صفحات من التاريخ الإسلامي في الشمال الإفريقي
ـ[فقه التمكين عند دولة المرابطين]ـ
المؤلف: عَلي محمد محمد الصَّلاَّبي
الناشر: مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، القاهرة - مصر
الطبعة: الأولى، 1427 هـ - 2006 م
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع](/)
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى: 1427هـ - 2006م
رقم الإيداع: 13403/ 2006
بطاقة الفهرسة
فهرسة أثناء النشر إعداد الهيئة المصرية العامة
لدار الكتب والوثائق القومية
إدارة الشئون الفنية
الصلابي، على محمد.
فقه التمكين عند دولة المرابطين
تأليف/ على محمد الصلابي. ط1 - القاهرة
مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، 2006
224 ص؛ 24 سم ... تدمك: 0 - 84 - 6119 - 977
1 - المرابطون
أ- العنوان ... 953.0713
مؤسسة اقرأ
للنشر والتوزيع والترجمة
10 ش أحمد عمارة - بجوار حديقة الفسطاط
القاهرة ت: 5326610 ... محمول:0102327302 - 101175447
www.iqraakotob.com
Email: info@iqraakotob.com(1/2)
الإهداء
إلى أبناء الشَّمَال الإفريقى خصوصًا,
وأبناء الأُمَّة عمومًا
أهدى هذا الكتاب سائلاً المولى
عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى
أن يكون خالصًا لوجهه الكريم
{فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].(1/3)
مقدمة
إن الحمد لله, نحمده, ونستعينه، ونستغفره, ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا، ومن سيِّئات أعمالنا, مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلِل فلا هادى له، وأَشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ إن مُحمدًا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِى تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إن اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71].
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي، هدى محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة.
أما بعد: يا ربِّ لك الحمدُ كما ينبغى لجلال وجهك, وعظيم سلطانك, لك الحمد حتى ترضى, ولك الحمدُ إذا رضيت.
هذا الكتاب الرابع (صفحات من التَّارِيخ الإسلامى فى الشَّمَال الإفريقي) يتحدث عن دولة المرابطين السُّنيَّة منذ نشأتها وحتى سقوطها، ويتعرَّضُ لسنن الله فى بناء الدوَل وإحياءِ الشعوب، فيُعطِى نبذة تاريخيّة عن أصول القبائل التى قامت عليها دولة المرابطين، فيتكلم عن مواطنها, ومواقعها, وحياتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية قبل دخول الإمام عبد الله بن ياسين فى قلب الصحراء الكبرى لدعوة قبائل صنهاجة إلى الإسلام, وكيف تعامل ذلك الإمام مع تلك القبائل، وجعل منها أمَّةً تحمل الإسلام عقيدةً ودعوةً ومنهجًا، كما يسلط هذا الكتاب الأضواء على زعماء دولة المرابطين مِن أمثال الأمير يحيى بن إبراهيم، والأمير أبى بكر ابن عمر، ويوسف بن تاشفين, ويتكلم عن خط سَيْر المرابطين فى توحيد المغرب الأقصى، وتوغُّلِهم الدَّعَوِى فى جنوب المغرب نحو غانا ومالى وغيرها من دِوَل إفريقيا, ويتحدث عن دفاع المرابطين عن مسلمى الأَنْدَلُس, وأسباب ضعف المُسْلِمين هناك، وعن أثر تحكيم شرعِ الله فى مُجْتَمَع المرابطين، وعن سياستهم الدَّاخليَّة والخارِجيَّة, وكيف أعطوا حقوق الرعية من خلال دستور دولتهم السُّنيَّة، وما موقف الرعية من دولة المرابطين؟(1/5)
ويتحدث عن علاقة دولة المرابطين بالخلافة العباسية، ودولة بنى حماد وملوك الطوائف والإسبان والنصارى، ويعطى نبذة مختصرة عن أنظمة الدولة المرابطية، كنظام الحكم والإدارة, والنظام القضائي, والنظام العسكري، والنظام المالي, ويدافع عن دولة المرابطين ويبين مآثرها الحضارية من أعمال معمارية وحياة أدبيَّة علمية وفقهية وتاريخيّة وجغرافية وطبية، ويجد القارئ الكريم فى ثنايا هذا البحث تركيزًا على معرفة سنن الله, وكيفية التعامل معها مِن خلال الوقائع التاريخيَّة, وأهمية العلماء فى قيادة الأمة نحو المجد والعزَّة والكرامة، وكيف حرصوا على الأخذِ بالأسباب الماديَّة والمعنويَّة التى حققت النَّصر على الأعداء، ويتحدثُ عن أهمية سنة التدرُّج فى تغيير الشعوب وبناء الدول، ويعطى للتربية الربَّانية أهمية قُصوََى فى تحقيق الأهداف العُظمَى للأمة سواء على مستوى القادة فى أخلاقهم وعلمهم وجهادهم, أو على مستوى الشعوب فى استجابتها لكتاب ربِّها وسنة نبيِّها وقيادتها المُخلصة.
وهذا الجهد المتواضع حاول أن يسلط الأضواء على فقه التَّمكين مِن خلال التحليل والتفسير للأحداث التى وقعت فى دولة المرابطين.
والهدف من هذا الكتاب:
1 - التعريف بزعماء دولة المرابطين مِن أمثال: عبد الله بن ياسين، ويحيى بن إبراهيم, وأبى بكر بن عمر, ويوسف بن تاشفين، وأبى عمران الفاسي.
2 - إظهار معانٍ فى فقه التَّمكين من خلال المنظور التَّارِيخى لدولة المرابطين، فيوضح مراحل التَّمكين التى مَرَّت بها الحركة المرابطية إلى أن وصلت إلى الدولة، وما الأسباب التى اتخذوها والشروط التى حققوها؟ وما الأهداف التى نفَّذوها لمَّا وصلوا إلى الحُكْم.
3 - تسهيل مَبدأ الاعتبار والاتعاظ بمعرفة أحوال الدوَل, وعوامل بنائها، وأسباب سقوطها، والنظر فى سنن الله فى الآفاق، وفى الأَنْفُسِ والمُجْتَمَعات.
4 - الاهتمام بمعرفة عقيدة أهل السنة والجماعة، وتربية أبناء الأمة عليها،
وكيف كان اهتمام المرابطين بهذه العقيدة التى استمدوها من كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
4 - إثراء المكتبة الإسلامية التاريخيّة بالأبحاث المنبثقة عن عقيدة صحيحة وتصوُّر سليم بعيدة عن سموم المستشرقين، وأفكار العلمانيين الذين يسعون لقلب الحقائق التاريخيّة من أجل خدمة أهدافهم.(1/6)
أما خطة الكتاب: فقد قمت بتقسيمه إلى خمسة فصول:
الفصل الأول: بناء دولة المرابطين ويشتمل على ستة مباحث:
المبحث الأول: الجذور التاريخية للمرابطين.
المبحث الثاني: الأمير يحيى بن إبراهيم.
المبحث الثالث: أبو عمران الفاسي.
المبحث الرابع: الزَّعِيم الدينى عبد الله بن ياسين.
المبحث الخامس: المراحل التى مر بها ابن ياسين لبناء الدولة.
المبحث السادس: مرحلة التَّمكين.
الفصل الثانِي: المرابطون ودفاعاتهم عن مسلمى الأَنْدَلُس.
ويشتمل على تسعة مباحث:
المبحث الأول: الصراع بين طُلَيْطِلَة وقُرْطُبَة.
المبحث الثاني: أسباب ضعف المُسْلِمين فى الأَنْدَلُس.
المبحث الثالث: العالم زمن ظهور دولة المرابطين.
المبحث الرابع: أثَرُ الحكم بما أنزل الله على مُجْتَمَع المرابطين.
المبحث الخامس: الأَنْدَلُس بعد الزلاقة.
المبحث السادس: الفتاوى فى جواز ضم الأَنْدَلُس.
المبحث السابع: العبور الثالث للأمير يوسف بن تاشفين.
المبحث الثامن: الجواز الرابع.
المبحث التَّاسع: آثار الابتعاد عن تحكيم شرع الله.
الفصل الثالِث: السياسة الدَّاخليَّة والخارِجيَّة فى دولة المرابطين.
ويشتمل على ستة مباحث:
المبحث الأول: حقوق الرعية الذين يعيشون فى الدولة.
المبحث الثاني: موقف الرعية فى دولة المرابطين.
المبحث الثالث: موقف المرابطين من الخلافة العباسية.
المبحث الرابع: علاقة الأمير يوسف مع بنى حماد.
المبحث الخامس: علاقة المرابطين مع ملوك الطوائف.
المبحث السادس: علاقة المرابطين مع الإسبان النصارى.(1/7)
الفصل الرابع: سياسة المرابطين فى دولتهم المجيدة.
ويشتمل على خمسة مباحث:
المبحث الأول: نظام الحكم والإدارة.
المبحث الثاني: النظام القضائي.
المبحث الثالث: النظام العسكري.
المبحث الرابع: النظام المالي.
الفصل الخامس: أهم أعمال دولة المرابطين الحضارية.
ويشتمل على سبعة مباحث:
المبحث الأول: الآثار المعمارية فى المغرب والأَنْدَلُس.
المبحث الثاني: الحياة الأدبية والعِلمِيَّة فى دولة المرابطين.
المبحث الثالث: من مشاهير علماء دولة المرابطين.
المبحث الرابع: علوم اللغة فى زمن المرابطين.
المبحث الخامس: علوم التَّارِيخ والجغرافيا.
المبحث السادس: علوم الطب فى عصر المرابطين.
المبحث السابع: أسباب السقوط.
ثم نتائج البحث.
وأخيرًا, أرجو من الله تعالى أن يكون عملاً خالصًا لوجهه الكريم وأن يُثيبَنى على كلِّ حرفٍ كتبتُه, ويجعله فى ميزان حسناتي، وأن يثيبَ إخوانى الذين أعانونى بكل ما يملكون مِن أجلِ إتمامِ هذا الكتاب، سبحانك اللهم وبحمدك, أشهدُ أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين.
الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه
على محمدـ محمد الصلابى
الإخوة الكرام, يسرني أن تصل ملاحظاتكم وانطباعاتكم حول هذا الكتاب وغيره من كتبي من خلال دور النشر, وأطلب من إخواني الدعاء بظهر الغيب بالإخلاص لله رب العالمين، والصواب للوصول للحقائق ومواصلة المسيرة في خدمة تاريخ أمتنا.
البريد الإلكتروني
E- Mail: abumohamed2@maktoob.com(1/8)
الفصل الأول
بناء دولة المرابطين
المبحث الأول
الجذور التاريخية للمرابطين
تمهيد:
تعتبر قبائلُ صنهاجة أقوى قبائل البربر وأشدها وأمنعها, واشتهرت بقُوَّة شكيمتها, وكثرة رجالها الذين ملأوا الشَّمَال الإفريقى وسكنوا جباله، وسهوله وخصوصًا من المغرب الأوسط إلى المغرب الأقصى.
واعتبرَ بعضُ المؤرخين قبائل صنهاجة مثلت شعبًا انضوتْ تحت لوائه أكثر من سبعين قبيلة بربرية، ومِن أهم هذه القبائل وأشهرها لمتونة، وجدالة، ولمطة، ومسوفة، وهى التى تكوَّنت منها دولة المرابطين السُّنيَّة. وبعض المؤرخين يجعل القبائل الصنهاجية لها أصل من حمير بن سبأ أى: إن أصلَهم يمانيِّون.
والبعض الآخر يذهب إلى أنهم برابرة لا علاقة لهم بالعرب (1).
1 - تسمية الملثمين:
اشتهرتْ القبائل الصنهاجية فى التَّارِيخ باسم المُلَثَّمين، وأصبح اللثام شعارًا عُرفوا به إلى أن تسمَّوا بالمرابطين، ويرى بعض المؤرخين إن المُلَثَّمين ينتسبون إلى قبيلة لمتونة إحدى بطون صنهاجة, وكانت لمتونة تتولى رئاسة سائر قبائل مسوفة، ومسراته، ومداسة, وجدالة، ولمطة، وغيرها، ثم آلت الرئاسة إلى قبيلة جدالة على عهد الأمير يحيى بن إبراهيم الجدالي (2).
ويبدو أن إطلاق اسم المُلَثَّمين فى بدايته كان خاصًّا بقبيلة لمتونة ثم توسع وأصبح شعارًا لكل من حالف لمتونة ودخل تحت اسم سيادتها.
_________
(1) انظر: دولة المرابطين فى المغرب والأندلس، د. سعدون عباس ص (12 - 13).
(2) انظر: تاريخ المغرب والأندلس فى عصر المرابطين، د. حمدي عبد المنعم، ص (27).(1/9)
2 - سبب تسميتهم:
وأمَّا سبب تسميتهم فقد وردت أقوال كثيرة فى سبب تسميتهم بذلك، منها: إن أجدادهم مِن حِمْيَر كانوا يتلثمون لشدة الحرِّ، ويذهب إلى هذا الرأى مََن ظنَّ إن أصل قبائل صنهاجة يرجع إلى الهجرات القديمة من المشرق لأسباب متعددة، منها اقتصادية, وسياسية.
ومنها: أنَّهم آمنوا بالرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكانوا قلة فاضطرُّوا للهرب لما غلبهم أهل الكفر فتلثَّمُوا بقصد التمويه، وقيل: إن طائفة منهم أغارت على عدو لهم فخالفهم إلى مواطنهم وهى خالية إلا مِن النساء والأطفال والشيوخ، فأمر الشيوخُ النساءَ بأن يرتدين لباسَ الحرب ويتلثَّمَنَ، ففر الأعداء وهكذا اتخذوا اللثام سنة يلازمونه وارتقى عندهم إلى مستوى رفيع فى حياتهم وأعرافهم ومما قيل فى اللثام:
قَوم لهم درك العلا فى حمير ... وإن انتموا صنهاجة فهمُ همُ
لما حَوَوْا إحْرَازَ كُلَّ فضيلة ... غلبَ الحياءُ عليهمُ فتلثَّموا (1)
3 - موطن الملثمين:
سكن المُلَثَّمون الصحراء الكبرى الممتدة من غدامس شرقًا إلى المحيط الأطلسى غربًا، ومِن جبال درن شمالاً إلى أواسط الصحراء الكبرى جنوبًا.
ولم تكن هذه الأماكن والمواطن تجرى بها أنهار دائمة, وكانت قليلة الأمطار وأحيانًا تُحبَسُ عنها الأمطار لسنوات عديدة؛ فيتعرض سكانها للمجاعة فيرتحلون لطلب الماء والكلأ، فتفرقوا حول الواحات الصغيرة فى تلك الصحارى الممتدة الأطراف، وكوَّنوا قرى بدائية تتماشى مع ظروف حياتهم الرعوية (2).
4 - حياتُهم الاقتصادية:
توزَّع المُلَثَّمون حول الواحات بحثًا عن المياه وعملوا فى الزراعة وخاصَّة زراعة الشعير الذى ينبت فى الأرض الفقيرة ويكفيه قليل من الماء، وقد ازدهرت زراعته فى منطقة أزكى التى تسكنها قبيلة لمتونة.
_________
(1) انظر: وفيات الأعيان (ج7/ 130).
(2) انظر: دولة المرابطين فى المغرب والأندلس، ص (13).(1/10)
وكان النخيلُ مِن أهم أشجارهم، وكانت مدينة سجلماسة من أهم واحات الصحراء عمرانًا بشجر النخيل, واستفاد المُلَثَّمون من ظل أشجار النخيل؛ فزرعوا البطيخ والقرع والكوسى والقثاء، وشهدت بعض الواحات زراعة الذرة، وازدهرت فى واحة سجلماسة زراعة القطن وقصب السُّكَّر. وكانت وسيلة الزراعة فى تلك الواحات الصحراوية المحراث البدائى الذى تجرُّه الجمال.
وكانت تلك القبائل تهتم بتربية الحيوانات للحصول على قوتهم ولكى يستعملوها فى تنقلاتهم، ومن أهم الحيوانات التى اهتَمُّوا بها الإبل، والتى كانوا يشربون ألبانها ويأكلون لحومها ويستفيدون من أوبارها وجلودها لصناعة العباءات والألبسة والنعال وأسقف البيوت الصغيرة.
وكذلك اهتَمُّوا بتربية البغال والحمير لاستخدامها فى النقل المحلي (1).
واهتَمُّوا بتربية المواشى مِن بقرٍ وغنم وماعز لاستعمال ألبانها ولحومها فى غذائهم, وجلودها وأصوافها فى لباسهم، واهتَمُّوا بتربية النحل للحصول على العسل والشمع, وقد مارسوا الصيدَ وخاصة صيد البقر الوحشي.
وازدهرت الصناعات المحلية للاكتفاء الذاتي، وتطوَّرت فى الكم والنوع الصناعات المنزلية, وكذلك الأدوات الحربية التى ازدهرت بسبب الحروب المستمرَّة بين المُلَثَّمين وجيرانهم الوثنيين من السودان وغانا, واهتَمُّوا بصناعة السروج ولجم الخيل، وازدهرت الصناعات الغذائية فاستخرجوا الزيت من ثمر الفرتى وذلك بعصر قشره، واستعملوه فى طهى الطعام وإنارة السُّرج ليلاً، وكانوا يمزجونه بالرمل ويطلون به أسطح المنازل فيخفف من شدة الحر، ويمنع تسرُّب الماء، واشتهرت مدينة تارودانت بصناعة قصب السكر، والمنسوجات والألبسة من الصوف والقطن والوبر, وكانوا يصنعون من ثمار القرع أوانى يضعون فيها الملح والبهارات.
ومِن أهم المعادن فى بلاد المُلَثَّمين؛ الملح ويكثر فى أوليل وتفاري، والأخيرة تضم معظم مناجمه وهى على شكل ألواح يُقطِّعُهَا العبيد وتحملُها الجمال إلى بلاد السودان وغانا، وكان الحمل الواحد يُباع فى أيوالاتن بعشرة مثاقيل مِن الذهب، أما فى مالى فكان
_________
(1) انظر: دولة المرابطين, ص (15).(1/11)
يُباع بعشرين مثقالاً، وربما ارتفع إلى الثلاثين. كان للملح أهمية فى حياتهم الاقتصادية، إذ كانوا يقطعونه قطعًا صغيرة يقايضون به كالذهب والفضة، وكان الفائض من إنتاجهم الزراعى والصناعى يُصدَّر إلى خارج بلادهم (1).
5 - أهمية موقع الملثمين:
كانت بلاد المُلَثَّمين الممرَّ الوحيد بين الأَنْدَلُس وأواسط إفريقية؛ فكانت تسلكه القوافل على ثلاث طرق، فالطريق الأول وهو الطريق الساحلى على المحيط الأطلسى ينطلق من أغادير مارًا بنواكشوط حتى مصبِّ نهر السنغال, يقابله طريق داخلى غير بعيد عنه لجهة الشرق هو طريق تارودانت أويل، أما الطريق الثَّانِى وهو الأوسط فيمتد من أواسط المغرب إلى قلب الصحراء حيث بلدان مالى والنيجر, يبدأ هذا الطريق من سجلماسة ويمر بأزكى حتى أودغشت فى بلاد النيجر.
والطريق الثالث والأخير وهو طريق الصحراء يمتد من السودان الغربى إلى أواسط الصحراء شرقًا, ولا تخلو هذه الطُّرُق مِن صعوبات طبيعية، فتحرك الرمال يمحى معالمها وتتعرض القوافل المارة بها إلى مخاطر لا تُحمد عقباها، ولذلك احتاجت هذه القوافل للقُصّاص من المُلَثَّمين لكى يقودوا القوافل فى تلك الصحارى حتى تصل إلى بر أمانها مقابل مبالغ مالية على المجهود الرائع العظيم.
ونشطت حركة التجارة بين إفريقيا الغربية وبلاد المغرب والأَنْدَلُس بسبب الدور الريادى الذى قامت به قبائل لمتونة ومسوفة وجدالة التى كوَّنت حلقة الاتصال الناجحة والمثمرة للأطراف المشاركة, وكثُرت الأسواق التجارية التى تعرض فيها بضائع بلاد الأَنْدَلُس والمغرب الأقصى وبلاد السودان الغربى حيث يتم التبادل بالتقايض, أو بالذهب والفضة على حسب الاتفاق بين المتبايعين، ومن أشهر تلك الأسواق التى اشتهرت فى تاريخ البلاد: أوغشت، أغمات، أسيلا (2).
6 - الحياة الاجتماعية فى بلاد الملثمين:
وأدى ازدهار التجارة فى بلاد المُلَثَّمين إلى ظهور طبقة من الأثرياء تجمعت لديهم
_________
(1) انظر دولة المرابطين، ص (16).
(2) المصدر السابق، ص (18).(1/12)
أموال عظيمة بسبب نشاطهم التجاري، وعلى رأس هذه الطبقة الأمراء الذين استأثروا بالحكم وحافظوا على مصالحهم، وكانت هذه الطبقة مستعدة لمقاومة مَن يُهدِّدُ مصالحها, أو يحاول انتزاع مكانتها وثروتها وجاهها، مستخدمين من أجل تلك الأهداف الأساليب المشروعة والمُحرَّمة، ويساندهم فى ذلك الفقهاء المحليون الذين ارتبطت مصالحهم بهم وأصبحت أطماعهم والسعى لتحقيقها فوق أحكام الله.
واحتكرت هذه الطبقة الأراضى الزراعية فى الواحات، وكذلك مناجم الملح وقطعان الماشية، أى جميع مصادر الثروة, وكانت تبنى بيوتها بطريقة تدل على ترفعها عن سائر النَّاس, ومعلوم لدى الدارسين والباحثين فى تاريخ المُجْتَمَعات البشرية أنه عندما تظهر طبقة ذات ثراء مفرط ينتج عنه ظهور طبقة من الفقراء المدقعين فى فقرهم, وهذا ما حدث فى المُجْتَمَع المُلَثَّم، حيث نجد أن عامة النَّاس أصابهم الفقر واضطروا إلى الاشتغال برعى المواشى وبالعمل فى الأراضى الزراعية، ويؤدون الضرائب للأمراء والأعيان الذين استغلوهم استغلالاً مشينًا، وكانت طبقة الفقراء تتعرض للمجاعة فى سنوات الجفاف وكانت منازلهم من أغصان الأشجار ومُغطاة بالجلود كالأكواخ.
وظهرت فى المُجْتَمَع المُلَثَّم كثرة العبيد الذين استُخدموا وسُخروا للعمل فى مناجم الملح، وجلُّهم كانوا أسرى فى الحروب التى نشبت بين المُلَثَّمين والوثنيين، وارتفع شأن العبيد فيما بعد؛ فكانوا فرقة خاصة فى جيش المرابطين، واشتهرت المرأة المُلَثَّمة بالجمال، وهى سمراء اللون, وبعض نساء الطبقة العليا كانت لهنَّ منزلة رفيعة فاقت منزلة الرجال فى بعض الأحيان.
وانتشرت عادات خبيثة فى المُجْتَمَع المُلَثَّم تتنافى مع تعاليم الإسلام، بل هى عادات غارقة فى مستنقعات الجاهلية، ومن أبشع هذه العادات السيئة الزواج بأكثر من أربع حرائر، وعادة الزنى، ومصادقة الرجل للمرأة المتزوجة بعلم زوجها وحضوره، وغابت العقيدة الإسلامية الصحيحة عن ذلك المُجْتَمَع واضطربت تصوراتُه وانحرف عن الصراط المستقيم, بعدما كان أجداد هذا المُجْتَمَع قد آمنوا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نبيًّا ورسولاً، ونبذوا ديانتهم المجوسية القديمة، بل كان أجداد هذا المُجْتَمَع دعاة إلى الله، ورفعوا لواء الجهاد , وخاضوا حروبًا فى سبيل إعلاء كلمة الإسلام الخالدة التى وصلتهم بعد فتح الأَنْدَلُس.(1/13)
واشتهرَ مِن ملوك المُلَثَّمين بحرصهم على نشر الإسلام وكسر شوكة من يعاديه الملك «تيولوثان بن تيكلان اللمتوني» الذى حارب القبائل الوثنية ونشر بينها الإسلام، وبعد وفاته سنة 222هـ خلفه حفيده الآثر الذى دام حكمه حتى وفاته عام 287هـ، فخلفه ابنه تميم الذى قتل عام 306هـ/ 920م على يد مشايخ صنهاجة.
وبعد ذلك افترقت كلمة المُلَثَّمين, وضاعت كثير من تعاليم الدين واستمرَّ شتاتهم مدة مائة وعشرين سنة الى أن قام بالأمر الأمير محمد بن تيفاوت اللمتوني (1) الذى وحَّدَهم، وقد استشهد هذا الأمير بعد ثلاث سنوات من حُكمِه على يد الوثنيين، فقام بالأمر بعده صهره الأمير يحيى بن إبراهيم الجدالى الذى قاد قَومه نحو دين الله بعد رجوعه مِن حِجِّه ورحلته المشهورة.
* * *
_________
(1) انظر: ابن أبي زرع، روض القرطاس، ص (746) نقلاً عن دولة المرابطين ص (19).(1/14)
المبحث الثاني
الأمير يحيى بن إبراهيم (الزعيم السياسي)
كان الأمير يحيى بن إبراهيم سيدًا مطاعًا فى قَومه لِما عُرفَ عنه مِن شجاعة وكرم وجود ومقدرة قيادية عالية, واشتهر برجاحة عقلة ونفاذ بصيرته وسداد رأيه وحرصه على هداية قَومه.
خرج هذا الأمير الجليل من ديار المُلَثَّمين قاصدًا بيت الله الحرام, لأداء فريضة الحج تاركًا الحكم لابنه إبراهيم عام 427هـ - 1035م (1).
وكانت العادة أن يقترنَ الحج بطلب العلم، وبعد أداء الفريضة، انطلق الأمير يحيى يبحث عن المعرفة فى مدارس المغرب الفقهية طالبًا للعلم لإرواء روحه الظمأى إلى نور المعرفة الإسلامية التى اندرست معالمها فى بلاده, ورمتْ به أقدارُ الله فى حَلَقَةِ إمام المغرب فى زمانه فى مدينة القيروان «الإمام أبو عمران الفاسي» الذى تعلَّقت نفسُ الأمير يحيى بتعاليمه وفقهه, وعرض نفسه على الإمام أبى عمران الفاسى الذى ورث زعامة المدرسة المالكية التى انتصرت على الهيمنة الإسماعيلية العبيدية الباطنية الرافضية، واستردَّت حريتها كاملة بعد جهادهم المرير الذى أصبح مَعْلَمًا من معالم أهل السنة فى الشَّمَال الإفريقي.
وأُعجِبَ الشيخ أبو عمران بالأمير يحيى لما لمسه فيه من حبه للخير وحرصه على التعلم، وتحدث إليه الأمير عن سوء الأحوال الاجتماعية فى بلاده، وجهل قبائلها بأصول الدين وفروع الشريعة، وطلب من أبى عمران أن يبعث معه أحد طلبته ليعلم قَومه أصول الفقه والشريعة الإسلامية (2).
وتذكر بعض كتب التَّارِيخ, أن أبا عمران الفاسى هو الذى وضع الخطوط الأولى مع الزَّعِيم يحيى بن إبراهيم لقيام دولة صحراوية سنية فى المغرب على أسس دينية صحيحة, كى تستطيع القضاء على الفوضى السياسية والدينية التى كان المغرب يتخبط فيها منذ
_________
(1) انظر: دولة المرابطين، ص (19).
(2) انظر: تاريخ المغرب والأندلس فى عصر المرابطين، ص (38).(1/15)
سنوات عديدة، وفى ذلك يقول صاحب كتاب «بعض مشاهير أعيان فاس فى القديم»:
«ولما اجتمع أبو عمران مع يحيى بن إبراهيم، ندبه إلى قتال برغواطة، وقتال زناتة على ما صدر منهم من الظلم، واستنزال رؤسائهم من الولاية، فوعده يحيى بالنهوض
إلى ذلك» (1).
وكان يحيى بن إبراهيم حريصًا على أخذ فقيه وعالم معه إلى قَومه، ورأى أبو عمران الفاسى مِن أجل تحقيق الأهداف التى رسموها, أنه لابُدَّ من المرور بمراحل ضرورية فى بناء الدولة المنشودة, من مرحلة التعريف بالمنهج وتكوين أفراده وتربيتهم عليه, وتنفيذ السياسة المرسومة بعد التكوين للوصول إلى مرحلة القُوَّة والتَّمكين.
فأحال أبو عمران أمير المُلَثَّمين على تلميذ له فى بلاد السوس فى أقصى المغرب، وهو الفقيه وجاج بن زلوا اللمطي، الذى كان يقيم فى رباط هناك بمدينة نفيس يسمى دار المرابطين، ومن هذا الرِّبَاط أرسل وجاج صحبة هذا الأمير الفقيه عبد الله بن ياسين الجزولى ليفقه هؤلاء الصحراويين فى أمور دينهم.
وكان يحيى بن إبراهيم بجانب تفكيره فى إخراج قَومه من الظُّلُمَات إلى النُّور يفكر فى إنقاذ قَومه من الهيمنة الزناتية الظالمة, التى كانت قبائل صنهاجة المُلَثَّمة تعانى من جورها وقسوتها وإذلالها وإهانتها.
لقد رأى الأمير يحيى أن طريق عزة قَومه فى تمسكهم بالإسلام الصحيح، وقد لاحظ الأمير يحيى بن إبراهيم أن كلَّ مَن حرَّكوا القبائل البربرية وهيأوها لإنشاء الدول، كانوا جميعًا من المتحمسين مِن علماء الدين، أو أصحاب الدعوات الدينية سواء كانت خارجية بدعية، أو إسماعيلية كفرية، أو إدريسية مالكية، مِن أمثال: أبى الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافرى الخارجي، وأبى عبد الله الشيعى الباطني، وإدريس بن عبد الله بن الحسن ابن على بن أبى طالب, حتى برغواطة ذات الديانة الشركية المجوسية اليهودية تزعَّمَها رجل يدَّعى أنه مِن أهل العلم، وهو ميسرة الفقير، وحتى قبيلة غمارة تزعمها صالح البرغواطى الذى زعم أنه «صالح المؤمنين» الذى ورد ذكره فى القرآن (2).
_________
(1) انظر: فى تاريخ المغرب والأندلس، د. أحمد العبادي، ص (271).
(2) انظر: معالم تاريخ المغرب والأندلس، د. حسين مؤنس, ص (160).(1/16)
لهذه الجولة التاريخيّة التى مَرَّت فى ذاكرته حرص على الاهتمام بالشيخ عبد الله ياسين الرجل الفقيه العالم السنى ليعلم قَومه ويزكيهم ويفقههم.
كما كان الأمير يحيى بن إبراهيم يخشى من خطر الجنوب ويهتمُ بدعوة القبائل
الوثنية للإسلام.
وبدأ الأمير يحيى فى شق طريقه المليء بالأشواك من أجل إنقاذ قَومه وإعزازهم فى الدنيا والآخرة، ورجع إلى أهله وعشيرته ومعه الرجل الربَّانى والفقيه المالكى والمربى الصبور والزَّعِيم الدينى الإمام عبد الله ياسين، وقبل الدخول فى سيرته نترجم للإمام السنى المالكى سيد القيروان فى زمانه.
* * *(1/17)
المبحث الثالث
أبو عمران الفاسي
مهندس الخطوط العريضة
لدولة المرابطين (368 هـ - 430 هـ)
ذكر القاضى عياض فى «ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك» ترجمة أبى عمران الفاسى فقال: «هو موسى بن عيسى بن أبى حاج بن وليم بن الخير الغَفَجُومي، وغَفَجُوم فخذ من زناتة من هوارة, وأصله من فاس، وبيته بها بيت مشهور، يعرفون ببنى أبى حاج، ولهم عقب، وفيهم نباهة إلى الآن» (1).
1 - شيوخه:
تفقَّه بالقيروان عند أبى الحسن القابسي، وسمع بها من أبى بكر الدويلي، وعلى بن أحمد اللواتى السوسي، ورحل إلى قُرْطُبَة، فتفقَّه بها عند أبى محمد الأصيلي، وسمع الحديث من أبى عثمان سعيد بن نصر، وعبد الوارث بن سفيان، وأحمد بن قاسم، وغيرهم، ثم رحل إلى المشرق، فحج ودخل العراق، فسمع من أبى الفتح ابن أبى الفوارس، وأبى الحسن على بن إبراهيم المستملي، وأبى الحسن الخضر، وغيرهم من العراقيين (2)، ودرس الأصول على القاضى أبى بكر الباقلاني، وسمع بالحجاز من أبى الحسن بن أبى فراس، وأبى القاسم السقطي، وبمصر من أبى الحسن ابن أبى جدار، وأحمد بن نور القاضي، ثم رجع إلى القيروان، وسكنها، وأصبح سيدها المطاع، وأقبل عليه طلاب العلم من كل صوب، وطارت فتاويه فى المشرق والمغرب، واعتنى
النَّاس بقوله (3).
2 - أثره وتلاميذه:
ابتدأ نشاطه العلمى سنة 402هـ، حين عاد من المشرق، فقد جلس للطلبة فى
_________
(1) ترتيب المدارك، الطبعة المغربية، (ج7/ 243 - 244).
(2) المرجع السابق.
(3) انظر: مدرسة الحديث فى القيروان (ج2/ 765 - 766).(1/18)
المسجد، وفى داره أيضًا، وسرعان ما عُرف قدره، واشتهرت إمامته، وطار ذكره فى الآفاق، وقد خلف الإمام القابسى المتوفى سنة 403هـ، فى نشر علوم السنة فى إفريقية ورئاسة العلم بها, ورحل إليه النَّاس من الأقطار لسماع مروياته واستجازه من لم يستطع الاجتماع به (1).
وكان يجلس فى حلقته العِلمِيَّة من بعد صلاة الصبح إلى صلاة الظهر، يحدثهم ويملى عليهم، ويقرأ لهم، «فلا يتكلم بشيء إلا كُتب عنه إلى أن مات».
وكان يحدثُ بصحيح البُخارى و «التَّارِيخ الكبير» له أيضًا، و «تصحيف المُحَدِّثِين» للدارقطني، وكان يحدّث كذلك بمصنفاته فى الحديث والرجال والفقه، وقد انتشرت روايتها فى الأَنْدَلُس أيضًا عن طريق تلاميذه من أهلها (2).
وكان متضلعًا فى كلام الرواة جرحًا وتعديلاً، ومعرفة سيرهم ووفياتهم وغير ذلك.
وكان العامة من أهل القيروان خصوصًا يرجعون إليه فيما يلم بهم ويستفتونه.
كما كان الموفدون فى مهمات سياسية إلى القيروان يسألونه ويستفتونه ويستفيدون من علمه.
وكان له اهتمام بالبلاد البعيدة ويرسل إليها من يقَوم بنشر العلم كما حدث فى اهتمامه بصحراء المغرب، وما نتج عن ذلك الاهتمام من قيام دولة المرابطين فى تلك المناطق النائية (3).
وقد تتلمذ عليه عدد كبير من النَّاس من أهل إفريقية والمغرب، والأَنْدَلُس، وصقلية، قال الذهبي: «تخرَّج بهذا الإمام خلق من الفقهاء والعلماء» (4).
3 - ثناء العلماء عليه:
قال تلميذه الحافظ حاتم الطرابلسي: «لقيتُه بالقيروان فى رحلتى سنة 402هـ،
وكان مِن أحفظ النَّاس, وأعلمهم وكان جمع حفظ المذهب المالكي، وحفظ حديث
النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , والمعرفة بمعانيه، وكان يُقرئ بالسبعة، ويُجودها مع المعرفة بالرجال،
_________
(1) انظر: مدرسة الحديث فى القيروان, (ج2/ 765 - 766)
(2) المرجع السابق.
(3) المرجع السابق.
(4) سير أعلام النبلاء (ج17/ 546).(1/19)
والمعدلين منهم والمجرحين. . .» (1).
وقال الذهبي: «الإمام الكبير العلامة عالم القيروان. . . أحد الأعلام. . . تخرَّج به خلق من الفقهاء والعلماء» (2).
وقال أبو بكر الباقلانى لأبى عمران الفاسي: «لو اجتمعت فى مدرستى أنت وعبد الوهاب بن نصر- وكان إذ ذاك بالموصل - لاجتمع فيها علم مالك: أنت تحفظه, وهو ينصره لو رآكما مالك لسر بكما» (3).
4 - شعره:
عندما كتب محمد بن على الطبنى أبياتًا من الشعر وأرسلها إلى أبى عمران الفاسى بمناسبة العزم على الذهاب إلى بيت الله الحرام، أجاب أبو عمران الفاسى بهذه الأبيات:
حيَّاك ربُّك مِن خلٍّ أخى ثقة ... وصان نفسك بالتكريم مولاها
مِن كلِّ غم وشان لا يوفقها ... فهو العليم بما يبديه مولاها
ولا أضاع لها الرَّحمن حرمتها ... وقولها إن تسر ودعتك الله
الله يجمعنا من بعد أوبتنا ... ويؤتنا من وجوه البر أسناها (4)
هذه ترجمة موجزة لواضع الخطوط العريضة لدولة المرابطين.
وتُوفى - رحمه الله - سنة ثلاثين وأربعمائة من الهجرة.
* * *
_________
(1) ترتيب المدارك (ج7/ 246) الطبعة المغربية.
(2) سير أعلام النبلاء (ج17/ 545 - 456).
(3) ترتيب المدارك (ج7/ 246)
(4) المصدر السابق (ج7/ 52).(1/20)
المبحث الرابع
الزعيم الدينى لدولة المرابطين
عبد الله بن ياسين
هو عبد الله بن ياسين بن مكوك بن سير بن على الجزولي, أصله من قرية «تماماناوت» فى طرف صحراء غانة (1).
درس على فقيه السوس وجاج بن زلوا، رحل إلى الأَنْدَلُس فى عهد ملوك الطوائف وأقام بها سبع سنين (2) , واجتهد فى تحصيل العلوم الإسلامية, ثم أصبح مِن خيرة طلاب الفقيه وجاج بن زلوا فعندما طلب أبو عمران الفاسى مِن تلميذه وجاج ابن زلوا أن يرسل مع يحيى بن إبراهيم فقيهًا عالمًا دينًا تقيًا مربيًا فاضلاً وقع الاختيار على عبد الله بن ياسين الصنهاجى الذى كان عالمًا بتقاليد قَومه وأعرافهم وبيئتهم وأحوالهم.
ودخل عبدُ الله بن ياسين مع يحيى بن إبراهيم فى مضارب ومواطن ومساكن المُلَثَّمين من قبيلة جدالة فى عام 430 هـ/ 1038م فاستقبله أهلُها واستمعوا له، وأخذ يعلمهم، فكان تعليمُه باللغة العربية لطلبة العلم، والإرشاد الدينى للعامة بلهجة أهل الصحراء البربرية.
لاقى عبد الله بن ياسين كثيرًا من الصعوبات، فقد وجد أكثر المُلَثَّمين لا يصلون ولا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، وعم الجهل عليهم، وانحرفوا عن معالم العقيدة الصحيحة وتلوثت أخلاقُهم وأحكام دينهم، واصطدمت تعاليمه بمصالح الأمراء والأشراف، فثاروا عليه، وكادوا يقتلوه، إلا أنه ترك قبيلة جدالة، وانتقل إلى قبيلة لمتونة، ومِن ثمَّ اختار رباطه المشهور على مصب نهر السنغال، بعد انتشار صيته، وتعلُّق النَّاس به، فهرعوا إليه ليربيهم وينظمهم ويعلمهم.
ومِن خلال كُتب التَّارِيخ نستطيع أن نقول: إن عبد الله بن ياسين - رحمه الله- نجح فى رسالته الدعوية لأسباب مُهمَّة يجب أن يعرفَها الدعاةُ إلى الله, ألا وهى ما وهبه الله مِن صفات فطرية, وما اكتسبه فى حياته من صفات عقلية, وصفات حركية.
_________
(1) دولة المرابطين، ص (21) نقلاً عن البكري المغرب, ص (165).
(2) ابن الخطيب, الخلل, ص (191).(1/21)
أ- ومِن أهم الصِّفَات الفطرية التى ظهرت لى من سيرته:
1 - الذكاء: فكان -رحمه الله- عميقَ الفهم, صاحب حجة، يُقيم الدليل على خصومه من الفقهاء، والمحليين الذين تحالفوا مع الأمراء والأعيان للقضاء عليه أو طرده.
واختياره لمكان أنسب لتربية أتباعه وتعليمهم يدل على ذكائه وبعد نظره, ويظهر ذلك فى حروبه التى خاضها لتوحيد القبائل الصنهاجية، ثم انتقاله للقضاء على المخالفين له فى المنهج والمعتقد والتصوُّر.
2 - الشجاعة: حيث إنه دخل الصحراء داعيًا إلى الله تعالى مع إن غيره مِن تلاميذ أبى عمران الفاسى اعتذروا وكذلك من تلاميذ وجاج بن زلوا.
وامتازَ بشجاعة وصلابة عظيمة فى دعوته وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وفى جهاده حتى إنه استشهد فى إحدى معاركه ضد أعدائه.
فكان شُجاعًا عظيم الاحتمال، ومارس أفضلَ الشَّجَاعَة، ألا وهى الصَّراحة فى الحقِّ، وكتمان السرِّ إذ إنه كان قد خطط مع يحيى بن إبراهيم المراحل العِلمِيَّة ولم يتسرَّب منها شيء لأعدائه حتى أخذت حيز التنفيذ.
والشَّجَاعَة فى الحق وفى ميادين القتال بالنسبة للمُسْلِم تدلُّ على قُوَّة عقيدته وسلامتها من غَبش التصوُّر وانحراف المنهج، ومن المعلوم أن صفاء العقيدة يرفع الهمة وينمى الشَّجَاعَة، ويلهب المشاعر، ويذكى الروح, ويربط الفؤاد وينور العقل، ويوسِّعُ المدارك، والعاملون فى الدعوة إلى الله ينبغى عليهم أن يكونوا شجعانًا فهى منه وإليه.
قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ - فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 173 - 174].
وحامل دين الله ينبغى ألا يستكين، ولا يجبن، ولا يخور عزمه؛ لأنه صاحب رسالة مُقدَّسةٍ مِن عند العليم الحكيم، سار على نهجها رسل الله مِن قبل، فنصرهم الله, وانتقم مِن عدوهم.
قال الشاعر:
إن نفسًا ترتضى الإسلام دينًا ... ثم ترضى بعده أن تستكينا(1/22)
أو ترى الإسلام فى أرض مهينًا ... ثم تهوى العيش نفس لن تكونا
فى عداد المُسْلِمين العظماء (1)
وكم نحن محتاجون إلى شجاعة الدعاة إلى الله مَن أمثال الفقيه عبد الله بن ياسين لندك بها الباطل، ونزِيل بها المنكرات الظاهرة، وندمغَ الشُّبُهات الخادعة بالنورين كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال الشاعر:
وإذا اضطررت إلى الجدال ولم تجد ... لك مهربًا وتلاقتِ الصفانِ
فاجعل كتاب الله درعًا سابغًا ... والشرعَ سيفك وابد فى الميدان
والسنة البيضاء دونك جُنة ... واركب جواد العزم فى الجولان
واثبت بصبرك تحت ألوية الهدى ... فالصبر أوثقُ عُدةِ الإنسان
واطعن برمح الحقِّ كُلَّ معاندٍ ... لله درُّ الفارسِ الطعان
واحمل بسيف الصِّدْق حملة مخلص ... متجردٍ لله غيرِ جبان (2)
وكم نحن محتاجون للدعاة الذين يتوغلون فى مواطن القبائل التى ابتعدت عن إسلامها ودينها وإيمانها, ليقودوها مِن جديد إلى دعم حركة الإسلام المعاصرة التى استهدفها كلٌّ مِن النصارى واليهود والملاحدة الحاقدين.
3 - المهابة: ومن الصِّفَات التى ظهرت لى فى سيرة عبد الله بن ياسين أنه كان مهيبًا قويًا شديدًا، فمن الأدلة على قوَّته البدنية، خوضه الحروب بنفسه وتقدُّمه فى ميدان الفروسية بل جعل من منهجه الذى ربى عليه أصحابه فى هذا الجانب قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60].
وفسَّر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القُوَّة - فى هذه الآية بالرمى بقوله: «ألا إن القُوَّة الرمي» (3)، والرمية إن لم تخرج من ساعد قوى ومتين فهى لا تُحقِّقُ الهدف المطلوب، وفى السنة نجد
_________
(1) انظر: الصفات اللازمة للدعاة، أحمد القطان، جاسم المهلهل، ص (20).
(2) نونية أبي عبد الله القحطاني، ص (39).
(3) رواه مسلم رقم (910).(1/23)
القُوَّة البدنيَّةَ لاقت حظًا وافرًا، فالرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو أقوى الأقوياء، وكان يُشجِّع أصحابه - رضي الله عنهم - على اكتساب هذه الصفة، بل رُبَّما كان يباريهم، ويصارعهم، ويسابقهم، وكما تحدثنا السيرة عن ذلك، يروى مرة أنه تسابق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع عائشة رضى الله عنها فسبقها مرَّة، ثم سبقته مرَّة، وكذلك تحدثنا السيرة عن مصارعته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأحد أصحابه فصرعه.
ومرَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على صبيان يرمون بالسهام؛ فأخذ يرمى معهم ويشجعهم ويذكى فيهم روح البطولة والشَّجَاعَة والقُوَّة، ويقول: «ارموا فإن أباكم إسماعيل كان راميًا» (1).
وهذه الآية والأحاديث الفعلية كانت منهج عبد الله بن ياسين وأصحابه، ولذلك تظهر لنا صلابة وقُوَّة أتباعه فى ميادين القتال.
ومفهوم القرآنِ للقُوَّة عام يشمل كل أنوع القُوَّة، قال السعدى - رحمه الله - فى تفسير قوله تعالى: {مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} أي: «كل ما تقدرون عليه، من القُوَّة العقلية، والبدنية، وأنواع الأسلحة, ونحو ذلك».
فدخل فى ذلك أنواع الصناعات التى تعمل فيها أصناف الأسلحة والآلات، من المدافع والرشاشات والبنادق، والطيارات الجوية، والمراكب البرية والبحرية، والقِلاع، والخنادق، وآلات الدفاع، والرأى والسياسة، التى بها يتقدم المُسْلِمون، ويندفع عنهم بها شرُّ أعدائهم، وتعلم الرمى والشَّجَاعَة، والتدبير» (2).
لقد جمع عبد الله بن ياسين - رحمه الله- من القُوَّة الفكرية أنواعًا متعددة؛ من قُوَّة الإدراك، وقُوَّة الصبر، وقُوَّة العلم، وقُوَّة التلقي، وغيرها من القوى.
ومن هنا يتضح لنا حاجة العاملين فى الحركة الإسلامية إلى هاتين القُوَّتَيْن، البدنية والعقلية وجميع أنواع القوى الفكرية لتوظيفها فى الدعوة إلى الله (3).
ولقد أشار القرآن الكريم إلى قيمة القُوَّة العقلية الفكرية وإلى القُوَّة البدنية فى بنيان أمة مجاهدة تحفز للنهوض بعبء النضال، فى سبيل عقيدتها وحريتها، وكان من صفات قائدها أن الله أعطاه ومنَّ عليه بهاتين القُوَّتَيْن البدنية والعقلية، قال تعالى: {إنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِى الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247]. فبسطة العلم إشارة إلى القُوَّة العقلية،
_________
(1) رواه البخاري فتح الباري، (ج6/ 431).
(2) انظر: الصفات اللازمة للدعاة، ص (22).
(3) المرجع السابق.(1/24)
وبسطة الجسم إشارة إلى القُوَّة البدنية، قال الشيخ حسن البنا - رحمه الله - فى الأصل الأول من الأصول العشرين: إن القُوَّة تشمل قُوَّة الإنسان التى تجعله قويًا فى نفسه وبدنه وعقله، وعليه أن يباشر الأسباب التى تجعله قويًا، أمَّا قُوَّة نفسه فبالإيمان، وأمَّا قُوَّة بدنه فبالرياضة والفروسية ونحوها, أما قُوَّة عقله فبالعلم» (1).
والإنسان المُسْلِم الذى وهبه الله القُوَّة العقلية والفكرية والبدنية لا ينسى دائمًا وأبدًا قُوَّة القويِّ العزيز الذى أمده بكل خير وفلاح وصلاح, وما سوى قُوَّة الله
فهى قُوَّة ضئيلة هزيلة، مهما أوتيت من وسائل البطش والقُوَّة والتنكيل، فهى بمثابة خيوط العنكبوت: {وَإنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41] (2).
قال سيِّد قُطب - رحمه الله - فى ظلاله: «وإن أصحاب الدعوات، الذين يتعرضون للفتنة والأذى والإغراء والإغواء لجديرون أن يقفوا أمام هذه الحقيقة الضخمة، ولا ينسوها لحظة، وهم يواجهون القوى المختلفة المعادية، التى تحاول سَحْقَهم وإبادتهم، كلها خيوط عنكبوت فى حساب العقيدة الصحيحة» (3).
4 - الأمانة: ومن الصِّفَات الفطرية التى تميز بها الزَّعِيم الدينى لدولة المرابطين الأمانة، فحين وجد الفقيه عبد الله بن ياسين أن القلوب التفت حوله، وأصبح الآمرَ الناهى فى قبائل المُلَثَّمين، لم يُنافِس الأمير يحيى بن إبراهيم فى منصبه، بل نجده لم يتجاوز حدوده، ولم يتدخَّل فى سُلطات الأمير يحيى مع مقدرته على إزاحته وإبعاده من الطريق ليتبوأ الزعامة السياسية والدينية معًا، وهذا يدلُّ على أمانة الداعية الفقيه عبد الله بن ياسين, والأمانة صفة مهمة للعاملين فى الحركة الإسلامية، فهى ذات أنوار تشع على من حول الدعاة إلى الله فتجذبهم للانخراط فى ميادين العمل الإسلامى الواسعة والمحتاجة لكل جهد وشخص مخلص لهذا الدين.
والأمانة تحتاج إلى أشخاص أقوياء لحملها, ومفهوم الأمانة فى القرآن واسع جدًا.
وقد وصف الله المؤمنين الذين نالوا الفلاح فى الدنيا والآخرة وورثوا جنة الفردوس بصفات منها الأمانة.
_________
(1) انظر: رسالة التعاليم, ص (10).
(2) انظر: الصفات اللازمة للدعاة، ص (22) , نقلاً عن طريق الدعوة فى الظلال.
(3) انظر: الظلال: لسيد قطب، نقلاً عن الصفات اللازمة لأصحاب الدعوات، ص (22).(1/25)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8].
يقول سيِّد قُطب - رحمه الله - فى تفسير هذه الآية: «وراعون لأماناتهم وعهدهم أفرادًا، وراعون لأماناتهم وعهدهم جماعة، والأمانات كثيرة فى عنق الفرد، وفى عنق الجماعة، والجماعة المُسْلِمة مسئولة عن أماناتها العامة، عن عهدها مع الله تعالى، وما يترتب على هذا العهد من تبعات، والنص يحمل التعبير ويدعه يشمل كل أمانة، وكل عهد, ويصف المؤمنين بأنهم لأماناتهم وعهدهم راعون، فهى صفة دائمة لهم فى كل حين، وما تستقيم حياة الجماعة إلا أن تُؤدَّى فيها الأمانات وتُرعَى فيها العهود» (1).
فعبد الله بن ياسين - رحمه الله - اتصف بالأمانة فعظم شأنه فى نظر أتباعه وفى تاريخ المُسْلِمين؛ لأنَّه كان أمينًا فى نفسه ومع إخوته، وحمل أمانة الإسلام، وبذل كل ما فى وسعه، وتحرَّك بمنهج الله فى دنيا النَّاس لتحكيم شرع الله، فأكسبته هذه الصفة فى نفوس النَّاس قبولاً.
5 - الحياء: والصفة الخامسة الفطرية التى جُبل عليها عبد الله بن ياسين, الحياء الذى هو شعبة من شُعَبِ الإيمان، ويظهر ذلك جليًا عندما طلب شيخه منه الذهاب مع يحيى ابن إبراهيم للدعوة فلم يعارض ولم يناقش بل استجاب لشيخه, كما نلاحظ ذلك فى سيرته مع يحيى بن إبراهيم الذى تملك قلبَه حبُّ عبد الله بن ياسين وأسر فؤاده بإحسانه وكرمه وحرصه على دعوة النَّاس لدين الله، فعندما عرض الأمير يحيى على عبد الله بن ياسين رِبَاطًا فى ضفاف نهر السنغال أجابه عبد الله بن ياسين الذى كان عازمًا على ترك جدالة ولمتونة؛ لما أصابه من عنتهم وظلمهم وجورهم فى بداية دعوته لهم. وعرَّف العلماء الحياء فقالوا: «أصل الاستحياء الانقباض عن الشيء والامتناع منه خوفًا من مواقعة القبيح» (2).
وقال الجنيد: «إن الحياء يتولد من مشاهدة النعم ورؤية التقصير» (3).
فالحياء من المعانى والصِّفَات الرائعة التى يتَّصِفُ بها النبلاء والشرفاء من النَّاس, وكان الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشدَّ النَّاس حياءً, وقد وصفه الصَّحَابِى الجليل أبو سعيد
_________
(1) فى ظلال القرآن, ص (2456).
(2) الصفات اللازمة لحياة الدعاة, ص (26 - 27).
(3) المرجع السابق نفسه, ص (26 - 27).(1/26)
الخُدَريُّ - رضي الله عنه - بقوله: «كان رسولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشدَّ حياءً من العذراء فى خِدرِها، فإذا رأى شيئًا يكرهه عَرفناه فى وجهه» (1).
وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحياء لا يأتى إلا بخير» (2)، ومن الحياء غضُّ البصر، وخفض الجناح، وعدم رفع الصوت إلا فى وجه الباطل.
فعلى العاملين فى الدعوة إلى الله أن يُلازموا هذه الصفة الجميلة.
فالحياء المطلوب فى صفة الداعية والذى تدعو إليه الشريعة وتحثُّ عليه، هو الذى يمنع صاحبه من ارتكاب المعاصى والوقوع فى الآثام، وفى نفس الوقت يحثُّ صاحبه على العمل الدَّءُوب للإسلام، ومناصرة الحقِّ والذَّود عنه، والوقوف أمام الباطل بشتى أنواعه.
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله, وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» (3).
إن هذا الخلق الكريم والصِّفة الفاضلة لابُدَّ منها فى أخلاق الدُّعاة الربَّانيين ولا يمنعهم هذا الخلق أن يُفرِّطوا فى طلب معالى الأمور والصعود على سُلَّم الفضائل، والوصول إلى الغايات النبيلة من تفقه فى الدين وتعلم العلم والحرص عليه.
فعن عائشة -رضى الله عنها- قال: «نِعمَ النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن فى الدين» (4).
6 - الحلم: والصفة السادسة من الصِّفَات الفطرية التى يلاحظها الباحث فى حياة الفقيه عبد الله بن ياسين هى صفة الحِلم، فنجده عندما تمكَّن من قبائل جدالة ولمتونة التى حاربت دعوته عفا عنها وأحسن إليها، وكل من انصاع لأحكام الله من المخالفين والمحاربين له عفا عنه.
والحلم كما هو معلوم سيد الأخلاق؛ فالحليم هو الذى يتحمل أسباب الغضب, فيصبر ويتأنى, ولا يثور.
من هنا ينبغى على الداعية أن يملأ صدره بالحلم, لأن طريق الدعوة محفوفة بالمكاره،
_________
(1) البخاري، فتح الباري, (ج12/ 151).
(2) رواه البخاري (6117).
(3) رواه مسلم رقم (35).
(4) رواه مسلم (ج1/ 261).(1/27)
والمتاعب والإيذاء، والبطش، والسخرية، وهذه كلها عقبات تزدحم فى وجه الداعية والدعاة إلى الله (1).
ولقد ضرَب الله لنا فى كتابه العزيز نماذج مِن حلم رسله وسعة صدورهم على ما لاقوه من إيذاء وابتلاء من قَومهم، قال تعالى عن هُود عليه السلام: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَومِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِى سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ - قَالَ يَا قَوم لَيْسَ بِى سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّى رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ - أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّى وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف: 66 - 68].
صوَّرت لنا هذه الآيات مقدار الحلم الذى يتصف به هود عليه السلام وسعة صدره، حيث لم يعبأ بهذا السباب، وبهذه السخرية والشتائم، ولم يطش لها حلمه، بل قابل هذه الشتائم والسباب والسخرية بدعوة التوحيد، ووضَّح لهم مهمة رسالته وأخيرًا نصحهم بالحسنى وأنَّه أمين على ذلك.
أمَّا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان حلمه، يفوق حد التصوُّر، وخصوصًا إذا علمنا أن حلمه، كان مع القدرة على البطش وردِّ الفعل بأنكى وأعتى، فقد روى أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «كنت أمشى مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , وعليه برد نجرانى غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجذبه بردائه جذبة شديدة حتى نظرتُ إلى صفحة عاتق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد أثَّرت بها حاشية الرداء من شدة جذبته ثم قال: «يا مُحَمَّد, مُرْ لى من مال الله الذى عندك، فالتفتَ إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء» (2).
إن الدعاة إلى الله تعالى الذين يسعون لإقامة شرع الله على منهج النبوة الخالد، لمحتاجون إلى هذه الصفة الرفيعة فى حركتهم الدائبة والمستمرة، وإن كتب التَّارِيخ الإسلامى تبين لنا أن طلائع الفتح والتَّمكين دائمًا وأبدًا تكون هذه الصفة بارزة فى صفوفهم.
7 - الجاذبية الفطرية: وهذه الصفة بارزة للعيان فى شخصية الفقيه عبد الله
ابن ياسين وبها جذَب قلوب أبناء الصنهاجيين بدون تكلُّف, وهى من أقوى العناصر التى تكونت منها شخصية الفقيه ابن ياسين.
لقد استطاع أن يملك قلوب مَن جالسوه وسمعوا حديثه من أمثال يحيى بن إبراهيم،
_________
(1) انظر: الصفات اللازمة للدعاة إلى الله، ص (30).
(2) أخرجه البخاري فى الفتح (7/ 63)، والحديث (3149).(1/28)
ويحيى بن عمر، وأبى بكر بن عمر، وغيرهم من قادة الصنهاجيين وشيخوخهم، ولا شكَّ إن ما ذكرناه من هذه الصِّفَات المهمة فى شخصية الداعية هى من العطايا العظيمة التى يهبها الله لفئة من عباده الذين أخلصوا القول والعمل.
وكان قول الله تعالى متمثلاً فيهم: {قُلْ إنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِى للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمين} [الأنعام: 162،163].
ب - من الصفات المكتسبة فى شخصية الفقيه ابن ياسين:
1 - الصدق: وظهر ذلك فى أقواله وأفعاله ومخالطته لِلنَّاس، فكان صادقًا فى دعوته وفى عرضها، وفى مخاطبته لِلنَّاس، ولا يهاب أحدًا, ولا يخشى فى الله لومة لائم، ولا همزة هماز، ولا لمزة لمَّاز.
ولمس النَّاس صدقه فى أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر, وفى حربه للبدع, وفى تعليمه لِلنَّاس وجهاده فى سبيل الله فتأثر أتباعه به غاية التأثر.
وحثنا القرآن الكريم على التخلُّق بهذه الصفة فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].
وكانت التوجيهات النبوية الكريمة للصحابة رضوان الله عليهم تحثُّهم على الصِّدْق، فعن ابن مسعود - رضي الله عنه - , عن النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إن الصِّدْق يهدى إلى البر، وإن البرَّ يهدى إلى الجنَّة، وإن الرَّجل ليصدُق ويتحرى الصِّدْق حتى يكتب عند الله صديقًا» (1).
ويُعتَبَرُ الصِّدْق من أهم صفات المنتسبين للعمل الإسلامى القائمين بإرشاد النَّاس إلى دين الله، فليعلم ذلك كل داعية، وليعِ تمامًا أن دعوته جاءت بالصِّدْق، كما قال تعالى: {وَالَّذِى جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر:33].
وقد شهد المُؤَرِّخُون حتى الذين طعنوا فى دولة المرابطين على صدق زعيمها
عبد الله بن ياسين، لقد ساد ابن ياسين فى قبائل المُلَثَّمين بصدقه فى دعوته.
2 - ضبط النفس والابتعاد عن التهور والانفعال: ويظهر ذلك جليًا فى شخصية ابن ياسين عندما باشر الأمير يحيى بن عمر اللمتونى القتال, وأمضى الحرب بنفسه فأدَّبه ابن ياسين وضربه بالسوط عشرين مرة, وبيَّن له أن ذلك خطأ، لأن الأمير لا يقاتل وإنَّما
_________
(1) أخرجه البخاري في الفتح (13/ 121)، الحديث (2094).(1/29)
يقف يُحرِّض النَّاس ويُقوِّى نفوسهم فإن حياة الأمير حياة عسكره، وموته فناء جيشه.
واعتبَرَ عبد الله بن ياسين إقدام الأمير يحيى على القتال فيه تهور وعدم ضبط النفس.
كما يدلُّ على ضبط نفس الفقيه ابن ياسين، وابتعاده عن التَّهَوُّر أنه لم يعلن الجهاد حتى أعدَّ عُدَّتَه، واستكمل أمره وأخذه بمراحله، وربى رجاله، ولذلك عندما خاض جهاده كان موفقًا منصورًا، ولم تستطع القُوَّة المعارضة له أن تقضى عليه (1).
إن الداعية يتعرض أثناء قيامه بعمله الإصلاحي، إلى كثير من الجدال والتحدى والأذى، فعليه أن يتحلَّى بالصبر، وضبط النفس؛ لأن طريق الدعوة كما هو معروف طويل ويحتاج إلى صبر حتى الوصول إلى نهايته.
فعملية ضبط النفس وعدم التَّهَوُّر والإسراع فى تهدئة الجو مطلوب من الداعية قبل التورُّط فيما لا تُحمَدُ عقباه.
إن ضبط النفس يتم بموازين مُحددة تقى صاحبها من مغبة انسياقه وراء ما يصوِّر له خياله، ويراه فى نظره هو الأسلم فعندئذٍ يغضب، ويندفع ويتعجل الأمور فيتورَّط, ولقد ذكر لنا القرآن قصة تعطى هذه المعاني، وتصوِّرُها لنا تصويرًا كأنَّنا نلمسه ونشاهده، تلك قصة الملأ من بنى إسرائيل: {إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللهِ} [البقرة: 246].
وفى هذه القصة عبر وعظات، فإن أشدَّ النَّاس حماسة واندفاعًا وتهورًا، قد
يكون أشد النَّاس جزعًا وانهيارًا وهزيمة ونقضًا للعهد: {قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِى سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 246].
وهكذا نكثوا وعدهم، وتفلَّتوا من الطاعة، ونكصوا عن التكليف، وهذا شأن المتهورين المتسرِّعين، الذين لا يُقدِّرون الظروف، ولا يحسبون الصحيح ولا يعرفون قيمة للتكاليف الملقاة على عاتقهم (2).
ورحم الله الشيخ حسن البنا حيث يقول: «أيُّها الأخوان المُسْلِمون، وبخاصة المتحمسون المتعجلون منكم، اسمعوها منى كلمة عالية داوية من فوق هذا المنبر - فى
_________
(1) انظر: روض القرطاس ص (79 - 80).
(2) انظر: الصفات اللازمة للدعاة, ص (44).(1/30)
مؤتمركم هذا الجامع- إن طريقكم هذا مرسومة خطواته, موضوعة حدوده، ولست مخالفًا هذه الحدود التى اقتنعت كل الاقتناع بأنَّها أسلم طريق للوصول، فمَن أراد منكم أن يستعجل ثمرة قبل نضجها، أو يقطف زهرة قبل أوانها، فلست معه فى ذلك بحال، وخير له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلى غيرها من الدعوات ... ألجموا نزوات العواطف، بنظرات العقول، وأنيروا أشعة العقول بلهب العواطف، وألزموا الخيال صدق الحقيقة والواقع، واكتشفوا الحقائق فى أضواء الخيال الزاهية البرَّاقة، ولا تميلوا كلَّ الميل فتذروها كالمعلقة، ولا تصادموا نواميس الكون، فإنها غلابة، ولكن غالبوها، واستخدموها، وحوّلوا تيارها، واستعينوا ببعضها على بعض، وترقَّبوا ساعة النصر وما هى منكم ببعيد» (1).
فينبغى على العاملين فى الحركة الإسلامية أن يُدْرِكُوا هذا جيدًا, ويتركوا عنهم الحماس المتهوِّر، ويتفهموا أصول العمل, ويُدْرِكُوا الواقع الذى يحيط بهم, وينبذوا المجازفات الفاشلة؛ إن واقعنا المعاصر يحتاج إلى صفة ضبط النفس وعدم التَّهَوُّر للعاملين فى الدعوة إلى الله عز وجل.
3 - الإرادة القوية:
لقد شهد المُؤَرِّخُون المُسْلِمون وغيرهم أن ابن ياسين - رحمه الله تعالى - كان ذا همة وعزيمة لا تهزها الجبال, آمن بسموِّ دعوته, وقدسيَّة فكرتِه، وعزم على أن يعيش لها ويموت فى سبيلها، وأدرَك أن الأمانة التى يحملها ودخل بها الصحراء الكبرى تبعتها عظيمة؛ فعليه أن يصبر فى عزيمة قوية، وإيمان ثابت ويقين لا يدخله تردد ولا شك.
فداوَمَ على العمل الجاد وأخذَ بقُوَّة وعزم ومثابرة ومصابرة حتى تحقق إعزاز دين الله فى تلك الصحارى القاحلة المقفرة الخالية من العلماء والفقهاء، فأصبحت بفضل الله ثم بجهده وجهاده مليئة بالدعاة والفقهاء والعلماء والمجاهدين.
فينبغى علينا ونحن فى طريق الدعوة سائرون أن نأخذ أمر الدعوة بقُوَّة، وإرادة قوية وعزيمة ماضية، وهمة متطلعة للمعالي، ونترك حياة الرخاء واللين والدعة، ونقتدى بسيد الدعاة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فى عزمه وقُوَّة إرادته، وجمال صبره وشدة تحمله، وعظم حلمه.
_________
(1) مجموعة الرسائل، لحسن البنا, ص (180).(1/31)
ج - الصفات العقلية التى ظهرت فى شخصية ابن ياسين:
1 - القدرة على الفهم والاستيعاب: استطاع ابن ياسين أن يفهم ويستوعب المناهج العِلمِيَّة التى كانت فى زمانه من فقه وحديث ولغة وأصول وغيرها من العلوم حتى تأهَّل لأن يكون أهلاً لحمل الرسالة التى كلَّفه بها شيوخه، كما انجلى لى قدرته على فهم واقعه الذى يريد تغييره وحدد أولويات المرحلة التى هو فيها وشرع فى إصلاحها، كما أنه استوعب الظروف السياسية فى زمانه, واستطاع أن يستفيد منها لدعوته.
فينبغى على العاملين فى الدعوة الإسلامية أن يكون لهم وعى سياسى بواقعهم، وخبرة بالأساليب الحركية والتنظيمية, ومهارة فى التخطيط المنظم المتزن حتى نستطيع أن نواجه العدوان الشرس المُوجَّه لأمتنا الإسلامية ونتصدى له بأسلوب كله حكمة وحنكة.
ومن هنا يتوجب على الأخ الداعية، أن تكون عنده قدرة على الفهم والتجارب والسرعة فى التنفيذ، وأن يتسلح بالمعرفة التامَّة، وأن يفهم دعوته حق الفهم كى يستطيع أن يُبلغَها حق التبليغ، قال عمر - رضي الله عنه -: «لست بالخِبِّ, ولا الخِبُّ يخدعني».
2 - النظر الثاقب والقدرة على الوصول للقرار الحاسم دون تردد:
ويظهر ذلك فى سيرة الفقيه عبد الله بن ياسين عندما طلب فقهاء سجلماسة ودرعة فى عام 447هـ منه القدوم ليخلصهم من الحكام والطغاة الظلمة من زناتة المغراويين، ومن أميرهم مسعود بن أنودين، فجمع ابن ياسين شيوخ قَومه وقرأ عليهم رسالة فقهاء سجلماسة، فأشاروا عليه بمدِّ يد العون لهم، وقالوا له:
«أيها الشيخ الفقيه هذا ما يلزمنا فسر على بركة الله»؛ فأخذ قراره الحاسم, وتحركت جموع المرابطين فى شهر صفر سنة 447هـ إلى بلاد درعة، واشتبكت مع المغراويين الذين انهزموا أمام المرابطين وتشتت جموعهم, ودخل ابن ياسين سجلماسة، وأصلح أحوالها وقدَّم عليها عاملاً من أتباعه وجعل فيها حامية من جنوده ورجع إلى الصحراء (1).
فعلى العاملين فى الدعوة الإسلامية, الاتصاف بصفة النظر الثاقب، وسرعة اتخاذ القرار الحاسم دون أى تردد، ودون أى ريب، لأن الداعية الربانى ينظر بنور الله، وهذا النُّور الإلهي، إذا حلَّ فى قلب المؤمن يولِّد فيه البصيرة الثاقبة, التى يعرف بها الحقائق،
_________
(1) تاريخ المغرب والأندلس فى عصر المرابطين, حمدي عبد المنعم، ص (42).(1/32)
ويزن بها الأمور، ويدركُ بها الصِّعاب (1). {يَهْدِى اللهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ} [النور:35].
د - الصفات الحركية التى ظهرت للباحثين فى شخصية ابن ياسين:
1 - الشعور بالمسئولية:
وبدأ الشعور بالمسئولية فى حياة ابن ياسين منذ أن رغب فى التحصيل والتزوُّد للعلم والاستعداد للدعوة, وازداد ظهور ذلك فى شخصيته عندما دخل مع الأمير يحيى ابن إبراهيم فى قبائل المُلَثَّمين حيث تولد فى أعماقه شعور بمسئولية الدعوة فى هذه الأمة الجاهلة من قبائل صنهاجة، وكان شعورًا جرى فى عروقه جريان الدم، فأحسَّ بعظمة التكليف, وأعباء المسئولية فقام بأدائها خير أداء.
إن الأمة الإسلامية فى هذه الأيام بمسيس الحاجة إلى العناصر التى تتحرك ذاتيًا نحو مسئوليتها، وبحاجة إلى عناصر تتقد نفوسها شعورًا وإحساسًا بواجباتها الإسلامية، وبحاجة إلى عناصر يغلى فيها الشعور لهذا الدِّين، وهى تريد عناصر لا يهدأ تفكيرها للعمل لهذا الدين ساعة من ليل أو نهار.
فالشعور بالمسئولية أمر لابُدَّ منه لكل داعية نذر نفسه لله ولرسوله ولدينه، وعليه أن يتحرك فى هذه الحياة بمقدار ما يحمله من مسئولية, لأن حياة الداعية هى التحرك للإسلام لا القعود ولا الهمود (2).
وقد أحسن الشيخ الدكتور يوسف القرضاوى عندما قال:
قلتُ الحيلة هى التحرك ... لا السكون ولا الهمود
وهى الجهاد وهل يجاهد ... من تعلق بالقعود
وهى التلذذ بالمتاعب ... لا التلذذ بالرقود
هى أن تذود عن الحياض ... وأى حر لا يذود
هى أن تحس بأن كأس ... الذل من ماء صديد
_________
(1) انظر: الصفات اللازمة للدعاة إلى الله, ص (63).
(2) المصدر السابق, ص (71 - 72 - 73).(1/33)
هى أن تعيش خليفة ... فى الأرض شأنك أن تسود (1)
2 - النظام والدقة:
وظهرت صفة النظام والدقة فى شخصية الفقيه ابن ياسين عندما تكاثر عدد المريدين فى رباطه الذى اتخذه قريبًا من نهر السنغال؛ حيث وضع شروطًا فى قبول كل جديد كى يحفظ صفو جماعته من المُخَرِّبين، فكان ينتقى أطهر المُلَثَّمين نفسًا وأوفرهم قُوَّة وأقدرهم على تحمل المشاق، ومَن توفرت فيه الشروط واجتاز التجربة بنجاح يتولى تعليمه وتثقيفه من قرآن وسنة وتفسير وحديث وأحكام الدين (2).
وأصبح رباطه قمة فى النظام والدقة, واختار لإدارته أحد الأمراء، وفى الأمور المهمة كان الأمر شورى بين الجماعة الإسلامية المرابطة (3).
إن ديننا الإسلامى حَثَّنا على النظام فى كل شيء، ومن التطبيقات العملية على ذلك نأخذ مثال السفر، حيث أمر الإسلام الركب إذا كانوا ثلاثة أن يؤمروا عليهم أميرًا، حتى لا يختلفوا فى الطريق وتتبعثر جهودهم، خصوصًا أن السفر, كما قال الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , قطعة من العذاب، فعملية التنظيم واختيار الأمير، لا شكَّ أنَّها عملية تريح المسافرين من أعباء كثيرة، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا خرج ثلاثة فى سفر فليؤمروا أحدهم» (3). فلابُدَّ إذاً من تعويد النفس وضبطها على النظام، فالمُسْلِم لا يتربى تربية منظمة, إلا إذا كان فى جماعة منظمة ذات ارتباط ونظام ودقة فى كل شيء, وفى كل أمر، كما أن هذه الجماعة لها هدف جماعي، يتحقق بتعاون الفرد وانصهاره فى بوتقة الطاعة والنظام (4).
3 - القدرة على التعامل مع الناس:
تميَّزت شخصية الفقيه ابن ياسين بمقدرته فى تعامله مع أصناف النَّاس من أمراء وعوام وتجار وغيرهم من طبقات المُجْتَمَع الصنهاجي. كان - رحمه الله- رقيق الشعور، ثائر العاطفة، يقظ القلب، بعيد الآمال، كبير المطامح فى الإصلاح، وكان كل همه أن ينتفع النَّاس بعلمه ودعوته، ولذلك اختلط بالنَّاس ودرس أخلاقهم وطبيعتهم عن كثب،
_________
(1) الصفات اللازمة للدعاة إلى الله، ص (73).
(2) (،3) دولة المرابطين ص (27).
(3) مسلم، كتاب المساجد, باب من أحق بالإمامة، (1/ 464) رقم (672).
(4) انظر: الصفات اللازمة للدعاة، ص (75).(1/34)
وكان فى خطابه لِلنَّاس متحليًا بمكارم الأخلاق بعيدًا عن التجريح والإساءة.
واتخذ من القرآن منهجًا فى أسلوبه ودعوته متمثلاً بقول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِى هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].
وقد وصف نبيه الكريم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]. فليقتد الداعى المُسْلِم برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وليكن شأنه وديدنه لمن يدعوهم, ويتحمل صدور أى أذى منهم.
4 - الاستعداد للبذل والتضحية بكل شيء:
نجد الفقيه عبد الله بن ياسين - رحمه الله- قد بذل نفسه وماله ووقته وحياته، وكل شيء فى سبيل الغاية التى خرج من أجلها إلى قبائل صنهاجة، وقد أيقن هذا الداعية الربانى أنه ليس فى الدنيا جهاد لا تضحية معه، إنَّما هو الأجر الجزيل، والثواب الجميل.
إن المُسْلِم عندما يبذل ما فى وسعه من أجل دعوته ورضا ربه يرجو بذلك أعظم الدرجات عند الله, والفوز والخلود والنعيم المقيم بالجنة، وأعظم من ذلك إحلال رضوان الله عليه، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِى سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ - يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} [التوبة: 20 - 21].
إن الذين ضحوا وبذلوا وجاهدوا, استطاعوا أن يُغيِّروا مجرى التَّارِيخ، ويبدلوا أفكار ومبادئ البشر الأرضية بمبادئ سامية ربانية.
فينبغى على العاملين فى مجال الدعوة الإسلامية أن يجردوا أنفسهم من الهوى، وينفضوا أنفسهم من كل بهرج وزينة، وأن يبذلوا المال برضاء وسخاء، ويبذلوا العافية والصحة والسهر والتعب، والمسير المضني، لرفع دعوة الله، وإذا دعت الحاجة إلى بذل الروح فلا يضنون بها، بل يجعلونها رخيصة بجانب مغفرته ورحمته ورضوانه وجنته (1).
لقد تعمَّدتُ الإسهاب فى ذكر الصِّفَات اللازمة فى الشخصية التى تريد أن تربى أمة وتنشئ شعبًا وتبنى دولة، لعلَّ الله ينفعنا بالدراسة التحليلية للشخصيات الربانية التى ظهرت فى أمتنا العظيمة.
* * *
_________
(1) انظر: الصفات اللازمة للدعاة إلى الله, ص (74 وما بعدها).(1/35)
المبحث الخامس
المراحل التى مر بها ابن ياسين فى دعوته
نستطيع أن نقرر من الاستقراء التَّارِيخى لسيرته أنه مرَّ بعدة مراحل قبل أن تقوم دولة المرابطين، وبعض المراحل عاصرها وأشرف عليها وبعضها الآخر قام بها أتباعه المخلصون.
أما المراحل التى مَرَّت بها دولة المرابطين قبل قيامها فهى مرحلة التعريف والتكوين والتنفيذ، أما مرحلة التَّمكين فهى التى جعلت ملامح دولة المرابطين واضحة للعيان، إن المراحل التى عاصرها وأشرف عليها بنفسه هى مرحلة التعريف والتكوين وجزء من التنفيذ، أما بقية المعارك فقام بها تلاميذه المخلصون من أمثال أبى بكر بن عمر، ويوسف ابن تاشفين، وأمَّا صاحب الفضل بعد الله تعالى فى مرحلة التَّمكين والتوسع والانتشار الفعلي، فهو يوسف بن تاشفين منقذ الأَنْدَلُس من الضياع ومبيد الحركات الكفرية البدعية من الوجود.
1 - مرحلة الدعوة والتعريف بالإسلام:
قام ابن ياسين فى هذه المرحلة بتعريف النَّاس بالعقيدة الإسلامية الصحيحة؛ موضحًا لهم أركان الإيمان الستة: «الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وقضائه وقدره» على أصول منهج أهل السنة والجماعة، واهتم بتنقية العقيدة الإسلامية من اللوثات الشركية والوثنية التى خالطت عقائد المُلَثَّمين فى تلك الفترة.
واهتم بتعليم النَّاس الصلاة والزكاة وأحكام الصيام حيث وجدهم لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، وحارب العادات السيئة التى تصطدم مع ثوابت الدين من زنى وزواج بأكثر من أربع، وغير ذلك من الأعراف والتقاليد الممزوجة بالجهل والتخلف والضلال، وبذل جهدًا فى بيان أصول الإسلام لِلنَّاس وحاول جاهدًا أن يربطهم بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، وأوضح لِلنَّاس ضرورة الالتزام بالسنة وأنَّها هى المبينة للقرآن الكريم، بل هى شرح وتفصيل للقرآن العظيم، وعمل على تفسير نصوص الدين بأسلوب يلائم عقول المُلَثَّمين, وأزال الشبهات التى تعلقت بأذهان النَّاس من قبائل صنهاجة, وكان همه جمع النَّاس على الإسلام ومبادئه والعمل به على العموم.(1/36)
ودعا النَّاس جميعًا إلى محبَّة كل أعمال الخير وكراهية كل أنواع الشر.
ونستطيع أن نقول: إن هذه المرحلة فى دعوة ابن ياسين كانت انطلاقًا من قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 151].
وهذه الآية حدَّد الله بها وظيفة النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وواجبه, وكذلك الدعاة من أمته من بعده, حيث نجد الداعية الفقيه ابن ياسين سلك فى دعوته هذه الأمور أو الوظائف أو الواجبات وهي:
1 - تبليغ وحى الله على النَّاس، وذلك فى قوله تعالى: {يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا ... }.
2 - تزكية نفوس النَّاس وتطهيرها وتنميتها بالخيرات والبركات فى الدنيا والآخرة, بحيث يصير الإنسان فى الدنيا مستحقًا للأوصاف المحمودة، وفى الآخرة الأجر والمثوبة وذلك فى قوله - سبحانه وتعالى-: {وَيُزَكِّيكُمْ}.
فالداعية إلى الله يطهِّر نفوس النَّاس بوحى الله، وينمى أرواحهم وأقوالهم وأبدانهم، ويرتفع بهم إلى المستوى الذى يليق بكرامة الإنسان، الذى كرَّمه ربه وفضَّله على كثير ممن خلق.
3 - التعليم، تعليم النَّاس العلم النافع، أى القرآن والحكمة، وذلك فى قوله سبحانه من هذه الآية: {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}.
فهو واجب النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , وواجب الدعاة إلى الله إلى يوم الدين، و «الكتاب» هو القرآن الكريم، وهو هديً لِلنَّاس؛ كل النَّاس, إذ ما من خير للبشرية فى دينها ودنياها إلا أمر به القرآن، وما من شيء من هذا وذاك إلا اشتمل عليه القرآن: {مَّا فَرَّطْنَا فِى الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ} و {تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} و {تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ}.
وقد سُمى القرآن الكريم قرآنًا من بين كتب الله؛ لأنَّه جمع ثمرة هذه الكتب كلها، بل جمع ثمرة العلوم والمعارف كلها، إذ القرآن معناه الجمع والإثبات.
والحكمة هي: إصابة الحق بالعلم والعقل، ولها معان، فهى من الله سبحانه: معرفة الأشياء وإيجادها، على غاية ما يكون الإحكام، ومن الإنسان: معرفة الموجودات، والعلم بها، وفعل الخيرات. و «الكتاب والحكمة» بهذه المعانى هما تنوير الأذهان بما تفتقر إليه من(1/37)
هدايات فى عالمى الغيب والشهادة، وكم كانت قبائل صنهاجة محتاجة لهذه الهدايات التى أصلحت اعتقادها وتصورها ومنهجها، وأصبحت قبائل تحمل أهم رسالة ودعوة ربانية بفضل الله عليها ثم بجهود المخلصين من أمثال الفقيه ابن ياسين.
4 - واجتهد ابن ياسين - رحمه الله - فى نقل النَّاس من ضلال الباطل إلى طريق الحق، ومن ظلام الجهل إلى نور العلم مسترشدًا بقول الله تعالى: {وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} أى يُبَصِّرُكم بحاضركم، ويرسم لكم أسلم طريق لمستقبلكم.
كان أثر التربية القرآنية واضحًا فى شخصية ابن ياسين - رحمه الله - حيث نجده فى تبليغ رسالات الله لا يُداهن ولا يُجامل, بل يأخذ بجميع الأخلاق الشرعية، ويتوكل على الله فى الصدع بكلمة الحق, وكأن بين عينيه قول الله تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا} [الأحزاب: 39].
وكان يشعُرُ فى قرارة نفسه بالإثم والمعصية إن قعد وكتم ما علََّمه الله -
سبحانه وتعالى-وهذا من أثر القران فى نفسه حيث قال تعالى: {إن الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاس فِى الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ}
[البقرة:159].
والآية واضحة فى بيان أن مَن عرف الحق، فقد وجب عليه أن يُبينه لِلنَّاس، ومَن لم يفعل فقد أثِم.
إننا محتاجون بأن نتربى على آيات الله، لنفهمها ثم لننطلق فى دنيا الناس عاملين بها ابتغاء مرضاة الله، وطمعًا فى ثوابه ورغبة فى جنته، وخوفًا من عقابه وشفقة من ناره.
نعى الله تعالى فى كتابه العزيز على أهل الكتاب عدم بيانهم أحكام الله لِلنَّاس وكتمانها مقابل ثمن قليلٍ من متاع الدنيا, فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاس وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187].
وهكذا يا أخى الكريم نجد القرآن الكريم فى تربيته للدعاة إليه يرغبهم ويرهبهم، فتنطلق القلوب تسعى للمثوبة والدرجات العلى؛ لأن ما عند الله خير وأبقى.
كما نجد الأحاديث النبوية التى تربى عليها ابن ياسين وتلاميذه مشجعة لهم فى السعى الدءوب من أجل إكمال مرحلة التعريف بنجاح.
فإن السنة النبوية المطهرة شارحة القرآن وقد فاضت بالأحاديث فى هذا المجال.(1/38)
روى الإمام البخارى بسنده، عن عبد الله بن عباس -رضى الله عنهما-, فى باب: تعريف النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفد عبد القيس على أن يحفظوا الإيمان، والعلم، ويخبروا مَن وراءهم، قال مالك بن الحويرث- وهو من بنى عبد القيس- قال لنا النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ارجعوا إلى أهليكم فعلِّموهم».
عن ابن عباس قال: «قال النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قَدِم إليه، وفد عبد القيس: مَن الوفد, أو مَن القَوم؟» قالوا: ربيعة, فقال: «مرحبًا بالقَوم، أو الوفد، غير خزايا ولا ندامى»، قالوا: إنا نأتيك من شقة بعيدة، وبيننا وبينك هذا الحى من كفار مضر، ولا نستطيع أن نأتيك إلا فى شهر حرام، فمرنا بأمر نخبر به مَن وراءنا ندخل به الجنة، فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع: أمرهم بالإيمان بالله عز وجل وحده، قال: «هل تدرون ما الإيمان بالله وحده؟» قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: «شهادة أن لا إله إلا الله، وإن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وتعطوا الخمس من المغنم».
ونهاهم عن الدباء والحنتم والمزفت، قال شعبة: ربما قال: «النقير» وربما قال: «المقير» قال: «احفظوه وأخبروه مَن وراءكم» (1).
وهذا الحديث النبوى الشريف نهج للقَوم لمعرفة أصول الدعوة فى مرحلة التعريف ومعالجة الأمراض بالمُجْتَمَع، حيث كانت عادة شرب الخمر قد انتشرت فى ربوع هؤلاء القَوم انتشار النار فى الهشيم، ولذلك نهاهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الدباء والحنتم والمزفت التى كانت عبارة عن أوانٍ لشرب الخمر، ومن مثل هذا الحديث يستلهم الدعاة أولويات مرحلة التعريف فى الدعوة إلى الله تعالى، وغيره من الأحاديث الكثيرة والإرشادات النبوية الكريمة.
استمرَّ الفقيه ابن ياسين فى تعريف النَّاس بأصول دينهم وأحكامه والأخلاق التى تطلبها شريعتهم وحارب التقاليد والأعراف السيئة بكل شجاعة وجرأة.
إلا إن الله تعالى ابتلاه بقَوم غلاظ الأكباد قساة القلوب فاصطدمت دعوة المصلح الفقيه بأطماعهم؛ فتعرَّض للتضييق والشدَّة والعسف من بعض وجهاء قبائل صنهاجة من قبيلة جدالة وحاولوا قتله إلا إن الله نجاه منهم.
_________
(1) مسلم: كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله، (1/ 46) رقم (17).(1/39)
فأشار الأمير المخلص والتلميذ الوفى يحيى بن إبراهيم على ابن ياسين أن يذهبوا إلى جزيرة فى حوض السنغال ليتربى الأتباع فيها ابتغاء مرضاة الله والدار الآخرة.
وقال له: إن الجزيرة إذا حسر البحر دخلنا إليها على أقدامنا وإذا امتلأ دخلنا فى الزوارق، وفيها الحلال المحض الذى لا تشك فيه من الشجر البري وصيد البر والبحر من أصناف الطير والوحوش والحوت (1).
وبذلك يكون ابن ياسين - رحمه الله - ترك ديار المُلَثَّمين واختار جزيرة فى حوض نهر السنغال للمرابطة وتربية المريدين على كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بعد أن ترك صدى ودويًا لدعوته فى ديار المُلَثَّمين، وبذلك قرَّر ابن ياسين أن ينتقل إلى مرحلة التكوين مختارًا مكانًا مناسبًا لهذه المرحلة المهمة فى تاريخ دولة المرابطين بعد أن نجح فى مرحلة التعريف فى إبلاغ الدعوة والتعريف بها لهم.
ب - مرحلة اختيار العناصر التي تحمل الدعوية عند الفقيه ابن ياسين:
تمهيد: اشتهر فى تاريخ المرابطين ما يُسمى برباط ابن ياسين، وقبل أن نتعرض لرباط ابن ياسين الذى اتخذه فى مرحلة التكوين أرى من باب الفائدة للقارئ الكريم أن يأخذ فكرة مختصرة عن معنى الرِّبَاط فى الإسلام.
الرباط: حصن حربى يُقام فى الثغور المواجهة للعدو للذود عن ديار المُسْلِمين، وهذه التسمية مقتبسة من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة:
أما القرآن الكريم فمن قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60] , ومن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].
وفى الحديث النبوى فى البخارى جاء فضل الرِّبَاط فى سبيل الله تعالى عن سهل بن سعد الساعدى - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رباط يوم فى سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد فى سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها» (2).
_________
(1) انظر: دولة المرابطين، ص (23).
(2) رواه البخاري فى كتاب الجهاد والسير (ج3/ 295)، حديث رقم (2892).(1/40)
وأصبحت كلمة مرابط تطلق على الشخص الذى خرج إلى الثغور للدفاع عن المُسْلِمين من أعدائهم، وأطلق المُسْلِمون على الثغر أى المحل الذى يقيمون فيه اسم الرِّبَاط.
ويحتوى الرِّبَاط على برج مراقبة وحصن صغير، وقد أقام ولاة الثغور كثيرًا من هذه الرُّبُط لحماية حدود الدولة الإسلامية على مرِّ التَّارِيخ، فكان فى بلاد ما وراء النهر عشرة آلاف رباط، وكذلك فى ثغور الجزيرة الفراتية، وكانت سواحل المغرب المطلَّة على البحر المتوسط عرضة لغارات البيزنطيين أكثر من غيرها, فأقيمت فيها الرُّبُط وشحنت بالمجاهدين للدفاع عنها، حتى إن الصَّحَابِى الجليل عقبة بن نافع الفهرى عندما أراد بناء مدينة القيروان بلغت الحماسة برجاله فاقترحوا عليه إقامتها على الساحل للمرابطة فيها، وقالوا له: قرِّبها من البحر ليكون أهلها من المرابطين». (1)
وقد توسَّعت الرُّبُط فى عهد العباسيين، وبنى الوالى العباسى هرثمة بن أعين أول رباط فى إفريقية عام (179هـ / 795م) (2) وتوسَّع الأغالبة فى هذا المجال توسُّعًا عظيمًا، وأقام الوالى زيادة الله الأغلبى رباط سوسة عام (206هـ/ 822م).
وكان الأغالبة يسمون هذه الرُّبُط بالقصور والمحاريس، وقد انتشرت من الإسكندرية إلى المحيط الأطلسي، وكان أهالى الشَّمَال الإفريقى يلجأون إليها إذا داهمهم الغزاة، وقد قاومت هذه الثغور أساطيل وجيوش البيزنطيين الذين عجزوا رغم تفوقهم البحرى عن احتلال الساحل الإفريقي، وقد التزم المقيمون فى هذه الثغور بالاهتمام بالفروسية والتدريب عليها خاصَّة، بالإضافة إلى كل التدريبات الجهادية الأخرى التى أهلتهم للقيام بمهماتهم على أكمل وجه من الذود عن حياض المُسْلِمين والجهاد فى سبيل الله.
وإلى جانب المهمات الجهادية التى قامت بها الثغور فقد اهتمت بالناحية العِلمِيَّة، فمع انتشارها أخذت التعاليم الإسلامية تنتشر من خلالها، وقد قام فقهاء أهل السنة والجماعة فى تلك الثغور من فقهاء المالكية بدور ريادى عظيم فى وجه التيارات الفكرية والمذهبية التى عصفت بالمشرق، وكانت الرُّبُط والثغور والقلاع والحصون هى المنطلق لنشر ما كان عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه من عقيدة وعبادة وأخلاق ومعاملة، وأصبحت الثغور فى الشَّمَال الإفريقى مدارس علمية تدرِّس أمور الدين من فقه
_________
(1) انظر: المالكي، رياض النفوس، ص (6).
(2) دائرة المعارف الإسلامية مادة رباط، ص (19).(1/41)
وحديث وتفسير وأصول وغيرها، وكانت حياة أهل الثغور تقوم على أساس من التعاون بين أفرادها لتحقيق حياة إسلامية مثالية، وكان الأفراد يجمعون المؤن بأنفسهم عن طريق الصيد البرى والبحرى حسب موقع الرِّبَاط، وكذلك يقومون بإعداد الطعام، وكل ما تتطلبه عمليات التموين من زراعة وصناعة آلاتها بالإضافة إلى صناعة الأسلحة (1).
وأمَّا من ناحية العبادة، فالجماعة التى التزمت بالرِّبَاط مؤمنة بربها وبرسالة الإسلام، فكانت العبادة تقتصر على الصلوات الخمس جماعة، وقد وضعت عقوبات لمن يتأخَّر عنها.
وفى أوقات السلم كانوا يحفظون القرآن وتفسيره وكل ما يمت إلى الدين بصلة، ويقُومون بالمهمات التى تتعلق بحياة الرِّبَاط، وبما أن التبشير بهذا الدين والدعوة إليه من أهم واجباتهم؛ فكانوا يخرجون إلى القبائل لهدايتها وترغيبها فى الإسلام وتربيتها عليه، وقد أدَّت الثغُور فى الشَّمَال الإفريقى خدمات جليلة للإسلام وللمُسْلِمين، فقد عصمت أهل المغرب إلى حد كبير من الفِتَن التى سادت المشرق، وكان لمنهج أهل السنة والجماعة شوكة وحماة وعلماء وفقهاء فى تلك الربوع من عالمنا الإسلامي، وتميَّز أهل الثغور عن غيرهم بالزهد والتقشف والتفانى فى سبيل الله، ولا يبتغى أهلها من النَّاس من وراء ذلك جزاء ولا شكورًا، وإنما لسان حالهم: {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} (2).
1 - رباط عبد الله بن ياسين:
أقام الفقيه العالم الرَّبانى المربى المجاهد ابن ياسين رباطه فى الحوض الأدنى لنهر السنغال، وموقعه يدلُّ على أهداف ابن ياسين التى أعد لها، فهو يقع قريبًا من مملكة غانة الوثنية، لذلك فهو مُهدَّد دائمًا بالأعداء، ولابُدَّ للجماعة المقيمة فيه من الجهاد، وهو غير بعيد عن ديار المُلَثَّمين، فيستند إليهم فى حالات الخطر، وتشكل تلك الديار موردًا بشريًا لا ينضب لمن يريد الانضمام إليه، وهذا يفسر كثرة عدد رجاله.
دخل ابن ياسين الجزيرة التى فى الحوض الأدنى لنهر السنغال عام (433هـ/ 1040م) ومعه أتباعه المخلصون, ثم بدأ الانضمام إلى جماعته من أبناء المُلَثَّمين، وتكاثر عدده حتى بلغ الألف رجل، ولما كثر أتباعه، وضع ابن ياسين شروطًا رآها لازمة لكى لا يتأثر تنظيم رباطه الجديد ومرحلته التى بدأ الشروع فيها، فكان ينتقى أطهر المُلَثَّمين نفسًا
_________
(1) انظر: دولة المرابطين، ص (24، 25).
(2) انظر: المصدر السابق، ص (27).(1/42)
وأوفرهم قُوَّة وأقدرهم على تحمل المشاق، كان يطلب منهم أن يتخلوا عن تقاليدهم وأعرافهم وتصوُّراتهم التى تخالف الإسلام، ويدخلوا الإسلام بقلوب صافية ونفوس طاهرة وهمم عالية تسعى لتحكيم شرع الله على وجه المعمورة (1).
وعمل جاهدًا على تحكيم شرع الله على الأفراد وفى مُجْتَمَعه الجديد، وكان يرى أن مَن فاتته صلاة من عمره عليه أن يقضيها، وهى مسألة فقهية اختلف علماء الأمة فيها، فمنهم مَن يكتفى بالتوبة النصوح، ومنهم مَن يطلب قضاء ما فات.
وكان ابن ياسين يهتم اهتمامًا بالغًا بالفقهاء والعلماء ويرفعهم إلى مراتب عالية حيث التف حوله مجموعة من الفقهاء والعلماء ليساعدوه على تربية النَّاس وتعليمهم وتأهيلهم للمرحلة القادمة.
وكان لا يمنعه الحياء من طرد مَن لا يراه مناسبًا لهدفه المنشود.
وكان أهل الرِّبَاط فى قمة الصفاء الروحي, ويعيشون حياة مثالية فى رباطهم، فيتعاونون على قوتهم اليومى معتمدين على ما توفِّرُه لهم جزيرتهم من الصيد البحري، يقنعون بالقليل من الطَّعام، ويرتدون الخشن من الثياب (2).
كان رباط السنغال الذى أسَّسه الداعية الرَّبانى ابن ياسين منارة يشع نورُها وخيرها وعلمها فى تلك الصحارى القاحلة، فأصبح قطبًا جذابًا؛ عاملاً على جذب أبناء قبائل صنهاجة إليه، ووفر الأمن والاستقرار فى تلك الديار الصحراوية البعيدة، فأصبحت القوافل تمرُّ بأمن وسلام دون أن يتعرض لها أحد بسوء، وقد أدَّى ذلك إلى ازدهار التجارة.
وتميَّزَ ذلك الرِّبَاط بحسن إدارته وتنظيمه وتشكيله مما ساعد على قُوَّة النواة الأولى لدولة المرابطين حيث تشكل مجلس الشورى, وجماعة للحلِّ والعقد تطورت مع مرور الأيام, وأصبحت مرجعية عليا لِلْمُلَثَّمِين.
2 - أصول المنهجية العلمية والفقهية عند الفقيه ابن ياسين التى ربى عليها أتباعه:
يُعتَبر الفقيه ابن ياسين من علماء أهل السنة والجماعة, مالكى المذهب، واستمدَّ
_________
(1) انظر: دولة المرابطين، ص (27 - 28).
(2) المصدر السابق نفسه.(1/43)
أصول فهمه من أصول المالكية التى كانت ولا زالت ضاربة بجذورها فى قلوب أهالى الشَّمَال الإفريقي، إلاَّ أنه كانت له اجتهاداته الحركية والتنظيمية التى أملتها عليه طبيعة دعوته التى عاشها وتحرك بها، وبذلك نستطيع أن نقولَ عنه بأنَّه فقيه مالكى حركي، ويرى علماء المالكية الذين تتلمذ ابن ياسين على كتبهم وفقههم أن المذهب المالكى له أصول فى الاستنباط واستخراج الأدلة الشرعية ومن هذه الأصول:
المصدر الأول: القرآن الكريم: كان الإمام مالك يرى أن القرآن قد اشتمل على كليات الشريعة، وأنه عمدة الدين، وآية الرسالة، ولم تكن نظرته إليه كنظرة الجدليين، فابتعد عن نظر المتكلمين، هل القرآن لفظ ومعنى, أو معنى فقط، وهو عنده اللفظ والمعنى، كما هو إجماع مَن يعتدُّ بهم من المُسْلِمين، ورُوى أنه كان يقول: إن مَن يقول بأن القرآن مخلوق فهو زنديق يجب قتله، ولذا لم يعتبر الترجمة قرآنا يُتلى تجوز به الصلاة، بل هى تفسير أو وجه من وجوه المعنى المعقول، وهو يأخذ بنص القرآن، وظاهره ومفهومه، ويعتبر العلة التى يأتى التنبيه عليها (1).
إن القرآن الكريم هو المرجعية العليا لابن ياسين وأتباعه وكان موقفهم الإذعان والتسليم لكل ما جاء فيه، وما يتعلق بالعقائد أو العبادات أو الأخلاق أو المعاملات, فالقرآن الكريم لم يفرِّق بينها, فكلُّها تتضمن كلمات الله الهادية إلى أقوم سبيل، الداعية إلى كل هدى ورشد، والمحذِّرة من كل ضلالة وغي، فكان وأتباعه على بينة من ربهم وبصيرة من دينهم؛ فلم تتحير عقولهم أو ترتاب قلوبهم، أو يتردد عزمهم فى أى تصور أو معتقد أو خلق أرشد إليه القرآن، لإيمانهم العميق بقوله تعالى: {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42].
وكان تدبُّرُ ابن ياسين وفقهاء المرابطين للقرآن الكريم معينًا لهم على استنباط الأحكام الشرعية.
قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ} [ص:29] , وقال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء:82]. وقال عز وجل: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].
_________
(1) انظر: تاريخ التشريع، مناع القطان، ص (291).(1/44)
لقد فهم المرابطون أن القرآن الكريم لم ينزل ليُتلى على الأموات، بل نزل ليحكم الأحياء، وأنَّه لم ينزله الله تعالى إلا من أجل اتباعه والعمل به، وبذلك ينال المُتبِع والعامل به رحمة الله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام:155].
إن الله تعالى حدد فى كتابه أهداف القرآن الكريم فى الحياة والمُجْتَمَع فى عبارات أبْيَن من الشمس فى رابعة النهار، فقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ} [النساء:105]، وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ - يَهْدِى بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَات إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15 - 16]. وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِى لِلَّتِى هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا - وَأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإسراء: 9 - 10].
إن من أسباب قُوَّة المرابطين وتوفيق الله لهم تمسكهم بكتاب الله.
المصدر الثانى: السنة النبوية: اعتمد المرابطون وخصوصًا فقيههم الأكبر ابن ياسين على السنة النبوية فى استنباط الأحكام الشرعية وألزموا أنفسهم وغيرهم بمنهج الله تعالى.
والسنة عند المرابطين: هى المنهج النبوى المفصل فى تعاليم الإسلام وتطبيقه وتربية الأمة عليه، والذى يتجسد فيه قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِى ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [آل عمران:164].
ويتمثل ذلك فى أقواله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأفعاله وتقريراته.
فالقرآن: هو الدستور الذى يحوى الأصول والقواعد الأساسية للإسلام وعقائده وعباداته، وأخلاقه، ومعاملاته، وآدابه.
والسنة: هى البيان النظرى والتطبيق العملى للقرآن فى ذلك كلِّه.
ورأى علماء المرابطين وجوب اتباع الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فى أقواله وأفعاله وتقريراته(1/45)
مستندين بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء:59].
وجعل طاعته طاعة لله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} [النساء:80].
وجعل - سبحانه وتعالى - طاعته الاهتداء: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54].
وجعل - سبحانه وتعالى - اتباع النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دليلاً على محبة الله ومغفرته: {قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31].
وأمرهم باتباعه فيما أمر ونهى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}
[الحشر:7].
وأمرهم بالاستجابة لدعوته، واعتبر ما يدعوهم إليه هو الحياة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يَحْيَيكُمْ} [الأنفال:24].
ولم يجعل لمؤمن ولا مؤمنةٍ خياراً فى قبول حُكمه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِينًا}
[الأحزاب:36].
وأقسم على نفى الإيمان عمَّن أعرض عن تحكيمه, أو لم يقبل حُكمَه راضياً مُسلِّماً: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِى أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].
وجعل -سبحانه وتعالى - قبول حُكمه أو التولى عنه المحكَّ الذى يميز الإيمان من النفاق؛ قال تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ - وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ} [النور:47 - 48]. {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51].
وحث على الاقتداء بالنبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسنة لِّمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].
ودلَّت أحاديث كثيرة على وجوب اتباع النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , ولذلك سعى المرابطون لتحقيقها فى حياتهم، ومن ذلك ما رواه أبو هريرة أن النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كلُّ أمتى يدخلون الجنة إلا(1/46)
من أبي، قيل: ومَن يأبى يا رسول الله؟ قال: مَن أطاعنى دخل الجنة، ومَن عصانى
فقد أبى» (1).
ومن ذلك ما رواه العرباض بن سارية قال: «وعظنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنَّها موعظة مُودِّع: فأوصنا، قال: «أوصيكم بتقوى الله، والسَّمعِ والطاعةِ، وإن تأمَّر عليكم عبد، وإنَّه مَن يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومُحدَثات الأمر، فإن كل بدعة ضلالة» (2).
إن قبائل صنهاجة الذين عُرفوا بالمُلَثَّمين ثم أُطلق عليهم اسم المرابطين ظهرتْ آثار التزامهم بسنة النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فى كل مناشط حياتهم؛ فى التعلم والتزكية والجهاد والسياسة, وغيرها من الأمور التى كوَّنوا بها دولتهم المعروفة.
المصدر الثالث: عمل أهل المدينة: الذى اهتمت به المدرسة المالكية المغربية السُّنيَّة عمومًا عمل أهل المدينة حيث إنَّها دار الهجرة، وبها تنزل القرآن، وأقام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعه أصحابه بها، وأهل المدينة أعرف النَّاس بالتنزيل، وبما كان من بيان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، على هذا رأى المالكيُّون أن عملهم بالاقتداء بعلماء أهل المدينة فى أقوالهم وأفعالهم حجة، وقدَّموا ذلك على القياس، وعلى خبر الواحد، وفى كتاب الإمام مالك إلى الليث ابن سعد الفقيه المصري: «إن النَّاس تبع لأهل المدينة، التى إليها كانت الهجرة، وبها
تنزل القرآن» (3).
وسار فقهاء الدولة المرابطية وعلى رأسهم الفقيه عبد الله بن ياسين على هذا الطريق ولم يُغيِّروا أو يبدلوا أو يرضوا بغيره حولاً.
المصدر الرابع: قولُ الصحابي: جعل المالكية قول الصَّحَابِى الذى لا يعرف له مخالف حجة، واعتمدوا فى ذلك على ما ذكر الإمام مالك فى «الموطأ» حيث اعتمد فى كثير من فتاويه على العديد من أقوال الصَّحابَة الذين هم أعلم بالتأويل
وأعرف بالمقاصد.
_________
(1) أخرجه البخاري (7280).
(2) أخرجه أبو داود (4607) , والترمذي (2676).
(3) انظر: تاريخ التشريع الإسلامي، ص (291 - 292).(1/47)
وحين تتعدد أقوال الصَّحابَة فى المسألة الواحدة يختار علماء المالكية من أقوالهم ما يتفق مع عمل أهل المدينة.
المصدر الخامس: المصالحُ المُرْسَلَة: اعتبر المالكية المصالح المرسلة دليلاً شرعيًا ومارسوها ممارسة عملية فى الحياة، وأصلُّوا لها أصولاً فى جلب المنفعة، ودفع المفسدة، وقاسوا بهذه القواعد الأمور التى لم يشهد لها الشرع بإبطال ولا باعتبار مُعيَّن، لأن تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها فى الخلق، والمقاصد إما ضرورية أو حاجية، أو تحسينية.
والضرورية: هى التى لابُدَّ منها فى قيام مصالح الدين والدنيا فى الضروريات الخمس فى الملل جميعًا وهي: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل.
والحاجية: هى التى تؤدى إلى رفع الضيق والحرج والمشقة.
والتحسينية: هى المتعلقة بمكارم الأخلاق وكون هذه المعانى مقصودة عرف بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة، مما يدلُّ على مقاصد الشرع، ولذا ذهب المالكية إلى أن المصلحة تكون حجة، ويعتبر بعض الباحثين القول بالمصلحة من خصوصيات مذهب المالكية.
المصدرُ السادس: القياس: وهو من أصول المنهجية العِلمِيَّة التى سار عليها ابن ياسين وربى عليها أتباعه.
المصدر السابع: سد الذرائع: سار عليه ابن ياسين فى منهجه العلمى فى تأصيل أصول فقه مذهبه, وسار على نهج فقهاء المالكية فى الاقتداء بالإمام مالك - رحمه الله - الذى أكثر إكثارًا شديدًا من العمل بسد الذرائع، حتى اعتبر بعض العلماء العمل بها من خصوصيات مذهبه, حتى وصفه الشاطبى بأنَّه كان شديد المبالغة فى سدِّ الذرائع (1).
ج - مرحلة المغالبة التى قام بها ابن ياسين:
بعد أن قطع ابن ياسين بأصحابه وأتباعه مرحلة التكوين العقدى والفقهى والحركى والتنظيمى والتربوي، وأصبح معه رجال يعتمد عليهم فى تبليغ دعوة الله على فهم
_________
(1) انظر: التشريع والفقه فى الإسلام، مناع القطان، ص (294).(1/48)
صحيح لكتاب الله، وفقه واسع لسنة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , ورغبهم فى ثواب الله تعالى، وطلب مرضاته، وخوَّفهم من عقابه، وتمكَّن حُبُّ الاتباع من قائدهم العالم الفقيه، بدأ ابن ياسين بإرسال البعوث إلى القبائل، لترغيب النَّاس فى الإسلام، فلبى مجموعة من أشراف صنهاجة هذه الدعوة المحكمة والتفوا حوله.
ثم أمر ابن ياسين أتباعه وتلاميذه أن يذهب كل منهم إلى قبيلته أو عشيرته يدعوهم إلى العمل بأحكام الله وسنة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما لم يجدوا استجابة من أقوامهم، خرج إليهم بنفسه، فجمع أشياخ القبائل، ووعظهم وحذرهم عقاب الله، واستمرَّ فى ذلك سبعة أيام، فلم يزدادوا إلا فسقًا، فلمَّا يئس منهم أعلن الجهاد عليهم (1).
تحرَّكت جموعُ المرابطين أولاً صوب قبيلة جدالة، حيث اشتبكوا معهم فى معركة شرسة وأوقعوا بهم الهزيمة، وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، وانقاد الباقون لأحكام الإسلام، ثم سار ابن ياسين إلى قبيلة لمتونة فقاتلهم وانتصر عليهم، ودخلوا فى طاعة ابن ياسين، وبايعوه على إقامة الكتاب والسنة، ثم مضى إلى قبيلة مسوفة التى دخلت تحت لوائه وبايعوه على ما بايعته قبائل جدالة ولمتونة، فلما شهدت قبائل صنهاجة هذه الأحداث بادرت إلى مبايعة ابن ياسين على بذل الطاعة له، وقلدتها كثير من القبائل الصحراوية
فى ذلك (2).
ووضع ابن ياسين خطة شاملة تركَّزت على توزيع النابغين من تلاميذه على القبائل التى دخلت فى دعوته ليعلموها القرآن وشرائع الإسلام، وبدأ ابن ياسين فى تخطيط الدولة التى شرع لتأسيسها على أسس شرعية ربَّانية، وفى ظنى أن الذى أسس الدولة المرابطية فعليًا ونفذ أحكامها الشرعية هو يوسف بن تاشفين، وهذا ما يتضح من خلال دراسة هذه الدولة البهية، ولما تُوفى الأمير يحيى بن إبراهيم الجدالي، قدَّم ابن ياسين مكانه يحيى بن عمر اللمتونى وكان من أهل الدين والفضل، كما كان منقادًا فى جميع أموره لإمامه ابن ياسين (3).
وبذلك أصبحت القبائل الصنهاجية فى المغرب الأقصى لها قيادة دينية وسياسية
_________
(1) انظر: ابن أبي زرع، روض القرطاس، ص (85).
(2) انظر: تاريخ المغرب والأندلس، د. حمدي عبد المنعم، ص (41).
(3) انظر: دولة المرابطين, ص (31).(1/49)
ومجالس شورى تُدبِّرُ دفتها وحركتها، فتطلعت لتوحيد المغرب الأقصى كله وإزالة كل عائق يمنعها من تحكيم شرع ربها.
الوضع السياسى فى المغرب الأقصى عند ظهور المرابطين:
كان المغرب الأقصى فى أوائل القرن الخامس الهجرى فى محنة سياسية ودينية؛ حيث ظهرت دعوات منحرفة عن الإسلام وحقيقته وجوهره الأصيل، واستطاعت بعض الدعوات البدعية الكفرية أن تُشكِّل كيانًا سياسيًا تحتمى به, وأصبح المغرب الأقصى شبيهًا بالأَنْدَلُس فى زمن ملوك الطوائف، وكانت الطوائف التى سادت المغرب قبيل وصول المرابطين تتكون من أربع شوكات قوية لها وزنها فى المغرب الأقصى:
أولاً: قبائل غمارة فى الشَّمَال.
ثانياً: قبائل برغواطة فى المغرب.
ثالثاً: قبائل زناتة وكانت تكوِّن نطاقًا حول الطوائف السابقة لا سِيَّمَا برغواطة.
رابعًا: طوائف الشيعة والرافضة والوثنيين فى الجنوب.
1 - الطائفة الأُولى: قبائل غمارة:
كانت تسكن جبال الرِّيف الممتدة من ناحية البحر المتوسط من سبتة وطنجة غربًا، إلى وادى نكور بالقرب من المزمة أو الحُسَيْمة الحالية شرقًا، وتمتد بلادُهم جنوبًا إلى قرب فاس, وكانت غمارة بطنًا من بطون مصمودة وظهر فيها مشعوذون، وقصدتهم الخوارج للمنعة فى جبالهم، ووصفهم المُؤَرِّخُون من أمثال ابن خلدون وغيره: بأنَّهم: «عريقون فى الجاهلية؛ بل الجهالة، والبعد عن الشرائع بالبداوة والانتباذ عن مواطن الخير، وتنبَّأ فيهم إنسان يعرف بحاميم بن مَنِّ الله، ولُقِّب بالمفتري، وفى رواية أخرى بالمقتدي- ولعلها هى الأصل ثم حُرِّفت إلى المفترى - والجبل الذى تنبِّأ فيه يُنسب إليه، وهو جبل على مقربة من تطوان، وأجابه بشر كثير من غمارة وأقروا بنبوته، ووضع لهم شريعة استهواهم برخصها، فردَّ لهم الصلاة صلاتين عند طلوع الشمس وعند غروبها، ووضع لهم قرآنًا بلسانهم «أى البربرى»، ومن تعاليمه أنه أحلَّ لهم أكل أنثى الخنزير، وأسقط عنهم الحج والطهر والوضوء، وحرَّم عليهم الحوت حتى يُذكى، وحرَّم بيض كل طائر. . إلخ» (1).
_________
(1) انطر: الاستبصار فى عجائب الأمصار، لمؤلف مجهول، ص (190).(1/50)
وقد قتل هذا المشعوذ الزنديق فى النصف الأول من القرن الرابع الهجرى فى طنجة فى حروبه مع قبائل مصمودة الساحلية على حد قول البكرى وابن خلدون، أو فى حروبه مع جيوش الخليفة الأموى عبد الرَّحمن الناصر على حد قول صاحب «الاستبصار»، وصاحب «مفاخر البربر» (1).
واستمرَّت البدع الكفرية بالرغم من موت المتنبى المشعوذ وظهر أحد أبنائه ويُدعَى عيسى وكان مُبجَّلاً فى قَومه، وكانت قبائل غمارة غارقة فى الإباحيَّة بين النساء والرجال، وكان رجالهم يربون شعورهم كالنساء ويتخذونها ضفائر ويطيبونها ويتعممون بها. . . إلخ (2).
2 - الطائفةُ البرغواطيَّة:
كوَّنت هذه الطائفة الكافرة دولة لها فى القرن الثَّانِى للهجرة فى إقليم تامسنا أو ما يُسمى اليوم بالشاوية (3)، وكانت دولتهم تمتدُّ من الرِّبَاط الحالية إلى ثغر فضالة الذى كان قاعدة لأسطولها، وتنتهى عند بلدة أزمور عند مَصَبِّ وادى أُمِّ الربيع.
ونجد أن المؤرخين اختلفوا حول اسم برغواطة، فبعضهم يرى بأنَّه لم يكن اسمًا لقبيلة مُعينة يجمعها أصل واحد أو أب واحد، بل كان اسمًا لأخلاط من البربر اجتمعوا على شخص يهودى الأصل، ادَّعى النبوة، اسمه صالح بن طريف بن شمعون البرباطي، نسبة إلى وادى البرباط فى جنوب الأَنْدَلُس؛ فصارت كلمة برباطى تُطلق على كل من اعتنق ديانته، ثم حُرِّفَت إلى برغواطي (4).
ويرى ابن خلدون أن برغواطة قبيلة من المصامدة وأن ملوكها كانوا من مصامدة المغرب (5).
ومن عقائد هذه الطائفة الضالَّة اعتقادهم بأن صالح بن طريف هو المقصود بقوله تعالى فى سورة التحريم: {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ
_________
(1) انظر: كتاب الاستبصار، ص (191 - 192)، ومفاخر البربر, ص (77).
(2) انظر: فى تاريخ المغرب والأندلس، د. العبادي، ص (278).
(3) المصدر السابق، ص (279).
(4) المصدر السابق، ص (279).
(5) ابن خلدون، العبر، (ج2/ 210).(1/51)
وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4]. وزعم زعيمهم أنه المهدى الأكبر الذى يخرج فى آخر الزمان لقتال المسيح الدجال، وأن عيسى ابن مريم يكون من أصحابه ويُصلِّى خلفه.
وشرع لأتباعه صوم رجب, والأكل فى رمضان، وفى الوضوء غسل السرة والخاصرتين بالإضافة إلى طريقة الوضوء عند المُسْلِمين، وفرض عليهم خمس صلوات فى النَّهار وخمس صلوات فى الليل، وبعض صلواتهم إيماء بلا سجود، وبعضها على كيفية صلاة المُسْلِمين، وعند ابتداء الصلاة يضع الفرد إحدى يديه على الأخرى، ويقول بالبربرية: ابسمن باكش، وتفسيره باسم الله، ثم مقر ياكش، أى الله أكبر، ويقولون فى تسليمهم بالبربرية: أيحن ياكش، ووردام ياكش الله أحد لا مثيل له. كما وضع
صالح بن طريف قرآنًا باللغة البربرية فى ثمانين سورة أكثرها منسوب إلى أسماء النبيين، أولها سورة أيوب وآخرها سورة يونس.
وأباح لهم تزوُّج النساء فوق الأربع، وأباح لهم الطلاق، وحرَّم عليهم زواج بنت العم، وزواج المُسْلِمات، كذلك شرع قتل السارق، ورجم الزاني، ونفى الكاذب، وحرَّم رأس كل حيوان، وحرَّم ذبح الديك، والحوت أى السمك، ولا يُؤكَل إلا أن يُذكى «أى يذبح» والبيض عندهم حرام، وليس عندهم أذان ولا إقامة وهم يكتفون فى معرفة الأوقات بصياح الديوك، ولذلك حرَّموها إلى غير ذلك من التعاليم الشيطانية وإلى حدٍّ كبير تشبه ديانة حاميت المفترى فى غمارة (1).
لقد كانت تعاليم هذه الدولة الكفرية متأثرة بتعاليم اليهود المنحرفة، وكذلك ببعض التعاليم الإسلامية حيث يمكننا أن نقول إنَّها ديانة مشوِّهة للإسلام تعمل للقضاء عليه، وكانت هذه الدولة عند أهل السنة والجماعة مجوسًا منحرفين مارقين عن الدين الحنيف، ولهذا فرضوا قتالهم واستحلوا دماءهم.
واستمرَّت هذه الدعوة الكفرية منذ سنة 125هـ فى خلافة هشام بن عبد الملك إلى ظهور أهل السنة المرابطين المُلَثَّمين الذى قضوا عليهم قضاءً مُبرمًا، وقد ذكرت كتب التَّارِيخ أن حكام المغرب قبل مجيء المرابطين، كالأدارسة والأمويين والزناتيين قد قاتلوا برغواطة وأنزلوا بها هزائم منكرة وخسائر فادحة.
_________
(1) نص على ذلك التشابه صاحب كتاب مفاخر البربر، ص (77)، انظر: فى تاريخ المغرب والأندلس، ص (281).(1/52)
لقد قاسى المغرب الأقصى محنة كبيرة بسبب هذه الدولة الكفرية والطائفية البدعية وكان خطرها أشد وأقوى مما تصوِّره كتب التَّارِيخ (1).
3 - الطائفة الثالثة: وهى الدولة الزناتية:
وهى تتكوَّن من قبائل مكناسة ومغراوة وبنى يفرن وغيرها من القبائل الزناتية التى حكمت المغرب سنين بعد زوال نفوذ الأدارسة، حيث قامت بدور إيجابى فى حرب الدولة البرغواطية، إلا أن حكام هذه الدولة اشتهروا بالجور والظلم والتعسف فى آخر زمانهم (2).
4 - الطائفة الرابعة: طوائف الشيعة والوثنيين:
كان محلُّهم جنوب المغرب فى أقصى بلاد السوس، وكانوا عبارة عن أقليَّات مُبعثَرة.
أمَّا الشيعة فقد انتشروا فى مدينة تارودانت ونواحيها وكانوا دعاة للفكر الشيعى الرافضي، وبعضهم يرجع جذورهم وأصول فكرتهم للدولة العبيدية الرافضية التى جاء ذكرها فى صفحات من التَّارِيخ الإسلامى فى الشَّمَال الإفريقى «الدولة العبيدية الرافضية» , لقد كان الصراع عنيفًا بين الشيعة وبين أهل السنة فى كل ناحية وضاحية ومكان فى المغرب كله، وتوج جهاد أهل السنة بالقضاء على الدولة العبيدية إلا أن بقايا جذورهم أزالها المرابطون بقوتهم السُّنيَّة الميمونة، أما الوثنيون فكانوا يسكنون الأطلس الكبير فى جبل وعر، وكان الوثنيون يعبدون الكبش، ويبدو أنَّهم تأثروا بديانات مصرية قديمة كانت تعبد الكبش فى زمن الفراعنة ويسمونه الإله خنوم، فكأن طقوس هؤلاء الوثنيين وعباداتهم من رواسب مؤثرات مصرية قديمة (3).
لقد اِتضح لى فى دراستى التاريخيّة لبلاد المغرب أنَّها كانت تعانى من تفكُّك سياسي، وتكونت دول طائفية منحرفة عن مناهج رب البرية، وكانت شعوب تلك الديار قد غرقت فى وحل الجهل، ومستنقعات الانحراف وفساد التصور، وضياع الأخلاق، وكثرة الظلم، وانتشار العسف والجور. وكان علماء وفقهاء المرابطين على علم ودراية، وقد وضعوا فى خُطَّتِهم الجهادية توحيد المغرب الأقصى والقضاء على الدولة الطائفية
_________
(1) فى تاريخ المغرب والأندلس، ص (278).
(2) المصدر السابق، ص (289).
(3) المصدر السابق، ص (291).(1/53)
الكفرية، وإزالة الظلم والجور والتعسف.
وعملوا على توحيد الديار المغربية وتربيتها على منهج سنى مالكي، ومحاربة المناهج الكفرية، والقضاء على المذاهب البدعية من خوارج ومعتزلة وروافض ومنعها من الانتشار أو أن يكون لها وجود.
د - الشروع فى توحيد المغرب الأقصى:
فى عام 447هـ/ 1055م اجتمع فقهاء سجلماسة ودرعة وكتبوا إلى ابن ياسين يُرغِّبونَه فى الوصول إليهم ليخلص بلادهم مما تعانيه من الحكام الطغاة الظلمة؛ زناتة المغراويين وأميرهم مسعود بن واندين، فجمع ابن ياسين شيوخ قَومه وقرأ عليهم رسالة فقهاء سجلماسة، فأشاروا عليه بمدِّ يد المعونة لهم، وقالوا له: «أيُّها الشيخ الفقيه, هذا ما يلزمنا فَسِرْ بنا على بركة الله» (1).
فخرجت جموع المرابطين فى شهر صفر سنة 447هـ إلى بلاد درعة، فتصدى لهم الأمير مسعود بن واندين بالقتال، وانتهت المعركة بهزيمة المغراويين ومصرع مسعود وتشتت جيشه، وأسرع ابن ياسين بدخول سجلماسة، وأصلح أحوالها، وقدم عليها عاملاً من لمتونة وحامية مرابطية ثم عاد إلى الصحراء» (2).
وفى عام 448هـ/1056م تُوفى الأمير يحيى بن عمر اللمتونى فَعيَّن عبد الله بن ياسين أخاه أبا بكر بن عمر مكانه للقيادة، ثم تأهَّب أبو بكر لغزو بلاد السوس؛ ففى ربيع الثَّانِى سنة 448هـ سار المرابطون صَوْبَ بلاد السوس، واختار أبو بكر بن عمر ابن عمه يوسف بن تاشفين ليتولى القيادة على مقدمة الجيش المرابطي، وكان ذلك أول ظهور ليوسف بن تاشفين مؤسس دولة المرابطين وقائد مرحلة التَّمكين، وتمكنوا من احتلال اردوانت، وقضوا على الروافض والوثنيين، كما قاتلوا اليهود المنتشرين فى تلك النواحى فأعادوا بذلك تلك المناطق إلى مذهب أهل السنة والجماعة (3).
وسار المرابطون إلى مدينة أغمات، وكان أميرها يومئذٍ لقوط بن يوسف بن على المغراوى وحاصروها, واضطر لقوط إلى الفرار عندما أيقن عبث المقاومة، فخرج يتلمس
_________
(1) انظر: موسوعة المغرب العربي (2/ 128).
(2) المصدر السابق، (2/ 182).
(3) فى المغرب والأندلس، ص (293).(1/54)
النجاة فى أهله وحشمه تحت جنح الظلام، ودخل المرابطون أغمات عام 449هـ/ 1057م وأقاموا فيها ما يقرب الشهرين، وتحركوا حركات حربية مُحكَمة للقضاء على فلول المُغراويين، واستطاعوا قتل أمير أغمات وتزوج أبو بكر بن عمر من زينب النفراوية زوجة لقوط المغراوي.
ثم سار أبو بكر بن عمر فى جموع المرابطين إلى أرض برغواطة وكان أميرهم يومئذٍ أبا حفص بن عبد الله بن أبى غفير بن محمد بن معاذ، ونشبت بين المرابطين والبرغواطيين وقائع ومعارك حامية الوطيس أصيب فيها العالم الربانى والمقاتل الميدانى والفقيه الموجِّه ابن ياسين بجراح أودت بحياته إلى الشهادة, نحسبه كذلك ولا نُزكِّى على الله أحدًا، حمل على إثر تلك الجراح إلى مقرِّ القيادة فى معسكر المرابطين، وقبل خروج روحه جمع رؤساء وشيوخ المرابطين وحثَّهم على الثبات فى القتال، وحذَّرهم من عواقب التفرقة والتحاسد فى طلب الرياسة، ولم يلبث أن فارق الحياة (1)، فعلى أمثال هؤلاء الرحمة والمغفرة والرضوان من الرحيم الواحد المنان.
واتفق رأى المرابطين على اختيار أبى بكر ابن عمر للرياسة مكان ابن ياسين، وأجمع شيوخ المرابطين على مبايعة أبى بكر, فجمع بين الزعامتين الدينية والسياسية، بينما يؤكد كل من القاضى عياض وابن خلدون أن المرابطين اتفقوا فيما بينهم على تقديم الشيخ سليمان بن حدو، ليرجعوا إليه فى مشاكلهم وقضايا دينهم، وتولَّى القائد الجديد الزعامة بهمة عالية وشجاعة فائقة، واستعداد للتضحية والفداء من أجل إحياء دين الله على منهج النبوة، وطمس المعالم الكفرية للدولة البرغواطية، فأمر بتعبئة جيوشه المجاهدة وخرج لقتال واستئصال الكفر من بلاد المغرب، فأثخن فى جنود الدولة البرغواطية، وفرَّق جموعهم، وكسر شوكتهم، وأعلنوا الطاعة والولاء للدولة المجاهدة الجديدة، ثم قصد أبو بكر مدينة أغمات، فمكث بها حتى شهر صفر سنة (452هـ/ 1060م) ثم تابع سيره فى بلاد المغرب، يفتح البلدان والقرى وحصون الجبال، ففتح سائر بلاد زناتة، وفتح مكناسة، وحاصر مدينة لواتة ودخلها عنوة فى شهر ربيع الثَّانِى سنة 452هـ, ثم عاد إلى أغمات التى اتخذها قاعدة عسكرية للمرابطين ومقرًا للأمير وأخوته، وعندما امتلأت المدينة اتجه أبو بكر إلى اختيار عاصمة جديدة، فوقع على موضع مدينة مراكش الحالية، وشرع فى بنائها، فأتاه رسول
_________
(1) تاريخ المغرب والأندلس، ص (44).(1/55)
من الصحراء يخبره بإغارة قبيلة جدالة على قبيلة لمتونة، فعيَّن ابن عمه يوسف, وأسرع من أجل الإصلاح بين القبائل المتنازعة، وقسَّم الجيش إلى فريقين، نصفه مع يوسف الذى شرع فى تأديب القبائل المغربية المتمردة من مغراوة وزناتة وبنى يفرن وغيرهم, ووقع اختياره على أربعة من القوَّاد هم: محمد بن تميم الجدالي، وعمر بن سليمان المسوفي, ومدرك التلكاني، وسير بن أبى بكر اللمتوني، وعقد لكل منهم على خمسة آلاف من قبيلته، وسيرهم لتأديب تلك القبائل المتمردة، وسار فى أثرهم فغزوا قبائل المغرب قبيلة بعد قبيلة، وبلدًا بعد بلد، وكان بعضهم يفرون وبعضهم يقاتلونه, والبعض
الآخر يدخلون فى طاعته.
واستمرَّ فى توحيد بلاد المغرب وسنرى جهوده الجهادية فى سيرته الميمونة.
أما أبو بكر فقد استطاع نشر الأمن فى الصحراء، وأزال الخلاف القائم بين لمتونة وجدالة، وتوسع فى جهاد قبائل السود الوثنية لتدخل فى دين الله؛ حيث صاول وجاول وقاتل الزنوج لتأمين حدود دولة المرابطين الجديدة بعد دعوة الزنوج للدخول فى الإسلام.
وبعد أن حقق أبو بكر بن عمر نجاحات هائلة فى مهمته الدعوية؛ رجع إلى المغرب الأقصى بجيوشه؛ فأكرمهم يوسف بن تاشفين إكرامًا يليق بالقائد الربَّانى أبى بكر بن عمر، واختار أبو بكر يوسف نائبًا عنه على حُكم المغرب الأقصى، وأمره بالعدل والرفق بالمُسْلِمين, ثم ودَّعه وعاد إلى الصحراء وقد زوَّده يوسف بطائفة عظيمة من الهدايا الجليلة، من المال والخيل والبغال والأسلحة المحلاة بالذهب، والجوارى والثياب الفاخرة والمؤن والدوابِّ، وهناك استأنف الجهاد والغزو حتى قُتل فى إحدى غزواته فى سنة (480هـ/1087م) (1).
قال ابن كثير فى «البداية والنهاية» عنه -أى عن أبى بكر بن عمر-: «اتفق له من الناموس ما لم تتفق لغيره من ملوك, كان يركب معه إذا سار لقتال عدو خمسمائة ألف مقاتل، كان يعتقد طاعته، وكان مع هذا يقيم الحدود ويحفظ محارم الإسلام، ويحوط الدين ويسير فى النَّاس سيرة شرعية، مع صحة اعتقاده ودينه، وموالاة الدولة العباسية، أصابته نشابة فى بعض غزواته فى حلقه فقتلته» (2).
_________
(1) , (2) البداية والنهاية، (12/ 143).
(2) البداية والنهاية (12/ 143).(1/56)
لقد كان أبو بكر بن عمر من أعظم قادة المرابطين، وأتقاهم وأكثرهم ورعًا ودينًا وحبًا للشهادة فى سبيل الله، وساهم فى توحيد بلاد المغرب، ونشر الإسلام فى الصحارى القاحلة وحدود السنغال والنيجر، وجاهد القبائل الوثنية حتى خضعت وانقادت للإسلام والمُسْلِمين، ودخل من الزنوج أعداد كبيرة فى الإسلام, وساهموا فى بناء دولة المرابطين الفتية، وشاركوا فى الجهاد فى بلاد الأَنْدَلُس, وصنعوا مع إخوانهم المُسْلِمين فى دولة المرابطين حضارة متميزة.
هـ - تأملات فى مسيرة ابن ياسين الجهادية:
لقد سار ابن ياسين فى دعوته لقبائل المُلَثَّمين الصنهاجية سيرة حسنة نقية، وتدرَّج بهم من مرحلة التعريف إلى التكوين ثم التنفيذ حيث شرع فى قتال القبائل التى لم تحترم أو تُقدِّس حرمات الله، وأزال المنكرات، واعتبر ذلك جهادًا فى سبيل الله.
وقد لاحظت أن إعلان الجهاد على القبائل التى تفشت فيها المنكرات جاء بعد إعداد وشورى من أهل الحل والعقد، وبعد أن أصبحت لهم شوكة قوية وإمام مطاع، ومجلس من العلماء والفقهاء يقلبون أمور السلم والحرب.
ويكفى هؤلاء الأبطال على صحة جهادهم ما رواه مسلم فى صحيحه عن النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من نبى بعثه الله فى أمة قبلى إلا كان له من أمَّته حواريون، وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنَّها تخلف من بعدهم خُلوف، يقولون مالا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبةُ خردل» (1).
إن حركة المرابطين كانت موفقة حيث استطاعت أن تنسق مع علماء وفقهاء سجلماسة لإسقاط الدولة الزناتية التى تفشى فيها الظلم والجور والعسف، فعندما رأوا من أنفسهم الاستطاعة والمقدرة على إزالة الظلم، ورأوا أن تحقُّقَ المصلحة كان أرجح، سارع الفقهاء والعلماء بالموافقة على مقترح ابن ياسين، وتدفَّقت جيوش المرابطين، وتعاونت مع المستضعفين وطهَّرت البلاد من هيمنة العابثين، ونشرت العدل بين المُسْلِمين، ورفعت الضرائب والمكوس عن المظلومين، وفى نظرى أن نجاح حركة المرابطين كان بتوفيق الله، ثم إن القيادة الفعلية للعلماء والفقهاء ومجلس الشورى الذى
_________
(1) صحيح مسلم رقم (50, ج1/ 70).(1/57)
يُمَثِّل أهل الحِّل والعقد ممن شهدت لهم جموع المرابطين بأنَّهم أهل لذلك كانت حساباتهم دقيقة, وفتاويهم موزونة، ومعاركهم مدروسة.
أما قتالهم لبرغواطة, وغمارة, ذات المعتقدات الكُفرية والانحرافات العقدية فهذا يعتبر من أعظم أعمالهم الجهادية, عندما وقفوا لإزالة الدولة الشركية واقتلعوها من جذورها، وبُدِّلت بأصولٍ سنية زكية بهية.
كما لاحظتُ أن للعلماء شبكة عملية للاتصال والتشاور ووضع الخطط اللازمة لإحياء الإسلام فى الشَّمَال الإفريقي، حيث نجد أن الإمام أبا عمران الفاسى هو الذى وضع الخطوط العريضة والإرشادات النافعة لدولة المرابطين، ثم وجَّه الأمير يحيى بن إبراهيم إلى موقع من مواقع حلقة الاتصال الواسعة بين العلماء ليرسل قائد تلك الجهة وهو ابن وجاج مع الأمير يحيى أحد الأفراد الذين يتوسم فيهم ذكاءً ونجابةً وصلاحًا وتفوقًا للدعوة فى قبائل صنهاجة, وكان اختيار ابن وجاج فى محله الذى استمرَّ على اتصاله بشيوخه.
كما أن علماء سجلماسة كانوا ضمن شبكة من شبكات التعاون بين فقهاء أهل السنة، فهم الذين شجَّعوا جيوش المرابطين لتوحيد الديار المغربية تحت لواء دولة سنية.
* * *(1/58)
المبحث السادس
مرحلة التمكين والتوسع لدولة المرابطين
القائد الربانى يوسف بن تاشفين
400 - 500 هـ / 1009 - 1106م
تمهيد:
قد علمت بأهم المراحل فى فقه الدعوة إلى الله التى مرَّ بها الإمام ابن ياسين حيث نجده نجح نجاحًا عظيمًا فى تنفيذ مرحلة التعريف واختيار العناصر التي تحمل الدعوة، ومرحلة المغالبة، واستشهد فى مرحلة المغالبة وتولى القيادة فى هذه المرحلة أبو بكر بن عمر الذى سار على نفس المنهج الذى رسمه ابن ياسين.
واستمرَّ فى فتح مدن المغرب إلا أنه ترك نصف جيش المرابطين لابن عمه يوسف، ودخل بالباقى نحو الجنوب داعيًا ومجاهدًا ومصلحًا واستمرَّ فى فتوحاته حتى استشهد - رحمه الله - وتولَّى الأمر بالكلية القائد الربانى ابن تاشفين الذى أنهى مرحلة المغالبة وانتقل إلى مرحلة التَّمكين.
أ - نسبه:
يوسف بن تاشفين بن إبراهيم اللمتونى الصنهاجي, وأُمُّه بنت عم أبيه فاطمة بنت سير بن يحيى بن وجاج بن وارتقين، وكانت قبيلته قد سيطرت بسيادتها وقيادتها على صنهاجة، واحتفظت بالرئاسة منذ أن جعلها الإمام ابن ياسين فيها بعد وفاة الأمير يحيى ابن إبراهيم الجدالى، فنما عزيزًا كريمًا فى قَومه.
قال عنه المُؤَرِّخُون من أمثال أشياخ: «خلق للزعامة» (1).
ملك له الشَّرَفُ العلى من حمير ... وإن اتهموا صنهاجة فهم هم (2)
كان يوسف أسمر اللون نقيُّه, معتدل القامة، نحيف الجسم، خفيف العارضين،
رقيق الصوت، أكحل العينين، أقنى الأنف، له وفرة تبلغ شحمة الأذن،
_________
(1) الأندلس فى عهد المرابطين والموحدين, ص (65).
(2) وفيات الأعيان: (ج7/ 130).(1/59)
مقرون الحاجبين, أجعد الشعر (1).
كان يجمع بين جمال الطلعة وجمال الجسم، وبين أبدع المواهب، كان بطلاً شجاعًا، نجدًا حاذقًا، جوَّادًا كريمًا، زاهدًا فى زينة الدنيا، عادلاً متورعًا, متقشفًا, لباسه الصوف، وطعامه خبز الشعير، ولحوم الإبل وألبانها (2). كان عزيز النَّفس كثير الخوف من الله.
كان يجمع الصفح والعفو عن الذنوب مهما كبرت ما عدا الذين يرتكبون الخيانة فى حق الدِّين فلا مجال للعفو عنهم (3).
ربَّته الأحداث وصاغت من شخصيته قائدًا فذًا، وبرهنت الأيامُ على أنه له مقدرة على فهم واقعه, قادر على النهوض بقَومه وشعبه وجيشه نحو حياة إسلامية حضارية أفضل.
تلقَّى يوسف تعاليمه الأولى فى قلب الصحراء من أفواه المُحَدِّثِين والفقهاء، ونما وترعرع وتربَّى على تعاليم الإمام الفقيه ابن ياسين، ونبغ فى فنون رجال الحرب، وفى السياسة الشرعية التى تتلمذ على الفقهاء فيها، وقام بها خير قيام, وسنرى ذلك - بإذن الله- فى بحثنا هذا.
تذكُر كتب التَّارِيخ أنه تزوج زينب النفروية بعد أن طلَّقها ابن عمه أبو بكر بن عمر عندما عزم على السفر إلى الصحراء للجهاد والدعوة والإصلاح، فقال لها: أنت امرأة جميلة بضَّة، لا طاقة لك على حرارة الصحراء، وإنِّى مطلقك؛ فإذا انقضت عدتك فانكحى ابن عمى يوسف بن تاشفين، وتزوَّجها يوسف بعد تمام عدَّتِها، وكانت زينب بنت إسحاق مشهورة بالجمال والرئاسة, بارعة الحسن, حازمة, لبيبة, ذات عقل رصين, ورأى سديد, ومعرفة بإدارة الأمور، فكانت نِعْمَ الزوجة المعينة لزوجها, وقد
مدحت كتب التَّارِيخ هذه المرأة, واعتبرتها من خيرة نساء دولة المرابطين، وتوفيت
عام 464هـ/ 1071م.
وتزوَّج الأمير يوسف من سيدة أندلسية تُدعَى قمر ولا تذكر كتب التَّارِيخ عنها شيئًا، ويقال: هى التى أنجبت الأمير علي ولى العهد، وأمير الأَنْدَلُس والمغرب بعد والده.
_________
(1) دولة المرابطين, ص (36). ... (2) انظر: الروض القرطاس، ص (87).
(2)
(3) دولة المرابطين, ص (36).(1/60)
وتزوَّج يوسف امرأة تسمى عائشة, وأنجبت له الأمير محمد الذى نسب إليها فصار يدعى محمد ابن عائشة، وَرُزِق يوسف مجموعة من الذكور والإناث بكرهم تميم الذى توفى غداة معركة الزلاقة وكان واليًا على سبتة، وعليٌّ الذى تولى الإمارة بعده، وإبراهيم, ومحمد الذى كان أحد القادة البارزين فى جيش والده وأمَّا بناته فهما: كونة ورقيَّة (1).
ب - المراحل العسكرية التى مر بها يوسف فى جيش المرابطين:
1 - 448 - 452هـ / 1056 - 1060م:
كان فى هذه المرحلة مجرد قائد من قواد المرابطين يتلقَّى الأوامر وينفِذُها بكل نجاح، وكانت هذه المرحلة غنية بالتجارب والخبرات التى شحذت ذهنه وأهَّلته للمرحلة التالية، فكأنَّها كانت ممارسة للسلطة، والاطلاع على خفاياها دون تحمُّل المسئولية، استطاع بعدها تسلُّم الإمارة بكل الأوامر التى وكِّلت إليه بكل همة ونشاط ودون تردد، وقاد المرابطين إلى النصر فى ميادين الجهاد والعزة والكرامة والشرف.
وظهر نجم يوسف للمرابطين فى معركة الواحات 448هـ - 1056م التى كان فيها قائدًا لمقدمة جيش المرابطين المهاجم، وبعد فتح مدينة سجلماسة عيَّنه الأمير أبو بكر واليًا عليها، فأظهر مهارة إدارية فى تنظيمها، ثم غزا بلاد جزولة وفتح ماسة ثم سار إلى تارودانت قاعدة بلاد السوس وفتحها, وكان بها طائفة من الشيعة البجليين نسبة إلى مؤسسها على بن عبد الله البجلي، وقتل المرابطون أولئك الشيعة, وتحوَّل مَن بقى منهم على قيد الحياة إلى السنة.
ثم جاء دور أغمات، كانت مدينة مزدهرة حضاريًّا إذ كانت أحد مراكز النصرانية القديمة, ومقرًا للبربر المتهودين، كان يحكمها الأمير لقوط بن يوسف بن على المغراوي.
تلقَّى يوسفُ التعليمات من الأمير أبى بكر بالزحف نحوها, ومهاجمتها, ودكِّها، ودخل المرابطون المدينة (449هـ/ 1057م).
وسار المرابطون وفى جملتهم يوسف نحو دولة برغواطة «الدولة الكافرة الملحدة» ونشبت المعارك بين الفريقين، وأصيب خلالها الإمام ابن ياسين بجراح بالغة توفى على أثرها كما علمتَ فى 451هـ / 1059م.
_________
(1) دولة المرابطين، ص (38).(1/61)
كان استشهاد الإمام الفقيه عبد الله بن ياسين البداية الأولى فى دفع يوسف إلى رئاسة الدولة الناشئة.
إذ إن جانب الإمامة يغلب على جانب الإمارة فى عهد الإمام ابن ياسين، وبعد وفاته تولَّى أبو بكر بن عمر، فرجح جانب الإمارة على جانب الإمامة، وأخذت الدولة الناشئة تتحول إلى طابع سياسى جديد, ومرَّت بها ظروف تتطلب رجالاً من طراز يوسف بن تاشفين.
وعندما دخل أبو بكر بن عمر بجيوشه إلى الصحراء, وأناب ابن عمه يوسف على المغرب, ظهرت خلالها مواهب يوسف العسكرية والإدارية والتنظيمية والحركية والدعوية، وسلم النَّاسُ بزعامته, وبدأ فى تأسيس دولته بالحزم والعلم والجد والمثابرة والبذل والعطاء.
وعندما رجع أبو بكر من الصحراء جمع أشياخ المرابطين من لمتونة وأعيان الدولة، والكُتَّاب والشهود، وأشهدهم على نفسه بالتخلى ليوسف عن الإمارة، وعلَّل الأمير أبو بكر هذا التنازل لابن عمه يوسف لدينه وفضله وشجاعته وحزمه ونجدته وعدله وورعه وسداد رأيه ويمن نقيبته، وأوصاه الوصية التالية «يا يوسف إنِّى قد ولَّيتُك هذا الأمر وإنِّى مسئول عنه؛ فاتق الله فى المُسْلِمين, وأعتقنى وأعتق نفسك من النار، ولا تُضيِّع من أمر رعيتك شيئًا؛ فإنَّك مسئول عنهم، والله تعالى يصلحك ويمدك ويوفقك للعمل الصالح والعدل فى رعيتك, وهو خليفتى عليك وعليهم» (1).
ويحلو لبعض الكُتَّاب من المؤرخين أن يُفَسِّرَ هذا الإيثار والتنازل عن المُلك بإن أبا بكر خشى من سطوة يوسف الذى أظهر له عدم استعداده التنازل عن الملك؛ وسيرة الرجُلين من الصلاح والتقوى تنافى ادعاءهم الباطل.
2 - فتح المَغْرِب الأقصى الشَّمَالى 454هـ - 477هـ:
قام يوسف بن تاشفين نحو المغرب الشَّمَالى لينتزعه من أيدى الزناتيين, واستخدم من أجل تحقيق هذا الهدف المنشود إرسال الجيوش للقضاء على جيوش المخالفين مستفيدًا من الخلافات السياسية بين قادة المدن، فحالف بعضها من أجل قتال الباقي، واستطاع أن
_________
(1) انظر: روض القرطاس، ص (86).(1/62)
يدخُلَ مدينة فاس صلحًا عام 455هـ، ثم تمرَّد أهلها عليه إلا أنه استطاع إخماد جميع الثورات التى قامت ضد المرابطين بجهاده، وكفاحه المستمرِّ، حتى تمَّ له فتح جميع البلاد من الريف إلى طنجة عام 460هـ / 1067م.
وأعاد فتح فاس عنوة بحصار ضربه عليها بجيش قوامه مائة ألف جندى عام 462هـ/ 1069م, فقضى على شوكة مغراوة وبنى يقرن وسائر زناتة، ونظم المساجد والفنادق وأصلح الأسواق، وخرج من فاس عام 463هـ إلى بلاد ملوية وفتحها واستولى على حصون وطاط من بلاد طنجة (1).
3 - لقب الإمارة:
بعد هذه الانتصارات الناجحة استدعى شيوخ وأمراء المغرب من قبائل زناتة ومصمودة وغمارة، وأكرمهم وبذل لهم العطاء وأحسن إليهم، وبايعوه على الإمارة وخرج بهم يطوف فى أقاليم المغرب يتابع الأمراء ويحاسب الولاة، وينشر العدل ويرفع المظالم فهابته النفوس، واقتنعت أنها أمام رجل دولة عبقرى فذ.
وبعد أن رجع من تلك الجولَة التفقدية الإصلاحية سار بجيوشه عام (465هـ/1072م) لغزو الدمنة من بلاد طنجة وفتح جبل علودان، وفى عام (467هـ/1074م) استولى على جبل غياثة وبنى مكود وبنى رهينة من أحواز تازا, وجعلها حدًّا فاصلاً بينه وبين زناتة الهاربة إلى الشرق، وأبعد عن المغرب كلَّ مَن ظنَّ فيه أنه من أهل العصيان، فأصبح خالصًا له مرتاحًا إلى طاعته مطمئنًا إلى خلوده إلى السكينة والهدوء غير تواق للثورة عليه.
وأصبحت منطقة تازا ثغرًا منيعًا بينه وبين زناتة؛ ولذلك اعتبر المُؤَرِّخُون عام 467هـ/ 1074م فاصلاً فى تاريخ الدولة المرابطية إذ بسط يوسف نفوذه على سائر المغرب الأقصى الشَّمَالى باستثناء طنجة وسبتة.
وسيَّر يوسف بن تاشفين إلى طنجة جيشًا من اثنى عشر ألف فارس مرابطى وعشرين ألفًا من سائر القبائل, وأسند قيادته إلى صالح بن عمران عام 470هـ، وعندما اقتربت جيوش المرابطين من طنجة برز إليهم الحاجب بن سكوت على رأس جيش وهو شيخ يناهز التسعين، وانتصر المرابطون وفتحوا طنجة وقتل فى تلك المعارك الحاجب بن
_________
(1) انظر: روض القرطاس، ص (91) , العبر (6/ 185).(1/63)
سكوت (1). وبعد فتح طنجة استأنف الأمير يوسف توسُّعَه نحو الشرق لمطاردة زناتة التى لجأت إلى تلمسان، وكان هدفه القضاء على أى مقاومة تُهَدِّد دولة المرابطين فى المستقبل، وبدأت عمليات الهجوم الوقائى التى استطاعت أن تحقق أهدافها وتهزم جيش تلمسان المعادى وتأسر قائده معلى بن يعلى المغراوى الذى قُتل على الفور، ورجعت كتائب المرابطين إلى مراكش, ثم عاد يوسف نحو الريف، وغزا تلك الأراضى وضم مدينة تكرور ولم تعمر بعد ذلك.
ثم رجع بجيوشه نحو وهران وتنس وجبال وانشريش ووادى الشلف حتى دخل مدينة الجزائر, وتوقف عند حدود مملكة بجاية التى حكمها بنو حمَّاد -فرع من صنهاجة.
وبنى يوسف فى مدينة الجزائر جامعًا لا يزال إلى اليوم ويُعرف بالجامع الكبير.
وعاد إلى مراكش عام 475هـ/1081م وبذلك توحَّد المغرب الأقصى بعد جهاد استمرَّ ثلاثين عامًا، وأصبحت دولة المرابطين فى مرحلة التَّمكين الفعلية, وفى عام 476هـ / 1083م وجَّه الأمير يوسف ابنه المُعزَّ فى جيش إلى سبتة لفتحها إذ كانت المدينة الوحيدة التى لم تخضع له, كان يحكُمُها بعد وفاة الحاجب بن سكوت ابنه ضياء الدولة يحيى, فحاصرها المعزُّ برًا وبحرًا, ودارت معركة بحرية طاحنة، وفى نهاية المطاف استطاع المرابطون أن يفتحوا سبتة، وقتل ضياء الدولة بعد أن ألقى القبض عليه، وكان ذلك عام 477هـ/ 1084م (2). بعد هذه الجولة الجهادية الموفَّقَة تم توحيد المغرب الأقصى بجميع نواحيه بعد عمل جادٍّ مستمرٍّ، وأصبحت الدولة المرابطية قُوَّة لا يُستهان بها تُشكل خطرًا على النصارى فى الأندلس، وملجأً وحصنًا للمسلمين فى الأندلس، حيث إن النصارى استفحل خطرهم فى الأَنْدَلُس، حيث قامت دويلات فى كل مدينة وصلت إلى ثلاث وعشرين دويلة تناحرت فيما بينها، وعُرف حكامها بملوك الطوائف وتلقَّبوا بالألقاب الخلافية كالمأمون والمعتمد والمستعين والمعتصم والمتوكل إلى غير ذلك من الألقاب، ووصف هذه الحالة المشينة الشاعر أبو على الحسن بن رشيق:
مما يزهدنى فى أرض أندلس ... سماع مقتدر فيها ومعتضد
_________
(1) انظر: دولة المرابطين, ص (50).
(2) انظر: الاستقصار (1/ 111)، وانظر: دولة المرابطين، ص (53).(1/64)
ألقاب مملكة فى غير موضعها ... كالهرِّ يحكى انتفاضًا صولة الأسد
لقد آلت أوضاع الأَنْدَلُس إلى السوء، وأصبحت لا حول لها ولا قُوَّة مما شجع النصارى على توجيه ضربات إلى المُسْلِمين، وقد شنوا حربًا لا هوادة فيها نابعة من شعورهم العدائى للعرب والمُسْلِمين، تهدف إلى طردهم من إسبانيا، وبدأت هذه الحرب بدافع الحقد الصليبي, وأضافوا إليها مع مرور الأيام عامل القَومية وأطلقوا عليها حرب الاسترداد (1).
ولم تكن للمقاومة الإسلامية فى الأَنْدَلُس القدرة على إيقاف المدِّ الصليبى الزاحف للخلاص من المُسْلِمين، فاضطرَّ أهل الأَنْدَلُس إلى طلب العون من المرابطين.
* * *
_________
(1) انظر: دولة المرابطين, ص (59).(1/65)
الفصل الثاني
المرابطون ودفاعهم عن مسلمى الأندلس
تمهيد:
استطاع عبدُ الرحمن الداخل أن يُؤسِّسَ إمارة أموية فى الأَنْدَلُس سنة 138هـ، وبدأ عصر الخلافة الأموية فى الأَنْدَلُس سنة (316هـ/929م) عندما أعلنها عبد الرحمن الناصر، الذى اشتهر بالحزم والذكاء والعدل، والعقل والشَّجَاعَة وحبه للإصلاح وحرصه عليه.
ووحَّد الأَنْدَلُس بالقُوَّة والسياسة وأعاد وحدتها وقوتها ومكانتها, وحارب المتمردين من حكام الشَّمَال الإسبانى وأخضعهم لشروطه.
وكان سبب إعلانه الخلافة فى الأَنْدَلُس ضعف الخلافة العباسية، وظهور الدولة العُبيدية فى الشَّمَال الإفريقي، فأعلن الخلافة، وتلقَّب بأمير المؤمنين الناصر لدين الله (1). وفى عام 400هـ / 1009م بدأ ظهور عصر الطوائف فى الأَنْدَلُس، الذى دام حتى عام 484هـ/ 1091م.
وكان ذلك بسبب سقوط الخلافة الأموية التى نخرتها الأطماع والأحقاد والصراعات الدَّاخليَّة على الحكم، وسعيُ بعض الشخصيات للمجد الشخصى متناسيًا فى ذلك مصالح الأمة وضرورة وحدتها لتقف صفًا واحدًا أمام أعدائها.
لقد انقسمت الأَنْدَلُس إلى دويلات, واتخذ حكامها ألقابهم تبعًا لحجم دويلاتهم فأحدهم: ملك أو أمير، أو والٍ أو قاض.
ونظرًا لاختلاف القوى والرياسات، فقد أخذ القوى يبطش بالأضعف، والأضعفُ يدرأ الخطر بالتحالف مع جاره القوي، وأحيانًا يستنجد بأمراء النصارى مقابل ثمن باهظ.
وتكوَّنت من هذه الدويلات العديدة أربع دِوَل رئيسية:
1 - فى جنوب الأَنْدَلُس، حكم الأدارسة الإفريقيون أو بنو حمود أصحاب مالقة،
_________
(1) انظر: فى تاريخ المغرب والأندلس، د. أحمد العبادي، ص (168 إلى 170).(1/66)
وحالفهم أمير غرناطة وقرمونة، وألبيرة وجيان وأستجة، فضلاً عن حكمهم مليلة وطنجة وسبتة فى شمال المغرب.
2 - بنو عباد أمراء إشبيلية، أقوى ملوك الطوائف، ومن حلفائهم بنو جهور فى قُرْطُبَة، وبنو الأفطس أصحاب بطليوس فى جنوب وغرب الأَنْدَلُس.
3 - بنو ذى النون أمراء طُلَيْطِلَة، الذين حكموا أواسط إسبانيا، والذين وقفوا فى وجه بنى عباد، وكلفهم ذلك دفع جزية لملك قشتالة النصرانى التماسًا لعونه ضد خصومهم.
4 - بنو عامر فى بلنسية ومرسية الذين حكموا فى شرقى إسبانيا، وطبقًا لظروفهم، فقد كانوا يحالفون الأدارسة تارة أو بنى عباد، أو بنى ذى النون تارة أخرى. . . بسط بنو عامر نفوذهم على الثغور الممتدة من مرية حتى مصبِّ نهر أبرة سنة 1051م (1).
* * *
_________
(1) انظر: الزلاقة, شوقي أبو خليل, ص (12).(1/67)
المبحث الأول
الصراع بين طليطلة وقرطبة
عندما تولى المأمون يحيى بن ذى النُّون عام 1043م، إمارة طُلَيْطِلَة اغتنم عون حليفه القوى عبد العزيز بن أبى عامر، واستأجر الفرسان النصارى من القشتاليين ليبطش بمحمد بن جهور أمير قُرْطُبَة، فتدخل بنو عباد أصحاب إشبيلية، وبنو الأفطس أصحاب بطليوس للوقوف ضد صاحب طُلَيْطِلَة الذى كان يهددهم جميعًا، وسار أمراء لبلة وولبة وجزيرة شليطش للانضمام إلى الحلف الذى تزعمه صاحب لبلة عبد العزيز اليحصبى ليعقد محالفة مع قُرْطُبَة.
تحرَّك الجميع تطبيقًا لهذا التحالف لإنجاد قُرْطُبَة، فانتهز ابن عباد أمير إشبيلية هذه الفرصة واكتفى بإرسال خمسمائة فارس إلى ابن جهور، وزحف فى جيش قوى على لبلة، وولبة وجزيرة شليطش وأكسونية واستولى عليها، ثم فتح قرمونة سنة 1053م, طالت الحرب بين طُلَيْطِلَة وقُرْطُبَة، ودامت أعوامًا، وكانت سجالاً، وأراد المأمون صاحب طُلَيْطِلَة حسم الموقف، فأوقع بقوات قُرْطُبَة وحليفاتها هزيمة شديدة، واستطاع الوصول إلى قُرْطُبَة فحاصرها، فبادرت إشبيلية إلى إغاثتها، فأرسل ابن عباد ابنه محمدًا على رأس جيش قوى فيه وزيره أبو بكر محمد بن عمار الموصوف برجاحة عقله، وشدة ذكائه, وزوَّدهما بخطة وأوامر سرية خاصَّة.
واستطاع جيش ابن عباد أن يفك الحصار عن قُرْطُبَة، واضطرَّ الطليطليون لرفع الحصار, وارتدوا عنها، وخرج القرطبيون ليطاردوا أعداءهم فأتموا بذلك هزيمة الطليطليين (1).
ونُفِّذَتْ خُطَّةُ ابن عباد السرية وكان محتواها دخول قُرْطُبَة عندما يخرج منها أهلها خلف الطليطليين، ودخلتها قوات ابن عباد دون معارضة، واحتلت مراكزها الحصينة قبل أن يفطن القرطبيون إلى أن مَن جاء لنُصرَتِهم غدرَ بهم، وبذلك سقطت دولة بنى جهور فى قُرْطُبَة ولم يمض على قيامها ثلاثون عامًا فى محنة محزنة وخيانة فظيعة، وأصبح ابن عباد أمير إشبيلية أقوى أمراء الأَنْدَلُس المُسْلِمة، تخوَّف المأمون أمير طُلَيْطِلَة من قُوَّة ابن
_________
(1) انظر: الزلاقة, ص (14).(1/68)
عباد أمير إشبيلية التى نمت نموًا سريعًا، وبخاصَّة بعد أن حالفه العامريون أمراء قسطلون ومربيطر وشاطبة المرية ودانية، فحاول التحالف مع صهره زوج ابنته عبد الملك المظفر حاكم بلنسية الذى رفض ذلك مُحتَجًّا بأن وقوف العامريين إلى جانب إشبيلية يجعل إقدامه على هذا التحالف خطرًا على بلنسية، فما كان من المأمون إلا أن عقد حلفًا مع فرديناند الأول صاحب قشتالة.
وهجمت القوات المشتركة المتحالفة «قوات المأمون وفرديناند الأول» على بلنسية، فسقطت ولاية بلنسية كلُّها فى يد المأمون فى تشرين الأول سنة 1065م, عاد بعدها إلى طُلَيْطِلَة ليجهز قواته لقتال ابن عباد، وحال بينه وبين ما أراد وفاة فرديناند الأول، ونشوب حرب ضروس بين أولاده، فنقض المأمون عهده مع قشتالة، وامتنع عن دفع الجزية، مما أدى إلى حرمانه من معونة النصارى، وهى المعونة التى لم يستطع أن يحارب أمير إشبيلية بدونها، فلما تمَّ أمر الحكم لسانشو ابن فرديناند سنة 1070م, هرب أخوه ألفونسو إلى المأمون صاحب طُلَيْطِلَة والتجأ أخوه الثَّانِى جارسية إلى المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية، وفى سنة 461هـ/ 1069م توفى المعتضد بن عباد أمير إشبيلية، فخلفه ابنه المُلقَّب بالمعتمد على الله، ولم يكن أمام الأمير الجديد ما يخشاه إلا أمير طُلَيْطِلَة الذى ملك بلنسية فى الوقت نفسه، أما بقيَّة ملوك الطوائف فقد انكسرت شوكتهم وتزعزع كيانهم فى حروبهم الدَّاخليَّة من غزوات النصارى المتتابعة عليهم.
واستطاع المأمون حاكم طُلَيْطِلَة أن يتوسَّعَ ويحقق انتصارات واسعة سنة 1073م على مرسية وأريولة وعدة مدن أخرى، وبهذا أصبح الأمير الأقوى الذى يسيطر على أواسط إسبانيا كلِّها، وبخاصة بعد أن فاز ألفونسو بحكم قشتالة بعد وفاة «شانجة» وتحالف مع المأمون الذى رعاه وحماه عند محنته وتعاهد الأميران على أن يرتبطا معًا برباط الصداقة الوثيق.
وأصبح أمير إشبيلية فى خوفٍ من توسُّع أمير طُلَيْطِلَة الذى فاجأ المعتمد بتحالفه مع بنى هود أصحاب سرقسطة وبنى الأفطس أصحاب بطليوس، وهاجم خصمه من ثلاث جهات لكى يُحكِمَ تسديد الضربة إلى قُرْطُبَة؛ فسقطت دون مقاومة تُذكَر سنة 468هـ, ولكن المأمون تُوفى بعد دخولها بأيام قلائل؛ فرجع جنده عنها إلى طُلَيْطِلَة، واسترد ابن عباد قُرْطُبَة، وبقيت إشبيلية تحت حكم ابن عباد حتى استولى عليها المرابطون سنة 474م.(1/69)
وأرسل ابن عباد سفيره ووزيره البارع ابن عمار إلى عاصمة قشتالة يومئذٍ, وتحالف مع ألفونسو، وتعهَّد بها ملك قشتالة بمعاونة أمير إشبيلية بالجند والمرتزقة ضد جميع المُسْلِمين، ويتعهَّدُ ابن عباد مقابل ذلك أن يدفع إلى ملك قشتالة جزية كبيرة، وتعهَّدَ بألا يتعرض لمشروع ألفونسو فى افتتاح طُلَيْطِلَة، وهكذا ضحى ابن عباد بمعقل المُسْلِمين إسبانيا المُسْلِمة، لكى يفوز ببسط سيادته على الإمارات التى لم تخضع له بعد، وهى إمارات غرناطة وبطليوس وسرقسطة (1).
واستفاد ألفونسو من هذه الاتفاقية وأعلنها حربًا لا هوادة فيها على طُلَيْطِلَة التى حمته من مطاردة أخيه سانشو, ونسى الأمير الطموح للتوسُّع كلَّ عهوده ومواثيقه, وشرع فى غدره بِمَن أحسن إليه.
وتحرَّك المعتمد بن عباد بجيشه نحو غرناطة ليضُمَّها إلى سلطانه وكان حاكمها عبد الله بلكين بن باديس، وكان ابن هود أمير سرقسطة يرى الخطر يشتدُّ عليه يومًا فيومًا من شانشو الأول ملك أرجون، فلم يستطع إنجاد طُلَيْطِلَة سوى أمير بطليوس يحيى بن الأفطس المُلَقَّب بالمنصور، فجمع قواته وسار إلى لقاء ألفونسو، ولكن ألفونسو الذى كان قد أثخن فى ولاية طُلَيْطِلَة، حتى صيرها قفرًا بلقعًا، شعر باقتراب المنصور، فانسحب, ولكنَّه كرَّر الرجعة فى العام التالي؛ فعاث فى بسائط طُلَيْطِلَة وخرَّبها مرة أخرى، وزحف المعتمد على بطليوس، وبهذا استطاع أن يُحول دون معاونة بنى الأفطس لطُلَيْطِلَة حيث القادر بن ذى النون، ولم يستطع أمير سرقسطة من بنى هود «المؤتمن» معاونة القادر معاونة قوية خشية أن تقع سرقسطة ذاتها فريسة لابن عباد أو النصارى، وهو فى جهاد ضد أرجون وبرشلونة، واستمرَّت الحرب أعوامًا، وألفونسو يفسد فى بلاد المُسْلِمين «طُلَيْطِلَة» ومَن حولها فسادًا.
وفى السابع والعشرين من المحرم سنة 478هـ - الخامس والعشرين من آيار «مايو» سنة 1085م استطاع أن يدخل طُلَيْطِلَة «عاصمة القوط القديمة» ودخلت طُلَيْطِلَة بذلك إلى حظيرة النصرانية بعد أن حكمها المُسْلِمون ثلاثمائة واثنين وسبعين عامًا، واتخذها ملك قشتالة حاضرة ملكه من ذلك الحين، وأصبحت بذلك عاصمة إسبانيا النصرانية.
وهكذا انتهت دولة ذى النون فى طُلَيْطِلَة لتستمرَّ فى بلنسية (2).
_________
(1) انظر: الزلاقة, ص (17).
(2) انظر: الزلاقة, ص (18).(1/70)
تأثَّر المُسْلِمون بسقوط طُلَيْطِلَة تأثُّرًا عميقًا على مختلف الساحة الإسلامية فى الأَنْدَلُس، وتفجَّرت قريحة الشعراء فى استثارة الهمم والتحريض على الجهاد، والتحذير من تفاقم الخطر، ومما قيل فى ذلك قول عبد الله بن فرج اليحصبى المشهور بابن عسال الطليطلي:
يا أهل أندلس حثوا مطيتكم ... فما المقام بها إلا من الغلط
الثوب ينسل من أطرافه وأرى ... ثوب الجزيرة منسولاً من الوسط
ونحن بين عدو لا يفارقنا ... كيف الحياة مع الحيات فى سفط (1)
ومن ذلك أيضًا:
يا أهل أندلس ردُّوا المعار فما ... فى العرف عارية إلى مردات
ألم تروا بيدق الكفار فرزنه ... وشاهنا آخر الأبيات شهمات (2)
لقد كانت روما تقف بكل ما تملك من قُوَّة معنوية ومادية خلف ألفونسو وجنوده للقضاء على المُسْلِمين، وأسبغوا على قتال المُسْلِمين صفة الحروب الصليبية المقدسة وأصبح البابوات لهم دور فى توجيهها.
وندم المعتمد بن عبَّاد على فعلته خصوصًا عندما رأى ألفونسو يتوسَّع فى ضمِّ ممالك المُسْلِمين إليه، وأيقن إن الدائرة عليه قادمة، واجتمع أمراء المُسْلِمين عندما رأوا إن شبح السقوط ماثلاً أمام أعينهم، فاتحدوا لأول مرة واجتمعت كلمتهم على أن يضعوا حدًا لفتوح ألفونسو, وإذا كانت قواتهم مُجْتَمَعة لا تكفى لرد عدوانه، فقد اتفقت كلمتهم على الاستنجاد بالمرابطين فى إفريقية واستدعائهم إلى الأَنْدَلُس، علمًا بإن ملوك الأَنْدَلُس كانت ترهِبُ الفرنج بإظهار موالاتهم لمَلِكِ المغرب يوسف بن تاشفين، وكان له شهرة تطايرت فى الآفاق لما حققه من ضمِّ دِوَل إلى دولته وقضائه عليها, واشتهر بين النَّاس أن لأبطال المُلَثَّمين فى المعارك ضربات بالسيوف تقد الفارس, وطعنات تنظم الكلى، فكان لهم بذلك ناموس ورعب فى قلوب المنتدبين لقتالهم (3).
* * *
_________
(1) وفيات الأعيان (ج5/ 28). ... (2) انظر: الزلاقة, ص (19).
(2)
(3) وفيات الأعيان (ج17/ 114).(1/71)
المبحث الثاني
أسباب ضعف المسلمين فى الأندلس وقوة النصارى
أولاً: ضعف العقيدة الإسلامية, والانحراف عن المنهج الربَّانى وهذا السبب
هو الأساس.
ثانيًا: موالاة النصارى, والثقة بهم, والتحالف معهم؛ حيث نجد أن تاريخ الأَنْدَلُس مليء بالتحالف مع النصارى إلى أن بلغ ذروة رهيبة واضطرب بسبب ذلك مفهوم الولاء والبراء، والحُبِّ فى الله والبغض فى الله، بل هذه المعانى كادت تندثر.
إن الأمة حين تخالف أمرَ ربِّها, وتنحرف عن طريقِه, فلابُدَّ أن يحلَّ بها سخطُه, وتستوفى أسباب نقمتِه. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة:57].
وقوله عزَّ وجلَّ: {لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِى شَيْءٍ} [آل عمران:28].
وقوله تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ} [المجادلة:22].
وقد أبان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طريق الأمة فى الولاء والبراء، فقال: «أَوثَقُ عُرَى الإيمان الموالاة فى الله، والمعاداة فى الله، والحبُّ فى الله، والبغض فى الله» (1).
ويقول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما يرويه عن ربه -عزَّ وجلَّ-: «مَن عادى لى وليًّا فقد آذانته بالحرب» (2).
فإذا كان هذا كله مُسطَّرًا فى كتاب ربِّها وسنة نبيها وتخالفه، فلابُدَّ أن تُرى فيها سنة الله التى لا تتغير ولا تتبدل.
فحين تجد أن المعتمد بن عَبَّاد يذهب إلى ملك قشتالة ويطلب منه الصلح ويدفع له
_________
(1) أخرجه أحمد فى مسنده (ج4/ 286).
(2) البخاري، فتح الباري، كتاب الرقاق، باب (38 رقم 6501).(1/72)
المال، نراه جاهدًا فى حرب أمراء الطوائف واستئصالهم، أما كان الأفضل له أن يتحد مع إخوانه أمراء الطوائف؛ وفى ذلك مصلحة له ولهم وللأَنْدَلُس عامة، وللإسلام وأهله، ولكنَّك لا تجنى من الشوك العنب (1).
بل ضعف مفهومُ الولاء والبراء حتى إن بعض حُكَّام المُسْلِمِين استوزروا وزراء نصارى ويهود يصرفون أمور دولة الإسلام، فهل يؤمن الذئب على الغنم!! (2).
ثالثًا: السبب الثالث الانغماس فى الشهوات والركون إلى الدعة والترف وعدم إعداد الأمة للجهاد، إن الأمة التى تركن إلى الدعة والترف واللهو، وهى غالبة قاهرة يجب أن تُعد غير مستحقة للريادة والقيادة، فما بالك بأمة تغرق فى اللهو والدعة والترف، وهى لا تدرى إن كان العدو قد كسر حصنها واجتاحها، أم أنه لا يزال ينتظر تلك اللحظات؟!.
يقول المؤرخ النصرانى كوندي: «العرب هُزموا عندما نسوا فضائلهم التى جاءوا بها، وأصبحوا على قلب متقلب يميل إلى الخفة والمرح، والاسترسال بالشهوات» (3).
إن المؤرخين رأوا: «إن الأَنْدَلُسيين ألقوا بأنفسهم فى أحضان النعيم، ناموا فى ظل ظليل من الغنى الواسع والحياة العابثة والمجون، وما يرضى الأهواء من ألوان الترف الفاجر، فذهبت أخلاقهم كما ماتت فيهم حمية آبائهم البواسل، وغدا التهتك والخلاعة والإغراق فى المجون، واهتمام النساء بمظاهر التبرج والزينة بالذهب واللآلى مِن أبرز المميزات أيام الاضمحلال التى استناموا للشهوات والسهرات الماجنة، والجوارى الشاديات، وإن شعبًا يهوى إلى هذا الدرك من الانحلال والميوعة لا يستطيع أن يصمُد رجاله لحرب أو جهاد» (4).
دخل المُسْلِمُون الأَنْدَلُس وأصبحوا ساداتها عندما كان نشيد طارق فى العبور «الله أكبر» وبقوا فيها زمنًا، حين كان يحكمها أمثال عبد الرحمن الداخل عندما قُدم إليه الخمر ليشرب فقال: «إنِّى محتاج لما يزيد فى عقلى لا ما ينقصه» (5).
يقول الدكتور عبد الرحمن الحجى عن الفاتحين الأوائل للأَنْدَلُس: «كانت غيرة هؤلاء
_________
(1) انظر: تاريخ الأندلس، ص (390) , د. عبد الرحمن الحجي.
(2) سقوط الأندلس: د. ناصر العمر، ص (24). ... (3) مصرع غرناطة، ص (93).
(3) المصدر السابق، ص (120). ... (5) سقوط الأندلس، ص (27).
(4) انظر: تاريخ الأندلس، ص (211).
(5)(1/73)
المجاهدين شديدة على إسلامهم، فدوه بالنفس وهى عندهم له رخيصة، فهو أغلى من حياتهم, أشربت نفوسهم حُبَّه، غدا تصورهم وفكرهم ونورهم وربيع حياتهم» (1).
وضاعت ممالك الأَنْدَلُس من يدى المُسْلِمِين عندما كان نشيد أحفاد الفاتحين:
ووزن العود وهات القدحا ... راقت الخمرة والورد صحا
وعندما قصد الإفرنج بلنسية لغزوها عام 456هـ خرج أهلها للقائهم بثياب الزينة؛ فكانت وقعة بطرنة التى قال فيها الشاعر أبو إسحاق بن معلي:
لبسوا الحديد إلى الوغى ولبستم ... حُلَلَ الحرير عليكم ألوانًا
ما كان أقبحهم وأحسنكم بها ... لو لم يكن ببطرنة ما كانا (2)
ضعف المُسْلِمُون فى الأَنْدَلُس وسلب كثير من ديارهم لما تنافس الولاة والحُكَّام من أجل إسعاد زوجاتهم وجواريهم بالباطل.
وإليك ما فعله المُعْتَمِد مع إحدى زوجاته: اشتهت زوجة المُعْتَمِد بن عَبَّاد أن تمشى فى الطين وتحمل القرب، فأمر المُعْتَمِد بن عَبَّاد أن ينشر المسك على الكافور والزعفران وتحمل قربًا من طيب المسك وتخوض فيها تحقيقًا لشهواتها!!
ولكن الله المعز المذل أراد أن تنقلب الأمور على المُعْتَمِد، فيؤخذ أسيرًا فى أغمات وتبقى بناته يغزلن للنَّاس يتكسبن، وفى ذلك يقول المُعْتَمِد وهو شاعر مجيد:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورًا ... فساءك العيد فى أغمات مأسورًا
ترى بناتك فى الأطمار جائعة ... يغزلن للناس ما يملكن قطميرًا
برزن نحوك للتسليم خاشعة ... أبصارهن حسيرات مكاسيرا
يطأن فى الطين والأقدام حافية ... كأنَّها لم تطأ مسكًا وكافورًا
مَن بات بعدك فى مُلك يُسَرُّ به ... فإنما بات بالأحلام مغرورًا (3)
_________
(1)
(2) انظر: النصر والهزيمة، ص (122).
(3) نفح الطيب، (ج4/ 273 - 274).(1/74)
وصدق الحبييب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , المؤتى جوامع الكلم إذ يقول: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلَّط الله عليكم ذُلاً، لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم» (1).
رابعًا: إلغاء الخلافة الأموية وبداية عهد الطوائف:
لاشكَّ أن بداية الانهيار الفعلى فى الأَنْدَلُس بزوال الخلافة الأموية, ونشأ على أثر ذلك عهد السنوات الصعاب، كانت كلمة الأمة واحدة وخليفتهم واحدًا فأصبحت الأمة كما قال الشاعر:
مما يزهدنى فى أرض أَنْدَلُس ... أسماء معتمد فيها ومعتضد
ألقاب مملكة فى غير موضعها ... كالهرَّ يحكى انتفاخًا صولة الأسد (2)
وكما قال الآخر:
وتفرَّقوا شيعًا فكل محلة ... فيها أمير المؤمنين ومنبر
ولم يكن حُكَّام الأَنْدَلُس أهلاً لقيادة الأمة فى عمومهم، واسمع إلى ابن حزم وهو يقول عن هؤلاء الحُكَّام: «والله لو علموا أن فى عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستمدون النصارى فيمكنونهم من حرب المُسْلِمِين، لعن الله جميعهم وسلط عليهم سيفًا من سيوفه» (3).
ويقول الدكتور عبد الرحمن الحجى عن هؤلاء الحُكَّام: «وهكذا وجدت فى الأَنْدَلُس أوضاع يحكمها أمراء اتصف عدد منهم بصفات الأثرة والغدر، هانت لديهم معه مصالح الأمة، وتُركت دون مصالحهم الذاتية، باعوا أمتهم للعدو المتربص ثمنًا لبقائهم فى السُّلطة، ولقد أصاب الأمة من الضياع بقدر ما ضيعوا من الحظ الخُلقى المسلم، انحرف هؤلاء المسئولون عن النهج الحنيف، الذى به كانت الأَنْدَلُس وحضارته».
خامسًا: الاختلاف والتفرق بين المسلمين:
كان الاختلاف والتَّفرُّق سمة من سمات عصر ملوك الطوائف، وكان بعضهم
_________
(1) أخرجه أبو داود، كتاب البيوع، (باب 56، ت / 54م).
(2) سقوط الأندلس، ص (31).
(3) التاريخ الأندلسي، د. عبد الرحمن الحجي، ص (325).(1/75)
يستعدى النصارى على إخوانه ويعقدون مع النصارى عهودًا وأحلافًا ضد إخوانهم فى العقيدة، ومِن أجل شهوة سلطة تُراق على أرض الأَنْدَلُس دماء المصلين، حتى قال ابن المرابط واصفًا حال المُسْلِمِين:
ما بال شمل المُسْلِمِين مبدَّدٌ ... فيها وشمل الضد غير مبدد
ماذا اعتذاركم غدًا لنبيكم ... وطريق هذا الغدر غير مُمهَّد
إنْ قال لِمَ فرَّطتم فى أُمَّتي ... وتركتموهم للعدو المعتدي
تالله لو إن العقوبة لم تُخَف ... لكفى الحيا من وجه ذاك السيدِ (1)
ولما سقطت طُلَيْطِلَة كان من العجيب إن بعض ملوك الطوائف وقفوا جامدين لا يتحركون لنجدة طُلَيْطِلَة, وكأن الأمر لا يعنيهم فاغرين أفواههم جبنًا وغفلة وتفاهة، بل إن عددًا منهم كان يرتمى على أعتاب ألفونسو ملك النصارى طالبًا عونه, أو عارضًا له الخضوع، بذلة تأباها النفوس المُسلِمة، تغافلوا عن أن ألفونسو لا يفرِّق
بين طُلَيْطِلَة وغيرها من القواعد الأَنْدَلُسية، لكن العجب يزول إذا تذكَّرنا نزعتهم الأنانية والعصبية (2).
سادسًا: تخلى بعض العلماء عن القيام بواجبهم:
لاشكَّ أن حياة الأمة فى حياة علمائها فهم تاجها ومنارتها وهم روحها ومادة حياتها, فكلما كان علماء الأمة ربَّانيين كان أمر الأمة فى طريقه نحو العزة والرِّفعة والكرامة، وكلَّما ابتعد العلماء عن الربَّانية وتثاقلت نفوسهم إلى الأرض, وحرصوا على مصالحهم الذاتية, خبا نور الأمة، ودبَّ فى الأمة الضعف والجهالة.
«فحين كانت الأمة تغرق فى الأَنْدَلُس بسبب الاجتياح النصرانيِّ المتلاطم، انصرف عدد من العلماء إلى العناية المبالغة بالفقه المذهبى وفروعه ونسوا وتناسوا واقع الأمة وآلامها» (3).
وبعض هؤلاء هم ممن قال فيهم ابن حزم رحمه الله: «ولا يغرَّنك الفُسَّاق والمنتسبون
_________
(1) سقوط الأندلس، د. ناصر العمر ص (33).
(2) المصدر السابق، ص (34).
(3) المصدر السابق، ص (35).(1/76)
إلى الفقه، اللابسون جلود الضأن على قلوب السباع، المُزيِّنون لأهل الشرِّ شرهم، الناصرون لهم على فسقهم» (1).
ولا ننسى دور العلماء الربَّانيين الذين قاموا بجمع شتات الأمة الممزق, وبذلوا وسعهم فى ذلك من أمثال أبى الوليد الباجي، وأبى مُحَمَّد بن حزم، وأبى إسحاق الإلبيرى وغيرهم، عليهم رحمة الله وبركاته.
سابعًا: عدم سماع ملوك الطوائف لنصح العلماء:
لقد بذل مجموعة من العلماء جهدًا مشكورًا لتوحيد صفوف المُسْلِمِين وتصدَّى أبو الوليد الباجى لهذه المهمة بنفسه بعد عودته من المشرق الإسلامي، «فرفع صوته بالاحتساب، ومشى بين ملوك أهل الجزيرة لصلة ما انبت من تلك الأسباب، فقام مقام مؤمن آل فرعون، ولكنَّه لم يصادف أسماعًا واعية، لأنَّه نفخ فى عظام نخرة، وعطف على أطلال داثرة، بَيْدَ أنه كُلَّما وفد على ملك منهم فى ظاهر أمره لقيه بالترحيب، وأجزل حظه فى التنافس والتقريب، وهو فى باطن يستجهل نزعته ويستثقل طلعته، وما كان أفطن الفقيه - رحمه الله- بأمورهم وأعلمه بتدبيرهم، لكنَّه كان يرجو حالاً تثوب، ومذنبًا يتوب» (2)
ولم يكن حُكَّام الأَنْدَلُس أهلاً لقيادة الأمة، ولم تنفعهم نصائح العلماء حتى حلَّت بهم مصيبة وكارثة ألا وهى سقوط طُلَيْطِلَة.
ثامنًا: مؤتمرات النصارى ومخططاتهم:
استطاع النصارى أن يضعوا برامج مُحكمة للقضاء على ملوك الطوائف ومِن ثَمَّ على المُسْلِمِين عمومًا، وكان من أكبر المجرمين من ملوك النصارى الذى أشرف على هذه المُخَطَّطَات وسهر على تنفيذها فرناندو ملك قشتالة.
تاسعًا: وحدة كلمة النصارى:
فى الوقت الذى كان المُسْلِمُون فى الأَنْدَلُس يعانون من التَّفرُّق والشتات، كان النصارى فى وحدة كلمة وتراص صفًّ فى مواجهة أمة الإسلام فى الأَنْدَلُس.
_________
(1) مجموع رسائل ابن حزم (ج3/ 173).
(2) الذخيرة فى محاسن أهل الجزيرة, الشنتريني، القسم الثاني، ص (95).(1/77)
عاشرًا: غدر النصارى ونقضهم للعهود:
لم يكن النصارى عُبَّاد الصليب محلاً للعهود وأهلاً للوفاء إلا في القليل النادر؛ فهم تبع لمصالحهم وأهوائهم, وهى التى تحكم وفاءهم ونقضهم (1).
قال تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:14].
لقد سطَّر النصارى فى الأَنْدَلُس تاريخًا مليئًا بالدماء وهتك الأعراض، وقتل النفوس وسبى النساء.
قال تعالى: {لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} [التوبة:14]. وقال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:12].
لقد استمات النصارى فى حربهم للمُسْلِمِين فمارسوا كل الأساليب المعوجَّة من أجل تحقيق أهدافهم الشيطانية.
الحادى عشر: التخاذل عن نصرة من يحتاج إلى نصرة:
لقد كانت أحاديث الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فى تلك المرحلة مُعطَّلة كأنَّهم لم يسمعوا قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه» (2) , وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا» (3).
لقد تخاذل ملوك الطوائف عن نصرة مَن يستحق النصرة، وإليك ما حدث فى طُلَيْطِلَة، يقول الدكتور عبد الرحمن الحجى عن سقوط طُلَيْطِلَة وموقف حُكَّام الطوائف: «قام حاكم بطليوس عمر بن مُحَمَّد الأفطس الملقب بالمُتَوَكِّل على الله ببعض واجبه تجاه طُلَيْطِلَة فى محنتها، التى لو أدَّى بقيَّةُ ملوك الطوائف ما يجب عليهم لما لاقت هذا المصير، ولحَمَوْها وحَموا أنفسهم، كان بعضهم لا هم له إلا تحقيق مصلحته وإشباع أنانيته, وكأن الأَنْدَلُس وجدت لمنفعته وليتربع على كرسى حكم، مهما كان قصير العمر ذليل المكان مهزوز القواعد» (4).
_________
(1) سقوط الأندلس، ص (40).
(2) أخرجه البخاري، كتاب المظالم، رقم (2442)، مع الفتح (ج5/ 116).
(3) البخاري مع الفتح كتاب المظالم رقم (2446 ج5/ 117).
(4) انظر: التاريخ الأندلسي.(1/78)
فهذه مجموعة من الأسباب التى أدَّت إلى الحالة التعيسة التى آلت إليها الأَنْدَلُس، وعندى أن من أعظم الأسباب فى خذلان الأمة ابتعادها عن منهج ربها وضياع عقيدتها وتربيتها على الترف والدعة، وترك الجهاد فى سبيل الله، ولذلك عندما تربَّى المرابطون على معانى الجهاد فى سبيل الله، ومنهج أهل السنة, وفقهم الله لإقامة دينه وإعزاز سنة نبيه ونصرة إخوانهم فى الدِّين.
إن الجهاد من أعظم الدروس, فلما وُجد فى الأَنْدَلُس بقيت الأمة فى عزة ومنعة ومَهَابَة، ولما فُقد أصبحت الأمة مطمعًا لكل جبار عنيد أو متكبر لا يؤمن بيوم الحساب. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رأسُ الأمر الإسلام وعموده الصَّلاة وذروة سنامه الجهاد» (1). وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لغدوةٌ فى سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها» (2).
* * *
_________
(1) الترمذي, باب الإيمان، باب (8) رقم (2616).
(2) البخاري مع الفتح رقم (2792 ج6/ 17).(1/79)
المبحث الثالث
العالم فى زمن ظهور دولة المرابطين
كانت أوروبا يتحكم فيها الإقطاعيون فى حالة همجية بعيدة عن التحضُّر ومعالم الحضارة والمدنية.
وكان العالم الإسلامى مُجزَّأ عند قيام دولة المرابطين، فظهر ملوك الطوائف فى بلاد الأَنْدَلُس، واستطاع السلاجقة أن يُطهِّرُوا العراق من بنى بويه، والعبيديون حكموا مصر، وبنو حَمَّاد فى المغرب الأوسط، والمعز بن باديس وأحفاده فى المهدية.
وتوسع المرابطون وشملت دولتهم أجزاء شاسعة من شمالى إفريقية «جزء من الجزائر والريف فى المغرب»، وضربت جذورها فى الصحراء حتى نهر النيجر والسنغال، فرفعوا راية الإسلام فى تلك الأماكن البعيدة.
وكان المشرق الإسلامى فى ظروف سياسية حرجة وصعبة قاسية حيث أمرُ الخلافة فى بغداد مهتز, والخليفة مُعَرَّضٌ للخطر، ولا يملك من أمر الخلافة شيئًا وإنَّما هو رمز تحكَّمَ فيه البويهيون، ومن بعدهم السلاجقة, أمَّا العبيديُّون فى مصر فتحالفوا مع الإفرنج من أجل مصالحهم وأطماعهم, فكان أمر المُسْلِمِين فى غاية الخطورة حتى قيَّض الله لأهل المشرق نور الدِّين محمود وصلاح الدِّين الأيوبى اللذين قاما بدور عظيم فى القضاء على النصارى والعبيديين ودحرهم، وفى هذه الظروف الصعبة والعصيبة أرادت حكمة الله وقدرته أن تخرج دولة المرابطين السُّنيَّة لتكون سدًا منيعًا ضد أطماع النصارى فى الأَنْدَلُس، ولتحمى الشمال الإفريقى من غاراتهم وأطماعهم، إنه تدبير العزيز العليم.
لقد أكرم الله تعالى المرابطين وجنودهم بالدفاع والذود عن الإسلام والمُسْلِمِين وعن أعراضهم وأموالهم وعقائدهم التى لا تقدر بثمن.
وأعزَّ الله الأمة بهم فى زمن عصيب ورفع الله بهم لواء الإسلام فى
المغرب والأَنْدَلُس.
واستطاعوا بجهودهم الجهادية أن ينقذوا إخوانهم فى الدِّين من ظلم النصارى وحقدهم الدفين، ويكبدوهم هزائم عسكرية أصبحت نبراسًا للأمة على مرِّ العصور ومرِّ الدهور.(1/80)
أولاً: تكالب النصارى على المسلمِين وأطماع ألفونسو التوسعية:
بعد سقوط طُلَيْطِلَة بيد ألفونسو، بدا له أن كل شيء ممكن, وعمل على توحيد جهود النصارى، واتفقوا على سحق دولة الإسلام فى الأَنْدَلُس، معتقدين أن قدرتهم تكفيهم لأداء هذا المهمة المقدسة لديهم.
وترك النصارى خصوماتهم الدَّاخلِيَّة، وتوحَّدت مدنهم، وكوَّنوا جيشًا ضخمًا, واحتلوا مدينة «قورية» من بنى الأفطس، ووصلوا إلى ضواحى إشبيلية، وأحرقوا قراها وحقولها، وسارت فرقة من الفرسان إلى شذونة، ثم اخترقت جزيرة طريف قرب مضيق جبل طارق، كما حاصر القشتاليون- بمعاونة جند من الأرجونيين والقطلونيين الذين وضعهم ألفونسو السادس تحت قيادته- قلعة سَرْقُسْطَة الحصينة التى يضع سقوطها منطقة الأبير «ابرة» فى يد النصارى حتمًا، وتصبح الشواطئ الإسبانية المطلَّةُ على البحر الأبيض المتوسط عرضة لغاراتهم، يقول المؤرخ يوسف أشباخ: «وأثخن النصارى فى ولاية سَرْقُسْطَة كلها بالنار والسيف، ولم يكن يردُّهم فى الحرب أى اعتبار إنسانى ما دام الأمر متعلقًا بأعداء الدِّين، كما يعتقدون، ولكن الحصون الإسلاميَّة قاومتهم مقاومة شديدة، وتلقى المؤتمن بن هود وعدًا لوصول المدد السريع من إخوانه المُسْلِمِين فى جنوب الجزيرة، بَيْدَ أن النصارى شددوا الضعط على سَرْقُسْطَة يومًا بعد يوم، وخشى المُسْلِمُون سقوط المعقل المنيع، بعد أن أصبحت قواتهم وأحوالهم فى حالة يرثى لها، فقد كانت حتمًا دون قوى النصارى، فتطلعوا إلى عون من الخارج، فاتجهت أبصارهم إلى قوة المرابطين المجاهدة فى المغرب الأقصى» (1).
وأصبح ألفونسو اللعين يضغط على ممالك المُسْلِمِين الكبرى المجاورة له أى مملكتى بطليوس وإشبيلية؛ فأرسل إلى المُتَوَكِّل بن الأفطس صاحب بطليوس يطلب منه أن يُسلِّم إليه القلاع والحصون المجاورة لحدوده مع تأدية الجزية، وضعُف مسلمو الأَنْدَلُس أمام هذه الضربات الماكرة، وأصبح سقوط الممالك قاب قوسين أو أدنى، وظل حُكَّام الممالك منغمسين بملذَّاتهم وفسادهم، يحاربون أنفسهم ويحالفون النصارى ضد إخوانهم، ويؤدُّون لهم الجزية مقابل تركهم على عروشهم التى تزعزعت أمام ضرباتهم، واستخدم ملوك الطوائف المرتزقة من النصارى لحماية أنفسهم بعد أن فقدوا الأمل فى شعوبهم
_________
(1) انظر الزلاقة، ص (32).(1/81)
ورعاياهم بسبب ظلمهم وجورهم وتعسُّفهم، وجعل الله بين أمراء الطوائف من التنافس والتدابر والتقاطع والتحاسد والغيرة ما لم يجعله بين الضرائر المترفات والعشائر المتغايرات, فلم تصل لهم فى الله يد، ولا نشأ على التعاضد عزم (1)، لذلك انهارت الروح المعنوية للشعب الأَنْدَلُسى بعدما رأى من أمرائه التخاذل والخيانة, حتى كاد هذا الشعب الصابر يفقد القدرة على القتال بما كان يرهقه حُكَّامه من الضرائب للتنعم بالعيش الرغيد ودفع الجزية للنَّصَارَى، وأصبح بين حاكم مُبتزٍّ وعدوٍّ متربصٍ، فقد ارتقى عرش إسبانيا النصرانية ألفونسو السادس بن فرديناند الذى كان يرغب فى احتلال الجزيرة الإيبرية، وعادت حرب الاسترداد قوية على يده، وقد بدأ أعماله الحربية بمدينة طُلَيْطِلَة فحاصرها سبع سنوات حتى سقطت بيده فى 25 آيار 1085م مستهل صفر 478هـ, وقد أحدث سقوطها دويًا هائلاً فى العالم الإسلامى الغربي، وبات المُسْلِمُون فى حال من الضياع التام (2)
لا يعرفون كيف يتصرفون, وبدأوا بمغادرة المناطق المتاخمة لألفونسو، وأصبحت مملكة طُلَيْطِلَة خالية من السكان الذين هجروها إلى بطليوس هربًا من الاضطهاد وحفاظًا على دينهم، ورأى ألفونسو أن زمام الأَنْدَلُس أصبح فى يده، فضاعف غاراته على جميع البلاد؛ وتساقطت المُدُن والقرى بين يدى اللعين الحقود وأرسل إلى المُتَوَكِّل بن الأفطس وصاحب بطليوس يطلب إليه تسليم بعض الحصون، والقلاع المتاخمة لحدوده مع تأدية الجزية، ويتوعده بشر العواقب إذا رفض، فردَّ المُتَوَكِّل بشجاعة ونبل معلنًا تحديه، وفى هذه الرسالة معانٍ عميقة وفهم دقيق للموقف الحرج الذى أصبح فيه المُسْلِمُون حيث قال المُتَوَكِّل: « .. ولو علم - أى ألفونسو- أن لله جنودًا أعزَّ بهم كلمة الإسلام, وأظهر بهم دين نبينا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأعزه على الكافرين .. وأما تعييرك للمُسْلِمِين فيما وهَى من أحوالهم فبالذنوب المركوبة، ولو اتفقت كلمتنا مع سائرنا من الأملاك أى مصاب أذقناك كما كان أبوك تتجرَعه ... وبالأمس كانت قطيعة المنصور على سلفك أهدى ابنته إليه مع الذخائر التى كانت تفد كل عام عليه» (3).
وأرسل المُتَوَكِّل قاضيه العالم الفقيه أبا الوليد الباجى ليطوف على حواضر الأَنْدَلُس يدعو إلى لمِّ الشعث وتوحيد الكلمة، ومدافعة العدو، ولكن مهمة القاضى لم تُكلل
_________
(1) انظر: أعلام الأعلام، تحقيق د. عبادي, ص (2411).
(2) دولة المرابطين، ص (61) ..
(3) المصدر السابق، ص (62).(1/82)
بالنجاح لأن ضعف الأمراء، وانهيار مقومات الدولة، وتخاذل الشعب فرضت على الحُكَّام استرضاء العدو، عندئذٍ كتب المُتَوَكِّل إلى الأمير يوسف بن تاشفين (1)، يصور له محنة الأَنْدَلُس ويستنصره (2)،
«لما كان نور الهدى -أيدك الله- دليلك, وسبيل الخير سبيلك، ووضحت فى الصلاح معالمك، ووقفت على الجهاد عزائمك، وصحَّ العلم بأنَّك لدعوة الإسلام أعزُّ ناصر، وعلى غزو الشرك أقدر قادر، وجب أن تستدعى لما عضل الداء، وتستغاث لما أحاط بالجزيرة من البلاء، فقد كانت طوائف العدو المطيف بأنحائها عند إفراط تسلُّطها واعتدائها وشدة كلفها واستشرائها تلاطف بالاحتيال، وتستنزل بالأموال، ويخرج لها عن كل ذخيرة، وتسترضى بكل خطيرة، ولم يزل دأبها التشكك والعناد، ودأبها الإذعان والانقياد حتى نفذ المطارف والتلاد، وأتى على الظاهر والباطن النفاد، وأيقنوا الآن بضعف المنن، وقويت أطماعهم فى افتتاح المدن، واضطرمت فى كلِّ جهة نارهم، ورويت من دماء المُسْلِمِين أسنتهم وشفارهم، ومن أخطئ القتل منهم فإنما هم بأيديهم أسارى وسبايا، يمتحنونهم بأنواع المحن والبلايا، وقد هموا بما أرادوه من التوثب، وأشرفوا على ما أملوه من التغلب، فيا الله ويا للمُسْلِمِين أيسطو هكذا بالحق الإفكُ، ويغلب التوحيدَ الشركُ، ويظهر على الإيمان الكفرُ، ولا يكشف هذه البلية النصرُ، ألا ناصر لهذا المهتضم؟ ألا حامى لما استبيح من الحرم؟، وإنا لله على ما لحق عرشه من ثل، وعزه من ذل، فإنها الرزيَّة التى ليس فيها عزاء، والبلية التى ليس مثلها بلاء، ومن قبل هذا ما كنت خاطبتك - أعزَّك الله - بالنازلة فى مدينة قورية أعادها الله وإنَّها مؤيدة للجزيرة بالخلاء، ومَن فيها من المُسْلِمِين بالجلاء، ثم ما زال التخاذل يتزايد، والتدابر يتساند حتى تخلَّصت القضية وتضاعفت البلية وتحصَّلت فى يد العدو مدينة سرية، وعليها قلعة تجاوزت حد القلاع فى الحصانة والامتناع.
وهى من المدينة كنقطة دائرية تدركها من جميع نواحيها، ويستوى فى الأرض بها قاصيها ودانيها، وما هو إلا نفس خافت وزمر داهق استولى عليها عدو مشترك وطاغية منافق، إن لم تبادروا بجماعتكم عجالاً, وتتداركها ركبانًا ورجالاً، وتنفروا نحوها خفافًا وثقالاً، وما أحضكم على الجهاد بما فى كتاب الله فإنَّكم له أتلى، ولا بما فى حديث
_________
(1) تاريخ ابن الكردبوس ص (88)، عن كتاب دولة المرابطين، ص (62).
(2) د. عدنان، دولة الإسلام فى الأندلس ودول الطوائف، ص (91 - 92) ..(1/83)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنكم إلى معرفته أهدى، وكتابى إليكم هذا يحمله الشيخ الفقيه الواعظ يفصِّلها ويشرُحها، ومشتمل على نكتة وهو يبينها ويوضِّحها، فإنه لما توجه نحوك احتسابًا، وتكلف المشقة إليك طالبًا ثوابًا، عوَّلت على بيانه, ووثقت بفصاحة
لسانه, والسَّلام» (1).
ثانيًا: ألفونسو والمعتمد بن عباد:
لقد وقع المُعْتَمِد بن عَبَّاد فى أخطاء كثيرة؛ حيث تعاهد مع ألفونسو ضد إخوانه المُسْلِمِين فى طُلَيْطِلَة مقابل أن يسمح له ألفونسو بأخذ ممالك ممن حوله إلاَّ إن النصارى - كما علمت - لا عهود لهم ولا مواثيق، فأراد ألفونسو أن يجد مبررًا لضرب الحصار على إشبيلية, واحتلال قرطبة، فطلب من المُعْتَمِد حصونًا وقرى الموت أحبُّ إليه من تسليمها, ومارس ألفونسو مع المُعْتَمِد أنواعًا من الإذلال والتجنى لتخرج المُعْتَمِد عن طوره ويلغى الاتفاقية الهزيلة بين الطرفين ويجد ألفونسو والنصارى ما يبرِّر أفعاله الانتقامية والوحشية.
فطلب ألفونسو من المُعْتَمِد أن يسمح لزوجته القمطجية أن تلد فى جامع قرطبة بناءً على نصيحة الأساقفة، لأن الطرف الغربى كان موقع كنيسة قرطبة القديمة، وسأله أن تنزل بالزهراء مدينة الخليفة الناصر، لتكون ولادتها بين طيب نسيم الزهراء وفضيلة موضع الكنيسة المزعوم (2)، وأرسل إليه بعثة من خمسمائة فارس برئاسة اليهودى ابن ساليب لأخذ الجزية، وتجرأ السفير وقلَّ أدبه إن كان له أدب، وخرج على العرف الدبلوماسي، وأغلظ فى القول للمُعْتَمِد وقال: «لا تعتقدونى بسيطًا لأقبل مثل هذه العملة المزيفة, لا آخذ إلا الذهب الصافي، السنة القادمة ستكون مدنًا» (3). فأخذت المُعْتَمِد النخوة الإسلاميَّة وصلب اليهودي، وقتل البعثة، وبذلك يكون ألفونسو قد تحصل على ما يريده، وكان ألفونسو متجهًا لحصار قرطبة فلمَّا وصل خبر البعثة أقسم بآلهته ليغزون المُعْتَمِد فى إشبيلية، وحرَّك جيوشه نحو غرب الأَنْدَلُس فدمَّر كل القرى والتخوم التى فى طريقه نحو إشبيلية, وخرج فى جيش من طريق آخر يدمِّر ويخرِّب ويقتل ويحرق ويسفك ويسبي، حتى وصل إلى جزيرة طريف أقصى جنوب الأَنْدَلُس على
_________
(1) دولة المرابطين, ص (63 - 64). ... (2) المصدر السابق نفسه.
(2) المصدر السابق، ص (66).
(3) دولة المرابطين، ص (66). ... (2) نفس المصدر السابق.(1/84)
المضيق، وأدخل قوائم فرسه فى البحر قائلاً: «هذا آخر بلاد الأَنْدَلُس قد وطئته» (1).
ومِن هنا أرسل إلى الأمير يوسف بن تاشفين: «أمَّا بعد .. فلا خفاء على ذى عينين أنَّك أمير المُسْلِمِين بل الملة الإسلاميَّة، كما أنا أمير الملة النصرانية، ولم يخف عليك ما عليه رؤساؤكم بالأَنْدَلُس من التخاذل والتواكل، والإهمال للرعية والإخلاد إلى الراحة، وأنا أسومهم الخسف، فأخرب الدِّيار وأهتك الأستار، وأقتل الشبَّان وآسر الولدان، ولا عذر لك فى التخلف عن نصرتهم إن أمكنك معرفة هذا، وأنتم تعتقدون أن الله - تعالى - فرض على واحد منكم عشرة منا، وأن قتلاكم فى الجنة وقتلانا فى النار، ونحن نعتقد أن الله أظفرنا بكم وأعاننا عليكم، ولا تقدرون دفاعًا ولا تستطيعون امتناعًا، وبلغنا عنك وأنَّك فى الاحتفال عن نية الاستقبال فلا يدرى أكان الجبن بك أم التكذيب بما أنزل عليك، فإن كنت لا تستطيع الجواز فابعث إليَّ ما عندك من المراكب نجوز إليك، أناظرك فى أحب البقاع إليك؛ فإن غلبتنى فتلك نعمة جلبت إليك، ونعمة شملت بين يديك، وإن غلبتك كانت لى اليد العليا عليك, واستكملت الإمارة, والله يتم الإرادة» (2).
فكان ردُّ يوسف بن تاشفين - رحمه الله - على ظهر الكتاب ذاته: «ما ترى لا ما تسمع إن شاء الله -تعالى-» وأردف:
ولا كتب إلا المشرفية والقنا ... ولا رسل إلا الخميس العرمرم (3)
وعاد ألفونسو المغرور المتكبر إلى إشبيلية حيث التقى بجيشه الآخر أمام قصر المُعْتَمِد بن عَبَّاد بضفة النهر، وحاصر المدينة ثلاثة أيام، وكتب إلى المُعْتَمِد يسأله أن يرسل إليه مروحة لطرد الذباب، ولم يتحمل المُعْتَمِد هذه الإهانة فردَّ: «قرأت كتابك وفهمت خيلاءك وإعجابك, وسأنظر إليك فى مراوح من الجلود اللمطية تروح منك ولا تروح عليك» (4).
ترك ألفونسو إشبيلية وسار نحو سَرْقُسْطَة وحاصرها، كانت شبه ضائعة تنتظر مصيرها المؤلم, وصاحبها ابن هود لا يستطيع الدفاع كثيرًا، ثم أخذ بلنسية, وأعطاها القادر بن ذى النون صاحب طُلَيْطِلَة السابق، وهاجم مملكة المرية, ووصل القشتاليون إلى نابار قرب غرناطة, كان الخطر على الأَنْدَلُس شديدًا، وقلة الشجاعة وانهيار الروح
_________
(1)
(2) تاريخ ابن الكردبوس, ص (91). ... (4) الرياض المعطار، ص (80) للحميري.
(3)
(4)(1/85)
المعنوية تثبط العزائم، إذ أن ثمانين قشتاليًا هزموا أربعمائة من المرية (1).
ثالثًا: اجتماع علماء قرطبة:
أمام هذا الضياع المفزع الذى وصلت إليه ممالك الأَنْدَلُس؛ اجتمع علماء وفقهاء وزعماء قرطبة للتشاور فيما يجب عمله لإنقاذ مدينتهم، ووصل رأيهم بعد تبادل الآراء والأفكار إلى استدعاء المرابطين.
ورأى المُعْتَمِد أن هذا الرأى فيه صواب ونفاذ بصيرة؛ فجدَّ فى تقوية جيشه ورمم الحصون والقلاع، وقرَّر أن يطلب النجدة من إخوانه المُسْلِمِين، وتشاور فى الأمر مع ابنه الرشيد وزعماء إشبيلية الذين أشاروا عليه بمهادنة ألفونسو والخضوع لشروطه، ولكن هذا الرأى لم يجد هوى فى نفس المُعْتَمِد الذى خلا بابنه الرشيد وكان ولى عهده وقال له: «أنا فى هذه الأَنْدَلُس غريب بين بحر مظلم وعدو مجرم، وليس لنا ولى ولا ناصر إلا الله، وإن إخواننا وجيراننا ملوك الأَنْدَلُس ليس فيهم نفع، ولا يُرجَى منهم نصرة، ولا حيلة إن نزل بنا مصاب أو نالنا عدو ثقيل وهو اللعين أذفونش فقد أخذ طُلَيْطِلَة وعادت دار كفر وها هو قد رفع رأسه إلينا.
وإن نزل علينا طُلَيْطِلَة ما يرفع عنا حتى يأخذ إشبيلية، ونرى من الرأى أن نبعث إلى هذه الصحراء وملك العدوة نستدعيه للجواز إلينا ليدافع عنا الكلب اللعين إذ لا قدرة لنا على ذلك بأنفسنا، فقد تلف لجاؤنا وتدبرت بل تبردت أجنادنا, وبغضتنا العامة والخاصَّة (2). فأجابه الرشيد: يا أبت أتدخل علينا فى أَنْدَلُسنا مَن يسلبنا ملكنا ويبدد شملنا؟ فقال: أى بنى والله لا يسمع عنى أبدًا أنى أعدت الأَنْدَلُس دار كفر ولا تركتها للنصارى فتقوم عليَّ اللعنة من على منابر المُسْلِمِين مثل ما قامت على غيري، والله خُرز الجمال عندى خير من خُرز الخنازير» (3).
ولما انتشر رأى المُعْتَمِد بن عَبَّاد فى الأَنْدَلُس حذره ملوك الطوائف من ذلك وقالوا له: «الملك عقيم والسيفان لا يجتمعان فى غمد واحد»، وعارض بشدة طلب العون من المرابطين عبد الله بن سكوت والى مالقة الذى كان يرى أن المرابطين أشد خطرًا من النصارى، ويجب الاعتماد على القوة الذاتية للأَنْدَلُسيين (4)، فأجابهم المُعْتَمِد: «رعى
_________
(1) تاريخ ابن الكردبوس ص (89)، نقلاً عن دولة المرابطين، ص (66).
(2) دولة المرابطين، ص (68). ... (3) المصدر السابق، ص (68).
(3) المصدر السابق، ص (69).
(4) وفيات الأعيان (7/ 115). ... (2) نفس المصدر السابق.(1/86)
الجمال خير من رعى الخنازير» (1) وأضاف: إن دهينا من مداخلة الأضداد لنا فأهون الشرَّين أمر الملثمين» (2).
وقال للذين لاموه على هذا الرأي: يا قوم إنَّى فى أمرى على حالين: حالة يقين وحالة شك، ولابد لى من أحدهما، أمَّا حالة الشك فإنِّى إن استندت إلى ابن تاشفين أو إلى الأذفونش ففى الممكن أن يفيا لى ويبقيا عليَّ، ويمكن أن لا يفعلا فهذه حالة شك.
وأمَّا حالة اليقين فإنِّى إن استندت إلى ابن تاشفين فإنى أرضى الله، وإن استندت إلى الأذفونش أسخطت الله تعالى، فإذا كانت حالة الشك فيها عارضة فلأى شيء أدع ما يرضى الله وآتى ما يسخطه؟ حينئذٍ قصر أصحابه عن لومه (3).
ولما عزَم على طلب النصرة من المرابطين؛ اتصل المُعْتَمِد بالمُتَوَكِّل بن الأفطس صاحب بطليوس، وعبد الله بن بلقين الصنهاجى صاحب غرناطة، وطلب منهما أن يرسل كل منهما قاضى مدينته حتى يكونوا وفدًا إلى المرابطين لمقابلة الأمير يوسف بن تاشفين، وتشكَّلت البعثة من قاضى قرطبة ابن أدهم، وقاضى بطليوس ابن مقانا, وقاضى غرناطة ابن القليعي, ومعهم وزير المُعْتَمِد أبو بكر بن زيدون, وأسند المُعْتَمِد إلى القضاة وعظ الأمير يوسف وترغيبه فى الجهاد، وأسند إلى وزيره إبرام العقود، وحملت البعثة معها رسالة مكتوبة من المُعْتَمِد إلى الأمير يوسف مؤرخة 479هـ, وهذا نصُّها: «بسم الله الرحمن الرحيم, وصلِّى الله على سيدنا مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا .. إلى حضرة الإمام أمير المسلمين وناصر الدِّين ومحيى دعوة الخليفة، الإمام أبى يعقوب يوسف بن تاشفين، القائم بعظيم أكبارها، الشَّاكر لأجلالها المعظِّم لما عظم الله من كريم مقدارها، اللائذ بحرامها, المنقطع إلى سمُّو مجدها, المستجير بالله وبطولها مُحَمَّد عباد سلام كريم يخص الحضرة المعظمة السامية ورحمة الله تعالى وبركاته.
كتب المنقطع إلى كريم سلطانها من إشبيلية فى غرة جمادى الأولى 479هـ/ 1086م وإنَّه أيَّد الله أمير المُسْلِمِين ونصر به الدِّين، فإنَّا - نحن العرب - فى هذه الأَنْدَلُس قد تلفت قبائلنا، وتفرَّق جمعنا، وتغيَّرت أنسابنا بقطع المادة عنا من ضيعتنا؛ فصرنا شعوبًا لا قبائل, وأشتاتًا لا قرابة ولا عشائر، فقلَّ نصرنا، وكثر شُمَّاتُنا، وتولَّى علينا هذا العدو
_________
(1) نفح الطيب (6/ 91).
(2)
(3)(1/87)
المجرم اللعين ألفونسو وأناخ علينا بطُلَيْطِلَة ووطئها بقدمه، وأسر المُسْلِمِين، وأخذ البلاد والقلاع والحصون، ونحن أهل هذه الأَنْدَلُس ليس لأحد منا طاقة على نصرة جاره ولا أخيه، ولو شاءوا لفعلوا إلا أن الهواء والماء منعهم من ذلك، وقد ساءت الأحوال، وانقطعت الآمال، وأنت أيدك الله سيد حمير، ومليكها الأكبر، وأميرها وزعيمها، نزعت بهمتى إليك واستنصرت بالله ثم بك، واستغثت بحرمكم لتجوز بجهاد هذا العدو الكافر وتحيون شريعة الإسلام وتدينون على دين مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكم عند الله الثواب الكريم على حضرتكم السامية السلام ورحمة الله وبركاته ولا حول ولا قوة إلا بالله
العلى العظيم» (1).
وأرسلت وفود شعبية من الشيوخ والعلماء رسائل تحثُ الأمير على إنقاذ الأَنْدَلُس.
وتأثر المرابطون لمُصاب إخوانهم فى الدِّين، وعرض أميرهم قضية مسلمى الأَنْدَلُس على أهل الحلِّ والعَقْد عنده، وأجمعوا على نصرة دينهم وإعزاز كلمة التوحيد، وكان وزير يوسف ومستشاره أَنْدَلُسى الأصل اسمه عبد الرحمن بن أسبط أو أسباط، فنصحه المستشار بأن يطلب من المُعْتَمِد بن عَبَّاد الجزيرة الخضراء لكى تكون آمنة لعبور الجيش، ولحماية خطوط التموين، وقال له: إن الأمر لله تعالى ولكم، وواجب على كل مسلم إغاثة أخيه المسلم والانتصار له، واقتنع الأمير يوسف برأى وزيره فى طلب الجزيرة الخضراء ليجعل فيها أثقال جيشه وأجناده ويكون الجواز بيده متى شاء، وقال الأمير يوسف لعبد الرحمن: صدقت يا عبد الرحمن, لقد نبهتنى على شيء لم يخطر ببالي, اكتب إليه بذلك.
وكتب ابن أسبط إلى المُعْتَمِد بن عَبَّاد الكتاب التالى نصُّه: «بسم الله الرحمن الرحيم, وصلى الله على سيدنا مُحَمَّد وآله وصحبه وسلِّم.
من أمير المُسْلِمِين وناصر الدِّين معين دعوة أمير المؤمنين، إلى الأمير أكرم المؤيد بنصرة الله تعالى المُعْتَمِد على الله أبى القاسم مُحَمَّد بن عَبَّاد أدام الله كرامته بتقواه، ووفقه لما يرضاه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فإنه وصل خطابك الكريم، فوقفنا على ما تضمنه من استدعائنا لنصرتك، وما
_________
(1) دولة المرابطين ص (71).(1/88)
ذكرته من كربتك، وما كان من قلة حماية جيرانك، فنحن يمين لشمالك ومبادرون لنصرتك وحمايتك، وواجب علينا فى الشَّرع, وفى كتاب الله تعالى، وإنَّه لا يمكننا الجواز إلا أن تُسلِّم لنا الجزيرة الخضراء؛ تكون لنا لكى يكون جوازنا إليك على أيدينا متى شئنا، فإن رأيت ذلك فاشهد على نفسك بذلك, وابعث إلينا بعقودها ونحن فى أثر خطابك إن شاء الله تعالى».
اطلع المُعْتَمِد ابنه الرشيد على خطاب الأمير يوسف فقال له: يا أبت ألا تنظر إلى ما طلب؟ فقال له المُعْتَمِد: يا بنى هذا قليل فى حق نصرة المُسْلِمِين، ثم جمع المُعْتَمِد القاضى والفقهاء، وكتب عقد هبة الجزيرة الخضراء للأمير يوسف، وتسليمها له بحضورهم، وكان يحكمها يزيد الراضى بن المُعْتَمِد، فبعث إليه أمره بإخلائها وتسليمها للمرابطين لتكون رهناً بتصرف الأمير يوسف (1). وبعد موافقة المُعْتَمِد تجهَّز يوسف لتلبية نداء إخوانه فى العقيدة راغبًا فى الأجر والمثوبة من الله بتأدية فريضة الجهاد، وكتب أمانًا لأهل الأَنْدَلُس ألا يتعرض لأحد منهم فى بلده وقال: «أنا أول مُنتَدَبٍ لنصرة هذا الدِّين, لا يتولى الأمر أحد إلا أنا بنفسي» وأعلن النفير العام فى قوات المرابطين، فأقبلت من مراكش, ومن الصحراء وبلاد الزاب, ومن مختلف نواحى المغرب يتوافدون على قيادتهم الربَّانية، وجهزت السفن لتحمل هذه القوات، وكان أول من نفَّذ أمر العبور قائد المرابطين النابغ داود ابن عائشة, وتمركز فى الجزيرة الخضراء، وتتابعت كتائب المرابطين، وكانت معهم الجمال الكثيرة، وقد أثار وجودها دهشة الأَنْدَلُسيين، لأنَّهم لم يكونوا يعرفونها من قبل، وقد أثَّر وجودها على الخيل فأخذت تجمح لدى رؤيتها.
ولما تكامل الجيش المرابطى بساحل الجزيرة الخضراء, ركب الأمير يوسف ومعه قادة من خيرة قادة المرابطين وصلحائهم، ولمَّا ركب واستوى على السفينة رفع يديه نحو السماء مناجيًا: «اللهم إن كنت تعلم أن جوازنا هذا إصلاح للمُسْلِمِين فسهِّل علينا هذا البحر حتى نعبره، وإن كان غير ذلك فصعبه حتى لا نجوزه» (2). وسهل الله عبورهم، وكان ذلك يوم الخميس بعد الزوال منتصف ربيع الأول 479هـ حزيران 1086م، وصلى الأمير يوسف بالجزيرة الخضراء صلاة الظهر، وقام أهل الجزيرة بضيافة المرابطين،
_________
(1) دولة المرابطين، ص (74)، مذكرات الأمير عبد الله صاحب غرناطة ص (102، 103).
(2) الأندلس فى عهد المرابطين، ص (79).(1/89)
وظهر فرحهم وسرورهم على وجوههم، وبدأ الأمير يوسف فى تحصين الجزيرة الخضراء، ورمَّم أسوارها وما تصدَّع من أبراجها، وشحنها بالأسلحة والأطعمة وكلف مجموعة من جنوده بحراستها ثم ساروا نحو إشبيلية (1).
سارع المُعْتَمِد مع قادة قومه وشيوخ مدينته وفقهاء بلاده لاستقبال أمير المرابطين، ولما التقى بيوسف تعانقا طويلاً بمودة وحب وإخلاص وأخوة فى الدِّين، وتذاكرا نعم الله عليهما، وتواصيا بالصبر والجهاد فى سبيل نصرة دين المُسْلِمِين، وكان المُعْتَمِد مُحمَّلاً بالهدايا، وأصدر أوامره لعمال البلاد بجلب الأرزاق لضيافة الجيش المرابطي، وكان المُعْتَمِد كريمًا وجوادًا باذلاً للخير.
واستعرض المُعْتَمِد الجيش المرابطى فرأى «عسكرًا نقيًا ومنظرًا بهيًا» (2).
وواصل الأمير يوسف سيره نحو إشبيلية حيث كان يستقبل بالترحاب مع جيشه المرابطى على امتداد الطريق حتى وصل حاضرة المُعْتَمِد، فأقام بها ثلاثة أيام للاستراحة, ثم قال للمُعْتَمِد: «إنما جئت ناويًا جهاد العدو حيثما كان توجهت» (3).
وأثناء مقام الأمير يوسف فى إشبيلية بعث الأمير يوسف إلى ملوك الأَنْدَلُس يستنفرهم للجهاد (4)، فكان أول من لبى الدعوة عبد الله بن بلقين الصنهاجى صاحب غرناطة الذى خرج إليه بأمواله ورجاله، وأخوه تميم صاحب مالقة، وأرسل ابن صمادح ابنه معز الدولة فى فرقة من جيشه, وسار الأمير الربَّانى والقائد الميدانى نحو بطليوس، فاستقبلهم صاحبها المُتَوَكِّل بن الأفطس على ثلاث مراحل من المدينة (5) , وقدَّم لهم الهدايا والضيافة وعلف الدواب وظهر منه جود وكرم، وأقام الأمير أيامًا عدة حتى يصل باقى المتطوعين إلا أن أكثرهم لم يصل لانشغالهم بمدافعة النصارى، فتابع سيره الجهادى حتى حطَّ رحاله عند سهل الزِّلاقَة (6) , وكان يبعد عن بطليوس ثمانية أميال.
ونظَّم يوسف بن تاشفين جيشه، فجعل الأَنْدَلُسيين جيشًا, مستقلاً بذاته وأسند قيادته إلى المُعْتَمِد بن عَبَّاد الذى تولى المقدمة، وأسندت الميمنة إلى المُتَوَكِّل بن الأفطس، وجعل أهل شرق الأَنْدَلُس على الميسرة، وباقى أهل الأَنْدَلُس فى الساقة.
_________
(1) دولة المرابطين، ص (75). ... (2) انظر: الحلل, ص (79).
(2) دولة المرابطين، ص (79). ... (4) مذكرات الأمير عبد الله بن رير، ص (104).
(3)
(4) دولة المرابطين, ص (80). ... (6) وفيات الأعيان، (ج5/ 29).
(5) دولة المرابطين, ص (81).
(6)(1/90)
أمَّا الجيش المرابطى فتولى داود ابن عائشة قيادة فرسانه، وأما سير بن أبى بكر فتولى قيادة الحشم، وبقية المرابطين مع حرس الأمير يوسف بن تاشفين إلى جانب قيادته الجيش الإسلامي، وعسكر المرابطون خلف الأَنْدَلُسيين تفصل بينهم ربوة بقصد التمويه، وكان تعداد جيش المرابطين والأَنْدَلُسيين أكثر من 24 ألف جندي (1) وتضاربت الروايات فى ذلك.
وكان ألفونسو مشغولاً بمحاصرة سَرْقُسْطَة, ولما وصله الخبر السعيد ارتبك وجزع، وطلب من المستعين بن هود حاكم سَرْقُسْطَة أن يدفع له مالاً مقابل فك الحصار، فامتنع ابن هود لما عَلِمَه من وصول المرابطين وقرَّر ألا يساعد ألفونسو بأى مال يستعين به على قتال المُسْلِمِين.
واضطرَّ ألفونسو لرفع الحصار، ورجع مسرعًا إلى طُلَيْطِلَة، وأعلن الاستنفار العام، وحل نزاعه وخلافه مع بعض أمراء النصارى، وأرسل إلى مَن وراء جبال ألبرتات فأتته أفواج عديدة من النصارى متطاوعة من أجل الحرب المُقدَّسة، وجند الفونسو كل مَن يستطيع حمل السلاح صغيرًا أو كبيرًا، ونظَّم جيشه وقسمه إلى قسمين كبيرين: أسند قيادة الجيش الأول إلى ابن عمه الكونت غرسيا ورودريك، وما لبث غرسيا أن انسحب قبل بدء المعركة أثر خلاف مع ألفونسو الذى أبقى رودريك فى القيادة، واحتفظ بقيادة الجيش الثانى وعيَّن على جناحيه سانتشور أميرز والكونت برنجار ريموند, وتولَّى هو القلب (2) , «وكان جيش ألفونسو يعتمد على الفرسان كمجموعة, وكان الفارس يلبس الزرد والدروع التى تغطيه من الرأس إلى القدم كأنَّه حصن من الحديد يتحرك لتزداد شجاعته وجرأته».
ولما استعرض جيشه نفخ فيه الشيطان غروره وكبرياءه، وقال قولة تدل على تجذر كفره وعتوه وفساد معتقده حيث قال: «بهذا الجيش ألقى مُحَمَّدا وآل مُحَمَّد والأنس والجن والملائكة» (3).
«وكانت جموع الرهبان والقسيسين أمام جيش ألفونسو الملعون يرفعون الإنجيل والصلبان لإذكاء الحماس الدِّينى فى نفوس الجنود الذين بلغ عددهم أكثر من ستين ألفًا» (4).
_________
(1)
(2) انظر: الحلل، ص (34).
(3) انظر: الأندلس فى عهد المرابطين، ص (83).
(4) انظر: الكامل، (ج6/ 303).(1/91)
وخرج ألفونسو بجيشه نحو بطليوس، وكتب إلى المُعْتَمِد بن عَبَّاد كتابًا جاء فيه: «إن صاحبكم يوسف قد تعنَّى من بلاده وخاض البحار، وأنا أكفيه العناء فيما بقى, ولا أكلفكم تعبًا، وأمضى إليكم وألقاكم فى بلادكم رفقًا بكم وتوفيرًا عليكم» (1).
وقصد ألفونسو بذلك أن تكون المعركة خارج بلاده فإذا انهزم ولحقوا به يكون مسيرهم فى أرضهم ولابد من الاستعداد لاكتساح بلاده، وبذلك تنجو من التدمير، وإذا انتصر حدث ذلك فى أرض أعدائه.
وصل ألفونسو إلى بطحاء الزِّلاقَة وخيم على بعد ثلاثة أميال من الجيش المسلم يفصل بينهما نهر بطليوس يشرب منه المتحاربون (2).
لقد انزعج ألفونسو من مجيء المرابطين انزعاجًا كبيرًا, حيث شعر بعودة الروح المعنوية إلى أهالى الأَنْدَلُس الذين كان يسومهم سوء العذاب، يُقتِّل رجالهم ويسبى نساءهم، ويأخذ منهم الجزية، ويحتقرهم ويزدريهم، ويتلاعب بمصيرهم, وينتظر الفرصة لاستئصالهم من الأَنْدَلُس، لتعم النصرانية فى سائر البلاد، ويرتفع الصليب على أعناق العباد، وإذا بالمرابطين يربكون مخططاته ويبددون أحلامه.
لذلك أراد ألفونسو أن يوجِّه ضربة قاصمة لمن كان السبب فى استدعاء المرابطين وخصوصًا للفارس المغوار المُعْتَمِد بن عَبَّاد وقرينه المُتَوَكِّل بن الأفطس، وكان يرى أن نصره يعتمد على تكبيل القوة الدَّاخلِيَّة فى الأَنْدَلُس بالهزائم المتتالية والمتلاحقة.
أما المرابطون بعد ذلك سيرجعون إلى وطنهم الأصلى المغرب، وبالقضاء على الأَنْدَلُس يسهل القضاء على المرابطين بسبب جهلهم بالطبيعة الجغرافية للبلاد.
ومما ساعد ألفونسو على أن يعيش فى تلك الأحلام فتور معظم أهل الأَنْدَلُس بسبب ترفهم ونعيمهم وجبنهم وحبهم للحياة وهروبهم من الشهادة، كما أن أسباب الهزيمة نخرت فى ذلك المجتمع المتهالك.
أما المُعْتَمِد بن عَبَّاد صاحب إشبيلية والمُتَوَكِّل بن الأفطس صاحب بطليوس فقد قررا امتشاق الحسام، فمَن ظفر عاش سعيدًا ومَن مات كان شهيدًا (3).
_________
(1) الروض المعطار، ص (88)، نفح الطيب (6/ 96).
(2) ابن الكردبوس ص (93)، روض القرطاس ص (94)، نقلاً عن دولة المرابطين, ص (84).
(3) انظر: دولة المرابطين، د. سعدون عباس، ص (85).(1/92)
وأما المرابطون الذين تربوا على تعاليم الإسلام وأصول أهل السنة والجَماعَة ما وصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا بعد تربية عميقة، وتكوين فريد وإيمان راسخ ساهم علماء وفقهاء المالكية فى ذلك، وعلى رأسهم الفقيد الشهيد ابن ياسين, فقد مروا بمراحل صقلتهم وحروب زكتهم، وأصبحوا متشوِّقين إلى الاستشهاد معتمدين على رب العباد, آخذين بأسباب النصر المعنوية والمادية.
وكان رأى المرابطين إن المعركة فى الأَنْدَلُس مصيرية للأمة الإسلاميَّة وبذلك لا يمكن الاعتماد على شعب مهزوم وقع فى أسر المعاصى والذنوب.
وكما أن انتصارهم فى الأَنْدَلُس يرعب أعداءهم وخصومهم فى المغرب ويتم بنصرهم إنقاذ الإسلام والحضارة فى ذلك البلد البعيد عن العالم الإسلامي.
كان ألفونسو يقود حربًا صليبية شرسة ضد المُسْلِمِين، ودعمته الكنيسة فى روما بالجنود والعتاد والأموال، ورغبت بلدان الإفرنجة بالوقوف مع ألفونسو فى حربه المقدسة ضد المُسْلِمِين.
إن الجانب المادى عند النصارى كان أعلى بكثير مما عند المرابطين، ولكنَّ الجانب المعنوى عند المرابطين لا حدود له.
وأرسل يوسف بن تاشفين إلى ألفونسو كتابًا يعرض عليه الدخول فى الإسلام أو دفع الجزية أو الحرب، ومما جاء فى كتاب الأمير: «بلغنا يا أذفونش أنَّك نحوت الاجتماع بنا, وتمنيَّت أن تكون لك فُلْكٌ تعبر البحر عليها إلينا، فقد جزناه إليك، وجمع الله فى هذه العرصة بيننا وبينك، وترى عاقبة ادعائك (وما دعاء الكافرين إلا فى ضلال)» (1).
ولما قرأ ألفونسو الكتاب زاد غضبه وذهب بعقله وقال: «أبمثل هذه المخاطبة يخاطبنى وأنا وأبى نغرم الجزية لأهل ملته منذ ثمانين سنة؟» (2) وقال لرسول الأمير يوسف: «قُل للأمير لا تتعب نفسك أنا أصل إليك» (3)، وإنَّنا سنلتقى فى ساحة المعركة (4)، ومعنى ذلك أن ألفونسو اختار الحرب، وحاول ألفونسو حامى حمى النصرانية فى إسبانيا أن
_________
(1) وفيات الأعيان (7/ 116).
(2) دولة المرابطين، ص (78).
(3) روض القرطاس، ص (94).
(4) الأندلس فى عصر المرابطين، ص (82).(1/93)
يخدع المُسْلِمِين ويمكر بهم، فكتب إلى الأمير يوسف فى تحديد يوم المعركة فكتب إليه: «إن بعد غد الجمعة لا نحب مقابلتكم فيه لأنَّه عيدكم، وبعده السبت يوم عيد اليهود، وهم كثير فى محلتنا، وبعده الأحد عيدنا، فنحترم هذه الأعياد، ويكون اللقاء يوم الاثنين» فكان جواب الأمير يوسف: «اتركوا اللعين وما أحب» (1) فاعترض المُعْتَمِد وقال للأمير يوسف: «إنها حيلة منه وخديعة إنَّما يريد غدرنا فلا تطمئن إليه، وقصده الفتك بنا يوم الجمعة فليكن الناس على استعداد له يوم الجمعة كل النَّهار» (2).
واستعد المُسْلِمُون لرصد تحركات النصارى وكان حدس المُعْتَمِد صائبًا صحيحًا, ورصدوا تحرك العدو نحوهم.
وانقض الجيش الذى يقوده رودريك بمنتهى العنف على معسكر المُسْلِمِين من الأَنْدَلُسيين فتصدَّى فرسان المرابطين الذين يقودهم داود ابن عائشة الذين أرسلهم يوسف ابن تاشفين على عجل لدعم الأَنْدَلُسيين، وصمد المرابطون أمام هجوم النصارى، واضطر النصارى إلى الارتداد إلى خط دفاعهم الثانى وظهرت من داود ابن عائشة وجنوده كفاءة قتالية لم يعرف لها مثيل، واختار الله من المرابطين شهداء، واحتدم الصراع، وزحف ألفونسو ببقية جيشه، وأقرن زحفه بصياح هائل أفزع قلوب الأَنْدَلُسيين قبل خوضهم المعركة، ولاذوا بالفرار ووجدوا أنفسهم أمام أسوار بطليوس للاحتماء بها، ولم يصمد منهم إلا فارس الأَنْدَلُسيين وقومه «المُعْتَمِد بن عَبَّاد وأهل إشبيلية» وأبلى بلاءً عظيمًا وعقرت تحته ثلاثة أفراس، وأصيب بجروح بليغة، واستمرت المعركة الرهيبة، وصمد المُعْتَمِد مع داود ابن عائشة حتى فلت السيوف، وتكسرت الرماح, وصبر المُسْلِمُون فى المعركة صبرًا عظيمًا سجل فى صفحات المجد والعزة والكرامة فى تاريخنا المجيد.
وبدأت قوة المُسْلِمِين تضعف وتتقهقر أمام ضربات النصارى الحاقدة، وأيقن ألفونسو ببلوغ النصر مُعتَقِدًا إن هذه هى قوة المُسْلِمِين المقاتلة التى ظهر الإعياء عليها، وأخذت موقف المدافعة، ولم يستغرق ألفونسو طويلاً فى أحلامه حتى وثب جيش من المرابطين إلى ميدان المعركة أرسله الأمير يوسف بقيادة سير بن أبى بكر على رأس الحشم لمساندة القوات الإسلاميَّة، فتقوَّت بذلك معنوياتهم فى معركة مالت إلى هزيمتهم،
_________
(1) الحلل الموشية، ص (36).
(2) أعلام الأعلام، تحقيق العبادي, ص (243).(1/94)
وزحف الأمير يوسف بحرسه المرابطي، وقام بعملية التفاف سريعة باغت فيها معسكر العدو من الخلف، ووصل إلى خيامه وأحرقها وأباد حراسها، ولم ينج منهم إلا القليل، وكانت طبول المرابطين تدق بعنف فترتج منها الأرض، ورغاء الجمال يتصاعد إلى السماء فبث الذعر فى نفوس الأعداء وهلعت قلوبهم (1). وذهل ألفونسو عندما رأى بعض حرس معسكره فارِّين، وأتته الأخبار من داخل المعسكر باستيلاء المرابطين عليه، وأنَّه خسر حوالى عشرة آلاف قتيل (2) , ووجد ألفونسو نفسه محاصرًا من المُسْلِمِين فاضطر للقتال متقهقرًا نحو معسكره المحروق، ولكن يوسف لم يترك له الفرصة لالتقاط الأنفاس، فانقضَّ عليه كالسيل، وقاتل ألفونسو عند ذلك قتال المستميت، وكان الأمير يوسف يبث الحماس فى نفوس المُسْلِمِين قائلاً: «يا معشر المُسْلِمِين اصبروا لجهاد أعداء الله الكافرين, ومن رُزِق منكم الشهادة فله الجنة ومن سلم فقد فاز بالأجر العظيم والغنيمة»، وكان رحمه الله يقاتل فى مقدمة الصفوف وهو ابن التاسعة والسبعين، وكأن العناية الإلهية كانت تحميه (3)،
وكان فقهاء المُسْلِمِين وصالحوهم يعظون الجنود ويشجعونهم على مصابرة أعداء الدِّين، وفى هذا الجو الرهيب من القتال الذى دام بضع ساعات وسقط فيه آلاف القتلى، وغمر الدم ساحة المعركة عندما دفع الأمير حرسه الخاص من السودان إلى القتال، فترجل منهم أربعة آلاف كانوا مسلحين بدروق اللمط وسيوف الهند
ونزاريق الزان (4).
اندفعوا إلى المعركة اندفاع الأسود فحطموا مقاومة النصرانية، وتكسَّرت شوكتهم, وانقض أسد من أسود المُسْلِمِين على ألفونسو وطعنه فى فخذه، ولاذ النصارى بالفرار، وتمنى ألفونسو الموت على العيش, ولجأ مع خمسمائة فارس من فرسانه إلى تل قريب ينتظر الظلام لينجو من سيوف المرابطين (5).
ومنع يوسف جنوده من اللحاق بهم، وكانت مناسبة لألفونسو الذى تابع سيره مع الظلام إلى طُلَيْطِلَة، وصل إليها مغمومًا حزينًا كسيرًا جريحًا بعد أن فقد خيرة رجاله وجنوده وقادة جيشه.
_________
(1) الحلل الموشية، ص (42). ... (2) ابن الكردبوس، ص (93).
(2) الأندلس فى عهد المرابطين، ص (85) ..
(3)
(4) الروض المعطار، ص (92).
(5) ملوك الطوائف، ص (314).(1/95)
وفقد ألفونسو فى الزِّلاقَة القسم الأعظم من جيشه، وأمر يوسف بضم رءوس القتلى من النصارى، فعمل المُسْلِمُون منها مآذن يؤذنون عليها, واستشهد فى تلك المعركة الخالدة جماعة من العلماء والفقهاء، قلما يجود الزمان بمثلهم منهم قاضى مراكش عبد الملك المصمودي، والفقيه الناسك أبو العبَّاس بن رميلة القرطبي (1). وجمع المُسْلِمُون الأسلاب والغنائم التى تركها النصارى وراءهم فى ساحة المعركة، وآثر الأمير يوسف بها ملوك الأَنْدَلُس، وقد عرَّفهم أن هدفه الجهاد فى سبيل الله ونصرة الإسلام (2).
وأرسل الأمير يوسف إلى المغرب أخبار النصر المبين وهذا نص خطابه: «أمَّا بعد حمدًا لله المتكفِّل بنصر أهل دينه الذى ارتضاه، والصلاة والسلام على سيدنا مُحَمَّد أفضل وأكرم خلقه، فإن العدو الطاغية لما قربنا من حماه وتوافقنا بإزائه بلغناه الدعوة، وخيرناه بين الإسلام والجزية والحرب، فاختار الحرب، فوقع الاتفاق بيننا وبينه على الملاقاة يوم الاثنين 15 رجب وقال: الجمعة عيد المُسْلِمِين, والسبت عيد اليهود, وفى عسكرنا منهم خلق كثير، والأحد عيدنا نحن، فافترقنا على ذلك، وأضمر اللعين خلاف ما شرطناه وعلمناه أنهم أهل خدع ونقض عهود فأخذنا أهبة الحرب لهم، وجعلنا عليهم العيون ليرفعوا إلينا أحوالهم، فأتتنا الأنباء فى سحر يوم الجمعة 12 رجب أن العدو قد قصد بجيوشه نحو المُسْلِمِين، يرى أنه قد اغتنم فرصته فى ذلك الحين، فنبذت إليه أبطال المُسْلِمِين، وفرسان المجاهدين فتغشته قبل أن يتغشاها، وتعدَّته قبل أن يتعداها، وانقضت جيوش المُسْلِمِين على جيوشهم كانقضاض العقاب على عقيرته، ووثبت عليهم وثوب الأسد على فريسته، وقصدنا برايته السعيدة المنصورة فى سائر المشاهد مشتهرة ونظروا إلى جيوش لمتونة نحو ألفونسو - فلمَّا أبصر النصارى راياتنا المشتهرة المنتشرة، ونظروا إلى مراكبنا المنتظمة المظفرة، وأغشتهم بروق الصفاح, وأظلَّتهم سحائب الرماح, ونزلت بحوافر خيولهم رعود الطبول بذلك الفياح، فالتحم النصارى بطاغيتهم ألفونسو، وحملوا على المُسْلِمِين حملة منكرة؛ فتلقَّاهم المرابطون بنيَّات خالصة وهمم عالية، فعصفت ريح الحرب وركبت دائم السيوف والرماح، بالطعن والضرب، وطاحت المهج وأقلبت سيل الدماء فى هرج, ونزل من سماء الله على أوليائه النصر العزيز والفرج.
_________
(1) الروض المعطار، ص (95).
(2) المصدر السابق نفسه.(1/96)
وولَّى ألفونسو مطعونًا فى إحدى ركبتيه طعنة أفقدته إحدى ساقيه فى 500 فارس من ثمانين ألف فارس ومائتى ألف راجل قادهم الله على المصارع والحتف العاجل، وتخلَّص إلى جبل هنالك, ونظر النهب والنيران فى محلته من كل جانب وهو من أعلى الجبل ينظرها شذرًا، ويحيد عنها صبرًا، ولا يستطيع عنها دفعًا ولا لها نصرًا، فأخذ يدعو بالثبور والويل، ويرجو النجاة فى ظلام الليل، وأمير المُسْلِمِين يحمد الله؛ قد ثبتت فى وسط المعركة مراكبه المظفرة، تحت ظلال بنوده المنتشرة منصورًا لجهاد مرفوع الأعداء، ويشكر الله تعالى على ما منحه من نيل السؤال والمراد، فقد سرح الغارات فى محلاتهم تهدم بناءها، وتصطلم ذخائرها وأسبابها، وتريه رأى العين دمارها ونهبها، وألفونسو ينظر إليها نظر المغشى عليه، ويعض غيظًا وأسفًا على أنامل كفيه، فتتابعت البهرجة الفرار، رؤساء الأَنْدَلُس المهزومين نحو بطليوس والفار، فتراجعوا حذرًا من العار، ولم يثبت منهم غير زعيم الرؤساء والقوَّاد، أبو القاسم المُعْتَمِد بن عَبَّاد، فأتى أمير المُسْلِمِين وهو مهيض الجناح، مريض عنه وجراح، فهنأه بالفتح الجليل، وتسلَّلَ ألفنش تحت الظلام فارًا لا يهدى ولا ينام ومات من الخمسمائة فارس الذين كانوا معه بالطريق أربعمائة فلم يدخل طُلَيْطِلَة إلا مائة فارس والحمد لله على ذلك كثيرًا.
وكانت هذه النعمة العظيمة والمنة الجسيمة يوم الجمعة 12 رجب 479هـ/23 شهر أكتوبر 1086م .. العجمي (1).
وأرسل المُعْتَمِد إلى ابنه الرشيد فى إشبيلية يزفُّ إليه البشرى بالنصر، وكان الناس بانتظار الأنباء على أحرِّ من الجمر، وقد حمل الرسالة الحمام الزاجل وهى مقتضبة إذ لا تتعدى السطرين، هذا نصها: «اعلم أنه التقت جموع المُسْلِمِين بالطاغية ألفونسو اللعين ففتح الله للمُسْلِمِين وهزم على أيديهم المشركين والحمد لله رب العالمين، فأعلم بذلك من قبلك إخواننا المُسْلِمِين والسلام»، وقرئت الرسالة بمسجد إشبيلية فعمها السرور، ثم توالت الكتب تفيض بأخبار النصر منها إنشاء الكاتب ابن عبد الله بن عبد البر النمرى وفيه يحدد تاريخ المعركة وسيرها وما أظهره ألفونسو من الغدر والآخرة للصالحين (2).
وأصبح يوم الزِّلاقَة عند المغاربة والأَنْدَلُسيين مثل يوم القادسية واليرموك: «يوم لم
_________
(1) انظر: الحلل الموشية، ص (45 - 47).
(2) المصدر السابق، ص (47).(1/97)
يسمع بمثله من القادسية واليرموك، فياله من فتح ما كان أعظمه، يوم كبير ما كان أكرمه، فيوم الزِّلاقَة ثبتت قدم الدِّين بعد زلاقها وعادت ظلمة الحق إلى إشراقها».
نتائج معركة الزلاقة:
كانت لمعركة الزِّلاقَة نتائج مهمة من أهمها:
1 - رفع الروح المعنوية لأهل الأَنْدَلُس, خصوصًا بعد أن أنقذ الله بها سقوط سَرْقُسْطَة من سقوط محتَّم، وأزاح عن ملوك الطوائف وأمرائها كابوس النصارى ومتطلباتهم التى لا تنتهى من الجزية وغيرها.
2 - سقوط هيبة ملوك الطوائف أمام رعاياهم خاصَّة أنهم قد هزموا فى بدء المعركة ولولا أن أكرمهم الله بالمرابطين لضاعت الأَنْدَلُس.
3 - امتناع الرعية عن دفع الضرائب المخالفة لتعاليم الإسلام وتعلُّقهم بالمرابطين.
4 - مهَّدت الزِّلاقَة إلى إسقاط دول الطوائف فيما بعد على يد منقذيهم.
5 - ظهور نجم يوسف بن تاشفين والمرابطين فى العالم أجمع.
6 - انصياع قبائل المغرب التى كانت مترددة فى ولائها وتنتظر فرصة الوثوب على المرابطين، وبذلك تكون نتيجة معركة الزِّلاقَة أن جعلت تلك القبائل تخلد إلى السكينة وأعلنت ولاءها التام.
7 - عمت الأفراح أرجاء العالم الإسلامى فى شرقه وغربه وأعتقت الرقاب وسُرَّ العلماء والفقهاء بهذا النبأ السعيد.
8 - أصيب نصارى الإسبان بهزيمة تعيسة أثَّرت فى نفوسهم, وتحطمت آمالهم فى الاستيلاء على أراضى المُسْلِمِين فى الأَنْدَلُس وإبعادهم.
9 - جعلت النصارى يُرتِّبون أمورهم ويوحِّدون صفوفهم, ويتنازلون عن صراعاتهم الدَّاخلِيَّة.
وغير ذلك من النتائج المهمة التى غيرت مجرى تاريخ الأَنْدَلُس وبلاد المغرب.
بعد أن رتب الأمير يوسف أموره بعد معركة الزِّلاقَة عاد إلى إشبيلية، ودعا رؤساء الأَنْدَلُس إلى اجتماع عام، وطلب منهم الاتفاق والاتحاد ضد عدوهم المشترك الذى نخر فيهم بسبب اختلافهم؛ فأجابه الجميع بقبول وصيته وتحقيق رغبته، وترك ثلاثة آلاف(1/98)
جندى مرابطى للدفاع عن ثغور الأَنْدَلُس بقيادة سير بن أبى بكر (1).
رابعًا: رجوع الأمير يوسف إلى المغرب:
لقد عدد المؤرخون أسباب رجوع يوسف إلى المغرب وهو لم يجنِ ثمرة الانتصار بعد إلى أسباب منها:
1 - وفاة ابنه الأمير أبى بكر الذى استخلفه على سبتة وكان مريضًا.
2 - اضطراب الحدود الشرقية بسبب تحالف بنى حَمَّاد مع عرب بنى هلال وحاولوا غزو المناطق الحدودية التابعة للدولة المرابطية.
3 - أراد أن يتفقد الولاة والحُكَّام الذين تركهم فى المُدُن والقرى، وينظر فى أمور الرعية.
4 - أراد أن يخرج من إلحاح مسلمى الأَنْدَلُس الذين طلبوا منه تعقُّب ألفونسو وجنوده حيث إنه رأى إن قواته لا تستطيع أن تسيطر على كل الأَنْدَلُس لاتساع أراضيها.
5 - خشى من إبراهيم بن أبى بكر بن عمر الذى زعم أنه له حق شرعى فى استخلاف والده المجاهد الكبير.
إن نظرتى للتاريخ الإسلامى تؤكِّد لى معنى عظيمًا فى حياة أمتنا ألا وهو أن المعارك الفاصلة فى تاريخها المجيد لا تكون إلا لقوم أقاموا الشريعة على مستوى الشعب والجيش والقادة، وهذا المعنى واضح فى سيرة المرابطين الذين تدرَّجوا فى مراحلهم وأقاموا شرع ربهم على أنفسهم.
ولهذا أرى أن من أقوى الأسباب على الإطلاق فى نصر الله للمرابطين هو تمسكهم وتحكيمهم للقرآن والسنة على مستوى شعبهم ودولتهم وجيشهم وقائدهم، ولذلك يهمنا كثيرًا أن نبين أثر تحكيم شرع الله فى الأمم والشعوب والجيوش والأفراد.
* * *
_________
(1) انظر: الحلل الموشية، ص (45 - 47).(1/99)
المبحث الرابع
أثر الحكم بما أنزل الله على مجتمع المرابطين
تمهيد:
إن التأمُّل فى كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفى حياة الأمم والشعوب تعطى العبد معرفة أصيلة بأثر سنن الله فى الأنفس والكون والآفاق, وأوضح مكان لسنن الله وقوانينه كتاب الله تعالى, قال تعالى: {يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَن الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء:26].
وسنن الله تتضح بالدراسة فيما صحَّ عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمطالعة فى سنته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقد كان يقتنص الفرص والأحداث ليدل أصحابه على شيء من السنن، ومن ذلك أن
ناقته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «العضباء» كانت لا تُسبق، فحدث مرة أن سبقها أعرابى على قعود له، فشقَّ ذلك على أصحاب النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال لهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كاشفًا عن سنة من سنن الله: «حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه» (1).
وقد أرشدنا كتاب الله إلى تتبع آثار السنن فى الأمكنة بالسعى والسَّيْر، وفى الأزمنة من التَّارِيخ والسِّير.
قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِى الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ - هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:137، 138].
وأرشدنا القرآن الكريم إلى معرفة السنن بالنظر والتفكُّر، قال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِى الآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ - فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّى مَعَكُم مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [يونس:101، 102].
ومن خلال آيات القرآن يظهر لنا أن السنن الإلهية تختص بخصائص:
أولاً: أنَّها قدر سابق: قال تعالى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب ناقة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (ج6/ 86)، حديث رقم (2872).(1/100)
فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا} [الأحزاب:38].
أى أن حكم الله تعالى وأمره الذى يقدره كائن لا محالة، وواقع لا محيد عنه، ولا معدل، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
ثانيًا: أنَّها لا تتحول ولا تتبدل: قال تعالى: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى
قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِى الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً - مَلْعُونِينَ
أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً - سنة اللهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ
تَبْدِيلاً} [الأحزاب:60 - 62].
وقال: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا - سنة اللهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً} [الفتح:22، 23] (1).
ثالثًا: أنها ماضية لا تتوقف: قال تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأولينَ} [الأنفال:38].
رابعًا: أنها لا تُخالف ولا تنفع مخالفتها: قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِى الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ - فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا
كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ - فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ -
فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ فِى عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ
الْكَافِرُونَ} [غافر:82 - 85].
خامسًا: لا ينتفع بها المعاندون، ولكن يتعظ بها المتقون: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِى الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ - هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:137، 138].
سادسًا: أنها تسرى على البر والفاجر، فالمؤمنون - والأنبياء أعلاهم قدرًا - تسرى عليهم سنن الله, ولله سنن جارية تتعلق بالآثار المترتبة على من امتثل شرع الله أو أعرض
_________
(1) لقد استفدت من كتاب الحكم والتحاكم فى خطاب الوحي للشيخ عبد العزيز مصطفى كامل فى بيان أثر الحكم بما أنزل الله.(1/101)
عنه، وبما أن المرابطين التزموا بشرع الله فى كل شئونهم ومرُّوا بمراحل طبيعية فى حياة الدول فإن أثر حكم الله فيهم واضح وبيِّن.
وللحكم بما أنزل الله آثار دنيوية وأخرى أخروية, أمَّا الآثار الدنيوية التى ظهرت لى فى دراستى لشعوب الملثمين التى قامت بهم دولة المرابطين فعدة أمور منها:
أولاً: الاستخلاف والتمكين:
حيث نجد أن المرابطين منذ زعيمهم عبد الله بن ياسين حرصوا على إقامة شرع الله فى أنفسهم وأهليهم، وأخلصوا لله تحاكمهم فى سرِّهم وعلانيتهم، فالله سبحانه وتعالى قوَّاهم وشدَّ أزرهم حتى استخلفهم فى الأرض، وأقام المرابطون شريعة الله فى الأرض التى حكموها، فمكن لهم المولى عزَّ وجلَّ الملك, ووطأ لهم السلطان.
وهذه سنة ربَّانية نافذة لا تتبدل فى الشعوب والأمم التى تسعى جاهدة وجادة لإقامة شرع الله تعالى.
والمتأمل فى القرآن الكريم يجد هذه السنة ماضية فى الأفراد والشعوب والأمم، فيوسف عليه السلام استخلف فى الأرض بعد أن ابتُلى فأبلى وظهر منه أنه كان من المخلَصين، وعندما قال له الملك: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54] عرف أنه قد جاء أوان الاستخلاف، فاستعد لتبعته ونهض لحمل رسالته فقال: {قَالَ اجْعَلْنِى عَلَى
خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، وصار بهذا من أهل التمكين: {وَكَذَلِكَ
مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:56].
وقد بيَّن الله تعالى تحقُق سنة التمكين فى بنى إسرائيل، قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5].
وكان بعد وراثة الأرض والاستخلاف فيها أن منَّ الله عليهم بالتمكين إنفاذًا
لمشيئته السابقة، قال تعالى: {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرونَ} [القصص:6].
وبذلك تتضِح هذه السنة فى القرآن الكريم كما هى ملموسة فى واقع الأمم والشعوب.(1/102)
وقد خاطب الله تعالى المؤمنين من هذه الأمة واعدًا إياهم بما وعد به المؤمنين قبلهم، فقال سبحانه فى سورة النُّور: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأَرْضِ} [النور:55]. أى بدلاً عن الكفار {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من بنى إسرائيل (1)، فإذا حقق الناس الإيمان وتحاكموا إلى شريعة الرَّحمن، فستأتيهم ثمرة ذلك وأثره الباقى {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ} فتحقيق التحاكم إلى الدِّين يتحقق به الاستخلاف، وتحقيق الحكم به يوصل إلى الدِّين.
وهذا ما رأيته فى دراستى للدولة السُّنيَّة التى أقامها المرابطون.
ثانيًا: الأمن الاستقرار:
كانت بلاد المغرب قبل وصول المرابطين دويلات متنازعة فيما بينها، بل بعض هذه الدويلات لها معتقدات تخرجها عن الملة، كما أن قبائل الملثمين كانت متناحرة فيما بينها، وصراعهم مع الزنوج لم يستقر مما ولَّد لهم الخوف والإزعاج الشديد.
وبعد أن أكرم الله المرابطين بتوحيد قبائل صنهاجة، وساروا فى جهادهم المجيد سيرة حسنة، وتوحَّد المغرب الأقصى كلُّه، يسَّر الله لهم الأمن والاستقرار فى تلك الربوع التى حكم فيها شرع الله.
حيث نجد أن دولة المرابطين بعد أن استخلفت ومكَّن الله لها, أعطاها دواعى الأمن وأسباب الاستقرار حتى تُحافظ على مكانتها، وهذه سنة جارية ماضية ضمن اللهُ لأهل الإيمان والعمل بشرعه وحكمه أن ييسر لهم الأمن الذى ينشدون فى أنفسهم وواقعهم, فبيده - سبحانه - مقاليد الأمور، وتصريف الأقدار، وهو مقلب القلوب، والله يَهَبُ الأمن المطلق لمن استقام على التوحيد وتطهر من الشرك بأنواعه.
قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام:82]. فنفوسهم فى أمن من المخاوف ومن العذاب والشقاء, إذا خلصت لله من الشرك صغيره وكبيره. إن تحكيم شرع الله فيه راحة للنفوس لكونها تمس عدل الله ورحمته وحكمته، إن الله تعالى بعد أن وعد المؤمنين بالاستخلاف ثم التمكين لم يحرمهم
_________
(1) انظر: تفسير الجلالين، ص (466).(1/103)
بعد ذلك من الأمن والطمأنينة والبعد عن الخوف والفزع، قال تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئًا} [النور:55]. وإن تحقيق العبودية لله ونبذ الشرك بأنواعه يحقق الأمن فى النفوس على مستوى الأفراد والشعوب.
وهذا ما حدث لقيادات المرابطين وشعبهم الذى انقاد لمنهج رب العالمين.
ثالثًا: النصر والفتح:
إن المرابطين حرصوا على نصرة دين الله بكل ما يملكون، وتحققت فيهم سنة الله فى نصرته لمن ينصره, لأن الله ضمن لمن استقام على شرعه أن ينصره على أعدائه بعزَّته وقوَّته، قال تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إن اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ - الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:40،41].
يقول سيد قطب رحمه الله: «وما حدث قط فى تاريخ البشرية أن استقامت جماعة على هدى الله إلا منحها القوة والمنعة والسيادة فى نهاية المطاف لإعدادها لحمل أمانة الخلافة فى الأرض وتصريف الحياة. . إن الكثيرين ليشفقون من اتباع شريعة الله والسير على هداه، يشفقون من عداوة أعداء الله ومكرهم، ويشفقون من تألُّب الخصوم عليهم، ويشفقون من المضايقات الاقتصادية وغير الاقتصادية، وإن هى إلا أوهام كأوهام قريش يوم قالت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص:57].
فلمَّا اتبعت هدى الله سيطرت على مشارق الأرض ومغاربها فى ربع قرن أو أقل من الزمان» (1). إن الله تعالى أيد المرابطين على الأعداء ومنَّ عليهم بالفتح؛ فتح الأراضى وإخضاعها لحكم الله تعالى، وفتح القلوب وهدايتها لدين الإسلام.
إن المرابطين عندما استجابوا وانقادوا لشريعة الله جلبت لهم الفتح، واستنزلت لهم نصر الله.
إن الحُكَّام والشعوب الإسلاميَّة التى تبتعد عن شريعة الله تذل نفسها فى الدنيا والآخرة.
_________
(1) فى ظلال القرآن، (ج4/ 2407).(1/104)
إن مسئولية الحُكَّام والقضاة والعلماء فى الدعوة إلى تحكيم شرع الله مسئولية عظيمة يُسألون عنها يوم القيامة أمام الله، قال ابن تيمية - رحمه الله-: «إذا حكم ولاة الأمر بغير ما أنزل الله، وقع بأسهم بينهم. . وهذا من أعظم أسباب تغيُّر الدول كما جرى هذا مرة بعد مرة فى زماننا وغير زماننا، ومَن أراد الله سعادته جعله يعتبر بما أصاب غيره، فيسلك مسلك مَن أيده الله ونصره، ويجتنب مسلك مَن خذله الله وأهانه، فإن الله يقول فى كتابه: {وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إن اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} إلى {وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:40،41].
فقد وعد الله بنصر من ينصره، ونصره هو نصر كتابه ودينه ورسوله، لا نصر مَن يحكم بغير ما أنزل الله ويتكلم بما لا يعلم (1).
رابعًا: العز والشرف:
إن عز المرابطين وشرفهم العظيم الذى سُطِّر فى كتب التَّارِيخ يرجع إلى تمسُّكِهم بكتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إن مَن يعتز بالانتساب لكتاب الله الذى به تشرُف الأمة، وبه يعلو ذكرها وضع رجله على الطريق الصحيح وأصاب سنة الله الجارية فى إعزاز وتشريف من يتمسك بكتابه وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 10].
قال ابن عبَّاس - رضى الله عنهما- فى تفسير هذه الآية: فيه شرفكم (2)، فهذه الأمة لا تستمد الشرف والعزة إلا من استمساكها بأَحكام الإسلام، كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «إنَّا كنَّا أذل قوم، فأعزَّنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله أذلنا الله» (3)، فعمر - رضي الله عنه - كشف لنا بكلماته عن حقيقة الارتباط بين حال الأمة عزًا وذلاً، مع موقفها من الشريعة إقبالاً وإدبارًا، فما عزَّت فى يوم بغير دين الله، ولا ذلَّت فى يوم إلا بالانحراف عنه.
قال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر:10] يعنى من طلب العزة
_________
(1) مجموع الفتاوى (ج35/ 388).
(2) انظر: تفسير ابن كثير (ج3/ 170).
(3) أخرجه الحاكم فى المستدرك فى الإيمان (ج1/ 62).(1/105)
فليعتز بطاعة الله عزَّ وجلَّ (1).
وقال تعالى: {وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8].
إننى عندما مررت بسيرة الإمام ابن ياسين ذكرت وصفه بأنَّه ذو مَهَابَة عظيمة فى نفوس أتباعه, ونال شرفًا وعزة فى قومه.
وعندما مررت بسيرة الإمام أبى بكر بن عمر، ذكرتُ أنه إذا ركب للجهاد ركب معه 500 ألف من قومه يجاهدون معه.
وعندما ذكرت سيرة الأمير يوسف بن تاشفين ذكرت وصفًا له كأنه خُلق للزعامة.
ورأيت فى سيرة هؤلاء الأبطال عزًّا وشرفًا نالوه بالاستعلاء على شهوة النفس وبالاستعلاء على القيد والذُّل، كان استعلاؤهم على الخضوع الخانع لغير الله واضحًا فى سيرتهم العطرة، كانت حياتهم خضوعاً لله وخشوعا، وخشية لله وتقوى ومراقبة لله فى السراء والضراء، وهذا هو سرُّ عزهم وشرفهم فى تاريخنا الإسلامى المجيد.
لقد عاش المرابطون فى بركة من العيش، ورغد من الحياة الطيبة التى وصلوا إليها بإقامة دين الله.
قال تعالى: {وَلَوْ إن أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96].
خامسًا: انتشار الفضائل وانزواء الرذائل:
لقد انتشرت الفضائل فى عصر المرابطين وانحسرت الرذائل، فخرج جيل فيه نبل وكرم وشجاعة وعطاء وتضحية من أجل العقيدة والشريعة، متطلعًا إلى ما عند الله من الثواب, يخشى من عقاب الله؛ لقد استجاب ذلك المجتمع بشعبه ودولته وحُكَّامه إلى ما يُحييه من الإيمان والقرآن وسنة سيد الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام.
إن آثار تحكيم شرع الله فى الشعوب التى نفذت أوامر الله، ونواهيه ظاهرة بينة لدارس التَّارِيخ، وإن تلك الآثار الطيبة التى أصابت دولة المرابطين لهى سنن من سنن الله
_________
(1) ابن كثير (ج2/ 526).(1/106)
الجارية والماضية التى لا تستبدل ولا تتغير، فأى شعب يسعى لهذا المطلب الجليل والعمل العظيم يصل إليه ولو بعد حين، ويرى آثار ذلك التحكيم على أفراده ودولته وحُكَّامه.
إن الغرض من الأبحاث التَّارِيخية الإسلاميَّة الاستفادة الجادة من أولئك الذين سبقونا بالإيمان؛ فى جهادهم وعلمهم وتربيتهم وسعيهم الدءوب لتحكيم شرع الله، وأخذهم بسنن التمكين وفقهه, ومراعاة التدرُّج والمرحلية، والانتقاء من الشعب والارتقاء بهم نحو الكمالات الإسلاميَّة المنشودة.
إن الانتصارات العظيمة فى تاريخ أمتنا يجريها الله تعالى على يدى مَنْ أخلص لربه ودينه، وأقام شرعه، وزكَّى نفسه، ولهذا لم يأت فتح الزِّلاقَة مِن فراغ, لقد جاهد المرابطون فى الأَنْدَلُس وحققوا نصرًا عظيمًا وفتحًا مبينًا فى معركة الزِّلاقَة وأنقذَ الله بهم المُسْلِمِين.
* * *(1/107)
المبحث الخامس
الأندلس بعد الزلاقة
بعد رجوع يوسف بن تاشفين إلى المغرب للأسباب التى ذكرتها تولى قيادة المرابطين القائد الميدانى سير بن أبى بكر, الذى واصل غاراته الناجحة مع أمير بطليوس على أواسط البرتغال الحالية مما يلى تاجة، وقد أثخنتْ قواتُه مع قوات المرابطين فى تلك البقاع.
كما وجَّه المُعْتَمِد بن عَبَّاد ضربات موفقة بقيادته إلى عدة مُدُن حول طُلَيْطِلَة, ثم اتجه نحو أرض مرسية، حيث استقرَّت جموع الفرسان النصارى بقيادة الكنبيطور فى أحد الحصون القريبة التى تشن غاراتها على مُدُن المسلمين, خاصة مدينة المرية, إلا أن المُعْتَمِد انهزم واضطرَّ أن يلتجئ إلى قلعة لورقة فى كنف واليها مُحَمَّد بن ليون, ثم توجه نحو قرطبة تاركًا مرسية لمصيرها.
وبدأت قوات النصارى تتجمع حول ألفونسو الذى أربك مُدُن شرق الأَنْدَلُس, متخذين من حِصن لييط المنيع الواقع على مسيرة يوم من لورقة مركزًا لشنِّ الغارات على أراضى المُسْلِمِين.
فلم يمض عام واحد على هزيمة ألفونسو حتى عاد نشاطه وجيشه, ونقل مقر العمليات إلى شرق الأَنْدَلُس الذى خيمت عليه الفرقة السياسية, بعكس غرب الأَنْدَلُس الذى كانت تحكمه مملكتان قويتان هما مملكة إشبيلية وبطليوس, تعضدهما فرقة من المرابطين قوامها ثلاثة آلاف رجل على رأسها القائد العظيم سير بن أبى بكر (1).
تأذى أهل غرب الأَنْدَلُس من النصارى الحاقدين فتوافدت وفودهم على الأمير يوسف, وخصوصًا أهل بلنسية ومرسية ولورقة, يصفون للأمير يوسف ما نزل بهم على أيدى النصارى الذى يتحكمون فى حصن لييط.
وعبر المُعْتَمِد المجاز إلى المغرب وطلب من يوسف العبور، فاستجاب يوسف لرغبته، تمَّ جواز يوسف إلى الجزيرة الخضراء فى ربيع الأول سنة 481هـ/ 1088م, ومن هناك
_________
(1) تاريخ المغرب والأندلس, ص (62).(1/108)
كتب الأمير يوسف إلى جميع أمراء الأَنْدَلُس يدعوهم إلى الجهاد، ثم تحرَّك الأمير يوسف إلى مالقة فى صحبة أميرها تميم بن بلقين، كما لحق الأمير عبد الله بن بلقين صاحب غرناطة, والمعتصم بن صمادح، فضلاً عن المُعْتَمِد بن عَبَّاد، بالإضافة إلى أمراء مرسية وشقورة وبسطة وجيان، ولم يتخلف من ملوك الطوائف سوى ابن الأفطس صاحب بطليوس، وتوجهت تلك الجموع لضرب الحصار على حصن لييط الذى كان يسكنه ألف فارس واثنا عشر ألفًا من المشاة من جنود النصارى الحاقدين أصحاب النزعة الصليبية الانتقامية، واستبسل النصارى فى الدفاع عن الحصن وكانوا يخرجون ليلاً للانقضاض على المُسْلِمِين وإلحاق الخسائر بهم.
واستمرَّ الحصار بدون جدوى وظهرت صراعات ملوك الطوائف فيما بينهم ووصلت للأمير يوسف الذى ساءه ذلك كثيرًا.
وشكى المُعْتَمِد بن عَبَّاد للأمير يوسف خروج ابن رشيق صاحب مرسية عن الطاعة ودفعه الأموال لألفونسو السادس تقربًا إليه، وظهرت المشاكل بين أبناء بلكين
عبد الله وتميم للأمير يوسف، وكأن لا عمل له إلا حل المشاكل والمنازعات بين
الأطراف المتنازعة.
وتضايق الأمير يوسف من خيانة ابن رشيق الذى دفع أموالاً طائلة لألفونسو, وعرض الأمر على الفقهاء والعلماء الذين أفتوا بإزاحته من حكمه وتسليمه للمُعْتَمِد، واستغاث ابن رشيق بالأمير يوسف الذى أجابه بأنَّها أَحكام الدِّين ولا يستطيع مخالفتها (1).
وأمر القائد سير بن أبى بكر باعتقاله وتسليمه للمُعْتَمِد مشترطًا عليه إبقاءه حيًّا (2).
وكانت لفتوى الفقهاء عند قادة المرابطين مكانة عظيمة يضعونها فوق كل اعتبار.
وفرَّ جيش ابن رشيق من المعركة، ومنع الزاد على جيش المرابطين ومَن معه من الأَنْدَلُسيين الذين يحاصرون الحصن، فارتفعت الأسعار، ووقع الغلاء واضطربت الأحوال، وعندما علم ألفونسو بالخلافات التى وقعت حشد جيشًا من أجل فك الحصار عن أتباعه فى حصن لييط، فاضطرَّ الأمير يوسف إلى فك الحصار خوفًا من معركة خاسرة غير مأمونة النتائج خاصة بعد الذى رآه من
_________
(1) مذاكرات الأمير عبد الله, ص (112).
(2) انظر: دولة المرابطين، ص (108).(1/109)
حُكَّام الأَنْدَلُس وتآمرهم واتصالهم بالعدو، ورجع الأمير يوسف إلى لورقة وترك أربعة آلاف مرابطى بقيادة داود ابن عائشة للمحافظة على منطقة مرسية وبعث بجنود إلى بلنسية بقيادة مُحَمَّد بن تاشفين (1).
واستطاع ألفونسو الوصول للحصن وأخرج من نجا من الموت، ورأى أن لا فائدة من الاحتفاظ بالحصن, لأنَّه يتطلب حماية كبيرة معرضة لمصير سابقاتها فقرَّر إخلاءه وتدميره, واسترجع ابن عَبَّاد الحصن بعد أن أصبح أطلالاً.
لقد أيقن الأمير يوسف إن أمراء الأَنْدَلُس لا يصلحون للحكم ولا يعتمد عليهم فى جهاد، وبعد رجوع الأمير يوسف فى عام 482هـ/1089م عرض الأمر على الفقهاء والعلماء فأفتوا له بضم الأَنْدَلُس للمغرب.
وكان فقهاء وعلماء الأَنْدَلُس يؤيدون ذلك، وكذلك فقهاء وعلماء المغرب والمشرق، وأرسل الإمام الغزالى وأبو بكر الطرطوشي (2) فتوى تؤيد عمله الجليل من أجل توحيد صفوف المُسْلِمِين.
يقول الغزالي فى شأن أمراء الطوائف: فيجب على الأمير وأشياعه قتال هؤلاء المتمردة ولا سيما وقد استنجددوا بالنصارى (3)، فقد أفتاه العلماء بجواز خلعهم وإزاحتهم، وبأنه فى حل مما تعهد لهم به من الإبقاء عليهم في جوازه الأول، لأنهم خانوا الله بمعاهدتهم ألفونس على محاربة المسلمين؛ وبالتالي فإن عليه أن يبادر إلى خلعهم جميعًا، فإنك إن تركتهم وأنت قادر عليهم، أغاروا بقية بلاد المسلمين إلى الروم وكنت أنت المحاسب بين يدي الله (4)، وكان ممن استفتى في هذا الموضوع الفقيه يوسف بن عيسى المعروف بأبي الملجوم (5).
وطلب القضاة والفقهاء من يوسف أن يرجع ويوحد البلاد بالقوة، لتدخل تحت الخلافة الإسلاميَّة فى بغداد.
لقد كان ملوك الطوائف يهتمون بمصالحهم الخاصة لا ينظرون إلى عزة أمتهم حتى
_________
(1) ابن خلدون, العبر، (ج6، ص 187).
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) رسائل أبي بكر بن العربي، تحقيق د. عصمت دندش ص 198.
(4) الاكتفاء لابن الكردبوس ص (106).
(5) الأثر السياسي للعلماء في عصر المرابطين، محمد بن بيّه ص (155).(1/110)
وصفهم ابن حزم بقوله: «لو وجدوا فى اعتناق النصرانية وسيلة لتحقيق أهوائهم ومصالحهم لما ترددوا» (1).
وكان المُسْلِمُون فى الأَنْدَلُس يتمنون أن ينضموا إلى دولة المرابطين, وعبَّر عن ذلك فقهاؤهم وعلماؤهم وبرز الفقيه القاضى ابن القلاعى «قاضى غرناطة» , الذى توطدت العلاقة بينه وبين يوسف بن تاشفين منذ ذهاب أول بعثة إلى المغرب لطلب النجدة، إذ كان أحد أعضائها, وكان يرى فى الأمير يوسف صلاحًا وعدلاً وحزمًا.
حاول الأمير عبد الله ابن ملك غرناطة أن يتخلص منه فاعتقله, ثم اضطر
إلى إطلاق سراحه، فهرب إلى قرطبة، ومن هناك اتصل بالأمير يوسف وأطلعه على خفايا من الأمور، وأفتى بخلع ملوك الطوائف, وتفاعل مسلمو الأَنْدَلُس مع هذه
الفتوى الموفَّقَة (2).
* * *
_________
(1) رسالة ابن حزم, نقلاًً عن دول الطوائف, محمد عبد الله عنان, ص (406).
(2) دولة المرابطين، ص (113).(1/111)
المبحث السادس
فتوى فى جواز ضم الأندلس بالقوة والقضاء على ملوك الطوائف
أرسل الإمام أبو بكر بن العربى المالكى إلى الإمام الغزالى كتابًا يشرح فيه موقف ملوك الطوائف بالأَنْدَلُس من حركة يوسف بن تاشفين الجهادية، ويطلب منه فتيا فى ذلك، قال الإمام أبو بكر بن العربي: «وكان أشهر من لقينا من العلماء فى الآفاق، ومن سارت بذكره الرفاق، ولطول باعه فى العلم ورحب ذراعه، الإمام أبو حامد بن مُحَمَّد الطوسى الغزالي، فاستدعينا منه فتيا وكتابًا، واختصرت لفظ الفتيا لوقت ضاق عن تقييدها لكن أنبه على معناها وهو: فى علم الإمام ما ذكر فى وصف خلال أمير المُسْلِمِين وناصر الدِّين أبى يعقوب يوسف بن تاشفين أمير المغربين الأَنْدَلُس والعدوة، وما أوضحت لديه من إعزاز الدِّين، والذب عن المُسْلِمِين، وهو حميرى النسب ومعه المرابطون، وقد وقفوا أنفسهم على الجهاد، وقد كانت جزيرة الأَنْدَلُس قد تملَّكها من تاريخ ابتداء الفتنة سنة أربعمائة, عدة ثوار تسوروا على البلاد، فضعف أهلها عن مدافعتهم، وتلقَّبُوا بألقاب الخلفاء وخطبُوا لأنفسهم، وضربوا النقود بأسمائهم، وأثاروا الفتنة بينهم لرغبة كلِّ واحد منهم فى الاستيلاء على صاحبه، واستبانوا الفُسَّاق فى الأرقاء والصنائع الطلقاء فى محاربة بعضهم بعضًا، واستنجدوا بالنصارى عندما اعتقد كل واحد منهم أنه أحق من صاحبه، وعند ذهاب شوكة المُسْلِمِين، وحينما انكشف للنصارى ضعف المُسْلِمِين، وعلموا المداخل والمخارج إلى بلاد المُسْلِمِين، طلبوا المعاقل وأخذوا بالحرب كثيرًا منها من غير مؤونة ولا مشقَّة، ثم لجأ الباقى من المُسْلِمِين إلى المرابطين واستصرخوهم فلباهم أمير المُسلِمين ووصل إلى البحر، فاستاء بعض الرؤساء وفاءً للمشركين، وحقدًا على المُسْلِمِين فى استدعائهم له، ووصل الأمير إلى غرب الأَنْدَلُس فمنحه الله نصرًا، وألجم الكفار السيف، ثم عاود الجواز فى العام الثالث من هذا الفتح فتهيبه العدو،
وتحصَّن منه، ولم يخرج للقائه مع تثاقل الرؤساء عنه، وعثر لأحدهم على خطاب يشجع العدو على اللقاء، واستولى على من قدر عليه من الرؤساء من البلاد والمعاقل، وبقيت طائفة من رؤساء الثغر الشرقى من جزيرة الأَنْدَلُس، حالفوا النصارى أو صاروا معه إلبًا، ودعاهم أمير المُسْلِمِين إلى الجهاد، والدخول فى بيعة الجمهور، فقالوا: لا جهاد إلا مع إمام من قريش، ولست به، أو مع نائب عن الإمام، وما(1/112)
أنت ذلك، فقال: أنا خادم الإمام العبَّاسي، فقالوا له: أظهر لنا تقديمه إليك، فقال: أو ليست الخطبة فى جميع بلادى له؟ فقالوا: ذلك احتيال. ومردوا على النفاق، فهل يجب قتالهم؟ وإذا ظفر بهم كيف الحكم فى أموالهم؟ وهل على المسلم حرج فى قتالهم؟ وهل على الإمام العبَّاسى أن يبعث بمنشور يتضمن تقديمه له على جهادهم، فإنهم إنَّما خرجوا عليه بأن الأمير خادمه، وهو يخطب له على أكثر من ألفى منبر، وتضرب السكة باسمه إلى غير ذلك، ومتى وصف نفسه قال: لست مستبدًّا وإنما خادم أمير المؤمنين المستظهر، وهذا أشهر أن يؤكد بالتحلية, وأظهر من أن يجدد بالتزكية.
فللشيخ الإمام الأجل الزاهد والأوحد أبى حامد أتم الأجر، وأعم الشكر فى الإنعام بالمراجعة فى هذا السؤال إن شاء الله تعالى (1).
أولاً: فتوى الإمام الغزالى فى موقف كل من يوسف بن تاشفين وملوك الطوائف والخلافة العباسية:
فأجاب الإمام الغزالى رحمه الله: «لقد سمعت من لسانه وهو الموثوق به الذى يستغنى عن شهادته عن غيره وعن طبقة من ثقاة المغرب الفقهاء وغيرهم، من سيرة هذا الأمير -أكثر الله من الأمراء أمثاله - ما أوجب الدعاء لأمثاله، ولقد أصاب الحق فى إظهار الشعار الإمامى المستظهرى- حرس الله على المستظهرين ظلاله- وهذا هو الواجب على كل ملك استولى على قطر من أقطار المُسْلِمِين فى مشارق الأرض ومغاربها، فعليهم تزيين منابرهم بالدعاء للإمام الحقِّ، وإن لم يكن بلغهم صريح التقليد من الإمام، أو تأخر عنهم ذلك لعائق، وإذا نادى الملك المستولى بشعار الخلافة العباسية، وجب على كل الرعايا والرؤساء الإذعان والانقياد، ولزمهم السمع والطاعة، وعليهم أن يعتقدوا أن طاعته هى طاعة الإمام، ومخالفته هى مخالفة الإمام، وكل من تمرد واستعصى وسل يده عن الطاعة، فحكمه حكم الباغي، وقد قال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ} [الحجرات:9]. والفيئة إلى أمر الله، الرجوع إلى السلطان العادل المتمسك بولاء الإمام الحق المنتسب إلى الخلافة العباسية، فكل متمرد على الحق فإنه مردود بالسيف إلى الحق، فيجب على الأمير وأشياعه قتال هؤلاء المتمردة عن طاعته، ولا سيَّما وقد استنجدوا بالنصارى المشركين وأوليائهم, وهم أعداء الله فى مقابلة المُسْلِمِين الذين هم أولياء الله، فمن أعظم
_________
(1) انظر: دراسات فى تاريخ المغرب، د. أحمد العبادي، ص (479 - 480).(1/113)
القربات قتالهم إلى أن يعودوا إلى طاعة الأمير العادل المتمسك بطاعة الخلافة العباسية, ويتركوا المخالفة، وجب الكفُّ عنهم، وإذا قاتلوا لم يَجُز أن يُتَتَبَّعَ مدبرهم، ولا أن يُذَفَّف (1)
على جريحهم, بل متى سقطت شوكتهم وانهزموا، وجب الكفُّ عنهم، أعنى عن المُسْلِمِين منهم دون النصارى الذين لا يبقى لهم عهد مع التشاغل بقتال المُسْلِمِين، وأما ما يظفر به من أموالهم فمردود عليهم أو على وريثهم، وما يؤخذ من نسائهم وذراريهم فى القتال مهدرة لا ضمان فيها وحكمهم فى الجملة فى البغى على الأمير المتمسك بطاعة الخلافة، والمستولى على المنابر والبلاد بقوة الشوكة حكم الباغى على نائب الإمام، فإنه وإن تأخَّر عنه صريح التقليد لاعتراض العوائق المانعة من وصول المنشور بالتقليد فهو نائب بحكم قرينة الحال، إذ يجب على الإمام المصر أن يأذن لكل إمام عادل استولى على قطر من أقطار الأرض، فى أن يخطب عليه، وينادى بشعاره ويحمل الخلق على العدل والنصفة، ولا ينبغى أن يظن بالإمام توقف فى الرضا بذلك والإذن فيه.
وإن توقَّف فى كتبه المنشور، فالكتب قد يعوق عن إنشائها وإيصالها المعاذير، وأما الإذن والرضا بعدما ظهر حال الأمير فى العدل والسِّيَاسَة وابتغاء المصلحة للتفويض والتعيين فلا رخصة فى تركه، وقد ظهر حال هذا الأمير بالاستفاضة ظهورًا لا شك فيه، وإن لم يكن عن إيصال الكتاب وإنشائه عائق، وكانت هذه الفتنة لا تنطفئ إلا بأن يصل إليهم صريح الإذن والتقليد بمنشور مقرون بما جرت العادة بمثله فى تقليد الأمراء، فيجب على حضرة الخلافة بذل ذلك.
فإن الإمام الحق عاقلة أهل الإسلام، ولا يحلُّ له أن يترك فى أقطار الأرض فتنة ثائرة إلا ويسعى فى إطفائها بكل ممكن، قال عمر - رضي الله عنه -: «لو تركت جرباء على ضفة الفرات، لم تطل بالهناء، فأنا المسئول عنها يوم القيامة» , قال سليمان بن عبد الملك يومًا وقد أحدق به الناس: «قد كثر الناس» فقال عمر بن عبد العزيز: «خصماؤك يا أمير المؤمنين» , يعنى أنَّك مسئول عن كل واحد منهم إن ضيعت حق الله فيهم أو أقمته، فلا رخصة فى التوقيف عن إطفاء الفتنة فى قرى تحوى عشرة، فكيف فى أقاليم وأقاليم إلا أن يعوق عن ذلك عائق، ويمنع منه مانع، المواقف القدسية الإمامية المستظهرية حرس الله جلالها أبصر بها, ونحن نعلم أن لا نستجيز التوقف عن إطفاء هذه الفتنة إلا لعذر ظاهر وجب على أهل الغرب أن لا يعتقدوا فى حضرة الخلافة إلا ذلك،
_________
(1) لا يذفف: لا يجهز ..(1/114)
فإن المسافة إذا بعدت وتخللها المارقون عن ربقة الحق، ولم يبعد أن يقتضى الرأى الشريف صيانة الأوامر الشريفة عن أن تمد إليها أعين الدولة فضلاً عن أيديهم، وأمَّا مَن يستجيز التوقُّف فيها من غير عذر عن التقليد لأمير قد ظهرت شوكته وعرفت سياسته، وتناطقت الألسن بعدله، ولم يعرف فى ذلك القطر من يجرى مجراه، ويسد فى هذا الحال مسده، فهذا اعتقاد فساد فى حضرة الخلافة, حاشاها من أن تُنسَب إلى قصور، أو تقتضى فى نصرة أهل العدل المتمسكين بخدمتها، والمعتصمين بعروتها، والقائمين فى أقطار الأرض بإنفاذ شعائرها وأوامرها المعلومة بقرائن الأحوال، فهذا حكم كل أمير عادل فى أقطار الأرض، وحكم من بغى عليه، والله أعلم (1).
يتضح لى من فتوى الإمام الغزالى أن رأيه فى قتال يوسف بن تاشفين لملوك الطوائف مبنى على كون أولئك الملوك من البُغاة والخارجين عن سلطة الدولة المرابطية التابعة للخلافة الإسلاميَّة.
وبهذا يتضح أن الفقهاء والعلماء رأوا ضرورة ضم الأَنْدَلُس لقيادة المغرب الأقصى بعد أن فرَّط أمراء الأَنْدَلُس فى أمور الشرع ومصالح الرعية, وحالفوا النصارى ضد إخوانهم المُسْلِمِين.
ولا شكَّ فى أن ما فعله الأمير يوسف ضد ملوك الطوائف صحيح من الناحية الشرعية والاستراتيجية العسكرية والمنطلقات السياسية.
بل فى رأيى أن وجود ملوك الطوائف مفسدة عظيمة، والسعى لإزالتهم خطوة نحو توحيد الصفوف، ونجد كُتابًا من الغرب وأذيالاً لهم من أبناء المُسْلِمِين يصفون ما فعله الأمير يوسف ضد ملوك الطوائف بأنَّه خروج عن الإنسانية، ودليل على الهمجية، حسب وجهة نظرهم المغشوشة، وتصوُّرِهم المغلوط، أمَّا بالنسبة للمؤرخ المسلم فإن ما قام به يوسف يعتبر عملاً عظيمًا قدَّمه للأمة، وحفظ به الإسلام فى الأَنْدَلُس من انهيار مُحقَّق، وضبط الأمور بعزم وحزم بعد فوضى وضياع وخنوع واستسلام مارسه ملوك الطوائف دون اهتمام بدين أو شعب أو عقيدة.
لقد تميَّز يوسف بن تاشفين بوفائه التام للعهود، وابتعاده عن الأطماع الدنيوية، وحرصه على إعزاز الدِّين، وإزاحة العوائق التى تحول دون وحدة المُسْلِمِين، ولذلك أقدم
_________
(1) انظر: دراسات فى تاريخ المغرب والأندلس، د. أحمد عبادي, ص (484).(1/115)
على الخطوة المباركة من أجل توحيد الأَنْدَلُس، وضمها تحت قبضة دولته الميمونة التابعة للخلافة العباسية السُّنيَّة.
إن كثيرًا من الحُكَّام المعاصرين المتسترين بالدِّين، والذين يحالفون النصارى الحاقدين واليهود الماكرين وأشياعهم وأتباعهم الكافرين, واجب على الدولة الإسلاميَّة السُّنيَّة الفتية أن تعمل على تخليص المُسْلِمِين من قبضتهم وتضمها إليها، وتسعى من أجل تحقيق ذلك بكل الأمور الشرعية المعروفة.
وإذا تعذَّر وجود دولة سُنية لها هموم إسلاميَّة وتطلعات شرعية فعلى الحركات الإسلاميَّة أن توحِّد صفوفها للوصول إلى هذا الهدف المنشود، ومن ثم السعى لتوحيد الأمة تحت دولة إسلاميَّة تقوم على عقيدة التوحيد، وتحكمها شريعة الرب المجيد, وإذا ما وصلت أى حركة معاصرة إلى ذلك الهدف المذكور تجد نفسها تحتاج إلى فتاوى شرعية وتجارب لتستأنس بها فى مسيرتها المباركة، ولذلك أرى من الفائدة العميمة والخبرة الرشيدة دراسة الدول الإسلاميَّة التى قامت، واجتهاداتهم فى الحروب، وتربيتهم للشعوب، لنسترشد بها ولنطورها على حسب متطلبات المرحلة التى نمرُّ بها.
ولذلك نجد أن الأمم عمومًا عندما تعد طلائع قيادية تهتم بدراسة الشعوب والحركات التحررية، والثورات الإنسانية لتكون رصيدًا لأولئك الذين يعدون ويربون على قيادة أمتهم فى المستقبل المنظور.
إن العقلية الضيقة المتحجرة عندما تكون فى سُدة القيادة لا تستطيع أن ترتقى بجنودها، وتجد نفسها تصطدم اصطدامًا عنيفًا مع مستجدات الحياة ومشاكلها المعقدة.
إن تجارب التَّارِيخ الإسلامى تُكسب الطلائع القيادية للحركة الإسلاميَّة المعاصرة خبراتٍ مهمة فى مجال البناء والحركة والتنظيم والتكوين والتنفيذ والتمكين.
إن دروس التَّارِيخ تعلمنا أن العلماء الربَّانيين، والفقهاء العاملين لهم مكانة فى نفوس شعوبهم، ومَهَابَة عند حُكَّامِهم، ولفتاويهم شأنٌ عظيم فى شئون الحُكم والدول والحروب وعزل الملوك وتوليةِ غيرهم. . . إلخ.
* * *(1/116)
المبحث السابع
العبور الثالث للأمير يوسف بن تاشفين للأندلس
بعد طلب العلماء والفقهاء في الأَنْدَلُس والمغرب والمشرق من الأمير يوسف أن يضُمَّ الأَنْدَلُس إلى دولة المرابطين الفتية التابعة للخلافة العباسية السُّنيَّة، عبر الأمير يوسف بقوة ضخمة, عبرت من سبتة إلى الجزيرة الخضراء وسار على رأس جيشه إلى طُلَيْطِلَة وأرسل فرقاً من جيشه نحو مختلف المدن، وسار بنفسه نحو مدينة غرناطة.
واستطاع أن يفتحَ غرناطة بعد شهرين من حصارها واعتقل أميرها، عبد الله بن بلكين الصنهاجى الذى تحالف مع النصارى من أجل أملاكه، ثم أرسله أسيرًا إلى المغرب، واستقرَّ فى أغمات بالقرب من مراكش (1).
وحاول المُعْتَمِد بن عَبَّاد والأفطس أن يثنيا الأمير يوسف عن عزمه، ولكنَّه رفض مقابلتهما, وأيقنا أن زوالهما قريب.
وألقى المرابطون القبض على تميم بن بلكين والى مالقة وأرسل إلى إفريقية، ثم رجع الأمير يوسف إلى سبتة، وتولَّى القيادة السياسية والعسكرية القائد المحنك سير بن أبى بكر، وبدأ الأمير يوسف فى إرسال الجيوش من المغرب إلى الأَنْدَلُس للقضاء الكلى على ملوك الطوائف، وأصبحت القوة المرابطة فى الأَنْدَلُس قوة ضاربة لا يستطيع أحد الصمود أمامها، وقسم الأمير يوسف جيش المرابطين إلى أربعة أقسام:
1 - جيش بقيادة سير بن أبى بكر توجَّه إلى إشبيلية.
2 - وجيش سار إلى قرطبة بقيادة أبى عبد الله بن الحاج وواليها، آنذاك، ولد المُعْتَمِد الفتح أبو النصر.
3 - وسار جرور اللمتونى إلى أرض رندة بجيش ثالث، وفيها ولد آخر للمُعْتَمِد وهو يزيد الراضى بالله.
_________
(1) انظر: معركة الزلاقة، ص (62).(1/117)
4 - وسار أبو زكريا بن واسندوا إلى المرية التى فيها المعتصم بن صمادح، صديق المُعْتَمِد الحميم.
وبقى يوسف بن تاشفين فى سبتة على رأس جيش احتياطى لكى يقوم عند الحاجة بإنجاد هذا الجيش أو ذاك (1).
وسقطت قرطبة فى يد المرابطين فى صفر 484هـ/1091م بعد مقاومة عنيفة من ابنى المُعْتَمِد اللذين قتلا «المأمون ويزيد الراضي» ووصل المرابطون إلى ضواحى طُلَيْطِلَة مهددين ملوك النصارى، واستولوا على قلعة رباح التى فتحت الطريق أمامهم إلى قشتالة، واشتدَّ الخوف بالمُعْتَمِد بن عَبَّاد الذى أرسل إلى ألفونسو يستنجده ضد المرابطين، وعقد الخطر المشترك أواصر الصداقة بينهم.
وسقطت قومونة بعد حصار قصير فى ربيع الأول 484/ 1091م، وأصبح أمير إشبيلية فى خطر عظيم، وجاءته إمدادات النصارى التى أرسلها ألفونسو بقيادة الكونت جومز، وعدتها أربعون ألف رجل مرتجل، وعشرون ألف فارس، ووصلت إلى مقربة من قرطبة وتصدَّى لهم القائد الشجاع إبراهيم بن إسحاق فى جند الشجعان، ونشبت بين الفريقين معركة حاسمة، أصاب فيها المرابطون بالرغم من خسائرهم نصرًا كبيرًا مبينًا، وغدت إشبيلية بعد فرار النصارى تحت رحمة المرابطين، وكانوا قد ضربوا حولها الحصار، وكان سير بن أبى أبكر يقود الجيش المحاصِر، وفتحت إشبيلية عنوة فى رجب 484هـ/1091م، وكانت خاتمة المُعْتَمِد بن عَبَّاد مأساة حزينة، وكانت عبرة لتقلُّب الدهر، وذلك أن الرجل الذى لبث زهاء ربع قرن يقبض بيديه على مصاير إسبانيا، والذى كان يحكم سواد النصف الجنوبى لشبه الجزيرة، والذى يرجع إليه سبب استيلاء ألفونسو السادس على طُلَيْطِلَة، والذى استدعى المرابطين إلى الأَنْدَلُس، اختتم حياته الحافلة بالأحداث فى غمرة البؤس والحزن فى أغمات المغرب فقد قبض عليه بعد سقوط إشبيلية، وعلى نسائه وأبنائه وبناته - وهم نحو مائة - وأرسلوا إلى مراكش (2)، وفى طريقه تألم المُعْتَمِد من قيده وضيقه وثقله فقال:
تبدَّلت من ظل عزِّ البنودِ ... بذل الحديد وثقل القيود
_________
(1) انظر: معركة الزلاقة ص (62).
(2) المصدر السابق، ص (64).(1/118)
وكان حديدى سنانًا ذليقًا ... وعضبًا رقيقًا صقيل الحديد
وقد صار ذلك وذا أدهما ... يعض بساقى عض الأسود
لقد أطنب الشعراء والمؤرخون وأهل الأدب فى سيرة المُعْتَمِد بن عَبَّاد، وسبب ذلك أمور كثيرة وأهمها فى نظرى أن قضيته غريبة، وشخصيته عجيبة، ومرَّ بأمور رهيبة وكانت سيرته مليئة بالمتناقضات فهو الذى قال: «رعى الإبل ولا رعى الخنازير» وهو الذى استعان بالنصارى، وأجلب خيلهم ورجالهم ضد المُسْلِمِين، وسيرته تبين لنا سنن الله فى إعزاز من يشاء وإذلال من يشاء، وإعطاء الملك لمن يشاء ونزعه ممن يشاء.
قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26].
وتوفى المُعْتَمِد بن عَبَّاد فى أغمات سنة 488هـ -رحمه الله تعالى-.
وفى النادر الغريب أنه نودى فى جنازته بالصلاة على الغريب، بعد عظم سلطانه وجلالة شأنه، فتبارك مَن له البقاء والعزَّة والكبرياء (1).
من شعر المعتمد بن عباد:
دخل عليه ولده أبو هاشم والقيود قد عضت بساقيه فخاطب قيده فقال:
قيدي, أما تعلمنى مُسلمًا ... أبيت أن تشفق أو ترحما
دمى شرابٌ، واللحم قد ... أكلته ولا تهشم الأعظُما
يُبصرنى فيك أبو هاشم ... فينثني, والقلب قد هُشما
ارحم أخياتٍ له مثله ... جرَّعتهن السُّم والعَلقما
وقال ذات مرة بعد أن أحيط به فى إحدى معاركه:
لما تماسكت الدموع ... وتَنْهنه القلبُ الصديع
قالوا الخضوعُ سياسة ... فليبدُ منك لهم خُضوع
_________
(1) وفيات الأعيان (ج5/ 37).(1/119)
وألذ من طعم الخُضَوع ... على فمى السّمُّ النقيع
أتسلبْ عنى الدُّنا ... ملاكى وتُسلْم القلبَ الضُّلوع
قد رُمتُ يوم نِزالهم ... أن لا تحصِّنُنى الدروع
وبرزت ليس سوى القميـ ... ـص عن الحشى شيء دَفُوع
أجلى تأخَّر, لم يكنْ ... بهواى ذلى والخُضوع
ما سرتُ قطُّ إلى القتال ... وكان فى أملى الرجوع
شيم الأولى أنا منهم ... والأصل تتبعه الفُروعْ (1)
ولما تُوفِّى فى أغمات رثاه الشعراء بقصائد معبرة عن المشاعر الإنسانية الدفينة, وممن رثاه شاعره المخلص أبو بحر عبد الصمد بقصيدة طويلة أجاد فيها، وأولها:
ملك الملوك، أسامع فأنادي ... أم قد عدتك عن السماع عوادي
لما نقلت عن القصور ولم تكن ... فيها كما قد كنت فى الأعياد
أقبلت فى الثرى لك خاضعًا ... وجعلت قبرك موضع الإنشاد (2)
لقد كانت محنة المُعْتَمِد بن عَبَّاد عظيمة، وتعاطف معه كثير من المؤرخين والأدباء والشعراء، واتهموا يوسف بن تاشفين بالقسوة والغلظة وأنَّه صحراوى بدوى نزعت الرحمة من قلبه، واستدلُّوا أنه ذو نزعة توسعية دنيوية، ولذلك أنزل العقوبة المؤلمة على من استطاع من ملوك الأَنْدَلُس وتخلَّص منهم.
والواقع يقول: إن ابن تاشفين لم يطمع فى الأَنْدَلُس، وتردد كثيرًا قبل العبور، وعفَّ عن الغنائم بعد الزِّلاقَة وتركها للمُعْتَمِد ولأمراء الأَنْدَلُس، ولم يأخذ منها شيئًا، وكانت عودته, ثم عاد فى الجواز الثانى بسبب اختلافات ملوك الطوائف الهزلي، وتحالُفِ بعضهم مع ملوك النصارى، ولما اشتد الخطب على أهل الأَنْدَلُس, وأفتى العلماء بخلع ملوك الطوائف حرصًا على سلامة الدِّين والعقيدة؛ قرَّر الأمير يوسف أن يضع حدًا
_________
(1) التاريخ الإسلامي، للذهبي، حوادث ووفيات، مجلد (481 - 490هـ) , ص (271).
(2) وفيات الأعيان (ج5/ 37).(1/120)
لمهزلة ملوك الطوائف, لقد آنَ - من أجل الشريعة والمصلحة العظمى للأمة- لهذه الدويلات الهزيلة الضعيفة المتناحرة المتحالف بعضها مع الأعداء أن تنتهي، وكما قال الشاعر محمود غنيم:
مَن عالج الباب العصى فلم يلن ... ليديه, حطَّمَ جانب المصراع
فقد شغله هؤلاء الأمراء المتفرقون عن الجهاد والفتوحات والمرابطة فى سبيل الله لضعفهم وفرقتهم، فلقوا جزاء خيانتهم وفرقتهم، وابن تاشفين خص الأمراء وحدهم بشدة عقابه, وعفا عن الشعب المسلم، لأن التناقض جلى بين الشعب الذى تعلق بالمرابطين وبالأمير يوسف لعدله وحزمه وجهاده، والذى حرص على رفع المظالم والضرائب والمكوس عن كاهل الشعب الذى طلب من ملوكه الاتحاد فى وجه النصارى، وبين الأمراء والملوك الذين آثروا التَّفرُّق والخلاف، حُبًّا فى الحكم، وحفاظًا على مصالحهم الشخصية.
وهذا الذى قام به الأمير يوسف، وإزاحة الملوك من أعظم حسناته ومآثره الخالدة فى تاريخه المجيد الذى تعتز به أمتنا العريقة.
وبسقوط إشبيلية تزعزعت باقى المُدُن والحصون، وأصبحت غرناطة ومالقة وجيان وقرطبة وإشبيلية والمرية تحت حكم المرابطين فى وقت لم يتجاوز ثمانية عشر شهرًا.
ولما سقطتْ المرية بيد داود ابن عائشة، هذا القائد المجاهد المرابط فى سبيل الله، المنصور بإسلامه ودينه وصفاء عقيدته وحفظه للعهود، واصل سيره الموفق مع جنوده البواسل, وافتتح مرابيطر وبلنسية وشنتمرية، ولم تغن أمراءهم معاونة الكمبيادور وفرسانه، فبلنسية كان بها يحيى بن ذى النون «القادر»، وعلى الرغم من أنه كان منضويًا تحت حماية ملك قشتالة، وقد خفت لإنجاده فرقة كبيرة منهم، وقوة من المرتزقة المسلمِين من مرسية بقيادة ابن طاهر على الرغم من كل هذا سقطت بلنسية بيد المرابطين أصحاب الأيادى المتوضئة، والقلوب الطاهرة، والضربات الفتاكة لكل جبار عنيد.
واستمرَّ داود ابن عائشة فى فتح حصون وقلاع مُدُن شرق إسبانية تحفُّه العناية الإلهية، وتنزل عليه الفتوحات الربَّانية, ويخط للمغاربة وللأمة الإسلاميَّة تاريخًا مجيدًا باقيًا على مر العصور والأزمان، واضحة معالم العقيدة والإيمان فى نحته وكتبه بماء الذهب الصافي.(1/121)
أمَّا القائد الربَّانى والفارس الميدانى سير بن أبى بكر فكان جهاده الميمون فى غرب الأَنْدَلُس؛ حيث زحف إلى بطليوس وأميرها يومئذٍ مُحَمَّد بن الأفطس «المُتَوَكِّل» بعد أن فتح إشبيلية كما سلف، فاستولى على شلب ويابرة, ثم احتلَّ بطليوس فى صفر 487هـ - آذار (مارس) 1094م.
وفى الوقت الذى سقطت فيه بطليوس، استطاع المرابطون أن يفتحوا جزر البليار، التى كان واليها يومئذٍ من بنى شهيد أتباع أمراء بلنسية ودانية، وأحسن المرابطون صنعًا بفتح الجزر الشرقية «بليار» فى الوقت الملائم، فقد كانت منعزلة تعيش تحت هيمنة الأسطول النصراني، وقد تم الفتح على يد القائد البحرى ابن تافرطست.
بذلك أصبحت إسبانيا المسلمة تحت قبضة دولة المرابطين الفتية سنة487هـ /1094م، ونستثنى من ذلك ولاية سَرْقُسْطَة التى كان واليها أحمد بن هود «المستعين بالله» الذى أبلى بلاءً حسنًا فى جهاد النصارى, وظهرت فيه شهامة ورجولة أقنعت الأمير يوسف على إبقائه فى مُلكِه، وتحالف ابن هود مع إخوانه فى العقيدة ضدَّ أعدائهم فى الدِّين، وكان سدًا منيعًا فى الثغور الشمالية وقد كلف النصارى خسائر هائلة فى الأموال والأرواح.
واستطاع النصارى أن يحتلُّوا مدينة «بلنسية» عام 487هـ بقيادة القائد
النصرانى الكمبيادور الذى أمن قاضيها «ابن جحاف» ثم أحرقه بالنار، وعمل المرابطون على إرجاع بلنسية والحصون التى وقعت فى يد النصارى، وتمكَّنوا من تحرير بلنسية عام 495هـ.
والجدير بالذكر أن بابا الفاتيكان أفتى لأهل إسبانيا ومَن حولهم من الإفرنج إن قتالهم فى الأَنْدَلُس ضد المُسْلِمِين جهاد مقدس, ولذلك لم يشارك الإسبان فى حروب النصارى الصليبية فى شرق العالم الإسلامى فى هذه الفترة.
لقد كانت سياسة الإسبان فى حروبهم للمُسْلِمِين صليبية النزعة، همجية الخلق، خالية من الأخلاق، ممزوجة بالغدر بعيدة عن العلم والحضارة.
وكانت سياسة المرابطين فى حروبهم وجهادهم مبنية على نشر الإسلام ومكارم الأخلاق فى أُطُر حضارية نابعة من مشكاة الوحيين كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1).
* * *
_________
(1) انظر: معركة الزلاقة، ص (68).(1/122)
المبحث الثامن
الجواز الرابع للأمير يوسف فى الأندلس
لما أصبحت إسبانيا المسلمة تحت حكم المرابطين بما فى ذلك سَرْقُسْطَة التى حكمها بنو هود، عبر أبو يعقوب يوسف بن تاشفين العبور الرابع سنة 496هـ/ 1103م بعد استرداد بلنسية بعام واحد، يبتغى تنظيم شئونها، وليطلع على حسن سير الإدارة، ودعا القادة والولاة وزعماء الأَنْدَلُس، وشيوخ القبائل المغربية التى تدين بالطاعة له إلى الاجتماع فى قرطبة، وعيَّن ولده الأصغر عليًًّا «أبا الحسن» وليًّا للعهد؛ فقد ظهرت مواهبه ونجابته ورجاحة عقله ولمس والده فيه الخصال اللازمة لحكم شعوب وأمم كثيرة (1).
أولاً: نص ولاية العهد للأمير على بن يوسف:
عهد الأمير يوسف إلى كاتبه الفقيه أبى مُحَمَّد بن عبد الغفور أن يكتب نص ولاية العهد وكان مشهورًا ببلاغته، وهذا هو النص: «الحمد لله الذى رحم عباده بالاستخلاف، وجعل الإمامة سبب الائتلاف، وصلى الله على سيدنا مُحَمَّد نبيه الكريم الذى ألف القلوب المتنافرة، وأذل لتواضعه عزة الملوك الجبابرة.
أما بعد: فإن أمير المُسْلِمِين وناصر الدِّين أبا يعقوب بن تاشفين لما استرعاه على كثير من عباده المؤمنين، خاف أن يسأله الله غدًا عما استرعاه كيف تركه هملاً لم يستنب فيه سواه، وقد أمر الله بالوصية فيما دون هذه العظمة، وجعلها من آكد الأشياء الكريمة، كيف فى هذه الأمور العائدة فى المصلحة الخاصة والجمهور، وإن أمير المُسْلِمِين بما لزمه من هذه الوظيفة وحضه الله بها من النظر فى الأمور الدِّينية الشريفة، قد أعزّ الله رماحه وأحد سلاحه، فوجد ابنه الأمير الأجل أبا الحسن أكثرها ارتياحًا إلى المعالى واهتزازًا، وأكرمها سجية وأنفسها اعتزازًا، فاستنابه فيما استرعي، ودعاه لما كان إليه ودعا، بعد استشارة أهل الرأى على القرب والنأي، فرضوه لما رضيه، واصطفوه لما اصطفاه، ورأوه أهلاً أن يسترعى فيما استرعاه، فأحضره مشترطًا عليه الشروط الجامعة بينهما وبين المشروط قبل، وأجاب حين دُعي، بعد استخارة الله الذى بيده الخيرة والاستعانة بحول الله الذى من آمن به شكره، وبعد ذلك مواعظ ووصية بلغت النصيحة مرامى قصية،
_________
(1) انظر: معركة الزلاقة، ص (71).(1/123)
يقول فى ختامه شروطها وتوثيق ربوطها، كتب شهادته على النائب والمستنيب من رضى إمامتها على البعيد والقريب، وعلم علمًا يقينًا بما وصاه فى هذا الترتيب وذلك فى عام 495هـ / 1101م (1).
أ- وأوصى يوسف بن تاشفين ابنه عليًّا بما يلي:
ألا يُعَيّن فى مناصب الحُكَّام والقضاة فى الولايات والحصون والمُدُن إلا المرابطين من قبيلة لمتونة.
وأن يحتفظ فى الأَنْدَلُس بجيش دائم حسن الأجر من المرابطين، قوامه سبعة عشر ألف فارس، يطعمون على حساب الدولة يوزعون كما يأتي: أربعة ألاف فى ولاية سَرْقُسْطَة، وسبعة آلاف فى إشبيلية، وثلاثة آلاف فى غرناطة، وألف فى قرطبة، والباقى قدره ألفان يحتلون قلاع الحصون كحامية، ويحسن أن يعهد إلى مسلمى الأَنْدَلُس بحراسة الحدود النصرانية ومحاربة النصارى، فهم لهم معرفة أوسع وخبرة أكبر على مقاتلة النصارى من المغاربة، وأن يعمل على تشجيع الأَنْدَلُسيين على روح الجهاد وأن يكافئ المتفوقين فى الحرب منهم بالخيل والسلاح والثياب والمال.
ونصح أبو يعقوب ابنه أن يعامل أهل الأَنْدَلُس وخصوصًا قرطبة بالرفق واللين، وأن يقوى علاقته الأخوية مع بنى هود الذين هم طليعة الأَنْدَلُسيين فى محاربة النصارى.
ولما انتهى يوسف بن تاشفين من تنظيم شئون الأَنْدَلُس وقسمها إلى ست ولايات هى إشبيلية، غرناطة، قرطبة، بلنسية، مرسية، وسَرْقُسْطَة، عاد ابن تاشفين إلى مراكش.
ب- لقد مرت سياسة المرابطين فى الأندلس بمراحل ثلاث:
1 - مرحلة التدخل من أجل الجهاد وإنقاذ المُسْلِمِين، وقد انتهت بانسحاب المرابطين بمجرد انتصار الزِّلاقَة.
2 - مرحلة الحذر من ملوك الطوائف، بعد أن ظل وضعهم وضع التنافر والتحاسد والتباعد، ولم يفكروا فى الاندماج فى دولة واحدة، بل فضل بعضهم التقرب إلى الأعداء للكيد ببعضهم.
3 - مرحلة ضم الأَنْدَلُس إلى المغرب، فوضعوا حدا لمهزلة ملوك الطوائف.
_________
(1) الزلاقة ص (71 - 72)، انظر: ابن الخطيب، الإحاطة (2/ 519،520).(1/124)
المبحث التاسع
آثار الابتعاد عن تحكيم شرع الله
على ملوك الطوائف
1 - إن الابتعاد عن تحكيم شرع الله تعالى يجلب للأفراد والأمة تعاسة وضنكًا فى الدنيا، وهلاكًا وعذابًا فى الآخرة، وإن آثار الابتعاد عن شرع الله لتبدو على الحياة فى وجهتها الدِّينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
وإن الفتن تظل تتوالى وتترى على الناس حتى تمسَّ جميع شئون حياتهم, قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
لقد كانت فى مُمَارسة ملوك الطوائف للحكم البعيد عن شرع الله آثار على الأمة، فتجد الإنسان المنغمس فى حياة المادة والجاهلية مُصاباً بالقلق والحيرة والخوف والجبن يحسَب كلَّ صيحة عليه، يخشى مِن النصارى ولا يستطيع أن يقف أمامهم وقفة عزٍّ وشموخ واستعلاء، وإذا تشجع فى معركة من المعارك ضعف قلبه أمام الأعداء من أثر المعاصى على قلبه، وأصبح فى ضنك من العيش: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإن لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124].
2 - أمَّا الآثار على الأمة الأَنْدَلُسية فقد أصيبت بالتبلُّد وفقد الإحساس بالذات ومات ضميرها الروحي، فلا أمر بمعروف تأمر به، ولا نهى عن منكر تنهى عنه، وأصابهم ما أصاب بنى إسرائيل عندما تركوا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِى إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ - كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا
يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78، 79].
فإن أيَّ أمَّة لا تعظِّم شرع الله أمرًا ونهيًا فإنها تسقط كما سقط بنو إسرائيل، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كلا والله لتأمُرُنَّ بالمعروف ولتنهوُنَّ عن المنكر ولتأخذُنَّ على يد الظالم ولتأطرنَّه على الحق أطرًا، ولتقصرنه على الحق قصرًا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم(1/125)
بعضًا, ثم ليلعننكم كما لعنهم» (1).
3 - إن ملوك الأَنْدَلُس تحققت فيهم سنة الله الماضية بسبب تغيُّر النفوس من الطاعة والانقياد إلى المخالفة والتمرد على أَحكام الله: {ذَلِكَ بِإن اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال:53].
كما أن المجتمعات التى تخضع تحت الحُكَّام الذين تباعدوا عن شرع الله تُذَل وتهان, حتى تقوم أمام مَن خالف أمر الله وتطلب العون من إخوانهم فى العقيدة, لإرجاع حكم الله فى مجتمعاتهم.
إن ملوك الأَنْدَلُس انعكس انحرافهم على شباب الأَنْدَلُس كلِّه، وفرَّط أهل الأَنْدَلُس فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وانعكس ذلك فى حركة الفتوحات الإسلاميَّة التى توقَّفتْ، ولذلك حرمت شعوب كثيرة من سعادتها فى الدنيا والآخرة بسبب تضييع الأمانة والرسالة والدعوة إلى هذا الدِّين، لقد قست قلوب ملوك الطوائف وكثير من أتباعهم إلا من رحم الله، وتركوا الحق وانقادوا للضلال، وابتلوا بالنفاق وفضحهم الله بذلك، وحرموا التوفيق والرجوع للصواب، وخف دينهم وضعف إيمانهم، بسبب بطرهم للحق وغمطهم لحقوق الناس وابتعادهم عن شرع الله تعالى.
4 - لقد كانت ممالك الأَنْدَلُس مليئة بالاعتداءات على الأنفس والأموال والأعراض، وتعطلت أَحكام الله فيما بينهم، ونشبت حروب وفتن وبلايا تولَّدت على أثرها عداوة وبغضاء لم تزل عنها حتى بعد زوالهم.
5 - وبسبب الابتعاد عن كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سهلت مهمة النصارى فى الأَنْدَلُس فأصبحت شوكتهم تقوى وتحصلوا على مكاسب كبيرة، وغاب نصر الله عن ملوك الطوائف وأهل الأَنْدَلُس، وحرموا من التمكين، وأصبحوا فى خوف وفزع من أعدائهم، وبعض المُدُن تبتلى بالجوع بسبب حصار النصارى لهم, وكم قتلَ النصارى من المُسْلِمِين وكم سبوا من نسائهم.
6 - إن الابتعاد عن شرع الله فى الأَنْدَلُس ترتب عليه انتقاص الأرض وضياع الملك، وتسلُّط الكفار وتوالى المصائب.
_________
(1) أبو داود، كتاب الملاحم، باب الأمر بالمعروف, رقم الحديث (4670).(1/126)
7 - إن من سنن الله تعالى المستخرَجة من حقائق الدِّين والتَّارِيخ أنه إذا عُصى الله تعالى مِمَن يعرفونه سَلَّط عليهم مَن لا يعرفونه، ولذلك سلَّط الله النصارى على المُسْلِمِين فى الأَنْدَلُس، وعندما تحرك الفقهاء والعلماء وبعض الملوك واستنصروا إخوانهم فى الدِّين، والتفوا حول دولة الشريعة نصرهم الله على أعدائهم، ثم خلَّص الله أهل الأَنْدَلُس من ملوك الطوائف الظالمين وأبدلهم بأمراء عادلين، منقادين لشريعة رب العالمين.
8 - إن الذنوب التى يهلك الله بها القرون ويعذب بها الأمم قسمان:
أولهما: معاندة الرسل والكفر بما جاءوا به.
وثانيهما: كفر النعم بالبطر والأشر، وغمط الحق واحتقار الناس وظلم الضعفاء ومحاباة الأقوياء، والإسراف فى الفسق والفجور، والغرور بالغنى والثروة، فهذا كلُّه من الكفر بنعمة الله، واستعمالها فى غير ما يرضيه من نفع النَّاس والعدلِ العام، والنَّوع الثَّانى من الذنوب هو الذى مارسه ملوك الأَنْدَلُس وأمراؤهم وأتقنوه إتقانًا عجيبًا.
* * *(1/127)
الفصل الثالث
السياسة الداخلية والخارجية فى دولة المرابطين
المبحث الأول
حقوق الرعية فى دولة المرابطين
إن الله تعالى جعل بين الحاكم والمحكوم حقوقًا وواجبات متبادلة، وبينت الشريعة الغرَّاء هذه الحقوق المتبادلة؛ فمن أهم حقوق الرعية على الرَّاعِي:
أولاً: العمل على الإبقاء على عقيدة الأمة صافية نقية:
وذلك عن طريق حفظ الدِّين على أصوله المستقرَّة، وما أجمع عليه سلف الأمة، فهذا هو أهم الأمور التى تلزم ولاة الأمر تجاه الرعية (1)، وأهم هذه الأصول: التمسك بالكتاب والسنة وإجماع القرون المفضلة الأولى، وفى دراستى التَّارِيخية لدولة المرابطين وجدت أن حُكَّامها ساروا على هذا المنهج الذى رسمه شيوخهم الذين سبقوهم، ولذلك توحدت دولة المرابطين، وكان لذلك المسلك سبب فى حماية الأمة من التَّفرُّق فى الدِّين إلى دروب الأهواء والضلالات، وكان حماية ووقاية للحاكم والمحكوم فى دولة المرابطين على السواء من الزيع عن السبيل، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] أي: تمسَّكوا بدين الله الذى أمركم به، وعهده الذى عهده إليكم، فى كتابه إليكم من الألفة والاجتماع على كلمة الحق والتسليم لأمر الله» (2) , لقد كان يوسف بن تاشفين ومن سبقه من حُكَّام دولة المرابطين على منهج الفرقة الناجية وسبيل أهل السنة والجَماعَة، لا سُبُل أهل الزيغ والتفريق التى نهى الله عنها فى قوله: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ - يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:105،106].
قال ابن عبَّاس -رضى الله عنهما-: «يعنى تبيض وجوه أهل السنة والجَماعَة وتسوَّد
_________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي، ص (22). ... (2) تفسير الطبري، (ج7/ 70).
(2) تفسير ابن كثير، (ج1/ 369).(1/128)
وجوه أهل الفرقة والزيغ» (1)، لقد قام يوسف بن تاشفين بحماية أصول أهل السنة والجَماعَة بتشجيع العلماء والفقهاء وبنشرها وحمل الناس عليها واستخدم فى ذلك سلطانه وصلاحياته الشرعية (2).
ثانيًا: توحيد المغرب تحت راية الخلافة الإسلامية:
قام يوسف بن تاشفين بتوحيد المغرب الأقصى تحت راية الخلافة الإسلاميَّة, واستعمل من أجل هذا الهدف كافة الأسباب المشروعة سواء بإصلاح ذات البين بين القبائل المتناحرة، أو باستعمال القوة مع مَن استعصى عن الإجابة، وكان يسعى سعيًا حثيثًا للقضاء على الشرور فى بلاده، ويعمل على إغلاق أبوابها أولاً بأول وسبيله فى ذلك: «تنفيذ الأَحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تعمَّ النصفة، فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم» (3).
ثالثًا: العمل على حماية الأمة من المفسدين والمحاربين:
حيث استطاع أمير المُسْلِمِين يوسف بن تاشفين أن يؤمن السبل فى بلاده, وأن يبسط الأمن, ويقمع الأخطار التى هددت دولته من المارقين, ونظم طرق الأسفار ومسارب التجارات.
وقد عدَّ علماء الإسلام تأمين السبل والطرق حقًّا من حقوق الرعية التى سيُسأل عنها كل راع، فذكروا أن الإمام يلزمه: «حماية بيضة الإسلام, والذب عن الحُرم، ليتصرف الناس فى معايشهم وينتشروا فى أسفارهم آمنين على أنفسهم وأموالهم» (4) , ولا شكَّ أن تأمين السبل دليل بارزٌ على انتصار الدِّين وتمكينه، فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما دَعا عدى بن حاتم إلى الإسلام، وعده - إن طالت به الحياة - أن يرى طرق المُسْلِمِين آمنة، وسبلهم محفوظة لما يؤول إليه الأمر من قوة المُسْلِمِين بعد ضعفهم، فقد روى البخارى فى صحيحه عن عدى بن حاتم قال: «بينما أنا عند النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أتاه رجل فشكا إليه الفاقة،
_________
(1) انظر: الحكم والتحاكم، (ج2/ 514).
(2)
(3) الأحكام السلطانية للماوردي، ص (22).
(4) المصدر السابق ص (27).(1/129)
ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال: يا عدى هل رأيت الحيرة؟ قلت: لم أرها، وقد أنبئت عنها، قال: فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدًا إلا الله ... » وفيه أن عديًا - رضي الله عنه - قال بعدها: «فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله» (1).
رابعًا: العمل على حماية الأمة من أعداء الخارج:
قام الأمير يوسف بن تاشفين - رحمه الله - بأعمال عظيمة حماية لدولته وشعبه من كلِّ عدوٍّ يحاول أن يعتدي، واتخذ كل الأسباب المتاحة من أجل تحقيق هذا العمل المنشود من تحصين الثغور بالعُدَّة المانعة والقوة الدافعة حتى لا يظفر الأعداء بثغرة ينتهكون بها محرمًا, ويسفكون دمًا لمسلم أو معاهد (2).
وقضى على كلِّ محاولات أعداء دولته من البرغواطيين والمغاورة والحَمَّاديين الذين حاولوا ضم أراض من دولته, وقضى على دويلات الكفر والإلحاد, وألزم الحَمَّاديين احترامه بالقوة.
خامسًا: حفظ ما وُضِعَت الشريعة لأجله:
فقام بإقامة الحدود، حتى تُصان محارم الله عن الانتهاك, وتحفظ حقوق العباد من أى إتلاف أو استهلاك, ونفذ فى رعيَّتِه قوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58].
سادسًا: إعداد الأمة إعدادًا جهاديًّا:
ومسيرة المرابطين منذ خروجهم من رباط عبد الله بن ياسين تدلُّ على أنَّهم قوم مجاهدون، وقام قادتهم بجهاد الوثنيين, واستمرَّ يوسف بن تاشفين فى قتال أهل الردة, وغلاة المبتدعة, وتوحيد القبائل الخارجة عن نطاق الدولة، وقام بواجبه فى جهاد الكفرة المعاندين للإسلام حتى أسلموا أو أدخلوا فى ذمة المُسْلِمِين قيامًا بحق الله تعالى فى ظهور دينه على الدِّين كلِّه (3).
_________
(1) أخرجه البخاري: كتاب المناقب، باب علامة النبوة، (ج6/ 706)، رقم الحديث (3595).
(2) الأحكام السلطانية، لأبي يعلي. ... (2) انظر: الأحكام السلطانية، للماوردي، ص (23).
(3) انظر: السياسة الشرعية، لابن تيمية، ص (29).(1/130)
سابعًا: القيام على تحصيل الصدقات وأموال الزكاة والخراج والفيء:
حيث قام الأمير يوسف بالإشراف على جباية وصرف الزكاة فى مصارفها الشرعية من غير حيف ولا عسف، فكانت من مصادر دولة المرابطين الزكاة والخراج والفيء وغيرها، فكان الأمير يوسف لا يأخذ الضرائب والمكوسَ، بل أسقطها, وإنَّما يأخذ المال من حِلِّه، ويضعه فى حقه، ولا يمنعه من مستحقِّه (1).
ثامنًا: تحرى الأمانة فى اختيار المناصب:
حرص الأمير يوسف على أن يختار الأمناء والأكفاء وأسند إليهم الولايات وقيادات الجنود ومناصب القضاة، وحرص على أن يولِّى كل عمل من أعمال المُسْلِمِين أصلحَ مَن يجده لذلك العمل، واختار وانتخب أحسن وأنفع العناصر لدولته السُّنيَّة من أجل أن يقوم بواجبه نحو رعيَّتِه.
تاسعًا: الإشراف المباشر على شئون الدولة:
اعتاد الأمير يوسف أن يُشرف بنفسه على أمور رعيَّتِه، ويتابع ولاته, ويزورهم فى مواطنهم, ويستمع للنَّاس، وما كان يعتمد على التفويض وحده؛ خوفًا من الله تعالى الذى قال فى كتابه: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ} [ص: 26] , وقد عدَّ الإمام الماوردى هذا الأمر من حقوق الرعية على الوالي، وذكر أنه يلزمه: «أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور, وتصفح الأحوال؛ لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يعوِّل على التفويض تشاغلاً بلذَّة, أو عبادة؛ فقد يخون الأمين, ويغش الناصح ... » (2).
كان الأمير يوسف يراقب ولاته مراقبة شديدة, ولا يترددُ فى تبديلهم وعزلهم إذا أساءوا، وكان يضع مصلحة الرعية فى المقام الأول عند تعيين الولاة ويوصيهم بها خيرًا، وقد جاء فى كتابه إلى عبد الله ابن فاطمة: «فاتخذ الحق إيمانك، وارفع لدعوة المظلوم حجابك، ولا تسد فى وجه المضطهد بابك، ووطن للرعية -أحاطها الله - أكنافك،
_________
(1)
(2) الأحكام السلطانية للماوردي, ص (29).(1/131)
وابذل لها إنصافك، والحرج من كل ما يَحيف عليها ويؤذيها، ومن سدَّد عليها من عمالك زيادة، أو خرق فى أمرها عادة، أو غيَّرَ رسمًا، أو بدَّل حكمًا، أو أخذ لنفسه منها درهمًا ظلمًا فاعزله من عمله، وعاقبه فى بدنه، وألزمه فى ردِّ ما أخذ متعديًا إلى أهله، واجعله نكالاً لغيره حتى لا يقدم منهم أحد على مثل فعله» (1).
وكان الأمير يوسف يُخطر أهل الولاية بتعيين الوالى الجديد؛ فكتب إلى أهل سبتة بشأن الأمير يحيى بن أبى بكر: «ونحن من وراء اختياره والفحص عن أخباره، فإذا وصل إليكم كتابنا؛ فالتزموا له السمع والطاعة، والنصح والمتابعة جهد الاستطاعة» (2) بالإضافة إلى ذلك كان الأمير يوسف كثير الطواف فى مملكته للإشراف على تنفيذ أوامره وتعليماته من قبل الولاة (3) , والاطلاع على أحوال الرعية والنظر فى أمورها.
* * *
_________
(1) دولة المرابطين, ص (66).
(2) المرجع السابق، ص (166).
(3) الأندلس فى عهد المرابطين.
استفدت فى مباحث أثر حكم الله على دولة المرابطين، وأثر ترك حكم الله والواجبات السياسية التي قام بها الأمير يوسف من كتاب الحكم والتحاكم فى خطاب الوحي، للمؤلف عبد العزيز مصطفى كامل.(1/132)
المبحث الثاني
موقف الرعية فى دولة المرابطين
لقد استوفتْ الرعية فى دولة المرابطين حقوقها الشرعية، فكان طبيعيًّا جدًّا أن تؤديَ واجباتها إلى حُكَّامها وولاتها, وأهم هذه الواجبات التى أدتها:
أولاً: الطاعة:
كان مسلمو المغرب فى زمن دولة المرابطين يتقربون إلى الله تعالى بطاعة أميرهم والانقياد له فى كل معروف، ويرون هذه الطاعة حقًا ثابتًا لحُكَّامهم بنص القرآن وصريح السنة وصحيحها. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِى الأمْرِ
مِنْكُمْ} [النساء:59].
وفى مجتمع المرابطين كانت الشريعة فوق الجميع يخضع لها الحاكم والمحكوم، ولهذا فإن طاعة الحُكَّام كانت عندهم مقيدة دائمًا بطاعة الله ورسوله.
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا طاعة فى المعصية، إنما الطاعة فى المعروف» (1).
ثانيًا: النصرة:
كان المُسْلِمُون تحت قيادة أمراء المرابطين يعاضدون وينصرون أمراءهم فى أمور دينهم وجهادهم لعدوهم عاملين بقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2].
وكانوا يكرمون من يقيم شرع الله من حُكَّامهم، ويدافعون وينافحون عنه ويكرمونه ويجلونه لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن من إجلال الله تعالى: إكرام ذى الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالى فيه والجافى عنه, وإكرام ذى السلطان المقسط» (2).
ثالثًا: النصح:
قامت هذه الدولة الميمونة المباركة على النصح المتبادل بين الحاكم والمحكومين، ونجد إن أحد الوزراء يطلب من الأمير يوسف عدم جواز البحر فى جهاده ضد النصارى حتى
_________
(1) أخرجه البخاري فى كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة، حديث (7145).
(2) رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب تنزيل الناس منازلهم (23/رقم 4822).(1/133)
يسلم المُعْتَمِد بن عَبَّاد له الجزيرة الخضراء، فيسمع الأمير يوسف هذه النصيحة وينفذها فى أرض الواقع، وامتنع عن جواز البحر حتى تحصَّل على تلك الجزيرة التى أفادته فى جهاده كثيرًا، لقد كانت قيادات المرابطين تستمع للنصح فى تواضع جم، واستعداد نفسى رفيع يدل على عمق التربية العميقة التى تحصَّلوا عليها.
إن الإسلام أوجب على الرعية أن تُناصح ولاة أمرها، وقد جاء الأمر بذلك فى حديث من جوامع الكلم لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ يقول: «الدِّين النصيحة - ثلاثًا - قال الصحابة: لِمَن يا رسول الله؟ قال: لله - عزَّ وجلَّ- ولكتابه ولرسوله ولأئمة المُسْلِمِين وعامتهم» (1).
ومعنى النصيحة لهم فى هذا الحديث: «معاونتهم على الحق وطاعتهم فيه وتذكيرهم به وتنبيههم فى رفق ولطف، ومجانبة الوثوب عليهم، والدعاء لهم بالتوفيق» (2).
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاثة لا يُغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصح لأئمة المُسْلِمِين، ولزوم جماعتهم» (3).
لقد أكرم الله حُكَّام المرابطين ببطانة آمرة بالمعروف وناهية عن المنكر, مرشدة للصواب، ناصحة للراعى والرعية لا تخشى إلا الله.
رابعًا: التقويم:
كان المُسْلِمُون الذين ارتبطوا بدولة المرابطين لا يجدون حرجًا ولا مانعًا فى إيصال ما يرونه من النصح والإرشاد وتقويم الأخطاء التى يقع فيها الحُكَّام أثناء اجتهاداتهم فى شئون الحياة.
وهذا المبدأ قد استقرَّ فى مفهوم الصحابة منذ بداية دعوة الإسلام، فهذا
الصدِّيق - رضي الله عنه - عندما تولى الخلافة، قام فى الصحابة خطيبًا، فقال: «أيُّها الناس, فإنِّى قد ولِّيت عليكم, ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعيونني، وإن أسأت فقوِّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوى عندى حتى أرجع عليه حقه -إن شاء الله- والقوى فيكم ضعيف عندى حتى آخذ الحق منه - إن شاء الله-، لا يدعُ قوم الجهاد فى
_________
(1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، (23/رقم55).
(2) جامع العلوم والحكم، لابن رجب، ص (79).
(3) انظر: صحيح ابن ماجه، للشيخ الألباني رحمه الله (ج2/ 182رقم248).(1/134)
سبيل الله إلا خذلهم الله بذلٍّ، ولا تشيع الفاحشة فى قوم إلا عمَّهم الله بالبلاء, أطيعونى ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله، فلا طاعة لى عليكم, قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله» (1).
وكان عمر - رضي الله عنه - لا يكتفى بإنصاف الناس من نفسه، حتى ينصفهم من عُماله وولاته، يسأل الرعية عمن أساء منهم، وكان يقول: «إنِّى لم أبعث عمالى ليضربوا أبشاركم وليشتموا أعراضكم ويأخذوا أموالكم، ولكنى استعملتهم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم، فمَن ظلمه عامله بمظلمة فلا إذن له عليَّ، ليرفعها إليَّ حتى أقصه منه» (2).
إن علاقة الحاكم بالمحكوم فى الإسلام غرضها الأول إعلاء كلمة الله, وإعزاز دينه, ولمصلحة الرَّاعِى والرعية, وثانياً: فهى بعيدة كل البعد عمَّن يجعلون فى مرتبة مَن لا يسألون فيها عما يفعلون, وبين مَن يحقرون ويمتهنون حُكَّامهم بدون وجه حق، إن الحاكم فى الإسلام له احترامه وحقوقه المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكذلك للمحكوم حقوقه المستمدَّة من أصل عقيدة الإسلام، لذلك نجد النصح والنقد والتقويم بين الحاكم والمحكوم فى تاريخ الإسلام على مرِّ العصور والأزمان، فإذا تأملت فى الدول التى سارت على شرع الله المولى - عزَّ وجلَّ -وجدت هذه المعالم واضحة.
وهذا يوسف بن تاشفين عندما دخل فى بلاد الأَنْدَلُس للجهاد فى سبيل الله فأرسل إلى أهل المرية من ممالك الأَنْدَلُس، وذكر لهم أن جماعة أفتوه بجواز طلب العون اقتداء بعمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - فردَّ قاضى المرية «أبو عبد الله بن الفراء» على الأمير يوسف ردًّا فيه نقد وتقويم ونصح، فلم يتعرَّض ذلك القاضى لعقوبة، بل استمع إلى نصحه وإرشاده وما رآه حقًّا, وكان هذا القاضى من الدِّين والورع بمكان، وهذا نصُّ الجواب الذى أرسله إلى الأمير يوسف: «أمَّا بعد, ما ذكره أمير المُسْلِمِين من اقتضاء المعونة وتأخيرى عن ذلك، وإن أبا الوليد الباجى وجميع القضاة والفقهاء بالعُدوة والأَنْدَلُس أفتوا بأن عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - اقتضاها، وكان صاحب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وضجيعه فى قبره، ولا يشك فى عدله، فليس أمير المسلمين بصاحب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا بضجيعه فى قبره، ولا من لا يشك فى عدله، فإن كان الفقهاء والقضاة أنزلوك بمنزلة فى العدل فالله سائلهم عن
_________
(1) البداية والنهاية, (ج1/ 306) إسناده صحيح.
(2) الطبقات الكبرى، محمد بن سعد، (ج8/ 222).(1/135)
تقلدهم فيك، وما اقتضاها عمر حتى دخل مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحلف أن ليس عنده درهم واحد من بيت مال المُسْلِمِين ينفقه عليهم، فلتدخل المسجد الجامع هناك بحضرة أهل العلم، وتحلف أن ليس عندك درهم واحد، ولا فى بيت مال المسلمين, وحينئذٍ تستوجب ذلك, والسلام» (1).
ومحل الشاهد من هذه الرسالة هو النقد والتقويم المستمرُّ فى حياة الأمة بين علمائها وأمرائها بدون ظلم وجور واعتداء من الطرفين على بعضهما البعض، وبذلك تنطلق حضارة الأمة بآفاقها المتنوعة لتحدث تغييرًا حضاريًا فى دنيا الناس، مبنى على النصح والتناصح، والنقد والتقويم، كما حدث فى دولة المرابطين السُّنيَّة.
* * *
_________
(1) وفيات الأعيان (ج7/ 119).(1/136)
المبحث الثالث
موقف المرابطين من الخلافة العباسية
رأى المرابطون إن مبايعة الخليفة العبَّاسى واجبة، ولذلك أعطوا بيعتهم له لكونهم مالكيين سنيين، فاعترفوا بالخلافة العباسية واتخذوا السواد شعارًا لهم، ونقشوا اسم الخليفة العبَّاسى على نقودهم منذ منتصف القرن الخامس الهجري، وبعد أن بسط الأمير يوسف سيادته على الأَنْدَلُس طلب منه الفقهاء أن تكون ولايته من الخليفة لتجب طاعته على الكافة، ونزولاً عند رغبتهم اتصل بالخليفة العبَّاسى أحمد المستظهر بالله 487 - 512هـ / 1094م- 1118م وأرسل إليه بعثة من عبد الله بن مُحَمَّد بن العربى الإمام المعروف، وزوَّدها بهدية ثمينة, وبكتاب يذكر فيه ما فتح الله على يده من البلاد فى المغرب والأَنْدَلُس، وما أحرزه من نصر للمسلمين، وعزٍّ للإسلام، ويطلب فى النهاية تقليدًا بولاية البلاد التى بسط نفوذه عليها، وأدَّت البعثة مهمتها بنجاح؛ فتلطَّفت فى القول, وأحسنت الإبلاغ وعادت إلى المغرب بتقليد الخليفة وعهده للأمير يوسف بن تاشفين الذى سُرَّ بذلك سرورًا عظيمًا (1).
لقد كانت دولة المرابطين من الناحية العملية تستطيع أن تستغنى عن الخلافة العباسية الضعيفة, حيث إن السلطان لا يملك من السلطة إلا اسمه، بل كان الأمير يوسف أكثر قوة منه؛ يملك ويحكم، ولكن حبَّهم لشريعة الإسلام وحرصَهم على تنفيذ أَحكام الله فى أسوأ الظروف جعلهم يتقيدون بذلك، لقد كانت توجيهات القرآن الكريم فى وجوب لزوم الجماعة وذم التَّفرُّق واضحة المعالم بالنسبة إليهم, ولقد كانت أحاديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فى هذا المضمار هى التى أرشدتهم للانضمام للخلافة العباسية الضعيفة، قال تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ - يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ - وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:105 - 107].
لقد ذكر ابن جرير بسنده عن ابن عبَّاس - رضى الله عنهما-: قوله: {وَلاَ تَكُونُوا
_________
(1) دولة المرابطين، ص (157).(1/137)
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} ونحو هذا فى القرآن أمر الله- جل ثناؤه -المؤمنين بالجماعة، فنهاهم عن الاختلاف والفُرقة، وأخبرهم إنَّما هلك مَن كان قبلهم بالمراء, والخصومات فى دين الله» (1).
والأحاديث فى هذا الشأن كثيرة: فعن ابن عبَّاس - رضى الله عنهما - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَن فارق الجماعة شبرًا فكأنَّما خلع ربقة الإسلام من عنقه» (2).
وعن ابن عمر -رضى الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «مَن فارق الجماعة، فإنه يموت مِيتة جاهليَّة» (3).
والمراد بميتة الجاهلية -وهى بكسر الميم- حالة الموت كموت أهل الجاهلية على ضلال، وليس له إمام مطاع، لأنَّهم كانوا لا يعرفون ذلك، وليس المراد أنه يموت كافرًا، بل يموت عاصيًا، لقد ذهب علماء المرابطين إلى أن الجماعة المقصودة فى الحديث جماعة المُسْلِمِين إذا اجتمعوا على أمير، موافق للكتاب والسنة (4).
هذا فى نظرى سبب دخول المرابطين تحت الخلافة العباسية، وأما ما ذكره المؤرخون أن من أسباب ذلك بعدهم عن العبَّاسيين، ولذلك كانوا لا يخشونهم خاصَّة بعد أن تطرَّق إليهم الفساد، ودبَّ الضعف فيهم، وهى لا تشكل أى خطر عليهم، فإنِّى استبعد ذلك حيث إن سياسة قادة المرابطين تقاد بالشرع، وليس العكس، فهم إسلاميون سياسيون، وليسوا سياسيين إسلاميين فى علاقاتهم الخارجيَّة وشئون دولتهم الدَّاخلِيَّة وارتباطاتهم الدولية.
أولاً: الخطاب الذى رفعه الفقيه ابن العربى إلى الخليفة المستظهر بالله 487 - 512هـ:
يلتمس فيه تقليدًا يخوِّل يوسف بن تاشفين حكم بلاد المغرب والأَنْدَلُس: بسم الله الرحمن الرحيم عليه توكلي:
أسعد الله الدنيا وأهلها بدوام أنوار المواقف المقدسة النبوية الإمامية المستظهرية، وضاعف مددها، ولا أرى المُسْلِمِين أمدها بغرائب مجد تبدعها، وفرائض تشرعها الخلافة،
_________
(1) جامع البيان (ج4/ 39).
(2) البخاري، فتح الباري، ج (13/ 7).
(3) انظر: الشيخ الألباني رحمه الله فى السلسلة الصحيحة (ج / 984).
(4) انظر: وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق، د. جمال أحمد، ص (97).(1/138)
ومستأنف سعود تحرص جنابها، ولا زالت الأيام التى هى لأيامها غرر، وفى إكليل الخلافة درر، وللدهر تمائم، وفى المحل غنائم، والحمد لله الذى جعل المواقف المقدسة النبوية الإمامية المستظهرية شرائط السواد، وخصَّها بالمجد المؤثل المطول بالانتساب، كابرًا عن كابر إلى أعلى خندف (1)، فهى أعلاها عمادًا, وأوراها فى مواقف الفضل زنادًا, أرومة الرسالة وجرثومة الخلافة، إليها ينزع هاشم، وعنها أخذت المكارم، مفاخر شهد لها الكتاب المنزل، وعهد بتخليدها مخبرًا عن الوحى فى آله وعقبه النبى المرسل، قد آمنت بعصمة الله من الغير، وتحققت أواخرها على السنن أولها فى هداية البشر بحسن السير، أوزعنا الله الشكر على ما منَّ به من توفيقنا للتمسك بعراها الوثيقة, والإهداء بهداها إلى واضح الطريقة، فهم فى الدِّين أمتنا, ويوم الدِّين وسليتنا، استعملنا الله من طاعته وطاعتهم بما يؤدى إلى مرضاته ومرضاتهم، إنه الموفِّق الهادى لا ربَّ غيرُه.
وإن الخادم بالأدعية المتقبلة للمواقف المقدسة النبوية الإمامية المستظهرية، ألهمه الله منها لما يسمع فيرفع بمنه لما علم بموجب الشرع أن بيعة الإمام العادل من أركان الديانة، ومما يتعين ما يحتمل من رعاية الأمانة.
هاجر إلى ذلك بنفسه وبابنه المسترق القن من أقصى المغارب، معتقدًا أن عمله أفضل القرب والرغائب، واحتمل برد الهواء وظمأ الهواجر، واقتحم دون ذلك مسالك بلغت فيها القلوب الحناجر، ولم يثنه بحر يزخر، ولا قفر يذعر ويحتسب فى ذلك أثره، ويرجو أن يقبل الله يوم الجزاء عثره، إلى أن انتهى هو وابنه إلى مدينة السلام لا زالت محروسة من غِيرَ الأيام، عاصمة لمن التجأ إليه من مهتضمى الأنام.
ولم يزل الخادم بالأدعية المتقبلة بحول الله يتوسَّل بهجرته، ويتقرَّب بخلوص علانيته وسريرته, ويسأل تشريف رقاعه، بملاحظاتها، والنَّظر من انقطاعه، رغبة فى الحظ الجسيم، إلى أن وصل إلى المجلس السامى وخدم البساط العالي، زاده الله تعظيمًا وتشريفًا، وأنهى أغراض وفادته ومقاصد إدارته, فنفذت الأوامر الشريفة، أدام الله سموَّها وتشريفها, واصطفى على الجميع ستر سلطانها، وكنف إحسانها بقبول وسائله، وإلحاح مطالبه، وإضافة الإحسان عليه.
_________
(1) خندف هي امرأة إلياس بن معز أحد جدود العرب، وفد عرف بنوه بها: نهاية الأرب فى معرفة أنساب العرب، ص (248).(1/139)
ولما بسط له فى الأمل، وكان هو وابنه فى محلِّ الكرامة والجذل، بدأ بعرض ما هو عليه ناصر الدِّين، وجامع كلمة المُسْلِمِين، القائم بدعوة مولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين، الأمير أبو يعقوب يوسف بن تاشفين المتحرك بالجهاد المتجهز إلى المُسْلِمِين باستئصال فئة العناد، ولمة الفساد، قام بدعوة الإمامة العباسية والناس أشياع, وقد غلب عليهم قوم دعوا إلى أنفسهم ليسوا من الرهط الكريم، ولا من شعبة الطاهر الصميم، فنبَّه جميع من كان فى أفق قيامه بالدعوة الإمامية العباسية، وقاتل مَن توقَّف عنها منذ أربعين عامًا إلى أن صار جميع مَن فى جهة المغارب على سعتها وامتدادها له طاعة، واجتمعت بحمد الله على دعوته الموفَّقَة الجماعة، فيخطب الآن للخلافة، بسط الله أنوارها، وأعلى منارها على أكثر من ألفى منبر وخمسمائة منبر، فإن طاعته ضاعفها الله من أول بلاد الإفرنج -استأصل الله شأفتهم، ودمَّر جملتهم - إلى آخر بلاد السوس مما يلى بلاد غانة وهى بلاد معادن الذهب، والمسافة بين الحدين المذكورين مسيرة خمسة أشهر، وله وقائع فى جميع أصناف الشرك من الإفرنج وغيرهم قد فللت غربهم، وقللت حزبهم، وألفت جموعه حربهم، وهو مستمرٌّ على مجاهدتهم، ومضايقتهم فى كل أفق، وعلى كل الطرق، وقد استرجع كثيرًا من المعاقل التى استباحها الروم من أمور المُسْلِمِين، وسبت أهلها قبل حصول تلك الجهات فى حكم سلطانه، وكانت ثغور المُسْلِمِين بها مستضامة، وقد أعادها جده بحمد الله إلى أولها، واحترمت لحرمة المُسْلِمِين والإسلام وعزِّ سلطانه, وهذا دأبه، وهجيراه الذى لا عمل له سواه.
وعدة جيوشه إذا جمعها لحركته ستون ألف فارس, وكان أمله مواصلة الخدمة والتشريف بإنهاء أعماله، والإعلام بمناقل أحواله وأفعاله, وباحتماله على حماية دين المُسْلِمِين, وإقباله على مجاهدة المشركين، إلا أن الحائل المانع دون ذلك لاشفاته، ولم يزل محافظًا على ما هو عليه من إقامة الدعوة السعيدة, والاعتراف بجمل النعم الوافدة العديدة بفضل الله، ولقد وصل إلى ديار المشرق فى هذا العام قاضى من قضاة المغرب يعرف بابن القاسم، وذكر من حال هذا الأمير ما يؤكِّد ما ذكرته، ويؤيد ما شرحته، وأشاع القاضى المذكور ذلك بمكة، وصل الله تشريفها وتعظيمها، وذكر لى أن الروم على شفا جرف من تضييقه عليهم، وحصاره لهم، وقد تكرَّر إعلام الخادم بذلك لما تلزمه من طاعة أولى الأمر لاسيما هذا الأمير، وقد حظى بفضائل منها الدِّين المتين، والعدل المستبين، وطاعة الإمام، وابتدأ جهاده بالمحاربة على إظهار دعوته، وجميع المُسْلِمِين على(1/140)
طاعته والارتباط بحماية ثغور المُسْلِمِين، وهو ممن يقسم بالسوية، ويعدل فى الرعية, والله ما فى طاعته مع سعتها دان منه، ولا ناء عنه من البلاد ما يجرى فيه على أحد من المُسْلِمِين رسم مكس، وسبل المُسْلِمِين آمنة، ونقوده من الذهب والفضة سليمة من الشرب، مطرزة باسم الخلافة، ضاعف الله تعظيمها وجلالها.
هذه حقيقة حالِه، والله يعلم أنى ما أسهبت ولا لغوت، بل لعلى قد أغفلت أو قصَّرت، ولمولانا أمير المؤمنين المستظهر بالله، صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين، والطول العميم فى الأمر, تشريفه بقبول تأميله، وفى الإشارة إليه بما يقوى أمره، ويشد أزره, ويؤيد سلطانه، ويعلى شأنه, مجريًا له على السنن الكريم، الطول العميم، فوالله ما فى الأمراء ولا فى شيع النصحاء الأولياء من يجوز فى الولاء وصحة الانتماء سبقه، ولا يلبس من النصيحة من الخلافة المقدسة المبنية على طريق النبوية، ما يصل يده ويقوى أيده ويشد عضده بمنه وطوله.
وضراعة الخادم بالأدعية المتقبلة لنفسه ولابنه المسترق القن بعد الامتنان بإباحة الصدر لهما إلى الوطن، فقد بعد عنه سبعة أعوام، وأقاما فى الجناب المخضب الظليل, والكنف الرحب المأهول مدة عامين، يستدرَّان النعم الحافلة جملاً بعد جمل، ويكرعان فى المشارب الجمة العذبة عللاً بعد نهل, فلله الهام الشريفة التى مسحت على شكيتها من عدوان الأيام بيد شيم الكرام، فأزاحت عنهما جميع الشاكيات والآلام. . لا أعدم الله مولانا الإمام المستظهر بالله أمير المؤمنين، صلوات الله عليه وعلى آبائه المنتخبين مبرة تتضاعف بها المعالي, وسعادة تحرز أسنى الآمال، وكفاية يستمدُّ بها حرية الأيام والليالي، فذلك بيده وغيره معجزة، وهو المنعم الجوَّاد، وكلُّ خير من طوله مستفاد، لا شريك له، ولا توفيق إلا به والحمد لله حق حمده، وصلواته على سيد المرسلين رسوله وعبده وعلى آله الطيبين، وعترته المنتخبين الراشدين، آباء أمير المؤمنين صلوات الله عليهم أجمعين إلى يوم الدِّين، وحسبى الله ونعم الوكيل» (1).
إذا تأمَّلنا فى الرسالة المذكورة فإنها تدلُّنا على طابع رسائل الحُكَّام فى فترة المرابطين، وتدلنا على حسن اختيار دولة المرابطين لممثليها عند الخلافة العباسية حيث إنَّها اختارت عالمًا فقيهًا ذا دراية وخبرة كبيرة فى مخاطبة الحُكَّام والخلفاء، وبذلك نجحت تلك
_________
(1) دراسات فى تاريخ المغرب والأندلس, د. أحمد العبادي، ص (476).(1/141)
الوفادة وحققت أهدافها، ورجعت تحمل معها ثمارها.
ثانيًا: رد الخلافة العباسية على طلب دولة المرابطين:
لاشكَّ أن الخلافة العباسية دخلها سرور عظيم, وكسبت مكسبًا معنويًا كبيرًا, ولذلك حرص الخليفة على أن يرد بنفسه على خطاب ابن تاشفين حيث كتب سبعة وثلاثين سطرًا جاء فيها: «عرضت هذه القصة بمفاوز العز والعصمة، ومواقف الإمامة المطهرة المكرمة، زاد الله جلالها، وسبوغ ظلالها، فخرجت المراسم الشريفة بأن
ذلك الولى الذى أضحى بحبل الإخلاص معتصمًا, ولشرطه ملتزمًا، وإلى أداء فروضه مسابقًا، وكل فعله فيما هو بصدده للتوفيق من الولاء، طويل نجاده, إذ كان مَن غدا بالدِّين تمسكه, وفى الذيادة عنه مسلكه، حقيقًا بأن يستتب صلاح النظام على يده، ويستشف من يومه حسن العقبى فى مَن يليه من الكفار, وإتيان ما يقضى عليهم بالاجتياح والبوار، اتباعه لقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123].
فهذا هو الواجب اعتماده الذى يقوم به الشرع، وأن يؤلف شمل مَن فى جملته من الأنجاد على الطاعة الإمامية التى هى العروة الوثقى والذخر الأبقى واستقراه قوله تعالى العمل، والبدار إلى التشبتث بسببه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِى الأمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59].
وليكن دأبه الجهاد فيما يكسب عند الله الزلفى, ويمنحه من رضاه القسم الأكمل الأوفى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أن بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران:30].
وأن يختص رافعها وولده بالإرعاء الذى يضفو عليهما برده، ويصفو لهما ورده، وليظهر عليهما من المهاجرة جميل الأثر، ويؤول أمرهما فيما يرجو أنَّهما إلى استقامة النظام وضمِّ النشر، فليقابل الأمر الأسنى فى ذلك بامتثال واحتذاء مطاع المثال - إن
شاء الله-» (1).
لقد استطاعت دولة المرابطين أن تكون سندًا قويًا معنويًا للخلافة العباسية السُّنيَّة, وبذلك تكون نفَّذت أوامر ربها, واسترشدت بتوجيهات نبيها، فأصابها بركة ذلك من
_________
(1) دراسات فى تاريخ المغرب، ص (478).(1/142)
سمعتها العالمية فى ديار المُسْلِمِين، وأصبحت جزءًا من الخلافة العباسية التى اكتفت منها بالطاعة المعنوية، وبذلك تحصل أمراء المرابطين من اعتراف الخلافة العباسية بدولتهم, حيث إن المرابطين كانوا يعتقدون اعتقادًا راسخًا أنه لن يعتبر ملكهم مشروعًا إلا إذا باركته الإمامة القرشية العباسية.
واختلف المؤرِّخون فى زمن اتصال المرابطين بالخلافة العباسية: فابن الأثير يقول: إن أول اتصال بين المرابطين والعبَّاسيين قد حدث عقب انتصار الزِّلاقَة, واستيلاء يوسف على الأَنْدَلُس, ويتفق مع ابن الأثير فى هذا الرأى كلٌّ من ابن خلدون, والقلقشندي, والذهبي (1).
وأنا أميل إلى أن اتصال المرابطين كان قبل ذلك بكثير حيث إن واضع الخطوط العريضة لدولة المرابطين الفقيه «أبو عمران الفاسى القيرواني» مِن أتباع العباسية, وكلُّ الفقهاء الذين من مدرسته سُنيُّون مالكيُّون، وبذلك يكون زعماء المرابطين ساروا على نفس التعاليم السُّنيَّة المالكية.
ونجد أن نقود المرابطين قد نقش عليها أسماء الخلفاء العبَّاسيين منذ عام 450هـ، أى منذ عهد الأمير أبى بكر بن عمران، وظلَّ اسم الخليفة العبَّاسى يذكر مقرونًا باسم أبى بكر بن عمران إلى أن توفى فى عام 480هـ، وخلفه يوسف بن تاشفين فذكر اسمه على السكة مع اسم الخليفة العبَّاسي، وهذا يدل على صلة المرابطين بالعبَّاسيين قبل الزِّلاقَة، ولا شكَّ أن كتابة اسم الخليفة على عملة المرابطين تم بعد اتصالهم بالخليفة العبَّاسي، وبعد أن تلقَّوا منه إجابة بقبول طاعتهم, وتقليدًا بولايتهم (2).
* * *
_________
(1) تاريخ المغرب والأندلس، د. حمدي عبد المنعم، ص (237).
(2) المصدر السابق، ص (236).(1/143)
المبحث الرابع
علاقة الأمير يوسف مع بنى حماد
حرص الأمير يوسف على علاقة حسن الجوار مع دولة بنى حَمَّاد الصنهاجية التى تقع فى شرق دولة المرابطين، وكان الحَمَّاديون يتحينون الفرصة لضم أطراف من مملكة المرابطين، وتمَّ لهم ذلك عندما عبر الأمير يوسف الأَنْدَلُس عام 479هـ، فتحالفوا مع عرب بنى هلال؛ وغزوا المغرب الأوسط؛ وعادوا إلى بلادهم محملين بالغنائم، وسكت يوسف عن الانتقام منهم, وصالحهم، ولم يرغب فى الدخول فى حرب معهم مع وجود أسبابها حقنًا لدماء المُسْلِمِين وحفظًا لشوكتهم وقوتهم.
وعندما تُوفى الناصر بن علناس الحَمَّادى فى عام 481هـ, بعث الأمير يوسف بكتاب تعزية إلى ولده وخليفته المنصور، مما يدل على نيَّات يوسف السلمية تجاه بنى حَمَّاد، واستمرَّت حالة السلم بين الفريقين أكثر من عشر سنوات, ثم نشب خلاف بين والى تلمسان المرابطى تاشفين بن تنغمير وحُكَّام بنى حَمَّاد, فهاجم الأمير تاشفين بدون إذن من الأمير يوسف، واشتدَّ الصِّراع بين الطرفين, وتدخل الأمير يوسف واستطاع بحكمته وسياسته أن يحقن دماء المُسْلِمِين، وعزل حاكم تلمسان تاشفين وعيَّن مكانه الأمير مزدلي، وبعد أن ضم الأمير يوسف الأَنْدَلُس أضحت مملكة بجاية ملاذًا للفارِّين من الأَنْدَلُس، ومع ذلك لم يحرك الأمير يوسف ساكنًا تجاه عمل بنى حَمَّاد, وبقى الأمر كذلك حتى وفاته (1).
لقد كان للتوجه السنى فى دولة الحَمَّاديين أثر فى تخفيف الصراع مع المرابطين، كما إن لصلة القرابة الصنهاجية سببًا آخر، وإلا ما كانت تستطيع دولة الحَمَّاديين أن تقاوم جيوش المرابطين الفتية، وفى نظرى إن بقاء دولة الحَمَّاديين كانت من الأسباب التى أضعفت الدولة الزيرية والصنهاجية، وسببت توترًا وارتباكًا لدولة المرابطين، ولو ضمت لدولة المرابطين لكان أفيد للإسلام والمُسْلِمِين وللمغرب الأوسط والأقصى.
* * *
_________
(1) دولة المرابطين, ص (158).(1/144)
المبحث الخامس
علاقة المرابطين مع ملوك الطوائف
مرَّت علاقة المرابطين مع ملوك الطوائف بمراحل متعددة، وهي: المسالمة،
التحالف، القتال.
أولاً: مرحلة المسالمة:
لمَّا وصلت دولة المرابطين ذروة قوتها وحطت بجيوشها وأساطيلها على سهل البحر المتوسط ارتعد ملوك الطوائف، وأصابهم الخوف وركبهم الهمُّ، وأصبحوا بين قبضتين قويتين: بين النصارى الذين يمكن مداراتهم بالأموال والتنازل عن بعض الحصون, وبين المرابطين الذى عرفوا بجهادهم واستعلائهم على متاع الدنيا، وحبِّهم للشهادة, ورفع المظالم عن العباد، وقد وصلهم ظلم ملوك الأَنْدَلُس، وقد اشتهر جنود المرابطين بصيت عظيم فى تحقيق النصر فى المعارك، وبأس شديد فى القتال مما أدخل الرعب فى قلوب ملوك الطوائف، فعقدوا اجتماعًا للتشاور فى أمر الخطر القادم من الجنوب، واستقرَّ رأيهم أن يكتبوا للأمير يوسف يسألونه الإعراض عنهم, وأنَّهم تحت طاعته، وهذا نص الكتاب:
«أما بعد, فإنَّك إن أعرضت عنا نسبت إلى كرم, ولم تنسب إلى عجز، وإن أجبنا داعيك نسبنا إلى عقل ولم ننسب إلى وهن، وقد اخترنا لأنفسنا أجمل نسبنا فاختر لنفسك أكرم نسبتك، فإنَّك بالمحل الذى لا يجب أن تُسبَق فيه إلى مكرمة، وإن فى استبقائك ذوى البيوت ما شئت من دوام لأمرك وثبوت والسلام» (1).
وأرسلوا مع حامل الكتاب هدايا وتحفًا نفيسة.
وبعد أن تشاور الأمير يوسف مع مستشاريه رأى إن يسالمهم ويرضى بما قدَّموا له من طاعة, وردَّ عليهم بهذا الكتاب جاء فيه:
«بسم الله الرحمن الرحيم من يوسف بن تاشفين سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تحية من سالمكم وسلم عليكم, وحكمه التأييد والنصر فيما حكم عليكم، وإنَّكم مما فى
_________
(1) دولة المرابطين, ص (159).(1/145)
أيديكم من الملك فى أوسع إباحة مخصوصين منا أكرم إيثار وسماحة، فاستديموا وفاءنا بوفائكم, واستصلحوا إخاءنا بإصلاح إخائكم، والله ولى التوفيق لنا ولكم والسلام».
وقد قرن الأمير يوسف الكتاب بالتحف وبدرق اللمط التى لا توجد إلا فى ديار المرابطين، ولما وصل كتابه إلى ملوك الطوائف فرحوا بذلك، وتقوَّت نفوسهم على قتال الإسبان، وأحب أهل الأَنْدَلُس دولة المرابطين حُكَّامهم ومحكوميهم (1).
ثانيًا: مرحلة التحالف:
وبعد سقوط طُلَيْطِلَة فى يد الإسبان النصارى عام478هـ اضطرَّ ملوك الطوائف أن يطلبوا النجدة من الأمير يوسف الذى لبى نداءهم، وكان سببًا فى إيقاف زحف النصارى على ممالك الأَنْدَلُس، وانتصر على ألفونسو فى معركة الزِّلاقَة المشهورة.
وبعد أن احتك الأمير يوسف بملوك الطوائف, ووقف على خيانتهم وتحالفهم مع النصارى, واتصالهم بأعداء المُسْلِمِين انتقلت العلاقة من التحالف إلى العداوة.
ثالثًا: مرحلة العداوة:
حيث استعرتْ نار الحرب بين المرابطين وملوك الطوائف انتهت بضم كل ممالك الأَنْدَلُس لدولة المرابطين إلا سَرْقُسْطَة التى حكمها أحمد بن هود, والذى كان كالشوكة فى حلق النصارى، فقد قاومهم زمنًا طويلاً، وتراجع النصارى أمام صمود بنى هود البطولي، وأظهر بنو هود مقدرة فائقة على قتال النصارى مما جعل المرابطين يحترمونهم، وتوطَّدت العلاقة الوديَّة بين الأمير يوسف والأمير أحمد بن هود الذى كان وفيًا فى عهوده, ومخلصًا فى جهاده, وحريصًا على أمَّتِه، ورضى المرابطون ببقاء أحمد بن هود حاكمًا تابعًا لهم, بذلك أصبحت الأَنْدَلُس ولاية تابعة لدولة المرابطين، وتوارت العناصر والزعامات الهزيلة وانهار سلطان العصبيات الطائفية (2).
* * *
_________
(1) دولة المرابطين, ص (160).
(2) انظر: الأندلس فى عصر المرابطين، ص (112).(1/146)
المبحث السادس
علاقة المرابطين مع الإسبان والنصارى
كانت علاقة المرابطين مع نصارى الإسبان عدائية بصورة دائمة إذ لم يتخللها أى اتصال وديٍّ خصوصًا فى زمن الأمير يوسف بن تاشفين، والاتصال الوحيد الذى حدث عن طريق الرسائل بين الأمير يوسف وألفونسو أثناء قيام هذا الأخير بحملته العدائية على مملكة المُعْتَمِد، ووصوله إلى مضيق جبل طارق إذ أرسل إلى الأمير يوسف رسالة تفيض تهديدًا ووعيدًا، ويذكر فيها حالة ملوك الطوائف، وكان جواب الأمير يوسف مختصرًا: الجواب ما ترى لا ما تسمع- إن شاء الله - تعالى- وأردف:
ولا كتب إلا المشرفية والقنا ... ولا رسل إلا الخميس العرمرم (1)
واستمرَّ جهاد المرابطين للنصارى الذين امتنعوا عن دخول الإسلام, ورفضوا دفع الجزية, وحملوا السيف ضد المُسْلِمِين، أمَّا الذين دفعوا الجزية, وعاشوا داخل دولة المرابطين؛ فكانت أَحكام الإسلام فى أهل الذِّمَّة تحفهم وتحفظ حقوقهم.
أولاً: عاملتهم دولة المرابطين معاملة أهل الذمة:
فكانت عليهم واجبات فى دولة المُسْلِمِين منها:
1 - التزام الجزية، وإجراء أَحكام أهل الذِّمَّة عليهم.
2 - ترك ما فيه ضرر على المُسْلِمِين فى أنفسهم وأموالهم؛ كالتعدى على المُسْلِمِين بضرب أو نهب.
3 - تحاشى ما فيه غضاضة على المُسْلِمِين، كذكر الإسلام أو القرآن أو الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما لا ينبغي.
4 - تجنُّب ما فيه إظهار منكر، كشرب الخمر فى الأماكن العامة للمُسْلِمِين.
_________
(1) دولة المرابطين, ص (66).(1/147)
5 - التميُّز عن المُسْلِمِين بعلامة خاصة يُعرفون بها، كأن تكون فى اللباس
أو غيره (1).
ثانيًا: حقوقهم فى دولة المسلمِين:
الكف عنهم والحماية لهم، ليكونوا بالكف آمنين، وبالحماية محروسين (2). روى نافع عن ابن عمر قال: «احفظونى فى ذمتي» (3) والأَحكام فيما يتعلق بأهل الذِّمَّة كثيرة يرجع إليها فى كتب الفقه المختصة.
* * *
_________
(1) انظر المغني: لابن قدامة، (ج10/ 606 - 618).
(2) الأحكام السلطانية للماوردي, ص (143).
(3) المصدر السابق نفسه.(1/148)
الفصل الرابع
سياسة المرابطين فى دولتهم المجيدة
المبحث الأول
نظم الحكم والإدارة فى دولة المرابطين
أولا: النظام الإدارى:
1 - نظام إمارة المسلمين:
كان النظام السائد فى إمارة المُسْلِمِين عند المرابطين يعتمد على اختيار الأمير وفق فقه الشورى، وكانوا حريصين على تطبيق قول الله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38].
وكان زعماء المرابطين يتشاورون فى الوسائل التى تعين على تمكين الحق وإظهار الصواب، ونشر الصلاح بين العباد، واقتدوا بالقرآن الكريم فى توجيهه للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الأمْرِ} [آل عمران:159].
«أى لا يصدنك ما كان منهم من خطأ رأيهم فيما بدا منهم يوم أحد عن أن تستعين برأيهم فى مواقع أخرى، فإنَّما كان قد حصل فلتة تُغفر وعثرة تُقال, وشاورهم فى أمر الحرب وأمثاله مما يجرى فيه المشاورة» (1).
وقد دلَّت الآية على أن الشورى قد أمر بها الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فى مهمات الأمة ومصالحها كالحرب ونحوها، وذلك فى غير أمر التشريع، لأن أمر التشريع إن كان فيه وحى فلا محيد عنه، وهى توجيه لكل ولاة الأمر بعده أن يشاوروا عن أمر الدِّين والدنيا، وما ليس فيه نصٌّ واضح، وهى تشمل هنا المشاورة فى شئون الأمة ومصالحها (2).
وكان مذهبهم فى الشورى مذهب المالكية وليس الخصوص، قال ابن خويز منداد:
_________
(1) انظر: تفسير أبي السعود، (ج1/ 558).
(2) انظر: تفسير القرطبي، (ج4/ 205).(1/149)
«واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وفيما يشكل من أمور الدِّين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها» (1).
وأشار ابن العربى إلى وجوبها بأنها سبب الصواب, فقال: «والشورى مسبار العقل وسبب الصواب»، ويشير إلى أننا مأمورون بتحرى الصواب فى مصالح الأمة وما يتوقف عليه الواجب فهو واجب (2).
ويذهب ابن عطية أيضًا إلى الوجوب، بل يؤكد هذا الوجوب فيقول: «الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأَحكام، ومن لا يستشير أهل العلم فعزله واجب، وهذا ما لا اختلاف فيه» (3).
لقد كان نظام الشورى هو الأساس الذى اعتمده المرابطون فى نظام حكمهم فى بداية دولة المرابطين قبل يوسف بن تاشفين، فقد كان المرابطون يختارون بكامل الحرية رئيسهم الذى يتم تعيينه بعد عقد مجلس من زعماء القبائل والولاة والعلماء والفقهاء يشارك فيه شيوخ المرابطين وأعيانهم، بهذه الطريقة تم اختيار عبد الله بن ياسين، الذى لم يحرص على استمرار الإمارة فى أسرته، كما أنه لم يباشر أى ضغط على المرابطين فى اختيار يحيى بن عمر ثم أبى بكر بن عمر، بل كانت وصيته الأخيرة للمرابطين قوله: «إياكم والمخالفة والتحاسد على الرياسة، فإن الله يؤتى ملكه من يشاء، ويستخلف فى أرضه من أحب من عباده، ولقد ذهبت عنكم فانظروا من تقدمونه منكم، يقوم بأمركم ويقود جيوشكم، ويغزو عدوكم، ويقسم بينكم فيئكم، ويأخذ زكاتكم وأعشاركم» (4).
ومن هذه الوصية يتبين أن الزعيم الأول للمرابطين، لم يكن يرى طريقة الحكم الوراثي، أما يوسف بن تاشفين فقد كان يخشى أن يعود الأمر فوضى بعده وأن تنفصم عرى هذه الوحدة، وتنتهى هذه الدعوة التى عمل جاهدًا على تبيلغها زهاء نصف قرن، لذلك رأى يوسف أن يُعَيّن واليًا للعهد يستخلفه بعد موته, وهكذا حدث انحراف فى
_________
(1) تفسير القرطبي, (ج4/ 205).
(2) ابن العربي.
(3) ابن أبي زرع القرطاس، ص (90).
(4) المرجع السابق.(1/150)
اختيار الحاكم عند المرابطين من الشورى إلى النظام الوراثى منذ أن اختار يوسف بن تاشفين ابنه عليًا واليًا لولاية العهد، وكان اجتهاد يوسف بن تاشفين فى هذا التعديل الخطير يعتمد على رأيه أن اجتهاده ذلك يحفظ وحدة بلاده ودولته، ويقضى على التنافس من أجل الحكم ورأى مصلحة بلاده وشعبه تقتضى اختيار ابنه.
كان من الطبيعى أن يمهِّد لفكرته فى اختيار ولى العهد, ولذلك شاور كل مَن يهمه الأمر حول هذا الاختيار، ولهذا بادر بمشاورة الفقهاء والقضاة وزعماء القبائل وأفراد الأسرة المرابطية وكبار رجال الدولة فى سنة 495هـ / 1101م، وناقشهم فى المبررات التى دفعته إلى اختياره، فوافقه الجميع على ما اعتزم عليه، وعلى أثر ذلك قرئ مرسوم البيعة الذى يتضمن الأسباب التى حملته على هذا الاختيار، والشروط الواجب توافرها فيه، والمبادئ التى ينبغى أن يسير عليها، وهذا المرسوم كتبه الوزير الفقيه أبو مُحَمَّد بن عبد الغفور، وكان من أعلام البلاغة فى ذلك العصر» (1).
ونستخلص من نص الوثيقة التى ذكرتها فيما مضى: أن يوسف بن تاشفين اتبع مبدأين فى اختياره ولده أبا الحسن عليًا وليًا لعهده.
أولهما: مبدأ الاختيار:
فقد أشارت الوثيقة التى ذكرتها إلى أن يوسف قد اختار مِن بين أولاده مَن هو أصلح لقيادة تلك الدولة المترامية الأطراف: «فوجد ابنه الأمير الأجل أبا الحسن أكثرها ارتياحًا إلى المعالى واهتزازًا، وأكرمها سجية وأنفسها اعتزازًا، فاستنابه فيما استرعى ودعاه لما كان إليه دعا» (2).
ثانيهما: مبدأ الشورى:
فقد أخذ يوسف به، وتمسَّك بما جاء فى القرآن الكريم, وما جاء على لسان
نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , وما سار عليه الخلفاء الراشدون: «ودعاه لما كان إليه دعا، بعد استشارة أهل الرأى على القرب والنأي» (3).
كما أشار مرسوم البيعة إلى أنَّها كانت مشروطة ببعض الشروط اشترطها الأمير
_________
(1) انظر: الحلل الموشية، ص (56 - 57).
(2) المرجع السابق نفسه.
(3) المرجع السابق نفسه.(1/151)
يوسف على ابنه، وأهم تلك الشروط التمسك بالمبادئ التى دعا إليها الإمام عبد الله بن ياسين من إعلان الجهاد على أعداء الإسلام، واحترام الفقهاء والقضاة والعلماء، والعمل على إقامة العدل بين الرعية، بالإضافة إلى بعض الأمور التى تتعلق بضمان أمن الدولة من وضع سبعة عشر ألف فارس بالأَنْدَلُس موزعة على أقطار معلومة، يكون منها بإشبيلية سبعة آلاف فارس وبقرطبة ألف فارس وباقى العدد على ثغور المُسْلِمِين للذَّب والمرابطة فى الحصون المعاينة للعدو (1).
وفى عام 496هـ دخل يوسف بن تاشفين قرطبة، وجمع كبار رجال الدولة وأمراء لمتونة أشياخ البلاد، وقادة الرأى والفقهاء والعلماء والقضاة، وتلا عليهم عقد البيعة لابنه على الذى سبقت الإشارة إليه، وضمنه الأسباب التى حملته على اختياره وليًا للعهد، ثم أخذ البيعة له من جميع الحاضرين، وأقسم هؤلاء يمين الطاعة والولاء، ثم وقَّعوا على عقد البيعة، وقام على أثر ذلك، فأقسم أمام الحاضرين بالتزام شروط العقد وترسم السِّيَاسَة التى رسمها أبوه، ثم أشهد الكتاب ووقَّع على الوثيقة (2).
أ- وفاة الأمير يوسف:
ثم عاد يوسف بن تاشفين إلى المغرب، حيث مرض مرضه الأخير الذى استمرَّ زهاء عامين وشهرين، وانتهى بوفاته عن مائة عام حافلة بالجهاد والدعوة وإعزاز دين الله، وكانت سنة وفاته 500 هـ / 2 سبتمبر 1106م وكان ولى العهد يقوم أثناء مرض أبيه بتصريف أمور الحكم نيابة عن أبيه، ونجح نجاحًا كبيرًا فى إدارة دفَّة الحكم لدولة المرابطين, وكانت آخر وصية من يوسف لابنه فى مستهلِّ سنة 500هـ، أن أوصى ولده وولى عهده بعده أبا الحسن عليًّا بثلاث وصايا أولها: «ألا يهيج أهل جبل درن ومَن وراءه من المصامدة وأهل القبلة» والثانية: «أن يهادن بنى هود بالأَنْدَلُس, وأن يتركهم حائلين بينه وبين الروم» والثالثة: «يقبل مِمَّن أحسن من أهل قرطبة ويتجاوز عن مسيئهم» (3).
ب- لقب أمير المسلمين:
كان زعماء المرابطين يطلقون على أنفسهم لقب الأمراء، وظل المرابطون يطلقون
_________
(1) تاريخ المغرب والأندلس، ص (251).
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) ابن أبي زرع, ص (103).(1/152)
لقب الأمير على كل زعيم يتولى أمرهم ابتداءً من عهد أمير لمتونة أبى زكريا يحيى بن عمر اللمتوني، فتلقَّب به يحيى كما تلقَّب به أخوه أبو بكر بن عمر بعد وفاته، وعندما تولَّى يوسف بن تاشفين زعامة المرابطين منذ 464هـ, ظلَّ يتلقب بالإمارة إلى سقوط أبى بكر ابن عمر شهيدًا فى إحدى المعارك فى سنة 480هـ / 1087م, وعندئذٍ أصبح يوسف الزعيم الأوحد للمرابطين، واجتمع إليه أشياخ قبيلته وعرضوا عليه أن يتلقَّب بأمير المؤمنين، لإن حقََّه أكبر من أن يُلقَّب بالأمير فرفض ذلك قائلاً: «حاشا أن أسمى بهذا الاسم, إنما يتسمى به خلفاء بنى العبَّاس لكونهم من تلك السلالة الكريمة وأنا رجلهم والقائم بدعوتهم» (1)،
ولكنَّهم قالوا له: إنه لابد له من اسم يمتاز به على سائر الأمراء واقترحوا عليه لقب أمير المُسْلِمِين وناصر الدِّين، وأصبح العمل جاريًا به عند سائر المرابطين، وقد صدرت الكتب تحمل هذا اللقب بعد وفاة أبى بكر بن عمر على القول الأرجح, وهذا نص الكتاب الذى أرسله إلى الولاة والقادة والعلماء: «بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم تسليمًا: مِن أمير المُسْلِمِين وناصر الدِّين يوسف بن تاشفين إلى الأشياخ والأعيان والكافة أهل (فلانة) أدام الله كرامتهم بتقواه ووفقهم لما يرضاه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أمَّا بعد, حمداً لله أهل الحمد والشكر، وميسر اليسر وواهب النصر، والصلاة على مُحَمَّد المبعوث بنور الفرقان والذكر، وأنا كتبناه إليكم من حضرتنا العلية بمراكش - حرسها الله -، وأنَّه لمَّا مَنّ الله علينا بالفتح الجسيم, وأسبغ علينا من أنعمه الظاهرة والباطنة, وهدانا وهداكم إلى شريعة مُحَمَّد المصطفى نبينا الكريم صلى الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم؛ رأينا أن نُخصِّص أنفسنا بهذا الاسم لنمتاز به على سائر أمراء القبائل، وهو أمير المُسْلِمِين وناصر الدِّين، فمن خطب الخطبة العلية السامية فليخطبها بهذا الاسم إن شاء الله تعالى, والله وليُّ العدل بمنِّه وكرمه والسلام» (2).
ويرى بعض المؤرخين من أمثال أبى زرع فى «روض القرطاس» إلى أن الأمير يوسف تلقَّب بأمير المُسْلِمِين فى يوم الزِّلاقَة، ولم يكن يُدعى به من قبل، وأن ملوك وأمراء الأَنْدَلُس وكانوا ثلاثة عشر ملكًا بايعوه وسلَّموا عليه باسم أمير المُسْلِمِين وهو
_________
(1) دولة المرابطين, ص (162) ..
(2) دولة المرابطين، ص (162 - 163).(1/153)
أول من سُمى به من ملوك المغرب.
وقد تأثَّر شعب النيجر بشكل خاص بالمرابطين, وأطلق على حُكَّامه لقب أمير المُسْلِمِين, وكانوا مالكيين فى المذهب, ويرجع ذلك إلى أن المرابطين هم الذين نشروا الإسلام فى تلك الربوع النائية (1).
ج- نائب الأمير:
كان اتساع مملكة المرابطين سببًا فى اتخاذ نوَّاب ينوبون عن أمير المسلمين؛ حيث كان من المستحيل عليه أن يشرف وحده على تلك الدول المترامية الأطراف، فعيَّن بعض النواب المقرَّبين إليه، فعيَّن نائبًا على شئون الأَنْدَلُس ونوَّابًا على إقليم المغرب، وكان يراعى فى اختيار النائب أن يكون أقرب الناس إلى أمير المُسْلِمِين، وأن يتوفر فيه حسن الإدارة والكفاية العسكرية ويعتبر ممثلاً أوليًا لأمير المُسْلِمِين, ويستمد نائب الأمير سلطته من الأمير شخصيًا، وكان ولى العهد نائبًا للأمير، وتولى نيابة الأَنْدَلُس، وكانت قرطبة هى المفضلة لإقامة ولى العهد لمكانتها السامية فى نفوس الأَنْدَلُسيين، وأول نائب عيَّنه الأمير يوسف على الأَنْدَلُس القائد سير بن أبى بكر اللمتوني، ثم بدَّل به ابنه أبا الطاهر تميم بن يوسف، وتلى نيابة الأَنْدَلُس من حيث الأهمية نيابة فاس بالمغرب, وكان النائب يستقر فيها عندما كان الأمير يوسف يعود إلى مراكش كى لا تحدث ازدواجية فى السلطة (2).
كانت مهمة النائب بالدرجة الأولى عسكرية, إذ كان عليه أن يخوض الحروب, ويقمع الفتن وحركات التمرد, يعاونه قادة كبار من لمتونة (3).
وكان من سياسة يوسف بن تاشفين مع نوابه مراقبتهم, ولا يتيح لهم الاستقرار فى مناصبهم لعهود طويلة حتى لا يعملوا على الاستقلال، فكان النوَّاب دائمًا معرَّضين للنقل من ولاية إلى أخرى.
وكان نائب أمير المُسْلِمِين يتخذ لنفسه كتّابًا يقومون عنه بالمكاتبات, أو تسند إليهم بعض الأعمال الإدارية، ومِمَن ظهر من كتاب نواب أمير المُسْلِمِين على بن يوسف فى
_________
(1) دولة المرابطين, ص (162 - 163).
(2) حركات النظام السياسي والحربي عند المرابطين، ص (65).
(3) مجلة كلية الآداب، جامعة القاهرة، المجلد 11، (ج2/ 27)، تحت عنوان الثغر الأعلى فى عهد المرابطين,
د. حسين مؤنس.(1/154)
الأندلس الكاتب الأديب أبو عبد الله مُحَمَّد بن أبى الخصال كاتب الأمير مُحَمَّد بن الحاج، وأبو بكر بن الصائغ كاتب الأمير أبى بكر بن إبراهيم، والزبير بن عمر اللمتونى كاتب تاشفين بن علي، وكانت حياة كل نائب من نواب أمير المُسْلِمِين صورة مُصغَّرة من حياة هذا الأمير فكانوا يتخذون القصور والخدم والفقهاء والأعوان (1).
د - تولية الولاة:
كان الأمير يوسف يُعَيِّن الولاة على الأقاليم من لمتونة بشكل خاص وصنهاجة بشكل عام؛ فولَّى أمراء قومه الأقاليم، فقبْل ضم الأَنْدَلُس كان سير بن أبى بكر على مدائن مكناسة وبلاد مكلالة وبلاد فازاز، وولَّى عمر بن سليمان المسوفى مدينة فاس وأحوازها، وداود ابن عائشة سجلماسة ودرعة، وتميم بن يوسف مدينة أغمات ومراكش وبلاد السوس وسائر بلاد المصامدة وتدلا وتامسنا, وبعد ضم الأَنْدَلُس عين يوسف بن تاشفين القائد سير بن أبى بكر حاكمًا على الأَنْدَلُس، وفوَّض له تعيين والٍ على كل بلد يفتحه ويكون من لمتونة.
وكان الولاة يخضعون مباشرة لنائب الأمير، ومُنح الأمير يوسف سلطات واسعة: منها حق التصرف فى عزل وتعيين مَن دونهم مِن الولاة المحليين، ومَن يليهم مِن رجال السلطة، وكذلك القيام بتحركات عسكرية داخل مناطق نفوذهم، وكان الأمير يوسف وابنه من بعده يراقبون ولاتهم مراقبة شديدة، ويجرى تبديلهم وعزلهم إذا أساءوا، وكانوا يضعون مصالح الرعية فى المقام الأول عند تعيين الولاة (2).
هـ - نظام الوزارة:
كان الأمير يوسف بعيدًا كل البعد عن اتخاذ الألقاب والألفاظ والاهتمام بالمناصب، فلم يتخذ وزراء بالمعنى المتعارف عليه، ولم يمنح لقب وزير لأى شخص, إلا أنه اتخذ لنفسه أعوانًا يرجع إلى مشورتهم، وكُتَّابًا يشرفون على ديوان الرسائل أو الإنشاء، وكانت لديه هيئة استشارية تشترك فيها طائفة من الفقهاء، والأعيان والكُتَّاب يلازمونه فى قصره وتنقلاته يبدون آراءهم فى المشاكل المطروحة للبحث, وتبقى الكلمة الفاصلة للأمير، أمَّا فى الأمور المهمة فكان يجمع زعماء المرابطين وأبناء عمومته من لمتونة للتداول واتخاذ
_________
(1) تاريخ المغرب والأندلس فى عصر المرابطين، ص (263).
(2) دولة المرابطين, ص (165).(1/155)
الآراء، وكان الاتصال بالأمير عن طريق الأعوان من السهولة بمكان، وساعد على ذلك ما امتاز به الأمير من زُهد فى الدنيا, وتطلع للآخرة, وحب البساطة، وميل للتواضع.
ويذهب الأمير يوسف فى مذهبه إلى أن الشورى معلمة وغير ملزمة وله فى ذلك أدلة؛ حيث ذهب بعض المفسرين إلى إن الشورى غير ملزمة مستندين فى ذلك إلى قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ}.
ذهب الإمام الطبرى إلى القول: «إذا صحَّ عزمك بتثبيتنا إياك وتسديدنا لك فيما نابك وحزبك من أمر دينك ودنياك، فامض لما أمرناك به، وافق ذلك آراء أصحابك وما أشاروا به عليك أو خالفها، وتوكَّل فيما تأتى من أمورك على ربِّك، فثق به فى كل ذلك، وارض بقضائه فى جميعه دون آراء سائر خلقه ومعونتهم» (1).
ويرى بعض العلماء أن رأى الشورى ولو أنه غير ملزم لكنَّه ينير الطريق
أمام الحاكم (2).
وأضاف العلامة أبو الأعلى المودودى فى قضية الشورى هل هى معلمة أو ملزمة بعدًا آخر وهو طبيعة المجتمع وما يسوده من أخلاق؛ حيث يقول: «ما وجدت حكمًا قاطعًا فى هذا الباب فى أحاديث الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , غير أن العلماء قد استنبطوا من عمل الصحابة فى عهد الخلافة الراشدة أن رئيس الدولة هو المسئول الحقيقى عن شئون الدولة، وعليه أن يُسيِّرها بمشاورة أهل الحل والعقد، ولكنَّه ليس مقيدًا بأن
يعمل بما يتفقون عليه كلهم أو أكثرهم من الآراء، وبكلمة أخرى أنه يتمتع
بحق الاعتراض على آرائهم.
ولكن هذا الرأى فى صورته المجملة كثيرًا ما يسبب سوء الفهم بالقياس إلى أحوالهم وأوساطهم الحاضرة، ولا ينظرون إلى ذلك الزمان ولا الوسط الذى قد أخذنا هذا الرأى من أعمال الأمة فيه، فما كان أهل الحِلِّ والعَقْد فى عهد الخلافة الراشدة منقسمين إلى أحزاب متفرقة, بل كانوا كلما دُعوا للمشاورة يأتون المجلس بقلوب ملؤها الإخلاص. . ثم يوازن الخليفة بين الحجج الموافقة والمعارضة ويعرض عليهم ما عنده من الدلائل، ويبين رأيه, وكان هذا الرأى فى عامة الأحوال رأيًا يسلم به أعضاء المجلس كلهم. .» ثم
_________
(1) تفسير الطبري، (ج7/ 346).
(2) د. عبد الحميد متولي، مبدأ الشورى فى الإسلام، ص (52).(1/156)
قال: «لم نعثر فى تاريخ الخلافة الراشدة كلِّه على مثال واحد نرى فيه أهل الحِلِّ والعَقْد قد تفرقت آرائهم حتى آل الأمر إلى عدد الأصوات» (1)، وهذا تفريق جميل بين المجتمع الإسلامى فى حاضرنا وبين المجتمع الإسلامى القائم على أسس دولة القرآن التى تربَّى المسلم على خشية الله فلا ينحرف عن الجادَّة.
وربما كان يوسف بن تاشفين وأمراء المرابطين مُحقِّين فى أخذهم بالرأى القائل بأن الشورى معلمة للأمير وليست ملزمة، ولهم أدلة كثيرة للتدليل على هذا المبدأ.
إلا أننى أرى الفائدة الكبرى والاستفادة العظمى فى زمننا هذا فى الأخذ بالرأى القائل بأنها ملزمة، والقائلون بهذا القول لهم أدلتهم منها:
إن الشورى ملزمة للحاكم طالما أنَّها مؤيدة بالشرع والعقل، فيقول ابن تيمية: «وإذا استشارهم فإن بيَّن له بعضهم ما يجب اتباعه من كتاب أو سنة رسوله أو إجماع
المُسْلِمِين، فعليه اتباع ذلك، ولا طاعة لأحد فى خلاف ذلك، وإن كان عظيمًا فى
الدِّين والدنيا، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِى الأمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] (2).
ولو كانت الشورى غير ملزمة، لكان بإمكان النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يجنب الجماعة المسلمة تلك التجربة المريرة التى تعرَّضت لها فى غزوة أحد - لو أنه قضى برأيه فى خطة المعركة، مستندًا إلى رؤياه. . ولم يستشر أصحابه، أو لو أنه رجع عن الرأى عندما سنحت له فرصة الرجوع. . ولكنَّه - وهو يقدر النتائج كلها - أنفذ الشورى. . ثم يجئ الأمر الإلهى له بالشورى - بعد المعركة- تثبيتًا للمبدأ فى مواجهة نتائجه المريرة» (3)، وبهذه الأدلة التى ذكرتها نسترشد بهذا المبدأ فى مسيرتنا الحركية والدعوية والتنظيمية التى تسعى لإعادة الإسلام كنظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعًا، ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبًا.
وديوان الرسائل والمكاتبات عند المرابطين:
كان المرابطون يهتمون بديوان الإنشاء، ولذلك حرصوا على أن يتولاه رجال من
_________
(1) أبو الأعلى المودودي، نظرية الإسلام وهديه فى السياسة والقانون، ص (273،274).
(2) السياسة الشرعية, لابن تيمية، ص (181،182).
(3) سيد قطب, فى ظلال القرآن, (ج1/ 532).(1/157)
أشهر الأدباء فى تلك الفترة جلهم أَنْدَلُسيون، واهتم الأمير يوسف بجلب الأدباء والبلغاء والفقهاء لهذه الأعمال، واستفاد من كُتَّاب ملوك الطوائف, وتوسع ديوان الرسائل مع امتداد رقعة دولة المرابطين، وانتفع المرابطون انتفاعًا عظيمًا بخبرة الأَنْدَلُسيين أصحاب الحضارة والأدب، وأقبل المغاربة على ثقافة الأَنْدَلُس ينهلون منها فى تواضع المستفيدين, وحدث تنافس بين الكُتَّاب، وحاولوا أن يثبتوا جدارتهم فى هذا الفن، وأصبح ديوان الأمير يوسف متألقًا بالحضارة.
وقام ابنه على بتطوير ديوان الرسائل وجلب له كتابًا فى غاية البلاغة ودقة الأسلوب, وجمال التعبير, ومما دفع الأمير عليًا إلى تطوير دولته تربيته الرفيعة وذكاؤه الوقَّاد, واهتمامه بكتاب ملوك الطوائف, وتقريبهم إليه فى زمانه، فشعر بحاجته إلى طائفة مثقفة تفهم لغة الوفود، وتجيد فنون الكتابة، ومِن أشهر أولئك الكتاب والأدباء والبلغاء، مُحَمَّد بن سليمان الكلاعى المتوفى عام 508هـ, وصفه ابن خاقان فى «القلائد» بقوله: «غرة فى جبين الملك، ودرَّة لا تصلح إلا لذلك السلك، باهت به الأيام, وتاهت فى يمينه الأقلام، واشتملت عليه الدول اشتمال الكمام على النور، وانسربت إليه أمانى انسراب الماء على الغور» (1).
ويقول عنه ابن الصيرفي: «الوزير الكاتب الناظم الناشر، القائم بعمود الكتابة, والحامل للواء البلاغة، والسابق الذى لا يشق غباره، ولا تخمد أبدًا أنواره، اجتمع له براعة النشر، وجزالة النظم، رقيق النسيج حصيف المتن رقعته وما شيت فى العين واليد» (2).
وكذلك انضم إلى البلاط المرابطى أبو مُحَمَّد عبد المجيد بن عبدون المُتَوَفَّى 520هـ، وأبو القاسم مُحَمَّد بن عبد الله بن الجد الفهرى المتوفى فى عام 515هـ، وابن أبى الخصال الغافقى المُتَوَفَّى 540هـ، وأبو زكريا بن مُحَمَّد بن يوسف الأنصارى الغرناطى المُتَوَفَّى 570هـ فى غرناطة، وأحمد بن أبى جعفر بن مُحَمَّد بن عطية القضاعى الذى نكبه عبد المؤمن بن على خليفة الموحِّدين، وغير هؤلاء كثير من الأدباء والكتَّاب الذين عملوا فى خدمة دولة المرابطين زمن أمير المُسْلِمِين على بن يوسف (3) , ولا ننسى أن
_________
(1) قلائد العقيان، ص (104).
(2) المركش، عن ابن الصيرفى فى المعجب, ص (164).
(3) انظر: تاريخ المغرب والأندلس، للدكتور حمدى عبد المنعم، ص (270، 271).(1/158)
الوزارة فى زمن على بن يوسف تطوَّرت تطورًا ملحوظًا, وأصبح الوزير بمنزلة السمع والبصر واللسان والقلب بالنسبة لأمير المُسْلِمِين، وفى الأمثال: نعم الظهير الوزير.
كان الحكم فى دولة المرابطين قائماً على أسس عسكرية، فأمير المُسْلِمِين هو قائد الجيش الأعلى، ومعاونوه هم قواد الجيش، لهذا كان من الطبيعى أن يتسم منصب الوزير بالطابع العسكرى كذلك، ولكن لما كان الأمر يتطلب من الوزير أيضًا كتابة الوثائق، والمراسيم وصياغتها فقد وُجِد فى دولة المرابطين صنفان من الوزراء.
1 - وزراء عسكريون من قادة الجيش, وهم من قرابة السلطان عادة أو من قبائل لمتونة وصنهاجة التى قامت على أكتافهم دولة المرابطين.
2 - وزراء كُتَّاب وهم من الفقهاء.
وكان المغاربة يطلقون كلمة فقيه على العالم بالأحكام الشرعية إلا أن أهل المشرق أصبح ذلك المصطلح عندهم يطلق على دارس الفقه عمومًا من الطلبة.
وتوسَّع الأمير على بن يوسف فى اتخاذ الوزراء والمستشارين من الفقهاء وكبار العلماء، وكان من أخصِّ وزرائه الفقيه مالك بن وهيب الإشبيلى الذى شارك فى جميع العلوم، ونظم الشعر، وكتب مؤلفات فى الفلسفة والتَّارِيخ، وهذا الفقيه هو الذى أشار على سلطان المرابطين على بن يوسف بقتل مُحَمَّد بن تومرت زعيم دولة الموحِّدين فيما بعد، حيث تفرَّس فيه حدة نفسه وذكاء خاطره، واتساع عبارته, فأشار على أمير المُسْلِمِين بقتله أو اعتقاله، قبل أن يستفحل خطره، لأنَّه رجل مفسد ولا يسمع كلامه أحد إلا مال إليه, غير أن على بن يوسف توقف فى قتله واعتقاله، وأبى ذلك عليه دينه، لعدم ثبوت التهمة عليه، وقد صحَّ ما تفرَّسه مالك بن وهيب، إذ إنه على يد هذا المدعى المهدية الكذاب ابن تومرت قامت دولة الموحدين التى قضت على دولة المرابطين فى المغرب والأَنْدَلُس (1).
* * *
_________
(1) انظر: تاريخ المغرب والأندلس، للدكتور حمدى عبد المنعم، ص (368).(1/159)
المبحث الثاني
النظام القضائى فى دولة المرابطين
تمهيد:
للقضاء مكانة عظيمة ومنزلة شريفة، وفاصل بين النَّاس فى خصوماتهم
وحاسم للتداعى وقاطع للتنازع، وكان العرب فى جاهليتهم يعرفون منزلة القضاء, ويختارون له أهله, ويطلقون عليهم الحُكَّام، واهتم المسلمون بهذا الأمر, ومارسه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فى زمانه، وسار الخلفاء من بعده على دربه، وأصبح القضاء بعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فى عداد الوظائف الداخلة تحت الخلافة، وتطور القضاء مع تطور دولة الإسلام فكان الخليفة يتخذ قاضيًا فى حاضرة الخلافة وقضاة آخرين فى الولايات والأمصار.
كان القضاء فى الأمصار أول الأمر مُضافًا إلى الولاة حتى كانت خلافة عمر بن الخطاب فجعله مستقلاً عن نظر الوالي، عيَّن له مَن يتفرَّد بالنظر فيه, ومع استقلال القضاء عن نظر الوالي، فإن تقليد القضاء فى الولايات كان يتم فى الغالب عن طريق الولاة بتفويض الخليفة لهم، أمَّا فى العاصمة فكان الخليفة هو الذى يُعيِّن القاضى إلى أن جاء الخليفة العبَّاسى أبو جعفر المنصور الذى انحرف بالقضاة نحو مركزية الدولة، وأخضع المؤسسات القضائية لرقابته المستمرَّة، وجعل تقليد القضاة على قضاء الأمصار من قبله، وتابعه على ذلك خلفاء بنى العبَّاس، إلى أن استحدث منصب قاضى القضاة فى فترة تالية، فتولَّى قاضى القضاة النظر فى مؤهلات المرشحين للقضاء ومراقبة الكفاءة المهنية للقضاة فى عاصمة الخلافة وخارجها (1)، واهتمَّت كلُّ الدول التابعة للخلافة بتطوير نظامها القضائى وخصوصًا المرابطين الذين حرصوا على إقامة العدل ونشره فى ربوع بلادهم، فكان لمنصب القضاة أهمية كبيرة، ولذلك حرص أمراء المرابطين على تعيين القضاة مِمَّن برزوا فى العلم والفقه وتميزوا بالمقدرة على تولى هذه المناصب فى دولتهم دون الاستناد على العصبية القبلية، حتى أصبح أكثر القضاة من غير قبيلة
_________
(1) تاريخ الحضارة العربية والإسلامية، د. محمد بطاينة، ص (79).(1/160)
صنهاجة وهى سياسة حكيمة اتبعها الأمير يوسف رغبة فى تحقيق العدالة وتطبيق
تعاليم الإسلام.
وقد منحهم رتبة عالية فى الدولة حتى كثرت أموالهم، واتسعت مكاسبهم، وكانوا يستمدون نفوذهم من سلطة الدولة نفسها، يحكمون وفق المذهب المالكي، ويقوم بتنفيذ أحكامهم الولاة والحُكَّام المحليون، وقد شارك القضاة فى معارك الجهاد فى
الأَنْدَلُس، واستشهد بعضهم فى معركة الزِّلاقَة منهم القاضى عبد الملك المصمودى قاضى مراكش (1).
وكانت السُّلطَة القضائية تتمتع باستقلال كبير عن السُّلطَة التنفيذية، وكان تعيين القاضى يصدر بمرسوم عن أمير المسلمين، وكذلك عزله، وكان لأهل البلدان التابعة لدولة المرابطين حق الترشيح لمَن يرونه مناسبًا لمنصب القضاء فى بلدهم.
وإذا أراد أمير المسلمين عزل قاضٍ فى بلد معين فعليه أن يوضح الأسباب لأهل ذلك البلد.
أ - منصب قاضى الجماعة فى الأندلس:
يعتبر منصب قاضى الجماعة من أرفع المناصب القضائية فى الأَنْدَلُس، كان صاحبه يشرف على القضاء فى جميع أنحاء الأَنْدَلُس، ومن المرجح إن هذا المنصب الخطير كان لا يتولاه إلا كل مَن يثبت كفاءة عالية فى أمور القضاء، وكان قاضى الجماعة فى الأَنْدَلُس يتمتع بسلطات واسعة، ومنهم أبو القاسم أحمد بن مُحَمَّد بن على بن مُحَمَّد بن عبد العزيز التغلبى الذى وجَّهه الأمير يوسف بن تاشفين إلى اتباع الحق فى الأحكام دون أن يعرف فى الله لومة لائم، فكتب له: «ولا تُبالِ برغم راغم وتشفق من ملامة لائم، فآس بين النَّاس فى عدلك ومجلسك حتى لا يطمع قوى فى حيفك ولا ييأس ضعيف فى عدلك، ولا يكن عندك أقوى مِن الضعيف حتى تأخذ الحق له، ولا أضعف مِن القوى حتى تأخذ الحق منه. .» (2).
ومن أشهر مَن تولَّى منصب قضاء الجماعة فى الأَنْدَلُس فى عصر على بن يوسف
_________
(1) دولة المرابطين، ص (166).
(2) الذخيرة فى محاسن أهل الجزيرة، ابن بسام (ج2/ 106).(1/161)
أبو الوليد مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أحمد بن رشد المالكى وأبو عبد الله مُحَمَّد بن أحمد بن خلف إبراهيم التجيبى المعروف بابن الحاج (1).
ب- قاضى الجماعة فى المغرب:
كانت رئاسة القضاء فى المغرب فى زمن دولة المرابطين تسند إلى قاضى الجماعة بمراكش، الذى كان يُسمى بقاضى قضاة المغرب أو بقاضى الحضرة، وكان على من يتولَّى هذا المنصب أن يكون مِن المقربين إلى قلب أمير المسلمين يستفتيه فى كل ما يعرض له من شئون، ومن أشهر مَن تولَّى هذا المنصب: أبو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد بن إبراهيم بن قاسم بن منصور اللخمي، وأبو الحسن على بن عبد الرحمن المعروف بابن أبى حقون، وأبو سعيد خلوف بن خلف الله.
لقد قطع المرابطون فى تنظيم القضاء شوطًا أبعد من مجرد تقسيم قضاء الأَنْدَلُس والمغرب وجعل زعامة القضاء فى كل منهما لقاضى القضاة، أحدهما يختص بالأَنْدَلُس والآخر بالمغرب، بل إن المرابطين اتخذوا فقيهًا له السُّلطَة العليا على قضاء المغرب والأَنْدَلُس على السواء، ومن المرجح أن زعامة القضاء فى العدوتين كانت أحيانًا من نصيب قاضى مراكش أو قاضى سبتة أو طنجة، وأحيانًا أخرى لقاضى الجماعة بقرطبة (2).
جـ - مجلس الشورى القضائي:
كان للقاضى فى صحبته مجموعة من فقهاء البلد الذى تولَّى قضاءه ليشاورهم قبل أن يصدر الأحكام، وكان قاضى المدينة يتولى اختيار هؤلاء الفقهاء من أهل مدينته، مِمَّن يُعرفون بالورع والتقوى والتبحر فى الفقه والعلوم الدينية، ويحدد ابن عبدون هؤلاء الفقهاء والمشاورين بأربعة: اثنين يشتركان فى مجلس القاضي، واثنين يقعدان فى المسجد الجامع (3).
د- القضاء العسكري:
عرفت دولة المرابطين ما يمكن تسميته بالقضاء العسكري، وكان يمارسه قضاة مختصون بحل مشاكل الجند فى مواضع خاصَّة بالمعسكرات، كما كانوا يشتركون فى
_________
(1) تاريخ المرابطين، ص (287).
(2) تاريخ المغرب والأندلس، ص (288).
(3) المرجع السابق, ص (289).(1/162)
القتال لحثِّ الجند وتشجيعهم على القتال، وكان هؤلاء القضاة يسمون بقضاة المحلة أو قضاة الجند، وممن ذكرهم التاريخ فيمن تولَّوا منصب القضاء العسكري: عبد الرحيم بن إسماعيل الذى عُيِّن قاضيًا فى معسكر أمير المسلمين على بن يوسف بمدينة سلا (1).
هـ - قضاء الذميين فى دولة المرابطين:
أما بالنسبة لأهل الذِّمة فى الأَنْدَلُس، فقد كان رجال الدين النصارى واليهود يتولون القضاء لهم، دون أن يتدخل فيهم قضاة المسلمين، أجاز الفقهاء تقليد الذِّمى القضاء لأهل الذِّمة، وفى الأَنْدَلُس خصص المسلمون لأهل الذِّمة قاضيًا يعرف بقاضى النصارى أو قاضى العجم، أما إذا كانت الخصومة بين ذمى ومسلم فإن قضاة المسلمين يتولون الفصل بينهما، وفى هذا الصدد يشير أشباخ إلى أن النصارى كانوا «يتمتعون بحرية الشعائر ويحتفظون ببعض القوانين القوطية ولهم أساقفتهم وقضاتهم» (2).
وشجون وأحزان وآلام وآمال:
إن السعى لإقامة دولة الإسلام فى أى بقعة من بقاع العالم يحتاج للطلائع
التى تسعى لهذا الهدف العظيم وفقه الأخذ بأسباب التمكين فى جميع الأصعدة
ومختلف الميادين.
وإذا نظرنا فى النُّظُم القضائية التى لابد منها فى أى دولة دينية أو علمانية وسألنا أنفسنا ما حظ الحركات الإسلامية من هذا الفقه؟ وما هى الخطط التى وضعت لإيجاد هذه النُّظُم القضائية الشرعية التى لابد منها فى أسلمة الدولة؟ وما هى الوسائل التى اتخذتها؟ وهل بدأت فى إيجاد الكوادر التى تجمع فقه الشريعة والنُّظُم المعاصرة بحيث تستطيع أن تقدم نموذجًا حيًا لقدرة الإسلام على مواكبة التطور والتقدم بمفهومه الصحيح المنبثق من عقيدة الأمة ودينها وشريعتها لكانت الإجابة محزنة.
إن السعى لتحقيق هذه الجزئية مِن الجزئيات المطلوبة فى إقامة الدول يحتاج مِن العاملين فى هذه الميادين إلى جهد مضنٍ وسهر متواصل، وتصميم أكيد على الوصول للهدف، وسعى دءوب ممزوج بالدموع والعرق والدماء، وهمم لا تعرف الوهن، وعزائم
_________
(1) تاريخ المغرب والأندلس، ص (291).
(2) انظر: تاريخ الأندلس، لأشباخ, ص (82).(1/163)
تنخر فى هياكل الجاهلية ليدخل من خلال تلك الثقوب نور الإيمان وهدى القرآن لينتشر رويدًا رويدًا؛ زاحفًا على الظلام والضلال والظلم والكفران، وإعادة دولة الإسلام فى أثوابها الزاهية، وتيجانها الناصعة، وعدلها المنتظر، وآفاقها الواسعة، ووظائفها المتعددة من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ونصرة المستضعفين ومقارعة الظالمين، وفتح أبواب الجهاد وشراء سلعة الجنة بالمهج والأنفس والأرواح ثمنًا لها. إن أصحاب تلك الأهداف السامية والنبيلة لابد لهم من أن يتميزوا فى حياتهم عن غيرهم فإن الآمال العظيمة لا يصل إليها إلا أصحاب النفوس الكبيرة.
وإذا كانت النفوس كبارًا ... تعبت من مرادها الأجسام
إن تحديات الحركة الإسلامية كثيرة جدًا فعليها أن تستعين بخالقها على تحقيق أهدافها, وعليها أن تكثر العمل وتُقلِّل مِن الجدل، وتهتم بالرواحل وتترك المثبطين، وتصعد بأبنائها على كل المجالات والأصعدة وتهتم بتربيتهم وتزكيتهم وتفجير طاقاتهم وتوجيهها حتى تسُدَّ الثغرات المتعددة، وعليها أن تحرص على أوقات أبنائها وتشغلهم بالنافع المفيد للأمة ولهم.
إن تحريك الشعوب الإسلامية نحو التغيير لإقامة شرع الله مقيد بسنن الله فى المجتمعات والدول والأشخاص، وسنن الله لا تجامل ولا ترحم ولا تتغير ولا تتبدل، فعلينا أن نفقه سنن الله لنحسن التعامل معها, ونأخذ بها فى خطواتنا لإقامة دولة الإسلام ونشر شريعة الرَّحمن.
* * *(1/164)
المبحث الثالث
النظم العسكرية
تمهيد:
صفات المجاهدين فى سبيل الله:
إن الجهاد فى سبيل الله عظيم الكلفة والمشقة على النفس البشرية، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة:216].
ولذلك لم يستطع أن يقوم بالجهاد الإسلامى على أصوله الصحيحة إلا من رزقه الله صفات تجعله أهلاً للقيام بهذه العبادة الكريمة.
والأصل العظيم الذى تنبثق منه كل صفات المُجَاهِدين سواء كانوا قادة أو جنودًا، أو صفات الجيش كله هو الإيمان بالله العلى العظيم الذى بقوته تقوى صفات المُجَاهِدين، وبضعفه تضعف تلك الصفات الرفيعة فى القادة والأفراد والجيش على حد سواء، ولذا قال ابن تيمية رحمه الله: «وإذا كان أولياء الله هم المؤمنين المتقين فبحسب إيمان العبد وتقواه تكون ولايته لله تعالى، فمن كان أكمل إيمانًا وتقوى، وكان أكمل ولاية لله، فالنَّاس متفاضلون فى ولاية الله عز وجل بسبب تفاضلهم فى الإيمان والتقوى» (1).
والذى يكون إيمانه أكمل يحقق عبوديته لله أكثر، فيكون وقته كله عبادة وصبرًا وعلمًا وتذكرًا وتقوى وإحسانًا وإخلاصًا واعتزازًا بدينه (2)، قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ - قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِى هَذِهِ الدُّنْيَا حَسنة وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ - قُلْ إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ - وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر: 9 - 12].
إن زعماء المرابطين فى تاريخهم المجيد حرصوا على تربية شعبهم المُجَاهِد
على صفات المُجَاهِدين سواء على مستوى الأفراد أو القادة أو الجيش أو الشعب.
_________
(1) الفتاوى (ج11/ 175).
(2) انظر: الجهاد فى سبيل الله، د. عبد الله القادري، (ج2/ 5).(1/165)
أ - صفات القائد العسكرى عند المرابطين:
إذا نظرنا فى سيرة قادة المُجَاهِدين فى دولة المرابطين نجد أن خيار قادتهم تميَّزوا بصفات أهَّلَتهم لقيادة الجيوش وتحقيق النصر وإلحاق الهزائم بالأعداء، ومِن أشْهر أولئك القادة الذين تميَّزوا بصفاتهم القيادية أبو بكر بن عمر، ويحيى بن عمر، ويوسف بن تاشفين, وأبو مُحَمَّد مزدلي, وسير بن أبى بكر، وأبو عبد الله مُحَمَّد بن الحاج، وداود ابن عائشة، وعبد الله بن فاطمة وغيرهم كثير.
نلاحظ أنهم تميَّزوا بأمور أهمها:
1 - الإكثار مِن طاعة الله وإعداد النفس لتحمُّل المشاق:
حيث تربَّوا على حسن صلتهم بربهم الذى يمدهم بالعون بقدر ما يحققون له العبودية؛ فكان لهم حظ مِن القرآن والصيام والقيام وحسن الصلة والإنفاق فى سبيل الله، وكان لتربية عبد الله بن ياسين لهم فى رباطه أثر كبير لازمهم على طول حياتهم، فكان فى مرحلة التكوين يُربِّى أتباعه على الذكر والتوكُّل على الله, والصبر على الأذيَّة فى سبيل الله، وكان يعلِّمهم أساليب إتعاب النفس فى ذات الله حتى تستطيع أن تتحمل المشاق فى سبيله، وكان منهجه فى ترسيخ هذه المعانى فى نفوس أتباعه القرآن الكريم:
{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ - قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً - نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً - أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً - إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً - إن نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً - إن لَكَ فِى النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً - وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً - رَبِّ الْمَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً - وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً} [المزمل:1 - 10].
يقول سيِّد قطب رحمه الله فى «ظلاله» فى ترسيخ هذه المعانى فى نفوس الدعاة: «إن الذى يعيش لنفسه قد يعيش مستريحًا ولكنَّه يعيش صغيرًا ويموت صغيرًا، فأمَّا الكبير الذى يحمل العبء فماله والنَّوم، وماله والراحة، وماله والفراش الدافئ، والعيش الهادئ، والمتاع المريح، ولقد عرف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حقيقة الأمر وقدَّره، فقال لخديجة -رضى الله عنها- وهى تدعوه أن يطمئن وينام: «مضى عهد النوم يا خديجة» أجل مضى عهد النوم, وما عاد منذ اليوم إلا السهر والتعب والجهاد الطويل الشاق» (1).
_________
(1) انظر: فى ظلال القرآن (ج6/ 3744).(1/166)
لقد كان قادة المرابطين فى تربيتهم الرشيدة جادين بعيدين عن الهزل واللهو واللعب, وتميز فيهم أبو بكر بن عمر, ويوسف بن تاشفين، فكان لهما السبق على أتباعهما فى كل مجال مِن المجالات التى تُعتَبر من ضرورات القائد الناجح.
2 - القدوة الحسنة للجنود:
حيث نجد أن قادة المرابطين يقودون المعارك بأنفسهم, فقتل عبد الله بن ياسين فى ساحات الوغي، ويحيى بن عمر كذلك, وأبو بكر بن عمر فى جهاده فى الصحراء الكبرى، كما كان يوسف بن تاشفين يقود الحرس الخاص الذى أعده لانتزاع النصر مِن الأعداء فى الساعات الحرجة، ويندفع بجواده فى ميادين الجهاد عندما يشتدُّ وطيس المعركة، وضربوا أمثلة رائعة فى إيمانهم وعملهم الصالح وشجاعتهم وكرمهم الفياض وحزمهم وإيثارهم وإقدامهم.
3 - حرصوا على تزكية وتطهير جنودهم والارتقاء بهم طاعةً لله:
إن بُعد الجنود عن التعليم والتربية والتطهير يكون سببًا فى قسوة قلوبهم وانغماسهم فى الآثام والذنوب ومِن ثَمَّ الهزيمة.
قال تعالى: {لَقَدْ مِن اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِى ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [آل عمران: 164].
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِى ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الجمعة:2].
يقول سيِّد قطب رحمه الله: «ويزكيهم ويطهرهم ويرفعهم وينقيهم: يطهر قلوبهم وتصوراتهم ومشاعرهم، ويطهر بيوتهم وأعراضهم وصلاتهم، ويطهر حياتهم ومجتمعهم وأنظمتهم، ويطهرهم من أرجاس الشرك والوثنية والخرافة والأسطورة, وما تبثه فى الحياة من مراسم وشعائر وعادات وتقاليد هابطة بالإنسان وبمعنى إنسانيته، ويطهرهم من دنس الحياة الجاهلية, وما تلوث به المشاعر والشعائر والتقاليد والقيم والمفاهيم» (1).
_________
(1) فى ظلال القرآن (ج1/ 507).(1/167)
4 - الخبرة بأمور الحرب والقوَّة فيها:
وظهر ذلك فى قادة المرابطين فى جهادهم من أجل توحيد المغرب الأقصى كله, والقضاء على دولة برغواطة الملحدة، وما خاضوه من حروب ومعارك ظهرت فيها خبرتهم الحربية, ومقدرتهم على تنفيذ أساليب الكر والفر، وظهرت خبرة القائد الأعلى يوسف بن تاشفين فى معركة الزِّلاقَة التى أكسبت أركان الحرب خبرات عميقة؛ ساعدتهم فى جهادهم من أجل ضم الأَنْدَلُس لدولتهم الفتية تحت راية الإسلام بمنهجه السنى القويم، والقضاء على الخطر النصرانى فى الأَنْدَلُس.
وفى القرآن الكريم نجد إشارة لطيفة تبين صفات القائد العسكرية وهي: العلم والقوة، كما قال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إن اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِن المَالِ قَالَ إن اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِى الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 247].
وقد ظهر علمه وخبرته فى اختيار جنده, ومعرفة الصالح منهم للجهاد وغير الصالح، وبرزت قوته فى صموده وصبره ومصابرته ونجاحه فى جهاده.
قال سيِّد قطب رحمه الله: «وفى ثنايا هذه التجربة تكمن عبرة القيادة الصالحة الحازمة المؤمنة، وكلُّها واضحة فى قيادة طالوت، تبرز فيها خبرته بالنفوس وعدم اغتراره بالحماسة الظاهرة, وعدم اكتفائه بالتجربة الأولى، ومحاولته اختبار الطاعة والعزيمة فى نفوس جنوده قبل المعركة، وفصله للذين ضعفوا وتركهم وراءه، ثم - وهذا هو الأهم - عدم تخاذله وقد تضاءل جنوده تجربة بعد تجربة، ولم يثبت معه فى النهاية إلا تلك الفئة المختارة، فخاض بها المعركة ثقة منه بقوة الإيمان الخالص, ووعد الله الصادق للمؤمنين». (1)
5 - البعد عن طلب القيادة وابتغاء الرئاسة:
وظهر لى هذا المعنى فى شخصية الأمير المُجَاهِد الزاهد أبى بكر بن عمر، فعندما لمس من ابن عمه مقدرة على القيادة أسند الأمر إليه، ودخل متوغلاً فى الصحراء الكبرى من أجل الدعوة والجهاد حتى أكرمه الله بالشهادة، وكان أمراء المرابطين يرون
_________
(1) فى ظلال القرآن (ج1/ 263).(1/168)
الإمارة قربة وعبادة يتقربون بها إلى الله لنصر دينه وتحقيق مصالح عباده, وليست مغنمًا من جاه أو منصب أو مال.
6 - إسناد الأمور إلى أهلها:
وهذه الصفة ظهرت لى فى سيرة يوسف بن تاشفين فى تعيينه للولاة والقادة والفقهاء، وما كان ليمتنع عن عزل مَن قصَّر فى عمله, ويعين مَن هو أفضل منه.
7 - تربية الجندى على التسليم المطلق لله لا لشخص القائد:
وكان أمراء المرابطين يضربون أروع الأمثلة فى زرع هذه المعانى فى نفوس المُجَاهِدين، فهذا أمير المسلمين يرفع يديه نحو السماء مناجيًا المولى عز وجل: «اللهم إن كنت تعلم أن فى جوازنا هذا إصلاحًا للمسلمين فسهِّل علينا هذا البحر حتى نعبره، وإن كان غير ذلك فصعبه حتى لا نجوزه» (1).
وفى وسط معركة الزِّلاقَة وهو يبث الحماس فى نفوس المُجَاهِدين: «يا معشر المسلمين اصبروا لجهاد أعداء الله الكافرين, ومَن رزق منكم الشهادة فله الجنة، ومَن سلم فقد فاز بالأجر العظيم والغنيمة» (2)، وهكذا القائد المسلم هو الذى يربى جنوده بالمواقف على تحقيق العبودية الخالصة لله.
ولهذا لما قتل عبد الله بن ياسين لم يتأثر المرابطون, وقتل يحيى بن عمر ومن بعده أبو بكر بن عمر، وما زادهم ذلك إلا إيمانًا وتسليمًا، وهذا يدل على حسن تربيتهم للمُجَاهِدين وتعلقهم وتسليمهم لله لا للأشخاص، أما تربية اليوم فى جيوش المسلمين شبيهة بالفرعونية حيث يربى القائد جنوده على طاعته المطلقة فى الخير والشر, كما يربيهم على الخضوع الكامل لشخصه.
ووصف الشيخ مُحَمَّد الغزالى - رحمه الله - هذه التربية فقال: «إن الذى يدرس المجتمعات الفاسدة, ويتغلغل فى بحث عللها، والذى يتتبع أعمال الأدعياء وطلاب الزعامة، ويستقصى وسائلهم الملتوية فى تسخير الجماهير للوصول إلى القمة، والذى يلحظ النهضات الكبرى وكيف يدركها الفشل فجأة لأنهم أصيبوا برجال يحبون الظهور،
_________
(1) دولة المرابطين، ص (90).
(2) دولة المرابطين.(1/169)
فلا يرحبون بالنصر إلا إذا جاء عن طريقهم وحدهم، أمَّا إذا جاء عن طريق غيرهم فهو
البلاء المبين» (1).
وقال سعد جمعة: «والفرق بين الإسلام والنُّظُم المعاصرة أن الولاء فى الإسلام هو لله وحده، بينما الولاء فى النُّظُم الأخرى المنعوتة بالتقدمية، هو للطاغية، أو الدكتاتور أو الحزب الحاكم أو الجيش العقائدى أو الإيديولوجية المتسلطة، ولذا فهو ولاء إكراه وضغط فكرى وقهر بوليسي، لا ولاء الخير والمحبة والمودة والتقوى والأخوة» (2).
وكم نحن محتاجون إلى منهج الإسلام الصحيح فى غرس الربانية والتسليم المطلق لله لا للأشخاص.
8 - الحرص على قاعدة الشورى:
كان لأمير المسلمين فى دولة المرابطين ونائبه مجلسٌ حربيٌّ يضم قواد الفرق العسكرية المختلفة لدراسة الخطط الحربية، وتلقى الأوامر والتعليمات مِن القائد الأعلى, والتشاور فى أمور الجهاد والبلاد والعباد، واتصف قادة المرابطين بحرصهم على إقامة مبدأ الشورى فيما بينهم.
فكان قرار الجهاد ضد النصارى فى الأَنْدَلُس بعد شورى شارك فيها الشيوخ والقادة والعلماء والفقهاء، وكان قرار ضم ممالك الطوائف بعد شورى كذلك, واشتهر الأمير يوسف بمشاورة ذوى الرأى من علماء الشريعة الإسلامية وذوى الخبرة فيما يعرض له من أمور.
9 - الحرص على تحقيق الأهداف والضبط الإدارى وقوة التأثير:
ظهرت هذه الصفات فى شخصية يوسف بن تاشفين الذى أظهر مهارة إدارية عندما فتح مدينة سجلماسة, واستطاع أن يحقق أهداف المرابطين بعد جهاد دام ربع قرن، جنى بعدها المرابطون ثمرة أتعابهم وبسطوا سيطرتهم على المغرب الأقصى، ونُشر الأمن فى ربوعه، واستطاع يوسف بحسن سيرته وعدله أن يؤثِّر بقوَّة الحق الذى التزمه على قبائل المصامدة وزناتة وغمارة وغيرها.
_________
(1) الإسلام والاستبداد السياسي، ص (35).
(2) الله أو الدمار، ص (181).(1/170)
10 - الشجاعة والكرم:
وظهرت هاتان الصفتان فى قادة المرابطين فى جهادهم فى الأَنْدَلُس, فبعد معركة الزِّلاقَة عفَّ الأمير يوسف وجنوده عن الغنائم وتركوها لملوك الطوائف، مع كونهم بذلوا مِن الدماء والنفوس فى تلك المعركة ما لا يعلمه إلا الله، فدل فعلهم ذلك على شجاعتهم وكرمهم.
11 - التصرف الحكيم السريع أمام المفاجآت:
وظهرت لى هذه الصفة عندما تدخل الحماديون مِن الحدود الشرقية، واعتدوا على دولة المرابطين من أطرافها, فجرَّد المرابطون لهم جيشًا, وردوهم إلى حدودهم, وعقدوا معاهدة أمن وسلام، وعندما أخطأ والى تلمسان المرابطى وشنَّ هجومًا على بنى حماد دون إذن مِن القيادة العليا عُزل ذلك القائد وعُيِّن مكانه مَن هو أفضل منه, وتراضوا مع بنى حمَّاد، وعندما تأكَّد الأمير يوسف من خيانة ملوك الطوائف أسرَ بعضهم, وقتل بعضهم، وضرب الحصار على ممالكهم حتى أسقطها جميعًا، وساعده على تحقيق تلك الأهداف قادة عظام اتصفوا بصفات عظيمة انعكست على جنود المرابطين.
هذه بعض الصفات التى حرص المرابطون على غرسها فى قياداتهم وزعمائهم، فكانت خيرًا وبركة على تلك الدولة السنية الفتية.
ب - المنهج التربوى لجيش المرابطين:
اهتم المرابطون بتربية جنودهم تربية جهادية, اهتموا بجميع جوانبها الروحية والنفسية والفكرية والجسدية، وقد تميزت تربيتُهم الروحية بربط المُجَاهِد بالجنة والاشتياق إليها، فشهدت المعارك التى خاضوها ضد أعدائهم على حبهم للموت كحب خصومهم النصارى للحياة.
وغرس علماء المرابطين فى نفوس جنودهم عقيدة الإيمان بالقدر، فأصبح الفارس منهم ينطلق كالسهم فى صفوف الأعداء يضرب ذات اليمين وذات الشمال، لا يخشى إلا الله تعالى مؤمنًا بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التى تدل على تعميق هذا المفهوم فى نفوس المُجَاهِدين.
قال تعالى: {اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا(1/171)
الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} [الزمر:42]، وقال تعالى: {قُل لَّن يُّصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:51].
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أحدَكم يجمع خلقه فى بطن أمِّه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضعة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقى أو سعيد .. » (1).
وكانت وسائل المرابطين فى تقوية الجانب الروحى فى جنودهم وشعبهم المقاتل تعتمد على إحياء شعيرة الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وتلاوة القرآن، والذكر، وأما وسائلهم فى التربية النفسية فتعتمد على جهود العلماء والفقهاء الذين يقومون بتزكيتهم وإيضاح حقيقة النفس والكون والحياة وغرض الإنسان وهدفه فى هذه الدنيا.
وكانوا يرون أن أهم أسباب تربية النفوس أن تستعد دائما للجهاد، وأن تتربى على خشونة العيش والطعام والشراب, وقلة النوم لتنمية فضيلة الصبر فى نفوسهم.
ج - أبرز الجوانب التربوية فى جيش المرابطين:
1 - الأخوة الإسلامية:
كانت من أسباب قوة الجيش المرابطى سريان روح الأخوة بين جميع فصائل الجيش، وامتلأت قلوبهم ونفوسهم بهذا المعنى السامى الذى كان سببًا فى تذويب النعرات الإقليمية والعرقية، وجيوشهم تتكون مِن الزنوج، ومن قبائل صنهاجة المتفرِّقة, ومن العرب, ومن مسلمى الإسبان، وكل هذه الفصائل المتعددة والمتنوعة كوَّنت أمَّة واحدة.
قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10] , وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103].
لقد تحلى جيش المرابطين بهذه الصفة الربانية العظيمة فقوَّت رابطة المُجَاهِدين, وجعلتهم صفًّا واحدًا كالبنيان المرصوص فى مواجهة الأعداء.
_________
(1) رواه البخاري, رقم (3036).(1/172)
2 - التواصى بالحق والتواصى بالصبر:
فعندما أصيب عبد الله بن ياسين بجراح بالغة, وحُمِل على إثرها إلى معسكره؛ جمع رؤساء وشيوخ المرابطين وحثَّهم على الثبات فى القتال، وحذَّرهم من عواقب التفرقة والتحاسد فى طلب الرئاسة وما لبت أن فارق الحياة (1).
وهكذا جند الله المجاهدون لا يتباطأون فى مناصحة بعضهم بعضًا، لعلمهم أن فى هذا التباطؤ هلاكهم جميعًا الذى وصفه لهم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فى حديث النعمان بن بشير -رضى الله عنهما- فقال: «مثل القائم فى حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة, فأصاب بعضهم أعلاها, وبعضهم أسفلها, فكان الذين فى أسفلها إذا استقوا الماء مرُّوا على مَن فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا فى نصيبنا خرقًا, ولم نؤذ مَن فوقنا, فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا, وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا» (2).
إن مفهوم الجندية الإسلامية يترعرع فى بيئات التناصح والتواصى بالحق
والتواصى بالصبر.
3 - إصلاح ذات البين:
حرص المرابطون على نبذ الشقاق والقضاء على الخلاف وعلى رأب الصدع وإصلاح ذات البين؛ لعلمهم أن فساد ذات البين يقضى على جند الجهاد أكثر مما يقضى عليهم عدوهم الخارجى مهما قويت شوكته وكثر جنده، فاتخذوا أسلوب الحكمة واللين والرفق من أجل تحقيق هذا الهدف المنشود، وإذا خرجت فئة تستمرئ الشقاق أو تعمل على إيجاده؛ جرَّدوا لها الجيوش وأخضعوها بالقوة، وهذا ما قام به الأمير أبو بكر بن عمر عندما تمرَّدت بعض قبائل الصحراء على مبادئ المرابطين, واشتبكوا مع بعض القبائل الأخرى فى قتال؛ فخرج إليهم بجيشه الكثيف, وأصلح ذات البين مستعملاً فى ذلك القوة، ومن أجل الضرورة وإصلاح ذات البين أذن النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمن أراد أن يستعمل الكذب الذى لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالاً, لا سيما إذا كان من باب التورية والتعريض، كما فى حديث أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «ليس
_________
(1) تاريخ المغرب والأندلس، ص (44).
(2) البخاري رقم (2493)، فتح الباري (ج5/ 132).(1/173)
الكذب الذى يصلح بين النَّاس فينمى خيرًا أو يقول خيرًا» (1).
وجعل النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إصلاح ذات البين أفضل مِن الصلاة والصيام والصدقة, وحذَّر النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من فساد ذات البين، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا أخبركم بأفضل درجة مِن الصيام والصلاة والصدقة؟»، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين الحالقة» (2).
4 - نصر الحق والثبات عليه:
لما أرسل فقهاءُ سجلماسة ودرعة إلى الفقيه ابن ياسين, يرغبون فى الوصول إليهم ليخلص بلادهم مما تعانيه مِن الحُكَّام الطغاة الظلمة زناتة المغراويين وأميرهم مسعود بن وانودين، فجمع ابن ياسين شيوخ قومه, وقرأ عليهم رسالة فقهاء سجلماسة؛ فأشاروا عليه بمد يد المعونة لهم، وقالوا له: «أيها الشيخ الفقيه هذا ما يلزمنا فسر بنا على بركة الله تعالى» (3).
ولما طلب ملوك الطائف العون مِن المرابطين لنصرتهم على النصارى لبوا نداء الحق، لقد كان جيش المرابطين حريصًا على نصرة الحق وإحقاقه والقتال عليه.
لقد حرص المرابطون على أن يشملهم قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يزال من أمتى أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك» (4)، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَن يُرِدِ الله به خيرًا يفقهه فى الدين, ولا تزال عصابة مِن المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة» (5).
إن صفة نصر الحق والثبات عليه والقتال عليه ليست دعوة تقال، أو شعاراً يرفع على مستوى الجماعات أو الدول أو الطوائف, وإنَّما حقيقة لها دلالتها الواقعية فى حياة النَّاس، وأى جماعة أو دولة تفقد صفة الفقه فى الدين ونصر الحق أو إحداهما فليست أهلاً لأن تكون هى الطائفة المنصورة.
_________
(1) البخاري رقم (2692)، فتح الباري (ج5/ 299).
(2) رواه الترمذي (ج /633).
(3) تاريخ المغرب والأندلس، ص (42).
(4) البخاري رقم (3641)، فتح الباري (ج6/ 632).
(5) مسلم (ج3/ 1524).(1/174)
وأى خلل يقع فى أى جماعة؛ فلابد أن يكون مصدره فقد إحدى الصفتين أو فقدهما معًا أو ضعف فى إحداهما أو فيهما معًا (1).
إن دولة المرابطين فى جيلها الريادى حققت صفة الفقه فى الدين متمثلاً فى فقهائها العظام، فاستحقَّت أن تكون مِن الطائفة المنصورة التى حالفها نصر الله وتوفيقه. وعندما ضعفت تلك الصفات آل أمرها إلى طائفة مغلوبة، بل زالت مِن الوجود.
د - عناصر جيوش المرابطين:
1 - الملثمون أو المرابطون: كانوا هم النواة الأولى التى تكوَّن منها الجيش المرابطي، وقد قامت الدولة على أكتافهم, وقد اشتهر هؤلاء الملثمون بقوة بأسهم فى الحرب، وكانوا أثبت مِن الجبال الرواسى فى المعارك، ومهما تفوَّق عليهم عدوُّهم فى العدد فلا يتقهقرون، ولقد حققوا انتصارت رائعة فى معاركهم فى المغرب الأقصى أو فى معارك الجهاد فى الأَنْدَلُس.
2 - العرب: وشكَّلوا فرقة أصبحت مِن أهم فرق الجيش المرابطى وشاركوا فى معارك الأَنْدَلُس، وتنتمى بعض العناصر العربية إلى عرب الأَنْدَلُس الذين استقرُّوا فى المغرب فى عصر الأدارسة، ويرجع البعض الآخر إلى قبائل بنى هلال التى انخرطت فى سلك جيش المرابطين، وشاركوا فى معارك الجهاد، ومن أشهر تلك المعارك معركة كنسويجرة .. يقول ابن الكردبوس: «فجر ابن تاشفين عسكرًا جرارًا من مرابطين وعرب وأَنْدَلُس الشرق والغرب، وقدم عليهم قائده مُحَمَّد بن الحاج، فالتقوا بكنثرة فكانت بينهم جولات وحملات إلى أن زلزل الله أقدام المشركين, وولوا مدبرين ... » (2).
كما شاركوا فى معركة إقليش، فيقول ابن القطان: «واستشهد فى هذه الوقيعة - أى إقليش - الإمام الجزولي، وكان رجل صدق, وجماعة مِن الأعيان والعربان .. » (3).
3 - الحرس الخاص: كانت قوى الحرس الخاص تتألف مِن أشجع الجند من مختلف الولايات، ويشترط فى قبولهم أن يكونوا من ذوى القوام الحسن والشجاعة الفائقة
_________
(1) الجهاد فى سبيل الله, (ج2/ 95).
(2) الاكتفاء، ص (107، 108).
(3) نظم الجمان، ص (9 - 10)، انظر: الثغر الأعلى، الأندلس، ص (129).(1/175)
والقوة والبراعة، يقول أشباخ: «جمع يوسف بن تاشفين من تجار الرقيق من أقليم غانا، عددًا كبيرًا مِن العبيد واختار منهم أمهرهم وزودهم بالسلاح والخيل, ودربهم على جميع فنون القتال، وأنشأ من حرسه الخاص الأسود مِن ألفى رجل، وأنشأ على هذا النمط حرسًا خاصًا مِن الأَنْدَلُسيين يتألف من فتيان مِن النصارى المعاهدين، وكان يوسف يحبوهم بعطفه وصلاته، وينعم على مَن امتاز منهم بالإخلاص والشجاعة بمختلف الهبات مِن الخيل والثياب والسلاح والعبيد» (1).
وبين الدكتور سعدون عبَّاس نصر الله أن النصارى فى جيش المرابطين اعتنقوا الإسلام (2)، وأصبح الحرس الخاص ركنًا أساسيًا من أركان الجيش المرابطي، لا سيما أن على بن يوسف ضمَّ إليه الكثير من أسرى الحروب, وشارك هذا الحرس الخاص فى حراسة معاقل المغرب، بل حتى فى حروب الدولة ضد المُوَحِّدِين (3).
4 - الحشم: كانت فرق الحشم من أهم فرق الجيش المرابطي, وكانت تتكون من زناتة والمصامدة، وكانت هذه الفرق تتقدم عادة الجيوش المرابطية فى القتال (4).
هـ - فنون القتال:
لما تولَّى الأمير يوسف مقاليد حكم المرابطين عمد إلى إصلاح نظام تسليح الجيش وطريقة إعداده للقتال، ففى البدء كانت أسلحتهم يدوية ويعتمدون على الإبل, وهذه الأسلحة تصلح لحرب الصحراء، أمَّا حرب المدن والحصون فإنها تتطلب وسائل وأسلحة تتلاءم مع الوضع الجديد الناشيء عن حرب الحصار؛ ولهذا ابتكر الأمير يوسف الخطة العسكرية المعروفة بالتقري، وخطة التقرى تعتمد على توجيه الجيوش إلى بلاد معينة للقتال مع جيوشها فى معارك فاصلة لا لحصار المدن (5).
وسلَّح الجيش بكل أنواع الأسلحة المعروفة من مغربية وأَنْدَلُسية ونصرانية, وكان سلاح كل فرقة مِن الجيش يتناسب مع تركيبها ووضعها القتالي: فمشاة الصف الأول
_________
(1) تاريخ الأندلس، لأشباخ، ص (479،480).
(2) دولة المرابطين، ص (170).
(3) تاريخ المغرب فى عصر المرابطين، ص (298).
(4) المصدر السابق نفسه.
(5) دولة المرابطين، ص (44).(1/176)
يتسلحون بالقنا الطوال وبدروق اللمط.
وكان للأمير يوسف الفضل فى تنظيم جيش المرابطين, ومعرفة الرجال ومواهبهم الفذة الذين أعادوا إلى الأذهان تاريخ الفتوحات الأولى لأمة الإسلام، لقد كانت حركة المرابطين مقنعة للعالم فى زمانها بأن الإسلام قادر فى كل زمان ومكان على إنجاب القادة الأفذاذ أمثال سير بن أبى بكر، وداود ابن عائشة، وابن فاطمة, وابن ميمون ومزدلى وغيرهم، وعلى رأس الجميع القائد الربانى الذى أنقذ الله به الإسلام فى الأَنْدَلُس والمغرب يوسف بن تاشفين.
كان الأمير يوسف أثناء المعارك يرتب جيشه وفق نظام خماسي؛ المقدمة: ويحتلها الجنود المشاة ووحدة الفرسان الخفيفة، والجناحان الميمنة والميسرة: وفيهما حملة القسى والنبال وأكثرهم من أهل الثغور، والقلب يتمركز فيه الفرسان المرابطون المزودون بالأسلحة الثقيلة والخفيفة، والمؤخرة ويقودها الأمير بنفسه وتتألف من صفوة الجنود والحرس، وكان لكل قسم من هذه الأقسام قائده الخاص، ويجتمع قادة الوحدات قبيل المعركة على شكل مجلس حربى لتلقى الأوامر والتعليمات مِن القائد الأعلى يوسف (1).
وتطوَّرَت فنون القتال عند المرابطين وأهدى ابن الصيرفى إلى الأمير تاشفين بن على قصيدة احتوت على فنون الحرب والقتال فقال:
أهديك من أدب السياسة ما به ... كانت ملوك الفرس قبلك تولع
لأنت أدرى بها ولكنها ... ذكرى تحض المؤمنين وتنفع
خندق عليك إذا ضربت محلة ... سيان تتبع ظاهرًا أو تتبع
حارب من يخشى عقابك بالذي ... يخشى وهو فى جود كفك يطمع
قبل التهارش عبئ جيشك مفسحـ ... ـًا حيث التمكن والمجال الأوسع
إياك تعبئة الجيوش مضيقًا ... والخيل تفحص بالرجال وتمزع
حصن حواشيها ولكن فى قابها ... واجعل أمامك منهم من يشجع
_________
(1) دولة المرابطين, ص (172).(1/177)
واحذر كمين الروم عند لقائها ... وأمض كمينك خلفها إذا تدفع
لا تبقين خلفك عندما ... تلقى العدو فشرُّه متوقع
واصدمه أول وهلة لا ترتدع ... بدءًا تقدم فالنكوص يضعضع (1)
ونستطيع أن نستخرج بعض فنون الحرب التى أوصى بها الشاعر فى قصيدته للأمير تاشفين بن علي:
1 - ضرورة حفر الخنادق حول المدن لحمايتها من أى خطر خارجي.
2 - ضرورة تعبئة الجيوش وتنظيمها قبل المعركة بوقت كاف لكى تدخل هذه الجيوش إلى المعركة، وهى على أهبة الاستعداد، وحتى لا يأخذها العدو على غرة.
3 - ضرورة وضع أقوى الفرق العسكرية فى جناحى الجيش، وفى المقدمة، بينما يقود القائد العام للجيش المعركة من قلب جنده.
4 - ضرورة نصب الكمائن خلف خطوط العدو.
5 - عدم القتال وظهورهم إلى الماء، لأن فى ذلك هلكة لجيوشهم.
6 - ضرورة إحداث عنصر المفاجأة فى بداية المعركة، عن طريق الصدام مع العدو، مع ضرورة التقدم وعدم التقهقر.
هذه بعض الفنون العسكرية التى طبقت فى دولة المرابطين.
وكان المرابطون فى بداية أمرهم قليلى الخبرة بفن الحصار لاعتمادهم على قوات الفرسان المستعدة دائمًا للهجوم، إلا أنهم بعد فترات من جهادهم استطاعوا أن يتقنوا فنَّ الحصار، وتجلى ذلك بوضوح خلال حصارهم لقلعة شنتيرين الحصينة، وتمكُّنهم مِن التغلب عليها، كما ظهرت براعتهم فى هذا الفن أثناء الحصار الذى فرضته الجيوش الإسلامية على مدينة غرناطة, لحمايتها مِن الفونسو المحارب خلال غزوته الكبرى للأَنْدَلُس، التى كان يهدف من ورائها تلبية دعوى النصارى المعاهدين فى مدينة غرناطة إلى نصرتهم.
_________
(1) تاريخ المغرب والأندلس، ص (300).(1/178)
وضرب المرابطون الحصار، وكان موفقًا وحقق نتائجه المطلوبة.
وكما أتقنوا فنَّ ضرب الحصار، فقد تفوَّقوا أيضًا فى فنِّ التخلص مِن الحصار، كما حدث فى تخلصهم مِن الحصار الذى ضربه الموحدون على مراكش عام 524هـ، ودام ما يقرب من أربعين يومًا، ثم تمكَّنوا وأوقعوا بالمُوَحِّدِين هزيمة منكرة عند البحيرة (1).
واهتم المرابطون بجميع الأسلحة المعروفة فى زمانهم من نشاب وسهام ورماح وسيوف ودروع ورعادات ومزاريق ودرق لمطية والأطاس.
والأسطول:
ومع توسُّع المرابطين فى المغرب الأقصى واستيلائهم على معظم مدنها ولم تبق إلا طنحة وسبتة، شعر الأمير يوسف بأهمية الأسطول البحرى لما وصلت دولته إلى شواطئ البحر الأبيض، وبعد القضاء على دولة برغواطة صاحبة الأسطول البحرى بدأ يوسف يهتم بتطوير أسطوله، واستفاد من خبرات أهل الأَنْدَلُس فى ذلك، وأصبح أسطول المرابطين يتقدم نحو الهيمنة على البحر المتوسط، وأثمرت جهود يوسف فى الاهتمام بالأسطول فى زمن ابنه علي.
وأصبح أسطول المرابطين بفضل الله تعالى، ثم قادته الكبار -وعلى رأسهم أبو
عبد الله بن ميمون- قوة ضاربة هددت النصارى فى جنوب البحر المتوسط, ونفَّس الله به كربات مسلمى الشمال الإفريقي، وحقق أسطول المرابطين انتصارات تجاوزت كل
تقدير وحسبان (2).
ز- استيلاء المرابطين على جزر البليار:
كانت جزيرة البليار خاضعة لمُجَاهِد العامرى صاحب دانية, الذى استقل بملكها سنة 405هـ، وولى عليها بعض الولاة، ولما قتل مُجَاهِد فى سنة 436هـ تولَّى ابنه على الذى وقع فى أسر بنى هود عام 468هـ ومات فى سرقسطة سجينًا عام 474هـ، وكانت جزيرة ميورقة تابعة لجزر البليار وكان بها مبشر بن سليمان الذى أعلن استقلاله بميورقة، وأما مدينة دانية فضمها المقتدر بن هود إلى سرقسطة، ولما ضم المرابطون ممالك الطوائف
_________
(1) تاريخ المغرب والأندلس، ص (311).
(2) المصدر السابق نفسه، ص (311).(1/179)
تركوا مبشر بن سليمان صاحب البليار حرًا تقديرًا لجهوده التى بذلها لصدِّ النصارى، وما اشتهر به من غيرة على مصالح المسلمين، وقدرته الفذة فى حماية ملكه من غارات النصارى المتتابعة فضلاً عن كونه أقرَّ العدل, وأرضى الرعية، وهكذا أصبح مبشر يحكم الجزائر الشرقية فى عهد يوسف بن تاشفين، وفى السنوات الأولى من حكم على بن يوسف إلى عام 508هـ.
وعندما تحالف النصارى من أمراء فرنسا والبرتغال وإسبانيا وقرروا القضاء على جزر مبشر بن سليمان خرجوا له فى خمسمائة سفينة, وضربوا على جزيرة ميورقة حصارًا عنيفًا, وراسل مبشر أمير المسلمين على بن يوسف لنجدته ونصرة المسلمين، وتُوفى مبشر بن سليمان أثناء الحصار وقام بعده قريبه الربيع بن سليمان بن ليون, وسقطتْ ميورقة عام 508هـ, وقتل النصارى مِن المسلمين, وسبوا نساء المسلمين, وعاثوا فى الأرض فسادًا ونهبًا وتخريبًا.
وعندما اقترب أسطول المرابطين بقيادة القائد البحرى ابن «تافرطاست» وجد النصارى قد رحلوا وتركوها كأن لم تكن بالأمس, وفى الحال شرع ابن «تافرطاست» فى تعمير الجزيرة, وأعاد إليها الفارين من سكانها، وكان قد لجأ منهم إلى الجبال جموع غفيرة, وبذلك أصبحت تلك الجزر تابعة لدولة المرابطين الفتية.
وكان لأسطول المرابطين الفضل بعد الله فى التصدِّى لأطماع النورمنديين فى مدن الشمال الإفريقي، وكان لأسطول المرابطين جهاد مشكور فى سواحل أوروبا الجنوبية؛ مما عزَّز من هيبة المسلمين فى نفوس النصارى الحاقدين, فأغار على سواحل جليقية وقطلونية وإيطاليا والإمبراطورية البيزنطية (1).
ومن أشهر قادة الأسطول المرابطى أبو عبد الله بن ميمون, وتوارث أبناؤه من بعده قيادة أساطيل المرابطين, ولعبت أسرة بنى ميمون دورًا رياديًا فى حماية ثغور المسلمين, والذَّود عن حوزتهم وأعراضهم وأموالهم وعقيدتهم.
ح - موانئ أسطول المرابطين:
كان المرية من أكبر موانئ الأسطول المرابطى فى الأَنْدَلُس، وكان بها قسم كبير
_________
(1) تاريخ المغرب والأندلس، ص (311).(1/180)
من أسطول المرابطين بقيادة أمير البحر أبى عبد الله مُحَمَّد بن ميمون، وكان بالمرية دار صناعة للسفن، ثم تأتى بعد المرية مدينة دانية التى تعتبر مقر قيادة الأسطول المرابطى فى الأَنْدَلُس.
وكان موانئ أسطول المرابطين تنتشر على شواطئ سواحل المغرب والأَنْدَلُس، ومن أشهرها طنجة، وبجاية وإشبيلية والجزيرة الخضراء، وجزر البليار (1).
إن الشمال الإفريقى لا عزَّة لشعوبه ولا كرامة إلا بالتمسُّك بالمنهج الرباني، وتربية شعوبه على الانقياد لمنهجه الرشيد، ويحتاج ذلك لعلماء ربانيين وقادة سياسيين يعرفون قيمة دينهم، ويؤمنون بمنهج ربهم، ويستعدُّون لجهاد عدوهم, ويهتمون بإحياء روح الجهاد، ويغرسون معانى الشهادة فى شعوبهم حتى تتدفق دماء الإسلام من جديد فى شرايينهم، ليعملوا على إرجاع الأَنْدَلُس المفقود, ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبًا.
* * *
_________
(1) المصدر السابق (112).(1/181)
المبحث الرابع
النظام المالى فى عصر المرابطين
حرص المرابطون فى دولتهم على إسقاط الضرائب غير المشروعة عن كاهل شعوبهم التى فرضها الزناتيون فى المغرب وملوك الطوائف فى الأَنْدَلُس، وكذلك المكوس والرسوم والضرائب فى جبل طارق، ولم يفرض المرابطون فى دولتهم رسم مكس أو معونة خراج لا فى حاضرة ولا فى بادية، واتبعوا نظامًا ماليًا يقوم على قواعد الإسلام، وكان هذا النظام ظاهر المعالم فى زمن الأمير يوسف بن تاشفين الذى التزم بالكتاب والسنة فى جمع الأموال وتوزيعها، فاعتمد على الزكاة والعشر والجزية وأخماس الغنائم، وجبي بذلك مِن الأموال على الوجه الشرعى ما لم يجبه أحد، وترك فى خزائنه مبلغ ثلاثة عشر ألف ربع مِن الورق، وخمسًا وأربعين ألفًا من دنانير الذهب (1). وأمَّا فى عصر على بن يوسف فاختلف الأمر, وفرض الضرائب على بعض السلع، وفرض ضريبة جديدة على مدن الأَنْدَلُس الهامة، وكان يُخصِّص دخلها لإقامة أسوار جديدة وترميم الأسوار القديمة، وكان سبب فرض هذه الضريبة دخول ألفونسو المحارب للأَنْدَلُس غازيًا عام 519هـ؛ فاضطرَّ لتحصين المدن وترميم الأسوار وتقوية الجيوش؛ ففرض ضرائب تساعده فى تسديد هذه النفقات التى لا غنى عنها.
العملة:
كانت العملة الرئيسية لدولة المرابطين هى الدينار الذهبى الذى كان عماد الاقتصاد فى الدولة, وظلَّت هذه العملة المرابطية الذهبية مستخدمة لعدة قرون، حتى بعد سقوط الدولة المرابطية، كما استخدمت العملة الفضية المعروفة بالدرهم الفضي، لتسهيل المعاملات التجارية.
وانتشرت دور سك العملة فى مختلف أجزاء الدولة فى المغرب أو فى الأَنْدَلُس مثل أغمات, تلمسان، سجلماسة، فاس، مراكش، سبتة، مكناسة، طنجة، شاطبة، إشبيلية، دانية، غرناطة، قرطبة، مالقة، مرسية، سرقسطة، وغيرها (2).
_________
(1) دولة المرابطين، ص (179).
(2) تاريخ المغرب والأندلس، ص (320).(1/182)
الفصل الخامس
أهم أعمال دولة المرابطين الحضارية
المبحث الأول
الآثار المعمارية فى المغرب والأندلس
إن دولة المرابطين تركت آثارًا معمارية بارزة ظلَّت باقية على مرِّ الدهور وكرِّ العصور؛ لترشد الأجيال المتعاقبة على سموِّ حضارة المرابطين المعمارية، ومن أعظم هذه الآثار على الإطلاق:
1 - جامع القرويين:
من أهم المساجد الجامعة فى بلاد المغرب وأكثرها شهرة لكونه جامعة إسلامية عريقة ضاربة بجذورها فى أعماق التاريخ، وكانت هذه الجامعة تقارع الأزهر الشريف فى العلم وتخريج الدعاة والعلماء والفقهاء.
ولقد مرَّ جامع القرويين بثلاثة أدوار:
الأول عند تأسيسه سنة 254هـ/859م.
والثانى عند الزيادة فيه سنة 345هـ/956هـ.
والثالث عندما زيدت مساحته فى عصر على بن يوسف سنة 530/ 1135م.
وتولَّى مشروع زيادة مسجد القرويين وتوسيعه القاضى أبو عبد الله مُحَمَّد بن داود بسبب ضيق المسجد بالنَّاس, واضطرارهم للصلاة فى الشوارع والأسواق فى يوم الجمعة، وحرص على أن يكون المال من أوقاف مساجد المسلمين، وأشرف القاضى
أبو عبد الله بنفسه على هذا المشروع الحضارى العظيم وكان تمام التوسعة عام 538هـ.
ولقد تخرَّجتْ فى جامع القرويين على مرِّ العصور وكرِّ الدهور أفواج عديدة من فقهاء الأمة وعلماء الملة ودعاة الشريعة والمُجَاهِدين الأبرار والقادة العظام، وكان لمسجد القرويين عند المرابطين مكانة عظيمة فى نفوسهم.(1/183)
وتذكرُ كتب التاريخ أن منبر جامع القرويين من أجمل منابر الإسلام، وتدل على روعة المغاربة فى اختياراتهم الذوقية الرفيعة (1).
2 - المسجد الجامع بتلمسان:
وكان مقرًا لنشر علوم الإسلام وتربية المسلمين على معانى القرآن، وتم بناء هذا المسجد عام 530هـ فى إمارة على بن يوسف، وكانت هندسته المعمارية فى غاية الجمال ودقة الإتقان، ورأى بعض المؤرخين إن البنيةَ المعمارية لمسجد تلمسان فيها لمسات أَنْدَلُسية, وفنون معمارية قرطبية، بل بعضهم يرى أن عرفاء مسجد تلمسان قلَّدوا جامع قرطبة تقليدًا مباشرًا فى لوحتى الرخام اللتين تكسوان إزار واجهة المحراب بتلمسان، وكذلك سقف المسجد الخشبى شبيه بسطح مسجد قرطبة، وكذلك البلاط شبيهٌ به أيضًا.
والذى يظهر أن دولة المرابطين انصهرتْ فى بوتقتها حضارة المغاربة والأَنْدَلُسيين والأفارقة، فتجد تلك المعالم الحضارية المختلفة فى كافة بقاع دولة المرابطين، ولا ينكر تأثير المعالم الحضارية المعمارية الأَنْدَلُسية فى جميع مدن الدولة.
3 - الآثارُ الحربية:
اهتم المرابطون بالحصون والقلاع؛ ولذلك انتشرت فى المدن والثغور.
وزاد الاهتمام بالتحصينات العسكرية فى زمن على بن يوسف, الذى أكثر من الأسوار والقلاع والحصون للدفاع عن دولته فى المغرب ضد الحركات السياسية والثورات العدائية المناهضة لدولة المرابطين، وواصل الأمير على اهتمامه بهذا الأمر كذلك فى الأَنْدَلُس.
ومن أروع آثار المرابطين الحضارية الحربية أسوار مراكش حيث بدأ الأمير على بن يوسف فى بناء سور المدينة عام 520هـ وكمَّل بناء السور عام 522هـ (2).
وانتشرت فكرة بناء الأسوار فى الأَنْدَلُس، وفرضت الدولة على رعاياها ضريبة تنفق على هذا الهدف الاستراتيجى الجهادى الدفاعي.
ومِن أشهر الأسوار التى بنيت أو أعيد ترميمها فى الأَنْدَلُس، أسوار المرية وأسوار
_________
(1) تاريخ المغرب والأندلس، ص (366).
(2) المصدر السابق، ص (372).(1/184)
قرطبة التى امتازت بأبراجها المستطيلة الضخمة المتقاربة، وأسوار إشبيلية من جهة نهر الوادى الكبير، وبنى المُرَابطون فى المناطق الوعرة حصونًا بالحجر، وشحنوها بالجنود والأقوات؛ لكى تصمد للحصار مدة طويلة.
وكان عدد جنود الحصون والقلاع ما يعادل 200 فارس و 500 راكب فى
كل حصن.
ومن أشهر قلاع المرابطين فى الأَنْدَلُس قلعة منتقوط التى تقع على بساتين مرسية، ومِن أشهر قلاع المرابطين فى المغرب قلعة تاسغيموت التى تقع على بعد ثلاثة كيلو مترات جنوب شرق مراكش، وعلى بعد نحو عشرة كيلو مترات شرق أغمات على سطح هضبة أطرافها ذات أجراف وعرة شديدة الانحراف، يصعب على الغازين ارتقاؤها، وأسوارها تمتد على حافة الهضبة نفسها.
إن قلاع المرابطين وحصونهم تدل على أن فنَّ العمارة فى زمانهم تأثر بالغ التأثر بفنِّ العمارة الأَنْدَلُسي (1).
* * *
_________
(1) تاريخ المغرب والأندلس، ص (377).(1/185)
المبحث الثاني
الحياة الأدبية والعلمية فى دولة المرابطين
1 - الحركة الأدبية:
ازدهرت الحركة الأدبية فى دولة المرابطين فى عهد الأمير على بن يوسف الذى اهتم بالشعر والأدب، وشجَّع الشعراء والأدباء؛ فتوافدوا على بلاطه من أهل الأَنْدَلُس، ومِن الذين مدحوا الأمير على بن يوسف الشاعر الكبير أبو العبَّاس أحمد بن عبد الله القيسى المعروف بالأعمى التطيلى حيث قال:
يا على العلاء فى كل يوم ... وما أنت للملك بالسائس
يا ربيع البلاد يا غيمة العالم ... من بين مؤتل وموال
يا قريع الأيام عن كل مسجد ... يا سليل الأذواء والأقيال
لك من تاشفين أو من أبي ... يعقوب ذكر مكارم وفعال (1)
وكان الشعراء يقصدون ولى عهد الدولة فى زمن الأمير على بن يوسف لمدح ابنه تاشفين، ومن أشهرهم الشاعر أبو بكر يحيى بن مُحَمَّد بن يوسف، كما حظى الشعراء فى عصر على بن يوسف بمكانة عظيمة لدى الأسرة الحاكمة وكبار القادة وعمال الدولة على الأقاليم المختلفة.
وكان الأمير عبد الله بن مزدلى موضع اهتمام الشعراء منهم ابن عطية الذى
قال فيه:
ضاءت بنور إيابك الأيام ... واعتز تحت لوائك الإسلام (2)
ومن قبل مدح الشعراء والده الذى قال فيه أبو عامر بن أرقم:
أنت الأمير الذى للمجد همته ... وللمسالك يحميها وللدول
_________
(1) الأعمى التطيلي, الديوان, ص (104).
(2) قلائد العقيان، لابن خاقان، ص (210).(1/186)
لمزدلى لواء كان يرفعه ... مناسب كالضحا والشمس فى الحمل
يا أيها الملك المرهب صولته ... وارتجى غوثه فى الحادث الجلل (1)
ووصل المديح إلى الفقهاء والعلماء لمكانتهم العالية فى دولة المرابطين، فهذا الأعمى التطيلى يمدح القاضى الفقيه ابن أحمد قاضى الجماعة بقوله:
إليك ابن حمدين وإن بَعُد المدى ... وأن غربت بى عنك إحدى المغارب
صبابة ود لم يكدر جمامه ... مرور الليالى وازدحام الشوائب
وذكر عساها أن تكون مهزة ... ترى على أعقابه كل شاغب
بأيه ما كان الهوى متقاربًا ... وخطوى فيه ليس بالمتقارب (2)
ولا ننسى أن أعداء المرابطين مِن الشعراء قاموا بالتندر بالمرابطين، وبفقهاء دولتهم، وممن اشتهر بالهجاء والتندر فى هذا العصر الشاعر أبو بكر يحيى بن سهل اليكي، الذى هجا المرابطين, ومن ذلك قوله:
فى كل من ربط اللثام دناءة ... ولو أنه يعلو على كيوان
ما الفخر عندهم سوى أن ينقلوا ... من بطن زانية لظهر حصان
المنتمون لحمير لكنهم ... وضعوا القرون مواضع التيجان
لا تطلبن مرابطا ذا عفة ... واطلب شعاع النار فى الغدران (3)
وازدهر فى عصر المرابطين لون آخر مِن ألوان الشعر أعنى الطبيعة، فقد شهد هذا العصر ظهور عدد كبير مِن الشعراء الذين نبغوا فى هذا الفن الشعري، نذكر منهم ابن سارة الشنتريني، وابن الزقاق، وابن خفاجة البلنسي، وعبد الحق بن عطية، ومن ذلك قول الشنترينى الشاعر يصف البركة:
لله مسجورة فى شكل ناظرة ... من الأزهر أهداب لها وطف
_________
(1) قلائد العقيان، لابن خاقان، ص (133).
(2) الأعمى التطيلي, الديوان, ص (4 - 5).
(3) تاريخ المغرب، ص (386).(1/187)
فيها سلاحف ألهانى تقصمها ... فى مائها ولها من عرمض لخف
تنافر الشط إلا حين يحضرها ... برد الشتاء فتستدلى وتنصرف
كأنَّها حين يُبديها تصرفها ... جيش النصارى على أكتافها الجحف (1)
وهذا أبو الحسن على بن عطية بن الزقاق يصف فرسًا أغر:
وأغر مصقول الأديم تخاله ... برقًا إذا جمع العتاق رهان
يطأ الثرى متبخترًا فكأنَّه ... من لحظ مَن فى متنه نشوان
فكأن بدر التم فوق سراته ... حسنًا وبين جفونه كيوان (2)
وهذا أبو جعفر بن سلام المعافرى يصف فى شعره الثلج:
ولم أر مثل الثلج فى حسن منظر ... تقرُّ به عين وتشنعه نفس
فنار بلا نور يضيء له سنا ... وقطر بلا ماء يقلبه اللمس
ترى الأرض منه فى مثال زجاجة ... كأن كئوس الماء يجمعه كأس (3)
وهذا شاعر آخر يصف لنا قوسًا:
يا رب مائسة الأعطاف مخطفه ... إذا دنا نزعها فالعيش منتزح
ظلَّت ترنُّ فظلَّ النزع يعطفها ... كما ترنم نشوان به قزح
وقد تألَّف نصل السهم مندفعًا ... عنها قفل كوكب يرمى به قزح (4)
وهذا ابن خفاجة يصف الربيع وهو مِمَّن عاصر الأمير على بن يوسف:
أذن الغمام بديمة وعقار ... فأمزج لجينا منهما بنضار
_________
(1) قلائد العقيان، ص (271).
(2) المطرب من أشعار أهل المغرب، لابن دحية، ص (106).
(3) تاريخ المغرب، ص (388).
(4) المصدر السابق نفسه.(1/188)
وأربع على حكم الربيع بأجرع ... هزج الندامى مصفح الأطيار
وكمامة حدر الصباح قناعها ... عن صفحة تندى مِن الأزهار
فى أبطح رضعت ثغور أقاحه ... أخلاف كلِّ غمامة مدرار
نثرت بحجر الروض فيه يد الصبا ... دور الندى ودارهم النوار
وقد ارتدى غصن النقى وتقلَّدت ... حلى الحباب سوالف الأنهار
فحللت حيث الماء صفحة ضاحك ... جذل وحيث الشطر بدء عذار
والروح تنفض بكرة لمم الرُبا ... والطلُّ ينضج أوجه الأشجار (1)
لقد ازدهرَ الشعر والأدب فى عصر الأمير على بن يوسف ازدهارًا عظيمًا شهدت بذلك قصائد شعراء المرابطين التى سجلت فى ذاكرة التاريخ الخالدة.
وما قيل عن انحطاط الشعر والأدب فى عصر المرابطين أكذوبة استشراقية بان زيفها أمام حقائق التاريخ التى لا تُجامل ولا تعرف التحايل.
ولا ننسى شيوع فن الموشحات والأزجال فى عصر المرابطين، يقول ابن خلدون عن نشأة فنِّ الموشحات: «وأمَّا أهل الأَنْدَلُس، فلما كثُر الشعر فى قطرهم, وتهذَّبت مناحيه وفنونه وبلغ التنميق فيه الغاية، استحدث المتأخرون منهم فنًا يسمونه بالموشح ينظمونه أسماطًا وأغصانًا يكثرون منها ومن أعاريضها المختلفة, ويسمون المتعدد منها بيتًا واحدًا, ويلتزمون عند قوافى تلك الأغصان, وأوزانها متتالية فيما بعد إلى آخر القطعة، وأكثر ما تنتهى عندهم إلى سبعة أبيات، ويشمل كلُّ بيت على أغصان عددها بحسب الأغراض والمذاهب, وينسبون فيها ويمدحون كما يفعل فى القصائد, وتجاوزوا فى ذلك إلى الغاية واستطرفه النَّاس جملة الخاصة والكافة لسهولة تناوله وقرب طريقه» (2).
ومِن أشهر وشاحى عصر المرابطين الأعمى التطيلي, ومن موشحاته:
دمع مسفوح وضلوع حرار ماء ونار ... ما اجتمعا إلا لأمر كبار
_________
(1) ابن خفاجة, الديوان، ص (290 - 291).
(2) ابن خلدون, المقدمة، ص (436).(1/189)
بئس لعمرى ما أراد العذول ... عمر قصير وعناء طويل
يا زفرات نطقت عن غليل ... ويا دموع قد أعانت مسيل (1)
وأما نشأة الزجل فقال ابن خلدون عنه: «إنه لما شاع فنُّ التوشيح فى أهل الأَنْدَلُس, وأخذ به الجمهور لسلاسته وتنميق كلامه وترصيع أجزائه، نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله، ونظموا فى طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيها إعرابًا، واستحدثوا فنًا سموه بالزجل، والتزموا النَّظْم فيه على مناحيهم إلى هذا العهد، فجاءوا فيه بالغرائب, واتسع فيه للبلاغة مجال بحسب لغتهم المستعجمة» (2).
ويعتبر أبو بكر بن قزمان القرطبى أول من ابتكر الزجل.
ومن أشهر أزجاله ما كان فى مدح القاضى أحمد بن الحاج قوله:
وصل المظلوم لحق وانتصف غنى ومسكين يحضر الإنكار والإقرار ويقع الفصل فالحين اجتمع فيه الثلاثة الورع والعلم والدين فيزول الحق إذا زال ويدوم الحق
إذا دام (3).
هذه نبذة مختصرة عن بعض فنون الأدب التى ازدهرت وترعرعت فى ظلِّ دولة المرابطين.
* * *
_________
(1) ابن خلدون, المقدمة، ص (441).
(2) الزجل فى الأندلس، لعبد العزيز الأهواني، ص (201).
(3) المصدر السابق نفسه.(1/190)
المبحث الثالث
من مشاهير علماء دولة المرابطين
كانت دولة المرابطين مبنية على أسس شرعية ولذلك اهتمت بالعلماء والفقهاء الذين لا دوام لدولة تريد أن تحكم بشرع الله بدونهم, ولذلك كثر المُحَدِّثون والفقهاء، نذكر منهم:
أولاً: أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد الجد (ت 520هـ).
هو الإمام العلامة شيخ المالكية، قاضى الجماعة بقرطبة أبو الوليد.
أ- شيوخه:
مِن أشهر شيوخه الذين تتلمذ عليهم أبو جعفر أحمد بن رزق، وأبو مروان بن سراج، ومُحَمَّد بن خيرة، ومُحَمَّد بن فرج الطلاعي، والحافظ أبو علي, وأبو العبَّاس بن دلهات.
قال ابن بشكوال فيه: «كان فقيهًا عالمًا، حافظًا للفقه مقدمًا فيه على جميع أهل عصره، عارفًا بالفتوى، بصيرًا بأقوال أئمة المالكية، نافذًا فى علم الفرائض والأصول، من أهل الرياسة فى العلم، والبراعة والفهم، مع الدين والفضل، والوقار والحلم، والسمت الحسن، والهدى الصالح، ومن تصانيفه كتاب «المقدمات» لأوائل كتب المدونة، وكتاب «البيان والتحصيل لما فى المستخرجة مِن التوجيه والتعليل»، واختصار «المبسوطة»، واختصار «مشكل الآثار» للطحاوي، سمعنا عليه بعضها، وسار فى القضاء بأحسن سيرة وأقوم طريقة، ثم استعفى منه، فأعفي، ونشر كتبه، وكان النَّاس يُعوِّلون عليه ويلجأون إليه، وكان حسن الخلق، سهل اللقاء، كثير النفع لخاصته جميل العشرة لهم، بارًا بهم» (1).
ب- ومن أشهر فتاوى ابن رشد الجد ما أفتاه فى شأن المعاهدين مِن النصارى فى بلاد الأَنْدَلُس بإبعادهم وتغريبهم لغدرهم بالمسلمين ومساعدتهم لألفونسو المحارب (2)، عاش هذا العالم الجليل سبعين عامًا, ومات فى ذى القعدة سنة عشرين وخمسمائة، وصلى عليه ابنه أبو القاسم، وروى عنه أبو الوليد بن الدباغ فقال: «كان أفقه أهل
_________
(1) سير أعلام النبلاء، (ج19/ 502).
(2) تاريخ المغرب، ص (231).(1/191)
الأَنْدَلُس، وصنَّف شرح العتبية، فبلغ فيه الغاية» (1).
ثانيًا: الشهيد القاضى الفقيه أبو على الصدفي:
هو العالم الفقيه القاضى المُحَدِّث الحسين بن مُحَمَّد بن سُكرة.
أ- شيوخه:
روى عن أبى الوليد الباجي، ومُحَمَّد بن سعدون القروي، وحجَّ سنة إحدى وثمانين، ودخل مصر على أبى إسحاق الحبال، وقد منعه المستنصر العبيدى الرافضى مِن التحديث.
قال: فأول ما فاتحته الكلام أجابنى على غير سؤالي، حذرًا أن أكون مدسوسًا عليه، حتى بسطته وأعلمتُه أنَّنى من أهل الأَنْدَلُس أريد الحج، فأجاز لى لفظًا، وامتنع من
غير ذلك.
رحل للعراق، فسمع بالبصرة من جعفر بن مُحَمَّد بن الفضل العباداني، وعبد الملك ابن شغبة، وبالأنبار: الخطيب أبا الحسن على بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الأقطع، وببغداد: على ابن الحسن بن قُريش بن الحسن صاحب ابن الصلت الأهوازي، وعاصم بن الحسن الأديب، وأبا عبد الله الحميدي.
وتفقَّه ببغداد على أبى بكر الشاشي، وأخذ بالشام عن الفقيه نصر المقدسي، ورجع إلى بلاده فى سنة تسعين بعلم كثير، وأسانيد شاهقة، واستوطن مُرسية، وجلس للإسماع بجامعها.
ورحل النَّاس إليه، وكان عالمًا بالحديث وطرقه, عارفًا بعلله ورجاله، بصيرًا بالجرح والتعديل، مليح الخطِّ، جيد الضبط، كثير الكتابة، حافظًا لمصنفات الحديث, ذاكرًا لمتونها وأسانيدها، وكان قائمًا على «الصحيحين» مع «جامع» أبى عيسى الترمذي، ولى قضاء مُرسِيَّة، ثم استعفى منه فأعفي، وأقبل على نشر العلم وتأليفه، وكان صالحًا ديِّنا، عاملاً بعلمه، حليمًا متواضعًا، وخرَّج القاضى عياض شيوخه, وذكر أنه أخذ عن مائة وستين شيخًا، وأنَّه جالس نحو أربعين شيخًا مِن الصالحين والفضلاء, وأنَّه أكره على القضاء فوليه، ثم اختفى حتى أعفى منه.
_________
(1) سير أعلام النبلاء (ج19/ 502).(1/192)
وتصدَّر فى زمن على بن يوسف فى نشر الكتاب والسنة فى مرسية بالأَنْدَلُس, وتوافد عليه الطلاب من كل حدب وصوب لينهلوا من علمه الجم الغزير, ونفع الله به المسلمين فى تلك الأقطار.
ب- وفاته:
استشهد أبو على الصدفى فى وقعة قُتُنْدَة بثغر الأَنْدَلُس، لست بقين من ربيع الأول، وهو مِن أبناء الستين، وكانت هذه الوقعة على المسلمين, وكان عيش أبى على من كسب بضاعة مع ثقات إخوانه (1).
انظر رحمك الله إلى هذا الطوَّد الشامخ، والجبل الراسخ، والبحر الزاخر فى حبه لطلب العلم ونشره، والدعوة إلى دينه والدفاع عنه، وحبه للجهاد والرِّباط، وحرصه على أكل الحلال، والتحرى فى لقمة العيش، والاستعلاء على الدنيا وزخارفها الكاذبة، ويا تُرَى كم نفس أحياها خبر استشهاد هذا العالم الفقيه الزاهد، وكان - رحمه الله - يتذوَّق الشعر الذى فيه الذَّود عن سنة سيِّد المرسلين, ويكتبه لتلاميذه, منه ما قال أبو عبد الله مُحَمَّد بن على الصورى لنفسه:
قل لمن أنكر الحديث وأضحى ... عائبًا أهله ومن يدعيه
أبعلم تقول هذا؟ أين لي ... أم بجهل فالجهلُ خُلُقُ السفيه
أيُعاب الذين هم حفظوا الدِّين ... من الترهات والتمويه؟
وإلى قولهم وما قد رَوَوْه ... راجعٌ كلُّ عالم وفقيه (2)
ثالثًا: القاضى الفقيه أبو بكر بن العربي:
من أعظم فقهاء الأَنْدَلُس فى عصر المرابطين، هو القاضى أبو بكر مُحَمَّد بن عبد الله ابن مُحَمَّد المعافرى الأَنْدَلُسي، الإشبيلي, الإمام العلامة، المتبحر فى العلوم.
ولد عام 468هـ/1076م وتأدَّب ببلده، وقرأ القراءات، ثم رحل إلى مصر، والشام وبغداد ومكة وكان يأخذ عن علماء أى بلد يرحل إليه حتى أتقن الفقه، والأصول وقيد
_________
(1) سير أعلام النبلاء (ج19/ 378).
(2) تاريخ الإسلام للذهبي، وفيات عام (511 - 520)، ص (369).(1/193)
الحديث، واتسع فى الرواية، وأتقن مسائل الخلاف، وتبحر فى التفسير، وبرع فى الأدب والشعر، وعاد إلى بلده إشبيلية بعلم كثير، لم يأت به أحد قبله مِمَّن كانت له رحلة إلى المشرق (1).
أ- مكانته العلمية:
قال الشيخ صديق حسن خان عن ابن العربي: «إمام فى الأصول والفروع، سمع ودرس الفقه والأصول, وجلس للوعظ والتفسير، وصنَّف فى غير فنٍّ، والتزم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر حتى أُوذى فى ذلك بذهاب كتبه وماله؛ فأحسن الصبر على ذلك كله» (2).
قال عنه القاضى عياض, وهو مِمَّن أخذوا عنه: «استقضى ببلده فنفع الله به أهلها لصرامته، وشدة نفوذ أحكامه، وكانت له فى الظالمين سورة مرهوبة، وتؤثر عنه فى قضائه أحكام غريبة، ثم صرف عن القضاء، وأقبل على نشر العلم وبثه» (3).
قال عنه الشيخ أحمد بن مُحَمَّد المقري: «علم الأعلام، الطاهر الأثواب، الباهر الأبواب، الذى أنسى ذكاء إياس، وترك التقليد للقياس، وأنتج الفرع مِن الأصل، وغدا فى الإسلام أمضى مِن النصل» (4).
ب - مؤلفاته:
للإمام القاضى أبى بكر بن العربى مؤلفات كثيرة لم يصلنا أغلبها، وقد قضى أربعين سنة فى الإملاء والتدريس، وفى بثِّ ما حصَّله مِن العلوم، وصنَّف -رحمه الله- فى فنون متعددة منها: علوم القرآن, والحديث، و «مشكل القرآن والحديث»، وأصول الدين، وكتب الزهد، وأصول الفقه، وكتب الفقه، والجدال والخلاف، واللغة والنحو والتاريخ، ومِن أشهر المؤلفات التى انتفع بها المسلمون «العواصم مِن القواصم»، «عارضة الأحوذى فى شرح الترمذي»، «أحكام القرآن»، «القبس فى شرح موطأ ابن أنس»، «المسالك على موطأ مالك» , «الإنصاف فى مسائل الخلاف»، «أعيان الأعيان»، «المحصول
_________
(1) انظر: أحكام القرآن فى المقدمة.
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) المصدر السابق نفسه.
(4) انظر: العواصم مِن القواصم، ص (13).(1/194)
فى أصول الفقه»، «قانون التأويل» (1).
كان الإمام ابن العربى يصول ويجول بفقهه فى بلاد الأَنْدَلُس ينور طرق الظلام بعلمه، ويقضى على الشبهات بحججه، ويدمغ البدع المنتشرة بصبره وحلمه ودعوته، وكان من أعمدة دولة المرابطين فى نشر الكتاب والسنة وتفقيه النَّاس وتربيتهم على مبادئ الإسلام وأخلاق الإيمان ودرجات الإحسان.
وله فوائد علمية سجَّلها فى كتبه وانتفع بها طلاب العلم من بعده منها:
1 - قوله: قال علماء الحديث: ما من رجل يطلب الحديث إلا كان على وجهه نضرة، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نضر الله أمرأ سمع مقالتى فوعاها فأداها كما سمعها .. ».
قال: وهذا دعاء منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحملة علمه, لابد بفضل الله تعالى من نيل بركته.
2 - ومنه قوله: كنت بمكة فى سنة 489هـ وكنت أشرب من ماء زمزم كثيرًا، وكلَّما شربته نويت العلم والإيمان، فنويت العلم والإيمان، ففتح الله لى ببركته فى المقدار الذى يسَّره لى مِن العلم، ونسيت أن أشرب للعمل، ويا ليتنى شربته لهما حتى يفتح الله لى فيهما، ولم يقدر فكان صفوى للعلم أكثر منه للعمل (2).
وفاته:
أتاه أجله «بمغلية» قرب مدينة «فاس» فى ربيع الأول سنة 543هـ، ودفن فى فاس خارج باب المحروف على مسيرة يوم من فاس غربًا منها (3).
رابعًا: القاضى الفقيه عياض:
هو القاضى أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن عمرو بن موسى اليحصبى السبتي، كان إمام وقته فى الحديث وعلومه والنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم، وصنف التصانيف المفيدة، ولد فى سبتة فى عام 476هـ، وتتلمذ على شيوخها ومن أشهرهم: القاضى أبو عبد الله بن عيسى، والخطيب أبو القاسم, والفقيه إسحاق بن الفاسي، وإبراهيم بن جعفر اللواتي، وإبراهيم بن أحمد القيسي، وأبو بكر
_________
(1) انظر: ترجمته فى كتاب العواصم مِن القواصم.
(2) انظر: العواصم مِن القواصم، ص (16).
(3) وفيات الأعيان (ج3/ 483).(1/195)
القاسم بن عبد الرحمن الكومى وغيرهم الكثير (1).
أ- رحلته إلى الأندلس:
كان خروجه للأَنْدَلُس من بيته يوم الثلاثاء منتصف جمادى الأولى سنة 507هـ، وكان عمره إذ ذاك واحدًا وثلاثين عامًا، ومِن أشهر شيوخه الذين تتلمذ عليهم فى قرطبة أبو مُحَمَّد عبد الرحمن بن مُحَمَّد المشهور بابن عتاب القرطبي, وقاضى الجماعة أبو
عبد الله بن الحاج، والفقيه أبو جعفر بن رزق، وأبو مروان عبد الملك بن سراج، وأبو الوليد بن رشد الجد، وأبو مُحَمَّد عبد الله بن أحمد بن سعيد الأَنْدَلُسى الإشبيلى وأبو علي الصدفي.
وتحصَّل على علوم غزيرة وتصدَّر للتعليم والتدريس، وعُين فى القضاء، ونبغ فيه, واشتهر بعلمه وعبادته وعدله وجوده، وكانت مؤلفات القاضى عياض أكثرها فى الحديث الشريف، ثُمَّ فى التاريخ والطبقات ثم فى الفقه، ثم فى القرآن (2).
ب- مؤلفاته:
1 - «الشفا بتعريف حقوق المصطفى»، موضوعه فى السيرة النبوية والعقيدة والأصول والتفسير والحديث.
2 - «مشارق الأنوار على صحيح الآثار» وموضوعه تفسير غريب الحديث فى الصحاح الثلاثة: «موطأ مالك» و «صحيحى البخارى ومسلم»، فضبط أسماء الرجال والألفاظ, ونبَّه على مواضع الأوهام والتصحيفات.
وفى هذا الكتاب قال الشاعر:
مشارق أنوار تبدَّت بسبتة ... ومن عجب كون المشارق بالمغرب
فأجابه آخر بقوله:
وما شرف الأوطان إلا رجالها ... وإلا فلا فضل لتُرب على تُرب
3 - كتاب «الإكمال»، أكمل به كتاب «المعلم بفوائد كتاب مسلم» لشيخه المازرى الفقيه المالكى المُحَدِّث المتوفى سنة 536هـ.
_________
(1) المغرب والأندلس، د. مصطفى الشكعة، ص (124).
(2) المصدر السابق، ص (125 - 136).(1/196)
4 - كتاب «منهاج العوارف إلى روح المعارف» وهو فى شرح مشكل الحديث.
5 - كتاب «الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع» فى مصطلح الحديث.
6 - كتاب «بغية الرائد فيما فى حديث أم زرع مِن الفوائد».
7 - كتاب «التنبيهات المستنبطة على الكتب المدونة» فى الفقه وجمع فى هذه الكتاب فوائد وغرائب.
8 - كتاب «الإعلام بحدود قواعد الإسلام» فى العقيدة.
9 - كتاب «الخطب» يحتوى على خمسين خطبة من خطب الجمع.
10 - كتاب «جامع التاريخ» فى التاريخ والطبقات.
11 - كتاب «تاريخ سبتة» وهو مسودة.
12 - «ترتيب المدارك وتقريب المسالك فى معرفة أعلام مذهب الإمام مالك».
13 - «الغنية» وذكر فيه شيوخه وترجم لهم.
14 - «المقاصد الحسان فيما يلزم الإنسان».
15 - «غنية الكتاب وبغية الطالب»، فى الأدب والإنشاء، وغيرها مِن المخطوطات والكتب التى تدل على سمو منزلته وسلامة منهجه.
لقد برع القاضى عياض فى أمور عِدَِة منها: القضاء والفقه والحديث واللغة والأدب، وكان شاعرًا مجيدًا, وله موهبة رائعة تدل على قدرته على نظم الشعر، ومن أروع ما قاله القاضى عياض مِن القصائد تلك التى أنشدها وهو يودِّع قرطبة فى عام 508هـ، بعد أن تلقَّى العلم فيها من شيوخها، وتوطَّدتْ له صلات بأهلها ومودة وصداقة وأخوة أكيدة، فقال مودعًا المدينة الأَنْدَلُسية ذات التاريخ العريق:
أقول وقد جدَّ ارتحالى وغرَّدت ... حُداتى وَزُمَّت للفراق ركائبي
وقد غمضت من كثرة الدمع مقلتي ... وصارت هواء من فؤاد ترائبي
ولم تبقَ إلا وقفة يستحثها ... وداعى للأحباب لا للحبائب
رعى الله جيرانًا بقرطبة العُلا ... وسقى ربُاها بالعهاد السواكب(1/197)
وحيَّا زمانًا بينهم قد ألفته ... طليق المُحيَّا مُستلان الجوانب
أإخواننا بالله فيها تذاكروا ... معهاد جار أو مودة صاحب
غدوتُ بهم من برهم واحتفائهم ... كأنى فى أهلى وبين أقاربي (1)
ومن أشعاره الإخوانية التى وصف فيها ليلة جمعت من أصحابه كل ذى مكانة وفضل وجاه:
سَمَحَ الزمانُ بليلةٍ ... غراءَ جامعة السرورْ
أجنتْ أكفُّ جُناتِها ... قَطفَ الأمانى والحبور
ما فضَّ طينُ ختامها ... فيما تقدم من دهور
دارت على فلك السعود ... بمثل أشباه البدور
ما إن ترى إلا أميرًا ... حاز إرثًا عن أمير
تَخذُوا القلوب أسرة ... وثَوَوْا بها عوض السرير
فعليهم وقف العلاءُ ... وإن تُدووِِلَت الأمور (2)
لقد اهتمَّ الأمير على بن يوسف بالقاضى عياض لما كان شابا وظهر ذكاؤه وانتشر صيته، فأكرمته دولة المرابطين, وهيأت له الأجواء للمزيد مِن التحصيل والتفقه فى الدين.
وكان القاضى عياض لا يحب كثرة الأسفار والارتحال، ويلاحظ المتتبع لسيرته وحياته أنه كان قليل الارتحال بالقياس إلى معاصريه وأترابه مِن العلماء والفقهاء والمُحَدِّثين، وكانت له نظرية عجيبة فى ذم السفر وبيان أضراره وعيوبه نظمه فى الشعر، وخالفه كثير مِن العلماء فى نظرته المتفردة وإليك الأبيات التى ذكرها فى ذم السفر:
تقعَّد عن الأسفار إن كنت طالبًا ... نجاةً ففى الأسفار سبعُ عوائق
_________
(1) المغرب والأندلس، د. مصطفى الشكعة، ص (139 - 146).
(2) المصدر السابق، ص (149).(1/198)
تشوفُ إخوانٍ وفقدُ أحبةٍ ... وأعظمها يا صاح سُكنى الفنادق
وكثرةُ إيحاشٍ وقلةُ مؤنسٍ ... وتبذيرُ أموالٍ وخيفةُ سارق
فقد كان ذا دهرًا تقادم عهده ... وأعقبه دهر شديدُ المضايق
فهذه مقالى والسلام كما بدا ... وجرِّب ففى التجريب علمُ الحقائق (1)
وهذه فلسفة غريبة فى الأسفار أخالف القاضى عياض - رحمه الله - فيها، إلا أنَّنى أقول إن الإنسان فى أسفاره العلمية أو التجارية عندما يقضى مآربه عليه أن ينتقل إلى غيرها, حتى يحقق أهدافه ويرجع إلى وطنه وقومه غانمًا سالمًا مفيدًا لأهله وشعبه, وقد ذكر العلماء فى الأسفار فوائد فقال الشافعى رحمه الله:
تغرَّب عن الأوطان فى طلب العلى ... وسافر ففى الأسفار خمسُ فوائد
تفرج همِّ واكتسابُ معيشةٍ ... وعلمٌ وآداب وصحبةُ ماجدٍ (2)
وقال الإمام الشافعى فى الاغتراب أيضًا:
ما فى المقام لذى عَقلِ وذى أدبِ ... من راحةٍ فَدَعِ الأوطان واغتربِ
سافر تجد عوضًا عمن تفارقه ... وانصب فإن لذيدَ العيش فى النصب
إنِّى رأيت وقوف الماء يفسده ... إن ساح طاب وإن لم يجرِ لم يطبِ
والأسدُ لولا فراقُ الأرض ما افترست ... والسهمُ لولا فِراقُ القوسِ لم يُصب
والشمسُ لو وقفت فى الفلك دائمة ... لملَّها النَّاس من عُجم ومن عرب (3)
وكان مِمَّن عاصر القاضى عياض العلامة الشيخ يعلى أبو جبل, وكان له رأى يخالف رأى القاضى عياض فى السفر نظمه فى هذه الأبيات:
سافر لتكسب فى الأسفار فائدة ... فَرُبَّ فائدةٍ تُلقى مع السفر
_________
(1) انظر: النبوغ المغربي، عبد الله كنون، (ج3/ 131).
(2) ديوان الشافعي، ص (57).
(3) ديوان الشافعي، ص (34).(1/199)
ولا تُقم بمكان لا تُصيبُ به ... نصحًا ولو كنت بين الظل والشجر
فإن «موسى» كليم الله أعوزهُ ... علم تكسَّبَهُ فى صحبة الخضر (1)
ومن شعره فى الأشواق ما نظمه من أبيات واصفًا فيها شوقه وحنينه لزيارة المدينة المنورة فقال:
يا دار خير المرسلين ومَن به ... هدى الأنام وخُصَّ بالآياتِ
عندى لأجلك لوعة وصابة ... وتشوقٌ متوقدُ الجمرات
وعليَّ عهدٌ إن ملأت محاجري ... من تلكم الجدران والعرصات
لأعفرنَّ مصونَ شيبى بينها ... من كثرة التقبيل والرَّشقات
لولا العوادى والأعادى زرتها ... أبدًا ولو سعيا على الوجنات (2)
لكن سأهدى من جميل تحية ... لقطين تلك الدار والحُجُراتِ
أذكى مِن المسك المفتق نفحةً ... تغشاه بالآصال والبُكرات
وتخصه بزواكى الصلوات ... ونَوامى التسليم والبركات (3)
وله أبيات يصف فيها نفسه وشوقه إلى وطنه قالها فى مدينة «داي» ببلاد المغرب سنة 541هـ، وكان قد ناهز الخامسة والستين مِن العمر، وكان مرغمًا على البقاء فيها ممنوعًا للرجوع إلى بلاده فى زمن دولة المُوَحِّدِين.
يعلم الله وأنا أمر على هذه الأبيات التى فجرت الأحزان فى نفسي، وألهبت مشاعرى وهيجت الأشواق إلى مدينتى «بنغازي» ومنطقتى «الحدائق»، وذكرتنى ببلادى العزيزة ليبيا ما تملكت دموع الشوق إلى مسقط رأسى الذى طالت مدة غيابى عليه أكثر من أربعة عشر عامًا نصفها مسجونًا فى بلادي, والنصف الآخر قضيتها متنقلاً بين البلدان، ولم تكن تهمتى التى كلفتنى هذه العقوبة القاسية التى أحتسبها عند الله إلا أن
_________
(1) المغرب والأندلس, ص (150).
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) أزهار الرياض، (ج4/ 180).(1/200)
رضيت بالله ربا وبالإسلام دينًا وبمُحَمَّد نبيًا ورسولاً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
إن أبيات القاضى عياض فى غربته أضفت على وأنا أترجم حياته مسحة مِن الحزن, ولوعة مِن الأسى, وإحساسًا بالحنين إلى أهلى ووطني، وأحبتى وإخواني، فقال القاضى - رحمه الله - وهو يحاور حمامة مرَّت به:
أقمرية الأدواح بالله طارحِى ... أخا شجى بالنوح أو بغناء
فقد أرقتنى من هديلك رنة ... تهيج من شوقى ومن بُرحائي
لعلك مثلى يا حمامُ فإنني ... غريب «بداي» قد بُليتَ بداءِ
فكم من فلاةٍ بين «داي» و «سبتة» ... وخَرق بعيد الخافقين قواءِ
تصفقُ فيه للرياح خوافقٌ ... كما ضعْضعتنى زفزةُ الصعداء
يذكرنى سحُّ المياه بأرضها ... دموعًا أريقتْ يوم بنتُ ورائي
ويعجبنى فى سهلها وحزنها ... خَمائل أشجارِ ترف لِرائي
لعلَّ الذى كان التفرُّق حكمهُ ... سيجمع منَّا الشمل بعد تنائي (1)
جـ - عياض والقضاء:
رجع القاضى عياض إلى سبتة بعد أن أتمَّ ما أراد من علوم الأَنْدَلُس, وكان دخوله لمدينته الحبيبة إلى نفسه عام (508هـ)، وفرح أهل سبتة بابنهم البار، وتصدَّر للتعليم والتدريس بعد أن امتحنه علماء مدينة سبتة فى الفقه المالكي، وأصبح من أهل مجلس الشورى، وكان حينئذ فى الثانية والثلاثين من عمره أو يزيد قليلاً، وكانت تلك المرحلة سببًا فى إعداده ليتسنم سدة القضاة الشريفة الرفيعة فى سبتة (2).
ولما كان عياض فى التاسعة والثلاثين من عمره تولى القضاء، وكان ذلك عام 515هـ، وظلَّ متربعًا على كرسى القضاء فى بلده سبتة ستة عشر عامًا، فسار فيها أحسن سيرة, وكان محمود الطريقة مشكور الحالة، أقام جميع الحدود على ضروبها واختلاف أنواعها، وبنى الزيادة الغربية فى جامع سبتة التى كمل بها جماله وترك فى بلده آثارًا محمودة (3).
_________
(1) انظر: المغرب والأندلس, ص (150). ... (2) المصدر السابق نفسه, ص (150).
(2) انظر: أزهار الرياض، (ج3/ 10).
(3) انظر: المغرب والأندلس، ص (162).(1/201)
ويبدو أن بعض الأمراء لم يعجبهم حزم وعدالة القاضى عياض، كما خافوا من كثرة أتباعه وانتشار صيته ومحبة النَّاس له، فلذلك عزموا على نقله إلى غرناطة, ولم يذكروا سببًا مقنعًا، مما جعل الفقيه أبا الحسن بن هارون المالقى يمدح القاضى عياضًا فى أبيات سجلتها ذاكرة التاريخ:
ظلموا عياضًا وهو يَحْلُمُ عنهم ... والظلمُ بين العالمين قديمُ
جعلوا مكانَ الراءِ عينًا فى اسمه ... كى يكتموه فإنَّه معلوم
لولاه ما فاحتْ بطائحُ سبتة ... والروض حول فنائِها معدوم (1)
وانتقل القاضى عياض إلى غرناطة ممتثلاً لأمر الأمير فهبَّ أهل غرناطة لاستقباله كما يستقبل الفاتحون، وبالله إنه لحق فاتح للعقول, ومنور للقلوب, ومطهر للنفوس بعلمه الغزير، وخُلُقه المتواضع وسيرته العطرة.
وسار فى النَّاس سيرة العدل، ورفع الظلم، وإحقاق الحقوق دون خوف من أمير أو وزير، ونشط وضاق به ذرعًا مَن تعرَّضت مصالحه للخطر، ولا يستطيع الحصول عليها إلا بالظلم، وأسفرت مكايد الأشرار فى غرناطة عن عزل القاضى النزيه فى عام 532هـ, ورجع إلى بلده ليكون بعيدًا عن القضاء قريبًا لطلاب العلم وحلقاته, وقصده النَّاس وانتفع به العباد, ونشر نور الكتاب والسنة فى البلاد، واستمرَّ على تلك الحالة الدعوية سبع سنين، وفى أواخر دولة المرابطين عام 539هـ دعى ليتولَّى قضاء سبتة من جديد، وهو فى الثالثة والستين من عمره، وكان شيخًا جليلاً وعالمًا عظيمًا، وقاضيًا حكيمًا, وأبًا رحيمًا، فابتهج النَّاس لعودته, وسار فيهم سابق سيرته، وما مضت شهور قليلة حتى سقطت دولة المرابطين على يد دولة المُوَحِّدِين البدعية فاضطرَّ القاضى الجليل إلى خوض الحياة السياسية والحربية (2).
د- معارك السياسة والحرب:
إن ظهور دولة المُوَحِّدِين على يد المبتدع الكبير مُحَمَّد بن تومرت كانت من أسباب سقوط دولة المرابطين، فطبيعى جدًّا أن يخوض حربًا ضد دولة المُوَحِّدِين، وتولَّى قيادة
_________
(1)
(2) المصدر السابق, ص (162).(1/202)
جيوش المُوَحِّدِين عبد المؤمن بن على الذى استطاع بجيشه أن يحتل مدن المغرب مثل فاس ومراكش وغيرهما.
ورأى القاضى عياض أن المصلحة العليا لمدينة سبتة وأهلها أن يبايع عبد المؤمن حفاظًا على الأعراض والأموال، وتجنيب المدينة مِن الدمار الشامل, وقبل أمير المُوَحِّدِين تلك البيعة الاضطرارية، وما أن قام مُحَمَّد بن هود بثورته على المُوَحِّدِين حتى استجاب أهل سبتة لذلك بزعامة القاضى عياض، وقام السبتيون بقتل عامل المُوَحِّدِين وأصحابه، وسار القاضى عياض إلى يحيى بن على المسوفى المعروف بابن غانية فى قرطبة وبايعه، وكان متمسكًا بدعوة المرابطين, وطلب منه أن يُعيِّن واليًا على سبتة فبعث معه يحيى بن أبى بكر الصحراوى، وأصبحت بذلك مدينة سبتة خارجة عن دولة المُوَحِّدِين, وعادت إلى حكم المرابطين.
إلا إن جيوش المُوَحِّدِين استطاعت إخضاع مدينة سبتة وأهلها, وأعادوا البيعة من جديد للمُوَحِّدِين الذين قبلوا ذلك, واشترطوا إبعاد القاضى عياض عن مدينته إلى مراكش، وقيل تدلا, إلى أن توفاه الله تعالى.
إن موقف القاضى عياض كان منسجمًا مع عقيدته وعلمه ودعوته فى محاربته للمُوَحِّدِين الذين اعتقدوا عصمة إمامهم مُحَمَّد بن تومرت، وغير ذلك مِن العقائد البدعية التى سنفصِّلها بإذن الله تعالى عند كلامنا عن المُوَحِّدِين.
إن القاضى عياض ليس من أهل السنة وحسب، ولكنَّه فقيه أهل السنة آنذاك على الإطلاق، وهو كذلك يرى وجوب الوقوف أمام دعوة ابن تومرت، وينبغى التخلُّص منها حتى حانت أول فرصة، وإن يكن قد بايع فالبيعة آنذاك كانت حفاظًا على سلامة بلدته وأهلها، أما وقد لاحت الفرصة بخروج بعض المدن على سلطان المُوَحِّدِين القائم على بدعة الإمامة المعصومة، أما وقد جرت الريح بما لا تشتهى السفن؛ فإن مِن العقل الاستسلام ثم المبايعة وله حكم المضطرِّ فى ذلك.
وإن سلطان المُوَحِّدِين عبد المؤمن كان على مقدرة عجيبة مِن الدهاء والمكر، ولذلك رأى لمصلحة دولته أن يضع الفقهاء والعلماء الذين يشك فى ولائهم له فى مراكش، ومنعهم مِن العودة إلى بلادهم، أو يضعهم فى مدن أخرى ليخدموا مخططات الدولة الناشئة (1).
_________
(1) سير أعلام النبلاء، (ج20/ 217).(1/203)
هـ - وفاة القاضى عياض:
توفى رحمه الله فى منفاه بعيدًا عن وطنه فى عام 544هـ ودفن فى مراكش، (1) فعليه مِن الله الرحمة والمغفرة والرضوان على ما قدَّمه للإسلام.
هؤلاء بعض العلماء الذين كان لهم سبق ومكانة فى دولة المرابطين, وانتفع النَّاس بعلمهم وفقههم، ترجمت لهم ترجمة متواضعة, كما برز فى علوم الفقه والحديث كثير مِن العلماء والمُحَدِّثين فى عصر دولة المرابطين منهم: أبو الحسن
على بن عبد الرحمن المعروف بابن أبى حقون وله مختصر فى أصول الفقه سماه «بالمقتضب الأشفى فى أصول المستصفى» , ومنهم أبو مُحَمَّد عبد الله بن على بن عبد الله بن خلف بن أحمد بن عمر اللخمي، ويعرف بالرشاطي، وكانت له عناية بالحديث والرجال والرواة والتواريخ، وله كتاب سماه «اقتباس الأنوار، والتماس الأزهار فى أنساب الصحابة ورواة الآثار»، ومنهم أيضًا أبو عبد الله بن مُحَمَّد بن حسين بن أحمد بن مُحَمَّد الأنصاري، وأبو جعفر أحمد بن عبد الصمد بن أبى
عبيدة بن مُحَمَّد الخزرجي، وقد ألف كتابًا فى أحكام الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سماه «آفاق الشموس وأعلاق النفوس»، وكتابًا آخر سماه «مقاطع الصلبان ومراتع رياض أهل الإيمان»، وأبو مُحَمَّد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن عطية المحاربى وله كتاب يُسمى «بالوجيز فى التفسير» , وكذلك برز فى عصر على بن يوسف مِن الفقهاء وعلماء الحديث: أبو عبد الله مُحَمَّد بن حسين بن أحمد الأنصارى المعروف بابن أبى أحد عشر، وأبو عبد الله مُحَمَّد بن أحمد بن سعيد بن يربوع بن سليمان، وأبو الوليد يوسف بن عبد العزيز بن يوسف بن عمر المعروف بابن الدباغ، وأبو عبد الله
مُحَمَّد بن أحمد بن خلف بن إبراهيم التجيبى المعروف بابن الحاج قاضى
الجماعة بقرطبة.
* * *
_________
(1) سير أعلام النبلاء, (ج2/ 217).(1/204)
المبحث الرابع
علوم اللغة فى زمن المرابطين
ونبغ فى علوم اللغة فى عصر على بن يوسف عدد كبير مِن العلماء المبرزين فى النحو وعلوم اللغة نذكر منهم: أبا مُحَمَّد, عبد الله بن مُحَمَّد بن السيِّد البطليوسى النحوى ت 521هـ، وكان حجة فى علمه عالمًا متبحرًا فى النحو وعلوم اللغة، وكان النَّاس يجتمعون إليه ويقرأون عليه، ومن تواليفه كتاب «الاقتضاب فى شرح أدب الكتاب» , وكتاب «التنبيه على الأسباب الموجبة لاختلاف الأمة» , وكتاب آخر فى شرح الموطَّأ, بالإضافة إلى ذلك كان شاعرًا مطبوعًا فمن نظمه قوله:
أخو العلم حي خالد بعد موته ... وأوصاله تحت التراب رميم
وذو جهل ميت وهو ماشٍ على الثرى ... يظن مِن الأحياء وهو عديم
ومن أئمة اللغويين وأعلامهم فى عصر على بن يوسف، أبو الحسن على بن أحمد بن خلف الأنصارى النحوي، وقد كان من أهل المعرفة بالآداب واللغة، متقدمًا فى علم القراءات، وأبو مُحَمَّد بن أحمد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن أحمد بن عبد الله النحوى المعروف بابن اللجاش، وكان عالمًا متبحرًا فى النحو، وأبو العبَّاس أحمد بن عبد الجليل ابن عبد الله المعروف بالتدميرى ت 555هـ، ومن تواليفه «نظم القرطين وضم أشعار السقطين» وجمع فيه أشعار «الكامل» للمبرد و «النوادر» لأبى على البغدادي، كما له كتاب «التوطئة فى العربية» وله شرح على كتاب الفصيح لثعلب، وله فى شرح أبيات جمل الزجاجى كتاب سماه «شفاء الصدور»، وكتاب «الفوائد والفرائد»، ومنهم أبو العبَّاس أحمد بن عبد العزيز بن هشام بن غزوان الفري، وكان من أهل المعرفة بالنحو واللغة والعروض, وله أرجوزة مزدوجة فى قراءة نافع وثانية فى قراءة ابن كثير، ومن تواليفه كتاب «فوائد الإفصاح عن شواهد الإيضاح» (1)
* * *
_________
(1) تاريخ المغرب والأندلس، ص (398 - 400).(1/205)
المبحث الخامس
علوم التاريخ والجغرافيا فى عصر المرابطين
ظهر فى عصر المرابطين عدد كبير من أعلام الرواية والكتابة التاريخية نذكر فى مقدمتهم: أبو زكريا بن يحيى بن يوسف الأنصارى الغرناطى المعروف بابن الصيرفى، كان من أعلام عصر على بن يوسف فى البلاغة والأدب والتاريخ، كتب بغرناطة عن الأمير تاشفين بن على بن يوسف أيام أن كان واليًا على الأَنْدَلُس، وألَّف فى تاريخ الأَنْدَلُس فى العصر المرابطى كتابًا سماه «الأنوار الجلية فى تاريخ الدولة المرابطية»، وكتابًا آخر سماه «قصص الأنباء وسياسة الرؤساء» , وهما مؤلفان لم يصلا إلينا مع الأسف، ولم يصل إلينا من مؤلفاته الأولى سوى شذور نقلها المتأخرون مثل ابن الخطيب خاصة روايته عن غزوة ألفونسو المحارب للأَنْدَلُس سنة 519هـ/1125م، وقد توفى ابن الصيرفى بغرناطة فى سنة 570هـ، وهناك أيضًا أبو الحسن على بن بسام الشنترينى (ت542هـ) صاحب كتاب «الذخيرة فى محاسن أهل الجزيرة» , وهذا الكتاب موسوعة أدبية تاريخية يتضمن تراث القرن الخامس الهجرى/ الحادي عشر الميلادي، وأبو عبد الله مُحَمَّد بن خلف بن الحسن بن إسماعيل الصدفي، ويعرف بابن علقمة, وهو من أهل مدينة بلنسية وله كتاب سمَّاه «البيان الواضح فى الملم الفادح» وتوفى ابن علقمة عام 509هـ/1114م، وأبو طالب عبد الجبار عبد الله ابن أحمد بن أصبغ، وله كتاب يسمى «عيون الإمامة ونواظر السياسة»، وأبو عامر مُحَمَّد بن أحمد بن عامر البلوى المعروف بالسالمي، وقد ألَّف كتابًا فى التاريخ سماه «درر القلائد وغرر الفوائد»، وأبو نصر الفتح بن مُحَمَّد القيسى الإشبيلي، والمعروف بالفتح بن خاقان، ومن تواليفه كتاب «قلائد العقيان فى محاسن الأعيان»، وكتاب «مطمع الأنفس ومسرح التأنس» , وكتاب «رواية المحاسن وغاية المحاسن» , وأبو القاسم خلف بن عبد الملك ويعرف بابن بشكوال، وكان من أعلام المؤرخين فى عصر المرابطين، وأشهر تواليفه كتابه المعروف «بالصلة»، الذى جعله تتمة لكتاب ابن الفرضى فى تاريخ علماء
الأَنْدَلُس، ومن تواليفه(1/206)
أيضًا كتاب «الغوامض والمبهمات» فى اثنى عشر جزءًا، وكتاب «المحاسن والفضائل فى معرفة العلماء الأفاضل» فى واحد وعشرين جزءًا وقد توفى ابن بشكوال فى رمضان 578هـ.
وفى مجال الجغرافية نبغ عدد من كبار جغرافى الأَنْدَلُس والمغرب فى عصر المرابطين نذكر منهم: الشريف أبو عبد الله مُحَمَّد الإدريسي, صاحب كتاب «نزهة المشتاق فى اختراق الآفاق»، وقد ألَّف الإدريسى لرجار الثَّانِى صاحب صقلية، ولذا يُعرف هذا الكتاب فى كتب الجغرافية العربية باسم الرجاري.
ومن جغرافيى عصر المرابطين عبد الله بن إبراهيم بن وزمر الحجارى صاحب كتاب «المسهب فى غرائب المغرب»، وقد اتخذ بنو سعيد كتابه أساسًا لكتابهم المعروف باسم «المغرب فى حلى المغرب» (1).
* * *
_________
(1) تاريخ المغرب والأندلس، ص (401 - 403).(1/207)
المبحث السادس
علوم الطب فى عصر المرابطين
تقدمت العلوم الطبية والصيدلانية فى عصر المرابطين تقدمًا يشهد له الأسماء والأعلام التى تألقت فى حضارة الأَنْدَلُس والمغرب، وأشهرها ابن زهر وهو اسم طبيب أَنْدَلُسى من أعظم أطباء الإسلام، مِمَّن تركوا بصماتهم واضحة فى تاريخ الحضارة الإنسانية جمعاء، وينتسب أبو مروان عبد الملك بن زهر إلى أسرة أَنْدَلُسية لمعت فى ميدان الطب والعلوم الطبيعية والكيميائية, عميدها الأكبر هو أبو مروان عبد الملك ابن الفقيه مُحَمَّد بن مروان بن الأزهر الأيادى الإشبيلي، وكان والده الفقيه محمد بن مروان من جلة الفقهاء المتميزين فى علم الحديث فى إشبيلية، وقد رحل أبو مروان فى شبابه إلى المشرق وسمع فى القيروان ومصر، وتتلمذ علىأيدى علماء المشرق فى الطب، ورجع إلى الأَنْدَلُس، وأصبح من أشهر علماء الطب فيها, وتوفى فى إشبيلية، وورثه فى علم الطب ابنه أبو العلاء الذى تبوأ مكانة عظيمة فى دولة المرابطين، ومن تواليفه «الخواص» وكتابه «الأدوية المفردة» وكتاب «الإيضاح بشواهد الافتضاح» فى الرد على ابن رضوان فيما رده على حنين بن إسحاق فى كتاب المدخل إلى «الطب»، وكتاب «النكت الطبية»، وكتاب «الطرر» ومقالة فى تركيب الأدوية، وتوفى أبو العلاء فى قرطبة 525هـ, وحُمل إلى إشبيلية ودفن بها، وأمر الأمير على بن يوسف بجمع كتبه ونسخها، وتم ذلك عام 526هـ, وورث ابنه أبو مروان من والده صناعة علوم الطب، ونبغ فى هذا المجال، ولم يكن فى زمانه مَن يماثله أو ينافسه، وكان له حظوة لدى الأمراء المرابطين، فقد صنف للأمير أبى إسحاق إبراهيم بن يوسف بن تاشفين كتابًا سماه «الاقتصاد فى صلاح الأجساد»، ومن تواليفه أيضًا كتاب «التيسير فى المداواة والتدبير» وقد ألفه القاضى أبو الوليد بن رشد وهذا الكتاب يُعد من أعظم مراجع الطب فى العصور الوسطى، وله أيضًا كتاب «الأغذية»، ومقالة فى علل الكلى، ورسالة فى علتى البرص والبهق، وتوفى هذا العالم فى عام 557هـ فى إشبيلية.(1/208)
ومن الأطباء الذين برعوا فى عصر على بن يوسف: أبو عامر مُحَمَّد بن أحمد بن عامر البلوي، وله فى الطب كتاب سماه «الشفا» , وأبو الحسن على بن عبد الرحمن بن سعيد السعدى وغيرهم.
ومما يؤكد اهتمام دولة المرابطين بالطب وجود منصب يعرف برئيس الصناعة الطبية, وهو منصب هام يقابل ما نطلق عليه اليوم اسم وزير الصحة، إذ كان فيما يبدو المسئول الأول أمام الأمير فى صناعة الطب, وما يتعلق بها مِن الأدَويَة والعقاقير (1).
* * *
_________
(1) تاريخ المغرب والأندلس، ص (407 - 409).(1/209)
المبحث السابع
أسباب سقوط دولة المرابطين
1 - ظهور روح الدعة والانغماس فى الملذَّات والشهوات عند حُكَّام المرابطين وأمرائهم فى أواخر عصر على بن يوسف، وكان للمجتمع الأَنْدَلُسى تأثير لا ينكر فى قادة وأمراء وحكام دولة المرابطين الذين استجابوا لنزوات شهواتهم وانغمسوا فى الحياة الدنيا، فتحقَّق قول الله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:16] (1).
يقول سيِّد قطب رحمه الله: «والمترفون فى كلِّ أمَّة هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال، ويجدون الخدم، ويجدون الراحة، فينعمون بالدعة والراحة، وبالسيادة حتى تترهل نفوسهم وتأسن، وترتع فى الفسق والمجانة وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات، وتلغ فى الأرض والحرمات، وهم إذا لم يجدوا مَنْ يَضْرِبُ على أيديهم عاثوا فى الأرض فسادًا، ونشروا الفاحشة فى الأمة وأشاعوها، وأرخصوا القيم العليا التى لا تعيش الشعوب إلا بها ولها، ومن ثَمَّ تتحلل الأمة وتسترخي، وتفقد حيويتها وعناصر قوتها وأسباب بقائها فتهلك وتطوى صفحتها .. ».
والآية تقرر سنة الله هذه فى إهلاك مَن انغمس فى الشهوات، وأسرف فى الملذات، وتحلل مِن القيم والأخلاق ولازم الفسق والانحلال والفساد.
2 - ظهور السفور والاختلاط بين النساء والرجال، وبدأت دولة المرابطين فى آخر عهد الأمير على بن يوسف تفقد طُهرَها وصفاءَها الذى اتصف به جيلهم الأول، مما جعل الرعية المسلمة تتذمر من هذا الانحراف والفساد، وتستجيب لدعوة مُحَمَّد بن تومرت الذى أظهر نفسه للناس بالزاهد والنَّاسك والآمر بالمعروف والناهى عن المنكر.
3 - انحراف نظام الحكم عن نظام الشورى إلى الوراثى الذى سبب نزاعًا عنيفًا على منصب ولاية العهد بين أولاد على بن يوسف، كما تطلع مجموعة مِن الأمراء
_________
(1) تاريخ المغرب والأندلس ص (407 - 409).(1/210)
إلى منصب الأمير على ونازعوه فى سلطانه مما سبب تمزقًا داخليًا، ففقدت الدولة المرابطية وحدتها الأولى، وكثرت الجيوب الداخلية فى كيان الدولة، وتفجرت ثورات عنيفة فى قرطبة، وفى فاس وغيرهما ساهمت فى إضعاف الوحدة السياسية وإسقاط هيبة الدولة المرابطية.
4 - الضيق الفكرى الذى أصاب فقهاء المرابطين وحجرهم على أفكار النَّاس, ومحاولة إلزامهم بفروع مذهب الإمام مالك وحده، وعملوا على منع بقية المذاهب السنية تعصبًا لمذهبهم، وكان لفقهاء المالكية نفوذ كبير مما جعلهم يوسعون تعصبهم وتحجرهم الفكري.
ويرى بعض المؤرخين أن التعصب الأعمى عند فقهاء المرابطين فى زمن الأمير على ابن يوسف كان السبب الأول فى سقوط دولة المرابطين (1)، لقد أسهم فقهاء المالكية فى دولة المرابطين بقسط وافر فى تذمر الرعايا، وإضعاف شأن الإمارة، لقد استغل بعض الفقهاء نفوذهم من أجل جمع المال وبناء الدور، وامتلاك الأرض، وعاشوا حياة البذخ والرفاهية المفرطة، وكان ذلك سببًا فى إيجاد ردة فعل عنيفة عند أفراد المجتمع المرابطي، وانبرى الشعراء فى تصوير حال الفقهاء فى تلك الفترة، فقال أبو جعفر أحمد بن مُحَمَّد المعروف بابن البني:
أهل الرياء لبستم ناموسكم ... كالذئب أدلج فى الظلام العاتم
فملكتم الدنيا بمذهب مالك ... وقسمتم الأموال بابن القاسم
وركبتم شهب الدواب بأشهب ... وبأصبغ صبغت لكم فى العالم (2)
5 - ومن أهم العوامل التى أسقطت دولة المرابطين: فقدها لكثير من قياداتها وعلمائها العظام أمثال سير بن أبى بكر، ومُحَمَّد بن مزدلي، ومُحَمَّد ابن فاطمة، ومُحَمَّد بن الحاج، وأبى إسحاق بن دانية، وأبى بكر بن واسينو .. فمن لم يستشهد من كبار رجال الدولة أدركه الموت الطبيعي، ولم يستطع ذلك الجيل أن يغرس المبادئ والقيم التى حملها فى الجيل الذى بعده، فاختلفت قدرات
_________
(1) الزلاقة بقيادة يوسف بن تاشفين، ص (98).
(2) انظر: سقوط دولة الموحدين, للدكتور مراجع الغناي، ص (31).(1/211)
الجيل الذى بعدهم واستعداداتهم، وهذا درس مهم لأبناء الحركات الإسلامية فى أهمية توريث التجارب والخبرات المتنوعة والمتعددة للأجيال المتلاحقة (1).
6 - ومن أهم العوامل التى أنهكت دولة المرابطين، أنها مرَّت بأزمة اقتصادية حادة، نتيجة لانحباس المطر عدة سنوات، وحلول الجفاف والقحط بالأَنْدَلُس والمغرب، وزاد من حدة الأزمة الاقتصادية أن أسراب الجراد هاجمت ما بقى مِن الأخضر على وجه البلاد مما هيأ الظروف لانتشار مختلف الأوبئة بين كثير مِن السكان، ووقعت هذه الأزمة فى الفترة الواقعة ما بين أعوام 524هـ-530م (2).
7 - ومن أهم الأسباب الرئيسية فى زوال دولة المرابطين- فى نظرى - صدامها المسلح مع جيوش المُوَحِّدِين، ورأيت أن أفرد له مبحثًا مستقلاً (3) ويكون ذلك عند دراسة دولة المُوَحِّدِين إن شاء الله.
* * *
_________
(1) انظر: سقوط دولة الموحدين, للدكتور مراجع الغناي، ص (31).
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) المصدر السابق نفسه.(1/212)
نتائج البحث
1 - إن فى معظم قبائل العالم الإسلامى رجالاً لهم عقول راجحة وبعد نظر وتقدير للأمور، وفى أغلب الأحيان يتولََّى أمر القبيلة أرجح النَّاس عقلاً وأكثرهم جودًا، وأعظمهم شجاعة، وأخلصهم لأهله وعشيرته، وشخصية الأمير يحيى بن إبراهيم الجدالى خير دليل على ما قلت، ولذلك مِن الدروس العميقة من هذا البحث هو أهمية دور زعماء القبائل فى دعوة قبائلهم وعشائرهم، وإيجاد الحماية اللازمة للدعاة إلى الله فى أوساط القبائل، فعلى الحركات الإسلامية العامة أن توثِّق علاقتها مع هذه الشريحة مِن المجتمع، وتحرص على دعوتها للإسلام لتنصهر فى الدعوة الربَّانية التى تبذل جهدها لتحكيم شرع الله تعالى.
2 - إن أبا عمران الفاسى العالم الربَّانى والفقيه المالكى سيِّد الفقهاء فى القيروان فى زمانه يعتبر هو واضع الخطوط العريضة لدولة المرابطين، وكان - رحمه الله - يميز بين العمل العلنى فى الدعوة وفقهها وتعليم النَّاس، وبين العمل السرى لإقامة دولة سنية، وكان رحمه الله على اتصال بفقهاء أهل السنة فى مدن وقرى الشمال الإفريقي، ولذلك لما تعرَّف أبو عمران الفاسى على الأمير الصنهاجى يحيى بن إبراهيم، وعلم بأحوال قومه وحاجتهم لمنهج الإسلام ومن يربيهم على ذلك، اتصل بأخيه الشيخ وجاج بن زلوا اللمطى فقيه المالكية بالسوس الأقصى، وكان فقيهًا صالحًا يقيم بمدينة ملكوس، وأطلعه على المهمة التى جاء من أجلها الأمير يحيى، فاختار لهذه المهمة تلميذه الذكى الفقيه العابد الألمعى عبد الله بن ياسين الجزولى صاحب العلوم المتنوعة والشخصية الجذَّابة التى تجرى فى دمائها صفات الدعاة المتعددة، وسار- رحمه الله- وفق خطة محكمة بصبر وحلم وشجاعة فى قبائل الملثمين.
3 - كانت مرحلة التعريف التى نفَّذها الإمام عبد الله بن ياسين فى قبائل جزولة ولمتونة وغيرهما من أصعب المراحل، وكادت تودى بحياته واستطاع أن يحارب مظاهر الشرك والجهل فى مجتمع صنهاجة الصحراوي، وأن يتحمل الكثير من أجل تعليمهم الإسلام وأركان الإيمان ومقامات الإحسان.(1/213)
4 - وفى مرحلة اختيار العناصر التي تحمل الدعوة اختار الإمام عبد الله بن ياسين رباطه على مصبِّ نهر السنغال بعيدًا عن نفوذ الأمراء وأصحاب الجاه والأموال، وشكل نخبة صفوية ألزمها بلوائح تنظيمية ومبادئ سلوكية، واجتهد فى تربيتها وشكل منها مجلس الشورى.
5 - وفى مرحلة المغالبة بعد أن أصبحت للإمام ابن ياسين شوكة وقوة ومنعة, استطاع أن يقضى على قوة الشر فى قبائل لمتونة وجزولة وغيرها، وأن يوحِّدَها على منهج الإسلام وعقيدة الرحمن ودعوة الإيمان.
6 - كانت تربية عبد الله بن ياسين لأتباعه رفيعة المستوى غرست فى نفوسهم حب الشهادة، والتلذُّذ بمتاعب الجهاد والحرص على هداية النَّاس, واختار لأتباعه اسماً يدل على الرابطة السامية التى ربطت هذه الجموع التى كانت متناحرة وأصبحت متآخية متعاونة ألا وهى «المرابطون».
7 - أصبح فقهاء المغرب الأقصى والأحرار المتطلعون لتحكيم شرع الله فى مدنهم يتصلون بالمرابطين، ويطلبون منهم مساعدتهم لأزالة الظُّلم الواقع عليهم من حُكَّام زناتة، وبالفعل لبى المرابطون هذا النداء, وتحركت جيوشهم القوية لإزالة المظالم ونشر العدل، والقضاء على دولة برغواطة الملحدة، وعلى بقايا الروافض، وأصبحت جبهاتهم متعددة نحو السنغال والنيجر ونحو فاس ومكناسة وطنجة، وحققوا انتصارات رفيعة ودخلت أمم مِن الزنوج والوثنيين فى الإسلام.
8 - استمرَّ الإمام ابن ياسين يقود معارك التوحيد للمغرب الأقصى من أجل إقامة دولة سنية، واستشهد فى تلك المعارك بعد أن ترك خلفه رجالاً آمنوا بسمو دعوتهم وقدسية فكرتهم وروعة أهدافهم.
9 - تولَّى قيادة المرابطين بعده الإمام أبو بكر بن عمر الذى تميز بزهده وعبادته وبساطته وحبه للجهاد والاستشهاد، وكان إذا ركب للجهاد ركب معه 500ألف مقاتل مِن المرابطين، فوضع هذا القائد الخطوة الأولى لدولة المرابطين, وأناب ابن عمه يوسف ابن تاشفين على المغرب، وتحرَّك بجيش عظيم نحو الصحارى القاحلة لنشر الإسلام فى النيجر والسنغال ومالي، وأبلى بلاءً عظيمًا, ودخلت أمم وشعوب وقبائل لا يحصيها إلا خالقها فى دين الفطرة ودعوة الإسلام الخالدة، ولما رجع إلى ابن عمه(1/214)
الأمير يوسف بن تاشفين فى المغرب وجده قد حقق فتوحات عظيمة، ووحَّد البلاد, وقضى على الفساد، وأزال الظلم ونشر العدل، فتنازل عن الإمارة لابن عمه يوسف بعد أن أوصاه بتقوى الله وذكَّره قدومه على الله، ثم ودَّعه, ودخل فى الصحراء الكبرى بجيشه الداعى إلى رضوان الله وصراطه المستقيم وأكرمه الله بالشهادة فى قلب الصحراء الكبرى.
10 - تولَّى أمير المرابطين الأمير يوسف بن تاشفين؛ فنظم المدن, وأرسى نظم الحكم, وخطَّط للدولة المرابطية، فشرع فى إنشاء دواوينها ومجالسها وإداراتها وجيوشها, ووضع الأمراء والفقهاء والقضاة على المدن والقرى، وأشرف على تنفيذ أحكام الله، وأثبتت الأيام والحروب والمحن التى مرَّ بها على أنه قائد عسكرى وسياسى مِن الطراز الأول, وأحبه المرابطون والتفوا حوله وتطايرت الركبان فى نشر سيرته وعدله وأحبه المسلمون.
11 - أصاب المسلمين فى الأَنْدَلُس أضرار جسيمة بسبب خنوع ملوك الطوائف للنصارى وضعفهم فى الحكم، مما عرض ممالك الأَنْدَلُس لأطماع النصارى الحاقدين الذين جاسوا خلال الديار فى الأَنْدَلُس يقتلون ويذبحون ويسبون, وأصبحت ممالك الأَنْدَلُس الإسلامية تتساقط فى أيديهم مدينة بعد مدينة، وقرية إثر قرية، وحصنًا خلف حصن، وركب المسلمين فزع عظيم فاضطرَّ ملوك الطوائف أن يطلبوا الغوث والنصر مِن الأمير الربانى والقائد الميدانى يوسف بن تاشفين، وكان قرار حُكَّام الأَنْدَلُس فى استدعاء يوسف حكيمًا وتبَّناه الملك المعتمد ابن عباد بكل ما يملك من حجة وقوة، ولما قالوا للمعتمد سيضم الأمير يوسف إليه الأَنْدَلُس، فقال قولته المشهورة التى أصبحت مثلاً رائعًا على مرِّ العصور وكرِّ الدهور تتعلم منه الأجيال الوفاء لدينها والولاء لعقيدتها حيث قال: «رعى الإبل ولا رعى الخنازير»، وقال المعتمد لابنه: إن استدعاء الأمير يوسف أمر يرضى الله تعالى، ولن أكون أبدًا سببًا فى ضياع ديار المسلمين.
12 - استجاب الأمير يوسف لدعوة إخوانه فى العقيدة, وعرض الأمر على أهل مشورته؛ وتحصل على موافقة العلماء والفقهاء ورجال الدولة المرابطية، وحرك كتائب المرابطين بفرسانها الشجعان وجنودها الأبطال وعبر المضيق، وقاد الأمير(1/215)
يوسف كتائب المسلمين فى الأَنْدَلُس، ووضع مع أركان جيشه خطة محكمة للقضاء على جيش ألفونسو النصراني، وسطر المرابطون فى تاريخ أمتنا ملاحم العقيدة والفداء فى معركة الزِّلاقَة، وانتصر المسلمون وانهزم النصارى وحفظ الله الإسلام فى الأَنْدَلُس لقرون بعد تلك المعركة التاريخية، وبعد هذا النصر الرائع والنفيس الذى حققه المرابطون ورفعوا به راية الإسلام فى سماء الأَنْدَلُس رجع الأمير يوسف إلى المغرب, وترك الغنائم لملوك الأَنْدَلُس الذين اختلفوا بعد ذلك وكادوا أن يضيعوا الإسلام من جديد فى تلك الديار، فطلب فقهاء الأَنْدَلُس مِن الأمير يوسف ضم الأَنْدَلُس لحكم المرابطين، وشجَّعه علماء وفقهاء المغرب وتحصل على فتاوى من علماء المشرق من أمثال أبى بكر الطرطوشى فى مصر، وأبى حامد الغزالى فى العراق.
13 - استطاع يوسف بن تاشفين أن يفتح مدن الأَنْدَلُس، وأن يضم الممالك إلى دولة المرابطين، وأسر بعض ملوك الأَنْدَلُس الذين ثبت تعاونهم مع النصارى, ووضعهم فى المغرب إلى أن توفاهم الله، وبذلك قضى على مهزلة ملوك الطوائف.
14 - حاول المستشرقون أن يُلطِّخوا دولة المرابطين, وخصوصًا الأمير يوسف إلا أنَهم اصطدموا بحقائق التاريخ الناصعة التى دلَّت على عظمة الأمير يوسف ودولته الميمونة, وحاول المستشرق رينهارت دوزى أن يشوِّه دولة المرابطين ويصفها بالبربرية والتخلف، ويصف السلطان على بن يوسف بالرجل التافه، ويمدح ملوك الطوائف فى الأَنْدَلُس الذين تحالفوا مع النصارى للقضاء على الإسلام والمسلمين، وشنَّ حملة مسعورة على جهاد المرابطين الذين حقَّقوا وحدة صفوف المسلمين، وهزموا أعداءهم النصارى، وخلصوا المسلمين من هؤلاء الملوك الضعفاء، لقد شتم دوزى المستشرق الأمير يوسف, ووصفه هو وابنه بأنَّهم تافهون، وأنا لا أستغرب من دوزى المستشرق أن يفقد توازنه, ويخرج عن نهج المؤرخين النزيه، لقد كان المستشرق دوزى ملحدًا زنديقًا عدوًا للإسلام والمسلمين، كيف تريده أن يتحمل شعارات المرابطين الدالة على سمو عقيدتهم وطهارة منهجهم، وكأنى بالمستشرق دوزى وهو يقلب الدينار المرابطى والمكتوب على وجهيه «لا إله إلا الله مُحَمَّد رسول الله» {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الآَخِرَةِ مِن(1/216)
الخَاسِرِينَ} , وقد اشتاط غضبًا وفقد عقله وغرق فى كفره, فأباح لنفسه الكذب والافتراء والزور ليهدئ من روعه وانفعاله، كيف يكون تافهًا من يوحد المغرب الأقصى ويضم إليه الأَنْدَلُس ويقضى على ملوك الطوائف؟ لقد وصف المؤرخون المنصفون الأمير يوسف بأنه كان حازمًا ضابطًا للنفس ماضى العزيمة عالى الهمة، تحركه عقيدته الإسلامية وشريعته الربانية، أمَّا دولة المرابطين فقد أثبت التاريخ أنَّها دولة حضارة وعلم وثقافة، أمَّا ما قام به أعداؤها فى وصفها بالتخلف الحضارى والتعصب المذهبى فهو قول باطل لا تسعفه الأدلة، عارٍ مِن الحقائق، وما كان دافع خصومهم مِن المُوَحِّدِين والأَنْدَلُسيين الذين حملوا عليهم حملة ظالمة إلا من باب التعصب الدينى
أو المذهبي، أو كراهية سياسية أو قومية حاولوا النيل من دولة المرابطين السنية، وتابع أولئك الأقوام الذين مضوا بعض المستشرقين المُحَدثين أمثال المتعالم الحاقد الهولندى راينهارت دوزى, وتابعه على ذلك نفر مِن المعاصرين أمثال ارشيبالد لويس فى كتابه «القوى البحرية والتجارية فى حوض البحر المتوسط».
15 - يُعتبر ضم الأَنْدَلُس إلى دولة المرابطين من أعظم أعمال الأمير يوسف بن تاشفين الجهادية.
16 - كانت نظرة دولة المرابطين إلى الخلافة الإسلامية العباسية فى بغداد صائبة صحيحة, لكونها منبثقة من منهج أهل السنة والجماعة, ولذلك بايعوا الخليفة العبَّاسي, ورفعوا أعلامه وشعاره، ودعوا له على منابرهم.
17 - كانت علاقة الدولة المرابطية بالخلافة العبيدية فى مصر عدائية لاختلاف العقائد والمناهج والمذاهب، ولذلك حرص المرابطون على اقتلاع بقايا الرفض والتشيع من دولتهم.
18 - كانت علاقة دولة المرابطين بالدولة الزيرية الصنهاجية ذات أبعاد استراتيجية تعاونية، بسبب وحدة المنهج والمعتقد والمذهب والقرابة التى بين زعماء الدولتين، ولذلك نجد تنسيقًا فى البحر المتوسط للإغارة على أساطيل النصارى، ونجد دعمًا اقتصاديًا فى دولة تميم بن المعز الزيرى لدولة المرابطين عندما خاضوا جهادهم المقدس ضد النصارى.(1/217)
19 - أما علاقة بنى حمَّاد بالمرابطين فهى محفوفة بالتخوف مِن الطرفين، حيث نجد أن لبنى حمَّاد أطماعًا توسُّعية تستهدف أطرافًا من دولة المرابطين, كما نجد أن المعارضين الأَنْدَلُسيين للمرابطين استقرُّوا فى حماية بنى حمَّاد، إلا أن سياسة الأمير يوسف مع بنى حمَّاد تميَّزت بالحكمة وبعد النظر, والابتعاد عن الصدام, مراعيًا فى ذلك أمورًا عديدة: منها قرابتهم, واتحادهم فى المنهج والمعتقد والمذهب.
20 - كانت علاقة المرابطين مع ملوك النصارى عدائية, أما مع أهل الذِّمة فكانت محكومة بحكم الشريعة فيهم، فقامت على العدل والإنصاف.
21 - كانت الأَنْدَلُس مليئة بالشعراء والأدباء والفقهاء, إلا إن الولاء والبراء ضاع مفهومه عند كثير من ملوكهم.
22 - استطاع الأَنْدَلُسيون أن يُثروا دولة المرابطين بالشعراء والأدباء، وأن يؤثِّروا فى كثير من جوانبها المعمارية والفنية والثقافية.
23 - الحضارة الإسلامية فى زمن دولة المرابطين امتزجت بالعناصر الإفريقية والعربية والأَنْدَلُسية, مما جعلها متميزة فى كثير من جوانبها الحضارية.
24 - كان فى زمن المرابطين علماء وفقهاء لا زال أثرهم فى الأمة ساريًا إلى يومنا هذا, من أمثال الفقيه القاضى أبو بكر بن العربي، والوليد بن رشد، والقاضى عياض، والمُحَدِّث الفقيه أبو على الصدفي، وغيرهم كثير.
25 - كان النظام العسكرى والقضائى والإدارى والمالى مواكبًا لعصره, منضبطًا بأحكام الإسلام فى دولة المرابطين.
26 - استطاع أسطول المرابطين أن يحقق الأمن والأمان لمسلمى الشمال الإفريقي، وأن يُكبِّد النصارى فى جنوب البحر المتوسط خسائر هائلة.
27 - إن اهتمام الأمير على بن يوسف بالزهد والعبادة وتسليمه لأمور الملك فى آخر أيامه للأمراء خطأ عظيم كلَّف دولة المرابطين متاعب عظيمة، ومن أعظم الأخطاء التى وقع فيها الأمير على عدم أخذه بنصيحة وزيره الفقيه مالك بن وهيب الإشبيلى الذى أشار على الأمير على بقتل مُحَمَّد بن تومرت الكذَّاب زعيم المُوَحِّدِين، وقال للأمير: «هذا رجل مفسد لا تؤمن غائلته، ولا يسمع كلامه أحد(1/218)
إلا مال إليه، وإن وقع فى بلاد المصامدة ثار علينا منه شر كبير».
إلا أن الأمير على بن يوسف رفض قتله، فلما يئس مما أراد من قتل ابن تومرت، أشار عليه بسجنه حتى يموت، فقال أمير المسلمين: نسجنه, ولم يتعين لنا عليه حق؟ وهل السجن إلا أخو القتل، ولكن نأمره يخرج عنا مِن البلد, وليتوجه
حيث شاء» (1).
28 - إن من أعظم أسباب سقوط الدول الذنوب والمعاصي, وارتكاب الكبائر والمظالم.
29 - فى زمن أمير المسلمين يوسف بن تاشفين كانت مقوِّمات النصر متجسدة فى دولته، ومِن أبْيَن وأهم ما ظهر لى فى هذا البحث من مقومات النصر من أهمها، أولاً: الإعداد قبل المعركة، ثانيًا: معرفة قوة العدو وإمكاناته، والتوجيه المعنوي، والتعمية على العدو، والتحام القيادة مع الشعب، ومتانة العقيدة ووضوحها، القيادة المثلى، عدم القتال لدنيا، الحكمة فى اتخاذ القرارات، صفات المُجَاهِدين الخلقية والروحية، مما مهَّدت لهم طريق النصر.
30 - من أخطر ما تمرُّ به الدول والحركات عدم قدرتها على توريث أفكارها ومناهجها وعقيدتها للجيل الذى بعدها.
31 - إن الاستهانة بالخصوم تؤدِّى إلى انهزام المستهزئ وانتصار المستهزأ به.
32 - كان لنفوذ المرابطين فى بلاد الأَنْدَلُس أثر واضح المعالم فى الحروب الصليبية فى الشام، إذ أن دخولهم الأَنْدَلُس منع الممالك الصليبية التى كانت تتجه إلى بلاد الشام، بل إن ظهورهم فى تلك المرحلة التاريخية فى المغرب والأَنْدَلُس قد حال دون اشتراك القوى الأوروبية بكل ثقلها فى الحروب الصليبية فى الشرق، وبذلك قدم المرابطون خدمات عظيمة وجليلة للشرق الإسلامي (2).
33 - كانت حضارة المرابطين فى الأَنْدَلُس والمغرب مقصدًا لأبناء العلم مِن الأوروبيين الذين توالوا وتوافدوا على الأَنْدَلُس لتلقى العلوم والصناعات، بل إن بعض ملوكهم أرسل بعثات لدراسة نظام الدولة والحكم وآداب السلوك، وكل ما يؤدى
_________
(1) موسوعة المغرب العربي, (ج2/ 188 - 189).
(2) المصدر السابق نفسه.(1/219)
إلى سير الأمور فى الدولة, والسير بها فى مضمار الحضارة والتقدم.
34 - تركت دولة المرابطين التى لم يصل عمرها الزمنى إلى مائة عام, وهى فترة قصيرة فى عمر الدول, آثارًا واضحة جلية فى جميع المجالات, بل إن تلك المآثر الحضارية تعدَّت حدود دولة المرابطين إلى أرجاء أخرى مِن العالم الإسلامي.
35 - إن ظهور دولة المُوَحِّدِين وانقضاضها بعنف على دولة المرابطين تسبَّب فى ضعف النواحى الحضارية والثقافية والسياسية والعسكرية عند المغاربة عمومًا، وفتحت مجالاً لملوك النصارى للقضاء على الإسلام فى الأَنْدَلُس فيما بعد.
36 - إن للأفراد آجالاً محدودة، وكذلك لكل دولة أجل محدود, فإذا جاء أجلها لا تستأخر ولا تستقدم.
37 - سنة الله جارية فى إعزاز من يشاء وإذلال من يشاء، ونزع الملك مِمَّن يشاء وإعطائه لمن يشاء.
* * *(1/220)