل من درنه قصيدة الى ابن السنوسي جاء فيها:
يامن نأو عني وشط مزارهم
وتجددت لبعادهم احزاني
نار الجوى بين الجوانح اضرمت
والروح فارق بعدكم جثماني
لا كان يوم البين لا كان النوى
ياليتني أدرجت في اكفاني
حر النوى أوهى قوى تجلدى
واعل جسماً طبه اعياني
وأطال سهري والخلائق هجع
واثار وجداً كامنا ًبجناني
وسقى رياض الشوق يوم وداعهم
بسواكب العبرات من اجفاني
فطويت حينئذ بساط مسرتي
ونشرت بعدكم رداً احزاني
فاليك يامولاي أشكو علتي
وعظيم شوقاً بعضه أضناني
وحتى أفوز بنظرة تطفى الجوى
وتزيل كرب حشاشة الولهاني
وأقول ياعيني انظري وتمتعي
بجمال مولانا عظيم الشان
استاذنا وملاذنا وغياثنا
منجي الغريق ومهدي الحيران
سلطان أهل الله ذاك محمد
العالم العلامة الرباني
ابن السنوسي المعظم قدره
من خص بالاسرار والعرفان
اكرم به من سيد ذي سؤدد
ومناقب جلت عن التبيان
لم استطع تعداد بعض صفاته
ولو استطعت لكلّ عنها بياني
يارب فارزقنا سلوك طريقه
فسلوكها ينجي من النيران
وأطل بفضلك عمره وأدم به
نفع العباد والفة الاخوان (2)
وبعد أن ألح زعماء برقة على رجوع الشيخ ابن السنوسي معهم، استخار الله سبحانه وتعالى وسأله ارشاده الى الطريق التي يرضاها سبحانه وتعالى وفيها نفع للأمة المحمدية، فاراه الله ما ألهمه وقوى عزيمته على العودة الى برقة، فرتب الأمور بالحجاز وعين مشائخ للزوايا وزودهم بما رآه وحرضهم على سلوك طريقته في ارشاد العباد ودلالتهم على الله والتمسك بسنة سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبذل النصح للمسلمين اينما كانوا وأناب عنه في زاوية ابي قبيس الشيخ محمد ابراهيم الغماري، وابقي ابنيه ووالدتهم وجدهم في مكة وأمر محمد الغماري، وأحمد البقالي بتعليم ابنية القرآن الكريم وغيره من العلوم وحمل معه جميع كتبه وأثاثه ورافقه جميع
_________
(1) المصدر السابق (1/ 78).
(2) انظر: برقة العربية أمس واليوم للأشهب، ص168.(1/68)
الأخوان الملازمين له، والاعيان والشيوخ القادمين من برقة وتوجه من مكة الى المدينة وأقام بها مايزيد عن مدة شهر (1)، وقد ذكر بعض المؤرخين أسباب خروجه من الحجاز، فقال بعضهم: كان لديه رغبة لزيارة الشام. وقد أثبت الملك محمد ادريس هذه الرغبة فقال: (إنه كان يفكر بزيارة الشام بعد إقامته الثانية وهم بالتوجه إليه، ولكن أهل برقة اصروا على اصطحابه معهم الى الجبل الأخضر) (2). ويذكر الأشهب أنه عندما طالت مدة غياب ابن السنوسي في الحجاز (اشتد القلق في ليبيا لطول غيبته، وسافر الى الحجاز أكثر من وفد ليبي ليلتمس منه ان يعود وكانوا يسافرون غالباً في موسم الحج) (3). أما غرضه من زيارة القدس والشام، فأغلب الظن أنها كانت لزيارة المسجد الأقصى لنشر دعوته، ولكن هذه الزيارة لم تتم (4). وقد ذكر ابن السنوسي (كان العزم الذي خرجنا له زيارة القدس، ثم في أثناء السفر أتانا الاذن بالذهاب الى هنا (يقصد برقة) (5).
وانفرد البستاني بالقول انه خرج من مكة خائفاً من تهمة مشاركته مع الشريف عبد المطلب، شريف مكة، الذي عصى الدولة العثمانية: (لذلك خاف من الإقامة في مكة بعد هذه التهمة، فرحل منها عائداً الى الجبل الاخضر عن طريق مصر) (6) إلا أن هذا القول يسقط ويتهاوى امام حرص ابن السنوسي الابتعاد عن الصدام مع السلطة العثمانية واصل ابن السنوسي سيره من المدينة متجهاً الى مصر ودخلها عام 1854م، وغادرها الى الجبل الأخضر (ونزل بمحل يعرف بالغزيات وهو قصر قديم فرممه وأصلحه وسماه بالعزيات وأقام هناك سنتين) (7) وكان في تلك الفترة يشرف بنفسه على تنظيم وإنشاء الزوايا، وكان يرسل مندوبين عنه لتفقد احوالها، وكان كبار الاخوان يقدمون على العزيات لزيارة ابن السنوسي، فكان يسمع أخبار الزوايا، ويصدر إليهم تعليماته (8).
_________
(1) انظر: الفوائد الجليلة (1/ 79).
(2) انظر: الحركة السنوسية، ص96.
(3) انظر: السنوسي الكبير، ص43.
(4) انظر: الحركة السنوسية، ص97.
(5) المصدر السابق نفسه، ص96.
(6) انظر: البستاني دائرة المعارف مادة سنوسي.
(7) المصدر السابق نفسه.
(8) انظر: الحركة السنوسية، ص99.(1/69)
وبعد أن أقام ابن السنوسي عامين في العزيات عزم على التحول الىالجغبوب، وكان قصده التوغل في الصحراء حتى يكون أكثر أمناً (1).
ثانياً: اسباب اختيار الجغبوب:
إن اختيار ابن السنوسي للجغبوب كمقر لقيادة الحركة السنوسية دليل على بعد نظره، وثاقب فكره، ورجاحة عقله، وحسن تصرفه وقد ذكر المؤرخون اسباب ذلك الاختيار فقالوا:
أراد أن يجعل من الجغبوب مركزاً للتوفيق بين قبائل الصحراء المختلفة ونشر راية دعوة الاسلام بينهم جميعاً، وكان الجغبوب مركزاً أحسن اختياره، وكان صالحاً لأغراضه في وسط قبائل في الشرق والغرب، وكان النزاع بينهما مستمراً، ومن ثم أمن للحركة السنوسية أن تبسط نفوذها في المتنازعين، وأن تصلح ذات بينهم.
الاهتمام بأبواب الصحراء المترامية الأطراف من نواحي الغرب والجنوب والشرق ولذلك كانت زاوية الجغبوب نقطة مهمة واعقبتها عدة زوايا فيما بعد تخدم نفس الهدف، من أجل ضمان السلامة والأمن في الصحراء، وضمان المحافظة على طرق التجارة إذ كانت طرق القوافل تربط بين الجزائر وطرابلس، وتشاد، وبرقة ومصر.
كان البدو في ليبيا يضطرون أحياناً الى ترك دواخل ليبيا بسبب خلاف يقع بين قبيلة واخرى او مع الدولة العثمانية، فتكون وجهة النازحين من سوء، ولذلك فكر ابن السنوسي ونظر الى هذا الأمر ببصيرة نافذة، فأوجد هذه الزوايا في المواقع البعيدة ليأوى إليه النازحون عن دواخل البلاد، فيجدوا أمناً وأماناً (2).
ازدادت عداوة علماء استانبول والقاهرة لأفكار ابن السنوسي الدعوية، فرأى أن يبتعد عن الساحل ويتوغل في الصحراء بعيداً عن السلطات العثمانية.
_________
(1) انظر: الحركة السنوسية، ص101.
(2) انظر: السنوسي الكبير، الطيب الأشهب، ص101،102.(1/70)
كان ابن السنوسي قد شعر بدنو استيلاء النصارى الصليبين على السواحل، فاختار الابتعاد الى الجنوب والإقامة في الصحراء (1).
وكان الجغبوب في تلك الآونة (واحة ملحة يأوى إليها الدعار واللصوص ولاتجسر القوافل أن تمر بها من جراء العبث في أنحائها. فلما اختارها (السيد) مقراً له وبني بها زاويته الكبرى صارت مهد أمان ومركز عبادة، ومشرق أنوار ومعلم هداية. فغرس بها الأشجار ونسق الجنان واستنبط العيون وتوسع في البناء، وأسس مدرسة لتخريج مريدي الطريقة أجلس للتدريس فيها جلة العلماء) (2).
(لم تكن الجغبوب مكاناً يصلح لحياة فخمة ولكنه مركز له عدة مزايا سياسية؛ فهو خارج قبضة الترك والفرنسيين والمصريين، وهو على خط الحج الرئيسي القادم من شمال افريقيا الغربي عبر مصر الى مكة، وهذا الخط مقطوع عند الواحة بخط تجاري آخر من الساحل الى الصحراء الى السودان؛ وبالاضافة الى ذلك فإنها كانت أكثر النقط توسطا في برقة التي تشكل شبه جزيرة حتى أنه منها مايكون على مقربة من زواياه في برقة وطرابلس والصحراء الغربية في مصر والسودان) (3).
ثالثاً: الأخوان السنوسيون الذين حملو مع ابن السنوسي الدعوة:
كان ابن السنوسي في تجواله بين الأقطار الاسلامية يقوم بدعوة الناس وتعريفهم بالاسلام، وسلك منهج القرآن الكريم في دعوته، فكان يقوم بوظيفته الدعوية امتثالاً لقوله تعالى: {كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم مالم تكونوا تعلمون} (سورة البقرة، آية 151).
وتمثل هذه الواجبات الأمور التالية:
أ- تبليغ وحي الله الى الناس، وتعريفهم به {يتلو عليكم آياتنا} وكان يقوم بالتبليغ بالأمور الآتية:
_________
(1) انظر: حاضر العالم الاسلامي، شكيب أرسلان (2/ 142).
(2) انظر: السنوسية دين ودولة، ص36.
(3) انظر: بريتشارد، ص15، نقلاً عن الحركة السنوسية ص113.(1/71)
شرح أصول الاسلام وقواعده للناس.
تفسير نصوص القرآن والسنة تفسيراً لمنهج السلف، وملائماً لعصره من حيث الأسلوب والوسيلة.
جمع الناس على الاسلام ومبادئه وأخلاقه، وتوجيههم نحو الفهم والعمل.
استهدف كل الناس بالدعوة سواء كانوا مشركين أو نصارى أو يهود أو ملاحدة، أو منافقين .... الخ.
بيان الأخطار التي تواجهها الأمة الاسلامية من أعدائها.
ب- تزكية الناس: حيث قام ابن السنوسي بتربية الناس على الصفات المحمودة، وتذكيرهم بخطورة الاخلاق الذميمة.
ج- التعليم، حيث قام ابن السنوسي بتعليم الناس القرآن والحكمة، ونقلهم من ظلام الجهل الى نور العلم، ومن ظلال الباطل الى هداية الحق.
واستطاع أثناء تحركه بدعوته أن يختار من بين المسلمين مجموعة خيرة من العلماء والفقهاء والدعاة، ممن اتصفوا، بالتميز الايماني، والتفوق الروحي، والرصيد العلمي، والزاد الثقافي، ورجاحة العقل، وقوة الحجة، ورحابة الصدر، وسماحة النفس وأصبحوا من أعمدة الحركة السنوسية أثناء حياته وبعد وفاته، فبعضهم أصبح مشرفاً ومعلماً في الزوايا المنتشرة في ليبيا وتشاد، والحجاز، ومصر، وبعضهم أصبح من أعضاء هيئة التدريس العلياء في الجغبوب، وكان هؤلاء الأخوان الذين ساندوا الحركة السنوسية منهم من هو من الحجاز، كالشيخ فالح الظاهري، ومحمد بن الصادق الطائفي؛ ومنهم من هو من الجزائر، كأبي القاسم التواتي؛ ومنهم من هو من تونس، كعلي بن عبد المولى؛ ومنهم من هو من السودان، كالسيد محمد بن الشفيع؛ ومنهم من هو من برقة، كعبد الرحيم المحبوب، ومنهم من هو من طرابلس كعمران بن بركة الفيتوري (1).
_________
(1) انظر: دراسات وصور للحاجري، ص298.(1/72)
واختار ابن السنوسي من كبار علماء الحركة للتفرغ للتدريس في معهد الجغبوب ( ... وجلس كبار العلماء للتدريس بمعهد الجغبوب، حيث تدرس جميع أنواع العلوم (1)، فلا ينحصر التعليم على حفظ القرآن (وهذا شرط اساسي)، وبعض العلوم الدينية والعربية، كما هو الحال في كثير من المعاهد وقتذاك، وحتى الآن؛ بل إن التعليم قطع بالجغبوب شوطاً بعيداً وسار خطوات واسعة، فتناول أهم العلوم العقلية والنقلية، وكان يجلس للتدريس فطاحل العلماء والأعلام تحت اشراف السيد ابن السنوسي نفسه الذي يضع برامج التعليم ويقرها، فتخرج من هذا المعهد العدد الكبير بقسط وافر من العلوم ... فمنهم العلماء والكتّاب والمصنفون (2).
وقد ذكر محمد الطيب أسماء بعض العلماء الذين قاموا بإلقاء الدروس في معهد الجغبوب تحت إشراف ابن السنوسي فمنهم: عمران بن بركة الفيتوري، أحمد عبد القادر الريفي، فالح الظاهري، أحمد التواتي، عبد الرحيم أحمد المحبوب، محمد بن أحمد الشفيع، أبو سيف مقرب حدوث البرعصي، حسين الموهوب الدرسي، محمد صادق الطائفي، أحمد الطائفي، محمد مصطفى المدني، محمد القسطيني، محمد حسن البكري (3).
لقد قام عدد كبير بنصرة وتأييد الحركة السنوسية من العلماء والفقهاء والقادة، والشيوخ ومن أشهر هؤلاء الإخوان الذين ساندوا ووقفوا مع ابن السنوسي في حركته الواسعة:
محمد عبد الله التواتي، وهو من أوائل اخوان ابن السنوسي وتلاميذه، وقد قام بعدة أعمال كلفه بها ابن السنوسي في كل من الحجاز واليمن وليبيا، وقتل في الحجاز ودفن بزاوية بدر وقد مرّ ذكره.
أحمد أبو القاسم التواتي من الجزائر وقد تولى مشيخة زوايا سيوة والزيتون وزوايا فزان، وكان أحياناً ينتدبه ابن السنوسي للتفتيش على الزوايا ومراقبة أحوالها
_________
(1) ينبغي ألا نلقي بألا لمثل التعليمات والمبالغات التي لا دليل عليها.
(2) انظر: دراسات وصور، ص297.
(3) انظر: السنوسي الكبير، ص50.(1/73)
ومما قاله ابن السنوسي في حقه في كتاب أرسله الى أعيان واحة سيوة قوله: (وولدنا الشيخ احمد التواتي قد أقمناه مقامنا، وماأرسلناه إلا لمنفعتكم خاصة، وإلا فغيره يقوم مقامه، وأسمعوا لنصيحته فإنه نصوح أمين وقد هدى الله به أمماً عديدة) (1).
توفاه الله بزاوية الطيلمون وقد رثاه زميله العلامة فالح الظاهري بقصيدة عصماء مطلعها:
على مثل من أوقاته حلية الدهر
بصالح أعمال، دموعك فتلجري
كما رثاه شاعر السنوسية أبوسيف مقرب بقصيدة مماثلة جاء فيها:
سل الدهر هل يبقي سعيد مخلداً
ولو كان أبقاه لأبقى محمداً
يكر علينا ليله ونهاره
شجاعين لا يثنيها من تجلداً (2)
ومنها:
ألا ليت شعري كيف صاروا بنعشه
الى القبر وهو الطود ذو المجد والندى
حوى نعشه علماً وفخراً وسؤدداً
وحلماً وتقوى ماسواها تزودا
علي بن عبد المولى من تونس، تولى مشيخة الجغبوب، وكان وكيل خاصة بن السنوسي واستمر في عهد محمد الثاني، وكان معروف بالصلاح والتقوى توفي بالجغبوب.
أحمد بن فرج الله من طرابلس، وهو والد أم محمد المهدي، ومحمد الشريف وقد توفاه الله بالبيضاء ودفن بمقبرة الصحابي الجليل رويفع بن ثابت الانصاري ولم يترك عقباً من الذكور.
_________
(1) انظر: السنوسي الكبير، ص58.
(2) المصدر السابق نفسه، ص59.(1/74)
محمد بن الشفيع من سنار السودان، كان من بين تلاميذ العلامة احمد بن ادريس الفاسي دفين (صبيا)، تعرف على ابن السنوسي أثناء حضوره عند أحمد بن ادريس وسمع ماشهد به ابن ادريس لإبن السنوسي، وقد تولى أعمالاً كثيرة منها مشيخة زاوية المدينة، والقيام بالتفتيش على الزوايا في كل من الحجاز وليبيا وكانت آخر اعماله مشيخة زاوية سرت (خليج سدرى)، وكان من أجل العلماء علماً وتقى وشدة في الحق وشجاعة (1) وكان يهابه حكام الاتراك وزعماء العرب لشدة تحرشه معهم في الحق رغم جميع المجاملات وكانت له مواقف مشهورة مع الفريق الحاج رشيد باشا عندما كان هذا الأخير حاكماً لبرقة وكان يحترم ويجل ابن الشفيع، وذات مرة سافر رشيد باشا الى الجغبوب وكان يصحبه بن الشفيع وشرع رشيد باشا يتلو القرآن وبن الشفيع يستمع حتى وصل القارئ لقوله تعالى: {إن جهنم كانت مرصاداً للطاغين مآبا} فقال ابن الشفيع أتعلم يارشيد أن جهنم خلقت لمن؟ فقال رشيد الله أعلم ياسيدي فاجابه قائلاً: انها لك ولأمثالك مالم تأخذوا بكتاب الله، فضحك رشيد وقبل يد ابن الشفيع، وتوفي بن الشفيع بسرت سنة 1324هـ (2).
أحمد المقرحي، وقد سماه ابن السنوسي بالمفرحي من بادية طرابلس وكان من طليعة علمائها الذين يرجع إليهم على باشا اشقر الحاكم العثماني، وفي بعض الروايات أنه تولى الافتاء في ولاية طرابلس، وقد مر ذكر المناظرة التي قامت بين علماء طرابلس وابن السنوسي وقد توفي المقرحي بالزاوية البيضاء عام 1263هـ ودفن بمقبرة رويفع الانصاري ولم يترك عقباً.
عمران بن بركة الفيتوري، من زليطن، اسندت إليه مشيخة الزاوية البيضاء، وقام بالتدريس في معهد الجغبوب، وكان مدرساً لمحمد المهدي السنوسي، وكان يتمتع بمكانة مرموقة بين زملائه وتلاميذه توفي بالجغبوب عام 1310هـ ورثاه شاعر الحركة السنوسية أبوسيف مقرب البرعصي بقوله:
_________
(1) انظر: السنوسي الكبير، ص60.
(2) انظر: برقة العربية بين أمس واليوم، ص143.(1/75)
لقد سرت يامولاي للقبر نيراً
ولا عجب فلنيرات تسير
وان جار دهر في انتهابك واعتدى
فما زال قدماً يعتدى ويجور
له كلف بالاكرمين فكاسه
تدر عليهم عاجلاً وتدور
ويعتامهم بين الانام فنبله
يصيب وأما خليه فتغير
ألا أن للدنيا مصائب جمة
ولكن مصابي بالكبير كبير
مصاب له فاضت نفسيات أنفس
ولان له (رضوى) ولان (ثبير)
فيا واحداً ضج الجميع لفقده
وعج كبير بالبكاء وصغير
قضيت حميداً وانقضى العلم والتقى
وآضى جناح الدين وهو كسير (1)
وقد تزوج الامام محمد المهدي كبرى بناته وتزوج محمد الشريف بالثانية، فأنجب منها المجاهد الاسلامي الكبير أحمد الشريف (2).
عبد الله بن محمد السني -من سنار السودان- كان من تلاميذ العلامة احمد بن ادريس، وتولى أعمالاً كثيرة منها إلقاء الدروس في مختلف العلوم وتولى مشيخة زاوية مزدة حيث توفاه الله بها.
فالح الظاهري - من الحمراء بالحجاز- ينتسب لبني حرب التحق بأبن السنوسي سنة 1243هـ في مكة وتفرس فيه ابن السنوسي نجابة وذكاء، كان من طليعة المدرسين بالمعهد الجغبوبي، زار استانبول مندوباً عن ابن السنوسي، كما زارها في عهد السلطان عبد الحميد ونزل في ضيافته معززاً مكرماً، ثم زار الهند، وجلس للتدريس في جميع البلاد التي زارها، ومما يلي نذكر بعض ماورد في رسالة منه الى العلامة احمد الريفي رحمها الله: (وفي هذه السبع سنين، بعد قدومي من البلاد الرومية حصل لي من إفادة العلوم غطوس ما أفقت منه إلا وأعضائي بها خلل من طول الجلوس، لكنني ولله الحمد حصلت من تبليغ العلم الى أهله غاية الأرب؛ ولم يبق قطر من الأقطار إلا وحمل عني إليه دفتر (مفالحه) شيخنا الأستاذ، وهذا
_________
(1) انظر: السنوسي الكبير، ص61.
(2) انظر: برقة العربية بين أمس واليوم، ص145.(1/76)
أقصى أمنيتي من كوني جعلت في الخافقين لشيخنا المذكور أعلا صيت حتى في الهند والسند .. ) (1) كان العلامة فالح الظاهري متضلعاً في العلوم الدينية والفقهية والحديثية والتاريخية واللغوية وكان شاعراً يقرض الشعر، توفاه الله سنة 1327هـ بالحجاز (2) وله عدة تآليف لم تطبع منها، انجح المساعي، وحسن الوفا لأخوان الصفا، وصحائف العامل بالشرع الكامل (3).
عبد الرحيم بن أحمد المحبوب (البنغازي) تتلمذ على يد ابن السنوسي، وتولى مهاماً كثيرة أسندت إليه منها، مصاحبة محمد المهدي من الحجاز الى الجغبوب، وكان مفتشاً على الزوايا، وتولى مشيخة زاوية بنغازي، وانتدب لزيارة استانبول في عهد ابن السنوسي، كما زارها في عهد محمد المهدي، وقام بإلقاء الدروس بمعهد الجغبوب توفاه الله بزاوية بنغازي 1305هـ (4).
حسين الغرياني، تتلمذ على يد ابن السنوسي وانضم الى مجلس الاخوان وعرف عنه الصدق والاخلاص والحزم في جميع اعماله وتولى رئاسة الزاوية البيضاء ثم عين لرئاسة زاوية جنزور وعرف عنه الصلاح والتقوى والتفاني في عمله وتوفي بزاوية جنزور المعروفة باسم زاوية دفنه (5).
أحمد بن عبد القادر الريفي، من تلمسان بالجزائر، التحق بابن السنوسي سنة 1267هـ فلازمه ملازمة صادقة وقام بكثير من أعمال الحركة السنوسية وأخذ عنه محمد المهدي السنوسي الكثير من العلوم، ثم أصبح المستشار الخاص لمحمد المهدي، وكان معروفاً بالحلم والورع ولين الجانب وذكر بعض المؤرخين أن محمد المهدي السنوسي كان يتلو القرآن الكريم، وعندما مر بقوله تعالى: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما والذين يبيتون لربهم سجداً وقياما} قال: إن معنى هذه الآية ينطبق على السيد أحمد
_________
(1) انظر: السنوسي الكبير، ص62.
(2) المصدر السابق نفسه، ص62.
(3) انظر: برقة العربية أمس واليوم، ص150.
(4) انظر: السنوسي الكبير، ص64.
(5) انظر: برقة العربية أمس واليوم، ص151.(1/77)
الريفي (1)، وكان مستشار الحركة السنوسية الخاص، وتولى رئاسة مجلس الاخوان بالجغبوب توفى عام 1329هـ/1911م، فشق موته على افراد البيت السنوسي وجميع الاخوان وعامة أهل برقة ورثاه الشعراء والعلماء ومن بينهم تلميذه أحمد ادريس الأشهب حيث قال:
صبرت وماقلبي عليك بصابر
فانت امام الاولياء الاكابر
تركت دموع العين تجري صبابة
وسرت الى أهل العلى والمقابر
مكثت بجغبوب وتاج ومكة
وأنت تفيد القوم أهل المحابر (2)
محمد الصادق -من الطائف- التحق بابن السنوسي بالحجاز واسندت إليه أعمال كثيرة، وقد أرسله ابن السنوسي الى الجزائر أكثر من مرة بمهمات خاصة تتعلق بدعم حركة الجهاد في الجزائر، وتولى مشيخة زوايا الجريد بتونس كما كان حلقة الوصل بين المجاهدين في الجزائر والزوايا السنوسية، وقد توفى بالجريد.
محمد بن مصطفى حامد المدني - من تلمسان- التحق بابن السنوسي في الحجاز عام 1267هـ، وتولى اعمالاً كثيرة في الحركة السنوسية منها تعليم القرآن الكريم، وإلقاء الدروس، والاشراف على شؤون الطلبة والعمال في الجغبوب، ثم مشيخة زاوية تازربو حيث توفاه الله هناك.
عمر محمد الأشهب من زليطن - تعرف على ابن السنوسي مع زميله عمران بن بركة، تولى زاوية درنة، ومشيخة زاوية مارة، ثم مشيخة زاوية مسوس توفاه الله بها.
مصطفى المحجوب من مصراته، وقد تعرف على ابن السنوسي والتحق به في الزاوية البيضاء سنة 1258هـ تولى مهام كثيرة آخرها مشيخة زاوية الطيلمون.
أحمد بن علي أبو سيف من بادية طرابلس، تولى أعمالاً كثيرة منها التدريس ومشيخة زاوية مسوس، وزاوية مارة، وتوفي بالحجاز 1294هـ.
_________
(1) انظر: السنوسي الكبير، ص65.
(2) انظر: برقة العربية امس واليوم، ص169،170.(1/78)
أبو القاسم العيساوي - جبل طرابلس - تولى مشيخة زاوية الرجبان، وانتدب إلى دار الخلافة.
محمد ابراهيم الغماري من المغرب الأقصى (مراكش) تولى أعمالاً كثيرة منها مشيخة الزاوية البيضاء والأشراف على صناعة تجليد الكتب الخاصة بمكتبة الجغبوب وتنظيمها.
إبراهيم الغماري - مراكش - تولى مشيخة زاوية دريانة ضمن الأعمال المناطة به.
مصطفى الغماري - مراكش - تولى أكثر من زاوية بالحجاز حيث توفاه الله هناك.
محمد حسن البسكري، كان يقوم بالسكرتيرية لمحمد المهدي فيما بعد.
عمر أبو حواء الفضيل الأوجلي كان من أوائل رفاق ابن السنوسي، وقد اشتهر بالصلاح والتقوى والاستقامة، وقد ندبه ابن السنوسي إلى أكثر من مهمة في كل من الحجاز وليبيا والسودان وشمال إفريقيا، وقد تولى مشيخة زاوية الجوف بواحة الكفرة التي توفاه الله بها.
مصطفى الدردفي - من مصراته - كان من رفاق ابن السنوسي تولى مشيخة زاوية شحات.
محمد بن حمد الفيلالي - من المغرب - كان من رفاق ابن السنوسي، وقد انضم إليه من الجزائر، وتولى أعمالاً كثيرة منها رئاسة مجلس الإخوان في برقة وقد وصفه ابن السنوسي بالرئاسة (1) إلا أنه بعد سفر ابن السنوسي الأخير إلى الحجاز انفرد (بن حمد) في عمله وأساء التصرف واستبد عن رأي مجلس الأخوان، كما أخذ يهددهم ويهينهم بمختلف الإهانات وهم يتحملون ذلك ويرون طاعته مع الصبر على المكاره شيئاً ضرورياً لأنه الوكيل عن ابن السنوسي، ولما ظهرت تصرفاته
_________
(1) انظر: السنوسي الكبير، ص67.(1/79)
لابن السنوسي أمر بفصله ثم سافر إلى الحجاز وهناك استقبله ابن السنوسي وقال له: (اتعبتنا يا أخينا بن أحمد فما من كلمة سوء وجهتها لأحد إخواننا إلا وقد وجهت لنا بالذات وما من ضربة سوط أصابت جسم أحدهم إلا وقد أصابتنا مباشرة) (1).
محمد أحمد السكوري - من صنهاجة بالمغرب، تولى مشيخة زاوية الواحات البحرية وأوفده ابن السنوسي في مهمة إلى الحجاز ثم ولاه مشيخة زاوية المرج، ورث عن أبيه ثروة ضخمة ومحبة البدو الذين عرفوا والده وأحبوه (2).
المرتضى فركاش: ينتسب إلى نوح المسماري الشريف الحسني كان من كبار الشخصيات المحترمة بالجبل الأخضر يمتاز بين قبائل العرب بالدهاء وكثرة التجارب والمرونة وكرم الأخلاق وحسن التصرف وله شهرته الاصلاحية وقد ساعدته ثروته الطيبة وقتذاك على الاحتفاظ بمركزه الاجتماعي والأدبي وكان يعيش الحضر والبادية فيأوي مدينة درنة في وقت الصيف ويختلف إلى سكنى البادية في موسم الشتاء والربيع وعندما وصل ابن السنوسي إلى الزاوية البيضاء التحق به وأخذ في خدمته بكل إخلاص فنال حظوة عند سيادته وكان يلازمه في تنقلاته داخل برقة وحج معه البيت الحرام، وحفظ القرآن وتفقه في الدين بقدر الامكان، انجب أولاداً كانوا جميعاً في خدمة الحركة السنوسية، وكان لأمر هؤلاء الأولاد دوراً بارزاً في الجهاد ضد ايطاليا، وتميزت عائلة فركاش من بين قبيلة المسامير بخدماتها الجليلة للإسلام من خلال الحركة السنوسية، وارتبطت بصلات المصاهرة مع كثير من الإخوان منهم الأشهب، المحجوب، عبد المولى الغرياني (3).
أبوسيف مقرب: هو من أشهر بيوتات السعادي ينحدر من عائلة طامية البراعصة وفي بيته رياسة قبائل البراعصة وهو من خيرة رجال الحركة السنوسية سلمه والده طفلاً لإبن السنوسي، وكانت تبدو عليه امارات الذكاء والنجابة، وكان من بين
_________
(1) انظر: برقة العربية امس واليوم، ص153.
(2) انظر: برقة العربية امس واليوم، ص157.
(3) المصدر السابق نفسه، ص158.(1/80)
العمال الذين قاموا ببناء زاوية البيضاء فزلقت رجله وتصادم رأسه بالحجر فشج حتى قيل أن دماغه ظهر للعيان فجيء الى ابن السنوسي، فضمد رأسه بقطعة من عمامته قائلاً هذا الرأس سيملؤه الله علماً وحكمة) وصدقت فراسة ابن السنوسي ونبغ المصاب الذي كان اقرب الى الموت منه الى الحياة وأصبح من أبرز العلماء كما كان في طليعة أدباء الأخوان، وكان من كبار المدرسين في معهد الجغبوب توفى رحمه الله بزاوية الجوف (الكفرة) وصلى على جثمانه محمد المهدي الزعيم الثاني للحركة السنوسية وكان ذلك عام 1315هـ (1).
الحسين الحلافي - من المغرب- تولى من الأعمال مشيخة زاوية المخيلي.
المختار بن عمور - من أشراف الجزائر- كان من تلاميذ ابن السنوسي، تولى مشيخة زاوية قفنطه.
محمد حيدر الهوني، اشتهر باجادة تلاوة القرآن ترتيلاً حتى روى عن ابن السنوسي أنه كان يقول: (ياهوني قراءتك للقرآن تقول اسمعوني).
عمر جلغاف حدوث، من زعماء قبائل برقة -أخلص للحركة السنوسية، وكان ضمن الوفد الذي ألتمس من ابن السنوسي عندما كان في الحجاز أن يرجع الى برقة، وكان ضمن مجلس الاخوان في البيضاء وأوفده ابن السنوسي لتفتيش الزوايا والقيام ببعض المهام فيها.
الفضيل أبو خريص الكزة - أحد زعماء قبائل برقة- انضم الى ابن السنوسي، وكان حظه من التعليم قليلاً إلا أنه قام بمهمات كبيرة في السودان والحجاز والجزائر (2).
بالإضافة الى هؤلاء مجموعة طيبة من أعيان وزعماء برقة من الحضر والبادية ومن بينهم الأمين بك شتيوي متصرف بنغازي، ومحمد بك كاهية وجميع
_________
(1) انظر: برقة العربية امس واليوم، ص153.
(2) انظر: السنوسي الكبير، ص69.(1/81)
أفراد أسرته، والشيخ علي القزيري، والحاج عبد الله بن شتوان، والشيخ محمد الاسمع والحاج سالم عثمان، وكبار عائلة منينة وبن زبلح، وهؤلاء من وجهاء وعيون بنغازي أما من درنة فقد انضم إليه جميع اعيانها ورؤسائها منهم وقتذاك عائلة جبريل، وعائلة ساسي وستيته، ومن شيوخ البدو علي بك الاطيوش، والحاج محمد قادربوه، والشيخ حمد اللواطي، وابوبكر بك حدوث وعمر جلغاف وعبد الله سويحل عمدة عائلة مريم واضرابهم من الشيوخ والعمد والاعيان وعامة الاهالي هؤلاء جميعاً كانوا من انصار الحركة السنوسية انصهروا في بوتقتها، وتبنوا تعاليمها، واصبحوا من دعاتها.
كان هؤلاء الاخوان من شتى بقاع المعمورة، فآخى بينهم ابن السنوسي وهم لم يتعارفوا قبله إذ لا صلة تربطهم غير الاسلام، فأصبحوا كجسد واحد غير قابل للتجزأة، جاءوا من تونس، والجزائر، ومراكش والريف وسوس الاقصى، وطرابلس الغرب وباديتها وبرقة وباديتها ومصر وصعيدها والسودان والحجاز واليمن ونجد، فأصبحوا لاهم لهم إلا خدمة الاسلام (1).
رابعاً: الأخذ بأصول الوحدة والاتحاد والاجتماع عند ابن السنوسي:
لقد استطاع ابن السنوسي بتوفيق الله تعالى أن يجعل من الأخوان والقبائل في الصحراء الكبرى مجتمعا ًمتماسكاً، متوحداً في عقيدته وتصوراته ومنهجه، فانعكس ذلك في توادهم وتراحمهم فيما بينهم وأصبحوا كالجسد الواحد، الذي يخفق فيه قلب واحد، وتسري فيه روح واحدة ويتأثر كل عضو فيه بما يصيب بقية الأعضاء، أو هو كالجدار المتين الذي تجتمع لبناته لتشكل فيما بينها وحدة واحدة متماسكة متراصة.
قال تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا} (آل عمران، آية 103).
_________
(1) انظر: برقة العربية امس واليوم، ص159.(1/82)
إن طريق الوحدة والتعاون والتآخي والاجتماع على البر والتقوى الذي سلكه ابن السنوسي هو طريق أهل السنة والجماعة الذي التزموا في كافة أمورهم بما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، في العقائد والأخلاق، والعبادة، والمعاملات، وكافة شؤون الحياة، إن المنهج الذي اجتمع عليه الاخوان السنوسيون هو كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأن ذلك طريق الاعتصام بحبل الله وهذا الأصل من آكد الأصول في هذا الدين العظيم ولذلك أمر الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بكل مايحفظ على المسلمين جماعتهم وألفتهم، ونهياً عن كل مايعكر صفو هذا الأمر العظيم.
إن ما حصل من فرقة بين المسلمين وتدابر وتقاطع، وتناحر بسبب عدم مراعاة هذا الأصل، وضوابطه مما ترتب عليه تفرق في الصفوف، وضعف في الاتحاد، وأصبحوا شيعاً وأحزاباً كل حزب بما لديهم فرحون.
وهذا الأمر وإن كان مما قدره الله عز وجل كونا، ووقع كما قدر، إلا أنه سبحانه - لم يأمر به شرعاً، فوحدة المسلمين واجتماعهم مطلب شرعي، ومقصد عظيم من مقاصد الشريعة، بل من أهم عوامل النهوض، ونحن مأمورون بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر قال تعالى: {إن الله لا يغير مابقوم حتى يغير مابأنفسهم} (سورة الرعد، آية 11).
لقد تضافرت جهود دعاة الحركة السنوسية وقاداتها وعلمائها وطلابها لإصلاح ذات البين إصلاحاً حقيقياً لا تلفيقياً، لأن أنصاف الحلول تفسد أكثر مما تصلح، وكأنهم اعتقدوا أن: (الجهاد نوعان: جهاد يقصد به صلاح المسلمين، وإصلاحهم في عقائدهم وأخلاقهم وآدابهم، وجميع شؤونهم الدينية والدنيوية، وفي تربيتهم العلمية، وهذا النوع هو الجهاد وقوامه، وعليه يتأسس النوع الثاني، وهو جهاد يقصد به دفع المعتدين على الاسلام والمسلمين من الكفار والمنافقين والملحدين وجميع أعداء الدين ومقاومتهم وهذا نوعان: جهاد بالحجة والبرهان واللسان، وجهاد بالسلاح المناسب في كل وقت وزمان) (1)
_________
(1) انظر: وجوب التعاون بين المسلمين للسعدي، ص5.(1/83)
(إن من أعظم الجهاد السعي في تحقيق هذا الأصل في تأليف قلوب المسلمين واجتماعهم على دينهم ومصالحهم الدينية والدنيوية) (1).
إن الأخذ بالأسباب نحو تأليف قلوب المسلمين وتوحيد صفهم كانت من أهداف الحركة السنوسية؛ لأن قادة الحركة ايقنوا بأهمية هذه الخطوة في إعزاز المسلمين، وتحكيم شرع ربهم، وتقوية دولتهم إن ابن السنوسي عمل على وضع منهج سار عليه علماء الحركة من أجل توحيد المجتمع على كتاب الله وسنة رسوله ولذلك اهتم بالآتي:
أ- وحدة العقيدة:
أيقن ابن السنوسي أنه لايمكن أن تقوم وحدة للمسلمين مالم تجمعهم عقيدة واحدة، وكان يعلم بأن العقيدة تشكل أساساً مهماً في البناء الفردي والاجتماعي، وهي القاعدة التي تقوم عليها الأعمال والعلاقات فإن البناء لايستقيم، ولايستطيع أن يواجه الأعاصير والفتن حتى ينهار. وإن العقيدة تصلح لجمع شتات المسلمين هي ماكان منبعها كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويمكن التدليل على كل أصل من أصولها، أو جزئية من جزئياتها، ثم إن السلف الصالح الذين استقاموا على عقيدة الإسلام الحق دونوا هذه العقيدة تدويناً يميزها عن عقائد أهل الفرق والضلال (2).
إن سلامة الاعتقاد وصحته هي الطريق الوحيد لإقامة المجتمع المسلم المترابط المتآلف، ولاسبيل إلى إجتماع الأمة الإسلامية قاطبة، ووحدة صفها، وعزها وسعادتها في الدنيا والآخرة، إلا بالعودة الصحيحة إلى الإسلام الصافي النقي، الخالص من شوائب الشرك والبدع والأهواء والتعصب واتباع العوائد الفاسدة.
إن طريق النهوض بالأمة لابد فيه من وحدة الصف الإسلامي، ووحدة الصف
_________
(1) انظر: وجوب التعاون بين المسلمين، ص5.
(2) انظر: فقه التمكين في القرآن الكريم، للصلابي، ص255.(1/84)
ليس لها من سبيل إلا الإسلام الصحيح، والإسلام الصحيح مصدره القرآن الكريم والسنة النبوية، والطريق لفهم القرآن الكريم والسنة المطهرة هي طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام، والتابعون بإحسان، ومن سار على نهجهم وطريقتهم إلى يوم الدين.
قال تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ماتبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ماتولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} (سورة النساء، الآية: 115).
وقال تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه} (سورة التوبة، الآية: 100).
فوعد من اتبع غير سبيلهم بعذاب جهنم، ووعد متبعهم بالجنة والرضوان (1).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجئ قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته " (2).
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: " اتبعوا ولاتبتدعوا فقد كفيتم " (3) وعنه - رضي الله عنه -: " من كان متأسياً فليتأس بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً وأقومها هدياً، وأحسنها حالاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم " (4).
لقد اهتمت الحركة السنوسية بجانب العقيدة وكانت رسالة أبي زيد القيرواني العلمية ضمن مقررات مناهج الحركة، وتعتبر هذه الرسالة من أنفع التآليف في الفقه
_________
(1) انظر: فقه التمكين في القرآن الكريم، ص255.
(2) انظر: مسلم، كتاب الصحابة، باب فضل الصحابة (4/ 1963) رقم 2533.
(3) انظر: الموطأ، رقم 1619.
(4) انظر: حلية الأولياء (1/ 379).(1/85)
المالكي قاطبة، وذلك لمكانة مؤلفها العلمية من ناحية، ولسهولتها ويسرها وجمعها لأصول العقيدة والفقه والآداب من ناحية أخرى.
وهي كما وصفها مؤلفها ابن أبي زيد في مقدمتها: " جملة مختصرة من واجب أمور الديانة، مما تنطق به الألسنة، وتعتقده القلوب، وتعمله الجوارح، وما يتصل بالواجب من ذلك من السنن من مؤكدها ونوافلها ورغائبها وشيء من الآداب منها، وجمل من أصول الفقه وفنونه على مذهب الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى وطريقته، مع ماسهل سبيل ما أشكل من ذلك من تفسير الراسخين وبيان المتفقهين لما رغبت فيه من تعليم ذلك للولدان كما تعلمهم حروف القرآن ليسبق إلى قلوبهم من فهم دين الله وشرائعه ماترجى لهم بركته وتحمد لهم عاقبته" (1).
وهذا النص الكامل لمقدمة أبي زيد القيرواني في العقيدة: (باب ماتنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة من واجب أمور الديانات:
من ذلك الإيمان بالقلب والنطق باللسان بأن الله إله واحد لا إله غيره ولاشبيه له ولانظير له ولا ولد له ولا والد له ولا صاحبة ولاشريك له. ليس لولايته ابتداء ولا لآخريته انقضاء لايبلغ كنه صفته الواصفون ولايحيط بأمره المتفكرون، يعتبر المفكرون بآياته ولايتفكرون في ماهية ذاته ولايحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض، ولايؤده حفظهما وهو العلي العظيم .. العالم الخبير المدبر القدير السميع البصير العلي الكبير، وإنه فوق عرشه المجيد بذاته وهو بكل مكان يعلمه خلق الإنسان ويعلم ماتوسوس به نفسه وهو أقرب إليه من حبل الوريد، وماتسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين: على العرش استوى وعلى الملك احتوى وله الاسماء الحسنى والصفات العلى لم يزل بجميع أسمائه وصفاته، تعلى أن تكون صفاته مخلوقة وأسماؤه محدثة كلم موسى بكلامه الذي هو صفة ذاته لا
_________
(1) انظر: شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني للأمين الحاج، ص9.(1/86)
خلق من خلقه وتجلى للجبل فصار دكاً من جلاله، وأن القرآن كلام الله ليس بمخلوق فيبيد ولا صفة لمخلوق فينفد، والإيمان بالقدر خيره وشره .. حلوه ومره ..
وكل ذلك قدرة الله ربنا ومقادير الأمور بيده ومصدرها عن قضائه، علم كل شيء قبل كونه فجرى على قدره لايكون من عباده قولاً ولا عمل إلا وقد قضا وسبق علمه به {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} يضل من يشاء فيخذله بعدله، ويهدي من يشاء فيوفقه بفضله، فكل ميسر بتيسيره الى ماسبق من علمه وقدره من شقي أو سعيد، تعالى أن يكون في ملكه مالا يريد أو يكون لاحد عنه عنا خالقاً لكل شيء إلا هو رب العباد ورب اعمالهم والمقدر لحركاتهم وآجالهم الباعث الرسل فيهم لاقامة حجة عليهم ثم ختم الرسالة والنذارة والنبوة بمحمد نبيه - صلى الله عليه وسلم - فجعله آخر المرسلين بشيراً ونذيراً وداعياً الى الله بإذنه وسراجاً منيراً وأنزل عليه كتابه الحكمي وشرع بدينه القويم وهدى به الصراط المستقيم، وان الساعة آتية لا ريب فيها وان الله يبعث من يموت كما بدأهم يعودون، وان الله سبحانه ضاعف لعباده المؤمنين الحسنات وصفح لهم بالتوبة عن الكبائر وجعل من لم يَتُب من الكبائر صائراً الى مشيئته {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء} ومن عاقبه الله بناره أخرجه منها بإيمانه فأدخلها به جنته {ومن يعمل مثقال ذرة خيراً يره} ويخرج منها بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - من شفع له من أهل الكبائر من أمته .. وأن الله سبحانه قد خلق الجنة فأعدها دار خلود لأوليائه وأكرمهم فيها بالنظر الى وجهه الكريم وهي التي هبط منها آدم نبيه وخليفته الى أرضه بما سبق في سابق علمه، وخلق النار فأعدها دار خلود لمن كفر به وألحد في آياته وكتبه ورسله وجعلهم محجوبين عن رؤيته وإن الله تبارك وتعالى يجيء يوم القيامة والملك صفاً صفاً لعرض الأمم وحسابهم.
وتوضع الموازين لوزن أعمال العباد {فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون} ويؤتون صحائفهم بأعمالهم {فمن أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً ومن أوتي كتابه وراء ظهره فاولئك يصلون سعيراً}. وان الصراط حق يجوز بقدر اعمالهم فناجون متفاوتون في سرعة النجاة عليه من نار جهنم وقوم أوبقتهم فيها أعمالهم،(1/87)
والإيمان بحوض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترده أمته لا يظمأ من شرب منه ويداد عنه من بدل وغير وان الايمان قول باللسان واخلاص بالقلب وعمل بالجوارح يزيد بزيادة الأعمال وينقص بنقصها فيكون بها النقص وبها الزيادة ولايكمل قول الإيمان إلا بعمل، ولا قول ولا عمل إلا بنية، ولا قول ولا عمل ونية إلا بموافقة السنة. وإنه لايكفر أحد بذنب من أهل القبلة، وان الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون وأرواح أهل السعادة باقية ناعمة الى يوم يبعثون وأرواح أهل الشقاوة معذبة الى يوم الدين. وأن المؤمنين يفتنون في قبورهم ويُسألون {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} وان على العباد حفظة يكتبون اعمالهم ولا يسقط شيء من ذلك عن علم ربهم وان ملك الموت يقبض الأرواح بإذن ربه وأن خير القرون الذين رأوا رسول الله وآمنوا به ثم الذين يلونهم.
وافضل الصحابة الخلفاء الراشدون المهديون أبوبكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين.
وان لايذكر أحد من صحابة الرسول إلا باحسن ذكر والامساك عما شجر بينهم وأنهم أحق الناس ان يلتمس لهم المخارج ويظن بهم أحسن المذاهب، والطاعة لأئمة المسلمين من ولاة أمورهم وعلمائهم واتباع السلف الصالح واقتفاء آثارهم والاستغفار لهم وترك المراء والجدال في الدين وترك كل ماأحدثه المحدثون وصلى الله على سيدنا محمد نبيه وعلى آله وأزواجه وذريته وسلم تسليماً كثيراً) (1).
هذه العقيدة السنية البهية كانت تدرس في مناهج الحركة السنوسية، ويتربى عليها القادة، والجنود، وكان علماء الحركة السنوسية يحاربون العقائد الفاسدة بين القبائل في الصحراء الكبرى، ويرشدون الناس الى حرمة الغلو في تقديس المشايخ الأحياء والأموات، ولا تأذن لأتباعها أن يذكروا ميتاً عند قبره بغير الدعاء له والترحم عليه (2) ويعلمون الناس أوامر القرآن والسنة الشريفة وأصول التوحيد، ويحرمون التضرع
_________
(1) انظر: شرح مقدمة ابي زيد القيرواني، ص16،17،18.
(2) انظر: الاسلام في القرن العشرين، ص132.(1/88)
للأولياء، ويربون الناس على أن يكون التعبد لله وحده (1) كانت بعض القبائل في الصحراء الكبرى وافريقيا قد انحرفت عن عقيدتها الصحيحة، فجاء إليهم علماء الحركة السنوسية يبينون لهم عقيدتهم ويتلون عليهم آيات الله التي تبين أن النافع والضار هو الله وحده ويفسرون لهم ذلك كقوله تعالى {ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك من الظالمين} (سورة يونس، آية 106).
وقال تعالى {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم} (سورة يونس، آية 107).
وقال تعالى: {ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لايستجيب له الى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون، وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداءً وكانوا بعبادتهم كافرين} (سورة الاحقاف: آية 46).
وقال تعالى: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أأله مع الله} (سورة النمل، آية 62).
كما قامت الحركة السنوسية بمحاربة عقائد الصوفية المنحرفة، كالاتحاد، ووحدة الوجود، والحلول؛ إن عقيدة الاتحاد من عقائد الصوفية الفاسدة المتأثرة بالنصرانية المنحرفة، والديانة الهندية القديمة، ومعنى ذلك أن المخلوق يتحد بالخالق تعالى الله عن قولهم علواً عظيماً قال تعالى: {ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل لاتدركه الابصار وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخبير} (سورة الانعام، آية 102،103).
أما وحدة الوجود، فإنهم يعتقدون أن كل شيء في الوجود هوالاله سواء كان حيواناً أو جماداً، أو انساناً أو غير ذلك، وهي عقيدة فاسدة مضمحلة لا أساس لها من عقل ولا شرع ولكنها من وحي الشيطان، إن الحركة السنوسية حاربت هذا المعتقد
_________
(1) انظر: انتشار الاسلام في القارة الأفريقية، حسن ابراهيم، ص47.(1/89)
الفاسد الباطل، وسارت على مذهب أهل السنة والجماعة الذي يقول بأن الله سبحانه بائن من خلقه لايشبهه شيء من مخلوقاته متصف بصفات الكمال فله الأسماء الحسنى والصفات العلى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} فهو المتفرد بالجلال المتصف بصفات الكمال المنزه عن النقائص والعيوب فمن اعتقد أن الله سبحانه تعالى متحد بمخلوقاته وأن العبد عين الرب، والرب عين العبد فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - وخالف الفطر والشرائع وقد كفّر الله تعالى النصارى الذين قالوا: إن الله اتحد بعيسى عليه السلام فقال سبحانه: {لقد كفر الذين قالوا أن الله هو المسيح ابن مريم}، فكيف بمن يقول إن الله متحد مع جميع مخلوقاته فهو أولى بأن يكون كافراً لأنه يعتقد إن الله متحد بجميع ما في هذا الكون (1).
إن عقيدة وحدة الوجود عقيدة إلحادية بحته ليست من الاسلام في شيء، وأن علماء الحركة السنوسية، وقفوا ضدها بكل حزم وعزم قال تعالى: {قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد} (سورة الاخلاص، آية 3).
وحاربت الحركة السنوسية عقيدة الحلول التي تقول بأن الله يحل في الاشخاص تعالى الله عن قول الحلوليين علواً كبيراً.
(والحقيقة أن القول بالاتحاد بين الخالق والمخلوق يأباه العقل الذي سلم من الشبهات ويدل دلالة واضحة على أنها باطلة لأن أي إنسان تسمح له نفسه أن يدعي بأنه دخل به الإله وصار مع الله وحدة واحدة ولايمكن أن يخرج مثل هذا الادعاء الباطل من انسان له عقل سليم أو به ذرة من ايمان) (2).
لقد حاربت الحركة السنوسية العقائد الفاسدة، ودعت الى العقائد الصحيحة، لتجتمع القبائل والشعوب الاسلامية عليها، كما حرصت على تحكيم كتاب الله وسنة رسوله على نفسها، ودعت غيرها بالالتزام بذلك.
_________
(1) انظر: مظاهر الانحرافات العقيدية عند الصوفية، ادريس محمود، ص285.
(2) انظر: المؤامرة على الاسلام، للجندي، ص52.(1/90)
ب- تحكيم الكتاب والسنة:
أيقن ابن السنوسي وأخوانه من العلماء أن المسلمين لايكون لهم شأن، ولا عز، ولا نصر، ولا فلاح في الدنيا، ولا نجاة في الآخرة، إلا بتحكيم كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، على مستوى الافراد، والأسر، والجماعات، والقبائل، ومن ثم على مستوى الدولة.
واسترشد ابن السنوسي فيما ذهب إليه بقوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلاً} (سورة النساء، آية 59).
وبقوله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع: (يا أيها الناس: إني تركت فيكم ما أن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً، كتاب الله وسنتي) (1).
إن ابن السنوسي حرص على تحكيم شرع الله تعالى على نفسه واسرته، ومجتمعه، وكان يرى أن ذلك خطوة اصيلة نحو وحدة الأمة واقترابها من نصر الله تعالى، وأن للتحاكم الى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ آثار دنيوية، كالاستخلاف، والتمكين، والأمن والاستقرار، والنصر والفتح، والعز والشرف، وبركة العيش ورغد الحياة، والهداية والتثبيت، وانتشار الفضائل، وانزواء الرذائل، وأما الآثار الأخروية؛ كالمغفرة، وتكفير السيئات، والثواب العظيم عند الله تعالى، والحياة الحقة الدائمة وعلو المنزلة ومعية التكريم، وإليك هذه الرسالة التي ارسلها ابن السنوسي الى أهل وجنقة في تشاد لتدلنا على ماذهبنا إليه. قال -رحمه الله- بعد البسملة: (إنه من عبد ربه سبحانه محمد بن علي السنوسي الخطابي الحسني الإدريسي. الى المكرم الأجل العمدة الأفضل الفقيه النبيه ولدنا الشيخ فرج الجنقاوي وكافة جماعة بلد وجنقة كبيراً وصغيراً ذكر وأنثى سلم الله جميعهم وأنالهم من خير الدارين مرامهم آمين السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وتحياته ومغفرته ومرضاته وبعد فالقصد المطلوب والأمر المرغوب هو السؤال
_________
(1) انظر: مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - (2/ 890) رقم 1218.(1/91)
عنكم وعن كلية أحوالكم جعلها الله جارية على منهاج كتابه وسنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وشرف وكرم وعظم، وثانياً فإنا ندعوكم بدعاية الاسلام من طاعة الله ورسوله، قال تعالى في كتابه العزيز: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} وقال تعالى {من يطع الرسول فقد أطاع الله}. وقال تعالى: {من يطع الله ورسوله فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً} والطاعة هي امتثال أمر الله ورسوله من إقامة الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان، وأداء زكاة الأموال، وحج بيت الله الحرام، واجتناب مانهى الله عنه من الكذب والغيبة والنميمة وأكل أموال الناس بالباطل وشرب الخمر وقتل النفس بغير حق.
وشهادة الزور، وغير ذلك مما حرم الله ورسوله فبذلك تنالون الخير الأبدي والربح السرمدي الذي لايعتريه خسران ولا يحوم حول حماه حرمان، وقد طلب منا أناس من ذلك الطرق أن نبعث معهم بعض إخواننا يذكرون عباد الله ويعلموهم مافرض الله ورسوله عليهم، ويهدوهم الى سبيل الرشاد، وعزمنا على ذلك لكون هذه الوظيفة هي التي أقامنا الله عليها، ننبه الغافل، ونعلم الجاهل، ونرشد الضال. ولكن نحن الآن بالحرمين الشريفين، وعندما قدمنا لهذه النواحي اشتغلنا بدلالة العباد الى الله، ومارأينا أحداً من ناحيتكم حتى نوجه معه من يعلم الناس دينهم الذي ارتضاه، والآن فإن أتباعنا -جماعة زوية- الذين هم أهل تزور (موقع) المعلومة عندكم قدموا إلينا وتابوا على أيدينا وطلبوا منا بناء زاوية بموقع تزر المذكورة. وقصدنا في ذلك مجاورتكم وتعليمكم أنتم وأبناءكم كتاب الله وسنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وإصلاح ذات البين. بينكم وبين هؤلاء العربان الذين يغيرون عليكم ويأخذون أبناءكم وأموالكم عاملين بقوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا ذات بينكم} {وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين}. وبقوله تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً}. فبذلك يحصل التعاون على البر والتقوى كما(1/92)
أمر الله بذلك في قوله: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان}.
وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: (كونوا عباد الله إخوانا وعلى الدين أعوانا) وأما الفتنة والمنازعة لاخير فيها بل لقد نهى الله عنها في كتابه العزيز بقوله: {ولا تنازعو فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا ان الله مع الصابرين}، وإن شاء الله إذا امتثلتم أمرنا وتبعتم نصيحتنا فسيقدم عليكم بعض أبنائنا يعلمون أبناءكم كتاب الله، ويعلمون رجالكم سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولاتخافون بعد ذلك إن شاء الله من أحد، وترون فضل الله ورحمته ماليس عليه من مزيد. وبلغوا سلامنا وكتابنا هذا الى كل من حولكم ممن يريد طاعة الله ورسوله وأتباع الكتاب والسنة، وربنا تبارك وتعالى يجعلكم هادين مهديين دالين على الخير وبه عاملين بمنه وكرمه آمين. ودمتم بخير عافية. ونعم متواترة ضافية) (1).
وهذه الرسالة تعطينا منهجية ابن السنوسي في دعوته واسلوب عرضه، وطريقة خطابه، وجزالة ألفاظه، ورعة بيانه.
ج- صدق الانتماء الى الاسلام:
أيقن ابن السنوسي أن من أسباب جمع صفوف الأمة وتحقيق الوحدة بينها الدعوة الى الالتزام بالاسلام عقيدة وشريعة ومنهج حياة، والاعتزاز بالانتساب الى هذا الدين، ونبذكل مايخلفه ويضاده.
لقد تربى اتباع السنوسية على أن الاسلام منهج للحياة، والعبودية لله معلم كبير في حياة المسلم، والمسلمون، وفق هذا المنهج والفهم يشكلون أمة واحدة في مقابلة التجمعات البشرية، ولقد تربى أتباع السنوسية على الاعتزاز بالانتساب الى الاسلام: {ومن أحسن قولاً ممن دعا الى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين} (سورة فصلت: آية 33).
لقد كان الأنتماء الى الاسلام في التربية السنوسية فوق الانتماء للأوطان، والأقوام، والنعرات الجاهلية،.
_________
(1) انظر: السنوسي الكبير، ص152.(1/93)
د- طلب الحق والتحري في ذلك:
إن هذا الأصل العظيم ألا وهو طلب الحق والتحري للوصول إليه، يقوي وحدة صف العاملين لتحكيم شرع الله، وهي من أهم سمات الربانيين الذين صفت نفوسهم وتطهرت قلوبهم بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. إن الله تعالى في كتابه الكريم، يبين أنه لاتوجد منزلة ثالثة بين الحق والباطل، فقال سبحانه وتعالى: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} (سورة يونس، آية 32).
قال القرطبي -رحمه الله-: ("قال علماؤنا": حكمت هذه الآية بأنه ليس بين الحق والباطل منزلة ثالثة في هذه المسألة التي هي توحيد الله تعالى، وكذلك هو الأمر في نظائرها، وهي مسائل الأصول فإن الحق فيها في طرف واحد) (1).
ولذلك نجد ابن السنوسي وهو المالكي المذهب والثقافة يخالف مذهب مالك في بعض المسائل عندما تبين له أن الحق خلاف مذهب الامام مالك، فكان يقبض في صلاته، ويقنت بعد الركوع، ويقصر في الصلاة اثناء السفر ... الخ وقد حذا اتباعه حذوه وهذا يدلنا على تحري ابن السنوسي واتباعه للدليل الشرعي والتمسك به، ونقد كثيراً من آراء التصوف المخالفة لكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت وسائل الوصول الى الحق، تقوى الله، والتجرد والاخلاص.
هـ- تحقيق الأخوة بين أفراد المجتع:
أيقن ابن السنوسي أن بتحقيق الأخوة بين القبائل، واتباع الحركة، تتحقق وحدة الصف، وقوة التلاحم، ومتانة التماسك بين أفراد الحركة، كما كان على علم بأن الأخوة منحة من الله عز وجل، يعطيها الله للمخلصين من عباده والأصفياء والأتقياء من أوليائه وجنده وحزبه قال تعالى: {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين - وألف بين قلوبهم لو أنفقت مافي الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم} (سورة الانفال: آية 62 - 63).
_________
(1) انظر: الجامع لأحكام القرآن (8/ 336).(1/94)
إن الأخوة في الله بين اتباع الحركة السنوسية أورثتهم شعوراً عميقاً، وعاطفة صادقة، ومحبة ووداً واحتراماً فيما بينهم قال تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} (الحجرات، آية 10).
إن الأخوة في الله ملازمة للإيمان، ولايذوق حلاوة الايمان إلا من أشرب هذه الأخوة ولذلك حرص عليها السنوسيون واتباعهم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وان يحب المرء لايحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار) (1).
لقد حرص السنوسيون أن يطبقوا تلك الصورة الجميلة لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانا سيماهم في وجوهم من أثر السجود} (سورة الفتح، آية 29).
إن الأخوة في الله من أهم الاسباب التي جعلت الحركة السنوسية تصمد في وجه أعتى المحن التي تعرضت لها.
_________
(1) انظر: البخاري، كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان (1/ 11).(1/95)
الفصل الثاني
البعد التنظيمي، والمنهج التربوي، والبعد السياسي عند ابن السنوسي
المبحث الأول
البعد التنظيمي عند ابن السنوسي
إن البعد التنظيمي يظهر في شخصية محمد بن علي السنوسي في بناء الزوايا التي يتربى فيها اتباعه والمنهج التربوي الذي سار عليه، فأما الزوايا فهي ركيزة نظام الحركة السنوسية وهي التطبيق العملي لأفكار ابن السنوسي التي دعا إليها.
إن نظام الزوايا، كان معروفاً في العالم الاسلامي، والشمال الأفريقي خصوصاً كلمة الزاوية تطلق عند الطرق الصوفية على مكان يختلي فيه أتباع الطريقة والقائمون عليها بأنفسهم ويتقربون الى الله بالعبادة ليلاً ونهاراً منقطعين عن الناس وعن الحياة مكتفين بكفالة الناس لهم، على يد رجال القوافل الذين يضربون في الطرق الصحراوية، وينزلون بهذه الزوايا التي غالباً ماكانت مواقعها في أماكن خلوية بعيدة عن العمران، أو ما يوقف على الزاوية من أوقاف يحبسها مشايخ القبائل المجاورة للزواية تقرباً الى علمائها المشرفين على طريقتها الصوفية.
أما الزوايا السنوسية فهي تختلف عن غيرها من الزوايا الأخرى من حيث الشكل والمضمون أي من حيث مواقعها وبنائها، ومن حيث تنظيمها ورسالتها (1) لقد استطاع ابن السنوسي بعقليته التنظيمية أن يطور مفهوم الزوايا بحيث أصبحت تمثل النواة الأولى لمجتمع تحكمه سلطة وعليه واجبات؛ اجتماعية واقتصادية وسياسية ودعوية، وجهادية وقد تحدث ابن السنوسي في إحدى رسائله عن الزاوية فقال: (والزاوية في الحقيقة إنما هي بيت من بيوت الله ومسجد من مساجده ... والزاوية
_________
(1) انظر: في تاريخ العرب الحديث وجهاد الاندلسيين، د. رأفت، ص255.(1/96)
إذا حلت بمحل نزلت فيه الرحمة وتعمر بها البلاد ويحصل بها النفع لأهل الحاضرة والباد، لأنها ما أسست إلا لقراءة القرآن ولنشر شريعة أفضل ولد عدنان) (1).
وقال في رسالة أخرى: (وأما نحن فقد ألفنا ما أعتدناه ورضيت به نفوسنا فنريد أن تكون تلك العمارة مستمرة ونفوس سكانها مستقرة ليحصل المقصود منه (يعني الزاوية) ويدوم، من تعلم العلم وتعلميه، وإقراء القرآن وتفهيمه، إقامة شعائر الدين للوافدين عليها والمقيمين بها) (2). وقال في رسالة ثالثة: (رتبنا لكل واحدة خليفة يقوم فيها بما ذكر من الجمعة، وتعليم القرآن ودرس العلم ودلالة الخلق على دينهم وعودتهم الى ربهم .. وبذلك تبتهج الأرض حولها بأنواع الأشجار ويكثر بها السكان لكثرة الثمار وتنتشر العمارة وتتسع الإدارة) (3).
لقد استطاع ابن السنوسي أن يؤسس تنظيماً هرمياً للحركة فكان تشكيله كالآتي:
شيخ الطريقة او رئيس النظام وهو الرئيس الأعلى لها.
مجلس الأخوان (الشورى)، ومهمته مساعدة شيخ الحركة في تعيين ... شيوخ الزوايا.
شيوخ الزوايا.
الاخوان ومهمتهم كسب الاعضاء العاديين الى الحركة (4) كما أصبحت في أواخر حياة ابن السنوسي زاوية الجغبوب تمثل عاصمة الحركة، وجعل في البناء التنظيمي في الحركة زوايا رئيسية أو زوايا عليا، يراسها شيوخ الحركة السنوسية الكبار، كزاوية أبي قبيس بمكة، وزاوية البيضاء، وزاوية درنة، وزاوية بنغازي، وكان لها الأشراف على ماحولها من الزوايا، كما كانت مجالس الدرس فيها أعلى مستوى وأكثر تنوعاً واستجابة للحاجات الدينية والعقلية (5).
_________
(1) انظر: السنوسي الكبير، ص143.
(2) انظر: الحركة السنوسية، ص237.
(3) المصدر السابق نفسه، ص237.
(4) انظر: تاريخ ليبيا المعاصر، محمود عامر، ص133.
(5) انظر: تاريخ المغرب العربي الحديث (ليبيا)، محمود عامر، ص133.(1/97)
استطاع ابن السنوسي أن يربط بين جميع زوايا الحركة برباط متين من المخابرات والمخاطبات ولجان التفتيش، وفق نظام دقيق تلتقى أسبابه عند الزاوية الكبرى المركزية، وكانت تلك الزوايا قد انتشرت في تونس والجزائر وبرقة ومصر والحجاز واليمن، والسودان الغربي (تشاد)، وكانت تقارير هذه البلاد ترد أولاً الى بنغازي ثم ترسل الى الجغبوب بواسطة الهجن وبسرعة عظيمة (1).
وكانت العقلية التنظيمية عند ابن السنوسي تهتم بالتخطيط السليم، والادارة الناجحة، وكان تخطيطه يعتمد على تحفيزه لاتباعه والاستعداد لما سيواجههم في المستقبل وكان فهمه لقوله تعالى {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا} (سورة القصص، آية 77). وقوله تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ... ) (سورة الانفال، آية 60). جعلت من الزوايا خلايا حية تمتد منها الحياة الصالحة الى سائر جسم الأمة الاسلامية، فأصبحت مراكز تربية وتهذيب وتعليم، وإيقاظ للعاطفة الدينية السليمة، وتوجيه الحياة العاملة توجيهاً سديداً؛ فأصبحت مراكز إصلاح إنساني متكامل، من الناحية الدينية والعقلية والاجتماعية والاقتصادية (2).
إن البناء التنظيمي للزوايا في الحركة السنوسية يدلنا على أن ابن السنوسي استفاد من سنة الأخذ بالاسباب استفادة كبيرة، وكان مقتنعاً بأن نهوض الأمة يستلزم من العاملين من اجل هذا الهدف أن يستوعبوا سنة الأسباب، وأن يحسنوا التعامل معها، بحيث يستطيعوا أن ينزلوها على أرض الواقع.
إن مفهوم التوكل عند ابن السنوسي، يعني الأخذ بالأسباب المادية المتاحة مع الاعتماد على الله سبحانه وتعالى، ولذلك استطاع أن يبني البناء التنظيمي البديع المتين، وفق أسس ونظم رائعة وإليك تفصيلها:
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص50.
(2) انظر: دراسات وصور، ص286.(1/98)
أولاً: الأسلوب الذي تبنى به الزاوية:
تبنى الزاوية بالاتفاق بين أحد القبائل التي ترغب في بنائها مع ابن السنوسي ويكون البناء وفق الاسلوب الآتي:
تبنى الزاوية في قطعة من الأرض المختارة بالاتفاق مع القبيلة التي تملك الناحية ومع ممثل ابن السنوسي أو ابن السنوسي نفسه.
يعين ابن السنوسي لهذه الزاوية رئيساً يلقب بـ (الشيخ) اذا كانت الزاوية قد بنيت، وان لم تكن فيختط الشيخ زاويته في الموضع المتفق عليه وتكون ارضها وقفاً، وعادة تكون على ربوة عالية تشرف على ماحولها ويتوخى فيها المناخ الصحي (1).
تكون تكاليف بناء مسكن الشيخ والمسجد والمدرسة من الأهالي.
للزاوية حرم كبير يحيط بها من الجهات الاربع؛ يكون آمناً لمن دخله واستجار به، ولا يجوز أن يطلق داخله الرصاص، أو يشهر السلاح، وكذلك المشاجرة وإعلاء الصوت بالغناء أو الخصام، كما يمنع فيه رعاية الحيوانات (2).
من المألوف أن يرسل ابن السنوسي عدداً من (الأخوان) بينهم من يشتغل بالبناء والعمارة والتجارة وكل المهارات التي تحتاج إليها القبيلة في تشييد الزاوية (3)، ومن الطبيعي أن يستغرق البناء وقتاً يطول أكثر من العام ومن ثم يهتم الشيخ ورجال القبيلة ببناء المسجد أولاً ثم دار لاقامة الشيخ وأسرته، ويتبع ذلك استكمال بقية البناء لتشمل الزاوية في النهاية بيوتاً لوكيل الزاوية ومعلم الاطفال ومساكن للضيوف والخدم ومخزناً لحفظ المؤن واسطبل وبستان ومتجر على الأقل وحجرة خاصة بالفقراء الذين لا عائل ولا مأوى لهم، وفرن لسد حاجة السكان بالخبز (4)، وتقوم حولها مبانٍ أخرى يقوم بإنشائها أغنياء الأهالي ليأووا إليها في موسم الصيف، ويكون لها متسع من الأراضي الزراعية والآبار الجوفية والصهاريج لحفظ الماء (5).
_________
(1) انظر: السنوسي الكبير، ص31.
(2) انظر: السنوسي الكبير، ص31.
(3) انظر: المجتمع الليبي، ص314.
(4) انظر: السنوسي الكبير، ص24.
(5) المصدر السابق نفسه، ص25.(1/99)
ثانياً: مواقع الزوايا:
تميزت مواقع الزوايا، بصفات سياسية وتجارية، وعسكرية؛ فمن الناحية السياسية نجد الزوايا تنتشر في الدواخل أكثر من انتشارها في السواحل، وذلك راجع الى حرص ابن السنوسي عن الابتعاد عن نفوذ السلطة الحكومية، ولذلك فضل ابن السنوسي أن يتوغل بزواياه في الصحراء، وحرص على أن يوضع غرضه الدعوي من بناء الزوايا لسلطات الحكم العثماني في ليبيا تفادياً للصدام بها، فكتب الى مصطفى باشا حاكم فزان عند بناء زاوية هناك: (أن الزاوية في الحقيقة إنما هي بيت من بيوت الله ومسجد من مساجده، والزاوية اذا حلت بمحل نزلت فيه الرحمة، وتعمر بها البلاد ويحصل بها النفع لأهل الحاضرة والبادية لأنها ما أسست إلا لقراءة القرآن، ولنشر شريعة أفضل ولد عدنان) (1). وأوضح نفس الغرض الديني للزاوية للمشير محمد أمين باشا والي طرابلس الغرب العثماني فقال: (وأما نحن فقد ألفنا ما اعتدناه ورضيت به نفوسنا فنريد بذلك أن تكون تلك العمارة مستمرة ونفوس سكانها مستقرة، ليحصل المقصود منها ويدوم من تعلم العلم وتعلميه واقراء القرآن وتفهيمه، واقامة شعائر الدين للوافدين عليها والمقمين بها) (2).
والى جانب الأهمية السياسية لمواقع الزوايا، فقد كانت لهذه المواقع أهمية تجارية واقتصادية بصفة عامة، فقد أقيمت معظم الزوايا في طريق تجارة القوافل، وكان هناك ثلاثة طرق رئيسية في الأراضي الليبية الطريق الأول للقوافل يتجه جنوباً من الساحل الليبي عبر واحة فزان الى بحيرة تشاد، والطريق الثاني ينعطف جنوباً غرباً عبر غدامس وغات الى تمبكتو، والطريق الثالث يسير جنوباً شرقاً عبر واحة الجفرة ثم سواكن وزيلا الى واداي ودارفور الغني بخصبه وثروته، والمتتبع لمواقع هذه الزوايا في الأراضي الليبية مثلاً يلاحظ ارتباطها بطرق قوافل التجارة مما جعل ابن السنوسي يستخدم زواياه والقبائل التي توجد الزوايا في أراضيها لاستغلال التجارة وتنشيطها،
_________
(1) انظر: السنوسي الكبير، ص24.
(2) المصدر السابق نفسه، ص25.(1/100)
مما كان له أثر كبير في تحريك عجلة البلاد الاقتصادية، بسبب دور الزوايا في تشجيع تجارة القوافل التي كانت تعتبر حتى بداية القرن العشرين مورداً هاماً في حياة البلاد الاقتصادية (1)،زد على ذلك الاهتمام بالزراعة الذي حث عليه ابن السنوسي أهل القبيلة أو القبائل الواقعة في أراضيها الزاوية أو الزوايا (2).
ولاتقل الأهمية العسكرية لمواقع الزوايا عن الأهميتين السياسية والاقتصادية فقد وجدنا معظم الزوايا تقام على مناطق مرتفعة حصينة حتى يمكن للإخوان السنوسية الدفاع عنها ضد المغيرين من الداخل أو الأعداء من الخارج ومن ثم بنيت الكثير من الزوايا على أنقاض الأطلال الاغريقية والرومانية فيما مضى والعثمانيين فيما بعد. من الضروري بناء محطات وقرى لتثبيت سيادتهم بصد الهجمات التي تقوم بها القبائل المتوغلة في الصحراء، هذا إلى جانب أن ابن السنوسي اتبع في إنشاء الزوايا نظاماً خاصاً يدل على الأهمية العسكرية للمواقع التي اختارها للزوايا، فبدأ من مواقع على شاطئ البحر المتوسط وبنى بهذه المواقع الحصينة زوايا تبعد كل زاوية عن التي تجاورها مسافة ست ساعات، ثم أنشأ خلفها زوايا مقابلة لها تبعد كل منها عن الأخرى المسافة نفسها، حتى إذا هوجمت الزوايا الأمامية التي بالشاطئ استطاع الأخوان وأهل الزواية أن ينتقلوا بسهولة إلى الزوايا الخلفية (3)، وبمعنى آخر استطاع ابن السنوسي أن يقيم من الزوايا خطوط دفاع متتالية تساند الخط الثاني الخط الأول، ويساند الخط الثالث الخط الثاني، وهكذا، وكل هذا تم بدون أن يثير ابن السنوسي ثائرة أو شكوك الحكومة العثمانية (4).
يقول بريتشارد: (إن من درس توزيع الزوايا السنوسية في برقة يلاحظ أنها أقيمت وفق خطة سياسية اقتصادية، فقد بنى عدد كبير منها على منشآت يونانية ورومانية، وأسست على طرق القوافل الهامة وفي مواقع دفاعية قوية) (5).
_________
(1) انظر: دراسات في التاريخ اللوبي، مصطفى بعيو، ص60.
(2) انظر: في تاريخ العرب الحديث، ص258.
(3) انظر: السنوسية دين ودولة، ص22.
(4) انظر: في تاريخ العرب الحديث، ص258،259.
(5) انظر: عشر سنوات في بلاط طرابلس، ص78.(1/101)
وقال شكيب أرسلان: (وأغلب هذه الزوايا مختار لها أجمل البقع وأخصب الأرضين وفيها الآبار التي لاتنزح من كثرة مائها، وفي الجبل الأخضر هي بجانب عيون جارية وأنهار صافية، وقلّ أن مررت بزاوية ليس لها بستان أو بستانين، فيها من كل أنواع الفواكه) (1).
ثالثاً: وظائف الزاوية:
كانت الأعمال التي تقوم بها الزوايا كالآتي:
1 - التنفيذ العملي لأحكام ومبادئ الحكم الشرعي بين المواطنين، والتربية الدينية والخلقية للأتباع والإخوان واعداد الدعاة.
2 - الدعوة الى الالتزام بالفضائل وتجنب الرذائل والقدوة الحسنة التي وجدها الناس في شيوخ الزوايا.
3 - الإهتمام بدعوة الشعوب الوثنية وهذه وظيفة الزوايا المتغلغلة في الصحراء الكبرى والتي وصلت في قلب افريقيا الغربية والسودان ولقد اهتدت هذه القبائل الى الإسلام طائعة مختارة.
4 - تنقية الإسلام مما علق به على يد الغلاة من المتصوفة من بدع وتعاليم تبعده عن سماحة عقيدته، وأصوله المحكمة.
5 - قامت بدور تعليمي، فقد كانت أشبه بالمراكز الإسلامية المنتشرة في العالم، وكانت الزاوية تمثل مدرسة قرآنية لتحفيظ الأطفال القرآن الكريم ومبادئ الدين الإسلامي واللغة العربية، ومن يتميز من الأطفال يلتحق بعاصمة الزوايا سواء كانت البيضاء أو الجغبوب التي صارت مناخ العلوم ومنبع القرآن الكريم، والتي حوت مكتبتها على ثمانية آلاف مجلد من تفاسير وأحاديث وأصول وتوحيد وفقه وغير ذلك من العلوم المعقولة والعلوم الطبيعية (2).
_________
(1) انظر: حاضر العالم الاسلامي (1/ 298).
(2) انظر: في تاريخ العرب الحديث، ص262.(1/102)
وكانت المناهج التربوية في الزوايا تشتمل على جميع العلوم الإسلامية من تفسير، وحديث، وفقه، وأصول الفقه، والفرائض، والتصوف، والتوحيد والنحو والصرف والبلاغة والأدب وغيرها.
6 - كانت الزوايا تدرب تلاميذها على اتقان الحرف والصناعات، مثل صناعة البارود والأسلحة.
7 - قامت الزوايا بدور اجتماعي مهم، ألا وهو ماضمنته القبائل من أمن وطمأنينة ومصالحة بين القبائل، وتشجيعها على الاستقرار، إذ بحكم استقرار هذه الزوايا اضطرت كل قبيلة أن تحافظ على صلتها الدائمة بزاويتها الخاصة بها، وقد اقتضى منها هذا الموقف عدم البعد عنها حتى يسهل لها الاتصال بها كلما دعت الضرورة إلى ذلك، وبمرور الزمن تعودت القبيلة نوعاً من حياة الاستقرار والاقامة بعد أن كانت لاتعرف لذلك سبيلا.
8 - شجعت الزوايا الحركة التجارية والزراعية، وعمرت الطرق بالقوافل المحملة بالمواد والسلع، وكانت تقوم بتقديم مساعدات وتسهيلات لإراحة المسافرين التجار، مما شجع على التبادل التجاري بين منتجات الزاوية وبين ماتحمله القوافل من سلع لاتتوفر في أرض الزاوية.
9 - قامت الزوايا بدورها الجهادي في مواجهة الغزو الفرنسي المتقدم وسط افريقيا وفي الكفاح ضد الاحتلال الايطالي في ليبيا، ولولا الله ثم استعداد الزوايا الجهادي لما استطاع الليبيون أن يصمدوا ضد ايطاليا أكثر من عشرين سنة (1).
رابعاً: السلطة في الزاوية:
تتألف السلطة في الزاوية من شيخ الزاوية وهو المسؤول الأول ومن مجلس يضم وكيل الزاوية وشيوخ وأعيان القبيلة المرتبطة بها ووجهاء المهاجرين، ومهمة هذا المجلس هي النظر في مشاكل الأهالي وفض المنازعات، وشيخ الزاوية
يطلق عليه
_________
(1) انظر: في تاريخ العرب الحديث، ص263،264.(1/103)
اسم المقدم - وهو كما يقول أرسلان (القيم على الزاوية الذي يتولى أمور القبيلة ويفصل الخصومات ويبلغ الأوامر الصادرة من رئيس النظام، ويليه وكيل الدخل والخرج واليه النظر في زراعة الأراضي وجميع الأمور الاقتصادية، وبالاضافة إلى هذين هناك الشيخ الذي يقيم الصلاة في مسجد الزاوية ويعلم أطفال القبيلة ويعقد فيها عقود النكاح ويصلي على الجنائز) (1).
ولايخطب هذا الشيخ الجمعة لأنها من مهام شيخ الزاوية (مقدمها) ومن مهام شيخ الزاوية التي ذكرها بريتشارد (هو الذي يمثل رئيس النظام، ويقود رجال القبيلة في الجهاد، ويصل بين القبيلة ورجال الإدارة العثمانيين، ويقوم بضيافة المسافرين ويشرف على حصاد الزرع ويؤم صلاة الجمعة ويساعد في الوعظ والتعليم) (2).
خامساً: طريقة فض المنازعات في الزاوية:
يتخذ رئيس الزاوية مجلساً من الشيوخ والأعيان، فيدرسون القضية من كل وجوهها، فما كان يفض منها بطريقة شرعية يصدر رئيس الزاوية التي يتولى فيها منصب القضاء الحكم في القضية، وما كان يفض بطريقة التقاليد المتبعة والعادات فيحسم أيضاً بذلك، ومنها ما يفض بطريقة الصلح فيتفق المجلس على مايجب اجراؤه ويصبح الأمر نافذ المفعول. وكل مشكلة عويصة تحدث بين القبائل ويخشى بسببها وقوع الفتن، والفساد يتعاون رئيس الزاوية بشيوخ القبائل وأعيانها ورؤساء الزوايا أو الزاوية المتاخمة له ويضرب لذلك موعد يحدد زمانه ومكانه وهناك يحسم بدون عناء، وما صعب من ذلك وتشعبت المداولة فيه، والأخذ والرد بين رؤساء الزاوية والشيوخ يرفع إلى الجغبوب حيث يصدر القرار النهائي (3).
وقد عثر المؤرخ احمد الدجاني على وثيقة بتاريخ 9 رجب 1297هـ تتحدث عن خصام وقع بين أهالي هون وسوكنه استطاعت زاوية هون السنوسية أن تزيل
_________
(1) انظر: حاضر العالم الاسلامي (1/ 298).
(2) انظر: عشر سنوات في بلاط طرابلس، ص80.
(3) انظر: المجتمع الليبي، ص315.(1/104)
الأشكال، والوثيقة مقدمة من ثمانية عشر رجلاً من أعيان هون إلى متصرف فزان يخبرونه بانتهاء الخلاف (1).
سادساً: أراضي الزاوية:
كانت أراضي الزاوية موقوفة عليها فلا تباع ولاتشترى وتبقى مرتبطة بالزاوية. ويتم وقفها عادة بعد امتلاكها الذي يكون عن طرق مختلفة، منها الهبة والتبرع ومنها الشراء ومنها احياء الأراضي البور، وإصلاح الآبار الخربة، ومنها نزعُ المواقع المتنازع عليها بين الأفراد والجماعات برضا المتخاصمين وتحويلها للزاوية (2) وقد ذكر المؤرخ الدجاني احدى الرسائل التاريخية تبين كيف تتحول الأرض المحيطة بالزاوية إلى وقف. والوثيقة هي عبارة عن رسالة بعث بها أحد الإخوان إلى أحد علماء طرابلس يحدثه فيها عن بعض مسائل تتعلق بالحركة، ويرد فيها " وأيضاً نخبركم أنه في محل ببرقة يقال له أجدابية قصرين معلومات، والعرب الذين بجوار ذلك هم المغاربة وزوية راغبين في الاستاذ أن ينشئ لهم زاوية هناك، وكتبوا حجج في إعطاء تلك الأرض ومهدوا إلى كل المشايخ وأرسلوا منهم واحد مخصوص إلى حضرات جنابة رضي الله عنه (يعني ابن السنوسي) (3) والقصد لايتعدى على الأرض، وتاريخ الرسالة 15 محرم 1276م أي قبل وفاة ابن السنوسي بشهر، فالأرض في هذه المثل أعطيت للزاوية هبة وتبرعاً من مشايخ القبيلتين ثم صدر فيها مرسوم بتحويلها إلى وقف (4). وكانت مساحة أراضي الزاوية كبيرة نسبياً وتصل أحياناً إلى "2500" هكتار بعضها مزروع والبعض الآخر يترك للرعي. وقد ذكر ريتشارد أن مجموع أراضي الزاوية في برقة يبلغ نصف مليون هكتار (5).
ويقوم بزراعة الأرض سكان الزاوية تحت إشراف شيخها ويساعدهم في الزرع
_________
(1) انظر: الحركة السنوسية، ص239.
(2) المصدر السابق نفسه، ص240.
(3) انظر: دار المحفوظات بطرابلس نقلاً عن الحركة السنوسية، ص241.
(4) المصدر السابق نفسه، ص241.
(5) انظر: عشر سنوات في بلاط طرابلس، ص77.(1/105)
والحصاد رجال القبيلة، وقد ذكر شكيب أرسلان أن من عادة سكان الزوايا أن يتبرع كل فرد من أفراد القبيلة بحراثة يوم وحصاد يوم ودراسة يوم في أرض الزاوية، ولذلك يسهل العمران بدون نفقة كبيرة (1).
وكانت الزوايا مختلفة من حيث الكبر وعدد السكان، وذلك بحسب أهميتها، وكان يبلغ عدد السكان في أصغر الزوايا حوالي الخمسين بما في ذلك الأطفال والنساء، ويصل العدد في زوايا أخرى إلى المئة، أما الزوايا الكبيرة، كالجغبوب فيتجاوز الألف، ولم تكن "الزاوية" مقصورة في تنظيماتها على هذا العدد من سكانها وإنما على القبيلة التي تقيم في منطقتها، فسلطاتها تسيَّر شؤون أفراد القبيلة الذي يبلغ عددهم أضعاف عدد سكان الزاوية (2).
سابعاً: موارد الزاوية:
تتكون موارد الزاوية المالية من الزراعة وتربية المواشي والهبات الخيرية والزكاة الشرعية (3). وقد كانت الهبات الخيرية تقدّم من أهالي القبيلة. كما كانت الزاوية تجبي الزكاة من القبيلة رسمياً، بعد أن أعفت السلطات العثمانية الزوايا من الضرائب، وأعطت لها حق جباية الزكاة، وكانت "الزاوية" تنفق بعض هذه الموارد على احتياجاتها وفق نظام معروف فيها، أما مايتبقى فيبعث إلى المركز الرئيسي حيث يتصرف فيه رئيس النظام (4).
ثامناً: التعليمات الخاصة بنظام الزوايا:
كانت هناك تعليمات وأعراف وعادات تلتزم الزوايا بتطبيقها، ومن ذلك ماذكره الأشهب من أن شيخ الزاوية لايتزوج إلا بعد استشارة رئيس النظام وأخذ موافقته وتكون الزاوية ملزمة بنفقات هذا الزواج والإنفاق على الزوجة وأولادها. أما في
_________
(1) انظر: حاضر العالم الاسلامي (1/ 298).
(2) انظر: الحركة السنوسية، ص242.
(3) انظر: السنوسي الكبير، ص33.
(4) انظر: الحركة السنوسية، ص242.(1/106)
حالة ما إذا تزوج الشيخ بأخرى فنفقات ذلك على حسابه الخاص، كذلك حدد بدقة مايأخذه شيخ الزاوية سنوياً:
1 - يتألف كساء شيخ الزاوية سنوياً من عشر بدل وتتكون البدلة من (قميص وسروال وغطاء الرأس وحذاء) شريطة أن لايكون منها حرير أو جوخ، وكذلك حرامين صيفي ومثلهما شتوي وبرنس، ولشيخ الزاوية الحق في شراء سلاحه وفرسه الخاصين به من أجود الأنواع وله أيضاً مهر ونفقات زوجة واحدة، وإذا ما أراد أن يتزوج مثنى أو ثلاث أو رباع فيكون ذلك على نفقته الخاصة.
2 - لشيخ الزاوية الحق في تعيين معلم الصبيان والمنادي للصلاة (المؤذن) وعدد من الخدم والعمال حسب مقتضيات الضرورة وتكون نفقاتهم وأجورهم من موارد الزاوية.
3 - من واجبات شيخ الزاوية إحضار الطعام الكافئ لعشرة أشخاص يومياً في موعدي الغذاء والعشاء وذلك باسم الضيوف المحتمل مجيئهم للزاوية، فإن نقص هذا العدد فعلى شيخ الزاوية أن يكمل العدد من الفقراء ومجاوري الزاوية، وإذا تجاوز الضيوف هذا العدد فعليه إحضار مايكفي في وقته، ولايتجاوز الطعام نوعاً واحداً إلا في الحالات الخاصة.
4 - إذا تجاوز عدد الضيوف خمسة أشخاص ورأى الشيخ أن ينحر لهم فله ذلك.
5 - لشيخ الزاوية الحق في أن يختص بالعشر من محصولات الزاوية وذلك للإنفاق منها في حالاته الخاصة، وفيما يترتب عليه لأقاربه الذين لاحق لهم من موارد الزاوية.
6 - على الشيخ أن يحتفظ بما يكفي لنفقاتها سنوياً من مجموع الواردات وإرسال الباقي منها إلى المركز الرئيسي.
7 - لاحق لشيخ الزاوية أن يضيف أقاربه على حساب الزاوية، وتفادياً لضيق ذات يده فقد منح عشر الواردات، وسمح له بامتلاك المواشي وتعاطي الزراعة لحسابه(1/107)
الخاص كي يواجه بذلك نفقاته الخاصة التي لاحق له في أخذها من أموال الزاوية. وله الحق في أن ينحر لنفسه وزوجته الأولى وأولاده منها شاتين أسبوعياً.
8 - للعمال وخدم الزاوية الحق في أكل اللحم كل يوم جمعة من الأسبوع.
9 - لكل زاوية حدود تفصل بينها وبين الزاوية المتاخمة لها، ولايجوز لشيخ الزاوية أن يتعدى هذه الحدود.
10 - على شيوخ الزوايا أن يجتمعوا سنوياً (كلهم أو بعضهم) إذا مارأوا وجوب ذلك، وعليهم أن يتشاوروا في تحديد موعد الاجتماع ومكانه إن لم يكن أحد شيوخ الزوايا هو الداعي لعقد الاجتماع.
11 - إذا التجأ شخص او أشخاص الى احدى الزوايا لسبب مافعلى الزواية والحالة هذه حمايته والسعي لإزالة السبب الذي دفعه للألتجاء بموجب نصوص الشريعة أو مايتفق عليه من العرف والتقاليد المتبعة.
12 - تتكون موارد الزاوية من الزراعة وتنمية المواشي والهبات الخيرية الزكاة الشرعية (1).
تاسعاً: اسماء بعض الزوايا التي انشأها ابن السنوسي:
1 - زاوية أبي قبيس بمكة المكرمة وهي أولى الزوايا السنوسية على الاطلاق، تم تأسيسها عام 1242هـ وكان أول شيخ لها العلامة عبد الله التواتي، ومن بين من تولى مشيختها السادة: مصطفى الغماري، حامد غانم المكاوي، علي حامد، الشارف حامد، الصادق السنوسي حامد.
2 - زاوية المدينة المنورة، تم إنشاؤها عام 1266هـ وكان أول شيخ لها هو العلامة محمد الشفيع، ومن بين من تولى مشيختها، العلامة مصطفى الغماري، ومحمد عبد الله الزوي، عبد السلام فركاش.
3 - زاوية جدة (الحجاز).
_________
(1) انظر: السنوسي الكبير، ص32، 33.(1/108)
4 - زاوية الطائف (الحجاز).
5 - زاوية منى (الحجاز).
6 - زاوية بدر (الحجاز).
7 - زاوية البيضاء (برقة) أنشأت عام 1257هـ وهي أول مركز رئيسي في ليبيا وكان أول شيخ لها هو العلامة محمد بن حمد الفيلالي ومن بين من تولى مشيختها الأعلام؛ عمران بن بركة الفيتوري، حسين الغرياني، محمد بن ابراهيم الغماري، العلمي الغماري، محمد العلمي الغماري.
8 - زاوية مارة (برقة) وكان أول شيخ لها هو العلامة عمر الأشهب، وكان من بين من تولى مشيختها؛ أحمد علي أبو سيف، احمد ابن ادريس الأشهب، عبد الله أبويوسف.
9 - زاوية درنة (برقة) وكان أول شيخ لها هو العلامة عمر الأشهب، ومن بين من تولى مشيختها؛ مفتاح خوجة، السنوسي الغرياني عبد الرحمن العجال.
10 - زاوية الجوف (واحة الكفرة) كان ابن السنوسي قد عهد ببنائها الى المشايخ الحاج مصطفى ابوشايدة، الحاج محمد أبو حليقة، عقيلة الحليق وذلك عقب إجلاء قبائل التبو البربرية بضغط من قبائل زوية، العربية، وكانت الكفرة يومذاك مأوى للدعارة واللصوص ومعقل حصين لقطاع الطريق، وكان يتناوب غزوها ثلاثة قبائل كل منها يدعي ملكيتها وهي: قبائل الجهمة من مصر، وقبائل التبو من شمال السودان، وقبائل زوية من برقة وبذلك فقد كونت خطراً على السابلة وقوافل التجارة الى أن أنشئت بها زواية السنوسية؛ فأصبحت دار أمن وسلام ومشرق الهداية والعرفان، وفي وصفها قال العلامة محمد عبد الله السني من قصيدة عصماء امتدح بها محمد المهدي السنوسي:
طابت وطاب بها المأوى لذي شجن
دار السلامة للاسلام مهتجر
تأوي الوفود لها من كل ناحية
مأوى الحجيج اذا ماجاء يعتمر(1/109)
وكان أول شيخ لها هو عمر أبو حواء الفضيل، ومن بين من تولى مشيختها عبد الهادي الفضيل ثم محمد عمر الفضيل.
11 - زاوية قفنطة (برقة) وكان أول شيخ لها هو المختار ابن عمور وبقيت مشيختها في عقبه.
12 - زاوية شحات (برقة) أنشئت عام 1261هـ وكان أول شيخ لها هو العلامة مصطفى الدردفي، ومن بين من تولى مشيختها، محمد الدردفي، رافع بدر فركاش، مصطفى محمد الدردفي.
13 - زاوية العرقوب (برقة) وكان أول شيخ لها هو محمد الجبالي.
14 - زاوية مسوس (برقة) وكان أول من تولاها بالوكالة الشيخ فهيد العاقوري، وكان أول شيخ لها هو أحمد علي أبوسيف وفي سنة 1271هـ تولى مشيختها العلامة عمر الأشهب الى سنة 1297هـ حيث توفاه الله فتولى مشيختها ابنه السيد السنوسي الأشهب وبعد وفاته سنة 1332هـ تولى مشيختها ابنه محمد يحيى، وفي سنة 1367هـ تولى مشيختها محمد عثمان ابو عريقيب.
15 - زاوية الطيلمون (برقة) كان أول شيخ لها هو مصطفى المحجوب ثم العلامة علي المحجوب، فالسيد أحمد محمد المحجوب.
16 - زاوية القصور (برقة) كان أول شيخ لها هو العلامة محمد المبخوت التواتي، ثم محمد مقرب حدوث، فالشهيد الكبير عمر المختار.
17 - زاوية المرج (برقة كان أول شيخ لها هو أحمد بن سعد، فالسيد علي العابدي، فالعلامة محمد السكوري، فالعلامة محمد ابن عبد الله التواتي، فعمران السكوري، فأبنه أحمد.
18 - زاوية بنغازي (برقة) وكان أول من تولى مشيختها هوالعلامة عبد الله التواتي، فالعلامة عبد الرحيم بن أحمد المحجوب، وكان من تولى مشيختها السادة: محمد ابو القاسم العيساوي، فالسيد صالح العوامي، فالعلامة احمد ابو القاسم العيساوي.(1/110)
19 - زاوية مرزق (فزان) كان أول شيخ لها هو العلامة أحمد ابو القاسم التواتي.
20 - زاوية واو (فزان) وكان أول شيخ لها هو العلامة أحمد ابو القاسم التواتي، ومن بين من تولى مشيختها بالوكالة العلامة، محمد بن الشفيع ثم أسندت مشيختها الى محمد علي بن عمر الأشهب، فأبنه نجم الدين.
21 - زاوية زويلة (فزان) كانت تحت اشراف العلامة احمد ابوالقاسم التواتي.
22 - زاوية هون (واحة الجفرة) كان أول من تولى مشيختها احمد بن علي بن عبيد.
23 - زاوية مزدة (طرابلس) كان أول شيخ لها هو العلامة عبد الله السني، وقد بقيت مشيختها في عقبه.
24 - زاوية طبقة (طرابلس) وكان أول شيخ لها هو العلامة محمد الازهري وبقيت مشيختها في عقبه.
25 - زاوية العزيات (برقة) أنشئت سنة 1270هـ وكان من بين من تولى مشيختها عمر جالو.
26 - زاوية المخيلي (برقة) وكان أول شيخ لها هو العلامة الحسين الحلافي وتعاقب ورثته على مشيختها.
27 - زاوية تازربو (واحات الكفرة) وكان من بين من تولى مشيختها العلامة محمد المدني.
28 - زاوية ربيانة (واحات الكفرة) وكان أول شيخ لها هو حسين بازامه وبقيت مشيختها في عقبه.
29 - زاوية دريانة (برقة) وكان أول شيخ لها هو العلامة ابراهيم الغماري فابنه السيد الحسن، فالسيد محمد الحسن الغماري.
30 - زاوية سيوه (مصر) كان اول شيخ لها هو العلامة احمد ابوالقاسم التواتي.(1/111)
31 - زاوية الزيتون (سيوه) تابعة لمشيخة احمدابوالقاسم التواتي.
32 - سوكنة (واحات الحضرة).
33 - زاوية الرجبان (طرابلس) وكان أول شيخ لها هو العلامة ابو القاسم العيساوي وبقيت مشيختها في عقبه.
34 - زاوية الواحات البحرية (مصر) وكان أول شيخ لها هوالعلامة محمد السكوري.
35 - زاوية الداخلة (مصر) وكان أول شيخ لها هو العلامة حسين الموهوب الدرسي.
36 - زاوية حوش عيسى (مصر).
37 - زاوية الفيوم (مصر).
38 - تونين غدامس (طرابلس) وكان أول شيخ لها هو الشريف الغدامسي.
39 - زاوية طلميثة (برقة) وكان من بين من تولى مشيختها محمد الكليلي.
40 - زاوية توكره (برقة) وكان من بين من تولى مشيختها، عبد الله الجيلاني، عبد الله عمر الفضيل، يونس الموهوب.
41 - زاوية أم ركبة (برقة) وكان من بين من تولى مشيختها، علي ابن عبد الله.
42 - زاوية الفايدية (برقة) وكان أول شيخ لها هو العلامة اسماعيل الفزاني وبقيت مشيختها في عقبه.
43 - زاوية ترت (برقة) وكان أول شيخ لها هو عبد القادر الغزالي وبقيت مشيختها في عقبه.
44 - زاوية أم الرخم (مصر).
45 - زاوية النجيلة (مصر).
46 - زاوية الحقنة (مصر)(1/112)
47 - زاوية دفنه (برقة) وكان أول شيخ لها هو العلامة حسين الغرياني وبقيت مشيختها في عقبه.
48 - زاوية ام الرزم (برقة) كان أول شيخ لها هوا لمرتضى فركاش فأبنه المرتضى الثاني، فالأمين فركاش، فمحمد الأمين فركاش.
49 - زاوية مصراته (طرابلس) وكان أول شيخ لها خليفة شنيشح.
50 - زاوية زليتن (طرابلس).
51 - زاوية زلة (طرابلس).
52 - زاوية الجريد (تونس) وكان أول شيخ لها هو العلامة محمد ابن الصادق (1).
هذه بعض المراكز الاصلاحية التي تمكنت من ذكرها في زمن ابن السنوسي ولا ازعم أني استطعت حصرها كلها، وهذا يدلنا على انتشار الحركة وتوسعها واقبال الناس عليها، وقوة نظامها، وحسن إدراتها.
إن القدرة التنظيمية عند ابن السنوسي تظهر للباحث في ركيزتها الأولى ألا وهي نظام الزوايا، حيث طور نظام الزوايا المتعارف عليه في الشمال الأفريقي.
إن ديننا الاسلامي حثنا على النظام في كل شيء، فلابد إذاً من تعويد النفس وضبطها على النظام، فالمسلم لايتربى تربية منظمة، إلا إذا كان في جماعة منظمة ذات ارتباط ونظام ودقة في كل شيء وفي كل أمر، كما أن هذه الجماعة لها هدف جماعي، يتحقق بتعاون الفرد وأخوانه في بوتقة الطاعة والنظام.
ويلاحظ الباحث أن جل الزوايا ترتكز في الصحارى، وهذا يرجع الى اهتمام ابن السنوسي بالبوادي، لأنه اراد أن يعمل بحرية بعيداً عن متناول يد السلطة، فأوغل في الأماكن، ولأنه رأى في أهل البادية تربة خصبة يزرع فيها أفكاره
_________
(1) انظر: السنوسي الكبير، ص33 الى 38.(1/113)
الاصلاحية ووجد فيهم نفوساً متهيئة لحمل الدعوة، كما كانوا أكثر استجابة واندفاعاً من غيرهم لحمل تعاليم الحركة، لذلك وقع اختيار ابن السنوسي على برقة كمركز لنشاطه حيث كانت تقطنها عدة قبائل بدوية تحمست للدعوة الإسلامية وكانت مؤسسات الحركة تناسب البادية واحتياجات أهلها، فأوجد الزاوية السنوسية ونظمها لتكفي حاجات المحيطين بها التعليمية والقضائية، والاقتصادية، والسياسية، والتربوية، ولذلك نجحت الحركة في البوادي، ولم تنتشر الدعوة في المدن، فأهل المدن لم يكونوا بحاجة إلى مؤسسات الحركة، فعندهم المؤسسات الحكومية التي تؤدي لهم الخدمات التعليمية والقضائية والاقتصادية، والسياسية، ولذلك نلاحظ أن الزوايا التي أسست في المدن لم تكن تقوم بوظائفها، كما تقوم بها زوايا البادية، كما أنه كان دورها كحلقة وصل بين الحركة في البادية والحضر، كزوايا بنغازي، ودرنة، وطرابلس (1).
إن الاهتمام بدعوة القبائل مهم جداً، وحصر الدعوة في المدن وطبقات معينة من المجتمع يتنافى مع أصول دعوة الإسلام الخالدة ولذلك لابد بالإهتمام بالبدو والأرياف وكل طبقات المجتمع لتوصيلها دعوة الله تعالى.
( ........ كثيراً ماحصرت الدعوة الإسلامية الحديثة في المدن حتى إن بعض العاملين في الحقل الإسلامي لايعرفون شيئاً عن قرى مدينتهم ولا عن ريفها ولا عن القبائل البدوية الموجودة حولها إن كانت وهذا إخلال بواجب شرعي .. ) (2).
(إن التخطيط للعمل الإسلامي للريف والقبائل البدوية مهماً جداً وأعظم شيء نخدم به في هذا المجال هو العثور على ناس من أهل القرى ومن البدو ويدرسون الدراسة الشرعية الإسلامية ليرجعوا إلى أهليهم دعاة، وإنه لأجر كبير أن يتولى بعض أغنياء المسلمين الإنفاق على أمثال هؤلاء، فهذا النوع من التخطيط يحقق (3)
_________
(1) انظر: الحركة السنوسية، ص264.
(2) انظر: جند الله تخطيطاً، ص135.
(3) المصدر السابق نفسه، ص135.(1/114)
قوله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم} (التوبة، آية: 122).
ومن التخطيط الذي ينبغي أن يسعى إليه أن توجد العلاقات وصدقات بين أهل المدينة وأهل الريف بحيث تكون زيارات متبادلة ينزل فيها عند أخيه الحضري وينزل الحضري فيها عند أخيه الريفي والأصل في هذا الحديث الشريف " زاهر باديتنا ونحن حاضرته " (1).
إن زهراً الأشجعي صحابي جليل كان رسول صلى الله - صلى الله عليه وسلم - يحبه ويمازحه وهو من أهل البادية، وعندما يأتي للمدينة على ساكنها أفضل الصلاة والتسليم ينزل عنده.
لقد تحدث الدعاة عن ضرورة الإهتمام بالأرياف والقبائل والمقصود من الحديث أن أهل البادية أصحاب فطرة سليمة، ومحبة للدين عظيمة ويحتاجون للإرشاد والتوجيه، والتعليم، والتربية، ثم ينتظر منهم بعد ذلك خير عظيم في مجالات عديدة، وهذا ماحدث مع ابن السنوسي عندما اهتم بالقبائل والبوادي.
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص135.(1/115)
المبحث الثاني
المنهج التربوي
انتهج ابن السنوسي منهجاً تربوياً استمده من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومن خبرته بالطرق الصوفية التي درس جلها، وانتقد اخطائها، وعمل على طريقة خاصة يسلكها اتباعه وفي كتابه السلسبيل نلاحظ أنه كانت لديه ملاحظات على عدد من الطرق، وحدد معالم الطريقة التي تتقيد بالكتاب والسنة، إن ابن السنوسي كان يؤمن بالصوفية الموافقة للكتاب والسنة والصوفي الحقيقي في رأيه من يتقيد بالكتاب والسنة، وقد قال في ذلك " فاعلم أن سبيل القوم اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجليل والحقير وأعمالهم موزونة بميزان الشريعة " (1) وقد فصل رحمه الله تعالى في تدريج المريد في مراتب السلوك قال بعون الله وتوفيقه.
أولاً: (يتعين على المريد أن يصحح عقيدته بميزان اعتدال أهل السنة والجماعة كثر الله سوادهم وأدام امدادهم) (2).
ولقد بينت مجملها عندما تحدثت عن رسالة أبي زيد القيرواني كجزء من المنهج الذي كان يتعلمه أتباع الحركة السنوسية.
إن منهج أهل السنة والجماعة يبين المفهوم الصحيح لتوحيد الله عزوجل لأنه اعتمد على كتاب الله عزوجل وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وقد تتبع علماء أهل السنة والجماعة نصوص الكتاب والسنة وخرجوا بالنتيجة التالية ألا وهي أن توحيد الله سبحانه وتعالى يعني إفراد الله سبحانه وتعالى في توحيد ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وقد قسموا التوحيد إلى ثلاثة أقسام وهي:
_________
(1) انظر: الحركة السنوسية.
(2) انظر: السلسبيل المعين في الطرائق الأربعين، ص8.(1/116)
1 - توحيد الربوبية: ومعناه إفراد الله بالخلق والرزق والملك والتدبير والتصريف ولايشاركه فيها أحد من خلقه وهذا مركوز في الفطرة لايكاد ينازع فيه أحد حتى المشركين الذين بعث فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقرون بذلك ولاينكرون ولايجعلون أحداً من آلهتهم شريكاً لله في ربوبيته.
قال تعالى: {قل من يرزقكم من السماء والأرض أمّن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحيَّ من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون} (يونس: 31).
وقال تعالى: {قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون، سيقولون لله قل أفلا تذكرون، قل من رب السموات السبع وربُّ العرش العظيم، سيقولون لله قل أفلا تتقون، قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يُجارُ عليه إن كنتم تعلمون، سيقولون لله قل فأنى تسحرون} (المؤمنون: 84 - 89).
ولكن لما وجد في الناس من ينازع في توحيد الله بالربوبية ويجعل لغير الله عزوجل شيئاً من الشركة معه في الخلق والرزق أو التدبير لم يهمل القرآن الكريم الاحتياج له بل قرره أبدع التقرير (1) في قوله تعالى: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عمّا يصفون} (المؤمنون، آية: 91).
2 - توحيد الألوهية:
هو إفراد الخالق جل وعلا بالعبادة وإخلاص الدين له وحده (2).
قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} (النحل:36).
_________
(1) انظر: مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية، ادريس محمد (1/ 195).
(2) المصدر السابق نفسه (1/ 199).(1/117)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) (1).
ولهذا كان الصحيح أن أول واجب على المكلف شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله (2).
3 - توحيد الأسماء والصفات:
هو الإقرار بأن الله بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه الحي القيوم الذي لاتأخذه سنة ولا نوم له المشيئة النافذة والحكمة البالغة وأنه سميع بصير رؤوف رحيم على العرش استوى وعلى الملك احتوى وأنه الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون إلى غير ذلك من الأسماء الحسنى والصفات العلى (3) والقاعدة في هذا الباب عند أهل السنة أن يصفوا الله بما (وصف الله من نفسه وسماه على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سميناه كما سماه ولم نتكلف منه صفة ماسواه لا هذا ولا هذا لانجحد ماوصف ولا نتكلف معرفة مالم يصف) (4).
أما طريق الراسخين في العلم في هذا الباب: " والراسخون في العلم الواقفون حيث انتهى علمهم الواصفون لربهم بما وصف من نفسه التاركون لما ترك من ذكرها لاينكرون صفة ماسمى منها جحداً ولايتكلفون وصفه بما لم يسمع تعمقاً لأن الحق ماترك وتسميته ماسمى (ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ماتولى ونصله جهنم وساءت مصيراً) (5).
ثانياً- (أن لايقدم المريد على فعل شيء حتى يعلم حكم الله فيه، فيتعلم مايحتاج إليه من المسائل الفقهية المتعلقة بظاهر البدن على مذهب من المذاهب الأربعة) (6).
_________
(1) انظر: صحيح مسلم مع النووي (1/ 212).
(2) انظر: مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية (1/ 201).
(3) انظر: مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية (1/ 204).
(4) مجموع الفتاوى لابن تيمية (5/ 44).
(5) المصدر السابق نفسه (5/ 46).
(6) انظر: السلسبيل المعين في الطرائق الأربعين، ص8.(1/118)
ولهذا كان اتباع الحركة السنوسية يتدارسون رسالة أبي زيد القيرواني في العقائد وفي الفقه المالكي، وأضاف ابن السنوسي بعض الكتب المهمة في هذا الباب، كصحيح البخاري، والموطأ وبلوغ المرام.
1 - صحيح البخاري:
إن الإمام البخاري - رضي الله عنه - واحد من أعظم علماء هذه الأمة، الذين رفع الله لهم ذكرهم، وأجرى ألسنة الخلق بالثناء عليهم والدعاء لهم.
سبق الجميع في العناية بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووقف عمره عليه، فأصبح أمير المؤمنين في الحديث، وترك للمسلمين من بعده أصحّ كتاب بعد القرآن الكريم، كان آية في الحفظ، وغاية في الشجاعة والسخاء والورع والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة (1).
- مكانة الجامع الصحيح بين كتب السنة الستة:
اتفق علماء هذه الأمة على أن جامع البخاري أجل وأعظم من جميع كتب السنة.
قال العلامة القسطلاني: " أما فضله: فهو أصح الكتب المؤلفة في هذا الشأن، والمتلقى بالقبول من العلماء في كل أوان. فقد فاق أمثاله في جميع الفنون والأقسام، وخص بمزايا من بين دواوين الإسلام، شهد له بالبراعة والتقدم الصناديد العظام، والأفاضل الكرام، ففوائده أكثر من أن تحصى وأعزز من أن تستقصى " (2).
وقال البخاري: " ماوضعت في الصحيح " حديثاً إلا اغتسلت وصليت ركعتين، وأرجو أن يبارك الله تعالى في هذه المصنفات (3).
وقال ابن تيمية: " ليس تحت أديم السماء كتاب أصح من البخاري ومسلم بعد القرآن " (4).
_________
(1) انظر: الامام البخاري، د. تقي الدين الندوي، صفحة الناشر.
(2) المصدر السابق نفسه، ص88.
(3) انظر: الامام البخاري، ص88.
(4) المصدر السابق نفسه، ص 89.(1/119)
إن كتاب الصحيح البخاري جمع بين الفقه والحديث وعلوم متعددة.
إن وضعه في المنهج التربوي عند ابن السنوسي يدل على حرصه على اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -.
2 - موطأ الإمام مالك:
إن حب ابن السنوسي للإمام مالك ابن أنس وكتابه الموطأ يظهر للباحث جلياً في المقدمة التي كتبها لطلابه، والتي تدلنا على قدرة ابن السنوسي في تعليم وتفهيم تلاميذه، فيقدم لهم المادة الغزيرة بأسلوب سلس بسيط مليئ بالعلوم التاريخية والفقهية، والحديثية، والتربوية.
ولقد تحدث عن مدح العلماء للموطأ فقال: فاعلم أن كتاب الموطأ للإمام دار الهجرة المجمع على جلالته من أجلّ المصنفات، وأنفس المؤلفات (1).
وعن محمد بن حرب المدني ( .. ثم إن مالكاً عزم على تصنيف الموطأ فصنفه، فعمل من كان بالمدينة يومئذ من العلماء الموطآت، فقيل لمالك: شغلت نفسك بعمل هذا الكتاب، وقد شركك فيه الناس، وعملوا أمثاله، فقال: ائتوني بما عملوا، فأتى بذلك فنظر فيه، ثم نبذه فقال: لتعلمن أن لايرتفع إلا ما أريد به وجه الله. قال فكأنما ألقيت تلك الكتب في الآبار، وما سمع لشيء منها بَعْدُ ذكرٌ يذكر .. ) (2).
وذكر سبب وضعه فقال: فقد روى أبو مصعب أن أبا جعفر المنصور قال لمالك: ضع للناس كتاباً أحملهم عليه، فكلمه مالك في ذلك، فقال: ضعه فما أجد اليوم أعلم منك، فوضع الموطأ فما فرغ منه حتى مات أبو جعفر.
وفي رواية أن المنصور قال له: ضع هذا العلم ودوّن فيه كتاباً، وتجنب فيه شدائد ابن عمر، ورخص ابن عباس، وشواذ ابن مسعود وأقصد أواسط الأمور وما أجمع عليه الصحابة والأئمة (3) وقد ذكر ابن السنوسي مارأى في الموطأ من البشائر فقال: عن مصعب بن عبد الله الزبيري قال: سمعت أبي يقول: كنت جالساً مع مالك بن
_________
(1) انظر: مقدمة الأمام مالك لابن السنوسي، ص13.
(2) انظر: مقدمة الامام مالك لابن السنوسي، ص16.
(3) المصدر السابق نفسه، ص17.(1/120)
أنس في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ أتاه رجل، فقال: أيكم مالك؟ فقالوا: هذا، فسلم عليه واعتنقه وضمه إلى صدره، وقال: والله لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البارحة جالساً في هذا الوضع، فقال: ائتوني بمالك فأتى بك ترتعد فرائصك، فقال: ليس بك بأس يا أبا عبد الله، وكناك، وقال: اجلس، فجلست، قال: افتح حجرك، ففتحه فملأه مسكاً منثوراً وقال ضمه إليك وبثه في أمتي، قال: فبكى مالك وقال: الرؤيا تسر ولاتغر، وإن صدقت رؤياك فهو العلم الذي أودعني الله تعالى (1).
إن في الروايات السابقة معاني تربوية عميقة كان اتباع الحركة السنوسية يتربون عليها منها:
1 - اخلاص الأعمال لوجه الله، وأن دوامها وقبولها من شروطه هذا الركن الأصيل، وأن العلماء المخلصين، يتكفل الله بحفظ علمهم ونشره بين الناس.
2 - إن منهج الإعتدال، والحكمة، والاستقامة المتمثل في الوسطية التي سار عليها الإمام مالك، كانت منهجية أصيلة في حياة ابن السنوسي وإخوانه.
3 - إن ابن السنوسي كان يرأى أن الرؤى الطيبة لعباده الصالحين تسر ولاتغر، وأحب أن يغرس هذا الفهم في أذهان تلاميذه، ولذلك ساق لهم رؤية ذلك الرجل للإمام مالك.
وقد أفرد ابن السنوسي في مقدمته للموطأ باباً في التعريف بمؤلف الموطأ الإمام مالك وثناء الناس عليه، ونقل قول النووي: (قد اجتمعت طوائف العلماء على إمامة مالك وجلالته، وعظم سيادته وتبجيله وتوقيره، والإذعان له في الحفظ والثبات، وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد جمع بين شرفي الحديث والفقه، فهو إمام الأئمة وشيخهم، قد روى عنه سائر الأئمة خصوصاً الأربعة أما أبو حنيفة فبلا واسطة، فقد حكى غير واحد أنه لقى مالكاً وأخذ عنه ... وأما الشافعي فأمره مشهور معه، حتى قال ابن الأثير: كفى مالكاً شرفاً أن الشافعي تلميذه، وكفى الشافعي شرفاً أن مالكاً شيخه.
_________
(1) انظر: مقدمة الامام مالك، ص20.(1/121)
وأما الإمام أحمد فقد أخذ عن الشافعي، فهو شيخه بواسطة، ومناقب هذا الإمام وفضائله رضي الله عنه تخرج عن أن تحصى، ولايمكن فيها الحصر ولا الاستقصاء (1).
وذكر ابن السنوسي المناقب التي اجتمعت لمالك ولم تجتمع لغيره وأسند هذا القول للذهبي فقال:
1 - طول العمر وعلو الرواية.
2 - الذهن الثاقب والفهم وسعة العلم.
3 - اتفاق الأئمة على أنه حجة صحيح الرواية.
4 - تجمعهم على دينه وعدالته واتباعه السنن.
5 - تقدمه في الفقه والفتوى، وصحة قواعده (2).
وذكر ابن السنوسي كلاماً يكتب بماء الذهب اسنده إلى مالك، ليتربى عليه إخوانه وتلاميذه منه:
قول مالك: لايؤخذ العلم من أربعة، ويؤخذ ممن سواهم: لايؤخذ من سفيه، ولامن صاحب هوى يدعو إلى بدعته، ولا من كذاب يكذب في أحاديث الناس، وإن كان لايتهم في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا من شيخ له فضل وصلاح وعبادة، إذا كان لايعرف مايحمل وما يحدث به (3).
وقال مالك: قلّما كان رجل صادق، ولايكذب في حديثه، إلا مُتّع بعقله ولم تصبه مع الهرم آفة، ولاخرف (4).
ومن قوله: القول بالباطل بُعدٌ عن الحق، ولاخير في شيء وإن كثر من الدنيا يفسد دين المرء ومروءته (5).
_________
(1) انظر: مقدمة الامام مالك، ص28.
(2) المصدر السابق نفسه، ص29.
(3) انظر: مقدمة المؤطأ لابن السنوسي، ص30.
(4) انظر: مقدمة المؤطأ، ص30.
(5) المصدر السابق نفسه، ص30.(1/122)
لقد كان كتاب الموطأ حافلاً بالحديث، والآثار وقد جعله ابن السنوسي ضمن منهجه العلمي التربوي لأتباعه.
3 - بلوغ المرام:
وهو كتاب جامع للأحكام، ألفه العلامة أحمد بن علي بن محمد أبو الفضل الكناني الشافعي المعروف بابن حجر العسقلاني، وقد نال كتاب بلوغ المرام رضى العلماء، فهو كتاب مفيد مع صغر حجمه حوى ما يغني عن التطويل، وأقبل عليه العلماء قديماً وحديثاً فلا تجد حلقة عالم إلا وكتاب بلوغ المرام على رأس القائمة وأقبل عليه الطلاب بالحفظ والتداول واستغنوا به عن غيره من أمثاله، فصار له القبول وعليه إقبال حتى استفاد منه في كل عصر الجم الغفير، وقد جعله ابن السنوسي ضمن منهجه التربوي التعليمي، ويتعلم الطالب من هذا الكتاب:
- بين مؤلفه مرتبة الحديث من الصحة والحسن والضعيف بما يغني الطالب عن الرجوع إلى غيره.
- اقتصر من الحديث على الشاهد من الباب بما لايخل بالمعنى المقصود، فخلص من هذا الإيجاز والفائدة.
- انتقى أحاديث الكتاب من دواوينه المشهورة وأمهاته المعتبرة التي أشهرها مسند أحمد والصحيحين والسنن الأربع.
- يصدر الباب - غالباً - بما في الصحيحين أو أحدهما ثم يتبعها بما في السنن أو غيرها لتكون الأحاديث الصحيحة هي العمدة في الباب والمرجع في المسائل والباقي مكملات ومتممات.
- رتب المؤلف كتبه وأبوابه وأحاديثه على كتب الفقه ليسهل على الطالب مراجعته.
- جعل في آخره نخبة طيبة من أحاديث جامعة في الآداب ليستفيد منه الطالب في الأحكام والسلوك (1).
_________
(1) انظر: توضيح الأحكام من بلوغ المرام، عبد الله البسام، ص22،23.(1/123)
هذه بعض الكتب القيمة التي جعلها ابن السنوسي في منهجه العلمي التربوي.
ثالثاً: (ثم يتوجه إلى تزكية النفس وتهذيب الأخلاق وتصفية القلب وتنقية السر):
إن دعوة ابن السنوسي إلى تزكية النفس وتهذيب الأخلاق من صميم القرآن الكريم والهدي النبوي الشريف.
قال تعالى: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته مازكى منكم من أحدٍ أبداً ولكنّ الله يزكي من يشاء والله سميع عليم} (سورة النور: آية 21).
جاءت هذه الآية بعد قصة الإفك، وبعد الآيات التي نهت عن إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، وبعد النهي عن اتباع خطوات الشيطان، وجاءت قبل قوله تعالى: {ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم} (سورة النور: آية 22).
وذلك يؤكد مايلي:
1 - أن موانع التزكية من القوة بحيث تستحيل معها التزكية لولا فضل الله، وهذا يقتضي شيئين: بذل جهد في التزكية، وسؤال الله إياها والاعتماد عليه فيها، وفي الحديث: " اللهم آتِ نفسي تقواها وزكّها أنت خير من زكّاها أنت وليها ومولاها " (1).
2 - أن من تزكية النفس العفو والصفح عمن أساء إلينا لأن الأمر جاء بمناسبة الحديث عن مسطح بن أثاثة الذي كان ينفق عليه أبو بكر رضي الله عنه، والذي خاض في الإفك، فمنع عنه أبو بكر رفده، فجاءت الآية واعظة، وَفَاء أبو بكر إلى سيرته، وما أرقاه من مقام!! وما أعلى مايراد بكلمة التزكية!!.
3 - إن من تزكية النفس عدم اتباع خطوات الشيطان لأنه يأمر بالفحشاء والمنكر،
_________
(1) رواه مسلم.(1/124)
وإذن فالتزكية تعني - تجنب الفحشاء والمنكر، وتجنب خطوات الشيطان، وأولى خطواته الحسد والكبر، فقد حسد آدم وتكبر عن السجود له.
4 - عدم محبة إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، وعدم السير في طريق ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر.
5 - إمساك اللسان عن الأعراض، وترك المشاركة في كل مايؤذيها إلا إذا توفرت شروط شهادة وتعيَّنت (1).
هذه القضايا الخمس لها صلة بالتزكية، فالتزكية باب واسع وقد تحدث ابن السنوسي عن النفس البشرية وأنواعها وأمراضها وكيفية علاجها حديث العالم الخبير في تحقيقها فمن حديثه عن:
- النفس الأمارة: وهي صاحبة الجهل والبخل والحرص والكبر والغضب والشره والشهوة والحسد وسوء الخلق والخوض فيما لايعني من الكلام وغيره والاستهزاء والبغض والإيذاء باليد واللسان وغير ذلك من القبائح ... فكن أيها الأخ منها على حذر ولاتنتصر لها إن أحد آذاها بل كن معيناً له عليها وتخلص من هذه الآفات ..
بالذكر الكثير القوي وتقليل الطعام والمنام، وحساب النفس كل ساعة، وخوفها بالموت، وعذاب القبر ومابعده من الأهوال إلا إذا أوصل الخوف إلى درجة القنوط فيجب عليك حينئذ تذكر أسباب الرجاء وسعة رحمة الله تعالى وعليك بالتذلل، والخضوع، والتضرع، له تعالى، واطلب الخلاص بلطفه واحسانه من الأوصاف الذميمة والتحلي بالصفات الحميدة كالصدق والتواضع، والمحبة، والإخلاص، والخمول، ونحو ذلك لأنك إذا اشتغلت في خلاص نفسك من الآفات وتبدلت بالأوصاف الحميدة شاهدت بعض العجائب المكنونة والأسرار المخزونة في صدفة البشرية، وأقبل على من لاغنى لك عنه بمعاملات الاحسان قبل أن تساق إليه بسلاسل الامتحان وقد قال لك من
_________
(1) انظر: المستخلص في تزكية الأنفس، سعيد حوى، ص154.(1/125)
تقرب اليّ بشبر تقربت منه ذراعاً الحديث؛ فاترك التواني واعرض عما يشغلك عن مولاك واستغن بالقناعة بما في يدك ودع اللذات الفانية لأهلها ولا تسوف التوبة والاقبال على الله تعالى فإنك لاتدري مابقي من عمرك وقد نقل السنوسي الاجماع على أن التوبة واجبة على الفور، ويلزم من تأخيرها تضاعف الذنوب على من لم يتب وليس هذا التضاعف، كتضاعف الحسنات، بل اذا لم يتب صار عليه ذنب الفعل وذنب ترك التوبة وهاذان الذنبان تجب التوبة منهما أيضاً، واذا لم يتب منهما على الفور صاحب اربعة وعلى هذا القياس، واذا نظرت بعين الانصاف والشفقة على نفسك رأيت احتياجك الى التوبة أشد من احتياجك الى المأكل والمشرب، والمسكن لأنها قد حجبتك عن مطالعة الغيوب وحالت بينك وبين كل محبوب وعلامة خلاص النفس من الآفات المارة أن يكون الخلق كلهم عنده على السوية، لايحبهم محبة طبيعية تميله إليهم في منكر، ولا يكرههم كراهة تغير باطنه عليهم في معروف ويستوي عند جميع المأكل، وجميع الملابس، فمن رأى في نفسه شهوة لبعض دون بعض، وجب عليه المجاهدة، الى أن يستوي ذلك عنده وإلا كان حيواناً في صورة انسان بل الحيوان خير منه لانه ليس عليه تكليف ولا حساب ولا عقاب (1)
وماقاله ابن السنوسي آنفاً تفسيراً لقوله تعالى: {وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا مارحم ربي إن ربي غفور رحيم} (سورة يوسف، آية 53).
- النفس اللوامة: وقد تحدث ابن السنوسي عنها فقال: وهي التي لها رغبة في المجاهدة وموافقة الشرع ولها أعمال صالحة من قيام، وصيام، وصدقة، وغير ذلك من أفعال البر لكن يدخل عليها العجب والكبر وكذا الرياء الخفي؛ بأن يحب صاحبها أن يطلع الناس على ماهو عليه من الاعمال الصالحة، كالاخلاص وغيره ويحمده عليها مع أنه يخفيها عنهم ويعمل لله، ويكره هذه الخاصة لكن لايمكنه قلعها بالكلية والخلاص من ذلك الرياء يكون بالفناء عن شهود الإخلاص بشهود أن المحرك والمسكن هو الله
_________
(1) انظر: المسائل العشر لابن السنوسي، ص280،281.(1/126)
تعالى شهود ذوق، ويشهد أن المنة لله تعالى عليه حيث فتح له أبواب العبادات، ومكنه من الدخول الى حضرته وأهله للقبول في خدمته، والخلاص من الأولين، يكون بالمجاهدة، وهي ترك العادات، ومعظمها يكون بستة أشياء، تقليل الطعام، وتقليل المنام وتقليل الكلام، والاعتزال عن الأنام، والذكر المدام، والفكر التام، فمن فعلها بصدق نقلته الى الباقي والمطلوب من هذه الاشياء الاعتدال، ولذا لم يقولوا ترك الطعام بل لايأكل حتى يجوع وإذا أكل لم يشبع .... فعالج نفسك بالشريعة وخلصها من أمراضها وأعظمها الكبر والعجب اللذان هما أصل الغضب الذي ينشأ عنه الحقد الذي يتفرع عنه الحسد ولا يزول الكبر والعجب إلا إذا انقطع المدد عنهما وهو امتلاء البطن وللحسد اسباب أخر، كحب الرياسة، وخبث النفس وكثيراً ماتكون هذه الاسباب بين أهل الطريق المتصوفين فيتمنى زوال ما على أخيه من المشيخة أو الخلافة وماهو عليه من الاستقامة والتوجه الى الله تعالى إذا عرفت ذلك فعليك بمعرفة أربعة أشياء، والتأمل فيها. الأول: أنه تعالى لا يعجزه شيء.
الثاني: احاطة علمه بكل شيء، الثالث: أنه تعالى أرحم الراحمين، الرابع: أن جميع أفعاله خير؛ فإن تحقق الأول يزيد همتك بالتوجه إليه والطلب منه مع اليقين بالاجابة والطلب على هذا المنوال لايرد اصلاً، وتحققك بالثاني والأخير يحقق لك مقام التوكل والرضى والشوق والمحبة وغير ذلك وتحققك بالثالث يدفع عنك خوف الانس والجن (1)، وهذا شرح لقوله تعالى: {ولا أقسم بالنفس اللوامة} (سورة القيامة، آية 2).
وقال ابن السنوسي عن النفس المطمئنة:
-النفس المطمئنة: وهي التي لاتفارق الأمر التكليفي شبراً ولا تتلذ إلا بأخلاق المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ولا تطمئن إلا باتباع اقواله وتتلذ بصاحبها أعين الناظرين وأسماع السامعين وعلم معنى قوله تعالى: {كل من عليها فان .. }؛ فيجب عليه الاجتماع مع الخلق في بعض الاوقات ليفيض عليهم بما أنعم الله به عليه من علم الصدور، لاعلم السطور،
_________
(1) انظر: المسائل العشر، ص285.(1/127)
وليكن في بقية الاوقات مع الله تعالى ليرقى الى المقامات الباقية وليكثر من الذكر ولا يلتفت الى مايظهر من أنوار أو كمالات أو كرامات لأن حضرة القرب لايدخلها إلا العبيد الخلص، وكل ماسوى الله قاطع عن المقصود، فهو فتنة فلا تقف عنده وإن الى ربك المنتهى ومن وصل الى حضرة القرب صارت الكرامات طوع يده ومن تعرض لكرامة أولاً فقد طلب الشيء قبل أوانه، فيعاقب بحرمانه فيكون مشغلاً بما لايعني والانسان مدة حياته متعرض للمحن فينبغي التحرز من الآفات الى الممات واياك وحب الرياسة والشهرة والتعرض للمشيخة والارشاد (1) وتحدث ابن السنوسي عن النفس الكاملة فقال:
- النفس الكاملة: وهي التي لايفتر صاحبها عن العبادة إما بجميع البدن أو باللسان، أو بالقلب، أبو بعضو من الأعضاء وصاحبها كثير الاستغفار، كثير التواضع، سروره ورضاه في توجه الخلق الى الحق، وحزنه في ضد ذلك، وهو كثير الاوجاع قليل القوى قليل الحركة ليس في قلبه كراهة لمخلوق من المخلوقات مع أنه يأمر وينهي ولا تأخذه في الله لومة لائم ويظهر الكراهة لمستحقيها والمحبة لمستحقها، فيضع كل شيء في محله متى ما وجه همته الى كون من الاكوان أوجده الله تعالى على وفق مراده وذلك لان مراده في مراد الحق سبحانه وتعالى (2).
لقد كان ابن السنوسي مربياً من الطراز الأول وكان عليماً بأمراض النفوس، وخبيراً بعالجها، ولقد نجح في تربية أصحابه على الاخلاق الرفيعة، وحقق نجاحاً باهراً، ورسم لأتباعه طريقة تعتمد على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لقد تحدث ابن السنوسي عن اسباب التي تعين العبد على تصفية نفسه وتزكيتها فقال:
رابعاً: ومن اسباب حصولها طيب المطعم فإن من أكل حراماً، فَعَله في ظاهره أو
_________
(1) انظر: المسائل العشر، ص290.
(2) المصدر السابق نفسه، ص 291.(1/128)
باطنه لا محال، ومن أسبابه سماع أحاديث الترغيب والترهيب، وحكايات الشيوخ في مجاهداتهم وشريف معاملاتهم؛ فإنها جند من جنود الله، كما يشير الى ذلك قوله تعالى: {وكُلاً نقص عليك من أنباء الرسل مانُثبت به فؤادك} (سورة هود، آية)، وليشتغل المريد بالأعمال المسرعة به الى حضرة الفلاح والفوز بالكمال، كالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد قال بعضهم إنها لايدخلها الرياء، وبعضهم انها مقبولة مطلقاً وهي على هذا من الغنائم الباردة المبذولة لسالكي طريق المجاهدة في الله ... ) (1).
طيب الطعام والابتعاد عن الحرام:
إن ابن السنوسي يبين لاتباعه أن من اسباب تزكية النفوس، والتخلق بالاخلاق الرفيعة، وتصفية القلوب، أن يحرصوا على طيب الطعام، وأن يبتعدوا عن الحرام.
إن آيات القرآن الكريم، وأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، ناطقة بربط قبول سائر العبادات من دعاء وصلاة، وصيام، وزكاة، وحج، وصدقة، وغير ذلك من صالح الاعمال بتحري الحلال من الكسب:
- الدعاء:
ففي الدعاء، وهو مخ العبادة، يقول تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} (سورة البقرة، آية186).
وعباد الله الذين استجابوا له، هم من يفعلون الحلال ويتركون الحرام، فيكونون أهلاً للاجابة قال تعالى: {وقال ربكم ادعوني استجب لكم} (سورة غافر، آية 60).
وإجابة الدعاء منوطة بأكل الحلال، وترك الحرام، وتوقي الشبهات. أخرج مسلم بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يا أيها الناس إن الله طيب لايقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين. فقال: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعلمون عليم} (المؤمنون، آية 51).
_________
(1) انظر: السلسبيل المعين، ص9.(1/129)
وقال: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات مارزقناكم} (سورة البقرة، آية 172) ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يده الى السماء، يارب يارب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟) (1) ولاشك أن قبول الدعاء من الوسائل المهمة في تزكية نفس العبد، وتهذيب أخلاقه، وحياة قلبه.
- الصدقة:
والله تعالى طيب لايقبل إلا طيباً، والحرام سواء أكان مالاً أم متاعاً أم غير ذلك، غير طيب، لأنه خبيث، ومن مصدر خبيث غير مشروع، فهو بالتالي غير مقبول.
قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} (سورة البقرة، آية 267).
وكذلك الشأن في سائر العبادات، فكيف يقبل الله تعالى الصلاة ممن تغذى بالحرام، وكانت أنفاسه التي يناجي بها ربه، تمتد طاقتها من الحرام، وكل جسم غذي بالحرام فالنار أولى به (2).
إن من وسائل تزكية النفوس العبادات عندما يتقبلها الله، ويجعل لها آثارها في نفس العبد وقلبه، وعقله، وجسده.
2 - سماع أحاديث الترغيب والترهيب:
فإن لها أثر في تزكية النفوس، واحياء القلوب، فعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تعالى: (ياابن آدم مادعوتني ورجوتني غفرت لك على ماكان منك ولا أبالي. ياابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، ياابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة) (3).
_________
(1) انظر: مسلم (2/ 703) رقم 1015.
(2) انظر: طلب الرزق بين الحلال والحرام، احمد الطويل، ص147.
(3) انظر: الدارمي (2/ 322) حسنه الألباني رقم 127.(1/130)
وإما في الترهيب، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة ماسمعت مثلها قط فقال: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً فغطى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجوههم ولهم خنين) (1).
إن ابن السنوسي -رحمه الله- يرى أن لأحاديث الترغيب والترهيب أثراً في تزكية النفوس، كما يرى لسير وتراجم الصالحين أثراً في صفاء القلوب، وتطهير النفوس، بل يرى أن تلك السير جند من جنود الله يثبت الله بها من يشاء من عباده.
3 - المسارعة للخيرات:
يرى ابن السنوسي أن من وسائل التزكية المسارعة في الخيرات والاعمال الصالحة، كالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويراها من الغنائم الباردة لسالكي طريق المجاهدة في الله.
قال تعالى {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} (سورة الاحزاب، آية 56).
إن صلاة الله وملائكته على النبي - صلى الله عليه وسلم - معناها الثناء عليه، وإظهار فضله، وشرفه، وإرادة تكريمه وتقريبه، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة في فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنها؛ عن يعقوب بن زيد بن طلحة التميمي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أتاني آت من ربي فقال: مامن عبد يصلي عليك صلاة إلا صلى الله عليها بها عشراً) فقام إليه رجل فقال: يارسول الله أجعل نصف دعائي لك؟ قال: إن شئت.
قال: ألا أجعل ثلثي دعائي؟ قال: إن شئت.
قال: ألا أجعل دعائي كله. قال: (إذن يكفيك الله هم الدنيا وهم الآخرة) (2).
قال ابن السنوسي: إذا أكثر السالك من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنقذه الله بها
_________
(1) انظر: البخاري، كتاب الرقاق (11/ 319).
(2) انظر: مسلم، ابوداود (1516).(1/131)
من المهالك وأخذ بناصيته الىأحسن المسالك، ودعا ابن السنوسي تلاميذه الى دراسة سيرته - صلى الله عليه وسلم - وبيان أحواله، وحياته (1).
إن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - لها ثمرات كثيرة وفوائد عظيمة منها:
- امتثال أمر الله سبحانه وتعالى، وموافقته سبحانه في الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -، وموافقة ملائكته فيها.
- حصول عشر صلوات من الله عز وجل على المصلي بالصلاة مرة واحدة على النبي - صلى الله عليه وسلم -.
- أنها سبب لشفاعته - صلى الله عليه وسلم - إذا قرنها بسؤال الوسيلة أو أفرادها.
- إنها سبب لكفاية العبد ما أهمه.
- أنها ترمي بصاحبها على طريق الجنة.
- أنها سبب لإبقاء الله سبحانه الثناء الحسن والبركة للمصلي لأن المصلي طالب من الله أن يثني على رسوله ويكرمه ويشرفه ويبارك عليه وعلى آله، وهذا الدعاء مستجاب فلابد أن يحصل لمصلي نوع من ذلك والجزاء من جنس العمل.
- أنها سبب لدوام محبة العبد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وزيادتها وتضاعفها، وذلك عقد من عقود الإيمان الذي لايتم إلا به (2).
هذه بعض الأصول التي توضح منهج ابن السنوسي التربوي، وقد الزم أتباعه باوراد الطريقة، فهي عبارة عن تلاوة القرآن الكريم، ثم الاستغفار والتهليل والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - (3)، وقراءة بعض الأدعية التي تحمل في طياتها معاني التوسل والتضرع الى الله وحمده جل جلاله وتسبيحه (4).
_________
(1) السلسبيل المعين، ص8.
(2) انظر: البحر الرائق، احمد فريد، ص121.
(3) انظر: الحركة السنوسية، ص249.
(4) انظر: السنوسي الكبير، ص99.(1/132)
وكان أتباع الحركة السنوسية يحافظون على أورادهم، ولم تكن معهم موسيقى، ولا حركات راقصة، وكانوا بعيدين عن الأعمال البهلوانية، كأكل الزجاج، وطعن الصدور بالسيوف واللعب مع الأفاعي (1).
وكان ابن السنوسي يلقن طريقته للمريدين بقصد تعليمهم الشريعة الغراء ويلح عليهم بالتمسك بأحكامها، ويأخذ عليهم العهد بأن لايخالفوا في أعمالهم الشرع الحنيف (2).
خامساً: ابن السنوسي ونقده لأخطاء الصوفية:
لقد وقعت كثير من الطرق الصوفية في انحرافات كثيرة، وقد تعرض ابن السنوسي لبعض الطرق ووضح الاخطاء التي وقعت فيها؛ ففي حديثه عن الطريقة الصديقية يقول: (دخل الغلط في الأخلاق على جماعة من هذه الطائفة وذلك من قلة معرفتهم بالأحوال واتباعهم حظوظ النفس، ولكنهم لم يتأدبوا بمن يروضهم ويخرجهم من الرعونات ويجرعهم المرارات ويدلهم على المناهج الرضية في علاج عيوب النفس وطريق دوائها؛ فمثلهم كمثل من يدخل بيتاً مظلماً بلا سراج إلا من أراد الله هديته بجذب عنايته فالله هو الولي الحميد) (3).
وانتقد ابن السنوسي بعض دخلاء المتصوفة: ( ... ومنها ماكثر به تبجح كثير من بعض المتنسكين، من دخلاء المتصوفة، وغلاة المتورعين، من الأعجاب بأعمالهم، والتمدح بأحوالهم، وكونهم مخصوصين بينابيع الامداد، ومواهب الكرامة، لايبالون بمن عداهم ولو كانوا على محض الاستقامة ... ) (4).
وعمل على تصحيح مفاهيم الاسلام التي انحرفت بعض طرق الصوفية عنها، كالعبادة، والتوكل، والجهاد.
_________
(1) انظر: الحركة السنوسية، ص251.
(2) المصدر السابق نفسه، ص252.
(3) انظر: الحركة السنوسية، ص143.
(4) انظر: المسائل العشر، ص9.(1/133)
أ- العبادة:
إن من عوامل النهوض التي سار عليها ابن السنوسي تصحيح مفهوم العبادة في أذهان أتباعه ونجد ذلك في قوله لبعض تلاميذه وأخوانه لأي شيء نأمركم بقراءة النحو؟ لإصلاح ألسنتكم لكتاب الله وحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -) ثم قال: (بالكم تقولون الذي يقرأ النحو ما نوصله الى الله. بالكم تقولون الذي يخدم الحجر والطين مانوصله الى الله، بالكم تقولون الذي يرعى الابل مانوصله الى الله، وهكذا وعدّ أشياءً كثيرة) (1).
وقد اتضح مفهوم العبادة الشامل عند اتباع الحركة السنوسية، وكان طلاب الزوايا في يوم الخميس من كل اسبوع يخصصونه للشغل بالأيدي، فيتركون الدروس كلها ويشتغلون بأنواع المهن من بناء ونجارة، وحدادة، ونساجة، وغير ذلك، لا تجد فيهم إلا عاملاً بيده، وكان محمد المهدي السنوسي الزعيم الثاني للحركة يشوق الطلبة والمريدين الى القيام بالحرف والصناعات، ويقول لهم جملاً تطيب خواطرهم وتزيد رغبتهم في حرفهم حتى لايزدروا بها أو يظنوا طبقتهم هي أدنى من طبقة العلماء فكان يقول لهم: (يكفيكم من الدين حسن النية والقيام بالفرائض الشرعية، وليس غيركم بأفضل منكم). وأحياناً يدمج نفسه بين أهل الحرف ويقول لهم وهو يشتغل معهم: (يظن أهل الوريقات والسبيحات أنهم يسبقوننا عند الله، لا والله مايسبقوننا) (2).
إن مفهوم العبادة عند السنوسية وافق تعريف ابن تيمية عندما قال: (العبادة اسم جامع لكل مايحبه الله ويرضاه: من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة والصوم والحج، وصدق الحديث وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، الوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان الى الجار .... وأمثال ذلك من العبادة) (3).
_________
(1) انظر: الحركة السنوسية، ص157.
(2) انظر: الحركة السنوسية، ص193.
(3) انظر: الفتاوى (10/ 150).(1/134)
ب- التوكل:
كان ابن السنوسي يحب للمسلم أن يعيش من عمل يده وعرق جبينه ليغرس في نفسه حب التعفف قلما رواه عنه كبار الاخوان انه كان يقول: (الذهب في الأرض، فغوصوا لاستخراجه بالمحراث) وكان يقول: (الدرر في غرس الشجر أو تحت ورق الشجر) ويقول: (اليد العليا خير من اليد السفلى والاستقامة كنز لايبلى والعفة حسب دائم) (ومن مد يده متسولاً قصر لسانه) (1).
وهذه التوجيهات تدلنا على فهم ابن السنوسي لمفهوم التوكل، فدعا الى مباشرة الاسباب مع تفويض الأمر لله تعالى، وحارب التواكل الذي انتشر في كثير من الطرق الصوفية.
ج- الجهاد:
قامت كثير من الحركات الصوفية بصرف الناس عن القتال في سبيل الله وجهاد أعداء الأمة الاسلامية، وعمل ابن السنوسي على تربية أتباعه على الاستعداد للجهاد في سبيل الله، وكان كثيراً مايدعو للجهاد ويأمر به ضد كل معتد على ارض المسلمين، فقد قام بتنبيه وتحذير الليبيين من غزو الطليان لليبيا قال مرة للشيخ الكاسح أحد زعماء قبيلة العواقير (ماذا أعددت ياشيخ الكاسح للنابلتان إذا غزو بلادك ليأخذها؟) فقال له الشيخ الكاسح أعددت له جراباً من البارود وشيئاً من الرصاص فقال له ابن السنوسي اذا كنت وأنت شيخ القبيلة ولم يوجد عندك إلا هذا المقدار القليل فماذا يوجد عند أفراد القبيلة؟) وأخبره ابن السنوسي أن النابلتان آت للبلاد لا محالة وسيصيبكم منهم أذىً كبيراً وأن الله مع الصابرين ولا تركنوا الى الذين ظلموا فتمسكم النار)، وكان ابن السنوسي يُفَهِّم ذلك لكل من يجالسه من الأخوان ورؤساء الزوايا، وشيوخ القبائل والاعيان، ويأمروهم أن يحذروا من ذلك وأن يحتاطوا له، وأن يأمروا معلمي الصبيان بالقاء الدروس في هذا الشأن وكان يأمر رؤساء الزوايا باقتناء جميع أنواع السلاح ما استطاعوا الى ذلك سبيلا، ويحتفظوا به في مخازن خاصة (2)
_________
(1) انظر: برقة بين الأمس واليوم، ص187،188.
(2) انظر: برقة بين الأمس واليوم، ص179.(1/135)
وذات مرة قال لأحد شيوخ القبائل، أن النابولتان سيغزوا هذا البلد ويقف أهلها للدفاع عنها موقفاً مشرفاً، وسيتخذ النابولتان جميع الوسائل لاخضاعهم، ومن بين هذه الوسائل سيقدمون الأموال للأغراء فماذا أنتم فاعلون في هذه الحالة؟ فقال الشيخ: أننا سنأخذ المال وننثنى عليهم نقاتلهم، فكان جواب ابن السنوسي: من يقبل هديتهم لايقاتلهم، وقد صحّ ذلك كله فعلاً (1).
وكان يتصيد الفرص لبيان أهمية الاستعداد، وجمع الذخائر، والاحتفاظ بها لوقت الحاجة، فعندما وصل الى العزيات عام 1269هـ قادماً من الحجاز وأخذت وفود القبائل تتوافد على زيارته من جميع أنحاء برقة وطرابلس زرافات ووحدانا، وكان من تقاليد البدو في مثل هذه الحالة أنهم يطلقون الأعيرة النارية من بنادقهم دليلاً على فرحهم وابتهاجهم، وفي ليلة من الليالي كان يتصدر مجلساً من الأخوان وشيوخ الزوايا وزعماء العشائر وذلك بعد صلاة العشاء، فسمع طلقاً متواصلاً من البارود، وسأل عن السبب فقيل له أن (مزاراً) من قبائل العواقير قد وصل الآن؛ (وكلمة مزار تطلق عند البادية على الزائرين) فقال: لقد نبهنا أكثر من مرة للمحافظة على الرصاص والبارود، والعناية بإدخال الأسلحة كي لاتستعمل إلا عند الحاجة، وأن الوقت الذي ندخر له السلاح لآت، ونود من إخواننا وشيوخ العشائر أن يواصلوا أسداء النصح بذلك، فاجابه محمد بن الشفيع بقوله: أتنتظر غزواً خارجياً قريباً؟ فألتفت ابن السنوسي عنه الى الشمال - وكان يستقبل القبلة- وقال: وقد تقطب وجهه أكاد أقول لكم أنني أرى العدو رأي العين؛ ومن مد الله في عمره منكم سوف يقاتله وهو آت من هنا وأشار الى جهة البحر، فاصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون، ثم استشهد بالآية: {ياأيها الذين آمنوا إذا لقيم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره .... ) الآية.
وأصبح أتباع الحركة السنوسية يستعدون لأعدائهم، الذين أخبر شيخهم بأنهم قادمون.
_________
(1) انظر: السنوسي الكبير، ص144، نابلتان أي ايطاليا.(1/136)
المبحث الثالث
البعد السياسي عند ابن السنوسي
يظهر البعد السياسي عند ابن السنوسي في تعامله الحكيم مع الدولة العثمانية، حيث رأى في الدولة العثمانية دولة الخلافة، ضرورة لازمة لوحدة الأمة، والدفاع عن كيانها، وأنه لابد من معاضدتها والوقوف بجانبها، رغم ماكان يعتقده في الأصل من أن الخلافة تكون بيد قرشي، ومع هذا فإنه لم يشأ أن يثير موضوع الخلافة من هذه الناحية، لأنه يعلم يقيناً أن إثارة هذا الموضوع معناه فتح باب للنزاع لايعود إلا بضرر على السنوسية وعلى المسلمين أجمع، ويبدو أنه اعتبر من الأحداث التي عاصرها في صراع حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب مع الدولة العثمانية واقتنع بأن أخف الضررين في هذه المسألة الحية الواقعية في عدم معادات الدولة العثمانية ولذلك نجد أن السنوسي يعمل على توثيق علاقته بحكام الأقاليم الليبية في طرابلس، وفزان وبنغازي، وتولدت علاقة وثيقة بين الولاة العثمانيين وابن السنوسي مبنيّة على الاحترام، والتقدير، فقد جاء في رسالة بعث بها ابن السنوسي لوالي طرابلس محمد أمين باشا بعد تأسيس الزاوية البيضاء: (ثم إننا نحن وعصابة المهاجرين بحمد الله في عافية وماذكرتم من كونكم الى لقائنا بالأشواق وأخذكم من عهود الود بأشد وثاق، فهذا محقق لدينا، وواجب المكافة علينا، ويؤكده دوام اعتنائكم بنا وبأصحابنا وملاحظتكم لنا وشفقتكم علينا، وتوصيتكم أتباعكم على ما يتعلق بمحلنا من خدمة وعمارة، وغير ذلك مما لايقدر على مكافأتكم عليه إلا الله سبحانه، هذا مع بعد المسافة واشتغالكم بمصالح الدولة العلية وقيامكم بأعباء سياسة الرعية، فإن هذه الزاوية وإن نسب إنشاؤها لمن قبلكم فإنما تمام أمرها واستمرار انتظامها بشمول نظركم، فأنتم لذلك منا بمرأى ومسمع، ومذكورون مع الحاضرين في كل مجمع ...
والأخوان المهاجرون دائماً لكم داعون) ثم يتحدث عن عمله وعمل الأخوان في نشر العلم وإقامة شعائر الدين ثم يقول: (ثم ماذكرتم من توجيه النجل الناجب الى ولاية بنغازي للقيام بمصالح الدولة السنية فنعم مافعلتم ونرجوا(1/137)
أن يكون على قدمكم في طرق السداد والرحمة للعباد، فأوصوه بذلك، وادعوا له به فإن رضاء الحق في رضائكم عليه. ونحن والاخوان عليه راضون، وله راعون وبالسيرة الحسنة موصون. جعله الله وارث كمالكم بعد طول الاعمار، وجمع لكم بين عز هذه الدار وتلك الدار ... فنوصيكم وأنفسنا بوصية الله سبحانه للنبيين والمرسلين الأولين والآخرين. {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن أتقوا الله} وأن تتخلقوا بمحض الرحمة لعباد الله. قال العلي الشأن: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان ... } وقال ذو الشمائل الحسنة: (عدل ساعة خير من عبادة سبعين سنة). الراحمون يرحمهم الرحمان. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء. والجزاء من جنس العمل، وإنما هي أعمالكم ترد عليكم وكما يدين الفتى يدان، نسأل الله سبحانه لنا ولكم وللمسلمين أن يؤتينا من لدنه رحمة ويهيء لنا من أمرنا رشداً ويحل علينا رضوانه الأكبر الذي لا سخط بعده أبداً إنه جواد كريم. رؤوف رحيم وعلى جنابكم السلام وهو الختام) (1).
فالباحث يلمس وداً قوياً بين ابن السنوسي والوالي، ويستنتج منه رضا الوالي وتأييده لحركة ابن السنوسي ونجد رسالة أخرى بعث بها ابن السنوسي الى محمد باشا صالح حاكم بنغازي يعهد فيها للوالي بمهمة رعايا الزوايا وحمايتها وإصدار الأوامر باحترامها وذلك قبل سفر ابن السنوسي للحجاز. وقد جاء في الرسالة: ( ... فلما حان سفرنا وجب علينا أن نرد الأشياء الى محلها والأمانات الى أهلها، وذلك أن هذه الزاوية التي حدثت بهمة حضرتكم ومنّة جناب والدكم (هنا بياض في الأصل) ... وكل من الزوايا حوله عربان وعلم جنابكم محيط بأحولاهم وتعدى بعضهم على بعض فضلاً عن غيرهم ... وقد سيق من جنابكم وجناب الأكرم الوالد حمى حرمها وصيانة حرمها .. وإذا تأكد وشاع عن سفرنا ماهو الواقع من انتسابها لجنابكم، وعلم الجميع بذلك بعزيز خطابكم لا يستباح لها حصن ولا تحضر لها ذمة وتصير حرماً آمناً ... ) (2).
_________
(1) انظر: السنوسي، ص139،140.
(2) المصدر السابق نفسه، ص143،144.(1/138)
وهذه الرسالة وجهها ابن السنوسي الى حاكم إقليم فزان فقال بعد البسملة والديباجة الأولى: (ولدنا مصطفى باشا قائم مقام فزان حالاً. أدام الله بقائه وزاده عزاً وإجلال.
وبعد إهداء تحيات عطرة تليق بعزيز الجناب، ورفع أكف الضراعة مستمطراً وأكف الإنعام وسوابغ الآلاء مدى الدهور والأحقاب وأنه قد وصل مشرفكم الكريم. وحمدنا الله تعالى على ماأنتم عليه من الفضل الجسيم. وأسفر عن مكارمكم الفائقة ... باستنشاق ريا مننكم الرائقة إنكم للفضل أهل ولأعمال الصالحات مأوى ومحل إذان مقاصدكم كلها صالحة. وفضائلكم لدى الخواص والعوام واضحة وقد أخبرنا ولدنا الشيخ أحمد بن ابي القاسم التواتي عن جميع خيراتكم تفصيلاً. وتتابع ذلك منكم بكرة وأصيلاً. زادكم الله عزاً ورفعة وجعلكم تحت كنفه في عز دائم ومنعة. وأفاض عليكم من نوره الأسن، وأمدكم من فيوضاته المباركة الحسنى فأبشر بحول الله وقوته بالعز الأبدي والفخر الدائم السرمدي وقد وجهنا ولدنا الشيخ محمد بن الشفيع يذكر عباد الله في تلك الناحية. ويكون مقامه بزاوية (واو) حتى يرجع إليها الشيخ أحمد بن أبي القاسم التواتي لأن مرادنا أن يأتينا من هناك ببعض كتب غير موجودة في خزانتنا ويرجع إن شاء الله عاجلاً. وها نحن داعون لكم بصالح الدعوات في الخلوات والجلوات وأوقات الإجابات وعلى الله القبول وهو المرجو منه والمأمول وسلام السلام يخصكم ويعم سائر اللائذين بجنابكم (1).
ومن خلال الرسائل نستنتج أن ابن السنوسي استطاع أن يقيم علاقات متينة مع الولاة العثمانيين، ويبدو أن الحكومة العثمانية قررت أن تكسب ابن السنوسي لصفها، وخصوصاً بعد أن قدم للقبائل خدمات عظيمة في مجال الدعوة، والتعليم، والارشاد، وعالج ظاهرة خروج القبائل عن الدولة بحكمة نادرة، فكانت القبائل تقبل نصائح ابن السنوسي ويطيعون العثمانيين بناءً على توجيهاته، ولذلك تركت الدولة الدواخل في يد الحركة السنوسية، وبدأت الحركة تتحول الى إمارة منضوية
_________
(1) انظر: السنوسي الكبير، ص141.(1/139)
تحت لواء الخلافة العثمانية وقام ابن السنوسي بأرسال مندوباً عن الحركة السنوسية الى استانبول وقام بهذه المهمة الشيخ عبد الرحيم المحبوب شيخ زاوية بنغازي حيث قابل السلطان عبد المجيد وحصل منه على (فرمان) عام 1856م يعفى ملاك الزوايا من الضرائب ويسمح لها بجبي نقود من أتباعها، ونخرج من ذلك كله بأن علاقة ابن السنوسي بالدولة كانت طيبة وحسنة طول إقامته الأولى في برقة. وقد أشار صادق المؤيد لهذا الفرمان الذي لم نعثر على صورة له. ثم سافر الشيخ أبو القاسم العيساوي من طرابلس إلى استانبول وحصل على (فرمان) آخر من السلطان عبد العزيز يؤكد الفرمان الأول، وآتى به إلى حاكم طرابلس (1).
وقد وجد المؤرخ أحمد الدجاني في دار المخطوطات في طرابلس (مرسوم ولائي) من والي طرابلس إلى متصرف الجبل يؤكد على ماتحصل عليه أبو القاسم العيساوي من فرمان من استانبول وقد جاء فيه بعد التحية " وبعد فإن الشيخ العالم ... السيد الحاج بلقاسم العيساوي دام موقراً مرعياً بيده أوامر من أسلافنا الوزراء العظام تشعر بكونه أتى بفرمان عالي الشأن في تعظيمه وإجلاله وتوقيره واحترامه لما تحقق من حسن سيرته وخلوص طريقته وسريرته وفضله وسلوكه مسلك استاذه ذي الهداية والإرشاد موصل السالكين لإدراك المراد، صاحب المقام الأنور الباهر، والنسب العالي الطاهر والكرامات والأسرار السابقة في جميع الأقطار، عين أعيان الأخيار محمد بن علي السنوسي الخطابي الإدريسي ... كما تشعر بأنه أسس زاوية باسم استاذه المشار إليه، قاصداً بذلك نشر العلوم وتعليم أولاد المسلمين وظهور طريقة الاستاذ ليعم النفع والإرشاد، كما تشعر بأن يكون من سائر المأمورين ورفع مقامه وزيادة تعظيمه واحترامه والنظر إليه بعين الكمال والوقار والإجلال ووقاية الطلبة والمهاجرين بالزاوية المذكورة .. وعدم التعدي على الزوار الوافدين عليها .. وإجراؤه هو ووالده وإخوته على ماهم عليه وأن لايقاسون بغيرهم من حيث المطالبة الميرية والاعشار الشرعية وأن لايطالب بميري ولا أعشار .. ) (2).
_________
(1) انظر: الحركة السنوسية، ص105.
(2) انظر: دار المحفوظات طرابلس تاريخ البيورلدي عام 1287هـ.(1/140)
إن ابن السنوسي استطاع أن يصل إلى أهدافه، وأن يوسع نفوذ دعوته، ويكسب معاضدة الدولة العثمانية له سواءاً عن طريق باشواتها في ليبيا أو السلاطين العثمانيين في استنبول، فقد استطاع أن يتحد مع الدولة العثمانية في السعي الدؤوب من أجل تحقيق أهداف الإسلام الكبرى، وقد نظر ابن السنوسي إلى دولة الخلافة، كواقع موجود لاتسمح الظروف بتغييره، بل الصواب العمل على الحفاظ عليه وعدم الاصطدام به، لذلك جعل علاقته بها طيبة. أما الدولة العثمانية فكانت ترى في الحركة بعض الفوائد استطاعت تحقيقها، كما أن الحكام العثمانيين اقتنعوا أن ابن السنوسي لم يكن يطمع في الخلافة، وقد سئل ملك ليبيا السابق محمد ادريس السنوسي هل كان جده يهدف إلى إقامة دولة إسلامية؟ فأجاب بالنفي وذلك لأن جده ماكان يريد الاصطدام بالدولة العثمانية التي وقفت منه موقفاً طيباً عندما أعفى السلطان عبد المجيد الإخوان من دفع الأموال الأميرية، ولأنه كان يخشى أن يكون حاكماً لأن الحاكم يظلم أحياناً وهو يعلم وأحياناً دون أن يعلم (1).
إن ابن السنوسي مع قناعته بأحقية القرشي بالخلافة لم يَر إثارة موضوع الخلافة، لأنه رأى أن ذلك من غير المناسب وليس من مصلحة المسلمين إثارة مثل هذا الخلاف، ولذلك ركز على جوانب الإصلاح الأخرى، فصار هدفه إيجاد مجتمع مسلم يتألف من أفراد فهموا الإسلام وتربطهم شريعة الله، وذلك حتى يستطيع هذا المجتمع أن يقوم بواجباته نحو الإسلام، من رد الاعتداء، وإقامة شرع الله، ودعوة الناس إلى الإسلام ... ولابد وأن ينتهي الأمر بإصلاح السلطة وحل مسألة الخلافة.
وقد اختار ابن السنوسي طريق التعليم والإرشاد طريقاً لإصلاح المجتمع (2) ولذلك كانت خطواته الحركية والدعوية محسوبة، فلم يصدم بالدولة، ولا بالعلماء، ولا غيرهم وإنما سعى لتحقيق أهدافه بالوسائل السليمة، وأقام زوايا لتكون بمثابة خلايا حية، تمتد منها الحياة إلى سائر جسم الأمة الإسلامية (3).
_________
(1) انظر: الحركة السنوسية، ص163.
(2) المصدر السابق نفسه، ص164.
(3) المصدر السابق نفسه، ص102.(1/141)
إن ابن السنوسي لم يترك فرصة تمر إلا واتخذها لتعزيز مركز دولة الخلافة والأخذ بيدها، وكان يرأى أن طرق الاقناع هي خير الوسائل لبلوغ الأهداف السامية، ولم يستعن ابن السنوسي بأي دولة أجنبية، أو تعاون مع أي منها، أو ترامى في أحضانها، أو قام بتشجيع الثورات التي لاتأتي بفائدة مرجوة للمسلمين.
إن خطواته الدعوية الحكيمة قد اغضبت بعض العاطلين من الحكام والجامدين من العلماء، والمفكرين من دهاة الاستعمار ودعاته، واستطاع ببعد نظره، وحكمته أن يتغلب عليهم، وأن يرسم خطوطاً متينة سار عليها اتباعه من بعده (1).
وقد تكلمت جريدة (الماتين الفرنسية) عام 1912م، عن البعد السياسي عند ابن السنوسي فقالت: " لم يكن مجئ السنوسيين إلى طرابلس وتوطنهم فيها من قبيل المصادفات والاتفاق، فهؤلاء أدركوا من زمن طويل أن الأوربيين سيستولون على طرابلس الغرب بعد استيلائهم على الجزائر، ومراكش، فأرادوا أن يقعوا وراء ساحل طرابلس كالبنيان المرصوص ليدافعوا عن بيضة الإسلام عندما تطلق أوربا أساطيلها بسهولة على تلك السواحل" (2).
لقد كان ابن السنوسي لايفرق بين الدين والدولة، بل كان يرأى أن الدين والدولة كل لايتجزأ، ولهذا كانت نظرته إلى الحياة نافذة، استمدها من دينه الذي يدعو إلى الشمول ولو كان البعد السياسي غائباً عن ابن السنوسي، لما حاربته حكومة السلطان مولاي سليمان في مراكش، ولما ناصبه العداء حكام الجزائر، ولما أوجس منه حاكم مكة خيفة، ولما تحرش به بعض علماء مصر، ولما اهتمت بشأنه دولة الخلافة، ولما فزعت منه دول الإستعمار رعباً وفي مقدمتها فرنسا، ولو كان كمثل شيوخ الطرق الصوفية التقليدية لبقى معززاً محترماً ولعاش عيشة الخنوع والإستسلام (3).
يقول الاستاذ عباس محمود العقاد (وكان الشيخ السنوسي
_________
(1) انظر: السنوسي الكبير، ص108، 109.
(2) المصدر الكبير، ص116.
(3) انظر: السنوسي الكبير، ص97.(1/142)
- بخلاف الغالب على مشايخ الطرق - خبير بأحوال السياسة العالمية فوقر في ذهنه أن النابلطان أي الإيطاليين مغيرون لامحالة على برقة في يوم قريب فأوغل بمقامه إلى واحة الكفرة على طريق السودان ليشرف من ثم على تعليم أهل الصحراء جنوباً وشمالاً وشرقاً وغرباً ويهيئ في جوف الصحراء ملاذاً لمن تقصيهم غارات المستعمرين على السواحل ومدن الحضارة) (1) لقد اعتبر الأوربيون الحركة السنوسية عقبة كأداء في طريق تحقيق أهدافهم الإستعمارية، ولهذا نجد الكاتب الفرنسي دوفريه في غير اعتدال يصاب بحمى الهذيات، فيقول إن السنوسية خطر عام، خطر على أوربا، وخطر على الدولة العثمانية، وخطر على شمال إفريقيا وخطر على مصر (2).
أما السياسي الفرنسي المعروف المسيو هانوتو فيقول: (لقد أسس الشيخ السنوسي في جبهة ليست بعيدة عن الأصقاع التي تلي أملاكنا في الجزائر وطرابلس وبنغازي مذهباً خطيراً له أتباع وأنصار متعددون، ومقر هذا الشيخ بلدة جغبوب الواقعة على مسيرة يومين من الواحة التي كان قائماً بها هيكل البرجيس آمون: الى أن قال: ومن مذهب الشيخ السنوسي وأتباعه التشديد في القواعد الدينية، ولقد لبثوا زمناً طويلاً لايرتبطون بعلاقة مع الدولة العثمانية غير ان هذا لم يمنع السنوسيين من مد حبل الدسائس التي أوقفت بعثاتنا عن كل عمل مفيد لفرنسا في افريقيا الجنوبية، ولم يكن الأمر قاصراً على وسط القارة الأفريقية فإنه يوجد بالاستانة نفسها والشام وبلاد اليمن وكذلك مراكش عصابات خفية ومؤامرات سرية تحيط بنا أطرافها، وتضغط علينا من قرب ويخشى أن تعرقلنا إذا ما أغمضنا الطرف عنها (3).
وقد وصف الفرنسيون اتباع الحركة السنوسية بانهم أشد صلابة من الحجر الصلد (4).
واستدل العلامة محمد رشيد رضا على صدق الحركة السنوسية بما كانت تقوم به
_________
(1) انظر: الاسلام في القرن العشرين، ص132.
(2) انظر: السنوسي الكبير، ص44.
(3) انظر: السنوسي الكبير، ص44.
(4) انظر: السيد محمد رشيد رضا لمحمد احمد درنيقة، ص202.(1/143)
فرنسا من عداوة ومحاربة لهذه الحركة الى الصوفية التي اقضت مضاجعها، ولم تكتم فرنسا رغبتها في القضاء على شيخ السنوسية واستئصال قوته (1).
وقد امتدح محمد رشيد هذه الحركة بقوله: (استطاعت دولة فرنسا إفساد بأس جميع الطرائق المتصوفة في افريقية واستمالة شيوخها بالرشوة إلا الطريقة السنوسية) (2).
إن البعد السياسي عند ابن السنوسي، يتضح للباحث في حملة التوعية التي قام بها ضد الغزو القادم للأمة من قبل الأوروبيين، وتنظيمه للزوايا، وتعبئة الأنصار؛ بغرس الثقة في دينهم وعقيدتهم، والثقة بقيادتهم، وتأخير الصدام مع الأوروبيين حتى يكتمل البناء.
وتحدث آدمز عن ابن السنوسي وختم كلامه قائلاً: (وعلى أية حال فإن ابن السنوسي كان يتمتع بقدرة تنظيمية غير عادية، وبحس عملي دقيق للأحداث) (3).
ووصفه ستودار بأنه (كان رجلاً شديد الهيبة، بعيد الهمة، عظيم الاقتدار على التنظيم والاصلاح) (4).
وقال فيه المؤرخ التركي أحمد حلمي: (إن من يمعن النظر في عظمة المقتصد وجلالته وفي قدرة الوسائط وفقدانها وجسامة المشكلات التي اقتحمها المؤسس وقاسها على الجمعيات الأوروبية والشرقية لايمكنه إلا أن يقف موقف الدهشة أمام عظمة هذا الرجل وبعد غور دهائه) (5).
أما محمد الطيب يقول في شخصية ابن السنوسي: (أمة قوية لا يتطرق إليها الضعف والوهن، فكان عدواً للجهل وخصماً للاستكانة، وضداً للأفكار العقيمة) (6).
_________
(1) المصدر السابق، ص203.
(2) انظر: السيد محمد رشيد رضا لمحمد احمددرنيقة، ص203.
(3) انظر: الحركة السنوسية، ص165.
(4) المصدر السابق نفسه، ص166.
(5) انظر: برقة العربية امس واليوم، ص 178.
(6) انظر: برقة العربية أمس واليوم، ص177.(1/144)
أما الزعيم الليبي السياسي الكبير بشير السعداوي فيقول: (مهما أوتي المؤرخون والكتّاب والشعراء من قوة في البيان وابداع في البلاغة وهو يتناولون الحقائق عن سيرة السيد السنوسي وأهدافه السامية التي يرمي إليها وقد حقق جزءً منها، فلا يستطيعون ايفاء المقام حقه ولن يصلوا الى معرفة هذا المصلح الاسلامي العظيم، كما ينبغي وكلما توالت الأيام والسنون، فهي تثبت لنا عظمة السنوسي، ونبل مقاصده السامية التي تصلح من شأن المسلمين) (1).
وأما سالم بن عامر فيصف السنوسية فيقول: (هي طريقة أسست على حكمة علمية واجتماعية وأن أسس هذه الجمعية السنوسية هي الأخوة والتعاون الى أن يقول إن الجمعية السنوسية مع أنها طريقة مخصوصة فهي جمعية سياسية أفكارها ومقاصدها معلومة لدى خواص الاخوان والخلفاء، والمشايخ والزعماء ... ) (2).
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص184.
(2) المصدر السابق نفسه، ص178.(1/145)
الفصل الثالث
أسلوبه الدعوي، وثروته الفكرية، وصفاته الربانية
المبحث الأول
الاسلوب الدعوي عند ابن السنوسي
كان أسلوب ابن السنوسي في الدعوة الى الله مستمداً من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومن رسالته الى شيخ زاوية المدينة ابن الشفيع نلاحظ ذلك حيث قال: ( ... وحسنوا أخلاقكم ولينوا جانبكم للكبير والصغير، قال تعالى: {وقولوا للناس حسناً} وقال جل وعلا: {ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} وقال - صلى الله عليه وسلم -: ارفقوا فإن الرفق ماكان في شيء إلا زانه وأن الحمق ماكان في شيء إلا شانه، وارفعوا همتكم عن الخلق)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد ما في أيدي الناس يحبك الناس عليكم بالمناصحة والمذاكرة وارشاد عباد الله إليه والمدارسة والاجتماع والتحابب والتوادد فيما بينكم، ولا تباغضا ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله اخوانا وعلى البر أعوانا) (1).
ولذلك نجد دعاة الحركة السنوسية يتخذون الرفق واللين في دعوتهم منهجاً، وتعلموا ذلك من مؤسس الحركة ونلاحظ ذلك في عدة أمور منها:
أولاً: التعامل مع الطرق الصوفية:
تميز زعماء الحركة السنوسية بحنكة سياسية من حيث تجنب الاصطدام مع الطرق الصوفية في ليبيا، والحجاز، ومصر، وغيرها، فبدلاً من كسب عدائهم، عملوا على احتوائهم، وشيئاً فشيئاً ذابت بعض الطرق في ليبيا في بوتقة الحركة السنوسية، وبقيت الطريقة الصوفية المدنية تتمتع بنفوذ محدود لدى قسم القبائل البدوية (2)، وكانت معاملة السنوسية لباقي الطرق
_________
(1) انظر: جامعة السيد محمد بن علي السنوسي الاسلامية من رسالة 12 ربيع 1224هـ.
(2) تاريخ ليبيا المعاصر، محمود عامر، ص32.(1/146)
فيها رفق وتسامح ونصح، واستطاعت أن تبين لأتباع الطرق الأخرى الأخطاء التي وقعت فيها، كالغناء، وهز وضرب الدفوف، وسارت بمنهجية حكيمة حتى استطاعت أن تهيمن على البوادي، والواحات، والمناطق الداخلية، وأصبح ولاء تلك الأماكن لفكر الحركة السنوسية، وأصبح نشاط الطرق الأخرى محصوراً في المدن، كبنغازي، وطرابلس وغيرها، بعيدة عن الصراع السياسي العالمي، بعكس السنوسية التي استطاعت أن تصبح حركة سياسية مؤثرة، ومن أشهر الطرق الصوفية في ليبيا، العروسية، العيساوية، القادرية، المدنية، السعدية والطيبية، والعزوزية (1).
ثانياً- التعامل مع العبيد من الأفارقة:
كان ابن السنوسي يهتم اهتماماً كبيراً بدعوة القبائل الوثنية في افريقية، فمن وسائله في نشر الإسلام بقلب افريقية، أنه اشترى مرة قافلة من العبيد، كان المستعمرون قد خطفوهم ليعرضوهم في سوق الرقيق، ولكن ابن السنوسي اعتقهم جميعاً وأكرمهم وعلمهم الإسلام، وبث فيهم حبه وتقديره، ثم تركهم ليعودوا إلى قبائلهم وذويهم دعاة يتحدثون عن طغيان المسيحيين وبر المسلمين، فكانوا دعائم مهمة لنشر الإسلام بين أهليهم وقبائلهم (2)، وكان يشتري العبيد من القبائل التي كانت تغير على القوافل، وعمل على دعوة القبائل إلى الإلتزام بالإسلام، وتخليص العبيد من العبودية وكان ابن السنوسي يشرف بنفسه على تربيتهم وتعليمهم ثم يرسلهم إلى قبائلهم، ودعوة الزنوج إلى الإسلام، وبفضل الله ثم هذا الأسلوب، أصبحت قبائل (واداي في تشاد يرسلون أبنائهم لتعلم الإسلام في الجغبوب وغيرها من الزوايا السنوسية) (3).
ثالثاً- التعامل مع القبائل وتوظيفها للدعوة:
اهتم ابن السنوسي في دعوته بزعماء القبائل، واستطاع أن يحول منهم
_________
(1) انظر: المجمتع الليبي، ص325.
(2) انظر: موسوعة التاريخ الاسلامي، محمود شاكر (4/ 437).
(3) انظر: السنوسية دين ودولة، ص39.(1/147)
دعاة إلى الله، كما رأينا في سيرة مرتضى فركاش، وأبو بكر بوحدوث وغيره، واهتم بتوصيل الدعوة إلى الإحياء البدوية، ونظم أمر الدعاة المكلفين بهذه المهمة، وحرص على أن يضرب أروع الأمثلة في العفة، والاستغناء عما في أيدي الناس من متاع الدنيا، وقام بإرسال الكثيرين من المرشدين والوعاظ إلى مواطن البدو البعيدة، فكان يرسل بعض إخوانه إلى جهات خاصة، ويحدد لهم مدة عملهم ثم يرسل بمن يخلفهم، ليعود الأوائل لأخذ الراحة.
وكانت احدى البعثات مؤلفة من السيد مرتضى فركاش، حسين الغرباني، فقاما بالدعوة إلى الله بين القبائل، ومن شدة فرح البدو بهم أهدوا إليهم هدايا من الأبل والبقر والغنم، ولما أكملوا مدتهم ورجعوا إلى ابن السنوسي، وعلم بما حدث احمر وجهه، وظهرت على وجهه علامات التأثر، وقال لهما ماجئت لاجمع مالاً ولا لأرغب الدنيا ولم أرسلكما لتجمعا لي مالاً ولكنني جئت لأنشر علماً وديناً، فارجعا بكل ما معكما لتسلمانه إلى أصحابه بالعدد، وقال لدعاته: " لاتشقا على أحد ولا أود أن يتكلف أحد بضيافتكما فخذا أمتعتكما وكل مايلزمكما ولاتتقبلا من الأهالي شيئاً إلا (الزبدة) واللبن (الممخوض).
وقام الشيخان مرتضى فركاش، وحسين الغرياني، بإرجاع الهدايا إلى أصحابها، فكل من يعطيانه ماكان جاد به يتكدر ويتأثر ويقول لعل ابن السنوسي رفض قبول ماقدمته لشيء في نفسه عني، فيقنعانه بأن ابن السنوسي تمام رضاه في أن تقبل ماجدت به وأن ترسل بابنك إلى الزاوية ليتعلم وان تحضر معنا دروس الوعظ والإرشاد (1)، وانتشر بين البدو أن ابن السنوسي أمر دعاته بأن لايشقا على أحد في اكرامهما، فتحايل البدو في إكرام الدعاة إلى الله، فأسلوب ابن السنوسي لم يقتصر على الزوايا، بل أرسل الدعاة إلى القبائل البعيدة لتعم دعوة الإسلام المباركة كل الناس (2) واستطاع ابن السنوسي أن يقنع القبائل البدوية بأهمية الدعوة إلى الله،
_________
(1) انظر: برقة امس واليوم، ص165.
(2) انظر: برقة أمس واليوم، ص166.(1/148)
وخصوصاً تلك التي كانت تتعامل في التجارة مع وثنيي افريقيا لنشر الدعوة هناك، ومن أشهر تلك القبائل التجارية الصحراوية، أولاد سليمان، الطوارق، التبو، المجابرة، الزوية (1).
رابعاً: ضرب الأمثال عند ابن السنوسي:
استخدم ابن السنوسي وسيلة ضرب الأمثال في أسلوب دعوته وقد استنتج هذه الوسيلة من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، قال تعالى: {إن الله لايستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم، وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً يضل به كثيراً ويهدي به كثيرا ومايضل به إلا الفاسقين} (البقرة، آية: 26)، وإن لضرب الأمثال في القرآن الكريم، والسنة فوائد كثيرة ومنافع جمّة منها:
1 - تقرير الحقائق تقريراً واضحاً جلياً.
2 - تقريب المراد وتفهيم المعنى وإيصاله إلى ذهن السامع.
3 - تشويق السامع وترغيبه إلى الإيمان والخير والحق المعروف والفضيلة.
4 - تنفير السامع وترهيبه من الكفر والشر والباطل والمنكر.
5 - تذكير السامع ووعظه ليعتبر وينزجر.
6 - تشبيه شيء بشيء في حكمه وتقريب المعقول من المحسوس أو أحد المحسوسين من الآخر واعتبار أحدهما بالآخر.
7 - تأتي لإثارة الانفعالات المناسبة للمعنى المراد، وظهور ذلك على وجه السامع، ولذا فقد اختير لها لفظ الضرب، لأنه يأتي عند إرادة التأثير وهيجان الانفعال، كأن ضارب المثل يقرع به أذن السامع قرعاً ينفذ تأثيره وأثره إلى قلبه وينتهي إلى أعماق نفسه (2).
_________
(1) انظر: المجتمع والدولة والاستعمار في ليبيا، ص131.
(2) انظر: الحكمة والموعظة الحسنة، د. احمد المورعي، ص274.(1/149)
ولذلك استخدم ابن السنوسي ضرب الأمثال في الدعوة والإرشاد والوعظ والتذكير التي تؤثر في القلوب والنفوس أثراً بليغاً في قبول الدعوة، وتوصيل المفاهيم إلى الناس ومن ذلك حديثه للاخوان أثناء بناء الجغبوب حيث كان يشرف بنفسه على العمل ويخطط بناء السور على شكل مربع ثم يخاطب الحاضرين فيقول لهم:
" الطير له عقل أم لا؟ فقالوا: لا عقل له. فقال: هو لايضع بيضه إلا فوق جبل شامخ حتى لايلحقه ذيب، ولاثعلب ولاغيرهما. وقال: اليربوع له عقل؟ فقالوا له: لا. فقال: هو يجعل في حجره طربقة: وهي النافقاء، فإذا دخل عليه الحنش الأسود عليها من هنا وقال "تلقونها احسن المحلات إذا أتى الحنش الأسود عليها من هنا" وأشار باصبعه السبابة من المشرق إلى المغرب " (1).
ويلاحظ الباحث أن ابن السنوسي استخدم لغة الحوار والاستجواب وفي هذا الأسلوب دعوة للتفكير، وتشجيعاً على المناقشة وتعويد الإخوان على العطاء والمشاركة وإبداء الرأي، وإن هذا الأسلوب في الحوار والمناقشة يثير الانتباه لتلقي المعلومات، ويذهب السآمة، ويزيل مايصيب النفس من ملل نتيجة الإلقاء الطويل، ويشوق الذهن، وينشط العقل لمواصلة السعي، وبهذا الأسلوب استطاع ابن السنوسي أن يركز على بعض الحقائق لترسيخها في النفوس وتثبيتها في القلوب وتحذير اخوانه من الخطر الداهم على بلادهم، والدعوة للإستعداد لمواجهة هذا الخطر.
لقد أشار إلى مجئ الطليان في قوله إذا أتى الحنش الأسود عليها من هن.
خامساً: استخدام القصة عند ابن السنوسي:
إن من طبيعة النفوس البشرية إذا خوطبت تلقائياً بكلام نظري مجرد يتبع آخره أوله، فإن جهدها التفكيري يضعف، واستعدادها النفسي يذبل، فلا تعود تعي أو تفهم شيئاً مما يقال لها، ولذلك استخدم ابن السنوسي الأسلوب القصصي في تجسيد الأحداث على شكل أشخاص، يتحرك معها القلب، وتنشط لها الآذان والعقول، فهي تثير الانتباه والحواس لمتابعة أحداث القصة. ماذا سيحدث؟
_________
(1) انظر: الحركة السنوسية، ص154.(1/150)
إن القصة تعتبر من أنجح الأساليب للتقويم والنصح والإرشاد، فأسلوبها له تأثيراته النفسية، وانطباعاته الذهنية، وحججه المنطقية والعقلية في نفوس المدعوين، فهي تستولي على قلوبهم استيلاءً أشبه بالقهر وماهو بالقهر، وأفعل من السحر وماهو بالسحر لمالها من سرعة نفاذ، وقوة تاثير، واستمرار أثر (1).
إن الغرض الأكبر من الأسلوب القصصي للدعاة، أخذ العبرة والعظة، قال تعالى: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ماكان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} (يوسف، آية: 11).
ولذلك كان ابن السنوسي يكثر من استخدام القصة لتفهيم اخوانه واتباعه، باعتبارها أسلوباً مهماً، ووسيلة تعليمية ناجحة، ومن ذلك قصة حكاها لابنه وإخوانه يبين لهم فيها أهمية القيادة في الجماعة، وضرورة المحافظة على القائدالذي هو بمثابة الرأس من الجسم والقصة كما قالها محمد المهدي السنوسي: " كنت جالساً مع سيدي - رضي الله عنه - وتكلم معي طويلاً في الرحلة مقبلاً لجهة الجنوب ثم حكى لي حكاية بأنه كان كبير قوم ارتحل هو وقومه من مكان إلى مكان، فبينما هم في أثناء الطريق وإذا بالعدو قد ظهر عليهم فالتفتوا إلى جميع الجهات ينظرون ملجأ يأوون إليه، فلما لم يروا شيئاً قالوا لم يبق إلا القتال، وكبير القوم معه ولد، فصار الولد كلما رأى العدو آت من جهة حوّل أباه إلى جهة أخرى، فقال له بعض القوم: أنت ماشغلك إلا أبوك. قال لهم: نعم رجل كألف وألف خفاف كاف. فقال - رضي الله عنه - صدق الولد، متى كان الرأس موجوداً، فالذي يذهب يأت الله بمن يكون مثله أو فوقه أو دونه " (2).
سادساً: استعماله للشدة في موقف الشدة:
كان الأصل في أسلوب ابن السنوسي استعماله اللين والرفق، ومعاملة الناس بالحسنى والتودد إليهم وكسب قلوبهم، ولكن في بعض الأحوال والظروف كان
_________
(1) انظر: الحكمة والموعظة الحسنة، ص288.
(2) انظر: الحركة السنوسية، ص154.(1/151)
يستخدم الشدة لكونها أنسب، وأوقع، وأعمق أثراً، فكان يقدر للأمور قدرها ويعطي كل موقف حقه من اللين والرفق أو الشدة والحزم، قال الشاعر:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازماً
فليقس أحياناً على من يرحم (1)
قال بعض المفسرين في قوله تعالى: {وقولوا للناس حسناً} (البقرة، آية: 83).
إن القول الحسن ليس هو عبارة عن القول الذي يشتهيه المدعو ويوافق هواه ويحبه بل القول الحسن هو الذي يحصل انتفاعه به سواء حصل عن طريق اللين، والرفق أو الشدة والحزم، وعلى هذا قد تكون الشدة من القول الحسن (2).
لذلك كان ابن السنوسي ضابطاً لأتباعه يحسن توجيههم ولايتهاون في معاقبة المنحرف منهم. وقد حكى أحمد الشريف في رحلته عن أحد شيوخ الحركة واسمه المدني التلمساني، أنه كان مقدم احدى الزوايا في الصحراء " فثار بها للجهاد في كافر وأمه جاءا سائحين، الكافر يداوي الرجال وأمه كحالته تداوي النساء، فلم يشعرا إلا والمجاهد قد قام عليهما ومعه المعاون سيدي عبد الهادي الفاسي خرجا بسلاحيهما حامل غدرية عربية وبندقية قصيرة والمعاون متقلداً سيفاً قد أخرج من نصله قدر ثلاثة اصابع لارهاب العدو، فصادفا حاكم البلاد وهو تركي؛ فقال لهم القايم للجهاد: اليوم يخرج النصراني من البلاد، فقال له: امهله اليوم وغداً يخرج فقال المجاهد لابد أن يخرج اليوم، فتلطف التركي معه فلم يفد. فقال له: أنت مهبول ياسي الشيخ؛ فانتهره المجاهد فقال له: أنا مهبول يالحمار وخلفهما كل من قاربهما في الحال من أهل البلاد ثم جاء أكابر أهل البلاد وأرادوا تسكين هذه الثورة فما سكت إلا بشدة وقع فيها ضرب بعض المشايخ، ضربهم أصحاب القائم. وخرج النصراني وأمه في تلك الليلة. فلما وصل الخبر الى الاستاذ الجد أرسل إليهما فسبق المعاون فهجره أياماً حتى قدم القائم فخاصمهما وقال لهما: أنا ارسلتكما للقراءة والدلالة على الخير أو أرسلتكما حاكمين؟ ولم يرجعا الى محلهما) (3).
فهذه الحادثة تعطي للباحث فكرة عن ضيق افق مقدم الزاوية وعن موقف ابن
_________
(1) انظر: شرح الحماسة للمرزوقي (3/ 1121).
(2) انظر: مفاتيح الغيب للرازي (3/ 168).
(3) انظر: الرحلة، لأحمد الشريف، مخطوط ص20.(1/152)
السنوسي من انحرافه، وعن الاسلوب الذي اتبعه في عقابه؛ فهو يهجر المعاون أياماً دلالة على شدة غضبه ثم يخاصم الأثنين، ويبين لهما انحرافهما عن مهمتهما كدعاة ويعزلهما عن عملهما، وموقفه الشديد هذا لا يستغرب لان تصرفهما كان يخالف كلية خطة ابن السنوسي في الدعوة الى الله بالحكمة وعدم الاحتكاك بالسلطة (1).
سابعاً: من رسائل ابن السنوسي الدعوية:
كانت رسائل ابن السنوسي التي يبعث بها الى الأخوان أو لغير الأخوان، تتجلى فيها شخصيته الدعوية، ففي رسالة بعث بها في محرم 1276هـ الى شيخ زاوية الطيلمون مصطفى المحجوب يقول موصياً الاخوان: (والوصية لكم بالوقوف في باب الله بالجد والاجتهاد، ودلالة الخلق الى سبيل الرشاد، بالقول والعمل، والتخلي عن التواني والكسل، وابذلوا الوسع في حصاد الزرع والدراس والتحفظ عليه من التشتيت بأيد الناس، ومثلكم لا يؤكد عليه ولا يحتاج الى توصية فيما هو بين يديه، جعلك الله دليلاً للسعادة مراعياً قوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة}) (2).
فكان ابن السنوسي -رحمه الله- في هذه الرسالة يحث اخوانه على الجد والاجتهاد، ودعوة الناس الى سبيل الرشاد، بالقول والعمل، ويدعوهم الى ترك التواني والكسل، وأن يستعدوا للآخرة، كأن آجالهم تأتي غداً، والعمل للدنيا، كأنما يعيشون أبدا، ولذلك حثهم على حصاد الزرع، والدراس، والتحفظ عليه من التشتيت بأيد الناس، ويطلب منهم الاحسان في أعمالهم الدنيوية والأخروية.
هذه بعض الخطوط العريضة التي تبين لنا أسلوب ابن السنوسي الدعوي.
_________
(1) انظر: الحركة السنوسية، ص155.
(2) انظر: الحركة السنوسية، ص158.(1/153)
المبحث الثاني
الجانب الفكري عند ابن السنوسي من خلال كتبه
إن فهم أفكار ابن السنوسي يمكننا الوصول إليها من خلال مؤلفاته التي ضمنها آراءه في عدد من المواضيع، وهذا مهم لفهم الحركة السنوسية لم يستطع المؤرخون أن يحصروا عدد الكتب التي ألفها ابن السنوسي، ذلك أن الكثير منها فقد، وطبع بعضها، ولايزال البعض الآخر، كمخطوطات، وحاول الدكتور محمد عبد الهادي شعيرة إجراء بحث عن (سيرة ابن السنوسي الكبير وفقد المصادر) (1)، وقد اختلف مؤرخو الحركة في ذكر الكتب التي ألفها ابن السنوسي؛ فزيادة يذكر أن السنوسي الكبير كتب تسعة كتب أحدها كان شعراً) (2)، أما محمد فؤاد شكري، فيذكر اسماء خمسة كتب مطبوعة وثلاثة لم تطبع (3)، وأما الأشهب فيقول ثمانية كتب طبعت وتسعة لم تطبع (4)، وأما اسماعيل باشا البغدادي في كتابه (هداية العارفين في اسماء المؤلفين وآثار المصنفين) نسب لابن السنوسي خمسة وثلاثين مؤلفاً بين كتاب ورسالة ذكر اسماؤها (5)، ولقد ضاعت كتب كثيرة لابن السنوسي نتجة لاحتلال ايطاليا للكفرة، ونتيجة لاحتراق المكتبة في سلوك، وعلى أية حال فإن الكتب المطبوعة من مؤلفات ابن السنوسي هي:
كتاب المسائل العشر المسمى بغية المقاصد في خلاصة الراصد،
مطبعة المعاهد بالقاهرة: آخر 1353هـ.
السلسبيل المعين في الطرائق الأربعين: وهو بهامش الكتاب السابق.
المنهل الروي الرائق في أسانيد العلوم وأصول الطرائق،
الطبعة الاولى 1373هـ/1954م مطبعة حجازي القاهرة.
_________
(1) نشر البحث في مجلة كلية الآداب في الجامعة الليبية المجلد الأول، ص189.
(2) انظر: برقة الدولة العربية الثامنة، ص73.
(3) انظر: السنوسية دين ودولة، ص41.
(4) انظر: السنوسي الكبير، ص81.
(5) انظر: الحركة السنوسية، ص131.(1/154)
إيقاظ الوسنان في العمل بالحديث والقرآن،
الطبعة الاولى 1357هـ/1938م مطبعة حجازي القاهرة.
الدرر السنية في اخبار السلالة الادريسية،
الطبعة الاولى 1349هـ مطبعة الشباب بالقاهرة.
الطبعة الثانية 1373هـ مطبعة الشباب بالقاهرة.
رسالة المسلسلات العشرة في الأحاديث النبوية،
1357هـ مطبعة الشباب القاهرة.
رسالة مقدمة موطأ الإمام مالك،
الطبعة الأولى 1374هـ مطبعة الشباب القاهرة.
شفاء الصدر بأري المسائل العشر (1) (الأري: العسل)
1360 مطبعة المحمودية.
أما الكتب التي لم تطبع وورد لها ذكر في الكتب المطبوعة مما يؤكد وجودها فهي:
1 - الشموس الشارقة في أسانيد شيوخنا المغاربة والمشارقة:
ورد ذكره في (المنهل الروي) ص6 يسميه ابن السنوسي (فهرستنا الكبرى)، وورد ذكره أيضاً في هدية العارفين تحت اسم (الشموس الشارقة في تراجم مشايخي المغاربة والمشارقة).
2 - البدور السافرة في عوالي الأسانيد الفاخرة:
ورد ذكره في (المنهل) صفحة 6 وهو فهرسة صغرى منتخبة من الكبيرة.
وورد في هداية العارفين بعنوان (البدور السافرة في اختصار الشموس الشارقة).
3 - الكواكب الدرية في اوائل الكتب الأثرية:
ورد ذكره في (المنهل) صفحة 7.
وورد في هداية العارفين بنفس العنوان مجرداً من (ال التعريف). وهو كتاب يتناول ذكر الكتب التي درسها ابن السنوسي، وأسماء العلماء الذين أخذ عنهم. وقد ذكر مؤلفه ابوابه في كتابه (المنهل) باعتباره سار على نهجه في تأليفه.
_________
(1) انظر: السنوسي الكبير، ص81.(1/155)
4 - سوابغ الأيد بمرويات ابي زيد:
ورد ذكره في (المنهل) وفي هداية العارفين. وموضوعه فهارس المشايخ الذين درس عليهم ابن السنوسي.
5 - رسالة جامعة في أقوال السنن وأفعالها، وهي منظومة توجد -كما يقول الأشهب- بمكتبة الملك. ولا يرد لها ذكر في (هداية العارفين).
6 - هداية الوسيلة في اتباع صاحب الوسيلة
وهي منظومة وتوجد بمكتبة الملك. وقد وردت في (هداية العارفين).
7 - طواعن الأسنة في طاعني أهل السنة.
8 - رسالة شاملة في مسألتي القبض والتقليد، ويقول الأشهب أنها موجودة بمكتبة الملك.
9 - رسالة السلوك، موجودة بمكتبة الملك، وردت في هداية العارفين بعنوان (منظومة السلوك .... ).
10 - شذور الذهب في محض محقق النسب، موضوعة تاريخ اسلاف ابن السنوسي (1).
هذه أهم الكتب التي ألفها ابن السنوسي وقد شملت هذه المؤلفات عدداً من المواضيع، وكان أكثرها يتناول مباحث فقهية وصوفية، وفيها كتاباً أو كتابين يتناولان مواضيع تاريخية، ونكتفي بأختيار نماذج من تأليفه لنسلط عليها الأضواء ونأخذ فكرة شاملة عنها:
أولاً: المنهل الروي الرائق في أسانيد العلوم وأصول الطرائق:
إن هذا الكتاب يعطي الباحث فكرة عن العلوم التي درسها ابن السنوسي، والطرق التي تعرف عليها، والعلماء الذين أخذ عنهم في الحالين، ويظهر من عرض الكتاب أن ابن السنوسي كان بحراً في العلوم، وأن دراسته جمعت الجانبين الفقهي
_________
(1) انظر: السنوسي الكبير، ص83.(1/156)
والصوفي (1)، وقد بين سبب كتابة هذا الكتاب فقال: (فقد وقع الاجتماع في بعض ماقدر لنا من الرِّحل حال الترحال من محل الى محل بجماعة وافرة وعصابة فاخرة ذوي علوم زاخرة، وخيم عاطرة، فكم فيها جهابذة نحارير وأئمة نقد فائق التحارير مابين مريد السلوك الى عرفان مالك الملوك، ومريد الأخد والاجازة رائم التبرك بأسانيد من أجازه، في أقطار واسعة برحابها الشاسعة منهم زمر بنواحي الأعراض وأطراف الجريد وآخرون بطرابلس الغرب وآخرون مراسلون من تونس وما حواليها من البلاد ... وآخرون بالمعمور من زوايا برقة القافرة .. فحصلت بيننا وبين من أمكن الاجتماع به منهم المؤاخاة الأكيدة والخلة السديدة مع تواتر المزاورات ولذيذ المحاورات؛ فتشوقت إذا ذاك انفسهم الزكية .. الى الأخذ والإجازة بما لها من القوانين المستجازة؛ فطلبوا لذلك من هذا العبد الحقير، البائس الفقير الأجازة والإخبار بجميع مروياته؛ وما وصل إليه من هذا الشأن ولا من فرسان ذلك الميدان. بل لا أرى نفسي أهلا لأن يجاز فضلاً عن أن يستجاز كما قيل:
فلست بأهل إن أجاز فكيف أن
أجيز ولكن الجنون فنون
ولكنهم لعظيم فضلهم وعلو مكانتهم، وجزالة قدرهم، وشغوف استكانتهم، لايستطاع ردهم، ولا يخيب قصدهم، فكان كالمسوغ لذلك الخطب الهائل، لعاري الأهلية ذي الجيل العاطل؛ تمثلاً بما قيل:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
إن التشبه بالكرام رباح
إذ مالايدرك كله لايترك قلّه، استرواء بالثمد الضنين عند فقد المعين ويرحم الله القائل:
لعمر أبيك ما نُسِبَ المعُلاّ
الى كرم وفي الدنيا كريم
ولكن البلاد إذا اقشعرت
وصُوّح نبتها رُعى الهشيم
_________
(1) انظر: الحركة السنوسية، ص139.(1/157)
وما أشبه الحال بقول القائل:
إذا غاب ملاح السفينة وارتمت
بها الريح يوماً دبرتها الضفادع
ثم يقول، فاستخرت الله تعالى واجزتهم بجميع مايصح لي وعني ورايته (1).
إن الكلام السابق الذي ذكرته يدل على تواضع ابن السنوسي وهضمه لنفسه، وحبه لأخوانه وتلاميذه،
إن ذلك الكتاب فيه اثنى عشر باباً في أشهر الكتب في شتى العلوم، ومقدمة، وخاتمة، ويعطينا فكرة واضحة عن العلوم التي درسها، وقد أخذ ابن السنوسي أسانيد الكتب الأئمة العشرة عن شيوخه، وهي، موطأ الإمام مالك، ومسانيد الأئمة الثلاثة، مسند الامام أبي حنيفة، ومسند الامام الشافعي، ومسند الامام أحمد، والكتب الستة، صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، وسنن الترمذي، وسنن النسائي المجتبي، وسنن ابن ماجة، وفي الباب الثاني ذكر بعض مشاهير السنن وهي عشرة، سنن الامام الشافعي، وسنن أبي عثمان سعد بن منصور الروزي البلخي الخراساني، وسنن النسائي الكبرى وسنن الكشّي، وسننا البيهقي الكبرى والصغرى، وسنن الدراقطني، والسنة للحافظ أبي بكر الضحاك، والسنة للحافظ أبي القاسم هبة الله الطبري، والسنة للامام أحمد بن حنبل وثالث باب منه على بعض مشاهير المسانيد وهي عشرة، مسند أبي داود الطيالسي ومسند عبد بن حميد أبي يعلى الموصلي، ومسند ابن ابي أسامة، ومسند ابن الزبير الحميدي، ومسند الحميدي، ومسند الفردوس، ومسند ابن ابي شيبة، ورابع باب منه على بعض مشاهير الصحاح الزائده على الستة أو السبعة أو الثمانية السابقة وهي عشرة، صحيح ابن حبان، وصحيح ابن خزيمة، صحيح الحاكم، وصحيح الاسماعيلي، وصحيح أبي عوانة، وصحيح الدارمي، وصحيح ابن نعيم المستخرجان علىالصحيحين البخاري ومسلم، وصحيح ابن الجارود، وصحيح الضياء المقدس المسمى بالمختارة، وخامس باب منه على بعض مشاهير المعاجم وهي عشرة، معاجم الطبراني
_________
(1) انظر: المنهل الروي الرائق، ص6،7.(1/158)
الثلاثة، ومعجم أبي يعلى الموصلي، ومعجم ابن جميع الغساني، ومعجم ابن قانع البغدادي، ومعجم الاسماعيلي، ومعجم التنوخي، ومعجم الحاكم، ومعجم الصحابة للبغوي، وسادس باب منه على بعض مشاهير الجوامع وهي عشرة، جامع الاصول الرزين العبدري، وجامع الأصول لابن الأثير الجزري، وجامع عبد الرزاق الصنعاني، وجامعا السيوطي الكبير والصغير، وذيله وجامعهما للمتقي
المسمى بكنز العمال الجامع للجامع الصغير، والذيل له المسمى بمنهاج العمال، والجامع المسمى بجمع الزوائد للإمام الهيثمي، والجامع المسمى بجمع الفوائد من جامع الأصول، ومجمع الزوائد لابن سليمان الروداني، والجامع المسمى بكتاب الاصول الى الأحاديث الزائدة على جامع الأصول، وسابع باب منه على بعض مشاهير المختصرات وهي عشرة، مختصر جامع الأصول المسمى بتجريد الأصول للبارزي، ومختصر جامع الأصول أيضاً المسمى بتيسير الوصول للربيع الشيباني الزبيدي، ومختصره أيضاً لمحمد طاهر الصديقي الفُتّني ومختصر البخاري ومسلم، بالجمع بينهما للحميدي، ومختصر بهما بالجمع بينهما للصاغاني المسمى بمشارق الأنوار، ومختصر البخاري للشرجي، ومختصره للسندي، ومختصرهما، ومختصر مسلم للمنذري، ومختصر مسلم للسلمي، ومختصر أبي داود للمنذري، وثامن باب منه على بعض مشاهير كتب الأحكام الجامعة وهي عشرة، كتابا الأحكام الكبرى والصغرى لعبد الحق الأشبيلي، وكتاب المنتقى لمجد الدين عبد السلام بن تيمية الحراني، وكتاب الأموال للقاسم بن سلام الأزدي، وكتاب الآثار لمحمد بن الحسين الشيباني، وكتاب بلوغ المرام لابن حجر العسقلاني، وكتاب الاعلام لشيخ الاسلام زكريا الأنصاري، وعمدة الاحكام لعبد الغني المقدسي والمصابيح للبغوي، ومشكاة المصابيح للخطيب التبريزي، وتاسع باب منه على بعض المشاهير كتب السير والشمائل وهي عشرة، الشفا للقاضي عياض، الخصائص الكبرى للسيوطي، كتاب الشمائل للترمذي، دلائل النبوة للبيهقي، سيرة ابن هشام، تهذيب سيرة ابن اسحاق، تهذيبهما للسلمي، سيرتا ابن سيد الناس الكبرى والصغرى؛ الاكتفاء للكلاكي، سيرة(1/159)
الحلبي، المواهب اللدنية للقسطلاني، وعاشر باب منه على بعض مشاهير الأربعينات والأجزاء والمصنفات، فمن الأربعينات الأربعون للقاضي عبد العزيز ابن جماعة الكناني، والأربعون النووية، والأربعون المكية، والأربعون الباجورية، والأربعون الشحامية، والأربعون
الجوزفية، والأربعون الهاشمية، والأربعون المنذرية، والأربعون السلمية، .... ومن المصنفات، مصنف أبي بكر بن أبي شيبة ومصنف عبد الرزاق الصنعاني، ومصنف وكيع بن الجراحي، ومصنف حماد بن سلمة الرفعي، وحادي عشر باب منه على خمسة أنواع مشتملة على مايزيد على مائة كتاب ... ، وثاني عشر باب منه على نحو أربعين تفسيراً وهي على قسمين القسم الأول في تفاسير السلف مما غالبه مأثور، والثاني في تفاسير الخلف؛ فالأول، كتفسير ابن جريج الذي هو أول ماصنف في التفسير، وتفسير الامام مالك بن أنس رواية الجعابي، وتفسير السفيانين الثوري وابن عيينة، وتفسير الامام احمد، وتفسير ابن أبي شيبة، وتفسير ابن جرير الطبري، وتفسير ابن راهوية، وتفسير ابن مردويه، وتفسير عبدبن حميد، وتفسير وكيع، وتفسير أبي العالية، وتفسير مجاهد، وتفسير الضحاك، وأضرابهم؛ والقسم الثاني، كتفسير ابن عطية والقرطبي، والبغوي، والثعالبي، وتفاسير الواحدي الثلاثة، والكشاف للزمخشري، ومختصر للكواشي، وتفسير الديريني والبيضاوي، والنسفي وأبي الليث السمر قندي، والبكري، والقشيري، والحاتمي، والغزالي، والحداد، والغزنوبي، وأبي حيان البحر والنهر، والجلالين، والدر المنثور للسيوطي، وابن جُزَيّ والثعالبي، وأبي السعود وأضرابهم (1).
إن ابن السنوسي -رحمه الله تعالى- اجتهد في طلب العلم، وشد الرحال الى العلماء، وقد ذكر في كتابه المنهل الروي الرائق، اسماء العلماء والشيوخ، والفقهاء الذين أخذ عنهم، ولازمهم، ولقد كان على يقين راسخ أن الدعوة الى الاصلاح والنهوض بالأمة تحتاج الى العلم الرباني الذي هو ركن من أركان الحكمة ولذلك حرص على الوصول إليه، وطرق أسبابه والتي من أهمها:
_________
(1) انظر: المنهل الروي الرائق، ص8،12.(1/160)
أن يسأل العبد ربه العلم النافع، ويستعين به تعالى، ويفتقر إليه، وقد أمر الله نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - بسؤاله أن يزيده علماً الى علمه (1)، فقال تعالى: {وقل ربي زدني علما} (سورة طه، آية 114).
ومنها: الاجتهاد في طلب العلم، والشوق إليه، والرغبة الصادقة فيه ابتغاء مرضاة الله تعالى، وبذل جميع الأسباب في طلب علم الكتاب والسنة (2)، وما أروع ما قال الشافعي:
أخي لن تنال العلم إلا بستة
سأنبك عن تفصيلها ببيان
ذكاء، وحرص، واجتهاد، وبلغة
وصحبة أستاذٍ طول زمان (3)
ومنها: اجتناب جميع المعاصي بتقوى الله تعالى فإن ذلك من أعظم الوسائل الى حصول العلم.
قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً} (سورة الأنفال، آية 29).
ومنها: عدم الكبر والحياء عن طلب العلم، قال مجاهد: (لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبر) (4).
ومنها، بل أعظمها ولُبُّها: الإخلاص في طلب العلم، قال - صلى الله عليه وسلم -: (من تعلم علماً مما يبتغي به وجه الله -عز وجل-، لايتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة) (5) يعني ريحها.
العمل بالعالم (6): لأن العلم لايكون ركناً من أركان الحكمة، ودعائمها إلا بالعمل، والإخلاص، والمتابعة (7).
هذه بعض الاسباب التي اتخذها ابن السنوسي حتى وصل الى ما وصل إليه،
_________
(1) انظر: تفسير الامام البغوي (3/ 233).
(2) انظر: تفسير السعدي (5/ 194).
(3) انظر: ديوان الشافعي، ص116.
(4) انظر: البخاري مع فتح، كتاب العلم، باب الحياء في العلم (1/ 228).
(5) انظر: ابو داود، باب في طلب العلم لغير الله (3/ 323).
(6) انظر: الحكمة في الدعوة الى الله، سعيد القحطاني، ص53.
(7) المصدر السابق نفسه، ص53.(1/161)
وكان عظيم الاحترام للعلماء، ويرى لا وصول الى العلم النافع بعد توفيق الله إلا من خلالهم وما أجمل ما قاله السخاوي: (من دخل في العلم وحده خرج وحده) أي من دخل في طلب العلم بلا شيخ خرج منه بلا علم (1).
ثانياً: الدرر السنية في أخبار السلالة الأدريسية:
وهذا الكتاب ألفه ابن السنوسي في التاريخ، ويتحدث عن ملوك الأدارسة الذين حكموا المغرب، الدول التي أقاموها. وفي مقدمته يتحدث عن فضل علم التاريخ، فنقل ماقاله المقريزي: (لاخفاء أن معرفة علم التاريخ المشتمل على علم الأنساب من الأمور المطلوبة، والمعارف المندوبة، لما يترتب عليه من الاحكام الشرعية والمعارف الدينية، ... ) (2)، وذكر أن من الصحابة كان أبوبكر - رضي الله عنه - نسابة قريش، ومن أعلم الصحابة في معرفة القبائل وأصولها، وفروعها، وتحدث عمن ألف في علم التاريخ. وذكر منهم؛ عبيد القاسم بن سلام، والبيهقي، وابن عبد البر، وابن حزم وغيرهم، ثم قال وذلك دليل شرفه ورفعة قدره) (3) وهذا الكتاب يحتوي على مقدمة وست دول، الدولة الأولى الفاسية وما في ايالتها، الدولة الثانية التلمسانية وما في نواحيها، الدولة الثالثة الغمارية وما في حكمها، الدولة الرابعة السبتية وما في حكمها، الدولة الخامسة الاندلسية وما في حكمها، الدولة السادسة الصحراوية وما في حكمها) (4) ثم اشار الى المراجع التي تعين الطالب على الإلمام بهذه الدول فقال: (وسترى لك واحدة بياناً شافياً على ما عند صاحب القرطاس والمغرب، ومافي العبر لابن خلدون التونسي، وما في سلاسل الفصول لابن خلدون التلمساني ومافي عمدة الطالب لابن عنبة) (5).
قام ابن السنوسي في هذا الكتاب بسرد أخبار هذه الدول، وتطرق الى تاريخ
_________
(1) انظر: كتب في الساحة الاسلامية، عائض القرني، ص9.
(2) انظر الدرر السنية في أخبار السلالة الأدريسية، ص5.
(3) المصدر السابق نفسه، ص7.
(4) انظر: الدرر السنية في أخبار السلالة الأدريسية، ص9.
(5) المصدر السابق نفسه، ص9.(1/162)
الفتح في المغرب، والى مجيء ادريس الأكبر إليه، ثم ختم كتابه بذكر اسماء حكام المسلمين من عهد الراشدين (1) وذكر خامسهم الحسن بن علي - رضي الله عنه -. ثم اثبت ذكر خلفاء بني أمية جميعاً، حتى إذا فرغ من ذلك اتبعهم بخلفاء بني العباس (2)، ونلاحظ في مقدمة الكتاب اعتقاد ابن السنوسي بوجوب كون الأئمة من قريش وكان اسلوبه في كتابه هذا الكتاب على منوال أساليب مؤرخي المسلمين عامة، وهو فيه يقوم بالسرد دون التحليل والتعليل ومادة الكتاب تدل على غزارة اطلاع ابن السنوسي (3) وتذوقه للشعر حيث نجد مقتطفات جميلة من الأشعار، كقول إدريس بن إدريس لنفسه:
لو مال صبري بصبر الناس كلهم
لكل في روعتي وظل في جزعي
بات الأحبة واستبدلت بعدهم
همّاً مقيماً وسلماً غير مجتمع
كأنني حين يجري الهم ذكرهم
على ضميري مجبول على الفزع
تأوى الهموم إذا حركت ذكرهم
إلى جوارح جسم دائم الجزع (4)
وكقول أبي محجن الثقفي الذي تمثل به أبو المهاجر دينار قبل استشهاده مع عقبة:
كفى حزنا أن تطعن الخيل بالقنا
وأترك مشدوداً علي وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وأغلقت
مصارع أبواب تضم المناديا (5)
وكقول الإمام ابن غازي:
وفتح الغرب لسوس الأقصى
موسى وطارق بما لايحصى
وجاءنا إدريس عام قعب
وبنيت فاس في عام قضب (6)
_________
(1) انظر: الحركة السنوسية، ص140.
(2) انظر: السنوسية دين ودولة، ص42.
(3) انظر: الحركة السنوسية، ص141.
(4) انظر: الدرر السنية، ص12.
(5) المصدر السابق نفسه، ص30.
(6) المصدر السابق نفسه نص41.(1/163)
وكقول الحسين بن علي - رضي الله عنه -:
وإن تكن الدنيا تعد نفيسة
فإن ثواب الله أعلى وأنبل
وإن تكن الأرزاق قسماً مقدراً
فقلة حزم المرء في الكسب أجمل
وإن تكن الأموال للترك جمعها
فما بال متروك به المرء يبخل (1)
وكقول الفقيه أبي عبد الله المغيسي في وصف فاس متشوقاً إليها حين ولي القضاء بمدينة آزمور، حيث قال:
يافاس حيا الله ارضك من ثرى
وسقاك من صوب الغمام المسبل
ياجنة الدنيا التي أربت على
حمص لمنظرها البهي الأجمل
غرف على غرف ويجري تحتها
ماء ألذ من الرحيق السلسل
وحدائق من سندس قد زخرفت
بجداول كالأيم أو كالفيصل
وبجامع القروي شرف ذكره
أنسى بذكراه بهيج مؤمّلى
وبصحنه زمن المصيف محاسن
فوق العش الغرب منه استقبل (2)
كما أن في هذا الكتاب يتعرض لذم المبتدعة، كالرافضة والمعتزلة، والجبرية، وقال: ذكر أهل العلم من فضائل المغرب أن الله حماه من فرق المبتدعة، كالمعتزلة، والرافضة، والجبرية (3)، كما يعرض بمذهب محمد بن تومرت عندما تعرض لشيوخه ورحلته في طلب العلم حيث قال: ( .. وذهب الى رأيهم في تأويل المتشابه من الآيات، والأحاديث، بعد أن كان أهل المغرب بمعزل عن أتباعهم في التأويل، والأخذ برأيهم فيه اقتداء بالسلف في ترك التأويل، وإقرار المتشابهات، كما جاءت، فمنع أهل المغرب من ذلك وحملهم على القول بالتأويل، والأخذ بمذاهب الأشعرية في كافة العقائد، وأعلن بإمامتهم، ووجوب تقليدهم وألف العقائد على رأيهم مثل (المرشدة) (4) في التوحيد، وكان من رأيه القول بعصمة الامام على رأي الإمامية من
_________
(1) انظر: الدرر السنية، ص72.
(2) انظر: الدرر السنية، ص99.
(3) المصدر السابق نفسه، ص90.
(4) لقد ذكرت تفنيد عقائد المرشدة في كتابي دولة الموحدين، ونقلت، ماقاله ابن تيمية في الفتاوى.(1/164)
الشيعة، وألف في ذلك كتابه في الإمامة الذي افتتحه بقوله (أعز مايطلب) وصار هذا المفتتح لقباً على ذلك الكتاب ... ) (1).
إن ابن السنوسي في دراسته الطويلة لم يهمل الجانب التاريخي، لقناعته الراسخة، بأهمية هذا العلم في تحقيق الفوائد التربوية، وادراك السنن الربانية، ومعرفة معالم تاريخ الإنسانية، ومعرفة تاريخ الأنبياء، ومعرفة سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومعرفة تاريخ الخلفاء الراشدين، وسير العلماء والمجاهدين والدعاة، وأثر الاسلام في حياة البشر، والتعرف على بعض الحقائق الهامة في حياة البشر، ككون الإنسان يحتاج الى التذكير، ولابد من الصبر على المشاق لتحقيق الأهداف النبيلة، ... الخ.
ثالثاً: ايقاظ الوسنان في العمل بالحديث والقرآن:
تحدث ابن السنوسي في هذا الكتاب عن وجوب العمل بالحديث والقرآن الكريم، وقد صنفه في مقدمة ومقصد، وخاتمة، أما المقدمة، فقد بين فيها جلالة مقدار الأئمة، فقال: أعلم أنه يجب على المسلمين، بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين، وبالخصوص موالاة العلماء العاملين، الذين حازوا بوراثة الأنبياء كل فخر، وصاروا نجوم هدى يقتدى بهم في ظلمات البر والبحر، واجمع العلماء على هدايتهم ودرايتهم، إذ كل أمة بعد بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - علماؤها شرارها، إلا المسلمين؛ فعلماؤهم خيارهم، فإنهم خلفاء الرسول في أمته والمحيون لما مات من سنته، بهم قام الكتاب وقاموا به، وبهم نطق وبأسراره نطقوا كل بحسبه، فلا يجوز لأحد أن يعتقد أن أحداً من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولاً عاماً يتعمد مخالفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في شيء من سنته جل أو دق كيف وهم محيوها والمتفقون اتفاقاً يقينياً على وجوب اتباعها وانه يؤخذ من قول كل أحد ويترك إلا قوله - صلى الله عليه وسلم - (2).
إن أبن السنوسي سار على منهج، اهل السنة والجماعة في نظرته الى علماء الأمة قال الطحاوي -رحمه الله-: (وعلماء السلف من السابقين، ومن بعدهم من
_________
(1) انظر: الدرر السنية، ص119.
(2) انظر: إيقاظ الوسنان، ص12.(1/165)
التابعين، أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر، لايذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم يسؤ فهو على غير السبيل).
ثم اعتذر للعلماء الذين خالفوا ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال لابد أن لهم عذر وجماع الأعذار ثلاثة:
1 - عدم اعتقاده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله.
2 - عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول ترجع الى عشرة اسباب هي؛ عدم بلوغ الحديث، عدم ثبوته، وضعفه بالأسباب المعروفة من فن مصطلح الحديث، أو اشترط مالا يشترط غيره، أو عدم الدلالة منه أو عدم اعتبارها أو معارضتها، بما يدل على أنها غير مرادة أو معارضة الحديث بما يدل على ضعفه أو نسخه أو تأويله بما يصلح كونه معارضاً أو بما ليس من جنس المعارض، وشرع ابن السنوسي في ضرب الأمثلة من حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، واجتهادات الصحابة الكرام (1) ثم تحدث عن امكانية أن يقع العلماء والفقهاء والقضاة وكذلك أعيان العلماء في الأخطاء المخالفة للسنة، فقال: ( .. فإنا لانعتقد عصمة القوم بل نجوز عليهم الذنوب ونرجوا لهم مع ذلك أعلى الدرجات لما اختصهم الله به من الأعمال الصالحة والأحوال السنية وليسوا بأعلى درجة من الصحابة التي كانت بينهم وغيرها ويؤيد ذلك تحذير سلف الأمة من الصحابة، والتابعين، وتابعيهم ولاسيما الأئمة الأربعة ولاسيما الأئمة الأربعة من مخالفة الحديث وخصهم على وجوب العمل به مع مخالفة (رأي كائن من كان) (2) واستدل بأقوال بعض الصحابة في هذا المعنى منها:
- عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال (تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) فقال عروة: (نهى أبو بكر وعمر عن المتعة)، فقال: أقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويقولون قال أبو بكر وعمر (يوشك أن ينزل عليهم حجارة من السماء) وذكر أقوال للصحابة في هذا المعنى ثم بين أن حافظ المغرب ابن عبد البر وصلها في مؤلفاته
_________
(1) انظر: ايقاظ الوسنان، ص12 الى 22.
(2) المصدر السابق نفسه، ص23.(1/166)
بأسانيد جيدة حذفها ابن السنوسي من باب الاختصار، وذكر أقوال الأئمة الأربعة وبين أن قولهم إذا خالفه سنة الرسول، فهو مردود ومن ذلك:
- قيل لأبي حنيفة رضي الله عنه إذا قلت قولاً وكتاب الله يخالفه قال اتركوا قولي لكتاب الله، فقيل إذا كان خبر رسول الله يخالفه فقال: (اتركوا قولي لخبر الرسول) فقيل إذا كان قول الصحابي يخالفه قال (اتركوا قولي لقول الصحابي) (1).
- قال مالك ابن أنس: (إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأي فكل ماوافق الكتاب والسنة فخذوه وكل مالم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه) (2).
- وأما الشافعي فسأله رجل عن مسألة، فقال يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (كذا وكذا) فقال له السائل يا أبا عبد الله أتقول بهذا فارتعد الشافعي واصفر وحال لونه وقال: (ويحك وأي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا رويت عن رسول الله شيئاً ولم أقل نعم على الرأس والعين نعم على الرأس والعين قال وسمعته يقول مامن أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعزب عنه، فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل وفيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلاف ماقلت فالقول ماقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو قولي) (3).
إن ابن السنوسي من خلال بحثه النزيه خرج بنتيجة مفادها أن ماخالف الكتاب والسنة، والإجماع من أقوال المجتهدين وآرائهم ليس مذهباً لهم، ويتعين على المتمسكين بمذاهبهم أن يعتنوا بالكتاب والسنة وأقوال العلماء ليعلموا بذلك ماهو مذهب لإمامهم خلاف مالهج به المتأخرون من فقهاء المذاهب الأربعة من اقتصارهم على المختصرات الخالية من الدليل، وإعراضهم كل الإعراض عن كتب الحديث، وأصول الحديث، والفقه؛ فهم على هذا أجهل الناس بمذاهب أئمتهم (4).
_________
(1) انظر: ايقاظ الوسنان، ص23.
(2) المصدر السابق نفسه، ص24.
(3) المصدر السابق نفسه، ص25.
(4) انظر: ايقاظ الوسنان، ص27.(1/167)
ونقل قولاً للإمام أحمد، قال: قال ناصر السنة الإمام احمد بن حنبل لأبي داود وقد سأله أيتبع الأوزاعي أم مالك قال: (لا تقلد دينك أحداً من هؤلاء ماجاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فخذ به) وذكر أن الرجل مخير في التابعين، وقد فرق - رضي الله عنه - بين التقليد والاتباع فقال ابو داود سمعته يقول الاتباع أن يتبع الرجل ماجاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ثم هو فيمن يعد من التابعين مخير وقال لأبي داود لاتقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي ولا الأوزاعي، ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا وقال من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال (1).
إن ابن السنوسي في كتابه ايقاظ الوسنان حارب التقليد الأعمى والتعصب لأنه رأى أن ذلك من أعظم أسباب التفرق والانحراف عن منهج الله الرباني، ومن أهم العوامل التي ادت الى انتشار البدع والأهواء بين الناس، وفشت في أوساطهم، وحالت بينهم وبين سماع الحق والهدى، وتركوا بسببها طريق الكتاب والسنة المطهرة،
إن التقليد الأعمى والتعصب، يؤديان الى مهاوي الردى، ويقودان صاحبهما الى مسالك الغواية والضلال، ويصدان عن اتباع النور والهدى، فتكون نتيجته تخبطاً وانتكاساً في الدنيا، وهلاكاً وخسراناً في الآخرة (2).
لقد انتشر مرض التعصب والتقليد في شعوب الامة الاسلامية، لاسيما في العصور المتأخرة، فأصبح هو الأساسي والأصل، ونتج عن تفشيه نتائج وخيمة وأمور جسيمة (3).
لقد حارب ابن السنوسي التقليد والتعصب ورأى أن تلك الخلوة مهمة للأخذ بأسباب النهوض.
لقد تعرض ابن السنوسي في كتابه ايقاظ الوسنان، لمن أعمته العصبية عن الحق وزعم: (إن الكتاب والسنة مشتركان بين أثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي منحصرة في مقلدي الأربعة) (4).
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص29.
(2) انظر تفسير ابن كثير (2/ 213).
(3) انظر: فقه التمكين في القرآن الكريم، لعلي محمد الصلابي، ص251.
(4) انظر: إيقاظ الوسنان، ص31.(1/168)
وناقش من قال بذلك القول وطرح عليه اسئلة منها ماهو رايه في من تمسك بالكتاب والسنة، من أصحاب القرون المفضلة الثلاثة؟ فإنهم ماقلدوا الأربعة حتى يخرجهم الاستثناء عن الحكم بما قبله ويرد على أصحاب ذلك الزعم بقوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} {ولاتكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا} {فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق}.
وفسر حبل الله بكتابه، واستدل بأحاديث شريفة، وبين أن الفرقة الناجية ماكانت على ماكان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه (1). وقال فإن من توهم أن مذاهب الأئمة الأربعة هي ماكان عليه وأصحابه، كان ملتزماً أن كل ما خالف لهم من الصحابة ومن بعدهم، وأصحاب المذاهب المشهورة مخطئ في جميع ماخلفهم فيه، وهم المصيبون في كل خلاف؛ فانظر هل يستند هذا الى نقل أو يقبله عقل (2)؟
وردّ على من كفر مسلماً بشبهة، وقال وأعجب من هذا كله التكفير المرتب على الشبهة التي ستراها في عبث الحق غثاء دون مبالاة يقول الصادق - صلى الله عليه وسلم -: (من كفر مسلماً فقد كفر)، وبقوله: (إذا قال الرجل لأخيه ياكافر فقد باء بها أحدهما) وذكر أقوال العلماء فقال: قال الرافعي في العزيز نقلاً عن التتمة فإنه إذا قال لمسلم ياكافر بلا تأويل كفر لأنه سمى الاسلام كفراً، ومثله للنووي في الروضة نقلاً عن المتولي، واعتمد ذلك المتأخرون كأبن الرفعة، والقمولى والنثيائي والاسنوي والأذرعي، وأبي زرعة، وصاحب الأنوار، وشارح الأنوار وغيرهم؛ جزموا به من غير عذر ولم ينفرد المتولي بذلك بل سبقه إليه ووافقه عليه جمع من الأصحاب منهم؛ الاستاذ أبو اسحاق الإسفرائني، والحليمي، والشيخ نصر المقدسي، والغزالي، وابن دقيق العيد، بل قضية كلام هؤلاء أنه لافرق بين أن يؤول أولا كما تدل عليه عباراتهم التي ذكرها عنهم العلامة ابن حجر في الأعلام؛ وقال فيه مانصه ووقع في الحديث روايات لابأس بالأشارة إليها فقد روى مسلم: (إذا
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص32.
(2) انظر: ايقاظ الوسنان، ص32.(1/169)
كفّر المسلم أخاه فقد باء بها أحدهما) وفي رواية له (ايما رجل قال لأخيه كافر فقد باء بها أحدهما) إن كان كما قال وإلا رجعت عليه، وفي رواية له أيضاً (ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر) ومن دعا رجلاً بالكفر أو قال عدو الله، وليس كذلك إلا حار عليه وفي رواية ابي عوانة، فإن كان كما قال وإلا باء بالكفر، وفي رواية (إذا قال لأخيه ياكافر، فقد وجب الكفر على أحدهما) ومعنى كفّر الرجل أخاه وصفه بالكفر ونسبة إليه في خير كرأيت كافراً أو نداء كيا كافر، أو اعتقاده الكفر فيه، كاعتقاد الخوارج كفر المؤمنين بالذنوب، وليس من ذلك تكفير جماعة من أهل الأهواء لما قام عندهم من الدليل على ذلك، ومعنى باء بها أحدهما رجع بكلمة الكفر انتهى من الأعلام بإيجاز، وذكر فيها وجوهاً في تأويل الحديث الى أن قال الثالث أنه محمول على
الخوارج المكفرين للمؤمنين، وهذا نقله القاضي عياض وهو ضعيف لان المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون، والمحققون، إن الخوارج لايكفرّون كسائر أهل البدع، .... وفي الدرة البهية في جواب سؤال عمن كفّر مسلماً بنحو هذا مانصه مع تغيير يسير في اللفظ لم يدر هذا القائل مقدار ماقال، ولم يتنبه لما يلزمه في هذا الضلال من الوبال وقد ورد (إذا قال الشخص للشخص ياكافر فقد باء بها أحدهما) ثم تعجب منه كيف يتجرأ على تكفير المسلمين بما ذكر فكأنه، يريد قصر الاسلام على نفسه، وأنه ليس لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أمة ناجية غيره وغير من وافقه على ماقال وليته اعتبر بقوله تعالى: {ولا تقول لمن ألقي إليكم السلام لست مؤمنا} وقد تحرزت الأمة قديماً وحديثاً من تكفير المسلم وحذروا من المبادرة فيه مهما أمكن، فقال حجة الاسلام الغزالي الذي ينبغي أن يميل إليه المحصل الاحتراز من التكفير مهما وجد إليه سبيلا (فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين الى القبلة المصرحين بقول لا إله إلا الله خطأ) والخطأ في ترك الكافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمه من دم مسلم ....
وقد قيل لمالك أيكفر أهل الأهواء؟ فقال هم من الكفر فروا، وقد سئل تقي الدين السبكي؟ رحمه الله: عن حكم تكفير غلاة المبتدعين فقال: (أعلم أيها السائل إن كل من خاف من الله عز وجل استعظم القول بالتكفير لمن يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله) إذ(1/170)
التكفير أمر هائل عظيم الخطر لأن من كفّر شخصاً، فكأنه أخبر أن عاقبته في الآخرة الخلود في النار أبد الآبدين، وأنه في الدنيا مباح الدم والمال، ولايمكن من نكاح مسلمة ولا تجري احكام المسلمين لا في حياته ولابعد مماته، والخطأ في ترك ألف كافر أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم امرئ مسلم وفي الحديث (لأن يخطئ الامام في العفو أحب الى الله من أن يخطئ في العقوبة)، فما بقي الحكم بالتكفير إلا لمن صرح بالكفر واختاره دينا وجحد الشهادة، وخرج من دين الاسلام جملة (1).
وذكر ابن السنوسي حكاية لطيفة تدل على ابعاد عميقة لفهم قضية التكفير وهي: أن شخصاً بمصر وقع في عبارة موهمة للتكفير فأفتى علماء مصر بتكفيره، فلما أراد قتله قال السلطان هل بقي أحد من العلماء لم يحضر قالوا نعم (الشيخ جلال الدين المحلى شارح المنهاج)، فأرسل إليه السلطان، فحضر فوجد الرجل في الحديد بين يدي السلطان، فقال الشيخ مال هذا، فقالوا كفر؛ فقال مامستند من أفتى بتكفيره، فبادر الشيخ صالح البلقيني، وقال قد أفتى والدي شيخ الاسلام الشيخ سراج الدين في مثل ذلك بالتكفير؛ فقال ياولدي أتريد أن تقتل مسلماً موحداً يحب الله ورسوله لفتوى أبيك حلوا عنه الحديد؛ فجردوه وأخذه الشيخ جلال الدين بيده وخرج والسلطان ينظر؛ فما تجرأ أحد يتكلم (2).
ثم بعد ذلك دخل ابن السنوسي في الباب الأول، وتحدث فيه على وجوب التمسك بالكتاب والسنة، وبين ان دلالة الكتاب والسنة واحدة، وذكر أدلة وجوب اتباعهما، وتقديمهما على رأي كل مجتهد، وتحدث عن عمل الأصوليين، والمحدثين، والفقهاء بالحديث، وطريقة كل قوم، أما في الباب الثاني؛ فبين حقيقة الاجتهاد وأنواعه، وفيما يشترط في المجتهد من الشروط الوصفية والإيقاعية، ووضح حرمة الاجتهاد مع النص في كل ماعمّ وخص، ورد زعم من قال بإنقطاع ودعو أنه إجماع، وذكر الأدلة الشرعية التي تذم التقليد المذموم، وفنّد دعوة القائلين في انحصار التقليد للأئمة الأربعة.
_________
(1) انظر: ايقاظ الوسنان، ص37.
(2) انظر: ايقاظ الوسنان، ص37.(1/171)
إن دعوة ابن السنوسي لفتح باب الاجتهاد للقادرين عليه، ومحاربة التقليد المذموم، تعني أنه بذلك حارب اسباب الفرقة الداخلية، كالجهل، واتباع الهوى، والابتداع، فالجهل من أعظم أسباب الوقوع في المحرمات جميعها من كفر وفسوق وعصيان، ومن أعظم الجهل القول على الله بغير علم، وقد جعله الله عز وجل أعلى مراتب المحرمات، وأعلى درجة من الإشراك به سبحانه قال تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ماظهر منها وما بطن والأثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله مالم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله مالا تعلمون} (سورة الأعراف، آية 33).
إن ابن السنوسي دعا الناس، بأن يأخذوا الحق ويبحثوا عنه من مصدره الصحيح، كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وبين في كتابه النفيس إيقاظ الوسنان في العمل بالحديث والقرأن، أن أي حكم لم يقم عليه دليل ولا برهان من وحي الله؛ فإنه باطل مرفوض، وعلاج مرض الجهل بالدواء الناجع ألا وهو العلم بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
إن من أخطر الأمور أن يكون على مقدمة الحركات الاسلامية، قيادة تجهل كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا تعطي للعلماء أي وزن أو اهتمام، بل تعلم على تهميشهم والنيل منهم، وتجعل من عقولها وأهوائها مصادر للاجتهادات الحركية، والفكرية، والسلوكية، ومن المعلوم أن ماسوى الشرع موزون وليس بميزان، ومحكوم وليس بحاكم (1).
إن كتاب ابن السنوسي ايقاظ الوسنان في العمل بالحديث والقرآن يدل الباحث على تأثره بالمنهج السلفي ويظهر فيه تأثره بأفكار ابن تيمية الذي ناد قبله بستة قرون بالتمسك بالكتاب والسنة، وحارب التقليد الاعمى والتعصب المذهبي، ويبدو أن اطلاعه على كتب ابن تيمية كان في زمن اقامته في الحجاز، كما تعرّف على آرائه من خلال احتكاكه بدعاة السلفية، من تلاميذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذين تبنوا كتب ابن تيمية وابن القيم، وكتب اهل السنة والجماعة عموماً، ولو قارن الباحث بين كتاب رفع الملام في الأئمة الأعلام لابن تيمية، وايقاظ الوسنان لوجد تأثر الثاني بالأول، ظاهر العيان.
_________
(1) انظر: فقه التمكين، ص245.(1/172)
إن ابن السنوسي لم يكتفي في دعوته لفتح باب الاجتهاد ومحاربة التقليد بالقول، ولكنه قرن قوله بالعمل، حيث خالف مذهبه المالكي في عدة مسائل منها؛ رفع اليدين في الصلاة، حكم القبض، حكم السكتات الثلاث، حكم الاستعاذة، حكم البسملة للفاتحة والسور، حكم التأمين، حكم التكبير لقيام الثالثة، حكم السلام، والخروج من الصلاة، حكم القنوت، ورفع اليدين فيه حال الدعاء، حكم تطويل الصلاة، وتقصيرها المشروعين (1) والمتطلع على كتابه المسائل العشر يرأى قوته في إقامة الحجة على ماذهب إليه من خلال احاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - واقوال العلماء، ويذكر ادلته التي خلف فيها المذهب الملكي.
لقد نال ابن السنوس رضى علماء المسلمين بسبب اجتهاده في الدين وعدم تقيده بمذهب من المذاهب، حيث جعل رائده العمل بالكتاب والسنة ولم يقدم عليهما اقوال العلماء والفقهاء، وبسبب دعوته المخلصة التي أثرت في قبائل ليبيا، والصحراء الكبرى وأفريقيا، والتي اصبحت فيما بعد كتائب للجهاد في سبيل الله تعالى (2).
إن كتاب إيقاظ الوسنان في العمل بالحديث والقرآن يوضح لنا معالم سلفية سنية في منهج الحركة السنوسية.
كانت خاتمة كتاب إيقاظ الوسنان في سنن أهل الله وسبيل عملهم فبين فيها مجموعة من الأصول والقواعد في علم التصوف منها:
* إن حكم أهل السلوك في هذا حكم المحديثين في العقائد والفروع وهي عقيد السلف (3).
* (الطرق كلها مسدودة إلا على من اقتفى أثر الرسول - صلى الله عليه وسلم -) (4)، ونسب هذا القول للجنيد وقال أيضاً: عملنا مقيد بالكتاب والسنة فمن لم يستمع الحديث ويجالس الفقهاء ويأخذ أدبه من المتأدبين أفسد من يتبعه.
_________
(1) انظر: المسائل العشر، ص5 الى 74.
(2) انظر: السيد محمد رشيد رضا، محمد درنيقة، ص203.
(3) انظر: ايقاظ الوسنان، ص128.
(4) المصدر السابق نفسه، ص130.(1/173)
وقال سهل بن عبد الله التستري بنيت أصولنا على ستة أشياء (كتاب الله وسنة رسوله وأكل الحلال وكف الأذى، واجتناب الأثام وأداء الحقوق) (1).
وقال أبو عثمان الجبري: (من أمر السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة. ومن أمر الهوى نطق بالبدعة) (2).
وقال أبو العباس بن عطاء الله (من ألزم نفسه آداب السنة نوّر الله قلبه بنور المعرفة) (3).
ثم بين ابن السنوسي أنه لامقام أشرف من متابعة الحبيب - صلى الله عليه وسلم - في الأفعال والأقوال والأوامر والأخلاق (4).
وبين خطورة الهوى استدل بقول ابن عطاء في حكمه (لايخاف عليك) أن تلتبس الطرق عليك وإنما يخاف عليك من غلبة الهوى عليك) (5).
وقال أيضاً: (تمكن حلاوة الهوى من القلب هو الداء العضال) وقال بعضهم (نحت الجبال بالأظافير أيسر من زوال الهوى) (6) إذا تمكن قال تعالى: {أفرأيت من أتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم}.
وبين ابن السنوسي: أن كل طريق لم يمشي فيه الشارع - صلى الله عليه وسلم - فهو ظلام ولا يكون أحد ممن يمشي فيه على يقين من السلامة، وعدم العطب لأنه - صلى الله عليه وسلم - هو الإمام وهو النور، والمأموم إذا خرج عن اتبّاع إمامه وتعد ماحده له مشي في الظلام بقدر بعده عن شعاع نور إمامه ولهذا تجد كلام أئمة المذاهب كلهم نوراً صرْفاً لا إشكال فيه لقربهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخلاف غيرهم ولهذا المعنى أشار - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (رحم الله أمراً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها) يعني حرفاً بحرف من غير زيادة على ماشرعته أو نقصٍ عنه فسّر - صلى الله عليه وسلم - بأن الابتداع هو الزيادة على التشريع (7).
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص130.
(2) المصدر السابق نفسه، ص130.
(3) المصدر السابق نفسه، ص131.
(4) المصدر السابق نفسه، ص131.
(5) انظر: ايقاظ الوسنان، ص131.
(6) المصدر السابق نفسه، ص131.
(7) المصدر السابق نفسه، ص132،133.(1/174)
لقد كان التصوف عند ابن السنوسي وسيلة لتربية النفس وتزكيتها، والسمو بها نحو المعالي، وكان تصوفه له مقياس دقيق (كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -)، فأهتم ابن السنوسي بالعلم الرباني، وتربية النفس، وهذا يظهر من خلال دراسة كتابه ايقاظ الوسنان في العمل بالحديث والقرآن، وقد ختم ذلك الكتاب بهذه العبارات الجميلة (والله الهادي الى الصواب لا رب غيره لا خير إلا خيره عليه توكلت وإليه أنيب وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الذين نالوا ذرى المجد بصحبته، وبلغوا كمال الكرم والشرف برؤيته نسأل الله عز وجل أن يحشرنا في وفدهم إليه وأن ينيلنا مما أعده لهم لديه، إنه كريم رحيم حليم عظيم) (1).
إن ابن السنوسي كان جرئياً في طرح أفكاره التي كانت على جانب كبير من الأهمية بالقياس الى عصره الذي تجمد فيه الفكر، وتأخر فيه العلم، وابتعد الناس عن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت دعوته للتمسك بالكتاب والسنة مبنية على علم غزير، وحجج دامعة، وبراهين ساطعة، وكان متأدباً غاية التأدب مع العلماء، فهو لاينكر فضل الأئمة ولكنه يأبى الوقوف عند حدود ما قالوه مادام بالإمكان الرجوع الى النبع والاطلاع على أحاديث قد لايكونوا وصلوا إليها، ومادام بالإمكان التفكير والاستنباط مع ملاحظة تغير الظروف (2).
كان ابن السنوسي المؤرخ يمتاز بغزارة معلوماته، ويعتز بتاريخ أجداده، ويؤمن بضرورة حصر الإمامة في قريش ومع هذا ساند الدولة العثمانية حرصاً على وحدة الأمة، ودحر أعدائها وكان اسلوبه في كتابة التاريخ على نمط مؤرخي المسلمين، ويقتصر على سرد الحوادث.
كان ابن السنوسي فقيهاً متصوفاً، اهتم بالعلوم الفقهية، وغاص في معرفة حقائق النفوس البشرية، واستنبط منهجاً تربوياً لعلاج الامراض النفسية، والرقي بها نحو الكملات الإنسانية مسترشد بكتاب الله وسنة خير البرية.
_________
(1) انظر: ايقاظ الوسنان، ص139.
(2) انظر: الحركة السنوسية، ص151.(1/175)
المبحث الثالث
من أهم صفات ابن السنوسي
إن ابن السنوسي في سيرته العطرة اتصف بصفات الدعاة الربانيين، من الصدق، والاخلاص، والدعوة الى الله على بصيرة، والصبر، والرحمة، والعفو، والعزيمة، والتواضع، والارادة القوية التي تشمل قوة العزيمة، والهمة العالية، والنظام والدقة، والزهد، والورع، والاستقامة ... الخ، ونحاول في هذا المبحث أن نركز على بعض الصفات التي تميزت بها شخصيته الفذة:
أولاً: الحلم:
إن الحلم ركن من أركان الحكمة، وقد وصف الله نفسه بصفة الحلم في عدة مواضع من القرآن الكريم، كقوله تعالى: {ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم} (سورة آل عمران، آية 155).
وقد بلغ - صلى الله عليه وسلم - في حلمه، وعفوه الغاية المثالية، وكان ابن السنوسي شديد الاقتداء في كل احواله وأقواله، وأفعاله برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت له مواقف كثيرة تدل على حلمه، وضبطه لنفسه منها، ذكر أحمد الشريف في رحلته. ان رجلاً من الطريقة الدرقاوية، اساء الأدب مع ابن السنوسية أثناء نزوله بسيوه، وقال لابن السنوسي: نحن نكسر رؤس الرجال فقال له ابن السنوسي: أنتم تكسرون الدلاع (البطيخ). فلما سمع الاخوان بذلك أرادوا أذيته (يعني الرجل) فقال لهم الاستاذ: اتركوه عنكم واختفى الرجل خوفاً من الاخوان) (1).
ثانياً: العفو والصفح عند المقدرة:
ومن الصفات التي ظهرت في شخصية ابن السنوسي، حبه للعفو والصفح، فعندما نشب خلاف حول أملاكه مع بني عمه في الجزائر، وطالب ابناء عمه بحقوقه، فامتنعوا ورفع عليهم قضية وكسبها، ولم يدفع أولاد عمه المستحقات التي
_________
(1) انظر: الحركة السنوسية، ص155، 156.(1/176)
له، وقامت الحكومة بسجنهم، تنازل عن طلبه (1)، وعندما ناصبه العداء بعض العلماء تعصباً واندفاعاً وجموداً، واتهموه بالكفر، والمروق عن الاسلام، فقال ابن السنوسي عمن تولى الهجوم عليه، (عفى الله عن الشيخ عليش سامحه الله) (2).
ثالثاً: زهده:
كان ابن السنوسي زاهداً في الدنيا، راغباً في الآخرة، حريصاً على دعوة الناس للحق، ولم يحرص على جمع الأموال وحطام الدنيا الفاني وله اشعار تدل على زهده، وعلى حقيقة نفسه المنصرفة الى الله، المقبلة على متاع الروح، الزاهدة في لذائذ الدنيا ومتعها، وذلك إذ يقول:
إلا إنما الدنيا غضارة أيكة
إذا اخضر منها جانب جف جانب
هي الدار: ما الآمال إلا فجائع
علينا ولا اللذات إلا العطائب
ومالذة الأولاد والمال والمنى
لدينا ولا الآمال إلا المصائب
فلا تكتحل عيناك يوماً بعبرة
على ذاهب منها فإنك ذاهب
ومن أشعاره في التعبير عن زهده في الدنيا:
وهبني علمت الكيمياء ونلتها
وأتقنتها صبغاً واتقنتها صنعاً
ولخصت تسيير الكواكب كلها
ببحثي وتدقيقي ونلت بها مسعى
وملكت أموال البرايا بأسرها
وجالت يدي في أصفهان الى صنعا
أليس مصيري بعد ذلك كله
الى تحت هذا التراب في حالة شنعا
فقل للذي يمسى ويصبح همه
لغير رضا الرحمن: ياخيبة المسعى (3)
رابعاً: تواضعه:
ومن الصفات البارزة في شخصية ابن السنوسي صفة التواضع، فعندما دخل
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص58.
(2) انظر: السنوسي الكبير، ص26.
(3) انظر: دراسات وصور للحاجري، ص303.(1/177)
مكة، كان يسقي الناس ماء زمزم واتخذها حرفة وصار ملازماً لها فترة من الوقت، قربة الى الله (1)، وقد ذكر بن علي في فوائده الجلية أن ابن السنوسي كان ناذراً لله تعالى وقف نفسه على خدمة الكعبة المشرفة، تقرباً الى الله تعالى وتواضعاً، ومجاهدة لنفسه، وكان عازماً على المضي، غير أن الله تعالى رفع قدره وهيأه لما هو أعم وأنفع ومن تواضع لله رفعه الله (2) وقام بالوفاء بنذره واشترك في خدمة الحرم بقدر مايسر الله له (3).
لقد كان ابن السنوسي غاية في التواضع، وفي رسالة من رسائله الى أحد أخوانه تظهر هذه الصفة جلية حيث يقول: (والذي أوصى به نفسي وإخواني هو تقوى الله، وصية الله في الذين خلوا من قبل {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله}؛ باتباع أوامره، واجتناب نواهيه، والوقوف عند حدوده بأعمار الظواهر بالمجاهدات، وأعمار البواطن بالمشاهدات، .... ) (4).
فنلاحظ أن ابن السنوسي قرن نفسه بأخوانه مما يدل على تواضعه وجعل نفسه كأي واحد منهم، ومقامه منهم أوضح من الشمس في رابعة النهار.
خامساً: العفة والترفع عما في أيد الناس:
من الصفات البارزة في شخصية ابن السنوسي العفة والترفع عما في ايد الغير؛ فعندما حجت الى مكة والدة عباس باشا حفيد محمد علي باشا حاكم مصر، وسمعت بتقوى ابن السنوسي، وولايته ذهبت لزيارته في الزاوية فلم تجده، وجدت الشيخ عبد الله التواتي، فسألته: أنت الشيخ؟ فأجابها: انا عبد الشيخ. واخبرها أن الشيخ في الطائف؛ فقصدت الطائف وطلبت مقابلته بالحاح؛ فقابلها على مضض؛ فحدثته عن ابنها عباس وكيف يضطهده عمه ابراهيم باشا، وكيف أنها تخشي عليه من عمه؛ ثم سألته أن يدعو لابنها فدعا له بالتوفيق؛ فرغبت هي أن تقدم لإبن السنوسي هدية فمدت له صرة مملؤة ذهباً فرفضها؛ فلما ألحت أخبرها أنه لا يأخذ
_________
(1) انظر: السنوسي الكبير، ص11.
(2) انظر: الفوائد الجليلة (1/ 20).
(3) المصدر السابق نفسه (1/ 21).
(4) انظر: السنوسي الكبير، ص91.(1/178)
شيئاً وأن بإمكانها أن تعرض الصرة على التواتي في زاوية ابي قبيس؛ فعادت الى مكة وقدمتها للتواتي؛ فرفضها حيث وصلته تعليمات من شيخه بالرفض، ولما ألحت طلب منها أن توزعها على الفقراء لأن أتباع الزاوية ليسوا بحاجة، وعندما عادت الى مصر توفي محمد علي وابراهيم في سنة واحدة؛ فخلا كرسي الولاية واحتله ولدها (1)، وقد ربى أتباعه على العفة والترفع عن مافي ايد الناس، وقد ذكرت قصة مرتضى فركاش وحسين الغرياني مع البدو الذين أهدوا إليهم ابلاً وبقراً وغنماً، وكيف ردها ابن السنوسي وبين لهم: أن مهمة بعثاتنا تنحصر في تلقين قواعد الدين، والتعريف به، لا لأن تقبل الهدايا والهبات والتبرعات وطلب منهم أن لايرهقوا البدو حتى بتكاليف الضيف، وكان يزود الدعاة بجميع مايلزمهم (2) وكان يحث إخوانه من العلماء والشيوخ والدعاة، أن يتعلقوا بالله وحده يقول حيث يقول: ( ...
وورد من أحب شيئاً كان له عبداً، تعس عبد الدينار، وتعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتعش، وفي الحكم ما أحببت شيئاً إلا وكنت له عبداً، وهو لا يحب أن تكون لغيره عبداً، وإياك أن تطلب على عملك جزاء آجلاً أو عاجلاً، فيكون درى يقينك في الله آفلاً، أو تشهد أن لك في ذلك العمل أثر، فتشرك بخالق القوى والقدر، فإن الإخلاص له مراتب، فرتبة إخلاص العوام عدم طلب الثناء والسمعة، ورتبة إخلاص الخواص عدم طلب الجزاء الآجل أو المقامات المرتفعة، ورتبة إخلاص خواص الخواص التبري من الحول والقوة، ... ) (3).
لقد كان ابن السنوسي يحذر من الإنكسار في حب الدراهم والدينار، وكان يريد من إخوانه أن يتجردوا في أعمالهم ويجعلوها لله وحده.
سادساً: قوة الحجة، والقدرة على الإقناع والمناظرة:
عندما وجه على عشقر والي طرابلس اتهاماته لإبن السنوسي، استطاع ابن
_________
(1) انظر: الحركة السنوسية، ص97.
(2) انظر: السنوسي الكبير، ص87.
(3) المصدر السابق نفسه، ص89.(1/179)
السنوسي أن يبدد جميع الإتهامات، وطلب من الوالي العثماني أن يجمعه مع العلماء في طرابلس، وتألف مجلس من كبار العلماء، أحمد المقرحي، وكان من أبرز العلماء وأقربهم مكانة عند الوالي العثماني، والشيخ القزيري، البنغازي، وأخذ أعضاء المجلس العلمي يناقشون ابن السنوسي، وجاء رده حاسماً، وشاملاً بل ومحرجاً لبعض العلماء، فأيقنوا أنهم أمام محيط من العلوم الراسخة، والحجج الدامغة، والبراهين الساطعة، ومن ذلك الحين انضم الشيخ أحمد المقرحي، والشيخ علي القزيري إلى الإخوان وتجردوا لخدمة الحركة السنوسية، وانضم أيضاً على أشقر وأصبح من أتباع الطريقة السنوسية (1).
وكان من أساليبه في الإقناع، ضرب الأمثلة العملية الحية، وكان ذات مرّة في مجلسه بمكة يحف به بعض الزوار، فدخل شخص أجنبي له مظهره الملفت للنظر، وحيا الحاضرين ثم وجه سؤالاً علمياً معقداً إلى ابن السنوسي، كأنه يريد منه التعجيز، وكان ابن السنوسي مشغولاً بعمل باشره، وطلب السائل سرعة الجواب بصورة لفتت نظر الحاضرين، ففهم ابن السنوسي السائل وطمأنه بسرعة الإجابة، واستدعى تلميذه عبد الله التواتي وكان يقوم بنصيبه في العمل، وكان يومها يقوم بـ (عجن الطين) أثناء القيام بعملية بناء في زاوية مكة، وكان يرتدي لباس العمال، ولما استدعاه ابن السنوسي جاء مسرعاً بملابس، العمل وقد علق الطين الذي كان يقوم بعجنه في رجليه وهندامه، فقال له ابن السنوسي أجب سائلنا هذا عن سؤاله، كذا وكذا، واسترسل عبد الله في الإجابة الشاملة من ذاكرته، ولم يترك ثغرة في السؤال، وجاء بمختلف الأقوال في المسألة ثم ردها إلى حقيقتها، فتعجب الناس، وتحير السائل ثم اقتنع وقال: لايصح أن يكون مثل هذا الرجل الفاضل عاملاً وبهذه الصورة، فمن حقه أن يتصدر المجالس، فأجابه ابن السنوسي بقوله إن جماعتنا كلهم على هذا الغرار، ومن لم يصل منهم إلى هذا المستوى، فهو في طريقه إليه وهذا العمل الذي تعيبه عليهم لم يكن معيباً لهم أو لينقص من شأنهم وقيمتهم، إنهم
_________
(1) انظر: السنوسي الكبير، ص104.(1/180)
يعملون كما يأمر الإسلام لرفعة شأن المسلمين، وإننا نعدهم لمجد الإسلام، ولرفعة شأنه، فاعتذر السائل على ماظهر منه (1).
سابعاً: شعوره بالمسؤولية:
كان ابن السنوسي يستشعر مسؤوليته وواجبه المنوط به نحو عباد الله والأمانة التي تحملها لهدايتهم وإرشادهم، فكان ذلك دافعاً له للقيام بواجبه وأداء رسالته، وكانت هذه الصفة واضحة في شخصيته، وكان يستشعر بأنه مأمور بواجب الدعوة إلى الله، وفي خطواته التي سار عليها، وشعوره بالمسؤولية، جعله لايعرف المستحيل، وكان لايأمر بأمر إلا وقد نفذه على نفسه وأحب الناس إليه، وأقربهم منه (2)، وكان يقول لإخوانه ليس هناك على همة العاملين مايسمونه مستحيلاً إذا ما أخلصوا في عملهم وصدقت عزيمتهم، واتخذوا من القرآن الكريم دليلاً، وعرفوا معانيه وتدبروها كما يجب أن يتدبروها (3).
ثامناً: حليته:
كان أزهر اللون مدور الوجه أقنى الأنف خفيف العارضين واللحية، أشقر الشعر معتدل القامة، رقيق الحاجبين أزجهما، واسع الثغر، فصيح اللسان، جهوري الصوت مع رقة فيه، واسع العينين وفي احداهما انكسار لايكاد يظهر، طويل العنق، عريض الصدر والمنكبين من رآه مرة هابه وإذا خالطه وكالمه ألفه وأحبه (4).
تاسعاً: هوايته:
كان يهوى اقتناء الخيل، ويحسن ركوبها، إلى درجة عالية من المهارة، وكان يستطيع التقاط بعض الشئ من الأرض من على ظهر الجواد في أثناء عدوه، كما كان يستطيع الوقوف على رجليه، وعلى رأسه على ظهر الجواد أثناء عدوه، ويستطيع
_________
(1) انظر: السنوسي الكبير، ص98،99.
(2) انظر: برقة العربية أمس واليوم، ص180.
(3) انظر: السنوسي الكبير، ص117.
(4) انظر: الفوائد الجليلة (1/ 89).(1/181)
اصابة مايريده من المرمى، وكان يشجع اتباعه وإخوانه على تعلم الفروسية ويقول لهم: إن ذلك من صميم السنّة (1).
وفاته:
كان ابن السنوسي يشعر بالمرض، منذ مدة، وكان يصارعه بالصبر، وقوة العزيمة، فلم يركن للراحة، ويخضع لوطأة المرض، وشرع في إتمام ماعزم على إقامته، وحاول أن يتغلب على المتاعب والأمراض وكان يمهد الأمور لتولي ابنه محمد المهدي أمر زعامة الحركة السنوسية، ونجح في ذلك، وأقنع الإخوان، وزعماء القبائل بذلك، واشتد عليه المرض في شهر شعبان 1275هـ حتى صار يغيب عن احساسه، وكان يقول: (أهل الله حملونا شيئاً كثيراً لو نزل على الجبال الراسيات لما اطاقته) (2)، ثم ارتفع بعض ذلك المرض منتصف محرم عام ستة وسبعين ثم تزايد عليه الألم، والأسقام، وصار يغيب أحياناً، ويضيق أحياناً إلى أن دعاه مولاه يوم الأربعاء من صفر الخير بعد طلوع الشمس (3)، وهكذا انتقل إلى جوار ربه.
وقبل الدفن اجتمع الإخوان في المسجد يوم الخميس، وقام فيهم عمران بن بركة خطيباً فألقى كلمة قال فيها: ( ... حمداً لمن قضى على جميع العباد بالموت وسدد سهمه للإصابة في جميع الوقت، فلا حيف عن سلوك سبيله ولامناص، ولامحيد عن الوقوع في شركه، ولاخلاص، فلم ينج منه أمير ولاوزير، ولاغني ولافقير، ولاشريف، ولاوضيع، ولادني، ولارفيع، حكم بذلك على سائر رسله وأنبيائه وأهل حضرته من أصفيائه، وأوليائه، وعلى الموت نفسه بعد ابقاء المقادير بالموت فلا محيط عنه ولافوت وجعله منة يفتدى بها من أسرار الأكدار وجُنة يتقى بها من سهام الاغترار، ....... ) (4)، وبعد أن دفن ابن السنوسي رحمه الله، تولى أمر الحركة ابنه من بعده (محمد المهدي)، فقام بإرسال خبر وفاة ابن السنوسي إلى شيوخ
_________
(1) المصدر السابق نفسه (1/ 89).
(2) انظر: الحركة السنوسية، ص124.
(3) المصدر السابق نفسه، ص124.
(4) المصدر السابق نفسه، ص124.(1/182)
الزوايا في مختلف الأقطار وكان فيها: ( ... إنه من عبدربه سبحانه محمد المهدي بن السيد محمد بن علي السنوسي الخطابي الحسن الإدريسي، إلى الأجلاء الأبرار الأصفياء الأخيار أخينا السيد محمد بن إبراهيم الغماري وأخينا اسماعيل بن رمضان، وأخينا وهبة، وكافة إخواننا أهل مكة سلمهم الله آمين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته، ومرضاته وبعد، فقد وصلتنا كتبكم التي أرسلت باسم الوالد رحمه الله تعالى وسقى ثراه وأكرم نزله ومثواه. وكنا قبل هذا أرسلنا إليكم كتبنا وأخبرناكم فيها بما قدره الله وقضاه وأبرمه في أزله وأمضاه ونسأله تعالى أن يجعلنا من عباده الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون.
واستطرد محمد المهدي في رسالته إلى أن قال: كونوا على ماكنتم عليه من الدلالة على الله تعالى بالحال وبالمقال وصابروا، ورابطوا وتواصوا بالصبر، واذكروا عباد الله فيه وجاهدوا في الله حق جهاده، وكونوا يداً واحدة على من سواكم، وفي الله إخواناً وعلى البر والتقوى أعواناً، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان وسلموا منا على كافة الإخوان والمحبين من أهل مكة والمعابد والوادي والطائف وغيرهم (1).
وقد رثاه الشعراء وهذه قصيدة عبد الرحيم المحبوب يبكي فيها ابن السنوسي حيث يقول:
مابال عينك لا بالنوم تكتحل
ودمعها لايزال اليوم ينهمل
كأنها سمات بالشوك أوكحلت
من الغضي بشواظ كان يشتعل
تخالها مزنة قد لاح بارقها
فاخضل الأرض منها صيب هطل
والوجه أسفع والأعضاء ناحلة
والقلب في شرك الاحزان مختبل
والجنب اذ تدعه حال لمضطجع
كان الوطأ له السعدان والاسل
تئن في لجج الأحلاك من نكد
منه ترى راحة أن يحضر الاجل
أمن تذكر أوزارا سفت لها
أو زار بالطيف من تهوى ولم يصل
ام ذا لفقد حبيب كنت تألفه
وازور دهرك ام قد خانك الأمل؟
_________
(1) انظر: السنوسي الكبير، ص138.(1/183)
يا لهف نفسي على ماكان مسكنهم
قلبي وهم ان مضوا سفر به مهل
كانوا الغياث لملهوف ومتجعا
للمجدين إذا مامسهم محل
شدوا الرحال ولم يستأذنوا أحداً
وضل شوقاً لم يبكيهم الطلل
تبكيهم السنة الغراء من عصر
ما أن بمثلهم قد مسها ثكل
يبكيهم ماحوى (كشف الظنون) وما
يروى (الجوامع) مع ماساره المثل
مع ما روى (حجة الإسلام) من حكم
وأعلن الشيخ من رمز له قفل
من (للصحاح) (و شمس العلم) بعدهموا
أو (للشفاء) و (للقاموس) يحتفل
من (للجلالين) و (الكشاف) ينقذه
(البحر) (والنهر) و (الأنوار) ينتخل
من (للعلوم) على أقصى تنوعها
من (للحلوم) إذا أشفت بها العلل
من (للمكارم) و (الآثار) يؤثرها
عن الجدود الآلى سارت بهم مثل
والغور والنجد من أرض الحجاز وما
ضاهى (قبيساً) بها من فقدهم عطل (1)
إلى أن قال:
فالصبر أولى وعند الله محتسب
أن المصائب أن تعظم لها بدل
توارت الشمس عن عين الحسود بها
أو ذاك رفق ببدر ناله الخجل
وذاك عام (شروع الخطب قلت إذن
مابال عيناك لا بالنوم تكتحل (2)
وهذه قصيدة ألقاها شاعر ليبيا أحمد رفيق المهدوي عام 1956م بمناسبة مرور مائة عام على وفاة ابن السنوسي:
خلدوا، ذكرى أمام المصلحين
سيد المجتهدين العارفين
الامام، ابن السنوسي، الذي
فاق صنف العلماء العاملين
عبقري قد تسامى للعلا
بجلال العلم والدين المتين
وباصلاح ترى آثاره
لم تزل تهد على مر السنين
_________
(1) انظر: السنوسي الكبير، ص132.
(2) المصدر السابق نفسه، ص133.(1/184)
نشر الدين بعزم صارم
وجهد كجهاد المرسلين
وهدى قوماً على غير هدى
بين جهل وضلال عائشين:
في صحارى يلفح القيظ بها
كشواظ النار فيها الساكنين
وبلاد في غمار مطبق
بظلام البؤس، والغيم المشين
عمها دينا ودنيا فغدا
اهلها من علماء المسلمين!
وبنى فيها (زوايا) أصبحت
منهلاً عذباً لورد الظامئين
ومنارات تشع العلم من
قابس عن نور رب العالمين
بالتآليف التي من فيضها
(سلسبيل) (المنهل) الصافي المعين
و (شفاء الصدر) من رين الهوى
و (بايقاظ لوسنان) مهين
وشروح لعلوم وضحت
ما عصى من مشكلات الأولين
بينت ماجاءنا عن جده
من علوم، وأحاديث، ودين
هذه آثاره من علمه
كلها تدعو الى الحق اليقين (1)
هذا ما استطعت جمعه وتلخيصه عن ابن السنوسي رحمه الله تعالى، وما أردت بالكتابة عن حياته إلا احياء سير المصلحين، والدعاة العاملين، والعلماء الراسخين، لتعلم الأجيال الصاعدة ان لها تاريخاً عريقاً ضارباً في اعماق الزمن يزخر بأمجاد الاسلام، وأن ابن السنوسي ممن واصلوا نهج الصحابة والتابعين في الدعوة الى الله، وأن سيرته ليست عنا ببعيدة، لعل هذه الصفحات المشرقة تصل الى قلوب دعاة الاسلام في ليبيا، وفي الأمة، فيقتبسوا من سيرته مايحثهم على مواصلة السير لدعوة الله، والجهاد في سبيله، وما اردت بذلك إلا وجه الله تعالى هو حسبي عليه توكلت وإليه أنيب، انتهيت من هذه الترجمة في العشر الأواخر من شهر رمضان، فاستبشرت بذلك خيراً، وتذكرت رؤيا رأيتها عندما كنت في المعتقل السياسي بطرابلس الغرب عام 1983م، حيث رأيت ابن السنوسي في منامي وقدم لي كأساً مملؤة بالحليب فشربته، ويبدو أن تأويل الرؤيا قد تحقق بكتابة هذا الكتاب، والفضل
_________
(1) الملك ادريس عاهل ليبيا، تأليف دي كاندول، ص159،160. أشرف على الترجمة محمد عبده بن غلبون.(1/185)
لله وحده من قبل ومن بعد وأختم
هذا الكتاب بهذه الأبيات التي سليت بها نفسي، عندما حذرني بعض الأخوة من نشر مايتعلق بأمجاد السنوسية، لأن ذلك يثير أعداؤهم ضدي، وأنت لاحول لك ولا قوة، فأجبتهم ماأردت بكتابي إلا نصرة الإسلام، وقلت لهم بأن هذه الأمجاد ليست خاصة بالسنوسية بل هي لكل مسلم وتلوت قول الله تعالى {فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين} (سورة يوسف، آية 64).
أما الأبيات فهي:
لاتطلبن من غير ربك حاجة
إن كنت بالرحمن ذا إيمان
ومن الذي يستبدل الضعفاء
والفقراء والبخلاء بالرحمن
أو يشتري الظلمات بالأنوار أو
يرضى يعود بأخسر الخسران
فوض إلى المعبود أمرك كله
وافزع إلى المولى بغير تواني
واقرع إذا نام الأنام وغلَّقوا
أبوابهم باب النوال الهاني
باب الذي بسط اليدين بليله
ونهاره لتدارك العصيان
ويداه مبسوطان للإحسان ما
قبضت يد خوفاً من النقصان
باب الذي إن لم تسله فضله
يغضب فكيف يرد بالحرمان
باب المجيب إذا دعاه مرتج
لاج إليه ماله من ثاني
باب الذي يغنيك عن زيد وعن
عمرو وعن ثان وعن أعوان
باب الذي لاخير إلا عنده
بيديه كل منى وكل أمان
باب الذي يرجى لكل ملمة
لعظائم الآلام والحدثان
الحي قيوم الخلائق كلها
الواسع الرُّحْمَى عظيم الشان
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك.(1/186)
نتائج البحث
أصيبت الدولة العثمانية في القرنيين الماضيين بداء الأمم كالحسد والبغضاء، واستبداد الملوك، وخيانة الأمراء، وغشهم للأمة وإخلاد الشعب الى الراحة، والدعة، وكان شر ماأصيبت به الدولة الجمود في العلم، وفي صناعة الحرب، وفي تنظيم الجيوش.
كانت الاحزاب العلمانية، والجمعيات السرية، والعصبيات القومية تنخر في كيان الدولة، فظهرت الدعوة الى القومية الطورانية، والعربية، والكردية .... وبدأت الثورات تتفجر في البلدان، والحركات الإنفصالية تتكاثر، والدول الأوروبية تدعمها وتسعتد لتقسيم تركة الرجل المريض.
أصبحت الامة تعاني من الآثار التي ترتبت عن ابتعادها عن شرع الله، واصيبت الناحية الاجتماعية، بتفشي الجهل، والمظالم بين الناس، وصراع الأمراء، والولاة على حطام الدنيا الزائل، وأصبحت الأمة في ليل حالك، وظلام دامس.
جمد المسلمون في علوم دينهم فليس لديهم إلا ترديد بعض الكتب الفقهية، والنحوية، والصرفية، ونحوها، وجمدوا على فقه المذاهب، وجل همهم التعمق في الحواشي، وحفظ المتون، دون القدرة على الاجتهاد.
أصبح لكل مذهب من المذاهب الفقهية مفتياً وإماماً، وتعددت الجماعات في المسجد الواحد، كل ينتصر لمذهبه، وكل يصلي خلف إمام مذهبه، وبذلك يقف المسلمون لصلاة الجماعة وراء أكثر من إمام حسب المذاهب المتواجدة في ذلك المسجد.
انتشر التصوف المنحرف في ارجاء البلاد الاسلامية، شرقها، وغربها، عربيها، وعجميها، وضاع مفهوم العبادة الصحيح، ومفهوم الولاء والبراء، وانحرفت الأمة عن كتاب ربها وسنة رسولها - صلى الله عليه وسلم -.(1/187)
بدأت الدول الأوروبية تستقطع من العالم الاسلامي بلداناً كلما اتيحت لها الفرصة.
اهتز العالم الاسلامي لاحتلال الصليبيين لأجزاء من الوطن الاسلامي اهتزازاً عنيفاً، كما تأثر باحتكاكه بالغرب، واطلاعه على تقدمه، من هذا التحدي نبعت حركات الاصلاح.
تتابعت حركات الاصلاح في العالم الاسلامي منذ النصف الثاني للقرن الثامن عشر، بتأثير عوامل عديدة منها؛ إحساس بعض العلماء الربانيين بسوء الأوضاع في العالم الاسلامي واحتلال أجزاء منه.
قامت حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نجد، وكان الدافع لها إحساس مؤسسها بإنحطاط المسلمين، وتأخرهم.
تعد حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب البداية الحقيقية لما حدث في العالم الاسلامي من يقظة جاءت بعد سبات طويل، وما تمخض عنها من صحوة مباركة، ورجعة الى الدين.
ظهر الإمام محمد بن علي السنوسي بدعوته الاسلامية بعد وفاة محمد بن عبد الوهاب بعشرات السنين.
ولد الإمام محمد بن علي السنوسي عام 1202هـ صبيحة يوم الاثنين الموافق الثاني عشر من ربيع الأول عند طلوع الفجر، ولذلك سماه والده محمداً تيمناً باسم النبي - صلى الله عليه وسلم -.
بعد وفاة والده تولت عمته فاطمة تربيته وتنشئته تنشئة صالحة، وكانت من فضيلات أهل زمانها، ومتبحرة في العلوم، ومنقطعة للتدريس والوعظ.
بعد وفاة عمته عام 1209هـ بسبب الطاعون تولى تربيته ابن عمه الشيخ محمد السنوسي الذي تولاه بعد وفاة عمته واتم على ابن عمه حفظ القرآن الكريم برواياته السبع مع علم رسم الخط للمصحف، والضبط، وقرأ عليه الرسالات الآتية، مورد الظمآن، المصباح، العقيلية، الندى، الجزري، الهداية المرضية في القراءة المكية، حرز الأماني للشاطبي.(1/188)
بعد وفاة ابن عمه 1219هـ، جلس للأخذ من علماء مستغانم لمدة سنتين كامليتين، ثم توجهه الى بلدة مازونه ومكث بها عاماً ثم رحل الى مدينة تلمسان وأقام بها مايقارب من السنة وتتلمذ على كبار شيوخها.
كان تفكيره في حال الأمة مبكراً، واجتهد في البحث عن العلل والأسباب التي أدت الى التدهور والضعف المخيف في كيان الأمة، وذكر أن من أسباب هذا الضياع، فقدان القيادة الراشدة، وغياب العلماء الربانيين، وانعدام الغيرة الدينية، والانشغال بالخلافات التي فرقتهم شيعاً وجماعات .... الخ.
رأى ابن السنوسي أن الايمان هو القضية الأولى والأساسية، لهذه الأمة، فإذا تخلف المسلمون عن غيرهم في وسائل الحياة الحرة الكريمة؛ فمرد ذلك الى انحرافهم عن فهم الاسلام فهماً سليماً.
ولا سبيل الى إصلاح حالهم ومآلهم إلا بالايمان على الوجه الذي بينه الله في كتابه، ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في سنته. وهو أن يكون طاقة دافعة الى العمل، وقوة محركة للبناء، وحافزاً طبيعياً للتفوق.
رأى أهمية العلم في نهوض الأفراد والجماعات والأمم، لأن العلم ظهير الإيمان، وأساس العمل الصالح، ودليل العبادة.
سافر الى فاس ليزداد في طلب العلم وبقي في المغرب الأقصى سبع سنين متتالية، وكانت تجربته في فاس ثرية.
وبعد ذلك ترك المغرب الأقصى وتوجه نحو المشرق، فمر بتونس وليبيا ثم دخل القاهرة وكان ذلك عام 1239هـ/1824م.
كانت زيارته لمصر قد رسخت في نفسه ضعف دولة الخلافة من جهة، وزاد ضعفها بظهور حكومة محمد علي باشا على مسرح الأحداث في مصر وقد وصل الى قناعة مهمة في الاصلاح والنهوض.
لقد خبر ابن السنوسي اوضاع الدولة العثمانية في وطنه الأول الجزائر حيث تسلط الولاة الأتراك وحكمهم الاستبدادي، وعجز الدولة عن منعهم من الظلم،(1/189)
وجاء الى القاهرة فرأى حكم محمد علي باشا وانفراده بشؤون مصر، فزاد اقتناعاً بعجز الدولة وضعفها.
دخل ابن السنوسي الحجاز عام 1240هـ/1825م، ونزل مكة وكانت تلك الزيارة لمكة ذات أثر كبير في قيام الدعوة السنوسية وظهور شأنها.
اهتم ابن السنوسي بالقضية الجزائرية، وعمل على اذكاء جذوة الجهاد في نفوس ابناء الجزائر ضد فرنسا، وحرص على المشاركة فيه بنفسه وأعد لذلك العدة إلا أن الظروف، والعوائق التي كانت في طريقه منعته من ذلك، وعمل على امداد تلاميذه بالأسلحة والمال، وحرض اتباعه على القتال، واستمر اتباع السنوسية، والشعب الليبي في دعم حركة الجهاد حتى تم دحر الاحتلال الفرنسي.
إن المفتاح الكبير لقبائل برقة، هو قناعتها بأن ابن السنوسي ولي من أولياء الله الصالحين، ولذلك سمعت لنصائحه، واطاعت أوامره، فأرشدهم الى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
كانت زاوية البيضاء في الجبل الأخضر أول الزوايا التي أسسها ابن السنوسي، وشرع يعلم الناس فيها، ويذكرهم بالله ويرشدهم الى طريق النجاة في الدنيا والآخرة، وبدأت القبائل تتوافد إليه تطلب زيارته لها تبركاً به، وتطلب اقامة الزوايا لها اسوة بالزاوية البيضاء، فكان يتوجه بنفسه الى القبيلة أو المكان المطلوب الزاوية فيه، وأحياناً ينتدب بعض الاخوان لذلك وهكذا بدأت القبائل تتسابق والزوايا تنتشر.
توفرت في قبائل برقة ظروف ملائمة لظهور الحركات السنوسية بوصفها حركة اسلامية شاملة منها؛ انفصالها عن الاقطار المجاورة بالصحارى والفيافي التي تحيط بها، تتألف تلك القبائل من قبائل عربية بدوية تربطها أنماط حياة اجتماعية متجانسة، ويقوم ذلك النظام على عصبيات دموية مشتركة، وتقاليد وأعراف متشابهة، كانت بعيدة عن سيطرة المدن، كانت القبضة العثمانية عليها ضعيفة ... الخ.
ظل ابن السنوسي خمس سنين ينشئ الزوايا وينظمها، ويرسم مناهج الدعوة ومبادئها، ويبث دعوته الاصلاحية عن طريق الزوايا.(1/190)
عاد بعد هذه السنوات الخمس الى الحجاز، المركز الأول لدعوته، ومنذ ذلك الوقت كانت للدعوة مركزان رئيسيان؛ شرقي في الحجاز وغربي في برقة، وعن هذين المركزين أخذت الدعوة السنوسية تنتشر بواسطة الزوايا هنا وهناك.
طالت مدة غياب ابن السنوسي في الحجاز واشتد القلق في لييا لطول غيبته، وسافر الى الحجاز أكثر من وفد ليبي ليلتمس منه ان يعود وكانوا يسافرون غالباً في موسم الحج.
رجع ابن السنوسي الى ليبيا واختار الجغبوب كمقر لقيادة الحركة السنوسية.
استطاع ابن السنوسي أن يختار من بين المسلمين مجموعة خيرة من العلماء، والفقهاء، والدعاة ممن اتصفوا، بالتميز الايماني، والتفوق الروحي، والرصيد العلمي، والزاد الثقافي، ورجاحة العقل، وقوة الحجة، ورحابة الصدر، وسماحة النفس، واصبحوا من أعمدة الحركة السنوسية أثناء حياته وبعد وفاته.
قام عدد كبير بنصرة وتأييد الحركة السنوسية من العلماء والفقهاء والقادة والشيوخ ومن أشهر هؤلاء الاخوان الذين ساندوا ووقفوا مع ابن السنوسي في حركته الواسعة؛ محمد عبد الله التواتي، احمد ابوالقاسم التواتي، علي بن عبد المولى، احمد بن فرج الله، محمد بن الشفيع، احمد المقرحي، وعمران بن بركة الفيتوري وغيرهم كثير.
استطاع ابن السنوسي بتوفيق الله تعالى أن يجعل من الاخوان والقبائل في الصحراء الكبرى مجتمعاً متماسكاً، متوحداً في عقيدته وتصوراته ومنهجه، فانعكس ذلك في توادهم وتراحمهم فيما بينعم، وأصبحوا كالجسد الواحد الذي يخفق فيه قلب واحد، وتسري فيه روح واحدة، ويتأثر كل عضو فيه بما يصيب بقية الأعضاء.
إن الأصول التي تساهم في توحيد المجتمع هي؛ وحدة العقيدة، وتحكيم الكتاب والسنة، وصدق الانتماء الى الاسلام، طلب الحق والتحري في ذلك، وتحقيق الاخوة بين أفراد المجتمع.(1/191)
يظهر البعد التنظيمي في شخصية ابن السنوسي في بناء الزوايا التي يتربى فيها اتباعه والمنهج التربوي الذي ساروا عليه.
كان نظام الزوايا معروفاً في العالم الاسلامي، والشمال الأفريقي واستطاع ابن السنوسي بعقليته التنظيمية أن يطور مفهوم الزوايا بحيث أصبحت تمثل النواة الأولى لمجتمع تحكمه سلطة وعليه واجبات؛ اجتماعية، واقتصادية، وسياسية، ودعوية، وجهادية.
انتهج ابن السنوسي منهجاً تربوياً استمده من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومن خبرته بالطرق الصوفية التي درس جلها، وانتقد اخطائها، وعمل على طريقة خاصة يسلكها اتباعه.
إن الصوفي الحقيقي في رايه من يتقيد بالكتاب والسنة وقد جعل للمريدين مراتب في السلوك يتدربون عليهاأولهما؛ تصحيح العقيدة بميزان أهل السنة والجماعة، أن يتعلم المريد مايحتاج إليه من المسائل الفقهية المتعلقة بظاهر البدن على مذهب من المذاهب الأربعة، أن يتوجه المريد الى تزكية النفس، وتهذيب الأخلاق، وتصفية القلب وتنقية السر ... الخ.
يظهر البعد السياسي عند ابن السنوسي في تعامله الحكيم مع الدولة العثمانية، حيث رأى في الدولة العثمانية دولة الخلافة، ضرورة لازمة لوحدة الأمة، والدفاع عن كيانها، وأنه لابد من معاضدتها والوقوف بجانبها، ويظهر أيضاً في حملة التوعية التي قام بها ضد الغزو القادم للأمة من قبل الأوروبيين وتنظيمه للزوايا، وتعبئة الأنصار؛ بغرس الثقة في دينهم وعقيدتهم، والثقة بقيادتهم، وتأخير الصدام مع الأوروبيين حتى يكتمل.
كان أسلوب ابن السنوسي في الدعوة الى الله مستمداً من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وقد نجح في ارشاد الطرق الصوفية المنحرفة، وتعامل مع الرقيق من الأفارقة بأسلوب رفيع، فاشتراهم واعتقهم، وعلمهم ثم ارسلهم دعاة الى قبائلهم، واهتم بدعوة القبائل وزعمائها، واستطاع ان يجعل منهم دعاة الى الله(1/192)
تعالى واعتمد في اسلوبه ضرب الأمثال، واستخدم القصة، واستعمل الشدة في محلها.
إن فهم أفكار ابن السنوسي يمكننا الوصول إليها من خلال كتبه، ومن أهمها؛ كتاب المسائل العشر، السلسبيل المعين، إيقاظ الوسنان في العمل بالحديث والقرآن، رسالة مقدمة موطأ الامام مالك وغيرها ...
كانت كتب ابن السنوسي في أكثرها تتناول المباحث الفقهية، والصوفية وفيها كتاباً، أو كتابين يتناولان مواضيع تاريخية ...
إن ابن السنوسي في دراسته الطويلة لم يهمل الجانب التاريخي لقناعته الراسخة، بأهمية هذا العلم في تحقيق الفوائد التربوية، وادراك السنن الربانية، ومعرفة معالم تاريخ الانسانية، ومعرفة تاريخ الأنبياء، ومعرفة سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعرفة تاريخ الخلفاء الراشدين، وسير العلماء والمجاهدين والدعاة ... وكانت ثقافته التاريخية تمتاز بغزارة المعلومات، ويعتز بتاريخ اجداده، ويؤمن بضرورة حصر الامامة في قريش، وكان اسلوبه في كتابة التاريخ على نمط مؤرخي المسلمين، ويقتصر على سرد الحوادث.
كان ابن السنوسي فقيهاً متصوفاً، اهتم بالعلوم الفقهية، وغاص في معرفة حقائق النفوس البشرية، واستنبط منهجاً تربوياً لعلاج الأمراض النفسية، والرقي بها نحو الكملات الانسانية.
اتصف ابن السنوسي بصفات الدعاة الربانيين؛ من الصدق، والإخلاص، والدعوة على بصيرة، والصبر، والرحمة، والعفو، والعزيمة، والتواضع، والارادة القوية التي تشمل قوة العزيمة، والهمة العالية، والنظام والدقة، والزهد، والورع، والاستقامة ... الخ.
إن هذا المجهود المتواضع قابل للنقد والتوجيه وماهي إلا محاولة جادة لإزاحة الركام عن صفحات مشرقة من تاريخ بلادنا الحبيبة التي كانت ونرجو من الله أن تكون مركزاً لدعوة الاسلام في مشارق الأرض ومغاربها وماذلك على الله بعزيز ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا.(1/193)
هذه بعض النتائج التي وصلت إليها وقد ملت الى الاختصار الشديد خوفاً من الإطالة والإطناب.
وأسأل الله العلي العظيم رب العرش الكريم أن يقتبل هذا الجهد المتواضع قبولاً حسناً وأن يبارك فيه وأن يجعله من أعمالي الصالحة التي أتقرب بها إليه. وأختم الجزء الأول من الكتاب السابع بقول الله تعالى: {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم} ويقول الشاعر:
أنا الفقير الى رب البريات
أنا المسكين في مجموع حالاتي
أنا المظلوم لنفسي وهي ظالمتي
والخير إن يأتينا من عنده يأتي
لا أستطيع لنفسي جلب منفعة
ولا عن النفس لي دفع المضرات
والفقر لي وصف ذات لازم أبداً
كما الغني أبداً وصف له ذاتي
وهذه الحال حال الخلق أجمعهم
وكلهم عنده عبد له آتي
(سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك)، (وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين).(1/194)
أهم مراجع ومصادر البحث
(أ)
إمام التوحيد، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الدعوة والدولة، تأليف، أحمد القطان، محمد الزين، مكتبة السندس، الكويت، الطبعة الثانية، 1988م.
انتشار الاسلام في القارة الأفريقية، د. حسن ابراهيم حسن، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الثالثة، 1984م.
ايقاظ الوسنان في العمل بالحديث والقرآن، للإمام محمد بن علي السنوسي، طبع مع المجموعة المختارة للإمام السنوسي، على نفقة محمد عبده بن غلبون وشقيقه هشام وعلي في منشستر، ببريطانيا عام 1990م.
(ب)
4. برقة العربية أمس واليوم، محمد الطيب بن أحمد ادريس الأشهب، مطبعة الهواري، شارع محمد علي بمصر.
5. البحر الرائق في الزهد والرقائق، أحمد فريد، دار البخاري، القصيم بالسعودية، الطبعة الأولى 1411هـ-1991م.
6. البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، لمحمد بن علي الشوكاني، دار المعرفة بيروت.
(ت)
7. تاريخ ليبيا المعاصر، محمود عامر، منشورات جامعة دمشق طبعة عام 1411هـ، 1991م.
8. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، أبو الفداء اسماعيل، تحقيق عبد العزيز غنيم، وحمد أحمد عاشور، ومحمد ابراهيم البناء، مطبعة الشعب القاهرة بمصر.
9. تفسير السعدي، المسمى تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، المؤسسة السعدية بالرياض 1977م.(1/195)
10. تفسير الإمام البغوي، المسمى معالم التنزيل، للإمام أبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي، دار المعرفة، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة، 1413هـ، 1992م.
11. التمكين للأمة الإسلامية في ضوء القرآن الكريم، محمد السيد محمد يوسف، دار السلام بمصر، الطبعة الأولى 1418هـ،1997م.
12. توضيح الأحكام من بلوغ المرام، عبد الله بن عبد الرحمن البسام، دار القبلة للثقافة الإسلامية، جدة، الطبعة الأولى 1413هـ، 1992م.
(ج)
13. جند الله تخطيطاً، سعيد حوى، دار السلام بمصر.
14. الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي، مكتبة المعارف، الرياض 1403هـ/1983م.
15. الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.
16. المجتمع الليبي، د. عبد الجليل الطاهر، المكتبة العصرية صيدا، بيروت، طبعة عام 1969م.
17. المجتمع والدولة والإستعمار في ليبيا، د. علي عبد اللطيف حميده، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى 1995م.
18. الجغرافيا السياسية لأفريقيا، د. فيليب رفلة، القاهرة عام 1965م.
(ح)
19. حاضر العالم الإسلامي، تأليف لوثروب ستودارد الأمريكي، ترجمة: عجاج نويهض، تعليق: شكيب أرسلان، دار الفكر.
20. حاضر العالم الإسلامي، وقضاياه المعاصرة، محمد جميل المصري، منشورات جامعة المدينة المنورة.(1/196)
21. الحكمة في الدعوة إلى الله، سعيد بن علي القحطاني، الطبعة الأولى، 1412هـ، 1992م.
22. الحكمة والموعظة الحسنة، د. أحمد سليمان المورعي، دار الأندلس الخضراء، جدة، الطبعة الأولى، 1418هـ،1997م.
23.
الحركة السنوسية، نشأتها ونموها في القرن التاسع عشر، أحمد الدجاني، الطبعة الأولى، 1967م، دار لبنان.
24. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني، دار الكتاب العربي، بيروت.
(د)
25. دراسات وصور من تاريخ الحياة الأدبية في المغرب العربي، د. محمد طه الحاجري، دار النهضة العربية، بيروت، طبعة أولى، عام 1403هـ،1983م.
26. دائرة المعارف، بطرس البستاني، مطبعة الهلال بمصر، طبعة عام 1898.
27. دراسات في التاريخ اللوبي، مصطفى بعيو، القاهرة، 1945م.
28. الدرر السنية في أخبار السلالة الإدريسية، للإمام محمد بن علي السنوسي، ضمن المجموعة المختارة للإمام السنوسي، طبعة في منشتر ببريطانيا عام 1990م على نفقة محمد عبده بن غلبون، وشقيقه هشام وعلي.
29. دولة الموحدين، من سلسلة صفحات من التاريخ الإسلامي في الشمال الإفريقي، لعلي محمد محمد الصلاّبي، دار البيارق، عمان، بيروت، طبعة أولى 1998م.
30. الدولة العثمانية، عوامل النهوض، وأسباب السقوط، لعلي حمد محمد الصلاّبي، تحت الطبع ضمن منشورات دار البيارق.
31. ديوان الإمام الشافعي، تحقيق، محمد عبد المنعم خفاجي، الطبعة الثالثة 1406هـ، مكتبة المعارف.(1/197)
(ر)
32. رحلة الحشائشي إلى ليبيا، جلاء الكرب عن طرابلس الغرب، محمد عثمان الحشائشي التونسي، تحقيق علي مصطفى المصراتي، دار لبنان، الطبعة الأولى 1965م.
(س)
33. سد باب الإجتهاد وماترتب عليه، عبد الكريم الخطيب، دار الأصالة، الطبعة الأولى 1405هـ،1984م.
34. سلسلة الأحاديث الصحيحة، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، الطبعة الرابعة 1405هـ، 1985م، بيروت، دمشق.
35. سنن أبي داود، سليمان بن الأشعث، تحقيق عزت عبيد الدعاس، حمص، الناشر: محمد السيد.
36. سياحتي في صحراء أفريقيا الكبرى، لصادق المؤيد، مطبعة سي، استانبول، عام 1314هـ.
37. السنوسية دين ودولة، د. محمد فؤاد شكري، دار الفكر، طبعة 1948م.
38. السلسبيل المعين في الطرائق الأربعين، للإمام محمد بن علي السنوسي، ضمن المجموعة المختارة للإمام السنوسي، طبعة منشستر عام 1990م.
39. السيد محمد رشيد رضا، محمد أحمد درنيقة، مؤسسة الرسالة، دار الإيمان، طرابلس، لبنان، طبعة أولى 1406هـ،1986م.
40. الإسلام في القرن العشرين، حاضره ومستقبله، عباس محمود العقاد، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية 1969م.
41. السنوسي الكبير، محمد الطيب بن إدريس الأشهب، مطبعة محمد عاطف، ميدان الخازندار بمصر.(1/198)
(ش)
42. شرح الحماسة للمزروقي، ط2، لجنة التأليف والترجمة والنشر القاهرة 1387هـ/1967م.
43. شرح النووي على مسلم، للنووي ط1، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة.
44. شرح مقدمة أبي زيد القيرواني، الأمين الحاج محمد أحمد، مكتبة دار المطبوعات الحديثة، الطبعة الأولى، 1412هـ،1991م.
(ص)
45. صحيح البخاري، للإمام محمد بن إسماعيل البخاري، دار الطباعة العامرة باستانبول1315هـ، المكتب الإسلامي، استانبول، تركيا.
46. صحيح مسلم، للإمام أبي الحسن مسلم بن الحجاج القسيري النيسابوري، دار الحديث، القاهرة الطبعة الأولى 1412هـ/1991م.
(ع)
47. عجائب الآثار في التراجم والاخبار، لعبد الرحمن الجبرتي، دار فاس.
(ف)
48. فقه التمكين في القرآن الكريم، لعلي بن محمد الصلاّبي، رسالة دكتوراه لم تطبع.
49. في تاريخ العرب الحديث وجهاد الأندلسيين، د. رأفت الشيخ، دار الثقافة، طبعة 1412هـ/1992م.
50. الفوائد الجليلة في تاريخ العائلة السنوسية، عبد القادر بن علي، مطبعة دار الجزائر العربية، دمشق، عام 1386هـ/1966م.
(ق)
51. قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث، محمد جمال الدين القاسمي، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة الاولى 1399هـ/1979م.(1/199)
(ك)
52. كتب في الساحة الاسلامية، عائض القرني، دار العميعي ط، 1412هـ.
(م)
53. موسوعة التاريخ الاسلامي، محمود شاكر.
54. موسوعة التاريخ الاسلامي، د. احمد شلبي، مكتبة النهضة المصرية القاهرة، الطبعة العاشرة 1995م.
55. مفاتيح الغيب، للأمام فخر الدين الرازي، دار الفكر لبنان.
56. مقدمة الإمام مالك، للإمام محمد بن علي السنوسي، ضمن المجموعة المختارة للإمام السنوسي، طبعة في منستر عام 1990م على نفقة بن غلبون.
57. المنهل الروي الرّائق في اسانيد العلوم وأصول الطرائق للإمام محمد بن علي السنوسي، ضمن المجموعة المختارة للإمام السنوسي، طبعة في منستر عام 1990م على نفقة آل بن غلبون.
58. مجموع فتاوى ابن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن القاسم، بيروت، ط 1390هـ/1971م.
59.
المستخلص في تزكية الأنفس، سعيد حوى، دار السلام، الطبعة الرابعة، 1408هـ/1988م.
60. الإمام البخاري، تقي الدين الندوي المظاهري، الطبعة الثالثة 1408هـ/1988م، دار القلم، بيروت، دمشق.
61. مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية، إدريس محمود إدريس، مكتبة الرشد - الرياض، شركة الرياض للنشر والتوزيع، الطبعة الاولى 1419هـ/1998م.
62. الموطأ: الامام مالك بن أنس، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، عيسى الحلبي وشركاه، القاهرة.(1/200)
63. المسائل العشر، للإمام محمد بن علي السنوسي، ضمن المجموعة المختارة للإمام السنوسي، طبعت بمنستر ببريطانيا، عام 1990م على نفقة آل بن غلبون.
64. الملك أدريس عاهل ليبيا، تأليف دي كاندول، ترجمة ليبي، الناشر محمد عبده بن غلبون.
65. المهدي السنوسي، محمد الطيب الأشهب، مطبعة بلينوماجي، طرابلس.
66. ليبيا من الاستعمار الايطالي الى الاستقلال، د. نقولا زيادة، منشورات قسم الدراسات التاريخية والجغرافية، معهد الدراسات العربية العالمية، جامعة الدول العربية، طبعة 1958م.
(ن)
67. الانحرافات العقدية والعلمية في القرنيين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين وآثارهما في حياة الأمة، تأليف علي بن نجيب الزهراني، دار طيبة مكة، دار آل عمار الشارقة، الطبعة الثانية 1418هـ/1998م.
68. النجوم الزاهرة، لجمال الدين أبي المحاسن يوسف بن تغري، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1391هـ/1971م.
(و)
69. واقعنا المعاصر، محمد قطب، الطبعة الثانية، 1408هـ/1988م، مؤسسة المدينة المنورة.
70. وجوب التعاون بين المسلمين، عبد الرحمن السعدي، المعارف، الرياض، طبعة 1402هـ.(1/201)
صفحات من التاريخ الاسلامي في الشمال الأفريقي ... (7)
الحركة السنوسية
في ليبيا
وسيرة الزعيمين
محمد المهدي، وأحمد الشريف
- الجزء الثاني -
تأليف
الدكتور علي محمد محمد الصلابي(2/203)
صفحات من التاريخ الاسلامي في الشمال الافريقي (7)
هذا الكتاب يتحدث عن الأثر الدعوي والجهادي للحركة السنوسية في ليبيا، والشمال الافريقي، والصحراء الكبرى، ومالي، والنيجر، وتشاد وغيرها من الدول من خلال سيرة الزعيمين محمد المهدي السنوسي، واحمد الشريف، فالإمام محمد المهدي السنوسي يعتبر الزعيم الثاني للحركة السنوسية، وكانت سيرته مليئة بالدروس والعبر، والعظات، وتوسعت الحركة في زمنه اكثر من اربعة أضعاف على ماكانت عليه وحققت انتصارات عظيمة للاسلام في افريقيا بسبب اخلاصه، وصدقه في الدعوة، وتفانيه في العمل، وشجاعته النادرة، ورجولته الصادقة، وسيرته الرشيدة المستمدة من كتاب الله وسنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ففي هذا الكتاب يحاول الباحث ان يجيب القارئ الكريم عن كثير من الاسئلة التي تتعلق بسيرة محمد المهدي السنوسي: كيف طلب العلم؟ وكيف تولى زعامة الحركة؟ وهل كان له مجلس شورى؟ وهل تطورت مؤسسات الحركة في عهده؟ وماهي اسباب نمو الحركة؟ وهل كان هناك اهتمام خاص في زمنه بالمنهج التربوي الجهادي؟ ولماذا هذا الاهتمام؟ وما موقف الدول الأوروبية من الحركة السنوسية؟ وماموقف محمد المهدي من الثورة العرابية في مصر، وثورة محمد احمد في السودان؟ وماموقفه من الدولة العثمانية وفكرة الجامعة الاسلامية؟ وماحقيقة الصراع بين فرنسا والحركة السنوسية؟
هذه الاسئلة وغيرها يجد القارئ لها إجابات من خلال البحث التاريخي.
أما سيرة الزعيم الثالث للحركة السنوسية السيد احمد الشريف السنوسي، فيجد القارئ شيئاً من سيرته في هذا الكتاب الذي يحاول أن يعرّف أبناء الأمة عموماً وليبيا والشمال الافريقي خصوصاً بهذا السيد الصنديد والعالم الجليل، والعابد الخاشع، والمجاهد الشجاع، والمهاجر الحزين بقصته الدعوية، وسيرته الجهادية، وأعماله البطولية سواء ضد فرنسا في تشاد والنيجر ومالي وجنوب الجزائر عبر الصحراء الكبرى، أو ضد إيطاليا في ليبيا أو بريطانيا في مصر، ويجد القارئ الكريم إجابة لكثير من الاسئلة المتعلقة بالسيد احمد الشريف. كيف تولى زعامة الحركة؟ وهل خاض الحروب بنفسه ضد فرنسا؟ ومن هم القادة الذين كانوا معه؟ وماموقفه من الغزو الايطالي؟ وهل وافق على الصلح الذي تم بين تركيا وايطاليا؟ وماهي آثار حملته ضد بريطانيا على حركة الجهاد؟ وماهي الأسباب في هجرته الى تركيا؟ وماموقفه من مصطفى كمال؟ ولماذا هاجر من تركيا؟ وكيف كان استقبال الملك عبد العزيز له؟ ومتى توفى؟
اسئلة كثيرة يحاول الباحث أن يجيب عليها في هذا الكتاب بإذن الله تعالى، والله من وراء القصد والهادي الى سواء السبيل.
الفقير عفو ربه ومغفرته ورحمته
المؤلف(/)
الإهداء
الى العلماء العاملين، والدعاة المخلصين،
وطلاب العلم المجتهدين، وأبناء الأمة الغيورين
أهدي هذا الكتاب سائلاً المولى عز وجل بأسمائه
الحسنى وصفاته العُلا أن يكون خالصاً
لوجهه الكريم
قال تعالى: ................ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِهِ فَلْيَعمَل عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشرِك بِعِبَادَةِ رَبِه أَحَدَاً.
(سورة الكهف، آية 110)(2/204)
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله " ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حَق تقاتِهِ ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون" (سورة آل عمران: آية 102).
" ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم اعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطعِ الله ورسوله فقد فازاً فوزاً عظيماً"
(سورة النساء، آية 1).
أما بعد؛
يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضى.
هذا الجزء الثاني من الكتاب السابع يتحدث عن الحركة السنوسية في ليبيا وقد سميته (الحركة السنوسية في ليبيا وأثرها الدعوي والجهادي وسيرة الزعيمين محمد المهدين واحمد الشريف).
إن غربلة التاريخ، وحفظه من التزوير، وكشف الاكاذيب التي دسها أصحاب الأغراض الخبيثة الذين عملوا على تشويه، وتزويره، وتشكيك الاجيال في سير ابطالهم، وقدواتهم، لعبادة عظيمة يحبها المولى عز وجل الذي من اسمائه الحسنى العدل، والحق إن الأبناء البررة يحفظون لزعماء بلادهم، وصانعي تاريخها، اعمالهم(2/205)
العظيمة، وجهادهم الشاق، ودعوتهم المخلصة مع الدعاء لهم بالمغفرة والرحمة قال تعالى: {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم}.
لقد اطلع مجموعة من المفكرين، والمختصين بشؤون الدعوة، والمهتمني بأمر التاريخ على سيرة الامام محمد بن علي السنوسي، فنالت اعجابهم واشادوا بالأسس التي قامت عليها الحركة السنوسية من إيمان عميق، واخلاص لله، وعلم غزير، وجهاد متواصل، واشاروا الى أهمية نشر مثل هذه المعلومات لأنها تساهم في توعية الاجيال بحقائق مهمة في مجال الدعوة الى الله تعالى.
وفي هذا الجزء من هذه الدراسة نحاول أن نتعرف على سيرة إمامين من أئمة الدعوة السنوسية، محمد المهدي السنوسي، وأحمد الشريف السنوسي.
فالإمام محمد المهدي يعتبر الزعيم الثاني للحركة السنوسية وكانت سيرته مليئة بالدروس والعبر، والعظات، وتوسعت الحركة في زمنه اكثر من اربعة اضعاف على ماكانت عليه وحققت انتصارات عظيمة للاسلام في إفريقيا بسبب اخلاصه لله، وصدقه في الدعوة، وتفانيه في العمل، وشجاعته النادرة، ورجولته الصادقة، وسيره الرشيد المستمد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. لقد نمت الحركة السنوسية في عهد المهدي حتى بلغت ذروة نموها وانتشارها، وكانت فترة قيادته أكثر من أربعين عاماً، فكانت هذه المدة الطويلة، فترة استقرار وانتشار للدعوة، ويمكن تسميتها بالعصر الذهبي للدعوة السنوسية.
وكان المهدي بعيد النظر، سديد الرأي، شديد العزم على إتمام البناء الذي شيده والده ابن السنوسي، فواصل مسيرة والده في انشاء الزوايا، وإرسال الدعاة والعلماء الى قبائل افريقيا، فدخلوا النيجر والكنغو والكامرون وجهات بحيرة تشاد، وعمل على ذيوع الدعوة عن طريق واداي، وبرنو، وكانم، والداهومي وغيرها.
لقد تغلغلت الحركة السنوسية بقيادة المهدي السنوسي في قلب افريقيا من البحر(2/206)
المتوسط شمالاً، الى قلب السودان الغربي جنوباً حيث كانت تنتشر الوثنية، وبتوفيق الله تعالى ثم هذه الجهود العظيمة دخل عدد كبير من الزنوج في الدين الاسلامي، وخرجت عدة قبائل وثنية من مهاوي الكفر بدرجة لايتصورها العقل وفي هذا يقول الشاعر:
كانت طريقته القيام بسنة ... نبوية لالاءة الاوضاح
فله من الخدمات للاسلام ما ... يعلو على متناول الشراح
يكفيه نشر الدين في الآلاف من ... أقصى حدود (الشاد) حتى (الواح)
نصر لدين الله بين مجاهل ... صعبت على الرواد والسياح
فازوا من الفتح المبين بعزة ... الاسلام بعد عبادة الاشباح
لقد بسطت الحركة السنوسية في زمن المهدي سلطانها الروحي على أقاليم كثيرة في أفريقيا، وحققت نجاحات كبيرة في أوساطها، وفي قلب الصحراء الكبرى، وكانت عقبة كأداء في طريق الرسالات المسيحية التنصيرية، التي وجدت في اتباع السنوسية خصوماً عنيدين، عطلوا عليها أعمالها لدرجة بعيدة.
لقد كانت سيرة محمدالمهدي السنوسي، روحها إيمان عميق بالله، وحب شديد لدعوته الخالدة، ورغبة أكيدة في الشهادة في سبيله، وجهاد مرير لأعداء الاسلام، وصبر لا ينفذ في مجال الدعوة، ومجالدة دول الاستعمار بالبناء المتين، والتربية الشاملة، والأعداد المتوازن في كافة المجالات.
لقد اتصف محمد المهدي بصفات القادة الربانيين، من سلامة المعتقد، والعلم الشرعي، والثقة بالله، والقدوة الحسنة، والصدق والشجاعة، والمروءة، الزهد، وحب التضحية، وحسن اختياره لمعاونيه، والتواضع، وقبول النصح، والحلم، والصبر، وعلو الهمة، والحزم، والارادة القوية، والعدل، والقدرة على حل المشكلات، والقدرة على التعليم وإعداد القادة، وإيمان بالله عظيم.(2/207)
لقد انعكست ثمار الايمان بالله على جوارحه، وتفجرت صفات التقوى في اعماله، وسكناته واحواله واستطع بتوفيق الله تعالى أن ينتقل بالحركة نحو اهدافها المرسومة بخطوات ثابتة، ورؤية واضحة، ومعرفة حقيقية للظروف المحلية والإقليمية والدولية التي تحيط به.
لقد كانت معالم سيرته، كما قال الشاعر:
كانت معالمها كسيرة جده ... احياء دين وانتشار صلاح
اعمال مجتهد بخالص نية ... للخير منتصر بغير سلاح
لو كان عن شيء لغير الله في ... اعماله ماكللت بنجاح
اذ لايدوم سوى الذي هو نافع ... للناس مرتفع عن الارباح
ومن الكرامة للولي نجاحه ... في النصح بالاقناع والافصاح
والمرء لايعجبك منه ما سعى ... بل مانوى في السعي من اصلاح
فإذا استوى علم وحسن عقيدة ... كان النجاح حليف كل طماح
إن العقيدة لا يصح يقينها ... إلا بفعل ظاهر وصراح
فإذا أحب الله باطن عبده ... ظهرت عليه مواهب الفتاح
وإذا صفت لله نية مصلح ... مال العباد إليه بالارواح
هذي صفات السيد (المهدي) ولا ... والله مابالغت في الايضاح
إن هذا الجهد المتواضع يحاول أن يجيب القارئ الكريم عن كثير من الأسئلة التي تتعلق بسيرة محمد المهدي السنوسي: كيف طلب العلم؟ وكيف تولى زعامة الحركة؟ وهل كان له مجلس شورى؟ وهل تطورت مؤسسات الحركة السنوسية في عهده؟ وماهي اسباب نمو الحركة؟ وهل كان هناك اهتمام خاص في زمنه بالمنهج التربوي الجهادي؟ ولماذا هذا الاهتمام؟ وماموقف الدول الأوروبية من الحركة السنوسية؟ وماموقف محمد المهدي السنوسي من الثورة العرابية في مصر، وثورة محمد احمد في السودان؟ وماموقفه من الدولة العثمانية وفكرة الجامعة الاسلامية؟ وماهي الاهداف من رحلاته وانتقاله الى الكفرة ثم قرو؟ وماحقيقة الصراع بين فرنسا والحركة السنوسية؟(2/208)
هذه الاسئلة وغيرها يحاول الكتاب أن يجد لها إجابات مقنعة من خلال البحث التاريخي.
أما سيرة الزعيم الثالث للحركة السنوسية السيد أحمد الشريف السنوسي، فيجد القارئ شيئاً من سيرته في هذا الكتاب الذي يحاول أن يعرّف أبناء الأمة عموماً وليبيا خصوصاً بهذا السيد الصنديد والعالم الجليل، والعابد الخاشع، والمجاهد الشجاع، والمهاجر الحزين بقصته الدعوية، وسيرته الجهادية، واعماله البطولية سواء ضد فرنسا في تشاد والنيجر ومالي وجنوب الجزائر، عبر الصحراء الكبرى، أو ضد إيطاليا في ليبيا أو بريطانيا في مصر، لقد قال في حقه الشيخ الطاهر الزاوي: (فالسيد أحمد رجل صقله العلم، وهذبته العبادة، فعفت نفسه، وكبرت همته، وانكمشت يده عما للناس فيه حق أو شبه حق، وأخلص عمله لله فتولى الله توفيقه، وأطلق ألسنة الناس بمدحه والثناء عليه).
وقال فيه شكيب ارسلان: ( ... فالسيد أحمد الشريف السنوسي هو خاتمة مجاهدي الاسلام الى هذا الوقت قد سبقه الشيخ شامل الداغستاني الذي قاوم الروسية أربعين سنة والامير عبد القادر الجزائري الذي ناهز فرنسا 17 سنة وتبعه في الجهاد واقتدى بسيرته محمد عبد الكريم الخطابي الريفي الذي كانت مقاومته قصيرة ولكنها عريضة توافق فيها دولتي فرنسا وأسبانيا معاً وجهاً لوجه وزلزلتا في حربة زلزالا شديد ولولا السيد أحمد الشريف -رحمه الله- لكانت ايطاليا استصفت قطري طرابلس وبرقة من الشهر الاول ... ) وقال أيضاً: ( ... ولم يكن في قلبه شيء من الدنيا بجانب الآخرة وكانت جميع حطام هذا العالم الفاني لا توازي عنده جناح بعوضة في جانب الواجب الاسلامي وهذا الرجل هو السيد السنوسي الكبير الذي لولاه لم يكن أنور قدر أن يعمل شيئاً ولا كانت الدولة العثمانية قدرت أن تدافع عن طرابلس شهراً واحداً. وما كان المرحوم الشهيد البطل الفريد عمر المختار إلا حسنة من حسنات السيد احمد الشريف وقائداً من قواده ... ) وقال أيضاً: ( ... أن السيد أحمد الشريف هو بنفسه أمة، وأن سيرة السيد احمد الشريف هي بذاتها تاريخ. وإن(2/209)
كل من عرف عن كثب ذلك السيد الغطريف علم من أخلاقه وورعه وحلمه وعلمه وزهده في الدنيا وحبه لمعالي الأمور وعزوفه عن سفاسفها ومؤاساته للفقراء وحنانه على الضعفاء وشدته مع ذلك في الدين وانحصار كل همومه في استتباب أمر المسلمين ومحافظته على الفرائض والسنن وغير ذلك من الأخلاق العالية والهمم الشماء والمنازل القعساء مايذكر بأخلاق الصحابة الكرام بل يشبه من أخلاق الخلفاء الراشدين العظام ... ) وقال في حقه أيضاً: ( ....
ولم يكن للسيد غرام في الدنيا إلا بأمر هذه الأمة ولما سالته عند اجتماعنا في مكة عن أولاده الذين تركهم أطفالاً أجابني: قد صاروا الآن رجالاً وما أنا بمفكر في أمرهم؛ إنما يهمني أمر هذه الأمة المعذبة في طرابلس، وكان في قلبه من أمر طرابلس مالا يعلمه إلا الله ولكنه كان في إيمانه في ثبات الجبال وكان يرى في هذه المصائب مقدمات يقظة الاسلام ... ).
وقال عنه أنور باشا القائد التركي المشهور في جهاده ببرقة: ( ... رسائله تشكل بصورة واضحة أهمية كبيرة بالنسبة لي كرمز للصداقة؛ لأنه الشخص الوحيد الذي يتمتع بتأثير سلبي أو ايجابي في هذه الحرب ... ).
في هذا الكتاب سيجد القارئ ماقاله المؤرخون في حق أحمد الشريف هل هو صواب أم خطأ، ويجد إجابات لكثير من الاسئلة المتعلقة بسيرته: كيف تولى احمد الشريف زعامة الحركة السنوسية؟ وهل خاض بنفسه الحروب ضد فرنسا؟ ومن هم القادة الذين كانوا معه؟ وماموقفه من الغزو الايطالي؟ وهل وقف مع الاتراك ضد الغزو؟ وهل وافق على الصلح الذي تم بين تركيا وايطاليا؟ وماموقف الزوايا السنوسية من الاحتلال الايطالي؟ وهل تفاعل العالم الاسلامي مع جهاد ليبيا؟ وهل دخول احمد الشريف في حرب بريطانيا في الأراضي المصرية كان صحيحاً من الناحية العسكرية والسياسية؟ وماهي اسباب هزيمة احمد الشريف امام بريطانيا في الجبهة الشرقية؟ وماحقيقة الخلاف بين ادريس السنوسي، وأحمد الشريف؟ وماهي آثار حملته ضد بريطانيا على حركة الجهاد؟ وماهي الاسباب الرئيسية في سفره الى تركيا؟ كيف ومتى وصل الى تركيا؟ وماموقفه من مصطفى كمال؟ وهل عرض عليه مصطفى(2/210)
كمال منصب نيابة الخليفة؟ وهل شارك في جهاد الاتراك ضد اليونان؟ ولماذا طرده مصطفى كمال من تركيا؟ والى اين هاجر وكيف كان استقبال الملك عبد العزيز آل سعود له؟ ومتى توفي؟
نعم اسئلة كثيرة يحاول الكاتب أن يجيب عليها في هذا الكتاب بإذن الله تعالى.
لقد وفقني الله تعالى للجمع والترتيب والتحليل، فإن كان خيراً؛ فمن الله وحده، وإن أخطأت السبيل فأني عنه راجع إن تبين لي ذلك والمجال مفتوح للنقد، والرد، والتعليق، والتوجيه، كما أقرر بأنني قد استفدت كثيراً من الجهود التي سبقتني، ككتاب (الحركة الوطنية في شرق ليبيا خلال الحرب العالمية الاولى) لمصطفى علي هويدي، وجهاد الابطال للشيخ طاهر الزاوي، وحركة الجامعة الاسلامية، لأحمد فهد الشوابكة، والغزو الايطالي لليبيا لعبد المنصف البوري، وتاريخ ليبيا المعاصر لمحمود عامر، وحروب البلقان لعايض الروقي، وبرقة العربية لمحمد الطيب الأشهب، والمهدي السنوسي لمحمد الطيب الأشهب، والحركة السنوسية للدجاني، والفوائد الجلية في تاريخ العائلة السنوسية لعبد القادر بن علي، وغيرها من الكتب، وقد دونت مااختصرته من مباحث وأشرت إليه في هامش الكتاب للأمانة العلمية، واعترافاً بجهود الذين سبقوا كما أنني انتهجت منهجاً دعوياً تاريخيا ًيعتمد على توسيع النقاط البيضاء المشرقة، وتضييق النقاط السوداء المظلمة، مساهمة مني في علاج الهزيمة النفسية التي يمر به شعبنا المظلوم ومتضرعاً لله تعالى الحي القيوم أن يحي شعبنا وأمتنا بالإيمان والقرآن الكريم وسنة سيد الخلق أجمعين.
إن هاتين السيرتين العطرتين تبين لمسلمي ليبيا، أن من أصلاب أجدادهم خرج مثل هؤلاء الابطال وعاشوا للذود عن الاسلام ونشره بين الأنام، وبذلوا الأنفس والأموال والغالي والثمين من أجل دينهم وعقيدتهم واسلامهم، كما تعطي الأمل في نفوس دعاة شعبنا بأن شجرة الاسلام الزكية الضاربة بجذورها في شعبنا من زمن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه لكفيلة بأن تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.(2/211)
هذا وقد قمت بتقسيم الجزء الثاني من الكتاب السابع في السلسلة التاريخية الى مقدمة وفصلين، وخلاصة وهي كالآتي:
الفصل الاول: محمد المهدي ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: اسمه وولادته وشيوخه ومبايعته ومواقفه.
المبحث الثاني: موقف محمد المهدي السنوسي والليبيين من الدولة العثمانية وفكرة الجامعة الاسلامية.
المبحث الثالث: رحلة المهدي السنوسي الى الكفرة وقرو.
الفصل الثاني: الزعيم الثالث للحركة السنوسية، أحمد الشريف ويشتمل على ستة مباحث:
المبحث الأول: ولادته وتربيته وشيوخه.
المبحث الثاني: تولي قيادة الحركة.
المبحث الثالث: الغزو الايطالي.
المبحث الرابع: الجهاد في برقة.
المبحث الخامس: الحرب العالمية الاولى.
المبحث السادس: وصول احمد الشريف الى تركيا.
ثم الخلاصة.
وأخيراً: أرجو من الله تعالى أن يكون عملاً خالصاً لوجهه الكريم وأن يثيبني على كل حرف كتبته ويجعله في ميزان حسناتي وأن يثيب إخواني الذين أعانوني بكافة مايملكون من أجل إتمام هذا الجهد المتواضع، ونرجو من القارئ الكريم أن لاينسى العبد الفقير الى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه في صالح دعواته.
((سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين)).
الفقير الى عفو ربه ومغفرته
علي محمد محمد الصّلابي(2/212)
الفصل الأول
محمد المهدي السنوسي
المبحث الأول
اسمه، وولادته، وشيوخه، ومبايعته، ومواقفه
أولاً: اسمه وولادته وشيوخه:
هو محمد المهدي بن محمد بن علي السنوسي ولد في الجبل الأخضر في ليبيا في محل يقال له ماسة، يقع بجانب زاوية البيضاء، في شهر ذي القعدة عام 1260هـ، الموافق نوفمبر 1844م (1).
ويذكر أحمد الشريف في تاريخه: (أن ابن السنوسي كان في درنة عند ولادة ابنه المهدي، فكتب له عمران بن بركة يهنئه ويسأله عن الاسم فلما قدم المبشر عليه حكى لهم حكاية قال: كان رجل يخرز طبلاً فمر به جماعة وهو يخرز. قالوا له: ماذا تفعل؟ قال: اذا يبس تسمعون صوته. ثم قال لحميه احمد بن فرج الله هذا المولود الذي ازداد على ابنتك يقف موقفاً يجري فيه الدم مجرى الماء في الوادي. وكتب لعمران بتسميته محمد المهدي وقال: اسميناه المهدي ليحوز إن شاء الله أنواع الهداية، ونرجو الله أن يجعله مهدياً) (2). لقد كان مجيئ الولد لابن السنوسي بعد ما تقدمت به السن وكان الاخوان السنوسيون يتمنون من الله أن يرزق شيخهم مولوداً مباركاً، ولذلك كانت فرحة الاخوان، وابن السنوسي بهذا المولود عظيمة، وسارع عمران بن بركة لزف البشرى لوالده، لإدخال السرور على قلبه، وبعد مدة أرسل ابن السنوسي الى زوجته بالقدوم الى درنة وسلم ابنه للمرضعة، وكان سرور ابن السنوسي عظيماً وكان يرى أن ابنه المهدي سيخلفه بالدعوة ويكمل مابدأه هو من أعمال، ومكث ابن السنوسي في درنة بجانب أهله الى أن ولد ابنه الثاني سنة 1262هـ/1846م. (وعندما كتب له عمران بن
_________
(1) الحركة السنوسية، ص169.
(2) السنوسي الكبير، ص34.(2/213)
بركة يهنئه ويسأله عن اسم الوليد الثاني رد له الجواب بتسميته الشريف قائلاً له: (إننا لا نحيد بأسماء ابنائنا عن اسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما يختلفون في الألقاب والكنى فكما سميت الأول محمد المهدي ليحوز انواع الهداية فسمي هذا محمد الشريف ليحوز أنواع الشرف .. ثم شرّق للحجاز) (1).
واسند أمر تربية أولاده للأخوان وكان المسؤول الأول الشيخ العلامة عمران بن بركة وكان يتابع أخبار ولديه في برقة وعندما أتم المهدي الخامسة من عمره أرسل ابن السنوسي للأخوان الكافلين له قائلاً: ادخلوه الكتّاب وعلموه الوضوء والصلاة. ففعلوا كما أمر (2).
وبعد أن أتم السنة السادسة من عمره أدخله المدرسة القرآنية تحت إشراف العلامة عمران بن بركة الفيتوري، وفي منتصف السنة السابعة من عمره. حفظ جميع القرآن الكريم.
وكان علماء الحركة السنوسية يعلمون أولادهم كتاب الله، ويشجعونهم على حفظه مقتدين في فعلهم بفعل الصحابة مع أولادهم وبأقوال العلماء في هذا الباب:
قال السيوطي: (تعليم الصبيان القرآن أصل من أصول الاسلام فينشأون على الفطرة ويسبق الى قلوبهم أنوار الحكمة قبل تمكن الأهواء منها وسوادها بأكدار المعصية والضلال) (3).
وأكد ابن خلدون هذا المفهوم بقوله: تعليم الولدان للقرآن شعار من شعائر الدين أخذ به أهالي الملة، ودرجوا عليه في جميع أمصارهم لما يسبق الى القلوب من رسوخ الايمان وعقائده بسبب آيات القرآن ومتون الاحاديث، وصار القرآن أصل التعليم الذي يبنى عليه مايحصل بعد من الملكات) (4).
_________
(1) أحمد الشريف المخطوط، ص76.
(2) الحركة السنوسية، ص170.
(3) انظر: منهج التربية النبوية للطفل، محمد نور، ص104.
(4) انظر: منهج التربية النبوية للطفل، ص105.(2/214)
وبعد أن سمع والده بحفظ ابنه للقرآن الكريم طلبه والده للمجيئ للحجاز، وصحبه العلامة محمد بن ابراهيم الغماري، وهناك عهد به والده الى نخبة من العلماء لتربيته وتلقينه العلوم تحت إشرافه المباشر، وفي سنة 1274هـ رجع محمد المهدي الى الجغبوب بصحبة العلامة عبد الرحيم المحبوب، وواصل محمد المهدي تعليمه العالي في معهد الجغبوب وأشرف على تعليمه وتربيته والده ابن السنوسي وكبار الأخوان.
وكان ابن السنوسي يتابع بعناية فائقة حركات وأقوال وأفعال ابنه، ويوجهه للصفات الرفيعة، والأخلاق الحميدة، وكان محمد المهدي منذ طفولته يتميز بالذكاء، وحسن الخلق، والتربية الرفيعة، ومن القصص التي تدل على صفاته الحميدة، جيئ للسيد المهدي في إحدى المناسبات بجواد مسروج ليركبه، وكان محمد المهدي لايزال صغيراً بحيث أنه لايستطيع وضع رجله بدون واسطة في ركاب السرج، وتقدم أحد الاخوان مطأطئاً ليصعد المهدي على كتفه حتى تصل رجله الركاب، وكان ابن السنوسي يلاحظ هذه الحركات وينظر إليها بإهتمام من طرف خفي، ورفض المهدي أن تطأ رجله كتفي الشخص الذي تقدم لمعاونته رفضاً باتاً، وأخذ يقود جواده بنفسه الى أن اقترب من حجر عال مثبت بالأرض فعلاه وبذلك تمكن من أن تصل رجله الى ركاب السرج فنال هذا اعجاب واستحسان والده والاخوان الحاضرين (1).
(وكان والده يكثر من سؤال الاخوان الذين يشرفون على تربيته وتعليمه عما وصل إليه فكانوا يبدون أعجابهم) (2).
وفي السنتين الأخيرتين من حياة ابن السنوسي اهتم بتوطيد مركز ابنه المهدي بين الأخوان، وألقى الأضواء عليه، وعمل على رفع شأنه.
نقل عن الشيخ عمر الفضيل -رحمه الله- قوله: جاء السيد المهدي بـ (لوحة) الى والده ابن السنوسي يريد أن يبدأ له فيه (بالأفتتاح) فلما فرغ من كتابته قال له: أشهد لنا بأننا خدمناك (3).
_________
(1) انظر: السنوسي الكبير، ص135
(2) انظر: الحركة السنوسية، ص172.
(3) انظر: السنوسي الكبير، ص136.(2/215)
وكان ابن السنوسي يقف احتراماً للمهدي عندما يستأذنه للخروج، وأنه أصلح له حذاءه مرة وقال للاخوان: اشهدوا أنني خدمت المهدي، فخجل ابنه وتبللت ملابسه بالعرق وأحمر وجهه حياء حتى قيل أنه أصيب بنوع من الحمى (1).
وقال في احدى المناسبات (المهدي له السيف والشريف له الكتاب. ثم البسه السيف وقال له تقدم لتصلي بنا) (2).
وحرص ابن السنوسي أن يزوج ابنه المهدي في حياته، فزوجه وهو لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره بفاطمة ابنة عمران بن بركة وذلك عام 1275هـ/1858م، وقد أنجبت للمهدي عدة أولاد وتوفيت في حياته سنة 1891م (3).
ثانياً: مبايعته:
عندما توفي ابن السنوسي في صفر عام 1276هـ كانت سن محمد المهدي حوالي ستة عشر سنة، ومع هذا فقد خف كبار العلماء والشيوخ في الحركة السنوسية الى مبايعته، وكان على رأسهم عمران بن بركة، وأحمد الريفي، علي بن عبد المولى، ومحمد المدني التلمساني، محمد بن حسن البسكري، وعبد المتعال الادريسي، احمد ابوالقاسم التواتي، ابوالقاسم العيساوي، عمر الأشهب، محمد بن الشفيع، مصطفى المحجوب، عبد الرحيم المحبوب، عمر الفضيل، محمد السكوري، احمد ابوسيف، محمد بن الصادق الطائفي، ابوسيف مقرب، ومحمد بن ابراهيم الغماري، عبد الله السني، المرتضى فركاش، حسين الغرياني، فالح الظاهري، فقدموا لمحمد المهدي وشقيقه محمد الشريف واجب التعزية، وبايعوا الإمام المهدي قاطعين على أنفسهم عهد الله وميثاقه أن لايتهاونوا بواجب الامانة التي تركها شيخهم الجليل لهم، وانهم مستعدون لتقديم الانفس والأرواح، في سبيل دعوتهم ودينهم، وكانت تلك البيعة قبل دفن ابن السنوسي (4) -رحمه الله تعالى- وقد بين عمران بن بركة في خطبة تأبين ابن السنوسي هذه البيعة في قوله: ( ...
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص136.
(2) انظر: الحركة السنوسية، ص171.
(3) انظر: الحركة السنوسية، ص173.
(4) انظر: المهدي السنوسي، ص30.(2/216)
وأن تجعل تأييد الدين وتمامه على لسان ويد نجله الطاهر وفرعه الزاهر ووارثه الماهر سيدي ومولاي السيد محمد المهدي، ... ) (1).
ثالثاً: المجلس الأعلى للحركة وسير الحركة:
كون الامام المهدي السنوسي مجلساً أعلى من كبار الاخوان، يتكون من؛ العلامة عمران بن بركة، واحمد الريفي، علي عبد المولى، وفالح الظاهري، عبد الرحيم المحبوب، محمد المدني التلمساني، محمد بن الحسن البسكري، وسيف مقرب (2)، وكان هذا المجلس يمثل قمة الهرم الذي قاعدته الزوايا، وكان يضم كبار رؤساء الزوايا في برقة وطرابلس ومصر، والحجاز والسودان، وشمال أفريقيا، وكان يجتمع سنوياً في الجغبوب للنظر في أهم أمور الحركة، وكان يرأسه محمد الشريف السنوسي ثم تعرض قراراته على الامام المهدي، للموافقة عليها، او تعديلها بما يبدو له، أو رفضها، أما المجلس الخاص، فيتكون من كبار الاخوان المقمين في الجغبوب، فيعقد جلساته يومياً بالجغبوب، وللكثير من اعضائه أعمال اخرى مضافة الى عضوية المجلس وهو يشكل قيادة للحركة، وقد وصف الطيب الأشهب هذا المجلس، بمثابة مجلس الوزراء، فالسيد احمد الريفي بمثابة رئيس للوزراء، وهو المستشار الخاص للامام محمد المهدي، وعمران بن بركة رئيس مجلس الشيوخ، وعلي بن عبد المولى حاكم الجغبوب، بمثابة وزير داخلية ومالية في وقت واحد الى جانب نظارة الخاصة الامامية، ومحمد المدني بمثابة وزير الشؤون الاجتماعية ومحمد الشريف، بمثابة وزير المعارف، الى جانب نيابته عن الامام المهدي، ورؤساء الزوايا، كحكام للمناطق، وبمثابة نواب الأمة عندما يجمعهم المجلس الأعلى وهناك مسؤليات أخرى وزعت على من ذكرنا وغيرهم، كالأشراف على طلبة القرآن، وطلبة العلم، ومراقبة المعلمين في المدرستين القرآنية والعلمية، والاشراف على العمال، وعلى دار الضيافة، ولاستقبال الزوار، ومراقبة المكتبة الجغبوبية ونظام توزيع
_________
(1) انظر: الحركة السنوسية، ص173.
(2) انظر: المهدي السنوسي، ص35.(2/217)
الأرزاق (التموين)، واستلام الوارد وحفظه، الى جانب هذا النظام المحكم، هناك مجالس فرعية في كل أقليم من الأقاليم تضم رؤساء المراكز الاصلاحية في ذلك الاقليم، للنظر فيم يتعلق باختصاصاتهم، والشؤون
المرتبطة بهم، فعلى هذا التخطيط كانت تدار شؤون الحركة (1).
ومن الملاحظ أن مبدأ التفرغ كان موجوداً في الحركة، لقناعة الحركة السنوسية أن الأعمال العظيمة تحتاج الى أوقات كبيرة، وجهود ضخمة، وهمم عالية، ولذلك سلكت الحركة السنوسية مسلك تفريغ بعض القيادات، ووفرت المال اللازم لهذا الهدف، ووفرت كل مايحتاجه الافراد المتفرغين حتى يستطيع المتفرغون أن يبذلوا مافي وسعهم من أجل الدعوة ونشرها بين الناس.
واهتم الامام المهدي بتطوير العاصمة السنوسية، فحفلت الجغبوب بالنشاط العلمي والزراعي وانتظم سير العمل في معهد الجغبوب، ووزع تلاميذ المدارس القرآنية على أقسام، ورتبت بدقة أمور الدراسة، وكل مايتعلق بالطلاب، كذلك سارت حركة الصناعة البسيطة التي يحتاجها الأهالي كالحدادة والنجارة ... الخ واستصلحت مساحات من الأراضي وصارت تنتج الخضار والتمور، وارتبطت الجغبوب بالزوايا المتناثرة في الصحراء، فكانت القوافل تمر منها في رحلاتها بين الساحل الأفريقي والصحراء، وبين مصر والمغرب، كما كانت قبلة وفود القبائل التي تدين بالولاء للسنوسية، وانتظم سير العمل في الزوايا بسبب التنظيم الدقيق الذي سادها؛ وكان الاتصال بين المركز والزوايا يتم بانتظام، ودقة بالغين، فالرسائل مستمرة بين المهدي ورؤساء الزوايا تنقلها القوافل في طريقها، أو ينقلها في بعض الاحيان مبعوثون إذا استوجب الأمر الاستعجال، وتضمنت الرسائل تعاليم الحركة للزوايا وتقارير رؤساء الزوايا للمركز بالاضافة الى أخبار الحركة والاخوان (2) وكانت الزوايا تقوم بدورها في جمع المعلومات وما يتعلق بالقضايا الأمنية وترسلها الى الجغبوب،
_________
(1) انظر: المهدي السنوسي، ص35.
(2) انظر: الحركة السنوسية، ص180.(2/218)
وكان نظام البريد في الحركة السنوسية في عهد الامام المهدي ينقسم الى أربعة أقسام نقطة ارتكازها الجغبوب وكان ترتيبه على الوجه الآتي:
- بريد خاص بزوايا طرابلس.
- بريد خاص بزوايا برقة.
- بريد خاص بزوايا مصر.
- بريد خاص بزوايا السودان.
وكثير ما يصل البريد ويصدر بواسطة قوافل الزوار والتجار وهذا عدا البريد المنظم والرسل الخاصين متى دعت الحالة. يصل البريد ببرقة الى زاوية مسوس وهذه تقوم بتوزيعه الى زوايا برقة ويصل الى زاوية جنزور أو العزيات وهذه تقوم بتوزيعه على زوايا الجبل ويصل البريد الخاص بطرابلس الى احدى زواياها والمفهوم أنها سرت في المدة الأخيرة وهذه تقوم بتوزيعه، كما أن البريد الخاص بزوايا واحات فزان يصل الى زاوية (واو) وهي تقوم بتوزيعه، وتقوم احدى هذه الزوايا بمهمة ارسال البريد العادي الى زوايا الجزائر، ان لم يكن البريد مستعجلاً وألا يرسل بصفة خاصة الى زوايا السيد بن تكوك رأساً من الجغبوب والكفرة، ويصل البريد الخاص بزوايا مصر الى سيوه وهناك من يتولى مسؤوليته ممثل السنوسيين بما في ذلك بريد الحجاز، وإذا كان هذا مستعجلاً فتتخذ له طريقة خاصة، اما اذا كان البريد خاصاً بزوايا خاصة في أي جهة من الجهات يقوم به الساعي من الجغبوب رأساً وكل زاوية من الزوايا يحدث لها أمر من الأمور يدعو لمواصلة المركز العام، فيقوم منها ساع مخصوص، ولايكاد البريد يتأخر أكثر من شهر لاي جهة من الجهات لكثرة القوافل، وتعاقب الزوار، أما البريد الخاص بالسودان، فعادة مايكون مع سيل القوافل المنهمر ذهاباً واياباً وهكذا كانت الأخبار تصل الى عاصمة الحركة وتصدر منها التوجيهات والأوامر الى جميع الزوايا وفي كل البلدان وممن أشرف على سير بريد الحركة السنوسية من الاخوان؛ محمد السمالسوسي، عبد السلام(2/219)
الشرداخ، عبد الرسول الرتيوي، السنوسي التيتلي، عيسى التارقي، ابراهيم الشهيبي، علي السعيطي، حسين الهبري، عبد الرحيم الفضيل، محمد البوعيثي (1).
وكان من يريد زيارة الامام المهدي يذهب الى الجغبوب وهناك يخضع لنظام خاص متبع ترتبط اجراءاته بالسيد محمد البسكري الذي يعد بمثابة رئيس الديوان والتشريفاتي، فهو الذي يقوم بتحديد مواعيد الزيارة التي لاتكون إلا عن طريقه، ويصحب كبار الزائرين ويقف خلف زعيم الحركة السنوسية اثناء الزيارة سواء كانت الزيارة للعوام او الخواص، اما اذا كان الزائر او الزوار تابعين لاحد الزوايا، فعلى رئيس الزاوية ان كان حاضراً ترتيب هذه الزيارة مع محمد البسكري وقد جرت العادة بأن تكون زيارة الضيوف بعد تمام مدة الضيافة وهي ثلاثة أيام إلا في حالات استثنائية (2).
رابعاً: نمو الحركة السنوسية وأسبابه:
نمت الحركة السنوسية في عهد محمد المهدي نمواً كبيراً، وتضاعفت عدد الزوايا أكثر من أربعة أضعاف وانتشرت هذه الزوايا في الصحراء الكبرى، وعلى طريق مصر، وتونس، وفي واداي ... وغيرها.
وكان من اسباب هذا النمو السريع، طبيعة الحركة، ونظمها المتطورة بالنسبة لعصرها، وفهمها لطبيعة المجتمعات القبلية، وطول المدة التي قضاها الزعيم الثاني في قيادة الحركة إذ تجاوزت اربعين سنة، فتمكن أثناءها من تركيز العمل الذي بدأه والده وكان يقول: (إن والدي بدأ عملاً من المنتظر أن يأتي بنتائج عظيمة، وقد أخذت على عاتقي اتمامه وليس على غرض آخر) (3)، وكانت سياسته الحكيمة تمنعه من الاحتكاك بالدولة العثمانية، او الدول الأوروبية وحصر جل اهتمامه بنشر الدعوة بين القبائل، وساعدته اخلاق رفيعة، وصفات حميدة تحلى بها في اقبال الناس على
_________
(1) انظر: برقة الامس واليوم، ص212،213.
(2) انظر: الحركة السنوسية، ص45.
(3) انظر: المهدي السنوسي، ص134.(2/220)
الحركة السنوسية، واحتل بها مكانة رفيعة في قلوب الاخوان والأتباع ومؤيدي الدعوة، فكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويبث العلوم في اوساط القبائل متبعاً في ذلك كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
قال احمد رفيق المهدوي:
كانت طريقته القيام بسنة
نبوية لالاءة الاوضاح
فله من الخدمات للاسلام
مايعلو على متناول الشراح
يكفيه نشر الدين في الالاف من
أقصى حدود (الشاد) حتى (الواح)
نصر لدين الله بين مجاهل
صعبت على الرواد والسياح
فازوا من الفتح المبين بعزة
الاسلام بعد عبادة الاشباح (1)
لقد تحلى الامام محمد المهدي بعلم وورع وتقوى، وشخصية جذابة، وبعد نظر، وثاقب فكر، ورأي صحيح، وعزم شديد وحرص أكيد على اتمام البناء الذي شيده والده، والعمل بكل جهد وقوة من أجل نشر الدعوة بين أهل البلاد القريبة والبعيدة في أفريقيا الوسطى خصوصاً حتى ذاع صيته، وتمكن السنوسيون بفضل الله تعالى ثم جهودهم المتواصلة من أن يصلوا بدعوتهم الى قلب الصحراء الكبرى، وأطرافها حتى جهات بحيرة تشاد ومايجاورها من إمارات اسلامية قديمة أو قبائل زنجية وثنية أو قبائل أخرى لم يكن قد صلح حال اسلامها بعد (2).
لقد دخلت عدة قبائل افريقية في الدعوة الاسلامية بفضل الله تعالى ثم جهود الحركة السنوسية ومن أشهر القبائل التي استجابت لدعاة الحركة السنوسية؛ قبيلة بلي التي كانت على الوثنية، ووصلت الدعوة الاسلامية الى شعب التيدا في بلاد تيبستس بالصحراء الكبرى جنوب واحة فزان، فقد كانوا لايعرفون من الاسلام إلا إسمه، وكان دعاة الحركة السنوسية قد توغلوا في افريقيا ووصلوا الى بلاد الجَلا في الحبشة، فيرسلون إليها في كل عام من هَرَر، حيث تتمتع السنوسية بنفوذ كبير،
_________
(1) انظر: المهدي السنوسي، ص38.
(2) انظر: السنوسية دين ودولة، ص58.(2/221)
وتكاد تجد كل الرؤساء منهم في بلاط الأمير بلا استثناء، وكانت الحركة السنوسية، تفتح المدارس وتبنى المساجد، والمراكز الاصلاحية وتشتري العبيد ثم يعلمونهم مبادئ الاسلام ثم يعتقوهم ويرسلونهم الى أوطانهم وقبائلهم ليدعوا اقوامهم الى الاسلام (1).
واستفادت الحركة السنوسية من هجرة القبائل العربية القديمة في افريقيا وجددت الصلة معها ونسقت معها في الدعوة وفي الجهاد ضد فرنسا ومن اشهر هذه القبائل؛ أولاد سليمان، أولاد يعقوب، أولاد غنّام، المحافيظ وغيرها كثير وكانت قد استقر بعضها في مالي، وتشاد، والنيجر، ونيجيريا، والكمرون (2).
وتمكن الامام المهدي ان يبني علاقات قوية مع الامارات الاسلامية في واداي، وبرقو، وكانم وغيرها، واختط خطة حكيمة كانت مبنية على الحيطة والحذر من النفوذ الصليبي الأوروبي في افريقيا ثم عدم التردد في مكافحة هذه الدول إذا جد الجد، كما فعل مع فرنسا (3).
وواصل المهدي السنوسي سيره في فتح المراكز الاصلاحية، والمدارس القرآنية، وبناء المساجد التي اهتمت بنشر الاسلام، وقام بإرسال دعاة ومبشرين بالاسلام ودين الله، اشتهر منهم العلامة، محمد عبد الله السني، والشيخ حموده المقعاوي، وطاهر الدغماري، وغيرهم كثير.
وقام المهدي، بتقوية الصلات التجارية بين الزوايا وبين مراكز التجارة والاسواق المختلفة، ونتج عن ذلك استتباب الأمن في هذه الربوع وإنتشار الطمأنينة، فقد زاد نشاط القوافل وأقدم المسافرون والتجار على قطع الفيافي والصحارى من غير تردد، فظهرت بوادر العمران في الطرق الصحراوية وأصبح من الميسور على دعاة الحركة أن يصحبوا هذه القوافل وهؤلاء المسافرين والتجار في رحلاتهم وأسفارهم ويدعون الى
_________
(1) انظر: انتشار الاسلام في القارة الأفريقية، د. حسن ابراهيم، ص49.
(2) انظر: جهاد الليبيين ضد فرنسا في الصحراء الكبرى، محمد القشاط.
(3) انظر: السنوسية دين ودولة، ص58.(2/222)
الاسلام، ويقضون على الوثنية، ويعطلون بذلك أعمال التنصير الذي تدعمه الدول الأوروبية في أفريقيا، وبالفعل حققت الحركة انتشاراً عظيماً في أوساط أفريقيا مثل بلاد النيجر، والكنغو، والكامرون، وجهات بحيرة تشاد، وذاع خبر الحركة السنوسية في افريقيا من خلال طريق واداى وبرنو وكانم واداموا والداهومي (1) وغيرها، وبدأت الدول الأوروبية تشعر بخطر الحركة السنوسية وشرعت في حبك دسائسها ومؤمراتها وتأليب الدولة العثمانية عليها، لقد صدمت الدول الأوروبية بالنتائج التي حققتها الحركة السنوسية، واشتاطت غضباً وحقداً على الاسلام وهي ترى قبائل وثنية مثل التبو، والبرقو، الندى تدخل طائعة مختارة في الاسلام (2).
كان الدعاة السنوسيون يعملون بالليل والنهار، والسر والاعلان، ويقطعون المسافات الشاسعة من أجل دعوة الله تعالى وكان بعضهم يترك أهله وأطفاله في الجغبوب وذات مرة دخلت السيدة صالحة البسكرية زوجة ابن السنوسي على محمد المهدي وكان يجلها ويحترمها، وقالت له: ان نساء الاخوان قد سئمن كثرة اسفار ازواجهن، وطول تغيبهم، وعدم استقرارهم، فابتسم وقال: إن الجهاد طويل وشاق، وان العمل يتطلب الجد، والشيء الذي ينتظرنا وينتظر اخواننا في المستقبل اشق مما هم عليه الآن) (3).
وكان الامام المهدي مهتماً بالبناء الداخلي للحركة ولذلك اشرف بنفسه على إصلاح ذات البين بين القبائل وكان يرى وحدة الصف والتربية الجهادية مهمة في مواجهة المعارك القادمة ضد الاسلام.
وعندما اشتد النزاع بين قبائل الجبارنة وأولاد علي ووصل الى مرحلة اوشك القتال أن يندلع بينهم بسبب حادثة قتل جربوع بن الشيخ ابو سيف الكزة بمصر وكان الشيخ ابو سيف ابن ابي شنيف الكزة من الشخصيات الظاهرة بين شيوخ
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص60.
(2) انظر: المهدي السنوسي، ص51.
(3) المصدر السابق نفسه، ص60.(2/223)
الجبارنة ومسموع الكلمة وهو والد المقتول، فأصبح داعية كبرى لغزو أولاد علي وأنشد قصيدة باللغة الشعبية مثيرة لما كمن من الاحقاد والضغائن، ومسعرة لشرار الغضب، ومذكية لنار الانتقام يستنجد بها جميع القبائل الموالية له أو التابعة والمرتبطة به، كما جرت العادات ويحثهم في قصيدته بالاستعداد لغزو أولاد علي، وقتل رجالهم، وأخذ أموالهم وسبي نساءهم وكانت مطلع قصيدته تقول:
يا عون من قابلا عون ... وأشرف على رأس عال
أو جنة فراجين وحسون ... أوعينت طامية في المشالي (1)
وكاد الشيخ ابوسيف أن ينجح فيما أراده للغزو حيث لبي طلبه، وأخذت قبائل أولاد علي تستعد للمعركة وأرسلت الى الشيخ ابي سيف تدعوه للإسراع للقتال وفي هذه الأثناء وصل كتاب من شيخ زاوية مسوس السنوسي الاشهب الى الزعيم محمد المهدي يخبره بالأمر، فأرسل المهدي في طلب الشيخ أبي سيف بسرعة، فأمتثل الأخير أمر السيد المهدي في الوقت الذي تقرر فيه الغزو وارجأه الى أن يعود من الجغبوب ولما وصل الشيخ ابو سيف ومثل امام يدي إمام الحركة السنوسية الذي أخذ ينصحه في الإقلاع عما عزم عليه، ويبين له حرمة هذا الفعل الجاهلي، فأمتثل الشيخ ابو سيف أمر المهدي، واقلع عن فكرته وعاهد إمام الحركة بالعدول عنها وان لايعود لمثلها، بالرغم عمّا في ذلك من المساس بكرامته وكرامة بني قومه وسمعتهم التي يرون حفظها في الأخذ بالثأر ورجع الشيخ أبي سيف وبر بوعده وأمر قومه والنجدات التي استعدت لمساعدته بالرجوع الى مواطنهم، وكتب الى زعيم قبائل أولاد علي وبقية شيوخهم يخبرهم بالعدول عن رأيه وأن يكونوا في مأمن من جهته لا خوفاً منهم ولا خشية من العاقبة ولكن امتثالاً لأمر الشرع وطاعة لزعيم الحركة السنوسية (2).
وكان المهدي يحرص دائماً على ازالة البغضاء والشحناء من نفوس القبائل
_________
(1) انظر: برقة العربية الامس واليوم، ص204.
(2) انظر: برقة العربية الامس واليوم، ص205.(2/224)
المتعادية، ويدعوها الى أخوة الاسلام، وشغلها بالطاعة، ودفعها نحو المعالي، والأخلاق الرفيعة، واستطاع أن ينظم من القبائل كتائب للجهاد ساهمت في قتال فرنسا وبعد وفاته قاتلت ايطاليا.
لقد كرّس المهدي جهوده للبناء الداخلي في الحركة واختط طريقاً سلمياً تجنب الاحتكاك فيه جهد المستطاع بالقوى المحيطة به، واستطاع أن يتخذ مواقف تدل على بعد نظره وثاقب فكره من الثورات التي حدثت في السودان وفي مصر، وكذلك الدول الأوروبية.
خامساً: المنهج التربوي الجهادي:
حرص الإمام المهدي على تعميق المنهج التربوي في أتباع الحركة، وكان
-رحمه الله- يدرك تماماً أن العمل بأحكام القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة يقتضي وجود القوة والسلطان، ولذلك جعل من الزوايا مركزاً لتعليم الرماية أيضاً؛ فكان يحث الاخوان والأتباع على إتقانها ويبث فيهم روح الأنفة والنشاط ويحملهم على الطراد والجلاد، ويعظم في اعينهم فضيلة الجهاد، وكان المهدي يمتلك خمسين بندقية خاصة يعتني بتنظيفها وإعدادها دائماً بيده ولا يرضى بأن يؤدى هذا غيره من أتباعه الكثيرين قصداً، وعمداً، حتى يقتدى به الناس ويهتموا بأمر الجهاد، ويحفلوا به (1).
ونشطت الحركة السنوسية في تعبئة اتباعها على الاستعداد للجهاد، ونظمت صفوفها، ورأى السلطان عبد الحميد الثاني في الحركة السنوسية قوة منظمة ومعدة اعداداً مادياً ومعنوياً جيداً يمكن استغلالها في المواجهة العسكرية المتوقعة مع أعداء الدولة العثمانية في شمال أفريقيا، وقد أعرب السلطان عبد الحميد عن ثقته بقوة الحركة السنوسية قائلاً: (واذا كان هناك احد عليه الدفاع عن حقوقنا، فهو الشيخ السنوسي، لأنه قادر على أن يجمع حوله ثلاثين ألفاً من الرجال، ولن يتخلى عن بنغازي إلا بعد قتال ثم إن صلته بمئات الألوف من أتباع الطرق والمريدين قوية، فإذا
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص60.(2/225)
قام السنوسيون قومتهم؛ فلابد أن يجرون الإيطاليين الى صراع دموي أشد مما شهدته السودان في ثورة المهدي، لقد جهزنا السنوسي بمقدار كافي من الاسلحة والذخائر، فهم قوة لايستهان بهم أبداً) (1).
كان هذا التصريح بعد ما وصلت للسلطان عبد الحميد المخططات الايطالية التي كانت تستهدف ليبيا، لأن ايطاليا كانت تحلم بضم شمال أفريقيا، لأنها تراه ميراث ايطالي هكذا صرح رئيس وزرائها (مارتريني) لكن فرنسا احتلت تونس، وانكلترا احتلت مصر، ولم يبق أمام إيطاليا إلا ليبيا.
واستطاعت مخابرات السلطان عبد الحميد الثاني أن تكشف سياسة ايطاليا في ليبيا التي كانت على ثلاث مراحل:
1. الحلول السلمية، بإنشاء المدارس والبنوك وغيرها من " مؤسسات خدمية".
2. العمل على أن تعترف الدول بآمال إيطاليا في احتلال ليبيا، بالطرق الدبلوماسية.
3. إعلان الحرب على الدولة العثمانية والاحتلال الفعلي.
وكانت السياسة الايطالية لاتلفت النظر الى تحركاتها، بعكس السياسة البريطانية أو الفرنسية في ذلك الوقت وكان الايطاليون يتحركون بحكمة وهدوء شديدين دون إثارة حساسية العثمانيين.
وكان السلطان عبد الحميد متيقظاً لتلك الأطماع الايطالية وطلب معلومات من مصادر مختلفة عن نشاط إيطاليا في ليبيا وأهدافهم، فجاءته المعلومات تقول: (إن للايطاليين بمدارسهم وبنوكهم ومؤسساتهم الخيرية التي يقيمونها في الولايات العثمانية، سواء في ليبيا أو في ألبانيا، هدفاً أخيراً هو تحقيق أطماع إيطاليا في الاستيلاء على كل من:
_________
(1) انظر: السلطان عبد الحميد الثاني مذكراتي السياسية، ص147.(2/226)
1 - طرابلس الغرب.
2 - ألبانيا.
3 - مناطق الأناضول الواقعة على البحر الأبيض المتوسط: أزمير، الاسكندرون، انطاكيا.
وقام السلطان عبد الحميد الثاني بإتخاذ التدابير اللازمة أمام أطماع إيطاليا، ولما شعر أنه سيواجه اعتداءً إيطالياً مسلحاً على ليبيا، قام بإمداد القوات العثمانية في ليبيا بـ (15.000) جندي لتقويتها وظل يقظاً حساساً تجاه التحركات الايطالية، ويتابعها شخصياً وبدقة، ويطالع كل ما يتعلق بالشؤون الليبية بنفسه بواسطة سفير الدولة العثمانية في روما، ووالي طرابلس مما جعل الايطاليون يضطرون الى تأجيل احتلال ليبيا، وتم لهم ذلك في عهد جمعية الاتحاد والترقي، ولذلك حرص السلطان عبد الحميد على تقوية الحركة السنوسية
ودعمها مادياً، ومعنوياً (1).
لقد اهتمت الحركة السنوسية بإعداد أفرادها للجهاد في سبيل الله ضد أوروبا الصليبية التي تهاجم ديار المسلمين في كل مكان، وكانت وسائل التربية عند الحركة السنوسية، روحية، وفكرية، ونفسية، وجسدية، واجتماعية، ومالية، فكان اهتمام الحركة بالتربية الروحية عظيماً، ولذلك تعلق أفراد الحركة السنوسية بالجنة وحرصوا على رضى الله تعالى، وتعمقت مفاهيم القضاء والقدر في نفوسهم، فأصبحوا لايخافون إلا الله، فكانوا يتربون على قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ به الروح ويؤمر بأربع كلمات، يكتب رزقه وأجله وعمله شقي أو سعيد ... ) (2).
فأجل المرء يكتب وهو في بطن أمه قال تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى الى أجل مسمى} (سورة الزمر، آية 42).
_________
(1) انظر: الدولة العثمانية عوامل النهوض واسباب السقوط لعلي الصلابي، ص686.
(2) انظر: مسلم رقم 2643.(2/227)
كانت عقيدة القضاء والقدر واضحة المعالم في فكر الحركة السنوسية، فأصبح اتباعها يؤدون واجبهم بكل شجاعة، وهم على يقين راسخ بقوله تعالى: {قل لن يصيبنا إلا ماكتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون} (سورة التوبة، آية 51).
ولقد ألتقيت بالشيخ الفاضل رئيس المحاكم الشرعية في ليبيا سابقاً في زمن المملكة الليبية، الشيخ منصور المحجوب بمكة المكرمة وحدثته عن حرصي لكتابة تاريخ الحركة السنوسية، فأنساب في الحديث عن رجالات الحركة وحبهم للاسلام، وتعلقهم بالآخرة وجهادهم ضد فرنسا وذكر بعض المجاهدين عندما استعصى عليهم فتح حصن من الحصون التي احتلتها فرنسا بتشاد قاموا بحصاره وتأخر الفتح اقسم احد الأخوان السنوسيين أما الشهادة وإما الفتح، وانقض كالأسد بجواده على الحصن وكان ذلك الهجوم سبباً في الفتح وفاضت عينا الشيخ منصور بالدموع، وشرع في البكاء ثم قال أولئك قوم عرفوا الله وعملوا بهذه المعرفة ثم وجه الخطاب إليّ وقال لي ياصلاّبي اتقي الله في كتابتك واعلم بأن الله سيحاسبك عليها يوم القيامة، وانتفضت من مكاني من شدة تأثير كلامه عليّ، وحثني على الاخلاص والرغبة فيما عند الله وقال لي أنا الآن قد جاوزت السبعين من عمري وقد رأيت الكثير في الدنيا ورفع يده الى فمه ثم نفخ في كفه وقال إن حقيقة هذه الدنيا مثل هذه النفخة.
إن الشيخ منصور المحجوب يعتبر من اتباع الحركة السنوسية وقد تولى مناصب كبيرة من رئاسة الجامعة الاسلامية بالبيضاء، وتولى رئاسة القضاء وهو من مؤسسي رابطة العالم الاسلامي وأخبرني بأنه ماكث في مكة ينتظر الوفاة حتى يدفن في الأراضي المقدسة.
إن الحركة السنوسية اهتمت بتربية اتباعها على الصلاة والقيام، والصوم، والزكاة، والحج، وتلاوة القرآن الكريم الذي هو حبل الله المتين ونوره المبين والذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم.
إن من أعظم العبادات ومن أحسن الوسائل في التربية الروحية التي سلكها(2/228)
السنوسيون هي تلاوة القرآن الكريم والتفقه فيه والعمل به قال تعالى:
{لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله وتلك الامثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون} (سورة الحشر، آية 21).
إن القرآن الكريم يطهر النفوس، ويحي القلوب، ويغذي الأرواح ويصل الافراد بخالقهم العظيم سبحانه وتعالى، ولا تعجب أيها القارئ الكريم اذا علمت أن احمد الشريف السنوسي القائد الثالث للحركة السنوسية -رحمه الله تعالى- كان يشترط في حرسه الخاص حفظ القرآن الكريم وان التعاقب بين جنوده يعرف عن طريق تلاوة الاجزاء من القرآن الكريم.
وكانت الحركة في وسائلها التربوية لأتباعها تهتم بأخبار العالم الاسلامي وتوصيلها الى الأتباع، وكانت الزوايا تقوم بهذا الدور، وكانت القوافل تتوغل في الدول الاسلامية للتجارة، وتأتي بأخبار الاسلام والمسلمين، والأعداء، وكانت تغذي اتباعها بالتربية الفكرية والنفسية للوقوف ضد اطماع النصارى الغزاة المجرمين وكانت تهتم بالتربية الجسدية لأتباعها ولذلك نجدهم يقطعون الفيافي والصحارى على الجمال ثم يجاهدون الأعداء بعد قطع مئات الكيلومترات، وقد وجدت في سيرة عمر المختار -رحمه الله- انه قطع على جواده ثلاثة أيام متواصلة ليلها بنهارها لفض النزاع بين عزير المصري قائد من ضباط الاتراك واحدى القبائل، وهذا يدل على لياقة بدنية عالية، وقوة بدنية متميزة.
كان المهدي السنوسي يسير بخطى ثابتة، ووفق أهداف مرسومة، ويستعد للمستقبل القريب حيث بدأت الأطماع الفرنسية تتوغل في أفريقيا، وبدأت الدول الأوروبية تصطدم مصالحها مع وجود الحركة السنوسية في أفريقيا.
سادساً: موقف الدول الأوروبية من الحركة:
حققت الحركة السنوسية انتشاراً كبيراً في أواسط أفريقيا، وتوطد سلطانها في قلب الصحراء الكبرى، وكانت عقبة في طريق الرسالات التنصيرية التي وجدت في(2/229)
الحركة السنوسية خصوماً عنيدين، عطلوا عليها اعمالها لدرجة بعيدة، فحاولت الدول الأوروبية التقدم، والتقرب من الامام المهدي السنوسي؛ فكان لايأبه بمحاولة هذه الدول، من أجل التقرب إليه، وفشلت وسائلهم في اجتذابه إليهم، وأعرض عنهم، وعظمت مخاوفهم من تشكيلاته، وحركاته، وانكبوا يسعون لدى الدولة العثمانية ويشددون الضغط على السلطان عبد الحميد الثاني كي يتوسط بوصفه الخليفة الأكبر في استدعاء السيد المهدي في أفريقيا للإقامة في أرض الحجاز أو في دار الخلافة وعدم مغادرتها والعودة الى وطنه، ولكن السلطان لم يجب الدول الى هذه الرغبة، بل وقف مع محمد المهدي موقفاً مشرفاً.
لقد وجدت الرسالات التنصيرية المسيحية في السنوسيين خصوماً عنيدين عطلوا عليها أعمالها لدرجة بعيدة، إن لم يكونوا قد أفسدوا هذه الأعمال في بعض الجهات وأبطلوها زد على ذلك أن نجاح الدعوة السنوسية وتقوية أركانها جعلت الدول الأوروبية تسعى لتوقي خطرها ووجدت فرنسا نفسها في طريق الاصطدام عاجلاً أو آجلاً مع الحركة السنوسية، اضف الى ذلك أصبحت إيطاليا بعد وحدتها تتطلع الى احتلال طرابلس الغرب، وغدت تبذل كل مابوسعها لكسب المهدي السنوسي، لعلها تظفر بسكوته حينما تواتيها الفرصة لتحقيق هدفها، وأما ألمانيا بعد خروجها منتصرة من الحرب السبعينية شرعت في كسب المهدي حتى يدعمهم ضد فرنسا في افريقيا الغربية (1)، فحاولوا عام 1872م مفاوضة المهدي على أمل تحريكه ضد الجهات التي خضعت للفرنسيين في أفريقيا الشمالية والغربية، ولكن محاولتهم ذهبت سدى، لأن المهدي رفض مقابلة الرسل الذين أوفدوهم إليه فغادر هؤلاء البلاد دون أن يتمكنوا من الحديث معه، ومع هذا فقد تكررت محاولات الألمان في الأعوام التالية للغرض نفسه واستطاع الرحالة (جبرار رولفس) في عام 1876م أن يزور برقة والكفرة ثم قصد الى الجغبوب لمقابلة السيد المهدي، ووقف عند (سبر سلام) بالقرب منها؛ وقابله احمد بن البسكري عدة مرات، ولكنه عجز عن الوصول الى المهدي السنوسي (2).
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص65،66.
(2) المصدر السابق نفسه، ص69.(2/230)
تولت فرنسا مهمة الهجوم الاعلامي على الحركة السنوسية، وأرسلت عدداً من الرحالة منهم دوفرييه، ثم وقفت من الحركة موقفاً عدائياً وشنت عليها حرباً دعائية، بواسطة رحالتها الذين كتبوا عن السنوسية، وقصدت بذلك تشوية الحركة، كما تجلى موقفها العدائي في ضغطها على الباب العالي للتضييق على السنوسية. ثم تبلور هذا الموقف في حربها الظالمة لمواقع الحركة السنوسية في تشاد وسنتحدث عنها في موضع آخر.
وكان أكثر الرحالة الفرنسيين تعصباً في كتاباته دوفرييه الذي اتهم السنوسية بعدة تهم وبالغ في تخيلاته، وذلك أنه رأى في الحركة خطراً عظيماً يتهدد مصالح فرنسا والمسيحية في افريقيا وقد اعتبر دوفرييه السنوسية مسؤولة عن جميع حوادث الاغتيال التي حدثت في الصحراء ضد بعض الرحالة الأوروبيين، كما اتهمها بالتعصب وكراهية اليهود والنصارى وصورها عدواً فاغراً فاه للقضاء على الأوروبيين، وزعم أنها حرّكت وساعدت جميع الثورات التي قامت في الجزائر، وقد وافق الرحالة لوي رين على بعض هذه التهم ورددها كتّاب آخرون مثل مونتيه وهوايت وفبرود. إن السنوسية ماتعرضت لمثل هذه الحرب الدعائية إلا لكونها حركة اسلامية جهادية دعوية شاملة في مفاهيمها (1) أما اتهامها بالاغتيالات فهذا باطل ومردود بالحجة والبرهان، والدليل، بل كان الإمام المهدي يعامل غير المسلمين باللطف والبشاشة والرفق وحسن الخلق؛ وعندما يريدون الرجوع يرسل معهم من يوصلهم الى المكان الذي يريدون سواء مصر أو درنة أو بنغازي، ويقول للاخوان؛ لابد لنا من إكرام الأجنبي، ويعني غير المسلم، عسى الله أن يهديه الى الدين الحق لأن واجبات المسلم وشعائره إكرام الضيف كيفما كانت ديانته ليبلّغ عنا ماشاهده منا والله يهدي من يشاء الى صراط مستقيم (2).
وفي عام 1312م قدم على الجغبوب رجل انكليزي، فأراد بعض الاخوان أن يؤذوه،
_________
(1) انظر: الحركة السنوسية، ص198.
(2) انظر: جلاء الكرب عن طرابلس الغرب للحشائشي، ص165.(2/231)
لكنه طلب مقابلة الشيخ المهدي فأذن له في ذلك، واجتمع به وسئل هل له من حاجة من الشيخ!؟ فقال: ماعندي حاجة، إنما القصد من إتياني النظر في وجه الشيخ لما أسمع عنه، وحظي الانكليزي بالإكرام، وحسن القبول، ومكث عنده ثلاثة أيام ضيفاً كريماً ثم كر راجعاً الى طريق مصر (1).
وكان محمد المهدي السنوسي يوصي جميع أخوانه ومشايخ الزوايا، واتباع الحركة بعدم أخذ أموال السواحين والغرباء ولو من الافرنج، ويقول على رؤوس الاشهاد إن قتلهم واخذ أموالهم لظلم عظيم، والظلم يرجع على فاعله بالنكال والوبال (2).
إما اتهام الحركة السنوسية بكراهية اليهود والنصارى فالمعلوم عنها تمسكها بالشريعة، فكان اتباعها يعاملون أهل الكتاب حسب توجيهات الاسلام، إما كراهيتهم للمستعمرين المعتدين، فهذا أمر يوجبه عليهم دينهم، وكان القصد من الحرب الاعلامية الداعية لتمهيد الرأي العام الأوروبي واقناعه بما ستخطوه فرنسا ضد الحركة فيما بعد، وقد أنصف عدد من الكتّاب المحدثين السنوسية وردوا على تلك التهم، منهم؛ محمد فؤاد شكري، زيادة نقولا، بريتشارد، الحشائشي (3).
أما بريطانيا، فكان موقفها من الحركة السنوسية في بداية الأمر استطلاعياً، وكانت حريصة على جمع معلومات دقيقة عن الحركة وخصوصاً وأن لها أطماعاً في مصر، وتخشى من جهاد السنوسية ضدها، كما أن نفوذ بريطانيا في طرابلس كان قوياً، وقد زار الرحالة هاملتون الانكليزي سيوه، وتحدث عن الحركة السنوسية واستمر موقف بريطانيا يمتاز بالهدوء تجاه الحركة السنوسية، حتى عام 1882م عندها شرعت بريطانيا بإحتلال مصر، وقامت ثورة عرابي، تحركت بريطانيا بكافة الوسائل المتاحة لها لتمنع أية مساعدة متوقعة قد تُقدم لعرابي، وتدخلت لدى الدولة العثمانية لمنع الحركة السنوسية من دعم الثورة العرابية (4).
_________
(1) انظر: جلاء الكرب عن طرابلس الغرب للحشائشي، ص165،166.
(2) المصدر السابق نفسه، ص167.
(3) انظر: الحركة السنوسية، ص199.
(4) انظر: دار المحفوظات التاريخية بطرابلس، رسائل الولاة.(2/232)
سابعاً: موقف محمد المهدي من الحركة العرابية:
عندما اشتعلت الثورة العرابية عام 1882م اتصل أحمد عرابي طالباً للعون والمدد وعلمت بريطانيا بالأمر، فتدخلت لدى الدولة العثمانية ونشط قنصلها في طرابلس الغرب لمعرفة موقف المهدي. ويتضح من احدى الرسائل التي بعث بها والي طرابلس الى ولاية بنغازي بتاريخ 16 أغسطس 1882م أنه انتشر خبر مضمونه أن عدداً من قبائل برقة تهيأوا للألتحاق بعرابي وان الخبر وصل الى طرابلس من الاستانة، وأن قنصل بريطانيا في طرابلس يستفسر عن صحته. ويقول الوالي: (في حال أن هذا الخبر صحيح نطلب منكم إجراء التدابير الحكيمة). وقد اتضح لدى تحقيق المسؤولين في بنغازي أن هذه الجماعة التي تريد دخول مصر ماهي إلا حجاج وأن شيخ الركب هو شيخ الحجاج) (1).
إن المهدي السنوسي كان حريصاً على نموه الطبيعي ولذلك ابتعد عن الدخول في حروب لم يستعد لها، ويبدو أن المهدي السنوسي لم يقتنع بجدوى الثورة، كأسلوب لتحقيق مطالب عرابي لأنها تتيج للأجانب التدخل، وقد وضح هذا الرأي في رسالة بعث بها محمد الشريف أخو المهدي الى الشيخ مصطفى المحجوب شيخ زاوية الطيلمون بتاريخ شعبان 1306هـ بمناسبة قيام إحدى قبائل برقة بالعصيان على الدولة العثمانية، إذ قال فيها: (ونرجو أن تكون الفتنة التي بالوطن قد طفئت لأنها مخيفة سيئة العاقبة تشبه الفتنة العرابية التي من أجلها حل بالوطن الشرقي وأهله ماحل، لأنهم يحركونها ويعجزون عنها فتكون العاقبة التسليم للأجانب؛ فلو أنهم سلكوا طريقاً غير هذا لكان أسهل وأمن عاقبة وذلك بأن يلتجئوا للحضرة السلطانية ويلتمسوا من مراحمها الشاهانية التخفيف من هذا المجعول عليهم قائلين إنهم لاقدرة لهم لهذا الأمر الشاق، والتكليف بما لايطاق وان قلتم لابد منه نجلو عن الوطن، لكلية إذ لا قدرة لنا على العطاء ولا على المخالفة ... ) (2).
_________
(1) انظر: الحركة السنوسية، ص200.
(2) انظر: المهدي السنوسي، ص59.(2/233)
إن نظرة المهدي للثورات الغير مدروسة دراسة دقيقة، تتيح للأجانب التدخل، ويرى أن طريق البناء، والتربية، والإعداد العقدي، والوسائل السلمية هي الطريقة المثلى، وتجنب الفتنة حتى لا يتدخل الأجانب في شؤون المسلمين وكان المهدي قد لزم نفسه واتباعه سياسة حكيمة رشيدة، بعيدة عن ردود الأفعال يقول الاستاذ نيقولا زيادة: (طلب العرابيون مساعدته عام 1882م، وتقدمت إليه إيطاليا راغبة في الاتفاق معه على مقاومة التقدم الفرنسي في تونس عام 1881م وحتى السلطان العثماني طلب منه العون في حربه هذه ضد روسيا عام 1876م، وجرب الألمان ان يحصلوا على عون منه، ضد فرنسا في أفريقيا عام 1872م، لكن السيد المهدي رفض جميع هذه العروض والطلبات، وفضل أن يظل بمنأى عن النزاع الدولي ليتم لهم نشر الاسلام وإصلاح أحوال المجتمع المسلم الذي نذر نفسه له، شأن أبيه من قبل) (1).
حاول زعيم الثورة العرابية احمد العرابي ان يثير الاخوان السنوسيين وشرح لهم موقفه وجهاده ومن بين من كتب لهم السادة؛ أحمد الريفي، وفالح الظاهري، محمد البسكري، وأبي سيف مقرب، ومحمد المدني، أحمد بن ادريس الأشهب، أحمد العيساوي، وعندما وصلت الكتب الى أولئك السادة رفع كل منهم كتابه الخاص الى السيد المهدي ورفضوا الرد على عرابي باشا مالم يؤمروا من السيد المهدي إذ لاحق لهم في المخابرات السياسية والاتصال في مثل هذه الأحوال بالعالم الخارجي دون أن يأمرهم زعيم الحركة (2).
وهذا يدل على قوة التنظيم، ومتانة الحركة، وهيبة القيادة، وفهم الاخوان، وتلاحم الصف، ودراسة الأمور بتأني.
ثامناً: موقف المهدي السنوسي من الثورة السودانية:
سمع محمد احمدالمهدي السوداني بما حققته الحركة السنوسية من نجاح فائق، وانتصار عظيم، وتوسع كبير في الصحراء الكبرى، وفي القبائل الليبية، فرغب بضم
_________
(1) انظر: المهدي السنوسي، ص59.
(2) انظر: برقة العربية أمس واليوم، ص154.(2/234)
هذه الحركة إليه، فأرسل محمد المهدي في عام 1300هـ رسالة الى محمد المهدي السنوسي مع أحد أتباعه واسمه "الطاهر اسحق" وهو من اهالي البلاد الواقعة غرب دارفور، وقد جاء في الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله الوالي الكريم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله مع التسليم وبعد: فمن عبد ربه الفقير إليه محمد المهدي بن عبد الله الى حبيبه في الله محمد المهدي ابن الولي السنوسي؛ فيا أيها الحبيب الواقف على سنّة النبي المرشد المرقي العباد الى مقام التقريب، قد كنا ياحبيبي ومن معنا من الاعوان نتظرك لإقامة الدين قبل حصول المهدية للعبد الذليل، وقد كاتبناك لما سمعنا باستقامتك ودعايتك الى الله على السنّة النبوية وتأهبك لإحياء الدين بأن نصير إليك ونجتمع معك فلم ترد إلينا المكاتبة وأظن عدم وصولها إليك حتى أني ذاكرت المعنيين فأبوا ذلك لهوان الدين عندهم وتمكن حب الوطن والحياة في قلوبهم وقلة توحيدهم حتى بايعوني الضعفاء على الفرار بالدين وإقامته على ماطلب رب العالمين وقنعت نفوس من بايعنا من الحياة لما يرون للدين من الممات ولازال المساكين الذين لم يبالوا في الله بما فاتهم من المحبوب يزدادون وفيما عند الله يرغبون حتى هجمت المهدية الكبرى من الله ورسوله على عبده الحقير، والله هو الفاعل المختار الذي هو على كل شيء قدير، فامرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أكاتب بها الشرق والغرب من غني أو فقير فصدق بها من أراد الله سعادته وكذب بها الاشقياء، وصاروا في النكير. مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد خلفني بالمهدية مراراً بالجلوس عل كرسيه وألبسني سيفه بحضرة الخلفاء والأولياء والأقطاب والملائكة المقربين والخضر عليه السلام.
وأعلمت انه لاينصر عليّ أحد بعد إتيان سيف النصر إليّ من حضرته - صلى الله عليه وسلم - ولازال التأييد من الله ورسوله يزداد، وأنت منا على بال حتى جاءنا الاخبار فيك من النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنك من الوزراء لي ثم لازلنا نتظرك حتى أعلمنا النبي الخضر عليه السلام بأحوالكم وما أنتم عليه ثم حصلت حضرة عظيمة عين فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - خلفاء خلفائه من أصحابي فجلس أحد أصحابي على كرسي أبي بكر الصديق، وأحدهم على كرسي عمر، وأوقف كرسي عثمان وقال: هذا(2/235)
الكرسي لابن السنوسي الى أن يأتيكم بقرب أو طول وأجلس أحد أصحابي على كرسي عليّ رضوان الله عليهم أجمعين.
ولازالت روحانيتك تحضر معنا في بعض الحضرات مع أصحابي الذين هم خلفاء خلفاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. واعلم وإن كان لايخفى عليك أن المهدية كعلم الساعة لايعلمها على الحقيقة إلا الله كما بينه المحققون، كالسيد أحمد بن ادريس، فإنه قد قال: (كتبت في المهدية أربعة عشر نسخة من نسخ أهل الله) وقال: (سيخرج من جهة لايعرفونها وعلى حال ينكرونها). وكذلك قال محي الدين في بعض تفاسيره الى غير ذلك من أقوال المحقيقين ولا سيما وأن المهدية لاتدعي لكثرة أعدائها وقوتهم وعلى أنها لما ظهرت أنا بينهم أظهرهم في أشد الضعف والقلة فلولا أنها من الله تعالى مامكثنا في الدنيا يوماً واحداً من شدة قوتهم وضعفنا وهم محتاطون بنا من كل جانب فألقى الله في قلوبهم الرعب ومدهم بالخيبة. وقد أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالهجرة الى جبل الغرب يقال له قدير، يلصق جبل يقال له، ماسه، فجمعوا جموعهم إلينا مراراً فقتلهم الله وأحرق جلودهم بالنار. يرى ذلك الخاص والعام علامة لشقاوة من أنكر مهديتي وقد أعلم - صلى الله عليه وسلم - أن من شك في مهديتي كافر وكررها ثلاثاً ومراراً يقول من أنكر مهديتي ومن خالفني فأبى امري كافر فمن أراد الله له السعادة صدق بمهديتي ومن جعل الله له شكوكاً وشبهاً تصده عن الايمان بمهديتي، فيخذله الله في الدنيا قبل الآخرة إلا من أراد الله تعالى له الهداية بعد. فإذا بلغك جوابي هذا، إما أن تجاهد في جهاتك الى مصر وجهاتها أو تهاجر إلينا) (1).
وكان رد السنوسي بقوله: (إنني لم أبلغ منزلة الغبار الذي ثار في أنف فرس عثمان - رضي الله عنه - في إحدى غزواته مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا جواب عندي على هذا الكتاب) ثم أمر الرسول بالعودة من حيث جاء (2) (وأوصى ملك واداي بأن لا يحرك ساكناً مع المتمهدي بل إذا جاءه محارباً يحاربه) (3).
_________
(1) انظر: السودان بين يدي كتشنر وغوردن، ابراهيم فوزي (1/ 216).
(2) انظر: الحركة السنوسية، ص190.
(3) المصدر السابق نفسه، ص191.(2/236)
ولم يؤمن المهدي السنوسي ولا علماء الحركة السنوسية بمهدية محمد أحمد السوداني وقاوم أتباع الحركة السنوسية في السودان الغربي نفوذ ثورة محمد احمد السوداني، ويذكر محمد الطيب الأشهب أن سلطان برقو أرسل للمهدي السنوسي يستوضحه ماذا يكون موقفه من التعايشي الذي طلب مؤازرته، فكان رد المهدي: (إنه إنما يعني بالدعوة الى إصلاح الدين سلماً ولا حرباً بينما تنفر الملة التي يراد إحياؤها نفوراً عظيماً بل وتشتد ثورتها ضد الدماء التي يهدرها والجرائم التي يرتكبها في السودان) (1). وقد قامت الممالك في السودان الغربي (تشاد) بمحاربة التعايشي خليفة محمد احمد السوداني وحدّت من انتشار حركته.
إن علماء الحركة السنوسية وعلى رأسهم المهدي السنوسي لم يؤمنوا بمهدية محمد أحمد، وكذلك رفضوا القول بمهدية المهدي السنوسي واعتبره محمد المهدي السنوسي نوعاً من التخريف ويرجع ذلك الى علمهم المتين، واستيعابهم لكتاب الله والسنة التي بينت حقيقة المهدي المنتظر وألتزموا بعقيدة أهل السنة والجماعة التي وضحت هذا المعتقد.
إن الأحاديث الصحيحة بينت بأن الله تعالى يُخرِجُ في آخر الزمان رجلاً من أهل البيت يؤيد الله به الدين، يملك سبع سنين يملأ الأرض عدلاً وسلاماً كما مُلئت جوراً وظلماً، تنعم الأمة في عهده نعمة لم تنعمها قط، وتُخرج الأرض نباتها، وتمطر السماء قطر، وتُعطي المال بغير عدد.
قال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: (في زمانه تكون الثمار كثيرة، والزروع غزيرة، والمال وافر والسلطان قاهر، والدين قائم، والعدو راغم والخير في أيامه دائم) (2).
وهذا الرجل اسمه، كأسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واسم أبيه، كأسم أبي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيكون اسمه محمد او احمد بن عبد الله، وهو من ذرية فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم من ولد الحسين بن علي رضي الله عنهم.
_________
(1) انظر: المهدي السنوسي، ص58.
(2) انظر: النهاية، الفتن والملاحم (1/ 31) تحقيق د. طه زيني.(2/237)
قال ابن كثير -رحمه الله- في المهدي: (وهو محمد بن عبد الله العلوي الفاطمي الحسيني - رضي الله عنه -) (1).
وصفته الواردة: (أنه اجلى الجبهة، أقنى الأنف) (2).
ويكون مكان ظهوره من قبل المشرق، فقد جاء في الحديث عن ثوبان - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يقتل عند كنزكم ثلاثة. كلهم ابن خليفة، ثم تطلع الرايات السود من قبل المشرق، فيقتلوكم قتلاً لم يقتله قوم .... (ثم ذكر شيئاً لا أحفظه ... ) فإذا رأيتموه، فبايعوه، ولوحبوا على الثلج، فإنه خليفة الله المهدي) (3).
قال ابن كثير -رحمه الله-: (والمراد بالكنز المذكور في هذا السياق كنز الكعبة، يقتتل عنده ليأخذه ثلاثة من أولاد الخلفاء، حتى يكون آخر الزمان، فيخرج المهدي، ويكون ظهوره من بلاد المشرق (لا من سرداب سامراء) كما يزعم جهلة الرافضة من أنه موجود فيه الى الآن، وهم ينتظرون خروجه في آخر الزمان، فإن هذا النوع من الهذيان، وقسط كبير من الخذلان شديد من الشيطان، إذ لا دليل على ذلك، ولا برهان لا من كتاب، ولا سنّة، ولا معقول صحيح، ولا استحسان ... الى أن قال (ويؤيد بناس من أهل الشرق ينصرونه، ويقيمون سلطانه، ويشيدون أركانه، وتكون راياتهم سود أيضاً) وهو زي عليه الوقار (لأن راية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت سوداء يقال لها: العقاب).
الى أن قال: (والمقصود أن المهدي الممدوح الموعود بوجوده في آخر الزمان يكون أصل ظهوره وخروجه من ناحية المشرق، ويبايع له عند البيت، كما دلت على ذلك بعض الأحاديث) (4).
ذكر الامام البخاري في صحيحه عن ابي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم؟؟) (5).
_________
(1) المصدر السابق نفسه (1/ 29).
(2) الأجلى: الخفيف الشعر مابين النزعتين من الصدغين، والذي انحسر الشعر عن جبهته.
(3) انظر: ابن ماجه، كتاب الفتن، باب خروج المهدي (2/ 1367).
(4) انظر: النهاية، الفتن والملاحم (1/ 31).
(5) انظر: البخاري، كتاب احاديث الانبياء، نزول عيسى بن مريم (6/ 491) مع الفتح.(2/238)
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لاتزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين الى يوم القيامة) الى أن قال: (فينزل عيسى ابن مريم - صلى الله عليه وسلم -، فيقول أميرهم: تعال صلِّ بنا فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة) (1).
والأحاديث التي وردت في الصحيحين تدل على أمرين:
أحدهما: أنه عند نزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام من السماء يكون المتولي لإمرة المسلمين رجل منهم.
والثاني: أن حضور أميرهم للصلاة، وصلاته بالمسلمين، وطلبه من عيسى عليه السلام عند نزوله أن يتقدم ليصلى لهم يدل على صلاح هذا الأمير وهُداه.
وجاءت الأحاديث في السنن والمسانيد وغيرها مفسرة لهذه الأحاديث التي في الصحيحن، ودالة على أن ذلك الرجل الصالح يسمى: محمد بن عبد الله، ويقال له المهدي، والسنة يفسر بعضها بعضاً.
- فعن ابي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (منا الذي يصلي عيسى بن مريم خلفه) (2).
- وعن جابر - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ينزل عيسى بن مريم، فيقول أميرهم المهدي: تعال صلِّ بنا، فيقول: لا، إن بعضهم أمير بعض، تكرمة الله هذه الأمة) (3).
- عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (المهدي مني أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً يملك سبع سنين) (4).
_________
(1) انظر: مسلم، كتاب الايمان، باب نزول عيسى (2/ 193) مع شرح النووي.
(2) انظر: رواه أبونعيم في (أخبار المهدي) صححه الألباني صحيح الجامع الصغير (5/ 7170).
(3) انظر: المنار المنيف لابن القيم، ص147،148.
(4) انظر: سنن ابي داود، كتاب المهدي (11/ 375) رقم 4265.(2/239)
لقد جاءت الأحاديث بالتواتر عن خبر المهدي:
قال الشوكاني: (الأحاديث في تواتر ماجاء في المهدي المنتظر التي أمكن الوقوف عليها منها خمسون حديثاً، فيها الصحيح والحسن والضعيف والمنجبر، وهي متواترة في جميع الاصطلاحات المحررة في الأصول، وأما الآثار عن الصحابة المصرحة بالمهدي، فهي كثيرة أيضاً، لها حكم الرفع، إذ لامجال للاجتهاد في مثل ذلك) (1).
قال صديق حسن خان: (الأحاديث الواردة في المهدي على اختلاف رواياتها كثيرة جداً، تبلغ حد التواتر المعنوي، وهي في السنن وغيرها من دواوين الاسلام من المعاجم والمسانيد) (2).
وقال الشيخ محمد بن جعفر الكتاني: (والحاصل أن الأحاديث الواردة في المهدي المنتظر متواترة، وكذا الواردة في الدجال وفي نزول سيدنا عيسى بن مريم عليه السلام) (3).
وأما العلماء الذين صنفوا كتباً في المهدي بالإضافة الى كتب الحديث المشهورة، كالسنن الأربعة، والمسانيد، مسند أحمد، مسند البزار، ومسند أبي يعلى، ومسند الحارث بن أبي أسامة، ومستدرك الحاكم، ومصنف بن أبي شيبة، وصحيح بن خزيمة، وغيرها من المصنفات (4)، التي ذكرت فيها أحاديث المهدي فإن طائفة من العلماء أفردوا في المهدي المنتظر مؤلفات ذكروا فيها جمعاً كبيراً من الاحاديث الواردة فيه (5). ومما يؤسف له أن طائفة من الكتاب أمثال الشيخ محمد رشيد رضا في تفسير المنار وصف أحاديث المهدي بالتناقض والبطلان وأن المهدي ليس إلا اسطورة اخترعتها الشيعة، ثم دخلت كتب أهل السنة (6).
_________
(1) انظر: التوضيح في تواتر ماجاء في المهدي المنتظر والدجال والمسيح.
(2) انظر: الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة، ص112.
(3) انظر: نظم المتناثر في الحديث المتواتر، ص147.
(4) انظر: عقيدة اهل السنة والأثر في المهدي المنتظر للعباد، ص166، 168.
(5) انظر: الدولة العبيدية، لعلي محمد الصلابي، ص62.
(6) انظر: تفسير المنار (9/ 499 - 504).(2/240)
وممن أنكر أحاديث المهدي صاحب (دائرة معارف القرن العشرين) (1) محمد فريد وجدي وسار على نفس الخط أحمد أمين في كتابه ضحى الاسلام.
ويبدو أن هؤلاء الكتاب تأثروا بما ذكره المؤرخ ابن خلدون في تضعيفه لأحاديث المهدي، مع العلم أن ابن خلدون ليس من فرسان هذا الميدان حتى يقبل قوله في التصحيح والتضعيف، ومع هذا فقد قال -بعد أن استعرض كثيراً من أحاديث المهدي وطعن في كثير من أسانيدها: (فهذه جملة الأحاديث التي خرّجها الأئمة في شأن المهدي، وخروجه أخر الزمان، وهي كما رأيت - لم يخلص منها من النقد إلا القليل أو الأقل منه) (2).
قال يوسف الوابل في أشراط الساعة تعليقاً على قول ابن خلدون: (ونقول: لو صح حديث واحد، لكفى به حجة في شأن المهدي، كيف والأحاديث فيه صحيحة متواترة) (3).
قال الشيخ أحمد شاكر رداً على ابن خلدون: (إن ابن خلدون لم يحسن قول المحدثين الجرح مقدم على التعديل ولو أطلع على أقوالهم وفقهها، ما قال شيئاً مما قال، وقد يكون قرأ وعرف، ولكنه أراد تضعيف أحاديث المهدي بما غلب عليه من الرأي السياسي في عصره) (4).
ثم بين أن ماكتبه ابن خلدون في هذا الفصل عن المهدي مملوء بالأغاليط في أسماء الرجال ونقل العلل، واعتذر عنه بأن ذلك قد يكون من الناسخين، وإهمال المصححين.
إن ماذهب إليه محمد رشيد رضا وابن خلدون ومحمد فريد رحمهم الله تعالى ليس صواباً، وإنما الحجة في كتاب وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والروايات
_________
(1) انظر: دائرة معارف القرن العشرين (10/ 480).
(2) انظر: مقدمة ابن خلدون (1/ 574).
(3) انظر: اشراط الساعة للوابل، ص267.
(4) انظر: مسند الامام أحمد (5/ 197 - 198).(2/241)
المذكورة في خروج المهدي صحيحة متواترة تواتراً معنوياً وهذا يكفي وأما كون الأحاديث قد دخلها كثير من الاسرائيليات، وأن بعضها من وضع الشيعة وغيرهم من أهل العصبيات، فهذا صحيح ولكن أئمة الحديث قد بينوا الصحيح من غيره، وصنفوا الكتب في الموضوعات وبيان الروايات الضعيفة، ووضعوا قواعد دقيقة في الحكم على الرجال، حتى لم يبق صاحب بدعة أو كذب إلا وأظهروا أمره، فحفظ الله السنة من عبث العابثين وتحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وهذا من حفظ الله لهذا الدين.
وإذا كانت هناك روايات موضوعة في المهدي تعصباً فإن ذلك لا يجعلنا نترك ماصح من الروايات فيه، والروايات الصحيحة جاء فيها ذكر صفته واسمه واسم أبيه فإذا عين إنسان شخصاً، وزعم أنه هو المهدي، دون أن يساعده على ذلك ما جاء من الاحاديث الصحيحة فإن ذلك لا يؤدي الى انكار المهدي على مافي الحديث ثم إن المهدي الحقيقي لا يحتاج الى أن يدعو له أحد، بل يظهره الله الى الناس إذا شاء، ويعرفونه بعلامات تدل عليه.
وأما دعوى التعارض، فقد نشأت عن الروايات التي لم تصح، وأما الأحاديث الصحيحة، فلا تعارض فيها والحمدلله وأيضاً، فإن خلاف الشيعة مع أهل السنة لا يُعتد به، والحكم العدل هو الكتاب والسنة الصحيحة، وأما خرافات الشيعة وأباطيلهم، فلا يجوز أن تكون عمدة يُردُّ بها ماثبت من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1).
قال العلامة ابن القيم في كلامه عن المهدي: (وأما الرافضة الإمامية، فلهم قول رابع وهو أن المهدي هو محمد بن الحسن العسكري المنتظر، من ولد الحسين بن علي لا من ولد الحسن، الحاضر في الأمصار الغائب عن الأبصار، الذي يورث العصا، ويختم الفضا، دخل سرداب سامراء طفلاً صغيراً من أكثر من خمسمائة سنة، فلم تره بعد ذلك عين، ولم يُحس فيه بخبر ولا أثر، وهم ينتظرونه كل يوم ويقفون
_________
(1) انظر: اشراط الساعة، ص267.(2/242)
بالخيل على باب السرداب ويصيحون به أن يخرج إليهم: اخرج يامولانا اخرج يامولانا: ثم يرجعون بالخيبة والحرمان، فهذا دأبهم ودأبه، ولقد أحسن من قال:
ماآن للسرداب أن يَلد الذي
كلمتموه بجهلكم ما آنا؟
فعلى عقولكم العفاءُ فإنكم
ثلتتم العنقاء والغيلانا
ولقد أصبح هؤلاء عاراً على بني آدم وضحكة يسخر منهم كل عاقل) (1).
إن التهمة الموجهة للحركة السنوسية بان اتباعها يعتقدون في الإمام محمد المهدي السنوسي هو المهدي المنتظر تهمة باطلة، رفضها الإمام محمد المهدي، وعارضها وأبى الموافقة على القول بها، وعندما سئل الملك محمد إدريس -رحمه الله- عن رأي أبيه في قول بعض أتباع الطريقة بمهدويته أجاب: (كان كلما سمع هذا القول نفاه بشدة، وأبداً لم يعتقد به ... ) (2).
_________
(1) انظر: المنار المنيف، ص152،153.
(2) انظر: الحركة السنوسية، ص187.(2/243)
المبحث الثاني
موقف محمد المهدي السنوسي والليبيين من
الدولة العثمانية وفكرة الجامعة الاسلامية
في بداية عهد السلطان عبد الحميد الثاني طلب من السيد محمد المهدي السنوسي إرسال قوة من رجاله من الأقطار البرقاوية الطرابلسية لمساعدة الدولة العثمانية في حربها ضد روسيا عام 1877م إلا أن السنوسي أمتنع عن تنفيذ الطلب، لإنشغاله بالبناء والتربية والتكوين، والانتشار بالدعوة، والاستعداد للجهاد، وهذا الامتناع جعل السلطان عبد الحميد يرسل الرسل الى الامام المهدي السنوسي للوقوف على حقيقة أمره، وبذل السلطان عبد الحميد الثاني جهداً كبيراً في سبيل التعرف على طبيعة الحركة السنوسية، وحقيقة نواياها، وأهدافها، ومدى استعداد زعيمها للعمل ضمن سياسته في الجامعة الاسلامية، وتمت الخطوة الأولى في هذا المجال، بطلب من الداخلية العثمانية الى وليها في طرابلس، لموافاتها بمعلومات عن الحركة ونشاطها.
أجاب الوالي كمال باشا (1893 - 1898م) بما يشعر بحسن علاقة الوالي بالحركة السنوسية، واطمئنان الى نواياها، وثقته برجالاتها وأكد في رسالته التي بعثها للسلطات العثمانية في استانبول، على الفوائد العلمية والإجتماعية التي حققتها زوايا الحركة السنوسية المنتشرة في الصحراء الكبرى (1) بين أعراب البادية، ورفع مستواياتهم الدينية الخلقية والثقافية، ومزاحمتها الفعالة للجمعيات التنصيرية المنبثة في القارة الأفريقية، ودخول الكثير من الزنوج في الاسلام بتأثير دعايتها له وأكد الوالي في ختام رسالته، انقياد الحركة بزواياها وقادتها الى دولة الخلافة العثمانية (2).
وأوفد السلطان عبد الحميد بعثة برئاسة رشيد باشا والي بنغازي ومعه الصادق
_________
(1) انظر: حركة الجامعة الاسلامية، احمد الشوابكة، ص230.
(2) انظر: الحركة السنوسية، ص204،205.(2/244)
المؤيد العظم أحد ياورات السلطان الى واحة الجغبوب في لييا وذلك عام 1889م ومما جاء في أخبار البعثة أن المهدي السنوسي قد أحسن استقبال البعثة واتاح لاعضائها مشاهدة زاوية الجغبوب والأطلاع على أعمال أتباع السنوسية، وأن المهدي السنوسي لم يكن إلا داعياً مرشداً، وإنه يدعو بالتأييد للدولة العثمانية وتوفيق الحضرة السلطانية (1).
وبعد انتقال المهدي السنوسي من واحة الجغبوب الى واحة الكفرة في اقصى الجنوب من ولاية طرابلس عام 1895م، أرسل أحد اتباعه وهو الشيخ عبد العزيز العيساوي الى استانبول، لتأكيد اخلاصه وولائه للسلطان العثماني، وليطلب منه تأكيد الفرمانات التي صدرت من قبل للسنوسيين (2).
أصدر الباب العالي أوامره في إجراء التأكيدات اللازمة لولاية طرابلس ومتصرفية بنغازي، في ألتزام الاهتمام والرعاية، والاحترام تجاه الحركة السنوسية واتباعها، وتقديم فريد العناية بكافة الزوايا (3).
وقد أرسل السلطان مع الشيخ العيساوي هدايا للمهدي السنوسي من بينها نسخة مطبوعة من صحيح البخاري له خاصة، خلاف عشر نسخ اخرى تعطى من قبله لمن يرى فيه الأهلية، كما أرسل له ساعة (لتكون في الأوقات الخمسة مذكرة بصالح دعواته لجانبه العالي) (4).
ورد السلطان على هذه البعثة بإرسال الصادق المؤيد العظم بزيارة المهدي السنوسي في واحة الكفرة، وهناك اطلع الصادق بنفسه على أحوال الزاوية واجتمع بالمهدي الذي استقبله استقبالاً طيباً، وأطمأن لحسن توجيه نحو السلطنة العثمانية ومما ذكره الصادق المؤيد العظم في رحلته عن المهدي (أنه شيخ صادق لمقام الخلافة، وحسب وصية والده، فهو في كل صباح عقب الصلاة يجري الدعاء بالصحة
_________
(1) انظر: حاضر العالم الاسلامي (2/ 162).
(2) انظر: السنوسية دين ودولة، ص58.
(3) انظر: السنوسية دين ودولة، ص58.
(4) المصدر السابق نفسه، ص86.(2/245)
والعافية لخليفة المسلمين، ثم تقرأ الفاتحة، وذلك في جميع الزوايا، وهو دائماً يوصي اتباعه بطاعة أمير المؤمنين، ومحبة الدولة العثمانية، لأن طاعتها واجبة شرعاً وعقلاً) (1).
ومما زاد السلطان عبد الحميد ثقة بالحركة السنوسية كثرة شكايات الدول الأوروبية من الحركة، وتبرم قناصل الدول من نشاطها، لعرقلتها الكثير من مشاريعهم التبشيرية التي كانوا ينوون تنفيذها (2).
وحين اطمأن السلطان عبد الحميد الثاني إلى صدق توجه الحركة السنوسية لدولة الخلافة العثمانية وإخلاصها في العمل لسياسة الجامعة الإسلامية، بعث السلطان عبد الحميد إلى محمد المهدي السنوسي رسالة تتضمن أسس حركة الجامعة الإسلامية وحقيقة أبعادها وأهدافها، والدور الذي يمكن أن تقوم به الحركة السنوسية ضمن هذه السياسة (3).
وأكد السلطان في رسالته إلى أهمية الخلافة والإمارة الإسلامية المقدسة التي اثبتها الله في البيت العثماني منذ مئات السنين افترضه الله على المسلمين من نصرة هذه الخلافة وتأييدها وطاعة ولاة الأمر القائمين على أمرها، ولاسيما في مثل هذه الظروف التي تحيط بالعالم الإسلامي، والتي أجمع فيها من سماهم السلطان: (الأغيار من الكفار والملاحدة والمارقين والمفسدين في جميع الأقطار يتحزبون ويتوالون في السر والعلن خصومة للسنة والسنية وعزماً على هدم منار الخلافة العثمانية الإسلامية، ويأبى الله إلا أن يتم نوره) (4)، وحذر السلطان عبد الحميد محمد المهدي السنوسي من عمليات التسلل الأوربي إلى داخل القارة الإفريقية تحت شعار الكشف الجغرافي، والبحث العلمي من جانب الإنجليز والإيطاليين وغيرهم، مبيناً المقاصد المضرة بالدين والمسلمين من قبل هؤلاء (5).
_________
(1) انظر: رحلة الى صحراء أفريقيا الكبرى، صادق المؤيد، ص48 - 49.
(2) انظر: تعليق على حاضر العالم الاسلامي، شكيب ارسلان (2/ 162).
(3) انظر: السنوسية دين ودولة، ص87.
(4) المصدر السابق نفسه، ص87.
(5) المصدر السابق نفسه، ص87.(2/246)
وأكد السلطان عبد الحميد الثاني على أهمية تبصرة كل من له علاقة بالسنوسية والمتبين طرقها وزواياها المنتشرة في الصحراء الإفريقية بضرورة الإلتفاف حول الخلافة العثمانية المقدسة والإمامة الكبرى الإسلامية، التي هي ضمان قوة المسلمين وشعار وحدتهم وتضامنهم (1).
كما بين لمحمد المهدي السنوسي الوسائل العملية الواجبة الاتباع لمواجهة أعمال المبشرين وأعداء الإسلام والمسلمين في القارة الإفريقية لكشف وسائلهم وأهدافهم الكبرى، وذلك بتكثير اعداد الدعاة والعلماء وإعدادهم الإعداد المناسب وبثهم في كافة الأنحاء الإفريقية لنشر الإسلام بينهم، وتبصيرهم بأمور دينهم، والتأكيد على أهمية الخلافة في حياة المسلمين، ودور الوحدة والتضامن في دفع غائلة المعتدين، وأعداء الملة والدين (2).
إن الليبيين عموماً ارتبطوا بفكرة الجامعة الإسلامية، وسياسة الدولة العثمانية وسلطانها عبد الحميد الثاني الذي تبنى الدعوة إليها وأكدوا في كل مناسبة ارتباطهم بهذه الدعوة، وخاصة في أزمات الدولة، ففي حرب الدولة مع اليونان سارع أهل طرابلس بتشكيل اللجان لجمع التبرعات وقد كتب على الاستمارات المعدة للجمع عبارة (إعانة جهادية) وبلغ مجموع التبرعات قرابة (مائة ألف فرنك) (3).
وامتدح الشيخ سليمان الباروني (1870 - 1940م) أحد الزعماء الليبيين الدولة العثمانية وسلطانها، وأشاد بجيشها بمناسبة حربها مع اليونان وإنتصارها عليهم (4).
وأنشد الشاعر مصطفى بن زكرى بهذه المناسبة قصيدة قال فيها:
ياسعد سر مترنماً
ببشائر السعد المبين
واعطف على دار الخلافة
باليسار وباليمين
وإذا مررت (بيلدز)
وسعدت بالملك المكين
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص88.
(2) المصدر السابق نفسه، ص88.
(3) انظر: الحوليات الليبية، شارك فيرو (3/ 774).
(4) انظر: صفحات خالدة من الجهاد، زعيمة الباروني، ص80.(2/247)
تاج الخلافة بهجة
الدنيا وعز المسلمين
عبد الحميد وناصر
الدين الحنيفي المبين (1)
وعن اليونانيين أعداء الخلافة قال:
مهلا بني اليونان لستم
في الحروب بمعجزين
وجنودكم أمست (بترناوة)
حصيداً خامدين (2)
وساهمت صحافة ليبيا في المدن رغم نشأتها المتأخرة بدعم حركة الجامعة الإسلامية ففي أول ديسمبر 1908م ظهرت جريدة الكشاف، وكان صاحب امتيازها ومديرها المسؤول محمد النائب الأنصاري ووصف الجريدة بأنها ملتزمة بخط الجامعة الإسلامية (3).
وفي أوائل مارس 1908م صدر العدد الأول من جريدة (العصر الجديد) التي وصفت نفسها بأنها سياسية علمية، وجعلت شعارها (من الشعب إلى الشعب) وتعاطفت مع (اللواء) المصرية، كما سارت في تيارها بتبني فكرة الجامعة الإسلامية (4).
وفي استنبول أصدر الزعيم الليبي عبد الوهاب عبد الصمد صحيفة (دار الخلافة)، وجعلت محور سياستها الدفاع عن الخلافة والجامعة الإسلامية (5).
وأسس الشيخ سليمان الباروني في القاهرة مطبعة عام 1325هـ/1908م أسماها (الأزهار البارونية) التي حدد هدفها قائلاً: (أن تكون خادمة للدين، سائرة في ركاب الجامعة الإسلامية، ناثرة للآداب ولكل مافيه نفع وإرشاد الأمة والهيئة الإجتماعية مترقية في مدارج التقدم) (6) وأصدرت المطبعة جريدتها باسم "الأسد الإسلامي " في عام 1908م (7).
_________
(1) انظر: صلات بين ليبيا والترك، للمصراتي، ص182 - 196.
(2) المصدر السابق نفسه، ص182 - 196.
(3) انظر: صحافة ليبيا في نصف قرن، علي المصراتي، ص100.
(4) المصدر السابق نفسه، ص73.
(5) المصدر السابق نفسه، ص109.
(6) انظر: صفحات خالدة من الجهاد، ص40.
(7) انظر: الحوليات الليبية (3/ 786).(2/248)
اهتم سليمان الباروني بفكرة الجامعة الإسلامية، واتخذ من جريدته منبراً لإعلاء فكرتها، ومجالاً لبحث مشاكل المسلمين وتقصي أخبارهم. ومما جاء في افتتاحية العدد الأول منها .. فقد كان الرشاد في الأمة في زمن انقياد أفرادها بطبيعتهم لقوانين الشرع الشريف، ووقوفهم عند مناهيه. ثم لما دارت الأيام بدوران الدهر، وتغيرت الطبائع باختلاف أصناف البشر، وقع التساهل في أمر الدين، وانحلت عرى الاتحاد وساد الشقاق. وتؤكد الجريدة أنه سيكون على رأس اهتماماتها بذل النصح للأمة الإسلامية، وارشادها إلى مايعود عليها بالنفع العاجل والآجل والتقدم في مباراة الأمم الحية، ومزاحمتها في معترك الحياة الهنيئة (1).
وتساءل الباروني عن الأسباب الكائنة وراء فرقة المسلمين، وتفككهم، وما إذا كان ممكناً لمّ شعثها وتوحيد كلمتها في هذا الزمن الذي هم فيه أحوج إلى الاتحاد من أي شيء آخر (2). وهو يؤكد أن هذا ممكن، مدللاً عليه بشدة اهتمام اوروبا وساستها وكتابها بملاحظة الحالة التي بدأت تظهر بين المسلمين، بفعل مايبديه سلطانهم عبد الحميد وإلى جانبه المخلصون للعمل في سبيل تحقيق مابينهم من جامعة تضم كلمتهم وتوحيد رأيهم وتجمع شتاتهم أينما كانوا في أطراف المعمورة، حتى إذا ماكانوا يداً واحدة، وعلى قلب رجل واحد، ناقشوا أوروبا الحساب وناصبوها الحرب (3).
وقد ظل عموم الليبيين على ولائهم للدولة العثمانية وسلطانها عبد الحميد فهو بالنسبة لهم خليفة المسلمين، وملجأ الدنيا والدين، ودولته ملاذ المسلمين جميعاً ودرعهم الواقي ضد محاولات أوروبا للنيل من استقلالهم (4).
واستمر هذا الشعور قائماً لدى أهل المدن في ليبيا، وزعماء الحركة السنوسية وأتباعها، حتى قام حزب الاتحاد والترقي في تركيا بإبعاد السلطان عبد الحميد الثاني 1908م فلم يشعر أهل الولاية إزاء هذه الحركة بالاطمئنان، ولم يستبشروا بها خيراً، بل قابلوها بالمعاداة والاستهجان، لما عرفوه عن الاتحاديين من " بعد عن الحكمة
_________
(1) انظر: صفحات خالدة من الجهاد، ص20.
(2) المصدر السابق نفسه، ص31.
(3) المصدر السابق نفسه، ص23.
(4) انظر: قضية ليبيا، محمود الشنيطي، ص27.(2/249)
ومناهضة للدين " (1) واستهجن الليبيون إعلان الدستور ولم يروا مبرراً لصدوره خاصة والشريعة الإسلامية كفيلة بسد حاجتهم، ووقع إثر ذلك حوادث كبيرة في طرابلس ضد الحركة والقائمين بها، وطالب غالبية الناس بابعاد من قدم إلى الولاية من الاتحاديين (2). ويذكر كاكيا:
(إن الأهالي في ليبيا نظروا إلى الجمعية بغير عين الرضى، وكرهوا رجالها، لتدخلهم في مسائل العادات والدين، وعدّوا إعلان الدستور انتهاكاً للشريعة الإسلامية) (3).
إن زعماء الحركة السنوسية كانوا شديدين الولاء للدولة العثمانية وكذلك زعماء المدن الليبية، وهذا يدل على الوعي العميق وشعورهم بضرورة مساندة دولة الخلافة، والمحافظة عليها من منطلق شرعي يدينون به المولى عزوجل وكان هذا الفهم منبثق من فهمهم لقول الله تعالى: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولاتفرقوا" (آل عمران، آية: 103) وقال تعالى: "ولاتكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم" (آل عمران، آية: 105) فقد كان أجدادنا يرون: (ونرى الجماعة حقاً وصواباً، والفرقة زيغاً وعذاباً) (4).
وإن كانت الخلافة الإسلامية العثمانية خرجت في آخر أيامها عن خطها الصحيح لأسباب وعوامل داخلية وخارجية إلا إنها لازالت في دائرة الإسلام ولم تمرق منه مروق السهم، وخصوصاً قبل عزل السلطان عبد الحميد الثاني ولذلك رأى زعماء الحركة السنوسية والليبيون عموماً عدم الخروج على الدولة العثمانية: (ولانرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولاندعوا عليهم ولاننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم طاعة الله عزوجل فريضة، مالم يؤمروا بمعصية، وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة) (5) هكذا كان موقف الحركة السنوسية وزعماء ليبيا من الدولة العثمانية.
_________
(1) انظر: حركة الجامعة العربية، الشوابكة، ص237.
(2) المصدر السابق نفسه، ص237.
(3) انظر: ليبيا في العهد العثماني، كاكيا من الترجمة العربية، ص60.
(4) انظر: تهذيب الطحاوية للصاوي، ص296.
(5) المصدر السابق نفسه، ص302.(2/250)
المبحث الثالث
رحلة المهدي السنوسي الى الكفرة وقرو
أولاً: الرحلة الى الكفرة والصدام مع فرنسا:
كانت خطة التوسع عند الحركة السنوسية تستدعي من زعيمها محمد المهدي الانتقال نحو الجنوب وفق خطوات مرسومة، ومراحل معلومة لدى قادة الحركة، وتقرر لدى محمد المهدي الانتقال من الجغبوب الى الكفرة، وشرع في تنفيذ القرار الاستراتيجي بسرعة البرق، فجمعت الأبل الكافية للنقل، وخبراء الطريق، والامتعة الضرورية، وعين الامام السنوسي رفقاءه في سفره الى العاصمة الجديدة، وفي يوم 22 شوال سنة 1312هـ جمع الامام السنوسي جميع سكان الجغبوب للوداع وألقى فيهم نصائحه الغالية، وانتقل بعد ذلك من الجغبوب والأفئدة تتقطع لهول الفراق والأعين وراءه شاخصة فنزل بموقع قريب من الجغبوب يقال له حطيئة (الزربي) وبهذا المكان كان وداع المشيعين وفي طليعتهم كبار الاخوان، كالسيد احمد الريفي، ومحمد عابد السنوسي، وأبي سيف مقرب، ومحمد المدني، وأحمد بن ادريس، وعمران السكوري، وهنا يظهر جلال الموقف وشدة الفراق، ونلمس ذلك في القصائد التي ألقيت يوم ذاك (1) يقول الأديب الحشائشي ولما آفاق ابو سيف مقرب من غشيته التي اصابته عن مفارقة الشيخ المهدي صعد فوق هضاب عال ومعه جماعة من الاخوان توجه الى الركب بنظره وطفق ينشد ارتجالاً من شعره العذب مايلين به الجلمود ويورق به العود (2)، حيث قال:
همو هيجوا يوم النوى أشجاني
وحاديهم لما ترنم اشجاني
وهم سلبوا لبي وألبس بينهم
رداء الردى جسمي وأثواب أحزاني
وهم غادروا جسمي لظاً بعد مهجة
جرى ذوبها من بحر مدمعي القاني
_________
(1) انظر: برقة العربية امس واليوم، ص217.
(2) انظر: رحلة الحشائشي، ص168.(2/251)
فوالله لا أنسى عشية ودعوا
فاودعتهم صبري وأودعت سلواني
وضاعف احزاني مواقف جمة
وبرح بي فقدانهن واضناني
يسائلني مولاي تسئال رحمة
يحل بها شأني ويبئس الشاني
ومن أعجب الأشياء رحلة معشر
غدت محشراً أوهت قوى كل انسان
تبلد من جرائها كل سوقة
وطأطأ اجلالاً لها كل سلطان
وزلزلت الدنيا وماجت بأهلها
وعادت عواد بين ترك وعربان
لك الله من ركب تيمم كفرة
تتاخم كيوار المتاخم سودان
غدا طاوياً نشر البسيطة باسطاً
لاعلام عز تنجد الضارع العاني
ومنتقياً عزماً يفل بحده
قواطع آراء من أهل وجيران
ولم يثنيه عما نوى ألم النوى
وأنّت محزون ورنة صبيان
وحثوا مطاياهم ببيض قبابهم
فلاحت نجوم دونها نجم كيوان
سروا والدياجي حالك صبح لونها
يؤمون احقافاً ترى ذات ألوان
وخلوا بجغبوب المقدسة علية
يعلون بعداً النهل طلاب عرفان
وقصراً مشيداً كان مطمح انفس
ومطلع مطعام ومطعن مطعان
ربعاً عهدنا بهوه وهو آهل
بانجاب اشبال وآساد خفان
وكانت لهم فيه مواقف جمة
أناب لها فخراً على كل إيوان
وحلت بواديه بواد فاصبحوا
نشاوى بإنشاد وذكر وقرآن
وكانت بمغناه علوما يبثها
مشايخ اعلام واعلام فتيان
رووا متنها عن حافظ اي حافظ
أسانيده تعلوا بضبط واتقان
هو (ابن السنوسي) الذي شاع ذكره
بكل بلاد بين سوس وإيران
إمام همام كان للحق قبلة
تيممها القاصي من الخلق والداني
وشهرته تغني عن اطراء مدحه
كما اشتهر (المهدي) بالعالم الثاني
سقى الله أرضاً زارها صوب قطره
وساق لذاك القطر عارض نسيان
على أنها تغني بعذب نواله
ومدراره عن كل أوطن هتان(2/252)
متى تشتفي نفسي بقرب لقائه
ويستن طرف الطرف في روض احسان
متى يأتي مولاي الشريف مصاحباً
كتائب كتاب ببيض ومران
فإني من رجعاكم لست آيساً
ولا يأس من روح ورحمة رحمن
وإني مقيم سادتي برحابكم
على عهدكم حتى ألف بأكفان
وإني أرجو نظرة مقامكم
تسلى عن الدنيا وزخرفها الفاني
عليكم سلام الله ماهبت الصبا
تحية صب خافض القلب هيمان (1)
لقد كان قرار انتقال الإمام المهدي الى الكفرة مفاجأة لأهالي ليبيا واهتزت البلاد من أقصاها الى أقصاها وترك أثراً حزيناً أليماً في النفوس، ووصفه أحد الشعراء باللغة الشعبية فقال:
رحل سيدي وارعب لوطان
عظيم الشأن حركاته بإذن الرحمن
رحل سيدي وارعب لسلام
لها صارت شدا أو نكد
وصارت بعد الضي ظلام
عليك ضيقاً في شدائد (2)
وكان الاخوان الذين رافقوا الامام المهدي السنوسي في رحلته كل من؛ احمد البسكري، احمد التواتي، احمد الجراولي، احمد الثني الغدامسي، محمد السني، وغيرهم من كبار الاخوان (3).
ولما بلغ الشيخ واحة (الكفرة) تلقته قبيلة (زويا) من كبار قبائل العرب في الصحراء، ومن جاورها من القبائل وكانوا في غاية الفرح والسرور، وكان في استقباله خارج منطقة الجوف أكثر من ثلاثة آلاف رجل يتقدمهم رئيس زاوية الجوف ومشايخ وأعيان قبيلة زوية ومن معهم من المجابرة وابتهجت واحة الكفرة بقدوم
_________
(1) انظر: رحلة الحشائشي، ص169، 170، برقة العربية، ص217، 218.
(2) انظر: برقة العربية امس واليوم، ص221.
(3) انظر: رحلة الحشائشي، ص171.(2/253)
زعيم الحركة السنوسية، وتبارت الخيول وأطلق الرصاص وبهذه المناسبة قتل يونس الرويعي رجلاً من قبيلة الزوية بأصابة خطأ، فنادى شيوخ الزوية أعيانهم في قومهم بأن لايترك الاحتفال من أجل موت أحدنا وأن القاتل في مأمن اكراماً للإمام السنوسي، وبعد انتهاء الاحتفال اجتمع شيوخ وأعيان القبيلة وتقاسموا الدية الشرعية للمقتول ودفعوها إلى أهله فوراً وتسامحوا مع القاتل، كل ذلك تم في يومه وقرر جميع أعيان وشيوخ أزوية أن يتقدموا بهدية إلى زعيم الحركة السنوسية بمناسبة تشريفه إياهم بقدومه، وكانت الهدية هو التسامح فيما بين أفراد وقبائل زوية من الأحقاد والتنازل عن حقوقهم التي يطلبها أحد أفراد القبيلة من الآخر وتطلبها عائلة من أخرى مهما عظمت تلك الحقوق التي قد تؤدي إلى شقاق وفساد، وتنازلوا عن ثلث ممتلكاتهم وقفا لأعمال الحركة السنوسية من نخيل وبساتين وأراضي كل ذلك عن طيب خاطر وقربة لله، ودعماً للحركة الإسلامية التي تبنت دعوة الإسلام في الصحراء الكبرى، وأدغال إفريقيا، وتبرع جميع أغنياء القبيلة ومن معهم من تجار المجابرة باطعام جميع الفقراء، وكساءهم واستمر الفرح والاحتفال شهراً بعد وصول زعيم الحركة السنوسية الثاني الإمام المهدي وشرع الإمام المهدي في بناء زاوية التاج التي اختطها، محمد البسكري، حسب توجيهات زعيم الحركة، فأبدع في تخطيطها، وجعلها على قمة ربوة عالية تبعد عن زاوية الجوف بما لايقل عن ميل ونصف تقريباً (1).
أصبحت الكفرة عاصمة الحركة السنوسية لوجود زعيمها فيها، ففتحت المدارس لتعليم القرآن الكريم، وتصدر مجالس التدريس كبار العلماء، وتقدمت سوقها التجارية تقدماً باهراً، إذ أصبحت تردها بضائع السودان، وتصدر اليه عنها، وهكذا الحال بينها وبين برقة، من جهة وبينها وبين مصر من جهة أخرى، وتحسنت زراعتها إلى حد بعيد، وجلبت إليها أشجار الفاكهة من واحة سيوه، ودرنة .. وغيرها وعمرت بالسكان الذين هاجروا إليها من المجابرة والتبو والسودانيين، فضلاً عن
_________
(1) انظر: برقة العربية، ص219،220.(2/254)
سكانها المعروفين، من قبائل الزوية حتى أصبحت ذات أهمية كبرى في وقت قصير (1) وأصبحت قبيلة الزوية بمثابة الحرس الخاص لزعيم الحركة السنوسية (2).
تولى المهدي السنوسي تصريف أمور الحركة من الكفرة، فعجت بالحركة، وأصبح اتباع الحركة يقدمون إليها من كل حدب وصوب، حتى ضاقت بهم مساكنها. وفي إحدى رسائل المهدي إلى محمد علي المحجوب في زاوية الطيلمون بليبيا يطلب المهدي إرسال خيام لأن وفوداً كثيرة جاءت للتسليم عليه وهو خجل لعدم وجود بيوت تأويهم (3).
وقام الإمام السنوسي بإرسال رسله إلى مختلف الجهات، فأرسل مرتضى فركاش بن أبي خريص بكتاب إلى سلطان واداي ومعه رجلان، وأرسل رسالة لوالي بنغازي، وانتظمت الرسائل بينه وبين الزوايا، ونظم حياة الأهالي في الكفرة، وفرض النظام، ومنع الإعتداءات، ونشر السلام بين قبيلتي زوية والتبو اللتين تسكنان تلك المنطقة، ووجه الأتباع نحو العمل المثمر، سواء في تعمير الزوايا، والدعوة إلى الله، أو في التجارة، وقد زاد تبعاً لذلك عدد سكان الكفرة وانتعشت حياة الأهالي وعم الرخاء، واهتم بحفر الآبار المتتابعة، على طول خطوط القوافل، فكان يرسل البعثات لإتمام ذلك، وأصبحت الكفرة ملتقى القوافل مابين السودان الغربي (تشاد) والسودان الشرقي وسواحل برقة، ومن البعثات الاستكشافية التي أرسلها الإمام السنوسي التي اكتشفت حطية العوينات والحطايا التي تكتنفها ولم تكن معروفة قبل ذلك، كما يقول الأشهب (4)، وخفّ إلى تلك الحطايا عدد من رجال قبيلة زويه، وكانت تلك القبيلة صادقة في وعدها لإمام الحركة السنوسية، فقامت بأعمال كبيرة لصالح الدعوة الإسلامية. ويبدو أن ابن السنوسي المؤسس عرف قدراتها، فاهتم بها، ويظهر هذا جلياً في حواره مع عقيلة الزوي عند بناء الجغبوب حيث حدثه عن رغبته في بناء
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص237.
(2) انظر: المهدي السنوسي، ص71.
(3) انظر: الحركة السنوسية، ص220.
(4) انظر: الحركة السنوسية، ص221.(2/255)
زاوية في الكفرة وقال له (مرادنا في كونكم تتولوا أمرها)، فكان أن أسس زاوية الجوف التي عرفت نسبة إلى ابن السنوسي باسم زاوية الأستاذ (1).
وأنشئت في فترة الإمام المهدي عدة زوايا في منطقة الكفرة منها (التاج) كما ذكرنا، وربيانة، وتازربو، وامتد نشاط الحركة نحو الجنوب، فوصلت إلى مواطن جديدة في السودان الإفريقي، بواسطة الدعاة، وقوافل التجارة، فوصلت دعوة الإسلام إلى بشر جدد، وقبائل وثنية متعطشة إلى دين الفطرة، وهذا التوغل المحمود، والانطلاق الجميل بدعوة الله، كان ابن السنوسي المؤسس قد خطط له منذ عهده الباكر في الدعوة إلى الله فقد قال ( .. إذ أن الشعوب المجاورة في السودان والصحرا. من إفريقية الغربية، لاتزال تعبد الأوثان، ... ) (2).
إن انتقال الإمام المهدي إلى الكفرة ينسجم مع خطة الحركة السنوسية التي استهدفت قبائل الصحراء، وافريقيا الوسطى بدعوة الإسلام، ولذلك تحرك زعيم الحركة لاختيار مركز متوسط يعينه على تبليغ رسالته وأداء واجبه، أما قول من قال إنما قام بذلك خوفاً من الأوروبيين الذين أرادوا القبض عليه، فباطل، لأنه جاء للسودان الغربي ليقود حركة جهاد ضد أطماع فرنسا خصوصاً والأوروبيين عموماً (3)، وأما قول بعض المؤرخين إنما اندفع نحو الجنوب خوفاً من السلطات العثمانية (4)، فهذا مردود، لأن علاقة الحركة بالدولة كانت قوية، بل إن السنوسية أصبحت من الركائز المهمة في فكرة الجامعة الإسلامية.
إن الإمام السنوسي حرص على أن يتوسط ميداناً يقود به حركة الإسلام في إفريقيا الوسطى ولذلك اندفع جنوباً، كما أنه حدثت أحداثاً مهمة جعلته يحرص على القرب منها، توغل فرنسا في القارة الإفريقية ومحاولة بسط نفوذها على الإمارات الإسلامية في إفريقية الغربية (5)، كانت الوسائل الأمنية لدى الحركة
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص221.
(2) انظر: السنوسية دين ودولة، ص12.
(3) انظر: الحركة السنوسية، ص218.
(4) المصدر السابق نفسه، ص218.
(5) المصدر السابق نفسه، ص218.(2/256)
السنوسية تقوم بجمع المعلومات على تحركات جواسيس فرنسا التي تحاول معرفة حقيقة قوة الحركة السنوسية، وكان الحدث الآخر الذي يشكل خطراً على الحركة السنوسية في تشاد قيام سلطنة رابح في السودان الغربي، فقام الإمام السنوسي، بحركته الإستراتيجية، فانتقل إلى الكفرة كخطوة أولى، وعمل على توطيد العلاقات بينه وبين واداي، التي كانت علاقتها بالحركة السنوسية قوية منذ عهد ابن السنوسي الذي كان على صلة بسلطانها: (ثم ازدادت الروابط بين المهدي وسلطان واداي في المدة التالية: حتى طلب يوسف (سلطان واداي) أن يوفد المهدي إلى أبشه أحد كبار الشيوخ السنوسيين مندوباً خاصاً في عاصمته، فأرسل إليه سيدي محمد بن عبد الله السني .. فوطد نفوذ السنوسية في واداي) (1).
ولابد من بيان العمل الجليل التي قامت به قبيلة زوية في مساندة الدعوة والوقوف معها ودعم زعيمها وقد مدح الشاعر ابومقرب سيف هذه القبيلة:
زوية أهل الفخر إن جئت حيهم ... ترى العز في نادى زوية بادياً
وأهل الفتى أمضا من السيف عزمه ... وان كان للضيفان بالبشر بادياً
اذا مادعوا يوماً الى شن غارة ... رأيت المنايا الحمر تعلوا المذاكيا
فكم من جريح قد اباحوا واجحفوا ... بمال غني لايخافون عادياً
فارشدهم مرشد من حل بينهم ... فلا زال مهدياً ولازال هادياً (2)
ثانياً: أحداث أثرت في الإمام الثاني للحركة السنوسية:
مرت ظروف عصيبة بالإمام السنوسي أثناء إقامته بالكفرة أثرت فيه وبحركته، فقد اشتد مرضه ولزم الفراش وعاوده عدة مرات، واشتد به الألم حتى امتنع عن ملاقاة الناس والجلوس في الصلاة.
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة.
(2) انظر: برقة العربية، ص580.(2/257)
وقد جاء في رسالة بعث بها لأخيه قوله (وقد زال تغير الهواء بلا ضرر ولا عناء والألم الذي معي تهاون بحمد الله .. وقد ظهر النقص في الحبة الأولى لأنها الكبيرة وقل سيلانها وانجلت الزرقة التي حولها وكانت قدر دائرة الكف من غير الأصابع .. وصرت أقدر على تكلف الجلوس في الصلاة وملاقاة الناس) (1). وجاء في رسالة أخرى أرسلها لأخيه بتاريخ 13 ربيع الأول 1313هـ قوله: (أحسست بالألم في الجهة الأخرى وتزايد .. وبعد أن عجزت عن أداء الصلاة قائماً وقاعداً، وصرت أصلي على جنبي راقداً .. وقد تركت الخروج للناس والجمعة، ونرجو الله أن تكون العاقبة خيراً) (2). ثم يظهر أن صحته تحسنت بعد ذلك وقد عرفت ذلك من خلال رسائله التي أرسلها إلى شيخ زاوية الطيلمون محمد علي المحجوب، ومن المصائب التي مرت به، وكانت متلاحقة وفاة أستاذه عمران بن بركة في منتصف سنة 1311هـ، وتوفيت والدته في آخر تلك السنة. ثم لم يلبث شقيقه، ومساعده الأول محمد الشريف أن توفي في 27 رمضان 1313 (3).
ثالثاً: محمد الشريف شقيق الإمام المهدي:
كان محمد الشريف عالماً ربانياً، ومستشاراً عبقرياً، وكان مشرفاً على معهد الجغبوب، وقد تميز بغزارة العلم، ودقة الفهم، والقدرة على التدريس، وتتلمذ على كبار علماء الحركة السنوسية، وتفرغ للطلب والتدريس وساعده على ذلك وجود مكتبة كبيرة احتوت على النشاط الديني، والعلمي، والأدبي وقد تحدث الطيب الأشهب عنها فقال: (ونظمت بالجغبوب مكتبة كانت من مفاخره، إذ أنها تعد في طليعة المكتبات التي لايمكن للأفراد الإتيان بمثلها، وكانت تضم قسماً كبيراً من المخطوطات النفيسة، ولم يجد الإمام بلداً إسلامياً إلا واستجلب منه الكتب، فمن مصر والحجاز والشام والأستانة وتونس ومراكش، إلى غير ذلك من البلاد الإسلامية الأخرى) وقال الحشائشي عن هذه المكتبة: (أما الكتب الموجودة في خزائنها فقد نيفت على الثمانية آلاف مجلد، من تفسير وأحاديث وأصول وتوحيد وفقه، وغير
_________
(1) انظر: المهدي السنوسي، ص68.
(2) المصدر السابق نفسه، ص68.
(3) انظر: الحركة السنوسية، ص224.(2/258)
ذلك من كتب العلوم المعقولة والعلوم الطبيعية وغير ذلك، ولا يطبع في العالم كتاب باللغة العربية إلا ويبحثون عنه ويظفرون به، .. ) (1).
لقد كانت الجغبوب محلاً لتخريج القادة، وشيوخ الزوايا، ولذلك حرص ابن السنوسي، وإبنه المهدي أن يوفروا كافة أسباب النشاط العلمي، وتتلمذ محمد الشريف على الشيوخ والعلماء، ونهل من الكتب الموجودة، في المكتبة المباركة حتى وصل إلى درجة عظيمة من الفقه والعلم يقول الأستاذ الأشهب: (سمعت هذه الحكاية الآتية من تلميذه والدي، السيد أحمد بن إدريس. قال: كنا نحضر على السيد الشريف، وكنا ندرس عنه الحديث والتفسير والتصوف ومطولات كتب اللغة، يجلس بكل تواضع، ويضع الكراس الذي بيده فوق منضدة من الخشب توضع أمامه، ويقرر مانحن بصدده، وعندما يمر بمشكلة فقهية أو تاريخية أو لغوية يسرد لنا رضي الله عنه من ذاكرته جميع وجوهها، وما ورد فيها من أقوال العلماء أو الأئمة المصنفين بأسلوب عذب ساحر خلاب، ولايترك قولاً ورد فيها إلا ويأتي به، ثم يوضح الأصح من الأقوال والمتفق عليه. وعندما نقف على أي بيت من الشعر في أي كتاب نقرؤه، أو أي موضوع نتناوله، يقول لنا: إن هذا البيت من قول فلان المولود سنة كذا، والمتوفى سنة كذا، ويبتدئ في قراءة القصيدة من ذاكرته، إلى أن يقف على البيت الذي كان السبب في إعلامنا بقوة حافظة سيدنا وسلامة ذاكرته) (2).
إن هذا العالم الجليل، والحبر العظيم، والبحر الزاخر من العلوم كان من أعمدة الحركة العلمية، فبوفاته اهتزت الجغبوب، وتأثر الإمام المهدي بهذا الحدث الجلل يقول أحمد الشريف عن خبر وفاة والده (وفي يوم النصف من شوال أتانا رسول خبره فصعب علينا فراقه غاية، وأزعجنا نهاية، ولكن لم نقل إلا ماقاله الصابرون المهتدون إنا لله وإنا إليه راجعون) (3).
_________
(1) انظر: رحلة الحشائش، ص152.
(2) انظر: السنوسي الكبير، ص47.
(3) انظر: احمد الشريف المخطوط من 44 الى 55.(2/259)
لقد تأثر الإمام المهدي لوفاة أخيه وصبر واحتسب، وبكاه الإخوان السنوسيون في كافة الأقطار، وأبّنُه العلماء والشعراء والخطباء ومن بينهم، أبو سيف مقرب، والسيد السني، وهذه القصائد تدل على مدى النبوغ الأدبي الذي وصل إليه أتباع الحركة السنوسية:
قال الشيخ الشاعر العلامة محمد السني في رثاء محمد الشريف:
هجمت علي من الزمان خطوب ... ومصائب منها القلوب تذوب
خطب يئن له الجماد وتنثنى ... منه متون العزم وهي صلوب
نوب تنوب وحادث زواعج ... ترمي الورى بسهامها فتصيب
جلت وجل بها المصائب وغادرت ... رحب الفؤاد يئن وهو كئيب
لبس الاساء منه الاساء كما اكتسى ... ثوب السواد لاجلها جغبوب
عهدي بربع الحل ملتحف البها ... مخضرة أرجاء مرغوب
والشمل مجتمع ونشر البين في ... طي وذيل سروره مسحوب
واليوم أصبح مقشعراً نازحاً ... وحشى الطلول لاجلهم مخروب
دارت عليه من الزمان دوائر ... أبدلهن على السرور وثوب
لادر در البين يوم ترحلوا ... وسرت بهم نجب المنون تجوب
وحدي بهم حاد النوى والقلب في ... نار الجوى متقلب مرغوب
سقيا لايام مضت لما انقضت ... ان البكاء لاجلهم مطلوب
كل الرزايا ان توالت أسليت ... إلا مصابك (ياشريف) صعيب
رزؤبة ثكل الفضائل كلها ... ولوقعه وجه الزمان قطوب
تبكيك أبصار لانك نورها ... وبصائر منكم لها تطبيب
ومعاشر أنتم ربيع قلوبهم ... ومعاهد أنتم لها أشبوب
وفرائض ونوافل ومحافل ... ومشارق ومغارب وجنوب
وبكى عليك الجو يقطر دمعه ... وعلاه من أحزانه تثريب
أسفي وتهيامي وحر لواعجي ... وقريح جفني بالدموع سكوب(2/260)
صبر لامر قد قضاه إلاهنا ... وعلى الجميع مقدر مكتوب
ناداه إكراماً وتشريفاً له ... فغدا يهرول للنداء ويجيب
في ليلة القدر التي قد فضلت ... عن ألف شهر خصه الترحيب (1)
وأما السيد أبو سيف مقرب فقد قال قصيدة في رثاء محمد الشريف، قال ذلك الشاعر الفحل إذا أخذت كل حرف من أول بيت يظهر لك هذه الجملة الآتية، سيدي ومولاي السيد محمد الشريف - رضي الله عنه - (2): قال الحشائشي وهذا من أنواع البديع المسمى بالترصيع (3) قال الشاعر رحمه الله:
س سرنا بنعشك خضع الاعناق ... سيراً دوين العدو والأعناق
ي يا خير محمول لأعلى جنة ... ولحورها يلقينه بعناق
د داء أصاب المكرمات فغالها ... واغتال روح مكارم الأخلاق
ي يجري على وفق القضا حتماً فلا ... تبقى مواضيه على الأرماق
و والدهر يعتام الأخاير والردى ... يعتاد نهب نفائس الاعلاق
م ماضرّه لو أن صارم صرفه ... ابقاك للعافين والطراق
و والعلم والحلم الذي شمخت به ... أفاق جغبوب على الآفاق
ل لكنه لاينتهي عن قصده ... بتطبّب أورقية من راق
أ أودى الشريف ابن الشريف محمد ... من للمعالي بعده من راق؟
ي ياجامعاً أصل العلوم وفرعها ... جمعاً لمن ناواك غير مطاق
أ أنت الإمام لكل من أم الهدى ... والدين بالإجماع والأصفاق
ل لك كنز معارف وعوارف ... تحت الصفائح محكم الأطباق
س سرُّ ثوى في روضة موشية ... وشي الربا نحبّ الحيا الغيداق
ي يا ثاويا مع أصله في لحده ... هذا قران السعد في الأعماق
_________
(1) انظر: برقة العربية، ص225،226.
(2) المصدر السابق نفسه، ص224.
(3) انظر: رحلة الحشائشي، ص161.(2/261)
د دار حوت أصل المكارم والعلا ... مع فرعه شبت على الأطواق
م ماتلك جنة قد زخرفت ... ورثت يامولاي باستحقاق
ح حزت النعيم بها وكنت منعماً ... والله يمنحك النعيم الباقي
م ماعذر من ينعاك إذ لم يرتشف ... كأس الردى من دمعة المهراق
د دمع من العين منها مرسل ... تهمى بذاك قريحة الآماق
أ إن قصرت يوماً فإن قلوبنا ... أسرى لفقدك في أشد وثاق
ل لو كان يفدى الميت بادر كلنا ... يفدك بالآجال والأرزاق
ش شرفت ياجغبوب حقباً بالذي ... أعلى منارك بالثناء الباقي
ر روت اليك وجوه آمال الورى ... عطشاً لورد نواك الدفاق
ي يسعى لأرضك كل جلف مملق ... فيثاب بالآداب والأرماق
ف فازت رجال باحتلال رياضه ... ورياضه الخلد النعيم الراقي
ر راضي الأنام بعلمه وبحلمه ... فتقدموا في حلبة الأسباق
ض ضار إذا ما ربته في دينه ... أو رمت نقض العهد والميثاق
ي ياصفة صفوة ياشبل صبراً على ... ريب الزمان وخطبة الفراق
أ إن المنايا غاية مادونها ... من ناصر كلا ولامن واقي
لا لاتخطئ الأحيا سهام حتوفها ... من فاته هذا فذاك يلاقي (1)
إن الحركة السنوسية فجرت طاقات الشعراء، وأضفت على شعراء الحركة معاني في الصدق، والمثل الرفيعة، ومبادئ الدعوة، وكونت أدباً رفيعاً خاصاً بها، يستحق البحث والتنقيب، والدراسة والتحليل، وخصوصاً إذا علمنا أن الشعر لم يكن صفتهم الأولى، وإنما كان أمراً لاحقاً، وشيئاً ثانوياً بالقياس إلى صفتهم الأصيلة، وهي كونهم علماء دعاة، اتجهوا في حياتهم إلى نشر العلم بين ذويهم وتهذيب النفوس، وإحياء الشعور الديني، وإصلاح المجتمع بهذه الوسيلة، ثم كانوا مع هذا يتمتعون بالموهبة الأدبية، على أقدار مختلفة (2).
_________
(1) انظر: رحلة الحشائشي، ص159،160.
(2) انظر: دراسات وصور، ص326.(2/262)
إن القصائد السابقة تساعد الباحث على تصور الأجواء التي كانت أثر وفاة محمد الشريف رحمه الله، وبذلك يستطيع أن يصل إلى تأثير خبر الوفاة على الإمام المهدي وإخوانه في الحركة.
وبعد أسابيع قليلة من وفاة السيد الشريف أرسل السيد المهدي في طلب العائلة من الجغبوب إلى الكفرة فسافر محمد عابد وأفراد بيت والده مصحوباً بالسيد أحمد الريفي، وأبي سيف مقرب، وبهذا الانتقال لم يبقى من أفراد البيت السنوسي أحد بالجغبوب (1).
وفي عام 1314هـ جاء جلة أعيان برقة، ورؤساء القبائل لزيارة الإمام المهدي ليقدموا لسيادته أحر التعازي في وفاة أخيه (2) ويتدارسوا آخر تطورات الأوضاع الدولية، والمحلية، والإقليمية.
رابعاً: رحلة الامام المهدي الى السودان الغربي، والصدام مع فرنسا ووفاته:
كان الامام المهدي يرسل البعثات الاستكشافية في الصحراء، ويحفر الآبار، ويتفقد الطرق الموصلة الى وسط السودان الغربي، وكانت تلك الاستعدادت تجري على قدم وساق، في جو من الكتمان الشديد، وبعد اربع سنوات من المكوث في الكفره شد رحاله الى زاوية قرو في برقو في السودان الغربي، ليشرف بنفسه على تنظيم المقاومة، واتخاذ الأهبة لمواجهة القوات الفرنسية الزاحفة نحو بحيرة تشاد (3)، وقد غادر المهدي الكفرة في أواخر جماد الثاني عام 1317هـ ورافقه أفراد أسرته، وكبار الأخوان، وشيوخ الزوايا، وأعيان القبائل وكان ذلك في أواخر جماد الثاني عام 1317هـ (4) وكان عدد رفقائه من الرجال 1066 رجل وهم الأخوان وشيوخ القبائل والحاشية الخاصة والخدم (5)، واستغرقت المدة بين الكفرة وقرو السودان الغربي، شهرين تقريباً (6)، وبمجرد وصول الامام المهدي الى قرو وحط رحاله هناك أخذ
_________
(1) انظر: برقة العربية، ص227.
(2) المصدر السابق نفسه، ص231.
(3) انظر: الحركة السنوسية، ص225، 228.
(4) المصدر السابق نفسه، ص239.
(5) انظر: برقة العربية، ص239.
(6) المصدر السابق نفسه، ص239.(2/263)
ينشر دعوته الاسلامية الدينية، وأخذت شعوب تلك المناطق تدخل في دعوة الاسلام طوعاً، وتنضوي تحت زعامة الحركة السنوسية مختارة، وكانت فرنسا تراقب تحركات الحركة السنوسية، وتستعد لمعركة فاصلة معها، وخصوصاً بعد أن استطاعت القضاء على مملكة رابح الزبير وهزمته في معركة لختة ثم تم قتله في عام 1900م وخضعت لهم سلطنته وباتوا يهددون كانم (1) وكان زعيمها قد: (ارسل محمد البراني الى كانم فبني زاوية في بير العلالي، وطفق يجمع جيوشاً من قبائل التبو، والطوارق وأولاد سليمان، والزوية، والمجابرة لمواجهة الزحف الفرنسي) (2).
تقدم الفرنسيون نحو كانم في حملة مجهزة بالاسلحة والمعدات الحديثة، واستعد السنوسيون لملاقاتهم فوضعوا حامية كبيرة في بير العلالي، واشتبكت الحملة في معركة حامية الوطيس مع الاخوان السنوسيين، وكان النصر حليف المدافعين برئاسة الشيخ محمد البراني الساعدي فأرتدت الحملة الفرنسية خائبة بعد أن تركت ميدان المعركة زاخراً بأشلاء الموتى، والجرحى، والمعدات واستشهد عدد غير قليل من بينهم، الشيخ عبد الله بن موسى فريطيس، ووصل الخبر الى الامام المهدي، فأرسل من عنده نجدة لمعاونة المجاهدين واستأنف الفرنسيون زحفهم مرة أخرى، وكان عدد شهداء المعركة الثانية مائة شهيد، من بينهم كل من الشيوخ؛ غيث سيف النصر، ابوبكر قويطين، يونس بدر، السنوسي خيرالله وشقيقه عبد الله، وغيرهم، وقد بلغ عدد الأموات من الفرنسيين مائتين وثمانين منهم خمسون وعشرون ضابطاً. وفي اليوم التالي من هذه المعركة زحف الفرنسيون بعدد كبير من الجيش تعززه قوات احتياطية، فاشتبكت مع المجاهدين في معركة حامية الوطيس نتج عنها انسحاب المجاهدين، واحتلال القوات المعادية لمركز (علالي)، وفي هذه الاثناء وصلت نجدة من المجاهدين يقودها محمد عقيلة، واحتكت بالفرنسيين في مركز لهم اقاموه خارج (علالي)؛ فألتحمت هناك معركة دامية، اسفرت عن احتلال المقر الفرنسي، والاستيلاء على
_________
(1) انظر: الحركة السنوسية، ص229.
(2) المصدر السابق نفسه، ص229.(2/264)
جميع ماحواه وفر عدد قليل من الفرنسيين الى (علالي) ثم قرر القائد السنوسي الزحف على مركز (علالي) وحاول بعض المجاهدين اقناعه ليكون زحفهم بعد تريث، غير ان القائد صمم على تحرير (علالي) من القوات الفرنسية أو أن يسكن (علالي) غرف الجنة، وتم الهجوم بروح جهادية عالية، واستشهد القائد السنوسي، واضطر المجاهدون تحت وابل الرصاص للإنسحاب بعد أن قتلوا من الجيش الفرنسي اضعاف مضاعفة، وفي هذه الاثناء وصل الى المجاهدين خبر وفاة الامام المهدي (1)،
فخارت العزائم، وضعفت الهمم وكانت وفاة المهدي بعد أن اشتد المرض عليه، وكان ذلك في يوم الاحد 24 صفر 1320هـ الموافق 2 يونيو 1902م في زاوية قرو. واقترح احمد الريفي نقل جثمان المهدي الى الكفرة فتم ذلك ودفن في زاوية التاج (2).
لقد كان محمد المهدي داعية من الطراز الأول، تجسدت في شخصيته صفات القادة الربانيين، وكان يهتم بأمر المسلمين، في كل صقع من أصقاع العالم وكان يؤلمه اي خلاف اسلامي او أي مشكلة تقع بين الأفراد، أو بين العائلات، أو بين القبائل، فكان يولي هذه الناحية مجهودات كبيرة في فكره وتفكيره، ويتخذ كل الوسائل لازالة سوء التفاهم بعمله وآرائه وتدبيره، عاملاً على إحلال الصفاء والوئام محل الشقاق والخصام (3)
وكان عفيفاً، يحترز من المال العام، فعلى سبيل المثال وصل الى الجغبوب حاكم برقة العثماني الفريق رشيد باشا، وحل بطبيعة الحال ضيفاً مكرماً على الامام المهدي، فعومل هذا الضيف بالاكرام والاحترام والتقدير، ولم يتناول مع محمد المهدي الطعام إلا مرتين اثنتين، ومرد ذلك الى أن موارد الجغبوب التي ينفق منها كانت من الاوقاف الاسلامية، والصدقات، والزكاة الشرعية، والهبات التي خصصها المتبرعون بها لتنفق على أوجه البر والاحسان ثم ما احتسب للمشاريع الاصلاحية والانشاء والتعمير، وللإنفاق على المشاريع، وعلى طلاب العلم، والضيوف، وعابري السبيل، والمعسرين، وبطبيعة الحال أن دار الضيافة -وهي احد
_________
(1) انظر: المهدي السنوسي، ص73 ..
(2) انظر: الحركة السنوسية، ص173.
(3) انظر: المهدي السنوسي، ص82 ..(2/265)
هذه المشاريع- هي التي تقوم باكرام ضيف الجغبوب الكبير، وكان المهدي السنوسي يتحاشى أن يصل إليه شيء من ذلك، وهكذا لايمكنه -على مايظهر- ان يتناول من الاطعمة التي تعد لرشيد باشا، وازاء هذه الحالة اقام مأدبتين من ماله الخاص لضيف الجغبوب المحترم وتناول معه الطعام، لقد كان المهدي السنوسي ينفق من موارد خاصة، مصدرها الزراعة، وتنمية الماشية، بزاويتي القصور ودفنة، ومن هذه الموارد كان مأكله وملبسه (1) لقد اتصف الامام المهدي السنوسي بصفات المؤمن ألا وهي (قوة في دين، وحزم في لين، وايمان في يقين، وقصد في غنى، وتحمل في فاقة، واحسان في قدرة، وصبر في شدة، لايغلبه الغضب ولاتجمح به الحمية، ولاتفضحه بطنه، ولا يستخفه حرصه، ولاتقصر به نيته، ينصر المظلوم، ويرحم الضعيف، لايبخل ولايبذر، ولا يسرف، ولايقتر، يغفر اذا ظلم، ويعفو عن الجاهل، نفسه منه في عناء، والناس منه في رخاء) (2)
فرحمة الله على المهدي، لقد اهتز العالم الاسلامي لخبر وفاة المهدي، وكتبت الصحف والمجلات الغربية والشرقية حول وفاة هذا الزعيم الاسلامي، وتولي قيادة الحركة السنوسية بعد وفاة المهدي ابن اخيه احمد الشريف، فقام بتوجيه رسالة الى شيوخ الزوايا نعى فيها عمه المهدي وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
(تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وهو العزيز الغفور. فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون. وبعد فإنه من عبدربه سبحانه احمد ابن السيد محمد الشريف بن السيد محمد السنوسي الخطابي الادريسي الحسني الى الأجل الأبر الصفي الأنور سيدي الشيخ .... (ويكتب اسم شيخ الزاوية المرسل إليه الكتاب) سلمه الله آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته ومرضاته والموجب لهذا السؤال عن الاحوال لا زالت محفوفة بالتكريم،
_________
(1) انظر: المهدي السنوسي، ص79.
(2) المصدر السابق نفسه، ص84،85 ..(2/266)
والاجلال. وإن سألتم عنا فإننا ولله الحمد تحت مجاري الأقدار ساكنون، وفي قبضة من يقول للشيء كن فيكون ولنفحات المولى جل وعلا متعرضون، وبما حكم به سبحانه وتعالى راضون، وعن جميع مالا يرضى الخالق بحوله وقوته معرضون، وبما وعدنا به الله ورسوله موقنون، ولاغتلاس المنون مترقبون، سائلين منه تعالى منح مابشر به الصابرون القائلون عند المصيبة إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون. اجرنا الله وآجركم في مصيبتنا ومصيبتكم بالاستاذ الذي طلما رشد الخلق والى طريق الحق يهدي، سيدنا محمد ابن المهدي - رضي الله عنه -، وأرضاه وجعل الجنة متقلبه مثواه، ونفعنا بأسراره وأسرار آبائه وجعلنا من المفلحين الذين هم حزب الله من أوليائه وأصفيائه فقد نقله من الدنيا الى الآخرة التي هي خير في منتصف نهار يوم الأحد الثالث والعشرين من صفر الخير من سنة عشرين وثلاثماية وألف، ضاعف الله له الخيرات وضاعف الضعوف ألوف ضعف وسقى بشابيب الرحمة تربته، واسكنه مع الذين أنعم الله عليهم جنته إنه جواد كريم بر رحيم، ومنا جزيل السلام الى جميع الاخوان والمحبين ومن عندنا سلم عليكم صنوناً السيد محمد عابد والسيد محمد ادريس، وكافة الانجال والاخوان والسلام) (1)
تاريخ 7 ربيع الأول 1320هـ.
وهكذا انتقل السيد المهدي الى رحمة الله وهو لم يبلغ الستين من عمره، استطاع خلالها أن يتوسع في ميادين الدعوة، مقتفياً في ذلك منهج والده، ومات وهو في طريقه نحو ساحات الوغى، وألهب مشاعر اتباعه، ودفعهم نحو حب الجهاد، وورّث القيادة لجيل آخر استطاع أن يقارع فرنسا، وإيطاليا، وانجلترا بقيادة احمد الشريف.
واختم حياة الامام المهدي بهذه القصيدة الرائعة التي تدل على الطاقات الكامنة
_________
(1) انظر: مجموعة الشيخ منصور المحجوب نقلاً عن الحركة السنوسية، ص232 ..(2/267)
في شعبنا المسلم (الليبي) وقد جاءت هذه القصيدة تحمل في كل بيت منها صورة واضحة لسيرة الزعيم الثاني للحركة السنوسية، وبينت اصلاحاته العلمية، والدينية، والعملية، والنظامية وهكذا، فالاسلام دين ودولة، وسيف ومصحف قال الشاعر الكبير رفيق المهدوي:
السيد (المهدي) اعظم مصلح
بعد الايمة قام بالاصلاح
اصلاحه الدين الصحيح منزه
عن جذبة المتصوف السباح
صان العقائد من خرافات ومن
بدع ومن متناقض الشراح
ماكان إلا بالشريعة عاملاً
بالعلم في نهجى تقي وسماح
متقيلا اخلاق والده الذي
بدأ الجهاد بهمة وكفاح
(ابن السنوسي) الذي آثاره
تغني عن الاطراء والامداح
كالشمس لا تحتاج برهاناً ولا
يحتاج مبصرها الى استيضاح
والشمس ان جهل الكفيف ضياءها
عرف الحرارة في الشعاع الضاحي
والمسك يعرف دون رؤيته اذا
سطع الشذا من عرفه الفواح
والفرع ينزع للاصول نجابة
إن الوشيج يجود بالارماح
والنوع يبقى بعد طول تقلب
في حبه فتجيء بالادواح
آل الرسول وان تطاول عهدهم
مازال سر العرق في الاقحاح
كانت طريقته القيام بسنة
نبوية لألاءة الاوضاح
ليست لدروشة المريد وجذبه
بالدف او بالرقص او بصياح
كانت معالمه كسيرة جده
احياء دين وانتشار صلاح
اعمال مجتهد بخالص نية
للخير، منتصر بغير سلاح
لوكان عن شيء لغير الله في
اعماله ماكللت بنجاح
اذ لايدوم سوى الذي هو نافع
للناس مرتفع عن الارباح
ومن الكرامة للولي نجاحه
في النصح بالاقناع والافصاح
والمرء لايعجبك منه ماسعى
بل مانوى في السعي من اصلاح(2/268)
فإذا استوى عمل وحسن عقيدة
كان النجاح حليف كل طماح
إن العقيدة لايصح يقينها
إلا بفعل ظاهر وصراح
فاذا أحب الله باطن عبده
ظهرت عليه مواهب الفتاح
واذا صفت لله نية مصلح
مال العباد إليه بالارواح
هذي صفات السيد (المهدي) ولا
والله ما بالغت في الايضاح
فله من الخدمات للاسلام ما
يعلو على متناول الشراح
يكفيه نشر الدين في الآلاف من
اقصى حدود (الشاد) حتى (الواح)
نصر لدين الله بين مجاهل
صعبت على الرواد والسياح
فازوا من الفتح المبين بعزة
الاسلام بعد عبادة الاشباح
وكفاه نشراً للعلوم بناؤه
لمعاقل مثل الحصون فساح
تلك الزوايا القائمات كأنها
للمدلج الساري ضياء صباح
كانت مناراً للعلوم وملجئاً
للمحتمين ومورد الممتاح
لتلاوة القرآن في عرصاتها
كدوي ثول النحل في الاجباح
ولدارس التوحيد في ارجائها
هدى ينير انارة المصباح
ولنهضة العمران كان بذاته
يلقى دروس الحرث للفلاح
ويدرب الفرسان معتمداً على
فن باحدث عدة وسلاح
ويوحد الاهداف بين قبائل
كانت فلولا عداوة وتلاحي
هذي كرامات الامام السيد
المهدي للايمان والاصلاح
للدين والدنيا وللاولى وللاخرى
وللابدان والارواح
لا كالكرامات التي يروونها
كعجائب الفقراء غير صحاح
او كالتصوف عند قوم اظهروا
بلها بلبس الصوف والامساح
فكرامة الاصلاح بالخير الذي
للناس فوق كرامة الصلاح
ماذا اقول ولا اريد زيادة
عن مدح من سبقو من المداح
سبقوا وما بلغوا سمو شواردى
الا مثابة ريشة بجناحي(2/269)
في مدح من فاق الملوك مكانة
بجلال وصف سميدع جحجاح
كانت تهاديه الملوك فيعتلي
متعففاً برزانة ورجاح
ورعاً وزهداً في حطام عاجل
وتحفظاً من جائز ومباح
بلغ الكمال المستطاع لمنتهى
افق لقرب الانبياء متاح
لا ادعي اني احاول وصفه
باطالة الاطناب والالحاح
لكنني اخصلت مدحي موقناً
بالحق في جد بغير مزاح
واشدت بالذكر الذي لايمترى
في صدقه متبجح او لاحي
لا ابتغي مالاً ولا جاهاً ولا
زلفى تقربني الى مناح
حسبي قد استغنيت بالايمان عن
كل العباد بفالق الاصباح
واردت عند الله في ذاك الجزا
وبحسن ظني في الرسول نجاحي
وبالانتساب الى النبي وآله
ارجو مفازي في غد بفلاح
ومن التفاؤل ان نسبة (مهدوي)
جاءت من (المهدي) عن الشراح
اني اقر بأنني اسرفت في
دنيا المعاصي راكباً لجماحي
مالي امام الله غير سريرة
بيضاء يوم المحشر الفضاح
ولقوله لاتقنطوا من رحمتي
القى الاله بخاطر مرتاح
مالي سوى صدق اليقين مؤملاً
حسن الختام على هدى وصلاح (1)
_________
(1) انظر: المهدي السنوسي، ص11،12،13.(2/270)
الفصل الثاني
الزعيم الثالث للحركة السنوسية
أحمد الشريف السنوسي
هو العالم الجليل، والقائد العظيم، والمجاهد القدير الذي قاد كتائب الجهاد ضد فرنسا في تشاد، وضد ايطاليا في ليبيا، وضد بريطانيا في مصر السيد أحمد الشريف بن محمد الشريف بن محمد بن علي السنوسي الخطابي الادريسي (1).
المبحث الأول
ولادته وتربيته وشيوخه
يتفق معظم المؤرخين على أنه ولد بواحة الجغبوب ليلة الاربعاء بتاريخ 27 شوال سنة 1290هـ الموافق لسنة 1873م (2)، إنكب منذ طفولته على القراءة والتحصيل، وحفظ القرآن الكريم في سن مبكرة.
تربى رحمه الله في حجر والده العلامة محمد الشريف وحينما ترعرع وبلغ السادسة من عمره دخل تحت كنف عمه المهدي السنوسي، فأهتم بتربيته وتهذيبه، واشرف عمه على تعلميه وتحفيظه للقرآن الكريم، ولما تم حفظ القرآن الكريم قال له عمه أنت ما أخذت القرآن إلا عني (3).
ومن أشهر العلماء الذين تعلم وأخذ العلم عليهم: محمد الشريف السنوسي، ومحمد المهدي السنوسي، واحمد الريفي، ومحمد مصطفى المدني التلمساني، وعمران بن بركة وهو جده من جهة الأم (4).
ارتحل مع عمه من الجغبوب الى الكفرة عام 1312هـ، واسندت إليه مسؤوليات
_________
(1) انظر: الفوائد الجلية (2/ 8،9).
(2) انظر: أعلام ليبيا، للزاوي، ص51.
(3) انظر: الفوائد الجلية (2/ 9).
(4) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، مصطفى هويدي، ص22.(2/271)
جسام منذ البلوغ، وكان يشرف على رعاية القافلة المتجهة الى الكفرة والتي تتكون من 2600 شخص، وكان ينفذ أوامر عمه بدقة وعلى خير مايرام، فلم يعرف الركون الى الراحة.
وفي سنة 1317هـ ارتحل مع عمه محمد المهدي الى منطقة قرو بالسودان الأوسط، في مهمة دعوة الناس وتعليمهم الدين الاسلامي، وألف احمد الشريف كتاباً عن هذه الرحلات أسماه (السراج الوهاج في رحلة السيد المهدي من الجغبوب الى التاج) (1).
وشارك مع عمه وأتباعه في مجموعة معارك بالسودان وتشاد ضد الفرنسيين في مناطق مختلفة، مثل (واداي، كلك، علالي، ون، جنقة الكبرى، جنقة الصغرى، تبستي، بركو، قرو ... الخ) (2) واستمر الصراع السنوسي الفرنسي، الى مابعد وفاة محمد المهدي.
_________
(1) ويسمى ايضاً (الدر الفريد الوهاج في الرحلة من الجغبوب الى التاج).
(2) انظر: نشأة الحركة العربية الحديثة، محمد عزة، ص77.(2/272)
المبحث الثاني
احمد الشريف يتولى قيادة الحركة
ولما شعر محمد المهدي بدنو أجله، عهد الى ابن أخيه بالقيادة، لما توسم فيه من القدرة على الاضطلاع بأعباء الحركة، والوصاية على الخليفة الشرعي (ادريس)، ولما لمس فيه من صفات قيادية، واستعداد فطري، وخبرة اكتسبها في معاركه ضد فرنسا أهلته لتولي القيادة (1).
وكان اسناد الزعامة الى احمد الشريف قد صادف قبولاً وارتياحاً من جانب جميع الأخوان الذين اجتمعوا بالكفرة يوم 12 ربيع الأول من عام 1220هـ الموافق ليوم 19 يونيو 1902م حيث جرى الاحتفال بانتخاب احمد الشريف (2).
استمر احمد الشريف على نهج زعماء الحركة السنوسية، فواصل الجهاد ضد الاستعمار الفرنسي، ونشر الدعوة الاسلامية بكل حكمة في أفريقيا، واتخذ من الكفرة عاصمة للحركة السنوسية وأناب عنه محمد السني لإدارة أمور الجهاد، وشرع احمد الشريف في تشكيل جبهة اسلامية، ضد الغزو الفرنسي الزاحف من جنوب تشاد الى شرقها وشمالها، فقام بالاتصال بسلطان وداي (داود مرة) سنة 1903م، وأقنعه بسحب اعتراف وداي بالحماية الفرنسية على كانم، وباقومي، واستجاب السلطان داود لذلك وسحب اعترافه بالحماية الفرنسية (3)، واتصل بالسلطان على دينار (سلطان دارفور) الذي أعلن توحيد جهود المسلمين ضد الغزو الصليبي الأوروبي (4)، لقد رأى احمد الشريف أن التوسع الفرنسي في الصحراء الأفريقية يعتبر تهديداً مباشراً لحركته الاسلامية الدعوية، ولتجارة القوافل التي كانت تدعم بمردوداتها الاقتصادية نظام زواياه في تلك المناطق (5).
_________
(1) انظر: صفحات مجهولة من تاريخ لييا، محمدعيسى، جامعة الكويت الحولية الأولى عام 1980، ص7.
(2) انظر: السنوسية دين ودولة، ص98.
(3) انظر: العلاقات الليبية التشادية، سعيد عبد الرحمن، مركز دراسات الجهاد، 1983م، ص86.
(4) انظر: الحركة الوطنية شرق لييا، ص23.
(5) المصدر السابق نفسه، ص23.(2/273)
لقد كان تجار القوافل التابعين للحركة السنوسية من اعمدة الحركة الاقتصادية، ولنضرب مثلاً على ذلك بالحاج احمد الثني الغدامسي الذي كانت له تجارة عظيمة مع أهل برنو وواداي وغات ومصر وطرابلس وتونس، وكان جميع مايأتي الى جغبوب يأتي على يديه وهو الذي يجلبه الى هناك بأثمان متهاونة، رفقاً بالاخوان ولذلك كان من المقربين من الشيخ محمد المهدي (1).
إن الحركة السنوسية في بداية أمرها لم تكن لها سلطة الحكام الذي يدبرون الشؤون العامة كالعزل والتولية وإقامة الحدود، وجباية الاموال، وتنفيذ الاحكام، بل كانت بداية أمرها، الاهتمام بالدعوة الى الله، وارشاد العباد الى العمل بما يأمر به دينهم الحنيف ويسعون لإصلاح ذات البين، ويتبادلون النصح للحاكم والمحكوم، ويرشدونهم الى تعاليم كتاب الله، وتعليم سنة رسوله، ويحرضونهم على بناية المساجد لاقامة الشعائر الاسلامية فيها، ويقومون هم واتباعهم بعمارة هذه المساجد بتعليم كتاب الله، والصلوات فيها، ويبذلون الجهد لفض المنازعات مابين القبائل والمتخاصمين ويعلمونهم كيفية اخراج زكاة أموالهم، وكيفية عقد انكحتهم، ويحرضونهم على نبذ العادات المخالفة للشرع، وبدأ جهادهم المنظم لحكومة فرنسا التي بدأت بالاعتداء على دعوتهم وحركتهم وقاوموا فرنسا غيرة على الدين الاسلامي الذي نشرته الحركة ودعاتها في مجاهل أفريقيا (2)،
لقد قام الفرنسيون بعد ما دانت لهم تشاد عام 1909م بهدم مراكز الاصلاح والارشاد التابعة للحركة السنوسية، وإلغائها، واستطاع احمد الشريف أن يقنع العثمانيين بضرورة دعمه، والوقوف مع حركته، واسفرت مفاوضاته مع العثمانيين عن ارسال جند من النظاميين الى برقو والتبستي وتأسيس قائمقام في الكفرة، عين بها الشيخ كيلاني الأطيوش من قبيلة المغاربة الرعيضات وهو والد المجاهد الكبير الذي دوخ ايطاليا صالح باش الأطيوش، ورفعت الراية العثمانية في (وان) بالقرب من عين كلك، وكان المشرف على حركة الجهاد الشيخ الجليل محمد السني الذي
_________
(1) انظر: رحلة الحشائشي، ص171.
(2) انظر: الفوائد الجلية (2/ 15 الى 22) ..(2/274)
أرسله المهدي الى (أبشه) عاصمة واداي عقب انتقاله من الجغبوب الى الكفرة، وهكذا ظلت المناوشات دائرة بين السنوسيين والفرنسيين واستطاع (الكولونيل لارجو) في ديسمبر عام 1913م أن يلحق بالمجاهدين هزيمة كبيرة في (قرو) حيث جرح ولدا السيد المهدي السني نفسه عبد الله وعبد العال) ووقعا في الأسر (1)، إن الفرنسيين كانوا يشعرون بالخطر العظيم من قبل الحركة السنوسية وكذلك الدول الأوروبية، وقد نشرت جريدة (دي كولوني) الالمانية كلاماً عن عالم ألماني خبير بأحوال افريقيا عامة والسنوسيين خاصة زعم فيه ان عددهم يبلغ تسعة ملايين وان في وسعهم انفاذ جيش الى مصر والسودان مؤلف من خمسمائة ألف مقاتل، وذكر مجملاً من تاريخهم عربته جرية المؤيد عن جريدة الميموريال وهو: (إن طريقة السنوسية مهمة جداً من حيث انتشارها السياسي في افريقية ومن حيث الكفاح القائم بين الديانتين الاسلامية، والمسيحية، في هذه القارة وقد أنشئت هذه الطريقة منذ خمسين عاماً تقريباً أي في عام 1855م بواحة الجغبوب، وواضع اساسها هو الشيخ محمد بن علي السنوسي ....
ثم خلفه ابنه المهدي وكان وقتئذ فتى فتياً وهو الى اليوم رئيس المذهب الذي أصبح على عهده واسع النطاق منتشراً في الآفاق واشارة منه تكفي الآن لازالة الشحناء والخصومة من بين سلطانين من سلاطين افريقية اذا قام بينهما الشقاق واستحكم الخلاف لأمر من الأمور، ومن الأمور التي لا ريب ولا خلاف فيها أنه اذا جاء يوم أمر فيه بالجهاد وأشار بالحرب الدينية اهتزت لصوته اركان العالم الاسلامي التي تترامى في حدوده في افريقية الى مصر شرقاً والكونغو جنوباً حتى بحيرة تشاد ومراكش غرباً وعليه يكون حزب السنوسي قد صار قوة من القوى السياسية التي ينبغي على كل دولة من دول أوروبا أن تعمل لها حساباً وقد اشتهر سيدي المهدي محمد بالتناهي في التقوى والصلاح ورعاية أمور الدين، والتقشف في المعيشة وهو دائب السعي على توفير اسباب الوئام والاتفاق بين الاقوام والشعوب الأفريقية .... ) (2).
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص100.
(2) انظر: تاريخ الاسلام، انور الجندي، ص217.(2/275)
إن أعداء الاسلام يحاولون أن يرصدوا أي تحرك مفيد للدعوة والمسلمين، ويعملون ليلاً ونهاراً وسراً واعلاناً على التحذير منه، وتشويهه ووضع العوائق في طريقه مهما كلفهم الثمن، يدفعهم ذلك حقدهم الدفين على الاسلام، والمسلمين.
يقول ادرو ساليفو استناداً الى الوثائق الفرنسية: ( .... من المهم أن نوضح أن السنوسية لم تكن مجرد حركة متذمرة ومتعصبة، فهي طريقة اصلاحية تهدف الى احياء الدين الاسلامي، وإرجاعه الى أصوله السلفية، كما تهدف الى تحرير العالم الاسلامي من التبعية الاستعمارية التي سقط فيها. والى جانب ذلك الهدف الديني فإن السنوسية لها هدف آخر سياسي في غاية الأهمية، وهو توحيد أفريقيا الاسلامية أولاً وتوحيد العالم الاسلامي بعد ذلك في أمبراطورية اسلامية جديدة، تتمتع بالأبهة والمجد والعظمة، وخالية من الشوائب التي لحقت بها خلال القرون التي ابتعد فيها العالم الاسلامي عن السنّة النبوية الصحيحة مما أضعفه نتيجة لذلك، وبالاضافة الى الهدف الديني والهدف السياسي هناك أيضاً الهدف الاقتصادي حيث كان (الاخوان) يتنافسون بينهم على أعمال الزراعة والصناعة الخفيفة والتجارة من أي مكان تمد فيه الزوايا السنوسية أعملها ونشاطها (1)، لقد كان الصراع بين فرنسا والحركة السنوسية في افريقيا على أشده، وتميز السنوسيون في جهادهم بقدرتهم على الكر والفر، وكانت قبائل الصحراء، والقبائل الليبية تتمحور حول قيادة الحركة السنوسية، وبدأت قبائل توارق النيجر تتجه شرقاً للالتحاق، بحركة الجهاد، ولم تقع في النيجر أي حوادث تذكر حتى بداية عام 1903م عندما بدأ الفرنسيون يزحفون نحو الشمال (2)، واندلعت المعارك الطاحنة التي كان خلفها اتباع الحركة السنوسية، وكان من أشهر قادة الحركة السنوسية:
أولاً: المجاهد محمد كاوصن:
ولد محمد كاوصن في بلدة (مرقو) حوالي عام 1880م وينتمي الى قبيلة
_________
(1) انظر: الثورة السنوسية، ترجمة عبد الرحمن عبد اللطيف، ص12.
(2) انظر: جهاد الليبيين ضد فرنسا، محمد القشاط، ص115.(2/276)
(إيكزكزن) إحدى القبائل الشريفة في سلطنة والليمدان وإليها تنتهي رئاستها، قاد حركة الجهاد ضد فرنسا في النيجر في الحرب العالمية الأولى وأبلى بلاءً عظيماً، وقد عاش هذا القائد أحداث الجهاد منذ اصطدام توارق شمال النيجر ضد فرنسا عام 1901م، وهاجر ضمن قبائل التوارق نحو الشرق، حيث استقر (بقورو) وانضم للطريقة السنوسية وكان ضمن المجاهدين في هجومهم على (وشنكال) في نوفمبر في عين (كلكا)، وكان من ضمن المستولين على الموقع الفرنسي التابع لسرية الهجانة في كانم بقيادة الملازم (موتوت).
وقد أعجب به احمد الشريف واسند إليه قيادة (عين إيدي)، وانطلق مجاهداً، فأغار على بيسكرى عام 1910م، وضغطت عليه القوات الفرنسية، فلجأ الى دار فور حيث (سلطنة علي دينار) ثم رجع الى (أوتياكا) وألتحق بالشيخ محمد السني في سبتمبر عام 1911م ثم سافر لاى يروكو وواداي ووضع نفسه تحت قيادة القائمقام العثماني في (عين كلكا) اكتوبر 1911م، وفي 23 مايو 1913م شارك كاوصن في معركة أم العظام ضد فرنسا ولم يتمكن المجاهدون من النصر واستشهد القائد عبد الله الطوير الزوي اثناء المعركة (1) وبعدها انتقل كاوصن الى فزان ووصل واو ودخل تحت قيادة محمد العابد السنوسي مندوب احمد الشريف في فزان، وشارك في جهاد أهل الجنوب ضد ايطاليا ثم رجع على راس مجموعة من المجاهدين للاستيلاء على شمال النيجر وطرد الفرنسيين منها، وراسل كاوصن سلاطين التوارق واللميدان، والآيبر، ومشائخ قبيلته يطلب منهم إعلان الجهاد المقدس ضد الكفار، ويعدهم بالنصر ويبلغهم أن الألمان سيلاقونهم في نيجيريا (2).
يقول ساليفو:
(ولكن كاوصن كان قدبدأ فعلاً في مراسلة مختلف زعماء التوارق في آيبير وخاصة سلطان (أقدز) و (تاقامه) صديقه المتواطئ معه عن طريق مراسلات سرية منتظمة) (3).
_________
(1) انظر: جهاد الليبيين ضد فرنسا، ص157.
(2) المصدر السابق نفسه، ص157.
(3) انظر: الثورة السنوسية، ص68.(2/277)
ويقول ساليفو:
(ومن ناحية أخرى قام تاقامه بالاتصال مع عدد من زعماء القبائل طالباً مساعدتهم في المعركة المرتقبة التي تستعد السنوسية لخوضها مع الكفار، فلبت القبائل: أيكزكزن، إفدين، كل أغاروس، كل فروان، نداء تاقامه على الفور، كما ردت قبائل المشكره تكريكريت والليمدن في منطقة طاوه بالموافقة على نداء سلطان أقدز، فجاءت هذه القبائل واستقرت في المدينة مع العائلات والمواشي ... ) (1).
وفي سرية تامة انطلقت كتائب المجاهدين التي يقودها محمد كاوصن القائد السنوسي باتجاه أقدز في أواخر فصل الخريف من عام 1916م، متجنبين حر الصحراء وحاجة المسافرين للماء، وفي مساء ليلة 12 - 13 ديسمبر كان المجاهدون يطوقون أقدز وقد قبضوا في تلك الليلة على مجموعة من المشبوهين ومن لهم علاقة بالفرنسيين، مثل مترجم المركز الفرنسي، وتاجر تونسي يدّعى بأنه يتعامل مع الفرنسيين في التجارة، كما تم القبض على شخص أمريكي تابع لجمعيات تنصيرية (2).
قسم المجاهدون قواتهم الى مجموعتين:
1 - المجموعة الأولى بقيادة محمد كاوصن.
2 - المجموعة الثانية بقيادة أغالي من قبيلة أيكزكزن.
كانت كتائب المجاهدين تتكون من مجموعة كبيرة من الليبيين وحوالي 40 شخصاً من الشعانبه جزائريين يراسهم مولاي قدور وهو جندي سابق مع فرنسا، فر من جيشهم وألتحق بالمجاهدين، ومجموعة من أهالي توات (الجزائر) يرأسهم بوخريض، والتحق بالمجاهدين، مجموعة من سكان الجنوب التونسي (3).
وبدأ المجاهدون في قصف المركز الفرنسي صباح يوم 13 ديسمبر لإجباره على
_________
(1) انظر: الثورة السنوسية، ص70.
(2) انظر: جهاد الليبيين ضد فرنسا، ص159.
(3) انظر: جهاد الليبيين ضد فرنسا، ص159.(2/278)
التسليم، وفي 18 ديسمبر سقطت أربعون قذيفة على المركز وألحقت به أضراراً بالغة، وكان محمد كاوصن يدير المعركة بمهارة فائقة، وقدرة رائعة، ويشرف على سير المعركة، واستطاع المجاهدون أن يستولوا على المدينة، وتحصلوا على غنائم ولم يبقى إلا المركز المحاصر الذي تخندق الفرنسيون داخله حيث تموينهم، وسلاحهم، وذخائرهم، وبدأ المجاهدون يرسلون الدوريات الى المناطق المجاورة، والى تقاطع الطرق المؤدية الى أقدز، وفي يوم 26 ديسمبر 1916م اصطدمت قوة من المجاهدين، بمجموعة فرنسية بقيادة الملازم سودان قادمة من زندر وأبادتها وقتلت الملازم سودان.
علم المجاهدون بقدوم قوة فرنسية تحمي قافلة الملح القادمة من بلما؛ فخصص كاوصن قسماً من جماعته لحصار المركز، وانسحب بمن معه لملاقاة القافلة، ونصب لها كميناً في منطقة (شين بتوراق) يوم 27 ديسمبر 1916م (1).
يقول النقيب (ساباتي) بتاريخ 28 ديسمبر عام 1916م: (إن إطلاق النار قد سُمع من بعيد في حوالي الساعة 17 من جهة الشرق، وبما أن الوقت متأخر فإنني لم أعين مجموعة للقيام بالاستطلاع في تلك الجهة، وكان ذلك خسارة للفرنسيين لأنه كان معركة (شين تبوراق) الشهيرة التي لاتنسى) (2).
وقد استطاع المجاهدون تحقيق نصر ساحق ضد القوة الفرنسية وكان حصار معركة شين تبوراق: (60 ستين من رجال الهجانة التابعين للفصيل المتنقل قد لقوا حتفهم؛ فلقى الملازم الأول (ديفو) والطبيب العسكري (رينود) والعريف (مريل)، والعريف (قازلان) نفس المصير) (3).
كما استولى المجاهدون على ستة أسرى، وستة من سكان المنطقة المجندين مع الفرنسيين وأعدموهم.
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص160.
(2) انظر: الثورة السنوسية، ص82.
(3) المصدر السابق نفسه، ص85.(2/279)
يقول كافيو:
(ولكن من الناحية المعنوية فإن الهيبة التي أحرزها، كاوصن من هذه الضربة كانت واضحة، فانتشرت أخبار الانتصار بسرعة في أحياء التوارق، فزاد من تشجيع السنوسيين وأتباعهم وأصدقائهم ورفع معنوياتهم، فحسم موقف المترددين فقرروا الانضمام للمعسكر الأقوي، وفي ذلك الوقت على كل حال كان الأقوى في نظر الأهالي كاوصن، وقد توافد التوارق الى معسكر كاوصن للانضمام إليه، ومن أجل الحصول على الشرعية للمشاركة في الغنائم) (1).
ويقول ساليفو:
(وفي 28 ديسمبر في أثناء الليل زمجرت الطبول المعلنة للاحتفالات في مدينة أقدز، وكان الوطنيون يحتفلون بانتصارهم الساحق ضد الرجال البيض الكفار) (2).
وكانت رسائل كاوصن تصل الى السلاطين في مناطق التوارق تدعوهم للانضمام للجهاد ضد الكفار، وكانت في هذه الاثناء مجموعات من المجاهدين الليبيين تهاجم أزوار بشمال تشاد، وأخرى تهاجم جادو، كما أن مجموعات أولاد سليمان في شمال تينبكتو توجهت للمساهمة في حصار أقدز بقيادة الخليفة ولد محمد، وهكذا تشتت كل جهود الفرنسيين.
يقول ساليفو:
(وهكذا إذن لم يكن أيّ فصيل من الهجّانة في كلِّ أنحاء أقليم النيجر مستعداً للذهاب إلى أقذر، فما العمل؟ هل يطلب من فصائل السودان التدخل، وعلى الأخص من فصائل كيدال وتينبكتو التي كانت قريبة أكثر من غيرها.
ولكن وبدون شك فإنَّ القدر قد ساعد جماعة كاوصن لأنه في الواقع إذا كانت فصائل الهجّانة مشغولة هنا في أي مكان من النيجر فإن هجّانة كيدال قد انطلقوا لتوهم في مطاردة غزوة عبر الصحراء) (3).
ويقول ساليفو نقلاً عن المصادر الفرنسية:
(فلا فائدة أيضاً من النظر إلى إقليم
_________
(1) انظر: جهاد الليبيين ضد فرنسا، ص161.
(2) انظر: الثورة السنوسية، ص86.
(3) المصدر السابق نفسه، ص91.(2/280)
الجنوب الجزائري، فقد تمّ إخلاء حصن (بولينياك)، وهاجم السنوسيون حصن (موتيلانسكي) (1).
(كان الموقف الأوروبي هو الذي استهدفته مسألة (كاوصن) وهدَّدته في إفريقيا الوسطى، ألم يكن كاوصن لديه مشروع التوغل في بلاد الهوسا، وحينئذٍ تضامن الإنجليز والفرنسيون الذين كانوا قبل سنوات يتنافسون على هذه الأراضي التي لايفصل بينها إلا خطّ وهمي يمرّ من ساي - بارُّو - فحاولّوا نسيان منازعتهم القديمة لمواجهة عدوهم المشترك) (2).
وهكذا توحدت جهود فرنسا وبريطانيا، وعملاء المنطقة على محاربة المجاهدين، وعلى رأسهم كاوصن (3)، ولقد، اندلعت معارك ضارية بين القوات الأوروبية، وقوات المجاهدين وكانت الغلبة للقوة التي ملكها الأوروبيون، وقد فصل الدكتور محمد القشاط تلك المعارك (4) لقد أتعب كاوصن الفرنسيين، وقد أبلى بلاء حسناً، وكانت وفاته في ليبيا، حيث تعرض لكمين من بعض القبائل التي كانت تكن له الكراهة والبغض نتيجة لسوء تفاهم بينهم، فعندما مرّ بحطية أم العظام في جنوب ليبيا بمنطقة فزان هاجمه مجموعة من الرجال، فأمر مجموعته بعدم إطلاق النار قائلاً: (هؤلاء لابدّ مسلمون جهلونا، فالفرنسيون بعيدون من هنا وكذلك الطليان) وتقدم ليوضح لهم فقبضوا عليه، وضربه رجل اسمه العياط بالسوط فقال كاوصن مخاطباً العياط:
(أنا كاوصن لا أضرب بالسوط اضربني بالرصاص) فأخذوه حيث أمروه بحفر قبره بيده وقتلوه بعد أن صلَّى ركعتين في 5 يناير 1919م).
وهكذا انتهت حياة هذا المجاهد العظيم على يد أحمد العياط الذي قتل عام 1924م على يد أحد المجاهدين بالحمادة الحمراء وهو يقاتل مع الطليان (5).
_________
(1) انظر: الثورة السنوسية، ص91.
(2) المصدر السابق نفسه، ص92.
(3) انظر: جهاد الليبيين ضد فرنسا، ص165.
(4) المصدر السابق نفسه، ص165 الى 180.
(5) انظر: جهاد الليبيين ضد فرنسا، ص176.(2/281)
أما بقية المجموعة من مجاهدي الصحراء فإنهم حين سمعوا بخبر كاوصن وظهرت لهم الحقيقة رجعوا إلى النيجر، حيث انسحبوا ليلاً، وأخذوا معهم زنادات المدافع، وتابعتهم قوات خليفة الزاوي التابعة للأتراك الذين رغبوا مابين عامي 1916م-1918م في القضاء على نفوذ السنوسية في فزان والذي كان يقوده محمد عابد السنوسي.
ووجدتهم قوات الزاوي اثنين منهم مغمى عليهما من العطش فاسعفاهما وأرجعاهما إلى حيث دفنوا زنادات المدافع وقتلاهما، ومع الأسف الشديد، والحزن العميق كان أحد أولئك القتلى السلطان المجاهد الخورير سلطان والليمدن الذي لم يستطع مواصلة السير من العطش، وسلّم ولده الصغير محمد لأحد رفاقه وسقط هناك.
واستمر عبد الرحمن تاقامة يقود المجموعة المنهكة، والقليلة الزاد، والذخيرة، راجعاً إلى الصحراء متخذاً من جبالها درعاً له (1).
إن تلك الفتنة التي حدثت بين خليفة الزاوي، ومحمد عابد السنوسي ساهمت في إجهاض حركة الجهاد في الصحراء الكبرى (2) وإني أعرضت صفحاً عن تفصيلها، وأسبابها أما عبد الرحمن تاقامة، فقد كان على علاقة وثيقة بالحركة السنوسية، ولذلك استجاب لنداء الجهاد المقدس ضدّ فرنسا، عندما وصله من زعامة الحركة، وساند حركة محمد كاوصن، وكان يموّن ويموّل المجاهدين طوال حصار أقدز في النيجر، والذي استمر قرابة الثلاثة أشهر، وعندما فك الحصار المجاهدون انسحب معهم، وقاتل فرنسا بضراوة، إلى أن وصل فزّان حيث استقبلهم خليفة الزاوي حاكم مرزق محارباً، ولما قتل كاوصن انسحب عبد الرحمن تاقامة عائداً إلى الصحراء.
كان الفرنسيون يتابعون الأحداث:
يقول ساليفو:
(كان الفرنسيون يتابعون تطورات الوضع السياسي في فزّان عن
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص177.
(2) انظر: جهاد الليبيين ضد فرنسا، ص175.(2/282)
كثب، وكانوا يعلمون أنّ كاوصن قد قُتل، ولكن تاقامة مازال حياً ممّا سبب لهم نوعاً من القلق، وفي الحقيقة كانت شعبية سلطان آيبر الأسبق مازالت عميقة، وكان الفرنسيون يعلمون أيضاً أنَّ تاقامة يستطيع أن يجمع حوله من جديد عدداً من الأتباع ويهدّد بوجه خاص تخوم المناطق الصحراوية في النيجر) (1).
ولذلك شرع الفرنسيون بالتصدي له محاولين أن لايسترد أنفاسه، لأنّ مجموعات من مشايخ القبائل في النيجر بدأت تعلن العصيان بعد أن علمت بوصول المجاهد عبد الرحمن تاقامة، بل بعضهم قام بإرسال جمالاً لإنقاذ مجموعات عبد الرحمن من العطش الذي أنهكهم (2).
يقول ساليفو:
(وكان الفرنسيون قد أخذوا على عاتقهم وبكلّ ثمن منع تاقامة من التوجّه إلى الكفرة أي إلى ذلك المركز الروحي (التخريبي) الذي لعب دوراً كبيراً وهامّاً في النضال من أجل زعزعة استقرار المسيحين في إفريقيا) (3).
وقد أرسل الفرنسيون فرقة لمصادمة تاقامة الذي وصل إلى جبال تيبستي وشرع الفرنسيون في سجن المواطنين، وتعذيبهم وأخذ أولادهم ونساءهم رهائن، واتخذوا منهم مرشدين للطرقات لمتابعة مجموعات تاقامة الجهادية التي توزعت في الجبال وتقسمّت إلى مجموعات صغيرة لنقص الجمال والتموين، وفي يوم 8 مايو 1919م استطاع الفرنسيون بواسطة المرشدين أن يطوقوا المجموعة الصغيرة، وفاجأوا المجاهدين بإطلاق النار من قريب، فسقطت تلك المجموعة شهداء في ساحة الجهاد وكان عددهم عشرة وأسر عبد الرحمن تاقامة وزوجته بعد أن نفذت ذخيرته، ثم أودع السجن في زندر، ومنها إلى أقدز (النيجر) حيث شهرّ به، وكان مكبلاً بالحديد في رجليه ويديه وعنقه ويحرسه ستة من الجنود، وفي ليلة 29 - 30 إبريل 1920م اقتحم آمر أقدز النقيب الفرنسي "فيتاني" وخنق ذلك الأسد المكبل في قيوده لتصعد
_________
(1) انظر: الثورة السنوسية، ص155،156،157،158.
(2) انظر: جهاد الليبيين ضد فرنسا، ص177.
(3) انظر: الثورة السنوسية، ص157.(2/283)
روحه مع الشهداء، وأصحاب الجنان، بإذن ربها، وادّعت السلطات الفرنسية بأن عبد الرحمن انتحر، ليغطوا بذلك على فعلتهم الشنيعة، وبذلك أسدل الستار على حياة هذا المسلم المجاهد الذي خاض حروباً طاحنة، ومعارك ضارية، وجهاداً مريراً ضد النفوذ المسيحي الفرنسي في الصحراء الكبرى، فعليه من الله المغفرة، والرحمة والرضوان، وأعلى الله ذكره في المصلحين (1).
ونرجع الى القائد العظيم محمد كاوصن لنلقي الأضواء على بعض رسائله التي كان يحرّض بها الزعماء في منطقة الصحراء الكبرى لينضووا تحت راية الجهاد التي كانت تحملها الحركة السنوسية.
رسالة من كاوصن إلى أعمامه
أقدز في 10 مارس 1917م
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى سيادة العزيز الكريم الكامل، إلى عمنا الحاج موسى، وعمِّنا " أدمير " وإلى جميع قبيلة (إيكزكزن) وكلّ من في حمايتهم السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وعلى كلِّ أحبابكم وأصدقائكم سلاماً تاماً يعمكم جميعاً أنتم وبلادكم.
إن سألتم عنّا فنحن على خير، ولاينقصنا ولانهتمّ إلا بكم، ونرجو من الله أن نلتقي معكم قريباً، والله سميع مجيب الدعوات، ونطلب من الله تعالى أن يجمع شملنا بجاه النبي الحبيب.
ونحيطكم علماً بأنّ مايجري في الوقت الحاضر ليس إلا خيراً وأنّ الله سبحانه وتعالى والزعماء قد طردوا الفرنسيين في بلاد " أزقير " وأنّ المجاهدين قد استولوا على مراكزهم.
إنّ المسلمين جميعاً قد قاموا إلى الجهاد، وإن الشعانبة (2) الذين كانوا مع أعداء
_________
(1) انظر: جهاد الليبيين ضد فرنسا، ص178.
(2) من القبائل الجزائرية الكبيرة.(2/284)
الله قد انقسموا، فهرب بعضهم وذهب إلى المناطق الرملية قرب (غدامس)، وكذلك الذي يسترونه في رسالة أخينا المختار بن محمد بأنَّ قوات كبيرة تتوجه الآن إلى الإقليم الذي يحتله الفرنسيون أعداء الله ورسوله، واعلموا أنّ الحكومة التركية والألمان ينتظروننا في (كانو) حيث سبقونا، ولاتشكوا في ذلك، وكونوا رجالاً وانتظروا.
إنّ كل البلاد التي ستفتح بين البحر ومصر ستُسلّم إلى الحكومة السنوسية، وتلك هي النصيحة التي أوجهها لكم تمسَّكوا بها إنّ الله العلي القدير قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (إنك لاتهدي من أحببت ولكنّ الله يهدي من يشاء).
والسلام. إنّها رسالة قادمة ممّن يدعون الله من أجلكم وعنهم كاوصن بن محمد (1).
كتبت في 6 ذي الحجة 1334 أكتوبر 1916م،
ومختوم بختم يحمل العبارة التالية
خادم الحكومة السنوسية
حاكم وادي فزّان
كاوصن 1334هـ
ومن رسائل محمد كاوصن إلى قبيلته يخبرهم بقوله:
(وإننا نخبركم بأنَّنا قد أرسلنا من طرف سيدنا الأكبر السيد محمد العابد الشريف بارك الله فيه وبارككم، فأمرنا بإنهاض الناس وتحريضهم على القتال في سبيل الله والطريق المستقيم وعلى كلمة الدين ... ) (2).
ويقول في فقرة أخرى من الرسالة:
(وكل مانريده نحن هو أن يتبع الناس جميعاً الطريق المستقيم لأننا نعمل وفقاً لإرادة الله، ونطيع أوامر السيد العابد، لأن عهده قد بدأ بدون أدنى شك وبكل
_________
(1) انظر: جهاد الليبيين ضد فرنسا، ص244.
(2) انظر: جهاد الليبيين ضد فرنسا، ص247.(2/285)
يقين، وليس هناك سلطة أخرى غير سلطته، لأنّ العالم قد قسم فأخذ كلّ واحد نصيبه -وذلك بمشيئة الله - وأنتم من الجزء الذي يقع في نصيب السيد محمد العابد. يا أيها الناس فكروا جيداً، إننا مبعوثون من عنده لنهديكم إلى الصراط المستقيم ونقوم بإدارة بلادكم، فلتبق هذه الكلمات في ذهنكم وتقبَّلوا تحيات خادم الطريقة المجيدة الشريفة الصحيحة الطريقة السنوسية ... ) (1).
ثانياً: المجاهد محمد عبد الله السني:
ومن قيادات الحركة السنوسية التي قادت حركة الجهاد ضد فرنسا في تشاد ولد بمزدة سنة 1268هـ الموافق 1851م، من أسرة تنتمي للعباس بن عبد المطلب، جاء جدها الأول من المدينة المنورة ونزل بواد قرب بلدة سنار بالسودان، فسمي الوادي باسمه (وادي مدني).
انتقل والده إلى مكة حيث درس الفقه وعلوم الدين على يد الشيخ أحمد بن إدريس حيث التقى هناك بالشيخ محمد بن علي السنوسي، والذي عاد برفقته إلى ليبيا واشتركا في تأسيس الزوايا لتعليم القرآن، وعلوم الدين، حيث شرع الشيخ السنوسي بتكوين زواياه بالجبل الأخضر، وفي المناطق الشرقية من ليبيا، وبدأ الشيخ عبد الله السني في تأسيس زواياه في غرب ليبيا حيث أسس زوايا في غدامس، ومزدة، والحرابة، ومصراته وغيرها.
ولما توفي الشيخ عبد الله سنة 1296هـ تولى ابنه إدارة الزوايا وتأسيس زوايا أخرى حيث أسس زاوية غريان، والقلعة، والعمامرة، والرحيبات وكان رجلاً مباركاً سعى إلى إخماد الكثير من الفتن بين القبائل، وفي عام 1313هـ عاد أخوه عبد السلام من الكفرة بعد أن أنهى تحصيله العلمي، فترك له أمر الزوايا وذهب إلى الكفرة لملاقاة الشيخ محمد المهدي السنوسي، الذي تولى أمر الدعوة بعد وفاة والده.
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص248.(2/286)
وعند وصوله إلى هناك أمره شيخه بالتوجه لنشر الدين الإسلامي، وصد التغلغل التبشيري المسيحي في بلاد السودان (تشاد الحالية والنيجر).
سافر إلى هناك عام 1896م وأسس زاوية (قرو) وعدة زوايا أخرى وأستقر (بكانم) حيث تتواجد القبائل العربية الليبية، أولاد سليمان وغيرها، وأرسل في إحضار جزء من أسرته حيث لحق به أبناه عبد الله، وعبد العالي، وبقيت الأسرة في مزده، واستمر في جهاده في الصحراء أكثر من عشر سنوات، لقد شارك في الجهاد ضد فرنسا واصطدم بقواتها وساهم بنفسه وماله في حركة الجهاد في زمن المهدي السنوسي، وأحمد الشريف (1).
وكانت له أشعار رائعة في مدح الإمام الثاني للحركة السنوسية، ومنها قوله:
هو المرتجى للدين ينصر حزبه ... فتعضده الأنصار والنصر والنصل
تجر بحوراً من بني العرب ترتمي ... بأمواج آفات هي الضرب والقتل
إذا صففت تحت العقاب جنوده ... تخال جبالاً فوقها شعل شعل
وإن زحفوا يوم اللقاء حسبتهم ... سيول خيول برقها يبرق يعلو
كأن مثار النقع في حومة الوغى ... غيوم بها برق الصوارم ينهل
إمام الهدى نافي الردى قاهر العدا ... فدونك عجل قد تطاولنا الذل
تجد من بني الإسلام أخلص عصبة ... جحاجح أبطال متى قلت لايألوا
هم القوم إن قالوا فثق بمقالهم ... فلاشك عندي ان سيعقبه الفعل
وإن عطفوا بعد الفراغ الى الحمى ... رأيت وجوه الحق بالبشر تنهل (2)
ثم ينتقل بعد هذه الإشادة بالمجاهدين، إلى تقريع الفرنسيين الذين نعتهم بـ (الشياطين) لأنهم ناصبوا الدعوة الإسلامية العداء، واصلوا أهل البلاد الاصلاء نار حامية، فنراه يتولاهم بالوعيد والتعنيف حيث يقول:
_________
(1) انظر: جهاد الليبيين ضد فرنسا، ص218،219.
(2) انظر: مجلة البحوث التاريخية، مركز دراسات الجهاد، عدد (1)، ص93.(2/287)
رويدكم أهل الجحيم فإنه ... سيبدؤكم منه الذي كان من قبل
فينسى فرنسيساً بتونسه أنسه ... ويحرز كفراً بالجزائر قد حلوا
فتطهر أرض طالما قد تنجست ... فأفعالهم سيل الدماء لها غسل (1)
وشارك هذا الشيخ الجليل في الجهاد ضد ايطاليا، استطاع ابنه المهدي تفجير ثورة 1914م - 1915م في فزان ضد إيطاليا واستولى على قلعة (القاهرة بسبها).
واستمر ابنا محمد عبد الله السني يقودان الجهاد ضد ايطاليا حيث تولى المهدي قيادة الجهاد في فزان، وأحمد قيادته في منطقة الجبل الغربي إلى أن ضعفت المقاومة وانتقل المجاهدون إلى فزان، وفي أوباري قدم الشيخ محمد بن عبد الله السني إلى الأسرة حيث التقى بها بعد غياب دام ثلاثين سنة، ولكن الإيطاليين طوقوهم في أوباري حوالي عام 1930م، وحكم على الشيخ وأبنائه بالإعدام، ولكن عفواً عاماً شملهم، فوضعوا جميعاً تحت الإقامة الجبرية بمزده بعد أن صودرت ممتلكاتهم وأحرقت مكتبة مزدة (2). وفي عام 1932م، توفي محمد عبد الله السني -رحمه الله- ويعتبر هذا العالم والمجاهد الكبير من شعراء الحركة السنوسية، وقد تعرض الأستاذ محمد مسعود جبران لهذا الجانب على قلة ماوصل إليه من شعره وقال: (في الحق إن شعره - على قلته- استطاع أن يرسم لنا إلى حدما شخصيته، ويصور لنا جوانب من أخلاقه ومثله التي كان يؤمن بها، في الاعتزاز بالدين، والذود عن العرين وفي شوقه وحنينه للمدارج التي تربى بها، والبوادي التي كبر بين أحضانها، ويبين عن العهود التي وثقت صلاته بالعلماء والمجاهدين ... ) (3).
ومن قصائده التي يصف فيها مقاومته الصحراء ونصبها وعنتها قوله:
يامن لهم همم نأى مقصودها ... مجرى المطي إلى المرام يذودها
متحيراً من عز مشرقه الذرا ... نسا عياهل في رضاك يقودها
_________
(1) المصدر السابق نفسه، عدد (1)، ص93.
(2) انظر: جهاد الليبيين ضد فرنسا، ص219.
(3) انظر: مجلة البحوث التاريخية، العدد الأول يناير 1984، ص71 الى 101.(2/288)
ورمى بها الدهناء يرقل مذئباً ... يطوي بنص اليعملات بعيدها
ويفل بالعزم المجد مجاهلاً ... بيت القطا أغوارها ونجودها (1)
إن هذا العلم الشامخ، والبحر الزاخر، والشاعر الموهوب، والداعية المتفاني، والمجاهد الشجاع كان من القادة التابعين لقيادة الحركة السنوسية، ومن الذين أفنوا حياتهم وجهادهم في هذا الطريق المبارك، ساهمت الحركة السنوسية في تربية بعض القيادات الميدانية التي شاركت في دفع حركة الجهاد ضد فرنسا ومن أشهرهم:
ثالثاً: عبد الله فضيل الطوير الزوي:
تولى قيادة الزوايا السنوسية في شمال تشاد، وكان على رأس المجاهدين الذين تصدّوا للغزو الإستعماري للمنطقة، وخاض عدّة معارك موفَّقة، وسقط من زملائه العشرات من المجاهدين، وسقط في معركة العلالي وحدها 5/ 12/1902م مائة شهيد من الليبيين كان من بينهم ستون من قبيلة زوية وحدها، قبيلة عبد الله الطوير، وفي معركة أم العظام شمال تشاد سقط عبد الله شهيداً -عليه رحمة الله- في عام 1906م مع مجموعة من المجاهدين عليهم رحمة الله جميعاً.
رابعاً: البراني الساعدي:
هو من كبار العلماء المتفقهين في الشريعة، من قبيلة زوية أسس زاوية شرقي السلوم، بأرض مصر عرفت باسمه إلى الآن (سيدي البراني) ثم انتقل إلى الجنوب، حيث قاد الجهاد في الصحراء الكبرى، ضد الغزو الفرنسي، ومن كبار قادة المجاهدين في مناطق كانم وشمال تشاد، دخل إلى الصحراء الكبرى من الكفرة في عام 1318هـ، واستطاع أن يقود دوراً جهادياً، عُرف في المنطقة باسمه (دور البراني)، وألحق بالفرنسيين عدّة هزائم منكرة في بئر العلالي، وقد اعترف الفرنسيون له بالبراعة، وإجادة التنظيم، واستطاع أن يصدهم في (عين كلكا)، التي تولى تنظيم المجاهدين بها، واستشهد عام 1907م في معاركه ضد فرنسا (2).
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص90.
(2) انظر: جهاد الليبيين ضد فرنسا، ص222، 223.(2/289)
خامساً: غيث عبد الجليل سيف النصر:
هو شيخ قبيلة أولاد سليمان الليبية والمتواجدة في منطقة كانم، اصطدم مع الفرنسيين ساعة وصولهم للمنطقة 1899م، ونشبت بينه وبينهم معارك طاحنة، قاد غيث الجهاد ضدّ الفرنسيين، وحطم التقدم الفرنسي في بئر العلالي في معركة 22/ 11/1899م، وسحق القوة الزاحفة، كما نشبت معركة أخرى يوم 4 يناير 1900م بقيادة غيث ضد الفرنسيين قُتِل فيها خليفة حاجي (1)،
يقول سعيد الحنديري:
(كما سعى الفرنسيون إلى الوصول مع غيث إلى اتفاق لإنهاء المقاومة في كانم خاصة، وأن الوضع أصبح مشجعاً للفرنسيين بعد مقتل حاجي حليف غيث، لكنّ الأخير رفض اللقاء بالفرنسيين وكوّن دوراً من قبائل القذاذفة، ورفله، والمغاربة، مع بعض القرعان، والتوارق، تقدّرها المصادر الفرنسية بخمسة آلاف رجل، لقد استشهد غيث عبد الجليل في معركة بئر العلالي في يوم 9/ 11/1901م (2).
سادساً: محمد بو عقيلة الزوي:
من أفراد قبيلة زوية التي لعبت دوراً مهمّاً في الحرب الصحراوية ضدّ القوات الفرنسية ونظراً لنشاطه وشجاعته، وحسن تدبيره عيَّنه أحمد الشريف قائداً لحصن علالي بدلاً من البراني الساعدي الذي عُيِّن في الشمال (3).
(لقد كان بو عقيلة ذكياً بارعاً في فنون القيادة، والحرب، فشهد له أعداؤه بذلك. يقول فرندي على سبيل المثال: (كان بو عقيلات جندّياً عظيماً قادراً على تدارك المواقف في الوقت المناسب) (4).
لقد قاد هذا القائد قبائل التوارق، أولاد سليمان، والقذاذفة، والمغاربة، وورفله، وزوية في جهاده ضد فرنسا، واستشهد في معاركه ضد فرنسا في 5/ 12/1902م (5).
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص227.
(2) انظر: العلاقات الليبية التشادية، ص81 الى 84.
(3) انظر: جهاد الليبيين، ص233.
(4) المصدر السابق نفسه، ص233.
(5) المصدر السابق نفسه، ص234.(2/290)
سابعاً: صالح بو كريم الزوي:
تولى تنظيم حركة الجهاد بشمال تشاد، وكانت معه، قبائل المجابرة، وورفلة، وأولاد سليمان، والقرعان، والقذاذفة.
وكان أحمد الشريف قد نجح في اقناع سلطان ودّاي بسحب اعترافه بفرنسا واحتلاله لمنطقة كانم، وباقرمي وأعلن الجهاد ضد فرنسا في مناطق تيبستي 1903 - 1909م وساند صالح بوكريم سلطان تيبستي داود ضد قائد الفلاتة ميتونة حليف فرنسا، واستطاعوا الانتصار عليه والقبض عليه وإعدامه بتهمة الخيانة العظمى، ومناصرة العدو الكافر ضد المسلمين، وكان ذلك في معركة ألتكو وقاد معركة بسكرة ضد الفرنسيين وقد سقط فيها عدة شهداء، وساهم صالح في قيادة معارك 1910م- 1911م-1912م-1913م ضد الفرنسيين (1).
ولما أعلن أحمد الشريف الجهاد ضد إيطاليا ورجوع قوات المجاهدين إلى الشمال كان صالح بوكريم من ضمنهم.
ثامناً: كيلاني الأطيوشي المغربي:
هو شيخ قبائل المغاربة، ساهم في تمويل الجهاد ضد فرنسا في المناطق الشمالية من تشاد، وكانت قبيلته من القبائل المتميزة في حركة الجهاد ضد فرنسا عيَّنه الأتراك قائمقاماً على الكفرة عند انسحابهم من منطقة الجنوب، وأصبح المشرف الإداري على امتداد الصحراء الكبرى الشرقية، وتمويل حركة الجهاد الليبي فيها، ولقد توفى الكيلاني بالعطش عندما رحل باتجاه أجدابية ليشارك في صد الطليان (2).
تاسعاً: عابدين الكنتي:
هو عابدين بن محمد الكنتي، أحد شيوخ قبيلة كنته في منطقة تينبكتو، والذي ورث المشيخة عن والده الذي ينحدر من أسرة عربية يصل نسبها إلى عقبة بن نافع الفهري فاتح إفريقيا ومؤسس القيروان، وقد تلقّى عن الشيخ محمد المهدي الانتساب
_________
(1) انظر: جهاد الليبيين ضد فرنسا، ص235.
(2) المصدر السابق نفسه، ص236.(2/291)
إلى الطريقة السنوسية، وأصبح مقدم السنوسية في منطقة تبكتو، وصحراء مالي الشمالية، ولهذا أعلن الجهاد ضد فرنسا في صحراء مالي، وشمال موريتانيا، والساقية الحمراء، إلى جنوب المغرب بوادي نون عند أخواله قبيلة (تكنه)، وجنوب الجزائر لدى توارق الهقّار الذي يقدِّرونه لنسبه الشريف، ولعلمه وتضلّعه في الدين، واستمر في جهاده مابين 1892م إلى 1917م، يهاجم القوات الفرنسية في مناطق صحراء مالي، وجنوب الجزائر متحالفاً مع الخليفة ولد محمد، ومتصلاً بالليبيين في جنوب الجزائر وبمركز الحركة السنوسية في الكفرة، واستمر عابدين يقود كتائب الجهاد ضد فرنسا في جنوب المغرب، وشمال موريتانيا، وجنوب الجزائر، وشمال مالي، وشمال النيجر. لقد قال العقيد الفرنسي كلوب عند مغادرته تيبكتو في عام 1899م (الموت وحده الذي سينقذنا من عابدين) (1).
توفي عابدين مجاهداً في جنوب المغرب في أثناء الحرب العالمية الثانية، لقد استمر يجاهد في الصحراء الكبرى قرابة نصف قرن دون أن يهادن أو يرمي السلاح لقد كان هذا المجاهد من مالي، وينتسب للحركة السنوسية (2).
هؤلاء من أشهر القادة السنوسيين الذين قادوا حركة الجهاد ضد فرنسا.
إن الغزو الإيطالي جعل القيادة السنوسية تنقل ثقلها نحو الشمال، وإن كانت حركة الجهاد ضد فرنسا استمرت بقيادة القادة السنوسيين إلى مابعد الحرب العالمية الثانية، وفي فترة زعامة أحمد الشريف كان يشرف بنفسه على حركة الجهاد ضد فرنسا، وكان يحث التجار على السفر إلى السودان بتجارتهم سيما الأسلحة، ويقول لهم إنها من أربح التجارة، وكان يكاتب أعيان برقة ويطلب منهم أن يرسلوا الأسلحة، وفي مكاتبته عام 1328هـ طلب منهم يبعثوا بألف وخمسمائة بندقية ثمنها من جيبه الخاص وأرسلها إلى المجاهدين في السودان وقد وردت عنه هذه الكلمة: (ليس عندي صديق أعز ممن يساعدني بالسلاح) (3).
_________
(1) انظر: جهاد الليبيين، ص239 الى 241.
(2) المصدر السابق نفسه، ص242.
(3) انظر: برقة العربية أمس واليوم، ص245.(2/292)
المبحث الثالث
الغزو الإيطالي
تمهيد:
في خلال فترة 1882 - 1896م تزايدت النشاطات التبشيرية الإيطالية في ولاية طرابلس، وخاصة في مجال التعليم، وأقبل بعض الضباط العثمانيين على إرسال أبنائهم إلى هذه المدارس، فأصدر الوالي كمال باشا 1893 - 1908م قراراً في 21يوليو 1898م منع بموجبه أبناء ضباط الجيش العثماني من الانتساب إلى هذه المدارس وضرورة تحويل ابنائهم إلى المدارس الحكومية العثمانية، ومما جاء في القرار على لسان السلطان قوله: (لقد علمت أن الضباط يرسلون أولادهم إلى المدارس الأجنبية، وحيث أن الحكومة قد فتحت العديد من المدارس التي تسير على المنهج السليم، لذلك لم يبق عذر ولامبرر لإرسال أبناء الضباط إلى المدارس الأجنبية ويمنع هذا رسمياً (1).
استمرت ايطاليا بمحاولاتها الرامية لتأكيد مظاهر نفوذها في ولاية طرابلس وساهمت صحافتها في ذلك عن طريق مجاهرتها بالدعوة إلى احتلال الولاية، والتقليل من شأن العثمانيين، والطرابلسيين، برغم عدم أهليتهم لحكم الولاية وإدارتها (2)، فاجتمع من أهل الولاية جمع غفير، وأرسل نحو خمسين من أعيانهم رسالة بالتلغراف إلى استانبول يظهرون فيها إستياءهم من لهجة الصحف الإيطالية، ويبدون فيها استعداداتهم للدفاع عن وطنهم تحت راية الخلافة العثمانية، ومما جاء في الرسالة: (أن أهالي طرابلس الذين يتباهون بارتباطهم بمقام الخلافة الإسلامية والسلطنة العثمانية الذي هو أعظم من حياتهم وأنهم لاينثنون عن الدفاع في هذا السبيل، ولو انثنت عنه الحكومة العثمانية نفسها .. ، وعلى كل حال فإن رجالنا
_________
(1) انظر: التعليم في ليبيا خلال القرن التاسع عشر، عمر بن اسماعيل، ص301.
(2) انظر: جهاد الأبطال في طرابلس الغرب، ص14.(2/293)
وأولادنا قد عاهدوا الله والشرف والذمة على أن يريقوا، وبكل سرور آخر نقطة من دمائهم قبل أن يدنس وطنهم أعداء السلطة العثمانية (1).
وهذا الخطاب يدل على مدى ارتباط المسلمين في ليبيا بالخلافة الإسلامية وعلى أصالتهم في مكافحة وجهاد عدوهم وعلى حبهم للموت في سبيل الله وصد كل عدو يفكر في الاعتداء على أراضيهم والنيل من مقدساتهم ولازالت هذه المعاني تجري في دماء الأحفاد الذين ورثوها من الأجداد من أصالة وديانة وشرف قال تعالى: " ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم " عينت الدولة العثمانية، رجب باشا (1904 - 1908) والياً على طرابلس، وكان من أشد الناس وطأة على سياسة إيطاليا، وعهده كان متميزاً بالنشاط والصلاح (ووقف للسياسة الإيطالية في كل طريق، وماسلكت السياسة الإيطالية سبيلاً إلاّ وجدت رجب باشا، واقفاً لها بالمرصاد) (2).
ومع هذا لم تتوقف المساعي الإيطالية للتغلغل في طرابلس وبرقة، وكانت معظم البعثات الإيطالية التي قدمت إليها في تلك الفترة، قد قامت بزيارتها بناء على مبادرة من الجمعية الإيطالية للاستكشاف الجغرافي والتجاري التي كانت مدينة ميلانو مركزاً لها، وبإيعاز من رئيسها (كامبيريو) مدير مبعثات كثيرة منها بعثت (مانفريد كامبيريو)، وجوزيتِّبي هايمان في سنة 1881م ويبيترو عام 1882م،1883م بنيشة في عام 1895م؟ فينا بيّادى ديني، و (بيدويتى في سنة 1901م، و (هابنهير)، و (دي سانكتيس) في سنة 1910م وغيرهم كثير، وبعض هذه البعثات أحدثت ضجة واسعة، إذ أن أعضائها قد سجنوا من قبل الأتراك الذين لم يطلقوا سراحهم إلا في نوفمبر 1912م (3).
قام أول هؤلاء المبعوثين (كامبيريو) في سنة 1880م برحلة إلى طرابلس وزار خلالها الخمس ومسلاته، وعند عودته إلى ميلانو طلب من جمعية الإستكشاف الإيطالية إرسال جواسيس إلى برقة لإقامة مراكز تجارية في بنغازي، ودرنه كنقط
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص14، 15.
(2) انظر: ليبيا قبل الاحتلال الايطالي، احمد الدجاني، ص165.
(3) انظر: الحوليات الليبية، شارم فيرو، ص792.(2/294)
انطلاق، وقامت البعثات الإيطالية بالتجسس على أوضاع ليبيا الإقتصادية، والزراعية، وقامت بدراسة قرى بنغازي وتوكره، والمرج، ودرنة، وشحات، وطلميثة، وطبرق، وأتيحت لهم فرصة الإطلاع على أحوال ليبيا وعادات الشعب، وطريقة حياتهم، ثم عادوا إلى إيطاليا وقد رفعوا أبحاثهم إلى السلطات الحاكمة، وألقوا المحاضرات، والخطب الرنانة لتشجيع حكوماتهم، وشعبهم على إحتلال ليبيا (1)، لقد تمكنت إيطاليا من فتح بنك روما في طرابلس وأنشئت فروعه في ليبيا، وبنت المصانع، والمدارس، ودرست الأوضاع بعناية، وأرصدت الأموال لذلك.
يرى الباحث أنهم استمروا أكثر من ثلاثين سنة وهم يجمعون المعلومات ويرسلون الجواسيس ويخططون لغزو البلاد، ويتوغلون في المجتمع بالمؤسسات التجارية، والمدارس العلمية .. الخ لغزو ديار المسلمين، وهتك أعراضهم، وتدمير بلادهم، وقتل أشرافهم، وسبي نساءهم قال تعالى:" ولايزالون يقاتلونكم حتى يردونكم عن دينكم ان استطاعوا" (سورة البقرة، آية).
وفي سنة 1900م قامت شركة (روباتينو) للملاحة بمد خطاً بحرياً منتظماً مع مدينة طرابلس وفي ديسمبر من نفس السنة أبرم بين فرنسا وإيطاليا إتفاق، ثم التأكيد عليه مجدداً في مايو سنة 1902م وهو عبارة عن بروتوكول يقضي بعدم تدخل متبادل بين الدولتين، وبموجبه أعلنت إيطاليا أنها لن تكون لها أي مطامع استعمارية في مراكش، وأعلنت في مقابل ذلك أنه لن تكون لها هي الأخرى أية مطامع استعمارية في طرابلس وفي سنة 1907م فتح مصرف روما فروعا له في طرابلس، فاستثمرت بها رؤوس أموال وأنشئت مصالح إيطالية، كما تم تطوير الخطوط المحلية معها، والمدارس الإيطالية فيها، وأخذت الحكومة تشجع وتدعم مشاريع مواطنيها الذين كانوا يصطدمون باستمرار بالعقبات التي تواجههم في طريقهم (2).
_________
(1) انظر: العدوان الحرب بين ايطاليا وتركيا، محمد بازمة، ص80.
(2) انظر: حوليات ليبيا، ص793.(2/295)
كانت ايطاليا عازمة على احتلال ليبيا، وبذلت في سبيل ذلك جهداً كبيراً على مستوى الولاية نفسها، بتعزيز مظاهر نفوذها أو على المستوى الدولي بالحصول على موافقة أغلب الدول الأوروبية على ذلك إلا أن شدة تمسك الدولة العثمانية بالولاية في زمن السلطان عبد الحميد الثاني، وقوة نفوذ الحركة السنوسية في دواخل ليبيا، وحسن التنسيق القائم بين الطرفين، كل ذلك أدى الى تأجيل إيطاليا تنفيذ مشروعها الاستعماري العدواني الغاشم عام 1911م.
أولاً: الهجوم الايطالي على ليبيا:
كانت الدولة العثمانية تعاني اضطراباً خطيراً في أوضاعها الداخلية والخارجية بسبب الانقلاب الذي قادته جمعية الاتحاد والترقي ضد السلطان عبد الحميد سنة 1908م، وكان ذلك الانقلاب المشؤوم مدفوعاً من قبل اليهود، والماسونية، والدول الأوروبية، وكان السطان محمد رشاد ألعوبة في يد جمعية الاتحاد والترقي، ولم يكن السلطان محمد رشاد بأوفر حظاً من سابقيه، لأن النظم التقدمية الخيالية التي تبنتها جمعية الاتحاد والترقي قيدته، كذلك فإن قادة الانقلاب غالوا في نزعتهم القومية وأفرطوا في سياسة التتريك التي نادوا بها (1)، وساهموا في ضياع ليبيا يقول الاستاذ محمود الشاذلي: (لعب (قره صو) أحد قادة الاتحاد والترقي في ايامها الأخيرة (1909 - 1918م) دوراً رئيسياً في احتلال إيطاليا لليبيا وكان يشغل وظيفة مفتش إعاشة، واضطر نتيجة لخيانته أن يهرب الى إيطاليا ويحصل على حق المواطنة الايطالية واستقر في تريستا حيث مات عام 1934م) (2).
وأما متر سالم اليهودي الماسوني، فيتحدث عن دوره الجنرال جواد رفعت أتلخان في كتابه (أسرار الماسونية، ترجمة: نورالدين رضا الواعظ، سليمان أمين القابلي): (أن طرابلس الغرب (ليبيا حالياً) التي تعتبر موطن أخلص أبناء الدولة العثمانية، قد وقعت في مخالب الايطاليين بمؤامرة خبيثة، دبرها اليهودي الماسوني (متر سالم)
_________
(1) انظر: تاريخ ليبيا المعاصر، محمود عامر، ص48.
(2) انظر: المسألة الشرقية، ص202.(2/296)
الحائز على الدرجة الثالثة والثلاثين في الماسونية، ورسما الخطط اللازمة ودفعت الخزينة الايطالية الملايين من الليرات الذهبية الى اليهودي (متر سالم) لقاء إقناعه الدولة العثمانية بضرورة سحب الأسلحة والعتاد من طرابلس الغرب الى استانبول بحجة التغيير والاصلاح وبمساعي الماسونيين أيضاً سيقت قطعات الجيش الى اليمن، وهكذا سلمت البلاد الطرابلسية (ليبيا) لقمة سائغة للطليان ... ) (1)،
وكانت وزارة إبراهيم حقي الاتحادية متواطئة مع إيطاليا الذي ربطتهم به المال، فضاع كل امل أن تنال ولاية طرابلس الغرب شيئاً من عناية الدولة واهتمامها بها، لقد قامت حكومة السلطان عبد الحميد الثاني بإتخاذ الأهبة لرد أي اعتداء على الولاية، وارسل إليها السلطان قائداً من خيرة قواده، هو رجب باشا الذي: (أطلقت يده في شؤون الولاية الادارية والعسكرية، فمرن أهلها على الأصول الحربية وفرق على شبابها وشيوخها البنادق ومرنهم على استعمالها، وملئ المستودعات العسكرية بالذخائر، حتى أصبح عدد الجيش المرابط في طرابلس حوالي خمسة عشر الفاً وهذا عدا الفرق غير النظامية، (قول أوغلى، من الأهلين العرب، وهؤلاء بلغوا الأربعين أو الخمسين الفاً ومهمتهم معاونة الجيش النظامي، فقد ابطل الاتحاديون هذه الاستعدادات وشرعوا ينزعون البنادق من الأفراد بدعوى أن الأهلين قد يقومون في وجه الحكومة إذا طلب منهم تأدية الضرائب والتكاليف الأميرية، وانتهزت وزارة حقي باشا فرصة استفحال أمر الثورة في اليمن، فسحبت معظم جيشها النظامي من طرابلس الغرب لاستخدامه في اخماد هذه الثورة؛ على أنها لم تكتف بذلك، بل أهملت كل الاهمال الفرق الاهلية، فنقصت قوة الدفاع الطرابلسية الى أقل من خمسة آلاف مقاتل فقط؛ ومع أن أهالي البلاد طلبوا الانتظام في سلك الجندية بعد إعلان الدستور العثماني، فقد أصم الاتحاديون آذانهم ولم يجيبوا الأهلين الى ماطلبوه إلا قبيل وقوع الاعتداء الايطالي لفترة قصيرة، ولم تبدأ الاجراءات اللازمة لتجنيدهم إلا بعدقيام الحرب ذاتها، وزيادة على ذلك فقد نقلت الحكومة العثمانية
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص201 ..(2/297)
حوالي أربعين ألف بندقية كانت الدولة قد درجت على حفظها بالبلاد حتى يستخدمها الأهلون عند الطوارئ، ثم لم تفعل شيئاً من أجل إصلاح الاستحكامات ومراكز الدفاع بالبلاد أو تمدها بالمدافع والذخيرة اللازمة للسهر على سلامتها (1)،
واستغلت إيطاليا نشوب الازمة المراكشية، وعمدت الى توقيت البدء بالعمل العسكري ضد ليبيا، فوجهت انذاراً الى الحكومة العثمانية تضمن التالي:
1. تذكير إيطاليا المستمر للباب العالي بالضرورة القصوى لوضع حد لتلك الفوضى والاهمال اللذين تركت فيها طرابلس وبرقة من قبل الحكم العثماني، وهو وضع ترى إيطاليا ضرورة تعديله وفقاً لمقتضيات المدنية والمصلحة الحيوية لإيطاليا بحكم قرب سواحلها من أراضي الولاية.
2. إن مساندة الحكومة الايطالية الدائمة للامبراطورية العثمانية في كثير من المسائل السياسية حتى في الفترة الأخيرة قوبلت بتجاهل رغبات إيطاليا في ولاية طرابلس وبمعارضة أنشطة الايطاليين فيها.
3. رفض الحكومة الايطالية لاقتراح استانبول بإجراء مفاوضات تمنح بمقتضاها إيطاليا امتيازات اقتصادية في الولاية (وتحتفظ لاستانبول شرفها ومصالحها العليا) لأنها تعتقد بأن تجارب الماضي أوضحت عدم جدوى مثل هذه المفاوضات التي قد تطرح أموراً تصبح محل نزاع أو احتكاك جديد.
4. الادعاء بأن قناصل إيطاليا في طرابلس وبرقة تصور (خطورة الحركة السائدة ضد الإيطاليين والتي خلقها فيما بعد ضباط وهيئات أخرى من السلطات المحلية)، وهي خطورة ليست قاصرة على الإيطاليين وحدهم بل على جميع الأجانب مما دفعهم لمغادرة البلاد.
5. إن الحكومة العثمانية ترسل الناقلات العسكرية لتزيد من تأزم الموقف في البلاد، الأمر الذي يدفع إيطاليا لإتخاذ التدابير اللازمة ضد هذا العمل.
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص115 ..(2/298)
6. قررت الحكومة الايطالية، الإقدام على احتلال طرابلس عسكرياً (لأن ذلك الحل الوحيد الذي يمكن أن تقبله إيطاليا).
7. تطلب الحكومة الايطالية إصدار الأوامر للممثلين والسلطات العثمانية في الولاية بعدم مقاومة الغزو، ومن الممكن الاتفاق على تنفيذه دون اية عراقيل وستتخذ بعده القرارات اللازمة لتسوية الحالة التي ستنتج عنه (1)، قام السفير الايطالي بتسليم مذكرة الانذار لرئيس الحكومة العثمانية حقي باشا الذي دعا وزارته للانعقاد وبحث الأمر معها ثم عرض الموقف على السلطات، وتضمن الرد العثماني إلقاء مسؤولية التخلف الذي شهدته الولاية على حكومات العهد السابق، ونفى وجود أي عراقيل تحول دون الفعاليات الايطالية في الولاية، وحرصت الحكومة العثمانية على تلبية الطلبات بصورة دائمة، وان الاحتجاجات المقدمة إليها من قبل سفارة دولة إيطاليا نفذت بالكامل، وأعطيت تعليمات مشددة لولاتها العاملين في الولاية، وبينت الحكومة التركية أنه لامانع لديها من العمل على تقديم امتيازات اقتصادية واسعة لدولة إيطاليا في ولاية طرابلس الغرب (2)، ومع هذا كله، فقد أدعت الحكومة الايطالية أن رد الحكومة العثماني تأخر، فأعلنت الحرب على ليبيا، علماً بأن بوارجها الحربية تحاصر الشواطئ الطرابلسية منذ منتصف شهر أيلول (سبتمبر) أي قبل ارسال الانذار الى الحكومة العثمانية بثلاثة عشر يوماً، ولهذا كلفت بارجاتها بقصف السراي الحمراء الكائنة في مدينة طرابلس (3)، وكانت الاساطيل البحرية، تقصف في مدينة طرابلس.
ثانياً: الجهاد في طرابلس وفزان:
رغم ضآلة وضعف الامكانات العسكرية للولاية، فقد تبنت مدفعيتا القلعتين (السلطنة والحميدية) الرد على القصف لتغطية انسحاب الحامية العثمانية والمجاهدين
_________
(1) انظر: الغزو الايطالي الى ليبيا للبوري، ص282،283.
(2) انظر: تاريخ ليبيا المعاصر، محمود عامر، ص50.
(3) انظر: الحوليات الليبية، شارل فيرو، ص51.(2/299)
الى الداخل، وبصعوبة بالغة استمرت مدفعية الولاية تناوش الايطاليين حتى الثالث من شهر تشرين الأول، وتحسباً من تعريض الجاليات الايطالية للأذى وعدم تعرض قواتهم لأي خطر مفاجئ، تأخر الايطاليون في عملية الانزال البري حتى الخامس من الشهر نفسه.
واصدر قائد الحملة الجنرال (كار لوكانيفا) بياناً باللغة العربية يخاطب سكان طرابلس جاء فيه: (ماذا يصدكم عن القدوم إلينا؟ أما يهمكم رعي مواشيكم وتعاطي تجارتكم آمنين؟ نحن اصحاب دين من اهل الكتاب واحرار، وأعلموا أن دولة إيطاليا المعظمة قد اصبحت لكم بمقام الوالد بعد أن أخذت أمكم وهي طرابلس الغرب، فاقدموا إلينا بلا خوف، وبكمال الأمان ونحن نؤكد أنه ليس من يؤذيكم ومامن يسيء إليكم أو يضركم بأدنى شيء فإن المال لا يذكر، واعلموا أن كل من يأتي إلينا ببارودته مع المهمات نحسن إليه بعشرين فرنكاً مع كيس قمح أو شعير كيفما شاء، أما رؤساوكم الدينيون والسياسيون فإن الحكومة الايطالية تقبلهم وتؤيدهم بالصفة التي كانوا عليها قبلاً، بل يعين لهم رواتب ومعاشات وناهيكم أن الكلام واحد والله سبحانه وتعالى كريم، فاطلبوا إليه عز وجل أن يفتح عيون عقولكم لتعرفوا الحق وهو يخلصكم) (1).
ولم يكتف الجنرال كارلو كانيفابه، بل أصدر عدة بيانات منها:
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على كافة الانبياء والمرسلين وصلى الله عليهم وسلم أجمعين.
يأمر ملك ايطاليا المعظم فكتور عمؤيل الثالث نصره الله وزاد مجده أنا الجنرال كارلوس كافينا قائد العساكر الايطالية الموكل إليه محو الحكومة التركية من طرابلس، وبرقة والمقاطعات التابعة لها بناءً عليه أعلن للشعوب باجمعهم القاطنين في المقطاعات المنوه عنها من شاطئ البحر الى آخره والحدود الداخلية الذين يملكون بيوتاً في المدن وبساتين وحقولاً ومراعي حول المدن نفسها أو بعيداً عنها ما يلي: إن
_________
(1) انظر: تاريخ ليبيا المعاصر، محمود عامر، ص52.(2/300)
العساكر الخاضعة لأمري لم يرسلها جلالة ملك إيطاليا حماه الله لإضعاف واستعباد سكان طرابلس، وبرقة وفزان والبلاد الاخرى التابعة لها التي لاتوجد الآن تحت سيادة الاتراك بل لتعيد إليهم حقوقهم وتقتص من المعتدين عليهم، وتجعلهم أحراراً يحكمون أنفسهم وتحميهم من كل من يعتدي عليهم سواء كان من الاتراك أو أي شخص كان يريد استرقاقهم، وعليه فأنتم ياسكان طرابلس وبرقة وفزان والبلاد الاخرى التابعة لها من الآن سيحكمكم رؤساء منكم موكل إليهم ان يقضوا بينكم بالعدل والرأفة عملاً بقوله تعالى: "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل" وستكون هذه الاحكام تحت حماية ورعاية ملك ايطاليا السامي حرسه الله، واعلموا ان ستبقى الشرائع الدينية والمدنية محترمة وتحترم الاشخاص والاملاك والنساء والحقوق وجميع الامتيازات المختصة بأماكن العبادة والبر لان غاية أعمال الرؤساء يجب أن تكون واحدة وهي تحسين حالتكم والعمل على استتباب راحتكم ويجب ان يكون ذلك مطابقاً للشريعة الغراء، والسنة المحمدية السمحاء وسيقضي بينكم بالعدل طبقاً للشريعة الغراء وحسب اوامرها بواسطة قضاة اشتهروا بثقافتهم في الشرع ذوي استقامة وسيرة حميدة، كما أنه لانغض الطرف عمن يظلم من الرؤساء، ولا نغفر غشاً او خداعاً من أحد من القضاة، فالكتاب والسنة فقط تقضي عليكم، واعلموا جيداً أنه لاتؤخذ منكم ضرائب لتصرف خارجاً عن بلادكم، والضرائب التي لاتوجد الآن عليكم، ننظر فيها وتنقضي أو تلغى كما
يقتضي العدل، واعلموا جيداً أنه لايدعي أحد منكم للخدمة العسكرية، بالرغم عن ارادته وفقط يقبل بها أولئك الذين يرغبون الانضمام تحت اللواء الايطالي باختيارهم لأجل حماية النفوس والاملاك، ولكي يتكفلوا للبلاد السلم والنجاح وأما الآخرون، فيبقون في بيوتهم منعكفين على العمل في الحقول ورعاية المواشي أو معطاة التجارة، الصناعة، والحرف الضرورية، لقيام الحياة، وعلى هذا، فكل أمرئ يمكنه الصلاة في معبده حسب تعليم دينه يلزمكم أن تتضرعوا لله عز وجل أن يرفع مجد الشعب الايطالي، ومجد ملكه لأنه أخذكم تحت ظل حمايته والايطاليون يرمون أن يكون اسمهم مهاباً من جميع أعدائكم وأما منكم فقط، فيكون محبوباً ومباركاً.(2/301)
وبناءً عليه وحسبما خولني جلالة ملك إيطاليا العادل المنصور وحكومته اعلنتكم بما تقدم، وسيجرى مفعوله من هذا اليوم من شهر شوال سنة 1329هـ، ليبقى كأساس للعلاقات المستقبلية التي ستوجه بين الحامية، والمجتمعين، وبين الايطاليين وسكان هذه البلاد، والتي واثق بأنكم تقبلون هذا المنشور بسرور قلبي، لأنه سيكون قانوناً يجب أن يحفظ بأمانة، واستقامة ضمير، وشهامة من كلا الطرفين، واذا وجد من لا يحترم الشرائع ولا يعتبر الاشخاص او يمس حرمة النساء، او يخترق حرمة الملك، او يقاوم، أو يثور على ارادة العناية الالهية التي ارسلت ايطاليا الى هذه البلاد وباسمها صدرت لي هذه الاوامر، قبلها ممن يمتلك حق الامر فسيكون الانتقام منه عظيماً، وسأحافظ على تنفيذها بالقوة الموكلة لعهدتي لنبراس العدل والحق، فياسكان طرابلس، وبرقة والمقاطعات التابعة لها اذكروا ا، الله قد قال في كتابه العزيز: "لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين"، وقد جاء أيضاً: "وإن جنحوا للسلم فأجنح لها وتوكل على الله"، وجاء أيضاً: "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون" أي الذين يصلحون الأرض، ويمنعون منها الفساد، ينشروا فيها العدل والعمران، وجاء أيضا: "وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لايكونوا أمثالكم" (1)
أي لاتفسدوا في الأرض إن توليتم أمور الناس وتقاتلوا بعضكم بعضاً، إن الذين يفعلون ذلك يلعنهم الله ويصمهم ويعمي أبصارهم ويستبدلهم بغيرهم وجاء أيضاً: "قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء، بيدك الخير إنك على كل شيء قدير"، وجاء أيضاً: "ومن لم يحكم بما أنزل الله، فأولئك هم الظالمون"، فأرادة الله ومشيئته سبحانه وتعالى قضتا أن تحتل إيطاليا هذه البلاد لأنه لايجري في ملكه إلا مايرى فهو مالك الملك وهو على كل شيء
_________
(1) انظر: مجلة المنار، محمد رشيد رضا، ج12، م14، ص636. وكذلك جهاد الابطال، ص52 ..(2/302)
قدير، فمن أراد أن يظهر في الكون غير ماأظهر مالك الملك رب العالمين المنفرد بتصرفاته في ملكه لاشريك له فيه، فقد جمع الجهل بأنواعه وكان من الممترين، وبناءً عليه يلزم كل مؤمن أن يرضى ويسلم بما تعلقت به الارادة الربانية، وأبرزته القدرة الالهية فالملك لله سبحانه وتعالى يؤتيه من يشاء، فايطاليا تريد السلام وتريد أن تبقى بلادكم اسلامية تحت حماية ايطاليا وملكها المعظم، ويخفق فوقها العلم المثلث "ابيض وأحمر وأخضر" إشارة الى المحبة والايمان (1).
إن للأسف الشديد كان كاتب هذا المقال، شيخ من العلماء المحسوبين على الازهر الشريف، وكتب ذلك مقابل عرض من الدنيا زائل، ولقد تأثر بهذا المنشور ممن لاعقيدة واضحة في ذهنه، وممن لايعرف ضروريات ديننا الاسلامي العظيم، وغاب عنه حقيقة الصراع بين عقيدة التوحيد الصافية النقية، وبين عقائد النصرانية الفاسدة، بأنواعها المتعددة.
لقد لجأت ايطاليا الى المكر والخداع، وبثت الفرقة بين أهالي ليبيا، والأتراك المساندين لهم، ودعت الى الانفصال عن العثمانيين عن طريق المنشورات، وكانت الطائرات الايطالية تلقيها على المعسكرات العربية، سارع أهالي ليبيا لاثبات ولائهم للدولة وأرسلوا برقية للحكومة في الاستانة نقلتها بالنص جريدة صباح التركية، جاء فيها:
(نحن العرب أبناء هذا الوطن العثماني المقدس نفديه بالمهج ولاننفصل عنه، ولو أراد هو الانفصال عنا، وإنا لمدينون في حياتنا القومية واتحادنا للجنود العثمانيين وضباطهم البواسل، على ان مانبذله وما سنبذله ايضاً من المهج والمال في الذب عن حوضنا لم نبذله طوعاً لأوامر اخواننا الجنود، بل رغبة بالاحتفاظ بكياننا وإننا نجل هذه الرغبة، لأنها كانت سبباً في شد أواصر الاخوة بيننا وبين إخواننا العثمانيين، فلهذا نعلن لحكومة الاستانة وسائر اخواننا العثمانيين أننا مستعدون لبيع أرواحنا وأرواح أبنائنا على بساط هذه السهول، والرمال المحرقة دفاعاً عن بلادكم التي هي بلادنا لأننا متأهبون للموت حتى لايبقى منا فرد، والله لايهدي كيد الخائنين) (2).
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ج12، ص637.
(2) انظر: جريدة المقطم عدد 6941 في 9 صفر 1330هـ.(2/303)
ولقد فاخرت جريدة طنين التركية بهذه البطولات التي تتفجر من العرب في حرب طرابلس، مشيرة الى أن: (أخواننا العرب فعلوا المعجزات، فبيضوا صفحة تاريخنا، وعجز ايطاليا في الحال وفي الاستقبال بات أمراً محققاً، ... وبعد ما حالف النصر العرب الذين أبلوا بلاء الحسن، ... فلتعلم أوروبا هذا والسلام) (1).
إن السلطان عبد الحميد الثاني كان يدرك مدى الولاء الذي يحمله العرب في طرابلس للدولة العثمانية، وفي مقدمتهم السيد أحمد الشريف السنوسي، لهذا كان متفائلاً جداً في تصريحه الصحفي الذي أدلى به لمجلة نور اندسون الألمانية، وأكد فيه أن الايطاليين سيجدون مقاومة عنيفة من قبل السنوسيين واتباعهم، وستكون خسائرهم فادحة وحساباتهم خاطئة، لأن العرب هناك لن يسلموا طرابلس بسهولة، وأن الدولة قد أمنت لهم مايكفيهم من البنادق والمدافع لكي يقووا على المقاومة والدفاع عن وطنهم (2)، وهذا القول هو ما أكده السفير البريطاني في الاستانة السير جيرارد لوثر في التقرير السنوي لسنة 1912م الذي بعثه لوزير خارجيته في 17 ابريل 1913م (3).
ثالثاً: العنف الايطالي والمقاومة:
كانت بيانات الجنرال كارلو كانيفا تدعو الشعب الليبي الى التزام الهدوء، وكانت مليئة بالكذب والنفاق والتضليل والمجزرة التي ارتكبها في الثالث والعشرين من شهر تشرين الثاني بحق سكان المنشيئة في مدينة طرابلس والتي ذبح فيها من 4 - 7 آلاف نسمة من بينهم الطفل، والعجوز ونفى تسعمائة شاب ليبي، وهتك الاعراض بدون سبب، لخير دليل على ممارسة الطليان المختلفة الصنوف اللاأخلاقية، إزاء تلك الوحشية البغيضة، فقد قاوم الشعب المسلم الليبي تلك الوحشية بصمود سجل في صفحات التاريخ بماء الذهب الصافي.
_________
(1) انظر: جريدة المقطم، عدد 6980 في 25 ربيع الأول 1330هـ.
(2) انظر: جريدة الاهرام عدد 10613 في 21 صفر 1331هـ.
(3) انظر: حروب البلقان، عايض الروقي، ص102.(2/304)
ومما فجر الروح الجهادية لدى أهالي ليبيا، عجز إيطاليا عن احترام شعور الأهالي ومعتقداتهم، واعطوا لهذه الحرب صبغة دينية واضحة، فقد بارك القسيس والبابا الحملة قبل سفرها من إيطاليا، وكان من أول ماقامت به بعد نزولها في مدينة طرابلس أن قامت صلوات الشكر لله على إحتلال المدينة، وعلى وضع الصليب مكان الهلال، وكان العمل في حد ذاته كافياً لإثارة كل مسلم في البلاد (1)، وكان النشيد الذي يردده الجنود الغزاة: (أماه صلي ولا تبكي، بل أضحكي وتأملي ألا تعلمين أن إيطاليا تدعوني، وأنا ذاهب الى طرابلس فرحاً مسروراً لأبذل دمي في سبيل سحق الأمة الملعونة ولا حارب الديانة الاسلامية .. سأقاتل بكل قوتي لمحو القرآن، ليس للمجد من لم يمت لإيطاليا، تحمسي أيتها الوالدة، وإن سالك أحد عن عدم حدادك عليّ، فأجيبيه، مات في سبيل محاربة الاسلام) (2).
وصدق الله العظيم القائل: "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم" (سورة البقرة، آية).
لقد تحرك نواب البلاد وزعمائها من ضواحي طرابلس نحو معسكرات الجهاد، واشتركوا في العمليات ونادوا على الاهالي بضرورة الخروج معهم، قام بأهم دور في هذه الحشود والاستعداد فرحات باشا نائب طرابلس، وسليمان الباروني نائب الجبل، وسيف النصر من زعماء سرت.
كان فرحات بك له نفوذ كبير في موطنه (الزاوية) وكان يقضي عطلته في الواحة وقت نشوب الحرب، فعرض خدماته على القائد العثماني، وكتب في نفس الوقت الى المشايخ في الواحات محرضاً أياهم على القيام والالتفاف حول راية السلطان والدفاع عن البلاد، ورغماً من الدعاية المضادة التي كان يقوم بها بعض الشيوخ الموالين للايطاليين في العاصمة، فإن نداءات، فرحات بك قد نجحت وارتفع العلم العثماني في كل مكان، وكان فرحات بك أول متطوعاً انضم الى العثمانيين مع عدد
_________
(1) انظر: المغرب الكبير (3/ 767).
(2) انظر: تاريخ ليبيا المعاصر، ص47.(2/305)
من المتطوعين من الزاوية، وزوارة، والعجيلات وكان وصوله سبباً في تقوية الروح المعنوية لدعم الحامية العثمانية.
التي كان يقودها نشأت بك (1)، وتمركزت قوات المجاهدين في العزيزية للقيام بمهمة الدفاع (2).
أما سليمان بك الباروني نائب الجبل فقد كان يتمتع بعصبية أهل الجبل الغربي القوية مع حب الأهالي له، وكان يقضي عطلته في فساطوا وقت نزول ايطاليا في طرابلس وانسحاب الحامية العثمانية الى الداخل. وقد اتصل كذلك بالقائد العثماني ووصل بعد ذلك الى العزيزية على رأس خمسين من مشايخ الجبل، وتفاهم مع نشأت بك ووعده بأن يواصل المتطوعون الحرب. وقد عاد الى الجبل ودعا المشايخ المحليين واستنفرهم للحرب من اجل الاسلام ودولة الخلافة، ووجد نفسه على رأس الف من رجال القبائل، وأسرع بهذه القوة الى ميدان الحرب، ولم يترك القوات العثمانية منذ ذلك اليوم، ونتيجة لهذه المجهودات التي قاما بها هذين الزعيمين في طرابلس أخذت جماعات الليبين تصل الى معسكرات الجهاد من نالوت وغريان .. وغيرها وصلت الى عشرات الآلاف من المجاهدين (3).
رابعاً: أحمد الشريف يوجه اتباع الحركة للجهاد:
بعد وصول خبر احتلال إيطاليا لطرابلس، وقصفها لبقية المدن الليبية بأساطيلها، قام احمد الشريف بجمع السادة، والشيوخ والعلماء والقادة، وعرض عليهم الأمر واستشارهم، وخرج الأمر بتوجيه الشيوخ وعلماء الحركة بقيادة المجاهدين في كافة ساحات الوغى وقال أحمد الشريف: (والله نحاربهم ولو وحدي بعصاتي هذه) (4)، كانت القوة الايمانية الدافعة تحرك احمد الشريف، نحو الجهاد، ولذلك رفض الخنوع والاستسلام للمحتل النصراني مهما كانت قوته وجبروته وعزته، ووصلت أوامر احمد الشريف الى رؤساء الزوايا والشيوخ، والاعيان التابعين للحركة
_________
(1) انظر: المغرب الكبير (3/ 769).
(2) انظر: السنوسية دين ودولة، ص123.
(3) انظر: المغرب الكبير (3/ 770).
(4) انظر: الفوائد الجلية (1/ 23).(2/306)
في طرابلس وما حولها، يأمرهم بأن لا يتهاونوا وأن يستميتوا في قتال العدو المهاجم ومن هؤلاء الشيوخ:
- مصطفى احمد الهوني رئيس زاوية هون.
- حامد بركات الشريف رئيس زاوية سوكنة.
- محمد علي الأشهب رئيس زاوية (واو) فزان.
- السني رئيس زاوية مزدة.
- عبد الوهاب العيساوي رئيس زاوية طرابلس.
- محمد علي بن الشفيع رئيس زاوية سرت.
وكتب الى زعماء القبائل المبرزين كالشيخ سيف النصر زعيم قبائل أولاد سليمان، وأورفله، وغيرهم.
وقام الشيخ محمد الاشهب بتنظيم معسكر من القبائل الفزانية، والتوارق، ورياح والعرب المقيمين باقليم فزان، وانضم آمود وكوسا من زعماء التوارق الى معسكر محمد الأشهب، وقام المغاربة بتأسيس معسكر بالنوفليه وكان زعيمه
عبد الله بن ادريس، وساعدة صالح الأطيوش، وقام أولاد سليمان، وأورفلة، والقذاذفة، بتأسيس معسكر، تزعمه في بداية الأمر سيف النصر نفسه، ثم ابنه احمد بك، ومعسكر من قبائل أولاد أبي سيف يتولى قيادته الشيخ السني، وأبوبكر قرزه (1).
وبذلك أصبحت المعسكرات بالمنطقة الغربية أربع تابعة للسنوسية قامت بدعم اخوانهم، والمشاركة معهم في الجهاد ضد ايطاليا، وقام الليبيون عموماً بتنظيم المعسكرات بضواحي طرابلس، وغريان والخمس ومصراته كان صدور الدعوة الى الجهاد من زعيم الحركة السنوسية أحمد الشريف بمثابة الشرارة التي أوقدت النار في طول البلاد، وعرضها، فخف المجاهدون من أقاصي طرابلس وفزان، ثم من النيجر،
_________
(1) انظر: برقة العربية، ص292.(2/307)
وتشاد، لمؤازرة اخوانهم المجاهدين في الجبل، والغرب وهي الجهات التي ظل زعماؤها حريصين على استقلالهم ولا يريدون منذ ظهور الحركة السنوسية الانضواء تحت لوائها؛ ومع هذا، فقد كان أحمد الشريف صاحب نفس عظيمة همته في الجهاد، والتغلب على العوائق التي تحيل دون وحدة الصف الاسلامي في بلادنا (1)، يقول الشيخ الطاهر الزاوي عن أحمد الشريف: (فالسيد احمد الشريف صقله العلم، وهذبته العبادة، فعفت نفسه، وكبرت همته، .. وأخلص عمله لله فتولى الله توفيقه، وأطلق ألسنة الناس بمدحه والثناء عليه) (2).
لقد تدفق أتباع الحركة السنوسية كالسيل الجارف على ميدان القتال في طرابلس، وفي منتصف يناير 1912م قال السيد أحمد الشريف كلمته لأهل طرابلس وجميع العرب، فأصدر نداءه المشهور يحث فيه الطرابلسيين والبرقاويين، وأهل ليبيا على الجهاد ضد العدو المعتدي ويعلن فيه نبأ اعتزامه النزول بنفسه الى الميدان على رأس قوة من المجاهدين كبيرة. وقد نقش نداء أحمد الشريف على راية من الحرير حملها المجاهدون في طرابلس من مكان الى آخر بين القبائل الضاربة في الجنوب خصوصاً، فكان من أثر هذا النداء (النداء) أن تدفقت جموع المجاهدين على المعسكرات العثمانية في العزيزية وغريان، وعلى مراكز العرب في (سنيات بني آدم)؛ فكان المعسكر في (السنيات) بعد ذلك يعج بجموع المجاهدين من الزاوية والعجيلات، وزنزور، ومصراته، وصرمان، وأولاد يوسف، واورفله، وغريان، والجبل، والعزيزية، وأولاد سليمان، ومجاهدي فزان والتوارق. ثم ولم يكتف احمد الشريف بذلك بل أعد نجدة خاصة لتعزيز قوات المجاهدين في العزيزية، وفي 25 مارس 1912م وصلت نجدات احمد الشريف الى العزيزية مسلحة بالبنادق والحراب والسيوف، وتحمل معها نبأ تحرك نجدات اخرى، لاتزال تجد السير في طريقها الى معسكر المجاهدين، وكان يوم وصولها يوماً مشهوداً في تاريخ الجهاد في طرابلس.
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص126.
(2) انظر: جهاد الابطال، ص187.(2/308)
وقد اعترف السلطان العثماني نفسه بهذه الجهود التي قام بها أحمد الشريف السنوسي، فأهداه في هذا الشهر نفسه (مارس 1912م) سيفاً ونيشاناً مرصعاً بالجواهر مكافأة وتقديراً لجهود أحمد الشريف.
بيد ان جهود الحركة السنوسية كانت أكثر وضوحاً وأعمق أثراً في سير الجهاد ضد إيطاليا في برقة وهذا ما سنأتي على بيانه بإذن الله تعالى (1).
لقد اصبح العدو في حيص وبيص، ولم يتمكن من احتلال الدواخل بعد الثغور التي احتلها الاسطول، واضطرت ايطاليا الى إعادة حساباتها، ولكي لاتظهر إيطاليا أمام المجتمع الأوروبي السياسي منهكة، وأن قواتها غير قادرة على اخضاع ليبيا لسيطرتها، ولإخفاء فشلها لجأت الى إصدار بيان تعلن فيه ضم ليبيا إليها وهدفت من ذلك البيان عدة أمور منها:
- إقناع الدول الأوروبية بأن إيطاليا قد ملكت زمام الأمر في ولاية طرابلس.
- وضع الامبراطورية العثمانية أمام الأمر الواقع، وإجبارها على الاعتراف بسيادتها على ليبيا.
- إيقاف المعارك الحربية لأنها ستصبح غير قانونية، أو شرعية في مواجهة الدولة الايطالية صاحبة السيادة الجديدة (2).
إن قرار الضم الذي أعلنته إيطاليا، جعل الدولة العثمانية تعلن احتجاجها عليه، وعدت ذلك خرقاً صريحاً، للقانون الدولي، وقد استندت الدولة العثمانية الى نجاح المقاومة الجهادية، وعجز القوات الايطالية عن تحقيق أي نصر (3).
وابرق السلطان في 2 اكتوبر الى ملك انكلترا وإمبراطور ألمانيا وحكومات أوروبا، ورئيس الجمهورية الفرنسية، وبقية الملوك والقياصرة يطلب منهما فض النزاع القائم، وحقن دماء البشر، ولكن بدون جدوى، فقد اعتذرت كل هذه الحكومات
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص126،127.
(2) انظر: تاريخ ليبيا المعاصر، ص53.
(3) المصدر السابق نفسه، ص53،54.(2/309)
عن التدخل (1) وبذلك تكون الحملة الدبلوماسية المكثفة التي قامت بها الدولة العثمانية قد فشلت.
فقد تخلت الدول الأوروبية كلها عن الدولة العثمانية، بدءً بفرنسا التي أصدرت بياناً أعلنت فيه حيادها وعدم قدرتها على التوسط لإنهاء الحرب في الوقت الراهن، وسارت روسيا على نفس النهج، أما بريطانيا فرغم حساسية موقفها، لاسيما، أمام رعاياها في العالم الاسلامي، فإنه لم يطل ترددها لتعلن هي الأخرى ما أسمته بالحياد، ولكنه ليس حياداً بالمعنى الصحيح إذ أنها أرغمت مصر على الحياد، وهذا فيه مساعدة لحكومة ايطاليا المعتدية (2).
لم يتمكن الايطاليون التقدم شبراً إلا بدفع ثمن باهظ، وبعد جهد جهيد، وتحمل الخسائر الفادحة، والضربات القاسية، ومعاناة الشدائد والأهوال تمكنوا بفضل قواتهم العديدة، والأسلحة الفتاكة، ومعاونة الأذناب من الاستيلاء على بعض أماكن في دواخل البلاد، كالخمس، ومصراته وزليتن وورفله، وترهونه، وزواره، ثم تمكنت القوات الايطالية من الوصول الى هون ثم فزان، واستسلم بهذه المحلات المستضعفون من الرجال والنساء والولدان الذين لايستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، وأما الباقون فقد انسحبوا الى أماكن أخرى أمامية لمواصلة القتال، وقد استعمل الايطاليون كافة الأساليب الوحشية في المواقع التي احتلوها خصوصاً في مدينة طرابلس (3).
ولقد خلد التاريخ المعاصر أسماء المعارك التي قام بها الاجداد ضد ايطاليا في المنطقة الغربية من ليبيا من أهمها؛ معركة طرابلس بتاريخ 8، 9، 10/ 1911م وكذلك في تاريخ 21، 22 يناير 1912م، معارك الخمس بتاريخ 17 - 21 اكتوبر، 1 ابريل 1912م معركة الهاني شارع الشط، معركة الهاني ابومليانة، معركة الهاني سيدي المصري، معركة قرقارش، معركة ابي كماش، معركة لبدة، معركة تاجوراء (4)
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص118.
(2) انظر: حروب البلقان، ص75.
(3) انظر: برقة العربية، ص292،293.
(4) انظر: تاريخ ليبيا المعاصر، ص59،60، ويمكن الرجوع الى جهاد الابطال ففيه تفصيل لبعض المعارك.(2/310)
. . الخ وكانت ما بين عام 1911م الى عام 1912م ولاشك أن هذه المعارك تحتاج الى دراسة تفصيلية، ولعل أحد ابناء هذا البلد الطيب يقوم بذلك.
خامساً: جهاد قبائل المغاربة البطولي:
استمر العدو الايطالي في زحفه حتى وصل سرت وهناك توقف سيره، وأرسل دعاته لاستعمال الحيل والدسائس كي يستميل بها قبائل المغاربة التابعة لزاوية النوفلية السنوسية مستغلاً فرصة حاجة تلك القبائل للمؤنة، والملابس، فكاتب القائد الايطالي الذي احتل سرت شيوخ قبائل الرعيضات (المغاربة) موعداً إياهم أن قواته لاتخرج من سرت وعليهم أن يأتوا السوق لشراء مايحتاجون إليه على شرط أن لايعتدي كلا الطرفين على الآخر، فاغتنم الأهالي هذه الفرصة في شيء من الحذر واليقظة، وأرسلوا الى اخوانهم بجدابية أن يأتوا بقوافلهم الى هذه السوق، فيشترون المأكوت والملابس، وأراد المغاربة أن يحققوا هدفين:
1. إخراج الزعيم سيف النصر، وأبنائه عبد الجليل ومحمد وسليمان وأخوانهم جميعاً، وقد وقعوا في الأسر بعد احتلال الطليان لواحات هون وتم اعتقلالهم بزوراه، فكانت احدى شروط المغاربة الاتيان بهم، وقد جاء بهم الطليان الى سرت استغلالاً لنفوذهم وربما يتمكن بواسطتهم من أي عمل كان ولكنهم خلصوا منه وألتحقوا بمعسكر المجاهدين المغاربة.
2. استفاد المغاربة من السوق في سرت، واشتروا كميات ضخمة من المؤن استفادت منها قبائل برقة الغربية.
وأراد الطليان الغدر والخيانة والوثوب على غرة، وهاجم العدو زاوية النوفلية، واشتبك مع المغاربة في قتال عنيف اسفر عن احتلالها بعد خسارة عظيمة وكان من بين الشهداء يومئذ الشيخ السنوسي الاطيوش، ومن بين الجرحى عبد الله بن ادريس وقد أبلى كل منهما بلاءً حسناً ثم ألتحمت المعركة الثانية بين الفريقين بموقع الخدة وتلتها معركة العويجة وتوالت المعارك ليلاً ونهاراً، وكل فريق من المتحاربين نال(2/311)
نصيبه من الكر والفر والربح والخسارة، فكانت هذه المعارك مدعاة لإثارة روح الهمة والنشاط والأمل بين المجاهدين في الجهات الاخرى، وجعلت أولئك الذين قدر لهم أن يكونوا تحت الطليان يتأهبون للقيام من جديد سيما قبائل أولاد أبو سيف، ففي هذه الأثناء كتبت هذه القبائل ومن حولها الى أحمد الشريف يطلبون منه ايفاد نائباً عنه - يلتفون حوله وينظم صفوفهم، فعين أحمد الشريف أخيه صفي الدين السنوسي نائباً عنه لربط المعسكرات السنوسية بطرابلس والاشراف عليها، كما عين أخيه محمد عابد السنوسي نائباً عنه بمنطقة فزان (1).
سادساً: المجاهد الكبير القائد الشهير صفي الدين السنوسي:
توجه صفي الدين في يوم 13 جمادى الأول عام 1333هـ، وترك اجدابية ليتولى القيادة في الجهات الغربية، فكان لتعيينه فرحة عظيمة لدى القبائل المنضوية تحت لواء الحركة السنوسية، وهي ترى زعمائها يقودون الجيوش بانفسهم، ويتولون الاعمال، ويخوضون ميادين القتال، واستقبلت القبائل في المنطقة الغربية صفي الدين لتشد من أزره وتقوي عزمه، وكان على رأس المستقبلين عبد الله بن ادريس، ثم توجه الى معسكر المجاهدين وكان في استقباله صالح باشا الاطيوش، وتولى الاشراف على أمور المعسكر والمجاهدين، ورتب الأعمال، ثم غادر معسكر المغاربة متجهاً الى معسكر حمد بك سيف النصر، وفي معيته، كل من الشيوخ، صالح البسكري، ومصطفى منينه، ورويفع بن ادريس، وعبد العزيزصهد، وبعد وصول صفي الدين، علمت إيطاليا بوصول نائب احمد الشريف الى جهات سرت من طرابلس، فاستعدت بحملة عظيمة لملاقاته وصده عن مواصلة سيره، إن لم تتمكن من القبض عليه، فعملت كل ماتستطيع عمله من تجهيز هذه الحملة، وتزويدها، بأقوى الاسلحة، فاندلعت معركة عظيمة بين القوات السنوسية والايطالية بموقع (أبي هادي) وكان صفي الدين في مقدمة المجاهدين مصحوباً بابطال الجهاد منهم؛ حمد بك سيف النصر، وعبد الله بن ادريس، وصالح باشا الاطيوش، وأحمد التواتي، وغيرهم من البواسل
_________
(1) انظر: برقة العربية، ص294.(2/312)
واستمرت المعركة بشدة وعنف عدة ساعات انجلت عن خسارة الايطاليين خسارة فادحة في الأرواح والعتاد، ولم يبقى من جيش ايطاليا إلا النزر اليسير، وقد وصف الشعراء هذه المعركة، ومن بين هؤلاء الشعراء عبد الله ادريس، وقد جمعت قصيدته أسماء بعض المعارك التي حصلت وقتذاك قبل معركة أبي هادي فقد قال:
سطع الضياء بكوكب الإقبال ... بالفتح والتعظيم والإجلال
والدين جدد بعد ضعف واحتمى ... والكفر في محو وفي اضمحلال
والنور (لاح ببرقة) وكأنه ... بدر مضى في سماء عال
والنصر من رب البرية لم يزل ... يحمي الحمى ويزيد في الاقبال
هنئت يابطل الخلافة بالذي ... تبغيه من نصر على الجهال
فلك البشارة قد أتت من أول ... بالفوز والفتح المبين العال
الى أن يقول:
ذاك الذي نصر الشريعة أحمد ... نجل الرسول وصفوة الابطال
لازال في الاسلام حصنًا مانعاً ... يحمي الديار من العدو الجالي
الى أن يقول:
لما رآءه مصمماً ومحارباً ... والصلح لايبغيه بالأموال
قال الفرار وليس لي من حيلة ... وتبدلت أحواله في الحال
من (ساحة الفزان) ولى راجعاً ... في خزية ومذلة ووبال
من (مرزق) ولي و (سوكنة) التي ... هي موضع الارزاق والأموال
نكب العدو وقال مالي حيلة ... أخذت جميع مدافعي وبغالي
ياحسرة إني تركت مدائني ... ورأيت مالم يخطر ببالي
ماكنت أحسب أن (برقة) هكذا ... فيها رجال الحرب أي رجال
إن (المغاربة) الذين هم بها ... جاءوا بيوم في ربيع تال
وكذا الذين (بخشة) ورفاقهم ... نالوا الثناء بهمة وقتال(2/313)
نالوا الفخار بجمعهم في (خدة) ... للقا العدو الماكر المحتال
الى أن يقول:
يوم (العويجة) انذر الطليان ... أن الشعب شعب كريهة ونزال
فتعددت أمواتهم وتمزقت ... أشلاؤهم في الحل والترحال
من بعده ركبوا (البحار) وأقفلوا ... متخاذلين تخاذل الأنذال
الى أن يقول:
أما (العواقير) الكرام (ببرقة) ... قد خلدوا الآثار للأجيال
وكذا (البراعصة) الذين هم هم ... قد ايدوا الأقوال بالأفعال
أبنا (عبيد) في الجهاد كأنهم ... أسد اتت لحماية الأشبال (1)
كانت تلك الانتصارات التي حققها السنوسيون، محل الاعجاب والتقدير من ابناء ليبيا المخلصين، ولذلك اتصل كثير من القادة والشيوخ بصفي الدين، وكان رمضان السويحلي على رأس أولئك الأبطال المغاوير، ولذلك اتصل بصفي الدين السنوسي واتفق معه على أن يعمل جهد المستطاع للاتصال بهم دائماً، وعمل على دعم المجاهدين السنوسيين بالمؤن، والبضائع من سوق (مصراته)، وشارك مع صفي الدين السنوسي سراً في معركة (أبي هادي) وأبلى هو ورفقائه بلاءً حسناً، وأصيب أخوه حمد بجراح (2).
اشتدت الضربات القوية على القوات الايطالية، وخشيت على سمعتها العسكرية وأخذت تعد العدة من جديد للقضاء على المعسكر السنوسي.
وقام الشيخ صالح الاطيوش بتجنيد أهالي (الخشه)، من المغاربة واتباعهم، كما قام عمر سيف النصر بتجنيد قبائل أولاد سليمان واتباعهم، وقام عبد الجليل سيف النصر بتجنيد قبائل القذاذفة، وقام محمد علي الشفيع بتجنيد قبائل الفرجان، والهماملة ومعدان، استعداداً لمعركة اخرى عرفت في التاريخ باسم معركة القرضابية.
_________
(1) انظر: برقة العربية، ص296،297.
(2) انظر: برقة العربية، ص297.(2/314)
سابعاً: معركة القرضابية:
جمع الطليان قوات كبيرة وأرغموا سكان السواحل، التي يحتلونها بالانضمام الى قواتهم، وكان على رأسهم رمضان السويحلي زعيم مصراته، فالتقوا بالمجاهدين عند القرضابية، أو قصر بوهادي، وكان رمضان السويحلي على مايبدو قد اتفق مع السنوسيين على أن يندس بقواته مع الجيش الايطالي الذي كان يقوده الكلونيل (ماني) يقول الشيخ الطاهر الزاوي: (وقد تواترت الأخبار عمن لهم صلة برمضان بأنه كان يعتزم الانقلاب على الجيش الإيطالي إن لم يوافق المجاهدون على الصلح، وقد صرح رمضان بهذا للشيخ محمد بن حسن حينما قال له -والجيش على أهبة الخروج من مصراته- كيف تحارب اخوانك المسلمين؟ فقال له رمضان: أنا ذاهب لدعوتهم الى الصلح، فإن امتنعوا فسأنقلب معهم على الطليان، واعتزام رمضان الانقلاب على الطليان لايشك فيه إلا مكابر) (1).
وبدأت المفاوضات بين الجيش الايطالي والسنوسي، من أجل الصلح، وقام العقيد مياني بإرسال وفد من زعماء العرب يتكون من اربعين فارساً، ولما وصل الوفد الى الجيش السنوسي رفض الرجوع، وكان ذلك في 11 جمادى الثاني سنة 1333هـ ورجع بعض الافراد الى القوات الايطالية.
خدعة حربية من المجاهد الكبير صفي الدين:
أمر صفي الدين حمد بك سيف النصر بأن يعلن جهاراً بأنه سيغزو ورفلة، وسرعان ما وصل الخبر الى العدو بواسطة الاشخاص الذين عادوا من المعسكر، وبعض الجواسيس، فاتفق رأي القائد الايطالي وأركان حربه أن يرجع عبد النبي بالخير بقواته للدفاع عن ورفلة قبل أن يصلها سيف النصر وبذلك خسر القائد الايطالي هذا القسم من قواته وقائده عبد النبي، وقبل اندلاع المعركة اعلن صفي الدين بأن الليبيين الذين مع الجيش الايطالي هم مع المجاهدين وسوف ينقلبون على
_________
(1) انظر: جهاد الابطال، ص153.(2/315)
القوات المعتدية، وارتفعت الروح المعنوية لدى المجاهدين السنوسيين، وعندما سمع (مياني الخبر) جرد الليبيين من السلاح وكلفهم بنقل المؤن فقط، ووضع الاعيان بسيارات خاصة، وبذلك خسرت القوات العربية، اضافة الى جيش وروفله وتقدمت قوات احمد سيف النصر يقتفي أثرها خلسة، فكان يختفي بالنهار ويقتفوا أثرها ليلاً وكان من المؤكد عند الطليان أن أحمد سيف النصر ذهب بقواته ليغزو ورفله وقدر الله تعالى وصول قوات جهادية الى المعسكر السنوسي بعث بها صالح باشا الاطيوش من جهة الخشة، كما وصل عبد الجليل سيف النصر وأخيه عمر بنجدات أخرى، واشتبك الفريقان في معركة طاحنة يوم 14 جمادى الثانية 1333هـ، وقد سيطر بادئ الأمر الطليان حتى كادوا أن يحوزوا الراية السنوسية، وعندها باغتهم احمد سيف النصر من الخلف واشتدت المعركة حول العلم السنوسي، فأنقذ بعد أن استشهد الكثير من المجاهدين حول البيرق السنوسي (1)، واستطاع رمضان السويحلي في تلك اللحظات الحرجة أن يصل الى جنوده من مصراته وأصدر أوامره بإطلاق النار على الطليان، فأطلقوها عليهم من الخلف، فكانت بداية النهاية، فحاص الجيش في بعضه حيصة الحمر، ورجعت اولاه على أخراه، واختلطت خيله برجله، وارتكس بعضه في ذلك الجيش ولم ينج منه إلا 500 جندي (2)،
ونجا العقيد امياني الى سرت مجروحاً مع من بقي من جيشه، وبقي في مكان المعركة كل ماكان مع الجيش من معدات الحرب وعتادها: من إبل وخيل، وبنادق، ومدافع، ورشاشات (3)، ومن بين ماغنمه المجاهدون صحيحاً اثنى عشر مدفعاً من مدافع الميدان، وعشرين مدفعاً رشاشاً، وسبع سيارات، وعشرون ألف بندقية، وقسماً عظيماً من الذخيرة وقسم المستشفى العسكري بجميع معداته، وجميع المؤن (4).
وكان أفظع مايقع عليه نظر الانسان تلك الأكوام من الجثث البشرية، وبمجرد
_________
(1) انظر: برقة العربية، ص300.
(2) انظر: جهاد الابطال، ص155 ..
(3) المصدر السابق نفسه، ص155.
(4) انظر: برقة العربية، ص300.(2/316)
وصول إمياني الى سرت جرد جميع العرب من الاسلحة وعقد مجلساً عسكرياً وحكم بالاعدام على كثير من السكان ومن أبناء العرب الذين ألتجأوا الى سرت وفي مقدمتهم من الاعيان والرؤساء، والحاج محمد القاضي من مسلاته، والحاج محمد بن مسعود من قماطة، وحسونة بن سلطان، وأبوبكر النعاس، وأحمد بن عبد الرحمن من ترهونة، وقتل من غيرهم نحو سبعمائة، وأصدر أمراً بالقتل العام، فصار الجند يقتلون الناس في الشوارع وعلى أبواب البيوت، ويربطون العشرة والعشرين في حبل واحد ثم يقتلونهم، ورمى كثير من الناس بأنفسهم في البحر فراراً من التمثيل بهم، فكان منظراً مريعاً، وبعثوا الى روما نحو ألف أسير أكثرهم من السكان والحمالين الذين استأجروا جمالهم (1)، وبدأت قوات المجاهدين في تطهير البلاد من الأنجاس المعتدين، وتركت الحاميات الايطالية، حصونها بسهولة وهامت على وجهها عبر التلال والسهول المحرقة الجافة، وحررت مزدة، والقصبات، وسرعان ماوصل المجاهدون الى بن غشير، على بعد 15 ميلاً من طرابلس، وصدرت الأوامر للايطاليين بالانسحاب الكامل الى الساحل وقضي على حامية ترهونة كلها أثناء هروبها الى البحر، واستسلم ألف إيطالي في بني وليد بدون مقاومة، وانسحبت حامية غريان الى العزيزية، ثم اجبرت على الانسحاب بسرعة الى طرابلس وأخليت مصراته وزوارة (2).
لقد كانت القيادة الفعلية لمعركة القرضابية للسيد المجاهد الشهير صفي الدين السنوسي والقادة السنوسيين الذين معه وقد ساندهم مساندة فعّالة المجاهد رمضان السويحلي بجنوده وانضم معهم في الوقت المناسب.
وقد تفجرت ملكات الشعراء بسبب انتصار المجاهدين في القرضابية، فهذا الشاعر محمد عبد الله معتوق المصراتي يصف شجاعة المجاهدين في القرضابية ويمدح رمضان السويحلي على موقفه البطولي في المعركة فقال:
_________
(1) انظر: جهاد الابطال، ص156.
(2) انظر: جهاد الابطال، ص157 الى 171.(2/317)
وقفت وقفة ابطال وشُجعان
تجابه الغزو في صبر وإيمان
يوم الخليج وماسددت من خطط
كانت دماراً لمن عن أرضنا جان
لما وضعتم حشود الخصم في قفص
مابين بحر وصحراء ونيران
حمى الوطيس وطيس الحرب ملتهباً
والنار تلفح من قاص ومن دان
وللعزائم من آلامها خَورُ
يستوي عزائم الابطال وشجعان
خاضوا المعارك في صبر وفي جلد
وقاوموا في حماس كل طغيان
سدوا المنافذ عن أعداء أمتهم
فصيروهم حيارى شبه قطعان
البحر يحجزهم والنار تلفحهم
والخصم يطحنهم في غير إمعان
خرت جحافلهم في مأزق خطر
لم يبق منهم سوى اشباح إنسان
ناموا على جثث الأموات يدفعهم
حبّ الحياة الى خزي وخذلان
عادوا (لمصراته) والحقد يدفعهم
شنوا عليها هجوما غير إنسان
كم أحرقوا من ضعاف من ملاجئهم
ويوم ماطوس عنها خير برهان
كم علقوا من بريْ فوق مشنقة
وقتلوا من شهيد فوق كثبان
وفي السجون رجال مالهم
والشعب يرزح من ظلم وعدوان
كذلك ترايخ يامن له جهلوا
وذاك تاريخ ليث الحرب رمضان (1)
لقد حقق المجاهدون انتصاراً عظيماً على ايطاليا ولولا الشقاق، والخلاف، والنزاع الذي وقع بين رمضان السويحلي وصفي الدين السنوسي لأصبح الجهاد أمراً آخر، ولهزم الايطاليون عن بكرة أبيهم، وأسباب الصراع المذكور تحتاج الى تقصي وبحث يصعب على مثلي الوصول إليه، ولهذا أعرضت عنه صفحاً، أن الخوض في هذه النزاعات يخالف النهج الذي سرت عليه (من توسيع النقاط البيضاء في تاريخنا وتضييق النقاط السوداء)، ولقد تعرض بعض المؤرخين لهذا الخلاف منهم، الطاهر الزاوي، ومحمد مسعود فشيكة، ومحمد الطيب الاشهب، وبعد اشتداد الخلاف والنزاع بين رمضان وصفي الدين، اصدر الوكيل العام للسيد احمد الشريف (سمو
_________
(1) انظر: رمضان السويحلي، محمد فوشيكه، ص89،90،91.(2/318)
الامير) إدريس السنوسي أمراً الى صفي الدين بالعودة من طرابلس الى برقة وأن يترك الأمر بعد تطهير اكثر البلاد من الطليان أطفاءً للفتن وحقناً للدماء (1).
وأما بالنسبة لجهاد الجنوب في فزان والجفرة والنواحي الغربية من فزان، فقد تولى قيادتها محمد عابد السنوسي نائب احمد الشريف، وقد اتخذ مركزه بزاوية (واو) ويتبع هذه القيادة ثلاث معسكرات احدهما يراسه وكيل محمد عابد وكبير مستشاريه الشيخ محمد الاشهب، أما المعسكر الثالث بالجهات الغربية الشمالية من فزان يراسه الشيخ السني، ويشرف على الادارة العامة محمد علي الاشهب، فاشتركت هذه المعسكرات في المعارك الدموية مع الطليان بالجفرة وفزان وقد كانت هذه الجهات بيد العدو (2)، واهتم احمد الشريف بأمر فزان واتخذ من (زلة) قاعدة للإغارة على إمدادات الايطاليين بفزان وحدث أول هجوم في 26 اغسطس عندما أبيد طابور كان يسير عبر حمادة، وكانت تلك الحادثة بداية النهاية لاحتلال فزان الذي دام قليلاً وبإنقطاع، الامدادات عن القوات الايطالية في فزان احاطت بها القوات الاسلامية الليبية المجاهدة، وشاركت في تلك المعارك قوات المجاهدين من قبائل التبو والطوارق، واستطاعت قوات المجاهدين أن تقضي على حامية (ادرى) و (أبارى) وفتحت قلعة سبها، وسقطت مرزق، ولجأت قوات الايطاليين في غات الى جنوب الجزائر وطلبت حماية الفرنسيين، ثم تراجعت القوات الايطالية الى سوكنة ثم مصراته، وتخلوا عن غدامس، وغريان، وأعلنت طرابلس حالة الطوارئ (3)، وكان من أعيان فزان الذي قاد الجهاد المقدس ضد إيطاليا المجاهد الكبير محمد بن عبد الله البوسيفي، ونازل أهل فزان القوات الايطالية في ثلاث معارك مشهورة في (الشبب) و (أشكدة) و (المحروقة) واستشهد فيها محمد بن عبد الله البوسيفي رحمه الله تعالى (4).
_________
(1) انظر: برقة العربية، ص302.
(2) المصدر السابق نفسه، ص303.
(3) انظر: تاريخ ليبيا جون رأيت، ص127،128.
(4) انظر: قادة فتح بلاد المغرب، محمود خطاب (2/ 290).(2/319)
وقاد سالم بن عبد النبي الزنتاني حرب عصابات ناجحة في ولاية فزان، واثخن في أعداء الله، وهاجم القاهرة وهي ربوة عالية في سبها يوجد بها حصناً، وسياجاً من المدافع والاسلاك الشائكة وأصبحت تلك القلعة منيعة جداً، واستطاع سالم عبد النبي فتحها بقواته عام 1914م، لقد أبلى أهل الجنوب من مسلمي ليبيا بلاءً حسناً في جهادهم البطولي ضد إيطاليا، مما يدل على آصالتهم، وحبهم لدينهم وبغضهم لكل محتل عنيد.
ونتيجة للفتنة التي ذكرتها أمر السيد محمد ادريس محمد عابد أن ينتقل بقواته نحو الكفره (1).
_________
(1) انظر: برقة العربية، ص303.(2/320)
المبحث الرابع
الجهاد في برقة
في 24 من شهر شوال 1329هـ الموافق 19 أكتوبر 1911م وقف الاسطول الايطالي بميناء بنغازي الآمنة العزلاء وقذفها بوابل من قنابله في غير شفقة ولا رحمة وفي 22 من الشهر وقف بميدان درنه، وبعد التمهيد بقذف القنابل انزل بها قوة عسكرية وسرعان ما طير الخبر الى الشيخ المجاهد احمد الشريف بالكفرة، فامر بالوقوف في وجه المعتدي، والاستعداد لقتاله والتضحية في سبيل الوطن بالنفس والنفيس، وكتب الى رؤساء الزوايا في برقة وطرابلس والى شيوخ وأعيان القبائل يأمرهم بالدفاع ويحثهم على الجهاد، وكاتب الملوك، والأمراء وزعماء العالم الاسلامي طالباً منهم الوقوف مع إخوانهم المسلمين في ليبيا ضد العدوان الصليبي الغاشم، وفي شهر رجب سنة 1330هـ/1913م تحول من الكفره الى الجغبوب ليكون قريباً من ساحة الوغى.
استطاع الايطاليون احتلال كبريات مدن ليبيا الساحلية، كطرابلس ودرنة وطبرق، وكانت الحامية العثمانية في بنغازي تحت قيادة القمندان شكري بك في منتهى الضعف فلا تستطيع أن تحمي نفسها فضلاً عن كونها تدافع عن البلاد التي كان احتلالها في رأي المحتلين والاوساط السياسية في أوروبا أمراً مفروغاً منه.
أخذ متصرف بنغازي فؤاد مراد بك يعقد اجتماعات مجلس الادارة ويتشاور معهم وكان وقتئذاك رئيس الزاوية السنوسية ببنغازي هو أحمد العيساوي، فطلب منه المتصرف أن يحضر جميع الاجتماعات التي تعقد.
لقد جاهد أسود مدينة بنغازي شيباً وشباباً عن مدينتهم دفاعاً مجيداً، فأظهروا من البطولة والشجاعة النادرة، ماجعلهم محل التقدير من كل المسلمين، وسجلوا صفحات مجيدة خالدة بماء الذهب في سجل التاريخ، وقد ساهمت القبائل القريبة من مدينة بنغازي في الجهاد، وأول من وصل منها قبيلة العواقير ومن معهم، وقام(2/321)
أهالي بنغازي بأكرام المجاهدين، رغم وجود الامتعة والزاد الكافي، فأكرموهم غاية الاكرام، وفتحت الحكومة العثمانية مخازن الاسلحة وكانت جلها بنادق لاتزيد عن أربعة آلاف بندقية وشرع المجاهدون في مهاجمة العدو الغاشم وكلفوه خسائر في الأرواح واستشهد الكثير من ابناء المسلمين وتعرف هذه المعركة بواقعة (جليانه) ثم بعد يومين من ذلك انقض المجاهدون على الايطاليين بموقع الصابري وقاتلوهم قتالاً عنيفاً، وغنموا منهم اسلحة كثيرة، وبعد ذلك بيومين كانت واقعة السلاوي الشهيرة، وكان يقود المجاهدين الشيخ عبد الله الاشهب، فأظهر شجاعة فائقة، وقدرة نادرة، ورأياً سديداً في توجيه قوات المجاهدين، وتحميسهم للجهاد، وحقق المجاهدون انتصاراً رائعاً، وغنموا جميع ماكان مع الايطاليين في الميدان من المؤن، والعتاد الحربي، وكان عدد الشهداء كثيراً، وبعد واقعة السلاوي ألتحم المجاهدون في معركة حامية الوطيس مع العدو بقرب البركة بالموقع المعروف بـ (هوى الزرده) فأستشهد فيه الكثير من المجاهدين ومن بين الشهداء مائة وخمسون شهيداً من قبيلة واحدة هي عائلة إبراهيم العواقير عدا شهداء أهل مدينة بنغازي وبقية القبائل الاخرى، ولقد أظهر سكان مدينة بنغازي من أصناف البطولة، والكرم الفياض، والصبر العجيب، والثبات النادر، والشجاعة العظيمة ما أثار إعجاب اخوانهم من القبائل (1).
وبدأت النجدات العسكرية تتوافد الى مدينة بنغازي بتحريك شيوخ الحركة السنوسية، فوصلت كتيبة قبيلة العرفا، وعددها ثلاثمائة مسلح يقودها الشيخ عمران السكوري، وتلتها بقية النجدات التي جاء بها زعماء القبائل، وشيوخ الزوايا من كل حدب وصوب:
? الشيخ عبد الله الأشهب وكيل رئيس زاوية مسوس، ورؤساء قبائل العواقير.
? الشيخ محمد علي عبد المولى رئيس زاوية أم شخنب، ورؤساء قبائل ابراهيم العواقير.
_________
(1) انظر: برقة العربية، ص257،258.(2/322)
الشيخ الحسن الغماري رئيس زاوية دريانة وقومه من العواقير.
? الشيخ التواتي الكليلي رئيس زاوية طلميثة وقومه من الدرسا.
? الشيخ محمد علي المحجوب، رئيس زاوية الطيلمون مع مطاوع العواقير.
? الشيخ محمد الزروالي رئيس زاوية القطفية ومعه قومه من شوامخ المغاربة.
? الشيخ محمد علي الغماري رئيس زاوية اسقفة وقومه من البراعصة والدرسة.
? الشيخ محمد ابو نجوى رئيس زاوية ميراد مسعود وقومه من الدرسا.
? الشيخ عمر المختار رئيس زاوية القصور وقومه من العبيد.
كانت النجدات مؤلفة من قبائل العرفا، والدرسا، والبراعصة، والعواقير، والمغاربة، والعريبات، وزوية، والقبايل، والمسامير، والجرارة، والفواخر. ومن هذه القبائل، او منتمياً لها أو مجاوراً أو مرتبطاً بها قد وصلت في اسرع مايمكن بقيادة زعماء وشيوخ القبائل، وشيوخ الزوايا وهؤلاء السادة جمعوا الجموع تلبية لنداء القائد الاعلى للحركة السنوسية، وتقرر أن يكون موقع معسكرهم ومقر قيادتهم في بنينه شرق بنغازي أكثر من عشرين كيلومتر، فقد صح فيهم قول الشاعر:
تلاميذ لايعدون أمراً أراده
بواد وأشراف تبيد الاعاديا
كتائب أمثال الجبال رزانة
وان حملت خلت الهضاب جواريا
أولئك أقوام على الموت بايعوا
مبايعة أضحى بها الصبر راضيا (1)
وشرع المجاهدون في مهاجمة معاقل الايطاليين بشدة، وعنف يقول الأمير شكيب ارسلان: (وفي 12 مارس جرت وقعة الفويهات الشهيرة وكان سببها أن 200 عربي دخلوا بين استحاكمي الفويهات والبركة، فثار في وجوهم الطليان واشتدت الحرب واحاط الطليان بهذه المائتي مجاهد من العرب .. فلبث هؤلاء العرب
_________
(1) انظر: برقة العربية، ص260.(2/323)
يقاتلون مستميتين الى الظلام وعند ذلك نجا منهم ولحقوا بالمعسكر العربي بعد قتال استمر طول النهار، ويقال أنه نجا 80 رجلاً من المائتين.
وأما الطليان فقتل وجرح منهم ألف وخمسائة مقاتل منهم 28 ضابطاً برتب مختلفة، وجنرال برتبة لواء واصيب بالجنون عدة ضباط من هول تلك المعركة، وكانت هذه المعركة قد شقت كثيراً على العرب، وقامت النوادب تندب اولئك الابطال التي حالت مدافع الطليان دون إمكان نجدتهم، وبينما العرب في مأتم على قتلاهم، وردت برقية من انور باشا القائد العام في درنة الى عزيز علي المصري قائد المجاهدين بنغازي عن برقة من الاستانة عن برقية من برلين عن برقية من رومة تفيد أن وقعة الفويهات هذه كانت من أشد المصائب على الطليان خسروا فيها ألفا وخسمائة مقاتل ومنهم ضباط كثيرون قتلى وجرحى ومنهم من أصابهم الجنون من هول ذلك اليوم) (1).
وفي شهر ابريل سنة 1912م خرجت حملة إيطالية بعدتها وعديدها مزودة بجميع أنواع السلاح وهاجمت معسكر بنينه، فأندلعت بين الفريقين معركة عظيمة، استمرت ساعات متتالية، تمكن العدو فيها من احتلال موقع المعسكر انسحب المجاهدون ثم باكر هذه المعركة ألتحم المجاهدون مع القوات الايطالية في معركة بموقع حلق الريح ولم يكن الفوز لأحد من الفريقين، رغم كثرة الأموات من الطرفين، ومن شهداء تلك المعركة الشيخ موسى قرق عمدة قبيلة العمارنة، والشيخ جبريل العبيدي ثم عقب ذلك ألتحم الفريقان في معركة بموقع (حوش العكب) وذلك يوم 17 رمضان سنة 1330هـ، وكانت القوات الايطالية زاحفة نحو سلوق ولكنها فشلت في تحقيق هدفها، ومن بين شهداء هذه المعركة ابي زيد بن محمد الكزة، ومن بين الجرحى الشيخ عبد الحميد العبار، والشيخ يونس بن مصطفى أبي شنيف (2).
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص140.
(2) انظر: برقة العربية، ص266.(2/324)
واستمر القتال في جميع انحاء برقة من بنغازي الى طبرق، وقد تمكن الطليان من احتلال بعض المراكز في الدواخل وبعد حصول معارك كثيرة وفي مواقع مختلفة ارسل الجنرال اميليو قائد القوات الايطالية الى شيوخ القبائل يطلب منهم ارسال مندوبين للدخول معهم في المفاوضات، وعندما وصل الوفد الايطالي الذي يحمل الكتاب الى المشايخ وصل السيد احمد الشريف الى موقع رويفع بن ثابت الانصاري المعروف بسيدي رافع، فكان رد شيوخ القبائل على الجنرال الايطالي، كالآتي:
حضرة ...
وبعد نخبركم حضرتكم أننا أتصلنا بأعيان بنغازي واطلعنا على شروطكم المسطورة الواردة معهم من حضرتكم وقد أخبروا براحتهم مع دولتكم قبل وصول الأعيان جاءنا رسول من طرف الاستاذ الفاضل سيدنا احمد الشريف يخبرنا انه وصل الى الجبل الأخضر بموقع سيدي رافع ويأمرنا بالحضور عنده بناءً عليه لايمكن الآن حضور أحد منا صحبة أعيان بنغازي حتى نتصل بشيخنا وأستاذنا. إن شيخنا المؤمي إليه نزل بساحتنا وطلب منا الحضور فلا يمكن التأخر عنه، وبعد الاجتماع به سيصدر من طرفه العالي كل مايلزم وبه يكون العمل وهانحن أخذنا كتابكم لعرضه عليه 15 جمادى الثانية سنة 1331هـ.
وكان الموقعون على هذا الكتاب الشيوخ الآتية أسماءهم:
عبد السلام الكزة، إبراهيم المصراتي، عمر الاوجلي، علي الأوجلي، محمد الكاسح، خليل مصطفى، مفتاح ابو خزيم، علي محجوب، مصطفى خليل، ابوبكر القذافي، مفتاح حسين، جاد الله ابوزيد، حبيب الله اللواطي، رويله ابولطيف، مطرود ابو شنيف اللواطي، المبروك اللواطي، المبروك عمر (1).
أما جبهة الجبل الاخضر فقد كانت الكتائب السنوسية يقودها كل من:
* الشيخ محمد الدردفي رئيس زاوية شحات مع رؤساء ومشايخ قبائل الحاسة.
_________
(1) انظر: برقة العربية، ص267،268.(2/325)
* الشيخ محمد الحسين الحلافي رئيس زاوية المخيلي.
* الشيخ صالح بن اسماعيل رئيس زاوية الفائدية مع رؤساء ومشايخ عائلة فائد.
* الشيخ محمد العربي رئيس زاوية القصرين مع رؤساء ومشايخ قبائل البراعصة.
* الشيخ عبد القادر فركاش رئيس زاوية بشارة مع رؤساء قبائل العبيدات.
* الشيخ عبد الله ابو سيف رئيس زاوية مارة مع رؤساء قبيلة العبيدات.
* الشيخ الغماري رئيس الزاوية البيضاء مع رؤساء قبيلة البراعصة.
* الشيخ محمد الغزالي رئيس زاوية ترت مع رؤساء قبيلة العبيدات.
* الشيخ الحبيب بن جلول رئيس زاوية المرازيق مع رؤساء قبيلة العبيدات.
* الشيخ المرتضى فركاش رئيس زاوية أم الرزم مع رؤساء قبيلة العبيدات.
الشيخ محمد العيساوي رئيس زاوية الحنية مع رؤساء قبيلة الدرسا.
* الشيخ السنوسي الغماري رئيس الزاوية الحمامة مع رؤساء قبيلة البراعصة والدرسا.
* الشيخ جاد الله الجبالي رئيس زاوية العرقوب مع رؤساء قبيلة البراعصة والدرسا.
* الشيخ محمد ابو فارس رئيس زاوية أم حفين مع رؤساء قبيلة العبيدات.
* الشيخ محمد بن عمور رئيس زاوية قفنطة مع رؤساء قبيلة البراعصة.
* الشيخ عبد الله سعد فركاش رئيس زاوية مرتوبة مع رؤساء قبيلة العبيدات.
لبت هذه القبائل من السعادي والمرابطين نداء شيخ المجاهدين احمد الشريف وحضرت لقتال العدو تحت قيادة رؤساء زواياها وزعماءها وشيوخها الأسود.
وبالنسبة لمنطقة طبرق جمع شيوخ الزوايا، وزعماء العشائر القوات التي تأسس بها معسكر طبرق:
* الشيخ محمد الشارف رئيس زاوية أم الجرفات مع رؤساء قبائل حبون.(2/326)
* الشيخ محمد عبد الله رئيس زاوية أم ركبه مع رؤساء قبائل القطعان والشواعر.
* الشيخ مرتضى الغرياني رئيس زاوية جنزور مع رؤساء قبائل العبيدات والمنافا.
* الشيخ صالح الشريف رئيس زاوية المرصص مع رؤساء قبائل العبيدات.
فتم تأسيس أربع معسكرات هي معسكر بنغازي ومعسكر الجبل، ومعسكر درنة، ومعسكر طبرق في وقت قياسي (1).
صممت الدولة العثمانية على المقاومة حفاظاً لماء الوجه، امام الرأي العام الاسلامي، فارسلت نخبة من ضباطها وقوادها المشهورين، لتقوية روح المقاومة والدفاع وتدريب المجاهدين وتعليمهم كيفية استعمال الاسلحة الحديثة والمعدات، وبدأت المساعدات المادية والمعنوية تتوافد على المجاهدين، وكان من ابرز القادة الاتراك الذين ارسلتهم الحكومة العثمانية كل من، الرائد انور بك، ومصطفى كمال، فتحي اوفيار، وخليل بك عم انور بك، فؤاد بولجاقاش باشي، سليمان العسكري، وعزيز علي مصري، أدهم باشا الحلبي (2).
أولاً: القائد التركي أنور باشا:
أرسلت تركيا أنور بك (باشا بعد) قائداً عاماً، ببرقة، فوصل إليها من تركيا عن طريق مصر، ونزل بمنطقة درنة، فاتخذ منها مركزاً لقيادته، واتصل برؤساء الزوايا، وزعماء القبائل، وشرع في ترتيب المعسكرات إدارياً، وعسكرياً، تحت اشراف قادة المناطق، ومجالس من شيوخ الحركة السنوسية، وشيوخ القبائل الليبية، ووزعت القبائل نفسها على معسكرات الجهاد، وتكفلت كل قبيلة بالمؤن والخيل والسلاح، والرجال، ويتناوب رجال كل قبيلة على المعسكرات بين كل خمسة أشهر أو ستة أشهر ونزل احمد الشريف الى الجغبوب مواصلاً دعمه الكبير لحركة الجهاد بكل ما يستطيع.
_________
(1) انظر: برقة العربية، ص261.
(2) انظر: تاريخ ليبيا المعاصر، محمود عامر، ص69، 70،71.(2/327)
يقول أمين سعيد في كتابه الاستعمار الفرنسي والايطالي في بلاد العرب تحت عنوان السنوسيون في الميدان: (وأسرع السنوسيون في مقاطعة برقة عاصمتهم وسكانها من أتباعهم ومريديهم لتأييد الدولة وشد أزرها، يتقدمهم شيخهم الأكبر السيد أحمد الشريف وجاء شيوخ الزوايا للجهاد يقودون رجالهم فأبلوا البلاء الحسن في الكر والفر، وجددوا عهد المفاخر العربية، وأدهشوا العالم بما أبدوه من بسالة وشجاعة ... فقد اصلى السنوسيون نار هذه الحرب في برقة من الأول الى الآخر فكانوا رجالها وقوادها وكانوا آخر من جلا بعد أن فقدوا الجانب الأكبر من أقطابهم وشيوخهم) (1).
ومع مجيئ انور باشا لقيادة عمليات المجاهدين ضد ايطاليا في شرق ليبيا أصبحت الجبهة الشرقية، البرقاوية تشن هجومات مكثفة على الايطاليين، وكان علاقة احمد الشريف بأنور بك علاقة قوية ومحترمة وكانت الرسائل لا تنقطع بينهما، ففي شهر ابريل سنة 1912م بعث احمد الشريف برسالة الى أنور بك، يظهر فيها تأييده للدولة العثمانية، ويشكر أنور كثيراً لجهاده وقتاله للطليان ويعد بالنصر المبين من عند الله تعالى (2) ويذكر أنور بك في مذكراته أن رسالة وصلته في أوائل شهر يوليو من السيد أحمد الشريف يشكره فيها على جهوده وجهاده، ويحثه على المزيد، ويدعو الله لنصرة الاسلام وقهر أعدائه الايطاليين (3)، لقد بذل أنور باشا مجهوداً عسكرياً، وأخلص في حربه ضد إيطاليا وأحبه الشعب الليبي لنشاطه، وشجاعته النادرة، فكان محل تقدير الشيوخ وأعجابهم، وأحب أنور باشا المجاهدين الليبيين وأظهر أعجاباً بهم في مذكراته حيث يقول: (القبائل العربية ترسل لي مقاتليها، ويأتون على شكل جماعات صغيرة، كل واحد يحمل سلاحاً قديماً على كتفه، رابطاً رصاصاته في حزامه وفي يديه بضع كيلوات من الدقيق، وبين القادمين مسنون بيض اللحى، وصبيان لم يبلغوا سن الخامسة عشرة. ان أعمارهم لاتمنعهم
_________
(1) انظر: برقة العربية، ص62.
(2) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص33.
(3) المصدر السابق نفسه، ص33.(2/328)
من مواجهة الموت مع رفاقهم جنباً الى جنب، لهم ايمان راسخ بأن أقدارهم مرسومة بارادة الله، فمهما يكن لن تتغير، فاذا حان الاجل لن يتخلص منه أي مخلوق. ولهم قول مأثور رائع:
(إذا أراد الرب فلا مناص من الشهادة؛ فالشجاع يموت مرة واحدة، أما الجبان فيموت كل يوم مائة مرة) (1).
ويتحدث عن تشكيلات المجاهدين ودور المرأة في الجهاد فيقول: ( ..... وعلى الاغلب يكون هناك جمل واحد من نصيب كل عشرة مقاتلين، وعليه يحملون الخيمة التي يشتركون فيها، وترافقهم امرأتان من العشيرة تعملان على أعداد الخبز وخياطة الملابس، وتنظيف السلاح) (2)، ويتحدث عن اشتباك وقع بينهم وبين الايطاليين استمر لمدة تسع ساعات، حقق المجاهدون فيه نصراً عظيماً وكان من بين الجرحى مجاهدة اصيبت بقذيفة في صدرها رغم ذلك رفضت البقاء بالمستشفى وعادت الى الجبهة لتلهب معنويات المجاهدين (3).
ولقد تأثر أنور باشا بالمجاهدين وقال عنهم: مثال رائع وفريد للتفاني بدون قيد أو شرط (4). وقال: تلاشت ذكرياتي عن حياتي الماضية، وأصبحت في طي النسيان، وأشعر كأنني لم أعاشر احداً غير العرب، ولم أشاهد، مكاناً غير الصحراء، رغم مااقضيه من ايام محرومة من كل شيء فإن هذه الحياة تولد لدي احاسيس غريبة، هذه الحياة تتخلها حوادث تسعدني كسعادة الطفل في العيد (5).
ولقد اعترف انور باشا بتأثير احمد الشريف على سير الحرب ضد ايطاليا فقال: ( .... رسائله تشكل بصورة واضحة اهمية كبيرة بالنسبة لي كرمز للصداقة، ولأنه الشخص الوحيد الذي يتمتع بتأثير سلبي أو ايجابي في هذه الحرب .... ) (6).
_________
(1) انظر: مذكرات الضباط الأتراك، ص60،61.
(2) المصدر السابق نفسه، ص61.
(3) المصدر السابق نفسه، ص63.
(4) انظر: مذكرات الضباط الأتراك، ص75.
(5) المصدر السابق نفسه، ص77.
(6) المصدر السابق نفسه، ص81.(2/329)
ويتحدث بإعجاب عن شجاعة قبيلة الحسا وموقفها الصلب من الايطاليين فيقول: (استلمت اليوم الانباء الاولية من درنة، خسارة الايطاليين تفوق توقعاتي بلغت (800) قتيل وجريح، عثر الايطاليون على الجرحى الذين تخلينا عنهم والبالغ عددهم (21)، اكثريتهم من رجال قبيلة الحسا، من ابناء جبل برقة، فقد أرسل الايطاليون رسولاً ليبلغهم: الموافقة على اطلاق سراح الجرحى اذا تخلى ابناء حسا عن الاشتراك في القتال، وكان رد القبيلة كالآتي: إنكم أتيتم لتدمير بلادنا، سنبقى أمناء لاوامر الله والسلطان، اتحدنا لنحاربكم، اعتبرنا الاسرى موتى منذ فترة وبكيناهم، ولكن كل ذلك مضى، وسواء اطلقتم سراحهم أم لا فسنحاربكم حتى آخر رجل، نوصيكم بمعاملة الاسرى بالحسنى ولاتنسو مافي أيدينا من رجالكم. أشعر بالفخر لكوني قائداً لمثل هؤلاء الرجال، ولأنني أحارب معهم في صف واحد ... ) (1).
ويتحدث بفخر عن المجاهدين فيقول: (جنودي شجعان مستمرون في تأدية واجباتهم، هناك عائلة لم يبق من أفرادها غير الأب، قتل أولاده الاحد عشر، وصهره؛ عندما قدمت له التعازي قال لي: إنني فخور وسعيد؛ لأنهم قتلوا في المعركة من أجل الوطن والدين) (2) لقد تأثر الضباط الاتراك لما رأو من شجاعة اجدادنا، فهذا الضابط العثماني أمين بك الذي يبلغ من العمر ثلاثاً وعشرين عاماً يتحدث في رسائله الى زوجته عن مارآه في ليبيا نقتطف منها حديثه عن الشيخ لطيف بن طويلة فيقول: كان خطيبا بارعاً، ومجاهداً قتل أولاده في طبرق وذكر في رسائله بعض خطبه التي كان يلقيها على المجاهدين فبين أن الشيخ أكد بالحاح على ان الحرب ليست سياسية بقدر ماهي دينية، وفي هذه الحرب لاتجابه امم بعضها البعض وإنما هي أديان تجابه أدياناً، وأن العرب يجب ألا يدافعوا عن ارضهم فحسب، وإنما أيضاً عن عقيدتهم وتقاليدهم ... وأقسم على القتال حتى لايبقى في
_________
(1) انظر: مذكرات الضباط الاتراك، ص94.
(2) المصدر السابق نفسه، ص98.(2/330)
ليبيا أي ايطالي أو اوروبي وقال: (ياإلهي اننا نتعرض للغزو من جانب اهل الظلم والبغي فلنشرب كأس الانتقام ببطء حتى نطفئ غليل ظمئنا ... ) (1) ( ... أيها المسكين، أيها المسكين إنه لمن الأفضل لك أن تسكن خيمة ممزقة حيث يسود الايمان من أن تقطن قصراً تحرسه أسلحة الشيطان. إن حيل الشيطان ضعيفة هذا مايعلمنا أياه القرآن الكريم .... ) (2) ( ...
أنني أريد شهداء وليس جنوداً إن الخطر والموت في انتظارنا، إنني أريد مذنبين ولا اريد أولياء، فالرجل النقي نقاوة رمل البحر لن يكون محبوباً، وإذا ماكنتم مذنبين فلتذهبوا معي وتقاتلوا، ولتخلصوا أنفسكم من الذنوب، إننا ثوار ويجب ان نكون كذلك إذا ماقام العدو على العبث بما أوصانا الله به اننا ندين بالولاء لله وليس للدولة، ولاتقعدوا طويلاً مع القاعدين ولتأتوا اليّ إن الله سريع الحساب، واكرر قولي لكم إن عشرة من المؤمنين سيغلبون مائة من الكفار) (3).
وفي رسالة مؤرخة في 22 سبتمبر 1911م يتحدث امين بك عن اخبار طبرق وعن صديقه حبيب الذي اخبره كيف جرى اجتياح المواقع الايطالية وتخريب عدد من الرشاشات، وكيف أن حبيب حمل رشاشاً الى المعسكر العثماني ثم يمضي قائلاً: (ومما يؤسفني ان الشيخ لطيف بن طويلة وثلاثة من أبنائه المتمرسين في حمل السلاح قد لقوا الشهادة على مقربة من طبرق لقد فقدنا فيه واعظاً ميدانياً مامن احد كان يستطيع أن يتقاعس عن الحرب، عندما يسمع كلماته النارية، وحتى أولئك الذين اعيتهم الحرب، واريد ان ابلغك هنا احدى خطبه النارية الأخيرة التي حضرتها متخفياً بالزي العربي، وقد نقلتها بالكتابة المختزلة، وربما (ياغولدانا) نحتاج في يوم من الايام ان نثير حماس ابنائنا بمثل هذه الكلمات ... وقد تحدث الشيخ لطيف واعظاً وهو يلبس رداء الخطيب. ولقد كان مثل اسد تلحف بجلد جمل وقال: أيها المقاتلون في سبيل الرحمن الواحد الاحد لاتحتاجون الآن الى السلاح، واذا ما اعتقدتم انكم
_________
(1) انظر: الشهيد، العدد الخامس مركز دراسة جهاد الليبيين ضد الغزو الايطالي، ص196.
(2) انظر: الشهيد، العدد الخامس مركز دراسة جهاد الليبيين ضد الغزو الايطالي، ص196.
(3) المصدر السابق نفسه، ص196.(2/331)
تحققون الفتح فلتبقوا حيث انتم إن هذه الحرب ليست حربكم واذا ماكنتم تبغون طرد الايطاليين فقط فلتذهبوا الى بيوتكم إنما يتوجب عليكم هو طرد الشيطان ودولته من بلادنا، وأن تعيدوها الى رحمة الواحد القهار ... ولكن يجدر بكم ألا تتوقعوا ليالي ملاحاً وأياماً لطيفة، انكم الآن خدم عقيدتنا، انها نار حامية في النهار، ومسيرات طويلة في الليل، إنه الجوع والعطش، كل هذا ينتظركم، على أن المجد والشرف ينتظرانكم أيضاً. فلتودعوا خيمتكم، وإذا ماأراد الله فلن ترو ذويكم ثانية، .... ولاتخافوا شيئاً.
إن المعركة حسب مشيئة الله، انها ستغسل ذنوبكم بالدم، وإذا ماوضعت الشهادة يوم الحساب سينظر الى ماقمتم به من إعمال، عندئذ ستكون الجنة بانتظاركم، ... فلتأتوا معي باسم الله) (1).
يقول الضابط التركي امين بك: إن وقع صوت الشيخ في نهاية الخطبة كان مثل وقع البوق، لقد كانت عيون ألف من العرب (المجاهدين) تتوقد حماساً وهي تنظر إليه وقد وقفوا جميعاً في صف الجهاد (2).
يقول عن المجاهدين: إن جرأة هؤلاء الناس لا يعلى عليها، وأما دوافعهم الى الاستهانة بالموت فهي ذات أساس فلسفي: (أرغب أن أموت في الحرب شاباً على أن أموت على فراشي شيخاً فما من مجد في الموت الناجم عن مرض الشيخوخة) (3).
هكذا كان تأثر الضباط الاتراك بالمجاهدين الليبيين الذين حركتهم عقيدتهم، وحبهم لدينهم، وحرصهم على الشهادة في سبيل الله تعالى.
ولقد تفاعل العالم الاسلامي مع أخبار الانتصارات التي حققها المجاهدون، فأنشدوا القصائد الجميلة؛ فمنها قول الشاعر:
_________
(1) انظر: الشهيد، العدد الخامس، ص197،198.
(2) المصدر السابق نفسه، ص198.
(3) انظر: الشهيد، العدد الخامس مركز دراسة جهاد الليبيين ضد الغزو الايطالي، ص200.(2/332)
حيا الإله ببرقة الابطال
خذلوا العدو وأوسعوه نكالاً
أسد اذا دعت الوغى أبناءها
نفروا خفافاً للوغى وثقالاً
الناهضون المقعدون بعزمهم
الضاربون الهام والاوصالا
شوس إذا حمى الوطيس تدافعوا
باليأس حزماً والرماح طوالا
دولا السلام على السلام تحية
إن كان تأويل السلام نزالا
في أي دين أو كتاب منزل
فيه أتى قتل النفوس حلالا
والصلح خير تصلح الدنيا به
وبه عباد الله تنعم بالا
لم تقتصد (روما) بخطتها ولم
تترك لعقد الصلح ثم مجالا
وطغت وعاثت في البلاد بظلمها
ولكل حال اوجدت أشكالا
هل منصف والحق أبلج واضح
والعدل يملك للزمان عقالا
إن كان بالظلم اتساع ممالك
فالظلم يهدم كل ملك طالا
الى أن يقول:
من كل وضاح الجبين مجاهد
نور اليقين بوجهه يتلالا
عرب إذا دفعوا الجياد لغارة
هزوا العباب وخفخفوا الاوشالا
هذي طرابلس وفعل سيوفها
ضرب العدى لاتعرف الاقوالا
هرع الطموع لضمها جهلاً بها
هيهات قد طلب الطموع محالا
أبني طرابلس حفظتم ملككم
يوم النزالا وصغتم الأعمال
بيضتم وجه الحمى وملأتم
عين العباد مهابة وجلالا
الى أن يقول:
قد خلد التاريخ فعالكم
إن الزمان يخلد الافعال
من مبلغ عنا الانام جميعهم
ومخبر الايام والاجيالا
إن السلامة في سلامة موطن
نقف النفوس عليه والامولا
وإذا أراد الله بين عباده
اصلاح حال غير الاحوال(2/333)
ويقول:
(إيطاليا) عشقت فانحلها الهوى
والعشق يجعل من يحب خيالا
عشقت (طرابلساً) وكم من عاشق
يقضى عليه ولا ينال وصالا
جاءت باسطولا وخالت أنها
تجني به نفعاً فجر وبالا
جهلت وماعرفت بأن حروبها
جلبت عليها الحنق والإذلالا (1)
أما الشاعر حمزة الفقي الجهيني يقول:
يا أرض برقة عن رجالك خبري
ماذا جرى للظالم المتجبر؟
أخذوا بثارك أم رضوا بمذلة
عار على الشيخ (السنوسي) وأنور
قالت سلوا زرق الأسنة والضبا
ينبي المهند والقضيب السمهري
أسد إذا حمى الوطيس رايتهم
مابين مرتجز وبين مكبر
فكأنما الاعداء أعيان الفلا
صكت مسامعها بزأرة قسور
الى أن يقول:
ماذا رأيت من الحروب وشرها
ياجيش رومة لاتمن وخبر
حقاً ذهبت وقد رجعت بنكبة
وعلمت ماعقبى الظلوم المغتر
وبليت من عرب بكل سميدع
يسعى الهيجاء بنفس غضنفر
عصر التمدن أنت أم عصر الشقا
لا كنت يامنهوم بين الاعصر
صيرت موج البحر ناراً والهوى
وجعلت أهلك في لظى متسعر
ياأمة بالبغي أغضبت الورى
كفي عن المظلوم لاتتهوري (2)
_________
(1) انظر: برقة العربية، ص333،334.
(2) انظر: برقة العربية، ص341.(2/334)
ومما قال الاستاذ معروف الرصافي عن ملحمة الجهاد في ليبيا:
ويا أهل (بنغازي) سلام فقد قضت ... صوارمكم حق المواطن في الذب
حميتم حمى الاوطان بالموت دونها ... وذاك بما فيكم لهن من الحب
ومن مبلغ عنا (السنوسي) أنه ... يمد لهذا الصدع منه يد الرأب
فإنا لنرجوا أن يقود الى الوغى ... طلائع من خيل ومن ابل نجب
فيحمي بلاد المسلمين من الردى ... وينهض كشافاً لهم غمة الخطب
فإن حشا الاسلام أصبح دامياً ... الى الله يشكوا قلبه شدة الكرب
فقم أيها الشيخ (السنوسي) مدركاً ... جنود بني (عثمان) في الجبل الغرب
وكن أنت بين الجند قطب رحى الوغى ... وهل من رحى ألا تدور على قطب (1)
ثانياً: تفاعل العالم الاسلامي:
أبلى الشعب الليبي بلاءً حسناً في جهاده ضد القوات الايطالية الصليبية الغازية، وبدد أحلام القادة العسكريين السياسيين، الذين زعموا أن مدة الاحتلال لا تتجاوز خمسة عشر يوماً، وقد قدرها القائد السياسي الكبير البريطاني (كتشنر) بثلاثة اشهر، لقد طارت أخبار المعارك في بنغازي، وطرابلس، ودرنة الى العالم أجمع، ورأت حكومة الاتراك أن الشعب الليبي، جدير بالمساعدة وجاد في جهاده وكفاحه ضد العدو، ولذلك قامت بإرسال مجموعة من القادة العسكريين، ليجسوا النبض ويرسلوا التقارير، فوصلت بحوث ودراسات أنور باشا مع زملائه (بإيمانهم بأن هذا الشعب يعتمد عليه في الحروب، ورفعت التقارير الى الاستانة، فأخذت الامدادات ترد منها، وبدأت وفود المتطوعين من مصر والعالم الاسلامي تترى لمساعدة اخوانهم المسلمين في ليبيا، ووصلت البعثات الطبية من تركيا، ومصر، فقامت بدورها خير قيام، ومراسلين من الصحف الاسلامية والعالمية وكان الأمير عمر طوسون في مصر، ووالدة الخديوي (أم المحسنين) وخلفهم مسلمو مصر قد وقفوا بما يملكون
_________
(1) انظر: برقة العربية، ص330.(2/335)
لدعم الشعب الليبي مادياً ومعنوياً، ووصل الأمير شكيب ارسلان على رأس بعثة طبية كان عدد جمالها التي تحمل الاثقال من المؤن والأدوية 650 جملاً يصحبه خمس أشخص من أخص رجاله، قد تطوعوا للجهاد ببرقة وهم؛ شبلي عبد الصمد، عجاج عبد الصمد، عباس عبد الخالق، شاهين عبد الخالق، يوسف احمد فياض.
وقام أنور باشا باختيار مجموعات من الشباب الليبي وارسلهم الى استانبول لتعليمهم النظم السياسية والعسكرية الجديدة وقد احسن بما صنع، ليشرفوا على قيادة الجيش الوطني الذي نهض في إعداده وتدافع المجاهدون المسلمون من كل مكان الى ميدان القتال عن طيب خاطر، وجاد المسلمون الخيرون بأموالهم، وأعز ماملكت أيديهم، وفاضت قرائح الشعراء، وأقلام الكتاّب بما أوحته ضمائرهم، وقامت الصحف وفي طليعتها المؤيد الغراء بدورها وكانت حلقة الاتصال بين جهاد الليبيين والعالم الخارجي، وكانت المساعدات تأتي من العالم الاسلامي الى مصر الى اللجان المختصة والتي اشرف عليها علي يوسف، وعمر طوسون وترسل الى المجاهدين، وكانت والدة الخديوي (ام المحسنين) تنفق الاموال، والمؤن، والملابس، والأدوية، والقوافل المحملة للمجاهدين وعندما قابلت الوفد الذي استلم هذه الاشياء قالت: (انني لم أفعل شيئاً يذكر في جانب مايقوم به أولئك المجاهدون في سبيل الله والوطن وإنني قلقة لأنني لم أسمع منذ أيام خبراً عن ميدان القتال) (1)، وكانت المساعدات تأتي من أهل الشام، الى بلاد مصر ثم تدخل الى ليبيا، وكان الليبيون الذين هاجروا الى مصر من عشرات السنين قد وقفوا وقفة رجل واحد بالمال (2) والرجال، وكان أحمد الباسل من وجهاء مصر سنداً قوياً لحركة الجهاد في ليبيا قد كتب للسيد السنوسي الأشهب رداً على رسالة وصلت إليه: (إني وما أملك تحت تصرفكم ولمساعدتكم وإنكم قمتم بما يرفع شأن العروبة في جميع أنحاء الدنيا، وإنكم لن تغلبوا وفيكم الغازي العظيم سيد مجاهدي القرن الرابع عشر السيد احمد
_________
(1) انظر: برقة العربية، ص348.
(2) نفس المصدر السابق، ص348 وتجد تفصيلاً عن المساعدات.(2/336)
الشريف؛ فقفوا موقف البطولة لان العالم العربي يتطلع لاعمالكم ويرقبها على البعد .... ).
لقد كانت قبائل الفوائد، والجوازي في مصر نعم العون لحركة الجهاد في برقة.
وتفاعل العالم الاسلامي جله، فقد اجتمع أعيان ووجهاء وشباب مسلموا الجزيرة موريس الواقعة شرق مدغشقر، ورفعوا احتجاجهم الى نظارة الخارجية البريطانية ضد الاعتداء الايطالي على طرابلس الغرب (ليبيا) ونضموا مظاهرة عظيمة ثم ارسلوا الى رئيس اللجنة العليا بخمسة عشر ألف روبية لمساعدة المجاهدين، وفي يوم 20 ذي الحجة سنة 1320هـ دعا جلالة ملك أفغانستان، حبيب الله خان جميع وجوه ممكلته ورجال حكومته وأعيانها وتجارها دعاهم لإجتماع عظيم وعرض عليهم القضية الطرابلسية ومايعانيه المسلمون في طرابلس الغرب من الظلم والعدوان ودعاهم الى الانفاق لجمع أموال لهم وفتح كتاب اسماه كتاب (إغاثة يتامى وشهداء ومجروحي مجاهدي طرابلس الغرب) وقال لهم افتحوا كيس همتكم وبلوا قلوبكم بماء الشفقة الاخوية اعينوا يتامى وآيامى أولئك المجاهدين الذين جادوا بأرواحهم لاجل حفظ وطنهم وشرف ملتهم اعينوهم على الأقل بلفائف يشدون بها جروحهم لا تنظرون الى قلة ماتعطونه من المال وكثرته، اعطوا ماتتمكنون من إعطائه واثبتوا أسماءكم هذا الكتاب إن الله لايضيع أجر من أحسن عملا) وقد تبرع سيادته بمبلغ عشرين إلف روبية، وكان يقول وكله حماس الا ليتني قريب منهم أمدهم بالفعل لا بالقول، ألا ليتني طائر أطير لمساعدة أخواني المسلمين (1)، ومن بين المتبرعين مسلمي أندونسيا، ومسلمي الهند، وحاكم قطر الشيخ قاسم محمد فقد تبرع للمجاهدين بعشرين ألف روبية، وأهل البحرين، وجاء الى ميدان القتال كل من محمد حلمي، وعبد المعطي صالح ضابط مصري، عارف بك والي البصرة سابقاً، نشأت بك أحد كبار رجالات تركيا المشهورين، محمد طاهر أفندي مصري، وغيرهم كثير (2).
_________
(1) انظر: مجلة المنار، ج12 م2، ص940 الى 943 لمحمد رشيد.
(2) انظر: برقة العربية، ص249.(2/337)
وقد حفظ لنا التاريخ اسماء كثيرة ساهمت في دعم حركة الجهاد من تونس، وتشاد، والنيجر، ومالي، والسودان، ومصر، والجزائر، والشام، وتركيا وغيرها ويمكن الرجوع الى المقال الذي كتبه محمد الاسطى بعنوان صدى حركة الجهاد الليبي في العالم الاسلامي وهو من منشورات مركز دراسة جهاد الليبيين ضد الغزو الايطالي فيه معلومات جيدة عن اسماء من ساهم في الدعم الجهادي (1).
إن الذين كتبوا عن الجهاد وقالوا بأن الليبيين جاهدوا الايطاليين وحدهم دون أن يتلقوا أية عون او مساعدة، افتروا على الواقع الذي حدث وزيفوا الحقائق وهضموا حقوق اخوانهم، فهذا الجنرال الايطالي غرسياني يعترف بذلك ويقول إن مساعدة مصر للمجاهدين اجبرته على أن يأخذ الاحتياطات اللازمة في مراقبة الحدود الشرقية (2).
ثالثاً: معاهدة أوشي وانسحاب الاتراك:
واجهت القوات الايطالية في ليبيا مقاومة عنيفة، والتحم المجاهدون بالأتراك، وشكلوا قوة عسكرية ضاربة، وأدركت إيطاليا عجزها عن اتمام احتلال بقية الولاية، ولذلك قررت أن تهاجم الدولة العثمانية في مراكزها الضعيفة، وتوجهت لهذا السبب نحو الجزر الاثنى عشر التي كانت تؤلف الولاية المعروفة باسم (مجموعة جزر بحر إيجة -الدردنيل-)، ففي الثامن عشر من جمادى الاولى سنة 1330هـ الموافق 4 مايو سنة 1912م، قامت اساطيل ايطاليا بإحتلال الجزر، ثم قامت بتهديد مدخل الدردنيل، وقصفت ميناء بيروت على ساحل الشام وكأنها بذلك تدعو الى توسيع رقعة الحرب، وهذا ماأثار الدول الأوروبية خاصة بريطانيا العظمى صاحبة الإشراف المباشر على الحركة البحرية المتوجهة الى البحر الأسود وقناة السويس (3).
وقد أقامت ايطاليا ادارة لهذه الجزر، وأصدرت بها طوابع بريد ايطالية، واستبدلت بالبحارة الذين قاموا بعملية الاحتلال حاميات ايطالية من الجنود وحملة
_________
(1) انظر: الشهيد، العدد الخامس، 1984م، منشورات مركز دراسة جهاد الليبيين الايطالين ص103.
(2) انظر: برقة العربية، ص230.
(3) انظر: حروب البلقان، ص80.(2/338)
البنادق الصغيرة، كما استبدلت الأعلام العثمانية أعلاماً إيطالية، حينذاك سارعت الحكومة العثمانية الى إجراء بعض التحصينات لسواحل آسيا الصغرى خوفاً من هجوم ايطالي جديد على تلك السواحل (1).
في هذه الفترة الحرجة من تاريخ الدولة العثمانية استقالت وزارة الاتحاديين في أواخر شهر رجب 1330هـ، المصادف لشهر يوليو 1912م لتتولى الحكم وزارة أطلق عليها اسم (الوزارة الكبرى) وقد ألفها احمد مختار باشا الغازي (2)، وقد استلمت هذه الوزارة الحكم في وقت كانت الحالة السياسية في الدولة العثمانية قد بلغت من الحرج حداً لايمكن لهذه الوزارة أن تخرج منه دون تضحية كبيرة عليها، وهو ما تحقق في معاهدة الصلح مع إيطاليا بعد ذلك ببضعة أشهر حاولت الوزارة الاتحادية التي كان يرأسها سعيد باشا أن تفتح أبواب المفاوضات مع إيطاليا عن طريق بعض الدول الأوروبية، وقد لعب بعض رجال الأعمال اليهود المؤيدين لجمعية الاتحاد والترقي دوراً بارزاً في بدء هذه المفاوضات (3)، وكانت محاولات الصلح تجري في طي الكتمان، بينما تعلن الحكومة شديد تمسكها بوحدة الدولة العثمانية وعدم التفريط في ولاية طرابلس وبنغازي.
ولقد بين وزير خارجية بريطانيا لسفير دولته في الاستانة مدى معارضة الحكومة الايطالية للمقترحات التي طرحها وزير الخارجية العثماني في حكومة الاتحاديين، واقترح الوزير البريطاني بدوره مشروع سلام، يحول دون إراقة ماء الوجه للسياسة التركية كما قال، ويتلخص مشروعه هذا في أن تعترف الدولة العثمانية بسيادة إيطاليا على الأمور المدنية مقابل إعتراف إيطاليا بالسيادة الروحية للسلطان، والسماح للمسلمين بممارسة عباداتهم الدينية بحرية تامة، والبقاء على قوانينهم وعاداتهم، وعلى أن تدفع إيطاليا مبالغ سنوية عن طريق شيخ الاسلام اعترافاً بالخلافة الروحية (4).
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص80.
(2) المصدر السابق نفسه، ص81.
(3) جريدة القطم عدد 6975 في 19 ربيع الأول عام 1330هـ.
(4) انظر: حروب البلقان، ص82.(2/339)
وقد حاولت كل من حكومة النمسا - المجر، والحكومة الفرنسية أن تقوما بدور الوساطة لإيقاف الحرب بين كل من الدولة العثمانية وإيطاليا، غير أن مساعيهما لم تلق نجاحاً يذكر في كلا الدولتين (1)، وأمام الازمات الخانقة التي تمر بها الدولة العثمانية رأت حكومة مختار باشا الغازي أن تصل بالمفاوضات مع إيطاليا الى نتيجة حاسمة، فأوفدت وزير الزراعة العثماني وزودته بصلاحيات واسعة وقد وصل المسؤول العثماني الى لوزان في 16 شوال سنة 1330هـ الموافق 27 سبتمبر 1912م، ومع وصوله أخذت المباحثات تدخل في دور حاسم ويتفق الطرفان على الخطوط العريضة لتوقيع الصلح بينهما (2).
كانت العقبة التي لاتلتقي فيها آراء الطرفين المتفاوضين هي الاعتراف العثماني بإلحاق طرابلس بإيطاليا، وانتقال جزر الدوديكانيز الى إيطاليا، فالعثمانيون لا يستطيعون الإعلان صراحة عن إلحاق طرابلس بإيطاليا لأن ذلك يؤثر على مكانتهم في العالم الاسلامي والعربي، أما جزر الدوديكانيز أمراً عسيراُ، إلا أن نذر الحرب في البلقان جعل الدولة العثمانية تعقد هدنة للحرب الدائرة في طرابلس (3)، وتتبعها بعقد معاهدة الصلح المعروفة بمعاهدة لوزان
-أوشي- مع إيطاليا والتي منحت الدولة بموجبها الاستقلال لولايتي طرابلس وبنغازي، ومن ثم أبدت استعدادها لسحب قواتها من هناك.
لقد تم توقيع معاهدة الصلح بين الدولة العثمانية، والحكومة الايطالية في 8 ذي القعدة 1330هـ الموافق 18 أكتوبر 1912م، وحررت موارده الإحدى عشرة في لوزان - سويسرا ووقعه عن الدولة العثمانية كل من: محمد نابي بك، ورومبيوغلو فخر الدين، وعن الحكومة الايطالية كل من: لبترو بروتوليني، وقويدو فوزيناتو، وجوسبي فولبي (4).
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص82.
(2) انظر: جهاد طرابلس الغرب، ص98،99.
(3) انظر: جريدة المقتبس، عدد 1014، 5 ذو القعدة 1330هـ.
(4) انظر: حرب البلقان، ص86.(2/340)
ومن المفيد هنا أن نشير بصورة موجزة الى مضمون مواد المعاهدة كما وردت في النسخة الاصلية المحفوظة في الأرشيف العثماني في استانبول تحت رقم 335:
المادة الأولى: تعهدت الحكومتان فيها بإيقاف حالة الحرب بينهما وإرسال مفوضين من الجانبين لتنفيذ ذلك حال توقيع هذه المعاهدة.
المادة الثانية: تعهدت الحكومتان بإصدار أمر بسحب القوات الحربية والضباط من جبهات القتال، فالدولة العثمانية تسحب قواتها من طرابلس وبرقة، والحكومة الايطالية تسحب قواتها من الجزر التي احتلتها في بحر إيجة.
المادة الثالثة: يتم تبادل أسرى الحرب بين الدولتين في أسرع وقت ممكن.
المادة الرابعة: تتعهد الحكومتان بمنح عفو شامل لكل من ساهم بأعمال عدائية أو حامت حوله الشبهات أثناء الحرب لصالح أيا من الدولتين.
المادة الخامسة: إلتزام الحكومتين بجميع المعاهدات والاتفاقات التي كانت بينهما قبل الحرب، والعودة بعلاقاتهما الى وضعها السابق.
المادة السادسة: تلتزم حكومة ايطاليا بما تفرضه الدولة العثمانية من زيادة في الجمارك، وما تقيمه من امتيازات في اطار القانون التجاري الذي تلتزم به جميع الدول الاوروبية تجاه الدولة العثمانية.
المادة السابعة: تتعهد الحكومة الايطالية بإلغاء مكاتب البريد الايطالية في الدولة العثمانية، إذا علمت الدول الأوروبية ذلك.
المادة الثامنة: تؤيد الحكومة الايطالية الدولة العثمانية في مطالبتها إلغاء نظام الامتيازات واستبداله بنظام القانون الدولي.
المادة التاسعة: استعداد الدولة العثمانية باعادة الموظفين الايطاليين الذين يعملون في الدولة وفصلوا من عملهم أثناء الحرب، على أن تدفع لهم رواتب الفترة التي أوقفوا فيها عن العمل.
المادة العاشرة: تتعهد الحكومة الايطالية بدفع قسط سنوي للدولة العثمانية يعادل المبلغ المستوجب عن إيرادات الولايتين -طرابلس الغرب وبنغازي- لكل سنة(2/341)
من السنوات الثلاثة التي سبقت الحرب، والذي لايقل عن 2 مليون ليرة إيطالية لكل سنة.
المادة الحادية عشرة: تدخل هذه المعاهدة حيز التنفيذ وسريان المفعول في نفس يوم توقيعها، واثباتاً لذلك وقع المفوضون ذوو الصلاحية المطلقة هذه الاتفاقية، وختموها بأختامهم (1).
وقد ألحقت بالمعاهدة الرسمية المشار إليها بعاليه أربعة ملاحق اعتبرها الموقعون على المعاهدة جزءاً مكملاً لها وأهم هذه الملاحق هو المنشور الموقع من السلطان العثماني والذي تم بموجبه منح الاستقلال الاداري التام لولايتي طرابلس وبنغازي (2)، على أن تدار بقوانين جديدة من قبل الأهالي الذين يجب أن يساهموا بتقديم الوصايا والارشادات، وأنه سيعين نائباً للسلطان لمدة خمس سنوات للمحافظة على المنافع العثمانية، كما يعين قاضي للولايتين من قبل السلطان ليقوم بتنفيذ أحكام الشرع الشريف على أن يعين هذا القاضي بدوره ومن العلماء المحليين نواباً شرعيين له وفقاً للأحكام الشرعية، وتدفع الدولة العثماينة راتب القاضي من خزينتها أما رواتب نائب السلطان والموظفين الشرعيين غير القاضي فتصرف رواتبهم من مداخيل الولاية المحلية (3).
كما أن الملحق الثاني لايقل عن الملحق الأول أهمية، لأنه عبارة عن منشور من ملك إيطاليا على غرار منشور السلطان العثماني، إلا أنه يؤكد فيه خضوع ولايتي طرابلس وبنغازي لايطاليا، وفيه منح ملك إيطاليا العفو العام لمن ساهم في الحرب الى جانب جيوش الدولة العثمانية من أهل الولايتين، وترك لهم الحرية بإقامة شعائرهم الدينية وذكر اسم السلطان العثماني في خطبة الصلوات باعتباره خليفة المسلمين، وذكر أن هناك لجنة سيتم تشكيلها تضم في عضويتها بعض الأهالي تقوم بوضع الأنظمة المدنية والادارية على النمط الايطالي (4).
_________
(1) انظر: حروب البلقان، ص87.
(2) انظر: الطريق الى لوزان، محمد الوافي، ص213،214.
(3) انظر: حروب البلقان، ص89.
(4) انظر: ميلاد دولة ليبيا، محمد فؤاد، ص435،436.(2/342)
إن موافقة الدولة العثمانية على عقد معاهدة الصلح مع إيطاليا على تلك الصورة السالفة الذكر دليل قاطع على أن الدولة العثمانية كانت تعيش أسوأ مراحل تاريخها، وأن الأزمات العنيفة كانت تهدد كيانها (1)، وهو ماعبر عنه السفير البريطاني في الاستانة الذي اعتبر شروط الصلح التي تم التوصل إليها بين الدولة العثمانية وإيطاليا من (أفضل مايمكن أن تحصل عليه الحكومة العثمانية في ظل الظروف القائمة) (2) وصدر الأمر من الاستانة الى القائد العام التركي انور بك بأن يغادر برقة فوقع هذا النبأ على نفس أنور وقوع الصاعقة وتوجه الى الجغبوب لمقابلة أحمد الشريف السنوسي والتفاهم معه.
كان موقف احمد الشريف واضحاً قبل توقيع الصلح بين إيطاليا وتركيا، فقد بعث الى أنور باشا في درنة يذكر فيه ماوصله من أن الدولة تعتزم إعطاء ليبيا الى إيطاليا فقد جاء في رسالته: (نحن والصلح على طرفي نقيض، ولا نقبل صلحاً بوجه من الوجوه) (3) إذا كان ثمن الصلح تسليم البلاد الى العدو، وزيادة على ذلك فقد حذره مما سوف يحدثه قبول الصلح في نفوس المسلمين في جميع الاقطار من نفور شديد من الدولة العثمانية وحمل الكتاب أربعون شخصاً من كبار السنوسية المجاهديين الى القائد العثماني (4).
استقبل احمد الشريف أنور بك بسيارته وكانت هذه أول سيارة تدخل صحراء برقة، وقوبل بحفاوة بالغة، وأقام في ضيافة السيد أحمد ثلاثة أيام، وابلغ أنور مضيفه أوامر السلطان وأدلى إليه بتوجيهاته (إسناد أمر الأمة الطرابلسية الى سيادته وإخباره بأن السلطان قد منح الأمة الطرابلسية استقلالها تاركاً لها الحق في أن تقرر مصيرها وتدافع عن نفسها) (5).
_________
(1) انظر: حروب البلقان، ص89.
(2) انظر: الحملة الايطالية على ليبيا، محمود حسن، ص166.
(3) انظر: السنوسية دين ودولة، ص142.
(4) المصدر السابق نفسه، ص142.
(5) المصدر السابق نفسه، ص146.(2/343)
وفي هذا اللقاء تم التصديق بين الرجلين على تأسيس الحكومة السنوسية لتسد الفراغ الذي ترتب على انسحاب تركيا من ولاية طرابلس وملحقاتها (1)، ولم يطلب أحمد الشريف من أنور بك غير شيء واحد وهو مساعدته بالاسلحة والعتاد الحربي (2) ولم يكن المجاهدون في برقة وحدهم الذين قررواالمضي في القتال ورفض الصلح مع إيطاليا على أساس غير الجلاء من بلادهم، فقد أرسل سليمان الباروني برقية الى مجلس النواب العثماني يعارض فيها باسمه وباسم المجاهدين عقد أي صلح مع ايطاليا لايكفل انسحابها الكلي من أراضي ليبيا العزيزة (3).
أنسحب أنور باشا الى بلاده واستطاع أن يحقق انتصارات للحكومة التركية وللأسف الشديد استطاعت الصهيونية العالمية، والمحافل الماسونية أن تستخدم هذا الرجل في إفساد الخلافة وإسقاط الخليفة السلطان عبد الحميد الثاني ولم ينتبه إنه إلعوبة في يد أعداء الاسلام إلا بعد أن سبق السيف العذل وقد مدح صاحب كتاب الفوائد الجلية، وصاحب كتاب برقة العربية أنور باشا كثيراً.
لقد اعترف أنور باشا بأنه استغل من قبل أعداء دينه، وأمته وشعبه ووطنه، ولم يكن يدري لقد قال بعد فوات الأوان! إن مصيبتنا قمنا بالانقلاب ونحن آلة في يد الصهيونية ولم نكن ندري كنا أغبياء (4).
إنها لعبرة للضباط والزعماء الذين يريدون خدمة شعوبهم الاسلامية ان يعرفوا اين يضعوا أقدامهم؟ وبمن يثقون؟ وكيف يتصرفون؟ حتى لايندموا حين لاينفع الندم.
رابعاً: نزول أحمد الشريف الى ساحات الوغى:
جمع أنور باشا بعد رجوعه الى الجغبوب الضباط العثمانيين وأبلغهم حقيقة الأمر وسرهم بأن السيد أحمد سيحل بينهم في القريب العاجل ثم غادر أنور درنة
_________
(1) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص42.
(2) المصدر السابق نفسه، ص41،42.
(3) انظر: السنوسية دين ودولة، ص142.
(4) انظر: السلطان عبد الحميد الثاني لمحمد حرب، ص6.(2/344)
متوجهاً بسيارته الى السلوم، ومنها الى الاسكندرية متنكراً ووصل الى الاستانة للمشاركة في حرب البلقان (1).
توجه عزيز المصري الذي تم تعينه قائداً للجيش أخيراً الى الجغبوب لاستصدار مايلزم من صاحب القيادة الشرعية، فأكرم احمد الشريف وفادته وأمره بالرجوع فوراً الى الميدان الجهادي، وكتب الى رؤساء الزوايا وشيوخ القبائل وضباط الجيش، يأمرهم بامتثال أوامر وكيله القائد الجديد عزيز المصري، وترك أحمد الشريف الجغبوب متجهاً نحو مدينة درنة، ووصل الى موضع يدعى (الظهر الاحمر) يقع جنوبها، فاستقبل استقبالاً عظيماً، وبعد استقابله للشيوخ والزعماء طلب منهم أن يعودوا الى معسكراتهم ثم أصبح بين المجاهدين، وبذل كل جهوده لتنظيم حركة الجهاد أثر الانسحاب العثماني، وكتب منشوراً الى مشايخ الزوايا والقبائل يعلن فيه استمرارية ومواصلة الجهاد، وطلب من كل مسلم من سن الرابعة عشر حتى الخامسة والستين أن يذهب الى ميدان الجهاد مزوداً بمؤونته وسلاحه (2) وقام بتفقد المعسكرات، وأبدى نصائحه وآراءه حول الاستعداد لمواصلة الجهاد بدون الاتراك وأصدر أوامره التنظيمية للمعسكرات والمجاهدين.
عزم الايطاليون على سحق قوات احمد الشريف، فدبروا تنظيم حملة قوية قوامها خمسة آلاف جندي مسلح، تسليحاً حديثاً لضرب معسكري المجاهدين في سيدي عزيز، وسيدي القرباع على ضفتي وادي درنة. وفي اليوم السادس عشر من مايو سنة 1913م أي في نفس اليوم الذي وصل فيه احمد الشريف الى منطقة الظهر الاحمر جرت معركة مهولة عرفت باسم سيدي القرباع، واشتهرت باسم (يوم الجمعة). وقد تمكن المجاهدون بفضل الله من تحقيق الانتصار الحاسم في تلك المعركة وقد أصيب الكثير من ضباط القوات الإيطالية بالجنون وجيء على تلك القوة باجمعها فكسى أديم الأرض بأشلاء الموتى، والجرحى والعتاد المبعثر هنا وهناك،
_________
(1) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص42.
(2) انظر: صفحات مجهولة من تاريخ لييا، جامعة الكويت، الحولية الأولى، محمد عبسى صالحية، ص7.(2/345)
وكانت أول معركة يخوضها أحمد الشريف (1)، وكان لهذا الانتصار العظيم أثره في جذب الناس الى حركة الجهاد وانتسابهم للأدوار (2).
خامساً: الجولة التفتيشية في الجبل الأخضر:
وبعد أن اجتمع برؤساء الزوايا وشيوخ القبائل شرع أحمد الشريف في جولات تفتيشية ابتدأت من العزيات وانتهت بجدابية، فمر بجميع معسكرات الجبل الأخضر، وفتشها واطلع على سير الأمور فيها، ورتب أمور الضباط، ونظم المجالس الاستشارية بالمعسكرات، ووقعت معارك بين الطليان والمجاهدين أثناء مروره بدواخل البلاد، فاشترك في الكثير منها، وقد لقي في هذه الجولة من الاتعاب والمشاق والسهر وقد أمضه الجوع، وأضناه العطش في كثير من الايام وكان لايبالي بما يلاقيه ولاينظر الى التعب إلا بعين الازدراء مادام ينظر الى ماعند الله من الثواب والجزاء وقد وصفه الكثير من رفاقه بأنه في تلك الحالة كان باسم الثغر، مبتهج الخاطر، مرتاح الضمير، ساطع المحيا، صبيح المنظر، لايركن للراحة، ولايفكر في رغد العيش (3).
يقول شكيب ارسلان عن احمد الشريف: ( .... اشتهر أثناء الحرب الطرابلسية وقام فيها المقام المحمود الذي لم يقمه أحد، ولولاه لم يكن انور، ولا غيره من ابطال الدفاع عن بر طرابلس أن يعملوا شيئاً .... ) (4).
( .. وقد لحظت منه صبراً قل أن يوجد في غيره من الرجال وعزماً شديداً تلوح سيماؤه على وجهه .. وقد بلغني أنه كان في حرب طرابلس يشهد كثيراً من الوقائع بنفسه ولا يقتدي بالأمراء، وقواد الجيوش الذين يتأخرون عن ميدان الحرب مسافة كافية، أن لاتصل إليهم يد العدو فيما لو وقعت هزيمة، وفي احدى المرات، أوشك أن يقع في أيدي الطليان، وشاع أنهم أخذوه أسيراً، وقد سالته عن تلك
_________
(1) انظر: الفوائد الجلية (2/ 26).
(2) المصدر السابق نفسه (2/ 30،31).
(3) انظر: برقة العربية، ص270.
(4) انظر: حاضر العالم الاسلامي (2/ 144).(2/346)
الواقعة فحكى لي خبرها بتفاصيله؛ وهو أنه كان ببرقة فبلغ الطليان بواسطة الجواسيس أن السيد في قلة من المجاهدين، وغير بعيد عن جيش الطليان، فسرحوا إليه قوة عدة آلاف ومعها سيارة كهربائية، إذ كان اعتقادهم أنه لايفلت من ايديهم تلك المرة؛ فبلغه خبر زحفهم، وكان يمكنه أن يخيم عن اللقاء أو أن يتحرف بنفسه الى جهة يكون فيها بمنجاة من الخطر، أو يترك الحرب للمجاهدين فلم يفعل. وقال لي: (خفت انني ان طلبت النجاة بنفسي، أصاب المجاهدين الوهل، فدارت عليهم الدائرة، فثبت للطليان وهم بضعة آلاف بثلثمائة مقاتل لاغير واستمات العرب، وصدموا العدو، فلما رأى هؤلاء وفرة من وقع من القتلى والجرحى، ارتدوا على اعقابهم؛ وخلصنا نحن الى جهة وافتنا فيها جموع المجاهدين) وقال لي: (وفي هذه الوقعة جرح الضابط نجيب الحوراني، الذي كان من أشجع أبطال الحرب الطرابلسية، كان قائداً شجاعاً ولكنه كان يغامر بنفسه في كل وقعة، فجرح مرتين واستشهد في الثالثة رحمه الله) (1)
لقد كان في جولاته يشارك الناس في شرابهم وأكلهم، ويصلي معهم، ويجاهد بنفسه بينهم، فقد كان قمة في الصبر والحلم والتواضع والبساطة، والشجاعة، والاقدام، ولايعرف الخوف إلا من الله وحده سبحانه وتعالى، فقد قوى الله به عزم المجاهدين، وشحذ به هممهم، ووحد به صفهم وكلمتهم في برقة كلها، ومن الأشعار التي قيلت بمناسبة نزوله الى ساحات النزال ماقاله حمزة الفقي الجهيني من قصيدة طويلة:
ياليث (جغبوب) أتيت ببرقة ... والأم ثكلى والدموع هوامي
والاسد في كنف الهلال يظلها ... يابن البواسل والجروح دوامي
قد عودت أن لاتضام فخاطرت ... والعرب لاترضى سوى الاقدام
والخيل تصهل والوجوه عوابس ... والطير غرثى والسيوف ضوامي
قل للصوص تشتتوا فأنا الذي ... أحمى الذمار بهمتي وحسامي (2)
_________
(1) انظر: حاضر العالم الاسلامي (2/ 160،161) ..
(2) انظر: برقة العربية، ص342.(2/347)
وقد قال أيضاً في قصيدة أخرى:
ولي نفس إذا مارمت أمراً ... تحمّل جسمها ياقوم مالا
فقالوا ماوهبت فقلت روحي ... وقالوا مابذلت فقلت مالا
ولي قلب (ببرقة) مشتهاه ... يميل مع (السنوسي) حيث مالا
ولي الله مقدام تقي ... إذا ماجئته شمت الجلال (1)
وقد وصف الشاعر الليبي الاستاذ حسين بن محمد الحلافي أعمال احمد الشريف في الجهاد في قصيدة عصماء قال فيها:
فتاريخ السنوسي الدهر باق ... على رغم الخطوب المبليات
غداة احتل جيش الظلم (ليبيا) ... بنسافاته ومدمرات
فصير بحرها الاسطول ناراً ... واحرق برها بمفرقعات
وزلزل أرضها بدوي تنك ... وأزعج جوها بالطائرات
فعاف العيش في ترف وعز ... بعيد عن ضروب المهلكات
ببيت أبدع الصناع فيه ... تحوط به الحدائق باسقات
ينعم فيه بين اخ وابن ... وبين أفاضل كالنيرات
وغادر (تاجه) وسعى إليها ... وناد معلناً بين الكلمات (2)
أجيبوا داعي الله استعدوا ... بني قومي الى حرب الطغاة
دعى فأجابه جم غفير ... وهل حرب تكون بلا دعاة
فضل حياته يسعى ويدعو ... لتوحيد الشعوب على العداة
فكم ليل تطاول لم ينمه ... ولم يعمل به غير الصلاة
وكم يوم طواه بغير زاد ... قضاه على ظهور الصافنات
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص342.
(2) التاج اسم زاوية الكفرة.(2/348)
بمعمعة يشيب الطفل منها ... يضيق لهولها صدر الفلاة
فلم تنظر اذا حققت إلا ... (مدافع) كالصواعق داويات
قنابلها تدك الأرض دكاً ... وتقتلع الجبال الشاهقات
فاخض الارض أموات وجرحى ... ووارى الشمس تصنع العاديات
وكم يوم (ببرقة) مثل هذا ... تسطره تواريخ الثقاة (1)
لقد طاف احمد الشريف بين المدن والقبائل يحض الناس على الجهاد وحمل السلاح ضد الغزاة، وحضر بنفسه في المعارك، ونبه المجاهدين الى ضرورة اعتماد حرب العصابات القائمة على الكر والفر وأكد لهم صعوبة اعتماد الخطط السابقة التي كان الاتراك يعتمدونها خلال المراحل الأولى (2).
سادساً: مجلس شورى أحمد الشريف:
انتخب احمد الشريف -رحمه الله تعالى- بعض اعيان الحركة السنوسية ممن اشتهروا بنفاذ الرأي، وجودة العقل، وحسن الخلق، وقوة التدين، والمكانة العالية بين الناس، لرفقته وليكونوا معه في رحلاته لاستشارتهم في الامور الهامة وكان منهم كل من الشيوخ الآتي اسمائهم؛ محمد علي بن عبد المولى، ومحمد الدرقي، ومحمد بن عمور، احمد بن ادريس الأشهب، ومرتضى فركاش (3).
مساعي ايطاليا لاغراء احمد الشريف:
اراد عزيز مصري أن يضعف الصف الجهادي ضد ايطاليا، فسولت له نفسه أن يذهب الى أحمد الشريف ويصور له استحالة المقاومة وضررها، ونفاذ الميرة والذخيرة والأموال واقترح عليه الصلح مع إيطاليا .... وسوف تدفع له لندرة، وروما، وباريس مبلغاً يليق بمقامه وشرفه، وكرامته، وأن تكف فرنسا عن محاربته في الصحراء
_________
(1) انظر: برقة العربية، ص271.
(2) انظر: تاريخ ليبيا المعاصر، ص91.
(3) انظر: الفوائد الجلية (2/ 29 الى 35).(2/349)
والسودان وكان عزيز المصري طلب من أحمد الشريف أن يتنازل عن قطعة الأرض الواقعة بين (بومبا) والجغبوب وبين الحدود المصرية وترك بقية برقة للطليان، فقال له احمد الشريف: أسمع ياولدي إني كنت أقبل عن طيب خاطر التنازل عن القطعة المذكورة وضمها الى مصر لو كانت حكومة اسلامية حرة أتركها وأنتقل أنا ورجالي الى الغرب لمحاربة الطليان على بقية برقة حتى أزيل ظلهم الثقيل عنها دفاعاً عن بقية الاسلام أما ومصر في قبضة انكلترا فلا معنى لهذا العمل وإني سأقاوم حتى النهاية (1).
ولقد اطلع المؤرخ محمد الطيب الأشهب على وثيقة تاريخية موقعة من احمد الشريف بعث بها الى أنور باشا الذي أصبح وزير الحربية التركية، بتاريخ 29 صفر 1335هـ عند ابراهيم بن احمد الشريف وكان فيها: (أتى الطليان للوطن وراسلني وأرسل إليّ الاموال الهائلة فرجعتها كلها تعففاً وطلباً لرضاء الله ورسوله وقمت بمعاضدة الدولة العلية ولله الحمد وأمرت كافة أهل الوطن وقمت بجهدي ثم بعد ذلك قدمت بنفسي للجهاد) (2).
حاولت إيطاليا أن تضغط على أحمد الشريف بواسطة الخديوي عباس باشا بعد أن فشلت جميع وفودها التي كانت تتوافد على المجاهد احمد الشريف وتعرض عليه، أن تضمن له إمارة هو أميرها، تحت حمايتها او انتدابها وتكون له منطقة نفوذ تحت سلطانه، وتحتفظ هي بالموانئ والثغور الساحلية، فضرب بقولها عرض الحائط وقال: (أنني أقسم أمام جميع المجاهدين على هذا المصحف والبخاري إني لن أنفك أذود عن حياض الاسلام ومجاهدة أعدائه الى النفس الأخير مادام معي نفر واحد من المجاهدين وإذا خانني الجميع وسلموا للعدوا أهاجر الى المدينة لأعيش بجوار جدي الاعلى شاكياً الى الله من خيانة الخونة مستنزلاً لعنته عليهم الى يوم الدين) (3).
وقال: (إنني لا أتفاوض مع ايطاليا في بلادي ولا اتفق معها على تنازلي عن
_________
(1) انظر: برقة العربية، ص305.
(2) المصدر السابق نفسه، ص305.
(3) المصدر السابق نفسه، ص305.(2/350)
شبر واحد من البلاد ولا أحيد عن أحد أمرين إما تحرير الوطن وإما الموت في سبيل ذلك) (1).
وقال: (إنني أعاهد الله على أن لا أتساهل مع ايطاليا في حق من حقوق أهل البلاد ولا أتنازل عن مقدار حافر حصاني) (2).
وكان جوابه للوفد الذي أرسله الخديوي عباس وكانت يتكون من انجال محمد عبد المتعال الادريسي، كل من السنوسي ومصطفى، وعبد الحميد بك شديد، بأن شروطه للاتفاق مع ايطاليا هي أن تجلو عن البلاد وليس هناك من سبيل غير هذا السبيل للتفاهم (3).
سابعاً: خيانة عزيز مصري للمجاهدين:
عزيز مصري رجل عصبي المزاج حاد الطبع كثير المطامع حقود، جاء الى برقة من اليمن وكان أول عمله في درنة أن خطب العرب فقال: (أيها الناس إن كنتم مسلمين حقيقة ولديكم ذرة من الشهامة والشرف، فحاربوا العدو الى آخر قطرة من دمائكم) فتكدر العرب منه وقالوا: (ماله يشك في ديننا وشهامتنا ألم يرنا نهزأ بالموت ونذود عن بيضة الاسلام من قبله وهانحن نبلي في الطليان خير بلاء رغم نيران مدافعهم المتهاطلة كوابل المطر) (4) وأراد أنور باشا أن يترك درنة ويذهب الى بنغازي، فرفض الشيوخ والزعماء ذلك وطلبوا منه أن يبقى ويرسل عزيز المصري أين شاء، وأبوا الخضوع لعزيز المصري، فأرسل أنور عزيز الى بنغازي، وبدأ عزيز منذ وصوله الى بنغازي بالهجوم على انور خصوصاً والاتراك عموماً (5)، وكان المجاهدون بادئ الامر لايحصون عليه خطواته، ولايتعقبونه في حركاته لظنهم به خيراً، وعندما وصلت أخبار مطاعنه الى أنور قال: أننا في مصلحة عامة تذيب الاضغان الشخصية فليستمر في دفاعه عن البلاد ولو أصبح رئيسها لكنت عن طيب خاطر من اتباعه مادام ذلك في مصلحة الاسلام وأهله (6).
بعد سفر أنور باشا تولى القيادة العامة عزيز المصري واستطاع العميل الايطالي
_________
(1) انظر: برقة العربية، ص306.
(2) المصدر السابق نفسه، ص306.
(3) المصدر السابق نفسه، ص306.
(4) انظر: برقة العربية، ص273.
(5) المصدر السابق نفسه، ص273.
(6) المصدر السابق نفسه، ص274.(2/351)
حسن حماده أن يقنع عزيز المصري بالتفاوض والتعامل مع ايطاليا سراً مقابل حطام من الدنيا زائل، وعمل عزيز المصري على خدمة المصالح الايطالية، وقبل جميع شروطهم، وانكشف أمره للمجاهدين، فأحرق الأوراق الخاصة بالمجاهدين والأدوات الطبية وجعلها طعمة للنار، ومنع تسليم الاسلحة للمجاهدين وقرر ترك ليبيا وقطع الاسلاك البرقية، والتلفون حتى لا يجد المجاهدون وسيلة للمخابرة وجردهم من وسائل الدفاع وأخذ سلاح المجاهدين وجعله في أماكن مطمورة وأوعز الى الايطاليين الى محلها، فدمروها بقنابلهم، وغادر درنة ولما وصل طبرق اشتبك مع المجاهدين وقتل منهم خمسة وجرح أكثر من ثمانية عشر وأخذ أسلاب الموتى وحرق ستة من الاسرى المجاهدين وذبح أثنين منهم كالاغنام، وفي طريقه الى السلوم ألتقى بألماظ أفندي يحمل مساعدات للمجاهدين وكان المبلغ الذي معه تسعة آلاف جنيه، فأخذها منه، وباح بجميع الأسرار الحربية لأعداء الإسلام (1).
كان عزيز مصري قد واعد أحمد الشريف بتسليم السلاح والذخائر للمجاهدين قبل رحيله إلا أنه رفض وتذرع بأنه لايركن إلى القبائل البدوية ويخشى أن تهاجمه وقواته عزلاء من سلاحها، لقد أثبتت الوثائق البريطانية التي نشرت مؤخراً صلات عزيز المصري بالمخابرات الانجيلزية (2)، والإيطالية، ولقد قام بحرق الأسلحة التي معه عندما صعد ظهر الباخرة الألمانية التي كانت في انتظاره هناك ولم يكتف بذلك، فقد أشاع لدى وصوله استانبول بأن السيد أحمد الشريف قد خان وتنكر للسلطان العثماني ومساعداته .. مما جعل أحمد الشريف يوفد سفيره عبد العزيز العيساوي إلى استانبول ليوضح الحقيقة للمسؤولين العثمانيين الذين يعرفون صدق أحمد الشريف (3).
ثامناً: استمرار العمليات الجهادية:
ورغم كل الظروف الصعبة التي مرت بها البلاد عام 1913م، إلا أنها شهدت عدداً من المعارك ضد الإيطاليين في معظم جهات برقة من أشهر تلك المعارك،
_________
(1) انظر: برقة العربية، 279.
(2) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص45.
(3) المصدر السابق نفسه، ص46.(2/352)
معركة شتوان ببنغازي، 10 كترس، معركة قاريونس يوم 26 مارس، معركة بنينه يوم 14 إبريل، معركة الرجمة يوم 22 إبريل، معركة الأبيار يوم 26 إبريل، معركة البويرات يوم 18 يوليو بالجبل الأخضر، معركة زاوية ترث يوم 24 مايو غرب القبة بالجبل الأخضر، معركة الصفصاف، أول يونيه قرب سيدي حميدة، معركة 15 يوليه شمال الأبيار، معركة تاكنسي يوم 16 سبتمبر بالجبل الأخضر، معركة سيدي رافع يوم 27 سبتمبر بالبيضاء، معركة المرج 19 أغسطس (1).
ومع بداية عام 1914 أحاطت بالمجاهدين صعوبات شديدة منها انقطاع الموارد عنهم من أسلحة وذخائر ومؤن، واستدعاء تركيا لبقية قواتها العاملة في برقة بكامل معداتها، وبقيت البلاد خالية من وسائل الدفاع ومعرضة للهجوم (2)، واستجاب خديو عباس لضغوط وترغيب إيطاليا وحاول شكيب أرسلان أن يقنع خديو عباس بدعم المجاهدين وكان الخديو قد غير موقفه من المجاهدين وخصوصاً بعد الصلح الذي تمّ بين تركيا وإيطاليا يقول شكيب أرسلان في رسالة بعثها إلى فضيلة الشيخ محمد الأخضر العيساوي، من جنيف في 18 سبتمبر 1936م، يشرح فيها ماوقع له عندما قابل الخديو في أثناء سفره من طرابلس ومروره بمصر في طريقه إلى الأستانة للبحث في مصير طرابلس الغرب مع الوزارة العثمانية الجديدة: (وعندما جئت من طرابلس إلى مصر في شهر أغسطس 1912م وذهبت من مصر إلى الأستانة مسرعاً .. كان السبب في ذلك أني علمت بأن الدولة قررت الصلح مع إيطاليا فخفت أن تهمل طرابلس تماماً، فأحببت أن أجعل الدولة تساعد الطرابلسيين بطرق خفية عن يد الأمير عمر طوسون وغيره حتى يستمر الجهاد ولاتذهب طرابلس ولما وصلت إلى السلوم قال رجال الحكومة المصرية هناك إن سمو الخديوي أرسل يسأل عني ... ) (3) ويتحدث الأمير شكيب كيف كانت مقابلة الخديوي له، وكيف سأله عن كل شيء ماعدا الجهاد في ليبيا، وينقل لنا الحوار الذي تم على مائدة الإفطار وكان بجانب الخديوي حسين باشا رشدي ثم قاضي مصر وكان تركياً والشيخ علي يوسف، فقال الشيخ علي يوسف:
_________
(1) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص46.
(2) انظر: السنوسية دين ودولة، ص156.
(3) انظر: السنوسية دين ودولة، ص152.(2/353)
إن الدول قررت عدم إقراض مال لتركيا إذا كانت لاتزال ترفض الصلح مع إيطاليا فقال شكيب أرسلان: إن تركيا مضطرة أن تتابع الحرب حفظاً لشرفها. فقال الشيخ علي: ومن أين تأتي بالمال؟ فقال شكيب: كل ماتنفقه تركيا على حرب طرابلس هو 70 ألف جنيه كل شهر، والحال أن إيطاليا تنفق في الشهر مليون جنيه.
فقال الشيخ علي: إلا أن السبعين ألف جنيه بالنسبة إلى تركيا، كالمليون جنيه بالنسبة إلى إيطاليا، فالدولة لاتقدر على متابعة الحرب. فقلت له: إذا عجزت الدولة فالعالم الإسلامي يقدر على مساعدة طرابلس. فقال: أما نحن أهالي مصر فلا نقدر إذا صالحت الدولة على طرابلس أن نستمر على مساعدة الطرابلسيين إذا يكونون حينئذ رعية ثائرة على إيطاليا. قال شكيب: هذا كله يقوله الشيخ علي يوسف لا الخديوي بل الخديوي كان ساكتاً وقد علت وجهه الحمرة ... فلما سمعت جدال الشيخ علي هذا غضبت، وقلت له بحدة: لاتساعدون أهل طرابلس فا الله يغنيهم عنكم، فانقطع الكلام على أثر هذه الحدة ووجم الخديوي، وصار قاضي مصر يبتسم. وقمنا عن السفرة إلى الصلاة، فأخذني الخديوي بيدي لأنه شعر بكوني تأثرت جداً، ومازال حتى وصلنا إلى السجادة الخاصة به فتنحى قليلاً إلى اليمين حتى أن السجادة تسعه وتسعني. وكل هذا يقصد به تلطيف خاطري، وأنا لا أعي من التأثر، فلما بدأ الإمام بالصلاة ولم يكن الإمام حاضراً مجلسنا ولا سمع شيئاً مما دار بيني وبين الشيخ علي ألهمه الله أن يقرأ بعد الفاتحة (1) قوله تعالى: "فلا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعاً ... " (سورة يونس، آية).
وبالرغم من كل الظروف وبقاء المجاهدين وحدهم في القتال وأمام تعدد احتياجاتهم ونواقصهم الحربية، وضغط الإيطاليين عليهم بالتركيز في شنّ حملات قوية وكبيرة إلا أن المجاهدين استمروا بنفس الروح الجهادية الأولى (2)، وكان المجاهدون قد التزموا الدفاع والتربص بالعدو حتى إذا خرج الطليان من مراكزهم انقضوا عليهم، فأوقعوا بهم شر مقتلة، وغنموا منهم أسلاباً كثيرة أمدتهم في الحقيقة بأكثر
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص153.
(2) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص47.(2/354)
الأسلحة والعتاد ودواب التنقل مما كانوا في حاجة ملحة إليه جميعه وظل الحال على هذا المنوال (1).
تاسعاً: تمركز قوات أحمد الشريف قرب السلوم:
بعد أن سحبت تركيا قواتها وتركت البلاد تخوض جهاداً شعبياً، معتمدة على طاقاتها الكامنة، ومقوماتها الذاتية، عقد أحمد الشريف السنوسي اجتماعاً عاماً لشيوخ الزوايا، ورؤساء الجند، وزعماء القبائل، تدارسوا خلاله الأوضاع العامة في برقة، واحتمالات الحرب، ومدى استعدادهم لمحاربة القوات الإيطالية الصليبية، واستقر رأيهم على الانتقال بكافة القوات الجهادية التي كان يبلغ عددها قرابة السبعة آلاف مقاتل، إلى منطقة إمساعد القرية الحدودية والمتاخمة للحدود الشرقية مع مصر، لأن مصر تشكل عمقاً استراتيجياً لقوات المجاهدين، وكانت تأتيها المساعدات من قبل المسلمين بالتهريب عبر الحدود، وكانت بريطانيا مضطرة لغض البصر على المساعدات التي كانت تصل المجاهدين خوفاً من إثارة الرأي العام الإسلامي ضدها، وخاصة مستعمراتها، إذا ماظهرت متآمرة على جهاد الليبيين ومع اقتراب الحرب العالمية الأولى ذهبت بريطانيا للتقرب من أحمد الشريف وحاولت أن تمد جسورها معه، كي تستعمله ورقة ضغط على إيطاليا، لاسيما وأن ملامح الحرب العالمية الأولى كانت قد بدأت تلوح في الآفاق، وكان أحمد الشريف يقظاً لما يجري حوله، فأقام معسكرات التدريب، ورسم خطة للدفاع، وحماية الشعب، والاستعداد للجهاد، وشرع أحمد الشريف في تشكيل جيش نظامي مدرب، ليخوض به غمار حرب طويلة المدى ضد العدو الصليبي الإيطالي ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى بدأت الدول تتسارع وتتسابق لكسب ود أحمد الشريف وقواته المجاهدة، كانت القوى المهتمة بكسب أحمد الشريف إلى جانبها هي تركيا، وألمانيا بالدرجة الأولى وبريطانيا ومصر بعد ذلك (2).
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص156.
(2) انظر: حوليات كلية الآداب جامعة الكويت، ص12.(2/355)
المبحث الخامس
الحرب العالمية الأولى
في أول عام 1333هـ قامت الحرب العالمية الأولى مابين ألمانيا وحليفاتها النمسا وبلغاريا، وإيطاليا ومابين بريطانيا وفرنسا وتبعتهم دول أوروبا الصغيرة ماعدا سويسرا، كما انضمت إليها روسيا وأمريكا، وكانت تركيا مترددة في الدخول مع هذا أو ذاك حتى أول عام 1334هـ دخلت الحرب إلى جانب ألمانيا وحليفاتها، وفي نفس الوقت قامت إيطاليا وخانت حليفتها المانيا، وانضمت إلى صف الحلفاء، فرنسا وبريطانيا، وحليفاتهم روسيا واميركا، وبدخول تركيا الحرب ضد الحلفاء الذين كانوا يتوقعون منها ذلك تكالبوا عليها، وفتحوا عليها عدة جبهات، فكانت روسيا تحاربهم بالقفقاس، وفي عموم شواطئ البحر الأسود، والإنجليز في عموم شواطئ البحر الأحمر، واستطاعت بريطانيا أن تفتن أمير مكة الحسين بن علي وتحرضه على الدولة العثمانية وحدثت معارك أضعفت الدولة العثمانية بسبب تلك الأمور (1)، لقد خدعت بريطانيا الحسين بن علي وأعطته وعوداً وأملاً ومنّته بإقامة دولة عربية تشمل كامل جزيرة العرب تحت تاجه، وبذلك أعلن ثورته على الحكومة العثمانية وتابعته قبائل العرب في الحجاز، وشرق الأردن، وأطراف نجد، وبادية العراق، وسوريا وفلسطين وثاروا على تركيا لثورته، فعمت البلوى، ولم يكتف الحلفاء بهذا كله، فجمعوا قواتهم الجوية، وأساطيلهم الحربية في البحر الأبيض، وفتحوا جبهة الدردنيل وكانت هذه الجبهة هي أشد الجبهات على تركيا وأخطرها، ولذلك كرست ما لديها من المجهود لدفع هذه الجبهة واستمرت معركة الإستماتة زهاء ستة أشهر استشهد خلالها ماينوف عن مائتي ألف جندي للأتراك لكنهم دفعوا العدو إلى البحر (2).
وكانت بريطانيا حريصة على استمالت أحمد الشريف إليها قبيل الحرب العالمية
_________
(1) انظر: الفوائد الجلية (2/ 36/37).
(2) انظر: الفوائد الجلية (2/ 36،37).(2/356)
الأولى، وزاد حرصها بعد اندلاع الحرب الكونية، ويحفظ لنا التاريخ بعض الرسائل من القادة الإنجليز في مصر مرسلة إلى أحمد الشريف فهذه رسالة أرسلها اللورد كتثنر بواسطة بعض عملائهم
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله المتوكل على الله سبحانه وتعالى اللورد كتشنر المعتمد السياسي لجلالة جورج الخامس ملك بريطانيا العظمى بالقطر المصري.
إلى مهبط اسرار الحضرة الربانية، ومصدر صفوة الإرشادات اللدنية صاحب التجليات الأسنية، والنفحات القدسية، قطب دائرة أهل الفضل والكمال، وخلاصة أرباب الحجا والجلال، المتحلي بروحانية أسلافه الطيبين الطاهرين، والمتجمل بصفات أهل الجمال واليقين، والمتخلي عن أوضار الأغيار في مهيع عبادة رب العالمين دوحة الشجرة الهاشمية وبضعة السلالة العلوية، خليفة صاحب ذلك النور القدوسي سيدي أحمد الشريف السنوسي رضي الله عنه وأيّده بروح منه.
أما بعد فإن الفرصة التي دعتني الآن لمكاتبة السيد الجليل أحسبها من أشرف الفرص، وإن كانت القصة الداعية إليها ليست من أحسن القصص على أن السيد الجليل والشريف النبيل خليفة ذلك الإمام المهدي العظيم وولي الله الكريم قد يسره أن ترفع اليه الظلامات ليحقق آمال رافعيها وأن تصل اليه أصوات الضراعات ليكون ملجأ ضارعيها، ولهذا يسرني أن أكون الواسطة لديكم لرفع مظالم قد ارتكبها من لم تخالط هدايتكم قلوبهم ولم تستأصل ارشاداتكم العالية من نفوسهم الخاطئة ذنوبهم ولذلك اكتب لمقامكم الكريم مايلي:
قد ورد لي من سعادة حاكم السودان العام أن جماعة من عربان الكبابيش التابعين لحكومة السودان ويبلغ عددهم تسعة وعشرين رجلاً قصدوا بير النظرون التابع لمديرية دنقلا، وبينما كانوا عند البئر اذ انقض عليهم عدد عظيم من العربان بينهم نحو مائة من أهل فزان أتباع الطريقة السنوسية الشريفة والباقون من أهل(2/357)
زغاوة والبديات، واعتدوا عليهم شر اعتداء وكان دافعهم إلى هذا الشر وداعيهم اليه قبل كل أحد زعيم الفزانين، واسمه الشيخ محمد أبو دوشي الفزاني أحد الخاضعين لسلطانكم والمستظلين بظل حمايتكم واحسانكم اذ ذهب برجاله إلى عربان غزاوة والبديات وطلب منهم الإنضمام إليه لمقاتلة الكبابيش وحرضهم على ذلك حتى انصاع اليه جمع منهم، فبلغ ذلك عدد عصابته التي أغار بها على ذلك النفر القلائل، ولم يخف سطوة الله عزوجل، ولم يذكر أن عمله المنكر فضلاً عن دونه يغضب الله وملائكته سيجلب عليه سخطكم وغضبكم الذي هو من سخط الله وغضبه، وكأنه لم يكفه أن يكون عدده كثيراً كالجيش الجرار، بإزاء جماعة الكبابيش الذين كانوا عند البئر بل أخذهم غدراً وفاجأهم على غرة منهم، فبينما كانوا آمنين لايحسبون للشر حساباً إذ أطلق عليهم رجاله من بنادقهم ناراً حامية كادت أن تحصدهم حصداً، فلما رآهم قد وقفوا أمامهم برهة من الزمن حملوا عليهم بسيوفهم ورماحهم، فطعنوا في صدورهم، أنكى الطعنات، وقتلوا بذلك ثمانية وجرحوا ثلاثة وأسروا اثنين وسلبوا ماكان معهم من سلاح ومتاع ثم استاقوا جمالهم وعددها مائة وواحد وأربعون بما عليها من الأحمال غير مبالين بأن يعدوا في شريعة الإسلام من العاثين في الأرض فساداً وأن جزاءهم فيها اذا وجدوا قضاة عدولاً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو ينفوا من الأرض الخ الآية الكريمة، فيرى السيد حفظه الله ووفقه لاجراء عدله على حكم الله وسنة رسوله الأمين، أن جماعة الفزانين الذين ينسبون أنفسهم لطريقتكم الشريفة، ويعتزون
بطول البلاد وعرضها بعزها قد خانوا الله وخانوا محجة رسول الله البيضاء، وخانوا عهد طريقتكم السمحاء ولم يبالوا بغضب الله ولابغضبكم، ولم يذكروا اليوم الآخر وحسابه، وبطش الله وعقابه، وهذا غريب جداً أيها السيد الكريم مع ما يعلم القاصي والداني من خضوع هؤلاء الأقوام لسطوتكم وائتمارهم بأوامركم، ومع ماسارت الركبان والأمثال من أخبار عدلكم المشهور، وشدة بأسكم على أهل البغي والعناد، وماتحلى به شخصكم الكريم من صفات الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر التي انتهت اليكم تراثاً عن أسلافكم العظماء الأكابر ذوي البأس الشديد، والتاريخ(2/358)
المجيد، فكيف مع هذا يجرؤ قوم أشداء كثيرو العدد من أتباع طريقتكم الشريفة على الاعتداء على قوم مستضعفين قليلي النفر، فيقتلون منهم الأنفس، ويسلبون الأموال، والمتاع، وهم مع هذا يرون أنهم من أتباعكم خليقون بحمايتكم وحسن رعايتكم لقد كان في وسع حكومة جلالة الملك أن تتخذ في مثل هذا الحادث اجراءات أخرى عظيمة التأثير والأثر على أمثال أولئك الطغاة البغاة وتضرب بهم الأمثال للناس وهي لاتعدم الوسيلة لذلك، ولكن بما أعرفه عن سيادتكم من حب العدل والانصاف، والغيرة على إقامة معالم الشريعة الغراء في البلاد والجهات التي يصل لها نفوذكم، وتمتد إليها سطوتكم، قد فضلت أن أراجع مقامكم السامي في هذه النازلة، لرفعها طبق مايقتضيه العدل الإسلامي الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فإذا شاء السيد حفظه الله تحقيق آمالي في عدله وانصافه فما أسهل على حضرته أن يأمر تابعيه بكف الأذى عن جيرانهم، وإخوانهم في الدين، وأن يكلف اولئك المعتدين بردِّ الجمال والأحمال التي سلبوها مع دفع التعويضات كما يراها السيد بالحق الدية للمقتول، والتعويض للمجروح، ظلماً وعدواناً، ولست أظن أنه يوجد من الموانع مايحول دون توقيع هذه الجزاءات على مستحقيها عند فضيلة السيد ولكن اذا كان هناك مانع لا أعرفه فانني أرجو من حضرته الكريمة أن تشرفني بإفادني عن الطريقة التي يحسن اتباعها للوصول إلى تلك الغاية من غير أن يمسّ كرامتكم التي أودّ أن أحافظ عليها دائماً وأطلب من الله المزيد فيها، وقد أرفقت بكتابي هذا بياناً مشتملاً على أسماء الأشخاص المعتدى عليهم من عرب الكبابيش، ومن قتل ومن جرح منهم، لتكونوا على بيّنة من الأمر ولتجروا العدل فيهم، كما أمر الله جعلكم الله ملاذاً أعلى لتحقيق عدله بين خلقه وأمدكم بروح منه، مادامت احساناته اليكم متواصلة وعنايته بكم شاملة ونفعنا الله ببركاتكم على الدوام آمين (1).
(اللورد كتشنر باشا)
_________
(1) انظر: حاضر العالم الاسلامي (2/ 129 الى 131).(2/359)
بغض النظر عن حقيقة هذه القصة التي في الرسالة، إلا أننا نجد فيها أمور مهمة منها: اهتمام الانجليز بشخصية أحمد الشريف واحترامها ومحاولة كسبها واستمالتها، ونجد أيضاً استعانة الإنجليز بالعرب الأدباء ليكتبوا لهم ما أرادوا توجيهه لسيادة أحمد الشريف - رحمه الله - وهذا أسلوب إنجليزي معروف، فيحاولون إيجاد ثغرات ومنافذ في كيان الأمة والسعي الدؤوب في تضعيفها، وتمزيقها، فقد نجحوا مع أمير مكة الحسين بن علي، وهم الآن يحاولون مع أحمد الشريف، كانت بريطانيا حريصة على جذب السيد أحمد الشريف إلى معسكرها، أو تحييده، وكانت حريصة على أن تكسب الشعوب الإسلامية، وأنها تعمل على مساندة حركة المجاهدين المسلمين في ليبيا، فتخدر بذلك مشاعر المسلمين في مصر، والهند، وغيرها، وأظهرت تعاطفها مع أحمد الشريف للضغط على إيطاليا، وتضعيف تحالفها مع المانيا في حربها المنتظرة.
أولاً: إقحام أحمد الشريف في الحرب:
بعد دخول تركيا الحرب العالمية الأولى بجانب المانيا، رأت الحكومات التركية والألمانية الاستفادة من جهود السنوسيين لتشتيت القوات الإنجليزية، وفق خطة لإحتلال قناة السويس وتطهير مصر من الوجود الإنجليزي، ولتحقيق هذه الغاية بعث أنور باشا إلى أحمد الشريف يبلغه أن السلطان العثماني قرّر منحه النيابة عنه في إفريقيا، ويخوّله ما له من نفوذ مطلق مدنيا، وعسكرياً، مثل حق إعطاء الرتب، والنياشين، والعفو عن المحكومين، والتولية والعزل، دون الرجوع إلى الباب العالي باستانبول، ثم وصل إلى برقة الضابط العثماني أخو أنور باشا (نوري باشا) ومعه الأوسمة الرفيعة والنياشين، وقابل أحمد الشريف قرب السلوم وسلمه رسالة أخيه أنور التي كانت تحمل نبأ إعلان الحرب، وتعيين السلطان له نائباً عنه في إفريقيا الشمالية (1)، وفي نفس الفترة وصل برقة الضابط الألماني مانسمان (2) الذي كان معه كتاب خاص
_________
(1) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص50.
(2) مسؤول المخابرات الألمانية في المغرب العربي.(2/360)
من إمبراطور ألمانيا إلى أحمد الشريف، ويحمل نيشاناً رفيعاً منحه الإمبراطور إليه، كما وصلها أيضاً جعفر العسكري (1).
وكان هؤلاء الضباط مستائين من سياسة أحمد الشريف تجاه الإنجليز، لأن ذلك يخالف أغراضهم التي جاءوا من أجلها، وبذل نوري باشا ورفقائه جهوداً مضنية للتأثير على أحمد الشريف كي يهاجم الإنجليز، فاخفقوا أمام إصرار أحمد الشريف عن الإمتناع، ووصلت عدة كتابات من أنور باشا يبين فيها للسيد أحمد الشريف فوائد الصدام مع الإنجليز والاصطدام بهم ورد عليه أحمد الشريف بتقرير بتاريخ 29 صفر سنة 1335هـ جاء فيه: ( ... حرب ياتيك (يقصد به حرب الطليان)، وحرب تاتيه (يقصد بها حرب الإنجليز)، فالحرب الذي ياتيك يجب عليك مدافعته باي حالة كانت، والحرب الذي تاتيه يجب عليك الإستعداد له) (2).
ويوضح تقرير أحمد الشريف أنه مهتم بأمر حرب الطليان الذين جاءوا إلى أرضه، وأنه يجب عليه أن يركز جهوده عليها من أجل تحرير بلاده، وفي نفس الوقت فهو غير مستعد لإعلان حرب جديدة لاقدرة له عليها، ولاتسمح له ظروفه الحربية، والسياسية، والإقتصادية القيام بها.
وهناك سؤال يطرح نفسه في نص تقرير أحمد الشريف وهو ماذا يقصد بعبارة (يجب عليك الاستعداد له) إن أحمد الشريف يؤكد لأنور وزير الحربية من خلال هذا التقرير أنه يجب الاستعداد لهذه الحرب، إن أحمد الشريف كان لايريد الدخول في حرب إلا مع أعدائه الإيطاليين المحتلين للأراضي الليبية وخصوصاً أنه يريد أن يحافظ على علاقته الجيدة مع الإنجليز الذين كانوا قد تركوا السنوسيين وشأنهم ولم يعتدوا عليهم، " وكان حيادهم على جانب عظيم من الأهمية بالنسبة لحركة الجهاد لأن جميع ذخائر المجاهدين في الجبهة الشرقية كانت تأتي من مصر حيث كانوا يتمتعون بعطف الشعب كله " (3) وقد ترك الإنجليز المجاهدين يبيعون الأسلاب التي
_________
(1) قائد تركي اصله عراقي أسر في هذه الحرب عام 1916م.
(2) انظر: برقة العربية، ص314.
(3) انظر: الطريق الى الاسلام، محمد أسد، ص336.(2/361)
غنموها من الطليان في ميناء السلوم، وحرصوا على أن تكون العلاقة بينهم وبين السنوسيين جيدة، فكانوا يبعثون الهدايا والكتب ومعها رسائل الإحترام والتقدير لشخصه وبلاده، كما أن أحمد الشريف نفسه كان يجامل المسؤولين الإنجليز لتأمين حدود بلاده وسلامتها أولاً ثم لقضاء حاجياته من مصر، فقد كانت تصنع فيها ألبسة رجال جيشه وكان بعض العتاد والذخائر يصل إليه منها (1).
كان أحمد الشريف مشفق من التورط في أمور هو في غنى عنها في ذلك الوقت بالذات، ولذلك فقد طلب من الشيخ محمد سوف المحمودي الذي وصل من تركيا أن يسافر برجاله إلى طرابلس، وأن يقيم معسكراً بمجرّد وصوله إلى هناك لمواصلة حرب الإيطاليين، وقد منحه أحمد الشريف رتبة بكباشي شرف تقديراً لشخصه وجهاده، وأطاع الشيخ سوف الأمر وسافر برجاله إلى طرابلس وذلك في أوائل شهر يناير سنة 1915م.
إلا أن منظمة تشكيلات مخصوصة وهي تابعة للمخابرات العسكرية العثمانية يعرفها البعض: (بأنها منظمة عثمانية سرية غامضة مهمتها الأساسية الأمن الخارجي للأمبراطورية العثمانية، ومكافحة التجسس الأجنبي عليها وكان لمعظم المنتسبين إليها الصفة العسكرية (2). حاولت هذه المنظمة أن تجعل من أحمد الشريف أداة طيعة تستغلها حسبما تمليه مصالح الإمبراطورية العثمانية، وليس حسبما تقتضيه مصالح ليبيا والمتمثلة في تحريرها من الاستعمار الإيطالي، وكانت الحكومة التركية قد أرسلت بعض أنصارها الذين هم من ولاية طرابلس الغرب وكانوا قد هاجروا إلى تركيا بعد فشل المجاهدين في معركة جندوية سنة 1913م وكان من هؤلاء الشيخ سليمان الباروني، عضو مجلس المبعوثان وزعيم الجهاد الطرابلسي في الفترة الأولى 11/ 1913م وكان الشيخ الباروني: (عثماني الميول وهو على علم بالمخطط التركي لغزو مصر، وإعداد حملتين لها شرقية وغربية وإخراج الإنجليز منها، ثم تحرير
_________
(1) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص57.
(2) المصدر السابق نفسه، ص53.(2/362)
طرابلس بعد إخراج الطليان منها .. ) وقد عبر عن هذا عند وصوله إلى برقة وسأله هلال محمد الشريف السنوسي وهما بالسلوم عن شعر رأسه الطويل، وهو رجل متقدم في السن وصاحب منزلة كبيرة ماهذا الشعر يا باشا؟ فردّ الباروني سأجيبك بقصيدة من شعري لأنه أجمل من شَعْري .. وكان مما قال:
هذا هو الشعر الذي
شهد الحروب الهائلات
وعليه أمطرت القنابل
كالصواعق نازلات
خاض المعامع لايهاب
على الجياد الصافنات
حبا بتطهير المواطن
من بني الايطاليات
آليت أن يبقى إلى
أن يعبر الجند القناة (1)
لنرى الغزاة على ضفاف
النيل تفتك بالبغاة
ونرى طرابلس العزيزة
في ليال باهرات
تختال في برد الهنا
بالانتصار على الطغاة
وتسود أعلام الخليفة
في البلاد الضائعات
ونرى الهلال متوجاً
جزر المحيط الخالدات
إذ ذاك يحلق بين
أفواج الأعاظم والغزاة
مابين تهليل وتكبير
وتقديم الصلات
فيكون عنوان الفتوح
مدى العصور الدائرات
أو هكذا يبقى إذا
لم ننتصر حتى الممات
يامن وعدت المسلمين
النصر أمنن بالحياة (2)
عزمت المنظمة العثمانية على الزج بقوات أحمد الشريف في حرب لم يكن في حاجة إليها، خاصة في ذلك الوقت ولما يئست هذه المنظمة من إقناع أحمد الشريف
_________
(1) القناة: قناة السويس في مصر.
(2) انظر: الشهيد، العدد الخامس 1984م، ص146.(2/363)
بتلك الحرب، اتجهت نية ضباط تشكيلات مخصوصة إلى الخلاص من أحمد الشريف، وأعدت انقلاباً ضده، وتفجير خيمته، ووضع بديل له من العائلة السنوسية، يكون أسهل انقياداً وانصياعاً لمخططات هذه المنظمة، وتمّ اعداد المؤامرة إلا أنه اكتشف أمرها، وألقى القبض على المتهمين، وأمر أحمد الشريف البقية من مهاجري طرابلس بأن يسافروا إلى بلادهم بسرعة للإنضمام إلى الشيخ محمد سوف، وأنذر أحمد الشريف من يخالف أوامره بالإعدام، فنفذت كاملة، وهدأت الحالة وكان ذلك في شهر فبراير عام 1915م (1) ووصل الأمر بأن أتهم أحمد الشريف بأنه ممالئ للإنجليز سراً وفي مقابلة مع أحمد الشريف قام بها الضابط المصري محمد صالح حرب قبل نشوب الحرب سأل الأخير أحمد الشريف عن حقيقة موقفه، فأجابه: ( ..
إن الأتراك إنما يريدون أن يورطوه في حرب مع الإنجليز قبل أن يستعد لها، وأنه لايمالئ الإنجليز محبة فيهم أو تقرباً منهم، ولكن مصر هي الباب الوحيد المفتوح الذي تأتيه منه الأرزاق التي يستطيع بسببها متابعة القتال ضد الطليان، فإذا قفل هذا الباب تحرج موقفه، وأنه لم يستدع الأتراك إلى ليبيا إلا ليجلبوا معهم الامدادات الكافية والتي يكون فيها الغناء عن ذلك المفتوح، ولكن هؤلاء حضروا وليس معهم أية امدادات أو أرزاق أو مال، ومع ذلك فهم يطلبون منه كل يوم القيام بحركة ويلحون في هذا الطلب، مع العلم أن بدء الحركة قبل أن يحين الوقت الملائم يعود بالشر والبال على الجميع، وختم السيد أحمد قوله: (وإني أصرح لك بأنه لاسلاح ولا ذخيرة، ولا مال ولا أرزاق كافية لدينا، وأنا ليس في نيتي أن أحارب الإنكليز) (2).
استمر ضباط منظمة تشكيلاتي مخصوصة في مهمتهم الرئيسية لإقحام احمد الشريف في حرب ضد الانكليز -وقد اعترف نوري باشا بأنه صار مرغماً بسبب سكوت أحمد الشريف على تدبير المخطط لفصم العلاقات القائمة بينه وبين
_________
(1) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص59.
(2) انظر: السنوسية دين ودولة، ص167.(2/364)
الانكليز وبادر الاتراك سرياً بمهاجمة المراكز البريطانية، وزوروا أوامر أحمد الشريف الى ضباط العرب وعساكرهم ووقع ماوقع (1)، وأرسل الاتراك سعاة الى مصر يقولون أن احمد الشريف يأبى الزحف الى مصر مداراة للانكليز مع أنه حضر من الاستانة لأجل اعداد حملة على مصر وإنقاذها من أيدي الانكليز، فصارت تتوارد من مصر الرسل الى أحمد الشريف تعاتبه على موقفه هذا (2).
وعلى العموم فإن الأمور تلاحقت، وتتابعت الحوادث على الحدود بفعل التأثيرات الشديدة للحرب وضغوطها على الجانبين، فلم يكن بمقدور أحمد الشريف صد تيار الانجراف، فحدث ماحدث دون أن تكون له سيطرة على زمام الأمور، وحاول الانكليز تدارك الموقف بالطرق الدبلوماسية، تجنب العنف والصادم مع السنوسيين، تقليلاً لعدد خصومهم وأعدائهم، في وقت كانت الحرب العالمية الأولى على أشدها، فاتصلوا بالسلطان حسين كامل (سلطان مصر) وأطلعوه على ماجرى وراء الحدود، ورجوه أن يعمل للاصلاح والتوفيق ولإقناع أحمد الشريف بالتزام الحياد، والتنبيه الى خطورة الاستماع الى الاتراك والألمان، فأرسل السلطان حسين كامل وفداً برئاسة محمد الشريف الادريسي نجل عبد المتعال بن احمد بن ادريس، وكانت معهم رسائل من السلطان حسين كامل، ومن السير ماكمهون نائب ملك الانكليز في مصر، ومن الجنرال ماكسويل قائد الجيش الاحتلال البريطاني في مصر، وتدور الرسائل حول فكرة النصح للسيد احمد الشريف بالتزام الحياد (3).
وهذا نص الرسالة التي ارسلها الجنرال السير جون مكسويل القائد العام لجنود جلالة ملك بريطانيا العظمى:
مصر في 3 ديسمبر سنة 1915/ 25 محرم سنة 1334هـ
حضرة الاستاذ الأعظم السيد أحمد الشريف السنوسي الخطابي الادريسي الحسني دام وجوده الكريم
_________
(1) انظر: برقة العربية، ص315.
(2) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص63.
(3) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص65.(2/365)
تحية وسلاماً وبعد فقد أدهشني ماوجدته بعد عودتي الى مصر من زيارة الجيوش المتحالفة في غليبولي -إن العلاقات بيننا قد حدث فيها تغيير، وأن أتباع سيادتكم قد ارتكبوا أعمالاً عدائية ضد الحكومة المصرية.
وقد سمعت بارتياح أنكم أرسلتم كبيراً من مستشاريكم الى البّراني ليسعى في ارجاع بعض اتباعكم الذين عصوا أوامركم ولكني تعجبت إذ سمعت أن هؤلاء الاتباع قد تمادوا في العصيان حتى أنهم لم يطيعوا الأوامر فقط بل أطلقوا فعلاً على جعفر افندي. هذا وقد بلغني أيضاً ماهمني وهو أن سبعين رجلاً من رعايا الدولة الذين نجوا من مركب غرّقته العدو قد حجزوا غرب حدودنا؛ فأسألكم برهاناً على العواطف الودية التي أظهرتموها لنا أن ترسلوا هؤلاء الرجال المنكودي الحظ حالاً بدون أذى الى مرسي مطروح هذا ويظهر أن نفوذ نوري بك وأصدقائه الألمان عليكم يشبه نفوذ أنور باشا على جلالة سلطان تركيا. وهذا النفوذ الضار هو الذي زج تركيا في الحرب المهلكة والتي ستنتهي حتماً بزوال دولة الاتراك من الوجود إنكم تعلموا ان الحكومة المصرية والحكومة البريطانية عاملتا سيادتكم بكل اهتمام واحترام وأما الآن فقد اضطررت بسبب المقاصد السيئة التي تحيط بسيادتكم أن استدعى رجالي من نقطة السلوم، واتخذ لهم مركزاً في مرسى مطروح وعليكم الآن ان تبينوا بأعمالكم وأعمال اتباعكم اذا كنتم تحبون بقاء العلائق الودية ام لا.
ومن الآن وصاعداً كل رجل من اتباعكم يتعدى الحدود حاملاً سلاحه اضطر أن أعده كمن له مقاصد عدائية واعماله كذلك لقد سألتكم ان تظهروا مقاصدكم الودية بابعاد الاشخاص الذين معكم الآن المعروفين بعداوتهم لنا وأنا اتأسف أن أرى انكم لم تتمكنوا الى الأن من ابعادهم اني لا أشك ان السيد محمد الشريف الادريسي قد سلمكم كتابي، وفاوضكم في جميع الشؤون التي ولج اليه مفاوضتكم فيها ولا أشك في أنه بين لكم مقاصدنا نحوكم ودية محضة، وأن ما اوجب التغيير في العلاقات بيننا هو اعمال صدرت من جهتكم لا من جهتنا ولا يسعني إلا الظن بأن الدساسين قد نقلوا اخباراًكاذبة عن الحرب الاوربية والحقيقة هي ان خسارة(2/366)
امبراطور الألمان وحلفائه بطيئة و لكنها اكيدة على جميع خطوط القتال والمستقبل يريكم ما اراد الله.
واني اسألكم ان تمعنوا النظر في الأمر وتعتبروا انه اذا اتخذتم بسؤ الحظ خطة عدائية فانكم لا تجلبون عليكم ايطاليا بل فرنسا، وانكلترا، ومصر وتتحملون مسؤلية جميع النفوس التي تضيع في هذا السبيل، وتعرضون بلادكم للجوع اذ تسد عليكم طريق الزاد والمؤنة براً وتحصر الشطوط البحرية وإذ كان مستشاروكم يعتمدون على غواصات الاعداء فاعتمادهم قائم على لاشيء واني لكم ذلك كله ليس بقصد التهديد، بل بقصد "النصيحة" كصديق، والاتراك يقضون بكم مأربهم ثم ينبذونكم نبذ النواة وراء ظهورهم.
إن الحالة الحاضرة لايمكن ان تبقى على ما هي عليه الان ولذلك فإني اسألكم ان تبرهنوا حسن مقاصدكم، بالأعمال وليس بالاقوال، وان ترسلوا حالاً الى مرس مطروح الرجال الانكليز الذين نجوا من مركبهم وهم الآن غرب حدودنا، وان تعيدوا العلاقات الودية معنا، وان تخرجوا من بلادكم المستشارين الاتراك والالمان، أي نوري بك وما نسمان وغيرهما من الذين لا شك في انهم يجلبون عليكم وعلى بلادكم بلاءً عظيماً ولي الرجاء انكم توفون هذه المسائل حقها من الاهتمام قبل ان يقع ضرر لا يمكن تلافيه (1).
وقد كلف الجنرال ماكسويل رئيس الوفد بأن يبلغ أحمد الشريف باسم حكومته بأنها إذا انتهت الحرب العظمى الاولى، ولم يشترك فيها أحمد الشريف، وحافظ على الحياد، فإن انكلترا تتعهد بأن تساعده في الحصول على استقلال بلاده وتوفق بينه وبين إيطاليا، كما أنه سيكون أعظم شخصية عربية في البلاد العربية ومرجعاً لأمراء العرب، وكبرائهم (2).
واستمرت جهود ضباط منظمة تشكيلاتي مخصوصة لإشعال نار الحرب على
_________
(1) انظر: حاضر العالم الاسلامي (2/ 132،133،134).
(2) انظر: جهاد الأبطال، ص264.(2/367)
الحدود، واستمالوا بعض العناصر بالوعود، والمال والذهب، ومن هؤلاء الذين تأثروا بدعاية الاتراك (احمد مختار الطرابلسي وأبو القاسم وآخرون) (1).
وكان هؤلاء الضباط قد هاجموا القوات الانكليزية قرب السلوم، وكان كل هذا يجري دون علم أحمد الشريف، وفعلاً هاجم المسلحون نقطة حراسة القوات الانكليزية في السلوم، وعلم أحمد الشريف بالحادثة في صباح اليوم التالي؛ فتأثر لذلك كثيراً؛ واضطرب اضطراباً شديداً، وحاول اصلاح الموقف، إلا أن الأمور سارت بما لا تشتهي، وانفرط زمام الموقف من يده فوجد نفسه هدفاً لهجوم مضاد من قبل، الانكليز، فما كان منه إلا أن يقبل الأمر الواقع الذي أوقعته فيه ضباط منظمة تشكيلاتي مخصوصة (2).
وكانت الأحداث تتجاذب أحمد الشريف بشدة، وتضعه في جملة من المواقف الحرجة منها:
1. أن تركيا مسلمة وهي تمثل الخلافة الاسلامية في نظره، وكان طبيعياً أن يميل الى الاسلام والمسلمين ومساعداتهم.
2. إن قوة الألمان العسكرية، وانتصاراتهم الباهرة مع بداية الحرب العالمية الأولى أقنعت بصورة أو أخرى، أحمدالشريف بقوة ألمانيا العسكرية، وبأنها ستحقق النصر النهائي على قوات الحلف (فرنسا، وبريطانيا، إيطاليا).
3. إن وعود بريطانيا للسيد أحمد الشريف بالتنازل له عن بعض الواحات هي وعود شفوية، أو كتابية فقط ولن ترى النور، ولن تخرج الى حيز التطبيق العملي مطلقاً، وهذه هي عادة بريطانيا التي كانت تطلق وعوداً غامضة متكررة ومتناقضة تصدر تحت ضغط الحرب.
4. كان أحمد الشريف مديناً بالولاء الودي والجميل للأتراك، فهم الذين قاتلوا
_________
(1) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص66.
(2) المصدر السابق نفسه، ص66.(2/368)
وجاهدوا مع الليبيين في برقة وطرابلس، وله ارتباطات متينة مع كبار الضباط الأتراك، وعلى سبيل المثال كعلاقته مع أنور باشا وزير الحربية، كما أنه أصبح نائب السلطان (بحكم فرمان سلطاني) في شمال أفريقيا.
5. إن وعود الأتراك (الباب العالي - السلطان - وزارة الحربية- كبار الضباط - منظمة تشكيلات مخصوصة ... ) للسيد أحمد الشريف بتزويده بالسلاح والعتاد، والمال، وكل مستلزمات الحرب، كانت وعوداً صادقة في البداية، وكان في تصور احمد الشريف أن ذلك العون سيستمر حتى تحرير البلاد، وخصوصاً أنهم بعثوا له بعض العون عن طريق الغواصات الألمانية قبل قيامه بإعلان الحرب ضد الانكليز في مصر.
6. ألتقت مصلحة أحمد الشريف، ومصلحة الاتراك والألمان في شيء واحد، ينتفعون جميعاً من فعله والقيام به، ألا وهو محاربة إيطاليا لأنها عدوة لهم جميعاً في تلك الفترة (1).
ورغم كل ذلك ومهم كانت الظروف، فإن قراره بمهاجمة الانكليز عبر الحدود المصرية، كان قراراً سريعاً رغم أن السيد أحمد قد رفضه وبشدة في البداية، لأنه على يقين أن ذلك الهجوم لا يتمشى مع مصلحة بلاده، فإن الاتراك والألمان كانوا ينظرون الى الحرب في شكلها المتكامل، والتي لاتمثل طرابلس إلا جبهة فرعية في تلك الاستراتيجية اتخذوا من أحمد الشريف مطية لتحقيق أغراضهم. ونحن نستغرب موافقة السيد أحمد على الدخول في تلك الحرب، فهي خارج بلاده، وتنقصه العدة، والاسلحة، كما ليست ضد إيطاليا المحتلة لوطنه، لقد كان خطأ في الحكم والتقدير من رجل محنك صقلته التجارب وابتلته الأحداث، وكان له في ميادين السياسة والحرب صولات وجولات.
كان يجب عليه أن يتعاون مع الاتراك والألمان ضد، ايطاليا لتحرير بلاده أولاً (2).
ومهما يكن من أمر فإن الظروف لعبت دورها وأشترك أحمد الشريف بقواته
_________
(1) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص60،61.
(2) المصدر السابق نفسه، ص60،61.(2/369)
وسار بجيشه وعدده أربعة آلاف مسلح وكان معه نوري باشا قائداً أولاً وجعفر العسكري قائداً ثانياً، وغرضهم الهجوم على السلوم، وجهز الانكليز جيشاً بلغ تعداده ثلاثين ألفاً من مشاة وفرسان.
وقامت الحرب بالفعل في نوفمبر سنة 1915م، وأخذت الفرق العسكرية النظامية والمتطوعة تنحدر الى الاراضي المصرية، وبدأت القيادة في إعلان وجوب اشتراك رجال القبائل المصرية في الحرب ضد الانكليز المحتلين، لمصر، والوقوف الى جانب الدولة العثمانية (1).
وكان الضابط المصري محمد صالح حرب تابعاً للقوات الانكليزية، فجمع الرؤساء والمشايخ وخاطبهم قائلاً:
(نقف اليوم بين معسكرين الانكليز أعداء الله والوطن الذين رفعوا علينا الحماية، والآخر معسكر العرب والأتراك الذين يقولون أنهم جاووا ليخلصونا، وقد أقنعني ضميري وواجبي الديني بعدم البقاء مع الانكليز وقد خرجت في سبيل الجهاد ضدهم، فمن كان منكم يحرص على حياته أو تلزمه أية مسؤولية عائلية بالعودة الى مرسى مطروح فإنني لا أحول بينه وبين العودة إنما شريطة أن يترك مامعه من سلاح ومؤونة ... ) (2).
فلم يرغب أحد منهم في العودة، بل أبدوا جميعاً التصميم على البقاء الى جانب رئيسهم، وعاهدوه على الجهاد والثورة التي بدأت بصورة علنية، واستجاب لها بعض عرب قبائل أولاد علي، وبغض النظر عن عدد هذه القوة التي انضمت لقوات السيد أحمد، وغالباً ماكانت تقدر بحوالي مائة وخمسين جندياً (3)، فإن هذه القوة المنظمة للمجاهدين أعطتهم دفعاً جديداً، واجّجت في نفوسهم الرغبة لمنازلة الانكليز وتحرير الديار من نير المستمعرين.
بدأ هجوم المجاهدين والاتراك على القوات الانكليزية عند حدود مصر ودارت
_________
(1) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص69.
(2) انظر: السنوسية دين ودولة، ص173.
(3) انظر: منظمة تشكيلات مخصوصة، عبد المولى الحرير مركز الدراسات عام 1979م، ص36.(2/370)
معارك طاحنة من أشهرها معركة وادي ماجد في أواخر شهر ديسمبر عام 1915م، ومعركة بوتونس التي قال فيها ضابط بريطاني شارك في هذه المعارك: ( ... لقد قام العدو بعزم شديد ومقاومة عنيفة ودام القتال من أجل إحراز قصب السبق اربع ساعات تحت نيران البنادق التي كان العدو يستخدماه بنجاح ودقة بقيادة ضباط أتراك وألمان وعلى حين كنا نحاول بشق الأنفس أن نصمد، دبت الفوضى في صف الفرسان على الميسرة، عندها قويت شوكة العرب الذين كانوا يجابهون هذا الجانب من صف الفرسان ... ) (1).
إلا أن المجاهدين كان ينقصهم الدواء واللباس، والذخيرة، والسلاح، ولذلك تأثرت بقية المعارك ونتائجها تبعاً لذلك، فأخذ المجاهدون في الانسحاب والتقهقر اضطراراً. وبذلك النقص والانسحاب تأزم الموقف ودب الخلاف بين أحمد الشريف ونوري باشا، لتفاقم واشتداد الضرر الاقتصادي في معسكر المجاهدين وماحوله بشكل تجاوز حد الاحتمال (2)، ولذلك عقد أحمد الشريف اجتماعاً عاجلاً لوضع حد معين لهذه الاحتجاجات والنواقص ولدراسة الأحداث من كل جوانبها، وعقد الاجتماع في أواخر يناير 1916م، في خيمة أحمد الشريف وحضره نوري باشا وجعفر العسكري عن الجانب التركي، ومحمد صالح حرب عن الضباط المصريين وثلاثة من كبار رجال السيد أحمد الشريف الذي ترأس ذلك الاجتماع، وكانت تبدو على أحمد الشريف علامات الانفعال والغضب، وألقى نقده على الضباط الاتراك الذين تسرعوا في بدء العمليات العسكرية بالرغم من عدم استكمال الاستعدادات اللازمة لها، وكان مما قاله موجهاً حديثه لنوري وجعفر: ( .. لقد قفلتم فمن أين نتنفس ... ) (3). وقد ختم أحمد الشريف حديثه مخاطباً (نوري وجعفر): (فما رايكم وقد أوصلتموها الى هذا الحال .. وظهر اني كنت على هدى وكنتم على ضلال) (4).
_________
(1) انظر: كفاح الشعب الليبي في سبيل الحرية، عبد الرحمن عزام، ص38،39.
(2) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص78.
(3) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص78.
(4) انظر: السنوسية دين ودولة، ص176.(2/371)
وتناول الحديث محمد حرب بعد ماتكلم ضباط الاتراك وانتقد الخطة الحربية العامة للضباط الاتراك، وكان رأيه مناقضاً لما ذكره (نوري وجعفر) ذلك أن التقدم من جهة الساحل (قرب البحر) وعلى أرض تكاد تكون مكشوفة بالكامل يُمكن -حسب رأيه- القوات الانكليزية على قوات المجاهدين، وتسليط نيرانهم المختلفة عليهم، هذا إضافة الى أن الأراضي الساحلية، متماسكة وتساعد الانكليز في أن يستخدموا عرباتهم وسياراتهم ونقلياتهم بسهولة، وكذلك فإن نشوب المعارك قرب البحر يُمَكن الانكليز من استغلال البحر سواء بسفنهم الحربية المزودة بالمدافع أو بنجدة سريعة للقوات الانكليزية إذا ماحقق المجاهدون انتصاراً عليها، وبناءً على ذلك، فقد كان رأي الضابط المصري (محمد حرب) هو أن يتحرك المجاهدون في ناحية الجنوب محاولة منهم لاحتلال الواحات المصرية على التتابع، ويُمَكِنَهم بذلك الإتصال بمشائخ العرب، ومسلمي الصعيد في المدن والقرى، الذين يرغبون في التخلص من الاستعمار الانكليزي، لعل حركة الجهاد تشعل ثورة قوية تعصف بالحكم الانكليزي في مصر، بالإضافة الى توفر الماء، والتمور، وبالاضافة الى ذلك فإن القوات الانكليزية تضطر الى نشر قواتها على طول وادي النيل وبشكل يستهلك جزءاً من هذه القوات (1).
ورأى أحمد الشريف بصفته رئيس الاجتماع ونائب السلطان العثماني، ان تنقسم قوات المجاهدين الى قسمين، قسم يتوجه الى الجنوب وهدفه احتلال الواحات المصرية، وكان هذا القسم يتألف من ثلاثة آلاف وخمسمائة مجاهد تقريباً يقوده محمد صالح حرب تحت اشراف السيد أحمد، والقسم الآخر يبقى في الشمال (الساحل) ويقوده جعفر العسكري ويشرف عليه القائد العام نوري باشا، وعدد رجاله ستة آلاف مجاهد (2). وانتهى ذلك الاجتماع على هذه المقررات، واتضح من خلال هذا الاجتماع بعض الأمور الهامة وفي مقدمتها مايلي:
_________
(1) انظر: المغرب الكبير، يحيى جلال (3/ 860،861).
(2) انظر: قضية ليبيا، محمود الشنيطي، ص68.(2/372)
1. سيطرة احمد الشريف الكاملة على جميع القوات الزاحفة ضد الانكليز عبر حدود مصر الغربية.
2. خطأ القادة الأتراك سواء في عدم الاستعداد لهذه الحملة (عسكرياً، ومالياً، وبشرياً .. ) او في رسم الخطط الحربية، ووضع استراتيجية هامة وتنسيق كامل، لتحطيم النفوذ الانكليزي في مصر.
3. إن وعود الأتراك للسيد أحمد الشريف بأن المدد متواصل، ومستمر ولن ينقطع ولن يكون هناك نقص في السلاح، والذخيرة والعتاد، والمؤن والأموال واللباس والدواء ... كانت وعوداً غير عملية ولم ينفذ منه شيء، بل كان نوعاً من الدعاية لخدمة مصلحة الاتراك وأعوانهم.
4. اتضح وبجلاء أنه ليس بمقدور المجاهدين هزيمة الانكليز والانتصار عليهم لتفوقهم في الامكانيات والقدرات المتباينة.
5. اتضح الآن أن برقة يهددها شبح المجاعة ذلك أن جميع الطرق التجارية قفلت (مع الانكليز شرقاً، والفرنسيين جنوباً، والإيطاليين شمالاً).
6. إن الحال الذي عليه المجاهدون يبدو من خلال مادار في هذا الاجتماع متسماً بالصعوبة والضيق.
7. صواب رأي أحمد الشريف في عدم الرغبة في دخول الحرب مع الانكليز.
دخلت القوات الشمالية بقيادة نوري باشا في معارك طاحنة مع الانكليز في معركة وادي مقتلة، ومعركة العقاقير، وكانت النتيجة هزيمة المجاهدين الذين أخذوا في الانسحاب نحو الغرب، ولحقت بهم السيارات المدرعة الانكليزية، بعد أن حلقت فوقهم الطائرات الانكليزية تنذرهم بالتسليم خلال الاربع والعشرين ساعة، وإلا هاجمتهم حتى الابادة (1)، واستمرت مطاردة المنسحبين الى الحدود، بل وأكثر من ذلك داخل أراضي برقة نفسها، واستولى الانكليز على سيدي براني يوم 28 فبراير سنة 1916م،
_________
(1) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص86.(2/373)
وكان من أثر معركة العقاقير التي أسر فيها القائد التركي جعفر باشا أن تشتت شمل القوات الشمالية للحملة، واستطاع الانكليز مطاردة فلول قوات المجاهدين، وتعقبتهم السيارات المدرعة متوغلة في برقة الى ماوراء بئر واعر، لقد كانت معركة العقاقير تمثل، نتيجة حملة أحمد الشريف على مصر، واستمرت القوات الانكليزية تطارد فلول المجاهدين، فوقعت معركة بقبق شرق السلوم انتصر فيها الانكليز، الذين احتلوا بعد ذلك معركة السلوم (1)، ودخل الانكليز الاراضي الليبية ووصلوا بئر حكيم في جنوب غرب طبرق واستطاعوا تخليص الأسرى الانكليز وكان عددهم 92 بحاراً بعد ان أبادوا قوات الحراسة (2)
أما قوات المجاهدين في الجنوب كان يقودها اللواء محمد صالح حرب تحت إشراف احمد الشريف زحفت هذه القوات جنوباً وتمكنت من احتلال الواحات البحرية، والفرافرة والداخلة، وانضم إليها كل من كان بهذه الواحات من الموظفين المصريين، وكذلك الضباط والجنود، واتصل محمد صالح حرب بشيوخ العرب في المنيا، واسيوط والفيوم، ولم تعط هذه الاتصالات نتائج مشجعة، وبدأت قوات الانكليز تتزايد وتتكاثف بعد أن صدت الحملة العثمانية الشرقية على قناة السويس، وفشلت ثورة السلطان علي دينار في منطقة دارفور، واضطر المجاهدون للانسحاب من الواحات الداخلة الى الغرب جنوب سيوه والجغبوب، وكان لاعتماد الانكليز على الطائرات العسكرية في عمليات الكشف والاغارة، واستخدام قواتهم العسكرية للسيارات المصفحة والمدرعة والمزودة بالمدافع السريعة الطلقات أثر كبير في قلب ميزان القوى لصالحهم (3).
وتمكنت قوات المجاهدين من الوصول الى واحة سيوة في أمان تام، وكان أول ماعني به قائد المجاهدين محمد صالح حرب في سيوة هو إرسال التمور الى الجغبوب ليتزود به المجاهدون هناك (4).
_________
(1) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص86،87.
(2) المصدر السابق نفسه، ص90 ..
(3) انظر: السنوسية دين ودولة، ص179.
(4) المصدر السابق نفسه، ص180.(2/374)
وفي سيوة لحقت القوات الانكليزية بالمجاهدين وحصلت بينهم معركة كبيرة بتاريخ 8 فبراير 1917م، دامت نحو يوم كامل، وكانت معركة فاصلة جهز لها الانكليز كل إمكانياتهم لقتال وهزيمة وإفناء المجاهدين الذين دافعوا دفاعاً مستميتاً وانسحبوا من سيوة الى الجنوب على مسيرة ثلاثة أيام (1) وكان وصولهم إليها في شهر فبراير 1917م وحاول الانكليز مطاردة قوات المجاهدين المنسحبة الى الغرب نحو الجغبوب وبالقرب منها دارت بينهما آخر معركة في تلك الحرب وهي معركة (قرب) إحدى ضواحي الجغبوب (2) ولم يستطع الانكليز مواصلة السير، وألتجأوا بعد ذلك الى الوسائل السياسية، وكان قبل وصول أحمد الشريف الى الجغبوب قد أرسلوا إليه رسالة مطولة وهذا نص رسالة الجنرال السير جون مكسيول القائد العام لجنود جلالة ملك بريطانيا العظمى:
مصر في 4 جمادى الأولى سنة 1334هـ الموافق 8 مارس سنة 1916م حضرة صاحب السيادة الاستاذ أحمد السنوسي الكبير تحية وسلاماً وبعد فقد وصلني كتابكم المرسل بيد رسولكم موسى وليس لي ان أرد عليه عما قلته في كتبي السابقة، إني كنت دائماً أحذركم من خطر الاصغاء الى نصائح نوري بك، وجعفر وغيرهما لأن مصلحة هؤلاء تناقض مصلحتكم على خط مستقيم، فإنكم بالاصغاء الى نصائحهم قد أثرتم حرباً على مصر ونسيتم جميل بيت محمد علي باشا الكبير الذي يمثله صاحب العظمة السلطان حسين سلطان مصر الحالي.
إنكم تعديتم الحدود ودخلتم الاراضي المصرية برجال مسلحين ومدافع وقد أطلقتم نيرانكم على العساكر المصرية والانكليزية، وأظهرتم بكل جلاء ووضوح أن مقاصدكم عدائية.
تقولون أني صدقت مقالة سنوبك ولم أصدق ماقلتموه أنتم فما هو الصحيح؟
إن جماعات من المحافظية المسلحين كانت على الدوام تأتي الى الأراضي
_________
(1) انظر: جهاد الابطال، ص266.
(2) انظر: برقة العربية، ص317.(2/375)
المصرية أما بعلم منكم أو بغير علم منكم وتسيئ معاملة العرب الذين تحت إدارتنا وتأخذ منهم الضرائب بالقوة، وقد أطلق أتباعكم النيران على الغواصات الانكليزية لغير ماسبب، وأنزلت الغواصات الألمانية الأسلحة والعساكر وغيرها بقرب برديّه وأطلقت نيرانها على طراد لخفر السواحل وأغرقته وأتباعكم لم يطلقوا النار على الغواصات الألمانية بل استقبلوها بالترحاب ثم إنكم حفظتم في الأسر جماعة من رعايا الدولة البريطانية الذين غرق وابورهم ولجؤ الى سواحلكم. وقد هاجم أتباعكم نقطتنا في البراني والسبيل وأسروا عساكر الحرس وسرقوا بنادقهم وقطعوا خطوطنا التلغرافية، وهددوا نقطتنا بالسلوم حتى اضطررت أن أصدر الأوامر الى سنوبك بالرجوع الى مرسى مطروح وفي الوقت الذي كنتم فيه تصرحون بأن علاقتكم معنا على غاية الوداد كنتم تكتبون وترسلون مع رسلكم كتباً كالتي أرفقها بكتابي هذا وإني مرسلها إليكم لتعلموا الحقيقة أرى أنكم لازلتم تذكرون أمر معاهدة عقدت مع الطليان ووجدت بين اوراق سنوبك. وأنا أعود فأكرر القول أن ذلك غير صحيح لسببين: الأول لأنه لم نعمل معاهدة مثل هذه قط والثاني لأن سنوبك لم يكن عنده السلطة لان يعقد معاهدة كهذه.
إن جعفر هو الآن أسير حرب يقول إن الانكليز الذين نجو من الوابور والآن في الأسر عندكم هم في شقاء عظيم وليس عندهم مايلزمهم من الثيات والطعام. وأنتم تقولون أنهم على أتم الراحة والأمان. فإي القولين أصدق. إنكم تشكون من أني حجزت رسلكم هنا وأنا لم أفعل ذلك إلا بعد أن بادأتموني بالعداء. إن الله وحده يعلم بالخفايا، وماهو في ضميركم. وكل مايمكنني أن أقوله لكم أن أعمالكم كلها دلت على عدم تبصّر وروية، ويلزم أن تحصدوا الزرع الذي غرستموه.
إنكم بأعمالكم قد وقفتم موقف العدو ومادام في الأراضي المصرية رجل مسلح من رجالكم فإني أعتبركم عدواً، وقد سبقت فأخبرتكم عن الشروط التي بها وحدها يمكنني أن ابدأ بالمفاوضة معكم. وهذه الشروط أرسلتها في كتاب مؤرخ في 28 صفر سنة 1334هـ الموافق 4 يناير 1916م وهي كما يأتي:(2/376)
1. أن تردوا بسلام جميع الأسرى البريطانيين أو الهنود أو الأوروبيين الذين في يدكم.
2. يجب أن تبعدوا كل الأتراك أو الألمان الذين عندكم، وإن كنتم تجدون صعوبة في إبعادهم فيمكنكم أن تسلموهم لي اسرى حرب.
3. يجب أن تخرجوا جميع رجالكم المسلحين من الأراضي المصرية وتتعهدوا بعدم دخول رجال مسلحين الى الأراضي المصرية، وإذا دخلوا عوملوا معاملة أعداء حيثما وجدوا.
4. يجب أن تجلو جلاءً تاماً عن سيوه والسلوم وعن جميع البلاد التي الى الشرق منها وتقيموا بسلام في الجغبوب؛ فإذا كنتم الآن تجيبون هذه المطالب، وتظهرون بالأعمال أنكم تريدون أن تكونوا على الوداد؛ فإني مستعد للتساهل معكم أكثر مما تؤملون (1).
الجنرال السير جون مكسويل
القائد العام لجيوش جلالة الملك بريطانيا العظمى
كانت تلك الرسالة قد كتبها ماكسويل قائد الجيش البريطاني في مصر بعد الاستيلاء على معسكر السنوسي، واحتلال السلوم.
كان ادريس المهدي السنوسي أثناء تلك الحوادث ببرقة وكيلاً عاماً عن أحمد الشريف، وقد عرف سيادته، ببعد النظر، والتضلع في معرفة الأمور وكان قد نبه أكثر من مرة أحمد الشريف ووأوضح له رأيه، وكان يرى عدم الدخول مع الاتراك ضد بريطانيا في الحدود المصرية، وقد أصبحت البلاد في حال يرثى لها فقد تفشت فيها المجاعة، كما تسرب إليها مرض الطاعون، وسدت سبيل السبل في وجوه الليبيين بعد ماكانت السوق المصرية مفتوحة الابواب وأصيبت الحيوانات بالجدب، وهي أهم موارد البلاد وقد أمسكت السماء، ودخلت البلاد في حروب مع إيطاليا من جهة، ومع الانكليز من جهة أخرى، وألتفت القبائل وشيوخها حول زعامة أدريس المهدي
_________
(1) انظر: حاضر العالم الاسلامي (2/ 134،135).(2/377)
السنوسي (1) وكتبت الى ادريس بمقره في اجدابية، بصفته صاحب الحق الشرعي في إمامة السنوسيين، ليتدارك ماوقع فيه ابن عمه أحمد الشريف الوصي على الامارة بمحاربته الانكليز جرياً وراء الاتراك، خصوصاً أنهم لم يوفوا بوعودهم التي قطعوها له، فلم يرسلوا إليه بما يسد حاجة جيشه وبلاده كما وعدوه بل ورطوا البلاد في نكبة الحرب ضد بريطانيا، وتركوا شعبها الأبي يموت جوعاً (2) وكتب الامير ادريس السنوسي الى ابن عمه أحمد الشريف شارحاً له ماكان يجري في برقة، فرد الأخير برسالة مماثلة في أواخر سنة 1916م جاء فيها: ( ... أعمل ماتراه مناسباً، والحاضر يرى مالايراه الغائب، وأنا موافق على مطالب أهل الوطن حيث أن لهم حقاً في ذلك ... ) (3).
كان فشل الحملتين الشرقية والغربية على مصر، وتدهور الحالة الاقتصادية في برقة من الاسباب التي ساعدت على ظهور الأمير ادريس على مسرح الاحداث بعد ان أصبحت حاجة البلاد الى قيادة جديدة تتولى معالجة تلك المواقف الحرجة وسوف نرى بإذن الله تعالى الخطوات السياسية التي اتخذها الأمير إدريس، بعد أن نكمل مسيرة أحمد الشريف الى وفاته.
ثانياً: أسباب هزيمة أحمد الشريف:
إن حملة أحمد الشريف فشلت في تحقيق أهدافها لعدة أسباب منها؛
1. لم تكمل الحملة استعدادتها العسكرية، والاقتصادية، واتصفت بالسرعة، وعدم التخطيط الاستراتيجي.
2. لم يكن جيش أحمد الشريف على مستوى من القدرة القتالية والاستعداد الكامل بحيث يستطيع أن يخوض حرباً مع عدو قوي مزود بأحدث الأسلحة وأشدها فاعلية.
_________
(1) انظر: برقة العربية، ص317.
(2) انظر: تاريخ حرب طرابلس، محمد ابراهيم لطفي، ص57، رفع الستار عما جاء في كتاب عمر المختار لمحمد العيساوي، ص19.
(3) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص108.(2/378)
3. ذهبت وعود الاتراك والألمان أدراج الرياح، ولم تستطع الغواصات الألمانية أن تقوم بالدور المنوط بها لتزويد المجاهدين بأدوات الحرب ومعداتها.
4. إن التوقعات التي كانت محتملة عن قيام الشعب المصري بثورة عارمة ضد الوجود البريطاني في مصر ذهبت أدراج الرياح حيث استطاعت بريطانيا تفريغ شحنات الغضب الشعبي بوعودها وأموالها الطائلة، وبمنحها الجاه والسلطان للعديد من كبار المصريين، كما أن ثورة علي دينار في دارفور بالسودان جاءت متأخرة (اكتوبر - نوفمبر 1916م) فسهل القضاء عليها، وبعد فشل حملة جمال باشا الشرقية على قناة السويس، وفشل حملة احمد الشريف الغربية عبر حدود مصر، ومن ناحية أخرى فإن الكثير من مشائخ وأعيان الجهات الجنوبية والغربية من مصر (اسيوط، الفيوم، مثلاً ... ) لم يناصروا حركة الجهاد ضد الانكليز.
5. اختيار نوري باشا لمكان العمليات قرب البحر مكن للانكليز من استغلاله وبعث المزيد من الحملات بسرعة عاجلة، كما أتاح الفرصة لبحريتهم، فشاركت في المعارك، لقد كان ميدان المعارك في الجبهة الشمالية محصوراً بين البحر وعقبة السلوم بما لايتجاوز الثماني كيلومترات عرضاً، فوجدت بذلك قوات المجاهدين نفسها مقيدة الحركة (1).
6. كان لفشل جمال باشا قائد الجيش التركي في الشام في حملته على قناة السويس أثر كبير في هزيمة قوات احمد الشريف؛ لأن الانكليز قد انتهوا من الحرب على حدود مصر، فتفرغوا للحرب على حدودها الغربية، وجندوا جميع امكانياتهم لها.
7. إن ميزان القوى كان منذ البداية لصالح الانكليز، فالقوات المجاهدة كانت منهكة نتيجة صراعها مع ايطاليا الذي دام فترة طويلة (من سنة 1911م الى آخر سنة 1915م) (2).
_________
(1) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص95.
(2) المصدر السابق نفسه، ص96.(2/379)
ثالثاً: الخلاف بين ادريس وأحمد الشريف:
كان رأي الأمير ادريس السنوسي بأن الحرب ضد بريطانيا لاتحقق أية نيتجة، وعلى السنوسيين استغلال الظروف الدولية، لتحقيق استقلال ليبيا، وكان يرى أن بريطانيا هي المؤهلة لأن تأخذ على عاتقها انجاز هذا الأمر، أما أحمد الشريف فيرى أن حميته الدينية، وغيرته الاسلامية تمنعه من الوقوف مع الانكليز ضد تركيا.
لقد كانت علاقات الانكليز بالسيد ادريس ودية منذ البداية، واستمرت العلاقات بين الطرفين تنمو وتزدهر طول عام 1913م، وفي بداية عام 1914م، تجددت عندما توجه إدريس السنوسي الى الحجاز لأداء فريضة الحج، فمر في طريقه بمصر وقوبل بالاحترام والتبجيل، من قبل حسين كامل، السلطان النائب عن الانكليز في مصر، وحملته باخرة خاصة الى حيفا، ومنها الى الأراضي المقدسة، وفي طريق عودته لقي من الاحترام والتبجيل الزائد عن المرة الأولى، واجتمع مع اللورد كتشنر، قائد القوات الانكليزية في مصر، ومن ثم نقل بطرد بريطاني الى السلوم، حين جرى له وداع رسمي على الحدود، وكان أحمد الشريف قد كلف ادريس السنوسي تبليغ قبائل حرب والبالغ عدد مقاتليها ثمانون ألف والتابعة للحركة السنوسية أن تعمل ضد الانكليز وأعوانهم في مصر والحجاز، وكان جواب ادريس بعد رجوعه من الحج الى السيد أحمد الشريف بأن القبيلة أجابته: (لم يصبنا أي أذى من الانكليز، فهم عدول وكرام، وأغنياء، بينما نجد الترك متصفين بالظلم والقهر والترفع)، وعليه فلا داعي للدخول معهم في أية معارك.
وقد كشفت الوثائق البريطانية رقم 2139، 2147، 2478، التي نشرت أن ادريس قد بلغ القبيلة بأنه يؤيد وجهة نظرهم، وأنه يحب الانكليز ولايود أن يرفع سيفه ضدهم.
وقد انعكست نتائج تلك الزيارة على علاقة ادريس بإبن عمه السيد أحمد، إذ مالبث السيد ادريس، أن أعلن أنه لايوافق على بقاء الاتراك في القوات الوطنية، وطلب من أحمد الشريف ضرورة الحفاظ على العلاقات الانكليزية السنوسية، ولما(2/380)
قوبل طلبه بالرفض الشديد من قبل أحمد الشريف، ترك معسكره في مساعد، وتوجه الى الجبل الأخضر، وأشاع بين الناس، بأن المنفذ الوحيد لسكانه مع مصر سيغلق أن استمر احمد الشريف في سياسته المعادية لبريطانية، وبالتالي، فإنهم سيجدون أنفسهم، وقد أحكم الطوق عليهم من الشرق والغرب.
لقد تلاقت أهداف الانكليز مع تمنيات السيد ادريس، حين عرضوا على هذا الاخير الصلح والاعتراف بإمارته، هو على برقة والجبل الاخضر، نظير طرد نوري ومن معه من الضباط الاتراك، وإقناع ابن عمه بمغادرة المنطقة في المرحلة الاولى (1).
وقد وضحت أهداف ادريس في رسالته التي أرسلها الى أحمد الشريف في 25 صفر 1335هـ، الموافق 21 ديسمبر سنة 1916م وجاء فيها:
(هل لا تنظر الى ماحدث للشريف حسين أمير مكة، الذي عينه الاتراك، ثم وجد تحقيقاً لمصلحة بلاده أن ينقلب عليهم، ثم أرغم على الوقوف خصماً، فأعلن استقلال البلاد، ووافقت الدول المتحالفة على ذلك، ونودي به ملكاً على العرب، وهو الآن يبذل قصارى جهده في إدارة شؤون بلاده، فيؤسس المجالس وينشئ الادارات والمصالح، ولو أنه قبل أن يدخل الحرب الى جانب الاتراك لكان الحلفاء الآن يحتلون مملكته، كما احتلوا البصرة، العراق، ومناطق اخرى.
فالملك حسين كون جيشاً كبيراً الآن، ويريد احتلال الشام، وأرسل إليه الضباط وجاءت المدفعية من مصر، ووصله كل مايحتاج إليه للقيام بحركة واسعة، وأذاع في العالم الاسلامي، أنه لايريد بالاسلام شراً، وإنما يعمل فقط ضد جماعة الاتحاد والترقي، ويذكر في خطبه اسم الخليفة العثماني، وهو الخليفة المعتد، والذي فقد كل سلطة بفضل القيود التي فرضها عليه أولئك الذين أحاطوا به من كل جانب من هؤلاء الاتحاديين، وقرر العرب المحافظة على شرفهم والذود عنه ضد هؤلاء الجماعة أيضاً. فأقاموه ملكاً.
_________
(1) انظر: كلية الآداب جامعة الكويت، 1980/ 1399، الرسالة الثانية في التاريخ، ص18.(2/381)
ثم حدثني بالله ياسيدي، كيف يستطيع الأتراك غزو مصر ودخولها، وهم الذين أخفقوا في محاولة استرجاع الحجاز، وهل لاتنظر ياسيدي الى السيد ادريس في بلاد اليمن، فهو يحتفظ دائماً باستقلاله، ويتمسك بحياده، وهذا على الرغم مما يفعله الانكليز الذين يحاولون إقناعه بمحاربة الاتراك، ومما يفعله الاتراك الذين يريدونه أن يحارب الانكليز، ولكنه لايريد أن يورط نفسه في شيء من هذا كله.
وكان في إماكنكم، أن تفعلوا مثل هذا، قبل حادث السلوم، وكان في أيديكم الترك والانكليز معاً، ولكن مافائدة الحسرة على الماضي، والندم على مافات إن الذي أريد أن استرعي نظركم إليه هو، العالم الاسلامي، لأن الاسلام يريد أن يعرف، ومن حقه أن يدرك ويفهم فهماً صحيحاً ماتفعلون، وماتريدون، ويجب علينا قبل كل شيء الانتباه الى مافيه فائدتنا، ومايحقق مصلحة بلادنا حتى لاتذهب ضحية لغيرنا) (1).
رابعاً: آثار حملة أحمد الشريف ضد الانكليز على حركة الجهاد:
كان لفشل حملة احمد الشريف آثار سلبية على سير حركة الجهاد في برقة ضد القوات الايطالية نذكر منها؛
1. ضاعت فرصة مواصلة القتال ضد الايطاليين، في فترة إنشغالهم بمعارك الحرب العالمية الاولى في أوروبا، وقواتهم في ليبيا محاصرة في المدن الساحلية، وغير قادرة على الحركة وتقديم المساعدة.
2. تزعزت العلاقات الروحية التي كانت تربط أحمد الشريف بالقبائل المصرية بسبب المواجهة بين الطرفين وسقوط القتلى من كل جانب، لأن الجيش البريطاني كان يضم رجالاً من ابناء تلك القبائل، وضعف تعاطف المصريين مع القضية الليبية، وتضررت الزوايا السنوسية في صحراء مصر، وتحطم نفوذها السياسي والديني، وتشجع الانكليز على اتخاذ موقف مناوئ ومعادٍ لهم (2).
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص191.
(2) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص97.(2/382)
3. انقطع الشريان الاقتصادي لحركة الجهاد في ليبيا وكان لهذا الانقطاع أثر كبير على المجاهدين وحركتهم.
4. تأثرت نفوس المجاهدين، وشعروا بالندم بما في ذلك السيد احمد الشريف نفسه، ونستدل على ذلك من رسالة له الى سليمان الباروني بمناسبة قدوم الاخير الى طرابلس معيناً من قبل السلطان العثماني والياً على طرابلس، ومما جاء فيها:
( ... إني لو استطعت لقضيت عليهم -الطليان- وطهرت الارض منهم اليوم قبل باكر، وتعرف أيضاً أنه ماتمكن مما تمكن منه إلا بعد حركتنا نحو مصر ولولاها كنا قذفنا به اليوم في البحر، وما كان له أثر ولاخبر ولكن تلك الحركة -الحملة- ولو أنها أفادت الدولة والملة من وجوه كثيرة، وشغلنا بها أكبر عدو لمقام الخلافة ناوأها العديد من السنين، إلا أنها كانت سبباً لنفوذ الطليان الذي لايتألم منه أحد أكثر مما أتألم منه، ولو أن لي به قوة ماتأخرت يوماً عن مناواته ... ) (1).
لقد اعترف السيد أحمد الشريف بخطئه وقال: (يُخيل إليّ أحياناً أنني أخطأت عندما باليت بنداء استانبول ذاك ... ) (2).
5. تغير الوضع السياسي للمجاهدين، ولم يعد المجاهدون من القوة، والاستعداد بالقدر الذي يمكنهم من الصمود، والاصرار على تحقيق مطالبهم، بل اضطروا تحت ضغط الحاجة الى المهادنة، والتفاوض والتنازل، بعدما كانت قيادة المجاهدين صلبة قوية لاتلين، تطالب بشيء واحد فقط هو تحرير الارض والوطن وإجلاء الغاصبين، ولا نقبل في ذلك مهادنة او مصالحة او تفاوضاً إلا على هذا الاساس تحرير البلاد من الغاصبين (3).
6. لقد كانت حملة احمد الشريف ضد الانكليز في مصر كسباً ونفعاً كبيرين للايطاليين، ولأنها زعزعزت قيادة احمد الشريف، وأشعرتها بضعف إمكانياتها
_________
(1) حياة سليمان الباروني لأبي القاسم الباروني، ص80.
(2) انظر: الطريق الى الاسلام لمحمد أسد، ص370.
(3) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص98.(2/383)
الحربية وقدرتها القتالية، ومهدت السبيل لطريق الصلح والتفاوض الذي قاده ادريس السنوسي فيما بعد (1).
خامساً: هجرة أحمد الشريف الى تركيا:
وصلت قوات المجاهدين الى الجغبوب، منهكة، متعبة لطول الحروب، فأذن أحمد الشريف للجنود، وقال لهم: من منكم يرغب بالذهاب الى أهله ببرقة، أو الجبل الاخضر، فمعه الاذن، ولم يرخص لبعض المجاهدين، وذهب بعض المجاهدين وقال الباقون والله مانتركك مادمت حياً سواء نحي او نموت (2).
وبادر الانكليز بتهديد احمد الشريف بواسطة ابن عمه ادريس، وطلبوا منه ترك الجغبوب وإلا ضرب قبر جده بالطائرات، واحتلت المدينة واستبيحت للجنود.
غادر احمد الشريف الجغبوب عن طريق الصحراء الكبرى الى جالوا واوجلة، وزلة والجفره، وسوكنه وهون ومن هناك عرج على موقع سلطان بقرب سرت وذلك عام 1335هـ، 1336هـ وكان معه جيشاً جراراً وكانت المجاعة قد ضربت أطنابها في جميع انحاء برقة، وبالرغم من ذلك كان احمد الشريف الضيف الكريم أينما حل، ويقابل في كل موقع بالاكرام والتقدير والتبجيل، وتقدم له جميع المساعدات من الاهالي وكانوا يقدمون له الجزر، والاغنام وكل ماتصل إليه أيدي الأهالي من التمور والحبوب وكان يطلب أشياء من الأهالي ليبتاعها منهم مقابل سندات يقدمها على نفسه، فكانوا يجيبونه بكل ذلك وقد اتصل كل انسان بحقه عندما وصل احمد الشريف الى الاستانة إذ أرسل من هناك مندوباً خاصاً يحمل المبالغ الكبيرة لتسديد تلك السندات وإيفاء كل ذي حق حقه (3) ومن بين من تقدموا لخدمته بصدق واخلاص والحالة هذه سيف النصر شيخ مشائخ اولاد سليمان وأولاده، احمد، وعبد الجليل، وعمر، ومحمد، وقاسم، وقاموا بكل لوازم احمد
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص99
(2) انظر: الفوائد الجلية (2/ 45).
(3) انظر: برقة العربية، ص318.(2/384)
الشريف واتباعه من المصاريف والارزاق لمدة ستة أشهر (1) وقالوا أن جميع مانملكه وتملكه قبيلتنا هو لكم وتحت تصرفكم (2)، وكان أحمد الشريف لاينساها لهم ويشيد بها بين الخاص والعام في كل مناسبة ويقول وجدناهم صادقين عند الحاجة (3)، وكذلك وقفت الكثير من قبائل المغاربة وعلى رأسهم صالح باشا الاطيوش، والشيخ السنوسي البراني، والشيخ عبد المجيد سليم القبائلي، والشيخ بن شراده (4).
ولما وصل احمد الشريف الى العقيلة تقدم إليه احمد بن ادريس الاشهب بواجب الضيافة واعطاه سبعة جمال هي كل مافي وسعه ليذبحها للجند ويقتاتوا بها كضيافة لهم وكان تهيئة مؤنة احمد الشريف الخاصة من قبل احمد بن ادريس وهي مؤلفة من البيض المسلوق، واللحم وشيء قليل من خبز الشعير، وكلما يأتي هذا الطعام الخاص بالسيد أحمد، ورجال مائدته، وهم محمد صالح حرب، ووصفي باشا الخازمي، والاستاذ مصطفى الهوني، وعبد السلام باشا أبوقشاطة، وطبيب السيد الخاص عبد السلام أفندي المسلاتي وعندما يأتي الطعام المذكور يبادر احمد الشريف بتوزيعه على بعض الجنود في حين أنه لايكفي السيد ورفاقه الخاصين وأحياناً لايمسك منه شيئاً بالمرة، فقاسى -رحمه الله- ماقاس من أنواع الشدائد مالا تتحمله الجبال بصدر رحب وجلد عظيم، وكثيراًِ ماتمر الايام عليه بدون أن يتناول شيئاً يسد به رمقه ومع كل هذا لايعرف عنه انه شكا أو تألم (5)، وقد تساقط عشرات الموتى بسبب المجاعة والحصار المفروض عليهم (6).
سادساً: القافلة ورمضان السويحلي:
راسل محمد صالح حرب نوري باشا في مصراته، ووضح له الحالة التي يمرون بها وطلب منه مدهم بالسلاح، والذخيرة والملابس والمال، حتى يتمكنوا من مواصلة جهاد الإيطاليين) وكان أحمد الشريف قد راسل رمضان السويحلي، وناشده باسم
_________
(1) انظر: الفوائد الجلية (3/ 46).
(2) انظر: برقة العربية، ص318.
(3) انظر: الفوائد الجلية (2/ 46).
(4) انظر: برقة العربية، ص318.
(5) المصدر السابق نفسه، ص319.
(6) انظر: الفوائد الجلية (2/ 46).(2/385)
الأخوة الإسلامية وطالب منه المساعدة والوقوف معه، فوافق السويحلي، وأرسل أحمد الشريف قافلة يرافقها الطبيب عبد القادر المصري، ومايزيد عن خمسة وعشرين رجلاً من خيار رجاله، يصحبهم الشيخ محمد بوطريف ومعه كتاب وهدية إلى رمضان السويحلي واشترت القافلة لوازمها من شراء بعض الأمتعة والملابس (1)، وقام نوري باشا بتزويد القافلة بالسلاح والذخيرة، والمؤن، حتى يؤكد لزعماء طرابلس على أن الدولة العثمانية لايمكن أن تتخلى عن أصدقائها، ومناصريها (2).
وعند رجوع القافلة إلى أحمد الشريف تعرضت لهجوم غادر نتج عنه قتل جميع أفراد القافلة، وسرقت الأموال، والمؤونة والسلاح ويؤكد معظم المؤرخين أن رمضان السويحلي دبر أمر القضاء على هذه القافلة واغتصاب أرزاقها، وقتل أفرادها ويذكر العيساوي: (إن السويحلي جهز قوة خفية عن نوري باشا قدرها مائة نفر مسلح، وجعل عليها رئيسين أحدهما يدعى محمد سليمان الجطلاوي والثاني عبد العزيز الدنيخ، وأمر تلك القوة أن تجد في السير لتكمن في وادي
زمزم، وقد نفذت هذه الخطة بدقة) (3)، وفاجأة قوة السويحلي القافلة في منطقة تماد حسان قرب تاورغاء (4).
ويرأى المؤرخ المتعاطف مع رمضان السويحلي محمد مسعود فوشيكة إن المعركة التي انتهت بانتصار جماعة الحداد والعودة إلى رمضان بصناديق النقود، إنما تمت بعلم رمضان نفسه مما جعل بعض المخلصين له يلومونه كثيراً بسبب تجاهله ماضي السيد أحمد الشريف في الجهاد ضد الإستعمار الفرنسي، والغزو الإيطالي لبرقة، وفي عدم مبالاته بالظروف الصعبة التي كان يمر بها وحاجته الماسة إلى المساعدة (5).
_________
(1) انظر: الفوائد الجلية (2/ 47).
(2) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص162.
(3) انظر: رفع الستار عما جاء في كتاب عمر المختار، ص53.
(4) انظر: الفوائد الجلية (2/ 47).
(5) انظر: رمضان السويحلي البطل الليبي الشهيد، ص128.(2/386)
أما الشيخ محمد بن حسن عبد الملك المصراتي قاضي مصراته عام 1915م فقد أشار لها بقوله: (كنت أنا ومن معي وقت وقوع هذه النازلة الشنيعة بمعية السيد أحمد الشريف السنوسي، وقد بلغتنا قبل بلوغها بخمسة أيام وكتمنا أمرها حيث أن من حاشيته من يزين له أعمال رمضان، فلو سارعنا بإبلاغها وقتها لقيل لنا أننا مفتنون فوكلنا أمرها للأيام والليالي ... ) (1).
أما الشيخ طاهر الزاوي فيرأى: ( .. أن سياسة الترك مجمعة على كراهة السنوسية، إلا أن بعضهم يجاهر بذلك وينادي بقطع الصلة بهم، وفريق يكتم هذه الكراهة في صدره ويريد أن يسلط بعضهم على بعض لينتقم لنفسه منهم بأيديهم. وقد أراد نوري بماله من النفوذ في مصراته - أن يمد السيد أحمد الشريف بإعانة فأرسل إليه إعانة مالية، وبعض البنادق، ولكن الأتراك الذين لايريدون الصلة بالسنوسية دبروا مكيدة ضد هذه المعونة، فأرسلوا من تربص لمن أرسلت معهم فقتلوهم عن آخرهم، وأخذوا مامعهم من المال. ولم يعلم رمضان بشيء من أمر هذه المكيدة إلا بعد وقوعها .. ) (2).
ويبدو للباحث أن الفعلة الشنيعة، كانت مؤامرة ضد مساعي الصلح التي حرص أحمد الشريف على نجاحها بينه وبين رمضان السويحلي، وأحمد المريض وغيرهم ولذلك خاف الأعداء من حصول الصلح بين أحمد الشريف ورمضان السويحلي، فدبروا تلك المكيدة، والقرائن الكثيرة تدل على أن رمضان السويحلي ألصقت به التهمة، ولايوجد دليل واحد قوي على إثباتها، بل القرائن تدل على عكس ذلك حيث أن رمضان السويحلي كان في تلك الفترة يتلقى الدعم من تركيا وألمانيا بواسطة الغواصات، وأحمد الشريف نائب الخليفة في إفريقيا، قام بتضحية عظيمة وجهاد جليل، خدم به المصالح التركية، كما أن سيرة رمضان السويحلي تدل على أنه من المجاهدين الذين ذادوا عن هذه البلاد إلا أنه له أعداء كثيرون عملوا على تشويه
_________
(1) انظر: رفع الستار عما جاء في كتاب عمر المختار، ص54.
(2) انظر: جهاد الأبطال، ص198.(2/387)
سيرته الجهادية التي تحتاج إلى من يتفرغ لدراستها، وتحليلها وإلقاء الضوء عليها، ولاننسى أن إيطاليا عملت بواسطة عملائها على إيجاد الفرقة والعداوة بين رمضان والحركة السنوسية وقادة الجهاد في غرب ليبيا، ويبدو أنها نجحت بواسطة مكائدها ومؤامراتها المتوالية لتحقيق هذا الهدف الحقير.
أما رأي أحمد الشريف في رمضان السويحلي يظهر في الرسالة التي أرسلها إلى وصفي بك في المحرم سنة 1340هـ قال رحمه الله مخاطباً وصفي بك:
(نعم أيها الولد الكريم المحترم، فإني والله تأسفت غاية الأسف على ماحصل .. ) إلى أن قال: (فبالله الذي لا إله إلا هو إني كنت عازماً على إكرام رمضان بك السويحلي وانزاله المنزلة التي ماكان يظنها، والناس الذين سعوا في الفساد مثل أمين وغيره فهؤلاء لاحاجة لهم في صلاح الوطن، بل حاجتهم في إمتلاء جيوبهم ... ) إلى أن قال: (وقد بلغني ما أساءني جداً وهو قتل المرحوم رمضان بك السويحلي فإني والله تأسفت غاية الأسف، لأنه كانت حاصلة منه رهبة للبلاد، ومنفعة عمومية لأهلها، ونحن كل من سعى في المصالح العمومية فهو حبيبنا .. ) (1). لقد اشتد الأمر بأحمد الشريف وأتباعه، وزادت الظروف قساوة عليهم، وأراد المجاهدون أن يهجموا على مصراته إنتقاماً ممن قضى على القافلة، إلا أن أحمد الشريف استطاع بفضل مكانته بين المجاهدين من تهدئة النفوس الثائرة (2).
بعث أحمد الشريف قائده محمد صالح حرب إلى الأمير عثمان فؤاد المتواجد في مصراته، وحمله رسالة هامة إليه، يطلب من الأمير العثماني أن تقوم إحدى الغواصات الألمانية بنقله إلى الأستانة ليقابل صديقه القديم أنور باشا وزير الحربية، وليبحث معه تطورات الموقف في ليبيا، وعلى ضوء ذلك يمكن أن يرجع السيد أحمد مزوّداً بكل مايساعده على الإستمرار في الجهاد في ليبيا، أو أن يبقى في الأستانة مؤقتاً حتى يتسنى له الذهاب إلى الحجاز (الأراضي المقدسة بمكة والمدينة) حيث
_________
(1) انظر: جهاد الابطال، ص200.
(2) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص164.(2/388)
يخلص العبادة إلى الله بعد أن عمل مافي وسعه من أجل قضية بلاده، ولكن الظروف المحلية في ليبيا والعالمية منعته من تحقيق أهدافه الإسلامية.
وقد اجتمع محمد صالح حرب مع الأمير عثمان فؤاد، وأوضح له حالة وظروف السيد أحمد الشريف وبين له معظم آرائه ومطالبه، كما اجتمع برمضان السويحلي مع الكثير من أعيان مصراته، ووجهائه، وعاد مندوب أحمد الشريف بسلام، وكانت نتيجة هذه الرحلة العمل على نقل أحمد الشريف إلى العاصمة العثمانية بواسطة إحدى الغواصات الألمانية، وبالفعل وضعت وزارة الحربية الألمانية تحت تصرف أحمد الشريف غواصة لنقله مع بعض أتباعه إلى النمسا، وأتفق على أن تبقى قواته في منطقة العقيلة في انتظار عودته، على أن تتلقى من القيادة العثمانية في مصراته مايمكن أن تجود به عليها مما كانت تحضره إليها الغواصات الألمانية (1).
ووصلت الغواصة الألمانية إلى برقة وكان بها يوسف باشا شتوان، وحسام الدين بي، وهما عضوان هامان في منظمة تشكيلاتي مخصوصة (2)، ويحملان رسالة من السلطان محمد وحيد الدين إلى السيد أحمد الشريف يدعوه فيها لزيارة استانبول (والسبب الحقيقي لهذه الدعوة هو أن الحالة في تركيا أصبحت تنذر بالخطر العظيم بسبب ثورة أمير مكة الشريف حسين ضدها، ومتابعة القبائل والجيوش العربية له، وانحلال جبهات القتال في فلسطين وسوريا والعراق. وكانت الحكومة العثمانية تثق كامل الثقة في إخلاص السيد أحمد الشريف للإسلام والخلافة، فأرادت أن تقنعه بالدخول في مفاوضات بينها وبين الشريف الحسين بن علي، على أن تعطي الشريف حسين مطالبه، هذه هي الحقيقة التي طلب من أجلها، أما في الظاهر فهو كما ذكر في وقته لتقليد السيف للسلطان عند جلوسه على العرش وللمفاهمة معه في خصوص ليبيا (3).
_________
(1) انظر: الحركة الوطنية، ص172.
(2) المصدر السابق، ص172.
(3) انظر: الفوائد الجلية (2/ 49).(2/389)
لبى سيادة أحمد الشريف طلب السلطان محمد وحيد الدين، وأناب عن المجاهدين أحمد بن محمد بن أحمد الريفي وأمره بالإنضمام إلى الأمير محمد ادريس بعد سفره، وسافر من البريقة وركب معه الشيخ محمد عبد الله الموهوب، محمد صالح حرب، عثمان الشائقي، عبد السلام أبو قشاطة، الدكتور عبد السلام المسلاتي، وصالح بن محمد أبوعرقوب البرعصي، وركب الغواصة في شهر سبتمبر سنة 1918م الموافق ذي القعدة 1336هـ (1).
وجاء على لسان الأمير شكيب أرسلان قوله: (قال لي السيد أحمد الشريف قبل ركوبي الغواصة تحادثت مع الضباط الألمان الذين فيهم وسألتهم عن خطر ركوبها فقالوا لي لايخلو الأمر من الخطر، ولكني ما باليت بذلك لأنني كنت رأيت أستاذي سيدي أحمد الريفي في المنام فقال لي: الشيء الفلاني ستأخذه من بولا، ففي اليوم التالي سألت الضابط هل يوجد محل اسمه بولا؟ فقالوا لي نعم إن المرسى الذي ستنزل فيه من بلاد النمسا اسمه بولا، فاعتقدت أننا بالغو هذا المكان بحول الله وقوته) (2).
اضطرت الغواصة أن تبتعد عن الجزر التابعة لإيطاليا خوفاً من الديناميت المزروع في المدخل، وصادف أن اصطدمت بقمة صخرة كبيرة في قاع البحر وتعطلت محركاتها وخاف قبطانها، والبحارة خوفاً شديداً، وكان أحمد الشريف أثناء ذلك منهمكاً في صلاته، وعبادته التي كانت شبيهة بتسبيح نبي الله يونس عليه السلام عندما كان في بطن الحوت، وفي قعر البحر، فلما أخبروه بالواقع واتم صلاته التي كان فيها ثم قام معهم ببساطة ورباطة جأش وبقدرة الله العلي القدير وسبب دعاء أحمد الشريف إذ بالمحركات تشتغل فجأة وسر الجميع وعادت لهم الطمأنينة وحمدوا الله على النجاة (3)، ولاشك عندي أن احمد الشريف قد تلى قول الله تعالى:
_________
(1) المصدر السابق نفسه (2/ 50).
(2) انظر: حاضر العالم الاسلامي (2/ 153).
(3) انظر: الفوائد الجلية (2/ 51،52).(2/390)
"وذا النون إذ ذهب مغضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فاستجبنا له ونجينانه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين" (سورة الأنبياء، آية 86،87).
وقد عرف عن أحمد الشريف صلته بالله القوية، وكان دائماً يرشد اتباعه الى الالتجاء الى الله القوي العزيز ففي معاركه مع الانكليز وبعد معركة وادي ماجد الثانية انسحبت قوات المجاهدين الى بئر الصريحات ولما لم يجد الجيش ماء بهذا المكان الأخير انسحبت قوات المجاهدين الى بئر يونس على أمل العثور على ماء، ولما لم يجدوا بها ماء كذلك، أشار أحمد الشريف باستسقاء الماء، ففتحت أبواب السماء وانهمر المطر مدراراً حتى رويت قوات المجاهدين، وظل المطر ينهمر يومين (1).
إن صلاة الاستسقاء سنة مؤكدة بإجماع علماء المسلمين والاستسقاء طلب السقي من الله تعالى عند حدوث القحط والجدب والتضرر من ذلك، ولاشك أن التقرب الى الله وطلب مرضاته والبر والاحسان الى خلقه من أعظم الاسباب الجالبة لكل خير (2)، وكان احمد الشريف لصدقه واخلاصه يقيض الله له من يدافع عنه في غيبته، فعندما ماكان أحمد الشريف مخالفاً لرأي نوري باشا وجعفر العسكري في شن الهجوم على الانكليز في مصر ولم يوافق على ذلك، كانت حركة منظمة تشكيلات مخصوصة تشن حرباً أعلامية على أحمد الشريف في استانبول، فقيض الله شكيب ارسلان للدفاع عنه حيث قال: كنت أشم من معية انور باشا رائحة الوحشة من سيدي احمد الشريف، واسمع بعض رجال الدائرة المسماة بدائرة (تشكيلات) التابعة للحربية يلمزون، السيد، ويعزون إليه أموراً، كنت على يقين أنها بهتان محض، مثل كونه يريد الخلافة لنفسه، ومثل إنه غير مخلص للدولة وماأشبه ذلك، وكان أنور دعاني مرة للأفطار معه في رمضان فقلت له: (إن بعض بطانتك بدأوا يغمزون
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة.
(2) انظر: توضيح الاحكام للبسام (2/ 432،433).(2/391)
السيد أحمد الشريف ويشيعون عنه أراجيف يصعب تصديقها، وهذا الأمر يمس جانبك أنت، ولا ينحصر في السنوسية، لأن أكثر مظهرك كان بهؤلاء الجماعة؛ فإن ظهر بعد ذلك أنهم خائنون، لاسمح الله، فتكون أنت الملوم، ويستدل الناس بذلك على كونك فائل الرأي. وإن كان عندك شيء راهن بحقهم، فصرح لي به لنعلم درجة الخبر من الصحة. قال لي انور رحمه الله: (حاشا، مايقدر أحد أن يتهم سيدي أحمد الشريف بالخيانة ولكن الانكليز كانوا يخدعونه أحياناً).
قلت له: (إن سيدي احمد الشريف لم ينخدع للانكليز، وإنما كان يصانعهم كما يصانعونه، وماتلكأ عن محاربتهم إلا خشية الفشل، إذ كان يعلم أن القوة التي لديه غير كافية للدخول الى مصر، أفلا ترى كيف ان الانكليز مجرد زحف الأربعة آلاف مجاهد الى مرسى مطروح، رموهم بثلاثين ألف مقاتل، وبالمدافع والطيارات، والدبابات، ولولا لطف الله بهم لوقعوا جميعاً أسرى وأخوك من الجملة .. ) قال لي أنور: (أنا أعطيتهم أوامر بأن يتجنبوا المعارك الفاصلة) فقلت له: (ياسبحان الله: أنت عسكري صنعتك الحرب وأدرى مني بهذه الأمور، أفاذا هاجم الانسان من هو أقوى منه مراراً، أفيبقى له الاختيار في الكر والفر؟) وانتهت هذه المحاورة باقتناع أنور، وتركه مؤاخذة السيد (1).
_________
(1) انظر: حاضر العالم الاسلامي (2/ 152،153).(2/392)
المبحث السادس
وصول أحمد الشريف الى تركيا
وصل احمد الشريف الى بولا (الساحل النمساوي) بعد أسبوع تقريباً من ارتحاله، وواصل سفره الى فيينا عاصمة النمسا برفقة حاشيته، وهناك أرسل إليه الأمبراطور النمساوي يريد مقابلته، ودون علم السيد أحمد، أجاب يوسف شتوان الأمبراطور بالرفض، ولما علم السيد احمد الشريف بذلك ابدى استياءه، وذكر أنه كان من اللائق مقابلته لاسيما أنه هو الذي طلب المقابلة (1).
وتابع السيد أحمد رحلته الى استانبول، وهناك استقبله كبار رجال الحكومة العثمانية، استقبالاً حافلاً ورسمياً في محطة (سركه جي) حضره بعض المسؤولين العثمانيين، يتقدمهم صديقه أنور باشا وزير الحربية العثمانية، كما حضره ايضاً ابراهيم بك، وإحسان بك كاتب الديوان السلطاني، وفؤاد بك مدير التشريفات، وعلي رضا شيخ الاسلام وأمين الفتوى.
وأنزل بسراي طوب كوبر، التي كانت مقر الخلفاء من آل عثمان (2)، وفي اليوم التالي خصصت له مقابلة رسمية مع السلطان وحيدالدين، الذين منحه وسام النيشان المجيدي من الرتبة الخامسة (3).
ورغم بعد السيد أحمد الشريف عن ميادين الجهاد في ليبيا، إلا أنه واصل جهوده من أجل تحرير ليبيا، وكان له نشاطات على ذلك الطريق الطويل منها:
اتفق مع أنور، والسلطان العثماني على الرجوع، لتقوى به عزائم المجاهدين، وقرر الاتراك مده بالمال، والعتاد والسلاح وتقرر اعطاه 12.000 بندقية مع عدتها، عشر مدافع، وثلاثين رشاشاً و 200.000 جنيه فسأله السيد قائلاً: بلغني من بعض
_________
(1) انظر: حاضر العالم الاسلامي (2/ 154).
(2) سراي طوب كبو تقع على ضفة البسفور الغربية أجمل بقعة في استانبول.
(3) انظر: الفوائد الجلية (2/ 52).(2/393)
الضباط الطرابلسيين اللذين في خدمة الدولة، انكم تبغونني أقاتل ابن عمي سيدي ادريس، لكونه اتفق مع الانكليز والطليان) فقال له أنور: (معاذ الله أن نبغي منك ذلك، لأننا نعلم أنه لم يبق للاسلام في افريقيا حصن أحصن من هذا البيت السنوسي الكريم، وإنه إن وقع لاسمح الله الشقاق في هذا البيت فسد الأمر، واضمحلت القوة السنوسية التي عليها معول الاسلام في افريقيا، فكن على ثقة بأننا نبغي اتحادكم قبل كل شيء، نصحاً بالاسلام وضناً باستقلاله، وان معاونتنا لكم إنما هي محض حمية على الاسلام، لأن تركيا من جهتها لم يبقى لها أدنى أمل باسترداد طرابلس، ولأننا لانحب إخواننا مسلمي افريقيا تبعة للاجانب) (1).
وتتابعت الحوادث بسرعة البرق، فتغيرت الوزارة في تركيا، وسقط أنور، وندم أحمد الشريف على تأخره عن السفر، وحاول الانسلال من الاستانة الى النمسا، حتى يركب منها الغواصة راجعاً الى ليبيا، واضطر مع دخول الحلفاء الى الذهاب الى بروسه، وكان الاتراك اينما حل يكرمونه غاية الاكرام، وكان في نيتهم الوقوف مع مجاهدي ليبيا ولكنه سبق السيف العذل، وحصل مالم يخطر ببال، والأمر بيد الله وهو الفعال في ملكه مايشاء، لايسأل عما يفعل وهم يسئلون.
لقد دخلت جيوش الحلفاء الى استانبول واستولت على عموم الولايات والموانئ وعقدوا العزم على إبادة تركيا، وتشتيتها وتقسيمها، واراد الانكليز أن يستغلوا هذا الظرف لصالحهم وبدأوا في تنفيذ مخططهم الهادف الى تدمير الدولة العثمانية بواسطة الاتراك أنفسهم المتصلين بالنوادي الصهيونية، والماسونية، والدول الغربية، وحرصوا على أن يجعلوا منهم أبطال ضد الحلفاء ثم يقومون بتدمير الخلافة الاسلامية، كلياً، وكان من المؤهلين لتنفيذ هذا المخطط الرهيب مصطفى كمال، الذي لبس في بداية أمره ثوب الاسلام ورفع شعار الجهاد لحين من الزمن، وقاد حرب التحرير ضد اليونان التي احتلت ازمير في 16 مايو 1919م وكان يلقي الخطب الحماسية ويقول: (موتنا أعزاء شرفاء خير من حياتنا أرقاء أذلاء تحت اليهود النصارى
_________
(1) انظر: الحاضر العالم الاسلامي (2/ 155).(2/394)
يلعبون بمقدراتنا ويمتصون دمائنا وأموالنا ويعتدون على أعراضنا وديننا وكرامتنا) (1)،
واستطاع أن يقود المقاومة الشعبية الضارية التي فضلت أن تموت في سبيل عقيدتها بدلاً من الرضوخ للأعداء وهكذا ظهر مصطفى كمال في ثوب المسلم الوطني المتدين الثائر وأصبح السلطان تحت قيود الحلفاء، وأصبحت تركيا تحت زعامتي، مصطفى كمال، والسلطان وحكومته وعمل مصطفى كمال على كسب احمد الشريف لصفه لعلمه لما له من المكانة الروحية العالية في قلوب المسلمين وكان مصطفى كمال ابتداء حركته باسم الدين حتى أنه أمر بإحراق جميع الخمور، وتكسير أدواتها ومعاملها وإبعاد جميع النساء المومسات، وإغلاق دور الدعارة، واصدار أوامر شديدة بلزوم المحافظة على الصلوات في أوقاتها، وجعل يوم الجمعة يوم عبادة للعموم، وأمر بإغلاق المتاجر والمقاهي، والمنتزهات في كل يوم جمعة اعتباراً من وقت الضحى الى بعد صلاة الجمعة، وهكذا تظاهر بهذه الأمور حتى أغرى المسلمين وقالوا هذا مجدد الدين، ومنقذه، ولذلك قرر أحمد الشريف بعد تفكير طويل الذهاب الى الأناضول والإنضمام الى مصطفى كمال رغم ماجاء من الرسل والرسائل من طرف السلطان وحكومته يحذورنه من الانخداع بمظاهر مصطفى كمال المصطنعة، وإدعاءاته الكاذبة ويقولون لسيادته هذه كلها حيل لكسب عطف الشعوب الاسلامية عليه وإذا تمكن فسوف يقلب المجن، ويكون حرباً على الاسلام وإليك ماكتبه الداماد خالد درويش باشا: (يامولانا ياخادم الاسلام يافرع الدوحة النبوية المباركة إياك أن تغتر بمظاهر الدين التي يصطنعها مصطفى كمال للوصول الى غايته فإنني ربيته في بيتي، وبين عائلتي، وعرفت ظاهر أمره وباطنه فما في قلبه ذرة من ايمان أو خوف من الله أو مبالاة بما يعمله ودينه هواه ولو تمكن لأضر في الاسلام والمسلمين وأنا كابنك وأخيك ومحبك أقول لك هذا ولولا محبتكم التي ملكت علي جميع جوارحي ما قلته لكم وربما سيكون قولي هذا في يوم من الأيام جريمة نؤاخذ عليها ونسأل الله أن يرشدنا إلى مافيه سعادتنا في الدارين آمين المحب المخلص)
الداماد خالد
_________
(1) انظر: الفوائد الجلية (2/ 53،54) ..(2/395)
درويش جمادى الاولى 1338هـ (1). كل ذلك لم يغير عزمه سافر احمد الشريف الى الاناضول ونزل في (اسكىشهر) وكان إنضمام احمد الشريف نصراً عظيماً لمصطفى كمال لماله من المنزلة الروحية الكبيرة في قلوب مختلف الشعوب الاسلامية وكان الناس يعتقدون أن احمد الشريف لايميل إلا الى الجبهة التي على الحق، واحتفل به قائد الجبهة في (اسكىشهر) المدعو عصمت باشا ودعي الى الاحتفال قادة الجيش، واعيان البلاد ووجهائها وألقى كلمة في ذلك الاحتفال الكبير فقال: إنكم اليوم في ميدان الشرف وإنكم الآن بعملكم هذا تعيدون للاسلام عزه ومجده وتنفضون عنه الغبار الذي علق به وتخلدون بطولتكم وتكتبون في صحائف التاريخ الاسلامي اسماؤكم بحروف من نور وعليكم أن تتموا هذه الرسالة العظيمة التي كلفتم بها، وأن تغنموا هذه المكرمة وفقكم الله وأعانكم) (2)، وتأثر بتلك الكلمة الحاضرون وقالوا: يامولانا لقد ايقظتم فينا الهمم، وبعثتم فينا روح القوة، والمقاومة، والاستماتة في سبيل اعادة عزتنا، ومجدنا، ولكم علينا عهد الله وميثاقه أن نمضي في هدفنا حتى النصر أو الشهادة ثم توجه احمد الشريف بعد مقامه في (اسكى شهر) الى انقرة بالسكة الحديدية وفي محطة انقرة قابله مصطفى كمال وكافة رجاله، وكان يوماً حافلاً بأنواع المظاهر والزينات، ونزل في منزل مصطفى كمال الخاص به وبدأت اتصالات مصطفى كمال مع السيد أحمد الشريف في أمور كثيرة (3).
أولاً: عرض مصطفى كمال على أحمد الشريف نيابة الخليفة وجهاده مع الأتراك:
عرض مصطفى كمال على أحمد الشريف منصب نيابة الخليفة وقال لسيادته إن كافة الوزارات أصبح لها عندنا وكلاء يقومون باختصاصاتها بصفة مؤقتة حتى تمام
_________
(1) انظر: الفوائد الجلية (2/ 57،58).
(2) المصدر السابق نفسه (2/ 59،60).
(3) انظر: الفوائد الجلية (2/ 59،60).(2/396)
النصر إن شاء الله تعالى غير أن مقام نيابة الخليفة لم نجد له من يليق به إلا سيادتكم ونرجوا أن تتموا لنا هذا النقص في جهازنا ولكم علينا ميثاق الله وعهده أننا سنقوم بكل مايترتب علينا نحو هذا المقام، ونرجوا أن تتموا لنا نقصنا هذا فقال له السيد احمد الشريف أنتم الآن مشغولون بما هو أهم مشغولون بصد العدو المهاجم لكم، والمحيط بكم، من كل ناحية وتحتاجون الى من يؤازركم فعلياً في ميادين الجهاد لا من يجلس على الكرسي ثم أنتم فيكم البركة واجراءاتكم حكيمة وصائبة، وأنا أحب أن أساهم معكم فعلياً في جهادكم هذا بقدر استطاعتي في أي جهة كانت وأرجوا أن تعذروني وسوف ياتي الوقت الذي لاتحتاجون فيه الى غيركم، وأنا معكم في السراء والضراء حتى يتم النصر إن شاء الله فقال -له مصطفى كمال- أنا مطمئن، وواثق من ذلك، وهذا ظني وظن كل من يشاركني في هذه الثورة وفي الحقيقة ماتعلمت هذه الدروس المفيدة ولا تشربت في جسمي هذه الروح الأبية إلا في مدرستكم التي اسستموها في برقة المجاهدة، وها أنتم اليوم تؤسسوها عندنا من جديد وبذلك سنتصر بحول الله وقوته وستجني ثمرة جهادنا هذه ببركة مشاركتكم لنا، ووجودكم بيننا فأنت الأب، وأنا الابن وكل ماتراه صالحاً مرناً به ونحن على أتم الاستعداد للتنفيذ وفي اتباعنا لكم شرف لنا (1).
لقد أتقن مصطفى كمال دور النفاق والتدليس قال تعالى: "ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على مافي قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لايحب الفساد، وإذا قيل له اتقي الله أخذته العزة بالاثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد" (سورة البقرة، آية ...... ).
إن احمد الشريف انخدع لكلام مصطفى كمال الذي مرد على النفاق وتفنن فيه، لأنه اكتفى بالظاهر، وترك الباطن لعالمه سبحانه وتعالى، ولأن مصطفى كمال ظهر بثوب الجهاد، وصد المعتدين فالوقوف بجانبه واجب شرعي هذا رأي أحمد الشريف حسب ظني.
_________
(1) انظر: الفوائد الجلية (2/ 60).(2/397)
ساهم احمد الشريف بطلب من مصطفى كمال في إخماد ثورة الاكراد وخرج إليهم وألتقى بشيوخهم ودعاهم الى الوحدة والوقوف صفاً واحداً ضد أعداء الدين، وطلب شيوخ الأكراد من أحمد الشريف أن يقيم وسطهم، ويتولى أمرهم، فامتنع عن ذلك وقال: إنما أنا مجمع ولست مفرق، ومصلح، ولست بمفسد، وسمع الأكراد، وأطاعوا، وأخذ عليهم مواثيق غليظة لوقوفهم مع مصطفى كمال، وبقي في ديار بكر، ونصيبين، وماردين، مدة ستة أشهر حتى تحقق تماماً من تهدأة الثورة.
وفي مدة أقامته في ديار بكر كانت القوات اليونانية تتقدم والقوات الكمالية تدافع، غير أن القوات اليونانية انتصرت في عدة مواقع، وقامت بهجمات خاطفة، وجعلت هدفها، انقرة، فاندحرت القوات الكمالية، أمام الجيوش اليونانية واحتلت الجبهة تماماً، وتحققت حكومة مصطفى كمال من الفشل، وأخلت بلدة أنقرة من كل شيء إلا الجنود (1).
وكانت القوات اليونانية قد استولت على ولاية أزمير وبروسه ومدانيه، وعلى كوتاهيه، واسبارطه، وافيون قره حصار، واسكيشهر، وأخيراً قصدت العاصمة انقرة، حتى لم يبق بينها وبين انقرة إلا عدة كيلومترات، واضطربت الأحوال، وارتبكت حكومة انقرة، وبدأ مصطفى كمال يوالي برقياته المطولة المثيرة الى سيادة أحمد الشريف ويقول لسيادته فيها: تغلب علينا العدو، فاذرعوا الى الله ليدركنا بعنايته، وكانت برقيات مثيرة تأثر منها أحمد الشريف تأثراً بالغاً، ورد أحمد الشريف على برقيات مصطفى كمال وقال له: ثق بالنصر من الله، ويأتيك الغوث إن شاء الله تعالى ثم انتدب إليه رفيقه في جهاده الشيخ محمد عبد الله الزوي، وأعطاه مصحف شريف، وسيف، وبرنوس من ملابسه، الخاصة وقال له: في كتابه الخاص بعثت إليك بمصحف الله تعالى، وسيف النصر، وكسوة العز والفوز إن شاء الله تعالى، فلما وصل مندوبه الى مصطفى كمال وهو في الجبهة على رأس الجيش المستميت على نهر (سقاريا) سلمه الرسالة، وأعطاه الأمانة، فأمر مصطفى كمال بالتعبئة العامة،
_________
(1) انظر: الفوائد الجلية (2/ 64،65).(2/398)
والهجوم المعاكس على العدو، ورتب الجبهة وفي الصباح اليوم الذي قرر فيه بدء الهجوم جمع القادة يتقدمهم رئيس اركان حربه فوزي باشا، وعصمت باشا، ورأفت باشا، وغيرهم ثم لبس البرنوس المرسل له من السيد احمد الشريف، وتقلد السيف، وعلق المصحف الشريف ثم تقدم وصلي بهؤلاء القادة ركعتين بحضور محمد عبد الله الزوي، وتضرعوا الى الله وطلبوا منه العون والنصر ثم اطلق مصطفى كمال من يده رصاصة الهجوم وبدأت معركة الاستماتة، ودامت ثلاثة أيام بلياليها، فني خلالها ماينوف على العشرين الفاً من الاتراك، ومايزيد على الثلاثين ألفاً من اليونان، واختلت في نهايتها مقدمة جيش اليونان، وولت فلوله على أعقابها وتعقبتها الجيوش الكمالية، وكان ذلك بداية الانتصار النهائي على اليونان (1).
وبعد ذلك الانتصار الحاسم ورجوع الحكومة الكمالية الى انقرة زار احمد الشريف مصطفى كمال مهنئاً بالنصر، واحتفلت به الحكومة التركية، ثم ذهب الى طرسوس، وفي أثناء اقامته بها قام مصطفى كمال بجولة تفقدية في انحاء الاناضول، وعرج على ولاية أظنة وأتى خصيصاً لزيارة احمد الشريف، فأقام احمد الشريف لمصطفى كمال حفلة غذاء فخمة حضرها كل من معه من القادة، كما حضرها عموم أعيان البلاد ووجهاؤها، والموظفون، وفي اثناء جلوس الجميع على المائدة وقف مصطفى كمال وقال مخاطباً لقادته الحاضرين باللغة التركية (أيها الأخوان اسمحوا لي لأعرفكم بمن نحن في حضرته، وعلى مائدته نحن الآن في حضرة فخر المسلمين، وحفيد سيد المرسلين، المجاهد السيد أحمد الشريف السنوسي، معلمنا الأول، ومؤسس أول مدرسة في برقة كنا وفدنا إليها، وتلقينا دروس الجهاد، والمقاومة، والدفاع عن النفس، والدين، والوطن بها، وهذا ويشير الى سيادة احمد الشريف، هو الذي غرس في نفوسنا شجرة الدفاع الثابتة، وهو الذي آزرنا في محنتنا القاسية، وشجعنا بافكاره، وآرائه الصائبة حتى نلنا شرفنا، وعزتنا، وانقذنا من براثن الاعداء بلادنا، فله من الحكومة والشعب التركي؛ كمال الشكر، والتقدير، ثم
_________
(1) انظر: الفوائد الجلية (2/ 65،66،67).(2/399)
اختتم كلامه وجلس فقابله سيادته بكلمات شكر. وقال الشكر لله وحده هو الذي أيدكم ونصركم، ومزق أعداءكم بسبب جدكم واجتهادكم وتوحيد صفوفكم ونرجو من الله لكم مزيد التوفيق؟
وبعدإقامته في طرسوس لمدة سنة تقريباً انتقل أحمد الشريف الى مرفأ مرسين، وفي اثناء اقامته وفد إليه صديقه الحميم أمير البيان الأمير شكيب ارسلان واتت بعض وجوه الناس من ليبيا، وارسل الرسائل الى ابن عمه محمد ادريس، والى قائد حركة الجهاد الغر الميمون عمر المختار يحثه على مواصلة الجهاد (1).
ثانياً: شكيب ارسلان يصف أحمد الشريف:
(فلما جئت الى مرسين ذهبت تواً لزيارته؟ فأبى إلا أن أنزل عنده، ريثما اكون استأجرت منزلاً في البلدة، وقد رأيت في هذا السيد السند بالعيان، ماكنت أتخليه عنه بالسماع وحق لي والله أن أنشد:
كانت محادثة الركبان تخبرنا ... عن جعفر بن فلاح أطيب الخبر
حتى التقينا فلا والله ما سمعت ... أذني بأحسن مما قد رأى بصري
رأيت في السيد حبراً جليلاً، وسيداً غطريفاً، وأستاذاً كبيراً، من أنبل من وقع نظري عليهم مدة حياتي، جلالة القدر، وسراوة حال، ورجاحة عقل، وسجاحة خلق، وكرم مهزة، وسرعة فهم، وسداد رأي، وقوة حافظة، مع الوقار الذي لاتغض من جانبه الوداعة، والورع الشديد في غير رئاء ولاسمعة. سمعت أنه لايرقد من الليل أكثر من ثلاث ساعات، ويقضي سائر ليله في العبادة، والتلاوة والتهجد، ورايته مراراً تنضج بين يديه السفر الفاخرة اللائقة بالملوك فيأكل الضيوف والحاشية ويجتزئ هو بطعام واحد لايصيب منه إلا قليلاً؛ وهكذا هي عادته وله مجلس كل يوم بين صلاتي الظهر والعصر لتناول الشاي الأخضر الذي يؤثره المغاربة، فيأمر بحضور من هناك من الاضياف ورجال المعية، ويتناول كل منهم ثلاثة
_________
(1) انظر: الفوائد الجلية (2/ 68،69).(2/400)
أقداح من شاي ممزوجاً بالعنبر؛ فأماهو فيتحامى شرب الشاي لعدم ملائمته لصحته، وقد يتناول قدحاً من النعناع، ومن عادته أنه يوقد في مجالسه غالباً الطيب، وينبسط السيد الى الحديث، وأكثر أحاديثه في قصص رجال الله وأحوالهم ورقائقهم، وسير سلفه محمد بن علي السنوسي، والسيد المهدي وغيرهم من الاولياء والصالحين ... ) (1).
(والسيد احمد الشريف سريع الخاطر، سيال القلم، لا يمل الكتابة أصلاً، وله عدة كتب ... ) (2).
(وقد ذرف السيد المشار إليه على الخمسين ولكن هيئته لاتدل على وصوله الى هذه السن، لندرة الشيب في شعره، وهو رائع المنظر، بهي الطلعة، عبل الجسم، قوي البنية، لايمكن أن يراه أحد بدون أن يجله ويحترمه) (3).
ثالثاً: القضاء على سلطنة آل عثمان:
بعد الانتهاء من حروب اليونان تهيأت القوات الكمالية، لدخول ولاية استانبول وبعد حصار دام مايقارب من الأربعة أشهر، ومحاولات طويلة مع دول الحلفاء تم الاتفاق على اخلاء استانبول من قوات الاحتلال، وبذلك تحقق السلطان محمد وحيد الدين عدم قدرته على مقابلة القوات الكمالية، فقرر هو وحكومته الجلاء عن استانبول، والالتجاء الى بعض دول اوروبا، وبذلك انطوى ملك آل عثمان بعد حكمهم للممالك الاسلامية مدة تزيد على السبعمائة سنة، فسبحان الذي لايزول حكمه ولايذل سلطانه "قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير" (سورة آل عمران، آية).
وقد تحدثت عن الدولة العثمانية في عوامل نهوضها واسباب سقوطها منذ النشأة حتى النهاية في كتابي السادس (صفحات من التاريخ الاسلامي).
_________
(1) انظر: حاضر العالم الاسلامي (2/ 159).
(2) المصدر السابق نفسه (2/ 161).
(3) المصدر السابق نفسه (2/ 164،165).(2/401)
بعد أن دخلت القوات الكمالية بلدة استانبول نصبت ولي العهد الامير عبد المجيد ولقبته بخليفة المسلمين لمدة ستة أشهر تقريباً دون أن يكون له أي حل أو ربط، أو أي مظهر رسمي، أو صفة رسمية، وإنما هو ذر للرماد في عيون المسلمين، وتسكيناً للحالة حتى لا يثور المسلمون ويطالبون ببقاء الخلافة ثم تدرجت حكومة مصطفى كمال بعد أن تمكنت من الوضع وخلعت الخليفة الصوري عبد المجيد، وأبعدته كما أبعدت كل من له صلة أو محبة، أو انتماء لآل عثمان وفي ذلك اليوم قال أحمد الشريف كلمته المشهورة: مازال أحمد الشريف (يعني لم يبقى أمام مصطفى كمال إلا أحمد الشريف).
بدأت نوايا مصطفى كمال الشريرة تظهر رويداً رويداً، فتدخل في الاحكام وغيرّ القوانين الشرعية، فانزعج احمد الشريف غاية، وغضب نهاية، وخاطب مصطفى كمال وقال له: أننا والمسلمون لم نناصرك، ونقف معك إلا لأجل حفظ كيان الدين الاسلامي، والتمس منه إعادة النظر سريعاً في الموضوع، كما حضه على التمسك بعرى الدين، الذي به انتصر، واكتسب عطف الشعوب الاسلامية عليه؛ فلم يرق هذا الكلام لمصطفى كمال وعده تدخلاً في سياسته الشيطانية.
لقد كان مصطفى كمال أفعى يهودية بحق، وماسوني متضلع، وحاقد على الاسلام والمسلمين، اتقن فنون الكيد والمكر والخداع، ولما تمكن من تركيا وشعبها قام بألغاء الخلافة الاسلامية، وفصل تركيا عن باقي اجزاء الدولة العثمانية، دولة الاسلام واعلن بكل وقاحة العلمانية في دار الخلاقة، وفصل الدين عن الدولة، واضطهد علماء المسلمين ابشع اضطهاد، وقتل منهم العشرات، وعلق جثثهم على أعواد المشانق، واغلق كثيراً من المساجد، وحرم الأذان، والصلاة باللغة العربية، وأجبر الشعب على تغيير زيه الوطني، وألزم الناس بلبس الزي الأوروبي، وألغى وزارة الأوقاف ومنع الصلاة في جامع آيا صوفيا وحوله الى متحف، وألغى المحاكم الشرعية، وفرض القوانين السويسرية، وفرض العطلة الأسبوعية يوم الأحد بدل من يوم الجمعة، وألغى استخدام التقويم الهجري، واستبدله بالتقويم الميلادي، وألغى(2/402)
قوانين الميراث، والزواج، والأحوال الشخصية المستمدة من الشريعة الاسلامية، وحرم تعدد الزوجات، والطلاق وساوى بين الذكر والانثى في الميراث، وشجع المرأة التركية، والفتيات على الدعارة، والفجور، واباح المنكرات، وضرب من نفسه المثل الأعلى على انحطاط الخلق والادمان على الخمر والنساء والانحلال، ومارس عن طريق حزب الشعب الارهاب والبطش بالشعب التركي المسلم (1).
واصبح مصطفى كمال مثلاً أعلى لكل طاغية مفسد في بلاد المسلمين، يقتدى به في كافة اموره بداية في لباس ثوب الدين حتى يتمكن ثم خلعه وكشف الفجور، والفسوق، وعلى العلماء والدعاة أن ينتبهوا لهؤلاء المجرمين الذين يستغلون الشيوخ، والعلماء، والدعاة، لحين ثم يضربون بهم عرض الحائط، ويعلقونهم على المشانق، او يفتحوا لهم ابواب السجون على مصرعيها، وكم من طاغية متكبر لايؤمن بيوم الحساب مكن نفسه بواسطة الدين، وعلمائه إن في ذلك لعبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
إن مصطفى كمال يعتبر مرتداً ملحداً زنديقاً خارجاً عن الاسلام، وهو أول من جاهر بالعلمانية، كنظام دولة نظرية وتطبيقاً وما قام به مصطفى كمال في حقيقته تنفيذاً لمخططات قديمة اشرف على تنفيذها اليهود، والماسون والنصارى، ومارس الانكليز ضغوطهم بالقوة بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الاولى 1914م - 1918م وقال وزير خارجية بريطانيا يومئذ (كرزون) بأنهم لايستطيعون أن يتركوا تركيا مستقلة حتى لايجتمع المسلمون حولها مرة أخرى، وعندئذ طمأنهم مصطفى كمال بأن استقلال تركيا لن يكون خطراً عليهم في المستقبل، فأملى الانكليز شروطهم المعروفة بشروط (كرزون) الأربعة:
1. أن تقطع تركيا صلتها بالاسلام.
2. أن تلغى الخلافة.
_________
(1) انظر: الأفعى في معاقل الاسلام، عبد الله التل، ص94،95.(2/403)
3. أن تتعهد بإخماد كل حركة يقوم بها أنصار الخلافة.
4. أن تختار لنفسها دستوراً مدنيا بدلاً من الدستور، العثماني المستمد من أحكام الشريعة الاسلامية على حدودها (1).
وفرضت معاهدة لوزان التي ذكر فيها الشروط السالفة سنة 1340هـ/1923م على تركيا.
لقد اتفق الغرب الحاقد والصهيونية الماكرة، والماسونية الخادعة، على تسليم تركيا لأبشع حركة تغريب، وتدمير للقيم الاسلامية.
رابعاً: طرد أحمد الشريف من تركيا وهجرته إلى الحجاز:
ومن طرف خفي بدأت السلطات التركية تضايق أحمد الشريف وتعد عليه أنفاسه، وأحكمت الرقابة على كل من له تعلق بالسيد، أو يزوره، وعلى المكتابات الواردة إليه، والصادرة منه، ثم سحب بعض الجنود والضباط الذين كانوا مرافقين للسيد للقيام بحراسته وخدمته، ومرافقته، وأخيراً توقفت المصاريف التي كانت تعطى لسيادته لمدة أربعة أشهر، واشتدت الضائقة في بلاد الغربة، وقام الأتراك المحبين للسيد بالقيام بواجب الضيافة، وخشيت الحكومة حدوث مالاتحمد عقباه، فقلبت المجن وعدلت عن خطتها وسارعت بحوالة الصرف، وبدأت تكيد في الخفاء لإيجاد أمر تدين به سيادة أحمد الشريف، فأرسلوا إليه شخص أدعى أنه طالب علم وطلب منه أن يعطيه تزكية لحفيد السلطان عبد الحميد (الشهزادة سليم) الذي كان مقيماً في بيروت ليعينه على مهمته وهي وصوله الى مصر لطلب العلم بالجامع الأزهر، وبالغ الطالب الذي يدعى ضياء الدين جودت في الترجي والاستعطاف، والتردد حتى أخجل أحمد الشريف، فكتب إليه؛ إن حامل هذا الكتاب إليكم هو أحد طلبة العلم المحتاجين للمساعدة ويأمل أن تمدوا له يد العون بقدر المستطاع لاتمام مهمته وإذ بالكتاب يصل الى مصطفى كمال الذي طلب من مجلس الحكومة الاجتماع وقرأ
_________
(1) انظر: الاتجاهات الفكرية المعاصرة، جمعة الخولي، ص100.(2/404)
عليهم الرسالة: فقالوا هذه خيانة عظمى للدولة وقرروا حالاً إبعاد سيادة أحمد الشريف عن تركيا في مدة لاتتجاوز العشرة أيام أو ألزامه بالاقامة الجبرية في قرية عثمانية تابعة لولاية أظنه مدة حياته دون اتصاله بأحد ما، وبذلك أبلغت حكومة أنقرة أمرها هذا لسيادة أحمد الشريف بواسطة والي الولاية أظنة فقال أحمد الشريف عندما سمع القرار: كنت أتوقع هذا منذ خلع عبد المجيد لأن بقائي في تركيا لايروق لمن يريد أن يتلاعب بأمر الشرع الشريف، ويطمس معالم الدين الحنيف وإنني أختار الخروج من تركيا، وهذا جزاء معاضدتي، ومناصرتي لها وسوف تخسر تركيا ميزتها بين عموم الشعوب العربية، والأمم الاسلامية، فرفع الوالي اختياره
وبذلك حددت لسيادته اقامة عشرة أيام، وتحصل على تأشيرة لدخول سوريا لمدة محدودة ونزل في دمشق ضيفاً على سعيد الجزائري حفيد المجاهد عبد القادر الجزائري، وفرح به أهل الشام فرحاً عظيماً، وتوافد الاعيان، والشيوخ، والزعماء لزيارته، ونشطة الحمية الاسلامية، وزار القدس ونزل ضيفاً عزيزاً على أمين الحسيني رئيس المجلس الأعلى الاسلامي، وضايقه البريطانيون من أجل خروجه من القدس ورجوعه الى دمشق، وعاملته فرنسا معاملة حذرة وطلبت منه الخروج، وارادت إيطاليا أن تستغل الموقف، وعرضت عليه مساعدات، والرجوع الى ليبيا للتفاوض مع الحكومة الايطالية من أجل مصلحة البلاد، والعباد، فأجاب السيد الجليل، والجبل الشامخ -رحمه الله-: أما وأنا خارج حدود الوطن، فلن أساوم أو أصالح على شبر منه، كما لاحق لي في ذلك، وإذا كانت الحكومة الايطالية صادقة في قولها؛ فعندها الأمير السيد محمد ادريس المهدي السنوسي في مصر، وعندها رؤساء الوطن، فتتفاهم معهم وهم أسهل لها وأخف شروطاً مني وبهذا قفل باب المفاوضات (1)، ولقد قال لمندوب الحكومة الايطالية في تركيا من قبل: ( ... لأن طرابلس وبرقة ليستا ملكي لأجود به على الطليان، بل هما ملك أهلها) (2).
_________
(1) انظر: الفوائد الجلية (2/ 73،81).
(2) انظر: حاضر العالم الاسلامي (2/ 158).(2/405)
واشتد ضغط الحكومة الفرنسية على سيادة السيد أحمد الشريف للخروج من سورية، فطلب مقابلة القنصل الانكليزي بدمشق فقدم الى سيادته وبعد مقابلة المجاملة قال له إني أريد الخروج من سوريا الى الحجاز عن طريق شرق الاردن، فقال القنصل: الحكومة الانكليزية لاتوافق؛ فقال له: إذاً إلى العراق، فقال له أيضاً لاتوافق، فقال له الى مصر، فقال له ملك مصر لايوافق، فقال له الى اليمن أو الهند أو السودان، فقال له لانوافق وكل بلد يعتليه العلم البريطاني لايمكن أن تدخلونه، فغضب أحمد الشريف، واشتاط غضباً وقال للقنصل: (إذاً مفايتح الدنيا كلها بيد الانكليز؟ أليس الأرض كلها لله وأن الأمر بيده ثم قال له أما أنا؛ فسيجعل الله لي فرجاً ومخرجاً وإما الحكومة البريطانية والله ثم والله سيأتي يوم تندم فيه على هذا التصرف (1)، وستخسر كل ماتحت يدها من الممالك، وستندم ولاينفعها الندم) فقال القنصل كالمستهزئ عندكم طريق نجد، فقال له نعرفها ولا حاجة لدلالتكم، فغضب القنصل وخرج محمر الوجه (2).
يقول عبد القادر بن علي بعد فترة من الزمن: وهاهو اليوم تحقق ماأقسم عليه سيادته، فقد خرج العراق وشرق الاردن، والهند، ومصر، والسودان، ... وغيرها من يد الانكليز (3).
واتصل سعيد الجزائري بمندوب الملك عبد العزيز في دمشق الشيخ عبد العزيز الشقيحي، وعرض عليه رغبة السيد أحمد الشريف للحجاز واتصل مندوب الملك، وجاء الرد بالموافقة، وبدأت الرحلة الى الحجاز عن طريق اراضي نجد، تأخذ وضعها للاستعداد وأعدوا ثلاث سيارات مع ثلاث خبراء بمبلغ 270 جنيه ذهب، ولم يكن هذا المبلغ متوفراً وضايقته السلطات الفرنسية وهددته، بإرجاعه الى تركيا وعندما ضاق الأمر، واشتدت الكربة جاء فرج الله وكان السبب الأمير شكيب ارسلان الذي أرسل للسيد أحمد الشريف 400 جنيه استرليني اهداها الشيخ جاسم بن ابراهيم احد تجار اللؤلؤ بمباي (قد جعل الله لكل شيء قدرا)؛ فعندما جاء
_________
(1) انظر: الفوائد الجلية (2/ 81).
(2) انظر: الفوائد الجلية (2/ 81).
(3) المصدر السابق نفسه (2/ 81).(2/406)
الخبر لأحمد الشريف خرّ ساجداً لله تعالى يحمده، ويشكره على هذا الغوث الرباني، والمدد الالهي ثم رفع رأسه، ورفع يديه الى السماء وقال فرجت علينا ياشكيب فرج الله عنك كرب الدنيا والآخرة، وساعدتنا في محنتنا ساعدك الله على أمور دينك ودنياك، ودعوات كثيرة نالها شكيب ارسلان بسبب ارسال ذلك المبلغ ووصوله في الوقت الحرج.
قال تعالى: "ومن يتقي الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب - ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً" (سورة الطلاق، آية).
وتحركت الرحلة الى الحجاز عن طريق نجد، وكانت عناية الله وحفظه ورعايته محيطة به، ووصل الى منطقة الجوف (دومة الجندل)، وظن أهل المنطقة إنهم أعداء فألقوا القبض عليهم، وبعد أن عرف أميرهم عبد الله بن عقيل إن الذي أمامه أحمد الشريف السنوسي صاحب الجهاد في برقة وطرابلس، وأنه يقصد حج بيت الله الحرام ثم زيارة الملك عبد العزيز بن سعود، فارتمى عليه الرجل وعانقه ورحب به، واعتذر لسيادته، واحسن نزله وأرسل الى الملك عبد العزيز فرد عليهم، بإكرامه واحترامه وارجاع السيارت الى محلها لأن هذا من إكرام أحمد الشريف لأن الأمير عبد الله بن عقيل فكر في إحراقها، وكانت هذه السيارات هي أول سيارات تشق هذا الطريق وتقطع هذه الصحراء العظيمة، وكان قد أشيع أن أحمد الشريف مات في الصحراء هو ومن معه، ونهبتهم الأعراب، ولم ينفي هذه الاشاعات إلا رجوع السيارات الى دمشق واستمر في رحلته حتى وصل مكة واعتمر ثم جاءه وفد الملك عبد العزيز ثم سافر الى جدة وألتقى بالملك عبد العزيز فأكرمه واحسن نزله، وأصبح في ضيافته، وقدم خدمات عظيمة للاصلاح بين القبائل وتوحيدها تحت زعامة الملك عبد العزيز الذي كان يحارب الحسين بن علي في جدة، وأصبح أحمد الشريف يتردد بين مكة والمدينة في ضيافة الملك عبد العزيز (1).
_________
(1) انظر: الفوائد الجلية (2/ 88 الى 120).(2/407)
خامساً: نصيحة الملك عبد العزيز لأحمد الشريف:
في عام 1346هـ أراد احمد الشريف أن يحج بيت الله الحرام في ذلك العام، فأهل من ذي الحليفة وعند وصوله الى جدة، وجد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود بها نازلاً في بيت أحد وجهاء جدة المسمى الشيخ محمد حسين نصيف، وزار أحمد الشريف الملك عبد العزيز، وطلب الملك منه البقاء في جدة، لمدة يومين لأمر خاص وتم اللقاء بين الملك عبد العزيز وأحمد الشريف وكان المقصود من هذا الاجتماع هو التفاهم والمباحثة، لايجاد طريق لحل مسألة الحرب القائمة في برقة، وعرض عليه فتح باب المفاوضات مع الحكومة الايطالية، وعقد هدنة على شروط تعودون بموجبها الى وطنكم وتتداركون البقية الباقية من اهله المتعبين وقال الملك عبد العزيز: إن أهل وطنكم في ذمتكم ويحتاجون الى تفكيركم في راحتهم، وتداركهم قبل القضاء عليهم، وهما مهما يقاومون فلابد أن يكلوا لأن هذه الحكومة قوية قائمة ولديها مايحتاجون من لوازم الحرب، وعقد الهدنة معها يجعل لكم فرصة تجتمعون خلالها بأهل وطنكم وتلمون شتاتهم، وترتبون أموركم على حسب ما تستطيعون من مصالحة او محاربة فيما بعد، وهذا الذي دعاني الى طلبكم فأجاب أحمد الشريف: صدقتم في كل ماقلتم ولكن ياحضرة الملك الحكومة الايطالية، غادرة وماكرة ولا عهد لها، ولا ذمة، وإذا كانت صادقة في رغابتها فعندها أهل الوطن، وهم المحاربون لها، وأمامها الأمير السيد محمد ادريس المهدي السنوسي عرفته وعرفها، وهو ينوب عني وعن أهل الوطن فتتفاهم معه، وهو أهون لها مني وألين، أما أنا مادمت خارجاً عن الوطن بعيداً عنه فلن نساوم فيه، وحكومة ايطاليا تريد أن تحكم الوطن باسمي نظير اغرائها باموالها ووعودها الخلابة، وأنا أريد تخليص الوطن منها كلياً، كما سيكون ان شاء الله عاجلاً او آجلاً، ولذلك ارجو أن تتموا احسانكم لي، وتساعدوني على هجرتي، واعفائي من ألاعيب إيطاليا، وعدم انشغالكم وإنشغالي بما لايأتي بنتيجة، فقال الملك عبد العزيز -رحمه الله- أما
مساعدتكم على هجرتكم فهذا حاصل إن شاء الله، ولا لنا فيه(2/408)
جميل، وأما موضوع الوطن وأهله، فأنتم أدرى به، ولن نشغلكم ثانياً إن شاء الله، نرجو الله أن يقدر للجميع مافيه الخير والنصر والتوفيق (1).
ثم توجه أحمد الشريف الى مكة وأدى مناسك العمرة ثم أدى مناسك الحج ثم رجع الى المدينة، وكان يتصل بأهل ليبيا عن طريق الحجاج ويجمع لهم الأموال والمساعدات ويقوم بتوجيهم خير قيام.
سادساً: وفاته:
أخذ أحمد الشريف بعد وصوله للحجاز يتنقل بين المدينة المنورة، ومكة المكرمة وإذا بداعي الموت يناديه في تمام الساعة الثامنة من يوم الجمعة 13 ذي القعدة سنة 1351هـ الموافق العاشر من شهر مارس سنة 1933م في الزاوية السنوسية في المدينة المنورة (2) أثر مرض عضال لم يمهله، ودفن في مقبرة البقيع قرب قبر الامام مالك بن أنس إمام دار الهجرة (3)، بعد أن عاش أحدى وستين سنة قضاها في خدمة الاسلام والمسلمين، ورفع شأن الدين، ومجاهدة الكافرين الغاصبين في شتى الميادين، فعليه وعلى أمثاله الرحمة والمغفرة والرضوان من رب العالمين وأعلى الله ذكره في المصلحين.
سابعاً: صدى وفاة أحمد الشريف في العالم الإسلامي:
نشر بمجلة اللطائف المصورة بعدد 20945مارس سنة 1933م مايلي:
يوم 11 الجاري نعت برقيات الحجاز السيد أحمد الشريف السنوسي الكبير؛ فكان لنعيه رنة حزن مرير اعادت الى الاذهان تلك الجهود الجبارة، والتضحيات الغالية التي بذلها هذا الفقيد العظيم في نشر الاسلام، وتثقيف أهل البيد، ومكافحة الاستعمار الايطالي سنوات عديدة، قضاها أرسخ مايكون ثباتاً وإيماناً؛ فقد كان للفقيد نفوذ روحي عجيب استطاع به أن يعمم دعوته في احشاء الصحراء وشمال أفريقيا، وأعمال السودان، ولما اغارت ايطاليا على طرابلس منذ ربع قرن ثارت نخوته الوطنية
_________
(1) انظر: الفوائد الجلية (2/ 122،123).
(2) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص179.
(3) انظر: برقة العربية، ص323.(2/409)
الدينية ووقف يدافع عن وطنه ودينه مثيراً روح العزم والقوة في أنفس العربان ثم انظم الى الاتراك ضد الايطاليين إلا أن تركيا اشتغلت بالحرب البلقانية الثانية سنة 1911م، فضل الفقيد يناضل وحده في الميدان، وصمد به مايزيد عن ثلاث سنوات استطاع خلالها بجلده، ومضاء عزمه، ويقينه مع قواته القليلة أن يقهر القوات الايطالية المنظمة الكبيرة، ويلحق بها الهزائم والخسائر حتى أرغم إيطاليا على طلب الصلح معه على يد الخديوي السابق عباس حلمي، فرفضه قائلاً إني لا أصالح أبداً دولة مسيحية على شبر من أرض للمسلمين، واستمر في جهاده المستميت الى آخر سني الحرب العالمية، حيث سافر الى تركيا، وعرضت عليه الخلافة الاسلامية، فرفضها ... وبعد أن وضعت الحرب أوزارها ألتجأ الى بلاد الحجاز، وضل فيها اربعة عشر عاماً بعيداً عن وطنه محتفظاً بإيمانه وتقشفه، ووطنيته الى أن لبى نداء ربه وله في القلوب أفعم الذكريات ... ) (1).
فرح إيطاليا بموته:
أعلنت إيطاليا وفاة السيد أحمد الشريف على لسان وزير مستعمراتها وقتذاك الجنرال دى بونو داخل قاعة المجلس الفاشيستي المنعقد حينذاك فقال: مات السيد أحمد الشريف السنوسي بالحجاز، متأثراً بالشلل، وبموته ماتت جميع مخاوفنا في افريقيا وقال أيضاً مامعناه أن موت هذا الرجل العدو اللدود لنا يجعلنا نطمئن لجميع أعمالنا، ومقاصدنا الدينية في شمال أفريقيا، وقد كتبت أكثر الصحف الايطالية يومية كانت أو اسبوعية في فصول عقدتها حول تصدع ذلكم الصرح العظيم (2).
شكيب ارسلان يأبنّ أحمد الشريف في عنوان كبير بقية السلف الصالح وخاتمة المجاهدين:
لم يشعر بالخوف قلبي فيما عدا المصائب التي رزئت بها في أفراد عائلتي ما
_________
(1) انظر: برقة العربية، ص324.
(2) المصدر السابق نفسه، ص325.(2/410)
أشعره النبأ الصادع، والخبر الفاجع الذي نقل الى الآفاق نعي الاستاذ الأكبر، والسراج الأزهر خاتمة المجاهدين، ومثال الغزاة المرابطين، السيف الباتر على هدى الصحابة الكرام في العصر الحاضر محي مآثر الأوائل في ايام الأواخر سيدي أحمد الشريف ابن سيدي الشريف ابن سيدي محمد بن علي السنوسي رضي الله عنه وعن سلفه وأرضاهم وجعل في جوار قدسه مأواهم.
إن فجيعة العالم الاسلامي بهذا الرجل الكبير من رجاله، بل بهذا الجبل الراسي من جباله هي من الحوادث التي تشغل مكاناً خاصاً في تاريخ مصائب الاسلام الذي أصبح أغنى تواريخ الأمم بالمصائب، وان هذا الفقيد العظيم لو عاش في زمن السلف الصالح وأيام الغزوات العربية والفتوحات العمرية لما كان مكانه في ذلك الوقت ليقصر عن مكان أحد من أولئك الابطال الذين نشروا الاسلام في الخافقين ورفعوا لواءه من نهر الرون الى جدار الصين، فما ظنك وهو قد جاهد هذا الجهاد كله، ووقف مدة عشرين سنة في وجه دولة من الدول العظام في عصر دثرت فيه معالم الجهاد، وانطفأت جذوة الاسلام حتى لم يبق منها إلا الرماد، واستولى اليأس على قلوب المسلمين حتى حسبوا كل مقاومة لدولة أوروبية ضرباً من ضروب الحماقة، وعم ذلك جموعهم الحاضر منهم والباد، وانتشر في الربى والوهاد، ومع هذا فإن سيدي أحمد الشريف السنوسي قد أتى ببرهان ساطع، ودليل قاطع على أن فئة من المسلمين في قطر لايتجاوز عدد أهله عدة مئات من الألوف يمكنها بقوة الارادة، وثبات العزم، ومضاء الصريمة، وإباء الضيم، وترجيح المعنى عن المادة، وإيثار الشرف على الترف، وامتلاء القلوب بالايمان، ووقف النفوس على اعتزام عزائم الاسلام ان تثبت مدة 240 شهراً، بازاء دولة عدد أهلها اثنان واربعون مليوناً مجهزة بجميع ماهي مجهزة به عظيمات دول العالم المتمدن لها من فيالق البر وأساطيل البحر، وسيارات الكهرباء، والمحلقات في الفضاء ما لاتملك أعظم منه دولة من الدول القاعدة في الصف الأول في ممالك الأرض.
وقد يقول المتعنتون الذين في قلوبهم مرض والذين لايروقهم إلا أن يروا(2/411)
الاسلام ذليلاً مهيناً: وماذا أفادنا قيام السيد السنوسي في وجه إيطاليا، وهل كان ذلك إلا سبباً في زيادة قهر المسلمين، وإرهاقهم، بأفانين الظلم، وأساليب الاستئصال في طرابلس الغرب؟ فلو كان هؤلاء الاهالي قد خضعوا من بداية الأمر للدولة التي قد احتلت بلادهم وقضي الله بسيادتهم عليهم لربما كانوا قد نجوا من العذاب المقيم الذي هم فيه والخطوب التي أبادت خضراءهم، وماأشبه ذلك من الاعاليل التي تفيض بها قرائح النفوس الخاملة المولعة بالاستحذاء للأجنبي أيا كان.
وجوابنا على ذلك بسيط وهو: إننا مارأينا أمة اوروبية مهما قل عددها وانقطع مددها، قد رضيت بالاستحذاء لدولة اوروبية عظيمة مهما علا سلطانها، وغلظت ملكتها في الأرض؛ بل القاعدة عند الأوروبيين -الذين هم قدوة الشرقيين الآن في جميع المآخذ والمتارك- هي أن الأمة المستقلة لابد لها من أن تذود عن حوضها وتدافع بغير دفاع فالموت أولى به من الحياة بلا نزاع. وأن بقية السيف مهما قلت هي أشرف مقاماً، وأرجى حياة من الكثرة المستنيمة الى الذل ولو كان كالجراد المنتشر، وقد حققت الحوادث، وأيدت التجاريب أن الخضوع ليس من أحسن الوسائل التي تعالج بها عداوة الأعداء وأن قول الشاعر:
قاتل عدوك باللسان
وإن قدرت فبالسنان
إن العداوة ليس
يصلحها الخضوع مدى الزمان
لاتزال هي الحقيقة السياسية التي تدين بها دول العالم الحديث، كما دانت بها دول العالم القديم. ولعمري لو خضع الطرابلسيون من أول الأمر أكمل الخضوع لايطاليا لما كان لذلك نتيجة سوى زيادة الطغيان في معاملتهم واستخفافهم بملتهم، وامتداد أيدي الأوروبيين دون أدنى تردد الى كل قطر من الأقطار الاسلامية قياساً على قضية طرابلس، واعتقاداً بأن هذه الامة قد فقدت حسيس الحياة فهي لاتبدي، ولا تعيد، ولا تفعل فيها الأسنة ولا السهام لأنه مالجرح بميت ايلام.
قد استشهدنا على صحة المقاومة ولو كان المعتدي قوياً، والمعتدي عليه ضعيفاً(2/412)
بالقاعدة السياسية والمبادئ الاساسية التي يسير عليها الأوروبيون حرباً وسلماً، وعملاً وعلماً، ولم تتعرض الى مايجب من ذلك على المسلمين الذين ينهاهم كتابهم عن الخضوع للاجنبيين عنهم ويقول لهم: " ... إن كان اباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لايهدي القوم الفاسقين ... " ولم يكن تقديمنا الحجة الاولى لكوننا أشد بها اقتناعاً من الحجة الثانية، ولكن لمعرفتنا أن مثل هؤلاء المصابين بمرض الافتتان بالسلطة الأوروبية ليسوا ممن يقبلون الجدال على قاعدة الأوامر والنواهي القرآنية، وإنك إن لم تستظهر عليهم بكتاب أوروبي أو سنة غربية لم يفدك الأخذ والرد معهم شيئاً.
فالسيد أحمد الشريف السنوسي هو خاتمة مجاهدي الاسلام الى هذا الوقت قد سبقه الشيخ شامل الداغستاني الذي قاوم الروسية أربعين سنة، والامير عبد القادر الجزائري الذي ناهض فرنسا 17 سنة، وتبعه في الجهاد واقتدى بسيرته محمد عبد الكريم الخطابي الريفي الذي كانت مقاومته قصيرة ولكنها عريضة تواقف فيها مع دولتي فرنسا وأسبانيا معاً وجهاً لوجه وزلزلتا في حربه زلزالاً شديداً ولولا السيد أحمد الشريف رحمه الله تعالى لكانت ايطاليا استصفت قطرى طرابلس، وبرقة من الشهر الاول من غارتها الغادرة عليهما واننا لانزال نذكر كلام القواد، ورجال السياسة الاوروبية عن الحملة الايطالية يوم جردتها ذينك القطرين إذ قال بعضهم إن إيطاليا ستقبض على ناصية الامر، وتستكمل هذا الفتح في مدة 15 يوماً، وقال أشدهم تشاؤماً وأقلهم تخيلاً، وأبصرهم بأمور الشرق وهو اللورد كتشنر المشهور أن هذا الفتح الذي يستهله الناس على إيطاليا أمامه من الصعوبات أكثر مما يظنون، وقد يستغرق ثلاثة أشهر بالاقل .. فليتأمل أولوا الألباب كيف أن هذه الثلاثة أشهر امتدت عشرين عاماً، ورزأت الدولة الايطالية بمائة وخمسين ألف عسكري قتلى عدا الجرحى، وبثلثمائة مليون جنيه من الذهب الوضاح، هذا كان مجموع خسائر(2/413)
ايطاليا منذ سنتين بحسب الاحصاءات الرسمية، وهذا كان ثمرة جهاد ذلك السيد السند.
نعم لم تأكل ايطاليا في اعتدائها الفظيع هذا مريئاً ولم تشرب هنيئاً، وعلق في حلقها من سمك الاسلام حسك لايزول في الاحقاب، ولا في القرون، وكل ذلك بما أراده الله على يد رجل قد كان يفهم الاسلام حق الفهم، ويعمل بما يعلم منه بدون انحراف يمنة ولا يسرة، ولم يكن في قلبه شيء من الدنيا بجانب الآخرة، وكانت جميع حطام هذا العالم الفاني لا توازي عنده جناح بعوضة في جانب الواجب الاسلامي، وهذا الرجل هو السيد السنوسي الكبير الذي لولاه لم يكن أنور قدر أن يعمل شيئاً، ولا كانت الدولة العثمانية قدرت أن تدافع عن طرابلس شهراً واحداً. وماكان المرحوم الشهيد البطل الفريد عمر المختار إلا حسنة من حسنات السيد أحمد الشريف، وقائداً من قواده.
قلت أن السيد السنوسي لو كان في عصر السلف لكان في صف أعاظم أبطال المسلمين، فكيف وهو في عصر الخلف الذين بينهم، وبين السلف مابين المشرق والمغرب، وإن هذه المقابلة تذكرني بما قاله احد العلماء عن أحمد بن حنبل - رضي الله عنه -: ماقام أحمد بأمر الاسلام بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل أحمد بن حنبل فقيل لذلك القائل، وأظنه ابن المديني المحدث المشهور: ولا أبوبكر الصديق؟ فأجاب ولا أبوبكر الصديق. وذلك لأن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - كان له رجال وأعوان وأن احمد بن حنبل لم يكن له رجال ولا أعوان، وإنما كان يناضل بقوة نفسه وحدها.
ونحن نقول لو كانت الدولة العثمانية قاومت ايطاليا هذه المقاومة أو قاومت أعظم من أيطاليا مما سبقت لها العادة بمقاومته وأحياناً بموالاة الهزائم عليه لما كان في ذلك مايقضي بالعجب، ولكن الذي قام هذا المقام الشريف، ووقف هذا الموقف التاريخي النادر النظير هو رجل لايملك سوى قوة ارادته، ومتانة ايمانه، وإيمان رجاله، وعزة أنفسهم بالاسلام، وصبرهم في البأسا وحين البأس، وبينهم وبين عدوهم في الاعتدة والأسلحة والمال، والعدد من الفروق الهائلة مالا يحتمل التنظير(2/414)
في قليل ولا كثير؛ ففضله إذن إعظم جداً من فضل الدولة العثمانية في جهادها وان كان فضلها عظيم، وهو وحده كان مصدر هذه الارادة التي أنشأت بإذن الله هذا الجهاد الطويل العريض، وحفظت شرف الاسلام المعتدى عليه في طرابلس، وغير طرابلس لانه مما يجب أن لانتمارى فيه ان أوروبا لاتعرف في ذات نفسها إلا إسلاماً واحداً، أن السيد أحمد الشريف هو بنفسه أمة، وأن سيرة السيد أحمد الشريف هي بذاتها تاريخ، وإن كل من عرف عن كثب ذلك السيد الغطريف علم من أخلاقه وورعه وحلمه وعلمه، وزهده في الدنيا، وحبه لمعالي الأمور وعزوفه عن سفاسفها، ومؤاساته للفقراء، وحنانه على الضعفاء، وشدته مع ذلك في الدين، وانحصار كل همومه في استتباب أمر المسلمين، ومحافظته على الفرائض والسنن، وغير ذلك من الأخلاق العالية، والهمم الشماء، والمنازع القعساء مايذكر بأخلاق الصحابة الكرام، بل يشبه من أخلاق الخلفاء الراشدين العظام، ولا أقول هذا في مقام تأبين من عادة الناس أن يروا فيه الحسنات مجسمة، وأن يحملهم الموت على طي الهنات وتناسي السيئات، بل أقول أنه كان هذا لسان جميع من خالطوه، والفقيد رحمه الله ملآن حياة، وكل من خالطه يعرف منه هذه الاخلاق بأجمعها ويعرف أكثر منها؛ وطالما كان يقول الأمير سعيد حليم الصدر الأعظم: إن الامة الاسلامية والدولة العثمانية لم تقدر هذا الرجل حق قدره ...
وإني لمتذكر كوننا صمنا شهر رمضان في مرسين وذلك سنة 1342هـ، فكنت إفطر في منزلي بالبلدة ثم أذهب الى خرستيان كوى حيث يقيم السيد، ونصلي وراءه العشاء والتراويح، وكان يجتمع المغاربة الذين في مرسين نحواً من أربعين شخصاً ويصلون وراءه أيضاً، فكان يقرأ خمس القرآن في كل صلاة، وكنت صليت وراءه ساعتين؛ فعجزت عن ذلك، وصرت أقتصر على صلاة العشاء وكانوا هم يصلون التراويح، وبعد الصلاة نجلس الى السحور، وكان في القراءة يتدفق كالسيل ولايتوقف، ولايتردد، ولايتلعثم، وكنت أقضي من ذلك العجب العجاب، وأقول كيف أن رجلاً كهذا الرجل قد توسط بين الخمسين والستين من العمر، وتحمل من الهموم، والاثقال ماتنوء به الجبال، وهو لايزال يتذكر كتاب الله كله ويقرأه عن ظهر قلبه كقراءته للفاتحة؛ لم(2/415)
أتذكر أنه مدة الشهر من أوله الى آخره وفي الختمات الست التي ختمها لكتاب الله توقف في القراءة أكثر من ثلاث أو أربع مرات كان يقف قليلاً ليتذكر الآية، وكان وراءه شاب تونسي حافظ، فيسرع بالقائه إياها له؛ فيمضي في القراءة مضاء السهم، وهذا غريب؛ فيمن بلغ تلك السن، وانطوى على ذلك الهم العظيم؛ من فراق الأوطان، وتنوع الأشجان، وجور الحدثان.
ولم يكن للسيد غرام في الدنيا إلا بأمر هذه الأمة ولما سألته عند اجتماعنا في مكة عن أولاده الذين تركهم أطفالاً أجابني: قد صاروا الآن رجالاً، وما أنا بمفكر في أمرهم، وإنما يهمني أمر هذه الأمة المعذبة في طرابلس، وكان في قلبه من أمر طرابلس مالا يعلمه إلا الله، ولكنه كان في إيمانه في ثبات الجبال، وكان يرى في هذه المصائب مقدمات يقظة الاسلام .... اللهم انه كان من اجل العارفين بك وأبر القائمين بأوامرك ونواهيك وأشد المحبين لعيالك الخلق، وأصلب المتمسكين بكلمتك الحق، وانه كان القدوة المثلى بين خلائقك، والحجة الوثقى بحقائك والرجل الذي أدى الى آخر نفس من أنفاسه جميع الواجب الذي عليه لدينه ولقومه، ولناسه، وللانسانية التي كان لها مثالاُ، فأعلي درجته يارب في جوار قدسك ونوّر وحشتة قبره بأنسك وبوئه في عقباه المقام الكريم الذي يليق بكرمك العميم، وبثوابك لمن سلكوا الصراط المستقيم واستحقوا النعيم المقيم إنك أنت الرحمن الرحيم) (1).
لقد نعت احمد الشريف رحمه الله أغلب الصحف في المشرق الاسلامي، بأقلام أكابر الشعراء والكتّاب، وقد كتب السيد عبد الرحمن عزام فصلاً عن حياة السيد احمد الشريف نشرته جريد البلاغ الغراء الصادرة بمصر (2)، وقد صلى عليه المسلمون صلاة الغائب بعد صلاة الجمعة الاولى من شهر محرم فاتحة سنة 1352هـ وقالت مجلة المنار: تقام صلاة الغائب على الزعيم الاسلامي المجاهد العظيم، والمرشد الشهير، السيد أحمد الشريف السنوسي في جميع المساجد الجامعة في القطر المصري، وسائر الاقطار التي بلغتها الدعوة الى هذه الصلاة من مكتب المؤتمر
_________
(1) انظر: حاضر العالم الاسلامي (2/ 396 الى 405).
(2) انظر: برقة العربية، ص325.(2/416)
الاسلامي العام في القدس الشريف، ستكون هذه الصلاة ممتازة بمعنى لم يسبق لها نظير في مثيلاتها من صلاة الغائب التي يقيمها المسلمون في بعض الاقطار عندما يموت عظيم من عظماء الاسلام في علمه الواسع وعمله النافع، لا باتصاف السيد السنوسي بشرف الحسب ولا باشتهاره بالصلاح والتقوى، ولا بمكانه المعروف في العلم والعمل والارشاد والاصلاح، والبر والاحسان، ولا بالجاه العريض الذي ناله بتقليده سيف البيعة للسلطان محمد الخامس، وانعام السلطان عليه بلقب الوزارة والنيشان المرصع، فكان أول عالم مرشد معهم تحلى بها، كما تقدم آنفاً؛ بل تمتاز هذه الصلاة على هذا الرجل العظيم بعمل له هو الذي تم به كماله وهوالجهاد بماله، ونفسه في سبيل الله دفاعاً عن دينه، وقومه، ووطنه، وبما آل إليه أمره من جراء هذا الجهاد من هجرته الاولى الى بلاد الترك، ثم اخراجه منها وتعذر رجوعه الى وطنه، وتعذر اقامته في سورية، ومصر وفي كل قطر اسلامي خاضع لنفوذ الدول الاستعمارية الثلاثة المحاربة للاسلام المستذلة للمسلمين، وقد قاتلها كلها في سبيل الله، حتى لجأ أخيراً الى مهد الاسلام في حرم الله، وحرم رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومات بجوار جده صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، فبهذا كله صار للصلاة عليه معنى لم يسبق
لغيره من عظماء الاسلام المعاصرين (1).
هذا وقد أبنه الشاعر الكبير الاستاذ احمد محرم المصري بقصيدة قال فيها:
هتف النعى فما ملكت بياني
ليت النعى الى الامام نعاني
فزع الحيطم وراع يثرب عاصف
للموت ضج لهوله الحرمان
سهم أصاب المسلمين وجال في
كبد الهدى وحشاشة الايمان
جرح الائمة واستمر فما ارعوى
حتى استباح مقاتل الفرسان
ذهب الامام يقيم حائط دينه
ويراه انفع مايقيم الباني
ذهب المجاهد يشتري لبلاده
عز الحياة باشرف الأثمان (2)
_________
(1) انظر: مجلة المنار لصاحبها محمد رشيد رضا (2/ 137) لعام 1933م.
(2) انظر: برقة العربية، ص326.(2/417)
وأما الاستاذ عبد القادر المجددي الأفغاني نزيل الحجاز فقد قال قصيدة عصماء في رثاء احمد الشريف من ابياتها:
الله أكبر ماهذه المصيبات
ذابت لاهوالها منا الحشاشات
اعلام جيش الهدى قد نكست جزعاً
لما توالت من الايام صدمات
مات الذي كان للاسلام خير حمى
رباه رحماك ماهذه الدهيات
من للبواتر من بعد الفقيد ومن
للمشرفيه إن صحت ملاقات
الى أن يقول:
ذببت عن حوض هذا الدين متكلاً
على الإله فوافتك الشهادات
في الغرب في الشرق في الاسلام في عرب
بطن الصحائف من ذكراك آيات (1)
هذه قصة احمد الشريف السنوسي، السيد الصنديد، والعالم الجليل، والعابد الخاشع، والمجاهد الشجاع، والمهاجر الحزين، حاولت جاهداً أن أوضح للقارئ الكريم ملامحها الايمانية، وروائحها الزكية، وروحها الأبية، وحياتها المليئة بالدعوة، والجهاد، والعبادة، والعطاء لهذا الدين العظيم.
إن هذه السيرة العطرة تبين لمسلمي ليبيا أن من أصلاب أجدادهم خرج مثل هؤلاء الأبطال، وعاشوا للذود عن الاسلام، ونشره بين الأنام، وبذلوا الأنفس والأموال، وتقيم الحجة الدامغة، بالبراهين الساطعة، والحجج الواضحة أن الشعب المسلم في ليبيا خرج منه قادة وأبطال، ورجال عظام، ندر الزمان أن يأتي بمثلهم وأن شجرة الاسلام الزكية الضاربة بجذورها في شعبنا من زمن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لكفيلة بأن تؤتى اكلها كل حين بأذن ربها، وأن مانحن فيه من عثرة،
_________
(1) انظر: برقة العربية، ص326 الى 327.(2/418)
وكبوة، وذلة، وبلاء (لاشك أنه من ذنوبنا)، كما أنها فترة تمر بها الشعوب قبل تمكينها، فإلى الغد المشرق مع فجر الاسلام النير، فتلكن الهمم متجهة ولتتوحد الصفوف للعمل والتضحية والعطاء، والبذل من أجل أن تصبح بلادنا قلعة من قلاع المسلمين الحصينة منها تخرج جيوش المجاهدين، والدعاة العاملين، وتستقبل وفود طلاب العلم من العالم أجمع، ونسأل الله تعالى أن تعود بلادنا كما كانت وأكثر في دعوتها للاسلام وجهادها في سبيله على أسس صحيحة من كتاب الله وسنة رسوله الكريم، وهدى الصحابة الميامين ومن تابعهم الى يوم الدين.
وعلى أحمد الشريف السنوسي وإخوانه الميامين الذين سطروا لنا هذا التاريخ العظيم؛ عليهم من الله المغفرة والرحمة والرضوان.
وكأن الشاعر عندما صاغ الابيات الآتية يجسد لنا حال أحمد الشريف
-رحمه الله-:
أقسمت أن لاأنثني عن غايتي
مادمت أحمل مصحفي وسلاحي
سأُعيد للاسلام سالف مجده
بعزيمتي وبوحدتي وكفاحي
أنا مسلم لا أرتضي بعقيدة
تُملى من الدجال والسَّفَّاحِ
أنا مسلم سجلت أروع صفحة
بعقيدتي وعدالتي وصلاحي
أنا ثائر أبْني الحياة كريمة
وعزيزة وعلى هدى وفلاح
في الأرض أبذر شرع دين محمد
ويشع نور جلاله الوضاح
أقسمت - ياوطني - بأن لا أنحني
إلا لربي فالق الاصباح
قسماً بأن أسعى لإسعاد الورى
سعياً حثيثاً مؤذناً بنجاح
(سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك).(2/419)
الخلاصة
- ولد محمد المهدي السنوسي في الجبل الأخضر في ليبيا في شهر ذي القعدة عام 1260هـ، الموافق نوفمبر 1844م.
- كانت فرحة الاخوان، وابن السنوسي بمولد محمد المهدي عظيمة.
- لما ولد الأبن الثاني لمحمد بن علي السنوسي عام 1262هـ/ 1846م، كتب عمران بن بركة لشيخه يهنئه بالمولود الثاني ويسأله عن اسم الوليد الثاني رد له الجواب بتسميته الشريف قائلاً له: (إننا لانحيد بأسماء ابنائنا عن اسماء النبي صلى الله عليه وسلم وإنما يختلفون في الألقاب والكنى؛ فكما سميت الأول محمد المهدي ليحوز أنواع الهداية فسمي هذا محمد الشريف ليحوز أنواع الشرف.
- أسند ابن السنوسي تربية أولاده للأخوان وكان المسؤول الأول الشيخ العلامة عمران بن بركة.
- وبعد ان حفظ محمد المهدي القرآن الكريم طلبه والده للمجيئ للحجاز وصحبه العلامة محمد بن ابراهيم الغماري، وهناك عهد به والده الى نخبة من العلماء لتربيته وتلقنيه العلوم تحت إشرافه المباشر.
- رجع محمد المهدي الى الجغبوب بصحبة العلامة عبد الرحيم المحبوب، وواصل محمد المهدي تعليمه العالي في معهد الجغبوب وأشرف على تعليمه وتربيته والده ابن السنوسي وكبار الاخوان.
- تميز محمد المهدي منذ طفولته بالذكاء، وحسن الخلق، والصفات الرفيعة، والأخلاق الحميدة.
- تزوج محمد المهدي في حياة والده وهو لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره(2/420)
بفاطمة ابنة عمران بن بركة وذلك عام 1275هـ/ 1858م، وقد أنجبت للمهدي عدة أولاد وتوفيت في حياته سنة 1891م.
- بعدوفاة ابنالسنوسي خف كبار العلماء والشيوخ في الحركة السنوسية الى مبايعة محمد المهدي.
- كون محمد المهدي السنوسي مجلساً أعلى من كبار الأخوان، يتكون من العلامة عمران بن بركة، وأحمد الريفي، وعلي عبد المولى، وفالح الطاهري، وعبد الرحيم المحبوب، ومحمد المدني التلمساني، محمد بن الحسن البسكري.
- كان المجلس الاعلى للحركة يمثل قمة الهرم الذي قاعدته الزوايا، وكان يضم كبار رؤساء الزوايا في برقة وطرابلس ومصر والحجاز، والسودان، وشمال أفريقيا وكان يجتمع سنوياً في الجغبوب للنظر في أهم أمور الحركة.
- من الملاحظ أن مبدأ التفرغ كان موجوداً في الحركة، لقناعة الحركة السنوسية أن الأعمال العظيمة تحتاج الى أوقات كبيرة، وجهود ضخمة، وهمم عالية، ولذلك سلكت الحركة السنوسية مسلك تفريغ بعض القيادات، ووفرت المال اللازم لهذا الهدف، ووفرت كل ما يحتاجه الافراد المتفرغين حتى يستطيع لمتفرغون أن يبذلوا مافي وسعهم من اجل الدعوة ونشرها بين الناس.
- اهتم محمد المهدي بتطوير العاصمة السنوسية؛ فحفلت الجغبوب بالنشاط العلمي، والزراعي، وانتظم سير العمل في معهد الجغبوب، ووزع تلاميذ المدارس القرآنية على أقسام، ورتبت بدقة أمور الدراسة، وكل ماتيعلق بالطلاب.
- كانت الزوايا تقوم بدورها في جمع المعلومات وما يتعلق بالقضايا الأمنية وترسلها الى الجغبوب، وكان نظام البريد ينقسم الى اربعة أقسام نقطة ارتكازها الجغبوب.
- نمت الحركة السنوسية في عهد محمد المهدي نمواً كبيراً، وتضاعف عدد الزوايا أكثر من اربعة أضعاف وانتشرت هذه الزوايا في الصحراء الكبرى، وعلى طريق مصر، وتونس، وفي واداي.(2/421)
- كانت من اسباب هذا النمو السريع، طبيعة الحركة، ونظمها المتطورة بالنسبة لعصرها، وفهمها لطبيعة المجتمعات القبلية، وطول المدة التي قضاها الزعيم الثاني في قيادة الحركة إذ تجاوزت اربعين سنة، فتمكن أثناءها من تركيز العلم الذي بدأه والده.
- تمكن الامام المهدي ان يبني علاقات قوية مع الامارات الاسلامية في واداي، وبرقو، وكانم وغيرها، واختط خطة حكيمة كانت مبنية على الحيطة والحذر من النفوذ الصليبي الأوروبي في افريقيا ثم عدم التردد في مكافحة هذه الدول إذا جد الجد، كما فعل مع فرنسا.
- كان محمد المهدي يحرص دائماً على ازالة البغضاء والشحناء من نفوس القبائل المتعادية، ويدعوها الى أخوة الاسلام، وشغلها بالطاعة، ودفعها نحو المعالي، والأخلاق الرفيعة، واستطاع أن ينظم من القبائل كتاب للجهاد ساهمت في قتال فرنسا، وبعد وفاته قاتلت ايطاليا.
- كرس المهدي جهوده للبناء الداخلي في الحركة واختط طريقاً سلمياً تجنب الاحتكاك فيه جهد المستطاع بالقوى المحيطة به، واستطاع أن يتخذ مواقف تدل على بعد نظره وثاقب فكره من الثورات التي حدثت في السودان، ومصر، وكذلك الدول الأوروبية.
- نشطت الحركة السنوسية في تعئبة اتباعها على الاستعداد للجهاد، ونظمت صفوفها، ورأى السلطان عبد الحميد الثاني في الحركة السنوسية قوة منظمة ومعدة إعداداً مادياً ومعنوياً جيداً يمكن استغلالها في المواجهة العسكرية المتوقعة مع أعداء الدولة العثمانية في شمال أفريقيا.
- حققت الحركة السنوسية انتشاراً كبيراً في أواسط أفريقيا، وتوطد سلطانها في قلب الصحراء الكبرى، وكانت عقبة في طريق الرسالات التنصيرية التي وجدت في الحركة السنوسية خصوماً عنيدين عطلوا عليها أعمالها لدرجة بعيدة.
- تولت فرنسا مهمة الهجوم الاعلامي على الحركة السنوسية، وأرسلت عدداً من(2/422)
الرحالة منهم دوفرييه، ثم وقفت من الحركة موقفاص عدائياً وشنت عليها حرباً دعائية بواسطة رحالتها الذين كتبوا عن السنوسية، وقصدت بذلك تشويه الحركة، كما تجلى موقفها العدائي في ضغطها على الباب العالي للتضييق على السنوسية ثم تبلور هذا الموقف في حربها الظالمة لمواقع الحركة السنوسية في تشاد.
- إن نظرة المهدي للثورات الغير مدروسة دراسة دقيقة تتيح للأجانب التدخل، ويرى أن طريق البناء، والتربية، والإعداد العقدي، والوسائل السلمية هي الطريقة المثلى نحو النهوض الشامل للأمة.
- إن علماء الحركة السنوسية وعلى رأسهم المهدي السنوسي لم يؤمنوا بمهدية محمد أحمد، وكذلك رفضوا القول بمهدية المهدي السنوسي واعتبره محمد المهدي السنوسي نوعاً من التخريف ويرجع ذلك الى علمهم المتين، واستيعابهم لكتاب الله، والسنة المطهرة التي بينت حقيقة المهدي المنتظر، وألتزموا بعقيدة أهل السنة والجماعة التي وضحت هذا المعتقد.
- إن التهمة الموجهة للحركة السنوسية بأن أتباعها يعتقدون في الامام المهدي السنوسي هو المهدي المنتظر تهمة باطلة، رفضها الامام محمد المهدي، وعارضها وأبى الموافقة على القول بها وعندما سئل الملك ادريس -رحمه الله- عن رأي أبيه في قول بعض أتباع الطريقة بمهدويته أجاب: (كان كلما سمع هذا القول نفاه بشدة، وابداً لم يعتقد به).
- إن الليبيين عموماً ارتبطوا بفكرة الجامعة الاسلامية، وسياسة الدولة العثمانية وسلطانها عبد الحميد الثاني الذي تبنى الدعوة إليها، وأكدوا في كل مناسبة ارتباطهم بهذه الدعوة، وخاصة في أزمات الدولة، ففي حرب الدولة مع اليونان سارع أهل طرابلس بتشكيل اللجان لجمع التبرعات وقد كتب على الاستمارات المعدة للجمع عبارة (إعانة جهادية) وبلغ مجموع التبرعات قرابة (مائة ألف فرنك).
- كانت خطة التوسع عند الحركة السنوسية تستدعي من زعيمها محمد المهدي(2/423)
الانتقال نحو الجنوب وفق خطوات مرسومة، ومراحل معلومة لدى قادة الحركة، وتقرر لدى محمد المهدي الانتقال من الجغبوب الى الكفرة، وشرع في تنفيذ القرار الاستراتيجي بسرعة البرق، فجمعت الابل الكافية للنقل، وخبراء الطريق، والامتعة الضرورية.
- كان قرار انتقال الامام المهدي الى الكفرة مفاجأة لأهالي ليبيا واهتزت البلاد من أقصاها الى أقصاها وترك أثراً حزيناً أليماً في النفوس.
- تولى المهدي السنوسي تصريف أمور الحركة من الكفرة، فعجت بالحركة وأصبح اتباع الحركة يقدمون إليها من كل حدب وصوب، حتى ضاقت بهم مساكنها.
- تأثر محمد المهدي بوفاة أخيه محمد الشريف الذي كان عالماً ربانياً، ومستشاراً عبقرياً، وكان مشرفاً على معهد الجغبوب، وقد تميز بغزارة العلم ودقة الفهم، والقدرة على التدريس.
- استطاعت الحركة السنوسية أن تفجر طاقات الشعراء وأضفت عليهم معاني في الصدق، والمثل الرفيعة، ومبادئ الدعوة، وكونت أدباً رفيعاً خاصاً بها، يستحق البحث والتنقيب، والدراسة والتحليل.
- بعد أربع سنوات من المكوث في الكفرة شد المهدي رحاله الى زاوية قرو في برقو في السودان الغربي، ليشرف بنفسه على تنظيم المقاومة، واتخاذ الأهبة لمواجهة القوات الفرنسية الزاحفة نحو بحيرة تشاد.
- تقدم الفرنسيون نحو كانم في حملة مجهزة بالاسلحة والمعدات الحديثة، واستعد السنوسيون لملاقاتهم فوضعوا حامية كبيرة في بير العلالي، واشتبكت الحملة في معركة حامية الوطيس مع الاخوان السنوسيين، وكان النصر حليف المدافعين برئاسة الشيخ محمد البراني.
- استمرت المعارك بين قوات المجاهدين والجيش الفرنسي، واضطر المجاهدون تحت وابل الرصاص للانسحاب بعد ان قتلوا من الجيش الفرنسي اضعاف مضاعفة وفي هذا الاثناء وصل الى المجاهدين خبر وفاة الامام المهدي، فخارت العزائم،(2/424)
وضعفت الهمم، وكانت وفاة المهدي بعد أن اشتد المرض عليه وكان ذلك في يوم الاحد 24 صفر 1320هـ الموافق 2 يونيو 1902م في زاوية قرو ثم نقل ودفن في زاوية التاج.
- كان محمد المهدي داعية من الطراز الاول، تجسدت في شخصيته صفات القادة الربانيين، وكان يهتم بأمر المسلمين، في كل صقع من أصقاع العالم، وكان يؤلمه أي خلاف اسلامي أو أي مشكلة تقع بين الافراد، او بين القبائل، فكان يولي هذه الناحية مجهودات كبيرة في فكره وتفكيره، ويتخذ كل الوسائل لازالة سوء التفاهم بعمله وآرائه وتدبيره عاملاً على إحلال الصفاء والوئام محل الشقاق والخصام.
- ترك لنا الشاعر احمد رفيق المهدوي قصيدة رائعة تحمل في كل بيت منها صورة واضحة لسيرة الزعيم الثاني للحركة السنوسية، وبينت اصلاحاته العلمية، والدينية، والعملية، والنظامية.
- تولى قيادة الحركة السنوسية بعد وفاة المهدي ابن اخيه احمد الشريف الذي قاد كتائب الجهاد ضد فرنسا في تشاد، وضد ايطاليا في ليبيا، وضد بريطانيا في مصر.
- يتفق معظم المؤرخين بأن أحمد الشريف ولد بواحة الجغبوب ليلة الاربعاء بتاريخ 27 شوال سنة 1290هـ الموافق لسنة 1873م، إنكب منذ طفولته على القراءة والتحصيل، وحفظ القرآن الكريم في سن مبكرة.
- تربى احمد الشريف في حجر والده العلامة محمد الشريف وحينما ترعرع وبلغ السادسة من عمره دخل تحت كنف عمه المهدي السنوسي، فأهتم بتربيته وتهذيبه واشرف عمه على تعليمه وتحفيظه للقرآن الكريم.
- شارك احمد الشريف مع عمه في معارك الحركة ضد فرنسا في تشاد، ولما شعر محمد المهدي بدنو أجله، عهد الى ابن أخيه بالقيادة لما توسم فيه من القدرة على الاضطلاع بأعباء الحركة.(2/425)
- استمر احمد الشريف على نهج زعماء الحركة السنوسية، فواصل الجهاد ضد الاستعمار الفرنسي، ونشر الدعوة الاسلامية بكل حكمة في افريقيا، واتخذ من الكفرة عاصمة للحركة السنوسية، وأناب عنه محمد السني لإدارة أمور الجهاد.
- كان الصراع بين فرنسا والحركة السنوسية في افريقيا على أشده، وتميز السنوسيون في جهادهم بقدرتهم على الكر والفر، وكانت قبائل الصحراء، والقبائل الليبية تتمحور حول قيادة الحركة السنوسية.
- كان من أشهر قادة الحركة السنوسية في جهادها ضد فرنسا، المجاهد محمد كاوصن، عبد الله السني، عبد الله فضيل الطوير الزوي، البراني الساعدي، غيث عبد الجليل سيف النصر، محمد بوعقيلة الزوي، صالح بوكريم الزوي، كيلاني الأطيوش المغربي، عابدين الكنتي.
- استمرت ايطاليا اكثر من ثلاثين سنة وهي تجمع المعلومات وترسل الجواسيس، وتخطط لغزو ليبيا، وتتوغل بالمؤسسات التجارية، والمدارس العلمية لغزو بلادنا.
- كانت ايطاليا عازمة على احتلال ليبيا، وبذلت في سبيل ذلك جهداً كبيراً على مستوى الولاية نفسها، بتعزيز مظاهر نفوذها او على المستوى الدولي بالحصول على موافقة أغلب الدول الأوروبية على ذلك إلا أن شدة تمسك الدولة العثمانية بالولاية في زمن السلطان عبد الحميد الثاني، وقوة نفوذ الحركة السنوسية في دواخل ليبيا، وحسن التنسيق القائم بين الطرفين، كل ذلك أدى الى تأجيل إيطاليا تنفيذ مشروعها الاستعماري العدواني الغاشم عام 1911م.
- في عام 1911م أعلنت إيطاليا الحرب على ليبيا وشرعت بوارجها في قصف المدن الليبية، واستعد أهالي البلاد للجهاد في سبيل الله تعالى.
- بعد وصول خبر احتلال ليبيا لطرابلس، وقصفها لبقية المدن الليبية بأساطيلها، قام احمد الشريف بجمع السادة، والشيوخ والعلماء، والقادة، وعرض عليهم الامر واستشارهم، وخرج الأمر بتوجيه الشيوخ وعلماء الحركة بقيادة المجاهدين في كافة ساحات الوغى وقال أحمد الشريف: (والله نحاربهم ولو وحدي بعصاتي هذه).(2/426)
- تدفق اتباع الحركة السنوسية كالسيل الجارف على ميدان القتال في طرابلس وفي منتصف يناير 1912م قال السيد احمد الشريف كلمته لاهل ليبيا وأصدر نداءه المشهور يحث فيه اهالي البلاد على الجهاد ضد العدو المعتدي ويعلن فيه نبأ اعتزام النزول بنفسه الى ميدان القتال.
- اعترف السلطان العثماني بجهود احمد الشريف، وأهداه في مارس 1912م سيفاً ونيشاناً مرصعاً بالجواهر مكافأة وتقديراً لجهوده في الجهاد.
- خلد التاريخ المعاصر اسماء المعارك التي قام بها الاجداد ضد ايطاليا في المنطقة الغربية من ليبيا من أهمها؛ معركة طرابلس، معارك الخمس، معركة الهاني، سيدي مصري، معركة قرقارش، معركة أبي كماش، معركة لبدة، معركة تاجوراء.
- ارسل احمد الشريف اخيه صفي الدين ليتولى قيادة الجهات الغربية من برقة وكان لإرساله فرحة عظيمة لدى القبائل المنضوية تحت لواء الحركة السنوسية، وقاد صفي الدين معركة عظيمة ضد ايطاليا بموقع (أبي هادي) واستمرت المعركة بشدة وعنف عدة ساعات انجلت عن خسارة ايطاليا.
- كانت الانتصارات التي حققتها الحركة السنوسية، محل الاعجاب والتقدير من ابناء ليبيا المخلصين، ولذلك اتصل كثير من القادة والشيوخ بصفي الدين، وكان رمضان السويحلي المجاهد الكبير على رأس أولئك الابطال المغاوير.
- حقق المجاهدون نصراً عظيماً في معركة القرضابية وبدأت قواتهم في تطهير البلاد من المعتدين، وتركت الحاميات الايطالية، حصونها بسهولة وهامت على وجهها عبر التلال والسهول المحرقة الجافة، وحررت مزدة، والقصبات، وسرعان ماوصل المجاهدون إلى بن غشير على بعد 15 ميلاً من طرابلس.
- حقق المجاهدون انتصاراً عظيماً على ايطاليا ولولا الشقاق، والخلاف، والنزاع الذي وقع بين رمضان السويحلي وصفي الدين السنوسي لاصبح الجهاد أمراً آخر.(2/427)
- تولى محمد عابد السنوسي جهاد الجنوب في فزان والجفرة والنواحي الغربية من فزان، واتخذ من زاوية (واو) مركزاً للقيادة.
- قاد سالم بن عبد النبي الزنتاني حرب عصابات ناجحة في ولاية فزان، واثخن في أعداء الله، وهاجم القاهرة وهي ربوة عالية في سبها يوجد بها حصناً، وسياجاً من المدافع والاسلاك الشائكة وأصبحت تلك القلعة منيعة جداً، واستطاع سالم عبد النبي فتحها بقواته المجاهدة عام 1914م، لقد أبلى أهل الجنوب بلاءً حسناً في جهادهم ضد ايطاليا.
- جاهد أهالي بنغازي عن مدينتهم دفاعاً مجيداً، وأظهرواً من البطولة والشجاعة النادرة، ماجعلهم محل التقدير من كل المسلمين وسجلوا صفحات مجيدة خالدة في سجل التاريخ.
- توافدت النجدات العسكرية الى مدينة بنغازي بقيادة شيوخ الحركة السنوسية، فوصلت كتيبة العرفا، وعددها ثلاثمائة مسلح يقودها الشيخ عمران السكوري، وتلتها بقية النجدات التي جاء بها زعماء القبائل، وشيوخ الزوايا من كل حدب وصوب.
- صممت الدولة العثمانية على المقاومة حفظاً لماء الوجه، امام الرأي العام الاسلامي، فأرسلت نخبة من ضباطها وقوادها المشهورين، لتقوية روح المقاومة والدفاع وتدريب المجاهدين وتعليمهم كيفية استعمال الاسلحة الحديثة والمعدات.
- كان من ابرز قادة الاتراك الذين ارسلتهم الحكومة العثمانية كل من؛ الرائد انور بك، ومصطفى كمال، فتحي اوفيار، وخليل بك عم انور بك، فؤاد بولجا قاش باشي، سليمان العسكري، وعزيز علي المصري، أدهم باشا الحلبي.
- تفاعل العالم الاسلامي مع البطولات العظمية التي حققها المجاهدون في ليبيا، وقامت الشعوب الاسلامية بواجبها نحو اخوانهم في الدين.(2/428)
- أدركت ايطاليا عجزها عن اتمام احتلال بقية ليبيا، ولذلك قررت أن تهاجم الدولة العثمانية في مراكزها الضعيفة لترغمها في الدخول في المفاوضات للوصول الى تخلي تركيا عن دعمها لليبيا ونجحت في ذلك.
- كان موقف احمد الشريف واضحاً قبل توقيع الصلح بين ايطاليا وتركيا، فقد بعث الى أنور باشا في درنة يذكر فيه ماوصله من ان الدولة تعتزم إعطاء ليبيا الى إيطاليا فقد جاء في رسالته: (نحن والصلح على طرفي نقيض، ولا نقبل صلحاً بوجه من الوجوه) إذا كان ثمن الصلح تسليم البلاد الى العدو، وزيادة وحذره مما سوف يحدثه قبول الصلح في نفوس المسلمين في جميع الاقطار من نفور شديد من الدولة العثمانية.
- قامت الدولة العثمانية بتنفيذ معاهدة أوشي، فأصدرت أوامرها لضباطها وجنودها في ليبيا للانسحاب.
- تولى القيادة الفعلية لحركة الجهاد بعد خروج أنور باشا احمد الشريف الذي بذل كل جهوده لتنظيم حركة الجهاد بعد انسحاب الاتراك، وكتب منشوراً الى مشايخ الزوايا والقبائل يعلن فيه استمرارية مواصلة الجهاد، وطلب من كل مسلم من سن الرابعة عشر حتى الخامسة والستين أن يذهب الى ميدان الجهاد مزوداً بمؤونته وسلاحه.
- عزم الايطاليون على سحق قوات احمد الشريف، فدبروا تنظيم حملة قوية قوامها خمسة آلاف جندي مسلح، تسليحاً حديثاً لضرب معسكري المجاهدين في سيدي عزيز، وسيدي القرباع على ضفتي وادي درنه وفي اليوم الذي وصل فيه احمد الشريف الى منطقة الظهر الاحمر جرت معركة مهولة عرفت باسم سيدي القرباع، واشتهرت باسم (يوم الجمعة) وقد تمكن المجاهدون بفضل الله من تحقيق الانتصار الحاسم في تلك المعركة.
- بعد تلك المعركة شرع احمد الشريف في جولات تفتيشية ابتدأت من الغريان وانتهت بجدابية، فمر بجميع معسكرات الجبل الاخضر، وفتشها واطلع على سير الامور فيها، ورتب امور الضباط، ونظم المجالس الاستشارية المعسكرات،(2/429)
ووقعت معارك بين الطليان والمجاهدين أثناء مروره بدواخل البلاد، فأشترك في الكثير منها، لقد طاف احمد الشريف بين المدن والقبائل يحض الناس على الجهاد وحمل السلاح ضد الغزاة، وحضر بنفسه في المعارك، ونبه المجاهدين الى ضرورة اعتماد حرب العصابات القائمة على الكر والفر، وأكد لهم صعوبة اعتماد الخطط السابقة التي كان الاتراك يعتمدونها خلال المراحل الاولى.
- حاولت ايطاليا أن تضغط على أحمد الشريف بواسطة الخديوي عباس باشا بعد أن فشلت جميع وفودها التي كانت تتوافد على المجاهد احمد الشريف وتعرض عليه، أن تضمن له إمارة هو تحت سلطانه، وتحتفظ هي بالموانئ والثغور الساحلية، فضرب بقولها عرض الحائط.
- استمر المجاهدون في جهادهم بالرغم من احتياجاتهم ونواقصهم الحربية، والضغوط الخارجية التي تدفعهم لوقف مسيرة الجهاد.
- بدأت ملامح الحرب العالمية الاولى تلوح في الأفق، وكان احمد الشريف يقظاً لما يجري حوله، فأقام معسكرات التدريب، ورسم خطة للدفاع، وحماية الشعب، والاستعداد للجهاد، وشرع في تشكيل جيش نظامي مدرب، ليخوض به غمار حرب طويلة المدى ضد العدو الصليبي الايطالي ومع اندلاع الحرب العالمية الاولى بدأت الدول تتسارع وتتسابق لكسب ود احمد الشريف وقواته المجاهدة.
- كانت القوى المهتمة بكسب احمد الشريف الى جانبها هي تركيا، وألمانيا بالدرجة الاولى وبريطانيا ومصر بعد ذلك.
- كانت بريطانيا حريصة على استمالة احمد الشريف إليها قبيل الحرب العالمية الاولى، وزاد حرصها بعد اندلاع الحرب الكونية، وحفظ التاربخ بعض الرسائل من القادة الانكليز في مصر مرسلة الى احمد الشريف.
- بعد دخول تركيا الحرب العالمية الاولى بجانب ألمانيا، رأت الحكومات التركية والألمانية الاستفادة من جهود السنوسيين لتشتيت القوات الانجليزية وفق خطة لاحتلال قناة السويس وتطهير مصر من الوجود الانجليزي.(2/430)
- اقحم الاتراك احمد الشريف في حربهم ضد الانجليز رغم رفض احمد الشريف بشدة في البداية، لأنه كان على يقين أن ذلك الهجوم لايتمشى مع مصلحة بلاده، فإن الاتراك والألمان كانوا ينظرون الى الحرب في شكلها المتكامل، والتي لاتمثل طرابلس إلا جبهة فرعية في تلك الاستراتيجية.
- فشلت هجمات الاتراك على القوات الانجليزية في القناة وفي الصحراء الغربية، وتدهورت الحالة الاقتصادية في برقة وساعدت تلك الظروف ظهور الامير ادريس على مسرح الاحداث بعد أن اصبحت حاجة البلاد الى قيادة جديدة تتولى معالجة تلك المواقف الحرجة.
- فشلت حملة احمد الشريف في تحقيق اهدافها لعدة اسباب منها؛ الضعف العسكري، والضعف الاقتصادي، وعدم التخطيط الاستراتيجي .... الخ.
- كان رأي الأمير ادريس السنوسي بأن الحرب ضد بريطانيا لاتحقق أية نتيجة، وعلى السنوسيين استغلال الظروف الدولية، لتحقيق استقلال ليبيا، وكان يرى أن بريطانيا هي المؤهلة لان تأخذ على عاتقها انجاز هذا الامر.
- كان لفشل حملة احمد الشريف آثار سلبية على سير حركة الجهاد في برقة ضد القوات الايطالية نذكر منها؛ ضاعت فرصة مواصلة القتال ضد ايطاليا، تزعزت العلاقات الروحية التي كانت تربط احمد الشريف بالقبائل المصرية بسبب المواجهة بين الطرفين وسقوط القتلى من كل جانب، انقطع الشريان الاقتصادي لحركة الجهاد وسدت المنافذ المصرية، ....
- غادر احمد الشريف ليبيا الى استانبول بواسطة غواصة ألمانية أثر طلب من الحكومة التركية ليقوم احمد الشريف بفتح المفاوضات بينها وبين الشريف حسين بن علي أمير مكة الذي أعلن الانفصال عن الدولة التركية.
- وصل احمد الشريف الى تركيا واستقبله كبار رجال الدولة استقبالاً حافلاً ورسمياً في محطة (سركه جي) حضره بعض المسؤولين العثمانيين يتقدمه صديقه أنور باشا وزير الحربية العثمانية.(2/431)
- دخلت جيوش الحلفاء الى استانبول واستولت على عموم الولايات والموانئ وعقدوا العزم على إبادة تركيا، وتشتيتها وتقسيمها، واراد الانكليز أن يستغلوا هذا الظرف لصالحهم وبدأوا في تنفيذ مخططهم الهادف الى تدمير الدولة العثمانية.
- ظهر مصطفى كمال في ثوب المسلم الوطني المتدين الثائر وأصبح السلطان تحت قيود الحلفاء وأصبحت تركيا تحت زعامتي مصطفى كمال، والسلطان وحكومته وعمل مصطفى كمال على كسب احمد الشريف لصفه لعلمه لما له من المكانة الروحية في قلوب المسلمين، وكان مصطفى كمال ابتدأ حركته باسم الدين حتى أنه أمر بإحراق جميع الخمور وتكسيرأدواتها، ومعاملها وإبعاد جميع النساء المومسات، وإغلاق دور الدعارة، واصدار أوامر شديدة بلزوم المحافظة على الصلوات في وقتها ....
- قرر احمد الشريف بعد تفكير طويل الذهاب الى الاناضول والانضمام الى مصطفى كمال رغم ماجاء من الرسل والرسائل من طرف السلطان وحكومته يحذرونه من الانخداع بمظاهر مصطفى كمال المصطنعة وإدعاءاته الكاذبة.
- كان انضمام احمد الشريف نصراً عظيماً لمصطفى كمال لما له من المنزلة الروحية الكبيرة في قلوب مختلف الشعوب الاسلامية وكان الناس يعتقدون أن احمد الشريف لا يميل إلا الى الجبهة التي على الحق.
- ساهم احمد الشريف بطلب من مصطفى كمال في إخماد ثورة الاكراد وخرج إليهم وألتقى بشيوخهم ودعاهم الى الوحدة والوقوف صفاً واحداً ضد أعداء الدين.
- بعد الانتهاء من حروب اليونان تهيأت القوات الكمالية لدخول ولاية استانبول وبعد حصار دام مايقارب من الاربعة أشهر، ومحاولات طويلة مع دول الحلفاء تم الاتفاق على اخلاء استانبول من قوات الاحتلال، ودخلت القوات الكمالية استانبول ثم تدرجت حكومة مصطفى كمال بعد أن تمكنت من الوضع وخلعت الخليفة الصوري عبد المجيد، وأبعدته كما أبعدت كل من له صلة أو محبة أو انتماء لآل عثمان.(2/432)
- بدأت نوايا مصطفى كمال الشريرة تظهر رويداً رويداً، فتدخل في الاحكام وغير القوانيين الشرعية، فأنزعج أحمد الشريف غاية، وغضب نهاية، وخاطب مصطفى كمال وقال له: أننا والمسلمون لم نناصرك، ونقف معك إلا لأجل حفظ كيان الدين الاسلامي.
- من طرفي خفي بدأت السلطات التركية تضايق أحمد الشريف وتعد عليه أنفاسه، وأحكمت الرقابة على كل من له تعلق بالسيد، او يزوره وانتهى الامر بإخراجه من تركيا وسافر الى الشام.
- اشتد ضغط الحكومة الفرنسية على احمد الشريف للخروج من الشام وانتهى به المقام بالحجاز وأصبح يتنقل بين المدينة ومكة المكرمة ويتصل بأهل ليبيا عن طريق الحجاج ويجمع لهم الأموال والمساعدات ويقوم بتوجيهم خير قيام.
- توفى احمد الشريف في تمام الساعة الثامنة من يوم الجمعة 13 ذي القعدة سنة 1351هـ الموافق العاشر من شهر مارس سنة 1933م في الزاوية السنوسية في المدينة المنورة أثر مرض عضال لم يمهله، ودفن في مقبرة البقيع قرب قبر الامام مالك بن أنس امام دار الهجرة بعد أن عاش أحدى وستين سنة قضاها في خدمة الاسلام والمسلمين، ورفع شأن الدين، ومجاهدة الكافرين الغاصبين في شتى الميادين، فعليه وعلى أمثاله الرحمة والمغفرة والرضوان من رب العالمين وأعلى الله ذكره في المصلحين.
- هذه هي خلاصة التي وصلت إليها وقد ملت الى الاختصار الشديد خوفاً من الاطالة والاطناب.
وأسأل الله العلي العظيم رب العرش الكريم أن يتقبل هذا الجهد المتواضع قبولاً حسناً وأن يبارك فيه، وأن يجعله من أعمالي الصالحة التي أتقرب بها إليه: وأختم هذا الكتاب بقول الله تعالى: {ربنا أغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم}.(2/433)
وبقول الشاعر:
أنا الفقير الى رب البريات
أنا المسكين في مجموع حالاتي
أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي
والخير إن يأتينا من عنده يأتي
لا أستطيع لنفسي جلب منفعة
ولا عن النفس لي دفع المضرات
والفقر لي وصف ذات لازم أبداً
كما الغني أبداً وصف له ذاتي
وهذه الحال حال الخلق أجمعهم
وكلهم عنده عبد له آتي
(سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك)، (وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين).(2/434)
أهم مراجع ومصادر البحث
(أ)
1. انتشار الاسلام في القارة الافريقية، د. حسن ابراهيم حسن، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الثالثة، 1984م.
2. الاذاعة لما كان ومايكون بين يدي الساعة، لمحمد صديق حسن القنوجي البخاري، طبع دار الكتب العلمية، بيروت، سنة 1399هـ.
3. اشراط الساعة، يوسف بن عبد الله بن يوسف الوابل، دار ابن الجوزي، الطبعة الثالثة، 1411هـ/1991م.
4. أعلام ليبيا، الطاهر احمد، ط2، طرابلس، مؤسسة الفرجاني، 1971م.
5. الأفعى في معاقل الاسلام، عبد الله التل، المكتب الاسلامي.
(ب)
6. برقة العربية امس واليوم، محمد الطيبب، احمد ادريس الأشهب، مطبعة الهواري، شارع محمد علي بمصر.
(ت)
7. التواضع في تواتر ماجاء في المهدي المنتظر والدجال والمسيح للإمام محمد علي الشوكاني.
8. تفسير المنار للعلامة، محمد رشيد رضا، دار المعرفة بيروت لبنان.
9. تهذيب شرح الطحاوية، د. محمد صلاح الصاوي، دار الفرقان، الطبعة الاولى 1410هـ/1990م.
10. تاريخ الاسلام، انور الجندي.
11. التعليم في ليبيا خلال القرن التاسع عشر، عمر بن اسماعيل.(2/435)
12. تاريخ، ليبيا المعاصر، محمود عامر، منشورات جامعة دمشق طبعة عام 1411هـ/1991م.
13. تاريخ ليبيا، جون رأيت، كتاب مصور، دار الفرجاني، طرابلس، الطبعة الاولى 1972م.
14. تاريخ حرب طرابلس، محمد ابراهيم لطفي، مطبعة مؤسسة الأمير فاروق بنها، 1946م.
15. توضيح الاحكام من بلوغ المرام، عبد الله بن عبد الرحمن البسام، دار القبلة للثقافة الاسلامية، جدة، الطبعة الاولى 1413هـ، 1992م.
16. الاتجاهات الفكرية المعاصرة وموقف الاسلام منها، د. جمعة الخولي، طبعة اولى 1407هـ، 1986م مطابع الجامعة الاسلامية - المدينة المنورة.
(ج)
17. الثورة السنوسية او كاوصن نشر المركز النيجيري للبحوث في العلوم الانسانية نيامي 1973م، ترجمة عبد الرحمن عبد اللطيف، مخطوط صاحب الكتاب ساليفو اندري.
18. جهاد الليبيين ضد فرنسا في الصحراء الكبرى، محمد القشاط، طبعة عام 1988م.
19. جلاء الكرب عن طرابلس الغرب، محمد بن عثمان الحشائشي التونسي، تحقيق علي مصطفى المصراتي، دار لبنان، الطبعة الاولى بيروت 1965م.
20. جهاد الابطال في طرابلس الغرب، الطاهر احمد الزاوي، ط3، بيروت: دار الفتح للطباعة والنشر 1962م.
21. جريدة المقطم، عدد 6941، 9 صفر، عام1330هـ.(2/436)
22. جريدة الاهرام، عدد 10613، في 21 صفر عام 1331هـ.
23. جريدة المقتبس عدد 1014، 5 ذو القعدة 1330هـ.
(ح)
24. الحركة السنوسية، نشأتها ونموها في القرن التاسع عشر، أحمد الدجاني، الطبعة الاولى، 1967م، دار لبنان.
25. حركة الجامعة الاسلامية احمد الشوابكة، مكتبة المنار، الطبعة الاولى 1984م/1404هـ.
26. حاضر العالم الاسلامي، تأليف لوثروب ستودارد الامريكي نقله الى العربية الاستاذ عجاج نويهض وعلق عليه الأمير شكيب ارسلان، دار الفكر.
27. الحوليات الليبية، شار فيرو، نقلها عن الفرنسية وحققها بمصادرها العربية ووضع مقدمتها النقدية، محمد عبد الكريم الوافي، دار الفرجاني، طرابلس - ليبيا.
28. الحركة الوطنية شرق ليبيا، مصطفى هويدي، منشورات مركز دراسات جهاد الليبيين ضد الغزو الايطالي، طبعة 1988م.
29. حروب البلقان والحركة العربية في المشرق العربي العثماني، د. عايض بن حزام الورقي، نشرته جامعة ام القرى طبعة عام 1416هـ/1996م.
30. الحملة الايطالية على ليبيا (دراسة وثائقية في استراتيجية الاستعمار والعلاقات الدولية)، دار الطباعة الحديثة، القاهرة، 1982م.
31. حوليات كلية الآداب، الحولية الاولى، جامعة الكويت، قسم التاريخ، 1982م.
32. حياة سليمان الباروني لأبي القاسم الباروني.(2/437)
(د)
33. الدولة العثمانية، عوامل النهوض واسباب السقوط، لعلي محمد الصلابي، منشورات دار البيارق.
34. الدولة العبيدية في ليبيا، لعلي محمد الصلابي، دار البيارق الطبعة الاولى 1418هـ/1998م.
35. دائرة معارف القرن العشرين.
36. دراسات وصور من تاريخ الحياة الأدبية في المغرب العربي، د. محمد طه الحاجري، دار النهضة العربية، بيروت، ط أولى عام 1403هـ/1983م.
(ر)
37. رحلة الى صحراء أفريقيا الكبرى، صادق المؤيد العظم، استانبول، عالم مطبعة سي 1314هـ.
38. رمضان السويحلي البطل الليبي الشهير بكفاحه للطليان،، محمد مسعود فشيكه، دار الفرجاني، طرابلس - ليبيا، الطبعة الاولى 1394هـ/1974م.
39. رفع الستار عما جاء في كتاب عمر المختار، لمحمد العيساوي، القاهرة: مطبعة حجازي، 1936م.
(س)
40. السنوسي الكبير، محمد الطيب بن ادريس الأشهب، مطبعة محمد عاطف، ميدان الخازندار بمصر.
41. السنوسية دين ودولة، د. محمد فؤاد شكري، دار الفكر، طبعة 1948م.
42. السلطان عبد الحميد الثاني، مذكراتي السياسية، تقديم وترجمة د. محمد حرب، دار القلم، الطبعة الثالثة 1412هـ/1991م.(2/438)
43. السودان بين يدي غوردن وكتشنر، ابراهيم فوزي، الجزء الأول 1319هـ.
44. سنن ابن ماجة للإمام أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني، حققه محمد فؤاد عبد الباقي، دار التراث العربي.
45. سنن ابي داود، سليمان بن الأشعث، تحقيق عزت عبيد الدعاس، حمص، الناشر محمد السيد.
(ش)
46. الشهيد، العدد الخامس مركز دراسة جهاد الليبيين ضد الغزو الايطالي.
(ص)
47. صحيح البخاري، للإمام محمد بن إسماعيل البخاري، دار الطباعة العامرة باستانبول1315هـ، المكتب الإسلامي، استانبول، تركيا.
48. صحيح مسلم، للإمام أبي الحسن مسلم بن الحجاج القسيري النيسابوري، دار الحديث، القاهرة الطبعة الأولى 1412هـ/1991م.
49. صحيح الجامع الصغير وزيادته، تحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الاسلامي، الطبعة الاولى 1388هـ.
50. صفحات خالدة من الجهاد، زعيمة الباروني، بيروت 1968م.
51. صلات بين ليبيا وتركيا (التاريخية والاجتماعية) طرابلس الغرب - ليبيا 1968م.
52. صحافة ليبيا في نصف قرن، علي مصطفى المصراتي، دار الكشاف، بيروت 1960م.
53. صفحات مجهولة من تاريخ ليبيا، محمد عيسى، جامعة الكويت الحولية الاولى عام 1980م.(2/439)
(ط)
54. الطريق الى لوزان، الخفايا الدبلوماسية والعسكرية للغزو الايطالي لليبيا، ط1 1398هـ/1978م، محمد عبد الكريم الوافي، دار الفرجاني، طرابلس، ليبيا.
55. الطريق الى الاسلام، محمد اسد، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة السابعة، 1981م.
(ع)
56. عقيدة أهل السنة والأثر في المهدي المنتظر، لعبد المحسن العباد، مطابع الرشيد، المدينة المنورة، الطبعة الاولى 1402هـ.
57. العلاقات الليبيية التشادية، سعيد عبد الرحمن، مركز دراسات الجهاد الليبي.
58. العدوان الحرب بين ايطاليا وتركيا، مكتبة الفرجاني عام 1965م، محمد مصطفى بازامة.
(غ)
59. الغزو الايطالي لليبيا، عبد المنصف حافظ البوري الدار العربية للكتاب، طبعة 1983م.
(ف)
60. الفوائد الجليلة في تاريخ العائلة السنوسية، لعبد القادر بن الملك بن علي، مطبعة دار الجزائر العربية، دمشق، عام 1956م.
61. قضية ليبيا، محمود الشنيطي، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1951م.
62. قادة فتح بلاد المغرب، محمود خطاب، الطبعة السابعة عام 1404هـ/1984م دار الفكر.
(ك)
63. كفاح الشعب الليبي في سبيل حريته، عبد الرحمن عزام، ترجمة عماد غانم (مخطوطة محفوظة بمركز الجهاد).(2/440)
(ل)
64. ليبيا في العهد العثماني الثاني (1835 - 1911م) ترجمة يوسف العسلي، مطبعة الحلبي، القاهرة 1946م.
65. ليبيا قبل الاحتلال الايطالي، احمد الدجاني.
(م)
66. منهج التربية النبوية للطفل، محمد نور عبد الحفيظ سويد، مؤسسة الريان، الطبعة الخامسة 1414هـ-1994م، الناشر مكتبة المنار الاسلامية الكويت.
67. المهدي السنوسي، محمد الطيب الأشهب، مطبعة بلينوماجي - طرابلس.
68. المنار المنيف في الصحيح والضعيف، للحافظ شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر ابن لاقيم الجوزية، تحقيق الشيخ عبد الفتاح ابوغدة، طبع مكتب المطبوعات الاسلامية، جميعة التعليم الشرعي، حلب، 1390هـ.
69. مقدمة ابن خلدون، لعبد الرحمن بن خلدون.
70. مسند الامام احمد بن محمد بن حنبل.
71. مجلة البحوث التاريخية، عدد (1)، السنة الاولى، طرابلس، مركز جهاد الليبيين ضد الغزو الايطالي يناير 1979م.
72. المسألة الشرقية دراسة وثائقية عن الخلافة العباسية، محمود ثابت الشاذلي، مكتبة وهبة القاهرة الطبعة الاولى عام 1409هـ/1989م.
73. مجلة المنار، محمد رشيد رضا، المجلد الثاني عشر.
74. المغرب الكبير، د. جلال يحيى، دار النهضة العربية، بيروت طبعة عام 1981م.
75. مذكرات الضباط الاتراك حول معركة ليبيا، اورخان قول اوغلو، ترجمة وجدي كدك، مراجعة د. عماد حاتم، منشورات مركز بحوث ودراسات الجهاد الليبي، سلسلة المذكرات التاريخية، طبعة عام 1979م.(2/441)
76. ميلاد دولة ليبيا، محمد فؤاد شكري، مطبعة الاعتماد القاهرة، عام 1957م.
(ن)
77. (النهاية، الفتن والملاحم) للحافظ اسماعيل بن كثير، تحقيق د. طه زيني، دار النصر للطباعة، الناشر دار الكتب الحديثة، مصر، الطبعة الاولى.
78. نظم المتناثر في الحديث المتواتر، للشيخ جعفر الحسني الادريسي الكتاني، دار الكتب العلمية، بيروت 1400هـ.
79. نشأة الحركة العربية الحديثة، محمد عزة.(2/442)
صفحات من التاريخ الاسلامي في الشمال الأفريقي ... (7)
الحركة السنوسية
في ليبيا
وسيرة الزعيمين
محمد ادريس السنوسي
وعمر المختار
- الجزء الثالث -
تأليف
الدكتور علي محمد محمد الصلابي(/)
الإهداء
الى العلماء العاملين، والدعاة المخلصين،
وطلاب العلم المجتهدين، وأبناء الأمة الغيورين
أهدي هذا الكتاب سائلاً المولى عز وجل بأسمائه
الحسنى وصفاته العُلا أن يكون خالصاً
لوجهه الكريم
قال تعالى: ................ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِهِ فَلْيَعمَل عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشرِك بِعِبَادَةِ رَبِه أَحَدَاً.
(سورة الكهف، آية 110)(3/3)
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حَق تقاتِهِ ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون} (سورة آل عمران: آية 102).
{ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم اعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطعِ الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} (سورة الأحزاب، الآية70).
أما بعد؛
يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضى.
هذا الكتاب السابع في سلسلة صفحات من التاريخ الاسلامي في الشمال الافريقي يتحدث عن سيرة الزعيمين محمد ادريس السنوسي، وعمر المختار، فالسيد محمد ادريس السنوسي تولى زعامة الحركة السنوسية في ظروف دولية واقليمية ومحلية شديدة الصعوبة واستطاع أن يقود قبائل برقة بحكمة وسياسة(3/5)
وحزم، ودخل في مفاوضات مع بريطانيا وإيطاليا لكي يحقق بعض المصالح لشعبه وبلاده، فيتحدث هذا الكتاب عن تلك المفاوضات بشيء من التفصيل، وعن الاسباب التي جعلته يضطر للمباحثات مع الدولتين البريطانية والايطالية، وعن حكومة برقة التي تزعمها الامير ادريس، وعاصمتها، ومجالسها، والاعمال التي حققتها، ويتطرق الكتاب للأسباب التي جعلت السنوسيين يصطدمون بالأتراك، ويشير الكتاب الى الأسباب التي جعلت ليبيا في الحرب العالمية الاولى تنقسم الى شطرين شرقي وغربي، ولماذا تحالف الطرابلسيون مع تركيا وألمانيا ضد الحلفاء؟ ولماذا تحالف البرقاويون مع بريطانيا ضد المحور؟ وما أثر ذلك الانقسام الخطير على ليبيا؟ وماموقف الطرابلسيون من الاحداث بعدهزيمة تركيا وألمانيا في الحرب العالمية الاولى؟ وكيف ظهرت الجهورية الطرابلسية الى حيز الوجود؟ ومن هم أصحاب هذه الفكرة؟ وماهي العوامل التي ساعدت على ظهورها؟ وماحقيقة مجالسها الشورية، والشرعية والرئاسية والاستشارية؟ وهل استجابت الدول الكبرى لبلاغاتها؟ وماهو القانون الاساسي الذي اتفق عليه الايطاليون والطرابلسيون؟ وماهو أول حزب سياسي اقامه الطرابلسيون؟ وماهي أول جريدة في طرابلس تؤيد الجمهورية الطرابلسية؟ وماهي قرارات مؤتمر غريان؟ ولماذا كان اجتماع سرت بين زعماء طرابلس وبرقة؟ وماهي القرارات التي توصل إليها المجتمعون؟ ولماذا بايع أهل طرابلس الأمير ادريس السنوسي؟ وهل وافق الأمير على تلك البيعة؟ وماهي الاسباب التي دفعت الامير محمد ادريس لمغادرة البلاد الى مصر؟ ولماذا عاد القتال بين ايطاليا والليبيين؟ وماهي العوامل
التي ساعدت إيطاليا على إخماد حركة الجهاد في غرب ليبيا؟
ويتحدث الكتاب عن المقاومة التي قادها احمد السويحلي وسعدون وصفي الدين السنوسي، وبشير السعداوي في غرب ليبيا حتى سكنت حركة الجهاد في غربها واستمرت جذوتها في برقة وكيف قاد كتائب المجاهدين الشيخ الجليل عمر المختار؟
فيترجم الكتاب سيرة الشيخ عمر المختار منذ مولده حتى استشهاده، وعبادته وتلاوته للقرآن الكريم، وشجاعته وكرمه، ودعوته وجهاده قبل الاحتلال الايطالي،(3/6)
ومعاركه الاولى ضدها، وسفره الى مصر للتنسيق مع الأمير ادريس في أمور البلاد والقبائل واستمرارية الجهاد، ويعيش القارئ الكريم مع عمر المختار في معاركه التي خاضها كمعركة بئر الغبي، وعقيرة الدم، وعن وسائله في تموين المجاهدين، وعن تشكيلاته وخططه وقيادته لحرب العصابات التي أصبحت مَعْلَماً لمن جاء بعده من قيادات حركة التحرير.
ويتحدث الكتاب عن فقد عمر المختار لكبار المجاهدين وآثار ذلك على مشاعره واحاسيسه وموقفه من تلك الصدمات المتكررة، كاستشهاد أخيه في الدين حسين الجويفي البرعصي، وابن اخيه المختار بن محمد وعن حرصه للشهادة وأخلاصه لقضية الجهاد، وعزيمته النافذة، وصبره العظيم، وحكمته في القيادة، وفهمه للأمور ببصيرته النافذة ونظره البعيد.
ويوضح الكتاب حرص إيطاليا في دخول المفاوضات مع عمر المختار لكسب الوقت، وتفريق المجاهدين وكيف كان عمر المختار منتبهاً لأغراضهم الخبيثة؟ فكان في تلك المفاوضات واسع الأفق بعيد النظر، فاتخذ مواقف صحيحة وقوية فرضت الاحترام على اعدائه قبل اصدقائه.
ويبين الكتاب حقيقة الجنرال غراسياني الذي كان عند قومه معظماً ومقدماً والذي اسندت إليه الحكومة الايطالية بزعامة الدوتشي (موسليني) مهمة القضاء المبرم على حركة الجهاد مهما كلف ذلك بكل الطرق وكافة الوسائل، ولذلك أنشأ المحكمة الطائرة التي كانت تحكم على الأهالي بالموت وتصادر الاملاك لأقل شبهة وتمنحها للمرتزقة الفاشيست، فكانت تلك المحاكم تنعقد بصورة سريعة وتصدر احكامها وتنفذ في دقائق بحضور المحكمة نفسها لتتأكد من التنفيذ قبل أن تغادر الموقع الذي انعقدت فيه لتنعقد في نفس اليوم بموقع آخر، وفتحت أبوب السجون في كل مدينة وقرية ببرقة ونصبت أعواد المشانق في كل من العقيلة وإجدابية، وبنغازي، وسلوق، والمرج، وشحات، ودرنة، وعين الغزالة، وطبرق، ولأتفه شبهة وأقل فرية يصدر حكم الاعدام وينفذ شنقاً أو رمياً بالرصاص، وقام الجنرال غراسياني بعزل الاهالي(3/7)
الخاضعين لهم عن المجاهدين وأدخلهم المعتقلات الرهيبة، فيجد القارئ في هذا الكتاب حقيقة تلك المعتقلات.
وتحدث الكتاب عن عمر المختار كقائد عسكري له القدرة على تغيير خططه وتطوير اساليبه القتالية مع ما يتمشى مع المراحل التي يخوضها حتى أن عدوه غراسياني اعترف بذلك فقال: (بالرغم من أبعاد النواجع والسكان الخاضعين لحكمنا يستمر عمر المختار في المقاومة بشدة ويلاحق قواتنا في كل مكان).
وقال أيضاً: (عمر المختار قبل كل شيء لن يسلم أبداً لان طريقته في القتال ليست كالقادة الآخرين فهو بطل في إفساد الخطط وسرعت التنقل بحيث لايمكن تحديد موقعه لتسديد الضربات له ولجنوده، ... عمر المختار يكافح ... الى أبعد حد لدرجة العجز ثم يغير خطته ويسعى دائماً للحصول على أي تقدم مهما كان ضئيلاً بحيث يتمكن من رفع الروح العسكرية مادياً ومعنوياً حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً وهنا يسلم امره لله كمسلم مخلص لدينه).
ويتعرض الكتاب للأسلاك الشائكة التي مدها الايطاليون على طول الحدود الليبية المصرية مايزيد عن 300كم من البحر المتوسط الى مابعد الجغبوب بغية القضاء على حركة الجهاد التي كان يقودها المختار، ويجد القارئ الكريم في هذا الكتاب تفصيلاً دقيقاً موثقاً عن الاعمال الشنيعة القبيحة والمزرية والحاقدة التي قام بها الايطاليون ضد الليبيين عندما احتلوا الكفرة العاصمة السنوسية الشهيرة، وكيف اهتز العالم الاسلامي لتلك الاحداث؟ وكيف كان دور الصحافة الاسلامية؟ ويبين للقارئ الكريم وثائق تاريخية مهمة بقلم شكيب ارسلان، وجمعية الشبان المسلمين بمصر وقد وقعّ عليها محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الاسلامية، وتقي الدين الهلالي، الاستاذ الاول للآداب العربية بندوة العلماء بالهند وغيرهم.
ويمضي الكتاب مع عمر المختار حتى الايام الأخيرة من حياته، فيصف اللقاء الشهير الذي تم بين محمد اسد وعمر المختار وكيف وقع المختار في الأسر؟ ويتحدث عن مواقفه في داخل السجن التي تدل على سلامة العقيدة، ورسوخ مفهوم القضاء(3/8)
والقدر في نفس ذلك الشيخ الجليل، وعن عزة الايمان التي كان يتحدث بها في لقائه مع الجنرال غراسياني وأثناء المحكمة وكيف كان يقاد الى المشنقة وهو يتلوا قول الله تعالى: {يأيتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي} (سورة الفجر).
إن هذا الكتاب يثبت بالحقائق التاريخية أن حياة عمر المختار مدرسة تستحق الدراسة والبحث في جوانب متعددة في شخصيته العلمية والدعوية والجهادية وصفاته الخلقية الرفيعة.
ويوضح الكتاب أحوال ليبيا بعد استشهاد عمر المختار، وعن مصير حركة الجهاد التي قادها يوسف بورحيل والمجاهدين، وعن اضطهاد واستعباد الإيطاليين لمسلمي ليبيا بعد القضاء على الحركة.
ويصف الكتاب أحوال المهاجرين الليبيين في مصر والشام وتونس ويدون للأجيال بعض القصائد الرائعة التي نظمها الأجداد شوقاً وحباً لديارهم كالتي قالها الأستاذ بشير السعداوي رحمه الله:
قالوا تحن إلى البلاد وأهلها
فأجبتهم هي بغيتي ومرادي
تالله لم أشغف بغير طلالها
ولامنيتي مالت لغير بلادي
في حب هاتيك الديار وأهلها
ذابت حشاشة مهجتي وفؤادي
بالله يا ريح الصبا ونسيمه
إن زرت يوماً منزلاً لسعادي
أبسط لها شوقي وفرط صبابتي
وأهدي تحياتي لها وودادي
وأخفض جناح الذل عني وقل لها
أسرفت في هجري وفي ابعادي
حر النوى أوها فؤادي وإنني
متهك متمزق الأكبادي
مذ غردت بالبين اغربة النوى
من بيننا ماذاقت طعم رقادي
أمسى سميري في الدجى بدر السما
والبدر جسم لايجيب منادي(3/9)
فلطالما ناديت في غسق الدجى
حبي فتذهب صيحتي في وادي
لهفي على تلك الديار وأهلها
قوم لهم في المكرمات اياد
لازلت أصبو بحبهم وودادهم
رغما على أنف الزمان العادي
ويبين الكتاب جهود المهاجرين في ديار المهجر حتى ضاقت بهم إيطاليا ويجد القارئ وثيقة تاريخية مهمة قامت بإعدادها الجمعية الطرابلسية البرقاوية وقدمتها كورقة عمل للمؤتمر الإسلامي في القدس عام 1931م.
ويقف الباحث عند الحرب العالمية الثانية ويتحدث عن كونها آية من آيات الله في تصريف أمر الدول والشعوب والأمم وفق سننه وقوانينه في المجتمعات البشرية ومن السنن التي وقف عندها الكاتب، أنه عندما تتجبر أمة من الأمم وتعلو في الأرض ويصيبها البطر والكبرياء يهيأ الله لها أسباب الانهيار والزوال، كما يكون الزوال والانهيار بفشو الظلم، وعدم إقامة العدل.
ويتحدث الكتاب عن الأمير ادريس في مصر وعن دوره في جمع زعماء ليبيا والتشاور معهم ودراسة احتمالات الموقف ووضع الخطط التي يجب أن يسيروا عليها، وعن جهوده العظيمة في تكوين الجيش السنوسي الذي كان له أثر فعّال في الحرب العالمية الثانية في شرق ليبيا، وكيف ساهم ذلك الجيش في إخراج الطليان من بلادنا؟ ويتكلم الكاتب عن اعتراض الليبيين عن موقف الدول الكبرى وخصوصاً بريطانيا من قضيتهم العادلة بعد الحرب العالمية الثانية ويأتي بوثيقة تاريخية كتبها عمر فائق شنيب عام 1945م وكان عنوان المقالة (ليبيا مهد البطولة) وجاء فيها ... وبصفتي أحد قادة الحركة الوطنية وعضو الجمعية الوطنية التي ارتبطت مع بريطانيا يوم 9 أغسطس 1940م اصرح بأن الوضع الحالي في ليبيا شاذ لايتناسب في شيء مع العدل والإنصاف ولا مع وعود الحلفاء بأي وجه كان، بل أن مايعانيه الشعب الليبي اليوم لايختلف عن الاستعمار البغيض وأن الشعب الليبي يتطلب إقامة حكومة وطنية شرعية تحت إدارة أميره المطاع (إدريس السنوسي) بأسرع ما يمكن(3/10)
ليحقق لها اختيار الجهة التي ترغب في الارتباط معها. أقول هذا لدول الحلفاء عامة ولدول بريطانيا العظمى خاصة قبل أن يعم الاستياء الذي أخذ يتسرب إلى النفوس وتتبدل وجهات النظر من الاخلاص والمحبة والتعاون النزيه إلى المقت والبغض والمشاكسة ويطغى اليأس فتنعكس الآية ولاينفع الندم، وإن ليبيا رغم قلة عددها وفقدان عدادها ومعرفتها بأنها لاتقوى على مقاومة الدول العظمى مع أنها جربت في حرب إيطاليا تفضل أن تضرب يومياً بألف بل بمليون قنبلة ذرية حتى ينقطع فيها النسل والذرية على أن يطأ أرضها إيطالي أو أن تمس كرامتها أو ينتقص شيء من حريتها واستقلالها وحقها في الحياة أو يقرر مصيرها الغير بدون ارادتها وهي علمت الشعوب معنى التضحية في سبيل الحرية والاستقلال من سنة 1911م إلى يومنا هذا والتاريخ شاهد عدل ... ).
ويتحدث الكتاب عن الجمعيات التي أسست خارج ليبيا، وعن حل الأحزاب وانشاء المؤتمر الوطني في برقة واضطراب الأحزاب في طرابلس، ويأتي بنص قرار الأمم المتحدة بشأن ليبيا، وبأسماء اللجنة التحضيرية المختصة بالإعداد للجمعية الوطنية، وبأسماء الجمعية الوطنية التأسيسية والتي عرفت بلجنة الستين، ويجد القارئ نص مبايعة الجمعية الوطنية التأسيسية للأمير ادريس السنوسي ملكاً دستورياً للمملكة الليبية المتحدة عام 1950م، ونص الخطاب التاريخي الذي ألقاه الملك بمناسبة اعلان استقلال ليبيا يوم 24 ديسمبر 1951م، وقصيدة الاستقلال للشاعر أحمد رفيق المهدوي، وتعرض الكاتب في هذا الكتاب لإهتمامات الملك، فتحدث عن اهتمامه بالدين والعلم والأخلاق، وحبه للشعب وحب الشعب له، ونصحه لزعماء العرب، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وعن أدب العبارة في خطاباته وسمو معانيها وتواضعها الجم والدعوة إلى الخير والتقوى، واهتمامه بالثورة الجزائرية، وحديثه عن الوحدة العربية وحالة العرب، وعن مفهوم الأخوة الإسلامية والعروبة عند الملك، وعن نظرته للعمل الإصلاحي، وعن الزعيم الأساسي الذي يؤسس حكومة راسخة البنيان، وعن مكانة الصحافة في زمن الملك، وحرية الكلمة(3/11)
في مجلس النواب وعن استقالته الأولى عام 1965م ونقل الكاتب استقالته الثانية قبل انقلاب عام 1969م والتي جاء فيها ( ... والذي اختتم به قولي بأن أوصي الجميع من أبناء وطني بتقوى الله في السر والعلن، وإنكم جميعاً في أرغد عيش وأنعم النعم من الله تبارك وتعالى فاحذروا من أن يصدق عليكم قوله تعالى: {وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بانعم الله فاذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون} (سورة النحل).
فالله الله مما يغضب الله وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان ولا تفرقوا، قال - صلى الله عليه وسلم -: (لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم).
وتحدث الباحث عن نزاهة ملك ليبيا وعفته وكيف كان حاله في تركيا عند حدوث الانقلاب وكيف اعتذر للمسؤول المالي المرافق له عن أخذ ماتبقى من المال وقال له: (يابني أنا بالأمس كنت ملك ليبيا، ولكني لم أعد كذلك اليوم، وبالتالي فإن هذا المال لم يعد من حقي، ويجب أن يسلم الى خزينة الشعب).
ويتحدث الكتاب عن أقوال المؤرخين في الملك السابق وعن وفاته بمصر ودفنه بالبقيع بالمدينة المنورة في مايو عام 1983م.
هذا وقد تركت مايتعلق بالمملكة الليبية بسبب قلة المصادر وندرة الوثائق التي بحوزتي واقتصرت الحديث على الملك ادريس كزعيم وقائد وإني أشعر بضعف المادة التي أمامي فيما يتعلق بتلك الاحداث لأن قضايا ذلك العهد على جانب كبير من الأهمية بالنسبة لملابساتها وآثارها الممتدة الى زمننا الحاضر وخصوصاً وإني قد بحثت في اسباب سقوط المملكة بحثاً دقيقاً وطلبت من رجال عاشوا تلك المرحلة المساهمة في دراسة وتتبع الاسباب التي أدت الى سقوط المملكة الليبية، ولكن التفاعل كان ضعيفاً واعتذر البعض لأسباب أمنية وقد علمت بأن بعض الذين عاصروا تلك الاحداث قد كتبوا مذكرات مهمة في تلك المرحلة وينتظرون الوقت(3/12)
المناسب لنشرها، لذلك رأيت من الحكمة والتعقل التريث حتى يأذن الله في نشرها لأنها سوف تساهم بإذن الله تعالى في توفير معلومات تساعد الباحثين على تقصي الحقائق والوصول الى نتائج صحيحة مبنية على معلومات يقينية، فإن كان للعمر بقية واذن الله في مواصلة هذه الرحلة الطويلة التي بدأتها من الفتح الاسلامي الى هذا الكتاب فإنني بإذن الله تعالى سوف أواصل المسيرة وإلا فأقلام الليبيين لم تجف ولن تجف بإذن الله تعالى في تدوين تاريخها لأن شعبنا ليس بعقيم بل يملك الطاقات الكامنة في كافة مجالات الحياة، السياسية، والتاريخية والادبية، والتربوية والاقتصادية، وكم أتمنى أن يهيئ الله الأسباب لجمع المادة عن المملكة لأحد من ابناء بلادي فيواصل المسيرة المهمة في بناء الشعوب، فيكون البناء تراكمياً ونكون تابعين لمن سبقنا في الكتابة عن تاريخ بلادنا الحبيبة.
إن فترة المملكة الليبية من عام 1951م الى 1969م غنية بالأحداث على المستوى المحلي والاقليمي والدولي تحتاج الى دراسة واعية وباحث مدقق يتوخى العدل والانصاف ويشمر عن سواعد الجد والاجتهاد ويعتمد على القوي العزيز الوهاب ثم على الوثائق والحجج والبراهين.
هذا واني أشيد بالمجهودات القيمة التي قاما بها كل من الوزرين السابقين؛ مصطفى بن حليم ومحمد بن عثمان الصيد في كتابة مذكراتهم ثم نشرها بغية استفادة الاجيال منها إن الجهود التي قاما بها الوزيران السابقان تستحق الثناء، والتقدير لأنها أصبحت مرجعاً مهماً من مراجع تلك المرحلة وتعتبر من المبادرات الرائعة والرائدة لأن اصحابها عاشوا تلك الأحداث وساهموا في صناعة بعضها، كما أنهم حطموا جدار الصمت، وكتبوا تاريخهم السياسي الذي في حقيقته اصبح ملكاً للأجيال الصاعدة بغض النظر عن اختلاف الآراء حول تلك المذكرات.
إن الاعتناء بتاريخ بلادنا وبلاد المسلمين تظهر أهميته في هذا العصر الذي استخدم فيه التاريخ كأداة لتوجيه الشعوب وتربيتها كما يريد القادة والساسة، بل استعان بهذا العلم أصحاب المذاهب الفكرية الهدامة في فلسفة مذاهبهم المادية(3/13)
وتدعيمها حتى أصبح هذا العلم عند الأمم المتقدمة في مكانة سامية لا يعلوها علم آخر.
إن دراسة التاريخ بوجه عام، وتاريخ الامة المسلمة على وجه الخصوص لاينبغي في دراسته تحقيق الرغبات والحاجات الدونية، بل من أجل الوصول الى القمة العلية ألا وهي أحياء الامة بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومعرفة كيفية التعامل مع سنن النهوض والصعود بالشعوب، واجتناب سنن السقوط والهبوط، قال تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثاراً في الأرض} (سورة غافر، آية8).
هذا وقد قمت بتقسيم الكتاب الى مقدمة وثلاثة فصول وخلاصة وهي كالآتي:
المقدمة
الفصل الاول: محمد ادريس ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الاول: اسمه ونسبه وولادته وشيوخه وحجه.
المبحث الثاني: موقف الاسلام من المعاهدات مع العدو.
المبحث الثالث: الجمهورية الطرابلسية.
الفصل الثاني: عمر المختار -رحمه الله- نشأته واعماله واستشهاده ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الاول: نشأته وأعماله.
المبحث الثاني: استمرار العمليات والدخول في المفاوضة.
المبحث الثالث: الايام الأخيرة من حياته ووقوعه في الاسر ثم أعدامه.
الفصل الثالث: الليبيون بين المهجر والاستقلال ويشتمل على خمسة مباحث:
المبحث الاول: الليبيون في المهجر.(3/14)
المبحث الثاني: الحرب العالمية الثانية.
المبحث الثالث: قرار الامم المتحدة بشأن ليبيا.
المبحث الرابع: الملك ادريس -رحمه الله- وشيء من سيرته.
المبحث الخامس: نظرة في كتاب الملك ادريس في اتحاد العرب وائتلاف الموحدين وبعض المقابلات الصحفية.
هذا وقد انتهيت من كتابة هذه السلسلة التاريخية يوم الثلاثاء 1 ربيع الاول 1420هـ الموافق 15 يونيو 1999م والفضل لله من قبل ومن بعد وأسأله سبحانه وتعالى أن يتقبل هذا العمل قبولاً حسناً وأن يكرمنا برفقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين قال تعالى: {مايفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم} (سورة فاطر، آية2).
وبهذا الكتاب أضع سلسلة صفحات من التاريخ الاسلامي في الشمال الافريقي بين يدي قارئها، ولا أدعي الكمال فيها قال الناظم:
وما بها من خطأ ومن خلل
أذنت في إصلاحه لمن فعل
لكن بشرط العلم والانصاف
فذا وذا من أجمل الأوصاف
والله يهدي سبل السلام
سبحانه بحبله اعتصامي
فلله الحمد على مامنّ به عليّ أولاً وآخراً، واسأله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعل هذه السلسلة التاريخية لوجهه خالصة، ولعباده نافعة، وأن يثيبني على كل حرف كتبته ويجعله في ميزان حسناتي وأن يثيب إخواني الذين أعانوني بكافة مايملكون من أجل إتمام هذا الجهد المتواضع، ونرجو من القارئ الكريم أن لاينسى العبد الفقير الى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه في صالح دعائه.(3/15)
{سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين}
((سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين)).
الفقير الى عفو ربه ومغفرته
علي محمد محمد الصّلابي(3/16)
الفصل الأول
الأمير محمد ادريس السنوسي
المبحث الأول
اسمه ونسبه وولادته وشيوخه ورحلته الى الحجاز
أولاً: اسمه ونسبه وولادته:
هو محمد ادريس بن محمد المهدي بن علي السنوسي، ولد يوم الجمعة في العشرين من شهر رجب 1307هـ الموافق 12 مارس 1890م بزاوية الجغبوب (1)، وتوفى بمدينة القاهرة عام 1983م تزوج والده محمد المهدي وهو لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره من والدته فاطمة ابنة عمران بن بركة، وذلك سنة 1275هـ الموافق 1858م وقد انجبت له عدة أولاد في حياته وتوفيت سنة 1891م (2).
كان مولده يوم فرح وسرور لأتباع الحركة السنوسية، وخصوصاً أهالي الجغبوب، فعطل معهد الجغبوب، والكتاتيب القرآنية، ودور الأعمال، ونحرت الجزر، ومدت الموائد، وقدمت الصدقات شكراً لله تعالى، وكانت زوايا الحركة تحتفل بقدوم هذا المولود بمجرد وصول الخبر إليها، وجادت قرائح شعراء الحركة بالقصائد الشعرية التي أهديت الى محمد المهدي بمناسبة مولد أبنه (3):
قال العلامة فالح الظاهري:
لاح في أفق الزهرا
كوكب الأفراح والبشرى
وأتى المقدور من غرض
بالذي أملته جهراً
إن للدهر لدى يداً
ليس اقراري بها سراً
_________
(1) انظر: المغرب الكبير، جلال يحيى (4/ 35).
(2) انظر: الحركة الوطنية في شرق ليبيا، مطصفى هويدي، ص101.
(3) انظر: برقة العربية امس واليوم للاشهب، ص350.(3/17)
الى أن قال:
يهنئ المخدوم ماخوله
الله من البشرى
بغلام اليمن كان له
منكم طول البقا ذخرا
وبلغتم فيه بغيتكم
في ظلال عيشة خضرا
ودواعي البشر لا برحت
تنتحي ناديكم الدهرا (1)
وقال ابو سيف مقرب بهذه المناسبة:
هنئت بالكوكب الدري اذ سطعا
وارج الافق والارجاء وارتفعا
وغصت للدر بحراً لجه عظما
وصغت للفظ نظما حسنه جمعاً
شنفت اسماعنا ياخير مبتكر
للشعر بلغك الله المنا جمعا
فانشر شمائلهم واذكر محاسنهم
واهزج بها دائماً لازالت مخترعا
هم آل مجد لهم ظل يظللهم
قد آب بالذل من في شأوهم طمعا
لهم مفاخر والمهدي أعظمها
طوبى لمن طاف في ذاك الحمى وسعا
موفق ماجد للحق متبع
ثبت الجنان بامر الله قد صدعا
وفرع دوحة مجد قد زكت ونمت
اغصانها حيث بدر الحسنى قد طلعا
لازال تشرق في الآفاق بهجته
مخولا ببقا الاصلين مرتضعا (2)
ثانياً: شيوخه وطلبه للعلم وبعض صفاته:
نشأ محمد ادريس في رعاية أبويه وبعد وفاة امه احتضنته جدته لوالدته، واهتم والده بتربيته تربية صالحة، وبدأ بتحفيظه للقرآن الكريم بنفسه مع دخوله في سن السابعة من عمره، وظل محمد ادريس يحفظ القرآن الكريم على أبيه وبعد فترة من
_________
(1) انظر: برقة امس واليوم، ص350 الى 351.
(2) انظر: برقة العربية، ص351.(3/18)
الزمن أرسله والده لتلقي العلم على يدي شيخ عرف بالصلاح والتقوى وبصحبته أخيه محمد الرضا، وابناء عمه محمد الشريف وبعد وفاة والده كفله ابن عمه أحمد الشريف، وتفرغ محمد ادريس لطلب العلم بعد ماحفظ القرآن الكريم، وتتلمذ على مجموعة من أفاضل العلماء اشتهر من بينهم، العلامة العربي الفاسي، وأحمد أبي سيف، والعربي الغماري، وحسين السنوسي، وأحمد الريفي، وأحمد الشريف السنوسي (1)، فأتقن القراءات، وعلوم الحديث، كما أتقن البخاري، ومسلم ومسند أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وموطأ مالك، ومسند ابي حنيفة، ومسند الامام أحمد، وكتاب الأم للشافعي، وغير ذلك من كتب الفقه والحديث والتفسير واللغة، وعلوم التاريخ، وتقويم البلدان، وتحصل على إجازات عدة (2).
ولما تقدم في السن أصبح من أعضاء مجلس شورى الحركة السنوسية ونظم لنفسه حياة خاصة، ورسم خطة سار عليها في حياته؛ فشيد منزلاً بزاوية التاج في الكفرة مؤثثاً بإبدع الأثاث، والفرش وعكف على الدراسة بهمة ونشاط واهتم بتكوين مكتبة خاصة أصبحت في طليعة المكاتب العربية، واتخذ حاشية مؤلفة من خيار الاخوان وكبارهم، وأقام منازل جميلة في مزارع السنوسية التي تقع في ضواحي التاج بواحة الكفرة أعدها بجميع ماتحتاجه من الضروريات، والكماليات، فإذا اشتقات نفسه للتريض والنزهة والترفيه خرج بحاشيته يقضي بعض الايام في تلك البساتين.
وكان مجلسه عامراً بالعلماء والأدباء، وكان يحب العلماء، ويجلهم ويكبر مافي نفوسهم من العلم، وينزلهم منه منزلة خاصة، ويحيطهم بعطفه وكانت أحب العلوم إليه الحديث الشريف، وعلم التاريخ والأدب والسياسة ولا يتحدث في موضوع إلا ويعلل رأيه فيه بعد تدقيق وتمحيص ثم يأتي بالحجج الدامغة، والبراهين القاطعة، تارة من كتاب الله ومرّة من الحديث الشريف، وحيناً من أقوال السلف الصالح وأئمة المسلمين، وكان قوي الذاكرة، سريع الخاطر متين الحجة، وله اهتمام
_________
(1) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص102.
(2) انظر: السنوسية دين ودولة، ص183،184.(3/19)
خاص بالفقراء والمساكين، وكان جميل المعشر، رحيماً باتباعه وخدمه، فيعود مرضاهم بنفس متواضعة ويصفح عن المذنبين منهم مالم يكن الذنب مغضباً لله ولرسوله وكان يميل الى اقتناء جياد الخيل، وله شغف بجمع انواع الاسلحة، وبجمع الكتب خصوصاً ماكانت حديثة، وكان كثير المطالعة، وله قلم سيال اذا كتب، كما كان خطيباً بارعاً يرتجل الخطبة، ويسترسل في المواضيع يتدفق كالسيل الجارف، فلا يتلعثم، ولا يتردد حتى ينتهي من موضوعه مع قوة في اللهجة، وحدة في المنطق وقد تغير صوته القوي الى هدوء بعد المرض الذي اصابه عام 1923م (1)، وكان حريصاً غاية الحرص على وحدة الصف السنوسي أمام أعداء الاسلام، فعندما كان أحمد الشريف يقود كتائب الجهاد ضد فرنسا في السودان الغربي لم يشأ أن يطلب منه أن يتخلى عن الزعامة لصاحبها الشرعي في نظره وفاءً منه للسيد أحمد الشريف الذي كفله بعد وفاة أبيه، ويتجلى حرص محمد ادريس على جمع كلمة المسلمين ولمّ شملهم، وعدم التفرقة عندما اشتدت المحنة وقت ان بدأ الطليان هجموهم الغادر على الأراضي الليبية ورأى بعض الاخوان أن يسندوا الزعامة الى ادريس السنوسي كحق موروث بدلاً من احمد الشريف، فرفض ادريس السنوسي ذلك العرض وبذلك اجتمعت كلمة المجاهدين على أحمد الشريف (2).
لقد رأى محمد ادريس ببعد نظره، وثاقب فكره أن تغيير القيادة في أثناء المعركة ليس من مصلحة حركة الجهاد، ودفع ابن عمه لمواصلة قيادة كتائب الحركة نحو الواجب المقدس.
ثالثاً: رحلة الحج:
وقد ذكر محمد ادريس قصة رحلته الى الحج بنفسه فقال: (في عام 1330هـ الموافق 1912م بلغت سن الرشد في الكفرة، فطلب مني بعض الاخوان السنوسيين بالآصالة عن أنفسهم ونيابة عن غيرهم أن أتسلم مسؤوليات المرحوم والدي
_________
(1) انظر: برقة العربية، ص354.
(2) انظر: السنوسية دين ودولة، ص184.(3/20)
من السيد احمد الشريف الذي كان يومها يتأهب للرحيل الى الجغبوب بناءً على طلب أنور باشا حتى يكون على مقربة من المجاهدين، وكان ردي على طلب الاخوان هو أن السيد أحمد مشغول بالاستعداد للسفر، وأننا على حافة الحرب مع إيطاليا، فلا أرى من المناسب أن أستلم منه في وقت كهذا، ثم انني أقدر خبرته الطويلة المجربة في ادارة شؤون الطريقة، ولكن متى استقرت الأحوال فسوف نلبي رغبتهم، ولاشك أن السيد احمد سوف يوافق على ذلك.
وسافر السيد احمد الى الجغبوب، بينما بقيت أنا في الكفرة عاماً كاملاً تدربت خلاله على تسيير الأمور المتعلقة بمسؤولياتي المقبلة. وفي تلك الأثناء تخلت تركيا عن البلاد لايطاليا، وبينما كان السيد أحمد يحارب الايطاليين، قررت أن أذهب الى مكة لأداء فريضة الحج ثم أعود لمساعدته، وبتاريخ الرابع من شوال (الموافق أغسطس 1913م) غادرت الكفرة برفقة ثلاثة من الاخوان هم (الحاج محمد التواتي والحاج فرج، والحاج علي العابديه (1)، وكان معنا ايضاً شيخ احدى الزوايا، وثلاثة من الخدم، منهم واحد سوداني، بالاضافة الى حداة الابل، وكنت أركب فرسي، وتحمل أمتعتنا الجمال، وسرنا بطريق القوافل الرئيسي الذي يمر بمناطق طلاب وربيانة وبوزيمة وزيغن، وابو عشكة، وبوطفل مؤدياً الى جالو، فاستغرقت الرحلة الى هناك واحداً وعشرين يوماً منها ستة عشر يوماً من السفر الفعلي، اذ كنا نسير ليلاً ونستريح نهاراً كالمعتاد أثناء الصيف. وقضينا تسعة أيام في جالوا التي كانت مركزاً تجارياً هاماً ثم أخذت مكانتها في التدهور على أثر اغلاق طريق القوافل من الساحل الى واداي وبعدئذ واصلنا السير نحو الجغبوب مروراً بخربة وقطمر، وترفاوي، وعبد السلام، واستمرت الرحلة كلها ستة عشر يوماً منها ثلاثة عشر يوماً في المسير.
ومكثت بالجغبوب سبعة أشهر من بيت أبي وكان المعهد الذي أسسه جدي هناك لا يزال مزدهراً. وفي شهر جمادي الثاني الموافق لأبريل 1914م غادرت الجغبوب متجها ًالى مصر مع نفس الجماعة وكذلك الحاج يونس العابدية الذي انضم
_________
(1) زعيم سنوسي معروف ولد سنة 1870م، وهو من قبائل الزوية.(3/21)
إلينا في الجغبوب وبعد مسيرة سبعة أيام وصلنا الى الساحل عند مكان يسمى بقبق (بالقرب من السلوم) حيث شاهدت البحر للمرة الأولى في حياتي. ثم سافرنا الى الضبعة (التي كانت في ذلك الوقت آخر محطة للسكك الحديدية المصرية من ناحية الغرب)، ومررنا في طريقنا بمرسى مطروح حيث رحبت بي السلطات المصرية، كما زرنا الزوايا السنوسية في كل من سيدي البراني شماس ونجيله وأم الرخم وأبو هارون، ولدى وصولنا الى الضبعة استقبلنا صالح حرب، وهو ضابط مصري جاء مندوباً عن الخديوي عباس الثاني ثم سافرنا الى الاسكندرية بقطار خصوصي، ونزلت ضيفاً على الخديوي في قصر راس التين، ولقيت ترحيباً حارً من المصريين، فهم على الرغم من حيادهم رسمياً في الحرب مع إيطاليا كانوا يؤيدون اخوانهم المسلمين يبذلون كل مافي وسعهم لمساعدة السنوسيين بامدادات السلاح والمعدات الطبية، وفي ذلك الوقت كان اللورد كتشنر يشغل منصب المندوب البريطاني في مصر.
وبقينا في الاسكندرية تسعة أيام بانتظار باخرة بريد الخديوي الى حيفا، ثم سمعنا أنها سوف تعرج على ميناء بورسعيد فاستقلينا قطاراً خاصاً تفضل به الخديوي أيضاً لنقلنا الى هناك حيث ركبنا الباخرة وأبحرت بنا عند الظهر في نفس اليوم. وكانت الرحلة مريحة وصلت بعدها الى حيفا يوم 24 رجب فاستقبلني الوالي التركي استقبالاً رسمياً، وبعدها مباشرة سافرنا بقطار سكة الحجاز، وقد وضعت تحت تصرفي المقصورة الملكية الخاصة، وكان القطار الى المدينة يقوم بثلاث رحلات أسبوعياً تستغرق رحلته ثلاثة أيام يمر فيها بعدة محطات رئيسية، وهي درعا وعمان وتبوك ومدائن صالح؛ وهو كان مريحاً رغم بطئه، ويضم ثلاث عربات للنوم وواحدة للأكل، كما وجدت به زريبة لفرسي وبقيت في المدينة خمسة عشر يوماً كان الجو أثناءها قائظ الحر، فداهمتني الحمى، ولذا نصحت بالانتقال الى مكة لأن جوها ألطف قليلاً. ومع أن موسم الحج لم يكن قد حل بعد، إلا أنني امتطيت فرسي وانطلقت في رحلة المائتي ميل من المدينة الى مكة، فقطعتها خلال أحد عشر(3/22)
يوماً من السفر الوئيد أثناء الليل والراحة في ظل خيمة بالنهار. وبعد إقامة ثلاثة أيام بمكة نصحني البعض بالذهاب الى مدينة الطائف الواقعة وسط التلال في جنوبي مكة، وكان الشريف حسين يمضي بها فصل الصيف مع ولديه عبد الله، وفيصل.
وقضيت في الطائف 75 يوماً، بما فيها رمضان وشوال وكان جوها لطيفاً بالفعل، فاستعدت صحتي تماماً. وفي تلك الأثناء حدث اغتيال أرشيدوق النمسا في ساريفيو، واندلعت الحرب العالمية الاولى. وبعدئذ توجهنا الى مكة لأداء مناسك الحج في أكتوبر 1914م، ونزلت بالزاوية السنوسية في ابوقبيس. ثم انتقلنا الى المدينة فاضطررنا الى البقاء فيها مدة شهرين لانقطاع المواصلات بسبب الحرب. وكان قد انضم إلينا في مكة اثنان من عرب برقة المعروفين، وهما رشيد الكخيا وعلي العبيدي.
وفيما كنا ننتظر بالمدينة اثناء شهر نوفمبر قامت الحرب بين بريطانيا وتركيا، فحاول الاتراك المسيطرون على الحجاز أن يحملوا العرب على الوقوف في صفهم، كما أخذ البريطانيون في التقرب الى العرب على نحو مماثل، غير ان الشريف حسين التزم موقف الحياد، متجنباً اعطاء أي رد مباشر على الدعوة التركية الى اعلان الجهاد. وفي ديسمبر عندما استأنفت القطارات رحلاتها العادية، سافرنا الى حيفا استضافنا الوالي التركي ابو شاهين. وهناك اكتشفنا أن الاتصالات مع مصر شبه مقطوعة تماماً لأن البريطانيين والاتراك كانوا يتقاتلون قرب قنال السويس، وكان البريطانيون قد اعلنوا الحماية على مصر بعد خلع الخديوي عباس الثاني واستبداله بعمه حسين كامل الذي منح لقب السلطان ولما كانت هناك باخرة إيطالية تقوم برحلات منتظمة بين حيفا ونابولي عبر ميناء بورسعيد، فقد ارسلنا واحداً من جماعتنا لاستطلاع امكانية السفر بهذا الطريق، وجاءنا رده مشجعاً، فحجزنا أماكن على الباخرة، غير أن القبطان قال أنه لايضمن السماح لنا بالنزول في بورسعيد، نظراً لأن السنوسيين كانوا حلفاء للاتراك وبالتالي فإننا نعد نظرياً من رعايا دولة معادية. ولكن العلاقات في ذلك الوقت كانت قد تحسنت نوعاً بين السنوسيين والايطاليين(3/23)
الذين أخذوا يسعون الى التفاهم مع السيد احمد الشريف، فاتفقنا على دفع عربون لقبطان الباخرة بحيث يحملنا الى نابولي في حالة ما إذا رفض البريطانيون ان يسمحوا لنا بالنزول في بورسعيد، ومن نابولي يدبر الايطاليون أمر ترحيلنا الى برقة متى حانت الفرصة.
وهكذا غادرنا حيفا في فبراير 1915م وقد اضطررت للأسف الى ترك فرسي هناك لأن القبطان لم يجد لها مكاناً على الباخرة. وهي كانت من سلالة برقاوية تربت في أرياف الجبل الاخضر، وكان اهداها إليّ خليل البناني، وقد حملتني طول الطريق من الكفرة الى مكة، ثم في طريق العودة كذلك، فتأسفت كثيراً لتركها في حيفا حيث ماتت بعدها بمدة قصيرة.
ولدى وصولنا الى بور سعيد طلبنا من رفيقنا علي العبيدي أن يسبقنا في النزول الى البر حتى رأيناه مر بسلام فتبعناه كلنا في زحمة الحجاج متظاهرين بأننا مصريون، وفور وصولنا الى الشاطئ بعثنا برقيات الى كل من السلطان حسين والجنرال ماكماهون الذي خلف اللور كتشنر في منصب المندوب السامي البريطاني بمصر، وتلقينا منهما استجابة ودية، فتوجهنا الى القاهرة في ضيافة السلطان حسين، وفي أثناء ذلك قمنا بزيارة لكل من الجنرال ماكسويل، قائد القوات البريطانية في مصر، والكولونيل كلينتون، مندوب حكومة السودان المقيم بالقاهرة، وأعرب الاثنان عن رغبتهما الاكيدة في أن نقطع علاقتنا مع الاتراك ونؤيد البريطانيين في الحرب او نبقى محايدين على الاقل. وكان ذلك أول لقاء بيني وبين البريطانيين وخرجت منه بانطباع جيد عن سلوكهم الودي وقوتهم العسكرية، ولم يكن بوسعي أن ألتزم بأي تعهد نيابة عن السنوسيين قبل استشارة السيد أحمد الشريف أولاً. ولكنني وافقت على متابعة الاتصال من خلال علاقتنا بعائلة الادريسي في مصر، ووافقوا من جانبهم على تسهيل عودتي الى برقة.
وبعد فترة اقامة قصيرة في القاهرة، ركبنا قطار الصباح الى الاسكندرية، وفي نفس اليوم استقلنا باخرة لخفر السواحل وضعها البريطانيون تحت تصرفنا حتى أنزلتنا(3/24)
في السلوم ومن ثم توجهنا الى امساعد للالتحاق بمعسكر السيد أحمد الشريف، وكانت غيبتي عن برقة استغرقت عاماً كاملاً تقريباً) (1).
إن رحلة محمد ادريس الى الأراضي المقدسة كانت لها أثر عميق في تفكيره حيث احتك بالحكومة المصرية، وبزعيم الثورة العربية الكبرى الشريف حسين، وقادة الانكليز في مصر ولاشك أنه ناقش، وحوار واستمع الى الاطراف المذكورة وتبلورت لديه قناعات مهمة فيما يتعلق بمجريات السياسة الدولية، وبطبيعة الصراع بين الاتراك والانجليز، ورسم لنفسه تصوراً واضحاً يخدم به شعبه ووطنه ومصالح بلاده ولذلك رأى انه ليس من مصلحة الحركة السنوسية الدخول مع الاتراك في حربهم ضد الانكليز وبعد رجوعه من الحج نصح احمد الشريف بعدم الدخول في الحرب مع الاتراك ضد الانكليز، وأعلن رأيه ذلك بصراحة.
رابعاً: محمد ادريس السنوسي في برقة:
بعد ماقرر أحمد الشريف الاشتراك مع الاتراك والألمان ضد بريطانيا على الحدود المصرية الغربية رأى أن يرتب شؤون الإدارة في برقة حتى يتفرغ هو للجهاد، فقسم القطر البرقاوي الى مناطق، وجعل ادريس على منطقة برقة ومركزه في اجدابية على أن يكون تحت إشرافه وفي دفنا محمد هلال، وفي الجبل الاخضر محمد الرضا، وارسل محمد صفي الدين لمنطقة طرابلس، وأما أحمد الشريف فقد ذكرت ما قام به في الحدود المصرية في الجزء الثاني من كتابي عن الحركة السنوسية.
انتقل محمد ادريس من السلوم شرقاً حتى إجدابية غرباً، في أواخر سنة 1915م وكان معه حوالي سبعون مجاهداً من بينهم (جمعة ابو شناك، وسعيد الشامي، والشارف الغرياني، وابراهيم الشلحي، ومحمد أحمد ابوبكر .... ) (2).
وأخذ يتنقل بين القبائل وكتائب الجهاد، فمر بكتائب البراعصة، والعبيدات
_________
(1) انظر: الملك ادريس عاهل ليبيا حياته وعصره، ص19 الى 22.
(2) مكتبة دراسة الجهاد الصوتية شريط رقم 14/ 34 محمد احمد ابوبكر الدرس من كتاب الحركة الوطنية شرق ليبيا.(3/25)
وغيرهم، وشرع في إدارة دفة الحكم في برقة بكل حزم ومهارة، فأظهر مواهبه كرجل إدارة محنك، وحاكم حازم، وكانت برقة تشكو في هذه الفترة المضطربة اختلال الأمن، وتعرض الاهالي لشرور المفسدين، فضرب محمد ادريس على أيدي المفسدين واستصدر من علماء البلاد "فتوى" لإعدام بعض السودانيين الذين وجدهم يعبثون في الأرض فساداً ينهبون الأموال ويفتكون بالأرواح (1)، فقام بشنق هؤلاء وكانوا سبعة رجال (2).
وقام محمد ادريس بتنظيم شؤون البلاد، وتوطيد الأمن وضرب على أيد العابثين، وقطع دابر المفسدين (3)، كانت مهمة محمد ادريس في برقة شاقة وعسيرة، وبخاصة بعد الفشل الذي أصاب المجاهدين بزعامة احمد الشريف على ايدي الانكليز فإن برقة كانت تعاني الأمرين في الحقيقة من جراء انتشار المجاعة بها وقتذاك (1915م) بسبب احتباس الأمطار، وفضلاً عن ذلك فقد غزت حملات الجراد البلاد في العام التالي فأتت على الزرع، وتفشى فيها مرض الطاعون، خصوصاً عام 1917م، وظل المطر محتبساً طول هذه المدة تقريباً، فكان أعظم بلاء شهدته برقة في تلك الفترة هو بلاء المجاعة (4).
وأمام هذه الظروف السيئة (اجتمع بعض أعيان أهل برقة وتدارسوا وتشاوروا في تلك الحالة المخيفة التي حلت بالوطن وأهله، وارسلوا وفودهم وكتبهم الى ادريس بمقره في اجدابية، وبصفته صاحب الحق الشرعي في إمارة السنوسيين ليتدارك ما وقع فيه ابن عمه احمد الشريف الوصي على الإمارة بمحاربته الانكليز جرياً وراء الاتراك، خصوصاً وأنهم لم يوفوا بوعودهم التي قطعوها له، فلم يرسلوا إليه بما يسد حاجة جيشه وبلاده كما وعدوه، بل ورطوا البلاد في نكبة الحرب ضد بريطانيا وتركوا شعبها المخلص لهم يموت جوعاً) (5).
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص186.
(2) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص107.
(3) انظر: برقة العربية، ص360.
(4) انظر: السنوسية دين ودولة، ص187.
(5) انظر: تاريخ حرب طرابلس، ابراهيم لطفي، ص57.(3/26)
ويلخص عبد الرحمن عزام حالة الانتظار تلك في قوله: ( ... كنا نترقب السواحل باستمرار مؤملين أن ترى الغواصات الألمانية اشاراتنا بالرايات في النهار او نيراننا التي كنا نشعلها في الليل، وتركزت آمالنا في أن تمدنا الغواصات بشيء من السلاح والمال والمؤونة، وقد بقينا نحو أربعة شهور وصلنا فيها الى حالة مروعة من الفقر ..... ) (1).
كان السيد محمد ادريس متأدباً مع ابن عمه احمد الشريف غاية التأدب ولذلك لم يتخذ أي قرار لمعالجة الموقف الحرج الذي تمر به البلاد إلا بعد ما كتب الى أحمد الشريف وشرح له ماكان يجري في برقة، فرّد عليه الأخير برسالة في أواخر عام 1916م جاء فيها: ( .... أعمل ماتراه مناسباً، والحاضر يرى مالايراه الغائب، وأنا موافق على مطالب أهل الوطن حيث أن لهم حقاً في ذلك ... ) (2).
كان ظهور محمد ادريس على مسرح العمل السياسي الليبي في تلك الفترة الحرجة مهماً للغاية لما تمتع به من صفات أهلته لزعامة البلاد، وآلت الأمور الى أن بايعه أهل برقة بالإمارة ثم أهل طرابلس بعد فشل الجمهورية الطرابلسية وهذا ماسوف نراه بإذن الله تعالى في هذا الكتاب.
كان من رأي ادريس أن يدخل في مفاوضات مع الانجليز، والوصول على الاقل الى اتفاق مؤقت من أجل فتح الطرق مع مصر، حتى يتمكن من القضاء على خطر المجاعة ولم يكن زعماء برقة يمانعون من دخول محمد ادريس في التفاوض مع ايطاليا او انجلترا مادام تلك المفاوضات تساعدهم في القضاء على شبح المجاعة الذي هدد البلاد، ولم تكن هناك عوائق أمام تحقيق ذلك المطالب وخصوصاً ان محمد ادريس تعرّف أثناء زيارته للحج على الكثير من رجالات العرب، مثل شريف مكة حسين ودرس معه القضية العربية التي كانت آنذاك في دور اليقظة (3) كما أنه
_________
(1) ذكريات عزام، الحلقة 8، مجلة المصور، العدد () 1332هـ، 1950 القاهرة، ص19.
(2) انظر: ليبيا اليوم، محمد الاشهب، ص7.
(3) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا.(3/27)
اصبح بعد تلك الزيارة رجل مهماً بالنسبة لبريطانيا وحلفائها وشرع محمد ادريس لدفع البلاد نحو دهاليز السياسة، فأرسل رسالة الى ممثل الملك جورج الخامس في مصر، وهو الجنرال ماكماهون في ذلك الوقت مقترحاً عقد مفاوضات للصلح، فأجاب بالموافقة على فكرة اجراء المفاوضات من حيث المبدأ بشرط أن يشارك فيها الايطاليون أيضاً، ولم يجد محمد ادريس مفراً من قبول ذلك الشرط، وخصوصاً أن موقفه كان صعباً حيث أن هزيمة جيش السيد أحمد الشريف في مصر جردت السنوسيين من عنصر القوة العسكرية، فأصبح محمد ادريس مضطراً الى التفاوض من موقع ضعف عسكري بينما كان رصيده الوحيد في ولاء قبائل برقة، وحرص الانجليز على كسبه لصفهم وإضعاف الزعامة السنوسية الموالية للأتراك كما أن من العوامل التي ساعدت في دفع محمد ادريس نحو التقارب مع السياسة البريطانية ثورة الاتراك ضد السنوسية.
خامساً: ثورة الاتراك ضد السنوسية:
بدأت تلك الثورة في أواخر سنة 1916م وانتشرت في جهات عديدة حتى توجت بالنصر على السنوسية في فزان خلال شهر سبتمبر سنة 1917م، وطردوا منها محمد عابد السنوسي الذي التجأ الى الكفرة وترك واحة واو، وأصبحت فزان منذ ذلك الحين بيد الاتراك حتى نهاية الحرب العالمية الأولى (1).
وفي اجدابية بدأ تحرك الضباط الأتراك منتهزين فرصة انشغال ادريس بالمفاوضات بعكرمة، فبدأوا بتأليب المجاهدين ضد السنوسيين هناك، فلما علم ادريس بذلك جاء بقوات كبيرة يقودها كل من عمر المختار والذي كان سنداً قوياً لمحمد ادريس ويقودها قجة عبد الله وعسكر ادريس بقواته خارج مدينة اجدابية، وضرب حول معسكر الاتراك بالمدينة حصاراً، وخيرهم بين أمرين التسليم أو مغادرة اجدابية الى أراضي طرابلس، وقبلوا الأمر الثاني فغادر الكثير منهم برقة الى طرابلس، واعتقل
_________
(1) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص116.(3/28)
جماعة منهم وأرسل بعضهم الى الجغبوب والبعض الآخر الى الكفرة (1) وبعد اخماد تلك الحركة عاد مسرعاً الى عكرمة لإكمال مفاوضاته (2).
واستمر الاتراك في مضايقة محمد ادريس، وتضييق الحصار عليه وعملوا على الإطاحة به، وأرسل نوري باشا بعثته الأولى الصغيرة الى الكفرة لضرب النفوذ السنوسي هناك إلا أن تلك البعثة فشلت وانتهت بوقوع أعضائها في أيدي صفي الدين السنوسي الذي استطاع أن يكشف أمرهم بسرعة، وأودعهم السجن (3)، أما بالنسبة لفزان فقد استطاع نوري أن يشعل الثورة هناك ضد السنوسية وسيطر الاتراك عليها كما ذكرنا، وقد ودع نوري باشا أحد زعماء الحملة واسمه الملازم محمد الارناؤوطي فقال له: (أذهب وأفعل ماتسطيع عمله واكتب لي بما تحقق من نجاح في مصراته، أنني اثق في شخصك ولا أستطيع أن أعطيك مالاً أكثر مما أعطيتك لأنني لا أملكه، إنك ستجد في فزان ذهباً وسلاحاً بكميات كثيرة لأن الايطاليين قد تركوا منها الكثير هناك، ولا تنسى أنك محارب وأنك ذاهب الى حرب مقدسة للجهاد في سبيل الله) (4).
وقام الاتراك بمهاجمة الجفرة التي كان بها عبد الجليل سيف النصر، وكان يتولى قيادة هذه الحملة الضابط التركي برتو توفيق، وعبد النبي بالخير، وتكونت الحملة من قسم كبير من مسلحي مصراته وزليطن برئاسة شرف الدين العمامي الزليطني والحاج محمد الروياتي المصراتي كان غرض القيادة التركية توسيع نفوذها في تلك الجهات والقضاء على شوكة السنوسية وتأمين المواصلات بين طرابلس وفزان، ووصلت الحملة الى الجفرة، وتمكنت من طرد الاهالي (أولاد سليمان، وقذاذفة، بعض المغاربة) (5) واضطر السنوسيون لجمع قوة مسلحة كبيرة من انصارهم في النوفلية
_________
(1) انظر: جهاد الابطال، ص133.
(2) انظر: السنوسية دين ودولة، ص117.
(3) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص118.
(4) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص118.
(5) المصدر السابق نفسه، ص120.(3/29)
وذلك في منتصف شهر نوفمبر من سنة 1917م، وشنوا هجوماً معاكساً ضد الاتراك، وأعوانهم في سوكنة واستطاعوا تحقيق نصر كبير عليهم، وطردوا القوات التركية الطرابلسية في الجفرة بعد أن خسرت الكثير، وأسرت القوات السنوسية القائمقام التركي برتو توفيق وقامت بشنقه (1).
لقد كانت مواقف الاترك من الحركة السنوسية مشجعة لمحمد ادريس على ضرورة المفاوضة مع الانكليز لا لتدارك المجاعة المهلكة فحسب بل للقضاء على الاتراك الذين سعوا للقضاء على نفوذ السنوسية وإقصائهم من ليبيا وتمكين القيادات الطرابلسية الموالية لهم في البلاد.
إن محمد إدريس فقد الثقة في الأتراك وعمل على إفشال أهدافهم وارسل الى ابن عمه احمد الشريف رسالة يبين له غدر الاتراك به على حد زعمه كانت الرسالة بتاريخ 26 ربيع أول عام 1335هـ (2 يناير 1917م) تساءل فيها ادريس عن ثمرة وعود الأتراك المتكررة عندما أرسل هؤلاء (الباروني ممثلاً لجلالة السلطان في طرابلس وأعطوه أسلحة، وذخيرة وزودوه بمنشورات كثيرة مقدار مايملأ الدنيا منها، بينما أنتم - مخاطباً السيد أحمد- تجاهدون من أجلهم، وهم لايكتفون بعدم الاهتمام بكم بل يغدرونكم بإرسال خائن الى بلادكم ويبذلون له كل مساعدة في الوقت الذي يتحدث فيه فقط وقبل كل شيء عن طرابلس ولا يذكر السنوسية بكلمة واحدة، وفضلاً عن ذلك فإن السيد أحمد - على حد ما جاء في هذه الرسالة- كان يقول دائماً: (إن انور (أخبره) بأن السلطان أصدر فرماناً بتعيينه نائباً عن الخليفة في أفريقيا ولكن ماقيمة هذا الكلام إذا كانت الأقوال تختلف عن الأفعال؟ فإلى متى يجب علينا نحن وأتباعنا أن نقف مكتوفي الأيدي أمام هذه الوعود الباطلة الكثيرة التي سوف تنتهي من غير شك بنتيجة واحدة هي القضاء علينا وعلى أوطاننا، ويالها من كوارث عظيمة تلك التي نزلت بأهل هذا الوطن (2).
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص 223.
(2) أنظر: السنوسية دين ودولة، ص191.(3/30)
ومن الأسباب التي جعلت محمد ادريس أن يتقارب مع الانكليز قناعته بأن نهوضه ببرقة لابد له من دعم خارجي مادي، ومعنوي ورأى ببعد نظره السياسي، أن الحرب العالمية سينتصر فيها الحلفاء ولذلك حرص على التقارب من بريطانيا، صاحبة التفوق في منطقة الشرق ولذلك سعى إليها لتقليل الخسائر، والمحافظة على كيان السنوسية الذي تعمل تركيا على تحطيمه في البلاد في تلك المرحلة.
لقد حرص محمد ادريس من التقليل من الخسائر الى أقصى حد، واتخذ قراراً بالانسحاب من الحرب ضد إيطاليا، وبريطانيا ووافقه زعماء القبائل التابعين للحركة السنوسية على ذلك.(3/31)
المبحث الثاني
موقف الاسلام من المعاهدات مع العدو
قال الامام الشافعي، في هذا الصدد مايلي: (إذا ضعف المسلمون عن قتال المشركين، أو طائفة منهم لبعد دارهم، أو كثرة عَدَدِهم، أو خلة بالمسلمين، أو بمن يليهم منهم- جاز لهم الكف عنهم، ومهدنتهم على غير شيء يأخذونه من المشركين، -ثم يقول- فأحب الامام، إذا نزلت بالمسلمين نازلة، وأرجو أن لاينزلها الله عز وجل بهم، إن شاء الله تعالى - مهادنة يكون النظر لهم فيها. ولا يهادن إلا الى مدة ولا يجاوز بالمدة مدة أهل الحديبية، كانت النازلة ما كانت فإن كانت بالمسلمين قوة قاتلوا المشركي بعد انقضاء المدة. فإن لم يَقوَ الإمام فلا بأس أن يُجدد مدة مثلها أو دونها ... ) (1).
وقال في المهذب، بصدد مانحن فيه: (لا يجوز عقد الهدنة لإقليم، أو صقع عظيم إلا للإمام، أو لمن فوض إليه الإمام، فإن كان الإمام مُسْظْهِراً (2) نظرت: فإن لم يكن في الهدنة مصلحة لم يجز عقدها لقوله عز وجل: {ولا تهنوا وتدعو الى السلم وأنت الأعلون، والله معكم} (سورة الانفال: الآية: 35). وإن كان فيها مصلحة بأن يرجو اسلامهم، أو بذل الجزية، او معاونتهم على قتال غيرهم- جاز أن يهادن ... ثم يقول - وإن كان الامام غير مستظهر بأن كان في المسلمين ضعفٌ وقلة، وفي المشركين قوة وكثرة، او كان الامام مستظهراً لكن العدو على بعد ويحتاج في قصدهم الى مؤونة مجحفة - جاز عقد الهدنة الى مدة تدعو إليها الحاجة؛ واكثرها عشر سنوات؛ لان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هادن قريشاً في الحديبية عشر سنين ... ) (3).
يفهم مما تقدم أن مصلحة الاسلام والمسلمين هي المحور الذي ينبغي أن يدور عليه
_________
(1) انظر: المغني لابن قدامة (10/ 259).
(2) أي غالباً.
(3) المهذب للشيرازي (2/ 259 - 260) هذا والجمهور على عدم تقييد المعاهدة بعشر سنين بل يرجع تقييدها الى المصلحة سواء زادت على عشر سنين او نقصت عنها.(3/32)
عقد المعاهدات مع العدو، وهذه المصلحة يرجع تقديرها الى خليفة المسلمين، أو من يفوض في هذه المسألة.
ففي عصرنا اليوم، وقد تخلف المسلمون عن غيرهم من الشعوب، والدول المتقدمة في مجالات العلم، والصناعات، والأجهزة والمعدات العسكرية ... وما الى ذلك - قد يكون من المصلحة عقد المعاهدات مع بعض تلك الدول، بحيث تؤدي الى نقل ماتملتكه في هذه المجالات، الى بلاد المسلمين، مما تتحقق معه المنفعة التي تربو على مايمكن أن ينشأ عن تلك المعاهدات من بعض المفاسد.
كما أننا في هذا العصر، حين نجد الدول الاستعمارية، وهي تبحث عن أية ذريعة تُسوِّغُ لها - في نظر العالم- أعمالها العدوانية ضد المسلمين، وتتحين أية فرصة مناسبة للسيطرة على ثرواتهم، وتمزيق شملهم، وتدمير منشآتهم الحيوية ... حين نجد الدول الاستعمارية على هذه الحال، فإن مصلحة الاسلام والمسلمين تحتم على المسؤولين أن يتجنبوا كل مامن شأنه أن يجعل تلك الدول الظالمة تكشف لهم عن مخالبها، أو تكشر عن أنيابها، وعليهم في مثل هذه الأحوال أن يعقدوا مع العدو من المعاهدات المشروعة مايكون نفعه اكبر من ضرره بالنسبة الى الاسلام والمسلمين، من أجل قطع الطريق على مخاطر أكبر ومفاسد أعظم. هذا، مع وجوب السعي، في الوقت نفسه، الى المعالجة الجادة لواقع الوهن، والهوان والخزي الذي يعيشه المسلمون بسبب ماهم عليه من عداوات وتمزق، وتجزئة، وتخلف (1).
إن هذا المدخل يساعدنا على الانصاف، والحكم بالعدل عندما ندخل في دراسة المفاوضات التي مارسها محمد ادريس مع بريطانيا وايطاليا او التي قام بها زعماء طرابلس بعد اعلان الجمهورية الطرابلسية مع ايطاليا، وتعطي الأجيال نوعاً من الفقه المتعلق بالعلاقات الدولية في الاسلام، وتجعلها تهتم بقضية المعادلة الدولية، وعدم اغفالها اثناء سعيها الدؤوب لتحكيم الاسلام في دنيا الناس، وواقع الحياة.
_________
(1) انظر: الجهاد والقتال في السياسة الشرعية، محمد خير هيكل (3/ 1481،1483).(3/33)
أولاً: الدخول في المفاوضات بين محمد ادريس وبريطانيا وايطاليا:
كانت السياسة الانكليزية في مصر ترى محمد ادريس اقرب إليها من احمد الشريف ووصف الوفد الادريسي الذي بعث به الانكليز الى برقة قبيل نشوب الحرب الليبية الانجليزية على حدود مصر الغربية ادريس: (بأنه اكثر اعتدالاً وأشد حزماً وأنه من أشد المعارضين لغزو حدود مصر الغربية والاشتباك في حرب مع الانكليز، لما تنطوي عليه من أخطار، وأنه غادر المسيعيد الى جهة الجبل الاخضر احتجاجاً على سياسة السيد احمد الشريف المائلة الى الترك والألمان والتساهل معهم .... ) وعلى ضوء تلك المعلومات أذن الحكام في مصر للوفد بأن يكاتب ادريس بغية الوصول الى اتفاق معه (1)، والاستفادة من العلاقات القائمة التي كانت تربط الأسرة الادريسية بمصر بالبيت السنوسي لكونها من أبناء وأحفاد أحمد بن ادريس الذي كان شيخاً ومعلماً للسيد السنوسي الكبير في مكة (2).
واستمرت المراسلات بين ابناء البيت الأدريسي ومحمد ادريس السنوسي، وانتهت الى الوصول لاتفاق يقضي بسفر وفد انكليزي وايطالي الى اجدابية لعقد صلح بين الاطراف الثلاثة ينهي الخلافات بينهم (3). وقد أبلغ الانكليز إدريس بصفة رسمية أنهم لن يشرعوا في دخول مفاوضات معه لأجل الصلح إلآ شريطة قبوله فتح باب المفاوضة مع حليفتها إيطاليا، وقد وصل في أواخر سنة 1916م الى الزويتينة وفد من الانكليز والإيطاليين ومعهم من المصريين احمد محمد حسنين أفندي، ومحمد الشريف الادريسي وابنه محمد المرغني، وكانوا جميعاً ضمن الوفد الانكليزي إضافة الى الكولونيل تالبوت الذي له دراية كبيرة بشؤون الشمال الأفريقي، والضابط اللفتنت هسلم.
كان الوفد الانكليزي قد جاء بطريق البحر من القاهرة الى بنغازي للإجتماع
_________
(1) انظر: الدولة العربية المتحدة، أمين السعيد، ص31 - 32.
(2) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص126.
(3) المصدر السابق نفسه، ص130.(3/34)
بالوفد الايطالي الذي كان مكوناً من الكولونيل بيلا، والكومانداتور بياجنتيني ومترجمهم ولم يطل الوفد الإقامة في بنغازي بل سافر الى الزويتينة بيخت خاص، فوافاهم إليها ادريس من اجدابية وكان من بين من معه: علي باشا العابدية (1).
بدأت المفاوضات بين الأطراف الثلاثة خلال شهري أغسطس وسبتمبر سنة 1916م (2). وكان الوفاق والتفاهم ظاهراً فيما بين الجانبين الانكليزي والسنوسي أما العلاقات الايطالية فقد كانت مغايرة لذلك تماماً.
وكان أول طلب للإيطاليين هو موضوع الاسرى الايطاليين، يقول برتشارد: ( ... لكن ادريس لم يكن ينوي تسليمهم بدون واحدة بواحدة، فاتبع تكتيكه المعتاد في المماطلة، لقد توسل بأن عليه أن ينال موافقة احمد الشريف اولاً لأن الاخير هو الذي أسرهم، أما من جهته فليس بوسعه أن يصدر أوامره فيما يصدر ابن عمه أوامر مناقضة لها ... ) (3).
وقد أجّل بحث هذه النقطة الى فترة اخرى قريبة، ثم قدّم الوفد الايطالي بقية شروطه للوصول للصلح مع السنوسيين، وقد تمثلت الشروط في الآتي:
1 - ان يعترف ادريس بالسيادة الايطالية على كل برقة من (منطقة بنغازي الى الكفرة).
2 - أن يسلم المجاهدون اسلحتهم فلا يبقى لديهم سوى ما يكفي للمحافطة على انفسهم.
3 - إحلال السلام مع وقف العمليات الحربية بين الجانبين.
4 - اعتراف ايطاليا بالسنوسية زعامة وطريقة.
5 - منح الكفرة -مقر السنوسيين- استقلالاً ادارياً.
_________
(1) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص132.
(2) المصدر السابق نفسه، ص132.
(3) السنوسيون في برقة ترجمة عمر الديراوي ابو حجلة، ص232.(3/35)
تتعهد ايطاليا بقيام المحاكم الاسلامية الشرعية.
تتعهد ايطاليا بالعمل على تحسين الأحوال الصحية في البلاد وانشاء المستشفيات والمدارس.
إن شرط الايطاليين الخاص بمسألة اعتراف السنوسيين بالسيادة الايطالية في برقة كان مهدداً بفشل المفاوضات بصفة عامة، لذا فقد تأجل النظر في هذه المسألة من الجانب السنوسي، إلا أن الايطاليين قد تمسكوا بهذا البند كثيراً، وكأن المفاوضات كانت من أجله فقط.
وتقدم محمد ادريس بوجهة نظره في هذ المفاوضات وتتلخص أهم شروطه في الآتي:
1 - وجوب الاعتراف من قبل ايطاليا باستقلال السنوسيين.
2 - الاعتراف بشخص ادريس السنوسي أميراً على برقة.
3 - وضع حدود بين الأراضي الخاضعة لكل من الطرفين (السنوسي والايطالي)، فكل طرف يحتفظ بما تحت يديه من أراضي تحدد بخرائط واضحة مع عدم التعدي على أراضي الطرف الآخر.
4 - الاسراع بفتح الطرق التجارية وضمان سلامتها.
لقد كان محمد ادريس يدرك جيداً بأن الاتفاق مع ايطاليا كان بالنسبة له ضرورة ملحة لا مفر منها، لكنه اتضح بدون شك بأن الاتفاق في صالح الايطاليين أكثر مما هو في صالحه (1).
يقول الكاتب الايطالي فبرينثربوسيرا:
( ... لقد ساد جو المفاوضات بعض من التذمر نتيجة لأسباب نشأت بالمناسبة أثارت اشمئزاز ادريس ونفوره، خاصة وأن الظروف التي نشأت كانت تتعارض مع
_________
(1) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص136.(3/36)
الاهداف التي كان ادريس يسعى إلى تحقيقها .. ويضيف قائلاً: ان المفاوضين الايطاليين رأوا أنه ليس هناك لزوم لاتباع محادثات الخطوة خطوة وذلك بالنظر الى عدم التأكد من إحراز أية نتيجة تذكر، كما ان طريقة التصرف في الأمور وما لازمها من حنق وغيظ، الى جانب مجاراة الزمن دون فائدة، كل ذلك كان له أثره الفعال لدرجة انعدمت معه تلك الآمال في الوصول الى النتيجة التي كان يحبذها، ويرغبها ادريس ... ) (1).
واستمرت هذه المفاوضات قرابة شهرين او يزيد وانتهت بالاتفاق على بعض الامور بين الطرفين تقوم على الاسس الآتية:
1 - تنتهي حالة الحرب بين السنوسيين والايطاليين وينادى بالسلام.
2 - يعترف الايطاليون باستقلا السنوسيين داخل برقة.
3 - يبقى الايطاليون في الساحل ويحتفظون بما في حوزتهم من الأراضي الساحلية.
4 - تحديد مناطق النفوذ بين أراضي الطرفين.
5 - تفتح الطرق التجارية وتعود البلاد الى حالة السلم ويكون الدخول والخروج بتصاريح.
6 - يعترف الايطاليون بادريس زعيماً للطريقة السنوسية في برقة.
وقبل أن تتفرق الوفود جرى تحديد أراضي الفريقين على الورق (خريطة) واحتفظ كل وفد بخريطة للاعتماد عليها عند الحاجة (2).
إلا أن الحكومة في روما نقضت هذا الاتفاق واعتبرت شروطه مذلة فنقضتها على اساس ان مفاوضيها لم يكونوا يملكون الصلاحيات لتوقيعها (3).
_________
(1) انظر: ايطاليا والسنوسية ترجمة محمد السيد ابو مدين، ص90 ومابعدها.
(2) انظر: الدولة العربية المتحدة، ص38.
(3) انظر: السنوسية في برقة ايفاتر برتشارد، ص232.(3/37)
وأصدر والي برقة (جيوفاني أميليد) (1) أمراً بقطع المفاوضات وتم له مااراد واخفقت مفاوضات الزويتينه.
أما الوفد الانكليزي فقد كانت مهمته يسيرة، فلم تكن هناك اية صعوبة في الوصول الى اتفاق مع السنوسيين ولكن الصعوبة تكمن في إصرار الكولونيل تالبوت رئيس الوفد على عدم التوقيع على أي اتفاق مع السنوسيين قبل أن ينتهي ادريس من الاتفاق مع الايطاليين ويتم التوقيع من الطرفين على هذا الاتفاق (2).
ويذكر عزام: ( ... ان الوفد الانكليزي كان قد طلب الى ادريس السنوسي المبادرة بالقبض على المتطوعين المصريين والعمل على تسليمهم الى السلطات الانكليزية في السلوم ولكن ادريس رفض ذلك .... ) (3).
كانت هناك عدة عوامل ساعدت محمد ادريس وقوّت موقفه في المفاوضات فمن أهمها:
1 - عدم وجود منافس قوي له في برقة، فالغالبية تنضوي تحت زعامته وخاصة بعد فشل حملة احمد الشريف ضد الانكليز في مصر، بما في ذلك قادة المجاهدين، وضباطهم وشيوخ القبائل ورؤساء الزوايا الدينية، مثل؛ ابراهيم المصراتي، خالد الحمري، عمر المختار، موسى بولامين الحمري، الفالح محمد الدرسي، الشارف الغرياني، محمد بومليحة العبيدي، السنوسي الغزالي، محمد ابو الشويخ، عياد بالقاسم البرعصي، شعيب الخدة، حمد ابو جالي العبيدي، عمر منصور الكيخيا، وغيرهم كثيرون.
2 - استمرار الحرب العالمية الاولى وانشغال الجميع بها ورغبة الجميع في عدم فتح جبهات قتالية جديدة تكلفهم المزيد، أفاد ادريس وعزز مركزه في المساومة.
3 - وجود ضباط أتراك وألمان في برقة يدعم موقف ادريس وهذا مايخيف
_________
(1) أحد القادة العسكريين الايطاليين الكبار.
(2) انظر: السنوسية دين ودولة، ص196.
(3) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص138.(3/38)
بريطانيا وإيطاليا ويجعلهما تعملان على إنجاح التفاوض وإنهاء المشكلة بسرعة خوفاً من تغير موقفه.
4 - شجعت سياسة بريطانيا في الشرق -المتمثلة في تشجيع العرب وحصولهم على استقلالهم وتكوين دول وإمارات مستقلة- محمد ادريس على المطالبة بتكوين امارة مستقلة في برقة لاتخضع للايطاليين، وهو بهذا يكون مطالباً بحقوق إمارة له مثلما حدث في الحجاز (ثورة الشريف حسين) وفي عسير (إمارة الأدارسة) وخصوصاً أن بريطانيا كانت قد شجعت كل المناهضين والثائرين ضد الحكم العثماني واعدة إياهم بالحصول على استقلالهم وسيادتهم.
وفي أوائل سنة 1917م تمت اتصالات جديدة بين الانكليز والايطاليين والسنوسيين وقد لعب محمد الشريف الادريسي وابنه المرغني دوراً هاماً في إنجاح هذه الاتصالات وموافقة جميع الاطراف على تجديد المفاوضات.
وتألف الوفد الانكليزي هذه المرة من: الكولونيل تالبوت رئيساً، والضابط رود ابن السفير الانكليزي بروما (1)، وأحمد محمد حسنين؛ أما الوفد الايطالي فكان مكوناً من الكولونيل أرتوري برنتو رئيساً للوفد (2)، والكولونيل دي فيا وتراجمهما، وكان الوفدان الانكليزي والايطالي يقيمان في مدينة طبرق، أما ادريس ومستشاروه (3) وأعوانه فقد أقاموا في منطقة عكرمة وبدأت المفاوضات مع بداية العام الجديد، ورغم أنها اتسمت بطابع الحذر والحيطة إلا أن جهوداً ومساعي قد بذلت فيما يبدو لإنجاحها والوصول الى حلول يقبلها الجميع، وتقدم الوفد الايطالي بمذكرة رقم (1) توضح وجهة نظره متمثلة في النقاط التالية:
1 - حل المعسكرات السنوسية وتسريح حامياتها.
2 - يتم نزع السلاح من رجال القبائل بصورة تدريجية في فترة زمنية قدرت بسنة واحدة.
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص196.
(2) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص143.
(3) المصدر السابق نفسه، ص143(3/39)
3 - للحكومة الايطالية تعيين شيوخ الزوايا الدينية التي تقع في مناطقها وذلك بمشورة ادريس.
إلا أن الوفد السنوسي لم يقبل كل ماجاء في المذكرة الايطالية، وتقدم باقتراحاته في المذكرة رقم (2) وقد جاء فيها مايلي:
1 - يقوم الايطاليون بتنفيذ جميع طلبات الوفد السنوسي التي قدمها أثناء مفاوضات الزويتينة العام الماضي (1916م).
2 - يرجأ البحث في نقاط المذكرة الايطالية رقم (2) الى مباحثات تتم في المستقبل (1).
إلا أن الايطاليين تقدموا بحلول جديدة قدموها في مذكرة جديدة رقم (3) وتنازل الوفد الايطالي فيها عن بعض شروطه وتساهل في قبول بعض شروط ادريس حتى أن برتشارد يقول: ( ... ان الحل رقم (3) اعطى ادريس جميع مطالبه تقريباً) (2) وتقدم ادريس بمذكرة جديدة رقم (4).
لقد طالت مدة المفاوضات، فاستغرقت الفترة مابين شهر يناير الى منتصف ابريل تقريباً، والجلسات معقودة والحوار مستمر، وكانت لضغوط الانكليز اثر على الطرفين الايطالي والسنوسي حتى تم التوصل الى اتفاق ارتضاه الجميع وكانت بنوده تتمثل في الآتي:
1 - إيقاف العمليات الحربية بين الطرفين ابتداءً من تاريخ هذه المعاهدة.
2 - يقف الايطاليون عند النقط التي كانوا يحتلونها في شهر ابريل سنة 1917م ويتعهدون بأن لا يعملوا على إقامة وتجديد مراكز عسكرية مسقبلاً، على أن يكون هذا الشرط مقيداً للسنوسيين ايضاً (3).
3 - لايحق لأي من الطرفين نهب او اغتصاب أو أخذ ممتلكات الطرف الآخر.
_________
(1) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص145.
(2) المصدر السابق نفسه، ص145.
(3) انظر: ليبيا في العصور الحديثة، نقولا زيادة، ص90.(3/40)
4 - يعتبر كل من الطرفين مسؤولاً عن الأمن والسلام في المنطقة التي تخضع لنفوذه.
5 - يسمح لكافة التجار والعاملين بالتجارة بحرية الارتحال والمتاجرة مع الدواخل فهي (طبرق - درنة - بنغازي) على أن تشمل حرية التجارة بقية الموانئ مستقبلاً.
6 - بقاء جميع الزوايا السنوسية التي سيطر عليها الايطاليون سابقاً تحت النفوذ السنوسي.
7 - تعفى جميع الزوايا السنوسية وممتلكاتها من الرسوم والضرائب.
8 - تدفع الحكومة الايطالية مرتبات لمشائخ الزوايا الواقعة ضمن مناطق نفوذها على ان يقوم هؤلاء بدور الوسيط بين السلطات الايطالية وأهل البلاد حين الحاجة (1).
9 - يطبق على السكان الليبيين القاطنين في مناطق النفوذ الايطالي قانون الاحوال الشخصية الاسلامي (2).
10 - تدريس القرآن الكريم وأصول الدين في المدارس والمساجد الليبية الواقعة ضمن مناطق النفوذ السنوسي.
11 - تعفى البضائع المستوردة للسنوسيين وطلابهم من الجمارك عدا تجارة السلاح.
12 - تقدم ايطاليا المعونة المالية وتسمح بتوصيل الأدوار بأقرب المراكز الايطالية بالهاتف لتسهيل الاتصال وتبادل الرأي (3).
13 - يقوم محمد ادريس بإبعاد كل من يكدر العلاقات بينه وبين الايطاليين.
_________
(1) انظر: برقة الدولة العربية الثامنة، نقولا زيادة، ص92.
(2) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص146.
(3) انظر: قضية ليبيا، محمود الشنيطي، ص83.(3/41)
14 - يؤجل النظر في مرتبات العائلة السنوسية.
15 - يلزم الاتفاق استعجالاً ويتفق الجميع على الاصلاح وإطفاء الفتن (1).
وإضافة الى هذه البنود فقد تم مسبقاً الاتفاق على نقطتين هما تبادل الاسرى، وإعادة فتح الأسواق.
أما الاتفاق السنوسي-الانكليزي فقد تم التوصل فيه على النقاط الآتية:
1 - فتح طرق التجارة عند السلوم واتخاذ ميناء السلوم مركزاً للتبادل التجاري. على أن يكون طريق الاسكندرية السلوم الطريق الوحيد الذي تمر منه السلع الى برقة.
2 - تسليم الضباط الاتراك وغيرهم من اعداء بريطانيا إذا وقعوا تحت قبضة ادريس مسقبلاً الى الانكليز.
3 - خروج جميع المسلحين التابعين للسنوسية وأعوانها من كل الاراضي المصرية.
4 - عدم قيام أية تجمعات عسكرية او مدنية مسلحة قرب الحدود المصرية الليبية.
5 - صيانة أموال السنوسية في مصر.
6 - تسمح السلطات البريطانية في مصر بجمع المعلومات المادية من أنصار الطريقة السنوسية ومؤيديها.
7 - تخضع واحة الجغبوب الى ادارة وإشراف السنوسيين.
8 - يكفّ السنوسيون عن إنشاء زوايا دينية لهم داخل الاراضي المصرية.
9 - إبعاد المفسدين والعابثين بالأمن ومحدثي الشغب والقلاقل من مناطق الحدود بين البلدين.
10 - إطلاق سراح المعتقلين في مصر من أتباع السيد أحمد الشريف (2).
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص83.
(2) انظر: قضية ليبيا، ص81.(3/42)
11 - تسليم جميع الرعايا البريطانيين والمصريين التابعين لدول الحلفاء الى الحكومة البريطانية في مصر.
وقبل أن تنتهي المفاوضات بين الأطراف المذكورة في عكرمة طلب اللواء تالبوت رئيس الوفد الانكليزي، ومحافظ الصحراء الغربية، الى ادريس السنوسي أن لا يبقى رجالاً مسلحين في واحة الجغبوب، وقد رد محمد ادريس على هذا الطلب رداً سياسياً دبلوماسياً بكتاب مؤرخ في يوم 10 ابريل 1917م جاء فيه ما يلي:
( ... ان الجغبوب واقعة في مكان سحيق في الصحراء وهي موصلة لعدة طرق مع مصر ومع الجبهات الغربية، والآن بما أن مهمتي حفظ النظام ومنع الدسائس في مصر وقطع دابر السرقات والتهريب، فلابد أن يكون لدي لهذا الغرض قوة يخشى الناس بأسها .... ) (1).
واستطرد ادريس واصفاً حالة العرب في الصحراء ووجوب المحافظة على الأمن فيها الى أن قال: ( ... هذه هي الأسباب التي تضطرني لطلب السماح لوجود رجال مسلحين في الجغبوب) (2).
يرى بعض المؤرخين (3) أن معاهدة عكرمة في طبرق كانت خير وسيلة لتحقيق السلم وصون مصالح العرب المجاهدين في برقة، كما أنه اتيحت فرصة لمحمد ادريس لتنظيم القبائل تنظيماً من شأنه أن يجمع الكلمة ويقضي على بذور الفتنة والاضطراب، كما ساعد ذلك الاتفاق على تأييد نفوذ محمد ادريس حتى بدأ الاهالي من ذلك الحين يلقبون محمد ادريس (بالمنقذ)، وكان من أهداف الطليان من إبرام اتفاق عكرمة تمكينهم من أن يتصلوا مباشرة بالأهلين وأن يمدوا نفوذهم في داخل البلاد عن طريق هذا الاتصال المباشر؛ وهذا ماكان السيد ادريس يدركه حق الادراك ويعمل من جانبه على تعطيله ومقاومته، وتركزت جهود محمد ادريس في أمرين هامين بعد تلك المعاهدة:
_________
(1) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص149.
(2) انظر: ميلاد دولة ليبيا الحديثة، ص186.
(3) منهم دكتور محمد فؤاد شكري.(3/43)
أولاً: إقامة الحكومة الوطنية الرشيدة التي تحفظ مصالح البلاد، وتتولى زعامة القبائل في برقة، وتطالب بكل حقوقهم.
ثانياً: مقاومة نفوذ الطليان ومنع اتصالهم بالعرب بكل الوسائل في داخل البلاد (1).
واستطاع محمد ادريس أن يقيم حكومة وطنية فعلية عاصمتها اجدابية عام 1917م.
ثانياً: اجدابية عاصمة الحكومة الوطنية:
اتخذ محمد ادريس إجدابية مركزاً لقيادته، وذلك لعدة أسباب نجملها فيما يلي:
1 - تتمتع إجدابية بموقع استراتيجي هام لأنها تملك حماية محدودة من البحر وابتعادها عنه نسبياً، ثم أن لها ميناءً صغيراً تصلها به عن طريق (الزويتينة) كل الاحتياجات، كما أنها كانت قريبة من مرسى البريقة البحري الذي كانت تصل إليه بعض الاحيان الغواصات اللألمانية قادمة من تركيا باحتياجات المجاهدين.
2 - وقوعها في منتصف قاعدة مثلث رأسه في الكفرة وقاعدته النوفلية والجبل الاخضر، كما أنها تمثل الامتداد الطبيعي لواحات جالوا وأوجلة، جخرة، والكفرة، وهذا يعطيها بعداً استراتيجياً هاماً.
3 - كونها من أهم المناطق في تجارة القوافل سواء بين طرابلس وبرقة أو بين الواحات الجنوبية والساحل او بين تشاد وبرقة وغير ذلك من الخطوط التجارية.
4 - قربها من طرابلس زاد من أهميتها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، فكان لها دورها الهام في مختلف الانشطة التجارية والحربية.
5 - كانت موطناً لمعظم القبائل التي كانت تؤيد الحركة السنوسية.
6 - كان الترتيب الاداري الذي وضعه احمد الشريف أثناء غيابه عن برقة خلال
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص205.(3/44)
الهجوم على مصر، يقضي بأن يكون ادريس مسؤولاً في برقة البيضاء، ويكون مركزه في اجدابية.
لهذه الاسباب وغيرها اتخذها محمد ادريس عاصمة لامارته الجديدة، ومقر رئاسة حكومته، ونظم بها دواوين الحكومة السنوسية، وقسم الادارات ونظم ورتب الجيش، وشمل نفوذ هذه الحكومة جميع أراضي برقة من الحدود المصرية الليبية شرقاً الى قصر سرت غرباً ماعدا المنطقة الساحلية التي كانت خاضعة للسيادة الايطالية (1).
إن الاتفاق الذي أجراه السيد محمد ادريس سواء مع الطليان او الانكليز لايحمل باي شكل من الأشكال استسلام أو قبول للواقع، وإنما هي مرحلة مؤقتة هدفها إنقاذ البلاد وتوحيد الصفوف وتقويتها، فأثبت بعمله ذلك حرص الحركة السنوسية على صيانة البلاد وحمايتها وما إتفاق عكرمة بطبرق الذي عقد في السادس من نيسان سنة 1917م إلا حل قصد منه تهدئة خواطر الأهالي وتبعه اتفاق الرجمة والتي اعترفت فيه ايطاليا بإمارة محمد ادريس وقد قصدت إيطاليا من ذلك تجزئه البلاد، إلا أن زعماء ليبيا في غربها بددوا أمالها وأفشلوا مساعيها حينما عقدوا مؤتمر غريان في تشرين الثاني 1921م وأقروا تعيين محمد ادريس أميراً على البلاد فارسلوا البيعة له في أيلول سنة 1922م، فحققوا بذلك الوحدة الوطنية للبلاد، ووضعوا محمد ادريس أمام مسؤولية عظيمة تتطلب منه تولي زمام الأمور والسير بالبلاد الى حريتها واستقلالها، لقد أصبحت مسؤولية محمد ادريس بعد تلك البيعة التاريخية ليست برقة فقط، كما أرادت إيطاليا وإنما ليبيا بقطريها الطرابلسي، والبرقاوي، وإن إمارته ليست منحة إيطالية، وإنما هي رغبة شعبية وإرادة جماهيرية، وضرورة شرعية وقد جاء في رده على كتاب البيعة التالي: (وبعد فقد تناولت بيد الشكر عريضتكم التي أظهرتم فيها رغبتكم الخالصة في تحقيق غايتكم التي أجمعتم عليها في مؤتمر غريان وجهادتم لها جهاداً صادقاً بالأنفس، والثمرات في شخصي فأخذتها داعياً لله أن يحقق آمال هذه الأمة، ويكلل مساعيها كلها بنجاح، ولما كان اتحاد الوطن وسلامته هما الغاية التي
_________
(1) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص111.(3/45)
طالما سعيت إليها وجدت من واجبي أن أتلقى طلبكم بالقبول وأن أتحمل المسؤولية العظمى التي رأت الأمة تكليفي بها، فعلي إذن أن أعمل بجد معكم، ولكن لاتنسوا أنني بغير إقدامكم لا قدرة لي على شيء، إني إعلم أن الحياة الخالدة هي للأمم لا للأفراد وكذلك الاعمال العظيمة الباقية هي التي تنصرف الى صالح الجميع، فلذلك أدعوه
سبحانه وتعالى أن يهدينا الى كل عمل ثمرته للأمة.
إن من حق كل شعب أن يسيطر على شؤونه والناس منذ نشوؤا أحراراً، وقد أظهر شعبنا في كل أدواره مقدار محبته للحرية فدفع مهوراً غالية، فلا يصح لأحد أن يطمع في استعباده والاستبداد بشؤونه، لقد اشترطتم عليّ الشورى وهي أساس ديننا وسأعمل على قاعدتها ... ) (1).
لقد تأثرت البلاد في بداية الحرب العالمية الاولى وانقسمت الى معسكرين؛ زعماء الغرب (سلمان الباروني، رمضان السويحلي، و ... ) وكذلك أحمد الشريف السنوسي وقفوا مع تركيا وألمانيا، وأما محمد ادريس هادن الانكليز وبعد هزيمة تركيا وألمانيا، تغيرت موازين القوى، وآل أمر طرابلس الغرب الى فكرت الجمهورية الطرابلسية ثم انتهى بها المطاف الى مبايعة محمد ادريس وهذا ماسوف نتعرف عليه عندما نشرع في دراسة الجمهورية الطرابلسية بإذن الله تعالى.
قام محمد ادريس بوضع نواة لجيش نظامي، واجتهد في تسوية الخلافات بين بعض القبائل، وتمكن من القضاء على عناصر السلب والنهب والقتل من أفراد العصابات الذين اطلقوا على انفسهم حكومة الصلب وكانت تتواجد بين الأبيار وتاكنس، وذلك باتباع سياسة حازمة ورادعة، وقام ببعض التنقلات، والإجراءات الادارية، ففرّغ ابن عمه صفي الدين بعد رجوعه من الجهات الغربية (سرت) لفض النزاعات القبلية في برقة، وكلف وكيله الشارف الغرياني لاستلام الأسلحة والذخائر من الايطاليين، وذلك لإنشاء مراكز أمنية في الحدود مع سلامة تأمين هذه المراكز (2).
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص261،262.
(2) انظر: الحركة الوطنية شرق ليبيا، ص112.(3/46)
وقام بتقسيم برقة الى منطقتين مقاطعيتن، فكانت المنطقة الغربية يرأس أدارتها نائب مقر اجدابية ويقال عنه (نائب المنطقة الغربية)، وكانت المنطقة الشرقية يراسها آخر بنفس اللقب ومقره (الابيار) وقد تولى منصب هذه المنطتقتين خيرة رجال السنوسية (1).
وقام محمد ادريس بتشكيل مجلسين احدهما يضم كبار العلماء والاخوان ويقال عنه المجلس الخاص وله السلطة التشريعية والتنفيذية، وأما المجلس الثاني فكان اعضاؤه من شيوخ وأعيان القبائل ويقال له مجلس الاعيان والمجلسين هما بمثابة البرلمان في بادئ الامر وقبل أن يكون مجلس النواب في بنغازي وبجدابية قسم من الجيش النظامي يقال عنه جيش المعية وهذا مهمته حراسة القصر الاميري ومنه قسم لايفارق الامير محمد ادريس في تجولاته الداخلية، وقد أصبحت منطقة العقيلة والبريقة للمعسكرات الاحتياطية وللتدريب وتضم هذه المعسكرات الكثير من خيرة الضباط، وكان أول من تولى رئاسة هذه المعسكرات الشارف باشا الغرياني، ثم اسندت الى حسين الجويفي وكان عدد المعسكرات السنوسية كما يلي:
1 - معسكرات التدريب والاحتياطي بمنطقتي العقيلة، والبريقة، ويقال عنهما (خط النار).
2 - المعية بجدابية.
3 - يضم قدماء المحاربين بجدابية.
4 - بالزويتينة.
5 - بالابار.
6 - بجردس.
7 - مراوه.
8 - معسكر خولان.
9 - عكرمة.
_________
(1) انظر: برقة العربية، ص362.(3/47)
وفي اجدابية معسكر منفصل عن المعسكرات المذكورة ولكنه مرتبط بالقيادة وهو مؤلف من الذين يحسنون القراءة والكتابة ويقال عنه: (طابور الطلبة).
وأقام مراكز حكومية تابعة للمنطقتين المذكورتين، وجعل لكل مركز قائمقام أو مأموراً، أو وكيلاً وفي كل مركز قاضي، أو نائب قاضي للنظر فيما يتعلق بالاحكام الشرعية ومجلس من المشايخ يرجع إليه حاكم المركز في كثير من الشؤون حسب التعليمات الحكومية، وفي كل مركز قسم من البوليس للنظام، والأمن، وسلامة الناس (1).
أما التعليم:
فكانت بعاصمة الحكومة الوطنية (اجدابية) مدرسة قرآنية كبرى) نهجت منهج معهد الجغبوب، وكان شيخها الأكبر الحاج طاهر المراكشي ومعه، سعد المنفي واحمد بن موسى السيوي، وشرع الأمير محمد ادريس في بناء مدرسة على الطراز الحديث أرادها أن تكون كلية ووضع الحجر الاساسي لها في حفل كبير ضم الكثير من رجال السلطة والاعيان والوجهاء، وألقيت يومذاك الخطب والقصائد، وتم بنائها وتنسيقها وجلبت الادوات المدرسية ومايلزم من الكتب وبدأ تسجيل اسماء التلاميذ الذين ينتسبون إليها وجلهم من تلاميذ المدرسة القرآنية، إلا أن الايطاليين بعد احتلالهم اجدابية عام 1923م اتخذوها مركزاً لضباط الطيران وفي عام 1927م اتخذت ناد للضباط، وفي سنة 1930م جعلت مستوصف مدني، وبقى هكذا الى عام 1942م حيث نسفها الالمان، ولم يبقى منها إلا الأثر (2).
وكان مسجد اجدابية الكبير يجلس به فطاحل العلماء الذين تخرجوا من معهد الجغبوب لتدريس الفقه، واللغة، والتفسير، والحديث، والرياضيات وعلم الفلك، وكان من هؤلاء الشيوخ؛ احمد بن ادريس، سليمان الحوتي، المختار الغدامسي، حامد بركان الشريف، عبد العزيز الهوني، عبد العزيز العيساوي، على المحجوب،
_________
(1) انظر: برقة العربية، ص363،364.
(2) انظر: برقة العربية، ص365.(3/48)
محفوظ الورفلي، وكان الأخير قاضياً بمعسكرات الجبل، وقتل شهيداً في ساحات الفداء، وكان الناس مقبلين على حلقات العلم، فتبدأ حلقات العلم بعد الساعة التاسعة صباحاً، وبعد صلاة العصر، وكان الطلبة يلتفون حول الشيوخ، وخلف هؤلاء طبقات الاعيان والوجهاء والكثير من ضباط الجيش يستمعون الى الوعظ والارشاد، والعلم، وانتشرت مدارس قرآنية اخرى بدواخل البلاد وبجميع المراكز عدا مدارس الزوايا المعروفة (1).
وتقدمت الحياة الاقتصادية، وشرع التجار في مزاولة اعمالهم، واستتب الأمن في جميع انحاء برقة، لقد استطاع محمد ادريس ان يبحر بالسفينة بمهارة ويصل بشعبه الى شط الامان بعد أن أمضه الجوع حتى اضطر بعض الناس الى أكل لحوم الخيل والبغال والحمير.
وكان يعمل مع اخوانه في حكومته بكل جد ونشاط لتطوير الجوانب السياسية، والاقتصادية والعسكرية، والثقافية.
لقد أوجد الامير محمد ادريس حكومة في برقة احبتها القبائل وهابتها، عملت على نشر العدل، وازالت الظلم، ووحدت الصف، ونبذت الخلاف، وأقرت السلام.
كان الأمير محمد ادريس يدير دفة العلاقات مع ايطاليا بمنتهى الحذر واللباقة، والكياسة، والدبلوماسية، والسياسة، وحرص على توثيق علاقته مع الوالي الايطالي الكونت جاكومودي مارتينو، وعين عمر باشا منصور الكيخيا ممثلاً له في بنغازي، وكان لعمر باشا خبرة سياسية نادرة، حيث كان نائباً في مجلس المبعوثان العثماني في استانبول (2).
ثالثاً: اتفاق الرجمة:
كان الايطاليون غير راضين على الاتفاقات السابقة لأنهم كانو يطالبون بالسيادة
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص365.
(2) انظر: السنوسية دين ودولة، ص207.(3/49)
التامة على ليبيا، وإنهم قبلوا بالأمر الواقع موقتاً، لذلك حاولوا أن يتقربوا من السكان، أملاً في أن ينتهي الأمر بهم الى القبول بالسيادة الايطالية، ولعل هذا ماحدا بإيطاليا أن تمنح برقة (دستوراً اساسياً) وقد تم ذلك في اكتوبر 1919م. وينص الدستور على أن يعين ملك إيطاليا والياً يشرف على الشؤون المدنية والعسكرية لبرقة، ويكون لبرقة مجلس نواب محلي يتألف من نواب عن القبائل والحضر، بحيث يضاف إليهم عدد من الأعضاء المعينين يجلسون فيه بحق وظائفهم أما إدارة البلاد فتتم على أساس تنظيم ادارات مدنية وعسكرية يعين رؤساؤها بأمر ملكي (1).
وكفل القانون الأساسي، حرية العبادة والدين، وحق الملكية الفردية، وحرية النشر، وإنشاء المدارس، واحترام لغة البلاد. هذا الى تفصيل امور كثيرة.
وقد أدرك مشايخ القبائل ماتنطوي عليه هذه المبادرة من خطر، فعقد نحو مائة من كبارهم اجتماعاً في اجدابية قرروا فيه: (أنهم لايقبلون بالايطاليين إلا في المدن الساحلية، على أن يقتصر عملهم هناك على التجارة) (2).
واتضح من إعلان الدستور من جهة، وقرار المشايخ من جهة اخرى، أنه من الضروري المبادرة الى مفاوضات جديدة، لعلها تؤدي الى وضع الامور في نصابها وبدأت المفاوضات فعلاً، وفي 25 تشرين الأول (أكتوبر) 1920م وقع الاتفاق المعروف باتفاق الرجمة.
وبموجب اتفاق الرجمة تقسمت برقة الى قسمين: الشمالي، وفيه السواحل وبعض الجبل الاخضر يخضع للسيادة الايطالية، والجنوبي وهو داخل ويشمل الجغبوب، واوجله وجالو، والكفرة، يكوّن ادارة مستقلة هي الامارة السنوسية، ويتمتع السيد محمد ادريس بلقب (أمير)، على أن يكون اللقب وراثياً، ومع أن عاصمة الامارة هي أجدابية، فقد اشترط في الاتفاق على أن للامير أن يتجول ويقيم في جميع أنحاء برقة، ويتدخل في إدارة المنطقة الايطالية متى شعر أن مصلحة
_________
(1) انظر: ليبيا من الاستعمار الايطالي الى الاستقلال، نقولا زيادة، ص91.
(2) المصدر السابق نفسه، ص92.(3/50)
العرب تتطلب ذلك. والحد الفاصل بين المنطقتين هو خط يمتد جنوبي خميس، والسلوق، والرجمة الى شمال الأبيار ثم يمر بغوط ساس، وشمالي القصور وجنوبي سيدي رافع (الزاوية البيضاء) الصفصاف، ومرتوبة، وتميمي الى طبرق.
وأدخل القانون الأساسي في صلب اتفاق الرجمة. وأعلنت إيطاليا أنها لاتنوي بحال من الأحوال النزاع الأرض من أصحابها سواء في ذلك الأراضي التي يملكها الأفراد، أو اراضي الزوايا.
وتعهد سمو الامير من جانبه في أن تحل الأدوار العسكرية وتسرح الوحدات العسكرية (في مدة ثمانية أشهر) على أن يحتفظ بألف جندي فقط يستخدمهم في شؤون الادارة وحفظ النظام، ورضيت إيطاليا بأن تقدم مساعدات مالية للأمارة السنوسية تمكنها من تنظيم أعمالها، على أن يشجع الامير التجارة ويضمن المواصلات والأمن.
وقد تم في الواقع انتخاب مجلس نيابي في عام 1921م (نيسان، ابريل)، واختير رئيساً له السيد صفي الدين.
لقد كان ذلك المجلس الأول من نوعه في دنيا العرب وقد عقد المجلس خمس جلسات (الى مارس 1923) (1).
لقد كان اتفاق الرجمة يتكون من مقدمة، وعشرين مادة الى جانب ملحقين، فمن أراد التوسع في هذا الموضوع فليراجع السنوسية دين ودولة (2).
مرت المدة المتفق عليها مع الأمير محمد ادريس لحل الأدوار، وهي ثمانية شهور، ولم تحل هذه الادوار التي كانت تعمرها فلولا من أفراد المقاومة السنوسية منذ سنة 1917م، وهذه الأدوار (في اجدابية والشليظيمة، ومروه وخولان والأبيار وتكنيس، وعكرمة) (3).
_________
(1) انظر: ليبيا من الاستعمار الايطالي الى الاستقلال، ص92، 93.
(2) انظر: السنوسية دين ودولة، ص208.
(3) انظر: ليبيا من الاستعمار الايطالي، نقولا زيادة، ص93.(3/51)
كان يشرف على كل منها قائمقام، وقائد جند، وقاض، وجامع ضرائب يجمع حاجاتها من العرب، ومن هنا كان كل دور وحدة عسكرية إدارية قضائية، لالنفسه فحسب ولكن للمنطقة المحيطة به، وكانت الأدوار واسطة لنشر النفوذ السنوسي ومن هنا كان اهتمام إيطاليا بحلها وتعلل الأمير بأن حل هذه الأدوار قد يثير العرب على غير فائدة، ولذلك بدأ أمر بحثها من جديد وانتهى البحث بالأمير والإيطاليين إلى اتفاق جديد بشأنها يعرف باسم (اتفاق بو مريم) الذي تم في 11 تشرين الثاني نوفمبر 1921. ومع أن الفريقين جددا الاتفاق الماضي بشأن حلها فقد رئى أن يؤجل ذلك ليتسنى للإدارة الإيطالية توطيد أركانها في منطقتها، وإلى أن يتم ذلك رئى من المناسب إنشاء (الأدوار المختلطة) على أن يكون ثمة أربعة منها في عكرمة وسلطنة والأبيار وتكنس، فيكون الجنود فيها إيطاليين وسنوسيين، بنسبة خمسة إلى أربعة، و يقوم ضباط إيطاليون بالإشراف على الإيطاليين وضباط سنوسيون بقيادة الجند السنوسي.
والذي يبدو من هذا كله بحسب رأي الإيطاليين أنفسهم، هو أن النفوذ الإيطالي كان في سبيل التقدم من الناحية السياسية.
لكن هذا كان في الظاهر فقط، فهؤلاء الإيطاليون يعترفون بأن إدارة برقة باستثناء المدن، كانت في الواقع في أيدي السنوسييين، إما مباشرة أو بالوساطة وهذه حالة ماكان ليرضى عنها الإيطاليون أبداً، وإن كانوا قد قبلوا بها مؤقتاً، وكان من الطبيعي أن يعود القتال إلى البلاد يوماً ما (1).
_________
(1) انظر: ليبيا من الاستعمار الايطالي، نقولا زيادة، ص94.(3/52)
المبحث الثالث
الجمهورية الطرابلسية
إن تاريخ الجهاد الليبي ملئ بالمحطات المهمة التي ينبغي الوقوف عندها درساً للوقائع واستجلاء للحقائق واستفادة من العبر قال تعالى: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} (سورة ق، آية: 37).
لقد كان إعلان الجمهورية الطرابلسية محاولة مبكرة لإقامة دولة مستقلة لها دستورها، ومؤسساتها، وهياكلها، وبذلك أصبحت لهذه الحادثة سبقاً تاريخياً في عالمنا الإسلامي والعربي، ولذلك لابد من تسليط الأضواء عليها والتعريف بها، ونستطيع القول إن بداية الفكرة ظهرت مع ظهور ورجوع سليمان الباروني في ساحة الجهاد الليبي مرسلاً من قبل الخلافة العثمانية التي خولته الولاية على طرابلس والقيادة، ونقصد بظهوره بعد غيابه المفاجئ من ساحة الجهاد وذهابه إلى الأستانة عاصمة دار الخلافة، حيث نزل عن طريق غواصة ألمانية بقصر (حمد) بمصراته في 16 أبريل 1916م (1). كان رجوع سليمان الباروني بعد أن مهد الأتراك لهذا الإلحاق فاستصدروا (فرماناً) مرسوماً سلطانياً من جلالة السلطان بإلحاق طرابلس بتركية.
وقد جاء هذا القرار في وقت كان الطرابلسيون محتاجين فيه إلى المساعدة، ففرحوا به، وكانت سياسة الترك والألمان تستهدف لإذكاء نار الثورة في طرابلس واستئنافها في برقة إن أمكن من طريق وجودهم في طرابلس من شغل أكبر عدد ممكن من الجيوش الإنجليزية والإيطالية (2).
وقام الشيخ سليمان الباروني بمجموعة من الإجراءات الإدارية والمالية للإشراف على قيادة وتنظيم المجاهدين لمواجهة تحركات الجيوش الإيطالية وفي إطار التنظيمات
_________
(1) انظر: مجلة الانقاذ عدد 29 بقلم سالم نوح، ص44،45.
(2) انظر: جهاد الابطال للزاوي، ص203.(3/53)
الإدارية للولاية قام بتشكيل المجلس العرفي الشرعي- وكان يتكون من مجموعة من العلماء ليتمكنوا من حل القضايا الجنائية والشرعية المعلقة بسبب الحرب، وقد ضم ذلك المجلس كلاً من:
1 - الشيخ عمر المنصوري مفتياً للولاية.
2 - الشيخ علي الهمالي قاضياً لمصراته.
3 - الشيخ محمد سعيد المسعودي قاضياً للجبل.
4 - الشيخ الزروق أبو رخيص قاضياً للمنطقة الغربية.
5 - الشيخ الشكشوكي قاضياً للنواحي الأربعة.
6 - الشيخ عبد الرحمن زبيدة قاضياً لورفلة (1).
وفي تلك المرحلة كانت الأوضاع العسكرية تميل إلى صالح المجاهدين، فقد تصاعدت حركة الجهاد ضد إيطاليا، وقام سليمان الباروني بالإتصال بقادة البلاد، وزعمائها وعمل على نبذ الخلاف، وتوحيد الصف ويحفظ لنا التاريخ بعض الرسائل التي أرسلها سليمان الباروني من مصراته إلى الأعيان والمشايخ يخبرهم فيها بقدومه ومن هؤلاء المشايخ الشيخ سوف رئيس المجاهدين في العزيزية: (انه من سليمان وانه بسم الله الرحمن الرحيم:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: عدنا ولله الحمد - والعود أحمد - إلى وطننا العزيز من دار الخلافة العظمى تحملنا عفاريت البحر السابحة فوق جبال الأمواج تارة، وتحت عمق خمسين ذراعاً في لجج اليمّ أحياناً إلى أن قال: عدنا ولله الحمد، ومعنا كل مايلزم، واستقبلنا أهل مصراته الكرام بكل سرور وابتهاج، هذا وقد تفضل أمير المؤمنين أيده الله - فأمر حكومته بإلحاق طرابلس الغرب بلادنا بالولايات العثمانية، واقتضت إرادته السنية إرسالي لأجل إجراء الترتيبات اللازمة
_________
(1) انظر: مجلة الانقاذ عدد 29 بقلم سالم نوح، ص44، 45.(3/54)
ملكية وعسكرية وتعهد أن يوالي المدد إلى النهاية كما تطلعون على ذلك في منشوره العالي الشأن.
وسنعرفكم من مركز مسلاته بعد المذاكرة مع البطل الغيور رمضان بك ومن معه من الأبطال عن المكان واليوم الذي يصير فيه الاجتماع العمومي إن شاء الله، فانتظروا جوابنا والسلام الأسنى على العلماء الأفاضل والمشايخ ورجالكم الكرام (1).
19 ذي الحجة سنة 1334هـ
من أخيكم سليمان الباروني
وقبل سفره إلى مسلاته أرسل كتاباً إلى محمد إدريس السنوسي يطلب منه الإنسحاب من سرت قطعاً للفتنة والنزاع. وهذا نصه بعد الديباجة:
هذا وقد وصلت مصراته مرسلاً من لدن حكومتنا السنية بطلب من الأهالي بعنوان والي قومندان طرابلس. ولدى وصولي المركز وصل الخبر بأن قوة قدمت من جهة برقة تحت قيادة القائمقام موسى بك واحتلت قصر سرت بعد أن بارحتها قوة الزاندرمة التي هناك من طرف رمضان بك السويحلي باسم الدولة العثمانية، فبادرت بإرسال جواب إلى موسى بك والشيخ صالح الأطيوش لأنه بلغني أنه مع القوة المذكورة، فجاء الجواب من الشيخ صالح مبيناً فيه أنه ماقدم إلا بأمر من سيادتكم ومن نوري باشا بعنوان (متصرف سرت) فتأسفت لأنه كان أول أمر أصدرته متعلقاً بتجهيز قوة لمقابلة تلك القوة المنسوبة إليكم إلا أنني أمرت قومندان القوة أن يتحاشى - ما أمكن - الدخول فيما يكدر الخواطر بين بني وطن واحد ودين واحد رجاء أن تتخلى القوة مختارة عن القصر بعد أن يبلغها المنشور السلطاني الذي أرسلناه إليكم.
بناء عليه أرجو المبادرة إلى تسوية هذه المسألة إن كان أمر حركتها صادراً منكم (2).
27 - 28 ذي الحجة سنة 1334هـ.
_________
(1) انظر: جهاد الابطال، ص205.
(2) انظر: جهاد الابطال، ص205.(3/55)
فرد عليه السيد محمد أدريس برسالة قال فيها:
( ... وذكرتم نزول عساكرنا بسرت فصحيح ذلك قبل قدومكم، اذا كانت الفتن مشتعلة بين السويحلي وترهونة، فأجبرنا الحال على ان نطفأها بأي كان، قال تعالى: {وإن طائفتان} وذكر الآية، فأرسلنا الجيش ونزل بسرت من دون اذن أحد .. وها نحن امرناهم بأن يقفوا بالقصر.
ونحن لاغرض لنا الا اتحاد الإسلام وتخليص رقاب المسلمين فقط، كما اننا نأمل من جانبكم معاونتنا على اطفاء الفتن .. ونحن وأنتم لا فرق بيننا، كلنا قصدنا شريف ومحارب تحت الراية الاسلامية العثمانية (1).
8 محرم سنة 1335هـ
محمد ادريس بن السيد المهدي
كانت تركيا حريصة على دعم ثورة ليبيا في تلك الايام ولذلك ارسلت الامير عثمان فؤاد قائداً عاماً بدل الباروني في مارس 1918م وكان في صحبته البارون فريد فون توندروف الالماني الذي جاء معه فريق فني لتسيير التلغراف اللاسلكي، وكان الأمير عثمان يحمل لقب (القائد الأعلى للقوات الافريقية) (2).
جاء الأمير عثمان فؤاد إلى مصراته في مارس سنة 1918م لتنفيذ سياسة متفق عليها بين الترك والألمان لتغذية الثورة في طرابلس ضد الطليان، حتى إذا ماوافقوا حاولوا أن تمتد الثورة إلى برقة للإغارة على الإنجليز في مصر مرة ثانية.
وكان مما تنطوي عليه هذه السياسة إحياء فكرة جمهورية شمال إفريقية التي قامت من أجلها ثورة الحامة بتونس عام 1915م، وقد وجدوا من نشاط الطرابلسيين ما شجعهم على المضي في العمل من أجلها.
كان الاستعمار الفرنساوي في شمال إفريقية مضرب المثل في الاستبداد بالمسلمين
_________
(1) انظر: جهاد الابطال، ص206.
(2) انظر: عبد النبي بالخير، داهية السياسة وفارس الجهاد، محمد المرزوقي، ص102.(3/56)
والإساءة إليهم، وكان الأحرار من التونسيين، والجزائريين والمراكشيين يفكرون دائماً في التخلص من هذا الكابوس الذي جثم على صدورهم وسلب حقوقهم، وقد انتهزوا فرصة نشوب الحرب في عام 1914م فألف جماعة منهم في الأستانة وفداً أخذ يعمل لإنشاء (جمهورية شمال افريقية) ينضوي تحت لوائها من حدود مصر إلى حدود بحر الظلمات، وكان في مقدمة هؤلاء السادة المجاهدين السيد علي باشا حنبه، والشيخ صالح الشريف، والشيخ إسماعيل الصفايجي، وهؤلاء الثلاثة من تونس، ومعهم جماعة من الجزائريين والمراكشيين، وزار الوفد ناظر الخارجية العثمانية، وأبلغه رغبة سكان شمال إفريقية في الاستقلال، وإنشاء جمهورية افريقية متحدة، وطلبوا منه إبلاغ ذلك إلى ألمانيا والنمسا رسمياً، وأن يسمح لهم بالسفر إلى برلين وفيينا لبسط مطالبهم والحصول على الوعود والمساعدات اللازمة.
وعرض اقتراح الوفد على سفير إلمانيا في تركية، فأبلغه بأن حكومته لاتتعهد لأبناء شمال أفريقية بالاستقلال إلا إذا ثاروا على الفرنساويين الذين يحتلون بلادهم، وغادر الوفد الأستانة عقب ذلك إلى برلين وزار وزارة الخارجية الألمانية، وقدم طلباته فقبلتها وسجلتها رسمياً، كما اعترفت بها النمسا وتركية أيضاً، فكان ذلك أول اعتراف دولي بالجمهورية الإفريقية المتحدة في شمال إفريقية. وقصد الوفد بعد ذلك إلى لهاي (مقر المحكمة الدولية)، فسجل هذا الاعتراف في سجلاتها، لأن عصبة الأمم لم تكن أنشئت إذ ذاك.
وتنفيذاً لرغبة الألمان في الثورة على الفرنساويين، ورجاء الوفاء بما وعدوا به الوفد من المساعدة، وإمداد الثورة بما يلزمها من المال وآلات الحرب وإنشاء جمهورية شمال افريقية قامت ثورة الحامة سنة 1915م، فاضطرت فرنسا إلى أن ترسل من جيشها ثلاثين ألفاً لإخماد الثورة. وقد اختيرت الحامة مكاناً للثورة لقربها من الحدود الطرابلسية، وليسهل الإتصال بها والاستناد إليها، وكانت إذ ذاك على أشدها، وقد قام بهذه الثورة الشيخ سعيد دبان من أعيان جنوب تونس وممثله في الجمعية الشورية، فأغار على مراكز الفرنساويين في الحامة، وقد تداركها الفرنساويون(3/57)
بجيوشهم فأخمدوها في مدة خمسة أيام، وأسفرت عن قتل الشيخ سعيد وابنه وخادمه، وجماعة من رجاله، وعن نحو مئة قتيل من الفرنساويين. وانتقم الفرنساويون ممن وقعوا في أيديهم من أنصار الشيخ سعيد بالقتل والشنق والسجن. والتجأ كثير منهم إلى الحدود الطرابلسية، وجاهدوا مع الطرابلسيين، وكانوا يسمونهم المهاجرين وكان كبيرهم الشيخ الوحيشي رحمه الله (1).
إن هذه الثورة، وهذه الدعوة لقيام جمهورية شمال إفريقية تحتاج إلى دراسة واعية، متأنية، عميقة، لعل الأجيال تستلهم دروساً من الماضي وتجعلها نبراساً لها في المستقبل.
كانت الحرب إذ ذاك قائمة في جزيرة العرب بين الإنجليز والعرب من ناحية، وبين الترك من ناحية أخرى، ولم يطل الأمر حتى رجحت كفة الإنجليز على الترك، ثم اشتد الضغط عليهم من الجيوش العربية والإنجليزية في الشام، وتلاحقت عليهم الهزائم، وتحطمت جيوشهم، وضعفت عزائمهم، واضطروا للاستسلام وعقد الترك والحلفاء معاهدة جزيرة (موندروس) في 31 أكتوبر سنة 1918م تعهدت فيها بسحب جيوشها من جميع البلاد ومما جاء في هذه المعاهدة مما يتعلق بطرابلس في المادة 17 (يجب على جميع الضباط الترك في طرابلس الغرب أن يسلموا أنفسهم إلى أقرب مركز إيطالي. ويجب على تركية أن تقطع الأرزاق والمساعدات وكل صلة مع هؤلاء إذا لم يذعنوا ويسلموا).
وجاء في المادة 19 (تسلم جميع الموانئ في طرابلس ومصراته إلى أقرب قائد لجيوش الحلفاء).
وكانت هذه المعاهدة آخر سلاح استعمله الحلفاء لقطع صلة الترك بالعرب، كما كانت آخر عهد العرب بدولة آل عثمان التي تفككت أوصالها، وتراخت بها الحياة، وزال ظلها بعد أن حكمتها 416سنة، من عام 922هـ إلى 1338هـ لم تنقطع
_________
(1) انظر: جهاد الابطال، ص218،219.(3/58)
صلتها بها. حتى وصلت في آخر عهدها إلى أحط الدركات، وطوى التاريخ صفحاته على مالها وما عليها (1) ولقد تعرضت للدولة العثمانية في كتابي السادس (الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط).
إن لله سبحانه وتعالى سنناً ثابتة في حركة الإنسان في هذا الكون وهذه السنن، كما عرّفنا عليها القرآن الكريم ذات ارتباط وثيق بقضية الإيمان، والكفر والعدل والظلم، وقضايا السلوك الإجتماعي والأخلاقي للمجتمعات البشرية، والذي يحدد لنا اتجاهات السنن الربانية هو القرآن الكريم فهو الذي عرفنا بالخير والشر وبالحق والباطل، والعدل والظلم (2)، وقد بين لنا القرآن الكريم أن الحياة الهادئة المباركة الآمنة لاتكون إلا في ظل الإيمان والتقوى والاستقامة على منهج الله تعالى قال تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ... ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} (الأعراف:96).
وإن الإعراض عن منهج الله وترك العمل بشريعته يؤدي بالأمة إلى مدارك الهلاك وضنك الحياة المادية منها والنفسية، ويرفع التمكين والنصر، وتنزل الهزيمة والخذلان بسبب المعاصي، والذنوب، والكبائر والابتعاد عن صراط الله المستقيم وحبله المتين.
لقد كان لسقوط تركيا في الحرب العالمية الأولى أثر سيئ على حركة الجهاد بطرابلس، وساهم خبر سقوطها في إخماد جذوة الحماس، وبث في قلوب الطرابلسيين الوهن، وأفزعهم كثيراً على مصيرهم المظلم.
وسرعان ما انتشر خبر هزيمة تركيا في مصراته وامتد منها إلى غيرها، فاضطربت أحوال الناس، وهاجت نفوسهم، وتشوشت أفكارهم.
كان لسقوط تركيا سبب رئيسي في ظهور فكرة الجمهورية الطرابلسية وطرحت
_________
(1) انظر: جهاد الابطال، ص319،320.
(2) انظر: صفحات من تاريخ ليبيا الاسلامي، علي محمد الصلابي، ص83.(3/59)
على بساط البحث، واشترك فيها رمضان بك، وعزام بك، والباروني باشا، والأمير عثمان، ومختار بك كعبار وانتهت نتائج المباحثات بالموافقة على فكرة تأسيس الجمهورية، وأرسلت الدعوة إلى رؤساء القبائل وزعمائها وشيوخها باسم الأمير عثمان لعقد اجتماع عام في مسلاته لإعلان الجمهورية، وفي يوم السبت الثالث عشر من صفر سنة 1337هـ الموافق 16 من نوفمبر سنة 1918م اجتمعت الوفود الطرابلسية في جامع المجابرة بمسلاته، وهو أكبر جامع فيها، وحضر الامير عثمان فؤاد، وأخبر المؤتمرين أن الاستاذ عبد الرحمن عزام بك سيخطب فيهم بالنيابة عنه، وأنه سيتحدث نيابة عنه وطلب منهم الموافقة على ماسيطلبه منهم.
وخطب الاستاذ عزام خطبة مؤثرة حث فيها الناس على وحدة الصف، ونبذ الخلاف، وعلى العمل الجاد للوصول الى استقلال البلاد، وطرد الغزاة ثم طرح عليهم فكرة انشاء حكومة وطنية تتوحد فيها الكلمة وتتولى امور البلاد، وتنظر في شؤون الامة، فلقت الفكرة استجابة من الجميع، واجماعاً بدون خلاف وسميت الجمهورية الطرابلسية (1). واجريت الانتخابات في الحال لاختيار أعضاء الجمهورية، فأسفرت الانتخابات عن الآتي:
أولاً: تشكيل مجلس إدارة الجمهورية:
وكان اعضاء هذا المجلس اربعة من أقوى الزعماء نفوذاً على سكان منطقتهم وهم: سليمان الباروني، احمد بك المريض، رمضان بك السويحلي، عبد النبي بك بالخير، وكان جميع القرارات والأوامر الصادرة من هذا المجلس، تمضي بأسماء الأعضاء، الأربعة، إظهاراً لاتحاد اصحابها وتقوية لاعتمادها بين الناس، وانتخب الى جانب الأربعة مراقباً ومديراً مالياً لمالية الجمهورية، هو زعيم غريان مختار بك كعبار، وكان ذا ثقافة عصرية عالية درسها بالمعاهد التركية، وكان أحد نواب طرابلس في البرلمان العثماني باستانبول، وجعل الاستاذ عبد الرحمن عزام مستشاراً لشؤون
_________
(1) انظر: جهاد الابطال، ص224.(3/60)
الجمهورية، وارتبط بمجلس الادارة جميع الموظفين، وشؤون الجهاد، والأمور الاجتماعية.
ثانياً: مجلس شورى الجمهورية:
وشكلت الهيئة الثانية وهي مجلس شورى الجمهورية، والغاية من إيجاده هو ليساند مجلس الادارة الحكومية، في قيامها بأعمال وواجبات تشبه الى حد ما، وظائف مجلس النواب، والشيوخ في البلدان الاخرى، ذات الأنظمة الدستورية، وقد تألف هذا المجلس من أربعة وعشرين (24) عضواً، ضم كافة أعيان الجهات من فزان جنوباً الى العجيلات شمالاً، ومن سرت شرقاً الى نالوت وغدامس غرباً.
واختاروا المجاهد الكبير، الشيخ محمد بك سُوف زعيم قبيلة المحاميد وحفيد غومة المحمودي صاحب الثورة الكبيرة ضد الترك رئيساً لمجلس الشورى، ونائبه يحيى بك الباروني، شقيق سليمان الباروني (1).
وأما باقي الأعضاء فهم:
الشيخ عبد الصمد النعاس ... عضواً ... ترهونة
الشيخ مفتاح التريكي ... عضواً ... مسلاته
الشيخ علي بن رحاب ... عضواً ... قماطة
الحاج محمد بن خليفة ... عضواً ... الساحل
عبد السلام الجدايمي ... عضواً ... زليتن
الحاج علي المنقوش ... عضواً ... مصراته
محمد المنتصر ... عضواً ... سرت
مفتاح التايب ... عضواً ... أرفلة
_________
(1) انظر: رمضان السويحلي، محمد فشيكة، ص195،196.(3/61)
السيد محمد بن بشير ... عضواً ... أولا ابي سيف
عبد الرحمن بن بركان ... عضواً ... من مرزق-فزان
محمد بن أحمد الفايدي ... عضواً ... الشاطئ
الشيخ الحبيب عزالدين ... عضواً ... غدامس
ابراهيم أبي الأحباس ... عضواً ... الجبل
الحاج محمد فكيني ... عضواً ... الرجبان
الشيخ احمد البدوي ... عضواً ... الزنتان
سالم البرشوشي ... عضواً ... الجبل-يفرن
علي بن عبد الرحيم ... عضواً ... ككّلة
الشيخ شطيبة ... عضواً ... غريان
علي بن تنتوش ... عضواً ... ورشفانة
عبد الرحمن شلابي ... عضواً ... الزاوية
علي شلابي ... عضواً ... النواحي الأربعة
عبيدة المحجوبي (1) ... عضواً ... عن صرمان والعجيلات
ثالثاً: مجلس الجمهورية الشرعي:
وعرفت الهيئة الثالثة باسم (مجلس الجمهورية الشرعي) وكانت أعماله، وأحكامه القضائية وفقاً لاحكام الفقه الاسلامي، على مذهب الامام مالك، وعرف وتقاليد البلاد، واسندت عضويته الى أربعة من كبار العلماء وهم: الشيخ الزروق بوخريص (من غريان) - الشيخ محمد الإمام (من الزنتان)،
_________
(1) انظر: جهاد الابطال، ص225،226.(3/62)
الشيخ عمر المساوي (من الزاوية)، الشيخ مختار الشكشوكي (من مدينة طرابلس) (1).
مؤشرات ودلائل:
كان لاختيار اسم الجمهورية دلالة واضحة على اطلاع الليبيين في ذلك الوقت على أنواع الانظمة السائدة في العالم ومنها النظام الجمهوري، ولإطلاق لفظ الشورى دلالته الخاصة التي توحي بالتأصيل والتمسك بالمصطلح وما يضيفه ذلك المصطلح من أبعاد اسلامية وتاريخية كما تدلنا على معرفة الاجداد لأهمية الشورى وانها من قواعد النظام الاسلامي التي تساهم في إقامة المجتمع المسلم.
قال تعالى: {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون} (سورة الشورى، آية 38). لقد قرنت الآية الكريمة الشورى بين المسلمين بإقامة الصلاة، فدل ذلك على أن حكم الشورى كحكم الصلاة واجبة شرعاً، فكذلك الشورى واجبة شرعاً (2).
إن هذه الاية قد نزلت في سورة سميت سورة الشورى، وهي مكية، ولقد جاءت مؤكدة أن تكون الشورى صفة ملازمة للجماعة الاسلامية، وسلوكاً اجتماعياً لا يغادرهم قبل قيام الدولة الاسلامية وبعد قيامها، فإن كلمة أمرهم من ألفاظ العموم تشمل جميع شؤونهم في الحياة العامة، والمشتركة (3).
كما أن اعتماد طريقة الترشيح والانتخاب كوسيلة مثلى لتولي المسؤولية والوصول الى المناصب السياسية الهامة في الدولة اشارة ودلالة على اهتمام الأجداد بهذا المبدأ رغم أن الفترة كانت فترة جهاد وحرب، واستنفار.
كما أن اختيار المسجد (جامع المجابرة) للاجتماع وإجراءات الترشيح،
_________
(1) انظر: رمضان السويحلي، فشيكة، ص199.
(2) انظر: النظام السياسي في الاسلام لأبي فارس، ص90.
(3) انظر: فقه التمكين في القرآن الكريم للصلابي، ص447.(3/63)
والانتخابات والاتفاق على إقامة الجمهورية والتعهد بإقامة العدل، يؤكد على أن نظرة المجاهدين للجامع لا تقتصر على اعتباره مكاناً للعبادة فقط، وإنما هو محلاً للعمل السياسي، والنشاط الاجتماعي، والحكم القضائي، كانت مساجد بلادنا عامرة بالنشاطات الشاملة، ونرجو من الله تعالى أن يوفق المسلمين للعمل الدؤوب حتى ترجع المساجد شعلة نور، ومحضن تربية، ومنبراً للدعوة الى الله.
ان المساجد في بلادنا اصبحت في احسن احوالها مقتصرة على اداء الصلوات فيها وجردت من مهامها الاخرى.
إن ماقام به الاجداد من التقاء واجتماع في مسجد المجابرة في مسلاته دليلاً على معرفتهم لوظائف المسجد في الأمة.
لقد كان المسجد في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكان الاجتماع العام الذي كانت جلسات الشورى تعقد فيه، وكان يتم توزيع العطايا، كما كانت التبرعات تجمع للمحتاجين .... الخ.
ومن الأدلة على ذلك:
استشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - اصحابه رضي الله عنهم في غزو احد، فقد استشارهم في المسجد بعد صلاة الجمعة، وكان رايه - صلى الله عليه وسلم - أن يبقى المسلمون متحصنين داخل المدينة، لكن الأغلبية من الشباب كانت تفضل ملاقاة المشركين خارج المدينة حتى لايفوتهم اجر الشهادة في سبيل الله الذي فاتهم يوم بدر، وقد فضل النبي - صلى الله عليه وسلم - النزول لرغبتهم اخيراً، فخرج لملاقاة المشركين خارج المدينة (1).
إن الأدلة في هذا المعنى كثيرة ومن أراد التوسع فعليه مراجعة كتاب الدكتور محمد احمد كيف نعيد للمسجد مكانته.
كما أن تشكيل المجلس الشرعي للنظر في قضايا الجمهورية الوليدة، والمخالفات والجنايات بين المواطنين، وتحديد العلماء الذين يشرفون على هذه المهمة لدلالة قاطعة
_________
(1) انظر: صحيح البخاري، كتاب الاعتصام (8/ 162).(3/64)
على احترام الاجداد للعلماء والفقهاء، وعلى حرصهم على جعل الشريعة الاسلامية هي الدستور للجمهورية مما يؤكد على اجتهاد الليبيين الأصيل وعدم نجاح الغزو الفكري في ذلك الوقت في التأثير على اختيارات المواطنين النابعة من عقيدتهم ودينهم وتراثهم الاسلامي العظيم.
إن من أخطر عوائق النهوض بالامم غياب القيادة الربانية وذلك أن قادة الأمة عصب حياتها، وبمنزلة الرأس من جسدها، فإذا صلح القادة صلحت الأمة، وإذا فسد القادة صار هذا الفساد الى الأمة، ولقد فطن أعداء الاسلام لأهمية القيادة في حياة الأمة الاسلامية، ولذلك حرصوا كل الحرص على ألا يمكنوا القيادات الربانية من امتلاك نواصي الأمور، وأزمة الحكم في الأمة الاسلامية ففي خطة لويس التاسع أوصى بـ (عدم تمكين البلاد الاسلامية والعربية من أن يقوم بها حاكم صالح) كما أوصى بـ (العمل على إفساد أنظمة الحكم في البلاد الاسلامية بالرشوة، والفساد، والنساء، حتى تنفصل القاعدة عن القمة) (1).
إن العمل السياسي عندما يكون خالياً من العلماء الربانيين لاتتحقق ثماره المرجوة، إن العلماء الربانيين هم الذين جعل الله عز وجل عماد الناس عليهم في الفقه، والعلم وأمور الدين والدنيا والعلماء وهم: أئمة الدين، ونالوا هذه المنزلة العظيمة بالاجتهاد، والصبر، واليقين {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} (سورة السجدة، آية 24).
إن العمل السياسي في بلادنا خالياً من العلماء الربانيين وكأن العالم الرباني والعمل السياسي طرفي نقيض وهذا فهم خاطئ، بل تاريخ الأمة في صراعها بين الحق والباطل، والهدى والظلال، والنور، والظلام، لخير دليل على دور العلماء الربانيين في حركة النهوض.
ولابد من التفريق بين العلماء، والمفكرين، والمثقفين، إن مفكري الأمة لهم
_________
(1) قادة الغرب يقولون، جلال العالم، ص63.(3/65)
مكانتهم، وقد نفع الله بهم نفعاً كبيراً، ولكنهم مع ذلك لن يغنوا عن العلماء شيئاً إلا في حدود علمهم، وقدراتهم كما أن المثقفين وهم، فئة من الأخيار الصالحين، ذوي تخصصات علمية برزوا فيها، سواء في العلوم التجريبية مثل، الطب والهندسة والكيمياء او في العلوم المسماة بـ (العلوم الانسانية) مثل علم النفس وعلم التربية وعلم الاجتماع، فهؤلاء وإن حمد لهم تخصصهم في مثل هذه العلوم فصاروا مرجعاً فيها، فإنهم غير مختصين في العلوم الشرعية، وهم في الاصطلاح العلمي الشرعي جمهور المسلمين، وعوامهم الذين يجب عليهم أن يكونوا وراء العلماء، ويجب عليهم أن يرجعوا للعلماء في أمور الشريعة، ويكونوا عوناً لهم في شرح واقع تخصصاتهم، فالطبيب يشرح الأمور الطبية، والاقتصادي يشرح الجوانب الاقتصادية العصرية، وهكذا ليفهم العلماء والفقهاء الأمور على حقيقتها، ويستخرجوا الحكم الشرعي وفق دراسة واعية ومتفتحة، إن كلام (المفكرين) والمثقفين يجب أن يكون محكوماً بالشرع، وأما إذا بنى هؤلاء المثقفون والمفكرون كلامهم في أمور الشريعة، وأحوال الأمة العامة على اساس من العقول والأهواء، وإطلاق القول بالمصالح دون نظر في كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأقول العلماء الراسخين، فإنهم بذلك يكونون أشبه بأهل الكلام (1).
ولابد من التفريق بين القارئ للعلوم الشرعية والفقيه فيها:
إن القارئ لديه نتف وجزيئات أمسك بها من خلال قراءته لبعض الكتب، واطلاعه على أقوال أهل العلم فهو لم يعان العلم، ولم يشافه العلماء، ولم يزاحمهم بالركب في الحلق.
أما العالم الفقيه فليس كأولئك بل هو ذو فهم شمولي عام للاسلام، واطلاع على مجمل الأحكام الشرعية، فهو لم يقرأ نتفاً، بل درس العلوم الشرعية دراسة شاملة عامة. فمر على مسائل العلم واستطاع تخريجها على أصولها، وأصبحت لديه ملكة فهم النصوص، وعرف مقاصد الشريعة، وأهدافها العامة.
_________
(1) انظر: فقه التمكين في القرآن الكريم، ص232.(3/66)
إن علمه لم يأته من قراءة ليلة بل من سهر الليالي ومعاناة الأيام، فشأن العلماء أنهم لايقفون عند حد في التعلم، بل هم دائمو الطلب، دائبو التعلم (1).
ولابد من التفريق بين العلماء والخطباء والوعاظ إن العالم قد يكون بطبعه قليل الكلام غير قادر على الخطابة، وقد يكون من العوام من هو بليغ اللسان يقلب الألفاظ كيف يشاء.
هذا التفريق مهم جداً في مابين العلماء الراسخين وممن يشتبه بهم، ولذلك لابد أن يقود العمل الاسلامي القادة الربانيون وعلى رأسهم العلماء الراسخون.
إن الشريعة الاسلامية أعطت اعتباراً للعلماء، وبنته على أمرين مهمين:
1 - طاعتهم طاعة لله -عز وجل- ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، فالتزام أمرهم واجب.
2 - أن طاعتهم ليست مقصودة لذاتها، بل هي تابعة لطاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.
والادلة على هذه المنزلة، وهذا الاعتبار للعلماء في الشريعة غير منحصرة، فمنها:
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعو الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} (سورة النساء، آية: 59).
وقد اختلف المفسرون في أولي الأمر منهم على أقوال:
فقيل هم السلاطين وذوو القدرة.
وقيل: هم أهل العلم.
يقول الامام ابن القيم الجوزية -رحمه الله-: (والتحقيق أن الأمراء إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم، فطاعتهم تبع لطاعة العلماء، فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم، فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء، فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم، فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء، ولما كان قيام الاسلام بطائفتي العلماء والأمراء، وكان الناس لهم تبعاً، كان صلاح العالم بصلاح هاتين الطائفتين، وفساده بفسادهما) (2).
_________
(1) انظر: قواعد في التعامل مع العلماء، ص33.
(2) انظر: أعلام الموقعين (1/ 10).(3/67)
إن وضع الثقة في العلماء الربانيين لخطوه مباركة في ترشيد الأمة التي تسعى نحو تحكيم شرع الله والتمكين لدينه.
إن القيادة الربانية، والتي على رأسها العلماء الذين وصلوا الى درجة النظر في فقه الاسلام من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، هم الذين يجب أن يقودوا الأمة نحو مرضات الله.
إن أعداءنا من اليهود، والنصارى، والملاحدة والعلمانيين، أيقنوا أن من أسباب قوة المسلمين التفافهم حول علمائهم وقادتهم، ولذلك شنوا هجوماً عنيفاً من أجل زعزعة ثقة الامة في علمائها وقادتها واستعملوا اساليب متنوعة للتشويه والطعن فيهم؛ لأن العلماء هم الوصلة الحقيقية بين الأمة، وقرآنها، وسنة نبيها - صلى الله عليه وسلم -.
وقد لاحظ الاستعمار الأوروبي الحديث ذلك، وما الثورات التي فجرت الاستعمار إلا بقيادة العلماء، والقادة الربانيين، من المغرب الى المشرق، وفي كل ديار المسلمين ولذلك قام اليهود، والنصارى، والملاحدة بتشويه صورة القادة والعلماء بواسطة المسرح، والتلفاز، والمجلة، الجريدة، والنوادي، والغناء، وكل وسائل الاعلام، وإذا أردت أن تعرف هجومهم الاعلامي ابتداء من العقود الماضية، فلتراجع كتاب المشايخ والاستعمار للاستاذ حسني عثمان، فإنه أجاد.
إن القيادة الحكيمة وهي تسعى لتحكيم شرع الله تعالى، وإقامة دولة الاسلام توقن إقاناً جازماً أن المجتمع لن يكون اسلامياً بجرة قلم، أو بقرار يصدر من ملك، أو رئيس، أو مجلس قيادة، أو برلمان إنما يتحقق ذلك بطريق التدرج، والاعداد، والتهيئة الفكرية، والنفسية، والاخلاقية، والاجتماعية، وإقامة البدائل الاسلامية للأوضاع الجاهلية التي تأسست عليها مؤسسات عدة لأزمنة مديدة.
فهي تعين الهدف، وتوضع الخطة، وتحدد المراحل بوعي وصدق، بحيث تنتقل من مرحلة الى مرحلة بتخطيط، وتنظيم، وإرادة قوية، معتمدة على الله تعالى حتى تصل المسيرة الى مرحلة النهوض الشامل لدولة الاسلام المنشودة.(3/68)
إن القيادة الربانية الحكيمة والتي تسعى لتحكيم شرع الله تعطي للعلوم بأنواعها أهمية، وخصوصاً في علوم الشرع، وتركز عل علم المقاصد، وفقه الموازنات، وفقه الخلاف وفقه الأولويات، وفقه السنن الربانية، لأهميتها في زماننا هذا، بل هي من أفضل العدة بعد تقوى الله تعالى للعاملين من أجل تحكمي شرع الله (1).
إن القيادة الربانية الحكيمة هي التي تفجر طاقات الأمة، وهي التي تحتضن الاسلام وتنتهجه قلباً وقالباً، عقيدة وشريعة، وديناً ودولة، وهي التي تصبح وتمسي وهماها عقيدتها وأمتها، وهي التي تسعى بكل ماتملك لحل المشاكل التي تواجهها، وتعمل بكل جهد، وإخلاص للقضاء على عوائق النهوض الداخلية والخارجية.
إن العمل لبناء الأمة، وأحياء الشعوب يحتاج لمعرفة بالسياسة الشرعية، وأمور الجهاد، والهدنة، والمصالح والمفاسد، وغير ذلك من الاحكام التي تتناول مظاهر الحياة، وهذه العلوم من لها إن لم يكن العلماء الربانيون لها.
رابعاً: قسم الجمهورية والبلاغات:
لم يستطع بعض أعضاء مجلس الشورى الاجتماع، بل كان بعضهم غائباً، وإنما انتخب توزيعاً للمسؤولية وتحقيقاً للمساواة والوحدة بين جميع القبائل. وقبل الانصراف من المسجد أقسم الحاضرون جميعاً يمين الولاء والاخلاص للجمهورية، وتوكيداً لليمين أحضروا مصحفاً وكل من أراد اليمين وضع يده عليه وهذا نص اليمين:
(أقسم بالله العظيم قابضاً بيدي على هذا القرآن الكريم أن أجعل نفسي ومالي فداء لوطني، وحكومتي الجمهورية الطرابلسية. وأن أكون لعدوها عدواً ولصديقها صديقاً، ولقانونها الشرعي مطيعاً) (2).
ثم وزع الأمير عثمان بعض النياشين والرتب على أعضاء الجمهورية وكثير من
_________
(1) انظر: فقه التمكين في القرآن الكريم، ص240.
(2) انظر: جهاد الابطال، ص226.(3/69)
الأعيان والوجهاء.
ومن هذا التاريخ أصبحت الحكومة الجمهورية الطرابلسية قائمة وأصبح لها عهد في عنق كل طرابلسي يحميها مما يحمي منه نفسه وماله، وأصبح واجب عليه الالتزام بما أقسم عليه من الولاء والإخلاص (1).
أ- بلاغات الجمهورية:
وكان أول ماقام به مجلس الادارة من الأعمال أنه أذاع بلاغه الأول، على أبناء الشعب الطرابلسي، عن قيام الجمهورية الطرابلسية، وذيل بتوقيعات الأعضاء الأربعة بمجلس الادارة وكان هذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
(في الساعة الرابعة والنصف من يوم السبت المبارك، الثالث عشر من شهر رمضان سنة 1337هـ قررت الأمة، تتويج استقلالها بإعلان حكومة الجمهورية بإتفاق آراء علمائها الأجلاء، وأشرافها، وأعيانها، ورؤساء المجاهدين المحترمين، الذين اجتمعوا من كل أنحاء البلاد، وقد تم انتخاب أعضاء مجلس الجمهورية، وأن الأمة الطرابلسية تعتبر نفسها، حائزة لاستقلالها، الذي اكتسبته بدماء أبنائها وقوتها، منذ سبع سنين، وسعيدة بالوصول الى هذه الغاية التي هي أشرف ماتصل إليه الأمم، وتهنئ أبناءها بتمام نجاحهم واتحادهم، على الثبات في الدفاع عن وطنهم وحكومة الجمهورية الجديدة والتوفيق من الله تعالى وحده).
13 صفر سنة 1337.
سليمان الباروني،
احمد المريض،
رمضان الشتيوي،
عبد النبي بالخير (2).
وفي أثناء إعلانات البلاغات السياسية عن الجمهورية، كان قد اختاروا المتصرفين والقائمقامين، ونقل بعضهم، وعين موظفي المناطق، وعين الموظفين للعمل بمجالس الجمهورية، كما عين لقيادة الجيش الجمهوري اللواء الفخري عبد القادر
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص227.
(2) انظر: رمضان السويحلي، محمد مسعود، ص199،200.(3/70)
الغناي وهو من بنغازي، ولكنه لم يكن من المقدرة القتالية المطلوبة، وبلغ من ضعفه أنه سلم الزاوية الغربية للطليان في أول يناير 1919م (1).
ب- البلاغ الثاني:
كان البلاغ الثاني الى الضباط الوطنيين:
(الى حضرة ... الوطني
بما أن جنابك وطني صادق، ومجاهد في سبيل الدين والوطن، منذ ابتداء الحرب الطرابلسية فإننا ندعوك الى تقديم طاعتك لحكومتك الجمهورية الجديدة والقيام بما نقلدك إياه من الخدمة والدفاع عن شرف الوطن حتى تنال منها شرف الاحترام، والترفيع، وتبرهن للعالم أنك ابن الوطن العزير وأحد رجاله الذين سيحفظ لهم التاريخ ذكرهم المجيد) (2).
ج-البلاغ الثالث الى رئيس الحكومة الإيطالية:
(تفتخر الأمة الطرابلسية بتتويج استقلالها بإعلان الحكم الجمهوري وانتخاب نواب عنها من كافة انحاء القطر لمجلسي الحكومة والشورى ولا هدف لها إلا ضمان وحدتها وحريتها داخل حدودها السياسية المعروفة، ولا تقصد إلا أن يعيش عيشة هنيئة مسالمة لجميع الأمم التي لاتحاول غصب حقوقها لذلك فالحكومة الجمهورية الطرابلسية تدعو الحكومة الايطالية الى الاعتراف بها، وسد كل باب يضطر الحكومة الطرابلسية الى مداومة الحرب الى أن تحقق أملها المشروع) (3).
13 صفر سنة 1337هـ
ملحق:
إذا قبلت المواد الآتية ووضعت موضع الاجراء فالحكومة الجمهورية الطرابلسية مستعدة للبحث مع الحكومة الايطالية في عقد صلح طبقاً للقواعد الآتية:
_________
(1) انظر: جهاد الابطال، ص228.
(2) انظر: جهاد الابطال، ص228.
(3) المصدر السابق نفسه، ص228.(3/71)
في حالة دوام المذاكرة يجب على كل من الطرفين المحافظة على مواقعه بصورة هدنة.
لا تقرب السفن الحربية السواحل غير المحتلة بالعساكر الايطالية.
لا تتجاوز الطائرات حدود الاستحكامات.
لا تقع مخابرة خصوصية مع أي أحد كان لا من جهة المناطق الحربية ولا من غيرها.
يقطع كل مافيه وسيلة للاختلاط بالأهالي من طرف الحكومة الايطالية كأخذ وإعطاء البضاعة وتوزيع الاعلانات على أي صورة وبأي طريقة كانت.
المخابرات الرسمية والدخول والخروج لايكون إلا من الموقع الذي يصير تعينه في منطقة الخمس من طرف الحكومة الطرابلسية.
الحكومة الجمهورية الطرابلسية مستقلة في شؤونها وحركاتها تمام الاستقلال، وغير مقيدة بأي شرط أو قيد تضعه حكومة أخرى أو تتعهد به لحكومة إيطاليا في طرابلس.
ضباط الترك والألمان الموجودون في داخل طرابلس هم بمنزلة ضيوف عند الحكومة الطرابلسية، ولاتسمح بسفرهم إلا بصورة تكفل منفعة وشرف الأمة الطرابلسية وحكومتها الجمهورية.
بما أن الأمة الطرابلسية لها الحق في إظهار حقوقها للعالم الانساني وبالخصوص الحكومات الموجودة قناصلها في مدينة طرابلس مثل انكلترا، وفرنسا، وأمريكا فعلى الحكومة الايطالية قبول وتوصيل مايرسل من الحكومة الطرابلسية إليها بدون اطلاع عليه، وأخذ سندات من القناصل المذكورين، وإرسالها الى الحكومة الطرابلسية حتى لاتضطر الى اتخاذ طريقة اخرى لمواصلة مخابراتها المذكورة.
المخابرة مع الحكومة الإيطالية لاتجوز إلا تحريراً ولايعتبر أي كلام شفهي (1).
13 صفر سنة 1337
الامضاءات
_________
(1) انظر: جهاد الابطال، ص228،229.(3/72)
د- البلاغ الرابع: الى الرئيس ولسن:
"نتشرف بأن نعرض على فخامتكم أن الامة الطرابلسية قد توجت استقلالها باعلامها حكومة وجمهورية. وفي 16 نوفمبر 1918م تم انتخاب مجلس شوراها، ومجلس جمهوريتها.
إن قواعدكم المشهورة بالنسبة لمقدرات جميع الأمم سواء كانت في أوربا أو خارجها قد شجعتنا كثيراً على أن نضع آمالنا في مقاصدكم العظيمة ونواياكم العالمية الإنسانية.
إنه ليس هناك حد للحقوق والواجبات البشرية، لذلك إننا متأكدون من أنه لايمكنكم أن تنظروا بعدم الاكتراث إلى استعباد أمة صغيرة بقوة السلاح مثل أمة طرابلس وهي تقاتل لثامن سنة ضد الغاصب المعتدي بكل متانة وهي متأكدة من أن بسالة أبنائها قادرة على أن ترد قوات المعتدين عليها في كل زمان.
وإننا نؤمل أن عواطفكم السامية نحو الحكومات والأمم الصغيرة الحية ستحثكم على أن تمنعوا تكرار سفك الدماء بيننا وبين الطليان بتكليفهم بالاعتراف بحكومتنا.
وفي الختام نرجو قبول احترامنا ووضع المسألة الطرابلسية على بساط مذكرات الصلح العمومي.
ر- البلاغ الخامس: إلى رئيس الوزراء الإنجليزي:
(نتشرف بأن نحيط فخامتكم علماً بأن الأمة الطرابلسية قد توجت استقلالها بإعلانها الحكومة الجمهورية. وفي 16 نوفمبر سنة 1918م أعلنت نتيجة انتخابات مجلس شوراها ومجلس جمهوريتها.
ليس بين الامم من هو جدير بحريته واستقلاله أكثر من الأمة الطرابلسية التي تقاتل الى الآن ثماني سنوات ضد غاصب أرضها وحريتها، وإننا لاشك في أن إحساساتكم العالية نحو حرية الأمم والحكومات الصغيرة، كما أن غيرتكم على حماية العرب تجبركم على العطف على جمهوريتنا الجديدة الحرة. وإننا نؤكد لكم أيضاً أن(3/73)
قومنا وضعوا جل آمالهم في انكلترا حامية حقوق الأمم الصغيرة، فرجاؤنا أن تتفضلوا بوضع المسألة الطرابلسية على بساط مذكرات الصلح العمومية حتى تنال جمهوريتنا مايضمن لها مستقبلها. والمرجو قبول عظيم احترامنا) (1).
س- البلاغ السادس: الى رئيس الجمهورية الفرنسية:
(نتشرف بأن نحيط فخامتكم علماً بأن الامة الطرابلسية قد توجت استقلالها بإعلان الحكم الجمهوري. وفي 16 نوفمبر سنة 1918م أعلنت نتيجة انتخاب مجلسي الجمهورية والشوري.
إن ما قامت به فرنسا الحرة من نشر إعلان الحرية في العالم وتكبدها كل الصعوبات في سبيل حمايتها لايجهله أحد، وإنه لمكتوب على صفحات القلوب بمداد الحياة تتغذى به أرواح الأحرار في كل الأقطار لاينسخه توالي الدهور ولاتمحوه زلازل الحروب.
إن ماقام في هذا العصر بطلب حريته سواء كان بسيفه أو قلمه فإنما هو مستمد من منبع الحرية الزلال، ومقتبس من سناها الساطع، ومغترف من بحرها الطاف؛، ومستخرج من معدنها الصافي (قاعدة فرنسا الحرة) فلا عجب إذا قامت الآن فرنسا لحماية الأمم الصغيرة، كأمة طرابلس الغرب التي مابرحت تريق دماء ابنائها منذ سبع سنين وزيادة في سبيل نيل حريتها واستقلالها ورد جيوش إيطاليا الغاصبة لأرضها المعتدية على شرفها.
إن الأمة الطرابلسية التي لا تجهل تاريخ فخرها القديم لم ترض أن تساق الآن بعصا الذل والهوان، وأن تستعبد في زمن مادت فيه الأرض شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً بالحروب الهائلة لأجل تحرير بني الانسان.
إن كل من يتتبع التاريخ بإنصاف يجد أن الأمة الطرابلسية لم تملكها دولة من الدول، كما تملك البلاد ملكاً مطلقاً، بل لم تزل منذ خلقت أو عرفت بين الأمم في
_________
(1) انظر: جهاد الابطال، ص230.(3/74)
مناضلة كل من يقصد استعبادها سواء كان من الدول الاسلامية أو المسيحية وكانت ولاتزال تفضل الجلاء وسكنى القفار على تحمل الضيم والاحتقار. وهاهي أطلال بلادهم الخالية بادية، وأنسابها المنتشرة شرقاً وغرباً شاهدة؛ فسعى الأمة الايطالية وراء استعبادها الآن هو ضرب من طلب المستحيل، ولو راجعت تاريخ اجدادها وأجدادها القدماء لرأت فيه مايصدها الآن عن سفك الدماء.
لذلك تؤمل حكومة طرابلس الجديدة من جارتها الجمهورية الفرنسية أن تنظر الى المسألة الطرابلسية بنظرة الاهتمام والاعتبار، وأن تعن بوضعها على بساط مذكرات الصلح العمومي، وأن تقنع حليفة ألمانيا القديمة وحليفتها هي الآن حكومة ايطاليا بالاعتراف بحقنا المشروع حتى يقف تيار إراقة الدماء بين الأمتين، وتستريح البلاد والعباد، وتنل البلاد الطرابلسية نصيبها من هذه الراحة أيضاً فإن منفعة البلدين ومضرتهما واحدة) (1).
وقد أرسلت هذه البلاغات الى الحكومات الموجهة إليها ممضاة كلها بإمضاءات أعضاء الجمهورية. وعين موظفوا الادارة في جميع أنحاء القطر، وانصرف الاعضاء والموظفون كل الى عمله (2).
وهذه البلاغات تدل على إهتمام زعامة الجمهورية بالدول الكبرى، وحرصها على استمالتها والوقوف معها ومحاولة انتزاع الاعتراف بها ولكن يبدو أن تلك البلاغات لم تجد تجاوباً من أمريكا وفرنسا، وبريطانيا وذهبت في أدراج الرياح واستنكرت إيطاليا إعلان الجمهورية الطرابلسية، وعندما تلقى الإيطاليون بلاغ الجمهورية، أعلنوا فوراً أن دولتهم ترفض، بكل تصميم الاعتراف بقيام واستقلال الجمهورية الطرابلسية، ولاتسلم لها بشيء، مما جاء في البلاغ الموجه إليها والمواد الملحقة به، بل ليس لها من جواب على ذلك سوى استئناف الحرب الضارية معها إلى أن تخضع البلاد لحكمها بالقوة (3).
_________
(1) انظر: جهاد الابطال، ص232.
(2) المصدر السابق نفسه، ص232.
(3) انظر: رمضان السويحلي، ص202.(3/75)
ومارست إيطاليا القوة ضد الطرابلسيين، ولكن بدون جدوى، واضطرت لدخول مفاوضات تمّ تتويجها بانعقاد صلح سواني بنيادم وعقد ذلك الصلح في ليلة 17 إبريل 1919م في قرية سواني بنيادم، غرب مدينة طرابلس نحو 12كم واعتبر الطرابلسيون ذلك الصلح انتصاراً سياسياً، وحربياً على خصمهم المتعجرف العنيد وأصدرت إيطاليا القانون الأساسي، الذي جعل الفرد الطرابلسي، في مصاف الفرد الإيطالي في الحقوق السياسية، والإجتماعية (1).
وعلق غرسياني على فوز العرب بهذا القانون فقال: (تلاشى به كل أمل لسيادتنا الفعلية على طرابلس، وأصبح السبيل ممهداً للطمات شديدة نتلقاها .. وقد كان من جانبنا تسليماً حقيقياً، وهذا الدستور يمنح عرب طرابلس تفوقاً وامتيازات مدنية وسياسية واسعة، دون أن يتحملوا كما هو الحال في البلاد المتمدنة، أعباء واجبات ثقيلة، في مقابل ممارسة الحرية بمفهومها الحديث) (2).
خامساً: القواعد الأساسية للقانون
والقانون الأساسي أو الدستور، اشتمل على أربعين فصلاً ولكن قواعده الأساسية ارتكزت في 16 مادة منه ونصها حرفياً كما يأتي:
1 - تسمى الحكومة (حكومة طرابلس الغرب).
2 - يدير أمور قطر طرابلس مجلس حكومة، مؤلف من ثمانية أعضاء وطنيين ينتخبهم مجلس النواب الطرابلسي، من بين أعضائه، ومن عضوين إيطاليين ينتخبهم النائب العام.
3 - يرأس هذا المجلس حاكم عام بيده السلطات الملكية والعسكرية، معين من جانب ملك إيطاليا (لم يحدد القانون جنسية الحاكم فقد يكون عربياً وقد يكون إيطاليا).
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص207.
(2) انظر: نحو فزان، ص26.(3/76)
4 - يسن قوانين البلاد مجلس ينتخبه الأهالي، يتمتع بما لمجالس الدول الأخرى المتمدنة من سلطات وحقوق، وتكون مدته أربع سنوات، كلما جدد انتخابه، جدد مجلس الحكومة من بين أعضائه.
5 - لاتنفق ضرائب البلاد إلا فيها، حسبما يقرره مجلس نوابها في وصفها وتوزيعها وجبايتها.
6 - لايطبق من القوانين الإيطالية في طرابلس إلا مايقبله مجلس النواب الطرابلسي. ويوافق عليه لمصلحة البلاد.
7 - ينظم من أبناء البلاد جند وطني بالتطوع، حسبما تقتضيه الحاجة وقائده هو الحاكم العام.
8 - للوطنيين حق التوظف في الوظائف ملكية وعسكرية وقضائية وصحية وغيرها بالامتحان.
9 - التعليم الأهلي حر تحت إشراف الحكومة.
10 - اللغة العربية رسمية كاللغة الإيطالية.
11 - وينتخب الأهالي رؤساء البلديات في العاصمة والملحقات.
12 - يؤلف مجلس شرعي تستأنف إليه الأحكام الشرعية، وهو يعين القضاة.
13 - للطرابلسيين الحائزين على شهادات عالية، الحق في مزاولة المهن الحرة كالطب، والمحاماة وغيرها في إيطاليا، كما هو في طرابلس.
14 - الطرابلسي والإيطالي متساويان في الحقوق.
15 - الأوقاف تدار بمعرفة هيئة إسلامية.
16 - تراعى حرية الدين والتقاليد الوطنية الحسنة كما في السابق.
وختمت مواد الدستور أو القانون الأساسي البالغ نيفاً وأربعين فصلاً بتوقيعات الآتية أسماؤهم وهم:(3/77)
عن الطرابلسيين: سليمان الباروني - أحمد المريض - رمضان الشتيوي - أحمد الصويعي نيابة عن عبد النبي بالخير.
وعن الطليان: الجنرال ماجور تارديتي، رئيس الدائرة السياسية، الجنرال (باسكانو) رئيس هيئة أركان حرب الجيش الإيطالي (1).
كانت إيطاليا تريد تخدير الرأي العام في إيطاليا الذي سئم من الحروب وويلاتها وأصبح الشعب بعد خروجه من الحرب العالمية الأولى محطم القوى، مهيض الجناح، لما تكبده من خسائر فادحة في إمكاناته الحربية، والعسكرية، والاقتصادية، مما جعل الرأي العام ينادي بنبذ الحروب، والاستعمار، وتزعم الحزب الاشتراكي الإيطالي هذه الدعوة، وعارض الحكومة في البرلمان.
وكانت الحكومة الإيطالية موطدة العزم سراً على نقض العمل بالقانون الأساسي، ببث الدسائس والفتن بين الزعماء في الظروف المناسبة لذلك، ثم إخضاع البلاد لحكمها والقضاء على الجمهورية (2).
كان مما جاء في القانون الأساسي الاعتراف بحكومة وطنية مقرها مدينة طرابلس وقد شكلت من ثمانية أعضاء وصدر أمر من الوالي الإيطالي بتعيينهم، وهذا نصه:
(إن والي طرابلس بعد إطلاعه على فصل 23،24 من قانون أساسي القطر الطرابلسي الصادر بتاريخ أول جونيو سنة 1919 عدد 931. وبما أنه في التحرير المؤرخ 3 سبتمبر الجاري المتقدم من أحمد بك المريض إلى الحكومة قد صار عرض الثمانية الوطنيين المنتخبين أعضاء في مجلس الحكومة. وأن هؤلاء الثمانية قد صار تقديمهم علناً بمراسم احتفالية إلى الوالي من طرف رمضان بك شتيوي الذي كان برفقته جمع كثير من رؤساء وأعيان القطر الطرابلسي. وحيث إنه من التحرير والمبحوث ومن الاحتفال الواقع تحقق أن العرض المذكور حصل باتفاق من رؤساء جهات طرابلس المختلفة يأمر بما يأتي:
_________
(1) انظر: رمضان السويحلي، ص209.
(2) انظر: رمضان السويحلي، ص210.(3/78)
إن الذوات الآتي ذكرهم قد صار تعيينهم أعضاء لمجلس حكومة القطر الطرابلسي.
عمر بك أبو دبوس.
أحمد بك شتيوي.
علي بك الشنطة.
أحمد بك الفسّاطوى.
محمد الصويعي بك.
الحاج محمد فكيني بك.
محمد بك ابن الفقيه حسن.
وسيصير تعيين مخصصاتهم بأمر آخر (1).
حرر بطرابلس في 4 ديسمبر سنة 1919م
صورة مطابقة للأصل ... الوالي
صار الاطلاع عليه ... كاتب الوالي ... الولي
الوالي ... طابع الحكومة ... الإمضاء: ميتر نيجر
طابع الحكومة
واجتمع مجلس الحكومة في مدينة طرابلس وصارت مراكز القطر كلها مربوطة به، وحاولت هيئة الحكومة أن تباشر أعمالها في دائرة سلطاتها. ولكن الطليان سرعان ماشرعوا في الدسائس، وظهرت بوادر تشير إلى عزمهم على عدم الوفاء للطرابلسيين بالحقوق التي اعترفت لهم بها في القانون الأساسي. ودليل ذلك:
1 - انه على الرغم من مطالبة الزعماء لهم بأن يخصصوا مكاناً للمجلس النيابي، وآخر لمحل الحكومة الوطنية، فإنهم صاروا يسوفون لاستجابته بأقوال وأعذار كاذبة.
2 - بينما اصر الأعضاء العرب في مقابلة الوالي، بأن تكون أصوات نوابهم في المجلس النيابي، قرارية حسب المادة (15) من القانون الأساسي، إذ الوالي يرفض التسليم لهم بهذا الرأي، ويعتبر اصواتهم فيه استشارية، ومعنى هذا أنه غير ملزم
_________
(1) انظر: جهاد الابطال، ص264.(3/79)
بتنفيذها، ولما استقال أربعة أعضاء من الحكومة الوطنية وهم: (مختار كعبار - احمد الشتيوي - عمر ابو دبوس - محمد الفقيه حسن)، احتجاجاً على اعتبار أصوات النواب استشارية لا قرارية، وجد الطليان استقالتهم فرصة ذهبية، لإلغاء عضوية الأربعة الآخرين رغم رضاء هؤلاء بأن تكون أصواتهم استشارية.
3 - لما رأوا الجيش الوطني، قد تمركز مع رمضان في سواني المشاشطة، لكي يتخلصوا من مقاومته لهم في المستقبل، بذلوا كل مساعيهم وجهودهم بواسطة عملائهم، لاغرائه بالانضمام الى الجيش الايطالي، ونزوله معه بثكناته في المدينة، بزعم أن القانون الأساسي وحد بين الطرفين العربي والإيطالي في كل الأمور (1).
سادساً: حزب الاصلاح وجريدة اللواء:
في 30 سبتمبر سنة 1919م أعلن الطرابلسيون رسمياً عن تأسيس حزب الاصلاح لأجل الدفاع عن مكاسب البلاد، وإيقاظ الوعي الجماهيري السياسي، وأسندوا رياسته الى أحمد بك المريض، ورياسة شرفه الى رمضان بك، وكان من أعضاء هذا الحزب النشيطين عبد الرحمن عزام، وخالد القرقني، وعثمان الغرياني مدير جريدة (اللواء الطرابلسي) وكانت أهم مبادئ الحزب:
1 - المحافظة على حقوق الطرابلسيين الواردة في القانون الأساسي كاملة.
2 - التعجيل بتنفيذ القانون الأساسي، خصوصاً مايتعلق بالإصلاح، وماينص على تدريب الطرابلسيين على حكم أنفسهم حتى يصلوا إلى حريتهم في أقرب وقت.
3 - تحقيق التضامن بين العرب والإيطاليين على أساس المساواة التامة واتحاد المصالح.
4 - نشر التعليم بكل الوسائل، مع المحافظة على العادات الإسلامية، لتدعيم الأخلاق العربية.
_________
(1) انظر: رمضان السويحلي، ص219.(3/80)
5 - بذل العناية لإصلاح الحالة الإقتصادية وتوزيع الثروة الوطنية على أساس عادل.
وأنشأوا جريدة اللواء الطرابلسي لتكون لسان حاله. وكان الحزب يستمد قوته من الشعب، واستندت الحكومة الوطنية على الحزب في تأييدها وإقناع الطليان بمطالبها، وأبدى الطليان مراوغة في انتخاب مجلس النواب الذي ينص عليه القانون الأساسي، فكان حزب الإصلاح الوطني يطالب بتنفيذه، وكانت جريدة اللواء الطرابلسي تشير إلى هذا المعنى في جرأة وشجاعة فائقة، فكانت الحكومة الوطنية، والحزب الوطني والجيش الوطني يؤيد بعضها بعضاً في المطالبة بحقوق الأمة وإلزام الطليان بتنفيذ القانون الأساسي، ورأى الطليان خطورة الموقف، فعملوا على إفساد هذا الصلح (1)، وشرع الوالي الإيطالي وأعوانه يبذرون بذور الشقاق بين الزعماء ويديرون حملة عدائية ضد القادة، ويحركون كوامن الحقد والعداء (2).
يقول الأستاذ التليسي عن تلك الفترة: (ففي مجال العمل السياسي عملت إيطاليا على إثارة الفتنة والإنشقاق والإنقسام بين صفوف الزعماء، وسعت إلى إستمالة بعض الفئات وتأليبها على الفئات الأخرى، وكان أهم ماتوخته في هذه الفترة العمل على احداث انقسام بين مصراته وورفلة، وبين ترهونة ومصراته، ثم بين زعماء الجبل الغربي، ولامناص من الاعتراف بأن السياسة الإيطالية التي فشلت عسكرياً في هذه المرحلة التي أعقبت القرضابية قد نجحت نجاحاً كبيراً في إحداث الصدع بين الصفوف، بحيث لم تستأنف العمليات في عهد (فولبي) إلا بعد أن أوجدت من ذلك الإنقسام قاعدة كبيرة تعتمد عليها عملياتها (3).
لقد انتهز الإيطاليون فرصة المهادنة ليلقوا بذور الفتنة بين العرب والبربر من جهة وبين البدو والحضر من جهة أخرى وبين سكان البلدان المتجاورة أيضاً،
_________
(1) انظر: جهاد الابطال، ص266،267، 268.
(2) انظر: السنوسية دين ودولة، ص252.
(3) انظر: معجم المعارك، ص58،59.(3/81)
واشتغل بعض الزعماء المخلصين بإخماد نار الفتن ومحاولة رتق الفتوق في كل جهة، ولكن الخروق اتسعت على الراقع، وكلما حاول دعاة الإصلاح اطفاء نار الفتنة من جهة، أوقد الإيطاليون ناراً أخرى من جهة أخرى، ونفخوا في جمرها من جديد (1).
وكانت من أكبر الفتن الحرب الطاحنة بين الزنتان والبربر فقدت بها طرابلس من أبنائها مالايعلم عدده إلا الله، وقعت الحرب الأولى بينهم 1916م وخلفت من الضغائن بين الفريقين ماكان سبباً من أكبر الأسباب في الحرب الثانية التي دارت رحاها في سنتي 1920م،1921م (2). استغل الإيطاليون ذلك الصراع، وتلك الفتن، وتحركت جيوشهم للقضاء على الطرابلسيين، فاحتلوا يفرن في 31 أكتوبر سنة 1922م وكان معهم من الليبيين العملاء الذين انضموا إلى الجيش الإيطالي عدد كبير، وفي 17 نوفمبر 1922م احتلت غريان وبدأت المدن تتساقط أمام الجيوش الإيطالية، وانتهى الصراع بين مصراته وورفلة بمقتل رمضان السويحلي في عام 1920. لقد كانت فترة مابعد صلح بنيادم 1919م من أتعس الفترات التي مر بها التاريخ الليبي المعاصر، فترة سواد يتحاشى المؤرخ الحديث عنها.
لم تستطع الحكومة الوطنية التي تكونت بعد الصلح، أن تصنع شيئاً، وكل ماتقرره لاينفذ لان الزعامات كانت تتناحر داخلها، وذلك لايستغرب من حكومة في جمهورية لها أربعة رؤساء.
وهكذا ولدت الجمهورية وفي جسمها جراثيم هلاكها، إذ أن جمهورية يحكمها أربعة، لابد أن تغرق سفينتها بمجرد اقلاعها من الشاطئ، فتعدد الربابنة مدعاة لاغراق السفينة (3).
وقد صور الأستاذ خليفة التليسي تلك الفترة المظلمة فقال: (يلاحظ أن هيئة
_________
(1) انظر: عبد النبي بالخير داهية السياسة وفارس الجهاد، ص112،113.
(2) انظر: جهاد الابطال، ص285.
(3) انظر: عبد النبي بالخير، ص103.(3/82)
الإصلاح المركزية لم تكن حكومة بالمعنى المفهوم للحكومة، وأن كثيراً من المناطق قد ظلت غير خاضعة لحكمها ونفوذها، كما أن بعض الزعامات قد ظلت محافظة على موقفها الفردي، وكانت تستقل في كثير من الحالات بتقدير الوضع السياسي على أساس جهوي، وبما تقتضيه مصلحة منطقتها، أو مقاطعتها، وأحياناً قبيلتها وعشيرتها، مما انعدم معه عنصر الوحدة الوطنية الملزمة بالموقف الموحد، خاصة في هذا الظرف العسير، بحيث يعد الخروج عليه، أو التخاذل عنه خيانة تحسب على الخارج أو المتخاذل، وكانت هذه الثغرات التي نفذ منها الإيطاليون واستطاعوا استغلالها أحسن استغلال، وقد فطن الوطنيون إلى الخطر الكامن وراء انعدام توحد القيادة، ولكن ذلك كان بعد فوات الأوان، وقد نتج عن ذلك تعدد في المواقف، واختلاف في وجهات النظر، وترك الأمر للاجتهاد الخاص، يحدد الموقف ويرسم الطريق، فرأينا بعض الزعماء يعارضون - عن اجتهاد خاص - المقاومة المسلحة لإيطاليا عقب نزولها بقصر أحمد، ورأينا آخرين يقفون على الحياد، كأن الأمر لايتصل بهم من قريب أو بعيد، ورأينا بعضهم يتشبث بأن يكون صاحب الكلمة النهائية في إبرام الهدنة، نظراً لأن الاعتداء واقع على أرضه (بالمعنى الجهوي)، وهكذا تحددت مواقف الزعماء في تاريخنا في كثير من الحالات على أساس جهوي، وكان لكل جهة صاحب يتولى أمرها ويقرر مصيرها ويحدد موقفها، وانعدام القاعدة السياسية قد عرض مواقف الزعماء وشخصياتهم لكثير من الخلخلة والاهتزازات) (1).
سابعاً: مؤتمر غريان:
بعد التطورات الخطيرة، والانشقاقات العظيمة، التي وقعت بين الزعماء، رأى عقلاء طرابلس ضرورة الاجتماع في مؤتمر عام ليتدارسوا الأوضاع الراهنة، ويتخذوا حيالها موقف مشترك.
_________
(1) انظر: عبد النبي بالخير، ص121.(3/83)
اجتمع المؤتمر في شهر ربيع الأول 1339هـ، نوفمبر سنة 1920م بعد أن اختار كل بلد من يمثله ماعدا بلاد البربر وأسفرت النتيجة عن انتخاب:
أحمد بك المريض ... رئيساً
الأستاذ عبد الرحمن بك عزام ... مستشاراً
محمد بك فرحان ... عضواً
الصادق بك الحاج ... عضواً
عمر أبو دبوس ... عضواً
صالح بن سلطان ... عضواً
التهامي قليصة ... عضواً
الشيخ أحمد الرحيبي ... عضواً
العيساوي بوخنجر ... عضواً
محمد التايب ... عضواً
عثمان القيزاني ... عضواً
علي بن تنتوش ... عضواً
مختار كعبار ... عضواً
عبد الرحمن زبيدة ... عضواً
الحاج محمد بن عمر ... عضواً
عبد السلام الجدايمي ... عضواً
نوري السعداوي ... عضواً
بشير السعداوي ... عضواً(3/84)
حسين بن جابر ... عضواً
سالم البحباح ... عضواً
الصويعي الخيتوني ... عضواً
وقد اختار المؤتمرون أحمد بك رئيساً للمؤتمر وكانت الظروف إذ ذاك تتطلب ذلك، فرمضان السويحلي قتل، وسليمان الباروني امتنع عن الحضور لأنه كان متأثراً بالحرب التي وقعت بين الزنتان والبربر، وأرسل إليه أحمد بك المريض بعد انتخابه رئيساً للمؤتمر بأنه مستعد للتنازل له عن الرياسة فأبى وحاول المؤتمر اقناعه فامتنع، واستمر المؤتمر في أعماله الوطنية، وامتنع عبد النبي بالخير عن الحضور بسبب مقتله لرمضان السويحلي، ومثل أرفلة عبد الرحمن زبيدة ومحمد العيساوي (1) وأصدر المؤتمر بعد انتهاء جلساته قراراً هذا نصه: (إن الحالة التي آلت إليها البلاد لايمكن تحسينها إلا بإقامة حكومة قادرة ومؤسسة على مايحقق الشرع الإسلامي بزعامة مسلم ينتخب من الأمة لايعزل إلا بحجة شرعية وإقرار مجلس النواب، وتكون له السلطة الدينية والمدنية والعسكرية، بأكملها بموجب دستور تقره الأمة بواسطة نوابها، وأن يشمل حكمه جميع البلاد بحدودها المعروفة) (2).
وانفض المؤتمر، وأبلغ قراراته إلى الحاكم الإيطالي في طرابلس وقرر إرسال وفد إلى روما ليطالب بتنفيذ قراراته. وكان الوفد يتكون من: محمد بك فرحات الزاوي رئيساً، ومحمد نوري السعداوي، والصادق بن الحاج، وخالد القرقني، وعبد السلام البوصيري، واستطاع هذا الوفد أن يتصل برؤساء الأحزاب في إيطاليا ومحرري الجرائد، وتمكن من إعلان قضيته في بعض الجرائد وامتنعت الحكومة، وأصحاب القرار عن الاجتماع بهم، وقام والي طرابلس بإرسال وفد ليبي مناهض لوفد مؤتمر غريان، وأسفرت
_________
(1) انظر: جهاد الابطال، 299، 300.
(2) انظر: جهاد الابطال، ص301.(3/85)
نتيجة الوفد الوطني عن الرجوع بخفيّ حنين، وتأزم الموقف بعد رجوع الوفد، وقام الطليان بنشاط عسكري، لمقاومة الروح الوطنية، واعتقلوا أناساً من حزب الإصلاح الوطني (1).
كانت الفتنة بين طرابلس وبرقة قد اشتدت مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، وحصل فتور بين البرقاويين والطرابلسيين، واستمر لمدة خمس سنوات، وترتب على ذلك تعدي على الأموال والأشخاص (2).
وكان عقلاء طرابلس وبرقة لاترضيهم تلك الحالة المزرية التي لايرضى عنها عقل، ولاشرع، ولاعرف وبادر السيد أحمد المريض بإرسال رسالة لأخيه الأمير محمد ادريس السنوسي، وكانت مليئة بالمعاني الرفيعة والعبارات السامية، ورد على تلك الرسالة الأمير محمد ادريس وترتب بعد ذلك اجتماع سرت العظيم (3).
ثامناً: اجتماع سرت:
اجتمع الوفدان الطرابلسي والبرقاوي في سرت، وكان يمثل الوفد الطرابلسي كل من أحمد بك السويحلي، وعبد الرحمن بك عزام، وعمر بو دبوس، ومحمد نوري السعداوي، والشتيوي بن سالم، والصويعي الخيتوني، والحاج صالح بن سلطان، ويمثل برقة كل من: الشيخ صالح الأطيوش، والشيخ نصر الأعمى، والشيخ خالد القيصة، والشيخ صالح السنوسي بن عبد الهادي البرَّاني، وشرع المجتمعون في استعراض الحال التي وصلت اليها البلاد، ومعالجة أسباب الخلاف وخرجوا بهذه القرارات التي اتفق عليها ممثلوا طرابلس وبرقة.
(الحمد لله المبدئ المعيد، الفعال لما يريد، ألف بين قلوب المسلمين وجعلهم خير أمة للعالمين، والصلاة والسلام على رسول الهدى والرحمة الذي جاء يدعونا إلى العزة والإباء، ويعلمنا كيف نقاتل الأعداء وبعد: فقد اجتمعنا نحن الموقعين على
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص303.
(2) المصدر السابق نفسه، ص304.
(3) انظر: السنوسية دين ودولة، ص256.(3/86)
هذه المعاهدة المفوضين من قبل طرابلس وبرقة، وقررنا بعد مداولة الفكر المواد الآتية المتضمنة اتفاق القطر الطرابلسي البرقاوي على الاتحاد والتعاون في السراء والضراء:
يجب ان نوحد كلمتنا ضد عدونا الغاصب لبلادنا وضد المفسدين.
يجب أن يكون عدوناً واحداً وصديقنا واحداً.
إن كافة ماوقع بين الطرفين من التجاوز لا يطالب به أحد الآخر الى أن تستقر الحالة في الوطن، وتتعين وضعية البلاد العمومية. ومع ذلك يجب أن يسعى الطرفان في المسامحة بين العربان، ومن يتعدى بعد الآن فعلى الحكومة التابعة لها أن تعاقبه بما يستحق.
كل من يخالف الجماعة ويدس الدسائس الأجنبية، على الحكومة المنسوب إليها إعدامه ومصادرة أمواله حسب الشريعة الاسلامية.
يرى الطرفان أن مصلحة الوطن وضرورة الدفاع ضد العدو المشترك تقضي بتوحيد الزعامة على البلاد، ولذلك يجعلان غايتهما انتخاب أمير مسلم تكون له السلطة الدينية والمدنية داخل دستور ترضاه الأمة.
يتخذ الطرفان الوسائل اللازمة لتحقيق هذه الغاية المذكورة في المادة الخامسة، وأن تكون تولية الأمير بإرادة الأمة.
متى تحققت الغاية المذكورة في المادة الخامسة يجب انتخاب مجلس تأسيسي من الفريقين لوضع القانون الاساسي والنظم اللازمة لإدانة البلاد، وقبل ذلك، وتمهيداً لهذه الاعمال، يجب على الفريقين أن يرسل كل منهما مندوباً للبلدين لأجل أن يشتركا في سياسة البلاد والتدابير المقتضاة للدفاع عن الوطن.
يتعهد الطرفان بألا يعترفوا للعدو بسلطة، وأن يمنعوه من بسط نفوذه خارج الاماكن المتحصن بها الآن، وفي حالة وقوع حرب يتظافر الفريقان على حرب العدو، وألا يعقد صلحاً أو هدنة إلا بموافقة الفريقين.
إذا خرج العدو من حصونه مهاجماً جهة من الجهات وجب على الجهة(3/87)
الأخرى أن تمد المهاجم بالمهمات الحربية والمال والرجال، وأن تنذر العدو بالكف عن التجاوز وإذا لم يكف تهاجمه هي بدورها.
تجمتع هيئة منتخبة من أهالي طرابلس وبرقة مرتين في كل سنة في شهر المحرم ورجب للنظر في مصالح البلاد.
يشترط أن توافق على هذه المعاهدة كل من حكومة برقة والهيئة المركزية في جهة طرابلس.
مهمة الهيئة المذكورة تأييد العلائق الودية بين الطرفين وتأييد هذه الاتفاقية (1).
قصر سرت في يوم السبت 22 جماد الاولى سنة 1340هـ (21 يناير سنة 1922م).
كانت الحكومة الايطالية تتابع الأخبار ومايدور بين برقة وطرابلس، وخافوا أن يترتب على اتفاق طرابلس وبرقة مالا تحمد عقباه، فقرر وولبي احتلال مصراته قبل أن يصل الليبيون الى نتيجة في مؤتمر سرت، واستطاع الطليان أن يحتلوا قصر حمد وبدأ الجهاد من جديد، وأراد الطليان أن يخدعوا المجاهدين ودعوا الى عقد المفاوضات في فندق الشريف لكسب الوقت وإعداد العدة، وانتظار المدد من ايطاليا، واستمرت المفاوضات واتضح للمجاهدين أن الطليان عازمين على الحرب، وانقطعت المفاوضات في يوم 10 ابريل سنة 1922م واستعد كل من الطرفين لما تتمخض عنه الايام المقبلة.
وكان من أقوى العوامل التي جعلت والي طرابلس وولبي يتشدد مع المجاهدين ويرفض مطالبهم ظهور الفاشستية في ايطاليا، وأصبحت وشيكة أن تستولي على مقدرات إيطاليا (2).
_________
(1) انظر: جهاد الابطال، ص307.
(2) انظر: جهاد الابطال، ص308 الى 316.(3/88)
وكانت من مبادئهم المنحرفة الوصول الى أغراضهم بكل وسيلة ولا يجدون في نفوسهم غضاضة اذا كانت اعمالهم مخالفة للانسانية او للحقوق العامة متى كان فيها مصلحة لهم او لبلادهم، ولا يستحون من أن يعلنوا صراحة بأنهم لايعرفون الحرية، ولا يقدسون الحقوق العامة، ولا يحترمون العهود متى كان ذلك ضرورياً لمصلحة ايطاليا (1).
يقول شكيب ارسلان: (لموسوليني خطب كثيرة وكتابات بتوقيعه تؤخذ منها هذه المقاصد بدون إشكال، فلهذا لم تبق في ايطاليا لا حرية قول، ولا حرية كتابة، وكل شيء يصادم إرادة الفاشست فهو ممنوع) (2).
بعد انقطاع مفاوضات فندق الشريف في 10 ابريل سنة 1922م استئنفت الحرب من جديد، وأصبح الطليان يتوغلون في طرابلس، والمجاهدون يتراجعون أمام هجماتهم الشرسة.
فرأى الطرابلسيون ارسال وفد الى الأمير محمد ادريس ليبايعوه بالامارة تنفيذاً لما قررته هيئة الاصلاح المركزية في فندق الشريف، وكان ذلك الوفد يتألف من الشيخ محمد بن حسن، والشيخ محمود المسلاتي، والشيخ طاهر الزاوي، ووصل الوفد اجدابية في شوال عام 1340هـ وقابل الأمير محمد ادريس، وأبلغه الوفد هدفه الذي جاء من أجله، فأعتذر عن الذهاب الى طرابلس لشدة الحر، وانحراف صحته، ووعد بالسفر عندما تتحسن صحته (3).
وحرصت ايطاليا أن تشتشف ماوصل إليه زعماء برقة وطرابلس، فأرسلت أمندولا وزير المستعمرات الايطالية للدخول في مباحثات مع الامير ادريس واشترط الايطاليون قبل الدخول في المباحثات أن يغادر بشير السعداوي ممثل الحكومة الوطنية الطرابلسية اجدابية وكان الأمير ادريس يأمل أن يصل الى ايقاف الحرب بين ايطاليا والطرابلسيين ولذلك طلب من بشير السعداوي وزملاؤه أن يخرجوا الى الطبيل (4).
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص316.
(2) انظر: حاضر العالم الاسلامي.
(3) انظر: جهاد الابطال، ص323.
(4) انظر: السنوسية دين ودولة، ص258.(3/89)
وبعد ذلك حضر وزير المستعمرات الايطالي الى غوط الساس بالقرب من المرج، وألتقى بالأمير محمد ادريس في 22 يونيه 1922م وعمل على اقناع امندولا بضرورة تهدئة الأحوال في طرابلس، وبعد انتهاء المباحثات أرسل الأمير ادريس الى بشير السعداوي وزملاؤه كلا من صالح الأطيوش، والفضيل المهشهش وأحد أبناء الكزة وسلم هؤلاء كتاباً لبشير السعداوي من سمو الأمير أخبره فيه بمقابلته مع وزير المستعمرات في غوط الساس، وبحث القضية الطرابلسية معه؛ وبأن المباحثات قد أسفرت عن إظهار إيطاليا استعدادها للصلح معها، وفضلاً عن ذلك فقد جاء الجماعة بكتاب آخر من الأمير موجهاً الى رئيس هيئة الاصلاح المركزية بهذا المعنى. فبادر بشير السعداوي بأنه يعتزم العودة فوراً الى طرابلس لإتمام البيعة ووعد بالعودة سريعاً الى اجدابية يحمل معه البيعة (1).
وغادر بشير السعداوي برقة الى طرابلس، وبمجرد وصوله الى مصراته اجتمع بالزعماء الطرابلسيين ونادى بالبيعة لسمو الأمير محمد ادريس مستنداً في ذلك الى أنه لاسبيل الى الخلاص البتة إلا بالاتفاق والتعاون ضد العدو الايطالي، وكتب بشير السعداوي نص البيعة بنفسه ثم ذهب بها من مصراته الى مسلاته ثم الى غريان، وهناك كانت هيئة الاصلاح المركزية مجتمعة برئاسة احمد المريض فقرأ عليهم البيعة ووافق هؤلاء عليها بالإجماع ودون مناقشة (2).
وما أن علم الطليان بتلك التطورات ومجيء الوفد الطرابلسي الى اجدابية حتى ثارت ثائرتهم، وأعلمت الحكومة الايطالية الأمير محمد ادريس بأنها لم تتوانى عن مهاجمة إجدابية ذاتها، ولما أدرك الامير ادريس خطورة الموقف بدأ يبذل قصارى جهده لإقناع الحكومة الايطالية، بأن الطرابلسيين ماقصدوا بما فعلوه سوى حقن الدماء وفض خلافهم مع إخوانهم أهل برقة، وأن واجب الحكومة الايطالية يتحتم عليها أن توقف اعتداءاتها على الطرابلسيين فضلاً عن ان كان للامير على حسب
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص258.
(2) المصدر السابق نفسه، ص259.(3/90)
اتفاق الرجمة الحق في أن يعرض مايراه في مصلحة البلاد على الحكومة الايطالية، كما أن معاهدة الرجمة قد ألزمت الطليان كذلك بأن يضعوا موضع الأعتبار كل مايبديه الأمير من آراء في ذلك (1).
تاسعاً: نص البيعة بالإمارة:
تقرر أن يذهب السيد بشير السعداوي بوصفه مندوباً من هيئة الاصلاح على رأس وفد لتسليم كتاب البيعة الى الأمير محمد ادريس، وكان ضمن هذا الوفد كل من عبد الرحمن عزام، محمد الصادق بالحاج، نوري السعداوي، الشيخ محمد عبد الملك. ووقع على كتاب البيعة أحمد المريض رئيس هيئة الاصلاح المركزية وعبد الرحمن عزام مستشارها، ثم أعضاء الهيئة، محمد بن عمر، وبشير السعداوي، وحسين بن جابر، ومحمد فرحات، وعبد الرحمن زبيدة، ومحمد التائب، وسالم البحباح، وعثمان القيزاني، وعمر بودبوس، ومحمد صادق بن الحاج، محمد مختار كعبار، ومحمد فكيني، والصويعي الخيتوني، كما وقع على البيعة من الاعيان محمد الديب ومحمد سوف وعمر ضياء، وعلي ابو حبيل، وأحمد القاضي، ومحمد القرقني، وأحمد السني، والبغدادي بن معيوف، ومحمد الصغير المريض وهذا نص البيعة:
(سمو مولانا الأمير الجليل السيد محمد ادريس حفظه الله ورعاه أنه لايخفى علىسموه أن الخلاف مايزال قائماً بينهم وبين الحكومة الايطالية (ذلك لأن الحكومة الايطالية وجهت عزمها الى العبث بجميع حقوقنا شرعيها، وسياسيها، وإداريها، وجعلت من قوتها مبرراً للتصرف في مصيرنا وحقوقنا الطبيعية، ونحن خير أمة أخرجت للناس لانتحمل ضيماً ولا نرضى أن تضمحل شريعتنا ولا أن يتطرق الخلل الى ديننا القويم كائناً ماكان، الأمر الذي حملنا على ركوب الأخطار واقتحام الحروب المتوالية، معتمدين على قوة الحق الى أن نظفر بتحقيق أمنيتنا القومية ألا وهي تاسيس حكومة دستورية يرأسها أمير مسلم جامع للسلطات الثلاثة الدينية
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص259، 260.(3/91)
والسياسية والعسكرية، مع مجلس نيابي تنتخب الأمة أعضاءه، وبهذا يسلم وطننا ويتم أمر ديننا وتصلح أحكام قضايانا ونحفظ شرعنا، وعنعنة تاريخنا الباهر، وهذا لاينافي ماتدعيه ايطاليا وما دأبت عليه من خطب رجالها من أنها لم تحتل ديارنا بنية الاستعمار، وإنما ساقتها دواعي السياسة الدولية في البحر المتوسط، ولو كانت صادقة في دعواها هذه لما عرضت بلادنا للخراب بتوالي الهجمات، واستعمال دهائها وقدرتها للتفريق والفوضى، وقد حاولت فصل الأمة بعضها عن بعض بطرق مختلفة وأبى الله إلا أن يجمع كلمة القطرين الشقيقين بأن يلتفا حول أمير واحد يرضيانه وحيث كان سموكم من أشرف عائلة وأكرم بيت مع ما تجتمع في ذاتكم الشريف من المزايا العالية، والأوصاف الجليلة فإن (هيئة الإصلاح المركزية) الحائزة للوكالة المطلقة من (مؤتمر غريان) الذي يمثل الأمة الطرابلسية، بانتخاب واقع منها قد وجدت في سموكم أميراً، حازماً قادراً على جمع الأمة للثقة العامة محبوباً، فهي لذلك تبايع سموكم أميراً للقطرين طرابلس وبرقة على أن تقودهما إلى ما يحقق أمانيهما الشريفة الإسلامية المنوه عنها.
على أن مبايعتكم كانت مضمرة في كل نفس منذ وقع الاتحاد بين مندوبي القطرين في (سرت) وكان السبب في تأخير تحقيقها طوارئ الحرب التي طوحت بكل واحد من أعضاء الهيئة، ورجال القطر في منطقة شاسعة من المناطق الحربية. وبهذه البيعة إن شاء الله أصبح سموكم الأمير المحبوب للقطرين المباركين، ومتى سنحت الفرصة عند تشريفكم إيانا حسب رغبة الأمة تقام لكم مظاهر هذه البيعة في موكب لائق بسموكم. والله سبحانه وتعالى يمدكم بروح من عنده ويجعل البركة في البيت السنوسي المؤسس على التقوى والصلاح) (1).
وبادر الأمير محمد ادريس بمصافحة تلك اليد الممدودة وقبل البيعة دون تردد وأجاب على كتاب البيعة في 22 ربيع الأول 1341هـ (22 نوفمبر 1922م) فقال: (وبعد فقد تناولت بيد الشكر عريضتكم التي أظهرتم فيها رغبتكم الخالصة في تحقيق غايتكم التي أجمعتم عليها في مؤتمر غريان وجهادتم لها جهاداً صادقاً بالأنفس
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص262.(3/92)
والثمرات في شخصي فأخذتها داعياً الله أن يحقق آمال هذه الأمة ويكلل مساعيها كلها بالنجاح. ولما كان اتحاد الوطن وسلامته هما الغاية التي طالما سعيت إليها وجدت من واجبي أن أتلقى طلبكم بالقبول وأن أتحمل المسؤولية العظمى التي رأت الأمة تكليفي بها، فعلي إذن أن أعمل بجد معكم، ولكن لاتنسوا أنني بغير إقدامكم وجدكم لاقدرة لي على شيء. إني أعلم أن الحياة الخالدة هي للأمم لا للأفراد، وكذلك الأعمال العظيمة الباقية هي التي تنصرف إلى صالح الجميع، فلذلك أدعوه سبحانه وتعالى أن يهدينا إلى كل عمل ثمرته للأمة. إذ من حق كل شعب أن يسيطر على شئونه، والناس منذ نشئوا أحراراً. وقد أظهر شعبنا في كل أدواره مقدار محبته للحرية فدفع مهوراً غالية، فلا يصح لأحد أن يطمع في استعباده والاستبداد بشئونه. لقد اشترطتم علي الشورى وهي أساس ديننا، وسأعمل على قاعدتها. هذا وقد رأيت أن أقر الأمور على ماهي عليه حتى تجتمع جمعية وطنية لوضع نظام البلاد، فلذلك أكل إلى الهيئة المركزية لما أبدت من الحمية، والعدل، والدراية أن تستمر على إدارة شئون القطر الطرابلسي، ولي الثقة العظيمة في حكمة رئيسها البطل الحازم أحمد بك المريض ورفقائه والرؤساء الكرام الذين أيدوا مساعي الهيئة الملية أن يتحملوا مشاق المسؤولية بصبر لتثبيت دعائم البناء الوطني الذي شيدوه وأسأله تعالى أن يمد الجميع بعنايته ويثبت الأقدام ويقهر الأعداء ويمن بالنصر الموعود، انه على مايشاء قدير) (1).
حاول مستشار الأمير محمد ادريس عمر منصور الكيحيا أن يوافق بين سياسة الأمير ادريس مع الطليان، وحرصه على وحدة الصف واجتماع الكلمة تحت زعامته، وانعقدت اجتماعات ومناقشات واستمر هذا الميدان مفتوحاً نحو أربعين يوماً ولم يهتد الباحثون إلى الحل المطلوب إلا بمغادرة الأمير محمد ادريس اجدابيا إلى مصر في اليوم الثاني من جمادي الأولى سنة 1341هـ 21 ديسمبر سنة 1922م) (2)، وكان
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص262.
(2) انظر: جهاد الابطال، ص331.(3/93)
ذلك السفر بسبب مرض ألمّ به ونصحه الأطباء بالذهاب إلى مصر للعلاج، وكان قبل سفره قد تعكرت وتغيرت العلاقات السنوسية مع ايطاليا، وحدثت بعض الاشتباكات بين الطليان والعربان بسبب حرص الطليان على نزع السلاح منهم، وتمّ اعتقال الشيخ صالح العوامي ظلماً وزوراً، وكانت هناك محاولة أخرى للقبض على صفي الدين ولكنها باءت بالفشل، بسبب الخبر الثمين الذي سربه عثمان العنيزي إلى صفي الدين محذراً إياه من غدر الطليان به.
إن الأمير محمد ادريس اتخذ قرار الهجرة إلى مصر بعد دراية وافية للمرحلة التي مرت بها البلاد، وللتطورات السياسية والعسكرية التي حدثت على الساحة، فالحل العسكري كان يعرف باستحالته منذ البداية وكان يعمل مافي وسعه لإقناع الآخرين بذلك للمحافظة على دماء المواطنين التي كانت تهدر بدون نتيجة مما كان سيسبب في إحباط الروح المعنوية وتمكين العدو، فقد كان يرأى أن المقاومة الليبية المسلحة لن يمكنها بأي حال من الأحوال دحر القوات الإيطالية.
ثم إن المجهودات الدبلوماسية التي كان يقوم بها قد أعطت كل مايمكنها أعطائه في تلك المرحلة، فرحل عن البلاد ليحتفظ بحريته ويراقب الوضع الدولي ويتحين الفرص (1).
لقد تعرض الأمير ادريس للانتقاد بدعوى أنه ترك شعبه أثناء منعطف تاريخي هام في عام 1922م، لقد حاول الإيطاليون قتله بالسم (2)، وتنامت الخلافات والمشاكل بينه وبين الحكومة الإيطالية حتى لم يجد في مقدوره التغلب عليها، فمعاهدة الرجمة لاتعدو كونها محاولة عقيمة لإقامة نوع من الحكم الثنائي يشارك فيه الإيطاليون والسنوسيون معاً، ولم يقدر لها النجاح أبداً من الناحية العملية، ثم انقطع الرجاء في استمرارها نهائياً عقب استيلاء الفاشست على مقاليد السلطة في إيطاليا، ولم يعد من المصلحة البقاء في وجود نظام فاشي، فلو أن الأمير محمد ادريس أصر على البقاء
_________
(1) انظر: تعليق محمد عبده بن غلبون على كتاب الملك ادريس عاهل ليبيا حياته وعصره، ص43.
(2) انظر: السنوسية دين ودولة، ص262.(3/94)
داخل ليبيا في ذلك الوقت لكانوا قبضوا عليه حتماً، وكانت أهميته القصوى بالنسبة لليبيين تكمن في سعة نفوذه وهيبته في العالم الإسلامي كزعيم للحركة السنوسية، وحنكته في أساليب التفاوض السياسي، وخبرته بالقضايا الدولية، وقد ظهر أثره في الحرب العالمية الثانية، واستفاد من الفرص التي اتيحت، وشكل الجيش السنوسي الذي خاض معارك ضارية ضد إيطاليا وألمانيا، وساعد ذلك الجيش الحلفاء مما اضطرهم بالإعتراف بالجهود التي بذلها الليبيون واستفاد الأمير محمد ادريس من تلك الأعمال الجليلة في مباحثاته ومفاوضته مع الإنجليز (1).
إن فترة المهجر التي عاشها الأمير محمد ادريس في مصر كانت من أصعب أيام حياته فقد قال عنها: (وكانت تلك الفترة تعيسة للغاية، فقدت أثنائها الكثيرين من أخلص أصدقائي وأنصاري الذين استشهدوا في معارك الجهاد ضد الإيطاليين، كما غمرني الحزن والأسى الشديد لمعاناة أهل برقة. وعقب احتلال الكفرة دمّر المسجد الذي كان يضم رفات والدي ونهبت وبعثرت محتويات المكتبة التي كان فيها الكثير من كتبنا ومخطوطاتنا. وماكان يشد من أزري عبر تلك الظروف العصيبة سوى ثقتي بالله وتعاطف أصدقائنا في العالم العربي) (2).
إن الأمير محمد ادريس قبل أن يغادر البلاد حاول تنظيم أمور المقاومة ضد الاحتلال الإيطالي، وبحث الأمر مع زعماء ورؤساء برقة من جانب، ومع بشير السعداوي والوفود الطرابلسية من جانب آخر.
واستقر رأي الأمير على أن يعهد بالأعمال السياسية والعسكرية في برقة إلى عمر المختار نائباً عنه في تنظيم معسكرات المجاهدين وعهد بالمسائل الدينية، ومايتعلق بالسنوسية وشئون الأسرة الكريمة إلى أخيه السيد محمد رضا، وكان السيد محمد الرضا في جالو نائباً عن سموه في إدارة شئونها، وزود الأمير رجاله بالتعليمات اللازمة وأوصاهم باتخاذ الحيطة دائماً من غدر الطليان، واتفق مع الشيخ عمر المختار
_________
(1) انظر: الملك ادريس عاهل ليبيا، ص44.
(2) المصدر السابق نفسه، ص47.(3/95)
على بعض القادة ليكونوا رؤساء على معسكرات المجاهدين في برقة، ومن هؤلاء القادة السيد محمد الصديق بن محمد رضا وأخيه الحسن، وقجة عبد الله السوداني، والفضيل بوعمر، ويوسف بورحيل، وحسين الجويفي، وعبد الله سلوم على أن يتولى قيادة هذه الجيوش جميعاً الشيخ عمر المختار (1).
وبحث الأمير مع بشير السعداوي مسألة استمرار الجهاد في طرابلس ضد الطليان، وقبل ذلك تقدم بشير السعداوي بمشروع إنشاء هيئة مركزية في برقة من رؤساء القبائل تضطلع بأعباء الإدارة، واختار الأمير لرئاستها الشيخ مختار الغدامسي وهو من القضاة الشرعيين ومن أكابر علماء البلاد، وبعد مغادرة الأمير إجدابيا عقدت الهيئة المركزية البرقاوية جلسات عدة للبحث في شئون البلاد وتهيئة وسائل الجهاد ضد العدو الإيطالي النصراني الحاقد، وحضر بشير السعداوي جلسات الهيئة، وعرض على الحاضرين تشكيل جبهة متحدة من برقة وطرابلس لمتابعة الجهاد ضد إيطاليا دون أي إبطاء، وبعد تبادل الرأي وافق الحاضرون على رأي السعداوي.
وتأهب السعداوي للسفر إلى طرابلس وكان معه صفي الدين السنوسي في 21 رجب 1341هـ (9 مارس 1923م) وكان في رفقتهم مجموعة من خيار المجاهدين من أمثال أحمد باشا سيف النصر، وعمر سيف يقول صفي الدين (وعندما وصلنا إلى النوفلية وجدنا بها خالد بك القرقني وعثمان بك الجيزاني فارتحلنا جميعاً إلى سرت وفي أثناء الطريق وصلنا خبر مشئوم مفاده أن محمد سعدون السويحلي أخ رمضان السويحلي قد استشهد في القتال، وكان محمد سعدون من خيرة القواد الذين تولوا قيادة العمليات العسكرية في الحركة الأخيرة، على أننا تابعنا السير بعد ذلك حتى بلغنا سرت، وهناك قابلنا أحمد بك المريض، ثم ذهبنا إلى وادي نفد بين مصراته وورفلة، وفي ورفلة وجدنا أحمد شتيوي وهو من إخوة رمضان السويحلي، وكان شتيوي متصرفاً على مصراته ثم وجدنا معسكر المجاهدين العام) (2).
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص267.
(2) انظر: السنوسية دين ودولة، ص268.(3/96)
وقد بذل بشير السعداوي جهوداً عظيمة لحشد جموع المجاهدين حول السيد صفي الدين وتحت زعامة السنوسية، وكان قائد معسكر المجاهدين الطرابلسيين في وادي نفد حوالي ثمانية شهور من شعبان 1341هـ إلى شهر جمادي الأولى من عام 1342 (إبريل - ديسمبر 1923م).
وبعد فترة من الزمن بدأ زعماء المجاهدين في ترك معسكر نفد ولم يبق إلا أحمد السويحلي وكانت القوات الإيطالية تتقدم وتحتل المدن في منطقة طرابلس، وقد ذكر الشيخ طاهر الزاوي كيف احتل الطليان منطقة طرابلس ومدنها بنوع من التفصيل (1)، واضطر صفي الدين امام انحلال المقاومة، وضعف حركة الجهاد أن يذهب إلى جالو وبعث إلى الأمير محمد إدريس بمصر يخبره بكل ماوقع فأجابه الأمير بأن له أن يختار إما البقاء في جالو وإما الذهاب إلى جغبوب، وارتحل صفي الدين إلى الجغبوب في صفر 1243هـ، سبتمبر 1923م.
وكان بشير السعداوي يواصل جهاده المرير بجمع كلمة المجاهدين، وعقد الاجتماعات لتحقيق هذه الغاية في القرضابية ثم في قصر بوهادي واستطاع أن يؤسس مركزاً للجهاد في المكان الأخير، وتسلم القيادة في سرت وجمع شتات المنهزمين، اللاجئين إلى سرت، وكانوا حوالي خمسين أو ستين ألفاً، وثبت المجاهدون في مصراته وترهونة أقدامهم نتيجة لهذا العمل، ولكن الطليان بقواتهم الجرارة، وطائراتهم استطاعوا القضاء على حركة المقاومة رويداً رويداً، ثم هاجموا في آخر الأمر ورفلة وعندئذ انحلت المقاومة تماماً، واضطر بشير السعداوي إلى مغادرة سرت في عام 1924م بعد أن مكث بها سنة تقريباً، وكان السعداوي رحمه الله من أشد المجاهدين تحمساً في هذه الفترة العصيبة، ومن أعظمهم مثابرة على الجهاد وكان يتحلى برجاحة العقل، والرزانة، والهدوء، ويتصف بالقدرة على النظر البعيد وتقليب وجوه الرأي في عواقب الأمور (2)،
_________
(1) انظر: جهاد الابطال، ص235 الى 262.
(2) انظر: السنوسية دين ودولة، ص269 ..(3/97)
قال محمد فؤاد شكري: إن خروجه كان مؤذناً بأن الثورة قد انتهت فعلاً وأن الأمر قد استتب للطليان في طرابلس أخيراً، وأن برقة وحدها هي التي أصبحت تحمل على عاتقها عبء الجهاد منفردة ضد العدو، وكان والي برقة الجديد بونجيو فاني قد بدأ يحل الأدوار المختلفة في برقة عنوة واقتداراً وتم له ما أراد في الأسبوع الأول من شهر مارس 1923م فحلت الحكومة في 6 مارس معسكرات الأبيار وتكنس وسلنطة، والمخيلي، وعكرمة، وانتهز بونجيوفاني فرصة افتتاح الدورة البرلمانية في اليوم نفسه وهجم في البرلمان على السنوسية وقال: إن السنوسيين كانوا غير مخلصين للحكومة الإيطالية ثم أبلغ سامعيه التدابير التي اتخذها للقضاء على السنوسية، وكانت أولى التدابير احتلال اجدابيا ذاتها في 21 ابريل 1923م وهي مقر الإمارة السنوسية وفي 24 ابريل اعلن الوالي (أن كل الاتفاقات التي أبرمتها إيطاليا مع السنوسية قد أصبحت لاغية ولا أثر لها) (1)
وفي أول مايو من السنة نفسها عاد بونجيوفاني فأكد إلغاء هذه الاتفاقات في منشور أعلن فيه (أن السنوسية قد أصبحت مجرد طريقة تشبه غيرها من الطرق الإسلامية وأن نشاطها يجب أن يظل نشاطاً دينياً محدوداً فحسب، وفي يوم 3 مايو ذهب الدروفاندي الوزير الإيطالي في مصر لمقابلة الأمير محمد ادريس وأبلغه أن الاتفاقات التي عقدتها إيطاليا معه قد أصبحت لاغية، ولا وجود لها يقول الأمير محمد ادريس: (بعد بضعة أشهر من قدومي إلى مصر أبلغني الوزير الإيطالي المفوض في القاهرة بأن حكومة موسوليني ألغت كافة العهود والمواثيق المعقودة مع السنوسيين، وكان ذلك في مايو 1923م وكان الإيطاليون قد ألقوا القبض على عمر باشا الكيخيا بتهمة التواطؤ في هروبي، فحبسوه أولاً في بنغازي ثم نقلوه إلى معتقل في إيطاليا، وبعدها بشهور قلائل علمت أن الحكومة الإيطالية قد طلبت من الحكومة المصرية تسليمي اليها ووعدت بعدم تعريضي لأي أذى.
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص270 ..(3/98)
وشعرت بالخطر المحقق نظراً لأن الملك فؤاد كانت أمه إيطالية وقد تربى في إيطاليا وتربطه بالإيطاليين علاقة حميمة ربما تدفعه إلى تلبية طلبهم ... ) (1).
ومن ذلك الحين بدأ الجهاد بقيادة عمر المختار في برقة ضد إيطاليا من غير هوادة أو لين، أو ضعف، أو خوار وقبل الدخول في سيرة الشيخ عمر المختار العطرة نحاول أن نقف مع الأحداث السابقة لنتأمل في العبر والدروس لتسترشد بها الأجيال في مستقبلها.
إن من الأمور الخطيرة التي مرت بها البلاد فيما بين 1916و 1923م أن انقسم زعماء ليبيا إلى قسمين بالنسبة للأوضاع الدولية، في بداية الحرب العالمية الأولى مما ضاعف من توسيع هوّة الخلاف، فأهل برقة عقدوا مصالحة مع الإنجليز وإيطاليا وأهل طرابلس وقفوا مع الأتراك قلباً وقالباً، وحدث تنازع على النفوذ ووصل إلى حد القتال بين الأشقاء وبعد هزيمة الأتراك والألمان، وخروجهم من ليبيا جاءت فكرة الجمهورية الطرابلسية، ولم يستطيع الزعماء أن يتغلبوا على أهوائهم الشخصية، فانتهى بهم الأمر إلى مقتل رمضان السويحلي رحمه الله تعالى، وهاجر سليمان الباروني رحمه الله من البلاد، وأصبح مستشاراً لحكومة مسقط بدولة عمان وتوفي أثر مرضه ببومباي بالهند عام 1941 (2)، وعبد النبي بالخير رحمه الله توفي في الصحراء الكبرى أثناء هجرته إلى تونس بسبب العطش (3) وأحمد المريض رحمه الله توفي في الفيوم بمصر عام 1941م (4) ومحمد ادريس السنوسي رحمه الله أصبح لاجئاً سياسياً.
أقول: لو اتفق زعماء طرابلس في بداية أمرهم على قلب رجل واحد لكانت النتائج لصالح الإسلام والمسلمين، لقد كانت البلاد في تلك الفترة في أشد الحاجة إلى توحيد الكلمة تحت قيادة رجل له مدارك الباروني، وهدوءه وحياده، وذكاء عبد النبي ودهاؤه، وصلابة رمضان وشجاعته، وحلم أحمد المريض وسعة صدره،
_________
(1) انظر: الملك ادريس عاهل ليبيا، ص45.
(2) انظر: الاعلام للزركلي (3/ 129).
(3) انظر: عبد النبي بالخير داهية السياسة، ص251.
(4) انظر: جهاد الابطال، ص333.(3/99)
وكان كل من يحاول من الزعماء أن يتطلع إلى الانفراد بالحكم في تلك الفترة المظلمة، انما يحاول المستحيل، فكان من اللازم التضحية بنصيب من الانانية، والنعرة القبلية، ومحاربة الأهواء، ونبذ التعصب لتوحيد الشعب نحو مقصد الجهاد ضد المحتل الحاقد، ويختاروا زعيماً من بينهم ويقف الجميع لدعمه، ويقفلوا الأبواب على كل مخططات الأعداء التي تريد تمزيق الصف، وتعميق الخلاف، وضرب الزعماء ببعضهم، كما أن ماوصل إليه الطرابلسيون من وجوب توحيد جهودهم مع البرقاويين جاء متأخراً، وبعد فوات الأوان، ولو كان قبل ذلك بسنين أو في زمن قيادة أحمد الشريف لكان ذلك الاتحاد من عوامل النهوض، وأسباب النصر، ولقامت إمارة قوية تستطيع أن تتغلب على العدو المحتل، وتبني دولة عصرية قوية ولوجدت فيها الأجيال امتداداً حضارياً، وبعداً سياسياً، وانتماءً حقيقياً لمفهوم العقيدة والدين والأمة والشعب والوطن، لقد شبه أحد المؤرخين تلك المرحلة بفترة ملوك الطوائف في الأندلس، فالنزعة القبلية لاتزل في عنفوانها، ودكتاتورية زعيم القبيلة لايمكن محوها والتغلب عليها وإن كانت المنطقة الشرقية تغلبت عليها بالدعوة الشاملة، والتربية العميقة وبتوفيق الله تعالى ثم بسبب جهود الحركة السنوسية في قبائل برقة.
إن الدرس المهم هو أن يتغلب الزعماء على أهوائهم من أجل المصالح العليا للبلاد والعباد وإلا أصبحت بلادنا فوضى يسهل عندئذ لأعدائنا اختراقها، ومصّ خيراتها، وتشتيت رجالها، إن الخطاب لوحدة الصف، وتوحيد الجهود، نقصد به كل مسلم من أبناء ليبيا حريصاً على بلده وشعبه وأمته.
إن الابتعاد عن الهوى ومحاربته في النفوس من أسباب النهوض ومن الأمور التي أرشد الله تعالى لها زعماء الأمة وقادتها قال تعالى: {ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولاتتبع الهوى فيُضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} (سورة ص، الآية: 26). إن اتباع الهوى من أسباب الفرقة، والفرقة من أسباب تأخر النهوض، فإذن على(3/100)
المخلصين من أبناء شعبنا الحريصين على تحكيم شرع الله تعالى، محاربة الهوى وقلع جذوره وأسبابه من النفوس، إن محاربة الأهواء طريق نحو الاجتماع والائتلاف، ونحو الأخذ بأسباب النهوض والتمكين لهذا الدين، إن العلاج الناجع والبلسم الشافي لمن ابتلى بشيء من الهوى، إلزام النفس بالكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح وتربية النفس باستمرار على التقوى والخشية من الله تعالى، واتهام النفس ومحاسبتها دائماً فيما يصدر منها، وعدم الاغترار بأهوائها وتزييناتها وخداعها، والإكثار من النفس على استنصاح الآخرين وتقبل الآراء الصحيحة الصائبة وإن كانت مخالفة لما في النفس، وتعويدها على التريث وعدم الاستعجال في إصدار الأحكام، وإمضاء الأعمال، والحذر من ردود الأفعال التي قد يكون فيها إفراط وتفريط، وغلو أو تقصير، وجهل وبغي وعدوان، وإكثار المرء من الدعاء والتضرع إلى الله تعالى بأن يجنبه اتباع الهوى ومضلات الفتن، ويسأله تعالى أن يوفقه لقول كلمة الحق في الغضب والرضا. ويكثر من الدعاء الذي علمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته: (وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب) (1) ومن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء) (2).
إن سنة الله ماضية في الأمم والشعوب لاتتبدل ولا تتغير ولاتجامل، وجعل سبحانه وتعالى من أسباب هلاك الأمم والشعوب الاختلاف قال - صلى الله عليه وسلم -: (فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا) وفي رواية فأهلكوا (3).
وعن ابن حبان والحاكم عن ابن مسعود: (فإنما أهلك من كان قبلكم الاختلاف) (4) قال ابن حجر العسقلاني: وفي الحديث والذي قبله الحض على الجماعة والألفة والتحذير من الفرقة والاختلاف (5).
_________
(1) انظر: النسائي، كتاب السهو، باب الدعاء بعد الذكر (3/ 55) صححه الالباني.
(2) رواه الترمذي وصححه الالباني، كما في صحيح سنن الترمذي (3/ 183).
(3) انظر: صحيح البخاري بشرح العسقلاني (9/ 101، 102).
(4) المصدر السابق نفسه (9/ 102).
(5) انظر: صحيح البخاري بشرح العسقلاني (9/ 102).(3/101)
وقال ابن تيمية - رحمه الله -: (وأمرنا الله تعالى بالاجتماع والائتلاف ونهانا عن التفرق والاختلاف) (1).
والاختلاف المهلك للأمة هو الاختلاف المذموم، وهو الذي يؤدي إلى تفرقها وتشتتها وانعدام التناصر فيما بين المختلفين كل طرف يعتقد ببطلان ماعند الطرف الآخر، وقد يؤول الأمر إلى استباحة قتال بعضهم بعضاً (2).
(وإنما كان الاختلاف علّة لهلاك الأمة كما جاء في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأن الاختلاف المذموم الذي ذكرنا بعض أوصافه يجعل الأمة فرقاً شتى مما يضعف الأمة، لأن قوتها وهي مجتمعة أكبر من قوتها وهي متفرقة، وهذا الضعف العام الذي يصيب الأمة بمجموعها يجرئ العدو عليها فيطمع فيها، ويحتل أرضها ويستولي عليها ويستعبدها ويمسخ شخصيتها وفي ذلك انقراضها وهلاكها (3).
إن من الدروس المهمة في هذه الدراسة التاريخية أن نتوقى الهلاك بتوقي الاختلاف المذموم، لأن الاختلاف كان سبباً من الأسباب في ضياع بلادنا وتسلط الطليان عليها وإن أخطر مانعاني منه الآن الخلاف في صفوف الحركات الإسلامية التي تقوم بواجب الدعوة إلى الله تعالى، وهذا الخلاف قد يؤدي إلى ضعف الحركات العاملة إذا لم تتخذ سبيل الوقاية منه.
يقول الشيخ عبد الكريم زيدان: (والاختلاف كما يضعف الأمة ويهلكها يضعف الجماعة المسلمة التي تنهض بواجب الدعوة إلى الله ثم يهلكها ولهذا كان شر ماتبتلى به الجماعة المسلمة وقوع الاختلاف المذموم فيما بينها بحيث يجعلها فرقاً شتى، بحيث ترى كل فرقة أنها على حق وصواب وأن غيرها على خطأ وضلال، وتعتقد كل فرقة أنها هي التي تعمل لمصلحة الدعوة. وهيهات أن تكون الفرقة والتشتت والاختلاف المذموم في مصلحة الدعوة أو أن مصلحة الدعوة تأتي عن طريق التفرق،
_________
(1) انظر: مجموع الفتاوى (19/ 116).
(2) انظر: السنن الالهية، د. عبد الكريم زيدان، ص139.
(3) المصدر السابق نفسه، ص139.(3/102)
ولكن الشيطان هو الذي يزين الفرقة والتفرق في أعين المتفرقين المختلفين فيجعلهم يعتقدون أن اختلافهم وتفرقهم في مصلحة الدعوة. والاختلاف في الجماعة لايقف تأثيره عند حد إضعاف الجماعة وإنما يضعف تأثيرها في الناس، وتجعل المعرضين ينفثون باطلهم في الناس ويقولون: جماعة سوء تأمر الناس بأحكام الإسلام، والإسلام يدعو إلى الألفة والاجتماع وينهى عن الاختلاف، وهي تخالفه إذ هي متفرقة مختلفة فيما بينها، كل فرقة تعيب الأخرى وتدعي أنها وحدها على الحق. ثم يؤول الأمر إلى انحسار تأثير الجماعة في المجتمع ثم اضمحلالها واندثارها وقيام جماعات جديدة مكانها هي فرق المنفصلين عنها، ووقائع التاريخ البعيد والقريب تؤيد مانقول) (1).
_________
(1) انظر: السنن الالهية، ص140،141.(3/103)
الفصل الثاني
الشيخ الجليل عمر المختار - رحمه الله - نشأته، وأعماله، واستشهاده
المبحث الأول
نشأته وأعماله
أولاً: مولده ونسبه ونشأته وشيوخه
ولد الشيخ الجليل عمر المختار من أبوين صالحين عام 1862م (1) وقيل 1858م، وكان والده مختار بن عمر من قبيلة المنفة من بيت فرحات وكان مولده بالبطنان في الجبل الأخضر، ونشأ وترعرع في بيت عز وكرم، تحيط به شهامة المسلمين وأخلاقهم الرفيعة، وصفاتهم الحميدة التي استمدوها من تعاليم الحركة السنوسية القائمة على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
توفي والده في رحلته إلى مكة لأداء فريضة الحج، فعهد وهو في حالة المرض إلى رفيقه السيد أحمد الغرياني (شقيق شيخ زاوية جنزور الواقعة شرق طبرق) بأن يبلغ شقيقه بأنه عهد إليه بتربية ولديه عمر ومحمد، وتولى الشيخ حسين الغرياني رعايتهما محققاً رغبة والدهما، فأدخلهما مدرسة القرآن الكريم بالزاوية، ثم الحق عمر المختار بالمعهد الجغبوبي لينضم إلى طلبة العلم من أبناء الأخوان والقبائل الأخرى (2).
لقد ذاق عمر المختار - رحمه الله - مرارة اليتم في صغره، فكان هذا من الخير الذي أصاب قلبه الملئ بالإيمان وحب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - حيث التجأ إلى الله القوي العزيز في أموره كلها، وظهر منه نبوغ منذ صباه مما جعل شيوخه يهتمون به في
_________
(1) انظر: عمر المختار نشأته وجهاده، د. ادريس الحريري، ص65.
(2) انظر: عمر المختار للاشهب، ص26.(3/104)
معهد الجغبوب الذي كان منارة للعلم، وملتقى للعلماء، والفقهاء والأدباء والمربين الذين كانوا يشرفون على تربية وتعليم وإعداد المتفوقين من أبناء المسلمين ليعدوهم لحمل رسالة الإسلام الخالدة، ثم يرسلوهم بعد سنين عديدة من العلم والتلقي والتربية إلى مواطن القبائل في ليبيا وافريقيا لتعليم الناس وتربيتهم على مبادئ الإسلام وتعاليمه الرفيعة ومكث في معهد الجغبوب ثمانية أعوام ينهل من العلوم الشرعية المتنوعة كالفقه، والحديث والتفسير ومن أشهر شيوخه الذين تتلمذ على أيديهم، السيد الزروالي المغربي، والسيد الجواني، والعلامة فالح بن محمد بن عبد الله الظاهري المدني وغيرهم كثير، وشهدوا له بالنباهة ورجاحة العقل، ومتانة الخلق، وحب الدعوة، وكان يقوم بما عليه من واجبات عملية أسوة بزملائه الذين يؤدون أعمالاً مماثلة في ساعات معينة إلى جانب طلب العلم وكان مخلصاً في عمله متفانياً في أداء ماعليه ولم يعرف عنه زملاؤه أنه أجل عمل يومه إلى غده وهكذا اشتهر بالجدية والحزم والاستقامة والصبر، ولفتت شمائله أنظار أساتذته وزملائه وهو لم يزل يافعاً، وكان الأساتذة يبلغون الإمام محمد المهدي أخبار الطلبة وأخلاق كل واحد منهم، فأكبر السيد محمد المهدي في عمر المختار صفاته وما يتحلى به من خلال (1)،
وأصبح على إلمام واسع بشئون البيئة التي تحيط به وعلى جانب كبير في الإدراك بأحوال الوسط الذي يعيش فيه وعلى معرفة واسعة بالأحداث القبلية وتاريخ وقائعها وتوسع في معرفة الأنساب والارتباطات التي تصل هذه القبائل بعضها ببعض، وبتقاليدها، وعاداتها، ومواقعها، وتعلم من بيئته التي نشأ فيها وسائل فض الخصومات البدوية ومايتطلبه الموقف من آراء ونظريات، كما أنه أصبح خبير بمسالك الصحراء وبالطرق التي كان يجتازها من برقة إلى مصر والسودان في الخارج وإلى الجغبوب والكفرة من الداخل، وكان يعرف أنواع النباتات وخصائصها على مختلف أنواعها في برقة، وكان على دراية بالأدواء التي تصيب الماشية ببرقة ومعرفة بطرق علاجها نتيجة للتجارب المتوارثة عند البدو وهي اختبارات مكتسبة عن طريق
_________
(1) انظر: عمر المختار للاشهب، ص26 ..(3/105)
التجربة الطويلة، والملاحظة الدقيقة، وكان يعرف سمة كل قبيلة، وهي السمات التي توضع على الإبل والأغنام والأبقار لوضوح ملكيتها لأصحابها، فهذه المعلومات تدل على ذكاء عمر المختار وفطنته منذ شبابه (1).
ثانياً: وصف عمر المختار:
كان عمر المختار متوسط القامة يميل إلى الطول قليلاً، ولم يكن بالبدين الممتلئ أو النحيف الفارغ، أجش الصوت بدوي اللهجة، رصين المنطق، صريح العبارة، لايمل حديثه، متزن في كلامه، تفتر ثناياه أثناء الحديث عن ابتسامة بريئة، أو ضحكة هادئة إذا ما اقتضاها الموقف، كثيف اللحية وقد أرسلها منذ صغره، تبدو عليه صفات الوقار والجدية في العمل، والتعقل في الكلام والثبات عند المبدأ وقد أخذت هذه الصفات تتقدم معه بتقدم السن (2).
ثالثاً: تلاوته للقرآن الكريم وعبادته:
كان عمر المختار شديد الحرص على أداء الصلوات في أوقاتها وكان يقرأ القرآن يومياً، فيختم المصحف الشريف كل سبعة أيام منذ أن قال له الامام محمد المهدي السنوسي ياعمر (وردك القرآن) وقصة ذلك كما ذكرها محمد الطيب الأشهب، أنه استأذن في الدخول على الامام محمد المهدي من حاجبه محمد حسن البسكري في موقع بئر السارة الواقع في الطريق الصحراوي بين الكفرة والسودان وعندما دخل على المهدي تناول مصحفاً كان بجانبه وناوله للمختار وقال: هل لك شيء آخر تريده فقلت له ياسيدي أن الكثيرين من الأخوان يقرأون أوراداً معينة من الأدعية والتضرعات أجزتوهم قراءتها وأنا لا أقرأ إلا الأوراد الخفيفة عقب الصلوات فأطلب منكم اجازتي بما ترون فأجابني - رضي الله عنه - بقوله: (ياعمر وردك القرآن) فقبلت يده وخرجت أحمل هذه الهدية العظيمة (المصحف) ولم أزل بفضل الله احتفظ بها في حلي وترحالي ولم يفارقني مصحف سيدي منذ ذلك اليوم وصرت مداوماً على
_________
(1) انظر: عمر المختار للاشهب، ص27.
(2) المصدر السابق نفسه، ص28.(3/106)
القراءة فيه يومياً لأختم السلكة كل سبعة ايام، وسمعت من شيخنا سيدي احمد الريفي أن بعض كبار الأولياء يداوم على طريقة قراءة القرآن مبتدئاً (بالفاتحة) الى (سورة المائدة) ثم الى (سورة يونس)، ثم الى (سورة الاسراء) ثم الى (سورة الشعراء)، ثم الى (سورة الصافات) ثم الى (سورة ق) ثم الى آخر السلكة ومنذ ذلك الحين وأنا أقرأ القرآن من المصحف الشريف بهذا الترتيب (1).
إن المحافظة على تلاوة القرآن والتعبد به تدل على قوة الايمان، وتعمقه في النفس، وبسبب الايمان العظيم الذي تحلى به عمر المختار انبثق عنه صفات جميلة، كالامانة والشجاعة، والصدق، ومحاربة الظلم، والقهر، والخنوع وقد تحلى هذا الايمان في حرصه على أداء الصلوات في أوقاتها قال تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا} وكان يتعبد المولى عز وجل بتنفيذ أوامره ويسارع في تنفيذها وكان كثير التنفل في أوقات الفراغ، وكان قد ألزم نفسه بسنة الضحى وكان محافظاً على الوضوء حتى في غير أوقات الصلاة، ومما يروى عنه أنه قال: لا أعرف إنني قابلت أحداً من السادة السنوسية وأنا على غير وضوء منذ شرفني الله بالانتساب إليهم (2).
لقد كان هذا العبد الصالح يهتم بزاده الروحي اليومي بتلاوة القرآن الكريم، وقيام الليل واستمر معه هذا الحال حتى استشهاده.
فهذا المجاهد محمود الجهمي الذي حارب تحت قيادة عمر المختار وصاحبه كثيراً، يذكر في مذكراته أنه كان يأكل معه وينام معه في مكان واحد ويقول: (لم أشهد قط أنه نام لغاية الصباح، فكان ينام ساعتين او ثلاثاً على أكثر تقدير، ويبقى صاحياً يتلو القرآن الكريم، وغالباً مايتناول الابريق ويسبغ الوضوء بعد منتصف الليل ويعود الى تلاوة القرآن، لقد كان على خلق عظيم يتميز بميزات التقوى والورع، ويتحلى بصفات المجاهدين الأبرار .... ) (3).
_________
(1) انظر: عمر المختار، ص28،29.
(2) انظر: مذكرات مجاهد، محمود الجهمي، محمد مناع.
(3) المصدر السابق نفسه.(3/107)
وأما الاستاذ محمد الطيب الاشهب فقد قال: (وقد عرفته معرفة طيبة وقد مكنتني هذ المصاحبة من الاحتكاك به مباشرة، فكنت أنام بخيمته والى جانبه وأهم ماكنت امقته منه رحمه الله وأنا وقت ذاك حديث السن هو أنه لايتركنا أن ننام إذ يقضي كل ليلة يتلو القرآن ويقوم مبكراً فيأمرنا بالوضوء بالرغم عما نلاقيه من شدة البرد ومتاعب السفر ... ) (1).
وكأني أراه من خلف السنين وهو قائم يصلي لله رب العالمين في وديان وجبال وكهوف الجبل الأخضر وقد التف بجرده الابيض في ظلمة الليل البهيم وهو يتلو كتاب الله بصوت حزين، وتنحدر الدموع على خدوده من خشية العزيز الرحيم.
قال تعالى: {إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور} (سورة فاطر، الآية ... ).
لقد وصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابا ذر بذلك فقال: (عليك بتلاوة القرآن فإنه نور لك في الأرض وذخر لك في السماء) وقد حذر الرسول الكريم من هجر القرآن فقال: (إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخَرِبْ) (2).
قال الشاعر:
قم في الدجى واتل الكتاب
ولا تنم إلا كنومة حائر ولهان
فلربما تأتي المنية بغتة
فتساق من فرش الى الاكفان
ياحبذا عينان في غسق الدجى
من خشية الرحمن باكيتان
اعرض عن الدنيا الدنيئة زاهداً
فالزهد عند أولى النهى زهدان
زهد عن الدنيا وزهد في الثناء
طوبى لمن أمسى له الزهدان (3)
إن من اسباب الثبات التي تميز به عمر المختار حتى اللحظات الأخيرة من حياته
_________
(1) انظر: برقة العربية، ص439.
(2) رواه البخاري.
(3) انظر: نونسية القحطاني، ص42.(3/108)
إدمانه على تلاوة القرآن الكريم والتعبد به وتنفيذ أحكامه، لأن القرآن الكريم مصدر تثبيت وهداية وذلك لما فيه من قصص الأنبياء مع أقوامهم، ولما فيه من ذكر مآل الصالحين، ومصير الكافرين والجاحدين وأوليائه بأساليب متعددة (1).
لقد كان عمر المختار يتلوا القرآن الكريم بتدبر وإيمان عظيم فرزقه الله الثبات وهداه طريق الرشاد ولقد صاحبه حاله في التلاوة حتى النفس الأخير، وهو يساق الى حبل المشنقة وهو يتلو قوله تعالى: {يا أيتها النفس المطمئة ارجعي الى ربك راضية مرضية} (2) (سورة الفجر).
رابعاً: شجاعته وكرمه:
إن هذه الصفة الجميلة تظهر في سيرة عمر المختار منذ شبابه الباكر ففي عام 1311هـ (1894م) تقرر سفر عمر المختار على رأس وفد الى السودان يضم كل من السيد خالد بن موسى، والسيد محمد المسالوسي، وقرجيله المجبري وخليفة الدبار الزوي احد اعضاء زاوية واو بفزان (وهو الذي روى القصة) وفي الكفرة وجد الوفد قافلة من التجار من قبيلتي الزوية والمجابرة، وتجار آخرين من طرابلس وبنغازي تتأهب للسفر الى السودان، فانضم الوفد الى هؤلاء التجار الذين تعودوا السير في الطرق الصحراوية، ولهم خبرة جيدة بدروبها وعندما وصل المسافرون الى قلب الصحراء بالقرب من السودان قال بعض التجار الذين تعودوا المرور من هذا الطريق إننا سنمر بعد وقت قصير بطريق وعر لا مسلك لنا غيره ومن العادة - إلا في القليل النادر- يوجد فيه أسد ينتظر فريسته من القوافل التي تمر من هناك، وتعودت القوافل أن تترك له بعيراً كما يترك الانسان قطعة اللحم الى الكلاب أو القطط، وتمر القوافل بسلام واقترح المتحدث أن يشترك الجميع في ثمن بعير هزيل ويتركونه للاسد عند خروجه، فرفض عمر المختار بشدة قائلاً: (إن الاتاوات التي كان يفرضها القوي منا على الضعيف بدون حق أبطلت فكيف يصح لنا أن نعيد اعطاءها للحيوان إنها علامة
_________
(1) انظر: الثبات، د. محمد بن حسن عقيل، ص12.
(2) انظر: عمر المختار للاشهب، ص159.(3/109)
الهوان والمذلة.
إننا سندفع الاسد بسلاحنا اذا ما اعترض طريقنا) وقد حاول بعض المسافرين أن يثنيه عن عزمه، فرد عليهم قائلاً: أنني أخجل عندما أعود وأقول أنني تركت بعيراً الى حيوان اعترض طريقي وأنا على استعداد لحماية ما معي وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته إنها عادة سيئة يجب أن نبطلها، وما كادت القافلة تدنو من الممر الضيق حتى خرج الاسد من مكانه الذي اتخذه على احدى شرفات الممر فقال أحد التجار وقد خاف من هول المنظر وارتعشت فرائصه من ذلك: أنا مستعد أتنازل عن بعير من بعائري ولا تحاولوا مشاكسة الأسد، فانبرى عمر المختار ببندقيته وكانت من النوع اليوناني ورمى الاسد بالرصاصة الاولى فأصابته ولكن في غير مقتل واندفع الاسد يتهادى نحو القافلة فرماه بأخرى فصرعته، وأصر عمر المختار على أن يسلخ جلده ليراه أصحاب القوافل فكان له ما أرد (1).
إن هذه الحادثة تدلنا على شجاعة عمر المختار وقد تناولتها المجالس يومذاك بمنتهى الاعجاب وقد سأل الاستاذ محمد الطيب الاشهب عمر المختار نفسه عن هذه الحادثة في معسكر المغاربة بخيمة السيد محمد الفائدي عن هذه الواقعة فأجاب بقوله: تريدني ياولدي أن أفتخر بقتل صيد قال لي ما قاله قديماً أحد الأعراب لمنافسه وقد قتل أسداً (أتفتخر عليّ بانك قتلت حشرة) وامتنع عمر المختار بقول الله تعالى: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} (سورة الانفال).
إن جواب عمر المختار بهذه الآية الكريمة يدل على تأثره العميق بالقرآن الكريم، لأنه تعلم أن أهل الايمان والتوحيد في نظرتهم العميقة لحقيقة الوجود، وتطلعهم الى الآخرة ينسبون الفضل الى العزيز الوهاب سبحانه وتعالى، ويتخلصون من حظوظ نفوسهم، فهو الذي مرّ كثيراً على دعاء نبي الله يوسف عليه السلام: {رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والارض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً والحقني بالصالحين} (سورة يوسف: الآية 101).
وهو الذي تعلم من سيرة ذي القرنين هذا المعنى الرفيع والذي لابد من وجوده
_________
(1) انظر: عمر المختار للاشهب، ص39،40.(3/110)
في الشخصية القيادية الربانية في قوله تعالى: {هذا رحمة من ربي .... } (سورة الكهف، الآية 98)، فعندما بنى السد، ورفع الظلم، واعان المستضعفين نسب الفضل الى ربه سبحانه وتعالى.
إن عمر المختاركان صاحب قلب موصول بالله تعالى، فلم تسكره نشوة النصر، وحلاة الغلبة بعد ما تخلص من الاسد الاسطورة وازاح الظلم وقهر التعدي بل نسب الفضل الى خالقه ولذلك أجاب سائله بقوله تعالى: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} (سورة الانفال، الآية 17).
إن صفة الشجاعة ظهرت في شخصية عمر المختار المتميزة في جهاده في تشاد ضد فرنسا، وفي ليبيا ضد ايطاليا ويحفظ لنا التاريخ هذه الرسالة التي ارسلها عمر المختار رداً على رسالة من الشارف الغرياني الذي أكرهته ايطاليا ليتوسط لها في الصلح مع عمر المختار وايقاف الحرب.
(قال بعد البسملة والتصلية على رسول الله القائل أن الجنة تحت ظلال السيوف.
الى أخينا سيدي الشارف بن أحمد الغرياني حفظه الله وهداه، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته ومغفرته ومرضاته. نعلمكم أن إيطاليا إذا أرادت أن تبحث معنا في أي موضوع تعتقد أنه يهمها ويهمنا فما عليها إلا أن تتصل بصاحب الأمر ومولاه سيدي السيد محمد إدريس ابن السيد محمد المهدي ابن السيد محمد السنوسي رضي الله عنهم جميعاً، فهو الذي يستطيع قبول البحث معهم أو رفضه، وأنتم لا تجهلون هذا بل وتعرفون إذا شئتم أكثر من هذا ومكان سيدي إدريس في مصر معروف عندكم وأما أنا وبقية الاخوان المجاهدين لا نزيد عن كوننا جند من جنوده لانعصي له أمراً ونرجو من الله سبحانه وتعالى أن لايقدر علينا مخالفته فنقع فيما لانريد الوقوع فيه حفظنا الله وإياكم من الزلل نحن لا حاجة عندنا إلا مقاتلة أعداء الله والوطن وأعدائنا وليس لنا من الامر شيء إذا ما أمرنا سيدنا وولى نعمتنا رضي الله عنه ونفعنا به بوقف القتال نوقفه وإذا لم يأمرنا بذلك فنحن واقفون عند ما أمرنا به ولا نخاف طيارات العدو ومدافعه ودباباته وجنوده من الطليان والحبش والسبايس المكسرين(3/111)
(هؤلاء الآخرين هم المجندون من بعض الليبيين) ولا نخاف حتى من السم الذي وضعوه في الآبار وبخوا به الزروع النابتة في الأرض نحن من جنود الله وجنوده هم الغالبون ونحن لا نريد لكم مايدفعكم إليه النصارى وظننا بكم خير والله يوفقنا ويهدينا وإياكم الى سبل الرشاد وإلى خدمة المسلمين ورضاء سيدنا رضي الله عنه وسلام الاسلام على من تبع الاسلام.
13 ربيع الثاني 1344هـ
نائب المنطقة الجبلية عمر المختار (1)
ومحل الشاهد من هذه الرسالة قوله: (ولا نخاف طيارات العدو ومدافعه ودباباته وجنوده من الطليان والحبش والسبايس، ولا نخاف حتى من السم الذي وضعوه في الآبار ووضعوه على الزروع النابتة في الأرض نحن من جنود الله وجنوده هم الغالبون).
إن صفة الشجاعة ملازمة لصفة الكرم، كما أن الجبن والبخل لا يفترقان ولقد حفظ لنا التاريخ عبارة جميلة كان يرددها عمر المختار بين ضيوفه: (اننا لا نبخل بالموجود ولا نأسف لمفقود).
لقد تضافرت نصوص الكتاب والسنة بمدح الكرم والانفاق وذم البخل والامساك، قال تعالى: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون} (سورة السجدة، آية 16).
لم تكن همة عمر المختار منصرفة الى جمع المال والثروة والغنى وإن كان قد ورث عن والده بعض الماشية إلا أنه تركها في رعاية بعض أقاربه في القبيلة وترك أرضه وموطنه منذ أن كان عمره 16 عاماً، وكان طيلة فترة إقامته في معهد الجغبوب
_________
(1) انظر: عمر المختار للاشهب، ص87.(3/112)
تتكفل إدارة المعهد بمصروفاته وبعد أن تزوج وكوّن أسرة أصبح مورد رزقه مايتحصل عليه من نتاج الحيوانات القليلة ولم يكن يوماً من الأيام متفرغاً لجمع المال، وإنما عاش للعلم والدعوة والجهاد، وانشغل عن جمع الاموال والثروات وقضى حياته فقيراً مقتنعاً بما رزقه الله من القناعة والرضى بالكفاف وكان يبذل مافي وسعة لضيوفه وجنوده وينفق على أفراد جيشه ما لايخشى الفقر، ويقدم إخوانه على نفسه وأصبح شعاره (إننا لا نبخل بالموجود ولا نأسف لمفقود) (1).
خامساً: الدعوة والجهاد قبل الاحتلال الايطالي:
تفوق عمر المختار على اقرانه بصفات عدة منها، متانة الخلق، ورجاحة العقل، وحب الدعوة، ووصل أمره الى الزعيم الثاني للحركة السنوسية محمد المهدي السنوسي فقدمه على غيره واصطحبه معه في رحلته الشهيرة من الجغبوب الى الكفرة عام 1895م وفي عام 1897م أصدر محمد المهدي قراراً بتعيين عمر المختار شيخاً لزاوية القصور بالجبل الأخضر قرب المرج، وقام عمر المختار بأعباء المهمة خير قيام، فعلمّ الناس أمور دينهم، وساهم في فض النزعات بين القبائل وعمل على جمع كلمتهم وسعى في مصالحهم، وسار في الناس سيرة حميدة، فظهر في شخصيته أخلاق الدعاة من حلم وتأني، وصبر، ورفق، وعلم، وزهد.
ومما تجدر الاشارة إليه أن وقوع الاختيار عليه للقيام بأمور هذه الزاوية كان مقصوداً من قبل قيادة الحركة السنوسية حيث أن هذه الزاوية كانت في ارض قبيلة العبيد التي عرفت بقوة الشكيمة، وشدة المراس، فوفقه الله في سياسة هذه القبيلة، ونجح في قيادتها بفضل الله وبما أودع الله فيه من صفات قيادية من حكمة وعلم وحلم وصبر واخلاص.
إن الفترة التي قضاها في زاوية القصور تدلنا وتشهد لنا على أعماله الجليلة؛ كداعية رباني يدعو الى الاسلام ونشره بالفكرة والاقناع والارشاد التوجيه، فهو قمة
_________
(1) انظر: عمر المختار، ص32.(3/113)
شامخة في هذا المجال، فهو لم يدخل مجال الدعوة والارشاد إلا بعد أن تعلم من أمور دينه الكثير، فشق طريق الدعوة بزاد علمي، وثقافة متميزة، وتفوق روحي، ورجاحة عقل، وقوة حجة ورحابة صدر، وسماحة نفس لقد كان حريصاً على تعلم العلم والعمل به وتعليمه وعندما زحف الاستعمار الفرنسي على مراكز الحركة السنوسية في تشاد، نظمت الحركة السنوسية نفسها وأعدت للجهاد عدتها، واختارت من القادة من هم أولى بهذا العمل الجليل، فكان عمر المختار من ضمنهم فقارع الاستعمار الفرنسي مع كتائب الحركة السنوسية المجاهدة في تشاد وبذل مافي وسعه حتى لفت الانظار الى حزمه وعزمه وفراسته وبعد نظره وحسن قيادته فقال عنه محمد المهدي السنوسي: (لو كان لدينا عشرة مثل المختار لاكتفينا) (1).
وبقي عمر المختار في تشاد يعمل على نشر الاسلام ودعوة الناس وتربيتهم الى جانب جهاده ضد فرنسا، فحمل الكتاب الذي يهدي بيد والسيف الذي يحمي باليد الاخرى، وظهرت منه شجاعة وبطولة وبسالة نادرة في الدفاع عن ديار المسلمين، وكانت المناطق التي يتولى أمرها أمنع من عرين الاسد، ولا يخفى مافي ذلك من ادراك القيادي المسلم لواجبه تجاه دينه وعقيدته وأمته (2).
وعندما أصيبت الأبل التي كانت تحمل الاثقال للمجاهدين بمرض الجرب، وكان عددها لا يقل عن أربعة آلاف بعير وكانت تلك الابل هي قوام الحياة بالنسبة للمجاهدين واهتم السيد المهدي السنوسي بشأن علاجها ووقع اختياره على عمر المختار ليكون المسؤول عن هذه المهمة التي شغلت بال المجاهدين، فأمره بأن يذهب بالابل الى موقع (عين كلك) نظراً لوفرة مائه ولصلاحيته، وكان على عمر المختار مهمة اخرى وهي الاحتياط والحرص الشديد واتخاذ التدابير اللازمة للدفاع، واختار عمر المختار من المجاهدين مجموعة خيرة، وذهب لتنفيذ أمر القيادة وكان توفيق الله له عظيماً في مهمته العسيرة فنال أعجاب السيد المهدي (3).
_________
(1) انظر: مجلة المسلم.
(2) انظر: عمر المختار للأشهب، ص27.
(3) انظر: عمر المختار، ص37.(3/114)
وفي عام 1906م رجع عمر المختار بأمر من القيادة السنوسية الى الجبل الاخضر ليستأنف عمله في زاوية القصور، ولكن ذلك لم يستمر طويلاً، فقد بدأت المعارك الضارية بين الحركة السنوسية والبريطانيين في منطقة البردى ومساعد والسلوم على الحدود الليبية المصرية. ولقد شهد عام 1908م أشد المعارك ضراوة وانتهت بضم السلوم الى الأراضي المصرية تحت ضغوط بريطانيا على الدولة العثمانية، وعاد الشيخ عمر المختار الى زاوية القصور وبرزت شخصيته بين زملائه مشايخ الزوايا، وبين شيوخ وأعيان القبائل، ولدى الدوائر الحكومية العثمانية، وظهرت مقدرته في مهمته الجديدة بصورة تلفت النظر، وأصبح متميزاً في حزمه في ادارة الزاوية وفي تعاونه مع زملائه الآخرين وفي معالجته للمشاكل القبلية، وفي ميدان الاصلاح العام مضرباً للامثال.
وكانت تربطه صلات شخصية مع عدد كبير من زعماء، وأعيان القبائل في برقة، وكذلك زعماء المدن، وكان زعماء البراعصة يحبون عمر المختار حباً نابعاً من قلوبهم في حين أنهم لم يكونوا من القبائل التابعة لزاويته، وارتبطت علاقاته الأخوية مع شيوخ الزوايا كالسادة السنوسي الأشهب شيخ زاوية مسوس، وعمران السكوري شيخ زاوية المرج، وعبد ربه بوشناف الشيخي، والحسن الغماري شيخ زاوية دريانه (1).
سادساً: الشيخ عمر المختار في معاركه الأولى ضد إيطاليا:
عندما اندلعت الحرب الليبية الايطالية عام 1911م كان عمر المختار وقتها بواحة (جالو) خفّ مسرعاً الى زاوية (القصور) وامر بتجنيد كل من كان صالحا ًللجهاد من قبيلة العبيد التابعة لزواية (القصور)، فاستجابوا نداءه، واحضروا لوازمهم، وحضر أكثر من ألف مقاتل، وكان عيد الاضحى من نفس السنة الهجرية على الأبواب أي لم يبق عنه إلا ثلاثة أيام فقط، ولم ينتظر السيد عمر المختار عند أهله حتى يشاركهم فرحة العيد، فتحرك بجنوده وقضوا يوم العيد في الطريق وكانت الذبائح التي اكل المجاهدين من لحومها يوم العيد من السيد عمر المختار شخصياً، ووصل المجاهدون
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص40،41.(3/115)
وعلى راسهم عمر المختار وبرفقته احمد العيساوي الى موقع بنينه حيث معسكر المجاهدين الذي فرح بقدوم نجدة عمر المختار ورفقائه ثم شرعوا يهاجمون العدو ليلاً ونهاراً وكانت غنائمهم من العدو تفوق الحصر (1) وقد بينت دور الزوايا في جهادها ضد ايطاليا في الجزء الثاني عن الحركة السنوسية والذي سميته سيرة الزعمين محمد المهدي السنوسي، وأحمد الشريف.
ويذكر الشيخ محمد الأخضر العيساوي بأنه كان قريباً من عمر المختار في معركة السلاوي عام 1911م فوصف لنا بعض احداث تلك المعركة فقال: ( .. وقد فاجأنا العدو فقابله من المجاهدين الخيالة، بينما كان العدو يضربنا بمدافعه الرشاشة واضطررنا للنزول في مكان منخفض مزروعاً بالشعير وكانت السنابل تتطاير بفعل الرصاص المنهمر، فكأنها تحصد بالمناجل، وبينما نحن كذلك إذ رأينا مكاناً منخفضاً أكثر من المكان الذي نحن فيه، وأردنا أن يأوى إليه السيد عمر المختار بسبب خوفنا عليه فرفض بشدة حتى جاءه احد أتباعه يدعى السيد الأمين ودفعه بقوة الى المكان الذي اخترناه لايوائه وحاول الخروج منه فمنعناه بصورة جماعية ...... ) (2).
كما أشار الشيخ محمد الأخضر الى إعجاب الضباط الأتراك به وبشجاعته وبالآراء السديدة التي تصدر عنه فكأنما هي تصدر من قائد ممتاز تخرج عن كلية عسكرية، وكان قدومه الى معسكرات المجاهدين مشجعاً وباعثاً للروح المعنوية في قوة خارقة وقد تحدثت في سيرة احمد الشريف في الجزء الثاني عن الحركة السنوسية عن حركة الجهاد في أيامها الأولى ضد ايطاليا، وكان عمر المختار من المقربين للشيخ احمد الشريف السنوسي، وبعد هجرته لازم عمر المختار الأمير محمد ادريس وقام بواجباته خير قيام وبعد هجرة الأمير الى مصر تولى أمر القيادة العسكرية بالجبل الاخضر، وأخذ في تهيئة النفوس لمجابهة العدو وبدأ جولاته في أنحاء المنطقة للاتصال بالاهالي وزعمائهم، بل وبالأفراد كخطوة اولى للعمل الجديد الشاق في
_________
(1) انظر: عمر المختار للاشهب، ص6.
(2) انظر: عمر المختار للاشهب، ص6.(3/116)
نفس الوقت، وقام بفتح باب التطوع للجهاد، فأقبل الليبيين من ابناء قبائل الجبل بوجوه مستبشرة وقلوب مطمئنة وتلهف على مجابهة العدو الغادر، وكانت ترافقه لجنة مكونة من أعيان وشيوخ قبائل المنطقة (البراغيث، والحرابي، والمرابطين) لمساعدته في عمله العظيم وكان من بينهم؛ بوشديق بومازق حدوث، الصيفاط بوفروة، محمد بولقاسم جلغاف، حمد الصغير حدوث، دلاف بوعبد الله، محمد العلواني، سويكر عبد الجليل، موسى بوغيضان، الغرياني عبدربه بوشناف، عبد الله الخرساني، عوض العبيدي، رجب بوسيحة، رواق بودرمان، كريم بوراقي، قطيط الحاسي، وغير هؤلاء من علية القوم، فزار أغلب منطق الجبل والبطنان، وكان سمو الأمير قد وصل الى مصر (يناير 1923م) وما كاد السيد عمر ينتهي من جولته هذه ويطمئن للنتائج حتى قرر الالتحاق بسمو الامير في مصر ليعرض عليه نتيجة عمله ويتلقى منه التوجيهات اللازمة (1).
سابعاً: سفره الى مصر:
سافر في شهر مارس سنة 1923م الى مصر بصحبة علي باشا العبيدي وترك رفقائه عند بئر الغبي حتى يعود إليهم، واستطاع اجتياز الحدود المصرية وتمكن من مقابلة السيد ادريس بمصر الجديدة، وكان عمر المختار عظيم الولاء للسنوسية وزعمائها وشيوخها وظهر ذلك الولاء في إقامته بمصر عندما حاول جماعة من قبيلة المنفة وهي قبيلة السيد عمر المختار، وكانوا قد اقاموا بمصر، أن يقابلوا السيد عمر للترحيب به، فاستفسر المختار قبل ان يأذن لهم بذلك عما أذا كانوا قد سعوا لمقابلة الأمير عند حضوره الى مصر، فلما أجاب هؤلاء بالنفي معتذرين بأن أسباباً عائلية قهرية منعتهم من تأدية هذا الواجب رفض المختار مقابلتهم قائلاً: (وكيف تظهرون لي العناية وتحضرون لمقابلتي وأنتم الذين تركتم شيخي الذي هو ولي نعمتي وسبب خيري. أما وقد فعلتم ذلك فإني لا أسمح لكم بمقابلتي ولا علاقة من الآن بيني وبينكم) (2).
_________
(1) انظر: عمر المختار للاشهب، ص56.
(2) انظر: عمر المختار للاشهب، ص8.(3/117)
فما إن بلغ السيد ادريس مافعله عمر المختار مع من جاء إليه من أبناء قبيلته حتى أصدر امره بمقابلتهم فامتثل المختار لامره (1).
حاولت ايطاليا بواسطة عملائها بمصر الاتصال بالسيد عمر المختار وعرضت عليه بأنها سوف تقدم له مساعدة إذا ماتعهد باتخاذ سكنه في مدينة بنغازي أو المرج، وملازمة بيته تحت رعاية وعطف ايطاليا، وأن حكومة روما مستعدة بأن تجعل من عمر المختار الشخصية الاولى في ليبيا كلها وتتلاشى أمامه جميع الشخصيات الكبيرة التي تتمتع بمكانتها عند ايطاليا في طرابلس وبنغازي، وإذا ما اراد البقاء في مصر فما عليه إلا أن يتعهد بأن يكون لاجئاً ويقطع علاقته بادريس السنوسي، وفي هذه الحالة تتعهد حكومة روما بان توفر له راتباً ضخماً يمكنهّ من حياة رغدة، وهي على استعداد أن يكون الاتفاق بصورة سرية وتوفير الضمانات لعمر المختار ويتم كل شيء بدون ضجيج تطميناً لعمر المختار وقد طلبت منه نصح الاهالي بالاقلاع عن فكرة القيام في وجه ايطاليا (2)، وقد أكد عمر المختار هذا الاتصال وهو في مصر لما سئل عن ذلك وقال: ثقوا أنني لم أكن لقمة طائبة يسهل بلعها على من يريد، ومهما حاول أحد أن يغير من عقيدتي ورأي واتجاهي، فإن الله سيخيبه، ومن (طياح سعد) إيطاليا ورسلها هو جهلها بالحقيقة. وأنا لم اكن من الجاهلين والموتورين فادعي أنني أقدر أعمل شيئاً في برقة، ولست من المغرورين الذين يركبون رؤسهم ويدعون أنهم يستطيعون أن ينصحوا الأهالي بالاستسلام، انني أعيذ نفسي من أن أكون في يوم من الايام مطية للعدو وأذنابه فأدعوا الأهالي بعدم الحرب ضد الطليان، وإذا لاسمح الله قدّر عليّ بأن أكون موتوراً فإن اهل برقة لايطيعون لي امراً يتعلق بإلقاء السلاح إنني أعرف أن قيمتي في بلادي إذا ماكانت لي قيمة أنا وأمثالي فأنها مستمدة من السنوسية (3).
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص271.
(2) انظر: عمر المختار، ص56.
(3) انظر: عمر المختار، ص58.(3/118)
لقد استمرت عروض الايطاليين على عمر المختار حتى بعد رجوعه للبلاد وحاولوا استمالته بالمال الطائل، والمناصب الرفيعة، والجاه العريض في ظل حياة رغيدة ناعمة ولكنهم لم يفلحوا، لقد كان عمر المختار رجل عقيدة، وصاحب دعوة ومؤمناً بفكرة استمدت اصولها وتصوراتها من كتاب الله تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ويفهم جيداً معنى قول الله تعالى: {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها مانشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً} (الاسراء، الآية).
وعندما خرج السيد عمر المختار من مصر قاصداً برقة لمواصلة الجهاد اجتمع به مشايخ قبيلته الموجودون بمصر من المتقدمين في السن وحاولوا أن يثنوه عن عزمه بدعوى أنه قد بلغ من الكبر عتيا وان الراحة والهدوء ألزم له من أي شيء آخر وأن باستطاعة السنوسية أن تجد قائداً غيره لتزعم حركة الجهاد في برقة، فغضب عمر المختار غضباً شديداً وكان جوابه قاطعاً فاصلاً فقال لمحدثيه: (إن كل من يقول لي هذا الكلام لا يريد خيراً لي لأن ما أسير فيه إنما هو طريق خير ولا ينبغي لأحد أن ينهاني عن سلوكها، وكل من يحاول ذلك فهو عدو لي) (1).
لقد كان عمر المختار يعتقد اعتقاداً راسخاً أن ماكان يقوم به من الجهاد إنما هو فرض يؤديه وواجب ديني لامناص منه ولا محيد عنه ولذلك أخلص في عمله وسكناته واحواله وأقواله لقضية الجهاد في ليبيا وكان يكثر من الدعاء لله تعالى بأن يجعل موته في سبيل هذه القضية المباركة، فكان يقول: (اللهم اجعل موتي في سبيل هذه القضية المباركة) (2)، وأصر على البقاء في أرض الوطن الحبيب وقال: (لا أغادر هذا الوطن حتى ألاقي وجه ربي والموت أقرب الى من كل شيء فإني أترقبه بالدقيقة) (3).
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص271.
(2) انظر: عمر المختار نشأته وجهاده للحساوي، ص36.
(3) المصدر السابق نفسه، ص37.(3/119)
وعندما عرض عليه أن يترك ساحة الجهاد، ويسافر الى الحج قال: (لن أذهب ولن أبرح هذه البقعة حتى يأتي رسل ربي وان ثواب الحج لايفوق ثواب دفاعنا عن الوطن والدين والعقيدة) (1).
وقال: (كل مسلم الجهاد واجب عليه وليس منه، وليس لغرض اشخاص وإنما هو لله وحده) (2).
إن هذه الكلمات التي كتبت بماء الذهب على صفحات تاريخنا المجيد نابعة من فهم عمر المختار لقوله تعالى: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لايستوون عند الله والله لايهدي القوم الظالمين - الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله باموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم - خالدين فيها أبداً إن الله عنده أجر عظيم} (سورة التوبة، الآيات 29، 20،21).
ومن فهمه لأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) (3).
ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد) (4).
إن هذه الآيات الكريمة والاحاديث الشريفة، كانت المنهج العقدي والفكري الذي تربت عليها كتائب المجاهدين وقادتها الكرام الذين تربوا في احضان الحركة السنوسية.
تم الاتفاق بين الأمير ادريس وعمر المختار على تفاصيل الخطة التي يجب أن يتبعها المجاهدون في جهادهم ضد العدو الغاشم المعتدي على اساس تشكيل المعسكرات، واختيار
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص37.
(2) المصدر السابق نفسه، ص37.
(3) رواه مسلم.
(4) انظر: صحيح سنن ابي داود للألباني.(3/120)
القيادة الصالحة لهذه الادوار، وأن تظل القيادة العليا من نصيب عمر المختار نفسه وزوده الأمير بكتاب الى السيد الرضا بهذا المعنى وتم الاتفاق على بقاء الامير في مصر ليقود العمل السياسي، ويهتم بأمر المهاجرين ويضغط على الحكومة المصرية والانكليزية بالسماح للمجاهدين بالالتجاء الى مصر، ويشرف على إمداد المجاهدين بكل المساعدات الممكنة من مصر، ويرسل الارشادات والتعليمات اللازمة الى عمر المختار في الجبل واتفق على أن يكون الحاج التواتي البرعصي حلقة الوصل بين الأمير وقائد الجهاد، وبعد ذلك الاتفاق غادر عمر المختار القاهرة، وعند وصوله الى السلوم وجد بعض رفقائه في انتظاره، فأخذ الجميع حاجتهم من المؤن الكافية لرحلتهم الى الجبل الأخضر وغادروا السلوم الى برقة (1).
وقد حدث في أثناء وجود عمر المختار أن اشتبك المجاهدون مع الطليان في معركتين كبيرتين في بير بلال والبريقة في ذي القعدة 1341هـ/ 1923م، فأنتصر المجاهدون على الطليان في معركة بير بلال بقيادة المجاهد قجة عبد الله السوداني واستشهد كل من المهدي الحرنة، والشيخ نصر الأعمى وغيرهم، وقد ساهم في هذه المعركة صالح الاطيوش، والفضيل المهشهش وكانت نفقات المجاهدين في هذه المعركة على حساب الفضيل المهشهش ووقعة معركة البريقة بعد بير بلال بأربعة أيام واستشهد فيها من أبطال الجهاد ابراهيم الفيل (2).
ومع هذه الانتصارات إلا أن الطليان استطاعوا احتلال اماكن للمجاهدين في برقة، وزحفوا على معسكر العواقير بموقع البدين وبعد معركة شديدة كبدت الطرفين خسائر فادحة انسحب المعسكر الى اجدابية واستمر الزحف الايطالي يلاحق المجاهدين حتى اشتبك مع طلائع معسكر المغاربة في الزويتينه؛ ولم يطل الدفاع عنها حتى احتلها الطليان وواصلوا زحفهم الى اجدابية حيث احتلوها في (ابريل 1923م) (3).
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص273.
(2) المصدر السابق نفسه، ص273،274.
(3) انظر: عمر المختار للأشهب، ص63.(3/121)
ثامناً: معركة بئر الغبي:
كانت عيون ايطاليا تترصد حركة عمر المختار في عودته الى برقة ولكنها فشلت في اللقاء به قبل أن يصل الى رفاقه وما كاد يصل الى بئر الغبي حتى فؤجئ بعدد من المصفحات الايطالية وإليك أحداث المعركة كما رواها عمر المختار بنفسه: (كنا لانتجاوز الخمسين شخصاً من المشايخ والعساكر وبينما تجمع هؤلاء حولنا لسؤالنا عن صحة سمو الامير، وكنا صائمين رمضان وإذا بسبعة سيارات ايطالية قادمة صوبنا فشعرنا بالقلق لأن مجيئها كان محل استغرابنا ومفاجأة لم نتوقعها، وكنا لم نسمع عن هجوم الطليان على المعسكرات السنوسية، واحتلالهم اجدابية، فأخذنا نستعد في هدوء والسيارات تدنوا منا في سير بطيء فأراد علي باشا العبيدي أن يطلق الرصاص من بندقيته ولكنني منعته قائلاً: لابد أن نتحقق قبلاً من الغرض ونعرف شيئاً عن مجيء هذه السيارات كي لانكون البادئين بمثل هذه الحوادث وبينما نحن في أخذ ورد وإذا بالسيارات تفترق في خطة منظمة المراد منها تطويقنا، وشاهدنا المدافع الرشاشة مصوبة نحونا فلم يبق هنا أي شك فيما يراد بنا فأمطرناهم وابلاً من رصاص بنادقنا، وإذا بالسيارات قد ولت الادبار الى منتجع قريب منا وعادت بسرعة تحمل صوفا، ولما دنت منا توزعت توزيعاً محكماً وأخذ الجنود ينزلون ويضعون الأصواف (الخام) أمامهم ليتحصنوا بها من رصاصنا (1) وبادرنا بطلق الأعيرة فأخذ علي باشا يولع سيجارة وقلت له رمضان ياعلي باشا منبهاً إياه للصوم فأجابني قائلاً: (مو يوم صيام المنشرزام) (2).
وفي أسرع مدة انجلت المعركة عن خسارة الطليان وأخذت النار تلتهم السيارات إلا واحدة فرت راجعة، وغنمنا جميع ماكان معهم من الأسلحة) (3).
ثم استمر المجاهدون في سيرهم حتى بلغوا الجبل الاخضر ووصلوا الى زاوية
_________
(1) كان الصوف الخام الكثيف يستعمل ضد الرصاص.
(2) هذا المثل باللهجة البدوية ومعناه لم يكن اليوم من ايام الصيام حيث أن صوت البنادق آخذ يدوي وكلمة المنشر هي اسم لنوع من البنادق وكلمة زام دوى من الأدوية.
(3) انظر: عمر المختار، ص64.(3/122)
القطوفية (مكان معسكر المغاربة) وقابلهم صالح الاطيوش والفضيل المهشهش، ووقف عمر المختار على تفاصيل معركة البريقة وحال المجاهدين ثم واصل سيره الى جالو مقر السيد محمد الرضا ليبلغ التعليمات التي أخذها من سمو الامير.
وبعد أن تم اللقاء بين عمر المختار والسيد الرضا اتفقا على تنظيم حركة الجهاد وإنشاء المعسكرات في الجبل الاخضر واقترح عمر المختار على الرضا أن يرسل ابنه الصديق الى معسكر المغاربة عند صالح الاطيوش ومعسكر العواقير بقيادة قجة عبد الله السوداني، وهي معسكرات قريبة من بعضها ثم غادر عمر جالو الى الجبل الاخضر وشرع في تشكيل المعسكرات للمجاهدين، وأنشئت معسكرات البراعصة والعبيد والحاسة، فاختار الرضا حسين الجويفي البرعصي لقيادة البراعصة، ويوسف بورحيل المسماري لمعسكر البراغيث والفضيل بوعمر لمعسكر الحاسة وأصبح عمر المختار القائد الأعلى لتلك المعسكرات.
وبدأ الجهاد الشاق والطويل واستمر متصلاً ومن غير هوداة حوالي ثمانية اعوام.
وكانت عامي 1924م، 1925م قد شاهدت مناوشات عدة ومعارك دامية، ووسع المجاهدون نشاطهم العسكري في الجبل الاخضر ولمع اسم عمر المختار نجمه كقائد بارع يتقن اساليب الكر والفر ويتمتع بنفوذ عظيم بين القبائل وأخذ العرب من أبناء القبائل ينضمون الى صفوف المجاهدين وبادرت القبائل بإمداد المجاهدين بما يحتاجون من مؤن وعتاد وأسلحة، وكان لقبائل العبيد، والبراعصة، والحاسة والدرسة والعواقير وأولاد الشيخ والعوامة، والشهيبات والمنفا والمسامير أكبر نصيب في حركة الجهاد.
كان معسكر البراغيث هو مركز الرياسة العامة ومقر القائد العام عمر المختار: وهو النواة الاولى وحجر الاساس لمعسكرات الجبل الاخضر الثلاثة وكان عمر المختار يلقب بنائب الوكيل العام، وكان السيد يوسف بورحيل يعرف بوكيل النائب وهكذا فقد تنظم الجهاز الحكومي في هذه المنطقة الواسعة بتشكيل المحاكم الشرعية والصلحية وإدارة المالية (المحاسبة، والارزاق وجباية الزكاة الشرعية والخمس من(3/123)
الغنائم) واستمر التعاون بين هذه المعسكرات الثلاثة وفروعها في السراء والضراء وأخذت تقوم بحركات عظيمة ضد العدو وشن الغرة عليه في معاقله؛ كما كانت تتصدى لزحفه عليها، فتهجم حيناً، وتنسحب حيناً آخر حسب ظروف الحرب (1).
أصبح تفكير إيطاليا محصوراً في برقة التي لم يتمكن الطليان منذ زحفهم على اجدابية سنة 1923م من احتلال مواقع تذكر عدا مدينة اجدابية ولذلك اهتمت ايطاليا ببرقة وانحصرت مجهوداتها في الفترة الواقعة بين سنة 1923م وبين 1927م على معسكرات عمر المختار الذي لم يخرج يوماً من معركة إلا ليدخل في معركة أخرى.
وفي عام 1927م وقع الوكيل العام السيد رضا المهدي السنوسي في الأسر بطريق الخديعة والخيانة والغدر وسقطت مناطق برقة الحمراء والبيضاء تدريجياً.
كانت قيادة الجيش الايطالي في برقة قد بدلت وتولى أمرها لتنفيذ الخطة الجديدة التي تستهدف ضرب الحصار على حركة الجهاد في الجبل الاخضر (ميزتي) كما استبدل والي بنغازي الايطالي (مومبيلي) بخلفه الجنرال (تيروتس) وهو من زعماء الحزب الفاشيستين وزود الجنرال ميزتي بعدد كبير من الجنرالات وكبار الضباط وأركان الحرب لمساعدته وفي نفس السنة تقدمت القوات الايطالية من طرابلس بقيادة الجنرال غرسياني فاحتلت واحة الجفرة والقسم الاكبر من فزان واشتبكت قبائل المغاربة بزعامة صالح الاطيوش وقبائل اولاد سليمان بزعامة عبد الجليل سيف النصر، ودور حمد بك سيف النصر، وبعض اللاجئين الى تلك الجهات من قبائل العواقير بزعامتي عبد السلام باشا الكزة، والشيخ سليمان رقرق، ودخلت هذه القبائل في معارك بجهات الخشة وكان الغلبة فيها للجيش الايطالي الزاحف فالتجأ المجاهدون الى منطقة الهاروج من الصحراء ومن ثم اشتركوا مع العدو في معارك عنيفة منها معركة الهاروج، ومعركة جبل السوداء، ومعركة قارة عافية وكان من بين
_________
(1) انظر: عمر المختار، ص70.(3/124)
من حضروا هذه المعركة الاخيرة السيد محمود بوقويطين أمير اللواء وقائد عام قوة دفاع برقة في زمن المملكة الليبية المتحدة، والسيد السنوسي الاشهب (1).
كانت القيادة الايطالية حريصة على الاستيلاء على فزان فخرجت في اواخر يناير 1928م قوتان .. احدهما من غدامس والاخرى من الجبل الاخضر، وكان الجيش بقيادة غراسياني والتحم المجاهدون مع ذلك الجيش في معركة دامية استمرت خمسة أيام بتمامها، انهزم فيها الطليان شر هزيمة فتقهقروا تاركين مالديهم من مؤن وذخائر ثم مالبث أن خرجت قوة اخرى قصدت فزان مباشرة، فعلم المجاهدون بامرها بعد خروجها بثلاث أيام وانسحبوا الى الداخل، حتى اذا وصل هذا الجيش الجديد الى مكان يقع بين جبلين يعرفان بالجبال السود انقض المجاهدون على الطليان وأرغموهم على التقهقر، فعمل قواد الحملة الى الفرار بسياراتهم تاركين وراءهم الجيش، الذي وقع أكثره في قبضة المجاهدين، فأستأصلوهم عن آخرهم، وعندئذ لم يجد الطليان مناصا من أن يجددوا محاولتهم، فخرجت هذه المرة قوات عظيمة من جهات متعددة غير أن الطليان ما لبثوا ان انهزموا في هذه المعارك وتركوا وراءهم غنائم وأسلابا كثيرة (2)، وجدد الطليان المسعى وخرجوا من الجفرة في 30 فبراير 1928م بجيش كبير وزحفوا على زله واحتلتها في 22 فبراير وواصلت القوات الايطالية سيرها واحتلت آبار تقرفت في 25 فبراير واستمرت العمليات وانتهت باحتلال مراده، واصبحت زلة وجالو، واوجله ومراده تحت سيطرتهم، ومما ساعد الطليان على احتلالهم لتلك الواحات سقوط الجغبوب قبل ذلك في ايديهم، وسياستهم الرامية لتفتيت الصف بواسطة بعض عملائهم وكان الطليان يبذلون الأموال والوعود لزعماء القبائل، لوقف القتال وقد نجحوا في ذلك نجاحاً كبيراً.
كان احتلال الجغبوب، جالو، اوجلو، وفزان وغيرها من الواحات قد جعل عمر المختار في عزلة تامة في الجبل الاخضر ومع هذا ظل عمر المختار يشن الغارات
_________
(1) انظر: عمر المختار للاشهب، ص73.
(2) انظر: حياة عمر المختار، محمود شلبي، ص114، 115.(3/125)
على درنة وماحولها حتى أرغم الطليان على الخروج بجيوشهم لمقابلته، فاشتبك معهم في معركة شديدة استمرت يومين كان النصر فيها حليفه وفرّ الطليان تاركين عدداً من السيارات والمدافع الجبلية وصناديق الذخيرة والجمال، ودواب النقل (1).
وكانت القبائل تتعاون مع قائد حركة الجهاد تمده بالرجال، والمؤن والمعلومات وعلى سبيل المثال كان حامد عبد القادر المبروك من شيوخ قبيلة المسامير يمد المختار بالمعلومات المهمة دون تأخر، ويشارك في عمليات الجهاد مع أبناء قبيلته بدون علم الطليان ويرجع من كتبت له الحياة إلى موطنه ويستشهد من يستشهد وكان زعماء القبائل التابعة للحركة السنوسية يجمعون الاعشار والزكاة ويمدون بها حركة الجهاد بالرغم من وجود الكثير منهم تحت السلطات الإيطالية، وخصوصاً من كان في المدن كبنغازي، والمرج، ودرنة، وطبرق وغيرها، وكانت وسائل مد المجاهدين بأموال الزكاة والأعشار تتم في غاية السرية وعجزت المخابرات الإيطالية عن اكتشاف اللجان الخاصة بالدعم المالي للمجاهدين، ومن وقع في أيدي السلطات الإيطالية كانت عقوبة الإعدام وكانت الغنائم تمثل مصدراً مهماً لتمويل حركة الجهاد في فترة عمر المختار، ومعظم الغنائم تم الحصول عليها في المعارك التي تمكن فيها المجاهدون من هزيمة الإيطاليين مثل معركة الرحيبة في مارس 1927م (2) وقد وصف حافظ إبراهيم هذا المصدر في أبياته الشعرية فقال:
حاتم الطليان قد قلدتنا
منة نذكرها عاماً فعاما
أنت أهديت إلينا عدة
ولباساً وشراباً وطعاماً
وسلاحاً كان في أيديكم
ذا ملال فغدا يفري العظاما
أكثروا النزهة في أحيائنا
وربانا إنها تشفى السقاما
لست أدري بت ترعى أمة
من بني الطليان أم ترعى سواما (3)
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص114.
(2) انظر: عمر المختار نشأته وجهاده، عقيل البربار، ص82،83.
(3) انظر: عمر المختار للأشهب، ص91.(3/126)
وقال الأستاذ أحمد كاشف ذو الفقار:
يآل رومة تطلبون أمانياً
ختالة أم تطلبون منونا
جئتم تجرون الحديد ورحتم
بحديدكم في اليم مغلولينا
ورقصتم فيه سكارى فارقصوا
في الليلة السوداء مذبوحينا
لكن استفزكم صليل سيوفكم
فلقد تبدل زفرة وأنينا
إلى أن قال:
هاتوا الذئاب إلى الليوث فخمسة
منهم أبادوا منكم خمسينا
واستجمعوا حيتانكم ونسوركم
فالصائدون هناك مرتقبون
واستكثروا الزاد الشهي فإنكم
وسلاحكم والزاد مأخوذينا
لم يبق منهم معسر أو أعزل
بعد الذي غنموه منتصرينا
واستكملوا المدد الكبير بفتية
سيقوا إلى الهيجاء هيابينا
أحسبتم بطحاء برقة حانة
لكم وغزو القيروان مجونا (1)
وكانت كل عائلة قد أخذت على عاتقها تزويد مجاهديها بما يلزم من شؤون وملابس، ترسله شهرياً إلى الدور (المعسكر).
وكان الأمير ادريس يتحين الفرص لتزويد المجاهدين فقد ذكر الأشهب بأن قافلة وصلت للمجاهدين قادمة من مصر وكان فيها سليمان العميري (من قبيلة أولاد علي) وبو منيقر المنفى (من رفاق عمر المختار) يحملان رسائل من سمو الأمير وكانت القافلة محملة بالأرز والدقيق والسكر والشاي وبعض الملابس، وكان الطيب الأشهب موجوداً في معسكر المجاهدين وقت وصول القافلة (2) وقد ذكر صاحب كتاب حياة عمر المختار بأن قافلة استطاعت أن تخرج من السلوم محملة بمختلف العتاد والمؤن
_________
(1) انظر: عمر المختار للاشهب، ص95.
(2) المصدر السابق نفسه، ص79.(3/127)
قاصدة معسكر المجاهدين في الجبل الأخضر، فعلم الطليان بذلك وأرسلوا سياراتهم المسلحة لتعقبها، ولكن المجاهدين صمدوا لهم، وأطلقوا رصاص بنادقهم على العجلات فتعطلت السيارات، وعندئذ انقض المجاهدون على القوة الإيطالية فأبادوها عن آخرها وكان ذلك في عام 1928م (1). وكان المجاهدون يستفيدون من تلك المصادر ويقومون بشراء حاجيات المجاهدين من الأسواق في المدن والقرى، ويشترون مايلزمهم من المؤن، والأسلحة ويجمعون المعلومات عن تحركات العدو العسكرية، كل هذه الأعمال يقوم بها أتباع عمر المختار وبمساعدة سكان المدن والقرى الذين يخفون المجاهدين في بيوتهم ومخيماتهم، وكان المتطوعون يتدفقون على معسكرات الجهاد، وكانوا يعتمدون على أنفسهم في توفير السلاح ووسيلة الركوب والتموين، وكان نظام الأدوار (المعسكرات) يتميز بالآتي:
1 - يلتزم كل دور بتوفير التموين اللازم لأفراده، فهم بالإضافة إلى اشتراكهم في عمل واحد هم أبناء عشيرة واحدة مترابطة، ويوجد بالدور أشخاص، مكلفون بجباية الزكاة وجمع الأعشار، وهؤلاء يقومون بعملهم بناء على تكليف كتابي من عمر المختار وهم بدورهم يجرون اتصالات (كوشان) بقيمة المبالغ والأشياء التي استلموها.
وقد عين لكل دور رئيس إدارة يشرف على تموين الدور من حيث التوزيع والتخزين والتدبير وتسلم الأموال والتبرعات التي تصل لقيادة الدور، فقد عين عمران راشد القطعاني رئيساً لإدارة دور البراعصة والدرسة وعين التواتي العرابي رئيساً لإدارة دور العبيدات والحاسة، وعين الصديق بو هزاوي مأموراً للأعشار ويتبع عمر المختار مباشرة وعين داود الفسي رئيساً لإدارة دور العواقير (2).
2 - يقوم كل دور بتعويض الشهداء من المقاتلين بآخرين من قبائلهم وهكذا لايتأثر الدور كثيراً لفقد الشهداء، فبعد كل معركة يتم حصر الشهداء وإلى أي القبائل
_________
(1) انظر: حياة عمر المختار، لشلبي، ص117،118.
(2) انظر: عمر المختار نشأته وحياته، ص105.(3/128)
ينتمون ثم يرسل إلى كل قبيلة العدد الذي يجب أن تعوضه عن شهدائها، وإذا لم تجد العدد المطلوب تدفع لقيادة الجهاد 1000 فرنك عن كل شهيد لكي يجند بها العدد اللازم.
3 - تتبارى مجموعات القبائل في تقديم البطولات والتضحيات حتى لاتكون موضع سخرية واستهزاء أمام بقية القبائل، وكان المجاهد الليبي يغضب غضباً شديداً ويحزن إذا فاته الإشتراك في إحدى المعارك أو تخلف عنها لسبب من الأسباب، وابراهيم الفيل العريبي نموذج لهؤلاء فقد فاته أن يشارك في معركة بلال فحزن حزناً شديداً، إلا أن قادة الجهاد طمأنوه وقالوا له: إن أيام الجهاد كثيرة، وفي اليوم التالي جرت معركة البريقة فاشترك فيها وهجم بفرسه على سيارات الأعداء وصار يقاتل حتى أكرمه الله بالشهادة.
4 - يسهل على كل دور توفير الحماية اللازمة لذويه عن طريق الدوريات، والرباطات التي تراقب تحركات القوات الإيطالية أو أية تحركات غير عادية لمعرفتهم بمسالك المنطقة ودروبها وأماكن المياه بها، فعندما يحل الدور بمنطقة ما يضع دورية في كل اتجاه لتراقب وضع القوات الإيطالية في تلك المنطقة وتغطى أخبار تحركاتها للمجاهدين أولاً بأول حتى يكونوا على علم باتجاه وتحركات العدو، وحين يلتقي أفراد الدورية بالأعداء يطلقون ثلاث اطلاقات وعند سماع تلك الإطلاقات يستعد الجميع لملاقاة الأعداء في الجهة التي سمع منها اطلاق الرصاص.
كما تقوم دوريات أخرى تعرف باسم (الرباط) بمراقبة الإيطاليين في مراكزهم التي يحتلونها للحصول على معلومات عن تحركاتهم عن طريق الأهالي الموجودين داخل تلك المدن، وكثيراً مايتعرض بعض هؤلاء الأهالي بسبب تعاونهم مع المجاهدين لعقوبة الإعدام، كما حدث مع سليمان بن سعيد العرفي الذي أدانته المحاكم الإيطالية بالتعاون مع المجاهدين وحكمت عليه بالإعدام، فأعدم شنقاً (1).
كان نظام الأدوار يقوم على أساس قبلي ويعتبر الدور وحدة عسكرية وإدارية،
_________
(1) انظر: عمر المختار نشأته وحياته، ص106.(3/129)
واجتماعية يرأسها قائمقام، وتتمثل فيه السلطة الإدارية والعسكرية يساعده قوماندان (قائد) أو أكثر حسب حجم الدور والقبائل المنضوية تحته.
وقد استخدم عمر المختار النظام العسكري العثماني، فبالإضافة إلى القائمقام والقوماندان هناك الرتب الآتية:- بكباشي - يوزباشي - ملازم أول - ملازم ثاني - كوجك ضابط (ضابط صغير) باش شاوش - شاوش - أمباشي.
وكانت الترقيات تتم على أسس ميدانية بناء على مايقدمه الشخص من أعمال وبطولات في ميادين المعارك والمواقف الدقيقة، إذ يرفع إلى عمر المختار تقرير من الرئيس المباشر بشرح الحالة التي استحق عليها المعني الترقية، ويصدر بذلك أمر كتابي من عمر المختار على بقية المجاهدين (1).
وكان هناك مجلس أعلى يرأسه المختار يتكون من: يوسف بورحيل، حسين الجويفي، الفضيل بوعمر، محمد السركسي، موسى غيضان، محمد مازق، محمد العلواني، جربوع سويكر، قطيط الحاسي، رواق درمان وفي حالة غياب عمر المختار يرأس المجلس يوسف بورحيل (2).
وكان لكل من الأدوار مجلس يتكون من مشائخ القبائل وأعيانها من المعروفين بالحكمة وسداد الرأي: ومهمة هذا المجلس استشارية وهو في حالة انعقاد دائم لمواجهة الطوارئ والاسهام في حل المشاكل التي قد تحدث بالدور (3).
تاسعاً: معركة أم الشافتير (عقيرة الدم):
استمر المجاهدون في الجبل الأخضر يشنون الهجمات على القوات الإيطالية وحققوا انتصارات رائعة من أشهرها موقعة يوم الرحيبة بتاريخ 28 مارس 1927م (4) جنوب شرقي المرج قرب جردس العبيد ووقعت بعد معركة الرحيبة معارك ضارية
_________
(1) انظر: عمر المختار نشأته وجهاده، ندوة علمية، ص100.
(2) انظر: برقة العربية للأشهب، ص425.
(3) انظر: عمر المختار نشأته وجهاده، ص102.
(4) انظر: معجم معارك الجهاد، خليفة التليسي، ص79.(3/130)
في بئر الزيتون 10 محرم 1335هـ، 10 يوليو 1927م، وراس الجلاز 13 محرم 1335هـ، 13 أكتوبر 1927م.
أراد الإيطاليون أن ينتقمون لقتلاهم في معركة الرحيبة، فشرعت تعد العدة للانتقام لقتلاها الضباط الستة وأعوانهم المرتزقة البالغ عددهم (312) في محاولة لإعادة معنوياتهم المنهارة نتيجة لتلك الهزيمة الساحقة تمّ اعداد الجيوش الجرارة، لتتخذ من الجبل الأخضر قاعدة لها على النحو التالي (1):
1 - الجنرال مازيتي القائد العام للقوات الإيطالية قائداً لإحدى الفرق فوق الجبل الأخضر 8 يوليو من مراوة:
أربع فرق أرترية - فرقة ليبية - أربع فرق - خيالة - بطارية ارترية.
2 - الكورنيل اسبيرا إنذائي: 8 يوليو من الجراري (جردس الجراري) أوجردس البراعصة أربع فرق أرترية - فرقة ليبية - بطارية ليبية - فرقة غيرنظامية.
3 - الكورنيل منتاري: 8 يوليو من خولان - فرقة أرتريا- فرقة غير نظامية.
4 - الماجور بولي: 9 يوليو غوط الجمل - فرقة مهما ريستا - فرقة سيارات مصفحة - نصف فرقة ليبلير - فصيلين قناصة على الدبابات.
ويضاف الى تلك الاستعدادت سلاح الطيران الذي انطلق من قواعده بالمرج ومراوه وسلنطة.
لقد كانت قوات الايطاليين ضخمة مما تدلنا على خوفهم ورهبتهم من قوات المجاهدين.
كان عدد المجاهدين مابين 1500 الى 2000 مجاهداً (2) منهم حوالي 25% من سلاح الفرسان ويرفقهم حوالي 12 ألف جمل (3) ومايثقل تحركاتهم من النساء
_________
(1) انظر: جذور النضال العربي، محمد عبد الرزاق مناع، ص130.
(2) انظر: جذور النضال العربي، ص137.
(3) انظر: مجلة البحوث التاريخية، العدد الاول، السنة السادسة، عام 1984م، ص9.(3/131)
والاطفال والشيوخ والأثاث علمت ايطاليا بواسطة جواسيسها بموقع المجاهدين في عقيرة ام الشفاتير فارادت أن تحكم الطوق على المجاهدين فزحفت القوات الايطالية نحو العقيرة بعد مسيرة دامت يومين كاملين واستطاعت أن تضرب حصاراً حول المجاهدين من ثلاث جهات، وبقوات جرارة تكونت من حوالي (2000) بغل و5000 جندي، 1000 جمل بالاضافة الى السيارات المصفحة والناقلة.
علم المجاهدون بذلك وأخذوا يعدون العدة لملاقاة العدو فأعدوا خطة حربية وقاموا بحفر الخنادق حول أطراف المنخفض ليستتر بها المجاهدون وخنادق اخرى لتحتمي بها الأسر من نساء وأطفال وشيوخ، وتم ترتيب المجاهدين على شكل مجموعات حسب انتمائهم القبلي ووضعت أسر كل قبيلة خلف رجالها المقاتلين، وكان قائد تلك المعركة التقي الزاهد الورع الشيخ حسين الجويفي البرعصي وكان عمر المختار من ضمن الموجودين في تلك المعركة.
كان الشيخ حسين الجويفي ممن تجرد للجهاد في سبيل الله وطلب رحمة الله تعالى وكان يقول: (أنا لا أريد قيادة ولا منصباً بل أريد جهاداً رغبة في ثواب الله تعالى) (1).
كان ذلك الصنديد محل تقدير من قبل إخوانه قال في حقه قائده الأعلى عمر المختار عقب استشهاده: أتذكر حسين الجويفي عند اللقاء مع العدو أو عند قراءة القرآن الكريم وقت الورد (2).
كما عرف عنه انه لم يبرح فرسه يوماً أثناء المعركة لينال من اسلاب العدو، بل يتركها للمجاهدين لعفته وقناعته بما يملك من أموال ومواشي.
لقد أسندت إليه قيادة المعركة لمعرفته بشعاب ودروب المنطقة التي كان يسكنها مع كونه احد قادة الجهاد، وأحد المستشارين لعمر المختار، وقائمقام البراعصة والدرسة في فترة سابقة، فكان في تلك المعركة فوق جواده يجوب الميمنة والميسرة والقلب
_________
(1) انظر: مجلة البحوث، السنة السادسة، 1984م العدد الاول، ص10.
(2) المصدر السابق نفسه، ص10،11.(3/132)
وهو عاري الرأس لايخشى الموت يوزع صناديق الذخيرة على المقاتلين تارة ويطلق عبارات التشجيع مرة أخرى، ويقوم بتحريك جبهات القتال، وتنظيم هجومات المجاهدين، وترتيب صفوفهم.
وسقط الشهداء واشتدت المعركة، وارتفعت درجة حرارة البنادق بسبب استمرار اطلاق العيارات النارية واستعمل المجاهدون الخرق البالية لتقيهم حرارة مواسير البنادق التي لا تطيقها يد المجاهد. وكان بعض المجاهدين يملك بندقيتين يستعمل الواحد مدة ثم يتركها حتى تبرد ويتناول الاخرى،.
وخصص القائد حسين فرقة من المجاهدين للتصدي للمصفحات المهاجمة من الجنوب وعددها ثلاثون مصفحة ولعب كومندار طابور المعية المجاهد سعد العبد السوداني دوراً بارزاً وأظهر شجاعة نادرة بأن قاد تلك الفرقة المواجهة للمصفحات الايطالية وتمكن من تدمير أغلبها مع رجاله وانتزع المجاهد رمضان العبيدي العلم الايطالي من على أحد المصفحات، وبدأ الجيش الايطالي في التقهقر ودخل الرعب نفوس ضباطه وجنوده الذين وجدوا فرصة الحياة في الهروب وبالرغم من قصف الطائرات إلا أن الايمان القوي، واحتساب الأجر عند الله كان دافعاً مهماً لدى المجاهدين.
كانت خسائر المجاهدين في الارواح 200 شهيد من بينهم القائمقام محمد بونجوى المسماري الذي استشهد في اليوم الثالث أثر اصابته بجرح مميت، وكانت له مكانة عظيمة في نفوس المجاهدين ووالد زوجة عمر المختار الذي بكاءه بكاءً حاراً وقال بعد أن سمع باسشهاده (راحو الكل ياعين الجيران وأصحاب الغلا) (1).
واستشهد كل من جبريل العوامي، وستة من قبيلة العوامة، ومحمد بو معير الدرسي والشلحي الدرسي، ومحمد الصغير البرعصي وفقد المجاهدون في تلك المعركة عدداً كبيراً من الابل والمواشي وتم حرق بعض الخيام من جراء الغارات الجوية.
_________
(1) انظر: برقة العربية، ص440.(3/133)
ومكث المجاهدون طيلة الليل يدفنون الشهداء وينقلون الجرحى، وقبل بزوغ الفجر رحلوا عن ذلك الموقع، بهدف الاعداد والاستعداد للقاء العدو في موقع جديد من مواقع القتال (1) واصبحت القوات الإيطالية كما يقول تيروتسي: (أصبحت الآن منهوكة القوى تخور إعياء من شدة المعارك المستمرة منذ فترة طويلة دون توقف ... ) (2).
وكانت نتائج تلك المعركة فيما يلي:
كانت معركة ام الشفاتير بداية نقطة فاصلة في اتباع استراتيجية جديدة عند عمر المختار، وهي ضرورة إعادة تنظيم المجاهدين على هيئة فرق صغيرة (3)، تلتحم مع العدو عند الضرورة، وتشغله في أغلب الأوقات مما يقلل في عدد الشهداء أثناء المعارك ويلحق الخسائر الفادحة بالأعداء وفق التكتيك الجديد لحرب العصابات (اهجم في الوقت المناسب وانسحب عند الضرروة).
لمح عمر المختار بنظره الثاقب ملامح السياسة الفاشستية الجديدة وهي الابادة والتدمير (للمصالح والرجال)، فاتخذ اجراءات ترحيل النساء والاطفال والشيوخ الى السلوم لحمايتهم من الغارات الجوية الايطالية، وتيسيراً لسهولة تحرك المجاهدين وفق مايتطلبه الموقف الجديد.
كما سُمَحَ لأحد الاخوين بالهجرة للمحافظة على وريث لهما فيما بعد حتى يكون دائماً هناك من يطالب بحقوقه ويزعج المستعمرين الطليان، وللتعريف بالقضية الليبية بتلك البلدان ونتج عنه فيما بعد تشكيل الجاليات الليبية في الخارج (4).
أيقن الايطاليون أنه لاجدوى من الاستمرار في العمليات العسكرية ضد المجاهدين، مما كان سبباً في توقفها طلية سنة 1928م (5). لقد تحققت لموسليني ما
_________
(1) انظر: مجلة البحوث، السنة السادسة، 1984م، العدد الاول، ص16.
(2) المصدر السابق نفسه، ص16.
(3) انظر: تاريخ ليبيا، جون رأيت، ص153.
(4) انظر: كفاح الليبيين السياسي في بلاد الشام (192 - 1950) تيسير بن موسى.
(5) انظر: مجلة البحوث، السنة السادسة، العدد الاول، ص17.(3/134)
قاله من قبل: (اننا لانحارب ذئاباً كما يقول غراتسياني بل نحارب أسوداً يدافعون بشجاعة عن بلادهم .. إن أمد الحرب سيكون طويلاً) (1).
عاشراً: استشهاد حسين الجويفي والمختار بن محمد في معركة ابيار الزوزات 13/ 8/1927م:
استشهد الشيخ حسين الجويفي رئيس دور البراعصة، وكان صاحب مكانة عظيمة عند المختار (2)، كان حسين الجويفي سباقاً للخيرات، حريصاً على الشهادة في سبيل الله، وكان يحرص على الخروج للمعارك مع مرضه حتى أن عمر المختار في احدى المعارك طلب منه أن يبقي حفاظاً على صحته وقال له (الجايات اكثر من الفايتات) والطليان لايبطلوا لمحاربتنا ونحن لانبطل الهجوم عليهم وستشبع من القتال فأيامه كثيرة (3).
لقد تأثر عمر المختار لاستشهاد القائد العظيم الجويفي ووقف عند قبره وقال:
شهير لَسَم وَافِ الدين
تمَّا غفير في فاهق خلا
لقد فقد عمر المختار عدداً كبيراً من رفاقه الابطال الذين وقعوا شهداء في ساحة الوغى وكان من بينهم المختار ابن شقيقه محمد فشق عليه فقده رغم انه لا يزيد مكانة عند عمه السيد عمر المختار أكثر من إخوانه المجاهدين، لقد كان ابن أخيه عائلاً له يهتم بشؤون أسرة عمر المختار ويشرف على شؤونه الخاصة وخدمته الشخصية وكان بمثابة الابن حيث لم يكن لعمر ابن يتولى شؤون العائلة لأن ابنه الوحيد محمد صالح كان لايزال طفلاً، ثم إن السيد عمر المختار تعود مصاحبة الفقيد منذ سنة 1916م والى جانب كل ذلك فإنه من أبطال الجهاد ومن الابناء البررة. لقد احتسب المختار وأظهر التجلد وصبر صبراً جميلاً وكان يقول لكل من جاء لتعزيته:
إن كل فرد من رفاقي المجاهدين هو عندي بمنزلة المختار. إنني فقدت مختاراً
_________
(1) انظر: عمر المختار نشأته وجهاده، ص14.
(2) انظر: السنوسية دين ودولة، ص284.
(3) انظر: عمر المختار للاشهب، ص81.(3/135)
واحداً، ولكنني أعيش بين عدداً من المختارين كل منهم يملأ مكان ابن اخي وردد قول الشاعر الشعبي:
الدنيا أمفيت الله من واليها
وين الصحابا قبلنا أو نبيها
وين بون يادم
وين الشيوخ اللي كبار مقاوم
اللّي يندهوا للعبد هو والخادم
وَنْ جاهم الطالب حاجتا يقضيها
ومعنى الابيات:
أن الله سبحانه وتعالى ولي الدنيا ووارثها وكل مافي هذه الدنيا مصيره الفناء، فأين رسول الله وصحابته وهم أكرم خلق الله عليه، وأين السادة الكبار الذين سبقونا وكان من شمائلهم المناداة للخدم من أجل خدمة الضيف وكل من جاء يطلب حاجة تقضي له، ومما قاله عمر المختار من الشعر:
ياعين كفى راه يومك قادم
صيور البنا دم حفرتا ماليها
ومعنى البيت أنه يخاطب نفسه بأن تكفى عن البكاء لأن أجله في طريقه إليه ومصير بني آدم هو تلك الحفرة (القبر) التي يملؤها رفاته بعد الموت (1).
_________
(1) انظر: عمر المختار للاشهب، ص100، 101.(3/136)
المبحث الثاني
استمرار العمليات والدخول في المفاوضة
في سبتمبر عام 1927م غزت جموع الزوية الجخرة ومرسى بريقة وجالو وأوجلة، وأنزلوا بالطليان خسائر فادحة، واشتدت مقاومة المجاهدين في الجبل الأخضر على الرغم من احتلال الطليان للواحات ومراكز السنوسية الهامة، فلم يعد هناك مناصا من أن يعيد الطليان النظر في خططهم، مما أدى إلى وقوع أزمة كبيرة في روما، وبدأت الحكومة تبحث بصورة جدية وسائل إخماد المقاومة وترسم الخطط السياسية الجديدة التي ترأى ضرورة التقيد بها في كل من برقة وطرابلس، وقد اضطر فيدرزوني وزير المستعمرات، وديبونو والي طرابلس وتيروتزي والي برقة للاستقالة في ديسمبر 1928م، فعين ديبونو وزيراً للمستعمرات وأعلن موسوليني توحيد الإدارة في القطرين الليبيين، وعين الماريشال بادوليو حاكماً على طرابلس وبرقة.
كان مجئ بادوليو إلى ليبيا بداية مرحلة الجهاد الحاسمة بالنسبة للمجاهدين وكان تاريخ تعيينه في شهر يناير من عام 1929م وكان برنامجه الجديد يتلخص في تخفيض الجيش إلى القدر الذي يكفي للقيام (بحرب العصابات) والمحافظة على على هيبة الحكومة مع انفاق الأموال المتوفرة في مد الطرق في الجبل الأخضر مما يسهل عليه التنقلات العسكرية، فإذا ما أتم له ذلك قام بهجوم شامل كاسح على المجاهدين يقضي على المقاومة نهائياً، ومن أجل ذلك سعت إيطاليا إلى مفاوضة السيد عمر المختار لتهدئة الأحوال (1)، فكان برنامج بادوليو مبنياً على كسب الوقت أولاً ثم العمل رويداً رويداً من أجل تقوية المراكز المحتلة.
واهتم بادوليو بكسب الرأي العام وتخويفه، فأعلن العفو عن الأفراد الذين يسلمون أنفسهم وسلاحهم مختارين للحكومة، ويتوعد كل معاند بالعقوبة الصارمة وقد اسقطت الطائرات هذا المنشور من الجو على البلدان والقرى والنواجع في أنحاء
_________
(1) انظر: حياة عمر المختار، ص119.(3/137)
ليبيا جميعها وكان لهذا المنشور آثار مباشرة، فظن بعض زعماء ليبيا بمدينة طرابلس الضعف ووهن العزيمة في الحكومة وقام أحمد سيف النصر ومحمد بن الحاج حسن (من قبيلة المشاشة) بالزحف على منطقة القبلة لجمع البدو المحاربين وإرسالهم إلى الجبل الأخضر حتى يعززوا قوات المجاهدين في الجبل ويرغموا الحكومة على اتخاذ لهجة متواضعة عند بدء المفاوضات مع عمر المختار وصحبه، وشرع صالح الأطيوش ينظم في جبل الهروج جماعات من المحاربين للاشتباك مع الطليان في برقة أو في طرابلس وفي منتصف فبراير 1929م نزلت قوات المجاهدين من الهروج الأسود للانقضاض على النوفلية من جانب وعلى إجدابية من جانب آخر، فاجتمعت من الجيفة ثم انقسمت ثلاث فرق التحمت إحداها مع الطليان في معركة عند قارة سويد في 5 مارس، واشتبكت الثانية معهم في معركة كبيرة عن النوفلية في 14 مارس واتجهت الثالثة بقيادة عبد القادر الأطيوش من الجيفة صوب منطقة العقيلة في 23 مارس، ثم استقر المجاهدون في جبل سلطان واضطر المجاهدون إلى الانسحاب أمام قوات العدو العظيمة صوب وادي الفارغ (1).
كانت لتلك الأعمال أكبر الأثر في إقناع بادوليو بضرورة العمل فوراً من أجل استمالة المجاهدين إلى المفاوضة إذا أراد أن يضع برنامجه الواسع موضع التنفيذ فبدأ من ثم متصرف المرج الكولونيل باريلا من أوائل مارس 1929م يطلب الاجتماع بالسيد عمر المختار للمفاوضة في شروط الصلح، وحدد باريلا موعداً للاجتماع غير أن باريلا لم ينتظر جواب المختار وأراد أن ينتهز فرصة اطمئنان المجاهدين لقرب بداية المفاوضات وانشغالهم بعيد الفطر المبارك، فانقض الطليان على المجاهدين وهم يقومون بصلاة العيد (1347هـ) وردهم المجاهدون على أعقابهم، ولكن مناوشات صالح الأطيوش وجماعته ونشوب المعارك المستمرة اضطرت بادوليو إلى تحديد المسعى، فكلف متصرف درنة دودياشي لتمهيد المفاوضة مع عمر المختار وصحبه، فاتصل بالمجاهدين واقترح على السيد عمر أن يكون الاجتماع يوم 2 مارس في منزل
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص321.(3/138)
علي باشا العبيدي للبحث في موضوع الصلح وأصر عمر المختار على أن تظهر الحكومة الإيطالية حسن نواياها ويكون ذلك بإطلاق السيد محمد الرضا وإعادته إلى برقة واضطرت الحكومة الإيطالية للرضوخ واحضرت السيد محمد الرضا من جزيرة أوستيكا إلى بنغازي واجتمع بعد ذلك عمر المختار مع مندوب الحكومة دودياشي في منزل على العبيدي في 20 مارس، وحضر الاجتماع عدد كبير من مشايخ البلاد وأعيانها ثم أجلت المفاوضة إلى أسبوع وانعقد اجتماع آخر في سانية القبقب ولم يستطيع المتفاوضون الوصول إلى نتيجة مجدية، واجتمع المختار مع باريلا في الشليوني في الجبل الأخضر في يوم 6 إبريل ولم يصل المتفاوضون إلى نتيجة وفي 20 إبريل عادت المباحثات في بئر المغارة (في وادي القصور)، وقد حضر هذا الإجتماع محمد الرضا والشارف الغرياني، وخالد الحمري، وعبد الله فركاش ورويفع فركاش وعلي باشا العبيدي وعبد الله بلعون مدير المرج، وحضر كل هؤلاء اجتماع المختار بالسيد رضا، ثم خير مندوب الحكومة عمر بين ثلاثة أمور:
الذهاب إلى الحجاز، أو إلى مصر، أو البقاء في برقة، فإذا رضي بالبقاء في برقة أجرت عليه الحكومة مرتباً ضخماً وعاملته بكل احترام ولكن المختار رفض هذه الشروط وكان السيد رضا يخضع لرقابة صارمة منعته من تبادل الرأي مع عمر المختار.
واستؤنفت المفاوضات في هذه المرة في مكان يسمى قندولة بالقرب من سيدي رويفع وحضر اجتماع قندولة باريلا، وكمباني وعدد من الضباط والأعيان وكان سيشلياني قد بيت النية على الإيقاع بالمختار وأسره، ولكن عمر المختار احتاط للأمر ولم يسفر هذا الإجتماع عن شيء.
وفي 26 مايو بدأت المفاوضات من جديد، فحضر المختار إلى مكان قريب من القبقب. وفي هذا الإجتماع دارت المباحثات على أساس ماجاء في منشور بادوليو فعرض دودياشي شروط الحكومة وهي(3/139)
(أولاً) عودة السيد إدريس، وأحمد الشريف والسيد صفي الدين وسائر أعضاء الأسرة السنوسية إلى البلاد على أن يكونوا تحت إشراف الحكومة وأن يتم رجوعهم بترخيص من الحكومة بوصفهم مهاجرين يبغون العودة إلى أوطانهم وتعهدت الحكومة بعاملتهم المعاملة اللائقة بهم على غرار ماتفعله مع السيد الرضا.
ثانياً: احترام الزوايا وأوقافها ودفع المرتبات لشيوخها.
ثالثاً: إرجاع أملاك الأسرة السنوسية.
رابعاً: إعفاء الزوايا وأملاك السنوسية من الضرائب.
خامساً: تسليم المجاهدين نصف مامعهم من أسلحة لقاء ألف ليرة إيطالية تدفع ثمناً لكل بندقية يسلمونها، وعلى أن ينضم بقية المجاهدين المسلحين إلى المنظمات التي تنشئها الحكومة تحت إشرافها وإدارتها وذلك لمدة معينة تحددها الحكومة فيما بعد في نظير أن تعد أماكن لإقامتهم يسهل على الحكومة إمدادهم فيها بالمؤن فضلا عن إحكام الرقابة عليهم.
سادساً: إبعاد كل الإخوان السنوسيين من الأدوار وتتعهد الحكومة بإعطائهم المرتبات التي تناسب مراكزهم، فاعترض المختار على تسليم الأسلحة وحل الأدوار، وأصر على بقاء الأدوار تحت قيادة السيد حسن الرضا على أن يكون للحكومة نوع من الإشراف العام فحسب وأيد رأي المختار عبد الحميد العبار، ورفض دودياشي عروض المختار وانفض الإجتماع على أن يعرض دودياشي هذا الحل - كما طلب المختار من نائب الوالي في برقة حتى يفصل فيه سيشلياني بنفسه (1).
وبعد أربعة أيام فقط طلب دودياشي مقابلة المختار في قندولة (30مايو) فجاء المختار إلى نجع علي العبيدي شيخ العبيدات بالقرب من القبقب، وحضر معه السيد حسن الرضا والفضيل بو عمر وعبد الحميد العبار وحامد القماص وآخرون ومعهم حرس يتألف من مائة وخمسين فارساً وجاء من طرف الحكومة دودياشي وباريلا كما
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص392،296.(3/140)
حضر هذا الاجتماع علي العبيدي وخالد الحمري ورويفع فركاش، وأظهر فيها المختار استعداده للتفاهم طالما أنه يؤدي إلى المحافظة على كرامة السنوسية.
وفضلاً عن ذلك فقد أصر المختار على عدم حدوث أي اتفاق بينه وبين الحكومة الإيطالية إلا إذا حضر مندوب عن الحكومة المصرية وآخر عن الحكومة السنوسية كدليل على رغبة الطرفين الصادقة في الاتفاق بصورة قاطعة ولكن دودياشي اعترض على هذا الطلب، وقال بأن الطليان معروفين بوفائهم للعهود وحفظهم للمواثيق، فرد عليه عمر المختار وذكر مافعله الجنرال متزتي بقبيلة العبيدات، وهي من القبائل التي سالمت الطليان، عندما اغتصب هؤلاء كل ماتمتلكه هذه القبيلة حتى انهم نزعوا حلي النساء من آذانهن، وذكر مافعله لويللو مع أسرة إبراهيم من قبيلة العواقير، وقد سالم هؤلاء الطليان كذلك، فأخذ لويللو منهم أربعين رجلاً قتلهم رمياً بالرصاص ثم جعل السيارات تمر على جثثهم (فما زالت السيارات تدهسهم ذهاباً وإياباً حتى اختلطوا بالتراب وتدخل بعض الحاضرون لتهدئة الموقف وتمسك المختار بحقوق الحركة السنوسية وزعامتها وأصر على أن يكون للقطر البرقاوي الطرابلسي نفس الامتيازات التي تتمتع بها جاراته مصر وتونس وكان عمر المختار وحده هو الذي يتحدث، وأما سائر المجاهدين فقد صمتوا ثم قرر الذهاب إلى معسكره وقال إذا أراد المتصرف دودياشي الحديث فإن موعد ذلك جلسة أخرى، وبعد أيام اتصل علي العبيدي بالسيد عمر، وقبل عمر المختار استئناف المفاوضة، فعقد اجتماع آخر في يوم 7 يونيه حضره دودياشي وباريلا ثم سيشلياني الذي جاء الاجتماع موفد من قبل الماريشال بادوليو بغية الوصول إلى اتفاق حاسم مع العرب، وجدد الطليان عروضهم القديمة وتمسك المختار بمطالبه، وأصر على حضور مندوبين من قبل الحكومتين المصرية والتونسية ووعد سيشلياني بأن يحمل مطالب المختار إلى بادوليو.
وفي 13 يونيه اجتمع نائب الوالي سيشلياني بالسيد عمر في قلعة شليوتي، وأظهر المختار رغبته الصادقة في الاتفاق إذا أقرت الحكومة الإيطالية مطالبه، وهي نفس المطالب السابقة وتأجل الاجتماع إلى يوم آخر حتى يتم الاتفاق النهائي بحضور والي طرابلس وبرقة(3/141)
نفسه وفي يوم 19 يونيه حصل الاجتماع سيدي رحومه المشهور بحضور بادوليو وسيشلياني وعدد من الطليان والأعيان كالشارف الغرياني، وعلي باشا العبيدي، وظل عمر المختار متمسكاً بضرورة حضور مندوبين عن الحكومتين المصرية والتونسية وعرض شروطه النهائية بحضور والي ليبيا، فقرأ الفضيل بو عمر هذه الشروط ووافق الطليان عليها، ثم تسلمها بادوليو ووعد بأن يعمل على حضور مندوبي الحكومتين المصرية والتونسية في اجتماع يحدد فيما بعد قريباً، واتفق الفريقان على عقد هدنة لمدة شهرين حتى يتسنى لكل منهما مراسلة مرجعه (1). وقال بادوليو إنه على استعداد تام لقبول عودة أمير البلاد السيد محمد إدريس إلى برقة مادام المختار والمجاهدون يصرون على ذلك.
وكانت الشروط التي عرضها المختار تكفل المحافظة على هوية الشعب وعقيدته ودينه ولغته، وتحفظ أوقاف الزوايا وتعطي عمر المختار الحق في أخذ الزكاة الشرعية من القبائل ومن أهم هذه الشروط:
1 - أن لاتتدخل الحكومة في أمور ديننا، وأن تكون اللغة العربية لغة رسمية معترفاً بها في دواوين الحكومة الإيطالية.
2 - أن تفتح مدارس خاصة يدرس فيها التوحيد، والتفسير، والحديث، والفقه، وسائر العلوم.
3 - وأن يلغى القانون الذي وضعته إيطاليا والذي ينص على عدم المساواة في الحقوق بين الوطني والإيطالي إلا إذا تجنس الأول بالجنسية الإيطالية (2) كما كانت شروط المجاهدين تنص على إرجاع جميع الممتلكات التي اغتصبتها الحكومة من الأهالي وإعطائهم مطلق الحرية في حمل السلاح وجلبه من الخارج إذا امتنعت الحكومة عن بيع السلاح لهم، كما نصت هذه الشروط على أن يكون للأمة رئيس
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص298.
(2) انظر: شروط عمر المختار في قضية ليبيا، ص111 - 114.(3/142)
منها تختاره بنفسها ويكون لهذا الرئيس مجلس من كبار الأمة له حق الإشراف على مصالحها، كما يكون للقاضي الإسلامي وحده الفصل بين المسلمين وطالب عمر المختار بإعلان العفو الشامل عن جميع من عدتهم إيطاليا مجرمين سياسيين سواء كانوا داخل ليبيا أم خارجها، وإطلاق سراح المسجونين، وسحب كل المراكز التي استحدثها الطليان في أثناء الحرب بما في ذلك مراكزهم في الجغبوب وجالو (1) كما اشترط بأن لزعماء المسلمين الحق في تأديب من يخرج عن الدين أو يهزأ بتعاليمه أو يتهاون في القيام بواجباته (2). إن حرص عمر المختار على رفض الخضوع لأي إرادة أو سلطة غير سلطة الله واضح في حياته، ويظهر ذلك جلياً في شروطه، فقد كان دائماً مصراً على شرط تطبيق الشريعة الإسلامية بين المسلمين ورفض كل ماعداه من قوانين وضعية في مفاوضاته (3). أظهر بادوليو قبول الشروط ولكنه نكث بوعوده وأخذ يستعد للقضاء على المجاهدين، وشرع الطليان يبذرون بذور الشقاق في صفوف المجاهدين على أمل أن يضعفوا من قوتهم، وفي اجتماع سيدي رويفع ادعى سيشلياني أنه لايمكن إبرام الاتفاق النهائي إلا في بنغازي (4).
أراد المجاهدون أن يقطعوا حجة الطليان فاتفقوا على أن يحضر اجتماع بنغازي السيد الحسن رضا السنوسي، وكان عمر المختار مقتنعاً بعدم جدوى الاجتماع ولكنه اضطر مكرهاً، وعاد الحسن يحمل شروطاً إيطالية مجحفة فرفضها عمر المختار والمجاهدون، وكتب المختار إلى نائب الوالي يخبره برفض الشروط الإيطالية جملة وتفصيلاً، ويلفت في هذه الرسالة نظر الحكومة الإيطالية إلى الشروط السابقة التي تسلمها المارشال بادوليو من السيد عمر نفسه وقطع على نفسه عهداً بالإجابة عنها بعد دراستها إذ لايوجد سبيل لحل المشكلة بدونها، وطلب عمر في نفس الرسالة
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص298.
(2) انظر: عمر المختار نشأته وحياته، ص62.
(3) المصدر السابق نفسه، ص62.
(4) انظر: السنوسية دين ودولة، 299.(3/143)
تحديد موعد لمقابلة الجنرال سيشلياني نائب الوالي، وفي حالة الرفض أو عدم الإجابة يكون السيد عمر المختار في حل مما قيدته به آداب المجاملة في انتظار نتيجة المفاوضات وسوف تعود الأمور لما كانت عليه، وكان جواب إيطاليا هو أنها على استعداد ولاداعي للإنذار بإعادة الحرب (1).
لما ذهب الحسن بن الرضا إلى بنغازي تأثر ببعض أقوال الليبيين التابعين للحكومة الإيطالية وقبل أن يوقع على شروط الصلح التي خالفت ماطلبه المجاهدون، فلما رفض عمر المختار تلك الشروط عز على الحسن أن ينقض المختار كلمته وانفصل بجماعته من البراعصة والدرسة، وكانوا يبلغون حوالي الثلاثمائة واتخذ مكانه في غوط الجبل وهو مكان قريب من مراكز الطليان في مراوة (2).
كان عمر المختار بجانب إيمانه الراسخ واسع الأفق عالماً بواقعه مدركاً لما يجري حوله متابعاً له وقد كان ذلك أكبر عون له بعد الله على صحة مواقفه وقوتها التي فرضت الاحترام على اعدائه قبل أصدقائه، وما أعظم أن يجتمع الإيمان والفقه بالواقع، وما أقبح أن يتفرقا، ولئن كان هذا واضحاً جلياً في كل المواقف التي خاضها عمر المختار رحمه الله وآرائه التي قالها إلا إنه يتجلى كأوضح مايكون في إدراكه لعدم جدوى المفاوضات السياسية (3).
أولاً: النداء الأخير:
خاطب السيد عمر المختار المجاهدين وأبناء شعبه قائلا: فليعلم إذاً كل مجاهد أن غرض الحكومة الإيطالية إنما بث الفتن والدسائس بيننا لتمزيق شملنا وتفكيك أواصر اتحادنا ليتم لهم الغلبة علينا واغتصاب كل حق مشروع لنا كما حدث كثير من هذا خلال الهدنة، ولكن بحمد الله لم توفق إلى شيء من ذلك. وليشهد العالم أجمع أن نوايانا نحو الحكومة الإيطالية شريفة، وما مقاصدنا إلا المطالبة بالحرية وإن
_________
(1) انظر: عمر المختار للأشهب، ص111، 112.
(2) انظر: السنوسية دين ودولة، ص300.
(3) مجلة البيان العدد الخامس عشر، ربيع الثاني، 1988، ص87.(3/144)
مقاصد إيطاليا وأغراضها ترمي إلى القضاء على كل حركة قومية تدعو إلى نهوض الشعب الطرابلسي وتقدمه ... فهيهات أن يصل الطليان إلى غرضهم مادامت لنا قلوب تعرف أن في سبيل الحرية يجب بذل كل مرتخص وغال، ثم ختم المختار هذا النداء بقوله: (لهذا نحن غير مسؤولين عن بقاء هذه الحالة الحاضرة على ماهي عليه حتى يتوب أولئك الأفراد النزاعون إلى القضاء علينا إلى رشدهم ويسلكوا السبيل القويم ويستعملوا معنا الصراحة بعد المداهنة والخداع (1). وقد نشرت بعض الصحف المصرية هذا النداء في 2 يناير 1929م. من كان عبداً لله يستحيل أن يرضى بأن يكون عبداً لحكومة ظالمة كافرة أو لدنيا أو مال أو لهوى، فأكثر الناس أحراراً وتحقيقاً للحرية على مفهومها الصحيح ذلك العبد الذي رضى بالله رباً وبالإسلام ديناً ومحمد - صلى الله عليه وسلم - نبياً ورسولاً.
ثانياً: غدر وخيانة:
لقد نقضت الحكومة عهودها وغدرت بالمجاهدين وكان السيد حسن الرضا أول من ذاق مرارة غدرهم، فقد غادر المعسكر في غوط الجبل جماعة من عائلة عريف وانتهز الطليان هذه الفرصة فطلبوا من الحسن أن يتقدم بالدور إلى ناحية مراوة وأجاب الحسن رغبتهم وعندئذ سيرت الحكومة قوة كبيرة على الدور لجمع الأسلحة من أتباعه بدعوى أن رجاله قد (غزوا) بعض الأهلين في مراوة. وأبدى الحسن ورجاله معارضة شديدة، ولكن معارضتهم هذه سرعان ما أكدت للطليان - على حد قول هؤلاء - أن الدور كان مركزاً لدعاية سنوسية خطيرة، وأن حل الدور قد بات لذلك أمراً لامناص منه ولامحيد عنه، وكان مما جعل الطليان ينقلبون على الحسن أن امتنع في المدة الأخيرة عن إجابة رغبتهم عندما طلبوا منه الانتقال إلى بنغازي، وعلى ذلك فقد اشتبكت القوات الإيطالية مع الدور في قتال عنيف ذهب ضحيته كثير من المجاهدين ووقع الباقون في أسر هذه القوات وفي 10 يناير 1930م قبض الطليان على الحسن نفسه وساقوه أسيراً إلى بنغازي ثم مالبثوا حتى نفوه إلى جزيرة
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص303.(3/145)
اوستيكا ثم إلى فلورنسه بعد ذلك. وقد بقى الحسن منفياً بهذه المدينة الأخيرة حتى وفاته في عام 1936، وبعد ذلك اندلعت المعارك بين المجاهدين والطليان في الجبل الأخضر وكانت الطائرات الإيطالية تلقي قذائفها على معسكرات المجاهدين ونشطت عمليات الطليان العسكرية بعد أن غدروا بالحسن وهاجموا دور المجاهدين في وادي مهجة (28 يناير 1930) وألقت الطائرات قذائفها على العرب، وانتشرت المعارك في منطقة الجبل حتى أقفلت جميع الطرق (1).
ثالثاً: تعيين الجنرال غراسياني حاكماً لبرقة ونائباً للمرشال بادوليو الحاكم العام
كان الجنرال غراسياني عند قومه معظماً ومقدماً وقد قام بأعمال عسكرية في فزان شنيعة للغاية واستطاع أن يقضي على حركة الجهاد في فزان بدخوله غات في 25 فبراير 1930م وكان نصرانياً حقوداً على الإسلام والمسلمين لم يرقب في مؤمن إلاً ولا ذمة.
بعد بقائه في ليبيا لمدة تسع سنوات متتالية وبعد احتلاله الغاشم لفزان، دعى إلى إيطاليا لتشريفه وتكليفه.
ذكر في مذكراته وداعه لطرابلس فقال: (وداعاً طرابلس أرض آلامي وعذابي، غير انه تبقى في روحي، وداخل نفسي ذكريات كل حجر مرتفع في جبالك، وفي صحرائك الواسعة، ولكن لن ينطفئ أبداً ألمي وعذابي من أجل افريقيا وأنت ياطرابلس.
وفي روما كانت تنتظرني الاحتفالات التي يطمع كل جندي مخلص أمين يحظى برضا وتصفيق الزعيم الدوتشي (موسليني) .. وقد نلت هذا وصفق الزعيم ومجلس الأمة الإيطالي لي في جلسة بتاريخ 21/ 3/1930م، هذا الاحتفاء وهذا الرضا، كان أعظم مكافأة في حياتي، فلقد جددت في نفسي حب العمل والتضحية في سبيل الواجب الكبير الذي ينتظرني في ليبيا بجسم متعب في الأعمال التي تحملها في الماضي، ولكن بالروح والقلب الحريص والحاضر للعمل .. وبعد أن
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص34.(3/146)
استلمت التعليمات العليا سافرت على السفينة إلى برقة .. ويوم 27/ 3/1930م وصلت بنغازي التي غادرتها سنة 1914م خلال الحرب العالمية الأولى وكانت رتبتي ملازم أول في الجيش الإيطالي.
إن التعليمات التي صدرت عن رغبة الزعيم الدوتشي، وقسمت ونظمت من قبل صاحب السيادة دي بونو (والفريق) الماريشال بادوليو، بيتوا فيها تصميم الحكومة الفاشستية القضاء المبرم على الحركة الوطنية (الثورة) مهما كلف ذلك وبكل الطرق والوسائل لأنها القضية البرقاوية (1).
والتعليمات هي:
1 - تصفية حقيقية لكل العلاقات بين الخاضعين وغير الخاضعين من الثوار سواء في قاعدة العلاقات الشخصية أو الأعمال والحركات التجارية.
2 - إعطاء الخاضعين أمناً وحماية ولكن مراقبة لكل نشاطاتهم.
3 - عزل الخاضعين عن أي تأثير سنوسي ومنع أي كائن منعاً باتاً من قبض أي مبالغ من الأعشار والزكاة.
4 - مراقبة مستمرة ودقيقة في الأسواق وقفل الحدود المصرية بكل صرامة بحيث تمنع أي محاولة تموين لقوافل العدو (أي المجاهدين).
5 - تنقية الأوساط المحلية التي توجد بها عناصر تدعي الوطنية ابتداءً بالمدن الكبيرة وخاصة بنغازي.
6 - تعيين عناصر غير نظامية من الطرابلسيين لكي يكونوا قوة مضادة للمجاهدين وتعني بتطهير الأقليم من كل تمرد أو ثورة.
7 - حركة دقيقة وخفية لكل قواتنا (الطليان) المسلحة في المنطقة لخلق جو مذبذب ضد كل (الأدوار)، والمعسكرات، والضغط عليها حتى تتكبد الخسائر وتشعر بأن قواتنا موجودة دائماً وفي كل مكان مستعدة للهجوم.
_________
(1) انظر: برقة الهادئة، للجنرال غراسياني، ص82،83، 84.(3/147)
8 - الاتجاه السريع للاحتلال الكامل لكل أراضي مستعمرة الكفرة (1).
هذا هو جزار ليبيا غرسياني الذي جاء محملاً لتنفيذ الأوامر السالفة الذكر من أسياده في روما الكاثوليكية الفاشستية الميكيافلية.
ومنذ عودة غراسياني إلى بنغازي، بدأ نائب الوالي الجديد يضع هذا البرنامج موضع التنفيذ من غير إبطاء معلناً إنه سوف: (يتبع بكل إخلاص تعاليم الدولة الفاشستية ويسير على مبادئها، لأنه وإن كان قائد من قواد الجيش وأحد الرجال العسكريين إلا أنه يدين بمبادئ فاشستية محضة ويعلن هذه الحقيقة بكل وضوح وصراحة تامة) (2).
كان الجنرال غراسياني معروفاً بالعجرفة والطيش وبالجبروت الوهمي، وكان أول عمل قام به في الدوائر المدنية بعد وصوله هو إستبدال غالب الموظفين الإيطاليين بآخرين ممن يتمتعون بثقته عندما كان يعمل في طرابلس، كما جاء بقائد جديد للكربنير (الضابطية) هو الكولونيل كاستريوتا، وبالجنرال نازي ليكون مساعده الأول في القيادة العسكرية، واستعان بعصابة من المدنيين قد أخذوا ينفذون أهدافه الشريرة وأفكاره الشاذة بكل الوسائل ومن هذه العصابة الكمندتور موريتي (السكرتير العام) الكمندتور أجيدي متصرف لواء بنغازي، ثم بدأ زيارته للمناطق الخاضعة لنفوذ إيطاليا وكانت السلطات تجمع لاستقباله جميع الأهالي بما في ذلك النساء والأطفال والعجزة، فيخطب فيهم متوعداً ومهدداً (3)، وكان يستفتح خطاباته الطائشة بقوله (صموا أفواهكم وافتحوا آذانكم) ليلقى الرعب في نفوس المستضعفين الذين استسلموا وخضعوا لإيطاليا وكان قد ألقى كلمة تهديدية في جموع حشدتها السلطات في موقع (البريقة) إستهلها بقوله (ما أنتم إلا مثل سيجارة موقودة من الجانبين تلتهمها النار من هنا ومن هناك
_________
(1) انظر: برقة الهادئة، ص84، 85.
(2) انظر: عمر المختار، محمود شلبي، ص126.
(3) انظر: عمر المختار للاشهب، ص124.(3/148)
حتى تصبح رماداً وهاهو ذا أنا أولع السيجارة من جانبي ويوقدها عمر المختار من جانبه حتى يؤتى عليكم) (1).
وقال في خطاب ألقاه من شرفة قصره في بنغازي (تحت يدي وتصرفي باخرة تقف في الميناء وبأقل إشارة مني تنقل كل من أرى من الصواب نقله إلى إيطاليا وهذا أخف مانعاقب به) (2) وفي خطاب تهديدي آخر قال: (عندي لكم ثلاثة حالات، الباخرة الموجودة في الميناء، وأربعة أمتار فوق الأرض - مشيراً إلى أعمدة المشنقة - ورصاص بنادق جندنا - مشيراً إلى القتل رمياً بالرصاص) (3)، لقد قام غرسياني وحكومته بحشد المجهودات الضخمة للقضاء على عمر المختار بالصورة التي كلفت الخزانة الإيطالية في سنة واحدة مالا يقل عن النفقات التي تتكبدها دولة عظيمة لمجابهة دولة تماثلها في عدة سنوات.
فقد قال السنيور فيتيتي وكيل وزارة الخارجية في حديث له مع سماحة مفتي فلسطين الأكبر الأستاذ محمد أمين الحسيني رئيس الهيئة العربية العليا لفلسطين، وقد أورد سماحته هذا الحديث في مذكراته التي أخذت تنشرها جريدة أخبار اليوم، قال وكيل وزارة الخارجية المذكور: حقاً أن ماوقع في ليبيا سبب لنا متاعب كثيرة فعندما كانت السياسة الايطالية تتأثر في الماضي كثيراً بالسياسة البريطانية قبل عهد الفاشيست خدعتنا انكلترا وفرنسا فاستولت على أغنى وأغلى أقطار أفريقيا، وأغرتنا باقتحام ليبيا عام 1911م، فلم نجد فيها رغم الجهود المضنية والخسائر الفادحة في الأنفس والأموال غير الرصاص والرمال، ولم نجن من ذلك إلا بغض العرب ومقت المسلمين لنا (4).
رابعاً: المحكمة الطائرة:
لم يمض على وصول غراسياني سوى ايام قلائل حتى أنشاء ماعرف في تاريخ
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص124.
(2) المصدر السابق نفسه، ص124.
(3) المصدر السابق نفسه، ص125.
(4) انظر: عمر المختار للأشهب، ص126.(3/149)
الاستعمار الايطالي الاسود باسم المحكمة الطائرة (ابريل 1930م)، كانت تلك المحكمة تقطع البلاد على متون الطيارات وتحكم على الأهالي بالموت ومصادرة الأملاك لأقل شبهة وتمنحها للمرتزقة الفاشست وكانت تلك المحاكم تنعقد بصورة سريعة وتصدر احكامها وتنفذ في دقائق وبحضور المحكمة نفسها لتتأكد من التنفيذ قبل أن تغادر الموقع الذي انعقدت فيه لتنعقد في نفس اليوم بموقع آخر، وفتحت أبواب السجون في كل مدينة وقرية ببرقة وانتزعت الأموال من المسلمين بدون مبرر، ونصبت أعواد المشانق في كل من العقيلة، وجدابية، وبنغازي، وسلوق، والمرج، وشحات ودرنة، وعين الغزالة، وطبرق، ولأتفه شبهة وأقل فرية يصدر حكم الاعدام وينفذ في حينه شنقاً أو رمياً بالرصاص، وكان مما قتل شنقاً او رمياً بالرصاص في مدة لا تزيد عن شهرين من استلام غرسياني مقاليد الحكم في برقة؛ المشايخ بحيح الصبحي، على بويس العربي وابنه عبدربه بوموصاخ، خيرالله هليل، محمد يونس بوقادم، علي حميد ابوضفيرة، إثنان من قبيلة سعيد أشقاء حمد الرقيق، وهؤلاء من منطقة جدابية، ثم محمد الحداد وابنه بنغازي، وعبد السلام محبوب من الاخوان السنوسين، سليمان سعيد العرفي (المرج)، وخمسة عشر شخص بينهم الشيخ سعيد الرفادي (عين الغزالة وغيرهم كثير) (1).
خامساً: عزل المجاهدين ووضع القبائل في معسكرات الاعتقال الجماعية:
بدأ غراسياني ينفذ سياسة عزل الاهالي الخاضعين عن المجاهدين، وشرع في جمع الاخوان السنوسيين من شيوخ الزوايا وأئمة المساجد ومعلمي القرآن بها مع ذويهم جميعاً، وكل من تربطه بأحد هؤلاء أية صلة، وكذلك بمشايخ وأعيان القبائل، وبكل من يربطه أي نوع من أنواع الصلات بأحد المجاهدين او المهاجرين، جيء بهذه المجموعات يساقون الى مراكز التعذيب ثم الى السجون ولم يشفع في أحدهم سن الشيخوخة الطاعنة، او الطفولة البريئة أو المرض المقعد، او الضرر الملازم، وانشئت معتقلات جديدة في بنينه والرجمة، وبرج توبليك وخصص غراسياني مواقع
_________
(1) انظر: عمر المختار للأشهب، ص126،127.(3/150)
العقيلة والبريقة من صحراء غرب برقة البيضاء، والمقرون وسلوق في أواسط برقة الحمراء لتكون مواقع الاعتقال والنفي والتشريد والتعذيب لجميع سكان منطقتي الجبل الاخضر والبطنان بصورة جماعية، وبغير سكان هذين المنطقتين ممن تحوم حولهم أية شبهة، او تلفق ضدهم اقل فرية، وأمر بنقل قبائل هاتين المنطقتين المذكورتين الى هذه المعتقلات الخاصة بهم ثمانين ألفاً، وماهي في الحقيقة إلا مقابر يدفن فيها الاحياء وأداً، فخصص معتقل العقيلة والبريقة لقبائل العبيدات والمنفا، والقطعان، والشواعر، والمسامير، ... ولبعض عائلات الاخوان السنوسيين بما في ذلك سكان الجغبوب، ولبعض من سكان مدينتي بنغازي ودرنه، واسند حكم هذين المعتقلين لممثلي الظلم والجبروت والوحشية الفظيعة لكل من كسوني، باريلا (غير باريلا متصرف المرج).
وخصص معتقلاً المقرون وسلوق لكل من قبائل البراعصة والدرسا والعرفا والعبيد وأتباعهم وشطر كبير من عائلات الاخوان السنوسييين الذين سبق أن أبعد غرسياني رجالاتهم الى ايطاليا أو فرقهم بين السجون المختلفة، جيء بهذه القبائل التي بلغ تعدادها الثمانين ألف نسمة يساقون زمراً الى المعتقلات المذكورة، فمنهم من جاءها عن طريق البحر حيث حشروا بالمراكب حشراً ومنهم من جاءها عن طريق البر بعد أن أتت إيطاليا على جميع المنقولات حرقاً بالنار، كما أحرقت الزراعة ومحصولاتها، وأهلكت الحيوانات فيما عدا ما استعملته للنقل، وأحيط القسم المساق عن طريق البر بجنود من الصوماليين والاريتريين ليتعقبوا كل من يتخلف عن المساقين الى حتفهم، ويرمى المتخلف بالرصاص، وكان الرامي غير مسؤول عن عمله هذا، وأصبحت جميع مناطق الجبل والبطنان هلاكاً تلعب فيه الرياح (1).
لقد اراد غراسياني الانتقام من القبائل التي اثبتت الايام انها نعم العون للمجاهدين بعد الله، فجمع النواجع المنتشرة في منطقة الجبل الاخضر في أماكن احاطها بالاسلاك وحدث في تلك المعتقلات الجماعية مالم يصدقه بشر ولا خطر على بال
_________
(1) انظر: عمر المختار نشأته وجهاده، ص113 الى 149.(3/151)
انسان يعقل، لقد اشتدت المحنة واعتدى الايطاليون على الابدان والاموال والاعراض في تلك المعتقلات ولقد قام الباحث يوسف سالم البرغثي بدراسة متميزة سماها المعتقلات والاضرار الناجمة عن الغزو الايطالي وذكر فيها تفصيلاً محزناً، ووثائق تاريخية من أفواه من عاش تلك المرحلة العصيبة التي مربها شعبنا المظلوم (1).
لقد وصف مراسل جريدة ألمانية زار معسكرات الموت التي جمع فيها غراسياني أكثر من 80 ألف نسمة فقال: إن الانتقادات التي يوجهها الآن الفرنسيين والانكليز الى خطة الفاشيست في برقة، موجهة في الدرجة الاولى الى التدابير التي اتخذها الجنرال غراسياني لإجلاء 80 ألف بدوي عن اراضيهم، دون أن يرعوا حالة هؤلاء البدو الروحية، أو يلاحظوا تأثير مثل هذا القيد والحصار فيهم، ولا يجوز لأحد أن يخرج من نطاق الحصار إلا في النهار، بشرط أن يرجع الى مكانه قبل أن يخيم الظلام وكل واحد من رؤساء القبائل مسؤول عن اتباعه فرداً فرداً.
يجب أن نقول أن الحالة السيئة للغاية تفوق كل تصور، فان معدل الاموات من الأطفال يبلغ 90% وأمراض العيون التي ينتهي اكثرها بالعمى كثيرة جداً ومنتشرة ويكاد لا ينجو احد من الامراض، أما غذاء هؤلاء المساكين، فالأحسن أن لا نتكلم عنه بالمرة، ومن الطبيعي أن نرى هؤلاء يتألمون أشد الألم، وفي الدرجة الاولى من هذه الاسلاك الشائكة، رمز الاسر، ورغم تلاصق الخيام، وشدة تقاربها ببعضها، فإن حصرها ضمن اسلاك شائكة، يجب ان نعتبره من المتناقضات الغريبة التي لايتصورها العقل (2).
إن ماارتكب في العقيلة والبريقة وغيرها من المعتقلات من جرائم جعل المناضلين في العالم يصرخون وينددون بالاستعمار الفاشيستي في ليبيا فقال عبد الرحمن عزام يصف حالة المعتقلين ويلفت الأنظار إليهم: (يبحثون عن اخبار الاندلس وكيف اجرى الاسبانيون بالمسلمين هناك ومالهم والاندلس والامور جرت
_________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) انظر: عمر المختار، شلبي، ص188.(3/152)
في القرون الوسطى فأمام أعينهم طرابلس الغرب فليذهبوا ويشاهدوا باعينهم في هذه الايام فضائح لاتقل عما جرى بالاندلس) (1).
وعبرّ غراسياني نفسه عن المأساة التي كانت اكبر من قلبه القاس فقال: (لقد نتج عن هذا كله ان اكثر الناس هاجرت ونزحت الى مصر وتونس والسودان تاركة وراءها اهلها وذويها ... فاني حاسبت نفسي وضميري .. الامر الذي جعلني لم أنم هادئاً اكثر الليالي) (2) ويقول مبرراً جرائمه البشعة لانستطيع انشاء حاضر جديد اذا لم نقض على الماضي القديم) (3).
سادساً: عمر المختار يغير استراتيجية الحرب:
كانت معسكرات المجاهدين قريبة من نواجع الاهالي حتى يسهل على المختار وصحبه أخذ العشور والحصول على الذخائر والأسلحة والمؤن ولكن بعد حشر القبائل في المعتقلات الجماعية تغيرت خطة عمر المختار وطور اساليبه القتالية لما يتماشى مع المرحلة واعتمد على عنصر المباغتة وركن الى مفاجأة القوات الايطالية بعد كشفها والاستطلاع عليها في اماكن متفرقة (4).
يقول غراسياني: (بالرغم من ابعاد النواجع والسكان الخاضعين لحكمنا يستمر عمر المختار في المقاومة بشدة ويلاحق قواتنا في كل مكان) (5).
وقال عنه ايضاً: (عمر المختار قبل كل شيء لن يسلم أبداً لان طريقته في القتال ليست كالقادة الاخرين فهو بطل في إفساد الخطط وسرعة التنقل بحيث لايمكن تحديد موقعه لتسديد الضربات له ولجنوده، أما غيره من الرؤساء ... فإنهم أسرع من البرق عند الخطر، فيهربون الى القطر المصري تاركين جنودهم على كفة القدر معرضين لخطر الفناء، عمر المختار عكس هذا فهو يكافح الى أبعد حد لدرجة العجز
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص346.
(2) انظر: عمر المختار نشأته وجهاده، ص145.
(3) المصدر السابق نفسه، ص145.
(4) انظر: عمر المختار لمحمود شلبي، ص127،128.
(5) انظر: برقة الهادئة، ص227.(3/153)
ثم يغير خطته ويسعى دائماً للحصول على أي تقدم مهما كان ضئيلاً بحيث يتمكن من رفع الروح العسكرية مادياً ومعنوياً حتى يقضي الله امراً كان مفعولاً وهنا يسلم امره لله كمسلم مخلص لدينه) (1).
كان عمر المختار قطب تدور عليه رحى الاعمال، والتف المجاهدون حوله التفاف السوار بالمعصم واستمر العمل بقيادته ومساعدة معاونيه كيوسف بورحيل، والفضيل بوعمر، وعصمان الشامي، عوض العبيدي، وعيسى الوكواك العرفي، عبد الله بوسلوم، وعبد الحميد العبار وكانت مواقف عمر المختار تدل على شخصيته القيادية البارعة في أحلك الظروف واثناء المحن، ففي احد الايام وعقب انتقام الايطاليين من احد المنتجعات التي كانت تقدم مساعدات للمجاهدين تقدم بعض زعماء القبائل باحتجاج الى عمر المختار وطلبوا منه اما ان يسلم الى الايطاليين او أن يرحل عن مواطنهم أو انهم سوف يحاربونه لكي يتجنبوا انتقام الايطاليين، وعلى اثر تسلم هذا الانذار دعا عمر المختار الى عقد اجتماع في منطقة قصر المجاهير وقد ساد هذا اللقاء حالة من التوتر وشدة في النقاش في محاولة لتجنب حرب اهلية بين المجاهدين والليبيين الواقعين في المناطق الخاضعة للاحتلال، فرأى بعض المجاهدين تجنباً لهذا الوضع الحرج أن يهاجروا الى مصر لكي لا يتعرض الأهالي الى الانتقام وبعد حوار طويل، اظهر المختار مصحفه واقسم عليه بأنه لن يتوقف عن مجاهدة الايطاليين، وانه لن يترك الجبل الاخضر حتى يتحقق النصر او الشهادة، وفي نفس الوقت أعلن للمجاهدين انه من يريد الهجرة الى مصر فله مطلق الحرية في السفر او التسليم للايطاليين وعندما رأى المجاهدون موقف قائدهم عدلوا عن رأيهم واطاعوه وانفض الاجتماع على وحدة صف المجاهدين (2).
استمر غرسياني في تدابيره العسكرية، فلم يأت يوم 14 يونيو حتى كان الطليان قد استولوا على منطقة الفايدية، بأجمعها واحتلوها ونزعوا من الاهالي الخاضعين لهم 3175 بندقية، 60.000 خرطوش.
_________
(1) انظر: برقة الهادئة، ص129.
(2) انظر: عمر المختار نشأته وجهاده، ص71.(3/154)
نقل عمر المختار دائرة عملياته الى الناحية الشرقية في الدفنا نظراً لقربها من الحدود المصرية وذلك حتى يتمكن من إرسال المواشي التي يأتيه بها الأهالي الى الاسواق المصرية في نظير أخذ حاجته من هذه الاسواق، مما جعل غراسياني يقرر إقامة الاسلاك الشائكة على طول الحدود الشرقية. قال: ... أن أطمأن على خطوط تمونيه البعيدة أصدر أمره الى قواته الموزعة في كل مكان ألا تزعج بعد الآن الليبيين الخاضعين لسلطاتنا حتى لايكونوا سلاحاً آخر ضده وألا يغضبوا من حركته، وهكذا يصبح أمام ضميره بأنه مسلم حقيقي، ونظيف أن مد الاسلاك الشائكة المكهربة على حدود مصر كادت أن تنتهي وستضيق الخناق عليه تدريجياً حتى يقع في الفخ الذي سننصبه له إن مصر هي المأوى الآمين لعدد كبير من الآلاف المؤلفة من البرقاويين الذين ينتمون الى القبائل العمامة والتي لها امكانياتها البشرية والمادية، وكذلك لها التأثير الكبير على كثير من النفوس التي يسهل تجنيدها وتوجيهها نحو القتال مقتنعين بأنهم يدافعون عن الدين الاسلامي وعن كيانهم معتبرين أننا مغتصبين ومعتدين على حقوقهم ... هؤلاء الخارجين عن القانون ومن بينهم اعداؤنا يكونون المخازن الثانية لتمويل الثورة بالاسلحة والمؤن والرجال لكل الادوار رغم كل الاحتياطات التي اتخذتها سلطاتنا الحاكمة، زد على ذلك الاموال التي تجمع من لجان التبرعات من الاقطار العربية لمساعدة الثوار القائمين بالحرب المقدسة فوق الجبل الاخضر في برقة وحتى أن اتخذنا كل الاحتياطات ضد الخاضعين لسلطاتنا وابعادهم فالثوار لايزالون اقوياء يهاجموننا في كل مكان (1).
عزم غراسياني على مد الاسلاك الشائكة في الحدود الليبية المصرية المصطنعة من قبل الاستعمار مايزيد على 300كم من البحر المتوسط الى مابعد الجغبوب وقد كلف الدولة الايطالية عشرين مليوناً فرنكاً ايطالياً. وقد حقق لهم ذلك العمل أمور عدة ذكرها غراسياني في كتابه منها:
1 - قضى على الثوار.
_________
(1) انظر: برقة الهادئة، ص229.(3/155)
2 - قضى على التهريب وأصبح دخل الدولة الايطالية في ازدياد من ناحية الضرائب الجمركية.
3 - قضى على حركة الامدادات التي كانت تأتي للثوار المجاهدين من مصر عن طريق المهاجرين (1).
سابعاً: استشهاد الفضيل بوعمر:
استمرت المعارك بين الايطاليين والمجاهدين ومن اشهر تلك المعارك (كرسة) التي وقعت في يوم 20 ديسمبر وقد استشهد في هذه المعركة الساعد الايمن لعمر المختار الشيخ الجليل والمجاهد الفذ الفضيل بوعمر الذي شارك في مسيرة الجهاد منذ دخول الغزو الايطالي في 1911م وشهد له بالشجاعة والاخلاص في جهاده وقد ذكر عمر المختار تفاصيل هذه المعركة في رسالة له جاء فيها ان العدو هاجم المعسكر، وكان رئيسه السيد فضيل بوعمر وقد استشهد في هذه المعركة الى جانب الفضيل اربعون شهيداً وقد وجدنا في ميدان القتال مايزيد عن 500 من العدو وبينهم ماجور وثلاثة ضباط، وشدد الطليان عملياتهم العسكرية في منطقة الجبل الاخضر بعد هذه الواقعة، واستمرت جموعهم تناوش المجاهدين مدة اسبوعين، ولكن دون الوصول الى نتيجة.
وفي اكتوبر 1930م تمكن الطليان من الاشتباك مع المجاهدين في معركة كبيرة عثر الطليان عقب انتهائها على (نظارات) السيد المختار، كما عثروا على جواده المعروف مجندلا في ميدان المعركة؛ فثبت لهم أن المختار مازال على قيد الحياة، وأصدر غراسياني منشوراً ضمنه هذا الحادث حاول فيه أن يقضي على (اسطورة المختار الذي لايقهر أبداً) وقال متوعداً: (لقد أخذنا اليوم نظارات المختار وغداً نأتي برأسه) (2).
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص232،233.
(2) انظر: حياة عمر المختار، ص130 الى 133.(3/156)
ومع شدة قبضة الاستعمار الايطالي على المدن إلا أن ذلك لم يمنع الاهالي من القيام بواجبهم المقدس، واستطاعت المخابرات الايطالية ان تقبض على عدد من الليبيين الذين يزودون حركة الجهاد بالمؤن والمعلومات وتم اعدامهم وقد ذكر غراسياني بعض الاشخاص في كتابه فقال: وهنا اعرض بعض الاحوال الهامة لبعض الاشخاص الليبيين الذين نفذت فيهم المحكمة الخاصة حكم الاعدام في 14 يونيو 1930م عقدت المحكمة الخاصة في شحات لمحاكمة المواطن حمد بوعبد ربه الدرسي في الميدان العام، باعتباره خائناً للدولة الايطالية، لأنه كان شيخاً لبيت من بيوت قبيلته الدرسة، وكان محترماً من سلطاتنا ولكن اتضح لدى قسم المخابرات إنه يتعاون مع الثوار في امدادهم بالمؤن والسلاح، وكانت مخياماته تعتبر شبه استراحة لجنود الثوار (المجاهدين) وعدد هذه الخيام يزيد عن عشرين خيمة بمنطقة (قصر بن قدين) المكان الذي يتزود منه الثوار بالمؤن والسلاح، وقد حكم عليه بالاعدام رمياً بالرصاص في الميدان بشحات وأمام الجماهير، وبعد اسبوع من هذا الحادث حصلت حركة انتقامية من الثوار (المجاهدين). هجموا على نفس الميدان، وفي وضح النهار قتل فيه عدد كبير من جنودنا ... وكذلك تاجر من تجار المنطقة.
وفي شهر سبتمبر 1930م اكتشفت قوة الامن بمنطقة البركة ببنغازي أن المواطن محمد الحداد احد اعيان بنغازي ومن تجارها يتعاون مع الثوار وعن طريقه تتم حركة الامدادات من المؤن والاسلحة وكان يستضيف في بيته الثوار ويمدهم بما يلزمهم وفي الوقت والحين حضرت المحكمة الخاصة وحكمت على الأب والابن بالاعدام شنقاً أمام الجماهير التي ارادت السلطات الايطالية إحضارهم خصيصاً لمشاهدة تنفيذ الحكم، وهذا مثال آخر سليمان سيد شيخ قبيلة الطرش، كان عضواً في مجلس النواب، حاملاً لوسام النجمة الايطالية للمستعمرات برتبة ضابط، وكان يرتدي برنوس الشرف الخاص بالنواب الليبيين كنا نعتمد على آرائه ولم نفكر في يوم من الايام أن يكون ضدنا حكمت عليه المحكمة بالاعدام، لأنه كان يستغل نفوذه ويتعاون مع الثوار ... ومن هذا النوع الكثير من المشاهد التي لايمكن حصرها وقد نفذ مع(3/157)
مجيء المحكمة الطائرة 250 حكماً بالاعدام، ونفذ فيهم الحكم في مدة وجيزة ورغم ذلك لازال الشعب الليبي يتعاون مع الثوار الى درجة الضياع التام (1).
إن هذه الحقائق والمواقف التاريخية تشير الى فاعلية أهل المدن في جمع المعلومات والأموال والمؤن والأسلحة، وتهريبها الى قادة حركة الجهاد المبارك، وحرصهم على استمرارية جذوة الجهاد.
لقد وجد الايطاليون أنفسهم في حرب مع شعب دفع بكافة طاقاته نحو ساحات الوغى والفداء، وشارك معظم ابنائه بكافة مايملكون في حركة الجهاد المقدس.
ثامناً: احتلال الكفرة:
بعد ان استطاعت القوات الايطالية أن تعتقل قبائل برقة في معسكرات واسعة، واخذ غراسياني في مد الاسلاك الشائكة على طول الطريق على البحر المتوسط الى مابعد الجغبوب ليفصل برقة عن مصر وكان قد شرع في جمع قواته الضخمة من مختلف وحدات الجيش الايطالي والجيوش الملونة من المرتزقة ومن المعدات الحربية لإحتلال الكفرة.
كانت نقاط الاحتشاد هي العقيلة، ومرادة وجدابية وجالوا، وحشدت ايطاليا عدداً كبيراً من الابل استعداداً لنقل المؤن الى جانب سيارات النقل الكثيرة، هذا ماكان عن استعداد القيادة الايطالية ببرقة، أما عن القيادة الايطالية بطرابلس فقد جهزت هي الاخرى حملةمماثلة بقيادة الكونيل قالينا وكانت نقطة ارتكاز هذه الحملة واحة زلة وكانت القيادة العامة للحملة الموحدة تتمثل في شخص الجنرال رونكيتي تحت اشراف الجنرال غرسياني مباشرة وتحركت الجيوش الايطالية من طرابلس وبرقة في وقت واحد وبنظام موحد تسلك طريق الصحراء الى الكفرة، وتجمعت يوم 29 شعبان سنة 1349هـ بموقع الهواري، وهناك اشتبكت قواتهم مع المجاهدين في اولى المعارك وكانت معركة غير متكافئة، وقد اشترك قسم من الطائرات الايطالية
_________
(1) انظر: برقة الهادئة، ص153،154.(3/158)
مكون من عشرين طائرة، واستمرت المعركة ثلاثة ساعات قتل اثناؤها العدد الكثير من الايطاليين ومن المدافعين الذين ماكانوا يفكرون في صد العدوان طويلاً ولكنهم يحاولون إيقافه بعض الوقت ريثما يتمكن من يستطيع الفرار ليأخذ طريقه الى السودان أو مصر (1)، لقد قاتل المجاهدون جميعاً بشجاعة وبسالة نادرة، فلم يكفوا عن القتال، واستشهد العشرات ووقع في أسر الطليان ثلاثة عشر فقط، وغنم الطليان مائة بندقية، واحتلوا الكفرة، وهتكوا الاعراضن وفعلوا مالم يفعله انسان.
لقد كتب غراسياني عن اهتمامه بإحتلال الكفرة، وعن الاستعدادات التي اتخذتها الحكومة الايطالية اكثر من خمسة واربعين صفحة، لقد اعترف غراسياني بقوة وشجاعة المجاهدين الذين تعرضوا لقتال الايطاليين عبر الصحراء الكبرى. قال غراسياني: لقد حملتنا خسائر فادحة وكنا حريصين على تحقيق النصر بأي ثمن لكون قوات المجاهدين غير متكافئة، رغم هذا كله كانوا اشداء اقوياء صامدين، صابرين لايتقهقرون ابداً حتى ولو ادى ذلك لفنائهم جميعاً مؤمنين بأنهم اصحاب حق وشجاعة (2).
لقد اعترف العدو بهم كان زادهم التمر والشعير ومع ذلك دوخوا ايطاليا، وكان من بين القادة الذين اثخنوا في الاعداء عبد الحميد بومطاري الذي تزعم قيادة الزوية والمغاربة في تلك المرحلة في جهادها ضد ايطاليا، وصالح الاطيوش وسيف النصر الذي قال فيهم غراسياني: (لقد وصل سيف النصر، وصالح الاطيوش الى المنطقة وبصحبتهم الذين هاجروا من القطر الطرابلسي فأصبح الموضوع دقيقاً وبالاخص صالح الاطيوش فهو مكابر وشديد المراس (3).
إن المجاهد صالح الاطيوش من المجاهدين العظام الذين ساهموا في الذود عن حياض المسلمين لقد شهد له عدوه غراسياني بشدة مراسه، فله منا الدعاء بالمغفرة
_________
(1) انظر: عمر المختار للاشهب، ص129،130.
(2) انظر: برقة الهادئة، ص211.
(3) المصدر السابق نفسه، ص198.(3/159)
والرحمة والرضوان وله ولجميع اخوانه الذين سطروا لنا صفحات من البطولة والرجولة للذود عن ديننا العظيم.
إن عائلة آل الاطيوش تعرضت لبلاء عظيم، ولقد اعطى السنوسي الاطيوش صورة حية عن ذلك البلاء الذي كابده الفارون من جحيم الكفرة في ذلك الوقت.
إن اسرة عائلة الاطيوش أسرة مشيخة أصيلة في قبيلة المغاربة، تعد نموذجاً لما قاسته مختلف العائلات الليبية البارزة عبر فترة الكفاح الطويل ضد الايطاليين، فمن المعلوم أن الكيلاني الأطيوش، الذي عينه الوالي التركي في منصب القائمقام الكفرة سنة 1910م، توفي في العام التالي مباشرة وهو في طريقه الى جالوا للالتحاق بقوات المقاومة التركية ضد الغزو الايطالي، وأخوه سعيد قضى نحبه خلف اسوار معتقل ايطالي في العقيلة ومن بني أخيه واحد شنقه الطليان في سرت، وعبد الله استشهد في معركة النوفلية، كما قتل في البريقة اثنان آخران هما علي واحمد عبد عبد القادر الذي قتل في سرت سنة 1918م والآخر استشهد في معركة سرت بالقرب من اجدابية، وكذلك فقدت هذه العائلة مالايقل عن اربعة آخرين ماتوا في أثناء محاولة النجاة بأرواحهم من الكفرة.
فعندما هاجم الايطاليون الكفرة رحل صالح باشا الاطيوش بأهل بيته، وكان من بينهم السنوسي ابن أخيه، وبضعة اشخاص آخرين، في قافلة من الابل اتجهوا بها أولاً صوب العوينات على حدود السودان، فبلغوها بعد ستة ايام، وهناك ملأو قربهم بالماء وانقسموا الى فريقين، توجه أحدهما الى الشمال نحو وادي النيل، بينما عمد الفريق الآخر الى مرقة وهي واحة صغير غير مأهولة تقع في ناحية الجنوب الشرقي بالسودان. ويبلغ طول هاتين المسافتين 500 ميل و 300 ميل على التوالي، أي مسيرة 25 يوماً و15 يوماً بمعدل سير الابل العادي، ولم يكن ثمة أي أثر يمكن للمسافر اقتفاؤه ولا مورد ماء في الطريق، ولا احد يستطيع ان يتصور مدى خطورة رحلة كهذه مالم يكن قد جرب اجتياز تلك الصحارى على ظهر جمل وقد حكى السنوسي الاطيوش قصة تلك الرحلة فقال: (بعد مسيرة عدة أيام اخفقنا في الوصول(3/160)
الى مرقة وعرفنا أننا تائهون في الصحراء، فرجعنا ادراجنا نقصد العوينات. لما كنا استنفذنا مؤنتنا من المياه، أصبحنا مضطرين الى نحر ناقة أو جمل كل يوم لشرب الماء المخزون في بطون الابل، وكان كل منا يحمل في مخلاته بعض لحم الذبيحة ويأكل اثناء السير ومع ان المسافة التي قطعناها منذ خروجنا من العوينات كانت قد استغرقت منا ثمانية ايام كاملة، فقد بلغت بنا شدة المحنة اننا في طريق العودة قطعنا نفس المسافة خلال أربعة ايام فقط، راكبين او ماشين ليل ونهار وفي العوينات ملأنا قرب الماء من جديد، وبعد استراحة قصيرة واصلنا السفر عامدين نهر النيل رأساً، باقتفاء آثار الفريق الآخر من جماعتنا، وعثرنا في الطرق على جثث البعض، ومن بينهم امي وأختي واثنين من اخوتي قصفتهم طائرات الطليان، او ماتوا عطشا.
وكنا نغذ السير ليل نهار حتى وصلنا آبار كريم بعد تسعة ايام ونحن اقرب الى الموت منا الى الحياة، وهناك اسعفنا الحظ بلقاء بعثة استكشافية كان قد نظمها الامير عمر طوسون بقيادة ضابط بريطاني، فحملتنا معها الى واحة الخارجة ثم الى الداخلة. ومنها انتقلنا الى المنيا حيث استقر بنا المقام مع ناس من قبيلة الجوازي التي تربطنا بها صلة القرابة. ومكثنا هناك حتى عام 1940م وعندها التحقنا بالقوات الليبية تلبية لنداء الامير) (1).
إن هذه القصة الحزينة تعطينا صورة واضحة عن ماكابده الليبيون الذين استطاعوا الهروب من هجمة غراسياني الوحشية على الكفرة، وتلك الغارة الهمجية، ولقد تأثر العالم الاسلامي من الأخبار التي سمعوها من العوائل الليبية التي كتب الله لها النجاة، وقد قام الامير شكيب ارسلان بدور مشكور في توضيح تلك الاعمال، وكتب مقالات صادقة أصبحت وثائق مهمة للمؤرخ لتلك المحنة العظيمة التي مرّ بها الشعب الليبي المسلم فقد قال: ( .... إنهم لما احتلوا واحة الكفرة في 13 يناير من سنة 1931م استباحوا قراها ثلاث أيام فقتلوا ماصادفوه من الأهالي وكان من جملة القتلى بعض الشيوخ الاجلاء مثل محمد عمر الفضيل، والسيد حميد الفضيل،
_________
(1) انظر: الملك ادريس عاهل ليبيا، ص58،59.(3/161)
والشيخ فضيل الديفار وغيرهم ممن قتلوه صبراً غير داخل في ذلك من قتلوا من المعركة التي جرت بين الاهالي وجيش الحملة الطليانية وهم 200 شخص ثم ان الطليان انتشروا في القرى والبساتين ونهبوا كل ماوقع في ايديهم ولم يرحموا الشيوخ ولا الاطفال ولا النساء وصادفوا الشيخ مختار الغدامسي وهو شيخ فان بلغ ثلاثاً وتسعين سنة، ومن جلة علماء السنوسية فحملوه مقيداً بالحبال على جمل ونفوه من الكفرة فمات في الطريق. ثم اغتصبوا النساء في اعراضهن وقتلوا منهن كثيراً ممن دافعن الى الآخر عن اعراضهن.
وكان نحو من 200 امرأة من نساء الاشراف قد فررن الى الصحراء قبل وصول الجيش الايطالي، فأرسلوا قوة في أثرهن حتى قبضوا عليهن وسحبوهن الى الكفرة حين خلا بهن ضباط الجيش الطلياني واغتصبوهن وهكذا نزلوا المعرات بسبعين اسرة شريفة من أشراف الكفرة الذين كانت الشمس تقريباً لاترى وجههن من الصون، والعفاف، وقد أشارت الصحف الطليانية الى هذه الحادثة وصرحت في باب الافتخار قائلة: (إن الجيش قبض على 200 امرأة من نساء الزعماء) وقرأنا ذلك باعيننا ولحضنا ان مقصود البلاغ العسكري الايطالي التبجح بكون حلائل زعماء الكفرة صرن الى الضباط إلا اننا انتظرنا جلاء الاخبار من الجهة الثانية حتى نعلم ماذا جرى بعد التثبت، فمضى شهر حتى وردت الاخبار من المهاجرين الذين دخلوا حدود مصر بأن هؤلاء السيدات المقصورات الناشئات في اكرم بيوت الطهارة والصون قد قبضوا عليهن في الصحراء وصرن الى أولئك الفجرة الذين لايعرفون لصيانة العرض معنى ولايقيمون للشرف وزنا.
وعلمنا أن بعض شيوخ الكفرة الذين احتجوا على هتك اعراض السيدات المذكورات قد أمر القائد بقتلهم ثم لما هج هائج العالم الاسلامي من جراء هذا الخبر واشباهه اذاعت الحكومة الايطالية تمويهاً ظاهراً زعمت فيه أن الجيش تأثر للنسوة المائتين المذكورات شفقة عليهن ولأجل أن يرجعن الى بيوتهن آمنات وغير ذلك من الاقاويل التي قصدت ايطاليا بها تخدير اعصاب المسلمين الذين بلغهم ماكان جرى بالكفرة من هذه الفضائع من هتك اعراض مخدرات المسلمين ومن استباحة الزاوية السنوسية المسماة (التاج) وأراقة(3/162)
الخمور فيها، ودوس المصاحف الشريفة بالاقدام هذا منظماً الى ماكن بلغهم من قبل من اجلاء 80 ألفاً من عرب الجبل الاخضر عن اوطانهم واماتتهم بالجوع والعطش، واخذ اطفالهم قهراً الى ايطاليا لأجل تنصيرهم الى ماكان بلغهم من فظائع كثيرة مثل حمل الشيخ سعد شيخ قبيلة (الفوائد) وخمسة عشر شيخاً من رفاقه بالطائرات وقذفهم بهم من الجو على مشهد من أهلهم حتى إذا وصل احدهم الى الارض وتقطع ارباً صفق الطليان طرباً ونادوا العرب قائلين (ليأت محمد هذا نبيكم البدوي الذي أمركم بالجهاد وينقذكم من أيدينا) هذه حادثة وغيره من الأمور في هذا الشأن كثيرة جرحت قلوب المسلمين، فجرت مظاهرات بالشام، وحلب، وطرابلس الشام، وبيروت، وفلسطين، وانعقدت اجتماعات في كل مكان للاحتجاج على أعمال إيطاليا، وأبرق المسلمون بالاحتجاجات الشديدة الى جمعية الامم بجنيف والى نفس موسيلني بالعبارات القاسية وقامت قيامة الجرائد العربية وحملت على توحش الفاشيت من كل جانب وامتلأت جرائد مصر بالاحتجاج والطعن في ايطاليا الى أن عطلتها الحكومة المصرية اجابة لطلب الحكومة الايطالية ووصل الصريخ الى الهند والجاوى وأضج المسلمون لهذه الاخبار وانعقد في الجاوى اجتماع كبير حضره ألوف مؤلفة من المسلمين وخطبوا خطباً شديدة ودعوا الى مقاطعة البضائع الايطالية، وتدخلت الحكومة الهندية في الأمر وانتصرت
لايطاليا بمقتضى قاعدة التكامل الاوروبي بوجه المسلمين، وقاعدة التكافل الاستعماري بوجه الامم المقهورة واشاع قناصل ايطاليا ان كل هذه الاخبار عمّا حل بمسلمي طرابلس ملفقة لا أصل لها وبلغت بهم الوقاحة أنهم كانوا يخاطرون الناس مخاطرة على أن يذهبوا الى طرابلس بأنفسهم ليشهدوا كذب هذه الاقاويل وبلغ بهم البهتان أنهم اشاعوا ايضاً أن ايطاليا اقترحت على جمعية الامم ان ترسل الى طرابلس لجنة من عندهم للتحقيق عما ينسب الى رجالها من الأعمال الشنيعة التي هم أبرياء منها، وكل هذا اختلاق محض قصدت به ايطاليا التمويه وتخدير الاعصاب وصرف المسلمين عن مقاطعة بضائعها، وقد سكن كثير من المسلمين الى هذه التكذيبات وهدأ بالهم والحق خلاف ذلك،(3/163)
وكل ماشاع من الاخبار عن اعمال الطليان لاسيما بعد مجيء دول الفاشيست هو دون الواقع، ولو تأمل المسلمون فيما يأتيه الفاشيست في نفس ايطاليا من الموبقات ومن اغتيال اعدائهم السياسيين، ومن حجر كل حرية ومن منع تأليف كل حزب يخالف حزبهم وأمام هذا الانتقام الرهيب من المسلمين في قتلهم وتغريبهم عن ديارهم، فلا تسأل، فقد أصبحت في حكم المتواتر الذي لايصح فيه المراء بالاتفاق عشرات الالوف من الاهلين على روايته فقد نزح عن طرابلس وبرقة نحو من مائتي ألف نسمة وقيل من 300 الف نسمة منهم 20 ألف دخلوا تونس والجزائر، ومنهم 60 الفاً دخلوا مصر، ومنهم من شردوا الى السودان، ومنهم من تفرقوا في الصحارى وقد اطبقوا بأجمعهم على صحة هذه الاخبار ومشاهدتهم تلك الافعال بالعيان، وانه ليستحيل اتفاق الألوف المؤلفة على الكذب هذا فضلاً كون هذه المظالم حقيقة راهنة ماكان هذا العدد الكبير من الاهالي يترك وطنه ويهيم على وجهه في البراري او يلتمس الرزق عاملاً في أرض غيره بعد ان كان سيداً في أرضه، ومن أغرب المتناقضات والتناقض من عادة كل كاذب، أنه بينما ممثلوا ايطاليا في بلاد الاسلام يذيعون أن من شاء أن يذهب الى طرابلس
بنفسه ليتحقق من كذب تلك الاخبار عن فظائع الطليان فيها فإن ابواب طرابلس مفتوحة لمن شاء الذهاب الى هناك وبينما قنصلهم في بيروت يشيع ذلك في بيروت، وبينما الحكومة الايطالية تقول هذا القول لشوكت علي الزعيم المسلم الهندي أذا بقيت ايطاليا مدة طويلة بعد احتلال الكفرة وحوادثها المؤلمة تمنع كل دخول وخروج بين الحدود المصرية والحدود البرقاوية لئلا يقف اهل مصر على الحقائق والاخبار فيزدادوا هياجاً. ولكن الحقائق لابد أن تظهر ولايمكن ايطاليا اخفاء كل ماتأتيه من الاعمال الوحشية في طرابلس وليس المسلمون وحدهم هم الذين شاهدوا أعمال الطليان وضجوا منها بل ثمة كثير من الافرنج شاهدوها وأنكروها (1).
لقد قام الامير شكيب ارسلان بدور مشكور في الدفاع عن الليبيين واظهار
_________
(1) انظر: حاضر العالم الاسلامي (2/ 69،70،71،72).(3/164)
وحشية الايطاليين، ولقد كتب في صحف ذلك الزمان مقالات حزينة، بيّن فيها الاعمال الوحشية التي قام بها الايطاليون ضد الشعب الليبي المظلوم وهذه وثيقة اخرى تاريخية لمقال كتبه الامير شكيب في مجلة الدولة العربية ولقد انتشر هذا المقال شرقاً وغرباً ونص هذا المقال:
تاسعاً: دور الصحافة الاسلامية:
التعذيب الايطالي في طرابلس
تحرير الامير شكيب ارسلان
كانت الحركة الاسلامية تائهة عن كل مايحدث في طرابلس من تعذيب وهمجية من البرابرة الايطاليين الذين ماأتوا الى هذه الأرض إلا ليؤخروها عن التقدم والمدنية، بعكس ماكانوا يقولون ويكتبون .. نعم ان الناس علمت بأن الحكومة ايطاليا الفاشيستية نقلت مايزيد عن 80 ألف عربي من الجبل الاخضر ووضعتهم في الصحراء (سرت) ... نزعت منهم اراضيهم بحجة التعمير وان المعمرمين الايطاليين هم احق من أي أحد آخر، لانهم يتقنون هذا العمل أكثر وأحسن من العرب.
إن العالم علم بأن الجيش الايطالي احتل الكفرة وواحاتها بعد قتل السكان العزل والثوار الذين دافعوا عن وطنهم الى النهاية، وان الصحافة الايطالية تتبجح وتنشر بأن جيشها اسر مائة امرأة وهن زوجات الشيوخ هناك.
وفي مجلتنا (الدولة العربية) وجهنا سؤالنا الى الايطاليين الفاشستيين عن معنى هذا التبجح باسر مائة امرأة.
مع العلم بان التقاليد والعادات العالمية وبالاخص البيئة العربية التي تنفي اضطهاد المرأة أو النساء خصوصاً اثناء قيام الحرب. ولكن ماكنا نعتقد أن دولة تعتبر نفسها من دول البحر الابيض المتوسط مهد الحضارة الاوروبية ان تصل الى هذه الدرجة من الانحراف والخروج عن جادة التمدن والرقي.(3/165)
لم يسبق في تاريخ البشرية بل في تاريخ البربرية، أن معاملة الجيش الايطالي الفاشيستي للنساء هي معاملة وحشية بدرجة تتقزز منها النفوس، فهي معاملة سيئة سواء في طرابلس أو في برقة.
ان هذه الاخبار لم تكن نسيجاً من خيال اوفكرة طارئة وانما هي حقائق يرويها من اسعده الحظ بالنجاة من المذابح التي قام بها الجيش الايطالي الفاشيستي.
شرحوا لنا مايلي:
1 - عندما اتجهت القوات الايطالية لاحتلال الكفرة كانت معززة بالطائرات التي تلقي قنابلها على السكان العزل من شيوخ ونساء واطفال وخلاف هذا سمحوا لجنودهم ان يعبثوا بالسكان لمدة ثلاثة أيام مطلقي الايادي في البيوت والأسواق والمساجد وفي كل النواحي تصرفات وحشية لم تخطر علىبال احد نهبوا وقتلوا واحرقوا كل مامروا به ولم يتركوا أي جريمة تخطر ببالهم إلا وارتكبوها، قتلوا العلماء والمشائخ، هتكوا حرمات البيوت وبقروا بطون النساء وان عدد العائلات التي قضي عليها عند احتلال الكفرة يزيد عن 70 عائلة من علية القوم، وعلاوة على هذا فقد اتخذوا زاوية السنوسي (التاج) كحانة شربوا فيها الخمر حتى ثمالة الجنون وشربوا نخب القضاء على المسلمين واحتلال طرابلس وبرقة .. ألقوا بالمصاحف القرآنية في الاصطبلات تحت سنابك الخيل وبالكتب العلمية اوقدوا بها النار تحت قدورهم لطهي طعامهم. وقد استشهد من الثوار في احتلال الكفرة مايزيد عن (200) شهيد من بينهم المشايخ الآتية أسماؤهم:
الشيخ صالح العبادية، الحاج سليمان بومطاوي، الشيخ غيث بوقنديل، الشيخ سليمان الشريف، الشيخ محمد يونس، الشيخ احمد بو اشناك وحفيده الشيخ عمر، الشيخ حمد الحامي، الشيخ عبد السلام بوسريويل، الشيخ محمد المسحوق وحفيده على بن حسين، الشيخ محمد العربي، الشيخ محمد بوسجادة الشيخ محمد الفايدي الجلولي، الشيخ خليفة الدلال. أما الرواية الثانية هي كيف تم احتلال الكفرة من اولئك الغاشمين المتوحشين من مشاهدين حقيقيين لتلك الاحداث، قبل(3/166)
دخول الايطاليين الى الكفرة قامت طائراتهم بقصف واحات الكفرة بقنابلهم الفتاكة فوق السكان العزل حيث قتل عدد كبير من النساء والشيوخ والاطفال، وبعد أن دخلوا الكفرة اطلقوا أيدي جنودهم لمدة ثلاثة أيام للعبث والتخريب في الكفرة فقد اطلقوا بغالهم وخيولهم حيث دوت كل المزروعات فاستولوا على كل المواد الغذائية وقطعان الاغنام والبقر لتموين جنودهم المحتلين دون مقابل وعلاوة على هذا نهبوا اثاث السكان وقسموها على ادارات الجيش الزاحف كذلك ملابس النساء وحليها، هذا قليل من كثير زد على ذلك اعتداءاتهم على حرمات الناس العزل دون وازع من ضمير، وعندما اتجه بعض المشايخ الى قائد الحملة راجين منه اصدار امره الى الجنود بالكف عن هذه الاعتداءات على الناس كان مصيرهم القتل رمياً بالرصاص باعتبارهم خونة، وبالاختصار ان الايطاليين عندما احتلوا الكفرة قاموا بأعمال وحشية لم يسبق ان حدثت في التاريخ حتى في القرون الوسطى عهد الهمجية.
ان قضية الـ 80.000 عربي الذين نقلتهم القوات الغاشمة من اراضيهم الخصبة في الجبل الاخضر الى مناطق جدبة صحرواية لا ماء فيها ولا كلأ، هي منطقة (سرت) كي تموت المواشي جوعاً، وعطشاً. أما البقية فقد استولى عليها الجنود الايطاليون واصبحوا فقراء تدفع لهم الحكومة الايطالية فرنكين عن كل يوم لكل شخص مهما كان عدد عائلته. اما بالنسبة لحلي النساء وملابسها فقد نهبها الجنود الايطاليون، واصبحت العائلات في هوة الفقر سواسية. وفي اثناء مرافقة هذا العدد الضخم من رجال ونساء وأطفال، كان الجنود يسومونهم سوء العذاب وكل من يعجز عن المسير مصيره الموت فيقتلونه ويتركونه يتخبط في دمه.
ان الرجال والشبان الذين تترواح اعمارهم من 15 الى 40 سنة اجبروا على الانخراط في قوات الجيش. واما الصغار الذين تترواح اعمارهم من 14 سنة فقد اخذوا بالقوة من أهليهم وارسلوا الى ايطاليابحجة تعليمهم، ولكن في الحقيقة من اجل تنصيرهم.(3/167)
وهذا ماكان يتحدث به سكان (روما) وهو تنصير الليبيين بصورة عامة والطرابلسيين بصورة خاصة. ورغبة الايطاليين الفاشستيين هي القضاء المبرم على العنصر الاسلامي في ليبيا، فاذا ليبيا تصير ايطالية وبجوارها مصر، سوف تتعرض الى أكبر خطر. وان مصر لن تسكت عن هذا الاجراء لان الايطاليين في اعتقادهم المريض ان مصر ليست دولة عربية، وانما هي خليط من عدة اجناس .. الأمر الذي يجعل ايطاليا تحكم بأن تغزو مصر وتتمكن من اراضها وشعبها كما تمكنت من طرابلس. ان الوعود المعسولة التي كانت تصرح بها السلطات الايطالية. وتمنياتها الطيبة التي كانت تعرضها على الشعب الليبي وانها -يعني ايطاليا- ما أتت إلا لتخلص الشعب الليبي من الاستبداد التركي. ولأجل ان تذر الرماد في أعين الناس، أتت بادريس وقلدته لقب الامارة ووعدته بالحكم الذاتي، ولكن كانت دائماً وعوداً فقط. وهاهي ايطاليا تلغي كل شيء وتبدأ في سفك الدماء وتطرد السكان من اراضيهم وأموالهم وأخذت اولادهم وبناتهم الى ايطاليا من أجل تعليمهم، وفي الواقع من أجل تنصيرهم .. اني اقل على المسلمين ان يتذكروا هذه كله وان يتفهموه .. فان هناك من يتفلسف ويتشدق بالقول بأن في اوروبا تسود العدالة والحرية، وان الدول الاوروبية لا تتعرض للقضايا الدينية، وان السبب في سقوط المسلمين هو التعصب الاعمى: ان هذه الالفاظ وهذه المغالطات تنذر المسلمين جميعاً بأنهم إذا لم يتحدوا ويذودوا عن حياضهم سوف يتعرضون الى القضاء ويفقدون قواتهم المسلحة وحرياتهم السياسية، سوف يحدث لهم كما حدث لطرابلس إذا لم يحافظوا على حريتهم واستقلالهم ان موقف ايطاليا من حضارة القرن العشرين موقف غير مشرف فقد رجعت الى معاملات القرون الوسطى.
ان الايطاليين المتوحشين لم يتحرجوا لا كبيراً ولا صغيراً فقد اعتدوا على الحريات اغتصبوا النساء وهتكوا الاعراض. كل هذه الاعمال من أجل اضطهاد المسلمين وروحهم الانتقامية.
لقد زجّ الايطاليون في السجون الكثير من الاهالي ومشايخ القبائل وقد عارضهم(3/168)
وندد بأعمالهم الشيخ سعد الفايدي شيخ قبيلة الفوايد فما كان منهم إلا أن قتلوه ومعه 15 من ابناء قبيلته البعض منهم ألقي من الطائرة من علو 400 متر وكلما كانت الطائرة تلقي بواحد منهم هناك كان الهتاف يعلو وصياح الجنود يزداد.
إن الصحفي الدانماركي الشهير (كنود هولمبوي) الذي اعتنق الاسلام وقام بجولة سياحية أثناء هذه الفترة في ليبيا، قد شاهد بنفسه وعينيه كل التعذيب والاضطهاد الذي يقوم به الجنود الايطاليون الفاشيست يقول:
شاهدت 20 عربياً مسلسلين .. شنقهم الجنود بأمر من ضابطهم دون محاكمة ولم تكن هناك محكمة .. هذا المنظر البشع أثر في نفسي ولم يكن في اعتقاده ان دول مثل ايطاليا الفاشستية وهي احدى دول البحر الابيض المتوسط تقوم بمثل هذه القسوة وهذه الوحشية. إنها جرائم سيسجلها التاريخ في صفحة سوداء، وسيبقى وصمة عار في جبين الدولة الايطالية على مدى الدهر والازمان.
إن ايطاليا ارادت ان تحذو حذو فرنسا في تنصير المسلمين إبان حكمها في المغرب فقد عملت ووزعت المبشرين في طول البلاد وعرضها وبنت العديد من المعابد والكنائس في كل المدن والقرى لتقضي على الدين الاسلامي وهكذا عملت ايطاليا فقد بنت المعابد في طرابلس وبنغازي وكل القرى وأمرت المبشرين بأن يسعوا بكل الوسائل لتنصير العرب مهما كان الثمن. وقد فاقت على فرنسا بطريقة اخرى فأخذت الاطفال من حجور امهاتهم وبعثت بهم الى ايطاليا الى تلك المعاهد المسيحية لتعليم هؤلاء الاطفال الدين المسيحي .. وعزلهم عزلاً كلياً عن وطنهم وبيئتهم ... بحيث يشبون ويترعرعون في الجو الفاشستي والكنيسة المسيحية.
ان سياسة ايطاليا الفاشستية هي القضاء على الدين والعقيدة وابعاد المسلمين عن معابدهم ومساجدهم وكم من مرة صرح موسوليني رئيس الحكومة والحزب الفاشستي في خطاباته بعد احتلال (الكفرة) بأنه عازم على تثبيت ثلاثة ملايين من السكان الايطاليين في الاراضي الليبية الخصبة.(3/169)
وقد ايد هذا الرأي الكثير من السياسيين وأبرزها الكثير من الصحفيين على صفحات جرائدهم ومجلاتهم.
منذ أيام قرأت بالجريدة الرسمية المرسوم الملكي القاضي بمصادرة أملاك المواطنين وأوقاف المسلمين والزوايا السنوسية وأوقافها. وبهذه الطريقة الجهنمية عملت ايطاليا الفاشستية على تملك الايطاليين كل الممتلكات الليبية وبالتدريج وابعاد الليبيين من كل المجالات حتى تصبح ليبيا خالية من كل العناصر ولا يبقى بها إلا الايطالي المسيحي الكاثوليكي.
إذ الكلام الصادر من الجنرال او المارشال لم يكن إلا ذوداً وبهتاناً وتضليلاً لتهدئة المسلمين؟ حتى تستطيع السلطات الايطالية الفاشستية تنفيذ أغراضها الاستعمارية. وهي ان استحوذت على الملايين من هكتارات الاراضي الزراعية وغيرها (من أين لها هذه الاراضي) فالجواب معروف. استحوذت عليها بطرد أهلها الحقيقين ونقلهم الى المناطق الهلاك هم ومواشيهم على السواء امام أعين العالم المتمدن.
وأمام عصبة الامم. وبالاختصار تبجح الايطاليون بقولهم ان طرابلس وبرقة كانتا رومانيتين .. فلابد أن ترجعا رومانيتين كما كانتا - هذا هو هدف الفاشيست بدون تردد.
إننا لانصدق مايقولون لقد خالفوا القواعد الدولية والانسانية، ولم ينفذوا حرفاً واحداً من تعهداتهم الى الطرابلسيين والبرقاويين، حتى التعهدات الكتابية والاتفاقات المبرمة بينهم وبين ادريس السنوسي، فكانت عبارة عن اكاذيب وكسب للوقت. نحن مقتنعون بأن كل ماكتبناه وأعلناه على الملأ أجمع ستكذبه السلطات الفاشيستية، وستوجد لنا مضابط لكي تدحض أقوالنا ولكن كل ماكتبناه ثابت وصحيح ومصدره من جهة عاصرت الاحداث وهي هيئة التحرير الليبية في دمشق فقد أثبتت الحوادث والاعتداءات بالوثائق الرسمية، وبالاخص في احتلال الكفرة فقد ارتكب الجنود الايطاليون الفاشيست أبشع الجرائم باعتداءاتهم على النساء وقتلهم الشيوخ والاطفال. واعتدوا على حرمات المساجد والمقدسات. وقد ادعت ايطاليا بأن كل(3/170)
الاعمال العسكرية التي قامت بها ماهي إلا تأديب لاناس أعلنوا العصيان على دولتهم، وهذه حجة واهية لايقبلها العقل ولا تقوم بها دولة متمدنة كما تدعيه ايطاليا الفاشيستية. وان الثوار في العرف الدولي لم يكونوا من العصاة على الدولة وإنما هم أصحاب حق يدافعون عنه، اغتصبه عدو دخيل.
بقي علي أن اختتم مقالي هذا الذي كتبته لا أريد منه تحريض المسلمين على أن ينتقموا من الايطاليين الذين يعيشون معهم حاشا لله نحن لسنا من الانتقاميين ولا في الجهل مثل الايطاليين الفاشيست وليس من شيم أخلاقنا أن نستعمل القوة على من هو أضعف منا.
وان المسلمين لن يغيروا أبداً تراثهم الخلقي الذي ورثوه أباً عن جد. ولكني أقترح ماهو آت:
1 - جمعية الشبان المسلمين في كل بلد عليها أن تحتج على كل أساليب الاعتداء والاجرام التي ارتكبتها ايطاليا الفاشيستية في ليبيا. وان ترسل برقية احتجاج شديدة اللهجة الى عصبة الامم وتنشر على الصحف العالمية.
2 - كل المدن والمقاطعات الاسلامية التي تتقد حماساً والدم الساخن الذي يجري في عروقهم، عليهم أن يقدموا احتجاجاتهم الى عصبة الامم برقياً مستعجلاً ونشرها جميعاً على صفحات مجلاتهم وجرائدهم المحلية.
3 - ان مجموعة الدول الشرقية بالقاهرة هي كذلك عليها ان تحتج وتندد بأعمال القمع والعنف التي تقوم بها ايطاليا الفاشيستية وتقدمه الى عصبة الامم مثل الهيئات الاخرى.
4 - كل الهيئات الاسلامية والعربية والشرقية بالقاهرة وسوريا والعراق والعربية السعودية والهند وجاوا وغيرها لابد وان يقوموا بواجبهم نحو القضية الليبية.
5 - عقد اجتماعات شعبية في المدن الاسلامية وإلقاء الخطب الحماسية لشرح ظلم واستبداد السلطات الايطالية الفاشيستية وهتافات بسقوط العدو الغاصب.(3/171)
6 - يجب على كل المسلمين أن يقاطعوا كل البضائع الايطالية والسفن وكل الوسائل والاعمال وكل شيء يحمل اسم ايطاليا، وقطع كل العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وكذلك تكوين لجان شعبية خاصة بمراقبة البضائع الايطالية.
7 - طبع المنشورات وكتيبات تبين فيها تصرفات ايطاليا الفاشيستية واضطهادها للشعب الليبي، ويكون طبعها كذلك باللغة الانكليزية والفرنسية والالمانية والايطالية ويكون توزيعها بالآلاف في اوروبا وفي كل العالم ومن واجب كل مسلم ان يقوم بالصاق هذه المنشورات في كل الشوارع والميادين، وتوزيع الكتيبات في كل مكان من العالم. كذلك على كل مسلم أن يعلق في بيته بعضاً من هذه المنشورات حتى لاينسى مايعانيه الشعب الليبي من اضطهاد وتعذيب.
أيها المسلمون:
لا تقولوا بأن هذا الحديث في طرابلس وليبيا فقط وإنما الليبيون الشرفاء طعنوا في شرفهم .. في دمائهم .. في دينهم وفي أموالهم وممتلكاتهم وكذلك سيحدث لكم أنتم مثل هذه المأساة وسيحل بكم العذاب كما حل بالليبيين الشرفاء إذا لم تدافعوا عن أنفسكم، إذا لم تبينوا أنفسكم أنكم أحياء.
أيها المسلمون:
في الوقت الحالي لن تستطيعوا الدفاع عن انفسكم وبسلاحكم فقط بل سخروا أقلامكم وكذلك باحتهادكم وبصبركم على المكائد، لتدافعوا عن كيانكم وعن ارضكم وعن مقدساتكم وتثبتوا للعالم بأنكم شعب يعرف كيف يقاوم.
لوزان 12 ذو القعدة
7 ابريل 1931م
شكيب ارسلان(3/172)
قال شكيب ارسلان ولما حررت المقالة التي نشرتها عن فجائع طرابلس وبرقة سنة 1931م على أثر دخول الطليان الى الكفرة وارتجف لها العالم الاسلامي غضباً وعلا الصراخ من كل جهة جاءني من الشيهد الاكبر بطل الجبل الاخضر السيد عمر المختار الكتاب الآتي:
عاشراً: رسالة من عمر المختار إلى شكيب أرسلان:
كانت تلك الجهود التي قام بها الأمير شكيب أرسلان وصلت أخبارها للمجاهدين، فأرسل قائد حركة الجهاد رسالة شكر واحترام وتقدير لتلك الأعمال وهذا نص الرسالة (إنه من خادم المسلمين عمر المختار إلى المجاهد الأمير الخطير أخينا في الله وزميلنا في سبيل الله الأمير شكيب أرسلان حفظه الله بعد السلام الأتم والرضوان الشامل الأعم ورحمة الله وبركاته قد قرأنا مادبجه قلمكم السيال عن فظائع الطليان وما اقترفته الأيدي الأثيمة من الظلم والعدوان بهذه الديار فإني وعموم إخواني المجاهدين نقدم لسامي مقامكم خالص الشكر، وعظيم الممنونية. كل ماذكرتموه عما اقترفته أيدي الإيطاليين هو قليل من كثير وقد اقتصدتم واحتطتم كثيراً ولو يذكر للعالم كل مايقع من الإيطاليين لاتوجد اذن تصغي لما يروى من استحالة وقوعه، والحقيقة والله وملائكته شهود أنه صحيح وأننا في الدفاع عن ديننا ووطننا صامدون، وعلى الله في نصرنا متوكلون وقد قال الله تعالى: (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته في 20 ذي الحجة 1349هـ) (1).
وقد علق شكيب أرسلان على تلك الرسالة فقال: ومالاحظه الشهيد المشار إليه هو عين الحقيقة فإن الناس يصعب عليهم أن يصدقوا الشناعات والدناءات والنذالات التي أقدم عليها الطليان في طرابلس ولاسيما الفاشيست منهم (2).
إن رسالة عمر المختار للأمير شكيب أرسلان نستخلص منها فوائد جمّة، ففي قوله من خادم المسلمين دليل على تواضعه وافتخاره بكونه من خدّام المسلمين
_________
(1) انظر: حاضر العالم الاسلامي (2/ 84).
(2) المصدر السابق نفسه (2/ 84).(3/173)
وهذا المعنى له مدلول عند الشيخ عمر المختار، فهو يتقرب إلى الله تعالى بخدمة المسلمين وهي من أعظم القربات عند الله تعالى، وفي قوله إلى المجاهد الأمير الخطير: وصف الأمير شكيب بالمجاهد وهو بالفعل جاهد مع الليبيين بجانب جنود الأتراك ضد الطليان، وفيه دلالة على اهتمام عمر المختار بالمصطلحات الشرعية فلم يقل مناضل، أو مكافح، أو ثائر ..
وإنما تقيد بوصفه مجاهد لدلالة هذه الكلمة وعمقها في أوساط المسلمين، ووصفه بالخطير كيف لا وقد كانت مقالاته أنفذ من الرصاص في قلوب الإيطاليين، وساهمت في تشكيل تعاطف إسلامي وعربي كبير مع القضية الليبية العادلة، وفي قوله أخينا في الله فيه دلالة رابطة العقيدة التي جعلت المسلمين أخوة، فهي فوق كل الروابط الأرضية، وفي قوله بعد السلام الأتم والرضوان الشامل الأعم: فيها قوة العبارة، وبلاغة الأسلوب، وروعة المدخل، وفي قوله: قد قرأنا مادبجه قلمكم السيال عن فظائع الطليان، دليل على متابعة المجاهدين لما يجري خارج البلاد وله علاقة بقضية شعبنا، وأما بقية الرسالة ففيها تأكيد للأمير شكيب عن المعلومات التي وصلت إليه وقام بنشرها، وفيها إصرار قوي على مواصلة الجهاد والدفاع عن الدين والوطن، وفيها توكل على الله عظيم هذا وقد قامت جمعية الشبان المسلمين بمصر بنشر بيان عن سياسة الإبادة والاستئصال التي تبعتها ايطاليا في طرابلس الغرب وألقي ذلك البيان في اجتماع عظيم في نادي جمعية الشبان المسلمين ووقع عليه أهل الرأي، والمكانة في مصر ليرسل إلى جمعية الأمم، ويذاع في العالم الإسلامي وجاء في ذلك البيان الحديث عن:
1 - سياسة التهجير:
لقد شهدت مصر مشهداً لاتستطيع الإنسانية أن تعرض عنه متجاهلة ما انطوى عليه من الآلام وذلك أن مئات من بني الإنسان بين رجال ونساء وأطفال وشيوخ اضطروا تحت ضغط الجور إلى أن يتركوا أوطانهم تخلصاً من الظلم، وأن يهيموا على وجوههم في القفار، ولولا مروءة مأجور الواحات المصري الذي خرج هو(3/174)
ورجاله للبحث عنهم حتى لقيهم وأنقذهم لهلكوا عطشاً وجوعاً أولئك هم فريق من إخواننا الطرابلسيين الذين خرجوا من قسوة الحكم الإيطالي الذي لايطاق.
2 - سياسة القتل والرمي في البحر:
ولم تكد أعيننا تكفكف الدموع على هذا المشهد الذي شهدته على اليابسة حتى حملت إلينا أمواج البحر في السلوم مشهداً آخر أفظع من هذا وأشنع، فرمى البحر إلى هذا الساحل المصري أربع عشرة جثة من جثث هؤلاء الطرابلسيين مغلولة في سلسلة واحدة.
3 - عمل الإيطاليين في الكفرة:
ثم توالت الأخبار بأن زاوية الكفرة المنقطع أهلها للعبادة قد أمطرتها طائرات الإيطاليين بالقنابل وفتكت بأهلها فتكاً ذريعاً، وبعد ذلك هاجمها الجيش، وكاد يأتي على البقية من أهلها ولم يتعفف عن هتك الأعراض وسلب الأموال وبقر بطون الحوامل.
4 - قتلهم لأهل العلم:
وقد قتل من أهل الكفرة في هذه النازلة كثيرون منهم الشيخ أبو شنة، وابن أخيه الشيخ عمر والشيخ حامد الهامة، والشيخ عبد السلام أبو سريويل، والشيخ محمد المنشوف، وابن أخيه على بن حسين، والشيخ محمد العربي، والشيخ محمد أبو سجادة، والشيخ أحمد الفاندي الجلولي، والشيخ خليفة الدلاية.
5 - قتلهم لكبار شيوخ الكفرة:
ولما ذهب كبار شيوخ زاوية الكفرة إلى القائد الكبير يرجونه وضع حد لهذه المذابح أمر بذبحهم فذبحوا أمامه كما تذبح الشياه.
6 - قتل الأبرياء برميهم من الطائرات:
ومن الفظائع التي ارتكبها الإيطاليون في برقة، ونقلها الرواة الصادقون أنهم(3/175)
وضعوا أحد مشايخ عائلة الفوائد المدعو الشيخ سعد وخمسة عشر شخصاً من العرب في الطائرات وارتفعوا بهم عن سطح الأرض ثم جعلوا يلقونهم واحد بعد الآخر ليموتوا موتة لم يسبق لها مثيل.
7 - انتزاع الأراضي من أهاليها وتجويعهم:
ومن الفظائع التي ارتكبوها في الجبل الأخضر إخراج أهله منه وهم لايقل عددهم عن ثمانين ألف عربي إلى بادية سرت القاحلة، ثم أذاعوا بواسطة قنصليتهم في بلاد الأرجنتين أن حكومة طرابلس و برقة تعطي الأراضي الخصبة فيها لكل إيطالي يريد النقلة إليها، وبلغت مساحة الأراضي التي أخذت غصباً نحو من مائتي ألف هكتار ولاتزال الحكومة الإيطالية تحث الإيطاليين على استعمار هذه الأراضي وقبل انتزاع أراضي الجبل الأخضر من أهله في هذه السنة انتزعت في سنة 1924م ما مساحته 420 ألف هكتار بدون مقابل، وفي بعض الأحيان كان المقابل عن المائة ألف هكتار ستة آلاف فرنك إيطالي - أي خمسين جنيها تقريباً، وقد خرج أهالي الجبل الأخضر عند انجلائهم منه وهم لايملكون مايقتاتون به فرتبوا لكل عائلة فرنكين في اليوم وهم الآن يعيشون بهذا المرتب عيشة بؤس تفتت الأكباد، وفي أثناء نقلهم إلى صحراء سرت كان كلما عجز واحد منهم عن مواصلة المشي يرمى بالرصاص.
8 - ترحيل الأطفال إلى إيطاليا لتنصيرهم:
وفضلاً عن كل ذلك فقد جمع الإيطاليون الأطفال الوطنيين من 3 إلى 14 وأخذوهم من أهلهم وأرسلوهم إلى إيطاليا بزعم تعليمهم فيها، وجمعوا الشبان من سن 15 إلى 40 وألحقوهم بالجيش واستخدموهم في محاربة أهلهم وبلادهم.
9 - أرساليات التبشير بين الأهالي:
وبلغ الاستهتار بالشعور الإسلامي مبلغاً عظيماً بين إرساليات التبشير المنبثة الآن بين الأهالي، ومن صدور الأوامر المشددة على الخطباء في الجوامع بالدعاء لملك إيطاليا على المنابر.(3/176)
10 - خداعها للأهالي (1):
وقد حدث مراراً أن الحكومة تعلن عن العفو والأمان، فإذا وقع العفو عنهم وغدو في قبضتهم غدرت بهم، وممن ذهبوا ضحية هذا الغدر من رؤساء القبائل خليفة بن عسكر، والشيخ عبيدة الصرماني، وأحمد الباشا، وابراهيم بن عباد، والهادي كعبار وابنه محمد كعبار، والشيخ أحمد أحمد الحجاوي، والشيخ علي الشويخ، والشيخ عبد السلام بن عامر، والشيخ محمد التريكي، والشيخ شرف الدين العمامي، والشيخ أحمد بن حسن بن المنتصر، والشيخ عمر العوراني، والشيخ محمد عبد العال، ومن الضحايا لايعرف لهم ذنب، الشيخ صالح العوامي وهو شيخ يبلغ التسعين عاماً من أهل العلم والصلاح قبضت عليه إيطاليا سنة 1923 وزجته في سجن بنغازي إلى أن مات فدفن بمحل مجهول، فأرواح هؤلاء الضحايا تصيح بالإنسانية جميعها، وبجمعية الأمم بنوع خاص أن هلمي إلى انقاذ البقية الباقية من أبناء الإنسانية المعذبة في هذه الربوع من سياسة الفتك والاستئصال والإبادة التي تتبعها إيطاليا في طرابلس المنكودة وأن العالم الإسلامي يعتبر ماوقع ويقع في طرابلس الغرب عدواناً مباشراً على كل مسلم مهما كانت جنسيته ووطنه، وسيبقى عار هذه الأعمال لاصقاً لإجراء تحقيق دولي حر دقيق في نفس بلاد برقة وطرابلس عن كل ماجرى فيها وإعلان نتيجته كما تقتضيه العدالة والحق، والموقعون على هذا يطلبون من جمعية الأمم اجراء هذا التحقيق تنزيهاً للإنسانية عن لحوق هذا العار بها إلى الأبد ويرجون بالحاح أن يكون لهم مندوب يختارونه مع لجنة التحقيق، وهم ينتظرون ماتقرره العصبة في هذا الشأن بفارغ الصبر.
التوقيعات:
1 - محمد الشرقاوي.
2 - خليل الخالدي رئيس الاستئناف الشرعي بفلسطين.
_________
(1) انظر: مجلة المنار (ج9م3، ص714،715،716).(3/177)
3 - محمد رشيد رضا منشئ مجلة المنار الإسلامية.
4 - محمد عبد اللطيف دراز من العلماء وعضو مجلس إدارة.
5 - جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة.
6 - محمد عبد الرحمن قراعة من العلماء ومدرس بالأزهر الشريف.
7 - عبد الوهاب النجار، وكيل جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة.
8 - محمد كامل القصاب.
9 - محمد تقي الدين الهلالي، الأستاذ الأول للآداب العربية بندوة العلماء بالهند.
10 - علي سرور الزنكلوني، المدرس بقسم التخصص بالأزهر.
لقد عبث الجنود الإيطاليين بالمكتبة السنوسية، التي كانت ثروة علمية ضخمة فأخذت أيدي الجنود تبددها ذات اليمين وذات الشمال وتقد بها النيران للطعام، وأخيراً صدرت الأوامر بجمع ماتبقى منها ونقله إلى بنغازي فنقلته أربعون سيارة شحن كبيرة وعدد كبير من الإبل، ولم تنج هذه المكتبة بعد وصولها إلى بنغازي من العبث فقد تسرب الكثير منها إلى أيدي الأفراد، ونقل قسم كبير منه إلى إيطاليا، وهكذا وصلت يد الفساد الإيطالية إلى كل شيء في ليبيا (1).
عندما تم اعتقال جميع أهالي برقة وحصرهم، وتم احتلال واحة الكفرة لم يعد إذن أمام سفاح برقة إلا شيء واحد هو اتمام وضعية مد الأسلاك الشائكة التي ستفصل بين برقة ومصر فصلاً نهائياً، فأخذ في سرعة تتميمها مجنداً لذلك كل مالديه من إمكانيات، وكان قد استدعى شركات المقاولات الخاصة من إيطاليا، فتعهدت كل شركة منها بإتمام الجزء المخصص لها تحت إشراف القيادة العسكرية التي وضعت مهندسيها تحت تصرف هذه الشركات، وقد استوردت الحكومة الإيطالية معدات خاصة من ألمانيا فضلا عما جاءت به من إيطاليا لهذا الغرض المطلوب،
_________
(1) انظر: عمر المختار، ص134.(3/178)
ووضعت تحت تصرف هذه الشركات عشرات الآلاف من العمال الذين جندتهم من المعتقلات تلهب ظهورهم السياط، وهكذا امتد خط الأسلاك الشائكة من البحر المتوسط إلى مابعد الجغبوب فكان طوله حوالي ثلاثمائة كيلومتر، ثم وضع غرسياني نقاط عسكرية مزودة بجميع المعدات الحربية، وربط بعضها ببعض من حيث الاتصال فيما إذا احتاجت نقطة لمساعدة الأخرى تهب بسرعة، ومن هذه النقاط: مساعد، والشقة وبئر الغبي، وقبر صالح، وسيدي عمر، وبئر حكيم، ثم زوّد غرسياني هذا السياج المحكم بمولدات كهربائية لمده بالنور حتى لايستطاع الافلات منه مهما تكن الأحوال، وإذا ماقدر لأي إنسان أن يصل إليه فسيواجه معركتين عسيرتين لاسبيل لإفلاته من إحداهما إذا ماتيسر له الإفلات من الأخرى، وتتمثل المعركتان في محاولة تقطيع الأسلاك، وفي الدفاع عن النفس، وتقطيع الأسلاك يحتاج إلى معدات فنية وإلى وقت من الزمن فكيف إذن لمن يتمكن من الوصول إلى هذا السياج إجراء عملية التقطيع وعملية الدفاع في آن واحد (1).
كان المجاهدون مستمرين في جهادهم والقوات الإيطالية تشتبك معهم وهي مجهزة بالمصفحات والطائرات والمدفعية وكان القتال لايتوقف وقد أورد الجنرال غرسياني في كتابه أنه التقى مع عمر المختار في مائتين وستين معركة خلال الثمانية عشر شهراً ابتداء من حكمه في برقة إلى أن وقع عمر المختار أسيراً وقد ثبت المجاهدون في حالتي الدفاع والهجوم.
كان المجاهدون يقضون معظم أوقاتهم في حالة استعداد قصوى ويوجهون الضربات المحكمة للطليان وحار سفاح برقة في أمر المجاهدين، ورغم الإجراءات التي اتخذها والتي كان يثق في فائدتها إلا أنه أصيب بالقنوط واليأس وأصبح كل أمله في موت عمر المختار الطبيعي قائلاً لكبار مرؤسيه في أكثر من مناسبة: إن عمر المختار شيخ كبير ولابد من موته عاجلاً أو آجلاً فعلينا أن ننتظر تلك الساعة ولعلها لاتكون بعيدة، وفكر غرسياني ذات مرة تفكيراً غريباً وإن كان لايستغرب على
_________
(1) انظر: عمر المختار، ص135.(3/179)
تفكيره أي شيء، فكر في إحراق جميع غابات الجبل الأخضر، ودرس هذا الموضوع جدياً مع مستشاريه السياسيين والعسكريين (1). إلا أن السيد صالح بك المهدوي أحد زعماء بنغازي استطاع أن يثني غرسياني عن هدفه بعد أن اجتمع به وشرع غرسياني يتكلم عن عمر المختار محملاً مسؤولية ذلك إلى جميع أهل البلاد، وقال عنهم لو أنهم صدقوا معنا لما استمر عمر المختار في موقفه اليائس يقاتل جنودنا، ثم انتقل فجأة ليتحدث عن موضع حرق غابات الجبل الأخضر وقال: إن الحكومة الإيطالية يهمها أن تنهض بهذه البلاد، وإن عمر المختار وقف عقبة في سبيل النهوض، وحاولت الحكومة أكثر من مرة أن تنصحه للإقلاع عن محاربتنا ولكنه رفض الانصياع إلى نصائح الحكومة معتمداً على إختفائه في مغارات الجبل وغاباته، ولقد صممت أن أزيل هذه الغابة التي يحتمي وراءها ساخراً بقوة الحكومة، وسكت الجنرال قليلاً، ثم طلب من صالح بك المهدوي أن يشاركه البحث في هذا الموضوع فأجابه بقول:
إن عمر المختار سينتهي بلاشك فقاطعني عند كلمتي هذه بقوله (إكُّو إكُّو ... كويستا لفيريتا .. يانوتا يانوتا ... سينتا ... سينتا ... ديري .. ديري .. أوانتي ... أوانتي .. ) ومعنى هذه الكلمات الإيطالية هو: هكذا .. هكذا .. هذه هي الحقيقة ( ... إسمع يايانوتا (الترجمان) إسمع ... إسمع ... قل ... قل ... استمر .... استمر) إنكم يادولة الوالي اتخذتم بحزم جميع الإحتياطات التي من شأنها القضاء عليه، والمسألة مسألة وقت لا أقل ولا أكثر وهنا تحمس الجنرال لكلماتي هذه كأنها صادفت هوى في نفسه، أو كأنني قلت له شيئاً كان يريد أن يسمعه.
وقلت له مواصلاً الحديث: إن الدولة الإيطالية في حاجة لاستثمار كل شجرة في هذه البلاد، وسوف يكون فضل هذا الاستثمار المنتظر على أيديكم فإذا ما أقدمتم على حرق الغابات والكلمة الأخيرة لدولتكم فسوف يمر زمن طويل وطويل جداً دون إعادتها من جديد لما كانت عليه، هذا إذا لم يكن إعادتها مستحيلاً، وإليكم
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص137.(3/180)
يادولة الوالي نذكر مسألة لها وجه الشبه برأيكم هذا. في عهد الدولة العثمانية قامت قبيلة البراعصة بعصيان ضد الحكومة وتعذر على الحكومة انهاء العصيان، واعتبرت أن غابات الجبل الأخضر كانت أكبر مشجع للقبائل على العصيان فتتخذ منه مخابئ لايقوى الجنود العثمانيون على إكتشافها فأرادت الحكومة أن تقوم بحرق جميع الغابات وسمع السلطان بذلك فاعترض على هذه الفكرة قائلاً: إذا كان الموجب لعصيان الأهالي هو تمنعهم عن دفع العشور والعوائد الحكومية فإنني أدفعها عنهم من جيبي الخاص حماية للغابات في الجبل الأخضر، ولا أوافق على حرقها. وعندما إنتهيت من الحديث معه ودعني شاكراً) (1).
لقد حرص صالح بك المهدوي على حماية الجبل الأخضر من عبث غرسياني الذي كانت في يده إمكانات إيطاليا للقضاء على حركة الجهاد ولذلك جادل وناقش وحاول أن يقنع غرسياني بالإقلاع عن تلك الفكرة الجهنمية لقد قال صالح بك عندما سئل عن صحة ما إذا كانت الحكومة العثمانية فكرت في إحراق غابات الجبل الأخضر، فأجاب بقوله: إن المسألة التي ضربت بها المثل للجنرال غرسياني كانت لها أثر في عهد قديم والحديث عنها يطول، والطليان لايريدون ذكرها من وجهة سياسية محضة وعلى كل حال كنت أرمي بذكرها للجنرال غرسياني إلى حماية جبلنا من عبث هذا المجنون الذي وضعوا في يده سيفاً حاداً.
كان غرسياني يملك القوات الضخمة في البر والبحر والجو، والسلطة الغاشمة المستبدة في برقة، والخزائن المرصوفة بالأموال، والسجون والمعتقلات والمشانق، ومع هذا يضعف ويسيطر عليه العجز أمام المجاهدين وقائدهم العظيم حتى دفعه تفكيره إلى حرق الغابات بعد أن تمكن من حرق الأكباد، والأفئدة والأجسام لقد وقع تحت تأثير عصبي حاد من جراء ما أصابه من الفشل الذريع وكان في طريقه إلى الإستقالة أو الإقالة لولا تقدير الله بوقوع عمر المختار في الأسر (2).
_________
(1) انظر: عمر المختار للاشهب، ص139.
(2) انظر: عمر المختار للاشهب، ص141.(3/181)
المبحث الثالث
الأيام الأخيرة من حياة المختار ووقوعه في الأسر ثم إعدامه
أولاً: أحمد الشريف يحترق على بلاده ويرسل محمد أسد لمعرفة أخبار المجاهدين:
كان محمد أسد صاحب كتاب الطريق إلى الإسلام قد تعرف على أحمد الشريف أثناء إقامته في الحجاز وقد تأثر به غاية التأثر، وأحبه حباً عظيماً، يقول محمد أسد: (ليس في الجزيرة العربية كلها شخص أحببته كما أحببت السيد أحمد، ذلك أنه مامن رجل ضحى بنفسه تضحية كاملة مجردة عن كل غاية في سبيل مثل أعلى، كما فعل هو. لقد وقف حياته كلها، عالماً ومحارباً، على بعث المجتمع الإسلامي بعثاً روحياً، وعلى نضاله في سبيل الاستقلال السياسي ذلك أنه كان يعرف جيداً أن الواحد لايمكن أن يتحقق من دون الآخر) (1).
لقد تعرف محمد أسد على أحمد الشريف بواسطة المجاهد الأندونيسي حاجي آغوس سالم الذي كان يمثل مركز القيادة في جهاد اندونيسيا ضد أعدائها، وكان قد جاء معه بقصد الحج وعندما عرف السيد أحمد الشريف أن محمد أسد حديث عهد بالإسلام، مد إليه يده وقال: (مرحباً بك بين إخوانك، يا أخي الشاب .. ) (2). لقد أحب محمد أسد أحمد الشريف وتفاعل مع قضية ليبيا وكان يمضي معه وبصحبة السيد محمد الزوي الساعات الطوال للبحث في وضع المجاهدين في ليبيا واستمرت الإجتماعات في مساء كل يوم طيلة أسبوع تقريباً لبحث ماكان بالإمكان صنعه، وقد رأى الشيخ محمد الزوي أن إمداد المجاهدين بين الفينة والأخرى لم يكن من شأنه أن يحل المشكلة، فقد كان يعتقد أن واحة الكفرة، في الجنوب من صحراء ليبيا
_________
(1) انظر: الطريق الى الاسلام، ص331.
(2) انظر: الطريق الى الاسلام، ص446.(3/182)
يجب أن تكون ثاني محور لكل العمليات الحربية في المستقبل وكان يظن أن الكفرة كانت ماتزال بعيدة عن تناول الجيوش الإيطالية، وفوق ذلك فقد كانت تقع على طريق القوافل (ولو كان طويلاً وشاقاً) إلى واحتي بحرية وفرفرة المصريتين، ولذا كان يمكن تموينها بصورة جادة أكثر من أي موقع آخر في ليبيا، كما كان يمكن أن يتحول كثير من المهاجرين إلى مصر إليها لتكون مستودعاً دائماً لإمداد عمر المختار في الشمال، وكان أحمد الشريف مستعداً للذهاب بنفسه، لو أمكن إعادة تنظيم القتال على تلك الصورة، للإشراف على العمليات الجهادية بنفسه (1).
لقد تحدث محمد أسد عن سبب اهتمامه بالقضية السنوسية فقال: لم يكن اهتمامي البالغ بمصير السنوسيين ناشئاً عن إعجابي ببطولتهم المتناهية في قضية عادلة مقسطة فحسب، بل ان ماكان يهمني أكثر من ذلك هو ماكان يمكن أن يحدثه انتصار السنوسيين من تأثير على العالم العربي بأكمله إذ أنني لم استطع أن أرى في العالم الإسلامي كله إلا حركة واحدة كانت تسعى صادقة إلى تحقيق المجتمع الإسلامي المثالي: الحركة السنوسية، التي كانت تحارب الآن معركتها الأخيرة في سبيل الحياة وبسبب أن السيد أحمد كان يعرف مبلغ عطفي الشديد على القضية السنوسية، فقد التفت إلي وسدد نظره إلى عيني وسألني قائلاً: (هل تذهب، يامحمد إلى برقة بالنيابة عنا، فتقف على مايمكن صنعه للمجاهدين؟ لعلك تستطيع أن ترى الأمور بأجلى مما يراها بنو قومي ... ) (2).
وبعد أن وافق محمد أسد على تلك المهمة الصعبة تناول أحمد الشريف من على أحد الرفوف نسخة من القرآن الكريم ملفوفة بغلاف من الحرير، وبعد أن وضعها على ركبتيه أمسك بيدي اليمنى بين يديه ووضعها على الكتاب:
(أقسم يامحمد، بالله الذي يعلم مافي القلوب، على أنك ستبقى أميناً للمجاهدين ... ).
_________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) انظر: الطريق الى الاسلام، ص347.(3/183)
قال محمد أسد: فأقسمت ولم أشعر في حياتي يوماً أنني كنت أكثر وثوقاً بوعدي مما كنت في تلك اللحظة (1).
قام أحمد الشريف بترتيب أمور هذه الرحلة واتصل باتباع الحركة في مصر ووصل الخبر إلى عمر المختار واستعد محمد أسد لهذه الرحلة المثيرة مع رفيقه زيد من قبيلة شمّر، وشرع في تنفيذ خطواته وكان رجال الحركة السنوسية يقودونه بمهارة بارعة حتى وجد نفسه أمام عمر المختار في الجبل الأخضر وقد فصل الأستاذ محمد أسد تلك الرحلة في كتابه المشهور (2).
لقاءه بعمر المختار:
بعد دخول محمد أسد إلى الجبل الأخضر من جهة الصحراء الغربية المصرية بواسطة المجاهدين الذين أرسلهم عمر المختار لاستقباله وجد محمد أسد نفسه أمام قائد حركة الجهاد ويصف لنا محمد أسد ذلك اللقاء فيقول: كان يحيط به رجلان من كل جانب، ويتبعه كذلك عدد آخر، وعندما وصل إلى الصخور التي كنا ننتظر عندها، ساعده أحد رجاله على النزول، ورأيت انه كان يمشي بصعوبة (عرفت بعدئذ أنه قد جرح إبان إحدى المناوشات قبل ذلك بعشرة أيام) وعلى ضوء القمر المشرق استطعت الآن أن أراه بوضوح: كان رجلاً معتدل القامة قوي البنية ذا لحية قصيرة بيضاء كالثلج تحيط بوجهه الكئيب ذي الخطوط العميقة. وكانت عيناه عميقتين، ومن الغضون المحيطة بهما كان باستطاعة المرء أن يعرف انهما كانتا ضاحكتين براقتين في غير هذه الظروف، إلا انهما لم يكن فيهما الآن شيء غير الظلمة والألم والشجاعة.
واقتربت منه لأحييه، وشعرت بالقوة التي ضغطت بها يده على يدي (مرحباًبك، يا ابني) قال ذلك وأخذ يجيل عينيه في متفحصاً: لقد كانت عيني رجل كان الخطر خبزه اليومي.
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص348.
(2) انظر: الطريق الى الاسلام، ص348 الى 360.(3/184)
وفرش أحد رجاله حراماً على الأرض فجلس سيدي عمر عليه متثاقلاً. وانحنى عبد الرحمن (1) ليقبل يده ثم شرع بعد استئذانه، يوقد ناراً خفيفة تحت الصخرة التي كنا محتمين بها وعلى ضوء النار الخافت، قرأ سيدي عمر الكتاب الذي حملنيه السيد أحمد إليه. لقد قرأه باهتمام وعناية، ثم طواه ووضعه لحظة فوق رأسه - وهي إمارة الإحترام والحب لايكاد المرء يراها في جزيرة العرب ولكنه كثيراً مايراها في شمالي افريقيا - ثم التفت إلي مبتسماًوقال: (لقد أطراك السيد أحمد، أطال الله عمره، في كتابه. أنت على استعداد لمساعدتنا، ولكنني لا أعلم من أين يمكن أن تأتينا النجدة، إلا من الله العلي الكريم. إننا حقاً على وشك أن نبلغ نهاية أجلنا .. ).
فقلت: (ولكن .. هذه الخطة التي وضعها السيد أحمد، ألا يمكن أن تكون بداية جديدة؟ وإذا أمكن تدبير الحصول على المؤن والذخائر من الكفرة بصورة ثابتة، أفلا يمكن صد الإيطاليين؟) (2).
لم أرى في حياتي ابتسامة تدل على ذلك القدر من المرارة واليأس كتلك الابتسامة التي رافقت جواب سيدي عمر: (الكفرة ... ؟ لقد خسرنا الكفرة، فالإيطاليون قد احتلوها منذ أسبوعين تقريباً ... ) (3).
وأذهلني الخبر، ذلك إنني والسيد أحمد، طوال تلك الأشهر الماضية، كنا نبني خططنا على افتراض أن الكفرة يمكن أن تكون نقطة تجمع لتقوية المقاومة، أما وقد ضاعت كفرة فإنه لم يبق للسنوسيين سوى نجد الجبل الأخضر لاشيء سوى كماشة الإيطاليين التي كانوا يضيقونها بثبات واستمرار .. وخسارة نقطة بعد نقطة .. واختناق بطئ).
- وكيف سقطت الكفرة؟
_________
(1) هذا من المجاهدين الذين استلموا محمد اسد ورفيقه عند الحدود المصرية.
(2) انظر: الطريق الى الاسلام، ص360،361.
(3) المصدر السابق نفسه، ص361.(3/185)
فأومأ سيدي عمر إيماءة متعبة إلى أحد رجاله أن يقترب: (دع هذا الرجل يقص عليك الخبر .. إنه واحد من أولئك القلائل الذين هربوا من الكفرة، ولم يصل عندي إلا بالأمس).
وجلس الكفري على ردفيه أمامي وجذب برنسه البالي حوله وتكلم ببطء دون أن يبدو في صوته أي أثر للانفعال، ولكن وجهه الناحل كان يعكس جميع الأهوال التي شهدها.
- (لقد خرجوا علينا في ثلاث فرق من ثلاث جهات، وكان معهم سيارات مصفحة ومدافع ثقيلة كثيرة. أما طائراتهم فقد حلقت على علو منخفض ورمت بالقنابل البيوت والمساجد وغياض النخيل. لم يكن لدينا سوى بضع مئات من الرجال يستطيعون حمل السلاح، أما الباقون فقد كانوا نساء وأطفالاً وشيوخاً. لقد دافعنا عن أنفسنا بيتاً بيتاً، ولكنهم كانوا أقوى كثيراً منا، وفي النهاية لم يبق إلا قرية الهواري. لم تنفع بنادقنا في سياراتهم المصفحة فطغوا علينا، وتمكن عدد قليل جداً من الهرب. أما أنا فقد اختبأت في حدائق النخيل، مترقباً الفرصة لشق طريقي خلال الخطوط الإيطالية، وكنت طوال الليل أسمع ولولة النساء اللواتي كان الجنود الإيطاليون والعساكر الاريتريون يغتصبونهن وفي اليوم التالي احضرت لي امرأة عجوز بعض الماء والخبز، واخبرتني أن الجنرال الإيطالي قد حشد كل ماتبقى على قيد الحياة أمام قبر السيد محمد المهدي وأمام أعينهم مزق نسخة من القرآن الكريم ثم رماها الى الارض وداس عليها بحذائه صائحاً: (دعوا نبيكم البدوي يساعدكم الآن، اذا استطاع!) ثم أمر بقطع اشجار النخيل في الواحة وهدم آبارها، واحرق كل ماكان في مكتبة السيد احمد البدوي من كتب وفي اليوم التالي اصدر امره بوضع بعض شيوخنا وعلمائنا في طائرة حلقت بهم ورمتهم من علو شاهق، وطوال الليلة التالية كنت اسمع من مخبئي صرخات النساء وضحكات الجنود وطلقات بنادقهم ... واخيراً زحفت الى الصحراء في ظلام الليل فوجدت جملاً شارداً امتطيته ووليت فراراً ... ) (1).
_________
(1) انظر: الطريق الى الاسلام، ص362.(3/186)
وعندما انهى الرجل قصته المروعة قربني سيدي عمر إليه بلطف وكرر قوله: (انك تستطيع ان ترى، يابني، اننا قد اقتربنا فعلاً من نهاية أجلنا) ثم اضاف: (اننا نقاتل لأن علينا ان نقاتل في سبيل ديننا وحريتنا حتى نطرد الغزاة او نموت نحن وليس لنا ان نختار غير ذلك. إنا لله وإنا إليه راجعون - لقد ارسلنا نساءنا واولادنا الى مصر كيما نطمئن على سلامتهم متى شاء الله لنا أن نموت).
قلت: (ولكن ياسيدي عمر، اليس من الافضل لك وللمجاهدين ان تنسحبوا الى مصر بينما لايزال هناك طريق مفتوح امامكم؟ فلقد يكون من الممكن في مصر جمع المهاجرين الكثيرين من برقة وتنظيم قوة اكثر فعالية وجدوى. ان القتال هناك يجب ان يوقف بعض الوقت حتى يستعد الرجال شيئاً من قوتهم ... انا اعرف ان البريطانيين في مصر لاينظرون بعين الرضى الى وجود قوات ايطالية راسخة الاقدام على خاصرتهم، فقد يغضون الطرف، والله اعلم، عن استعداداتكم فيما اذا اقنعتموهم بانكم لا تعتبرونهم اعداء ... ).
فأجاب: (كلا ياابني، لم يعد هذا يجدي الآن. ان ماتقوله كان ممكناً منذ خمس عشرة او ست عشرة سنة، قبل ان يقوم السيد احمد، اطال الله عمره، بمهاجمة البريطانيين كي يساعد الاتراك - الذين لم يساعدونا ... أما الآن فلم يعد في الامر مايجدي .. ان البريطانيين لن يحركوا اصبعاً لكي يسهلوا علينا امرنا، والايطاليون مصممون على ان يقاتلونا حتى النهاية، وعلى سحق كل إمكانية للمقاومة في المستقبل، فاذا ذهبت واتباعي الآن الى مصر، فاننا لن نتمكن مطلقاً من العودة ثانية، وكيف نستطيع ان نتخلى عن قومنا ونتركهم ولا زعيم لهم، لاعداء الله يفترسونهم؟).
- وما قول السيد ادريس؟ هل يشاركك الرأي ياسيد عمر؟
- (إن السيد ادريس رجل طيب. انه ولد طيب لوالد عظيم، ولكن الله لم يعطه قلباً يمكنه من تحمل مثل هذا الصراع ... ) (1).
_________
(1) انظر: الطريق الى الاسلام، ص363.(3/187)
كان زيد الشمّري رفيق محمد اسد في رحلته بصحبة خليل احد المجاهدين لأحضار قرب الماء، وبعدما رجع وقع بصر خليل على سيدي عمر هجم لتقبيل يده، وبعد ذلك قدم محمد اسد زيداً الى عمر المختار فوضع المختار يده على كتفه وقال:
- (مرحباً بك، ياأخي، من أرض اجدادي. من أي العرب انت؟ " وعندما اخبره زيد انه من قبيلة شمر، أومأ عمر برأسه مبتسماً: (آه، اذن انت من قبيلة حاتم الطائي، اكرم الناس يداً ... ).
وقدم لهم رجال المختار بعض التمر ودعاهم المختار الى ذلك الطعام البسيط فأكلوا، ونهض قائد المجاهدين وقال: (آن لنا أن نتحرك من هنا. اننا على مقرب من المركز الايطالي في بوصفية، ولذا لا نستطيع ان نتأخر حتى الفجر .. ).
وتحرك محمد اسد مع قائد حركة الجهاد ووصل الى معسكر المجاهدين ووقعت عيناه على امرأتين احدهما مسنة والاخرى شابة - في المعسكر كانتا جالستين بالقرب من احد النيران، مستغرقتين في اصلاح سرج ممزق بمخرز غليظ.
وعندما لحظ الشيخ عمر المختار دهشة محمد اسد قال: (إن اختينا هاتين تذهبان معنا حيثما نذهب. لقد رفضتا ان تسعيا الى امن مصر مع سائر نسائنا واولادنا. انهما ام وابنتها، وقد فقدتا جميع رجالهما في الحرب ... ) (1).
اتفق عمر المختار مع محمد اسد على طريقة امداد المجاهدين بالمؤن والعتاد والسلاح عن طريق الطريق التي جاء منها محمد اسد، مع انشاء مستودعات سرية في واحات بحرية وفرفرة وسيوه، وكان عمر المختار يشك في امكانية الافلات من مراقبة الايطاليين بهذه الطريقة مدة طويلة.
وقد تبين بعد ذلك ان ظنونه ومخاوفه كانت في محلها، ذلك انه بعد بضعة اشهر تمكنت قافلة تحمل المؤمن والذخائر من الوصول فعلاً الى المجاهدين، إلا ان الايطاليين اكتشفوها بينما كانت تجتاز الفجوة بين الجغبوب وجالو، وسريعاً ما انشأوا
_________
(1) انظر: الطريق الى الاسلام، ص365.(3/188)
بعد ذلك مركزاً محصناً في بير طرفاوي على نصف المسافة تقريباً بين الواحتين، مما جعل، بالاضافة الى الدوريات الجوية المستمرة، كل مسعى آخر من هذا النوع خطراً الى أبعد الحدود (1).
وكان قد تقرر رجوع محمد اسد وزيد الشمرّي الى الحجاز ورجوع من حيث أتوا بواسطة المجاهدين البواسل الذي رتبوا الامور، وأخذوا بالاسباب، وحافظوا على ضيوفهم الكرام.
يقول محمد اسد: وودعت وزيد عمر المختار، ولم نره بعد ذلك اطلاقاً، ذلك انه بعد ثمانية أشهر، قبض عليه الايطاليون واعدموه.
وقدوصف لنا محمد اسد آخر لقاء مع السيد احمد الشريف فقال: ومرة اخرى وقفت امام إمام السنوسية ونظرت الى وجه ذلك المحارب القديم المرهق، ومرة اخرى قبلت اليد التي حملت السيف طويلاً جداً حتى انها لم تعد تستطيع بعد ان تحمله.
- (بارك الله فيك، يابني .. لقد مضت سنة منذ ان التقينا اول مرة، وهذه السنة قد شهدت نهاية آمالنا ولكن الحمدلله على كل حال ... ).
والحق انها كانت سنة مفعمة بالهموم والاكدار بالنسبة الى احمد: لقد اصبحت الاخاديد حول فمه اكثر عمقاً، واصبح صوته اكثر انخفاضاً من أي وقت مضى.
لقد هوى النسر. انه يجلس منكمشاً على السجادة، وقد لف نفسه ببرنسه الابيض كأنما يطلب الدفء، ويحدق بصمت في الفراغ وهمس: (لو اننا استطعنا فقط ان ننقذ عمر المختار. لو اننا تمكنا من اقناعه بالهرب الى مصر بينما كان هناك متسع من الوقت ... ).
فقلت له: (لم يكن باستطاعة احد ان ينقذ سيدي عمر. انه لم يرد ان ينقذ. لقد فضل ان يموت اذا لم يستطع ان ينتصر. لقد عرفت ذلك عندما فارقته ياسيدي احمد .... ) (2).
_________
(1) انظر: الطريق الى الاسلام، ص366.
(2) انظر: الطريق الى الاسلام، ص370.(3/189)
إن احمد الشريف اهتم ببلاده بمجرد هجرته منها وكان على إتصال بالمجاهدين وقد حدثني السيد عبد القادر بن علي أن احمد الشريف قام بكتابة رسائل الى قبائل برقة يحثهم فيها على السمع والطاعة للشيخ عمر المختار رحمهم الله.
ثانياً: الاسد يقع اسيراً:
ظل المختار في الجبل الاخضر يقاوم الطليان على الرغم من هذه الصعوبات الجسيمة التي كانت تحيط به وبرجاله وكانت من عادة عمر المختار الانتقال في كل سنة من مركز اقامته الى المراكز الاخرى التي يقيم فيها إخوانه المجاهدون لتفقد احوالهم، وكان إذا ذهب لهذا الغرض يستعد للطوارئ، ويأخذ معه قوة كافية تحرسه من العدو الذي يتربص به الدوائر في كل زمان ومكان، ولما أراد الله أن يختم له بالشهادة ذهب في هذه السنة كعادته في نفر قليل يقدر بمائة فارس، ولكنه عاد فرد من هذا العدد ستين فارساً وذهب في اربعين فقط. ويوجد في الجبل الأخضر واد عظيم معترض بين المجاهدين اسمه وادي الجريب (بالتصغير) وهو صعب المسالك كثير الغابات، كان لابد من اجتيازه، فمر به عمر المختار ومن معه، وباتوا فيه ليلتين، وعلمت بهذا ايطاليا بواسطة جواسيسها في كل مكان، فأمرت بتطويق الوادي على عجل من جميع الجهات بعد أن جمعت كل ماعندها من قوة قريبة وبعيدة، فما شعر عمر المختار ومن معه إلا وهم وسط العدو (1)؛ وقرر منازلة الاعداء وجهاً لوجه فأما أن يشق طريقاً يمكنه من النجاة أو يلقى ربه شهيداً في الميدان الذي ألف فيه مصارعة الأعداء، والتحمت المعركة داخل الوادي، وحصد رصاص المجاهدين عدداً كبيراً من الأعداء، وسقط الشهداء، وأصيب عمر المختار بجراح في يده، وأصيب فرسه بضربة قاتلة، وحصلت يده السليمة تحت الفرس فلم يتمكن من سحبها، ولم تسعفه يده الجريحة وأصبح لسان حاله يقول:
أسرت وماصحبي بعزل لدى الوغى
وكم من صدى صوتي ليوث الشرى فروا
_________
(1) انظر: السنوسية دين ودولة، ص313.(3/190)
وما أحد في الحرب يجهل سطوتي ولا
فرسي مهر ولا ربه غمر
ولكن إذا حم القضاء على أمرئ
يكون ولا يغني من القدر الحذر
ومن رام من أمر الاله وقايه
فليس له بر يقيه ولا بحر (1)
والتفت المجاهد بن قويرش فرأى الموقف المحزن وصاح في إخوانه الذين شقوا الطريق للخروج من الحصار قائلاً: (الحاجة التي تنفع عقبت أي تخلفت)، فعادوا لتخليص قائدهم ولكن رصاص الطليان حصد أغلبهم، وكان ابن قويرش اول من قتل وهو يحاول انقاذ الشيخ الجليل، وهجم جنود الطليان على الاسد الجريح دون ان يعرفوا شخصيته في البداية، وتم القبض عليه وتعرف عليه احد الخونة، وجاء الكمندتور داود باتشي متصرف درنة ليتعرف على الاسير وبمثل سرعة البرق نقل عمر المختار الى ميناء سوسة محاطاً بعدد كبير من الضباط والجنود الايطاليين، وأخذت كافة الاحتياطات لحراسة جميع الطرق والمواقع القريبة لتأمين وصول المجاهد العظيم الى سوسة ومن ثم نقل فوراً الى بنغازي عن طريق البحر (2).
يقول غراسياني في مذكراته: في صباح يوم 11 سبتمبر 1931م وصل الخبر برقياً الى الحكومة من متصرفية الجبل هذا نصها: (بالقرب من (سلطنة) فرقة الفرسان (الصواري) قبضت على وطني وقع من على جواده اثناء المعركة وقد تعرف عليه عساكرنا بأنه عمر المختار ونظراً للخبر المهم ومن اجل التأكد والتحقق أمرت الحكومة متصرف الجبل الحكومندتور (الوجيه داود ياتشي) فجهزت طائرة خاصة لنقله الى (سلطنة) على الفور للتعرف على شخصية الاسير وتثبت هويته ان كان هو زعيم المجاهدين عمر المختار وتأكد متصرف الجبل من انه عمر المختار وسرى الخبر سريان
_________
(1) انظر: عمر المختار للأشهب، ص145.
(2) انظر: عمر المختار للأشهب، ص146.(3/191)
البرق وصدرت الاوامر بنقله الى سلطنة ومنها الى سوسة تحت حراسة شديدة حيث وصلها عند السابعة عشر من مساء نفس اليوم سبتمر 1931م دون أي عائق، او حادث اثناء الطريق من سلطنة الى سوسة مكث هناك في انتظار الطراد الحربي (اورسيني) الذي تحرك من بنغازي خصيصاً ليعود بالاسير الى بنغازي وفي اثناء الرحلة تحدث معه بعض السياسيين التابعين لادارتنا ووجهوا إليه الاسئلة، فكان يجيب بكل هدوء وبصوت ثابت وقوي دون أي تأثر بالموقف الذي هو فيه وفي يوم 12 سبتمر 1931م عند الساعة السابعة عشر وصل الطراد اورسيني الى ميناء بنغازي حاملاً معه الاسير عمر المختار ... ) (1) وقال أيضاً هذا الرجل اسطورة الزمان الذي نجا آلاف المرات من الموت ومن الاسر واشتهر عند الجنود بالقداسة والاحترام لأنه الرأس المفكر والقلب النابض للثورة العربية (الاسلامية) في برقة وكذلك كان المنظم للقتال بصبر ومهارة فريدة لا مثيل لها سنين طويلة والآن وقع اسيراً في ايدينا (2).
وهذا الاعتراف من غراسياني الخسيس في كتابه بأن عمر المختار قاد المعارك سنين طويلة واعترف بانه محترم من اتباعه الى مكانة عالية جداً ثم بأنه الرأس المفكر والقلب النابض للجهاد الاسلامي المقدس في برقة ثم الصبر والمهارة التي لا مثيل لها فهذا اعتراف من الجنرال غراسياني خريج الكليات الحربية والاكاديمية العسكرية وله تجارب طويلة في حرب الاحتلال الى حرب العالمية الاولى وحروبه الصحراوية حتى لقبه بنو قومه بلقب اسد الصحراء والفضل ما شهدت به الاعداء.
ويقول الجنرال غراسياني عن عمر المختار ايضاً: (كان عمر المختار كرئيس عربي مؤمن بقضية وطنه وله تأثير كبير على اتباعه مثل الرؤساء الطرابلسيين يحاربون بكل صدق واخلاص اقول ذلك عن تجارب مرت بي اثناء الحروب الليبية وكان عمر المختار من المجاهدين الكبار لما له من مكانة مقدسة بين اتباعه ومحبيه، ان عمر المختار يختلف عن الآخرين فهو شيخ متدين بدون شك، قاسي وشديد التعصب
_________
(1) انظر: برقة الهادئة، ص274.
(2) المصدر السابق نفسه، ص266،267.(3/192)
للدين ورحيم عند المقدرة ذنبه الوحيد يكرهنا كثيراً وفي بعض الاوقات يسلط علينا لسانه ويعاملنا بغلظة، مثل الجبليين كان دائماً مضاداً لنا ولسياستنا في كل الأحوال لا يلين ابداً ولا يهادن إلا اذا كان الموضوع في صالح الوطن العربي الليبي، ولم يخن ابداً مبادئه فهو دائماً موضع الاحترام رغم التصرفات التي تحدث منه في غير صالحنا ان خيانة موقعة (قصر بنقدين) ضيعت على عمر المختار كل الفرص التي يمكن للدولة الايطالية ان ترحمه فيها (1).
وقال غراسياني في مذكراته: (أما وصف عمر المختار فهو معتدل الجسم عريض المنكبين شعر رأسه ولحيته وشواربه بيضاء ناصعة، يتمتع بذكاء حاضر وحاد، كان مثقفاً ثقافة علمية دينية له طبع حاد ومندفع يتمتع بنزاهة خارقة لم يحسب للمادة أي حساب متصلب ومتعصب لدينه، واخيراً كان فقيراً لا يملك شيئاً من حطام الدنيا إلا حبه لدينه ووطنه رغم انه وصل الى أعلى الدرجات حتى اصبح ممثلاً كبيراً للسنوسية كلها) (2) وهذا وصف دقيق يدل بوضوح على عظمة المختار وامكانياته الذاتية التي وهبه الله اياها فتقلد بسببها اكبر المناصب وخاض اكثر المعارك وصفه عدوه بصفات الورع والتدين ومثقف ثقافة دينية وعلمية وصفه بشدة المراس والصبر على الشدائد وهكذا ياأخي المسلم الكريم يصنع الاسلام من اتباعه.
ثالثاً: دخول المختار في سجن بنغازي:
وعندما وصل الاسير الى بنغازي لم يسمح لأي مراسل جريدة او مجلة بنشر اخبار او مقابلات وكان على الرصيف مئات من المشاهدين عند نزوله في الميناء ولم يتمكن أي شخص مهما كان مركزه ان يقترب من الموكب المحاط بالجنود المدججين بالسلاح ونقل فوق سيارة السجن تصحبه قوة مسلحة بالمدافع الرشاشة حيث اودع في زنزانة صغيرة خاصة منعزلة عن كافة السجناء السياسيين وتحت حراسة شديدة وجديدة ويقول مترجم كتاب برقة الهادئة الاستاذ ابراهيم سالم عامر كنت من
_________
(1) انظر: برقة الهادئة، ص268.
(2) المصدر السابق نفسه، ص271.(3/193)
الذين أسعدهم الحظ على ان يتكلموا مع بطل الجهاد عمر المختار اثناء قيامه في السجن فقد أوقفوا كل الاهالي المعتبرين في مراكز الامن والسجون وكان نصيبي في سجن بنغازي المركزي وعندماأتى بعمر المختار غيروا الحراس المحليين بحراس أريتريين والموظفين بالايطاليين من الحزب الفاشيستي وبعد ان اودعوه في الزنزانة كان هناك سرير من خشب وقماش وعلى الارض قطعة من السجاد البالي لأجل وقع الرجلين عليه فسحبها الشهيد بقرب الجدران وجلس عليها واستند على الجدران ومد رجليه الى الامام وعندما كان مدير السجن يتجول على زنزانات السجناء رأى الشهيد جالساً على الارض ولم يستطيع ان يساله لماذا هو جالس على الارض. ولأن المدير لايعرف العربية فناداني من بين السجناء السياسيين وطلب مني ان اترجم سؤاله فسألت الشهيد، فاجاب بصوت هادر كالأسد الهصور: قل له أنا اعرف اين اجلس لا يحمل هماً فهذا ليس من شأنه فترجمت الكلام فانصعق المدير واصفر وجهه وقال هيا ارجع الى مكانك بلهجة الامر غير ان قلبي كاد يطير من صدري فرحاً عندما سمعت هذه الاجابة القاطعة رحم الله عمر المختار كم كان عظيماً وهو قائم واعظم وهو اسير (1).
ويقول غراسياني الجنرال الايطالي السفاك الجلاد: (واثناء الرحلة من سوسة الى بنغازي أعطى لنا معلومات هامة عن كيفية سقوطه في الأسر والقبض عليه قائلاً عندما ضرب جواده وسقط على الارض فجرحت يده اليمنى مما سببت له بعض التشقق في عظام ذراعه ورغم هذا الآلم حاول جر نفسه ليبتعد ويختفي في احد الشجرات التي في الغابة ولكن فرقة الفرسان حالت بينه وبين غرضه وقد تعرف عليه احد الصواري من فرقة الفرسان وسرعان ما أحاطت به قوتنا وقد تأسف كثيراً اثناء حديثه بأن رفاقه حاولوا انقاذه بكل وسيلة وقد ضاع منهم بعض الرفاق ولكن الكثرة حالت دون بغيتهم كذلك قلة الذخيرة لها عاملها الاصلي في عدم انقاذي واثبت كذلك ان وقوعه في الاسر لا يعني توقف الثورة والجهاد بل هناك اربعة من
_________
(1) انظر: برقة الهادئة، ص274،275.(3/194)
القادة يحلون محلي وهم الشيخ حمد بوموسى، عثمان الشامي وعبد الحميد العبار ويوسف بورحيل المسماري وهذا الاخير هو أقربهم إليه لانه كان دائماً بجانبه، ولقد بالغ كثيراً بالنسبة لعدد الجنود فقد قال ان دوره يتكون من 500 مقاتل عادي، 400 فارس. واستطرد قائلاً شارحاً ان وقوعه في الأسر لا يؤثر ولا يغير سير القتال او وضع الدور بل سيزداد قساوة ثم اضاف اني احارب الايطاليين الفاشيستيين لا لأني اكره الشعب الايطالي ولكن ديني أمرني بالجهاد فيكم لأنكم أعداء الوطن (1).
قلت ما أعلم احد من المسلمين الصادقين يجد في نفسه وداً للنصارى على العموم فكيف بالذين يقولون الله ثالث ثلاثة ويقولون عيسى ابن الله، لكن قول غراسياني ان عمر المختار لا يبغض الشعب الايطالي فهذا ادعاء منه واما قول عمر المختار ديني امرني بقتالكم فهذا الذي يليق بحاله وبغض المسلم للنصارى الكفرة يدينون بها خالقهم ورازقهم، ومالكهم ومتولي أمورهم سبحانه وتعالى عما يقولون الظالمون علواً كبيراً.
قال تعالى: {لقد كفر الذين قالوا ان الله ثالث ثلاثة ومامن إله إلا اله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب إليم - أفلا يتوبون الى الله ويستغفورنه والله غفور رحيم}. (سورة المائدة، الآيات:72،73،74).
وقال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً لقد جئتم شيئاً إدّ تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هداً ان دعو للرحمن ولداً} (سورة مريم: الآيات 88 الى 91).
فالآيات السابقة الواضحة البينة تمنع العالم الرباني والشيخ الجليل ان يقول بأنه لا يبغض اعداء الله حمات الصليب.
واستطرد غراسياني في كتابه برقة الهادئة قال: (لقد قال عمر المختار كلمات تاريخية: إن وقوعي في الأسر تأكيد بأمر الله وسابق في علمه سبحانه وتعالى والآن أنا بين يدي الحكومة الايطالية الفاشيستية وأصبحت أسيراً عندها والله يفعل بي
_________
(1) انظر: برقة الهادئة، ص276.(3/195)
مايشاء. أخذتموني أسيراً ولكم القدرة أن تفعلوا بي ماتشاؤون والذي اريد أن أقوله بكل تأكيد لم أفكر في يوم من الايام أن أسلم نفسي لكم مهما كان الضغط شديداً ولكن مشيئة الله ارادت هذا فلا راد لقضاء الله) (1).
وهذه بعينها عقيدة القضاء والقدر وهي من اركان الايمان التي جاء بها الاسلام وقد تجسدت في حياة عمر المختار فهذه الآيات الكريمة تبين ماوقع للانسان قد كتب فعليه ألاّ يحزن ولاييأس لان الأمور بقضائه وقدره قال تعالى: {ما أصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل ان نبرأها ان ذلك على الله يسير لكي لاتأسوا على مافاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لايحب كل مختال فخور} (سورة الحديد، آية 22).
وقد تربى المختار رحمه الله تعالى على الايات القرآنية واحاديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فعن ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: واعلم ان الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الاقلام وجفت الصحف (2).
وهذه العقيدة الصحيحة كانت مستقرة في قلب الشيخ الجليل رحمه الله وتحولت الى عمل في حياته جسدته مواقف عقدية ومشاهد بطولية ولا نكون مخطيئن ان قلنا كانت مواقفه وسيرته العطرة تدل على أنه رجل عقيدة.
رابعاً: من مواقف العزة داخل السجن:
اراد الكمندتور رينسي (السكرتير العام لحكومة برقة) في أمسية الرابع عشر من سبتمبر أن يقحم الشارف الغرياني في موقف حرج مع عمر المختار وهو في السجن وابلغ الشارف الغرياني بأن المختار طلب مقابلتك والحكومة الايطالية لاترى مانعاً من تلبية طلبه، وذهب الشارف الغرياني الى السجن لمقابلة الشيخ الجليل وعندما
_________
(1) انظر: برقة الهادئة، ص276.
(2) انظر: اصول اهل السنة والجماعة اللالكاني (2/ح 1095).(3/196)
ألتقيا خيم السكوت الرهيب ولم يتكلم المختار فقال الشارف الغرياني هذا المثل الشعبي مخاطباً به السيد عمر (الحاصلة سقيمة والصقر مايتخبل) وماكاد المختار يسمع المثل المذكور حتى رفع رأسه ونظر بحدة الى الشارف الغرياني وقال له: الحمد لله الذي لايحمد على مكروه سواه وسكت هنيئة ثم اردف قائلاً: رب هب لي من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا، أنني لم أكن في حاجة الى وعظ او تلقين، أنني أومن بالقضاء والقدر، وأعرف فضائل الصبر والتسليم لإرادة الله، أنني متعب من الجلوس هنا فقل لي ماذا تريد، وهنا أيقن الشارف الغرياني بأنه غرّر به فزاد تأثره وقال للمختار: ماوددت أن أراك هكذا ولقد أرغمت نفسي للمجيء بناءً على طلبك ... فقال الشيخ الجليل، والجبل الشامخ أنا لم أطلبك ولن أطلب أحداً ولا حاجة لي عند أحد، ووقف دون أن ينتظر جواباً من الشارف الغرياني، وعاد الاخير الى منزله وهو مهموم حزين وقد صرّح بأنه شعر في ذلك اليوم بشيء ثقيل في نفسه ما شعر به طيلة حياته، ولما سئل الشارف الغرياني عن نوع الثياب التي كان يرتديها عمر المختار أهي ثياب السجن ام ثيابه التي وقع بها في الاسر كان جوابه هو البيتان الآتيان مستشهداً بهما:
عليه ثياب لو تقاس جميعها
بفلسٍ لكان الفلس منهن اكثرا
وفيهن نفس لو تقاس ببعضها
نفوس الورى كانت أجل وأكبرا (1)
خامساً: عمر المختار أمام غراسياني السفاح:
اراد المولى عز وجل لحكمة يريدها أن يقف البطل الأشم والطود الشامخ الذي حير ايطاليا الكافرة النصرانية الكاثوليكية واشاع الرعب في قلوب جيوشها، أمام الرجل التافه الحقير المدعو غراسياني هذا حقير النفسية، وضيع الاخلاق، من أولئك الذين يرتفعون في كل عهد، ويأكلون على كل مائدة وكان من قادة الجيش الايطالي فلما جاء موسوليني ذلك الطبل الاجوف، وادعّى الزعامة على ايطاليا وحشر نفسه
_________
(1) انظر: عمر المختار للاشهب، ص166،167.(3/197)
حشراً في صفوف الزعامات العالمية، كان غراسياني اول من صفق وقرع الطبول للزعامة الجديدة، وصار فاشيستياً أكثر من الفاشيستيين أنفسهم، امام هذا الرجل الحقير الذليل الخسيس التافة وقف البطل الأشم والطود المنيف شيخنا عمر المختار رحمه الله وتستطيع أن تفكر في هذا الموقف وتطيل التفكير، فإن النفوس الحقيرة الوضيعة، لاتعرف الشرف، ولا الرجولة ولا الكرامة ولا الاخلاق إذا خاصمت، فما يكاد عدوها يقع في يدها حتى تفعل به الافاعيل، وتصب عليه أصنافاً وألوناً من العذاب!! يدفعها الى ذلك، شدة إحساسها بحقدها وعظمة عدوها، وشدة شعورها بنقصها وكمال اسيرها (1).
من اجل ذلك دفعت الشماتة هذا الرجل الحقير أن يقطع رحلته الى باريس وان يعود فوراً الى بنغازي، وأن يدعوا المحكمة الطائرة الى الانعقاد ودفعت غريزة الشماته غراسياني أن يستدعي البطل في صبيحة اليوم نفسه، وقبل المحاكمة بقليل (2).
يقول غراسياني في مذكراته: (وعندما حضر امام مدخل مكتبي تهيأ لي أني ارى فيه شخصية آلاف المرابطين الذين التقيت بهم اثناء قيامي بالحروب الصحراوية، يداه مكبلتان بالسلاسل، رغم الكسور والجروح التي أصيب بها أثناء المعركة وجهه مضغوطاً لأنه كان مغطياً رأسه (بالجرد) ويجر نفسه بصعوبة نظراً لتعبه أثناء السفر بالبحر، وبالاجمال يخيل لي أن الذي يقف أمامي رجل ليس كالرجال منظره وهيبته رغم إنه يشعر بمرارة الاسر. هاهو واقف أمام مكتبي نسأله ويجيب بصوت هادئ، وواضح وكان ترجماني المخلص النقيب (كابتن) خليفة خالد الغرياني الذي احضرته معي خصيصاً من طرابلس ووجهت له اول سؤال: لماذا حاربت بشدة متواصلة الحكومة الفاشيستية؟ (3)
ج- لأن ديني يأمرني بذلك (4).
_________
(1) انظر: عمر المختار، محمود شلبي بتصرف، ص142.
(2) انظر: عمر المختار لشلبي، ص142.
(3) انظر: برقة الهادئة، ص279.
(4) انظر: عمر المختار، ص143.(3/198)
س- هل كنت تأمل في يوم من الايام أن تطردنا من برقة بامكانياتك الضئيلة وعددك القليل.
ج- لا هذا كان مستحيلاً.
س- إذاً ماالذي كان في اعتقادك الوصول إليه؟
ج- لا شيء إلا طردكم من بلادي لأنكم مغتصبون، أما الحرب فهو فرض علينا وماالنصر إلا من عند الله.
س- لكن كتابك يقول: {ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة} بمعنى لاتجلبوا الضرر لأنفسكم ولا لغيركم من الناس، القرآن يقول هذا.
ج- نعم.
س- إذاً لماذا تحارب؟
ج- كما قلت من أجل وطني وديني (1).
قال غراسياني: فما كان مني إلا أن قلت له أنت تحارب من أجل السنوسية تلك المنظمة التي كانت السبب في تدمير الشعب والبلاد على السواء وفي الوقت نفسه كانت المنظمة تستغل أموال الناس بدون حق هذا هو الحافز الذي جعلك تحاربنا لا الدين والوطن كما قلت.
عمر المختار: نظر اليّ نظرة حادة كالوحش المفترس: لست على حق فيما تقول ولك أن تظن ماظننت ولكن الحقيقة الساطعة التي لا غبار عليها أنني أحاربكم من أجل ديني ووطني لا كما قلت بان عليّ وجهه بعد أن زال الجرد من على رأسه واستطردت في توجيه الاسئلة إليه:
س- لماذا قطعت المهادنة السارية وامرت بالهجوم على (قصر بن قدين).
ج- لأنه منذ شهر ارسلت الى المارشال (بادوليو) ولم يجيبني عنها وبقيت بدون رد حتى الآن.
_________
(1) انظر: برقة الهادئة، ص280.(3/199)
يقول الجنرال لا أنت أردت قطع المهادنة لحاجة في نفسك وهاك الدليل وقرأت له البيان الذي نشره فوق الجرائد المصرية بتوقيعه؟ ولم يرد في بادئ الأمر وحنى رأسه مفكراً ثم قال:
عمر المختار - نعم نشرت البيان في مصر بتوقيعي ولكن ليس هذا هو الدليل وإنما هو عدم تجاوبكم معنا في تنفيذ شروط الهدنة، ولم يزد شيئاً بل حنى راسه اعياء.
س- هل أمرت بقتل الطيارين هوبر وبياتي.
ج- نعم: كل الاخطاء والتهم في الواقع هي مسؤولية الرئيس والحرب هي الحرب.
الجنرال: قلت له هذا صحيح لو كان حرباً حقيقية لا قتل وسلب مثل حروبك.
عمر المختار: هذا رأي، فيه إعادة نظر وانت الذي تقول هذا الكلام ولازلت أكرر لك الحرب هي الحرب.
الجنرال: بموقفك في موقعة (قصربن قدين) ضيعت كل أمل وكل حق في الحصول على رحمة وعفو الحكومة الايطالية الفاشيستية.
عمر المختار: مكتوب (كلمة لتفسير معنى القضاء والقدر في العقيدة الاسلامية) وعلى كل عندما وقع جوادي وألقي القبض عليّ كانت معي ست طلقات وكان في استطاعتي أن أدافع عن نفسي وأقتل كل من يقترب مني حتى الذي قبض عليّ وهو أحد الجنود من فرقة الصواري المتطوعين معكم وكان في إمكاني كذلك أن أقتل نفسي.
الجنرال: ولماذا لم تفعل؟
عمر المختار: لأنه كان مقدراً أن يكون.
الجنرال: ولكن قد تحقق فيما بعد إلقاء القبض عليه كانت بندقيته فوق ظهره(3/200)
وبسقوطه على الأرض لم يستطيع نزعها وبالتالي لم يتمكن من استعمالها بسرعة وكذلك من أثر الجروح والكسر الذي بيده اليمنى وهذا في الحقيقة جدير بالاعتبار والتقدير (1).
وهذا اعتراف من السفاح إبان تجبره وطغيانه ونشوة انتصاره يعترف بقوة عمر المختار ويقدر فيه بطولته وجهاده التي لم يرلها مثيل وقال شوقي رحمه الله في رثاء عمر المختار مايجسد هذا الموقف:
جرح يصيح على المدى وضحيه
تلتمس الحرية الحمراء (2)
عمر المختار: كما ترى أنا طاعن في السن على الاقل اتركني بأن أجلس.
الجنرال: أشرت له فجلس على كرسيه أمام مكتبي وفي هذه الاثناء ظهر لي وجهه بوضوح وقد زالت رهبة الموقف وقد تأملته جانبياً فرأيت بعض الاحمرار في وجهه وبدأت أفكر كيف كان يحكم ويقود المعارك. وبينما هو يتكلم كانت نظراته ثابتة الى الامام وصوته نابع من أعماقه ويخرج من بين شفتيه بكلمات ثابتة وبكل هدوء وفكرت ثانية هذا هو القديس، لان كلامه عن الدين والجهاد يدل بكل تأكيد أنه مؤمن صادق يتكلم عن الدين بكل حماس وتأثر. ثم قلت له فجأة: بمالك من نفوذ وجاه كم يوم يمكنك أن تأمر العصاة (يعني المجاهدين) بأن يخضعوا لحكمنا ويسلموا اسلحتنا وينهوا الحرب.
عمر المختار: مجيباً أبداً كأسير لايمكنني أن أعمل أي شيء واستطرد قائلاً: وبدون جدوى نحن الثوار سبق أن أقسمنا أن نموت كلنا الواحد بعد الآخر ولانسلّم أو نلقى السلاح وأنا هنا لم يسبق لي أن استسلمت هنا على ماأظن حقيقي وثابت عندكم.
الجنرال: قلت له وانا متماسك يمكن ذلك لو تم تعارفنا في وقت سابق والخبرة
_________
(1) انظر: برقة الهادئة، ص280،281،282.
(2) انظر: تعليق المترجم، ابراهيم بن عامر، ص282.(3/201)
طويلة التي أخذتها عليكم لكان علينا ان نصل الى احسن حال في سبيل تهدئة البلاد وازدهارها.
(عمر المختار): رفع حاجيبه بكل عمق وبصوت جهوري، وثابت قال: ولم لا يكن اليوم هو ذلك اليوم الذي تقول عنه.
الجنرال: فأجبته: لقد فات الأوان.
وعند هذا الحد رأيت ان نوقف المحادثة فيما بيننا ربما عمر المختار فكر في تلك اللحظة أن الحكومة الايطالية ستبعثه الى الجبل من أجل أن يسلّم أتباعه السلاح ويخضعوا الى سلطتنا ولكن لا: لقد قالها منذ لحظات بأنهم يموتون جميعاً ولن يستسلموا وعليه لقد فات الأوان وقلتها بنفسك لا فائدة من المحاولة إن الامل الذي لاح منذ قليل قد انهار ولم يعد. ثم قلت له: هل تعرف هذه وعرضت عليه نظاراته في إطارها الفضي.
عمر المختار: نعم إنها لي وقد وقعت مني اثناء احدى المعارك وهي معركة (وادي السانية).
(الجنرال) فأجبته: منذ ذلك اليوم اقتنعت بأنك ستقع أسيراً بين يدي.
عمر المختار: مكتوب: هل ترجعها لي لأني لم أعد أبصر جيداً بدونها.
واستطرد يقول ولكن ما الفائدة منها الآن هي وصاحبها بين يديك.
(الجنرال) قلت له: مرة اخرى أنت تعتبر نفسك محمياً من الله تحارب من أجل قضية مقدسة وعادلة؟
(عمر المختار) نعم وليس هناك أي شك في ذلك. قال الله تعالى: {قل لن يصيبنا إلا ماكتب الله لنا} صدق الله العظيم.
إذاً استمع الى ماأقوله لك. أمام قواتي المسلحة من نالوت الى الجبل الاخضر في برقة كل مشايخ ورؤساء العصاة (يعني رؤساء المجاهدين) منهم من هرب ومنهم(3/202)
من قتل في ميدان القتال ولم يقع منهم أي احد حياً في يدي أليس من العجيب أن يقع أسيراً بين يدي حياً من كان يعتبر اسطورة الزمن الذي لم يغلب ابداً المحمي من الله دون سواه؟؟
(عمر المختار) تلك مشيئة الله ... قالها بصوت يدل على قوة وعزم.
(الجنرال) قلت له: الحياة وتجاربها تجعلني أعتقد وأؤمن بأنك كنت دائماً قوياً ولهذا فإني أتمنى أن تكون كذلك مهما يحدث لك ومهما تكن الظروف.
(عمر المختار) عندما وقف ليتهيأ للانصراف، كان جبينه وضاء كأن هالة من نور تحيط به فارتعش قلبي من جلالة الموقف أنا الذي خاض المعارك والحروب العالمية، والصحراوية، ولقبت باسد الصحراء، ورغم هذا فقط كانت شفتاي ترتعشان ولم استطع أن أنبس بحرف واحد فأنتهت المقابلة وأمرت بإرجاعه الى السجن لتقديمه للمحاكمة في المساء وعند وقوفه حاول أن يمد يده لمصافحتي ولكنه لم يتمكن لأن يديه كانت مكبلة بالحديد.
لقد خرج من مكتبي كما دخل عليّ وأنا أنظر إليه بكل إعجاب وتقدير (1).
قال شوقي رحمه الله:
واتى الامير يجر ثقل حديده
أسد يجرجر حية رقطاء
سادساً: محاكمة عمر المختار رحمه الله:
في الساعة الخامسة مساءً في 15 سبتمبر 1931م جرت تلك المحاكمة التي أعد لها الطليان مكان بناء (برلمان برقة) القديم وكانت محاكمة صورية شكلاً وموضوعاً.
ودليل ذلك أن الطليان قبحهم الله كانوا قبل بدء المحاكمة بيوم واحد قد أعدوا (المشنقة) وانتهوا من ترتيبات الإعدام وتنفيذ الحكم قبل صدوره، وإنك لتلمس ذلك في نهاية الحديث الذي دار بين البطل وبين غراسياني حيث قال له (إني لأرجو أن تظل شجاعاً مهما حدث لك أو نزل بك).
_________
(1) انظر: برقة الهادئة، ص285.(3/203)
وإنها لكلمات تفوح بالخبث والدناءة والشماتة، ومعناها إنك يامختار سوف تعدم شنقاً، فلا تجبن أمام المشنقة ولاشك عندي لو كان غراسياني في موقف شيخنا لمات من الجبن قبل أن يساق للمشنقة ولكن شيخنا الجليل وأستاذنا الكريم وقائد الجهاد يزداد سمواً بعد سمو ثم يقول (إن شاء الله).
ويصف الدكتور العنيزي ذلك فيقول (جاء الطليان بالسيد عمر المختار إلى قاعة الجلسة مكبلاً بالحديد، وحوله الحرس من كل جانب .. وكان مكاني في القاعة بجوار السيد عمر وأحضر الطليان أحد التراجمة الرسميين واسمه نصرت هرمس (فلما افتتحت الجلسة وبدأ استجواب السيد، بلغ التأثر بالترجمان، حداً جعله لايستطيع إخفاء تأثره وظهر عليه الارتباك، فأمر رئيس المحكمة بإستبعاده وإحضار ترجمان آخر فوقع الاختيار على أحد اليهود، وهو لمبروزو، من بين الحاضرين في الجلسة (وقام لمبروزو بدور المترجم، وكان السيد عمر رحمه الله جريئاً صريحاً، يصحح للمحكمة بعض الوقائع، خصوصاً حادث الطيارين الإيطاليين أوبر وبياتي (1).
وبعد استجواب السيد ومناقشته وقف المدعي العام بيدندو، فطلب الحكم على السيد بالإعدام.
(وعندما جاء دور المحامي المعهود إليه بالدفاع عن السيد عمر وكان ضابطاً إيطالياً يدعى الكابتن لونتانو، وقف وقال: (كجندي لا أتردد البته إذا وقعت عيناي على عمر المختار في ميدان القتال، في إطلاق الرصاص عليه وقتله وافعل ذلك كإيطالي أمقته وأكرهه، ولكنني وقد كلفت الدفاع عنه فإني اطلب حكماً، هو في نظري أشد هولاً من الإعدام نفسه، وأقصد بذلك الحكم عليه بالسجن مدى الحياة نظراً لكبر سنه وشيخوخته).
وعندئذ تدخل المدعي العمومي، وقطع الحديث على المحامي وطلب من رئيس
_________
(1) انظر: حياة عمر المختار، ص153،154،155.(3/204)
المحكمة أن يمنعه من إتمام مرافعته مستنداً في طلبه هذا إلى أن الدفاع خرج عن الموضوع، وليس من حقه أن يتكلم عن كبر سن عمر المختار وشيخوخته ووافقت المحكمة (1)، أمر القاضي المحامي بأن لايخرج عن الموضوع ويتكلم بإيجاز، وهنا تكلم المحامي بحدة وقال: إن عمر المختار الذي هو أمامكم وليد هذه الأرض قبل وجودكم فيها ويعتبر كل من احتلها عنوة عدو له ومن حقه أن يقاومه بكل مايملك من قوة حتى يخرجه منها أو يهلك دونها هذا حق أعطته له الطبيعة والإنسانية، وهنا كثر الصياح من الحاضرين بإخراج المحامي وإصدار الحكم على المتهم الذي طالب به المدعي العام. ولكن المحامي استمر قائلاً العدالة الحقة لاتخضع لأي سلطان ولا لأية غوغاء وإنما يجب أن تنبع من ضميرنا وإنسانيتنا وهنا قامت الفوضى خارج المحكمة، وقام المدعي العام محتجاً على المحامي، ولكن المحامي استمر في دفاعه غير مبال بكل هذا بل حذر القاضي أن يحكم ضميره قائلاً: إن هذا المتهم عمر المختار الذي انتدبت من سوء حظي أن أدافع عنه شيخ هرم حنت كاهله السنون وماذا بقي له من العمر بعد ما أتم السبعين سنة وإني أطلب من عدالة المحكمة أن تكون رحيمة من (تحقيق) العقوبة عنه لأنه صاحب حق ولايضر العدالة إذا انصفته بحكم أخف وإنني أحذر عدالة محكمتكم حكم التاريخ لأنه لايرحم فهو عجلة تدور وتسجل كل مايحدث في هذا العالم المضطرب وهنا كثر الضجيج في الخارج ضد المحامي ودفاعه.
ولكن المحامي استمر في دفاعه قائلاً: سيدي القاضي حضرات المستشارين لقد حذرت المحكمة من مغبة العالم الإنساني والتاريخ وليس لدي ما أضيفه إلاّ طلب تخفيف الحكم على هذا الرجل صاحب الحق من الذود عن أرضه ودينه وشكراً).
وعندما قام النائب العام لمواصلة احتجاجه قاطعه القاضي برفع الجلسة للمداولة وبعد مضي فترة قصيرة من الانتظار دخل القاضي والمستشاران والمدعي العام بينما المحامي لم يحضر لتلاوة الحكم القاضي بإعدام عمر المختار شنقاً حتى الموت وعندما
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص155.(3/205)
ترجم الحكم إلى عمر المختار قهقه بكل شجاعة قائلاً الحكم حكم الله لاحكمكم المزيف - إنا لله وإنا إليه راجعون (1).
وأراد رئيس المحكمة أن يعرف ماقاله السيد عمر .. فسأل الترجمان أن ينقل إليه عبارته، ففعل، وعندئذ، بدا التأثير العميق على وجوه الإيطاليين أنفسهم الذين حضروا هذه المحكمة الصورية وأظهروا إعجابهم لشجاعة شيخ المجاهدين بليبيا الحبيبة وبسالته في آن واحد.
وأما المحكمة، فقد استغرقت من بدئها إلى نهايتها ساعة واحدة وخمس عشرة دقيقة فحسب، من الساعة الخامسة مساء إلى الساعة السادسة والربع وكذلك قضت إرادة الله تعالى أن يتحكم الطليان في مصير البطل، لتتم الإرادة الإلهية وتمضي الحكمة الربانية (2).
{وربك يخلق مايشاء ويختار ماكان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عمّا يشركون} (سورة القصص، آية 68).
{ما أصاب من مصيبة إلاّ بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم} (سورة التغابن: آية 110).
سابعاً: إعدام شيخ الجهاد في بلادنا الحبيبة:
وفي يوم 16 سبتمبر من صباح يوم الأربعاء من سنة 1931 عند الساعة التاسعة صباحاً نفذ الطليان في (سلوق) جنوب مدينة بنغازي حكم الاعدام شنقاً في شيخ الجهاد وأسد الجبل الاخضر بعد جهاد طويل ومرير.
ودفعت الخسة بالايطاليين أن يفعلوا عجباً في تاريخ الشعوب، وذلك انهم حرصوا على ان يجمعوا حشداً عظيماً لمشاهدة التنفيذ فأرغموا أعيان بنغازي، وعدداً كبيراً من الاهالي من مختلف الجهات على حضور عملية التنفيذ فحضر مالا يقل عن عشرين الف نسمة. على حد قول غراسياني في كتاب برقة الهادئة (3).
_________
(1) انظر: برقة الهادئة، ص286،287.
(2) انظر: حياة عمر المختار، ص156،157.
(3) انظر: برقة الهادئة، ص288.(3/206)
ويقول الدكتور العنيزي (لقد ارغم الطليان الاهالي والاعيان المعتقلين في معسكرات الاعتقال والنازلين في بنغازي على حضور المحاكمة، وحضور التنفيذ وكنت احد اولئك الذين ارغمهم الطليان على المحاكمة، ولكني وقد استبد بي الحزن شأني في ذلك شأن سائر ابناء جلدتي، لم اكن استطيع رؤية البطل المجاهد على حبل المشنقة فمرضت، ولم يعفني الطليان من حضور التنفيذ في ذلك اليوم المشئوم، الا عندما تيقنوا من مرضي وعجزي عن الحضور.
ويالها من ساعة رهيبة تلك التي سار المختار فيها بقدم ثابتة وشجاعة نادرة وهو ينطق بالشهادتين الى حبل المشنقة، وقد ضل المختار يردد الشهادتين أشهد ان لااله الا الله، وأشهد ان محمد رسول الله.
لقد كان الشيخ الجليل يتهلهل وجه استبشاراً بالشهادة وارتياحاً لقضاء الله وقدره، وبمجرد وصوله الى موقع المشنقة اخذت الطائرات تحلق في الفضاء فوق ساحة الاعدام على إنخفاض، وبصوت مدوي لمنع الاهالي من الاستماع الى عمر المختار اذا ربما يتحدث اليهم او يقول كلاماً يسمعونه وصعد حبل المشنقة في ثبات وهدوء.
وهناك اعمل فيه الجلاد حبل المظالم فصعدت روحه الطاهرة الى ربها راضية مرضية، هذا وكان الجميع من اولئك الذين جاءوا يساقون الى هذا المشهد الرهيب ينظرون الى السيد عمر وهو يسير الى المشنقة بخطى ثابتة، وكانت يداه مكبلتين بالحديد وعلى ثغره ابتسامة راضية، تلك الابتسامة التي كانت بمثابة التحية الأخيرة لأبناء وطنه، وقد سمعه بعض المقربين منه ومنهم ليبيون أنه صعد سلالم المشنقة وهو يؤذن بصوت هادئ آذان الصلاة وكان أحد الموظفين الليبيين من أقرب الحاضرين إليه، فسمعه عندما وضع الجلاد حبل المشنقة في عنقه يقول: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك راضية مرضية} (سورة الفجر: آية 27،28).
لقد استجاب الله دعاء الشيخ الجليل وجعل موته في سبيل عقيدته ودينه ووطنه لقد كان يقول اللهم اجعل موتي في سبيل هذه القضية المباركة) (1).
_________
(1) انظر: عمر المختار للأشهب، ص159،160.(3/207)
ويقول شاعر القطرين خليل مطران:
أبيت والسيف يعلو الرأس تسليماً
وجدت بالروح جود الحر أن ضيما
لله ياعمر المختار حكمته
في ان تلاقي مالاقيت مظلوما
ان يقتلوك فما ان عجلوا أجلا
قد كان مذ كنت مقدوراً ومحتوما
ولقد رثاه الشعراء وتكلم في تأبينه الادباء والكتاب ولو تتبعنا ذلك لوجدناها أكثر من مجلد (1).
ونختم استشهاد عمر المختار رحمه الله بقول الله تعالى: {وماكان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلا ومن يريد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤتها منها وسنجزي الشاكرين وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وماضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين} (سورة آل عمران: آية 145).
ومن سيرة عمر المختار العطرة نستخلص دروساً وعبراً تفيدنا كثيراً في حياتنا المعاصرة ليس عمر المختار رحمه الله أول من جاهد ولا أول من استشهد ولكن كان حاله كما قال تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} (سورة آل عمران: آية172).
ومفتاح شخصيته الفذة إنه آمن بالله واستقرت معانيه في قلبه فأصبح لايخشى إلا الله وهذا الصنف من المسلمين هو اقوى ماعرفته البشرية وهو الانسان الحر في أعلى معاني الحرية.
جرد قلبه من الاوهام ومن الشركيات والضلال ومن الشبهات والشهوات وخلص قلبه من كل ظلمة تحيل بينه وبين دخول التوحيد الصحيح إليه، كان كثير المراقبة لله، ومن هنا كان شديد الخوف من الله يعلم إنه شديد العقاب وخوفه من الله جعله اهلاً لتوفيق الله ولذلك كان راسخاً كالجبل الاشم (2).
_________
(1) انظر: ابراهيم سالم بن عامر مترجم برقة الهادئة، ص289.
(2) انظر: حياة عمر المختار، ص190.(3/208)
فالفريد في سيرته، إنه أحيا شيئاً كاد يندثر، أحيا معاني الايمان التي كان الناس قد بدأوا ينصرفون عنها إنه بنيان اسس على التقوى فعاش مباركاً في حياته وفي مماته.
والعبرة الثانية، إنه كان داعيا الى الله بإذنه، تربى على ايدي دعاة السنوسية فلما اكتمل وترعرع، ادى الرسالة وبلغ الامانة وأنذر وبشر، وخيركم من تعلم القرآن وعلمه.
والعبرة الاخرى، إنه كان على فهم صحيح لدينه، يأخذ كلاً لايتجزأ، فلا هو بالتدين المنحرف، ولا هو بالتدين البعيد عن جوهر الدين، وإنما هو رجل مؤمن، يعلم ان الاسلام لايصح أن يؤخذ بعضه ويترك بعضه، وإنما عليه أن يعمل به كله.
وكان في حرارة الشباب وحيويتهم رغم شيخوخته وتلك طبيعية المقاتلين في سبيل الله، الذين يخشون الله ولايخشون أحداً غيره والعبرة الاخرى، انه لم يسع للشهرة، لان المخلصين لايبحثون عن الشهرة وإنما يبحثون عن رضى الله سبحانه وتعالى (1).
ولذلك جعل الله له ذكراً في الدنيا ونسأل الله أن يتغمده برحمته في الآخرة إن اعداءه الاوروبيين اعجبتهم سيرته البطولية والكفاحية والجهادية فهذه صحيفة التايمز البريطانية في مقال نشرته في 17 سبتمبر سنة 1931م تحت عنوان نصر إيطالي: (حقق الايطاليون انتصاراً خطيراً ونجاحاً حاسماً في حملتهم على المتمردين السنوسيين في برقة، فلقد أسروا وأعدموا الرجل الرهيب عمر المختار شيخ القبيلة العنيف الضاري ... ) ثم تستمر الصحيفة حتى تقول: (ومن المحتمل جداً أن مصيره سيشل مقاومة بقية الثوار، والمختار الذي لم يقبل أي منحة مالية من ايطاليا، وأنفق كل ماعنده في سبيل الجهاد وعاش على ماكان يقدمه له اتباعه، واعتبر الاتفاقيات مع الكفار مجرد قصاصات ورق، كان محل اعجاب لحماسته واخلاصه الديني، انه كان مرموقاً لشجاعته (2).
_________
(1) المصدر السابق نفسه، ص193، 194.
(2) من مجلة البيان العدد الخامس عشر، ربيع الثاني 1409هـ، ص82.(3/209)
وقد وصفه أحد الإيطاليين قائلاً (كان عمر المختار مخلصاً وذكياً، وكان عقل الثورة وقلبها ببرقة).
وقال آخر: كان انجازه رائعاً، فقد حارب إيطاليا الفاشستية تسع سنوات من حرب فدائية لم تكن ضعيفة في ذاتها وكان التحدي والتضحية والاستشهاد بالنفس عند عمر المختار واتباعه شيئاً نبيلاً (1).
ونحن نقول:
ومليحة شهدت لها ضراتها ... والفضل ماشهدت به الأعداء
لقد كانت حياة عمر المختار شيخ المجاهدين في الجبل الأخضر بليبيا مكرسة كلها للعلم والدعوة وتربية الناس على الإسلام والجهاد في سبيل الله وكان من رواد الحركة السنوسية فقضى حياته حين نادى منادي الجهاد معتلياً صهوة جواده ممسكاً سلاحه، لم يهادن ولم يستسلم بل قارع أعداء دينه مقارعة الند للند رغم قلة الإمكانات ورغم عدم التكافؤ في العدد والعدة ولكنه استعلاء الإيمان وقوة اليقين، الذي ازداد صلابة وعمقاً في ميادين الجهاد وساحات المعارك، إن جهاد عمر المختار رحمه الله سيظل معلماً بارزاً في تاريخ ليبيا خاصة وتاريخ الأمة الإسلامية عامة وسيظل دليلاً على أن الإسلام صنع ولايزال نماذج عظيمة من البطولات على مر العصور وعلى أن العطاء الحقيقي إنما هو عطاء الإيمان (2).
إن الشيخ الجليل عمر المختار رحمه الله مدرسة تستحق الدراسة والبحث في جوانب متعددة في شخصيته العلمية والدعوية والتربوية والجهادية ويعلم الله ما أعطيت الشيخ حقه ولا حتى بعض حقه وأحس إحساساً عميقاً صادقاً في قرارة نفسي إنه أعظم مما كتبت وأجل مما توهمت وأفضل من عايشت من سيرة أبطال الجهاد في ليبيا الحبيبة فعليه من الله الرحمة والمغفرة والرضوان وعلى إخوانه الميامين الكرام ونفعنا الله بسيرته الزكية العطرة النقية.
_________
(1) انظر: جون رأيت تاريخ ليبيا، ص158.
(2) من مجلة البيان العدد الخامس عشر، ص82،83.(3/210)
وهكذا يا أخي الكريم يصنع الإسلام من اتباعه في ميادين النزال وساحات القتال وكذلك عند الوقوف أمام الطغاة والجلاودة الظلمة، لأن العقيدة تحركه ورعاية الله تحفه وإن هذه الوقفات الخالدة من سيرة شيخ الجهاد في ليبيا لحري بنا أن نكتبها بحروف من ذهب ونعلمها للأجيال ونربي عليها الأشبال لغد مشرق مجيد قد بدأت بوادره تلوح في عنان السماء ومظاهرها متجسدة في رجوع شعوب المسلمين لدينها مع مايحف هذا الرجوع من مخاطر عديدة من قبل اليهود والنصارى والملاحدة والحكام الظلمة وأنى لهم أن يطفؤا نور الله والله متم نوره ولو كره الكافرون.
فما علينا إلا أن نستعين بالله في تحقيق وتطبيق دينه على نفوسنا وأسرنا ومن حولنا ثم على الناس أجمعين.
قال تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لايشركون بي شيئا} (سورة النور: آية55).
{ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} (سورة الحج، آية40).
{من كان يريد العزة فالله العزة جميعاً} (سورة فاطر، آية10).
ثامناً: بعض ماقيل في تأبين الشيخ عمر المختار من الشعر
أ- قال أمير الشعراء أحمد شوقي:
ركزوا رفاتك في الرمال لواء ... يستنهض الوادي صباح مساء
يا ويحهم نصبوا مناراً من دم ... يوحي إلى جيل الغد البغضاء
ماضر لو جعلوا العلاقة في غد ... بين الشعوب مودة وإخاء
جرح يصيح على المدى وضحية ... تتلمس الحرية الحمراء
يا أيها السيف المجرد بالفلا ... يكسو السيوف على الزمان مضاء(3/211)
تلك الصحارى غمد كل مهند ... أبلى فأحسن في العدو بلاء
وقبور موتى من شباب أمية ... وكهولهم لم يبرحوا إحياء
لو لاذ بالجوزاء منهم معقل ... دخلوا على أبراجها الجوزاء
فتحوا الشمال سهوله وجباله ... وتوغلوا فاستعمروا الخضراء
وبنوا حضارتهم فطاول ركنها ... دار السلام وجلق الشماء
خيرت فأخترت المبيت على الطو ... لم تبن جاها أو تلم ثراء
إن البطولة أن تموت على الضما ... ليس البطولة أن تعب الماء
افريقيا مهد الأسود ولحدها ... ضجت عليك أراجلا ونساء
والمسلمون على اختلاف ديارهم ... لايملكون مع المصاب عزاء
والجاهلية من وراء قبورهم ... يبكون زيد الخيل والفلحاء
في ذمة الله الكريم وحفظه ... جسد ببرقة وسد الصحراء
لم تبق منه رحى الوقائع أعظما ... تبلى، ولم تبق الرماح دماء
كرفات نسر أو بقية ضيغم ... باتا وراء السافيات هباء
بطل البداوة لم يكن يغزو على ... (تنك) ولم يك يركب للاجواء
لكن أخو خيل حمى صهواتها ... وأدار من أعرافها الهيجاء
لبى قضاء الأرض أمسى بمهجة ... لم تخش إلا للسماء قضاء
وفاه مرفوع الجبين كأنه ... سقراط جر إلى القضاة رداء
شيخ تمالك سنه لم ينفجر ... كالطفل من خوف العقاب بكاء
وأخو أمور عاش في سرائها ... فتغيرت فتوقع الضراء
الأسد تزأر في الحديد، ولن ترى ... في السجن ضرغاما بكى استخذاء
وأتى الأسير يجر ثقل حديده ... أسد يجرجر حية رقطاء
عضت بساقيه القيود فلم ينوء ... ومشت بهيكله السنون فناء
سبعون لو ركبت مناكب شاهق ... لترجلت هضباته أعياء
خفيت عن القاضي، وفات نصيبها ... من رفق جند قادة نبلاء(3/212)
والسن تعطف كل قلب مهذب ... عرف الجدود وأدرك الآباء
دفعوا إلى الجلاد أغلب ماجدا ... يأسو الجراح ويطلق الاسراء
ويشاطر الأقران ذخر سلاحه ... ويصف حول خوانه الأعداء
وتخيروا الحبل المهين منية ... لليث يلفظ حوله الحوباء
حرموا الممات على الصوارم والقنا ... من كان يعطي الطعنة النجلاء
إني رأيت يد الحضارة أولغت ... بالحق هدما تارة وبناء
شرعت حقوق الناس في أوطانهم ... إلا أُبات الضيم والضعفاء
يا أيها الشعب القريب أسامعُ ... فأصوغ في عمر الشهيد رثاء
أم الجمت فاك الخطوب وحرمت ... أذنيك حين تخُاطبُ الأصغاء
ذهب الزعيم وأنت باق خالدُ ... فانقد رجالك واختر الزعماء
وأرح شيوخك من تكاليف الوغى ... وأحمل على فتيانك الأعباء (1)
ب- قال الأستاذ نعمان عبد الوهاب ناظر مدرسة لملوم بمغاغة بمصر وذلك بمناسبة أول ذكرى للشهيد قام بها الليبيون أثناء الحرب العالمية الثانية:
ذكرى بها ألم النفوس دفين ... وأسى له صلد الصخور يلي
ن ... وسقام شعب في رفاة ضحية ... ونداء قطر بالفلاة سجين
ودموع ثكلى من دم أذراعها ... (سفاح برقة) والرحاب أمين
صاحت على بطل يساق مكبلا ... إذ قال: عرضي، والحمى، والدين
فارتاع شعب أعزل لكما ... في كل ركن في البلاد عرين
من واحت الجغبوب قامت أسرة ... بالله يربطها هدى ويقين
بيت الأمارة والمهابة والتقى ... والعزم ماجدت هناك شئون
_________
(1) الأعمال الشعرية الكاملة، احمد شوقي (2/ 18،19).(3/213)
فاصطفت الأبطال تحت لوائها ... وتجرد الهندي والمسنون
والسيد المهدي يذكى نارها ... بالحزم والاقدام ضل يبين
يستنهض الفرسان في ساحتها ... والشعب منقاد له ورهين
يستعذبون الموت في إرضائها ... في حب برقة يضحك المطعون
عشرون عاماً في الجهاد بهمة ... لم تكتحل فيها المنام جفون
صبر الألى فتحوا ممالك قيصر ... وتسوروا الأيوان وهو حصين
لو كان للإسلام سالف عهده ... والجار للجار الضعيف معين
مابات أبطال الجهاد على الطوى ... يستنجدون الشرق وهو ضنين
يالهف نفسي كيف سار بغله ... من كان للسرج الرهيب يزين
عمر بن مختار الشهيد ومن له ... في كل قلب لوعة وحنين
فختامه يحكي نهاية (جعفر) ... حتى حلى لي فيهما التأبين
عيناه قد رأت الحصان مجندلا ... والجو أطبق والرصاص هتون
والسيف في اليمنى وإن قطعت فما ... يلقيه حتى أن يحين الحين
من كان لله القدير جهاده ... والحق يعلم أنه المغبون
لاينثني عن عزمه والموت في ... حبل المشانق جاثم مرهون
ماردَّ إلا حيث قال قضاتهم ... نعم، وفي الصوت الجهور رنين
فاضت على حبل المظالم روحه ... والله قدر ما عليه تكون
دار السنوسي لقنت أشبالها ... موت المعزة بالكماة قمين
فالصبر ياشعب الجهاد فضيلة ... يامرسل الشكوى وأنت حزين
لازال رب الدار ليثا رابضا ... ان غاب عنها ليس عنك يبين
لازال ادريس الوفي بعهدكم ... والحر للعهد النزيه يصون
لازال يسعى للخلاص بفتية ... منكم، وقد سهرت عليه عيون (1)
_________
(1) انظر: عمر المختار للأشهب، ص187،188.(3/214)
ج-وقال أحد الشعراء الليبيين الأستاذ أبو الخير الطرابلسي:
دك طود الجهاد باسم السلام ... وثوى الحر في مهاوي الظلام
وأبيدت معالم الحق لما ... زلزل الأمن في ربوع الأنام
وأميتت مبادئ الدين كفرا ... وأزيلت منارة الإسلام
وأقيمت مجازر الأثم والبغـ ... ي، وزلت مواطئ الأقدام
وتحامت عناصر الظلم والعدوا ... ن، فهدت دعائم الأقدام
ليت تلك السماء تحكي فتروي ... كيف حيكت مؤامرات اللئام
ليت هذا الأديم ينشق توا ... فيواري مخلفات الطغام
يهذا الشهيد!. ما أنت إلا ... طارف العز .. تالد المجد .. سامي
أيهذا الشهيد!. ما أنت إلا ... قدوة لجيش .. في اللواء الأمامي
خصك الله بالعزيمة والصبـ ... ر، وخص الطغاة بالأحجام
خصك الله بالعقيدة والطهـ ... ر، وخص الدناة بالآثام
أمم الأرض ... طأطأت في احترام ... رأسها .. ياجلال هذا المقام
أمم الأرض ... قلدتهم هوانا ... وازدراء بهم أحط وسام
أيهذا الشهيد قدمت شنقا ... بيد الغدر. ذقت كأس الحمام
فتوارت غزالة الصبح حزنا ... واختفى البدر في ليالي التمام
خالد أنت ... رغم أنف المنايا ... (عمر) أنت ... والردى تتعامى
ان تناسوك، فالثمانون عاما ... ليس ينسى على مدى الأعوام
كللت كاهليك بالعزم تاجا ... فتوثبت قاهراً في اعتصام
ماتحدوك .. إنما قد تحدا ... ك القضا .. بالردى ونصل الختام
انهم البسوك حلة فخر ... ثم أعلوك فوق أسمى مقام
طوقوا جيدك الأغر وغطوا ... جسمك الحر .. خيفة الايلام
سنة الغدر .. رحمة الذئب بالشا ... ة، وخبث الجبان في الايهام
ارجحوا جسمك الضعيف فضجت ... في الأعالي ملائك السلام(3/215)
وعووا كالذئاب: هيا تعالوا ... فاشهدوا مصرع الزعيم الهمام
فأبوا. ثم سيق قهرا وجلدا ... من تأبى حضور ملقى الزوام
ثم دقوا الطبول للموت تدوى ... صارخات على العدا كل عام
لعنة الله .. لعنة الحق صبي ... بشواظ على الكوافر جامي
لعنة الكهل .. لعنة الطفل والخد ... ر ولعنة الثاكلات الدوامي
لعنات على الجناة السفالى ... دائمات إلى نشور العظام
يا أخي! عبرة الخطب هاجت ... فأفاضت لنا الدموع الهوامى
ولغ القوم في الدما فأثاروا ... ديدن الحقد، مبعث الانتقام
ردد اللحن هائجاً مائجاً مسـ ... تفيض الشعور صاخب الأنغام
ياجهاد الشيوخ يافداء الشبا ... ب يا حثيث النساء للاقحام
يادعاة السلام صمتا فانا ... قد شهدنا مفاصل الاعدام
قد شهدنا قذائف الموت تعوي ... هاويات على رؤس الشهام
فشهيد يميل فوق شهيد ... ودماء تفور فوق رغام
يارياح الفناء! هبي وذري ... في المآقي قذى القنا والسهام
وارقصي ثورتي وميدي جنونا ... واطربي يافتوتي! لن تضامي
وتمطى عزيمتي للعلا واستـ ... زري ناطح السحب شاهق الأكام
رب شعب عن المعالي قعيد ... خانه العزم بالوغى والسقام
ورمته الخطوب لما توانى ... وارتضى بالقيود والألجام
فعلت من ثراه صيحات جد ... داعيات إلى البنا والقيام
ونمت فيه بنتة النهضة الغضـ ... ى على مصرع الأبناء المسام
وتقوت سواعد النشء لما ... صقلتها يد العرمى بالنظام
أمة المجد!. انه المجد صعب ... والخنى مستسر قد استضام
سائلي الأمس .. كيف أنا ولدنا ... ونشأنا في أحلك الأيام
ولبثنا سنين جهلا عبيدا ... واستنمنا لباطل الأحلام
وقعدنا عن النهوض ففات الركـ ... ب وتهنا بمهمه الأوهام(3/216)
فالمضاء المضاء يافتية النصـ ... ر! فقد طال. طال عهد المنام
والبدار البدار يا أمة الفخـ ... ر! فحسب الحصاد. نيل المرام
د- وقال الأستاذ حسين الغناي أحد شعراء الشباب الليبيين:
يبيد الزمان ومدته ... وتفنى الخلائق جدته
وتطوى الدهور سجل الحياة ... وتبقى من المرء سيرته
ومن أخلد الذكر في العالمين ... مضاء الفتى وعزيمته
ووقفته عند قرع السلاح ... تذود عن الحق مهجته
إذا عجمته شداد الخطوب ... تدرع بالصبر مهجته
سواء لديه اعوجاج الزمان ... كذا عدله واستقامته
ومن أبرز الذائدين فتى ... إلى أرض برقة نسبته
من العرب الشوس والفاتحين ... جبلته وأرومته
اذا عد (عمر) و (ابن الوليد) ... و (عقبة) ثم صحابته
وأمثالهم نخبة المسلمين ... رجال الفتوح وقادته
فـ (مختار) برقة ذاك الأبي ... الذي طافت الأرض شهرته
لصنو لهم في قياس الفحول ... وتمتاز عنهم صلابته
عقيدته في الحياة الجهاد ... لتحفظ للشعب حرمته
وتلقاه في اليأس والمكرمات ... له فضله ومهابته
إذا اتصفت بالدهاء الرجال ... وبانت من العدل وجهته
فقول الكتاب له مبدأ ... وصوت السلاح سياسته
أبى شرفا أن يفك الركاب ... وأن تلقى السيف راحته
ومازال في السرج شاكي السلاح ... توشحه بندقيته
يصادم في طلعة الهاجمين ... وأول طلق رصاصته
ويغزو علىالقوم في دارهم ... فتفضي إلى النصر غزوته(3/217)
إلى أن قضى تحت حكم القضاء ... شهيداً فكانت نهايته
لئن مات شهم الوغى عمر ... ولما تحقق رسالته
فقد أوجدت في شعور العروبة ... نوراً يشع عقيدته
يسير بها في دروب الظلام ... فتهدي إلى الحق لمعته
كما علم الروم أن الجهاد ... منى العربي وبغيته
وعلمهم أن وكر النسور ... حرام على البوم وطأته
حديثك يا عمر الخيرين ... تغذى النفوس روايته
وذكرك باق مع الخالدين ... به تختم المجد صفحته (1)
تاسعاً: آخر وثيقة من أحمد الشريف وصلت للمجاهدين في ليبيا:
وكانت آخر وثيقة أرسلها أحمد الشريف رداً على رسالة المجاهد الكبير يوسف بورحيل الذي تولى الأمر مؤقتاً بعد استشهاد عمر المختار رحمه الله تعالى وقد أعلم في رسالته أحمد الشريف باستشهاد عمر المختار وطلب منه أن يعين من يقوم بهذا الدور العظيم.
نص الرسالة التي بعث بها أحمد الشريف رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
من عبد ربه سبحانه، خادم الإسلام، أحمد الشريف السنوسي،
إلى حضرة الفاضل المحترم، والجليل المفخم، المجاهد الصادق، واللبيب الحاذق، قائم مقام دور العواقير ولدنا الشيخ عبد الحميد العبار، وكافة أولادنا العواقير حفظهم الله ورعاهم وحرسهم وحماهم آمين آمين.
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ومغفرته ومرضاته وتحياته ورضوانه وعميم فضله وإحسانه، وبعد، فالمرجو من الله تعالى أن تكونوا جميعاً على أيسر الأحوال محفوظين بالله ومنصورين به وإننا لن نغفل عنكم وقت من الأوقات من
_________
(1) انظر: عمر المختار، ص190،191.(3/218)
الدعاء لكم عند بيت الله الحرام وفي حضرة مولانا رسول الله عليه الصلاة والسلام، وعلى الله القبول، إنه أكرم مسؤول، وخير مأمول هذا وقد بلغنا ما أزعجنا وكدرنا غاية الكدر، وهو استشهاد حضرة النائب العام سيدي عمر المختار رحمه الله ورضي الله عنه وجعل جنة الفردوس مسكنه ومحله، وجزاه الله عنا وعن الإسلام أحسن الجزاء، فإنه كان عاملاً صادقاً ناصحاً، وأننا لم نتكدر على نيله للشهادة بل نحمد الله على ذلك ولانقول أنه مات، بل إنه حي لقول الله {ولاتقولوا لمن يقتل في سبيل الله أمواتا، بل أحياء} وإنما كدرنا فقدانه من بينكم وغيابه عنكم، ولكن هذا أمر الله الذي يفعل مايشاء ويحكم مايريد، فلا يمكننا إلا تسليمنا لله ورجوعنا إليه، ولانقول إلا مايقول الصابرون، إنا لله وإنا إليه راجعون، نعم استشهد سيدي عمر المختار ولكنه أبقى العمل الطيب والذكر الحسن إلى يوم القيامة فهذا ليس بميت ولن يموت أبداً، مادامت الدنيا أنه شهيد، والشهيد ليس بميت لقوله تعالى {ولاتحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما أتاهم الله من فضله ...
الخ الآية} فالله يا أولادي في التمسك وإياكم واليأس إياكم والقنوط، إياكم وأقاويل الناس الفاسدة فجدوا واجتهدوا كما كنتم، واجعلوا أعمالكم لله لأنه لنا ولالغيرنا لأن من قاتل الله، فالله حي باقي، ومن قاتل لغير الله فعمله لايفيده شيئاً، واعلموا أن الله معكم، ولن يتركم أعمالكم، فاصبروا وصابروا واعلموا أن العاقبة للمتقين، وأن الله مخزي الكافرين، وماترونه من الأهوال، فإنه والله ثم والله زائل عن قريب وسترون مايسركم دنيا وأخرى، ففي الدنيا سترون بحول الله العز والنصر والفتح الذي لايخطر لكم على بال، وفي الآخرة رضاء الله ورسوله والنعيم المقيم، فأنتم في الخير أحياء وأمواتاً، وها نحن نوبنا عنا عليكم حضرة أخيكم المجاهد الغيور الصادق، ولدنا الشيخ يوسف بورحيل، فإنكم ستلقونه بعون الله وقوته، مثل السيد عمر وأكثر، ونحن ماقدمناه إلا(3/219)
بتقديم سيدي عمر له في حياته، وامتثلوا أمره واسمعوا كلامه، وكونوا له عوناً معيناً، ومن خالفه منكم فلا يلومن إلا نفسه، ومن تبعه وامتثل أمره، فهو الذي منا وعلينا، وولدنا الشيخ يوسف المذكور هو النائب عنا عموماً، فلا تروه إلاّ بالعين التي تروننا بها، وبذلك يتم بالله أمركم، وتجتمع كلمتكم وتقهرون عدوكم، وإياكم ثم إياكم والمخالفة والنزاع، قال الله تعالى {ولاتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين} واعلموا يا أولادي أن العدو خيبه الله ساعي بكل جهده في القضاء عليكم في هذه المدة القريبة، لابلغه الله مناه، لأنه بعد مدة قليلة يقوم معه حرب عظيم يشغله عنكم وهو مع الفرنسيين، والدول الأخرى، فعند ذلك لايقدر على دوام القتال معكم، والحرب قريب النشوب، فجدوا في عملكم، واصبروا وأبشروا بالنصر والفتح ولاتيأسوا من روح الله، انه لاييأس من روح الله إلا القوم الكافرون قال تعالى {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا ...
الخ الآية} ولانشك يا أولادي أن الله منجز وعده لأن الله لايخلف الميعاد، وإني والله ثم والله مايمنعني من الوصول إليكم إلا عدم الطريق، ولكن بحول الله، لازلت مجتهداً بكل جهدي في وصولي إليكم وعن قريب يتم ذلك بحول الله وقوته، هذا وسلموا منا على عموم أولادنا المجاهدين والبارئ يحفظكم وينصركم ويجمعنا بكم عن قريب (1).
16 جمادى الثاني سنة 1350هـ
عاشراً: ايطاليا تحاول ان تستفيد بعد مقتل عمر المختار:
يقول غراسياني عن عمر المختار في كتابه برقة الهادئة: إن خبر القبض على عمر المختار واعدامه سرى في كل مكان وفي الاوساط المحلية بين الأهالي والخاضعين لسلطاتنا وبين الثوار الخارجين عن طاعتنا والمهاجرين في مصر وفي كل البلدان من المشرق الى المغرب. كلها تأثرت من هذا الحادث الجلل، واعدام عمر المختار ولكي
_________
(1) انظر: مجلة الانقاذ العدد 39، 1412هـ، ديسمبر 1991م، ص25.(3/220)
ننتهز هذه الفرصة في هذا الظرف الدقيق من أجل أثارة الفوضى بين القادة الذين خلفوا عمر المختار في القيادة رأينا ان ننشر بياناً الى كافة او البقية من العصاة نعلن لهم فيه ان الحكومة الايطالية الفاشيستية مستعدة أن تقبل استسلامهم وتسليم السلاح وتضمن لهم الحياة وفي 17 سبتمبر 1931م نشرت التعليمات الآتية من أجل توزيعها وهي:
1 - أن نعطي للثوار الاحساس بسخاء الدولة الايطالية الفاشيستية وكذلك للسكان المحليين.
2 - افراد الحالة أمام العالم الاسلامي وغير الاسلامي بكل دقة وان تصرفاتنا لا لبس فيها فهي من اختصاصنا وكذلك من مسؤولياتنا في كل العمليات الحربية التي أجريت في برقة ولهذا فقد قامت طائرتنا بقذف المنشورات على المناطق الجبلية وعلى المدن والقرى وبها البيان الآتي:
الى ادوار عمر المختار
إن الرئيس العظيم رئيس الثوار عمر المختار يحارب منذ عشرين سنة كان يقودكم فيها الى الخراب والدمار والتأخر والانحطاط قبضت عليه قواتنا المظفرة قوات ايطاليا الفاشيستية وقد حكمت عليه المحكمة الخاصة بالاعدام وهذا انتقام من الله من اجل المساكين الذين بسببه تركوا اراضيهم ومسقط رأسهم (1).
قال مترجم كتاب برقة الهادئة ابراهيم بن عامر عن هذا المنشور سبحان الله ياجنرال من الذي شرد الناس من أراضيهم؟ ومن الذي أفنى ثمانين ألف من المواطنين في المعتقلات ألم تكن أنت الذي قضى على الناس وأموالهم؟ وفي نفس الصفحة تعترف بأن عمر المختار منذ عشرين سنة يحارب من أجل من؟ من أجل أن يطردك ويطرد قوات إيطاليا الغاصبة (2).
واستمر غراسياني في المنشور: ياأهل الدور إن الحكومة الايطالية الفاشيستية القوية والسخية تحذركم مرة اخرى إنه بعد وفاة واختفاء عمر المختار أنها مستعدة بأن
_________
(1) انظر: برقة الهادئة، ص294،295.
(2) انظر: برقة الهادئة، ص294،295.(3/221)
تعفو عن كل الذين يخضعون لحكمنا ويسلمون اسلحتهم ومن غير هذا فالحكومة كما قضت على عمر المختار ستقضي على كل الذين يواصلون العصيان أما عاجلاً أو آجلاً. اسمعوا كلامي وسلموا أنفسكم وفي نفس الوقت أصدرت الأوامر الى قوات الجيش بعد أن قذفت الطائرات المنشورات بالاستمرار في القتال دون توقف بل بذل أكثر من الجهد دون تردد حتى نجعل أمام العصاة (يعني الثوار) الطريق الوحيد هو الاستسلام دون قيد او شرط وخلاف القاء البيان بالطائرات مايزيد عن 35.000 منشور وأكثر منها وزعت من الدوريات الكشافة على كل بئر وفي كل حقل ومرعى وكل هذه الاماكن التي يمر بها العصاة (يعني المجاهدون) أما (المريشال بادوليو) من جانبه وجه الى قوات الجيش البرقية التالية:
أوجه الى قوات الجيش الشجاعة ببرقة أعظم الثناء وأحر تهنئتي على كل ماقاموا به من عمل مجيد وانتصار باهر في هذه الحروب والنتيجة المرضية التي كنا نتمناها أن نهاية عمر المختار يجب أن لاتؤثر على السير فوق الطريق التي رسمناها وهي مطاردة العصاة أينما وجدوا واقتفاء أثرهم وضربهم بكل شدة ودون هوادة أو رحمة الى آخر واحد منهم وليكن شعارنا.
لاتوقف ولا ارتخاء واصلوا الزحف بكل حماس متجرد ولسوف نقضي على العصاة نهائياً (1).
انظروا اخواني الى هذا الحقد والبغض والكيد والمكر الذي ظهر من أفواهم وماتخفي صدورهم أكبر وصدق الله حيث قال: {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا .... } (سورة البقرة، آية217).
الحادي عشر: تعيين يوسف بورحيل قائد للحركة الجهادية:
وبعد سقوط عمر المختار رحمه الله في الاسر تجمع المجاهدون بين يوم وليلة واجمعوا على تنصيب الشيخ المجاهد (يوسف بورحيل) قائداً للجهاد الاسلامي ووكيلاً عاماً للجهاد وعلى أثر هذا التنصيب كلف الشيخ عبد الحميد العبار بالرحيل نحو شرق البلاد للقيام بحث الناس على الانخراط في جيش المجاهدين وحمل
_________
(1) انظر: برقة الهادئة، ص296.(3/222)
السلاح لمكافحة الجيوش والجهاد في سبيل العقيدة الاسلامية والدين.
واستقبل المجاهدون خبر استشهاد قائدهم العظيم بالعزيمة في الاستمرار ومواصلة للسير أما الشهادة أو النصر على النصارى الحاقدين.
وواصلت الحكومة الايطالية حملات الانتقام ضد أولئك الابطال وبرز في تلك المرحلة الحاسمة والتي ندر فيها وجود الرجال الشيوخ الفرسان والقادة الأبطال والميامين الكرام اجدادنا البواسل كل من عبد الحميد العبار ويوسف بورحيل وعصمان الشامي وحشدت ايطاليا قواتها وواصلت شن حملاتها بشراسة منقطعة النظير. وبعد قتال عنيف عند الحدود المصرية قرب الاسلاك الشائكة فاجتاز الاسلاك بعض المجاهدين ببطولة منقطعة النظير وفروسية عالية القياس وقتل من قتل واسر من اسر وبقي الزعماء الأربعة يقاومون فقتل حمد بوخيرا لله احد الزعماء وقتل يوسف بورحيل وجرح عصمان الشامي فأخذ أسيراً وأما الفارس المغوار عبد الحميد العبار فاستطاع ان يجتاز الاسلاك الشائكة بجواده رغم مطاردة القوات الايطالية له (1).
وبهذه النهاية المؤلمة الحزينة انكسرت شوكة المجاهدين وتعثرت خطواتهم واخمدت حركة الجهاد وذهب الاجداد تاركين خلفهم تاريخاً بطولياً كفاحياً جهادياً رائعاً من اجل العقيدة والدين والشرف والكرامة فعلى طريق الاسلام نحن سائرون ومن اجل اعزاز دين الله عاملون ورفع راية التوحيد مجاهدون ونسأل الله المغفرة والرحمة والرضوان للاجداد والابطال الكرام من أمثال رمضان السويحلي وسليمان الباروني والفضيل بوعمر واحمد الشريف السنوسي وصالح الاطيوش وابراهيم الفيل واحمد سيف النصر وسعدون وعبد الحميد العبار وغيرهم كثير.
إن عبد الحميد العبار قد امد الله في عمره وقد شاهدته مرات عديدة وأنا طفل لم اتجاوز الرابعة عشر وكنت أراه كل يوم بعد صلاة الفجر امام بيته في الحي الذي كنت أسكن فيه بمدينة بنغازي والذي يسمى مدينة الحدائق بقرب مسجد السيد بالقاسم احمد الشريف السنوسي المعروف بمسجد الأنصار وكان منظره وهو يتلو كتاب الله
_________
(1) انظر: برقة الهادئة، ص304.(3/223)
وقد تقدمت به السن مؤثراً في نفسي وبلادنا في تلك الفترة عمّها الفساد وماكنا نرى ونحن اطفالاً من يحافظ على تلاوة القرآن الكريم بالكيفية المذكورة وأخبرت والدي عن ذلك الذي اسر قلبي بتلاوته القرآن الكريم فقال لي يابني ذاك الشيخ عبد الحميد العبار من كبار المجاهدين وبدأت جدتي وهي من قبائل برقة من قبيلة الدرسة وقد كانت ضمن المعتقلين بمعتقل المقرون تسرد لي أموراً عجيبة عن جهاده وفروسيته وشجاعته ونجدته ولازالت صورته في ذهني الى وقت كتابتي هذه وعندما توفى رحمه الله كانت لوفاته مأتم مشهود وحضرت جموع غفيرة من شرق البلاد وغربها واستمر المأتم اياماً عديدة فرحمة الله على أولئك الأبطال.
الثاني عشر: اضطهاد الشعب:
وباستشهاد عمر المختار ويوسف بورحيل واسر عصمان الشامي بعد جرحه وهجرة عبد الحميد العبار الى مصر وقتل كثير من المجاهدين إنتهت حركة الجهاد الفعلية ومع وجود معظم السكان في معسكرات الاعتقال حكم الايطاليون البلد من الحصون المحاطة بالاسلاك الشائكة والدرويات والمصفحات والسيارات المسلحة والرشاشات والانوار الكاشفة والطائرات وفي يناير 1932م أعلن بادوليو حاكم ليبيا العسكري الايطالي أن الثورة قد انتهت كلية وتماماً واصرت ايطاليا على جعل ليبيا الشاطئ الرابع لإيطاليا. وأعلن موسليني ذلك الطبل الاجوف سنة 1934م بأن الحضارة الحقيقية هي ماتخلقها ايطاليا على الشاطئ الرابع لبحرنا، الحضارة الغربية بصفة عامة، والحضارة الفاشيستية بصفة خاصة) وأخذ الرأسماليون الايطاليون يقسمون ممتلكات الشعب المسلم على بعضهم البعض ويرحّلون الاسر الايطالية لاستيطان الكامل في ليبيا المسلمة وأصبح الليبيون عمال مستأجرين وخدام للعائلات الايطالية في مزارعهم التي نزعت من ايديهم وسلمت للايطاليين وأصدرت وسنت القوانين التي تخدم مصالح الحكومة الايطالية في مصادرة الاملاك والاستيلاء عليها ونزعها من المواطنين بمبالغ زهيدة باسم المصلحة العامة واهتمت ايطاليا بليبيا اهتماماً بالغاً من اجل جعلها قطعة ايطالية لها دورها في توسيع مستعمراتها نحو الجزائر ومالطا وجبل(3/224)