يأخذ رأيه فيه، فيبقى بسبب ذلك كأنه الوزير لقربه من السلطان.
وأول من ولي هذه الوظيفة كريم الدين عبد الكريم بن هبة الله بن السديد.
وأما إمرة سلاح فموضوعها أن صاحبها مقدم السلاح دارية، والمتولي بحمل سلاح السلطان في المجامع الجامعة، وهو المتحدث في السلاح خاناه وتعلقاتها، وهو من أمراء المئين.
والدوادارية موضوعها أن صاحبها يبلغ الرسائل عن السلطان، ويقدم القصص إليه، ويشاور على من يحضر إلى الباب، ويقدم البريد إذا حضر، ويأخذ خط السلطان على عموم المناشير والتواقيع والكتب.
والحجوبية موضوعها أن صاحبها يقف بين الأمراء والجند، وهو المشار إليه في الباب بالقائم مقام البواب في كثير من الأمور.
وإمرة جاندار صاحبها كالمتسلم للباب، وهو المتسلم للزردخاناه (1) ، ومن أراد السلطان قتله، كان على يد صاحب هذه الوظيفة.
والأستاذدارية صاحبها إليه أمر بيوت السلطان كلها من المصالح والنفقات والكساوي، وما يجري مجرى ذلك، وهو من أمراء المئين.
ونقابة الجيش صاحبها كأحد الحجاب الصغار، وله تحلية الجند في عرضهم، وإذا أمر السلطان بإحضار أحد، أو الترسيم عليه فهو صاحب ذلك.
والولاية صاحبها هو صاحب الشرطة.
وأما الوزارة فصاحبها ثاني السلطان إذا أنصف، وعرف حقه، ولكن في هذه المدد تقدمت عليها النيابة وتأخرت الوزارة وتقهقرت، فصار المتحدث فيها كناظر المال لا يتعدى الحديث في المال، ولا يتسع له في التصرف بحال، ولا يمد يده في الولاية والعزل كتطلع السلطان إلى الإحاطة بجزئيات الأحوال.
ثم إن السلطان أبطل هذه الوظيفة، وعطل جيد الدولة من عقودها، وصار ما كان
_________
(1) الزردخاناه: دار السلاح، كلمة فارسية مركبة، وقد أطلقها المقريزي على السلاح نفسه. حواشي السلوك 1: 306.(2/131)
إلى الوزير منقسما إلى ثلاثة: إلى ناظر المال أو شاد الدواوين، أمر تحصيل المال، وصرف النفقات والكلف، وإلى ناظر الخاص تدبير جملة الأمور، وتعيين
المباشرين، وإلى كاتب السر التوقيع في دار العدل مما كان يوقع فيه الوزير مشاورة واستقلالا، ثم إن كلًّا من المتحدثين الثلاثة لا يقدر على الاستقلال بأمر إلا بمراجعة السلطان.
ومن وظيفة كتابة السر قراءة الكتب الواردة على السلطان، وكتابة أجوبتها والجلوس لقراءة القصص بدار العدل، والتوقيع عليها وتصريف المراسيم، ورودا أو صدورا.
وأما نظر الجيش فلصاحبه النظر في الإقطاعات، ومعه من المستوفين ما يحرر كليات المملكة وجزئياتها.
وأما نظر الخزانة فكانت وظيفة كبيرة الوضع؛ لأنها مستودع أموال المملكة، فلما استحدثت وظيفة الخاص ضعف أمرها، وغالب ما يكون نظرها من القضاة أو نحوهم.
وأما نظر البيوت فمنوط بالأستاذدارية فكل ما يتحدث فيه الأستاذدارية يشارك فيه.
وأما نظر بيت المال فوظيفة جليلة موضوعها حمل حمول المملكة إلى بيت المال والتصرف فيه تارة بالميزان وتارة بالتسبيب بالأقلام، ولا يلي هذه الوظيفة إلا من هو من ذوي العدالة المبرزة.
وأما نظر الإصطبلات، فلصاحبه الحديث في أنواع الإصطبل والمناخات، وعلفها وأرزاق خدمها وما يبتاع لها.
وأما وظائف أهل العلم فمعروفة مشهورة لا تخلو مملكة من ممالك الإسلام منها.
هذا كله كلام ابن فضل الله.
ذكر في التاريخ أن الخليفة المقتفي بالله نقل المظفر بن جهير من الأستاذ دارية إلى(2/132)
الوزيرية في سنة خمس وثلاثين وخمسمائة، قال بعضهم: وذلك أول ما سمع بوظيفة الأستاذدارية في الدول.
وقال بعض المؤرخين: لما تولى الظاهر بيبرس أحب أن يسلك في ملكه بالديار المصرية طريقة جنكيزخان ملك التتار وأموره، ففعل ما أمكنه، ورتب في
سلطنته أشياء كثيرة لم تكن قبله بديار مصر، مثل ضرب البوقات وتجديد الوظائف، فأحدث أمير سلاح وأمير مجلس ورأس نوبة الأمراء وأمير خور، وحاجب الحجاب والدوادار والجمدار وأمير شكار. وموضوع أمير سلاح أنه يتحدث على السلاح داريه، وينال السلطان آلة الحرب والسلاح يوم القتال ويوم الأضحى، ولم تكن رتبته في زمن الظاهر أن يجلس في ميسرة السلطان، إنما كان يجلس في هذا الموضع أتابك، ثم في زمن الناصر ابن قلاوون كان يجلس فيه رأس نوبة الأمراء.
وموضوع أمير مجلس، أنه يحرس مجلس السلطان وفرشه، ويتحدث على الأطباء والكحالين ونحوهم، وكانت وظيفة جليلة أكبر قدرا من أمير سلاح.
ورأس نوبة، وظيفة عظيمة عند التتار ويفخمون فيها السين، ولما أحدثها الظاهر بمملكة مصر كان صاحبها يسمى رأس نوبة الأمراء؛ ومعناه أكبر طائفة الأمراء، وهو أكبر من أمير مجلس وأمير سلاح، وهو في مرتبة الأمير الكبير الآن، ولم يكن أحد يسمى بالأمير الكبير إذ ذاك؛ إلى أن ولي هذه الوظيفة شيخو العمري في زمن السلطان حسن، فلقب بالأمير الكبير زيادة على التقليب برأس نوبة الأمراء، وهو أول من لقب بالأمير الكبير كما ذكر.
وموضوع أمير أخور النظر في علف الخيل، وأخور بالمعجمة المذود الذي يأكل فيه الفرس.
والحاجب كان في الزمن الأول من أيام الخلفاء للذي يحجب الناس عن الدخول على(2/133)
الخليفة، وكان يرفأ حاجب عمر بن الخطاب، ثم عظمت الحجوبية في أيام الناصر بن قلاوون.
والدوادار كان في زمن الخلفاء أيضا، وهو الذي يحمل الدواة ويحفظها، ومعناه ماسك الدواة، وأول من أحدث هذه الوظيفة الملوك السلجوقية، وكانت في زمنهم وزمن الخلفاء لرجل متعمم ثم صارت في زمن الظاهر لأمير عشرة.
والجمدار: ماسك البقجة التي للقماش.(2/134)
ذكر قضاة مصر:
قال ابن عبد الحكم: أول قاض استقضى بمصر في الإسلام -كما ذكر سعيد بن عفير- قيس بن أبي العاصي، [فمات] (1) سنة أربع وعشرين، فكتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص أن يستقضي كعب بن يسار بن ضنة [العبسي] (1) . قال ابن أبي مريم: وهو ابن بنت خالد بن سنان العبسي الذي "تزعم عبس فيه" أنه (2) تنبأ في الفترة بين عيسى بن مريم، وبين رسول الله (3) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأبى كعب أن يقبل القضاء، وقال: قضيت في الجاهلية ولا أعود إليه في الإسلام (4) .
حدثنا سعيد بن عفير، حدثنا ابن لهيعة، قال: كان قيس بن أبي العاصي بمصر، ولاه عمرو بن العاص القضاء. وقد قيل: إن أول من استقصى بمصر كعب بن ضنة بكتاب عمر بن الخطاب فلم يقبل (5) .
حدثنا المقرئ عبد الله بن يزيد، أنبأنا حيوة بن شريح، أنبأنا الضحاك بن شرحبيل الغافقي، أن عمار (6) بن سعيد التجيبي أخبرهم أن عمر بن الخطاب كتب إلى عمرو بن العاص، أن يجعل كعب بن ضنة على القضاء، فأرسل إليه عمرو، فأقرأه كتاب أمير المؤمنين، فقال كعب: والله لا ينجيه الله من أمر الجاهلية وما كان فيها من الهلكة، ثم يعود فيها أبدًا إذ أنجاه الله منها، فأبى أن يقبل القضاء، فتركه عمرو. قال ابن عفير: وكان حكمًا في الجاهلية (7) . فلما امتنع كعب أن يقبل القضاء ولى عمرو بن العاص عثمان
_________
(1) من فتوح مصر.
(2) من ابن عبد الحكم.
(3) بعدها في ابن عبد الحكم: "ولخالد بن سنان حديث فيه طول".
(4) فتوح مصر لابن عبد الحكم 229.
(5) فتوح مصر: 230، وفي آخر الخبر هناك: "والله أعلم".
(6) ح، ط: "عماد" تحريف.
(7) في ابن عبد الحكم: "وخطة كعب بن ضنة بمصر، بسوق بربر في الدار التي تعرف بدار النخلة".(2/135)
بن قيس بن أبي العاص القضاء، وقد كان عمر بن الخطاب قد كتب إلى عمرو بن العاص أن يفرض له في الشرف (1) .
قال: ودعا عمرو خالد بن ثابت الفهمي ليجعله على المكس، فاستعفاه منه، فكان شرحبيل بن حسنة على المكس، وكان مسلمة بن مخلد على الطواحين؛ طواحين (2) البلقس.
وأقام عثمان على القضاء إلى أن صرف سنة اثنتين وأربعين، ثم ولي سليم بن عتر التجيبي على القضاء في أيام معاوية بن أبي سفيان، وجعل إليه القصص والقضاء جميعا (3) .
حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ، حدثنا حيوة بن شريح، حدثنا الحجاج بن شداد الصنعاني، أن أبا صالح سعيد بن عبد الرحمن الغفاري أخبره، أن سليم بن عتر كان يقص على الناس وهو قائم، فقال له صلة بن الحارث الغفاري -وهو من أصحاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: والله ما تركنا عهد نبينا، ولا قطعنا أرحامنا، حتى قمت أنت وأصحابك بين أظهرنا! وكان سليم بن عتر أحد العباد المجتهدين، وكان يقوم في ليله فيبتدئ القرآن حتى يختمه، ثم يأتي أهله، ثم يقوم فيغتسل ثم يقرأ فيختم، ثم يأتي أهله "فيقضي منهم حاجته" (4) ، وربما فعل ذلك في الليلة مرات، فلما مات قالت امرأته: رحمك الله! فوالله لقد كنت ترضي ربك وتسر أهلك (5) .
ثم لما ولي مسلمة بن مخلد البلد، ولي السائب بن هشام بن عمرو أحد بني مالك بن
_________
(1) في ابن عبد الحكم: "كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص أن افرض لكل من قبلك ممن بايع تحت الشجرة في مائتين من العطاء، وأبلغ ذلك لنفسك بإمارتك، وافرض لخارجة بن حذافة في الشرق لشجاعته، وافرض لعثمان بن قيس بن أبي العاص في الشرف لضيافته".
(2) ابن عبد الحكم: "قال عبد الرحمن: طواحين البلقس".
(3) ابن عبد الحكم 231، وفيه: "وقد أدرك عمر بن الخطاب، وحضر خطبته بالجابية، وجعل إليه القصص والقضاء جميعا".
(4) من ابن عبد الحكم.
(5) ابن عبد الحكم 232.(2/136)
حسل شرطه، وكان هشام بن عمرو أحد النفر الذين قاموا في نقض الصحيفة التي كانت في قريش كتبت. وكان عمرو بن العاص ولي السائب بن هشام شرطه بعد خارجة بن حذافة، وكان أيضًا على شرطه عبد الله بن سعد بن أبي سرح، ثم عزل مسلمة السائب وولي عابس بن ربيعة المرادي الشرطة، ثم جمع له القضاء مع الشرطة (1) .
وسبب ذلك أن معاوية كتب إلى مسلمة يأمره بالبيعة ليزيد، فأتى مسلمة الكتاب وهو بالإسكندرية، فكتب إلى السائب بذلك، فبايع الناس إلا عبد الله بن
عمرو بن العاصي، فأعاد عليه مسلمة الكتاب فلم يفعل، فقال مسلمة: من لعبد الله بن عمرو؟ فقال عابس بن سعيد: أنا، فقدم الفسطاط، فبعث إلى عبد الله بن عمرو فلم يأته، فدعا بالنار والحطب ليحرق عليه قصره، فأتى فبايع، واستمر عابس على القضاء حتى دخل مروان بن الحكم مصر في سنة خمس وستين، فقال: أين قاضيكم؟ فدعى له عابس -وكان أميًّا لا يكتب- فقال له مروان: أجمعت كتاب الله؟ قال: لا، قال: فأحكمت الفرائض؟ قال: لا، قال: فبم تقضي؟ قال: أقضي بما علمت، وأسأل عما جهلت، قال: أنت القاضي. فلم يزل عابسًا على القضاء إلى أن توفي سنة ثمان وثمانين (2) .
فولى عبد العزيز بن مروان بشير بن النضر المزني القضاء (3) .
ثم ولي عبد الرحمن بن حجيرة الخولاني، وجمع له القضاء والقصص وبيت المال، فكان يأخذ رزقه في السنة ألف دينار على القضاء؛ فلم يكن يحول عليه الحول وعنده ما تجب فيه الزكاة، فلم يزل على القضاء حتى مات سنة ثلاث وثمانين. ويقال: بل ولي في سنة ثلاث وثمانين، ومات في سنة خمس وثمانين.
ثم ولي القضاء مالك بن شراحيل الخولاني، فلم يزل على القضاء حتى مات (4) .
_________
(1) فتوح مصر: 234، 245.
(2) فتوح مصر 234، قضاة مصر للكندي 312.
(3) قضاة مصر: "وكان أبوه النضر ممن حضر فتوح مصر واختط بها".
(4) في كتاب قضاة مصر: "ولي القضاء مالك بن شراحبيل من قبل عبد العزيز بن مروان في المحرم سنة ثلاث وثمانين".(2/137)
فولي من بعده يونس بن عطية الحضرمي، وجمع له القضاء والشرطة، فلم يزل حتى مات سنة ست وثمانين (1) .
فولي بعده ابن أخيه أوس، ثم ولي عبد الرحمن بن معاوية بن حديج الكندي، وجمع له القضاء والشرطة، فتوفي عبد العزيز بن مروان، وولي بعده عبد الله بن عبد الملك فأراد عزل ابن حديج فاستحيا من عزله عن غير شيء، ولم يجد عليه مقالا ولا متعلقا، فولاه مرابطة الإسكندرية.
وولي عمران بن عبد الرحمن بن شرحبيل بن حسنة القضاء، والشرطة فلم يزل إلى سنة تسع وثمانين، فغضب عليه عبد الله بن عبد الملك، فعزله وولى عبد الأعلى بن خالد بن ثابت الفهمي مكانه (2) . ثم أتى عبد الله بن عبد الملك فعزله.
وولي قرة بن شريك العبسي الإمرة، فعزل عبد الأعلى، وولي عبد الله بن عبد الرحمن بن حجيرة، وهو ابن حجيرة الأصغر، ثم عزل في سنة ثلاث وتسعين.
وولي عياض بن عبد الله الأزدي ثم السلامي، ثم صرف في سنة ثمان وتسعين، وأعيد ابن حجيرة ثم صرف وأعيد، فلم يزل إلى سنة مائة. ثم صرف (3) وولي عبد الله بن خذامر ثم صرف سنة اثنتين ومائة (4) .
وولي يحيى بن ميمون الحضرمي فأقام إلى سنة أربع عشرة ومائة، ثم صرف ولم يكن بالمحمود في ولايته (5) .
ثم ولي يزيد بن عبد الله بن خذامر ثم صرف.
وولي الخيار بن خالد المدلجي، فأقام نحو سنة، ومات سنة خمس عشرة ومائة وكان محمودًا جميل المذهب.
_________
(1) قضاة مصر 333 "كان يونس أول قاض بمصر من حضرموت".
(2) قضاة مصر 238.
(3) فتوح مصر 239.
(4) فتوح مصر 240.
(5) فتوح مصر 244.(2/138)
ثم ولي توبة بن نمر الحضرمي، فأقام ما شاء الله، ثم استعفي، فقيل له: فأشر علينا برجل نوليه، فقال: كاتبي خير بن نعيم الحضرمي، فولي خير سنة إحدى وعشرين ومائة، فلم يزل حتى صرف سنة ثمان وعشرين ومائة.
وولي عبد الرحمن بن سالم بن أبي سالم الجيشاني، فلم يزل إلى ولاية بني العباس سنة ثلاث وثلاثين ومائة، فصرف عن القضاء واستعمل على الخراج، ورد خير بن نعيم؛ فلم يزل حتى عزل نفسه في سنة خمس وثلاثين؛ وذلك أن رجلا من الجند قذف رجلًا، فخاصمه إليه وثبت عليه بشاهد (1) واحد، فأمر بحبس الجندي إلى أن يثبت الرجل شاهدا آخر، فأرسل أبو عون عبد الملك بن يزيد،
فأخرج الجندي من الحبس، فاعتزل خير وجلس في بيته، وترك الحكم، فأرسل إليه أبو عون، فقال: لا، حتى يرد الجندي إلى مكانه! فلم يرد، وتم على عزمه، فقالوا له: فاشر علينا برجل نوليه، فقال: كاتبي غوث بن سليمان.
فولي غوث بن سليمان الحضرمي، فلم يزل حتى خرج مع صالح بن علي إلى الصائفة.
ثم ولي أبو خزيمة إبراهيم بن يزيد الحميري (2) ، وذلك أن أبا عون- ويقال: صالح بن علي شاور في رجل يوليه القضاء، فأشر عليه بثلاثة نفر. حيوة بن شريح، وأبو خزيمة، وعبد الله بن عياش القتباني (3) ، وكان أبو خزيمة يومئذ بالإسكندرية، فأشخص، ثم أتى بهم إليه، فكان أول من نوظر حيوة بن شريح، فامتنع، فدعي له بالسيف والنطع، فلما رأى ذلك حيوة أخرج مفتاحا كان معه، فقال: هذا مفتاح بيتي، ولقد اشتقت إلى لقاء ربي، فلما رأوا عزمه تركوه، فقال لهم حيوة: لا تظهروا ما كان من إبائي لأصحابي فيفعلوا مثل ما فعلت، فنجا حيوة. ثم دعي بأبي خزيمة فعرض عليه القضاء
_________
(1) ابن عبد الحكم: "ثبت عليه شاهدًا واحدًا".
(2) ابن عبد الحكم: "الثاني"، وقال: "بطن من حمير".
(3) ح، ط: "الغساني"، وصوابه من الأصل وابن عبد الحكم.(2/139)
فامتنع، فدعي له بالسيف والنطع فضعف قلبه (1) ، ولم يحتمل ذلك، فأجاب إلى القبول فاستقضى (2) . وكان أبو خزيمة يعمل الأرسان ويبيعها قبل أن يلي القضاء، فمر به رجل من أهل الإسكندرية، وهو في مجلس الحكم، فقال: لأختبرن أبا خزيمة، فوقف عليه فقال له: يا أبا خزيمة، احتجت إلى رسن لفرسي، فقام أبو خزيمة إلى منزله، فأخرج رسنًا فباعه منه، ثم جلس. وكان أبو خرشة المرادي صديقاً لأبي خزيمة، فمر به يوما، فسلم عليه، فلم ير منه ما كان يعرف، وكان "أبو خرشة" (3) قد خوصم إليه في جدار، فاشتد ذلك على أبي خرشة، "فشكاه إلى بعض قرابته، فسأل أبا خزيمة، فقال" (4) : ما كان ذلك إلا أن خصمك خفت أن يرى سلامي عليك،
فيكسره ذلك عن بعض حجته، فقال أبو خرشة: فإني أشهدك أن الجدار له. ثم استعفى أبو خزيمة فأعفي.
وولي مكانه عبد الله بن بلال الحضرمي، ويقال: إنما هو غوث الذي كان استخلفه حين شخص غوث إلى أمير المؤمنين أبي جعفر، وذلك في سنة أربع وأربعين (5) . ثم قدم غوث، فاقره خليفة له يحكم بين الناس حتى مات عبد الله بن بلال. قال يحيى بن بكير: لم يزل أبو خزيمة على القضاء، حتى قدم غوث من الصائفة فعزل أبو خزيمة، ورد غوث "على القضاء" (6) . ثم إن غوثا شخص إلى العراق، فأعيد أبو خزيمة إلى القضاء، فلم يزل حتى توفي سنة أربع وخمسين. وكان ابن حديج إذ ذاك بالعراق، قال: فدخلت على
_________
(1) ابن عبد الحكم: "قلب الشيخ".
(2) بعدها في ابن عبد الحكم: "وأجرى عليه في كل شهر عشرة دنانير، وكان لا يأخذ ليوم الجمعة رزقا، ويقول: "إنما أنا أجير المسلمين، فإذا لم أعمل لهم آخذ متاعهم. فكان يقال لحيوة بن شريح: ولي أبو خزيمة القضاء، فيقول حيوة: أبو خزيمة خير مني، اختبر ففتح".
(3) من ابن عبد الحكم.
(4) ابن عبد الحكم: "فشكا ذلك إلى بعض قرابته، فقال له: إن اليوم يوم الخميس -أو قال: الاثنين- وهو صائم، فإذا صلى المغرب ودخل، فاستأذن عليه، ففعل أبو خرشة، قال: فدخلت عليه وبين يديه ثريد عدس، فسلمت عليه، فرد علي كما كان يعرف، وقال: ما جاء بك؟ فأخبره أبو خرشة فقال....".
(5) بعدها في ابن عبد الحكم: "وكان يجلس للناس في المجلس الأبيض".
(6) من ابن عبد الحكم.(2/140)
أمير المؤمنين أبي جعفر، فقال لي: يا بن حديج، لقد توفي ببلدك رجل أصيبت به العامة! قلت: يا أمير المؤمنين، ذاك إذا أبو خزيمة، قال: نعم (1) .
ثم ولي مكانه ابن لهيعة، وأجرى عليه في كل شهر ثلاثين دينارا؛ وهو أول قاض بمصر أجري عليه ذلك، وأول قاض استقضاه بها خليفة، وإنما كان ولاة البلد هم الذين يولون القضاة، فلم يزل قاضيًا حتى صرف سنة أربع وستين.
وولي إسماعيل بن اليسع (2) الكوفي، وعزل سنة سبع وستين. وكان محمودا عند أهل البلد، إلا أنه كان يذهب إلى قول أبي حنيفة، ولم يكن أهل البلد يومئذ يعرفونه. قال ابن عبد الحكم: حدثنا أبي "عبد الله" قال: كتب فيه الليث بن سعد إلى أمير المؤمنين: يا أمير المؤمنين: إنك وليتنا رجلا يكيد سنة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بين أظهرنا، مع أنا ما علمنا في الدينار والدرهم إلا خيرا، فكتب بعزله.
ورد غوث بن سليمان على القضاء، فأقام حتى توفي في جمادى الآخرة سنة ثمان وستين. حدثنا أبو رجاء حماد بن مسور، قال: قدمت امرأة من الريف، فرأت غوثا رائحًا إلى المسجد، فشكت إليه أمرها، فنزل عن دابته، وكتب لها
بحاجتها، ثم ركب إلى المسجد فانصرفت المرأة وهي تقول: أصابت والله أمك حتى سمتك غوثا، أنت غوث عند اسمك (3) .
وقيل: إنه أول قاض ركب للهلال مع الشهود. وقيل: بل ابن لهيعة.
فلما مات غوث ولي المفضل بن فضالة بن عبيد القتباني، ثم عزل سنة تسع وستين،
_________
(1) بعدها في ابن عبد الحكم: "فمن ترى أن نولي القضاء بعده؟ قلت: أبو معدان اليحصبي، قال: ذاك رجل أصم، ولا يصلح للقاضي أن يكون أصما، قال: قلت: فابن لهيعة يا أمير المؤمنين، قال: ابن لهيعة على ضعف فيه، فأمر بتوليه....".
(2) في الأصول: "سميع"، وصوابه من ابن عبد الحكم.
(3) ابن عبد الحكم 244، والخبر هناك: "قدمت امرأة من الريف، وغوث قاض في محقة، فوافت غوث بن سليمان عند السراجين رائحًا إلى المسجد، فشكت إليه أمرها، وأخبرته بحاجتها، فنزل عن دابته في حوانيت السراجين، ولم يبلغ المسجد، وكتب لها بحاجتها، وركب إلى المسجد، فانصرفت المرأة وهي تقول: أصابت أمك....".(2/141)
وهو أول القضاة بمصر طول الكتب، وكان أحد فضلاء الناس وخيارهم.
ثم ولي أبو طاهر الأعرج عبد الملك بن محمد بن أبي بكر بن حزم الأنصاري، وكان محمودا في ولايته (1) ، ثم استعفي فأعفي في سنة أربع وسبعين. قالوا: فأشر علينا برجل، فأشار بالمفضل بن فضالة، فولي المفضل، فأقام إلى صفر سنة سبع وسبعين وعزل.
وولي محمد بن مسروق الكندي من أهل الكوفة، ولم يكن بالمحمود في ولايته، وكان فيه عتو وتجبر، فلم يزل إلى سنة أربع وثمانين، فخرج إلى العراق.
واستخلف إسحاق بن الفرات التجيبي، فعزل في صفر سنة خمس وثمانين (2) .
وولي عبد الرحمن بن عبد الله بن الحسين بن عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب؛ وهو أول من دون أسماء الشهود، فأقام إلى عزل في جمادى الأولى سنة أربع وتسعين (3) .
وولي هاشم بن أبي بكر البكري من ولد أبي بكر الصديق، وكان يذهب مذهب أبي حنيفة، فأقام حتى توفي في أول يوم من المحرم سنة ست وتسعين.
ثم ولي إبراهيم بن البكاء؛ ولاه جابر بن الأشعث، وجابر يومئذ والي البلد، فأقام إلى أن صرف جابر سنة ست وتسعين، وولي مكانه عباد بن محمد، فعزل ابن البكاء.
ولي لهيعة بن عيسى الحضرمي، فأقام حتى قدم المطلب بن عبد الله بن مالك سنة ثمان وتسعين فعزل لهيعة.
_________
(1) وذكر ابن عبد الحكم قال: "كتب إليه صاحب البريد؛ إنك تبطئ بالجلوس للناس، فكتب إليه أبو الطاهر: إن كان أمير المؤمنين أمرك بشيء، وإلا فإن في أكفك وبراذعك ودبر دوابك ما يشغلك عن أمر العامة".
(2) ابن عبد الحكم: "فلم يزل على القضاء إلى صفر سنة خمس وثمانين ومائة فعزل".
(3) في ابن عبد الحكم: "وقد كان قوم تظلموا منه، ورفعوا فيه إلى أمير المؤمنين هارون، فقال: انظروا في الديوان: كم لي من وال من آل عمر بن الخطاب؟ فنظروا فلم يجدوا غيره فقال: والله لا أعزله أبدًا".(2/142)
وولي الفضل بن غانم، وكان قدم مع المطلب من العراق فأقام نحو سنة، ثم غضب عليه المطلب فعزله.
وولي لهيعة بن عيسى، فأقام حتى توفي في ذي القعدة سنة أربع ومائتين.
فولي السري بن الحكم بعد مشاورة أهل البلد إبراهيم بن إسحاق القارئ حليف بني زهرة، وجمع له القضاء والقصص؛ وكان رجل صدق، ثم استعفي لشيء أنكره فأعفي.
وولي مكانه إبراهيم بن الجراح؛ وكان يذهب إلى قول أبي حنيفة، ولم يكن بالمذموم في ولايته، حتى قدم عليه ابنه من العراق، فتغيرت حالته، وفسدت أحكامه؛ فلم يزل "قاضيا" (1) إلى سنة اثنتي عشرة ومائتين، فدخل عليه عبد الله بن الطاهر البلد فعزله.
وولي عيسى بن المنكدر بن محمد بن المنكدر، وخرج إبراهيم بن الجراح إلى العراق ومات هناك. وأجرى (2) عبد الله بن طاهر على عيسى بن المنكدر أربعة آلاف درهم في الشهر؛ وهو أول قاض أجري عليه ذلك، وأجازه بألف دينار، فلما قدم المعتصم مصر في سنة أربع عشرة ومائتين كلمه فيه بن أبي دؤاد، فأمره فوقف عن الحكم، ثم أشخص بعد ذلك إلى العراق، فمات هناك.
وبقيت مصر بلا قاض حتى قدم المأمون الخليفة مصر في محرم سنة سبع عشرة، وولي القضاء يحيى بن أكثم فحكم بها ثلاثة أيام، وخرج المأمون إلى سخا، وأصلح أحوالها وتوجه إلى الإسكندرية وعاد إلى مصر، وخرج عنها في الخامس من صفر (3) .
_________
(1) من ابن عبد الحكم.
(2) ح، ط: "فأحرز" وما أثبته من الأصل وابن عبد الحكم.
(3) ابن عبد الحكم: "وبقيت مصر بلا قاض حتى ولي المأمون هارون بن عبد الله الزهري القضاء، فقدم البلد لعشر ليال بقين من شهر رمضان سنة سبع عشرة ومائتين، وكان محمودًا عفيفًا محببا في أهل البلد فلم يزل قاضيا إلى شهر ربيع الأول من سنة ست وعشرين ومائتين، فكتب إليه أن يمسك عن الحكم، وقد كان ثقل مكانه على ابن أبي دؤاد".(2/143)
وجعل القضاء بمصر إلى هارون بن عبد الله الزهري المالكي، قلده ذلك وهو بالشام، فقدم في رمضان سنة ربيع تسع عشرة ومائتين، وكان محمودًا عفيفًا محببًا في أهل البلد، فأقام إلى ربيع الأول سنة ست وعشرين، فكتب إليه أن يمسك عن الحكم، وقد كان ثقل مكانه على ابن أبي دؤاد.
وقدم أبو الوزير واليًا على خراج مصر، وقدم معه بكتاب ولاية محمد بن أبي الليث الأصم "على القضاء" (1) ، فلم يزل قاضيًا إلى شعبان سنة خمس وثلاثين ومائتين، فعزل وحبس.
وبقيت مصر بلا قاض حتى ولي الحارث بن مسكين في جمادى الأولى سنة سبع وثلاثين (2) ، ثم صرف في ربيع الآخر سنة خمس وأربعين.
وولي دحيم بن اليتيم عبد الرحمن بن إبراهيم بن اليتيم الدمشقي جاءته ولايته بالرملة، فتوفي قبل أن يصل إلى مصر في العام (3) المذكور.
ولي بعده بكار بن قتيبة [أبو بكرة الثقفي] (4) من أهل البصرة من ولد أبي بكرة صاحب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودخل البلد في جمادى الآخرة فأقام قاضيًا، [وأحمد بن طولون يصله في كل سنة بألف دينار. ثم إن ابن طولون بلغه أن الموفق خرج عن طاعة أخيه المعتمد، وكان المعتمد ولي عهد أخيه، فأراد ابن طولون خلع الموفق من ولاية العهد، فوافقه فقهاء مصر، وخالف القاضي بكار فحبسه أحمد بن طولون، وذلك في سنة سبع وخمسين ومائتين، ورتب في الحكم عوضا عنه، وهو كالخليفة عنه محمد بن شاذان الجوهري، ومات بكار ذي الحجة سنة خمس وسبعين ومائتين] . (4)
_________
(1) من ابن عبد الحكم.
(2) ابن عبد الحكم: "جاءته ولاية القضاء وهو بالإسكندرية".
(3) ابن عبد الحكم: "وكانت وفاته سنة خمس وأربعين ومائتين".
(4) ساقط من المطبوع التي رجعت إليها من كتاب فتوح مصر.(2/144)
وأقامت مصر بعد بكار بلا قاض، حتى ولي خمارويه بن أحمد بن طولون أبا عبد الله محمد بن عبدة بن حرب القضاء سنة سبع وسبعين ومائتين، فأقام إلى سنة ثلاث وثمانين، فألزم منزله في جمادى الآخرة.
"وبقيت مصر بلا قاض حتى ولي أبو زرعة محمد بن عثمان الدمشقي، فأقام ثماني سنين، وعزل في صفر سنة اثنتين وتسعين.
وأعيد ابن عبدة، ثم صرف في رجب من السنة.
وولي أبو مالك بن أبي الحسن الصغير.
ثم ولي بعده أبو عبيدة علي بن الحسين بن حرب المعروف بابن حربويه، في شعبان سنة ثلاث وتسعين، ثم عزل في سنة إحدى وثلاثمائة.
قال ابن يونس في تاريخ مصر: كان أبو عبيد بن حربوية شيئًا عجبا، ما رأينا قبله ولا بعده مثله. وكان آخر قاض يركب إليه أمراء مصر، وكان لا يقوم للأمير إذا أتاه، ثم أرسل موقعه الإمام أبا بكر بن الحداد إلى بغداد سنة إحدى وثلاثمائة في طلب إعفائه من القضاء فأعفي" (1) . انتهى. هذا ما ذكره ابن عبد الحكم (2) .
وولي مكانه أبو الذكر محمد بن يحيى (3) الأسواني خلافة لأبي يحيى عبد الله بن إبراهيم بن مكرم، إلى أن صرف في صفر سنة اثنتين وثلاثمائة.
وولي أبو علي عبد الرحمن بن إسحاق بن محمد بن معتمر الدوسي، وصرف في ربيع الآخر سنة أربع عشرة (4) .
وولي أبو عثمان أحمد بن إبراهيم بن حماد، وصرف في ذي الحجة سنة ست عشرة.
_________
(1) ساقط من النسخة المطبوعة لابن عبد الحكم.
(2) أخبار القضاة في ابن عبد الحكم من ص226-247.
(3) انظر الولاة والقضاة للكندي 481.
(4) في الولاة والقضاة، أن الذي تولى بعد أبي الذكر هو إبراهيم بن محمد الكريزي، ثم هارون بن إبراهيم بن حماد، ثم أحمد بن إبراهيم بن حماد.(2/145)
وولي أبو محمد عبد الله بن أحمد بن ربيعة بن سليمان الربعي الدمشقي، وصرف في جمادى الآخرة سنة سبع عشرة.
وأعيد أبو عثمان بن حماد، وصرف في ربيع الآخر سنة عشرين.
وأعيد الربعي، وصرف في صفر سنة إحدى وعشرين.
وولي أبو هاشم إسماعيل بن عبد الواحد الربعي المقدسي الشافعي، وصرف في ربيع الآخر من السنة (1) .
وولي أبو جعفر أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، وصرف في رمضان سنة اثنتين وعشرين (2) .
وولي أبو عبد الله محمد بن موسى بن إسحاق السرخسي (3) .
ثم ولي أبو بكر بن الحداد الإمام المشهور صاحب المولدات، بأمر أمير مصر في ربيع الأول سنة أربع وعشرين، فباشر مدة لطيفة (4) .
ثم ولي محمد بن بدر مولى أبي خيثمة خلافة لمحمد بن الحسن بن أبي الشوارب إلى أن مات سنة خمس وثلاثين.
وولي أبو محمد عبد الله بن أحمد بن شعيب بن الفضل بن مالك بن دينار، يعرف بابن أخت وليد، وصرف سنة ثلاث وثلاثين.
_________
(1) في الولاة والقضاة أن الذي تولى بعد أحمد بن إبراهيم بن حماد، عبد الله بن أحمد بن زبر، ثم أعيد أحمد بن إبراهيم بن حماد، ثم أعيد عبد الله بن أحمد بن زبر، ثم تولى إسماعيل بن عبد الواحد المقدسي، ثم أحمد بن عبد الله بن قتيبة.
(2) في الولاة والقضاة أن الذي تولى بعد ابن قتيبة هو أحمد بن إبراهيم بن حماد، الثالثة.
(3) في الولاة والقضاة أن الذي تولى بعد السرخسي، هو محمد بن بدر الصيرفي، ثم عبد الله بن أحمد بن زبر الثالثة، ثم محمد بن أحمد بن الحداد.
(4) في الولاة والقضاة، أن الذي تولى بعده الحسين بن زرعة، ثم محمد بن بدر الصيرفي الثالثة، ثم عبد الله بن زبر الرابعة، ثم عبد الله بن أحمد بن شعيب، ثم محمد بن بدر الصيرفي الثالثة، ثم أبو الذكر محمد بن يحيى الثانية، ثم الحسن بن عبد الرحمن بالجوهري، ثم أحمد بن عبد الله الكشي، ثم عبد الله بن شعيب الثانية، ثم الحسن بن عبد الرحمن الجوهري الثالثة، ثم محمد بن أحمد الحداد الثانية، ثم عبد الله بن أحمد بن شعيب الثالثة، ثم عمر بن الحسن الهاشمي، ثم عبد الله بن محمد بن الخصيب، ثم محمد بن عبد الله بن محمد بن الخصيب، ثم أبو طاهر الذهلي".(2/146)
وأعيد ابن الحداد وولي بعده عبد العزيز بن الحسن بن عبد العزيز العباسي الهاشمي خليفة لأخيه، ثم صرف في ذي الحجة سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة.
وولي أبو بكر عبد الله بن محمد الخصيبي الشافعي سنة خمس وأربعين؛ فأقام إلى أن مات في المحرم سنة ثمان وأربعين.
وولي بعده ابنه محمد، فأقام شهرا واحدا، ثم اعتل ومات في سادس ربيع الأول من عامه.
فولى كافور بعده أباه الطاهر محمد بن أحمد بن عبد الله البغدادي الدهلي المالكي، فأقام ست عشرة سنة -وقبيل ثماني عشرة سنة- إلى أن قامت الدولة العبيدية بالقاهرة، وقدم المعز ومعه قاضيه أبو حنيفة النعمان بن محمد بن منصور القيرواني، فاجتمع أبو الطاهر بالمعز، فأعجب به، وأقره على ولايته. وأقام النعمان بمصر لا ينظر في شيء، ثم إن أبا الطاهر استعفي قبل موته بيسير فأعفي؛ وذلك في صفر سنة ست وستين.
وولي بعده أبو الحسن علي بن النعمان، وكان شيعيًّا غاليًا، وشاعرًا مجيدًا، فأقام إلى أن مات في رجب سنة أربع وسبعين؛ وهو أول من نعت قاضي القضاة في مصر؛ ولم يكن يدعى بذلك إلا ببغداد.
وولي بعده أخوه أبو عبد الله محمد، وكان شيعيًّا أيضا، قال ابن زولاق: ولم نشاهد بمصر لقاض من الرياسة ما شاهدناه له، ولا بلغنا ذلك عن قاض بالعراق، ووافق ذلك استحقاقًا؛ لما فيه من العلم والصيانة والهيئة وإقامة الحق، وقد ارتفعت رتبته؛ لأن العزيز أجلسه معه يوم العيد على المنبر، وزادت عظمته في دولة الحاكم، إلى أن مات في صفر سنة تسع وثمانين.
وولي القضاء بعده ابن أخيه الحسين بن علي بن النعمان، ثم صرف سنة أربع وتسعين.(2/147)
وولي أبو القاسم عبد العزيز بن محمد بن النعمان، ثم صرف في رجب سنة ثمان وتسعين.
وولي بعده مالك بن سعد الفارقي، ثم صرف في ربيع الآخر سنة خمس وأربعين.
وولي أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي العوام، إلى أن مات في ربيع الأول سنة ثماني عشرة وأربعمائة (1) .
وولي أبو محمد قاسم بن عبد العزيز بن النعمان، ثم صرف في رجب سنة تسع عشرة وأربعمائة.
وولي أبو الفتح عبد الحاكم بن سعيد الفارقي، ثم صرف في ذي القعدة سنة تسع وعشرين (2) .
وأعيد أبو محمد القاسم بن عبد العزيز بن النعمان، ولقب بقاضي القضاة وداعي الدعاة، وثقة الدولة، وأمير الأمراء، وشرف الحكام؛ واستخلف عنه القاضي يحيى الشهاب فأقام ثلاث عشرة سنة، ثم عزل في المحرم سنة إحدى وأربعين.
وأعيد قاسم ثم صرف من عامه، وولي مكانه أبو محمد الحسن بن علي بن عبد الرحمن البازوري، ثم أضيف إليه الوزارة أيضًا، وهو أول من جمع بينهما، ثم صرف عنهما في المحرم سنة خمس وأربعين.
وولي القضاء أبو علي أحمد بن قاضي القضاة عبد الحاكم بن سعيد الفارقي، ثم صرف في ذي القعدة من السنة.
ولي أبو القاسم عبد الحكم بن وهب بن عبد الرحمن المليجي، ثم صرف في جمادى الآخرة سنة اثنتين وأربعين.
_________
(1) في الولاة والقضاة: "فكان بين ولايته وموته اثنتا عشرة سنة، وستة أشهر وخمسة وعشرون يومًا".
(2) انظر الولاة والقضاة ص497، وص604.(2/148)
وولي أبو عبد الله أحمد بن محمد أبو زكريا بن عمر بن أبي العوام، إلى أن مات في ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين.
وأعيد أبو علي أحمد بن عبد الحاكم بن سعيد، ثم صرف في رجب.
وأعيد أبو القاسم عبد الحاكم بن وهب ثم صرف في رمضان.
وولي أبو محمد عبد الكريم بن عبد الحاكم بن سعيد، ثم صرف في صفر سنة أربع وأربعين.
وأعيد أبو القاسم عبد الحاكم بن وهب بن عبد الرحمن، ثم صرف في المحرم سنة أربع وأربعين.
وأعيد أبو علي أحمد بن عبد الحاكم مضافًا للوزارة، ثم صرف في صفر.
وأعيد أبو القاسم عبد الحاكم بن وهب، ثم صرف في شعبان.
وولي أبو محمد الحسن بن مجلي بن أسد بن أبي كدينة مضافًا للوزارة، ثم صرف في ذي الحجة.
وولي جلال الملك أحمد بن عبد الكريم بن عبد الحاكم بن سعيد مضافًا للوزارة، ثم صرف في المحرم سنة ست وأربعين.
وأعيد الحسن بن مجلي بن أبي كدينة، ثم صرف في ربيع الآخر.
وأعيد أبو القاسم عبد الحاكم بن وهب، ثم صرف في رمضان.
وأعيد ابن أبي كدينة ثم صرف في ذي الحجة.
وأعيد ابن عبد الحاكم، ثم صرف في نصف المحرم سنة سبع وأربعين.
وأعيد ابن أبي كدينة، ثم صرف في السادس والعشرين منه.
وأعيد جلال الملك أحمد بن عبد الكريم، ثم صرف في جمادى.(2/149)
وأعيد أبن أبي كدينة، ثم صرف في نصف رجب.
وأعيد عبد الحاكم بن وهب، ثم صرف.
وأعيد ابن أبي كدينة، ثم صرف في صفر سنة ثمان وأربعين.
وأعيد جلال الملك، ثم صرف.
وأعيد ابن أبي كدينة، ثم صرف في المحرم سنة تسع وأربعين.
وولي عبد الحكم المليجي، ثم صرف في سابع جمادى الآخرة.
وأعيد ابن أبي كدينة، ثم صرف في ذي القعدة.
وأعيد جلال الملك، ثم صرف في صفر سنة خمس وستين.
وأعيد المليجي ثم صرف في ربيع الأول.
وأعيد ابن أبي كدينة، ثم صرف في جمادى الأولى.
وأعيد جلال الملك، ثم صرف في رمضان.
وأعيد المليجي، ثم صرف في ذي الحجة.
وأعيد ابن أبي كدينة، ثم صرف في صفر سنة إحدى وستين.
وأعيد المليجي، ثم صرف بعد يوم.
وولي خطير الملك بن قاضي القضاة الوزير البازوري، ثم صرف في شوال.
وأعيد ابن أبي كدينة، قم صرف في ذي القعدة.
وأعيد المليجي، ثم صرف.
وأعيد ابن أبي كدينة في ربيع الأول سنة أربع وستين، ثم صرف سنة ست وستين.
وولي أبو يعلى حمزة بن الحسين بن أحمد العراقي إلى أن مات سنة اثنتين وسبعين.(2/150)
وولي أبو الفضل طاهر بن علي القضاعي.
ثم ولي بعدن جلال الدولة أبو القاسم علي بن أحمد بن عمار، ثم صرف.
ولي سنة خمس وسبعين أبو الفضل هبة الله بن الحسين بن عبد الرحمن بن نباتة.
ثم ولي أبو الحسن علي بن يوسف بن الكمال، ثم صرف.
وولي سنة سبع وثمانين فخر الحكام أبو الفضل محمد بن الحاكم المليجي.
ثم ولي الحسن بن علي بن أحمد المكرمي، ثم صرف بعد شهر.
وولي أبو الطاهر محمد بن رجاء إلى أن مات سنة ثلاث وتسعين.
وولي أبو الفرج محمد بن جوهر بن ذكاء النابلسي، ثم صرف في ربيع الأول سنة أربع وتسعين، لكونه أحدث في مجلس الحكم.
وولي حسين بن يوسف بن أحمد الرصافي، ثم صرف.
وولي أبو النجم بدر بن بدر الحراني.
ثم ولي أبو الفضل نعمة بن بشير النابلسي المعروف بالجليس، ثم استعفي فأعفي سنة أربع وأربعين.
وولي الرشيد أبو عبد الله محمد بن قاسم بن زيد الصقلي إلى أن مات، فأعيد الجليس إلى أن مات.
وولي ثقة الملك أبو الفتح مسلم بن علي الرسعني سنة ثلاث وأربعين. قال ابن ميسر في تاريخ مصر: لما ولي الحكم رفع إلى الأفضل: إني قد اعتبرت ما في مودع الحكم من مال المواريث -وكان يقارب مائة ألف دينار- ورفعها إلى بيت المال أولى من تركها في المودع، وإن لها سنين طويلة لم يطلب شيء منها. فوقع على رقعته: إنما قلدناك الحكم ولا أرى لنا فيما لا نستحقه، فاتركه على حاله لمستحقه، ولا تراجع فيه. ثم اتفق أنه صلى(2/151)
إماما في مجلس صلاة الصبح، وخلفه الوزير المأمون، فقرأ سورة الشمس وضحاها. فأرتج عليه، وقرأ "ناقة الله وسقناها" بالنون، فعزل عن القضاء سنة ست وأربعين.
وولي أبو الحجاج بن أيوب المغربي إلى أن مات سنة إحدى وعشرين.
وولي أبو عبد الله محمد بن هبة الله بن الميسر القيرواني، ولقب القاضي الأمير سناه الملك شرف الأحكام قاضي القضاة عمدة أمير المؤمنين، قال في تاريخ مصر: وهو الذي أخرج الفستق الملبس بالحلوى، ثم صرف في ربيع الأول سنة ست وعشرين..
وولي أبو الفخر صالح بن عبد الله بن رجاء، ثم صرف في جمادى الآخرة.
وولي سراج الدين نجم بن جعفر إلى أن قتل في شوال سنة ثمان وعشرين.
وأعيد ابن الميسر، ثم صرف في المحرم سنة إحدى وثلاثين.
وولي الأعز أبو المكارم أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي عقيل إلى أن مات في شعبان سنة ثلاث وثلاثين، وأقام الحكم "بعده شاغرا" (1) ثلاثة أشهر.
ثم اختير أبو العباس أحمد بن الحطيئة، فاشترط ألا يحكم بمذهب الدولة، فلم يمكن من ذلك.
وولي فخر الأمناء هبة الله بن حسين الأنصاري؛ يعرف بابن الأزرق في ذي القعدة سنة ثلاث وثلاثين، ثم صرف في جمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين.
وولي أبو الطاهر إسماعيل بن سلامة الأنصاري (2) ، ثم صرف في المحرم سنة ثلاث وأربعين.
وولي أبو الفضل يونس بن محمد بن حسن المقدسي، ثم صرف سنة سبع وأربعين.
وولي عبد المحسن بن محمد بن مكرم، ثم صرف.
_________
(1) من رفع الإصر.
(2) بعدها في رفع الإصر: "الجلجلوتي".(2/152)
ثم ولي أبو المنجم بدر بن غالي (1) .
ثم ولي أبو المعالي مجلي بن جميع الشافعي صاحب الذخائر، فأقام إلى سنة تسع وأربعين، ثم صرف.
وأعيد أبو [[الفضل]] يونس ثم صرف.
وولي المفضل أبو القاسم جلال الدين هبة الله بن عبد الله بن كامل بن عبد الكريم الصوري، في شعبان سنة سبع وأربعين، ثم صرف في المحرم سنة ثمان وأربعين.
وأعيد أبو [[الفضل]] يونس، ثم صرف في ذي الحجة من السنة.
وأعيد ابن كامل، ثم صرف في ربيع الأول سنة تسع وأربعين.
وولي الأعز أبو محمد الحسن بن علي بن سلامة المصري ثم صرف (2) .
وولي أبو الفتح عبد الجبار بن إسماعيل بن عبد القوي، ثم صرف (3) .
وأعيد ابن كامل في ذي الحجة سنة أربع وستين، فلما استولى الملك الناصر صلاح الدين بن أيوب على القاهرة، وزيرًا عن العاضد، أزال دولة الرفض والشيعة، وصرف ابن كامل.
وولي صدر الدين عبد الملك بن درياس الكردي الشافعي قضاء القضاة بالقاهرة، وذلك في سنة ست وستين وأربعمائة، فأقام إلى أن صرف بعد وفاة صلاح الدين في ربيع الأول في سنة تسعين في أيام العزيز.
وولي في سنة خمس وتسعين وأربعمائة محيي الدين محمد أبو حامد بن الشيخ شرف الدين عبد الله بن هبة الله بن أبي عصرون؛ ثم صرف في سنة إحدى وتسعين.
وولي زين الدين علي بن يوسف بن عبد الله بن بندار الدمشقي، ثم عزل في جمادى الأولى من السنة.
_________
(1) في رفع الإصر 1: 137، "بدر بن بدر بن عالي"، وفي صفحة 138، "بدر بن عبد الله بن عالي".
(2) رفع الإصر 1: 189، "الحسن بن علي بن سلامة أبو محمد المعروف بابن العدريس".
(3) رفع الإصر: "عبد الجبار بن إسماعيل بن جعفر بن عبد القوي بن الجليس".(2/153)
وأعيد ابن أبي عصرون، ثم عزل في محرم سنة اثنتين وتسعين.
وأعيد ابن بندار، ثم صرف في محرم سنة أربع وتسعين.
وأعيد صدر الدين، ثم صرف في جمادى الأولى سنة خمس وتسعين.
وأعيد زين الدين بن بندار؛ وذلك لما انتزع الملك الأفضل علي بن السلطان صلاح الدين بن أيوب مملكة مصر من ابن أخيه المنصور محمد العزيز عثمان؛ وكتب له الصاحب ضياء الدين نصر الله بن الأثير الجزري تقليدا، هذا صورته:
{أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} (1) . من السنة أن تفتح صدور التقليدات بدعاء يعم بفضله، ويكون وزانًا للنعمة الشاملة من قبله، وخير الأدعية ما أجرم الله على لسان نبي من أنبيائه أو رسول من رسله، وكذلك جعلنا من هذا التقليد الذي أمضى الله قلمنا في كتابه، وصرف أمرنا في اختيار أربابه، ثم صلينا على رسوله محمد الصادع بخطابه، الساطع بشهابه، الذي جعلت الملائكة من أحزابه، وضرب له المثل بقلب قوسين في اقترابه؛ وعلى آله وصحبه الذين منهم من خلفه في محرابه، ومنهم من كملت به عدة الأربعين من أصحابه، ومنهم من جعل أثواب الحياء من أثوابه، ومنهم من بشر أنه من أحباب الله وأحبائه، أما بعد:
فإن منصب القضاء في المناصب بمنزلة المصباح الذي به يستضاء، أو بمنزلة العين التي عليها تعتمد الأعضاء؛ وهو خير ما رقمت به الدول مسطور كتابها، وأجزلت به مذخور ثوابها، وجعلته بعد الأعقاب كلمة باقية في أعقابها. وقد جعله الله ثاني النبوة حكما، ووارثها علما؛ والقائم بتنفيذ شرعها ما دام الإسلام يسمى، لا يستصلح له إلا الواحد الذي يعد محفلا، وإذا جاءت الدنيا بأسرها خفت على أنمله، وقد أجلنا النظر
_________
(1) سورة النمل: 19.(2/154)
مجتهدين، وعولنا على توفيق الله معتضدين، وقدمنا قبل ذلك صلاة الاستخارة وهي سنة متبوعة، وبركة في
الأعمال موضوعة؛ لا جرم أنا أرشدنا في أثرها إلى من صرح الرشد فيه بآثاره، وقال الناس هذا هو الذي جاء على فترة من وجود انتظاره (1) ؛ وهو أنت أيها القاضي فلان، مهد الله لجنبك، وجعل التوفيق من صحبك، وأنزل الحكمة على يدك ولسانك وقلبك؛ وقد قلدناك هذا المنصب بمدينة مصر وأعمالها، وهي مصر من الأمصار تجمع وجوهًا وأعيانًا، وقد رسم بأنه كرسي مملكته عزًّا وتبيانًا، وعظمت سلطانا، ولما قلدناك هو علمنا أنه سيعود وهو بك غض طري، وإن ولايته نيطت منك بكفء فهي بك حرية وأنت بها حري، ممن طلبها ومن الناس فإنها لم تكن عندك مطلوبة، ومن انتسب في وجاهته إليها فليست وجاهتك إليها منسوبة، وما أردت بها شيئا سوى تحمل الأثقال، وبيع الراحة بالتعب في الأشغال؛ وتعريض النفس لمضاضة الضيم والحيف، والوقوف على الصراط الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف؛ ولكنك في خلال ذلك تشتري الجنة بساعة من ساعاتك، وإذا رعيت مقام ربك فقد أرصدته لمارعاتك؛ وليس في الأعمال الصالحة أقوم من إحياء حق وضع في لحده، أورد حق مطلت الأيام برده.
فاستخر الله تعالى، وتول ما وليناك بعزيمة؛ لأنك بها شامة، ولا تأخذها في الله ملامة. وهذا زمان قد تلاشت فيه العلوم، وعفت رسوم الشريعة حتى صارت كالرسوم، ومشت الأمة المطيطى (2) وخلفها ابنا فارس والروم؛ وإذا نظر إلى دين الله وجد وقد خلط أمره خلطا، وتخطى رقاب الناس من هو جدير بأن يتخطى، وآذنت الساعة بالاقتراب حتى كاد أن يستوي ما بين السبابة والوسطى؛ والمتصدي لحفظه يعد ثقله بثقلين، وفضله بفضلين، ويؤتيه الله من رحمته كفلين، وحق له أن يتقدم على السلف الصالح الذي
_________
(1) ح: "أنظاره".
(2) المطيطى: مشية التبختر.(2/155)
كان كثيرًا رشده، حسنا هديه وقصده، وكان قريبًا برسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فان أولئك لم يؤتوا من جهالة، ولا حرموا من مقالة، ولا حدث في زمانهم بدعة وكل بدعة ضلالة، ونحن نرجو أن يكون ذلك الرجل الذي وزن بالناس فرجح وزنه، وسبق القرون الأولى وإن تأخر قرنه. ولقد ألبسنا الله بك لباسًا يبقى جديدًا، ويسرنا للعمل الذي يكون محضرًا، لا للعمل الذي نود لو أن بيننا وبينه أمدا بعيدا. وإياك ثم إياك أن تقف معنا موقف الاعتذار، وما
نخشى عليك إلا الشيطان الناقل للطباع في تقليب الأطوار، ولطالما أقام عابدًا من مصلاه، وغره بامتساك حبله ودلاه، ولمكانتك عندنا أضربنا عن وصيتك صفحًا، وتوسمنا أن صدرك قد شرحه الله فلم نزده شرحًا؛ والذي تضمنه تقليد غيرك من الوصايا لم يسفر إلا عن نقاب خطأ الأقلام، وقصر أقوالها عن المماثلة من مراتب أولي التعليم وبين العلماء الأعلام، ولا يفتقر إلى ذلك إلا من ثقل منصب القضاء على كاهله، وقضى جهله بتحريمه عليه، وفرق بين عالم أمرٍ وجاهله.
وأما أنت فإن علم القضاء بعض مناقبك، وهو من أوانسك لا من غرائبك؛ لكن عندنا أربع من الوصايا لا بد من الوقوف فيها على سنن التوقيف، وإبرازها إلى الأسماع في لباس التحذير والتخويف: فالأولى منهن، وهي المهم الذي زاغت عنه الأبصار، وهلك من هلك فيه من الأبرار، ولربما سمعت هذا القول فظننته مما تجوز في مثله القائلون، وليس كذلك بل هو نبأ عظيم أنتم غافلون، وسنقصه عليك كما فوضناه إليك؛ وذلك هو التسوية في الحكم بين أقوالك وأفعالك، والأخذ من صديقك لعدوك ومن يمينك لشمالك. وقد علمت أنه لم تخل دولة من الدول من قوم يعرفون بطيش الحلوم، ويغترون بقرب السلطان وهو ظل عليهم ولا يدوم، وإذا دعوا لمجلس الحكم حملهم البطر والأشر على الامتناع من مساواة الخصوم، ولا يفرق بين هؤلاء وبين(2/156)
ضعيف لا يرفع يدًا ولا طرفا، ونحن نبرأ من مخالفة الدرجات في حكم العزيز الحكيم، ولعن الله اليهود الذين نسخوا آية الرجم بما أحدثوه من التجبية والتحميم، وقد بسطنا يدك بسطا ليس له انقباض، ولا عليه اعتراض؛ وأنت القاضي الذي لا يكون اسمك منقوصًا فيقال فيه: إنك قاض. وإذا استقللت بهذه الوصية، فانظر فيما يليها من أمر الوكلاء القائمين بمجلس الحكم الذين لا ترد أحدًا منهم إلا خليًّا لويًّا، أو خادعا خلويًّا، وإذا اعتبرت أحوالهم وجدوا عذابا على الناس مصبوبًا، ولا يتم لهم إلا في ستر القضايا ونعيمها، ولا ينحون في شيء منها إلا نحو إمالتها وترخيمها؛ فأرح الناس من هذه الطائفة المعروفة بنصب الحبالة، التي تأكل الرشاء وتخرجها في مخرج الجعالة، وطهر منها مجلسك الذي ليس بمجلس ظلم وزور، وإنما هو مجلس عدل وعدالة؛ ومن العدل أن يخلى بين الخصوم حتى يكافح بعضهم بعضا، والمهل في
مثل هذا المقام لرعاية لرعي الرعاية لما يقضى؛ وغن كان أحدهم ألحن بحجته فكله إلى عالم الأسرار، وإذا حكمت له بشيء من حق أخيه فلا تبال أن تقطع له قطعة من النار.
وكذلك فانظر في الوصية المختصة بالشهداء؛ فإنهم قد تكاثرت أعدادهم وأهمل انتقادهم، وصار منصب الشهادة يسأله وسؤاله من الحرام لا من الحلال، وأصبح وهو يورث عن الآباء والأولاد والوراثة تكون في الأموال، والشاهد دليل يمشي القضاء على منهاجه، ويستقيم باستقامته ويعوج باعوجاجه؛ فانف كل من شانتك منه شائنة، أو رابتك منه رائبة، وعليك منهم بمن تخلق بخلق الحياء والورع، وأخذ بالقول الذي على مثلها فاشهد أو فدع.
وأما الوصية الرابعة فإنها مقصورة على كاتب الحكم الذي إليه الإيراد والإصدار، وهو المهيمن على النقض والإمرار؛ وينبغي أن يكون عارفا بالحلي والوسوم والحدود والرسوم، وان يكون فقيها في البيوع والمعاملات، والدعاوي والبينات؛ ومن أدنى(2/157)
صفاته أن يكون قلمه سائحًا، وخطه واضحا؛ وإذا استكمل ذلك فلا يستصلح حتى يكون العفاف شعاره، والأمانة عياره، والحفظ والعلم سوره وسواره، وهذا الرجل إن خلوت به فامض يده فيما يقول ويفعل، واستتم إليه استتامة الواثق الذي لا يخجل؛ والله يختار لنا فيما بيناه من المراشد، ويجعل أقوالنا ثمارا يانعة إذا كانت الأقوال من الحصائد.
وبعد أن بوأناك هذه المكانة، وحملناك هذه الأمانة، فقد رأينا أن نجمع لك من تنفيذ الأحكام وحفظ أصولها، وألا نخليك من النظر في دليلها ومدلولها؛ فإن الترك يوحش العلوم من معهود أماكنها، ويذهب بها من تحت أقفال خزائنها، ومنصب التدريس كمنصب القضاء أخ يشد (1) من عضده، ويكثر من عدده؛ فتول المدرسة الفلانية عالمًا أنك قد جمعت بين سيفين (2) في قراب، وسلكت بابين إلى تحصيل الثواب، وركبت أعز مكان وهو تنفيذ الحكم، وجالست خير جليس وهو الكتاب.
ونحن نوصيك بطلبة العلم وصيتين؛ إحداهما أعظم من الأخرى؛ وكلتاهما ينبغي أن تصرف إليهما من اهتمامك شطرا؛ فالأولى أن تتخولهم (3) في أوقات الاشتغال، وتكون لهم كالرائض الذي لا يبسط لهم بساط الراحة ولا يكلفهم مشقة الكلال. والثانية أن تدر عليهم أرزاقهم إدرار (4) المسامح، وتنزلهم فيها على قدر الإفهام والقرائح؛ وعند ذلك لا تعدم منهم منبعا في كل حين، ويسرك في حالتيه من دنيا ودين؛ والله يتولاك فيما تنويه صالحة، ويوفقك للعمل بها لا لأن يكون في قلبك سانحة. وقد فرضنا لك في بيت المال قسما طيبا مكسبه، هنيئا مأكله ومشربه؛ لا تعاقب غدا على كثيره، وإن حوسبت على فتيله ونقيره (5) . والمفروض في هذا المال ينبغي أن يكون على
_________
(1) ط: "يشهد" تحريف.
(2) ح، ط: "سبعين" تحريف.
(3) تتخولهم: تتعهدهم.
(4) ط: "إذرار" تحريف.
(5) فتيله وتقيره؛ أي على الصغير والكبير.(2/158)
قدر الكفاف لا على نسبة الأقدار، ورب متخوض فيما شان نفسه من مال الله، ومال رسوله ليس له في الآخرة إلا النار؛ والدنيا حلوة خضرة تلعب بذوي الألباب، وعلاقاتها بتجدد الأيام فلا تنتهي الآراب منها إلا إلى آراب (1) . ومن أراد الله به خيرًا لم يسلك إليها، وإن سلك كان كمن استظل بظل شجرة ثم راح وتركها، ونحن نخلص الضراعة والمسألة (2) في السلامة من تبعاتها، وأن نوفق لرعي ولاية العدل والإحسان إذ جعلنا من رعاتها.
وهذا التقليد ينبغي أن يقرأ في المسجد الجامع بعد أن يجمع له الناس على اختلاف المراتب، ما بين الأباعد والأقارب، والعراقيب والذوائب، والأشائب وغير الأشائب؛ ولتكن قراءته (3) بلسان الخطيب وعلى منبره، وليقل: هذا يوم رسم بجميل صيته واعتضاض محضره؛ ثم بعد ذلك فأنت مأخوذ بتصفح مطلوبه على الأيام، وإثباته في قلبك بالعلم الذي لا يمحى سطره إذا محيت سطور الأقلام.
واعلم أنا غدا وإياك بين يدي الحكم العدل الذي تكف لديه الألسنة عن خطابها، وتستنطق الجوارح بالشهادة على أربابها، ولا ينجو منه حينئذ إلا من أتى بقلب سليم؛ وأشفق من قول نبيه: "لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم".
والله يأخذ بناصية كل منا إليه، ويخرجه من هذه الدنيا كفافًا لا له ولا عليه، والسلام.
فولى عماد الدين بن عبد الرحمن بن عبد العلي بن السكري مصنف الحواشي على الوسيط، ثم صرف في المحرم سنة ثلاث عشرة؛ لأنه طلب منه قرض شيء من مال الأيتام فامتنع.
_________
(1) الآراب: الحاجات.
(2) ط: "والمسلمة".
(3) ط: "ولكن قرأته" تحريف.(2/159)
قال القاضي تاج الدين السبكي في الطبقات الكبرى: وبلغني أنه كان في زمانه رجل صالح يقال له: الشيخ عبد الرحمن النويري، وكان كثير المكاشفات والحكم بها، وكان القاضي عماد الدين ينكر عليه؛ فبلغ القاضي أنه أكثر الحكم بالمكاشفات، فعزله، فقال النويري: عزلته وذريته. فكان كما قال.
وبلغني عن الظهير التزمنتي شيخ ابن الرفعة، قال: زرت قبر القاضي عماد الدين بعد موته بأيام، فوجدت عنده فقيرًا، فقال لي: يا فقيه، يحشر العلماء وعلى رأس كل واحد منهم لواء، وهذا القاضي عماد الدين منهم؛ وطلبته فلم أره.
وولي بعده شرف الدين محمد بن عبد الله الإسكندراني المعروف بابن عين الدولة قضاء القضاة بالقاهرة والوجه البحري، وتاج الدين عبد السلام بن الخراط مصر والوجه القبلي، ثم صرف ابن الخراط في شعبان سنة سبع عشرة وستمائة، وجميع العملان لابن عين الدولة.
ثم صرف ابن عين الدولة عن مصر والوجه القبلي بالقاضي بدر الدين يوسف بن الحسن السنجاري في ربيع الآخر تسع وثلاثين، وبقي قاضيا بالقاهرة والوجه البحري فقط.
وفي زمنه اتفقت الحكاية التي اتفقت في زمان الإمام محمد بن جرير الطبري (1) ؛ وهو أن امرأة كادت زوجها، فقالت: إن كنت تحبني فأحلف بطلاقي ثلاثا: مهما قلت لك تقول مثله في ذا المجلس؛ فحلف، فقالت له: أنت طالق
ثلاثا، قل كما قلت لك. فأمسك، وترافعا إلى ابن عين الدولة، فقال: خذ بعقصتها: وقل: أنت طالق ثلاثًا إن طلقتك.
_________
(1) هي قصة محمد بن جرير الطبري، ومحمد بن نصر المروزي ومحمد بن هارون الروياني؛ حيثما اجتمعوا في تاريخ مصر، وأرملوا ولم يبق عندهم زاد يقوتهم؛ وأضر بهم الجوع؛ وما كان من أمرهم مع الوالي. وانظر تفصيل القصة في تاريخ بغداد 2: 164، 165.(2/160)
قال ابن السبكي: وكأنهما ارتفعا إليه في المجلس؛ وكان بمصر مغنية تدعى عجيبة، قد أولع بها الملك الكامل، فكانت تحضر إليه ليلا وتغنيه بالجنك (1) على الدف في مجلس بحضرة ابن شيخ الشيوخ وغيره. ثم اتفقت قضية شهد فيها الكامل عند ابن عين الدولة، وهو في دست ملكه، فقال ابن عين الدولة: السلطان يأمر ولا يشهد، فأعاد عليه القول، فلما زاد الأمر، وفهم السلطان أنه لا يقبل شهادته، قال: أنا أشهد، تقبلني أم لا؟ فقال القاضي: لا ما أقبلك، وكيف أقبلك وعجيبة تطلع إليك بجنكها كل ليلة! وتنزل ثاني يوم بكرة وهي تتمايل سكرى على أيدي الجواري، وينزل ابن الشيخ من عندك! أيحسن ما نزلت، فقال له السلطان: يا كيواج -وهي كلمة شتم بالفارسية- فقال: ما في الشرع يا كيواج، اشهدوا على أني قد عزلت نفسي ونهض. فقام ابن الشيخ إلى الملك الكامل، وقال: المصلحة إعادته لئلا يقال: لأي شيء عزل القاضي نفسه؟ وتطير الأخبار إلى بغداد، ويشيع أمر عجيبة! ونهض إلى القاضي، وترضاه، وعاد إلى القضاء (2) . ومن شعره:
وليت القضاء وليت القضاء ... لم يك شيئًا توليته
وقد ساقني للقضاء القضاء ... وما كنت قدمًا تمنيته
وأقام إلى أن توفي في ذي القعدة سنة تسع وثلاثين وستمائة.
فولي بعده قضاء القاهرة بدر الدين يوسف السنجاري.
وولي الشيخ عز الدين بن عبد السلام قضاء مصر والوجه القبلي، وكان قدم في هذه السنة من دمشق بسبب أن سلطانها الصالح إسماعيل استعان بالفرنج وأعطاهم مدينة صيدا وقلعة الشقيف. فأنكر عليه الشيخ عز الدين، وترك الدعاء له في الخطبة، وساعده في ذلك الشيخ جمال الدين أبو عمرو بن الحاجب المالكي، فغضب السلطان منهما، فخرجا
_________
(1) الجنك من آلات الطرب، فارسي معرب.
(2) طبقات الشافعية 5: 27.(2/161)
إلى الديار المصرية فأرسل السلطان إلى
الشيخ عز الدين؛ وهو في الطريق قاصدا يتلطف به في العود إلى دمشق، فاجتمع به ولاينه، وقال له: ما نريد منك شيئًا إلا أن تنكسر للسلطان، وتقبل يده لا غير. فقال الشيخ له: يا مسكين، ما أرضاه يقبل يدي فضلا عن أن أقبل يده! يا قوم، أنتم في واد وأنا في واد! والحمد لله الذي عافانا مما ابتلاكم. فلما وصل إلى مصر، تلقاه سلطانها الصالح نجم الدين أيوب وأكرمه، وولاه قضاء مصر، فاتفق أن أستاداره (1) فخر الدين عثمان بن شيخ الشيوخ -وهو الذي كان إليه أمر المملكة- عمد إلى مسجد بمصر، فعمل على ظهره بناء طبلخاناه، وبقيت تضرب هناك، فلما ثبت هذا عند الشيخ عز الدين حكم بهدم ذلك البناء، وأسقط فخر الدين، وعزل نفسه من القضاء، ولم تسقط بذلك منزلة الشيخ عند السلطان، وظن فخر الدين وغيره أن هذا الحكم لا يتأثر به في الخارج، فاتفق أن جهز السلطان رسولا من عنده إلى الخليفة المستعصم ببغداد، فلما وصل الرسول إلى الديوان، ووقف بين يدي الخليفة، وأدى الرسالة له، خرج إليه، وسأله: هل سمعت هذه الرسالة من السلطان؟ فقال: لا، ولكن حملنيها عن السلطان فخر الدين بن شيخ الشيوخ أستاداره، فقال الخليفة: إن المذكور أسقطه ابن عبد السلام، فنحن لا نقبل روايته. فرجع الرسول إلى السلطان حتى شافهه (2) بالرسالة، ثم عاد إلى بغداد، وأداها. ولما تولى الشيخ عز الدين القضاء تصدى لبيع أمراء الدولة من الأتراك، وذكر أنه لم يثبت عنده إنهم أحرار، وإن حكم الرق مستصحب عليهم لبيت مال المسلمين، فبلغهم ذلك، فعظم الخطب عندهم، واجترم الأمر، والشيخ مصمم لا يصحح لهم بيعا ولا شراء ولا نكاحا، وتعطلت مصالحهم لذلك؛ وكان من جملتهم نائب السلطنة، فاستثار غضبا، فاجتمعوا وأرسلوا إليه، فقال: نعقد لكم مجلسًا، وننادي عليكم لبيت مال المسلمين، فرفعوا الأمر إلى السلطان، فبعث
_________
(1) الأستادار: هو الذي يتولى شئون مسكن السلطان أو الأمير.
(2) ط: "شافه".(2/162)
إليه فلم يرجع، فأرسل إليه نائب السلطنة بالملاطفة فلم يفد فيه، فانزعج النائب، وقال: كيف ينادي علينا هذا الشيخ، ويبيعنا ونحن ملوك الأرض! والله لأضربنه بسيفي هذا، فركب بنفسه في جماعته، وجاء إلى بيت الشيخ والسيف مسلول في يده، فطرق الباب، فخرج ولد الشيخ، فرأى من نائب
السلطان ما رأى، وشرح له الحال، فما اكترث لذلك، وقال: يا ولدي، أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله، ثم خرج. فحين وقع بصره على النائب يبست يد النائب، وسقط السيف منها، وأرعدت مفاصله، فبكى وسأل الشيخ أن يدعو له، وقال: يا سيدي إيش تعمل؟ فقال: أنادي عليكم وأبيعكم، قال: ففيم تصرف ثمننا؟ قال: في مصالح المسلمين، قال: من يقبضه؟ قال: أنا.
فتم ما أراد، ونادى على الأمراء واحدا واحدا، وغالى في ثمنهم ولم يبعهم إلا بالثمن الوافي، وقبضه وصرفه في وجوه الخير.
وأتفق له في ولايته القضاء عجائب وغرائب، وفيه يقول الأديب أبو الحسين يحيى بن عبد العزيز الجزار:
سار عبد العزيز في الحكم سيرًا ... لم يسره سوى ابن عبد العزيز
عمنا حكمه بعدل وسيط ... شامل الورى، ولفظ وجيز
ولما عزل الشيخ نفسه عن القضاء، تلطف السلطان في رده إليه، فباشره مدة، ثم عزل نفسه منه مرة ثانية، وتلطف مع السلطان في إمضاء عزله، فأمضاه وأبقى جميع نوابه من الحكام، وكتب لكل حاكم تقليدا، ثم ولاه تدريس مدرسته التي أنشأها بين القصرين (1) .
وولي بعده أفضل الدين محمد الخونجي صاحب المنطق والمعقولات، فأقام إلى أن
_________
(1) رفع الإصر: 350-353.(2/163)
مات في رمضان سنة ست وأربعين وستمائة، ورثاه العز الإربلي بقصيدة أولها:
قضى أفضل الدنيا، نعم وهو فاضل ... وماتت بموت الخونجي الفضائل
وكان يخلفه على الأحكام الجمال يحيى، فلم يزل إلى أن تولى القاضي عماد الدين القاسم بن إبراهيم بن هبة الله الحموي، فبقي إلى أن صرف في جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين.
وتولى القاهرة وصرف عنها القاضي بدر الدين، ورتب قاضيا بمصر والوجه القبلي صدر الدين موهوب بن عمر الجزري، وكان نائبا عن الشيخ عز الدين ثم صرف.
وأعيد القاضي عماد الدين الحموي بمصر، ورتب بالقاهرة بدر الدين السنجاري، وذلك في رجب سنة ثمان وأربعين، ثم بعد ذلك بأيام يسيرة أضيف له مصر أيضا، وذلك في شوال من السنة. ثم صرف عنه القضاء بمصر، وكان يخلفه أخوه برهان الدين، وذلك في رمضان سنة أربع وخمسين.
ورتب فيه تاج الدين عبد الوهاب بن بنت الأعز، ثم صرف السنجاري عن القاهرة أيضا، وأضيف لابن بنت الأعز إلى أن توفي الملك المعز.
فرتب في القاهرة البدر السنجاري في ربيع الآخر سنة خمس وخمسين، وبقي مع ابن بنت الأعز مصر خاصة.
ثم أضيف قضاء مصر أيضا إلى السنجاري في رجب من السنة، فأقام إلى جمادى الأولى سنة تسع وخمسين، فعزل.
وأعيد تاج الدين بن بنت الأعز لقضاء مصر والقاهرة معا، ثم في شوال سنة إحدى وستين عزل ابن بنت الأعز عن قضاء مصر وحدها.
ووليه برهان الدين الخضر بن الحسن السنجاري، وبقي مع ابن بنت الأعز قضاء القاهرة، فلم يزل إلى رمضان سنة اثنتين وستين.(2/164)
فصرف قضاء مصر عن السنجاري، وأضيف إلى ابن بنت الأعز، فلم يزل على هذه الولاية إلى أن مات يوم الأحد سابع عشر رجب سنة خمس وستين.
قال ابن السبكي في الطبقات الكبرى: وفي ولايته هذه جدد الملك الظاهر بيبرس القضاة الثلاثة من كل مذهب: قاض في القاهرة، ثم في دمشق، وكان سبب ذلك أنه سأل القاضي تاج الدين في أمر، فامتنع من الدخول فيه، فقيل له: مر نائبك الحنفي، وكان القاضي هو الشافعي يستنيب من شاء من المذاهب الثلاثة، فامتنع عن ذلك، فجرى ما جرى، وكان الأمر متمحضا للشافعية، فلا يعرف أن غيرهم حكم في الديار المصرية منذ وليها أبو زرعة محمد بن عثمان الدمشقي في سنة أربع وثمانين إلى أن مات الظاهر، إلا أن يكون نائب بعض قضاة الشافعية في جزئية خاصة، وكذا دمشق لم يلها بعد أبي زرعة المشار إليه إلا شافعي.
قال ابن ميسر في تاريخ مصر: في سنة خمس وعشرين وخمسمائة رتب أبو أحمد بن الأفضل في الحكم أربع قضاة، يحكم كل قاض بمذهبه، ويورث
بمذهبه، فكان قاضي الشافعية سلطان بن رشا، وقاضي المالكية أبا محمد عبد المولى بن اللبنى، وقاضي الإسماعيلية أبا الفضل بن الأزرق، وقاضي الإمامية ابن أبي كامل، ولم يسمع بمثل هذا.
وقال ابن ميسر: وقد تجدد في عصرنا هذا الذي نحن فيه أربع قضاة على الأربعة مذاهب. انتهى.
قال ابن السبكي: وقال أهل التجربة: إن هذه الأقاليم المصرية والشامية والحجازية، متى كانت البلد فيها لغير الشافعية خربت، ومتى قدم سلطانها غير أصحاب الشافعي زالت(2/165)
دولته سريعا. قال: وكأن هذا السر جعله الله في هذه البلاد، كما جعله الله لمالك في بلاد المغرب، ولأبي حنيفة فيما وراء النهر.
قال: وسمعت الشيخ الإمام الوالد يقول: سمعت الشيخ صدر الدين بن المرحل يقول: ما جلس على كرسي مصر غير شافعي إلا وقتل سريعا، قال: وهذا الأمر يظهر بالتجربة، فلا يعرف غير شافعي إلا قطز، كان حنفيا، ومكث يسيرا وقتل، وأما الظاهر فقلد الشافعي يوم ولاية السلطنة، ثم لما ضم القضاء إلى الشافعي استثنى للشافعي الأوقاف، وبيت المال والنواب وقضاة البر والأيتام، وجعلهم الأرفعين، ثم إنه ندم على ما فعل. وذكر أنه رأي الشافعي في النوم لما ضم إلى مذهبه بقية المذاهب، وهو يقول: تهين مذهبي! البلاد لي أو لك! قد عزلتك، وعزلت ذريتك إلى يوم الدين. فلم يمكث إلا يسيرا ومات، ولم يمكث ولده السعيد إلا يسيرًا، وزالت دولته، وذريته إلى الآن فقراء، هذا كلام ابن السبكي.
قال: وجاء بعده قلاوون، وكان دونه تمكنا ومعرفة، ومع ذلك مكث الأمر فيه وفي ذريته إلى هذا الوقت، وفي ذلك أسرار الله لا يدركها إلا خواص عباده.
قال: وقد حكي أن الظاهر رئي في النوم، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: عذبني عذابا شديدا لجعلي القضاة أربعة، وقال: فرقت كلمة المسلمين!
وقال أبو شامة: لما بلغهم ضم القضاة الثلاثة لم يقع مثل هذا في ملة الإسلام قط، وكان إحداث القضاة الثلاثة في سنة ثلاث وستين وستمائة؛ وأقام ابن بنت الأعز قاضيا إلى أن توفي سنة خمس وستين، وكان شديد التصلب في الدين، فكان الأمراء الكبار يشهدون عنده فلا يقبل شهادتهم؛ وكان ذلك أيضا من
جملة الحوامل على ضم القضاة الثلاثة إليه. وحكي أنه ركب وتوجه إلى القرافة، ودخل على الفقيه مفضل، حتى(2/166)
تولى عنه الشرقية، فقيل له: تروح إلى شخص توليه، فقال: لو لم يفعل لقبلت رجله حتى يقبل، فإنه يسد عني ثلمة من جهنم.
قال ابن السبكي: وكان يقال: إن القاضي تاج الدين آخر قضاة العدل؛ واتفق الناس على عدله؛ وقد اجتمع له من المناصب الجليلة ما لم يجتمع لغيره؛ فإنه ولي خمس عشرة وظيفة: القضاء، والوزارة، ونظر الأحباس، وتدريس الشافعية، والصالحية، والحسبة، والخطابة، ومشيخة الشيوخ، وإمامة الجامع.
وولي بعده مصر والوجه القبلي محيي الدين عبد الله بن القاضي شرف الدين بن عين الدولة، والقاهرة والوجه البحري تقي الدين محمد بن الحسن بن رزين، ثم مات ابن عين الدولة في رجب سنة ثمان وسبعين، وعزل ابن رزين في رجب أيضا سنة ثمان وسبعين لكونه توقف في خلع الملك السعيد.
وولي صدر الدين عمر بن القاضي تاج الدين بن بنت الأعز، فمشى على طريقة والده في التحري والصلابة، ثم عزل نفسه في رمضان سنة تسع وسبعين.
وأعيد ابن رزين فأقام إلى أن مات في رجب سنة ثمانين، وولي بعده وجيه الدين عبد الوهاب بن الحسين البهنسي قضاء الديار المصرية، ثم عزل عن القاهرة والوجه البحري، واستمر على قضاء مصر والوجه القبلي، إلى أن توفي سنة خمس وثمانين.
وولي القاهرة بعد عزله عنها شهاب الدين بن الخويي (1) ، فأقام إلى أول سنة ست وثمانين، فعزل.
وولي بعده برهان الدين الخضر السنجاري، فأقام شهرا، ثم توفى.
_________
(1) الخوبي، بضم الخاء وفتح الواو المشددة وتشديد الياء، منسوب إلى خوي، مدينة بأذربيجان، واسمه أحمد بن خليل بن سعادة، انظر شذرات الذهب 5: 183.(2/167)
وولي بعده تقي الدين عبد الرحمن بن القاضي تاج الدين بن بنت الأعز، مضافا لما كان معه من قضاء مصر؛ فإنه وليه بعد موت البهنسي، وكان من أحسن القضاة سيرة، وكان ابن السلعوس وزير الملك الأشرف يكرهه؛ فعمل عليه، ورتب من شهد عليه بالزور بأمور عظام، منها أنهم أحضروا شابا حسن الصورة، واعترف
على نفسه بين يدي السلطان بأن القاضي لاط به، وأحضروا من شهد بأنه يحمل الزنار في وسطه، فقال القاضي: أيها السلطان كل ما قالوه ممكن؛ ولكن حمل الزنار لا يعتمده النصراني، تعظيمًا ولو أمكنه تركه لتركه؛ فكيف أحمله! ثم عزل القاضي، وكان رجلًا صالحًا لا يشك فيه، بريئا من كل ما رمي به.
وولي بدر الدين محمد بن إبراهيم بن جماعة؛ وذلك في رمضان سنة تسعين وستمائة، فتوجه القاضي تقي الدين إلى الحجاز، ومدح النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقصيدة، وكشف رأسه، ووقف بين يدي الحجرة الشريفة، واستغاث بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأقسم عليه ألا يصل إلى وطنه إلا وقد عاد إلى منصبه، فلم يصل إلى القاهرة إلا والأشرف قد قتل، وكذلك وزيره، فأعيد إلى القضاء، ووصل إليه الخبر بالعود قبل وصوله إلى القاهرة، وذلك في أول سنة ثلاث وتسعين؛ فأقام في القضاء إلى أن مات في جمادى الأولى سنة خمس وتسعين.
وولي بعده الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد بعد امتناع شديد، حتى قالوا له: إن لم تفعل ولوا فلانا أو فلانا -لرجلين لا يصلحان للقضاء- فرأى أن القبول واجب عليه حينئذ. ذكره الإسنوي في الطبقات. قال ابن السبكي: وعزل نفسه غير مرة ثم يعاد. قال الإسنوي: وكانت القضاة يخلع عليهم الحرير، فامتنع الشيخ من لبس الخلعة، وأمر بتغييرها إلى الصوف، فاستمرت إلى الآن. وحضر مرة عند السلطان(2/168)
لاجين، فقام إليه السلطان، وقبل يده؛ فلم يزده على قوله: أرجوها لك بين يدي الله. وكان يكتب إلى نوابه، ويعظهم ويبالغ في وعظهم، ومع ذلك رآه بعض خيار أصحابه في المنام وهو في مسجد، فسأله عن حاله، فقال: أنا معوق ههنا بسبب نوابي. هذا مع الاحتراز التام والكرامات الصحيحة الثابتة عنه. فهذا كله كلام الإسنوي.
ومن لطائفه ما كتب إلى نائبه بإخميم: صدرت هذه المكاتبة إلى مجلس مخلص الدين، وفقه الله تعالى لقبول النصيحة، وآتاه لما يقربه إليه قصدا صحيحا ونية صحيحة، أصدرناه إليه بعد حمد الله الذي يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور، ويمهل حتى لا يلتبس الإمهال بالإهمال على المغرور؛ وتذكره بأيام الله {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} (1) ، ونحذره صفقة من باع الآخرة
بالدنيا فما أحد سواه مغبون؛ عسى الله أن يرشده بهذا التذكار وينفعه، وتأخذ هذه النصائح بحجزته عن النار؛ فإني أخاف أن يتردى فيخر من ولاه معه. والعياذ بالله. والمقتضي لإصدارها ما لمحناه من الغفلة المستحكمة على القلوب، ومن تقاعد الهمم مما يجب للرب على المربوب، ومن أنسهم بهذه الدار وهم يزعجون عنها، وعلمهم بما بين أيديهم من عقبة كؤود وهم لا يتخففون منها. ولا سيما القضاة الذين تحملوا أعباء الأمانة على كواهل ضعيفة، وظهروا بصور كبار وهمم نحيفة، ووالله إن الأمر عظيم، والخطب جسيم؛ ولا أرى مع ذلك أمنا ولا قرارا، ولا راحة ولا استمرارا، اللهم إلا رجلا نبذ الآخرة وراه، واتخذ إلهه هواه، وقصر همه وهمته على حظ نفسه ودنياه، فغاية مطلبه حب الجاه. والرغبة في قلوب الناس وتحسين الزي والملبس، والركبة والمجلس، غير مستشعر خساسة حاله ولا ركاكة مقصده، فإنك لا تسمع الموتى وما أنت بمسمع من في القبور.
فاتق الله الذي يراك حين تقوم، وأقصر أملك عليه فإن المحروم من فضله غير
_________
(1) الحج: 47.(2/169)
مرحوم، وما أنا وإياكم أيها النفر إلا كما قال حبيب العجمي، وقد قال له قائل: ليتنا، لم نخلق! قال: قد وقعتم فاحتالوا!.
وإن خفي عليك مثل هذا الخطر، وشغلتك الدنيا عن معرفة الوطر، فتأمل كلام النبوة: "القضاة ثلاثة قاض في الجنة، وقاضيان في النار"، وقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأبي ذر مشفقا عليه: "لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم" وما أنا والسير في متلف مبرح بالذاكر الضابط، هيهات جف القلم، ونفذ حكم الله، فلا راد لما حكم. إيه، ومن هناك شم الناس من فم الصديق رائحة الكبد المشوي. وقال الفاروق: ليت أم عمر لم تلده! وقال علي والخزائن مملوءة ذهبا وفضة: من يشتري سيفي هذا ولو وجدت ما أشتري به رداء ما بعته. وقطع الخوف نياط قلب عمر بن عبد العزيز فمات من خشية العرض، وعلق بعض السلف سوطا يؤدب به نفسه إذا فتر. فترى ذلك سدى، أم نحن المقربون وهم البعداء! فهذه أحوال لا تؤخذ من كتاب السلم، والإجارة (1) ، والجنايات، وإنما تنال بالخضوع والخشوع، وأن تظمأ وتجوع.
ومما يعينك على الأمر الذي دعوتك إليه، ويزودك في السفر المعرض عليه، أن تجعل لك وقتا وتعمره بالتذكر والتفكر، وإنابة تجعلها معدة لجلاء قلبك، فإنه إن استحكم صداه صعب تلافيه، وأعرض عنه من هو أعلم بما فيه.
فاجعل أكثر همومك الاستعداد ليوم المعاد، والتأهب لجواب الملك الجواد، فإنه يقول: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
ومهما وجدت من همتك قصورًا، واستشعرت من نفسك عما بدا لها نفورا، فاجررها إليه وقف ببابه واطلب، فإنه لا يعرض عمن صدق، ولا يعزب عن علمه خفايا الضمائر {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} .
_________
(1) النجوم الزاهرة.(2/170)
فهذه نصيحتي إليك، وحجتي بين يدي الله إن فرطت إذا سئلت عليك؛ فنسأل الله لي ولك قلبا شاكرا، ولسانًا ذاكرًا، ونفسا مطمئنة بمنه وكرمه، وخفي لطفه، والسلام.
واستمر الشيخ إلى أن توفي في صفر سنة اثنتين وسبعمائة.
وأعيد بعده القاضي بدر الدين بن جماعة، ثم صرف في ربيع الأول سنة عشر وسبعمائة.
وولي جمال الدين بن عمر الزرعي، ثم صرف.
وأعيد ابن جماعة في ربيع الآخر سنة إحدى عشرة، فلم يزل إلى أن عمي سنة سبع وعشرين.
فولي بعده جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني مصنف التلخيص في المعاني والبيان، فأقام مدة ثم صرف في سنة ثمان وثلاثين.
وولي بعده عز الدين بن القاضي بدر الدين بن جماعة، فاستمر إلى سنة تسع وخمسين، فعزل بواسطة صرغمتش.
وولي مكانه بهاء الدين بن عبد الله بن عقيل مؤلف شرح الألفية وشرح التسهيل، فأقام ثمانين يوما وصرف.
وأعيد ابن جماعة، فولي على كره منه، واستمر يطلب الإقالة إلى جمادى الأولى سنة ست وستين، فعزل نفسه، وصمم على عدم العود، ونزل إليه الأمير الكبير يلبغا إلى داره، ودخل عليه أن يعود فأبى.
فولي مكانه بهاء الدين أبو البقاء محمد بن عبد البر السبكي، فأقام إلى أن عزل في سنة ثلاث وسبعين.
وولي بعده برهان الدين إبراهيم بن جماعة، ثم عزل نفسه، وولي بدر الدين محمد بن عبد البر السبكي في صفر سنة تسع وسبعين.(2/171)
ثم أعيد البرهان بن جماعة في سنة إحدى وتمانين، ثم أعيد البدر بن أبي البقاء في صفر سنة أربع وثمانين، ثم ولي ناصر الدين محمد بن الميلق في شعبان سنة تسع وثمانين ثم عزل.
وولي صدر الدين محمد بن إبراهيم المناوي في ذي القعدة سنة إحدى وتسعين.
ثم أعيد بدر الدين بن أبي البقاء في ذي الحجة سنة إحدى وتسعين.
ثم ولي عماد الدين أحمد بن عيسى الكركي في رجب سنة ثنتين وتسعين، ثم عزل في ذي الحجة سنة أربع وتسعين.
وأعيد الصدر المناوي في المحرم (1) سنة خمس وتسعين.
ثم أعيد البدر بن أبي البقاء في ربيع الأول سنة ست وتسعين.
ثم أعيد المناوي في شعبان سنة سبع وتسعين.
ثم ولي تقي الدين الزبيري في جمادى الأولى سنة تسع وتسعين.
ثم أعيد المناوي في رجب سنة إحدى وثمانمائة.
ثم ولي ناصر الدين محمد بن محمد بن عبد الرحمن الصالحي في شعبان سنة ثلاث.
ثم ولي جلال الدين البلقيني في جمادى الأولى سنة أربع في حياة والده.
ثم أعيد الصالحي في شوال سنة خمس، ومات في المحرم سنة ست.
فولي شمس الدين محمد بن الأخنائي.
ثم أعيد البلقيني في ربيع الأول من السنة.
ثم أعيد الأخنائي في شعبان من السنة.
ثم أعيد البلقيني في ذي الحجة من السنة.
ثم أعيد الأخنائي في جمادى الأولى سنة سبع.
_________
(1) ط: "الحرم".(2/172)
ثم أعيد البلقيني في ذي القعدة من السنة.
ثم أعيد الأخنائي في صفر سنة ثمان.
ثم أعيد البلقيني في ربيع الأول من السنة، فأقام إلى محرم سنة خمس عشرة، فعزله المستعين.
وولي شهاب الدين الباعوني، فأقام شهرا، وعزل.
ثم أعيد البلقيني في صفر سنة خمس عشرة، فأقام إلى جمادى الأولى سنة إحدى وعشرين.
وولي شمس الدين محمد بن عطا الله الهروي، وفي ولايته هذه وجد في مجلس السلطان ورقة فيها شعر، وهو:
يأيها الملك المؤيد دعوة ... من مخلص في حبه لك ينصح
انظر لحال الشافعية نظرة ... فالقاضيان كلاهما لا يصلح
هذا أقاربه عقارب وابنه ... وأخو وصهر، فعلهم مستقبح
غطوا محاسنه بقبح صنيعهم ... ومتى دعاهم للهدى لا يفلحوا
وأخو هراة بسيرة اللنك اقتدى ... وله سهام في الجوانح تجرح
لا درسه يقرا، ولا أحكامه ... تدرى، ولا حين الخطابة يفصح
فأرح هموم المسلمين بثالث ... فعسى فساد منهم يستصلح
وكان ذلك في أول شعبان، فعرض السلطان الورقة على الجلساء من الفقهاء الذين يحضرون عنده، فلم يعرفوا كاتبها، وطالت الأبيات. فأما الهروي فلم ينزعج من ذلك، وأما البلقيني فقام وقعد، وأطال البحث والتنقيب عن ناظمها، وتقسمت الظنون؛ فمنهم من اتهم شعبان الأثاري، ومنهم من اتهم تقي الدين بن حجة. قال العيني: وبعضهم نسبها لابن حجر؛ قال: والظاهر أنه هو.(2/173)
ثم أعيد البلقيني في ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين، فأقام إلى أن مات في شوال سنة أربع وعشرين.
وولي الشيخ ولي الدين العراقي، ثم عزل في ذي الحجة سنة خمس وعشرين.
وولي شيخنا شيخ الإسلام علم الدين صالح بن شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني.
ثم تولى الحافظ ابن حجر في المحرم سنة سبع وعشرين.
ثم أعيد الهروي في ذي القعدة من السنة.
ثم أعيد ابن حجر في رجب سنة ثمان وعشرين.
ثم أعيد شيخنا البلقيني في صفر سنة ثلاث وثلاثين.
ثم أعيد ابن حجر في جمادى الأولى سنة أربع وثلاثين.
ثم أعيد شيخنا البلقيني في شوال سنة أربعين.
ثم أعيد ابن حجر في شوال سنة إحدى وأربعين.
ثم ولي شمس الدين القاياتي في المحرم سنة تسع وأربعين، فأقام إلى أن مات في المحرم سنة خمسين.
وأعيد ابن حجر.
ثم أعيد شيخنا البلقيني في أول المحرم سنة إحدى وخمسين.
ثم ولي ولي الدين السقطي في نصف ربيع الأول من السنة؛ ثم عزل.
وأعيد ابن حجر في ربيع الآخر سنة اثنتين وخمسين، ثم عزل نفسه في آخر جمادى الآخرة من السنة.
وأعيد شيخنا البلقيني في صفر سنة سبع وخمسين، فأقام إلى شوال سنة خمس وستين، فعزل.(2/174)
وأعيد المناوي ثم أعيد البلقيني في شوال سنة سبع وستين، فأقام إلى أن مات في سنة ثمان وستين.
وأعيد المناوي، ثم عزل في جمادى الآخرة سنة سبعين.
وولي صلاح الدين المكيني ربيب شيخنا البلقيني.
ثم عزل بعد ستة أشهر.
وولي بدر الدين أبو السعادات محمد بن تاج الدين بن قاضي القضاة جلال الدين البلقيني في أول سنة إحدى وسبعين، ثم عزل بعد أربعة أشهر.
وولي ولي الدين أحمد بن أحمد الأسيوطي في نصف جمادى الأولى من السنة فأقام خمس عشرة سنة، ثم عزل في جمادى الآخرة سنة ست وثمانين.
وولي الشيخ زكريا محمد الأنصاري السبكي.
وقد نظم محمد بن دانيال الموصلي إرجوزة فيمن ولي قضاء مصر من حين فتحت إلى عهد البدر بن جماعة، فقال:
يقول راجي كرم الله العلي ... محمد بن دانيال الموصلي (1)
من بعد حمد للعلي حاكم ... غامرنا بالجود والمراحم
ثم الصلاة بعد ترتيل اسمه ... على أحمد الهادي أمين حكمه (2)
وآله وصحبه العدول ... شهود حجة أحمد الرسول
فإنني ضمنت هذا الشعرا ... أنباء كل من تولى مصرا
من سائر القضاة والحكام ... مذ ملكتها ملة الإسلام (3)
من لدن ابن العاص أعني عمرا ... لفتحها إلى هلم جرا (4)
_________
(1) أوردها ابن حجر في رفع الإصر 1: 2-4، وقال: أنبأنا أبو الحسن علي بن أبي بكر بن سليمان مشافهة عن أبي عمرو بن أبي عبد الله بن إسحاق الكناني، قال: "أنشدنا ابن دانيال لنفسه".
(2) رفع الإصر: "على النبي الهادي".
(3) رفع الإصر: "دولة الإسلام".
(4) رفع الإصر: "من فتحها".(2/175)
لكنني اخترت الكلام الراجزا ... في حصرهم إذ كان لفظا موجزا (1)
أول من ولي القضا للحكم ... قيس فتى عدي بن سهم
وآل بعده لكعب عبس ... ثم لعثمان بغير لبس
ثم ولي سليم نجل عتر ... وبعده السائب نجل عمرو
ثم يليه عابس المرادي ... وبعده ابن النضر في البلاد
وآل بعده لعبد الرحمن ... ثم إلى مالك نجل خولان
ويونس من بعده ولي القضا ... ثم ولي أوس بعزم منتضى
ثم تولى الحكم عبد الرحمن ... ثم وليه بعد ذاك عمران
وبعده صار لعبد الأعلى ... وابن حديج ذي الفخار الأعلى (2)
ثم لعبد الله ذاك القاضي ... آل ومن بعده إلى عياض (3)
_________
(1) بعده في رفع الإصر:
ليغتدي عقدا من اللآلي ... ينفسه ذكر الجناب العالي
العالمي العاملي الأوحد ... بدر التمام ذو السنا محمد
أعني الكناني ابن إبراهيما ... السيد المفضل الكريما
قاضي القضاة وإمام العصر ... مفتي الفريقين بأرض مصر
تظمتها وسيلة إليه ... معتمدا دون الورى عليه
لأزال سترا مسبلا علينا ... يبعث فضل رفده إلينا
وها أنا بذكر ذاك مبتدي ... بحمد ذي الحمد البديع الصمد
(2) ط: "جريح"، وصوابه من الأصل ورفع الإصر.
(3) رفع الإصر.(2/176)
وعاد للقضا بحكم ثان ... ابن حجيرة الفتى الخولاني (1)
ثم إلى عياض آل ثانيه ... ثم لعبد الله غير وانيه
والحضرمي ثم للخيار ... ثم يزيد جاء في الآثار
وآل بعد توبة وخبر ... إلى ابن سالم بكل خير
هذا وفي عصر بني العباس ... صار نعيم ثابت الأساس
وعاد غوث بعد ذاك يحكم ... ثم ولي يزيد بعد فاعلموا
وعاد غوث قبل إبراهيما (2) ... والحضرمي بعده مأموما
ثم لإسماعيل نجل اليسع ... ثم تلاه الغوث خير تبع
وبعد هذا حكم المفضل (3) ... ثم أبو طاهر ذاك الأفضل
ثم المفضل الأمين حكما ... ثم ابن مسروق وما إن ظلما
ثم وليها بعده التجيبي (4) ... والعمري أيما نجيب
وبعده البكري وابن ألبكا ... ثم ابن عيسى وهو أزكى نسكا
والأسلمي حاكم الشريعة ... ثم ابن عيسى واسمه لهيعه
ثم لإبراهيم نجل القاري ... ثم لابن إبراهيم ذي الفخار
ثم لعيسى آلت الأحكام ... وبعده زهريها الإمام (5)
ثم ولي الأحكام نجل شداد ... وبعده الحارث خير الأجواد (6)
وبعد ما ولي دحيم الأمصار (7) ... صار لها قاضي القضاة بكار
هذا ونجل عبدة تولى (8) ... ثم أبو زرعة لما ولى
_________
(1) رفع الإصر: "نجل حجيرة".
(2) رفع الإصر: "قبل إبراهيما".
(3) رفع الإصر: "ولي المفضل".
(4) رفع الإصر: "ثم وليى من بعده التجنيبي".
(5) رفع الإصر: "هارون الإمام".
(6) رفع الإصر: "خير من جاد".
(7) رفع الإصر: "الأنصار".
(8) رفع الإصر: "محمد بن عبدة تولى".(2/177)
ثم ابن عبدة تولى الحكما ... وكان فيه بالمحل الأسمى
ثم ابن حرب وأبو الذكر حكم ... قبل الكريزي زمانا في الأمم
والجوهري، وهو نعم القاضي ... ومن به قد وقع التراضي
وبعده أحمد وابن أحمدا ... وأحمد ثانية فيه اغتدى
وصرفوه بابن زبر فقضى ... من قبل إسماعيل فيما قد مضى
ثم ابن مسلم ونجل حماد ... والسرخسي والصيرفي بإسناد
وبعد عبد الله نجل زبر ... ولي أبو بكر جميع الأمر
ثم ابن زرعة ونجل بدر ... من قبل عبد الله نجل زبر
ثم ابن بدر بعد عبد الله ... أمسى عليها آمرا وناهي
ثم أبو ذكر تولى والحسن ... وبعده الكشي في ذاك زمن
وبعد ذا ابن أخت وليد لم يزل ... حاكمها والعدل عنه ما عدل (1)
وبعده ولي القضا ابن الحداد (2) ... وبعده ابن أخت وليد قد عاد
وبعد ذاك ولد الخطيب ... ولي القضا وولد الخصيب
وبعده محمد قد حكما ... ثم أبو الطاهر فيما علما
الدولة المصرية:
وبعد هذا ولد النعمان (3) ... ونجله في ذلك الزمان
ثم أبنه وصنوه الحسين ... ولم يشنه في القضاء شين
وبعد ذاك مالك تولى ... ثم أبو العباس فيما يتلى
وقاسم ثم أبو الفتح ولي ... وهو بغير قاسم لم يعزل (4)
_________
(1) هذا البيت ساقط من رفع الإصر.
(2) رفع الإصر: "ثم تولى حكمها ابن الحداد".
(3) رفع الإصر: "وبعد ذاك".
(4) بعده في رفع الإصر:
وصرفوه بأبي محمد ... قبل أبي علي المسدد(2/178)
ثم ابن وهب جاءها في الإثر ... ونالها من قبل نجل ذكري (1)
ثم أعيد أحمد للحكم ... ثم ابن وهب فاستمع لنظمي
ثم ولي الحكم ابن عبد الحاكم ... ثم أعيد بعده للقاسم
ثم لعبد الحاكم الإمام ... وقاسم وجه بالأحكام
وبعده ولي القضا نجل أسد ... وبعده أحمد ذو الحكم الأسد
ثم أعيد ابن أبي كدينه ... لما ارتضوا سيرته ودينه
ثم علي بعده الميسر (2) ... ثم الرصافي الجميل الذكر
وبعده ولي القضا ابن وهب ... وابن أبي كدينة ذو اللب
وبعده المليجي في المدينة ... ولي القضا وابن أبي كدينه
ثم وليه بعده البازور ... وابن أبي كدنة بغير زور (3)
وبعده العرقي والقضاعي ... ولي القضا حقًّا بلا نزاع
ثم جلال الدولة ابن القاسم ... عاد فأضحى وهو خير حاكم (4)
وبعده نجل نباتة ولي ... وولد الكحال ذو التفضل
وبعده المليجي والمكرم ... ثم أبو الطاهر ذو التكرم
وبعده ولي القضا نجل ذكا ... وبعده الحسين وهو ذو الذكا
ثم ابن بدر وأبو الفضل قضى ... من بعده الصقلي وأبو الفضل الرضى
وبعده ابن ظافر تولى ... وابن الحسين ذو المقام الأعلى
ثم أبو الفتح ويوسف ولي ... وكان كل ذا محل أفضل
ثم وليه ولد الميسر ... أعني سناء الملك رب المفخر
_________
(1) في الأصل: "ذكر"، وما أثبته من رفع الإصر؛ وهو أحمد بن أبي محمد بن زكريا.
(2) ط: "المعري"، صوابه من الأصل ورفع الإصر.
(3) رفع الإصر: "وابن كدينة بغير زور".
(4) رفع الإصر: "عاد وولي وهو خير حاكم".(2/179)
ثم أبو الفخر ونجل جعفرا ... ثم محمد ولي بلا مرا
وبعد هذا ولي الرعيني ... ثم سنا الملك بغير مين
وبعده نجل عقيل لم يزل ... وابن حسين صار حاكم العمل
وابن سلامة ونجل المقدسي ... وكان فيها ذا محل أنفس
وابن مكرم ونجل عالي ... ثم ضياء الدين ذو الإفضال
ثم الأعز وأبو الفتح ولي ... وبعده أعيد نجل كامل
وبعد ذاك في زمان الغز ... ذوي الفخار والعلا والعز
وليه عبد الملك بن عيسى ... قبل علي أعني الفتى الرئيسا
ثم ابن عصرون تولى الحكما ... وعاد صدر الدين وهو الأسمى
والسكري وأبو محمد ... قبل ابن عين الدولة الممجد
ثم تولى يوسف السنجاري ... وجاء عز الدين في الآثار
وبعده موهوب -أعني الجزري ... والخونجي ثم العماد الحموي
ثم أعيد يوسف السنجاري ... ثم تلاه التاج ذو الفخار
وولي البرهان أعني الخضرا ... وعاد تاج الدين فيما غبرا
ثم ولي الأحكام محيي الدين ... وابن رزين ذو الحجى الرزين
وبعد عزله تولاه عمر ... أعني العلامي وبالعدل أمر (1)
ثم أعيد ابن رزين فحكم ... من بعد صدر الدين عدلا في الأمم
ثم الوجيه البهنسي للقضا ... عين بعد ذا التقى إذ قضى
وعندما استعفى لبعد القاهرة ... عن مصره خص بها أوامره
ثم الشهاب رفعوا محله ... واشخصوه من ربى المحله (2)
_________
(1) في الأصول: "العلاقي"، وصوابه من رفع الإصر.
(2) رفع الإصر: "واستحضروه من قضا المحلة".(2/180)
ولم يزل حتى توفاه الردى ... وولي الشام الفتى ابن أحمدا
ثم ولي القاضي التقي ابن خلف ... بعد الوجيه والشهاب المنصرف
وعزلوه عن قضاء القاهرة ... ثم وليه سيد السناجرة
ثم ولي التقى عبد الرحمن ... وبان بدر الدين لما أن بان
وعاد بدر الدين للشام ... ثم ولي الحكم الفتى العلامي
ولم يزل حتى توفاه القضا ... ثم ولي التقي أبو الفتح القضا (1)
وإذ أتاه نازل الحمام ... عاد إليها البدر في التمام
بدر منير كامل الأوصاف ... والمنهل العذب المنير الصافي (2)
لا برحت نافذة أحكامه ... وخلدت زاهرة أيامه (3)
قلت: وقد ذيلت عليه بمن جاء بعد ذلك، فقلت:
وبعد ذاك قد وليه الزرعي ... ثم أعيد البدر لما أن دعي
ثم وليه بعده القزويني ... وبعده ابن البدر عز الدين
وبعده نجل عقيل قد ولي ... ثم أعيد العز ذا تبجل
وبعده ولي أبو البقاء ... وبعده البرهان ذو ارتقاء
_________
(1) رفع الإصر: "الرضا".
(2) بعده في رفع الإصر:
قاضي القضاة حاكم الحكام ... واسطة العقود في النظام
(3) بعده في رفع الإصر:
ما لاح بدر كامل الإبدار ... وما انجلى الهلال من سرار
والحمد لله على إنعامه ... وفضل ما سدد من أحكامه
وأفضل الصلاة والسلام ... على النبي سيد الأنام
وآله وصحبه وعترته ... وكل من أخلص في محبته(2/181)
وبعده البدر هو السبكي ... ثم أتى برهاننا الزكي
ثم أعيد البدر ذو التحقق ... ثم وليه الناصر ابن الميلق
ثم وليه صدرنا المناوي ... ثم أعيد البدر ذو الفتاوي
ثم تولاه العماد الكركي ... ثم أعيد الصدر ذو التمسك
ثم أعيد البدر ثم الصدر ... ثم الزبيري وعاد الصدر
ثم وليه بعد ذاك الصالحي ... ولم يكن في علمه بالراجح
ثم وليه ولد البلقيني ... عالم عصره جلال الدين
ثم أعيد الصالحي النائي ... ثم ولي محمد الإخنائي
وبعده عاد الجلال للقضا ... ثمت الأخنائي وهو من مضى
ثم الجلال بعده الباعوني ... ثم الجلال باذل الماعون
ثم ولي الهروي فالجلالي ... ثم العراق وهو ذو الكمال
ثم وليه العلم البلقيني ... فحافظ العصر شهاب الدين
ثم أعيد الهروي ثم استقر ... من بعد عزله شهاب ابن حجر
ثم أعيد شيخنا فابن حجر ... ثم أعيد شيخنا فابن حجر
ثم وليه بعده القاياتي ... ثم أعيد حافظ السنات
ثم أعيد شيخنا البلقيني ... ثم أتى السفطي ولي الدين
ثم أعيد بعد ذاك ابن حجر ... ثم أعيد شيخنا ثم استقر
من بعد ذاك الشرف المناوي ... وشيخنا من بعد ذو الفتاوي
ثم أعيد بعد ذاك الشرف ... ثم أعيد شيخنا فالشرف
ثم الصلاح وهو المكيني ... ثم ولي البدر هو البلقيني(2/182)
ثم السيوطي ولي الدين ثم ... للشيخ أعني زكريا الحكم عم (1)
_________
(1) وفي رفع الإصر: "وقد ذيل عليها بعض أصحابنا إلى عصرنا، فسرد الشافعية على منوال ابن دانيال، ثم سرد القضاة الثلاثة مذهبا بعد مذهب إلى عصره، وهذا صورة ما نظم في قضاة الشافعية: أنشدنا العز أحمد بن إبراهيم العسقلاني لنفسه مكاتبة قال:
والزرعي والبدر والقزويني ... والعز والبها وعز الدين
أبو البقا البرهان ثم البدر ... وعاد برهان لها وبدر
وبعده ابن الميلق المناوي ... والبدر والعماد والمناوي
وبعده هذا البدر والمناوي ... ثم الزبيري مع المناوي
والصالحي مع جلال الدين ... والصالحي ثم شمس الدين
ثم جلال الدين والإخنائي ... ثم جلال الدين والإخنائي
ثم جلال الدين ثم الشمس ... ثم جلال الدين ثم الشمس
ثم الجلالي ولي الدين ... والعلمي مع شهاب الدين
والهروي مع شهاب الدين ... والعلمي مع شهاب الدين
عين الوجود ثم رأس المحتفي ... ومن به منصبه تشرفا
كم قلد الأعناق منا منه ... مواسي القلب الضعيف منه
وأوصل الإجداء في الإجداب ... واستعمل الإغضاء في الإغضاب
دام علاه في سما السعود ... ما أمطرت بوارق الرعود
وسيأتي ما نظمه في قضاة المذاهب، أما المؤلف فلم يعقد فصلا لقضاة الشافعية.(2/183)
ذكر قضاة الحنفية:
أول من ولي منهم زمن الظاهر بيبرس في سنة ثلاث وستين وستمائة صدر الدين سليمان بن أبي العز.
وولي بعده معز الدين النعمان بن الحسن، إلى أن مات في شعبان سنة اثنتين وتسعين.
وولي شمس الدين محمد السروجي، ثم عزل أيام المنصور لاجين.
وولي حسام الدين الحسن بن أحمد الرازي، ثم عزل سنة ثمان وتسعين.
وأعيد السروجي، ثم عزل في ربيع الآخر سنة عشر وسبعمائة.
وولي شمس الدين محمد بن عثمان الحريري إلى أن مات في جمادى الآخرة سنة ثمان وعشرين.
وولي برهان الدين إبراهيم بن عبد الحق، وقال بعض الشعراء في ذلك:
طوبى لمصر فقد حل السرور بها ... من بعد ما رميت دهرًا بأحزان
كنانة الله قد قام الدليل على ... تفضيلها من نبي حق ببرهان
ثم عزل في جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين.
وولي حسام الدين الحسن بن محمد الغوري، ثم عزل في سنة اثنتين وأربعين.
وولي زين الدين عمر البسطامي، ثم عزل في جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين.
وولي علاء الدين التركماني إلى أن مات في المحرم سنة خمسين.
وولي ولده جمال الدين عبد الله إلى أن مات في شعبان سنة تسع وستين.
ولي سراج الدين عمر بن إسحاق الهندي إلى أن مات في رجب سنة ثلاث وسبعين.(2/184)
وولي صدر الدين محمد بن جمال الدين التركماني، إلى أن مات في ذي القعدة سنة ست وسبعين.
وولي نجم الدين أحمد بن العماد إسماعيل بن الكشك، طلب من دمشق في المحرم سنة سبع وسبعين، ثم عزل.
وولي صدر الدين علي بن أبي العز الأذرعي، ثم استعفي فأعفي.
وولي شرف الدين أحمد بن منصور الدمشقي، ثم عزل نفسه في سنة ثمان وسبعين.
وولي جلال الدين جار الله إلى أن مات في رجب سنة اثنتين وثمانين.
وولي صدر الدين محمد بن علي بن منصور إلى أن مات في ربيع الأول سنة ست وثمانين.
وولي شمس الدين محمد بن أحمد الطرابلسي، ثم عزل نفس سنة اثنتين وتسعين.
وولي مجد الدين إسماعيل بن إبراهيم الكناني، ثم عزل في شعبان سنة اثنتين وتسعين.
وولي جمال الدين محمود القيصري إلى أن مات في ربيع الأول سنة تسع وتسعين.
وأعيد الطرابلسي إلى أن مات في آخر الستة.
وولي الجمال الدين يوسف بن موسى الملطي، طلب من حلب في ربيع الآخر سنة ثمانمائة، فأقام إلى أن مات في ربيع الآخر سنة ثلاث.
وولي أمين الدين عبد الوهاب بن قاضي القضاة شمس الدين الطرابلسي، ثم عزل في رجب سنة خمس.
وولي كمال الدين عمر بن العديم إلى أن مات في جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة.(2/185)
وولي ابنه ناصر الدين محمد، ثم عزل في رجب من السنة.
وأعيد الأمين بن الطرابلسي، ثم عزل في المحرم سنة اثنتي عشرة.
وأعيد ناصر الدين بن العديم، ثم عزل في سنة خمس عشرة.
وولي صدر الدين علي بن الآدمي إلى أن مات في رمضان سنة ست عشرة.
وأعيد ابن العديم إلى أن مات في ربيع الآخر سنة تسع عشرة.
وولي شمس الدين الديري، طلب من القدس، ثم عزل في ذي القعدة سنة اثنتين وعشرين.
وولي زين عبد الرحمن بن علي التفهني، ثم عزل في ربيع الآخر سنة تسع وعشرين.
وولي بدر الدين العيني، ثم عزل في صفر سنة ثلاث وثلاثين.
وأعيد التفهني، ثم عزل في جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين.
وأعيد العيني، ثم عزل في سنة اثنتين وأربعين.
وولي سعد الدين بن الديري، فأقام إلى ان عزل قبل موته بيسير في شوال سنة ست وستين.
وولي محب الدين بن الشحنة، ثم عزل في رجب سنة سبع وستين.
وولي بدر الدين بن الصواف الحموي إلى أن مات آخر العام، وأعيد ابن الشحنة، ثم عزل في جمادى الآخرة سنة سبعين.
ولي البرهان ابن الديري، ثم عزل.
وأعيد ابن الشحنة في أول سنة إحدى وسبعين، ثم عزل في سنة ست وسبعين.
وولي شمس الدين محمد بن الحسن الأمشاطي، إلى أن مات في رمضان سنة خمس وثمانين.(2/186)
وولي شرف الدين موسى بن عيد، طلب من دمشق، فأقام دون الشهرين، ومات من واقع وقع عليه من الزلزلة بالمدرسة الصالحية في المحرم سنة ست وثمانين.
وولي شمس الدين محمد بن المغربي، ثم عزل في رمضان سنة إحدى وتسعين.
وولي القاضي ناصر الدين الإخميمي (1) .
_________
(1) وفي قضاة الحنفية نظم أحمد بن إبراهيم العسقلاني هذه الأرجوزة، ونقلها ابن حجر في رفع الإصر 1: 17:
وابن أبي العز معز الدين ... ثم السروجي حسام الدين
ثم السروجي مع الحريري ... ثم ابن عبد الحق ثم العوري
والزين والعلا جمال الدين ... كذلك الهندي صدر الدين
والنجم والصدر كذا ابن منصور ... والجار والصدر هو ابن منصور
والشمس والمجد كذاك العجمي ... والشمس ثم الملطي فاعلم
ثم أمين الدين والعديمي ... ونجله الأمين والعديمي
والآدمي وابن العديم يا فتى ... عينيهم، والسعد بعده أتى(2/187)
ذكر قضاة المالكية:
أول من ولي منهم زمن الظاهر شرف الدين عمر بن السبكي، إلى أن مات سنة سبع وستين وستمائة.
وولي بعده نفيس الدين بن شكر إلى أن مات سنة ثمانين وستمائة.
وولي تقي الدين بن شاس، إلى أن مات في ذي الحجة سنة خمس وثمانين.
وولي زين الدين بن مخلوف النويري إلى أن مات سنة خمس وسبعمائة.
وولي نور الدين علي بن عبد النصير السخاوي، إلى أن مات في جمادى الأولى سنة ست وخمسين.
وولي تقي الدين محمد بن شاس، إلى أن مات في شوال سنة ستين وسبعمائة.
وولي تاج الدين محمد بن القاضي علم الدين محمد بن أبي بكر بن الأخنائي إلى أن مات في أول سنة ثلاث وستين.
وولي أخوه برهان الدين بن إبراهيم، إلى أن مات في رجب سنة سبع وسبعين.
وولي ابن أخيه بدر الدين عبد الوهاب بن الكمال أحمد، ثم صرف في ذي القعدة سنة ثمان وسبعين.
وولي علم الدين سليمان بن خالد البساطي، ثم عزل في صفر سنة تسع وسبعين.
وأعيد البدر الأخنائي، ثم صرف في رجب من السنة.
وأعيد البساطي في سنة ثلاث وثمانين.
وولي جمال الدين عبد الرحمن بن محمد بن خير السكندري، وقال بعضهم في ذلك:
قالوا تولى ابن خير ... فقيه ثغر الرباط
فقلت: ذا فيض خير ... من بعد خير البساط(2/188)
ثم عزل في جمادى الآخرة من سنة ست وثمانين.
وولي عبد الرحمن بن خلدون، ثم عزل في جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين.
وأعيد ابن خير إلى أن مات سنة إحدى وتسعين.
وولي تاج الدين محمد بن يوسف الكركي، إلى أن مات في شوال سنة ثلاث وتسعين.
وولي شهاب الدين النحريري، ثم عزل في ذي الحجة من السنة.
وولي ناصر الدين أحمد بن محمد التنسي، إلى أن مات في رمضان سنة إحدى وثمانمائة.
وولي ولي الدين بن خلدون، ثم عزل في المحرم سنة ثلاث.
وولي نور الدين علي بن الخلال إلى أن مات من عامه.
وولي جمال الدين عبد الله الأقفهسي، ثم عزل بعد شهر.
وأعيد ابن خلدون، ثم عزل في شعبان سنة أربع.
وولي جمال الدين يوسف البساطي، ثم صرف في ذي الحجة من نفس السنة.
وأعيد ابن خلدون، ثم صرف في ربيع الأول من سنة ست.
وأعيد البساطي، ثم صرف في رجب سنة سبع.
وأعيد ابن خلدون، ثم صرف في ذي القعدة من عامه.
وأعيد الجمال الأقفهسي.
ثم ولي جمال الدين عبد الله القاضي ناصر الدين التنسي في مستهل ربيع الأول سنة ثمان، ثم عزل بعد يومين.
وأعيد البساطي، ثم صرف في رمضان من عامه.
وأعيد ابن خلدون، ثم لم يلبث أن مات فيه.(2/189)
وأعيد جمال الدين التنسي، ثم صرف في سادس عشر من شوال.
وأعيد البساطي، ثم صرف في شوال سنة اثنتي عشرة.
وولي شمس الدين محمد بن علي المدني ثم صرف في ربيع الآخر سنة ست عشرة.
وولي شهاب الدين الأموي، ثم أعيد الجمال الأقفهسي إلى أن مات في جمادى الأولى سنة ثلاث وعشرين.
وولي العلامة شمس الدين البساطي، فأقام إلى أن مات في رمضان سنة اثنتين وأربعين.
وولي بدر الدين بن القاضي ناصر الدين التنسي إلى أن مات في صفر سنة ثلاث وخمسين.
وولي ولي الدين السنباطي، إلى أن مات في رجب سنة إحدى وستين.
وولي حسام الدين بن جرير إلى أن مات سنة ثلاث وسبعين.
وولي أخوه سراج الدين ثم عزل، وولي البرهان اللقاني، ثم عزل في جمادى سنة ست وثمانين.
وولي صاحبنا محيي الدين بن تقي (1) .
_________
(1) ونظم أيضا أحمد بن إبراهيم العسقلاني في قضاة المالكية، ونقله ابن حجر في رفع الإصر 1: 18، 19:
والحسني وابن شكر وابن شاس ... ثم ابن شكر قد تلا ابن شاس
ثم ابن مخلوف تقي تاج ... ثم السخاوي تلاه التاج
وبعد البرهان بدر وعلم ... أعني البساطى وبدر وعلم
ثم ابن خلدون مع خير ... بهرام ثم العدني النحريري
ثم ابن خلدون مع البساطي ... ثم ابن خلدون مع البساطي
ثم ابن خلدون مع البساطي ... والتنسي هكذا البساطي
ثم ابن خلدون جمال الدين ... ثم البساطي ثم شمس الدين
ثم البساطي المدني الأموي ... ثم الجمال والبساط المحتوي
ابن التنسي والبساطي ولوه ... وابن جرير بعده أخوه(2/190)
ذكر قضاة الحنابلة:
أول من ولي منهم زمن الظاهر شمس الدين محمد بن العماد الجماعيلي، ثم عزل سنة سبعين وستمائة، ولم يل الوظيفة بعد عزله أحد حتى توفي سنة ست وسبعين.
وولي عز الدين عمر بن عبد الله بن عوض في جمادى الآخرة سنة ثمان وسبعين، إلى أن مات سنة ست وتسعين.
وولي شرف الدين عبد الغني بن يحيى الحراني، إلى أن مات في ربيع الأول سنة تسع وسبعمائة.
وولي الحافظ سعد الدين الحارثي، ثم عزل في ربيع الأول سنة اثنتي عشرة.
وولي تقي الدين بن قاضي القضاة عز الدين عمر، ثم عزل.
وولي موفق الدين عبد الله بن محمد المقدسي في جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين، إلى أن مات في المحرم سنة تسع وستين.
وولي ناصر الدين نصر الله بن أحمد العسقلاني، إلى أن مات في شعبان سنة خمس وتسعين.
وولي ابنه برهان الدين إبراهيم، إلى أن مات في ربيع الأول سنة اثنتين وثمانمائة.
وولي أخوه موفق الدين أحمد بن نصر الله، ثم صرف.
وولي نور الدين علي الحكري (1) ، ثم صرف.
وأعيد موفق الدين إلى أن مات في رمضان سنة ثلاث وثمانمائة.
وولي مجد الدين سالم ثم صرف في سنة ثماني عشرة.
وولي علاء الدين علي بن مغني، إلى أن مات في صفر سنة ثمان وعشرين.
_________
(1) في الأصول: "الكرى"، وما أثبته من النجوم الزاهرة 7: 134.(2/191)
وولي محب الدين أحمد بن نصر الله البغدادي، ثم صرف في جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين.
وولي عز الدين عبد العزيز بن علي البغدادي، ثم صرف في سنة إحدى وثلاثين.
وأعيد محب الدين إلى أن مات في جمادى الأولى سنة أربع وأربعين.
وولي بدر الدين محمد بن عبد المنعم البغدادي، إلى أن مات في جمادى الأولى سنة سبع وخمسين.
وولي شيخنا عز الدين أحمد بن قاضي القضاة برهان الدين بن قاضي القضاة نصر الله إلى أن مات في سنة ست وسبعين.
وولي تلميذه البدر السعدي (1) .
_________
(1) وفي قضاة الحنابلة نظم أيضا أحمد بن إبراهيم العسقلاني، هذا الرجز، ونقله ابن حجر في رفع الإصر 1: 20:
وابن العماد قد تلاه ابن عوض ... عبد الغني والحارثي وابن عوض
ثم موفق الدين تلاه الناصر ... ثم ابنه، ثم أخوه الآخر
وبعده الحكري والموفق ... وسالم ثم ابن فعله يلحق
ثم محب ثم عز والمحب ... والبدر والناظم نال ما يحب(2/192)
ذكر وزراء مصر:
اعلم أن الوزارة وظيفة قديمة كانت للملوك من قبل الإسلام؛ بل من قبل الطوفان، وكانت للأنبياء؛ فما من نبي إلا وله وزير، قال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} ، وقال تعالى مخاطبًا له: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا} .
وكان للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وزراء؛ روى البزار والطبراني في الكبير عن ابن عباس، قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله أيدني بأربعة وزراء اثنين من أهل السماء: جبريل وميكائيل، واثنين من أهل الأرض: أبي بكر وعمر".
وقد وردت الأحاديث في وزراء الملوك، روى أبو داود عن عائشة، قالت: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا أراد الله بالأمير خيرًا جعل له وزير صدق؛ إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه، وإذا أراد الله به غير ذلك جعل له وزير سوء؛ إن نسي لم يذكره، وأن ذكر لم يعنه".
ولم تكن الوزارة في صدر الإسلام إلا للخلفاء دون أمراء البلاد، فكان وزير أبي بكر الصديق عمر بن الخطاب، ووزير عمر ووزير عثمان مروان بن الحكم؛ ذكره ابن كثير في تاريخه.
ووزير عبد الملك روح بن زنباع، ووزير سليمان بن عبد الملك عمر بن عبد العزيز.
قال ابن كثير: وكان رجاء بن حيوة وزير صدق لأمراء بني أمية. ووزير هشام بن عبد الملك فمن بعده عبد الحميد بن يحيى؛ غير أنه لم يكن أحد في عهده يلقب بالوزير، ولا يخاطب بوصف الوزارة.(2/193)
وأول من لقب الوزير في الإسلام أبو سلمة حفص بن سليمان الخلال، وزير الخليفة السفاح، أول خلفاء بني العباس.
وقال ابن فضل الله في المسالك: لم تكن للوزارة رتبة تعرف مدة بني أمية وصدرًا من دولة السفاح، بل كان كل من أعان الخلفاء على أمرهم، يقال له:
فلان وزير فلان؛ بمعنى أنه موازر له، لا أنه متولي رتبة خاصة يجري لها قوانين، وتنتظم بها دواوين.
وأول من فخم قواعد الملك في هذه الأمة، وعظم عوائد السلطان عبد الملك بن مروان؛ إذ لم يستتب الأمر لأحد بعد عثمان بن عفان كما استتب له، وكان منه إلى معاوية خبط عشواء، وأما معاوية فعمرو بن العاص، وإن كان له وزرًا ورداء، فإنه أجل قدرا وأعظم أمرا من أنه يجري معه مجرى الوزراء، إذ كان لا يزال كالممتن عليه لانحيازه إلى جمعه مع ما يكنه (1) له في شرفه ... وسابقته (2) في الإسلام.
وأول من دعي بالوزير في دولة السفاح أبو سلمة حفص سليمان الخلال؛ وكان يقال له: وزير آل محمد؛ ثم إن أبا مسلم الخراساني بعث إليه من قتله، وفيه قيل هذا البيت:
إن الوزير وزير آل محمد ... أودى فمن يشناك كان وزيرًا
ووزر للسفاح بعده أبو الجهم بن عطية، وخالد بن برمك، وسليمان بن مخلد، والربيع بن يونس.
ووزر للمنصور أبو أيوب المورياني وعبد الجبار بن عبد الرحمن، والربيع بن يونس، وخالد بن برمك، وسليمان بن مخلد، وعبد الحميد (3) .
ووزر للمهدي معاوية بن عبد الله الطبري، ويعقوب بن داود بن طهمان، والفيض بن صالح.
_________
(1) ط: "تكنه".
(2) كذا في الأصل بعد بياض، وفي ح، ط: "وما أبقاه".
(3) كذا في الأصول.(2/194)
ووزر للهادي الربيع بن يونس، والفضل بن الربيع، وإبراهيم بن ذكوان.
فلما استخلف الرشيد ولَّى الوزارة يحيى بن خالد البرمكي، وقال له: فوضت إليك (1) أمر الرعية، وخلعت ذلك من عنقي، وجعلته في عنقك، فول من شئت، واعزل من شئت؛ وقال إبراهيم الموصلي في ذلك:
ألم تر أن الشمس كانت سقيمة ... فلما ولي هارون أشرق نورها
تبسمت الدنيا جمالا بملكه ... فهارون واليها ويحيى وزيرها
ومن هذا الوقت عظم أمر الوزارة. ولم تكن قبل ذلك بهذه المثابة؛ وهي عن الخلافة في معنى السلطنة عن الخلافة الآن؛ وكانت البرامكة كلهم في معنى الوزراء، للرشيد خالد بن برمك، وأولاده يحيى والفضل وجعفر؛ حتى قال سلم الخاسر:
إذا ما البرمكي غدا ابن عشر ... فهمته أمير أو وزير
ثم لما قتل الرشيد البرامكة، استوزر الفضل بن الربيع بن يونس، وفي ذلك يقول أبو نواس:
ما رعى الدهر آل برمك لما ... أن رمى ملكهم بأمر فظيع
إن دهرا لم يرع عهدا ليحيى ... غير راع ذمام آل الربيع
ووزر للأمين الفضل أيضا.
ووزر للمأمون الفضل بن سهل ذو الرياستين، وأخوه الحسن بن سهل، وأحمد ابن أبي خالد، وعمرو بن مسعدة.
ووزر للمعتصم الفضل بن مروان، وأحمد بن عمار، ومحمد بن عبد الملك الزيات. ووزر للواثق محمد بن عبد الملك الزيات.
_________
(1) ح: "لك".(2/195)
ووزر للمتوكل محمد بن عبد الملك أيضا، والفتح بن خاقان، ومحمد بن الفضل الخراساني، وعبيد الله بن يحيى بن خاقان.
ووزر للمنتصر أحمد بن الخصيب.
ووزر للمستعين ابن الخصيب، وسعيد بن حميد.
ووزر للمعتز جعفر الإسكاف وعيسى بن فروخ شاه، وأحمد بن إسرائيل.
ووزر للمهتدي.
ووزر للمعتمد عبيد الله بن يحيى بن خاقان، والحسن بن مخلد وسليمان بن وهب، وابنه عبيد الله بن إسماعيل بن بلبل.
قال محمد بن عبد الملك الهمداني في كتاب عنوان السير: وزر للمعتضد أبو القاسم عبيد الله بن سليمان بن وهب، ثم ابنه أبو الحسين القاسم، وهو أول وزير لقب في الدولة، فإن المعتضد لقبه ولي الدولة، وتوفي في زمن المكتفي، فوزر له أحمد أبو العباس بن الحسن بن أحمد بن أيوب، وهو أول وزير منع أصحاب الدواوين من الوصول إلى الخليفة.
ووزر للمقتدر أبو الحسن علي بن محمد بن الفرات ثلاث مرات، وأبو علي محمد بن الوزير أبي الحسن عبيد الله بن خاقان، وأبو الحسن علي بن عيسى بن داود بن الجراح مرتين. قال الصولي: ولا أعلم أنه وزر لبني العباس وزير يشبهه في زهده وعفته وتعبده، كان يصوم نهاره، ويقوم ليله، وكان يسمى الوزير الصالح (1) .
وقال الذهبي في العبر (2) : كان في الوزراء كعمر بن عبد العزيز في الخلفاء. وأبو محمد حامد بن العباس، وكان له أربعمائة مملوك يحملون السلاح، ولكل منهم عدة مماليك،
_________
(1) نقله ابن الطقطقي في الفخري 236، والعبارة هناك: "وما أعلم أنه وزر لبني العباس وزير يشبه علي بن عيسى في زهده وعفته، وحفظه للقرآن وعلمه بمعانيه وكتابته وحسابه وصدقاته ومبرراته".
(2) العبر 2: 238.(2/196)
وكان يخدمه على بابه ألف وسبعمائة راجل وعشرون حاجبا، يجري مجرى الأمراء (1) .
وأبو العباس أحمد بن عبيد الله ابن الوزير أبي العباس بن الخصيب، وأبو علي محمد بن أبي العباس بن مقلة صاحب الخط المنسوب، ولما خلع عليه بالوزارة قال نفطويه النحوي:
إذا أبصرت في خلع وزيرًا ... فقل أبشر بقاصمة الظهور
بأيام طوال في بلاد ... وأيام قصار في سرور
وأبو علي الحسين بن الوزير أبي الحسين القاسم بن الوزير عبيد الله، ولقب عميد الدولة، وأبو القاسم سليمان بن الوزير، وأبو محمد الحسن بن مخلد بن الجراح، وأبو الفتح الفضل بن جعفر بن محمد بن الفرات المعروف بابن حنزابه، هؤلاء وزراء المقتدر.
ووزر للقاهر أبو علي بن مقلة، وأبو العباس بن الخصيب، وأبو جعفر محمد بن الوزير القاسم بن الوزير عبيد الله.
ووزر للراضي أبو علي بن مقلة، وابنه علي أبو الحسين شريكًا مع أبيه؛ فكانت الكتب يكتب عليها: "من أبي علي وعلي بن أبي علي". ولم يل الوزارة أصغر سنًا من علي هذا، فإنه ولي وسنه ثماني عشرة سنة. وأبو الفتح الفضل بن الفرات، وأبو علي
_________
(1) قال في الفخري: "وكما عرف المقدر قلة فهم حامد، وقلة خبرته بأمور الوزارة أخرج إليه علي بن عيسى بن الجراح من السجن، وضمه إليه، وجعله كالنائب له، فكان علي بن عيسى لخبرته هو الأصل؛ فكل ما يعقده ينعقد، وكل ما يحله ينحل، وكان اسم الوزارة لحامد، وحقيقتها لعلي بن عيسى؛ حتى قال بعض الشعراء:
قل لابن عيسى قولة ... يرضى بها ابن مجاهد
أنت الوزير وإنما ... سخروا بلحية حامد
جعلوه عندك سترة ... لصلاح أمر فاسد
مهما شككت فقل له ... كم واحدا في واحد(2/197)
عبد الرحمن بن عيسى بن داود بن الجراح، وأبو القاسم سليمان بن الجراح، وأبو جعفر محمد بن القاسم الكرخي وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن يعقوب البريدي. وفي أيام الراضي تغلب محمد بن رائق، وولي إمارة الأمراء، وصارت الكتب تؤرخ عن ابن رائق، وتقدم على الوزير، فسقط حكم الوزارة من ذلك الوقت.
ووزر للمقتفي علي بن مقلة، وأبو القاسم سليمان بن الجراح، وأبو جعفر الكرخي وأبو عبد الله البريدي، وأبو الحسين أحمد بن محمد بن ميمون الأفطس (1) ، وأبو إسحاق محمد بن أحمد القراريطي الإسكافي، وأبو العباس أحمد بن عبد الله الأصفهاني.
ووزر للمستكفي أبو الفرج محمد بن علي السريري. قال الهمداني: وصادره توزون على ثلاثين ألف دينار. وانتقلت الوزارة من كتاب الخلفاء إلى كتاب الديلم، فلم يخاطب بوزير غيرهم، وكتب أبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن الشيرازي للمستكفي، وكتب أبو نصر إبراهيم بن الوزير أبي الحسن علي بن علي بن عيسى للمطيع، وكتب أبو الحسن علي بن جعفر الأصبهاني للطائع، وبعده أبو القاسم عيسى بن الوزير أبي الحسن علي بن عيسى، وبعده أبو الحسن علي بن عبد العزيز بن حاجب النعمان، وخوطب برئيس الرؤساء.
وكتب أيضا للقادر، وبعده ابنه أبو الفضل، وبعده أبو طالب محمد بن أيوب ولقب عميد الرؤساء.
وكتب أيضا للقائم وبعده رئيس الرؤساء أبو القاسم علي بن أبي الفرج الحسن بن مسلمة، وخوطب وزير أمير المؤمنين؛ وهو الذي استدعى الغزالي إلى بغداد، وأزال دولة بني بويه.
ووزر بعده للقائم أبو الفتح منصور بن أحمد بن داوست الشيرازي، وهو أول من خوطب بالوزير لدار الخلافة في الدولة السلجوقية، ووزر بعده فخر الدولة أبو نصر محمد بن محمد بن جهير الموصلي.
ووزر أيضا للمقتدي، وبعده ولده عميد الدولة شرف الدين أبو منصور محمد،
_________
(1) ح، ط: "الأخطس"، وما أثبته من الأصل.(2/198)
وعزل بالوزير أبي شجاع ظهير الدين محمد بن الحسين، ثم عزل وأعيد عميد الدولة.
وقال أبو شجاع حين عزل:
تولَّاها وليس له عدو ... وفارقها وليس له صديق
ووزر للمستظهر عميد الدولة، وسديد الملك أبو المعالي الفضل بن عبد الرزاق الأصبهاني، وأخو عميد الدولة زعيم الرؤساء أبو القاسم علي بن محمد بن جهير، وأبو المعالي هبة الله بن محمد بن علي بن المطلب، ونظام الدين أبو منصور الحسين بن أبي شجاع.
ووزر للمسترشد ابنه عضد الدولة أبو شجاع، وسنه تسع عشرة سنة وستة أشهر، ولم يل الوزارة أصغر منه، وأبو نصر أحمد بن نظام الملك، وعميد الدولة جلال الدين أبو علي الحسن بن صدقة، وشرف الدين صدر الإسلام أبو شروان بن خالد القاساني؛ وهو الذي كلف الحريري تصنيف المقامات، وشرف الدين يمين الدالة أبو القاسم علي بن طراد الزينبي العباسي؛ قال الهمداني: ولم يل الوزارة عباسي سواه، ولقب معز الإسلام عضد الدولة الإمام صدر الشرق والغرب وكذا قال ابن كثير: لا يعرف أحد من العباسيين باشر الوزارة غيره.
وأما الراشد فلم يرتب له وزير مراقبة للعسكري، وكان المتولي لأمره (1) ناصح الدولة بهاء الدين أبو عبد الله الحسين بن جهير أستاذ الدار إذ ذاك، وجلس للمظالم في بيت التوبة جلوس الوزراء، ووزر له بالمعسكر جلال الدين بن نوشروان، وما تمت وزارته، ووزر له جلال الدين أبو الراضي بن صدقة.
ووزر للمقتفي شرف الدين الزينبي، ونظام الدين أبو نصر المظفر بن الزعيم علي بن جهير، وعون الدين أبو المظفر يحيى بن هبيرة، وهو مصنف كتاب الإفصاح، وكان من خيار الوزراء وعلمائهم، وكان يبالغ في إقامة الدولة العباسية وحسم مادة الملوك
_________
(1) ح: "أمره".(2/199)
السلجوقية عنهم بكل ممكن، حتى استقرت الخلافة بالعراق كله، ليس للملوك معهم حكم بالكلية، ولله الحمد.
ووزر للمستنجد بن هبيرة المذكور إلى أن مات سنة ستين وخمسمائة، فوزر بعده شرف الدين أبو جعفر بن البلدي، ولقب جلال الدين معز الدولة.
ووزر للمستضيء عضد الدولة رئيس الرؤساء محمد بن عبد الله بن المظفر، وقيماز المستنجدي، وعضد الدولة بن رئيس الرؤساء بن المسلمة.
ووزر للناصر أبو المظفر جلال الدين عبد الله بن يونس الحنبلي، ومؤيد الدين أبو الفضل محمد بن علي بن القصاب، وعز الدين أبو المعالي سعيد بن علي بن حديدة الأنصاري، ونصير الدين ناصر بن مهدي العلوي، ومؤيد الدين محمد بن عبد الكريم القمي.
ووزر للظاهر القمي هذا.
ووزر للمستنصر القمي أيضًا، وشمس الدين أبو الأزهر أحمد بن محمد بن الناقد، ونصير العلقمي.
ووزر للمستعصم نصير الدين محمد بن الناقد إلى أن مات سنة اثنتين وأربعين وستمائة. فلما مات استوزر مؤيد الدين أبا طالب محمد بن أحمد بن العلقمي، وهو الوزير المشئوم على الخليفة، وعلى بقية بني العباس، وعلى سائر المسلمين وعلى نفسه أيضًا؛ فإنه الذي مالأ التتار، حتى قدموا وأخذوا بغداد، وقتلوا الخليفة، وجرى ما جرى، وقال فيه بعضهم:
يا فرقة الإسلام نوحوا واندبوا ... أسفًا على ما حل بالمستعصم
دست الوزارة كان قبل زمانه ... لابن الفرات فصار لابن العلقمي(2/200)
وقال ابن فضل الله في ترجمته: وزير وليته ما وزر، وارتفع رأسه وليته رض بالحجر، كمن كمون الأرقم، وسقى الناس من كأسه العلقم.
وأما مصر فكانت إمرة بلا وزارة إلى أيام السلطان أحمد بن طولون، فعظم أمرها، ووزر لخمارويه أبو بكر محمد بن رستم الماذرائي الكاتب.
ووزر لكافور الإخشيدي أبو الفضل جعفر بن الفرات المعروف بابن خنزابه.
ووزر للمعز جوهر القائد.
وللعزيز أبو الفرج يعقوب بن يوسف بن كلس، وكان يهوديًّا فأسلم، وفوض إليه الأمور في سائر مملكته، قال ابن زولاق: هو أول من وزر للدولة العبيدية بالديار المصرية، وكان من جملة كتاب كافور، فلما مات حزن عليه العزيز حزنا شديدًا، وأغلق الديوان من أجله، وكانت وفاته سنة ثمانين وثلثمائة.
ووزر بعده نصراني يقال له: عيسى بن نسطورس، ثم قبض عليه.
ووزر للظاهر أبو القاسم علي بن أحمد الجرجرائي في سنة ثماني عشرة وأربعمائة إلى أن مات في زمن المستنصر سنة ست وثلاثين، فوزر بعده أبو نصر صدقة بن يوسف الفلَّاحي، وكان يهوديًّا فأسلم، وفيه يقول الحسن بن خاقان الشاعر المصري:
حجاب وإعجاب وفرط تصلف ... ومد يد نحو العلا بتكلف
فلو كان هذا من وراء كفاية ... عذرنا ولكن من وراء تخلف
وكان معه أبو سعد التستري اليهودي يدبر الدولة له، فقال بعض الشعراء:
يهود هذا الزمان قد بلغوا ... غاية آمالهم وقد ملكوا
العز فيهم والمال عندهم ... ومنهم المستشار والملك
يا أهل مصر إني نصحت لكم ... تهودوا قد تهود الفلك(2/201)
ثم عزل الفلاحي سنة تسع وثلاثين؛ ووزر بعده أبو البركات الحسين بن محمد بن أحمد الجرجرائي ابن أخي الوزير صفي الدين، ثم صرف في شوال سنة إحدى وأربعين.
ووزر القاضي أبو محمد الحسن بن علي البازوري مضافا لقضاء القضاة، ولقب الناصر للدين، غياث المسلمين الوزير لأجل المكين سيد الرؤساء تاج الأصفياء قاضي القضاة، وداعي الدعاة، وفي أيامه سأله المستنصر أن يكتب اسمه معه على السكة، فكان ينقش عليها:
ضربت في دولة آل الهدى ... من آل طه وآل ياسين
مستنصر بالله جل اسمه ... وعبده الناصر للدين
"سنة كذا"، وطبعت عليها الدنانير نحو شهر، فأمر المستنصر ألا تسطر في البر. ثم عزل البازوري، عن الوزارة والقضاء في المحرم سنة خمسين.
ووزر أبو الفرج عبد الله بن محمد البابلي، ثم صرف في ربيع الأول من السنة.
ووزر أبو الفرج محمد بن جعفر المغربي، ثم صرف في رمضان سنة اثنتين وخمسين.
وأعيد البابلي، ثم صرف في المحرم سنة ثلاث وخمسين.
ووزر أبو الفضل عبد الله بن يحيى بن المدبر ثم صرف في رمضان.
ووزر أبو محمد عبد الكريم بن عبد الحاكم أخو قاضي القضاة إلى أن مات في المحرم سنة أربع وخمسين.
ووزر أخوه أبو علي أحمد مصروفا عن القضاء، ثم صرف في شوال، وأعيد أبو الفرج البابلي، ثم صرف في المحرم سنة خمس وخمسين.
وأعيد أبو علي أحمد بن عبد الحاكم، مضافا للقضاء، ثم صرف في صفر، وأعيد أبو الفضل بن المدبر، فمات في جمادى الأولى من السنة.
ووزر أبو غالب عبد الظاهر بن الفضل بن الموفق المعروف بابن العجمي، ثم صرف في شعبان.(2/202)
ووزر الحسن بن مجلي بن أسد بن أبي كدينة مضافا للقضاء، ثم صرف في ذي الحجة.
ووزر أحمد بن عبد الحاكم مضافًا للقاء، ثم صرف في المحرم سنة ست وخمسين.
ووزر أبو المكارم المشرف بن أسعد بن عقيل، ثم صرف في ربيع الآخر.
وأعيد أبو غالب عبد الظاهر، ثم صرف في رجب.
ووزر أبو البركات الحسين بن عماد الدولة بجرجراي، ثم صرف في رمضان وأعيد الحسن بن مجلي، ثم صرف في ذي الحجة.
ووزر أبو علي الحسن بن أبي سعد إبراهيم بن سهل التستري، ثم صرف.
ووز محمد بن جعفر المغربي ثم صرف.
ووزر جلال الملك ثم صرف.
ووزر خطير الملك بن الوزير البازوري، ثم صرف وأعيد ابن أبي كدينة، ثم صرف في سنة ست وستين.
وولي الوزارة التستري، ثم صرف في نصف المحرم سنة سبع وخمسين.
ووزر أبو شجاع محمد بن الأشرف أبو غالب محمد بن علي بن خلف، ثم صرف ثاني يومه عنها، وأعيد ابن أبي كدينة، ثم صرف بعد أربعة أيام.
وأعيد أبو شجاع بن الأشرف، ثم صرف في نصف ربيع الأول.
ووزر سديد الدولة أبو القاسم هبة الله بن محمد الرحبي، ثم صرف في ربيع الآخر.
وأعيد ابن أبي كدينة، ثم صرف في رجب.
وأعيد أبو المكارم المشرف بن أسعد، ثم صرف في شوال.
ووزر الأمير أبو الحسن علي بن الأنباري، ثم صرف في ذي الحجة.
وأعيد سديد الدولة هبة الله، ثم صرف في ربيع الآخر سنة ثمان وخمسين.(2/203)
ووزر جلال الملك أحمد بن عبد الكريم مضافًا للقضاء، ثم صرف بعد أيام.
وزر أبو الحسن بن طاهر بن وزير، ثم صرف بعد أيام.
ووزر أبو عبد الله محمد بن أبي حامد التنسي يومًا واحدا، ثم صرف.
ووزر أبو سعد منصور بن زنبور ثم هرب بعد أيام.
ووزر أبو العلاء عبد الغني بن نصر بن سعيد، ثم صرف بعد أيام.
وأعيد ابن أبي كدينة.
وولي الوزارة أمير الجيوش بدر بن عبد الله الجمالي، وإليه تنسب قيسارية أمير الجيوش، والعامة يقولون: "مرجوش"، وهو باني الجامع الذي بثغر الإسكندرية بسوق العطارين، فأقام إلى أن مات سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، فقام في الوزارة ولده الأفضل أبو القاسم شاهنشاه، فوزر للمستنصر بقية أيامه وللمستعلي وصدرًا من ولاية الآمر، ثم إنه قتل، ضربه فداوى وهو راكب، وذلك في رمضان سنة خمس عشرة وخمسمائة. قال ابن خلكان: وترك من الأموال ما يفوق العد من ذلك من الذهب العين ستمائة ألف ألف دينار، ومن الفضة مائتين وخمسين أردبا، وسبعين ألف ثوب ديباج أطلس، ودواة ذهب فيها جوهر باثني عشر ألف دينار، وخمسمائة صندوق للبس بدنه، وصندوقان كبيران فيهما إبر ذهب برسم النساء، ومن سائر الأنواع ما لا يعلم قدره إلا الله.
وقام في الوزارة مكانه أبو عبد الله محمد بن مختار بن بابك البطائحي، ولقب المأمون، وهو باني الجامع الأقمر، وله صنف الإمام أبو بكر الطرطوشي كتاب سراج الملوك، ثم قبض عليه الآمر، وقتله في سنة تسع عشرة.
وقام في الوزارة أبو علي بن الأفضل، ولقب أمير الجيوش، فلما ولي الحافظ استحوذ الوزير على الأمور دونه، وحصر الحافظ في موضع لا يدخل عليه إلا من يريده، ونقل الأموال من القصر إلى داره، ولم يبق للحافظ سوى الاسم فقط، ودعا لنفسه على المنابر(2/204)
بناصر أيام الحق، هادي العصاة إلى أتباع الحق، مولى الأمم، ومالك فضيلتي السيف والقلم. وخطب للمهدي المنتظر آخر الزمان، فلم يزل كذلك إلى أن قتل في العشرين من المحرم سنة خمس وعشرين، قتله مملوك إفرنجي للحافظ بأمره.
واستوزر بعده مملوكه أبا الفتح بالبس الحافظي، ولقب أمير الجيوش أيضا، ثم تخيل منه الحافظ، فدس عليه من سمه في ماء الاستنجاء، فمات.
واستوزر بعده ابنه الحسن -أعني ابن الحافظ الخليفة- وكان ولي عهد أبيه، فأقام ثلاثة أعوام، يظلم ظلما فاحشا؛ حتى إنه قتل في ليلة أربعين أميرا، فخافه أبوه، فدس عليه من سمه، فهلك في سنة تسع وعشرين.
ثم استوزر بهرام الأرمني النصراني، ولقب تاج الدولة، فتمكن في البلاد، وأساء السيرة، فقبض عليه الحافظ، وسجنه.
واستوزر بعده رضوان بن الوحشي، ولقبه الملك الأفضل، ولم يلقب وزير بذلك، قبله، ثم وقع بينه وبين الحافظ، فقتله سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، واستقل بتدبير أموره وحده من غير وزير.
فلما ولي الظافر سنة أربع وأربعين وخمسمائة، استوزر أبا الفتح بن فضالة بن المغربي، ولقب أمير الجيوش، فأحسن السيرة، ثم قتل سنة خمس وأربعين.
ووزر ابن سلار، ولقب الملك العادل، ثم قتل من عامه.
ووزر ابن نصر عباس الصنهاجي، فدس عليه الظافر من قتله فقتل هو أيضا.
فلما أقيم الفائز وزر له طلائع بن زريك، وتلقب بالملك الصالح، وهو صاحب الجامع بجوار باب زويلة، وخلع عليه الأفضل أمير الجيوش بدر الجمالي من الطيلسان المقور، وكتب له تقليد من إنشاء الموفق أبي الحجاج يوسف بن علي بن الخلال، وهذه صورته:
بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فالحمد لله المنعم على المخلصين من أوليائه بسوابغ(2/205)
آلائه، والمتكفل لمن نصره بنصره وتثبيت قدمه وإعلائه، الممهد لمن قام بحقه أرفع مراتب الدنيا والآخرة، والموضح لمن حامى عن الدولة الفاطمية آيات التأييد الباهرة، والجامع القلوب على طاعة من أطاعه في الدفاع عن أهل بيت نبيه، والمحسن إلى من أحسن إلى مهجته غيرة لأئمة الهدى المصطفين من عترة وصيه، والمذلل الصعاب لمن رفع راية الإيمان ونشرها، والميسر الطلاب لمن أحيا كلمة التوحيد وأنشرها، ممن احب الله ورسوله ممن اصطفاه من أبرار عباده،
والماحي إساءة من أعلن ببيان الحق وجهر بعباده، والمعرض من أسعده بالسبق إلى مرضاته، لنيل غايات المن الجسيم والمرتب من جاء في ذاته، في أرفع مراتب الإجلال والتفخيم، والموجب لمن أخلص منه وأحسن عملا تعجيل مقام الفخر الكريم، وتأجيل الخلود في النعيم، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
والحمد لله الذي أوضح أنوار الحقائق بأنبيائه الهداة، وأبان برسله الأمناء لعباده مناهج النجاة، وجعل العمل بمراشدهم ذريعة الموقنين إلى علي المنازل ورفيع الدرجات، وختمهم بأفضلهم نفسًا ومحتدا، وأحقهم بأن يكون لكفاتهم سيدا، محمد هادي الأنام، والداعي إلى الإسلام، والمخصوص بانشقاق القمر وتظليل الغمام، وأورث أخاه وابن عمه باهر شرفه وبارع علمه، وأفرده بإمامة البشر وخص، وأقرها فيه في عقبه إلى يوم القيامة بجلي النص، فأصبحت الإمامة للملة الحنيفية قواما، ولأسباب الشريعة بأسرها نظاما، ونقل الله نورها في أئمة الهدى من نسله فتناولها الآخر من الأول، وتلقاها الأكمل عن الأكمل، فكلما رام معاند بحيف نورها، أو قصد منافق إخفاء ظهورها، زاد أنوارها إشراقا، ووجد لبدورها كمالا واتساقا، ومكن قواعد دولتها وإن زحزحها الغادرون، وإن جهد في حلها الماكرون، يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم، والله متم نوره ولو كره الكافرون.(2/206)
والحمد لله الذي حفظ بأمير المؤمنين نظام الخلافة واتساقها، وحمى لميامنه دوحة الإمامة وأبقى نضرتها وإبراقها، وأورث خصائص الأئمة الراشدين في آبائه، وأودعه سرائر دينه المصونة في صدور أنبيائه، وأيده بموارد الإرشاد والإلهام، وجعل طاعته فرضًا مؤكدا على كافة الأنام، وخصه بالتوفيق والعصمة، وأفاض للأمة به سجال الرحمة، وأبرم بأمانته أمر الملة، وأحكم معاقد الدين، وجعله من هداته، قال جل وعلا فيهم: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} .
يحمده أمير المؤمنين على ما نقله إليه من خصائص آبائه الأئمة الأطهار، وأيده به في أنصار دعوته من العلو والاستظهار، واتخذه به من جنود السماء والأرض، وأظهر له من معجزاته وآياته، وأظهر بمزيته من مظاهر الظفر لألويته وراياته.
ونسأله أن يصلي على جده محمد نبيه الأمين، ورسوله المبعوث في الأميين، الهادي إلى جنات النعيم، والمحيطة متابعته بالفوز العظيم، الذي جلى الله ظلمات الجهالة بمبعثه، وشرف الأئمة من ذريته بمقامه ومورثه، ورد النافر إلى الطاعة بالبر والإيناس، وجعله خير رسول إلى خير أمة أخرجت للناس.
وعلى أخيه وابن عمه أبينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قسيمه في المناسب والفضائل، وثالثه في تشفيع الذرائع والوسائل، ومفرج الكرب عنه بموازرته وصدق كفاحه، وباب مدينة علمه الذي لا يوصل إليه إلا باستفتاحه، وعلى الأئمة من ذريتهما الذين بلغ الله بهم الأرب والسؤال، وأغنى الأئمة بهداهم عن التقفية بعده برسول، والعترة المصطفين، وأحد الثقلين، وبحار العلم الزاخرة، والمرجوين لصلاح الدنيا والآخرة، وسلم ومجد، ووالى وردد.
وإن أمير المؤمنين لما مهده الله من ذوي الشرف الباذخ، وحازه لمنصبه من الفخر(2/207)
الأصيل والمجد الشامخ، وأفرد به من خلافته على العالمين، وأورثه إياه من غوامض الحكم التي لا يعقلها إلا أعيان العالمين، وحباه به من ضروب الوجاهة والكرامة، وأفاضه عليه من أنوار الإمامة، وواصله (1) إليه من العناية الشاملة والبر الخفي، وجمعه له من الإحسان الجلي واللطف الخفي، وأقره من مواهب الفضل والإفضال لديه، وجعل في كل حركة وسكون دليلًا واضحا يشير إليه، يقدر نعم الله حق قدرها، ويواصل العكوف على الاعتداد بها ونشرها، ويبالغ في شكرها قولًا وعملا ونية، ويجهد نفسه في حمدها اجتهادًا يرجو به درك الأمنية، ويتحقق أن أسماها محلًّا وقدرا، وأولاها على كافة البرية ثناء وشكرا، وأعلاها قيمة، وأعمها نفعا وأعذبها ديمة، وأجمعها لضروب الجدل والاستبشار، وأجدرها بأن تؤثر في الأمم أحسن الآثار، وأوسعها في مضمار الاعتداد مجالًا، وأعظمها على الرئيس والمرؤوس نفعا وجمالا. النعمة بك أيها السيد الأجل والتغوث والدعاء إذ كنت نجدة الله المذخورة لأمنائه على خلقه، والقائم دون البرية بما افترضه عليهم من مظاهرة أمير المؤمنين والأخذ له بحقه، واللطف الذي كان في الإمامة ومن إعدامها حاجزًا، والنصر الذي أصبح به أمير المؤمنين بعون الله فائزا، وحزب الله القاهر الغالب، وشهاب أمير المؤمنين الصائب الثاقب، وظله الذي يفيء على العام
والخاص، ومنهل فضله الذي يصفو ويعذب لذوي الولاء والإخلاص، وسيفه الذي يستأصل ذوي الشقاق والنفاق، ويده التي ينبعث منها ينابيع العطاء وسحائب الأرزاق، والولى الذي ارتضاه أمير المؤمنين للمصالح كفيلا، والصفي الذي لا تبغي دولته عن موازرته تبديلا ولا تحويلا.
فعلو قدرك عند أمير المؤمنين لا ينتهي إلى أمد محدود، وقيامك في الأخذ بحقه يتجاوز كل سعي مبرور ومقام محمود، ودعائمه بنصرك الله في طاعته يصفو عنده كل
_________
(1) ح: "وأوصل إليه".(2/208)
عظيم في مجافاتك، وشفاؤك صدر أمير المؤمنين من أعدائه، أعجز القدرة عما يشفي غليله في إحسان مجازاتك.
ولقد حزت من المآثر ما فقت به أهل عصرك قدمًا وسبقًا، وسموت بجمالك إلى ذرى مجد لا تجد الهمم العلية إلى تمنيها مرقا، وما زلت في كل أزمنتك سلطانا مهيبا، وفردا في المجالس لا تدرك له الأقمار ضريبا، ومطاعًا تبارك بأنبائه الأندية والمحافل، وهماما تخضع باسمه المهائب وتذعن الجحافل، وسيدا تلقى إليه مقاليد التقدمة والسيادة، ومعظما ليس على ما خصه الله به من التعظيم موضع الزيادة.
وكشف الله أمرك في الولاء فدعاك الأئمة ظهيرًا، وزاد في إنعامه على الأمة فارتضاك لهداة أهل بيته معينا ونصيرا، ووفر نصيبك من الفضائل والمناقب فوهبك منها ما أفاضه عليك شرفا، وأحظى الملوك بتمكنك منهم وكونك لهم فخرًا وشرفا، فلا رتبة علاء إلا وقد فرعتها منزلًا، ولا منزلة سناء إلا وقد سموت إليها منتقلا، ولا مزية فضل إلا احتويت عليها وحزتها، ولا منزلة فخر إلا طلتها بفضائلك وجزتها، ولا مأثرة إلا وكنت فاتح بابها، ولا منزلة خطيرة إلا وأنت مستوجبها وأولى بها، ولا سماة مجد إلا وخصائلك طالعة في آفاقها أقمارا، ولا موقف فضل إلا ولك فيه تقدم لا تنازع فيه ولا تمارى، فما يوجد مقدم إلا وقد فضلته بآثارك وتقدمته، ولا مميز إلا أسمته في جناب فضلك ورسمته.
تقلدت جلائل الأمور فلبستها نباهة وتقويما، وباشرتها فأحرزت بمناقبك جلالة ووجاهة وتفخيما، تجرجر بك الرتب أذيال الفخر والإجلال، وتزهى بأفعالك التي يبعث عليها ما أوتيته من شرف الجلال.
ولم تزل تدابير أولياء الدولة ورجالها بفضائل سياستك فتثبت لهم الأقدام، وتكسبهم عزة النفوس فيستهينوا في حق الانتصار بك بملاقاة الحمام.(2/209)
ورمى الله بك طغاة الكفار بتأييد الإسلام، واختارك للمجاهدة عن الملة فأصبحت بك مرفوعة الأعلام، وأبدت الأعداء الجوامع الباكيات من المحايد والمخاوف وأعمال الحسام؛ فلو تراخى بك الأمل في جهادهم لكنت لجملهم مستأصلا، ولغدوت لهم عن الأعمال السامية بعرفانك فاضلا، فأثرك فيهم الأثر الذي لم يبلغه مجاهد، وما فللت في هامهم من حد العضب الصارم بباسل ناطق وبجدل شاهد.
فما يبلغ التعداد ما جمعته من المناقب والفضائل، ولا يستولي الإحصاء على مالك من المفاخر التي لا يحيط بها أحد من الملوك الأوائل، فتجمع زهد الإبدال إلى همم الأكاسرة، وتوفق في أعمالك بين ما يقضي بصلاح الدنيا وحسن ثواب الآخرة، فأنت البر التقي النقي الحسيب، الظاهر المبرأ من كل دنس وعيب، والمرضي خالقه بالأفعال التي لا ينجو بها لبس ولا ريب، وواحد الدنيا لا يسامى ولا يطاول، والملك الأوحد الذي برعت أدوات كماله فما يشابه ولا يماثل.
جعلتك الفضائل غريبًا في الأنام، وخصك الحظ السعيد بفطرة تهرب فتهرب أن تأتي بمثلها الأيام، وحويت من الأخلاق الملوكية ما قصر بعظماء الملوك عن مجاراتك، واقتنيت من الحكم والمعارف ما جعل كافة العلماء مفترقين بعظم فضيلة ذاتك، وقرنت بين من عزه إذفرار البيت ولطافة حكم القلم، وكاثرت فيك المعجزات لجمعك ما افترق من مفاخر الأمم.
فما أشرف ما أفردك الله به من كمال الشجاعة والبراعة، وتوحدك بمجده من معجزات تصنيف الصارم واليراعة، فسيفك مؤيد في قط العضو والهام، وقلمك ماض في البلاغتين مضاء لا يدرك إلا بالإلهام، فكم مقام جلال وجلاد فرجته بعضب وبنان، وموقف خطاب وضراب كشفت غمته بسن قلم وسنان.
فسبحان من أفردك باستكمال المآثر، وجمع لك من المحاسن ما أعجز وصفه جهد(2/210)
الناظم والناثر، وآتاك غاية شرف النفس وكرم الأصل، ومكنك من كل منقلة بإحراز السبق وإدراك الحصل، وأطلعك من أفق علاء تكاثرت سعوده،
وأستخلصك من منصب سناء سما فأعجز النجم صعوده، وانتخبك من بيت عز غدت دعائمه لذات السمهرية وظلاله صفحات القبض المشرفية، وحشاياه صهوات الجرد الأعوجية.
ولقد كان وقع التحامل على الحضرة ببعدك عن فنائها، وحسدت على قربك منها لما يعلم من متابعتك لها، وإغراقك في ولائها، وحاد بك عن موضعك من الاختصاص بها من قصد اهتضامها، وأفسد لسوء عقيدته نظامها، وصلمها على أنك لم تخل بنصرتها على بعد الدار، بل نصرت الحق حيث كان، ودرت معه حيث دار. وقد كان أمير المؤمنين حين أبهمت الأمور، وحرجت الصدور، وحارت الألباب، واستشرف للارتياب، يرجو من الله أن يفجأه منك بالفرج القريب، ويصمي أعداءه من عزمك بالسهم المصيب، واستجاب الله دعاءه فيك بما ماثل دعاء جده رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضاهى، وحصل في ذلك على معنى قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} .
ولما أذهب الله بك أيها السيد الأجل الملك الصالح عن دولة أمير المؤمنين غايات العي، وأدرك بها ثار أولياء الله من ذوي المباينة والبغي، وأحسن له الصنيع بموازرتك، وبلغه مظافرتك ومكانفتك لما أحاط الخبرة بأرجائه، وفقه من التعويل عليك لما كان غاية رجائه، فقلدك من وزارته، وفوض إليك تدبير مملكته وكفالته، وجعلك إمارة جيوشه الميامين، وكفالة قضاة المسلمين، وهداية دعاة المؤمنين، وتدبير ما هو مردود إليهم من الصلاة والخطابة وإرشاد الأولياء المستجيبين، والنظر في كل ما أغدقه الله من أمور أوليائه أجمعين، وجنوده وعساكره المؤيدين، وكافة رعاياه بالحضرة وجميع أعمال المملكة دانيها وقاصيها، وسائر أحوال الدولة باديها وخافيها، وكل ما تنفذ فيه أوامره،(2/211)
تبوح بشعاره منابره، ورد إليك تدبير ما وراء سرير خلافته، وسياسة ما تحتوي عليه أقطار مملكته، وألقى إليك مقاليد البسط والقبض، والرفع والخفض، والإبرام والنقض، والقطع والوصل، والولاية والعزل، والتصرف والصرف، والإمضاء والوقف، والغض والتنبيه، والإخمال والتنويه، وجميع ما يقتضيه صواب التدبير من الإنعام والإرغام، وما توجبه أحكام السياسة من الإباء والإتمام، تيمنًا بما يحقق مبالغتك من متابعته، واجتهادك في إعلامنا ودعوته، وعلمًا بأن التوفيق لا يعدو وراك، والمسعود لا يفارق أنحاك.
فتقلد ما قلدك أمير المؤمنين من هذه الرتب العالية، والمنزلة التي قرب عليك تناولها أعمالك الزاكية، والمنصب الذي تحكم (1) فيه بأمر أمير المؤمنين وتنطق بلسانه (2) ، وتبطش (3) بيده وتحب وتبغض بقلبه وجنانه، جاريًا على رسمك في تقوى الله وخشيته، واتباع مرضاته واستشعار رجعته، ومنتجزًا ما عد به في كتابه، إليه ينتهي الحكم (4) وينتسب (5) ، إذ يقول تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (6) .
والعساكر المنصورة فهم أشياع الدين، وأعضاد دولة أمير المؤمنين، وأبناء دعوة آبائه الراشدين، والقائمون بمدافعة الأعداء عن حوزة الدولة العلوية، والمدخرون لكفاح المباين للملكة الفاطمية، والمنادون بشعارها في كل وقت وحين، والمعدّون للذب عن بيضة المسلمين، وأنصار الخلافة، وطاردو الوجل والمخافة، المصطلون نيران الحرب والكفاح، ذوو القلوب في المواقف التي تهتز فيها السيوف، وتضطرب كعوب
_________
(1) ط: "يحكم"، بالمبني للمجهول.
(2) ط: "وينطق".
(3) ط: "وتبطن".
(4) بعدها في ط: "إليه".
(5) ح: "وينسب".
(6) سورة الطلاق: 2.(2/212)
الرماح، والممنوحون مزية اللطف لحسن معتقدهم في الطاعة، والمستعملون في خدمة ولي نعمتهم جهد الطاقة والاستطاعة.
ومنهم الأمراء الأكابر، والأعيان الأخاير (1) ، وولاة الأعمال وسداد الثغور، واللائقة بهم سوامي الرتب ومعالي الأمور، والأولياء الذين سلمت موالاتهم من الشوائب، واشتملوا على غرر المآثر والمناقب، والأنجاد الذين يندفع بهم الخطب الملم، والكفاة الذين يتسرعون إلى ما يندبون له من كل مهم، وما زلت تحسن لهم الوساطة في المحضر والمغيب، ويشيع ذكرهم بما يتضوع نشره ويطيب، وتسفر لهم بما يبلغون به آمالهم، وتجهد في توفير المنافع عليهم، وتحرص على إيصالها لهم لا سيما الآن وجميع أمرهم إليك مردود، وقد ظهر لك إخلاصهم في الطاعة مقامهم المشهور وسعيهم المحمود؛ فهم خليقون منك بمضاعفة المكرمة والتبجيل، جديرون بتوفير حظهم من الإحسان الجزيل.
فتوخى كلًّا منهم بما يقتضيه له حاله، وتستدعيه نهضته واستقلاله، وتعرب لهم عما يمنون به من محض طاعتهم، وصريح مسابقتهم، وتسرعهم إلى مقارعة الأعداء والمخالفين، وتمسكهم بحبل الولاء المتين.
فأما القضاة والدعاة فأنت كافلهم وهاديهم، وعلمك محيط بقاصيهم ودانيهم، وتأنيك (2) يبعثك على استكفاء إعفائهم وديانتهم، ويمنعك من استعمال المفضولين في علم وأمانة، ويحضك على التعويل على ذوي النزاهة والصيانة.
فأما الأموال وهي عماد الدول وقوامها، وبها يكون استثبات أمورها وانتظامها، ويستعان بها على الاستكثار من الرجال والأنصار، وبوفورها تقوم المهابة في نفوس مماليك
_________
(1) ط: "الأجابر".
(2) ح: "وتأتيك".(2/213)
الأطراف والأمصار؛ وأمير المؤمنين يرجو أن تتضاعف بنظرك، وتنمي لفاضل سياستك وحمد أثرك، تتسع بإذن الله في أيامك العمارة؛ وتتوافر بما ينعم الأعمال بحسن تأنيك من البهجة والنضارة.
والرعايا فهم ودائع الله عند من استحفظ أمورهم، وعياله الذين يتعين على ولاة الأمر أن يشرحوا بالرعاية صدورهم، وتأكيد الوصايا بتخفيف الوطأة عنهم، والأمر بالعدل والاحسان على الصغير والكبير منهم؛ وقد خصك الله بالكمال، وحبب إليك الإحسان والإجمال، بغايات تنتج لك من أبواب المصالح ما لا تحيط به الوصايا، ويشترك في عائدة نفعه الخواص والأجناد والرعايا. وقدرك يجل أن نكثر لك بالقول ما نبتدع أضعافه بأفعالك المستحسنة، ومحلك مرتفع عن التنبيه إذ لا تلم بعين رعايتك إغفاءة (1) ولا سنة.
والله سبحانه يؤيد الدولة العلوية بعزماتك الثاقبة، ويعيد عليها حقوقها بسيوفك القاضية وآرائك الصائبة، ويجعل أمد عمرك مديدًا، وإقبالك في كل وقت جديدا، وأعمالك مرتضاة عند الله متقبلة، ووفود المنا إلى جنابك متوالية مقبلة، فاعمل به إن شاء الله تعالى.
وكتب أمير المؤمنين الفائز على طرة السجل بخطه ما نصه: "لوزيرنا السيد الأجل الملك الصالح من جلالة القدر، وعظم الأمر وفخامة الشأن، وعلو المكان،
واستحباب (2) الفضل واستحقاق غاية المن الجزيل، ومزية الولي الذي بعثه على بذل النفس في نصرتنا، ودعاه دون الخلائق إلى القيام بحق متابعتنا وطاعتنا، ما يبعثنا على التبرع له ببذل كل مصون، والابتداء من ذاتنا بالاقتراح له كل شيء يسر النفوس ويقر العيون. والذي
_________
(1) ط: "أغواك"، تحريف صوابه من الأصل.
(2) ط: "واستيجاب".(2/214)
تضمنه هذا السجل من تقريظه وأوصافه، فالذي تشتمل عليه ضمائرنا أضعاف أضعافه؛ وكذلك شرفناه بجميع التدبير والإنالة، ورفعناه إلى أعلى رتب الاصطفاء بما جعلناه له من الكفالة، والله تعالى يعضد به دولتنا، ويحوط به حوزتنا، ويمده بمواد التوفيق والتأييد، ويجعل أيامه في وزارتنا ممنوحة بآيات الاستمرار والتأييد، إن شاء الله تعالى.
قلت: كانت الوزارة قديمًا تعدل السلطنة الآن، فإن الوزير كان نائب الخليفة في بلده، يفوض إليه جميع أمور المملكة، وتولية من رآه من القضاة ونواب البلاد وتجهيز العساكر والجيوش وتفرقة الأرزاق، إلى غير ذلك مما هو الآن وظيفة السلطان وكان الوزير يلقب بألقاب السلطنة الآن كالملك الصالح ونحوه، وقد تقهقر أمر الوزير حتى قال بعض وزراء القرن السابع: الوزير الآن عبارة عن "حوش كاش عفش" يشتري اللحم والحطب وحوايج الطعام، والأمر كما قال.
وأقام ابن رزيك وزيرا إلى أن قتل في رمضان سنة ست وخمسين في خلافة العاضد، وكان العاضد والفائز وكلاهما تحت حجره، فأقيم بعده في الوزارة ابنه رزيك، ولقب العادل، فأقام فيها سنة وأيامًا، وقتل.
ووزر بعده شاور بن مجير أبو شجاع السعدي، ولقب أمير الجيوش، وهو الوزير المشئوم الذي يضاهيه في الشؤم العلقمي وزير المستعصم؛ فإن هذا قد أطمع الفرنج في أخذ الديار المصرية، ومالأهم على ذلك، كما أن العلقمي هو الذي طمع التتار في أخذ بغداد، إلا أن لطف الله بمصر وأهلها، فقيض لهم عسكر نور الدين الشهيد، فأزاحوا الفرنج عنها، وقتل الوزير شاور بيد صلاح الدين يوسف بن أيوب؛ وقال بعض الشعراء في ذلك:
هنيئًا لمصر حوز يوسف ملكها ... بأمر من الرحمن قد كان موقوتا
وما كان فيها قتل يوسف شاورًا ... يماثل إلا قتل داود جالوتا(2/215)
وكان قتل شاور في ربيع الآخر سنة أربع وستين.
وولي الوزارة بعده الأمير أسد الدين شيركوه؛ ولقب الملك المنصور، لقبه بذلك العاضد، فأقام فيها شهرين وخمسة أيام، ومات في جمادى الآخرة.
فاستوزر العاضد بعده ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب، ولقب الملك الناصر، وقد تقدم ذكر الخليعة التي لبسها يومئذ. ثم إن صلاح الدين أزال دولة بني عبيد، وأعاد الخطبة لبني العباس في أول سنة سبع وستين، فصار لمصر أميرًا بعد أن كان وزيرًا.
وجعل وزيره القاضي الفاضل محيي الدين عبد الرحيم البيساني، فاستمر وزيرا له، ولولده الملك العزيز، ولولد العزيز الملك المنصور، إلى أن مات سنة ست وتسعين وخمسمائة.
فوزر بعده للعادل صفي الدين بن شكر الدميري، إلى أن عزل سنة تسع وستمائة.
ووزر للكامل ابن شكر أيضا، والحسن بن أحمد الديباجي.
ووزر للصالح جمال الدين علي بن جرير الرقي، ومعين الدين الحسن بن صدر الدين شيخ الشيوخ، وأخوه فخر الدين يوسف، والقاضي بدر الدين السنجاري، والقاضي تاج الدين بن بنت الأعز.
ووزر لشجرة الدر في دولتها بهاء الدين علي بن محمد بن سليم المعروف بابن حنا.
ووزر للمعز الأسعد -بل الأنحس الأشقى- هبة الله بن صاعد الفائزي، وكان هذا أول شؤم الأتراك في مملكتهم، أن عدلوا عن وزارة العلماء الأقباط والمسالمة، وكان الأسعد هذا نصرانيًّا فأسلم، فلما تولى الوزارة أحدث مكوسًا ومظالم كثيرة على نحو ما كانت في أيام العبيديين، ووزرائهم النصارى والرافضة، وقد كان السلطان صلاح الدين -رحمه الله- أبطلها فأحدثها هذا الملعون، وقد قال فيه بعضهم:(2/216)
لعن الله صاعدا ... وأباه فصاعدا
وبنيه فنازلا ... واحدًا ثم واحدا
ولما قتل المعز، وقبض على والده المنصور، أهين الأسعد هذا، ثم قتل في سنة خمس وخمسين.
وولي الوزارة للمظفر بعده القاضي بدر الدين السنجاري مضافًا لقضاة القضاة، ثم صرف من عامه عن الوزارة.
ووليها القاضي تاج الدين بن بنت الأعز، ثم صرف في ذي القعدة سنة سبع وخمسين.
ووزر رزين الدين يعقوب بن عبد الرفيع المعروف بابن الزبير، فأقام إلى أيام الظاهر بيبرس، فعزله عن الوزارة في ربيع الآخر سنة تسع وخمسين، واستوزر بعده الصاحب بهاء الدين بن حنا؛ فأقام وزيرا إلى أن مات الظاهر، وتولى ولده الملك السعيد، فأقره على الوزارة، وكتب له تقليدا من إنشاء القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر. وهذه صورته:
الحمد لله الذي وهب هذه الدولة القاهرة من لدنه وليا، وجعل مكان سرها وشد أزرها عليًّا، ورضي لها من لم يزل ربه مرضيًّا.
نحمده على نعمه التي أمسى بنا بره حفيًّا، ونشكره على أن جعل دولتنا جنة أورث تدبيرها من عباده من كان تقيا.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نسبح بها بكرة وعشيا، ونصلي على سيدنا محمد الذي آتاه الله الكتاب، وجعله نبيًّا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة نتبع بها صراطًا سويًّا.
وبعد، فإن أولى ما تنغمت به ألسنة الأقلام بتلاوة سوره، وتنعمت أفواه المحابر(2/217)
بالاستمداد لتسطير سيره، وتناجت الكرام الكاتبون بمجمله ومفصله، وتناشدت الرواة حسن نسيبه، وترنمت الحداة بطيب غزله، وتهادت الأقاليم تحف
معجله ومؤجله، وعنيت (1) وجوه المهارق لصعود كلمه (2) الطيب ورفع صالح عمله، ما كان فيه شكر لنعمة تمنها على الدولة سعادة جدودها وحظوظها، وإفادة مصونها ومحفوظها، وإرادة مرقومها بحسن الاستبداع (3) وملحوظها، وحمد لمنحة وافاتها بركة أحسنت للمملكة الشريفة مآلا، وقربت لها مثالا، وأصلحت لها أحوالا، وكاثرت مدد البحر وكلما أجرى ذلك ماء أجرت هي مالًا، وإن ضنت السحب أنشأت سحبًا، وإن قيل: سح سحها ورونق الأرض ذهب، عوضت عنه ذهبا، كم لها في الوجود من كرم وكرامة، وفي الوجوه من وسوم ووسامة، كم أحيت مهجًا، وكم جعلت للدولة من أمرها مخرجًا، وكم وسعت أملا وكم تركت صدر الخزائن ضيقًا حرجا، وكم استخدمت جيش تهجد في بطن الليل، وجيش جهاد على ظهور الخيل. وكم أنفقت في واقف في قلب بين الصفوف والحروب، وفي واقف في صفوف المساجد من أصحاب القلوب، كم سبيل يسرت، وسعود كثرت. وكم مخاوف أدبرت حين دبرت، وكم آثار في البلاد والعباد أبرت وأثرت. وكم وافت ووفت، وكم كَفَت وكَفَّت، وكم أعفت وَعَفَت وعفَّت. وكم بها موازين للأولياء ثقلت وموازين للأعداء خفت. وكم أجرت من وقوف وكم عرفت بمعروف. وكم بيوت عبادة صاحب هذه البركات هو محرابها، وسماء جود هو سيحانها ومدينة علم هو بابها. تثني (4) الليالي على تغليسه إلى المساجد في الحنادس، والأيام على تهجيره لعيادة مرضى الفقراء، وحضور جنائز وزيارة القبور الدوارس. يكتن تحت جناح عدله الظاعن والمقيم، ويشكر يثرب ومكة وزمزم والحطيم. كم عمت سنن تفقداته
_________
(1) ط: "وعنت".
(2) ط: "كلمة".
(3) ح: "الاستيداع".
(4) ح: "تنثني".(2/218)
ونوافله. وكم مرت صدقاته بالوادي فسح الله في مدته فأثنت عليه رماله، وبالنادي فأثنت أرامله (1) ، ما زار الشام إلا أغناه عن مسه المطر، ولا صحب سلطانه في سفر إلا قال. نعم الصاحب في السفر والحضر.
ولما كان المتفرد بهذه البركات هو واحد الوجود، ومن لا يشاركه في المزايا شريك، وإن الليالي بإيجاد مثله غير ولود. وهو الذي إن لم نسمه، قال سامع هذه المناقب: هو الموصوف، عند الله وعند خلقه معروف. وهذا الممدوح بأكثر من هذه الممادح، والمحامد من ربه ممدوح وممنوح.
والمنعوت بذلك، قد نعتته بأكثر من هذه النعوت الملائك، وإنما نذكر نعوته التذاذًا، فلا يعتقد كاتب ولا خاطب أنه وفى جلالته بعض حقها؛ فإنه أشرف من هذا. وإذا كان لا بد للمادح أن يجول، وللقلم أن يقول، فتلك بركات للمجلس العالي الوالدي الصاحبي الوزيري السيدي الورعي الزاهدي العابدي الذخري الكفيل المهدي المشيدي العوني القوامي النظامي الأفضلي الأشرفي العاملي العادلي البهائي، سيد الوزراء والأصحاب في العالمين، كهف العابدين، ملجأ الصالحين، شرف الأولياء المتقين، مدبر الدول، سداد الثغور، صلاح الممالك، قدوة الملوك والسلاطين، يمين أمير المؤمنين، علي بن محمد أدام الله جلاله، من تشرف الأقاليم بحياطة قلمه المبارك، والتقاليد بتجديد تنفيذه الذي لا يساهم فيه ولا يشارك، فما جدد منها إنما هو بمثابة آيات تزاد فتردد، أو بمنزلة أسجال في كل حين به يحكم وفيه يشهد؛ حتى تتناقل بثبوته الأيام والليالي، ولا يخلو جيد دولة أن يكون الحالي بما له من مفاخر اللآلئ، فلذلك خرج الأمر العالي لا برح بكسب بهاء الدين المحمدي أتم الأنوار، ولا برحت مراسمه تزهو من قلم منفذه بذي الفقر وذي الفقار؛ أن يضمن هذا التقليد الشريف بالوزارة التامة العامة الشاملة الكاملة
_________
(1) ط: "أرماله" تحريف.(2/219)
الشريفة الصاحبية البهائية أحسن التضمين، وأن ينشر منها ما يتلقى روايته كل رب سيف وقلم باليمين، وأن يعلم كافة الناس ومن يضمه طاعة هذه الدولة وملكها من ملك وأمير، وكل مدينة ذات منبر وسرير، وكل من جمعته الأقاليم من نواب سلطنة، وذوي طاعة مذعنة، وأصحاب عقد وحل، وذوي جنود وحشود، ورافعي أعلام وبنود، وكل راع ورعية، وكل من ينظر في الأمور الشرعية، وكل صاحب علم وتدريس، وتهليل وتقديس، وكل من يدخل في حكم هذه الدولة العالية من شموسها المضيئة، وبدورها المنيرة، ونجومها المشرقة وشهبها الثاقبة في الممالك المصرية والنوبية والساحلية، والكركية والشوبكية والشامية والحلبية، وما تداخل بين ذلك من ثغور وحصون وممالك.
إن القلم المبارك الصاحبي البهائي في جميع هذه الممالك مبسوط، وأمر تدبيرها به منوط، وعناية شفقته لها تحوط، وله النظر في أحوالها وأموالها، وإليه أمر قوانينها ودواوينها، وكتابها وحسابها ومراتبها، ورواتبها وتصريفها ومصروفها، وإليه التولية والصرف، وإليه تقدمة البدل والنعت والتوكيد والعطف، وهو صاحب الرتبة التي لا يحلها سواه، وسوى من هو مرتضيه من السادة الوزرانية، ومن سمينا غيره وغيرهم بالصحوبية.
فليحذر من يخاطب غيرهم بها أو يسميه، فكما كان والدنا الشهيد يخاطبه بالوالد خاطبناه بذلك وخطبناه، وما عدلنا عن ذلك بل عدلنا (1) ؛ لأنه ما ظلم من أشبه أباه، فمنزلته لا تسامى ولا تسام، ومكانته لا ترامى ولا ترام؛ فمن قدح في سيادته من حساده -أبادهم الله- زناد قدح أحرق بشرر شرره، ومن ركب إلى جلالته سيح سوء أغرق في
_________
(1) في الأصل "أعدلنا" تحريف.(2/220)
بحره، ومن فتل لسعادته حبل كيد فإنما فتله مبرمه لنحره.
فلتلزم (1) الألسنة والأقلام والأقدام في خدمته أحسن الآداب، وليقل المترددون: حطة إذا دخلوا الباب، ولا يغرنهم فرط تواضعه لدينه وتقواه، فمن تأدب معنا تأدب مع الله.
وليتل هذا التقليد على رءوس الأشهاد، وتنسخ نسخته حتى تتناقلها الأمصار والبلاد؛ فهو حجتنا على من سميناه خصوصًا ومن يدخل في ذلك بطريق العموم، فليعلموا فيه بالنص والقياس والاستنباط والمفهوم.
والله يزيد المجلس العالي الصاحبي البهائي من فضله، ويبقيه لغاية هذه الدولة ويصونه لشبله كما صانه لأشده من قبله، ويمتع بنيته الصالحة التي يحسن بها إن شاء الله نماء الفرع كما حسن نماء أصله.
واستمر الصاحب بهاء الدين في الوزارة إلى أن مات في ذي القعدة سنة سبع وسبعين.
وكان الملك السعيد إذ ذاك بدمشق، فلما بلغته وفاته، أرسل إلى برهان الدين الخضر بن الحسن السنجاري باستقراره وزيرا بالديار المصرية، فقال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر حين سير إليه تقليد الوزارة: بك زال الخلاف، واصطلح الخصمان يا دولة الملك السعيد، فلما قالت الوزارة بالبرهان قال البرهان بالتقليد.
وقال السراج الوراق حين خلع عليه:
تهن بخلعة لبست جمالًا ... بوجه منك سمح يجتلوه
وقال الناس حين طلعت فيها: ... أهذا البدر؟ قلت لهم: أخوه
وقال في خلعة ولده شمس الدين:
_________
(1) ط: "فتلزم" تحريف.(2/221)
أهني الوزير ابن الوزير بخلعة ... محاسنها فتانة العقل والحس
أضاءت بها الآفاق شرقًا ومغربًا ... ولم لا، ومن أطواقها مطلع الشمس!
ولما عوجل خلع الملك السعيد، قال ناصر الدين بن النقيب:
تطيرت الوزارة من قريب ... بصاحبها الجديد ومن بعيد
وقالت: كعبه كعب شؤم ... ولاسيما على الملك السعيد
وأقام السنجاري في الوزارة إلى أن ولي قلاوون في رجب سنة ثمان وسبعين، فعزله. واستوزر فخر الدين بن لقمان كاتب السر، فأقام إلى جمادى الآخرة سنة تسع وسبعين.
فأعيد السنجاري إلى الوزارة، ورجع ابن لقمان إلى كتابة الإنشاء، فأقام إلى ربيع الأول سنة ثمانين، فعزل.
ووزر نجم الدين حمزة بن محمد بن هبة الله الأصفوني:
ووزر الأمير علم الدين سنجر الشجاعي، وهو أول من ولي الوزارة من الأمراء، وأول وزير ضربت على بابه الطلبخاناه على قاعدة وزراء الخلافة بالعراق، ثم عزل.
ووزر الأمير بدر الدين بيدار، ثم صرف.
وأعيد الشجاعي، ثم صرف.
ووزر شمس الدين محمد بن عثمان المعروف بابن السلعوس، فأقام إلى أن قتل الأشرف، فأخذ وضرب إلى أن مات تحت الضرب.
وكان لما تولى الوزارة، كتب إليه بعض أصحابه يحذره من الأمير علم الدين سنجر الشجاعي المنصوري:
تنبه يا وزير الأرض واعلم ... بأنك قد وطئت على الأفاعي(2/222)
وكن بالله معتصمًا فإني ... أخاف عليك من نهش الشجاعي
فكان الذي تسبب في إهلاكه الشجاعي.
وولي الشجاعي الوزارة مكانه، فأقام بها أكثر من شهر، وحدثته نفسه بالسلطنة، فقتل.
وولي الوزارة بعده تاج الدين بن فخر الدين بن الصاحب بهاء الدين بن حنا، فأقام إلى أن تولى العادل كتبغا، فعزل.
وولي مكانه فخر الدين عثمان بن مجد الدين عبد العزيز بن الخليل، فأقام إلى أن تولى لاجين، فعزل.
وولي مكانه الأمير شمس الدين سنقر الأعصر، ثم عزل من عامه وحبس؛ فلما أعيد الملك الناصر إلى السلطنة أخرج الأعسر من الحبس وأعاده إلى الوزارة، ثم عزله في سنة إحدى وسبعمائة.
وولي الأمير عز الدين أيبك المنصوري، وولي ناصر الدين محمد السنجى ثم عزل في شوال سنة أربع.
ووزر سعد الدين محمد بن محمد بن عطاء الله في المحرم سنة ست.
ووزر التاج أبو الفرج بن سعيد الدولة المسلماني، ووزر ضياء الدين النشأني (1) ، فلما عاد الناصر إلى السلطنة المرة الثالثة سنة سبع استوزر فخر الدين الخليلي، ثم عزل في رمضان سنة عشرة.
ووزر الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب، ثم عزل في ربيع الآخر سنة إحدى عشرة.
ووزر أمين الملك أبو سعيد المستوفى.
_________
(1) النشائي، بكسر ثم معجمة، ممدود؛ كذا ضبطه صاحب الضوء اللامع 11: 23.(2/223)
ووزر في سنة ثلاث وعشرين أمين الملك ثم الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي.
ثم أبطل الناصر الوزارة، ورتب وظيفة ناظر الخواص، وولاها كريم الدين عبد الكريم بن هبة الله بن السديد، فكان كالوزير وربما قيل له: الصاحب، واستمرت الوزارة شاغرة إلى سنة أربع وأربعين.
فاستوزر الكامل شعبان نجم الدين محمود بن شروين، وكان أصله وزير بغداد في المحرم ووزر الأمير أيتمش المحمدي، ووزر الأمير منجك اليوسفي، ثم عزل ثالث ربيع الأول سنة تسع وأربعين.
ووزر الأمير أستدمر العمري في رابع عشرة، ثم استعفي في خامس عشرين ربيع الآخر، فأعفي.
وأعيد منجك، ثم عزل في محرم سنة إحدى وخمسين.
ووزر علم الدين عبد الله بن أحمد بن زنبور القبطي، ثم عزل في رمضان سنة ثلاث وخمسين.
ووزر موفق الدين هبة الله بن سعد الدولة القبطي، فأقام إلى أن مات في ربيع الآخر سنة خمس وخمسين، وشغرت الوزارة بعده إلى سنة ثمان وخمسين.
ووزر الأمير قشتمر، ثم عزل سنة تسع وخمسين.
ووزر تاج الدين بن رشية، ثم عزل سنة إحدى وستين.
ووزر جمال الدين يوسف بن أبي شاكر.
ثم وزر الأمير الأكز الكثلاوي.
ثم وزر كريم الدين بن غنام، ثم فخر الدين بن تاج الدين موسى، ثم صرف سنة أربع وسبعين.
ووزر ابن الغنام، ثم صرف سنة خمس وسبعين.(2/224)
وأعيد منجك اليوسفي إلى الوزارة، وفوض إليه السلطان كل أمور المملكة، وأنه أقامه مقام نفسه في كل شيء، وأنه يخرج الإقطاعات التي عبرتها سبعمائة
دينار فما دونها، وأنه يعزل من شاء من أرباب الدولة، ويخرج الطبلخانات والعشراوات بسائر الممالك الشامية، ورسم للوزير أن يجلس قدامه في الدركات، ثم مات منجك في سنة سبعين. قال ابن الكرماني في مختصر المسالك: وهو الذي جعل المماليك اللحم السميط في وزارته، ولم يكن يفرق عليهم قبل ذلك إلا السليخ.
ووزر تاج الدين عبد الوهاب الملكي، ويعرف بالنشو، ثم صرف في رجب سنة ست وسبعين.
وأعيد ابن الغنام، ثم صرف من عامه.
وتعطلت الوزارة إلى ربيع الأول سنة سبع وسبعين، فأعيد التاج الملكي، ثم صرف سنة ثمان وسبعين.
وأعيد ابن الغنام ثم صرف.
وأعيد النهشور ثم صرف.
واستقر كريم الدين بن الرويهب، ثم عزل في شوال سنة تسع وسبعين.
ووزر صلاح الدين خليل بن عرام، ثم عزل في صفر سنة ثمانين.
ووزر كريم الدين بن مكانس، ثم عزل في شوال من السنة.
وأعيد النشو، ثم عزل في ربيع سنة إحدى وثمانين.
ووزر شمس الدين بن أبر (1) ثم عزل سنة خمس وثمانين.
ووزر شمس الدين إبراهيم كاتب أربان، فأقام إلى أن مات سنة تسع وثمانين.
ووزر بعده علم الدين إبراهيم القبطي بن كاتب سيدي، ثم عزل في رمضان سنة تسع.
_________
(1) ح، ط: "أبره".(2/225)
ووزر كريم الدين بن غنام، ثم وزر موفق الدين أبو الفرج في صفر سنة اثنتين وتسعين.
ثم وزر سعد الدين الله بن البقري في ربيع الآخر من السنة، ثم عزل في رمضان سنة اثنتين وتسعين.
وأعيد أبو الفرج، ثم عزل في صفر.
ووزر ركن الدين عمر بن قيماز، ثم عزل في رجب.
ووزر تاج الدين بن أبي شاكر، ثم عزل في المحرم سنة خمس وتسعين.
وأعيد موفق الدين، ثم عزل سنة ست وتسعين.
ووزر الأمير ناصر الدين محمد بن رجب بن كلبك بن الحسام، ولقب وزير الوزراء إلى أن مات سنة ثمان وتسعين.
ووزر مبارك شاه، ثم صرف في رجب.
وأعيد ابن البقري، ثم عزل في ربيع الأول سنة تسع وتسعين.
ووزر بدر الدين محمد الطوخي، ثم صرف في ربيع الآخر سنة إحدى وثمانمائة.
ووزر بدر الدين عبد الرزاق بن أبي الفرج، ثم صرف في ذي القعدة من السنة، ووزر الشهاب أحمد بن عمر بن قطنة، ثم صرف في ذي الحجة من السنة.
ووزر فخر الدين ماجد بن غراب، ثم صرف في ربيع الآخر سنة اثنتين.
وأعيد بدر الدين الطوخي، ثم عزل.
وأعيد ابن غراب، ثم عزل في رجب سنة ثلاث.
ووزر علم الدين يحيى بن أسعد المعروف بأبوكمّ ثم صرف في ربيع الآخر سنة أربع.
ووزر الأمير مبارك شاه الحاجب، ثم صرف.(2/226)
ووزر تاج بن البقري، ثم صرف في المحرم.
ووزر فخر الدين بن غراب، ثم عزل سنة خمس.
ووزر علاء الدين الأخمص، ثم عزل في شوال.
ووزر مبارك شاه، ثم صرف.
وولي تاج الدين بن البقري، ثم توارى في المحرم سنة ست وثمانمائة.
وأعيد علم الدين أبوكم، ثم هرب بعد ثمانية أيام.
وأعيد ابن البقري، ثم هرب في ربيع الأول.
وأعيد تاج الدين بن عبد الرزاق، ثم هرب أيضا بعد أيام.
وأعيد ابن البقري، ثم صرف في ذي الحجة سنة سبع.
وأعيد فخر الدين ماجد بن غراب، ثم صرف سنة تسع.
ووزر جمال الدين البيري الأستادار، ثم صرف في سنة اثنتي عشرة.
ووزر سعد الدين إبراهيم بن البشيري، ثم صرف في ربيع الأول سنة ست عشرة.
ووزر تاج الدين بن الهيصم.
ثم وزر تقي الدين عبد الوهاب بن أبي شاكر في المحرم سنة تسع عشرة، فأقام إلى ذي القعدة من السنة، ومات.
فوزر فخر الدين الأستادار في سنة عشرين.
ووزر أرغون شاه، ثم صرف في جمادى الأولى سنة إحدى وعشرين.
ووزر بدر الدين بن محب الدين، ثم صرف في ذي القعدة من عامه.
ووزر بدر الدين بن نصر الله، ثم صرف في المحرم سنة أربع وعشرين.
ووزر تاج الدين كاتب المناخات، ثم صرف في ذي الحجة سنة خمس وعشرين.
ووزر أرغون شاه، ثم صرف في شوال سنة ست وعشرين.(2/227)
ووزر كريم الدين بن كاتب المناخات، ثم صرف في رجب سنة سبع وثلاثين.
ووزر أمين الدين بن الهيصم، ثم صرف في سنة ثمان وثلاثين.
ووزر سعد الدين إبراهيم بن كاتب جكم.
ثم وزر أخوه جمال الدين يوسف في ربيع الأول من السنة، ثم صرف في جمادى الآخرة من السنة.
ووزر تاج الدين عبد الوهاب بن الخطير، ثم صرف في رمضان سنة تسع وثلاثين.
ووزر الأمير خليل بن شاهين نائب الإسكندرية، ثم صرف.
ووزر كريم الدين بن كاتب المناخ في ربيع الأول سنة أربعين.
ثم في جمادى الآخرة سنة إحدى وخمسين وزر عوضًا عن أمين الدين بن الهيصم، ثم صرف.
ووزر سعد الدين فرج بن النجار، ثم صرف في جمادى سنة ثمان وخمسين.
وأعيد أمين الدين بن الهيصم، ثم صرف في ذي القعدة من السنة.
وأعيد سعد الدين.
ثم وزر علي بن محمد الأهناسي، ثم صرف في سنة أربع وستين.
ووزر فارس المحمدي يوما واحدا، ثم صرف.
ووزر منصور الكاتب ثم صرف.
ووزر محمد الأهناسي والد علي المذكور عشرة أيام.
ثم وزر منصور الأسلمي ثم صرف في ربيع الآخر.
وأعيد سعد الدين بن النجار، ثم صرف في ربيع الأول سنة خمس وستين.
وأعيد علي بن الأهناسي، ثم صرف.
ووزر شمس الدين بن صنيعة، ثم صرف في صفر سنة سبع وستين.(2/228)
وأعيد ابن الأهناسي، ثم صرف في شوال.
ووزر مجد الدين بن البقري، ثم صرف في المحرم سنة ثمان وستين.
ووزر يونس بن عمر بن جربغا، ثم صرف عن قرب.
وأعيد المجد بن البقري ثم صرف في ربيع الأول.
ووزر محمد البباوي إلى أن غرق آخر ذي الحجة سنة تسع وستين.
وأعيد الشرف يحيى بن صنيعة، ثم صرف في جمادى الآخرة.
ووزر قاسم القرافي، ثم صرف.
ووزر الأمير يشبك الدوادار، ثم صرف.
ووزر الأمير خشقدم الطواشي، ثم صرف.
ووزر ابن الزرازيري كاشف الصعيد ثم صرف عن قرب.
وأعيد قاسم، ثم صرف.
ووزر الأمير أقبردي الدوادار.
ثم ولي بعده الأمير كربتاي الأحمر يوم الخميس، مستهل ذي الحجة سنة إحدى وتسعمائة.(2/229)
ذكر كتاب السر:
قال ابن الجوزي في التلقيح (1) : كان يكتب لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أبو بكر وعمر، وعثمان وعلي وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت الأنصاري ومعاوية بن أبي سفيان، وحنظلة بن الربيع الأسدي، وخالد بن سعيد بن القاضي وأبان بن سعيد والعلاء بن الحضرمي؛ وكان المداوم على الكتابة زيد ومعاوية.
وكان كاتب أبي بكر الصديق عثمان بن عفان، وكاتب عمر زيد بن ثابت وكاتب عثمان مروان بن الحكم، وكاتب علي عبد الله بن رافع وسعيد بن أبي نمر، وكاتب الحسن كاتب أبيه، وكاتب معاوية عبيد الله بن أوس الغساني. وكاتب يزيد عبيد الله بن أوس، ثم عمر العذري، وكاتب ابنه معاوية زمل بن عمر العذري، وكاتب مروان عبيد الله بن أوس وشعبان الأحول، وكاتب عبد الملك بن مروان روح بن زنباع الجذامي، وقبيصة بن ذؤيب، وكاتب ابنه الوليد قبيصة بن ذؤيب وقرة بن شريك والضحاك بن زمل، وكاتب سليمان يزيد بن المهلب وعبد العزيز بن الحارث، وكاتب عمر بن عبد العزيز رجاء بن حيوة الكندي، وليث بن أبي رقية، وكاتب يزيد بن عبد الملك سعيد بن الوليد الأبرش، ومحمد بن عبد الله بن حارثة الأنصاري، وكاتب هشام هذان وسالم مولاه، وكاتب الوليد العباس بن مسلم، وكاتب يزيد بن الوليد ثابت بن سليمان، وكاتب إبراهيم بن الوليد ثابت هذا، وكاتب مروان الحمار عبد الحميد بن يحيى مولى بني عامر.
وقال ابن فضل الله: كانت كتابة الإنشاء في المشرق في خلافة بني العباس منوطة
_________
(1) هو كتاب "تلقيح فهوم أهل الآثار، في مختصر السير والأخبار" طبعت قطعة منه في ليدن سنة 1892م.(2/230)
بالوزراء، وربما انفرد بها رجل، واستقل بها كتاب لم يبلغوا مبلغ الوزارة، فكان يسمى في المشرق كتاب الإنشاء. ثم لما كثر عددهم سمي رئيسهم رئيس ديوان الإنشاء، ثم بقي يطلق عليه تارة صاحب ديوان الإنشاء وتارة كاتب السر. قال: وهي عندي أنبه، وعند الناس أدل، وكانت في دولة السلاجقية وملوك الشرق يسمى ديوان الطغراوية، والطغراء، هي الطرة بالفارسية. وأهل المغرب يسمون صاحب ديوان الإنشاء صاحب القلم الأعلى. انتهى.
وقال غيره: إنما حدثت وظيفة كتابة السر في أيام قلاوون، وكانت هذه الوظيفة قديما في ضمن الوزارة، والوزير هو المتصرف في الديوان، وتحت يده جماعة من الكتاب، وفيهم رجل كبير يسمى صاحب ديوان الإنشاء، وصاحب ديوان الرسائل، فكان الكاتب للسفاح عبد الجبار بن عدي ثم كتب للمنصور، وكتب أيضا عبد الله بن المقفع المشهور بالبلاغة وأبو أيوب المورياني (1) ، وكتب للمهدي وزيره معاوية بن عبد الله والربيع بن يونس الحاجب، وكتب للهادي عمرو بن بزيع، فلما استخلف الرشيد ولي يوسف بن القاسم بن صبيح كتابة الإنشاء، فكان هو الذي قام خطيبا بين يديه، حتى أخذت له البيعة، وكتب للمأمون أحمد بن يوسف بن صبيح الكاتب وأحمد ابن الضحاك الطبري، وعمرو بن مسعدة، والمعلى بن أيوب وعمرو بن مهبول، وكتب للمعتصم والواثق إبراهيم الموصلي. وكتب للمتوكل أحمد بن المدبر وإبراهيم بن العباس الصولي. وكتب للطائع أبو القاسم عيسى بن الوزير علي بن عيسى بن الجراح. وكتب للقادر إبراهيم بن هلال الصابئ، وكان على دين الصابئة إلى أن مات.
وكتب لجماعة من الخلفاء أبو سعيد العلاء بن الحسن بن وهب بن الموجلايا،
_________
(1) في الأصول: "المرزباني" تحريف، صوابه من الفخري 152.(2/231)
قال بعضهم: كتب في الإنشاء للخلفاء خمسا وستين سنة، وكان نصرانيا، فأسلم على يد المقتدي.
وكتب للمقتدي سديد الدولة أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عبد الكريم بن الأنباري. قال ابن كثير: كان كاتب الإنشاء ببغداد للخلفاء، وانفرد بصناعة الإنشاء.
وكتب للناصر قوام الدين يحيى بن سعيد الواسطي المشهور بابن زيادة صاحب ديوان الإنشاء ببغداد، ومن انتهيت إليه رياسة الترسل.
وكتب للمستعصم عز الدين عبد الحميد بن هبة الله بن أبي الحديد المدائني الكاتب ومات سنة خمس وخمسين وستمائة، وقتل الخليفة عقب موته. فهو آخر كتاب الإنشاء لخلفاء بغداد.
قلت: ومن الاتفاق الغريب أن آخر خلفاء بني أمية كتب له عبد الحميد الكاتب، وآخر خلفاء بني العباس ببغداد كتب له من اسمه عبد الحميد.
وأما مصر فلم يكن بها ديوان إنشاء من حين فتحت إلى أيام أحمد بن طولون، فقوي أمرها، وعظم ملكها، فكتب عنده أبو جعفر محمد بن أحمد بن مودود.
وكتب لولده خمارويه إسحاق بن نصر العبادي.
وتوالت دواوين الإنشاء بذلك إلى أن ملكها العبيدية، فعظم ديوان الإنشاء بها ووقع الاعتناء به، واختيار بلغاء الكتاب ما بين مسلم وذمي؛ فكتب للعزيز بن المعز وزيره ابن كلس ثم أبو عبد الله الموصلي، ثم أبو المنصور بن حورس النصراني، ثم كتب للحاكم ومات في أيامه.(2/232)
وكتب للحاكم بعده القاضي أبو الطاهر الهولي، ثم كتب لابن الحاكم الظاهر.
وكتب للمستنصر القاضي ولي الدين بن خيران وولي الدولة موسى بن الحسن بعد انتقاله إلى الوزارة وأبو سعيد العبدي.
وكتب للآمر والحافظ أبو الحسن علي بن أبي أسامة الحلبي، إلى أن توفي، فكتب ولده أبو المكارم إلى أن توفي، ومعه أمين الدين تاج الرياسة أبو القاسم علي بن سليمان المعروف بابن الصرفي، والقاضي كافي الكفاة محمود بن الموفق بن قادوس وابن أبي الدم اليهودي. ثم كتب بعد ابن أبي المكارم القاضي موفق الدين أبو الحجاج يوسف بن الخلال بقية أيام الحافظ إلى آخر أيام العاضد، وبه تخرج القاضي الفاضل.
ثم أشرك العاضد مع ابن الخلال في ديوان الإنشاء القاضي جلال الدين محمود الأنصاري.
ثم كتب القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني بين يدي ابن الخلال في وزارة صلاح الدين، فلما ملك صلاح الدين كتب له القاضي الفاضل. ثم أضيفت إليه الوزارة. ثم كتب بعده لابنه العزيز ثم لولده المنصور ومات.
وكتب للكامل أمين الدين سليمان المعروف بكاتب الدرج إلى أن مات، فكتب بعده أمين الدين عبد المحسن بن حمود الحلبي، ثم كتب للصالح أيضا.
ثم ولي ديوان الإنشاء الصاحب بهاء الدين زهير الشاعر المشهور (1) ، ثم صرف وولي بعده الصاحب فخر الدين إبراهيم بن لقمان الأسعردي، فأقام إلى انقراض الدولة الأيوبية، وكتب بعدها للمعز أيبك ثم للمظفر قطز، ثم للظاهر بيبرس ثم للمنصور قلاوون، ثم نقله قلاوون من ديوان الإنشاء للوزارة.
_________
(1) صاحب الديوان المعروف باسمه.(2/233)
وولي ديوان الإنشاء مكانه فتح الدين بن عبد الظاهر، وهو أول من سمي كاتب السر، وسبب ذلك ما حكاه الصلاح الصفدي أن الملك الظاهر رفع إليه مرسوم أنكره، فطلب محيي الدين بن عبد الظاهر وأنكر عليه، فقال: يا خوند (1) ، هكذا قال لي الأمير سيف الدين بن بلبان الدوادار، فقال السلطان: ينبغي أن يكون للملك كاتب سر يتلقى المرسوم منه شفاها -وكان قلاوون حاضرا من جملة الأمراء- فوقرت هذه الكلمة في صدره، فلما تسلطن اتخذ كاتب سر، فكان فتح الدين هذا أول من شهر بهذا الاسم؛ وكان هو والوزير لقمان بين يدي السلطان، فحضر كتاب، فأراد الوزير أن يقرأه، فأخذ السلطان الكتاب منه، ودفعه إلى فتح الدين، وأمره بقراءته، فعظم ذلك على ابن لقمان؛ وكانت العادة إذ ذاك ألا يقرأ أحد على السلطان كتابا بحضرة الوزير. واستمر فتح الدين في كتابة السر إلى أن توفي أيام الأشرف خليل.
فولي مكانه تاج الدين بن الأثير إلى أن توفي.
وولي شرف الدين بن عبد الوهاب العمري، ثم نقله الناصر في سنة إحدى عشرة وسبعمائة إلى كتابة السر بدمشق.
وولي مكانه علاء الدين بن تاج الدين بن الأثير إلى أن فلج.
وولي محيي الدين بن فضل الله، وولده شهاب الدين معينا له لكبر سنه، ثم صرفا.
وولي شرف الدين بن الشهاب محمود ثم صرف، وأعيد ابن فضل الله وولده شهاب الدين ثم صرفا إلى الشام.
وولي علاء الدين بن فضل الله أخو شهاب الدين، فاستمر في الوظيفة نيفًا وثلاثين سنة إلى أن مات سنة تسع وستين وسبعمائة.
_________
(1) خوند: لفظ تركي أو فارسي، وأصله خداوند بضم الخاء، ومعناه السيد أو الأمير، ويخاطب به الذكور والنساء على السواء. حواشي السلوك 1: 224.(2/234)
وولي ولده بدر الدين محمد إلى أن تسلطن برقوق فصرفه.
وولى أوحد الدين عبد الواحد بن إسماعيل التركماني؛ إلى أن مات في ذي الحجة سنة ست وثمانين.
وأعيد بدر الدين إلى أن تسلطن برقوق الثانية، فصرفه.
وولي علاء الدين علي بن عيسى الكركي إلى أن مات سنة أربع وتسعين.
وأعيد بدر الدين إلى أن مات في شوال سنة ست وتسعين.
وولي بدر الدين محمود الكلستاني إلى أن مات في جمادى الأولى سنة إحدى وثمانمائة.
وولي فتح الدين فتح الله بن مستعصم التبريزي، ثم صرفه الناصر فرج بسعد الدين بن غراب مدة يسيرة، ثم صرف ابن غراب، وأعيد فتح الله ثم صرف، وولي فخر الدين بن المزوق ثم صرف، وأعيد فتح الله إلى أن قبض عليه المؤبد سنة ست عشرة وثمانمائة.
وولي ناصر الدين محمد بن البارزي إلى أن مات في سنة ثلاث وعشرين.
وولي ولده كمال الدين محمد، ثم صرف.
وولي علم الدين داود بن الكويز إلى أن مات سنة ست وعشرين.
وولي جمال الدين يوسف بن الكركي ثم صرف.
وولي قاضي القضاة شمس الدين الهروي الشافعي، ثم صرف.
وولي نجم الدين عمر بن حجي ثم صرف.
وولي شمس الدين محمد بن مزهر إلى أن مات في جمادى الآخرة سنة اثنتين وثلاثين.
وولي ولده جلال الدين محمد، ثم صرف.
وولي الشريف شهاب الدين الدمشقي إلى أن مات بالطاعون.
وولي شهاب الدين أحمد بن السفاح الحلبي إلى أن مات سنة خمس وثلاثين.(2/235)
وولي الوزير كريم الدين عبد الكريم كاتب المناخ مضافا للوزارة، ثم صرف بعد أشهر.
وأعيد الكمال بن البارزي، ثم صرف في رجب سنة تسع وثلاثين.
وولي محب الدين بن الأشقر، ثم صرف.
وولي صلاح الدين محمد بن الصاحب بدر الدين حسن نصر الله إلى أن مات بالطاعون سنة إحدى وأربعين.
وولي مكانه أبوه الصاحب بدر الدين حسن، ثم صرف في ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعين.
وأعيد ابن البارزي إلى أن مات في صفر سنة ست وخمسين.
وأعيد ابن الأشقر ثم صرف في ذي القعدة.
وولي محب الدين بن الشحنة ثم صرف بعد ستة أشهر.
وأعيد ابن الأشقر، ثم صرف في جمادى الأولى سنة ثلاث وستين.
وأعيد ابن الشحنة ثم صرف في شوال سنة ست وستين.
وولي القاضي برهان الدين بن الديري، ثم صرف بعد نصف شهر.
وولي القاضي تقي الدين أبو بكر بن كاتب السر بدر الدين بن مزهر، فاستمر إلى الآن عامله الله بألطافه، وختم لنا وله بخير. آمين!
ثم توفي في سادس رمضان سنة ثلاث وتسعين، وولي ولده القاضي بدر الدين أعزه الله تعالى!(2/236)
ذكر جوامع مصر*:
مدخل
اعلم أنه من حين فتحت مصر لم يكن بها مسجد تقام فيه الجمعة سوى جامع عمرو بن العاص إلى أن قدم عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس من العراق في طلب مروان الحمار سنة ثلاث وثلاثين ومائة، فنزل عسكره في شمالي الفسطاط وبنوا هنالك الأبنية، فسمي ذلك الموضع بالعسكر، وأقيمت هناك الجمعة في مسجد فصارت الجمعة تقام بجامع عمرو وبجامع العسكر إلى أن بنى السلطان أحمد بن طولون جامعه حين بنى القطائع (1) ، فأبطلت الخطبة من جامع العسكر، وصارت الجمعة تقام بجامع عمرو وبجامع ابن طولون إلى أن قدم جوهر القائد (2) ، واختط القاهرة، وبنى الجامع الأزهر في سنة ستين وثلاثمائة، فصارت الجمعة تقام بثلاثة جوامع (3) .
ثم إن العزيز بالله بنى في ظاهر القاهرة من جهة باب الفتوح الذي يعرف اليوم بجامع الحاكم سنة ثمانين وثلاثمائة، وأكمله ابنه الحاكم، ثم بنى جامع المقس وجامع راشدة، فكانت الجمعة تقام في هذه الجوامع الستة إلى أن انقضت دولة العبيديين في سنة سبع وستين، وخمسمائة، فبطلت الجمعة من الجامع الأزهر، وبقيت فيما عداه.
فلما كانت الدولة التركية أحدثت عدة جوامع، فبني في زمن الظاهر بيبرس جامع الحسينية في سنة تسع وستين؛ ثم بنى الناصر بن قلاوون الجامع الجديد بمصر في سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، وبنى أمراؤه وكتابه في أيامه نحو ثلاثين جامعا، وكثرت في هذا القرن وما بعده إلى الآن؛ فلعلها الآن في مصر والقاهرة أكثر من مائتي جامع.
_________
* المقريزي 4: 2.
(1) المقريزي: "على جبل يشكر، في سنة تسع وخمسين ومائتين حين بنى القطائع".
(2) المقريزي: "من بلاد القيروان بالمغرب".
(3) المقريزي: "فكانت الجمعة تقام في جامع عمرو، وجامع ابن طولون والجامع الأزهر، وجامع القرافة الذي يعرف اليوم بجامع الأولياء".(2/237)
قال هشام بن عمار: حدثنا المغيرة بن المغيرة، حدثنا عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه، قال: لما افتتح عمر البلدان كتب إلى أبي موسى وهو على
البصرة يأمره أن يتخذ مسجدًا للجماعة، ويتخذ للقبائل مساجد، فإذا كان يوم الجمعة انضموا إلى مسجد الجماعة، وكتب إلى سعد بن أبي وقاص وهو على الكوفة بمثل ذلك، وكتب إلى عمرو بن العاص وهو على مصر بمثل ذلك، وكتب إلى أمراء أجناد الشام ألا ينبذوا إلى القرى وأن ينزلوا المدائن، وأن يتخذوا في كل مدينة مسجدا واحدا، ولا تتخذ القبائل مساجد؛ وكان الناس متمسكين بأمر عمر وعهده.
وقال القضاعي: لم تكن الجمعة تقام في زمن عمرو بن العاص بشيء من أرض مصر إلا بجامع الفسطاط.
قال ابن يونس: جاء نفر من غافق إلى عمرو بن العاص، فقالوا: إنا نكون في الريف، فنجتمع في العيدين الفطر والأضحى، ويؤمنا رجل من، قال: نعم، قالوا: فالجمعة؟ قال: لا، ولا يصلي الجمعة بالناس إلا من أقام الحدود، وأخذ بالذنوب، وأعطى الحقوق.(2/238)
جامع عمرو*:
قال ابن المتوج في إيقاظ المتغفل وإيعاظ المتؤمل: هو الجامع العتيق المشهور بتاج الجوامع، قال الليث بن سعد: ليس لأهل الراية مسجد غيره؛ وكان الذي حاز موضعه ابن كلثوم التجيبي (1) ، ويكنى أبا عبد الرحمن، ونزله في حصارهم الحصن، فلما رجعوا من الإسكندرية سأل عمرو وقيسبة في منزله هذا، تجعله مسجدا؟ فقال قيسبة: فإني أتصدق به على المسلمين، فسلمه إليهم؛ فبني في سنة إحدى وعشرين، وكان طوله خمسين ذراعا في عرض ثلاثين. ويقال: إنه وقف على إقامة قبلته ثمانون رجلا من الصحابة، منهم الزبير ابن العوام والمقداد بن الأسود وعبادة بن الصامت و"أبو" الدرداء، وأبو ذر وأبو بصرة ومحمية بن جزء الزبيدي، ونبيه بن صواب وفضالة بن عبيد وعقبة بن عامر، ورافع بن مالك وغيرهم (2) .
ويقال: إنها كانت مشرفة جدًّا، وأن قرة بن شريك لما هدم المسجد وبناه في زمن الوليد تيامن قليلا.
وذكر أن الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة كانا يتيامنان إذا صليا فيه؛ ولم يكن للمسجد الذي بناه عمرو محراب مجوف، وإنما قرة بن شريك جعل المحراب المجوف.
_________
* المقريزي 4: 5.
(1) هو قيسبة بن كلثوم التجيي؛ أحد بني سوم؛ سار من الشام إلى مصر مع عمرو بن العاص، فدخلها في مائة راحلة وخمسين عبدا وثلاثين فرسا. فلما أجمع المسلمون وعمرو بن العاص على حصار الحصن، نظر قيسبة بن كلثوم، فرأى جنانا تقرب من الحصن، فعرج عليها في أهله وعبيده، فنزل فضرب فيها فسطاطه، وأقام فيها طول حصارهم الحصن، حتى فتحه الله عليهم، ثم خرج قيسبة مع عمرو إلى الإسكندرية وخلف أهله فيها، ثم فتح الله عليهم الإسكندرية، وعاد قيسبة إلى منزله فهذا فنزله" المقريزي.
(2) المقريزي عن داود بن عقبة: "أن عمرو بن العاص بعث ربيعة بن شرحبيل بن حسنة، وعمرو بن علقمة القرشي ثم العدوي يقيمان القبلة؛ وقال لهما: قوما إذا زالت الشمس -أو قال: انتصفت- فاجعلاها على حاجبيكما، ففعلا".(2/239)
وأول من أحدث ذلك عمر بن عبد العزيز، وهو يومئذ عامل الوليد على المدينة حين هدم المسجد النبوي، وزاد فيه.
وأول من زاد في جامع ومسلمة بن مخلد، وهو أمير مصر سنة ثلاث وخمسين، شكا الناس إليه ضيق المسجد، فكتب إلى معاوية، فكتب معاوية إليه يأمره بالزيادة فيه، فزاد فيه من بحرية، وجعل له رحبة من البحري وبيضه وزخرفه، ولم يغير البناء القديم، ولا أحدث في قبلته ولا غربيه شيئا.
وكان عمرو قد اتخذ منبرا، فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعزم عليه في كسره: أما بحسبك أن تقوم قائما، والمسلمون جلوس تحت عقبيك! فكسره.
وذكر أنه زاد من شرقيه حتى ضاق الطريق بينه، وبين دار عمرو بن العاص وفرشه بالحصر، وكان مفروشا بالحصباء.
وقال في كتاب الجند العربي: إن مسلمة نقض ما كان عمرو بن العاص بناه، وزاد فيه من شرقيه، وبنى فيه أربع صوامع، في أركانه الأربعة برسم الأذان، ثم هدمه عبد العزيز بن مروان أيام إمرته بمصر في سنة تسع وسبعين، وزاد فيه من ناحية الغرب، وأدخل فيه الرحبة التي كانت بحرية.
ثم في سنة تسع وثمانين أمر الوليد نائبه بمصر برفع سقفه وكان مطأطئًا، ثم هدمه قرة بن شريك بأمر الوليد سنة اثنتين وتسعين وبناه، فكانوا يجمعون في قيسارية العسل حتى فرغ من بنائه في رمضان سنة ثلاث وتسعين، ونصب فيه المنبر الجديد في سنة أربع وتسعين، وعمل فيه المحراب المجوف، وعمل للجامع أربعة أبواب، ولم يكن له قبل إلا بابان، وبنى فيه بيت المال، بناه أسامة بن زيد التنوخي متولي الخراج بمصر سنة تسع وتسعين؛ فكان مال المسلمين فيه، ثم زاد فيه صالح علي بن عبد الله بن عباس،(2/240)
وهو يومئذ أمير من قبل السفاح، وذلك في سنة ثلاث وثلاثين ومائة، فأدخل فيه دار الزبير بن العوام، واحدث له بابا خامسا.
ثم زاد فيه موسى بن عيسى الهاشمي، وهو يومئذ أمير مصر من قبل الرشيد في شعبان سنة خمس وسبعين ومائة.
ثم زاد فيه عبد الله بن طاهر بن الحسين -وهو أمير مصر من قبل المأمون-
في جمادى الآخرة سنة اثنتي عشرة (1) ومائتين؛ فتكامل ذرع الجامع مائتين وتسعين ذراعا بذراع العمل طولا في مائة وخمسين عرضا. ويقال: إن ذرع جامع ابن طولون مثل ذلك سوى الأزقة المحيطة بجوانبه الثلاثة. ونصب عبد الله بن طاهر اللوح الأخضر، فلما احترق الجامع احترق ذلك اللوح، فجعل أحمد بن محمد العجيفي هذا اللوح مكانه، وهو الباقي إلى اليوم.
ولما تولى الحارث بن مسكين القضاء من قبل المتوكل سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، أمر ببناء هذه (2) الرحبة لينتفع الناس بها، وبلط زيادة بن طاهر، وأصلح السقف. ثم زاد فيه أبو أيوب أحمد بن محمد بن شجاع صاحب الخراج في أيام المستعصم في سنة ثمان وخمسين ومائتين.
ثم وقع في مؤخر الجامع حريق في ليلة الجمعة لتسع خلون من صفر سنة خمس وسبعين ومائتين، فأمر خمارويه بن أحمد بن طولون بعمارته على يد العجيفي، فأعيد على ما كان، وأنفق فيه ستة آلاف وأربعمائة دينار، وكتب اسم خمارويه في دائرة الرواق الذي عليه اللوح الأخضر (3) .
_________
(1) في المقريزي: "وصل عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب مولى خزاعة، أميرًا من قبل المأمون في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة ومائتين، وتوجه إلى الإسكندرية مستهل صفر سنة اثنتي عشرة ومائتين، ورجع إلى الفسطاط في جمادى الآخرة من السنة المذكورة".
(2) المقريزي: "ورحبة الحارث هي الرحبة البحرية من زياد الخازن، وكانت رحبة يتابع الناس فيها يوم الجمعة".
(3) المقريزي: "وأمر عيسى النوشري في ولايته الثانية على مصر في سنة أربع وتسعين ومائتين بإغلاق الجامع فيما بين الصوات، فكان يفتح للصلاة فقط، وأقام على ذلك أياما، فضج أهل المسجد ففتح لهم".(2/241)
وزاد فيه أبو حفص العباسي أيام نظره في قضاء مصر خلافة لأخيه الغرفة التي يؤذن فيها المؤذنون في السطح؛ وذلك في سنة ست وثلاثين وثلثمائة.
ثم زاد فيه أبو بكر محمد بن عبد الله بن الخازن رواقا مقداره تسعة أذرع، وذلك في رجب سنة سبع وخمسين وثلثمائة، ومات قبل إتمامه، فأتمه ابنه علي، وفرع في رمضان سنة ثمان وخمسين، ثم بنى فيه الوزير أبو الفرج يعقوب بن كلس بأمر العزيز بالله الفوارة التي تحت قبة بيت المال، وهو أول من عمل فيه فوارة (1) .
وفي سنة سبع وثمانين وثلثمائة بيض المسجد، ونقشت ألواحه، وذهب على يد برجوان الخادم، وعمل فيه تنور يوقد كل ليلة جمعة.
وفي سنة ثلاث وأربعمائة أنزل إليه من القصر بألف ومائتين وتسعين (2) مصحفًا في ربعات، فيها ما هو مكتوب بالذهب كله، ومكن الناس من القراءة فيها، وأنزل إليه تنور من فضة استعمله (3) الحاكم بأمر الله برسم الجامع، فيه مائة ألف درهم فضة، فاجتمع الناس، وعلق بالجامع بعد أن قلعت عتبتا الجامع حتى أدخل به.
ثم في أيام المستنصر في رمضان سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة زيد في المقصورة في شرقيها وغربيها، وعملت منطقة فضة في صدر المحراب الكبير، أثبت عليها اسم أمير المؤمنين، وجعل لعمودي المحراب أطواقًا من فضة، فلم يزل (4) ذلك إلى أن استبد السلطان صلاح الدين بن أيوب فأزاله (5) .
وفي ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة، عمل مقصورة خشب ومحراب ساج
_________
(1) المقريزي: "وزاد فيه مساقف الخشب المحيطة بها على يد المعروف بالمقدسي الأطروشي متولي مسجد بيت المقدس".
(2) المقريزي: "وثمان وتسعين".
(3) المقريزي: "عمله".
(4) المقريزي: "وجرى ذلك على يد عبد الله بن محمد بن عبد الله في شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة".
(5) المقريزي: "بعد موت العاضد لدين الله في محرم سنة سبع وستين وخمسمائة، فقلع مناطق الفضة من الجوامع بالقاهرة".(2/242)
منقوش بعمودي صندل برسم الخليفة، تنصب له في زمن الصيف، وتقلع في زمن الشتاء إذا صلى الإمام في المقصورة الكبيرة.
وفي سنة أربع وستين وخمسمائة تمكن الفرنج من ديار مصر، وحكموا في القاهرة حكما جائرا، فتشعث الجامع، فلما استبد السلطان صلاح الدين جدده في سنة ثمان وستين وخمسمائة، ورخمة ورسم عليه اسمه، وعمر المنظرة التي تحت المئذنة الكبيرة، وجعل لها سقاية.
ولما تولى تاج الدين بن بنت الأعز قضاء الديار المصرية أصلح ما مال منه، وهدم ما به من الغرف المحدثة، وجمع أرباب الخبرة، واتفق الرأي على إبطال
جواز الماء (1) إلى الفسقية، وكان الماء يصل إليها من بحر النيل، فأمر بإبطاله لما كان فيه من الضرر على جدار الجامع.
وجد السلطان بيبرس في عمارة ما تهدم من الجامع، فرسم بعمارته، وكتب اسم الظاهر بيبرس على اللوح الأخضر، وجليت العمد كلها، وبيض الجامع بأسره، وذلك في رجب سنة ست وستين وستمائة. ثم جدد في أيام المنصور قلاوون سنة سبع وثمانين وسبعمائة.
ولما حدثت الزلزلة في سنة اثنتين وسبعمائة تشعث الجامع فجدده (2) سلار نائب السلطنة.
ثم تشعث في أيام الظاهر برقوق، فعمره الرئيس برهان الدين إبراهيم بن عمر المحلي
_________
(1) المقريزي: "جريان الماء إلى فوارة الفسقية".
(2) المقريزي: "فأنفق الأميران بيبرس الجاشنكير -وهو يومئذ أستادار الملك الناصر محمد بن قلاوون، والأمير سلار وهو نائب السلطنة، وإليهما تدبير الدولة- على عمارة الجامعين بمصر والقاهرة".(2/243)
رئيس التجار، وأزال اللوح الأخضر، وجدد لوحا آخر بدله وهو الموجود الآن، وانتهت عمارته في سنة أربع وثمانمائة.
وقال ابن المتوج: ذرع هذا الجامع اثنان وأربعون ألف ذراع بذراع البز المصري القديم، وهو ذراع الحصر المستمر الآن، وذرعه بذراع العمل ثمانية وعشرون ألف ذراع، وعدد أبوابه ثلاثة عشر بابا.
وممن تولى إمامة هذا الجامع أبو رجب العلاء بن عاصم الخولاني، وهو أول من سلم في الصلاة تسليمتين بهذا الجامع، بكتاب ورد عليه من المأمون يأمره بذلك؛ وصلى خلفه الإمام الشافعي حين قدم مصر، فقال: هكذا تكون الصلاة، ما صليت خلف أحد أتم صلاة من أبي رجب ولا أحسن.
ولما تولى القصص حسن بن الربيع بن سليمان في زمن المتوكل سنة أربعين ومائتين، أمر بترك قراءة "بسم الله الرحمن الرحيم" في الصلاة، وأمر أن تصلى التراويح، وكانت تصلى قبل ذلك ست تراويح.
قال القضاعيّ: ولم يكن الناس يصلون بالجامع صلاة العيد، حتى كانت سنة ست وثلثمائة صلى فيها رجل يعرف بعلي بن أحمد بن عبد الملك الفهمي (1) صلاة الفطر، ويقال: إنه خطب من دفتر نظرا، وحفظ عنه أنه قال: "اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مشركون"، فقال بعض الشعراء:
قام في العيد لنا خطيبًا ... فحرض الناس على الكفر (2)
وذكر بعضهم أنه كان يوقد في الجامع العتيق كل ليلة ثمانية عشر ألف فتيلة،
_________
(1) المقريزي: "يعرف بابن أبي شيخة".
(2) بعده في المقريزي: "وتوفي سنة تسع وثلثمائة".(2/244)
وأن المطلق برسمه خاصة لوقود كل ليلة أحد عشر قنطارًا زيتًا طيبًا.
وقال المقريزي: أخبرني شهاب الدين أحمد بن عبد الله الأوحدي، أخبرني المؤرخ ناصر الدين محمد بن عبد الرحيم بن الفرات، أخبرنا العلامة شمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن الصائغ الحنفي، أنه أدرك بجامع عمرو قبل الوباء الكائن في سنة تسع وأربعين وسبعمائة بضعًا وأربعين حلقة لإقراء العلم لا تكاد تبرح منه.(2/245)
جامع أحمد بن طولون*:
هذا الجامع موضعه يعرف بجبل يشكر، قال ابن عبد الظاهر: وهو مكان مشهور بإجابة الدعاء، وقيل: إن موسى عليه صلاة والسلام ناجى ربه عليه بكلمات.
وابتدأ في بناء هذا الجامع الأمير أبو العباس أحمد بن طولون بعد بنائه القطائع (1) ، وهي مدينة بناها ما بين سفح الجبل حيث القلعة الآن، وبين الكبارة وما بين كوم الجارح وقناطر السباع؛ فهذه كانت القطائع (2) .
وكان ابتداء بنائه في سنة ثلاث وستين ومائتين، وفرغ منه سنة ست وستين، وبلغت النفقة عليه في بنائه مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار. وقيل: إنه قال: أريد أن أبني بناء إن احترقت مصر بقي، وإن غرقت بقي، فقيل: تبني بالجير والرماد والآجر الأحمر، ولا تجعل فيه أساطين خام، فإنه لا صبر له في النار؛ فبنى هذا البناء، فلما كمل بناؤه أمر بأن يعمل دائرة منطقه عنبر معجون ليفوح ريحها على المصلين، وأشعر الناس بالصلاة فيه، فلم يجتمع فيه أحد، وظنوا أنه بناه من مال حرام، فخطب
_________
* المقريزي 4: 36-49.
(1) المقريزي: "في سنة ثلاث وستين ومائتين".
(2) قال ابن تغري بردي: "القطائع كانت بمعنى الأطباق التي للمماليك السلطانية الآن، وكانت كل قطيعة لطائفة تسمى بها، فكانت قطيعة تسمى قطيعة السودان، وقطيعة الروم، وقطيعة الفراش؛ ونحو ذلك، وكانت كل قطيعة لكن جماعة؛ وهي بمنزلة الحارات اليوم، وسبب بناء ابن طولون القصر والقطائع، لكثرة مماليكه وعبيده، فضاقت دار العمارة عليه، فركب إلى سفح الجبل، وأمر بحرث قبور اليهود والنصارى، واختط موضعها، وبنى القصر والميدان، ثم أمر لأصحابه وغلمانه أن يختطوا لأنفسهم حول قصره وميدانه بيوتا، واختطوا وبنوا حتى اتصل البناء بعمارة الفسطاط -أعني مصر القديمة- ثم بنيت القطائع، وسميت كل قطيعة باسم من سكنها". النجوم الزاهرة 3: 15.(2/246)
فيه، وحلف أنه ما بني هذا المسجد بشيء من ماله، وإنما بناه بكنز ظفر به، وإن العشار الذي نصبه على منارته وجده في الكنز (1) .
فصلى الناس فيه، وسألوه أن يوسع قبلته، فذكر أن المهندسين اختلفوا في تحرير قبلته، فرأى في المنام النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو يقول: يا أحمد، ابن قبلة هذا الجامع على هذا الموضع؛ وخط له في الأرض صورة ما يعمل. فلما كان الفجر مضى مسرعا إلى ذلك الموضع؛ فوجد صورة القبلة في الأرض مصورة، فبنى المحراب عليها، ولا يسعه أن يوسع فيه لأجل ذلك، فعظم شأن الجامع، وسألوه أن يزيد فيه زيادة، فزاد فيه.
قال الخطيب: ركب أحمد بن طولون يومًا يتصيد بمصر، فغاصت قوائم فرسه في الرمل، فأمر بكشف ذلك الموضع، فظهر له كنز فيه ألف ألف دينار، فأنفقها في أبواب البر والصدقات، وبنى منها الجامع، وأنفق عليه مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار، وبنى المارستان، وأنفق عليه ستين ألف دينار.
وقال صاحب مرآة الزمان (2) : قرأت في تاريخ مصر أن ابن طولون كان لا يعبث قط،
_________
(1) المقريزي: "كان أحمد بن طولون يصلي الجمعة في المسجد القديم اللاصق للشرطة، فلما ضاق عليه بنى الجامع الجديد مما أفاء الله عليه من المال الذي وجده فوق الجبل في الموضع المعروف بتنور فرعون، ومنه بني العين، فلما أراد بناء الجامع قدر له ثلاثمائة عمود، فقيل له: ما تجدها أو تنفذ إلى الكنائس في الأرياق والضياع والخراب، فتحمل ذلك؛ فأنكر ذلك ولم يختره، وتعذب قلبه بالفكر في أمره، وبلغ النصراني الذي تولى له بناء العين، وكان قد غضب عليه وضربه، ورماه في المطبق، فكتب إليه يقول: أنا أبنيه لك كما تحب وتختار بلا عمد إلا عمودي القبلة، فأحضروه وقد طال شعره حتى نزل على وجهه، فقال له: ويحك! ما تقول في بناء الجامع؟ فقال: "أنا أصوره للأمير حتى يراه عيانا بلا عمد إلا عمودي القبلة، فأمر بأن تحضر له الجلود فأحضرت، وصوره له، فأعجبه واستحسنه وأطلقه وخلع عليه، وأطلق له للنفقة عليه مائة ألف دينار، فقال له: أنفق، وما احتجت إليه بعد ذلك أطلقناه لك، فوضع النصراني يده في البناء في الموضع الذي هو فيه، وهو جبل يشكر، فكان ينشر منه، ويعمل الجير، ويبني إلى أن فرغ من جميعه، وبيضه وعلق فيه القناديل، والسلاسل الحسان الطوال، وفرش فيه الحصر، وحمل إليه صناديق المصاحف، ونقل إليه القراء والفقهاء".
(2) مرآة الزمان في تاريخ الأعيان، لسبط ابن الجوزي، في التواريخ القديمة الإسلامية وأخبار الأمم الماضية، رتبه على السنين إلى سنة 654، وهي السنة التي مات فيها المؤلف.(2/247)
وأنه أخذ يومًا درجًا من الكاغد، وجعل يعبث به، وبقي بعضه في يده، فعجب الحاضرون فقال: اصنعوا منارة الجامع على هذا المثال، وهي قائمة اليوم على ذلك. قال: ولما تم بناء الجامع رأى ابن طولون في منامه كأن الله تجلى للقصور التي حول الجامع، ولم يتجل للجامع، فسأل المعبرين، فقالوا: يخرب ما حوله، ويبقى الجامع قائما وحده. قال: ومن أين لكم هذا؟ قالوا: من قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} (1) . وقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا تجلى الله لشيء خضع له"، فكان كما قالوا.
وفي الخطط للمقريزي: بنى أحمد بن طولون جامعه على بناء جامع سامراء، كذلك المنارة، وبيضه وحلقه وفرشه بالحصر العبدانية، وعلق فيه القناديل المحكمة لسلاسل النحاس المفرغة الحسان الطوال، وحمل إليه صناديق المصاحف، وكان في وسط صحنه قبة مشبكة من جميع جوانبها، وهي مذهبة على عشرة عمد رخام مفروشة كلها بالرخام، وتحت القبة قصعة رخام سعتها أربعة أذرع، وسطها فوارة تفور بالماء، وكانت على السطح علامات للزوال وأسطح بدرابزين ساج، فاخترق هذا كله في ساعة واحدة في ليلة الخميس لعشر خلون من جمادى الأولى سنة تسع وسبعين وثلاثمائة، فلما كان في محرم سنة خمس وثمانين وثلاثمائة؛ أمر العزيز بالله بن المعز ببناء فوارة عوضا عن التي احترقت.
قال المقريزي: ولما كمل بناء جامع بن طولون صلى فيه القاضي بكار (2) إمامًا، وخطب فيه أبو يعقوب البلخي، وأملى فيه الحديث الربيع بن سليمان تلميذ الإمام الشافعي، ودفع إليه أحمد بن طولون في ذلك اليوم كيسا فيه ألف دينار (3) . وعمل الربيع
_________
(1) سورة الأعراف آية: 143.
(2) المقريزي: "بكار بن قتيبة القاضي".
(3) المقريزي: "فلما فرغ المجلس خرج إليه غلام بكيس فيه ألف دينار وقال: يقول لك الأمير: نفعك الله بما علمك؛ وهذه لأبي طاهر -يعني ابنه- وتصدق أحمد بن طولون بصدقات عظيمة فيه، وعمل طعاما عظيما للفقراء والمساكين وكان يومًا عظيمًا".(2/248)
كتابًا (1) فيما روي عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "من بنى لله مسجدًا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة"، ودس أحمد بن طولون عيونا لسماع ما يقوله الناس من العيوب في الجامع، فقال رجل: محرابه صغير، وقال آخر: ما فيه عمود، وقال آخر: ليس له ميضأة، فجمع الناس وقال: أما المحراب فإني رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد خطه لي، وأما العمد فإني بنيت هذا الجامع من مال حلال وهو الكنز، وما كنت لأشوبه بغيره، وهذه العمد إما أن تكون من مسجد أو كنيسة، فنزهته عنهما؛ وأما الميضأة، فها أنا أبنيها خلفه، ثم عمل في مؤخره ميضأة وخزانة شراب فيها، جمع الأشربة والأدوية، وعليها خدم، وفيها طبيب جالس يوم الجمعة لحادث يحدث من الحاضرين للصلاة، وأوقف على الجامع أوقافًا كثيرة سوى الرباع ونحوها، ولم يتعرض إلى شيء من أراضي مصر ألبتة.
ثم لما وقع الغلاء في زمن المستنصر خربت القطائع بأسرها، وعدم السكن هنالك، وصار ما حول الجامع خرابًا.
وتوالت الأيام على ذلك، فتشعث الجامع، وخرب أكثره، وصارت المغاربة تنزل فيه بإبلها ومتاعها عند ما تقدم الحج، وتمادى الأمر على ذلك.
ثم إن لاجين لما قتل الأشرف خليل بن قلاوون هرب، فاختفى بمنارة هذا الجامع فنذر إن نجاه الله من هذه الفتنة ليعمرنه، فنجاه الله، وتسلطن، فأمر بتجديده، وفوض أموره إلى الأمير علم الدين سنجر الزيني، فعمره ووقف عليه وقفًا، ورتب فيه دروس التفسير والحديث والفقه على المذاهب الأربعة والقراءات والطب، والميقات حتى جعل من جملة ذلك وقفا على الديكة تكون في سطح الجامع في مكان مخصوص بها؛ لأنها تعين الموقتين وتوقظهم في السحر. فلما قرئ كتاب الوقف على السلطان أعجبه،
_________
(1) المقريزي: "بابا".(2/249)
كل ما فيه إلا أمر الديكة، فقال: أبطلوا هذا لا تضحكوا الناس علينا، فأبطل.
وأول من ولي نظره بعد تجديده الأمير علم الدين سنجر العادلي، وهو إذ ذاك دوادار السلطان لاجين.
ثم ولي نظره قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، ثم وليه أمير مجلس في أيام الناصر محمد بن قلاوون؛ فلما مات وليه قاضي القضاة عز الدين بن جماعة. ثم ولاه الناصر للقاضي كريم الدين، فجدد فيه مئذنتين، فلما نكبه السلطان عاد نظره للقاضي الشافعي إلى أيام السلطان حسن، فتولاه الأمير صرغتمس؛ وتوفر في مدة نظره من مال الوقف مائة ألف درهم فضة، وقبض عليه وهي حاصلة، فباشره قاضي القضاة إلى أيام الأشرف شعبان، ففوض نظره إلى الأمير الجاي اليوسفي إلى أن غرق، فتحدث فيه القاضي الشافعي إلى أن فوض الظاهر برقوق نظره إلى الأمير قطلوبغا الصفوي، ثم عاد نظره إلى القضاة بعد الصفوي، وهو بأيديهم إلى اليوم.
وفي سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة جدد الرواق البحري الملاصق للمئذنة البازدار مقدم الدولة عبيد بن محمد بن عبد الهادي، وجدد فيه أيضًا ميضأة بجانب الميضأة القديمة.(2/250)
الجامع الأزهر*:
هذا الجامع أول جامع أسس بالقاهرة، أنشأه القائد جوهر الكاتب الصقلي مولى المعز لدين الله لما اختط القاهرة، وابتدأ بناءه في يوم السبت لست بقين من جمادى الأولى سنة تسع وخمسين وثلاثمائة، وكمل بناؤه لسبع (1) خلون من رمضان سنة إحدى وستين، وكان به طِلَّسم، لا يسكنه عصفور ولا يمام ولا حمام، وكذا سائر الطيور (2) .
ثم جدده الحاكم بأمر الله، ووقف عليه أوقافًا، وجعل فيه تنورين فضة وسبعة وعشرين قنديلًا فضة، وكان نضده في محرابه منطقة فضة، كما كان في محراب جامع عمرو، فقلعت في زمن صلاح الدين يوسف بن أيوب، فجاء وزنها خمسة آلاف درهم نقرة (3) ، وقلع أيضا المناطق من بقية الجوامع.
ثم إن المستنصر جدد هذا الجامع أيضا وجدده الحافظ، وأنشأ فيه مقصورة لطيفة بجوار الباب الغربي الذي في مقدم الجامع (4) .
ثم جدد في أيام الظاهر بيبرس.
ولما بني الجامع كانت الخطبة تقام فيه، حتى بني الجامع الحاكمي، فانتقلت الخطبة إليه، وكان الخليفة يخطب في جامع عمرو جمعة، وفي جامع ابن طولون جمعة، وفي
_________
* المقريزي: 4: 49-55.
(1) المقريزي: "لتسع". وفيه: "وجمع فيه وكتب بدائرة القبة التي في الرواق الأول وهي على يمنة المحراب، والمنبر ما نصه بعد البسملة: "مما أمر ببنائه عبد الله ووليه أبو تميم معد الإمام المعز لدين الله أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى آبائه، وأبنائه الأكرمين على يد عبده جوهر الكاتب الصقلي، وذلك في سنة ستين وثلثمائة".
(2) المقريزي: "وهو صورة ثلاثة طيور منقوشة، كل صورة على رأس عمود، فمنها صورتان في مقدم الجامع بالرواق الخامس، منها صورة في الجهة الغربية في العمود، وصورة في أحد العمودين اللذين على يسار من استقبل سدة المؤذنين، والصورة الأخرى في الصحن في الأعمدة القبلية مما يلي الشرقية".
(3) النقرة: القطعة المذابة من الذهب أو الفضة.
(4) المقريزي: "عرفت بمقصورة فاطمة، من أجل فاطمة الزهراء -رضي الله عنها- رئيت بها في المنام".(2/251)
الجامع الأزهر جمعة، ويستريح جمعة. فلما بني الجامع الحاكمي صار الخليفة يخطب فيه.
ولم تنقطع الجمعة من الجامع الأزهر بالكلية. فلما ولي السلطان صلاح الدين بن أيوب، قلد وظيفة القضاء صدر الدين بن درباس، فعمل بمقتضى مذهبه، وهو امتناع إقامة خطبتين في بلد واحد، كما هو مذهب الشافعي -رضي الله عنه، فأبطل الخطبة من الجامع الأزهر، وأقرها بالجامع الحاكمي لكونه أوسع، فلم يزل الجامع الأزهر معطلا من إقامة الخطبة فيه إلى أيام الظاهر بيبرس، فتحدث في إعادتها فيه، فامتنع قاضي القضاة ابن بنت الأعز وصمم، فولى السلطان قاضيا حنفيا، فأذن في إعادتها فأعيدت.(2/252)
جامع الحاكم*:
أول من أسسه العزيز بالله ابن المعز، وخطب فيه، وصلى بالناس (1) ، ثم أكمله الحاكم بأمر الله (2) ، وكان أولا يعرف بجامع الخطبة، ويعرف اليوم بجامع الحاكم، ويقال له: الجامع الأنور، وكان تمام عمارته في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وحبس عليه الحاكم عدة قياسر، وأملاك بباب الفتوح، وقد قدم في الزلزلة الكائنة في سنة اثنتين وسبعمائة، فجدده بيبرس الجاشنكير، ورتب فيه دروسًا على المذاهب الأربعة، ودرس حديث ودرس نحو، ودرس قراءات.
ومن بناء الحاكم أيضًا جامع راشدة، بجوار رباط الآثار، وعرف بجامع راشدة؛ لأنه في خطة راشدة؛ قبيلة من لخم. وصلى به الحاكم الجمعة أيضا (3) .
ومن بنائه أيضًا الجامع الذي بالمقس على شاطئ النيل، ووقف عليه أوقافا، ثم جدده في سنة سبعين وسبعمائة الوزير شمس الدين المقسي (4) .
_________
* المقريزي 4: 55-62.
(1) المقريزي: "هذا الجامع بني خارج باب الفتوح أحد أبواب القاهرة".
(2) المقريزي: "ثم أكمله الحاكم بأمر الله، فلما وسع أمير الجيوش بدر الجمالي القاهرة، وجعل أبوابها حيث هي اليوم صار جامع الحاكم داخل القاهرة، وكان يعرف أولا بجامع الخطبة".
(3) نقل المقريزي عن المسبحي في حوادث سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة، "ابتدئ ببناء جامع راشدة سابع عشر ربيع الآخر، وكان مكانه كنيسة حولها مقابر لليهود، والنصارى فبنى بالطوب ثم هدم وزيد فيه، وبنى بالحجر، وأقيمت به الجمعة".
وانظر المقريزي 4: 63-65.
(4) انظر المقريزي 4: 63-65.(2/253)
ومن الجوامع التي بنيت في خلافة بني عبيد الجامع الأقمر، بناه الآمر بأحكام الله (1) .
والجامع الأفخر؛ وهو (2) الذي يقال له اليوم: جامع الفكاهيين بناه الخليفة الظافر.
وجامع الصلاح خارج (3) باب زويلة بناه الملك الصالح طلائع بن رزيك وزير الخليفة الفائز.
_________
(1) المقريزي عن ابن عبد الظاهر "كان مكانه علافون والحوض كان المنظرة، فتحدث الخليفة الآمر مع الوزير المأمون بن البطائحي في إنشائه جامعا، فلم يترك قدام القصر دكانا، وبنى تحت الجامع المذكور في أيامه دكاكين ومخازن من جهة باب الفتوح، لا من صوب القصر، وكمل الجامع المذكور في أيامه، وذلك في سنة تسع عشرة وخمسمائة، وذكر أن اسم الأمر والمأمون عليه".
وانظر المقريزي 4: 75-76.
(2) ذكره المقريزي في 4: 80 باسم جامع الظافر، وقال: "هذا الجامع بالقاهرة في وسط السوق الذي كان يعرف قديما بسوق السراجيين، ويعرف اليوم بسوق الشرابيين.... وهو من المساجد الفاطمية".
(3) ذكره المقريزي في 4: 81 باسم جامع الصالح.(2/254)
ذكر أمهات المدارس والخانقاه العظيمة بالديار المصرية:
مدخل
قال: أول من بنى المدارس في الإسلام الوزير نظام الملك قوام الدين الحسن بن علي الطوسي، وكان وزير السلطان البارسلان السلجوقي عشر سنين، ثم وزر لولده ملكشاه عشرين سنة. وكان يحب الفقهاء والصوفية ويكرمهم، ويؤثرهم، بنى المدرسة النظامية ببغداد، وشرع فيها في سنة سبع وخمسين وأربعمائة، ونجزت سنة تسع وخمسين، وجمع الناس على طبقاتهم فيها يوم السبت عاشر ذي القعدة ليدرس فيها الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، فجاء الشيخ ليحضر الدرس، فلقيه صبي في الطريق، فقال: يا شيخ كيف تدرس في مكان مغصوب؟ فرجع الشيخ؛ واختفى. فلما يئسوا من حضوره، ذكر الدرس بها أبو نصر بن الصباغ عشرين يوما. ثم إن نظام الملك احتال على الشيخ أبي إسحاق، ولم يزل يرفق به حتى درس بها، فحضر يوم السبت مستهل ذي الحجة، وألقى الدرس بها إلى أن توفي. وكان يخرج أوقات الصلاة فلا يصلي بمسجد خارجها احتياطًا. وبنى نظام الملك أيضا مدرسة بنيسابور تسمى النظامية، درس بها إمام الحرمين، واقتدى الناس به في بناء المدارس.
وقد أنكر الحافظ الذهبي في تاريخ الإسلام على من زعم أن نظام الملك أول من بنى المدارس وقال: قد كانت المدرسة البيهقية بنيسابور قبل أن يولد نظام الملك، والمدرسة السعيدية بنيسابور أيضا، بناها الأمير نصر بن سبكتكين أخو السلطان محمود لما كان واليا بنيسابور، ومدرسة ثالثة بنيسابور، بناها أبو سعد إسماعيل بن علي بن المثنى الأستراباذي الصوفي الواعظ شيخ الخطيب، ومدرسة رابعة بنيسابور أيضا بنيت للأستاذ أبي إسحاق.
قال الحاكم في ترجمة الأستاذ أبي إسحاق: لم يكن بنيسابور مدرسة قبلها مثلها؛(2/255)
وهذا صريح في أنه بني قبلها غيرها. قال القاضي تاج الدين السبكي في طبقاته الكبرى: قد أدرت فكري، وغلب على ظني أن نظام الملك أول من رتب فيها المعاليم للطلبة، فإنه لم يصح لي: هل كان للمدارس قبله معاليم أم لا؟ والظاهر أنه لم يكن لهم معلوم. انتهى.
وأما مصر، قال ابن خلكان: لما ملك السلطان صلاح الدين بن أيوب بالديار المصرية، لم يكن بها شيء من المدارس، فإن الدولة العبيدية كان مذهبها
مذهب الرافضة والشيعة، فلم يكونوا يقولون بهذه الأشياء، فبنى السلطان صلاح الدين بالقرافة الصغرى المدرسة المجاورة للإمام الشافعي، وبنى مدرسة مجاورة للمشهد الحسيني بالقاهرة، وجعل دار سعيد السعداء خادم الخلفاء المصريين خانقاه (1) ، وجعل دار عباس الوزير العبيدي مدرسة للحنفية، وهي المعروفة الآن بالسيوفية، وبنى المدرسة التي بمصر المعروفة بزين التجار للشافعي، وتعرف الآن بالشريفية، وبنى بمصر مدرسة أخرى للمالكية، وهي المعروفة الآن بالقمحية.
وقد حكي أن الخليفة المعتضد بالله العباسي لما بنى قصره ببغداد استزاد في الذرع، فسئل عن ذلك، فذكر أنه يريده ليبني فيها دورا ومساكن ومقاصر، يرتب في كل موضع رؤساء، كل صناعة ومذهب من مذاهب العلوم النظرية والعملية، ويجري الأرزاق السنية، ليقصد كل من اختار علما أو صناعة رئيسا، فيأخذ عنه.
وقد ذكر الواقدي أن عبد الله بن أم مكتوم قدم مهاجرا إلى المدينة، فنزل دار القراء.
_________
(1) الخانقاه، وجمعها خوانق، وكذلك الرباطات والزوايا: معاهد دينية إسلامية للرجال والنساء، أنشئت لإيواء المنقطعين والزهاد والعباد. ولفظ الرباط والزاوية عربيان، أما الخانقاه ففارسية ومعناها البيت، وهي حديثة في الإسلام، في حدود الأربعمائة، وجعلت لتخلي الصوفية فيها للعبادة والتصرف.(2/256)
ذكر المدرسة الصلاحية:
بجوار الإمام الشافعي رضي الله عنه، وينبغي أن يقال لها: تاج المدارس، وهي أعظم مدارس الدنيا على الإطلاق لشرفها بجوار الإمام الشافعي؛ ولأن بانيها أعظم الملوك، ليس في الإسلام مثله، لا قبله ولا بعده، بناها السلطان صلاح الدين بن أيوب -رحمه الله تعالى- سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، وجعل التدريس والنظر بها للشيخ نجم الدين الخبوشاني، وشرط له من المعلوم في كل شهر أربعين دينار معالمة، صرف كل دينار ثلاثة عشر درهما وثلث درهم عن التدريس، وجعل عن معلوم النظر في أوقاف المدرسة عشرة دنانير، ورتب له من الخبز في كل يوم ستين رطلا بالمصري، وراويتين من ماء النيل.
قال المقريزي: ولي تدريسها جماعة من الأكابر الأعيان، ثم خلت من مدرس ثلاثين سنة، واكتفي فيها بالمعيدين (1) ، وهم عشرة أنفس، فلما كان سنة ثمان وسبعين وستمائة، ولي تدريسها تقي الدين بن رزين، وقرر له نصف المعلوم، فلما مات وليها الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد بربع المعلوم، فلما ولي الصاحب برهان الدين الخضر السنجاري التدريس قرر له المعلوم الشاهد به كتاب الوقف.
وقد استمرت بيد الخبوشاني إلى أن مات سنة سبع وثمانين وخمسمائة، فوليها شيخ الشيوخ صدر الدين أبو الحسن محمد بن حَمَّويْه الجويني في حياة الواقف، فلما مات الواقف عزل
_________
(1) المعيد: ما عليه قدر زائد على سماع الدروس، من تفهيم الطلبة ونفعهم، معيد النعم 180.(2/257)
عنها واستمرت عليها أيدي بني السلطان، واحدا بعد واحد، ثم خلصت بعد ذلك وعاد إليها الفقهاء والمدرسون. كذا في تاريخ ابن كثير.
وذكر المقريزي في الخطط أن صدر الدين بن حموي ولي تدريس الشافعي، وأنه وليها ولده كمال الدين أحمد، ومات سنة سبع وثلاثين وستمائة، ثم وليها قاضي القضاة تاج الدين بن بنت الأعز، ثم وليها قاضي القضاة تقي الدين بن رزين، ثم وليها قاضي القضاة تقي الدين بن بنت الأعز، ثم وليها قاضي القضاة شخ الإسلام تقي الدين بن دقيق العيد، ثم وليها عز الدين محمد بن محمد بن الحارث
بن مسكين، ثم وليها في سنة إحدى عشرة وسبعمائة ضياء الدين عبد الله بن أحمد بن منصور النشائي (1) ، ومات سنة ست عشرة وسبعمائة، ثم وليها مجد الدين حرمي بن قاسم بن يوسف الفاقوسي إلى أن مات سنة أربع وثلاثين وسبعمائة، ثم وليها شمس الدين بن القماح، ثم ضياء الدين محمد بن إبراهيم المناوي، ثم شمس الدين بن اللبان، ثم شمس الدين محمد بن أحمد بن خطيب بيروت الدمشقي، ثم بهاء الدين بن الشيخ تقي الدين السبكي، ثم أخوه تاج الدين لما سافر بهاء الدين عوضه قاضيا بالشام، ثم لما عاد تاج الدين إلى القضاء عاد إليها إلى التدريس إلى أن مات.
ثم ابن عمه قاضي القضاة بهاء الدين أبو البقاء محمد بن عبد البر السبكي، ثم ولده بدر الدين محمد، ثم البرهان بن جماعة، ثم الشيخ سراج الدين البلقيني، ثم أعيد البرهان بن جماعة، ثم أعيد بدر الدين أبو البقاء السبكي، ثم قاضي القضاة عماد الدين أحمد بن عيسى الكركي، ثم أعيد البدر بن أبي البقاء، ثم وليها بعده ولده جلال الدين محمد إلى أن مات، فوليها بعده شمس الدين البيري أخو جمال الدين الأستادار، ثم عزل في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة لما نكب أخوه. ووليها
_________
(1) ط: "النسائي" تحريف.(2/258)
نور الدين علي بن عمر التلواني (1) ، فأقام بها مدة طويلة إلى أن مات في ذي القعدة سنة أربع وأربعين وثمانمائة؛ وهو أطول شيوخها مدة، ووليها بعده العلاء القلقشندي، ثم ابن حجر الوناني (2) ، ثم القاياتي، ثم السفطي، ثم الشرف المناوي، ثم السراج الحمصي ثم أعيد المناوي إلى أن مات، ثم ولده زين العابدين، ثم ابنه ثم إمام الكاملية، ثم الحمصي، ثم الشيخ زكريا.
_________
(1) التلواني، بالكسر، ونسبه لتلوانة قرية بالمنوفية.
(2) الونائي، منسوب لوناء من قرى الصعيد.(2/259)
خانقاه سعيد السعداء*:
وقفها السلطان صلاح الدين بن أيوب، وكانت دارا لسعيد السعداء قنبر -ويقال: عنبر- عتيق الخليفة المستنصر (1) ، فلما استبد الناصر صلاح الدين بالأمر، وقفها على الصوفية في سنة تسع وستين وخمسمائة، ورتب لهم كل يوم طعاما ولحما وخبزا، وهي أول خانقاه عملت بديار مصر، ونعت شيخها بشيخ الشيوخ، وما زال ينعت بذلك إلى أن بنى الناصر محمد بن قلاوون خانقاه سرياقوس، فدعي شيخها بشيخ الشيوخ، فاستمر ذلك بعدهم إلى أن كانت الحوادث، والمحن منذ سنة ست وثمانمائة، وضاعت الأحوال، وتلاشت الرتب، تلقب كل شيخ خانقاه بشيخ الشيوخ، وكان سكانها من الصوفية، يعرفون بالعلم والصلاح، وترجى بركتهم.
وولي مشيختها الأكابر، وحيث أطلق في كتب الطبقات في ترجمة أحد أنه ولي "مشيخة الشيوخ"، فالمراد مشيختها، ولشيخها شيخ الشيوخ؛ هذا هو المراد عند الإطلاق.
وقد وليها عن الواقف صدر الدين محمد بن حمويه الجويني، ثم ولده كمال الدين أحمد، ثم ولده معين الدين حسن أخو كمال الدين، ثم وليها كريم الدين عبد الكريم بن الحسين الآملي، ثم وليها قاضي القضاة تاج الدين بن بنت الأعز، ثم وليها الشيخ صابر الدين حسن البخاري، ثم وليها شمس الدين محمد بن أبي بكر الأيلي، ثم وليها قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، ثم وليها الآملي، ثم وليها العلامة علاء الدين القونوي، ثم وليها مجد الدين موسى بن أحمد بن محمود الأقصرائي، ثم وليها شمس الدين محمد بن إبراهيم
_________
* المقريزي 4: 273-275.
(1) في المقريزي: "أحد الأستاذين المحنكين خدام القصر عتيق الخليفة المستنصر، قتل في سابع شعبان سنة أربع وأربعين وخمسمائة، ورمى برأسه من القصر، ثم صلبت جثته بباب زويلة".(2/260)
النقشواني، ثم وليها كمال الدين أبو الحسن الجواري، ثم سراج الدين عمر الصدي إلى أن مات سنة تسع وأربعين وسبعمائة، ثم وليها الشيخ بدر الدين حسن بن العلامة علاء الدين القونوي إلى أن مات سنة ست وسبعين وسبعمائة، ثم جلال الدين
جار الله الحنفي إلى سنة ثمان وسبعين وسبعمائة، ثم وليها علاء الدين أحمد بن السرائي، ثم الشيخ برهان الدين الأنباسي، ثم شمس الدين محمد بن محمود بن عبد الله ابن أخي جار الله، ثم أعيد البرهان الأنباسي، ثم شهاب الدين أحمد بن محمد الأنصاري، ثم أعيد محمد بن أخي جار الله، ثم وليها شمس الدين محمد بن علي البلالي مدة متطاولة إلى أن مات سنة عشرين وثمانمائة، ثم وليها شمس الدين البيري أخو جمال الدين الأستادار، ثم وليها الشيخ شهاب الدين بن المحموه، ثم جمال الدين يوسف بن أحمد التزمنتي المعروف بابن المجبر، ثم أعيد ابن المحموه، ثم القاياتي، ثم الشيخ خالد، ثم تقي الدين القلقشندي، ثم السراج العبادي، ثم الكوراني، ثم السنتاوي.(2/261)
المدرسة الكاملية*:
وهي دار الحديث، وليس بمصر دار حديث غيرها، وغير دار الحديث التي بالشيخونية. قال المقريزي: وهي ثاني دار عملت للحديث، فإن أول من بنى دار حديث على وجه الأرض الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بدمشق، ثم بنى الكامل هذه الدار، بناها الملك الكامل، وكملت عمارتها في سنة إحدى وعشرين وستمائة، وجعل شيخها أبا الخطاب عمر بن دحية، ثم وليها بعده أخوه أبو عمرو عثمان بن دحية، ثم وليها الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري، ثم وليها شرف الدين بن أبي الخطاب بن دحية، ثم وليها بعده المحدث محيي الدين بن سراقة، ثم وليها تاج الدين بن القسطلاني المالكي، ثم وليها النجيب عبد اللطيف الحراني، ثم وليها القطب القسطلاني الشافعي، ثم وليها ابن دقيق العيد، ثم وليها أبو عمرو بن سيد الناس والد الحافظ فتح الدين، فانتزعها منه البدر بن جماعة، ثم وليها عماد الدين محمد بن علي بن حرمي الدمياطي ومات سنة تسع وأربعين وسبعمائة، ثم البدر بن جماعة، ثم نزل عنها للجمال بن التركماني إلى أن مات سنة تسع وستين وسبعمائة، ووليها الحافظ زين الدين العراقي، ثم لما أن ولي قضاء المدينة سنة ثمان وثمانين وسبعمائة، استقر فيها الشيخ سراج الدين بن الملقن.(2/262)
المدرسة الصالحية*:
بين القصرين هي أربع (1) مدارس للمذاهب الأربعة، بناها الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل، شرع في بنائها سنة تسع وثلاثين (2) . قال المقريزي: وهذه المدرسة من أجل مدارس القاهرة، إلا أنها قد تقادم عهدها، فرثت، ولما فتحت أنشد فيها الأديب أبو الحسين الجزار:
ألا هكذا يبني المدارس من بنى ... ومن يتغالى في الثواب وفي البنا
في أبيات أخر.
قال السراج الوراق:
مليك له في العلم حب وأهله ... فلله حب ليس فيه ملام!
فشيدها للعلم مدرسة غدا ... عراق أهلها إذ ينسبون وشام
ولا تذكرن يوما نظامية لها ... فليس يضاهي ذا النظام نظام
قال ابن السنبرة الشاعر -وقد نظر إلى قبر الملك الصالح، وقد دفن إلى ما يختص بالمالكية من مدرسته:
بنيت لأرباب العلوم مدارسًا ... لتنجو بها من هول يوم المهالك
وضاقت عليك الأرض لم تلق منزلا ... تحل به إلا إلى جنب مالك
_________
* المقريزي 4: 209-211.
(1) المقريزي: "هذه المدرسة بخط بين القصرين من القاهرة، كان موضعها من جملة القصر الكبير الشرقي".
(2) قال المقريزي: "ورتب فيها دروسًا أربعة للفقهاء المنتمين إلى المذاهب الأربعة في سنة إحدى وأربعين وستمائة، وهو أول من عمل بمصر دروسًا أربعة في مكان.(2/263)
المدرسة الظاهرية القديمة*:
للملك الظاهر بيبرس البندقداري شرع في بنائها سنة إحدى وستين وستمائة، وتمت في أول سنة اثنتين وستين، ورتب لتدريس الشافعية بها تقي الدين بن رزين، والحنفية محب الدين عبد الرحمن بن الكمال عمر بن العديم، ولتدريس الحديث الحافظ شرف الدين الدمياطي، ولإقراء القراءات بالروايات كمال الدين القرشي، ووقف بها خزانة كتب (1) .
المدرسة المنصورية*:
أنشأها هي والبيمارستان الملك المنصور قلاوون، وكان على عمارتها الأمير علم الدين سنجر الشجاعي، فلما تما دخل عليه الشرف البوصيري، فمدحه بقصيدة أولها:
أنشأت مدرسة ومارستانا ... لتصحح الأديان والأبدانا
فأعجبه ذلك وأجزل عطاءه، ورتب في هذه المدرسة دروس فقه على المذاهب الأربعة، ودرس تفسير ودرس حديث، ودرس طب.
_________
* المقريزي: 4: 216-217.
(1) المقريزي: "جعل بها خزانة كتب تشتمل على أمهات الكتب في سائر العلوم، وبنى بجانبها مكتبا لتعليم أيتام المسلمين كتاب الله تعالى، وأجرى لهم الجرايات والكسوة".(2/264)
المدرسة الناصرية*:
ابتدأها العادل كتبغا، وأتمها الناصر محمد بن قلاوون، فرغ من بنائها سنة ثلاث وسبعمائة، ورتب بها درسا للمذاهب الأربعة.
قال المقريزي: أدركت هذه المدرسة وهي محترمة إلى الغاية، يجلس بدهليزها عدة من الطواشية، ولا يمكن غريب أن يصعد إليها (1) .
الخانقاه البيبرسية*:
بناها الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكيري في سنة سبع وسبعمائة موضع دار الوزارة، ومات بعد أن تسلطن، فأغلقها الناصر بن قلاوون في سلطنته الثالثة مدة، ثم أمر بفتحها. قال المقريزي: وهي أجل خانقاه بالقاهرة بنيانًا، وأوسعها مقدارا، وأتقنها صنعة، والشباك الكبير الذي بها هو الشباك الذي كان بدار الخلافة ببغداد. وكانت الخلفاء تجلس فيه، حمله الأمير البساسيري من بغداد لما غلب على الخليفة القائم العباسي، وأرسل به إلى صاحب مصر.
_________
* المقريزي 4: 221.
(1) بعدها في المقريزي "وكان يفرق بها على الطلبة والقراء، وسائر أرباب الوظائف بها السكر في كل شهر لكل أحد منهم نصيب".(2/265)
خانقاه قوصون بالقرافة*:
بنيت في سنة ست وثلاثين وسبعمائة، وأول من ولي مشيختها الشمسي محمود الأصفهاني الإمام المشهور صاحب التصانيف المشهورة، وكانت من أعظم جهات البر، وأعظمها خيرًا، إلى أن حصلت المحن سنة ست وثمانمائة، فتلاشى أمرها كما تلاشى غيرها.
خانقاه شيخو*:
بناها الأمير الكبير رأس نوبة الأمراء الجمدارية سيف الدين شيخو العمري جالبه خواجا عمر، وأستاذه الناصر محمد بن قلاوون، ابتدأ عماراتها في المحرم سنة ست وخمسين وسبعمائة، وفرغ من عمارتها في سنة سبع وخمسين وسبعمائة ورتب فيها أربعة دروس على المذاهب الأربعة، ودرس حديث، ودرس قراءات ومشيخة إسماع الصحيحين والشفاء، وفي ذلك يقول ابن أبي حجلة:
ومدرسة للعلم فيها مواطن ... فشيخو بها فرد وإيتاره جمع
لئن بات منها في القلوب مهابة ... فواقفها ليث وأشياخها سبع
ومات شيخو بعد فراغها بسنة في ذي الحجة سنة ثمان وخمسين، وشرط في شيخها الأكبر، وهو شيخ حضور التصوف وتدريس الحنفية بالديار المصرية، وان يكون عارفا بالتفسير والأصول، وألا يكون قاضيا؛ وهذا الشرط عام في جميع أرباب الوظائف بها.(2/266)
وأول من تولى المشيخة بها الشيخ أكمل الدين محمد بن محمود البابرتي.
وأول من تولى تدريس الشافعية بها الشيخ بهاء الدين بن الشيخ تقي الدين السبكي.
وأول من تولى تدريس المالكية بها الشيخ خليل، صاحب المختصر.
وأول من تولى تدريس الحنابلة بها قاضي القضاة موفق الدين.
وأول من تولى تدريس الحديث بها جمال الدين عبد الله بن الزولي، وأقام الشيخ أكمل الدين في المشيخة إلى أن مات في رمضان سنة ست وثمانين.
وولي بعده عز الدين يوسف بن محمود الرازي إلى أن مات في المحرم سنة أربع وتسعين.
وولي بعده جمال الدين محمود بن أحمد القيصري المعروف بابن العجمي، ثم عزل في سنة خمس وتسعين.
وولي الشيخ سيف الدين السيرامي مضافا لمشيخة الظاهرية.
ثم ولي بدر الدين الكلساني، ثم عزل وولي الشيخ زاده.
ثم ولي بعده جمال الدين بن العديم سنة ثمان وثمانمائة، ثم ولده ناصر الدين سنة إحدى عشرة وثمانمائة.
ثم وليها أمين الدين بن الطرابلسي سنة اثنتي عشرة، ثم أعيد ابن العديم، ثم وليها شرف الدين بن التباني، سنة خمس عشرة إلى أن مات في صفر سنة سبع وعشرين، وولي الشيخ سراج قارئ الهداية إلى أن مات سنة تسع وعشرين، ووليها الشيخ زين الدين التفهني، ثم صرف في سنة ثلاث وثلاثين بالقضاء، ووليها صدر الدين بن العجمي، فمات في رجب من عامه، ووليها البدر حسن بن أبي بكر القدسي، ثم وليها الشيخ باكير.(2/267)
مدرسة صرغتمش*:
ابتدأ بعمارتها في رمضان سنة ست وخمسين وسبعمائة، وتمت في جمادى الأولى سنة سبع وخمسين، وهي من أبدع المباني وأجلها، ورتب فيها درس فقه على مذهب الحنفية، قرر فيه القوام الإتقاني، ودرس حديث.
وقال العلامة شمس الدين بن الصائغ:
ليهنك يا صرغتمش ما بنيته ... لأخراك في دنياك من حسن بنيان
به يزدهي الترخيم كالزهر بهجة ... فلله من زهر ولله من بان!(2/268)
مدرسة السلطان حسن بن الناصر محمد بن قلاوون:
شرع في بنائها في سنة ثمان وخمسين وسبعمائة، وكان في موضعها دور وإسطبلات. قال المقريزي: لا يعرف ببلاد الإسلام معبد من معابد المسلمين يحكي هذه المدرسة في كبر قالبها، وحسن هندامها، وضخامة شكلها، قامت العمارة فيها مدة ثلاث سنين، لا تبطل يوما واحدا، وأرصد لمصروفها في كل يوم عشرين ألف درهم، منها نحو ألف مثقال ذهبًا، حتى قال السلطان: لولا أن يقال: ملك مصر عجز عن إتمام ما بناه لتركت بناءها؛ من كثرة ما صرف.
وذرع إيوانها الكبير خمسة وستون ذراعا في مثلها، ويقال: إنه أكبر من إيوان كسرى بخمسة أذرع، وبها أربع مدارس للمذاهب الأربعة.
قال الحافظ ابن حجر في إنباء الغمر: يقال: إن السلطان حسن أراد أن يعمل في مدرسته درس فرائض، فقال البهاء السبكي: هو باب من أبواب الفقه، فأعرض عن ذلك. فاتفق وقوع قضية في الفرائض مشكلة، فسئل عنها السبكي، فلم يجب عنها، فأرسلوا إلى الشيخ شمس الدين الكلائي (1) فقال: إذا كانت الفرائض بابًا من أبواب الفقه، فما له لا يجيب؟ فشق ذلك على بهاء الدين وندم على ما قال.
وكان السلطان قد عزم على أن يبني أربع منائر، يؤذنون عليها، فتمت ثلاث منائر إلى أن كان يوم السبت سادس ربيع الآخر سنة اثنتين وستين وسبعمائة، سقطت المنارة التي على الباب، فهلك تحتها نحو ثلاثمائة نفس من الأيتام الذي كانوا قد رتبوا بمكتب السبيل ومن غيرهم، فلهج الناس بأن ذلك ينذر بزوال الدولة، فقال الشيخ بهاء الدين السبكي في ذلك أبياتا:
أبشر فسعدك يا سلطان مصر أتى ... بشيره بمقال سار كالمثل
_________
(1) الكلائي، بالفتح، منسوب لكفر كلا الباب بالغربية.(2/269)
إن المنارة لم تسقط لمنقصة ... لكن لسر خفي قد تبين لي
من تحتها قرئ القرآن فاستمعت ... فالوجد في الحال أداها إلى الميل
لو أنزل الله قرآنا على جبل ... تصدعت رأسه من شدة الوجل
تلك الحجارة لم تنقض بل هبطت ... من خشية الله لا للضعف والخلل
وغاب سلطانها فاستوحشت فرمت ... بنفسها لجوى في القلب مشتعل
فالحمد لله خط العين زال بما ... قد كان قدره الرحمن في الأزل
لا يعتري البؤس بعد اليوم مدرسة ... شيدت بنيانها للعلم والعمل
ودمت حتى ترى الدنيا بها امتلأت ... علمًا فليس بمصر غير مشتغل
فاتفق قتل السلطان بعد سقوط المئذنة بثلاثة وثلاثين يوما.(2/270)
المدرسة الظاهرية:
كان الشروع في عمارتها في رجب سنة ست وثمانين، وانتهت في رجب سنة ثمان وثمانين، وكان القائم على عمارتها جركس الخليلي أمير أخور، وقال الشعراء في ذلك وأكثروا، فمن أحسن ما قيل:
الظاهر الملك السلطان همته ... كادت لرفعته تسمو على زحل
وبعض خدامه طوعًا لخدمته ... يدعو الجبال فتأتيه على عجل
قال ابن العطار:
قد أنشأ الظاهر السلطان مدرسة ... فاقت على إرم مع سرعة العمل
يكفي الخليلي أن جاءت لخدمته ... شم الجبال لها تأتي على عجل
قال الحافظ ابن حجر: ومن رأى الأعمدة التي بها عرف الإشارة. ونزل السلطان غليها في الثاني عشر من رجب، ومد سماطا عظيما، وتكلم فيها المدرسون، واستقر علاء الدين السيرامي مدرس الحنفية بها، وشيخ الصوفية، وبالغ السلطان في تعظيمه حتى فرش سجادته بيده، واستقرأ أوحد الدين (1) الرومي مدرس الشافعية، وشمس الدين ابن مكين مدرس المالكية، وصلاح بن الأعمى مدرس الحنابلة، وأحمد زاده العجمي مدرس الحديث، وفخر الدين الضرير إمام الجامع الأزهر مدرس القراءات.
قال ابن حجر: فلم يكن منهم من هو فائق في فنه على غيره من الموجودين غيره، ثم بعد مدة قرر فيها الشيخ سراج الدين البلقيني مدرس التفسير، وشيخ الميعاد.
_________
(1) ط: "وحيد الدين".(2/271)
المدرسة المؤيدية:
انتهت عمارتها في سنة تسع عشرة وثمانمائة، وبلغت النفقة عليها أربعين ألف دينار، واتفق بعد ذلك بسنة ميل المئذنة التي بنيت لها على البرج الشمالي بباب زويلة، وكان الناظر على العمارة بهاء الدين بن البرجي، فأنشد تقي الدين بن حجة في ذلك أبيات:
على البرج من بابي زويلة أنشئت ... منارة بيت الله للعمل المنجي
فأخذ بها البرج اللعين آمالها ... ألا صرحوا يا قوم باللعن للبرج
وقال شعبان الأثاري:
عتبنا على ميل المنار زويلة ... وقلنا تركت الناس بالميل في هرج
فقالت قريني برج نحس أمالني ... فلا بارك الرحمن في ذلك البرج
قال الحافظ ابن حجر:
لجامع مولانا المؤيد رونق ... منارته بالحسن تزهو وبالزين
تقول وقد مالت عن القصد أمهلوا ... فليس على جسمي أضر من العين
وقال العيني:
منارة كعروس الحسن إذ جليت ... وهدمها بقضاء الله والقدر
قالوا أصيبت بعين قلت ذا غلط ... ما أوجب الهدم إلا خسة الحجر
وقال نجم الدين بن النبيه:
يقولون في تلك المنار تواضع ... وعين وأقوال وعندي جليها
فلا البرج أخنى والحجارة لم تعب ... ولكن عروس أثقلتها حليها(2/272)
وقال أيضا:
بجامع مولانا المؤيد أنشئت ... عروس سمت ما خلت قط مثالها
ومذ علمت أن لا نظير لها انثنت ... وأعجبها والعجب عنا أمالها
رباط الآثار*:
بالقرب من بركة الحبش (1) عمره الصاحب تاج الدين بن الصاحب فخر الدين بن الصاحب بهاء الدين حنا (2) ، وفيه قطعة خشب وحديد، وأشياء أخر من آثار رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) ، اشتراها الصاحب المذكور بمبلغ ستين ألف درهم فضة من بني إبراهيم أهل ينبع؛ ذكروا إنها لم تزل موروثة عندهم من واحد إلى واحد إلى رسول -الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحملها إلى هذا الرباط، وهي به إلى اليوم يتبرك (4) بها. ومات الصاحب تاج الدين في جمادى الآخرة سنة سبع وسبعمائة.
وللأديب جلال الدين بن خطيب داريا في الآثار بيتان:
يا عين إن بعد الحبيب وداره ... ونأت مرابعه وشط مزاره (5)
فلقد ظفرت من الزمان بطائل ... إن لم تريه فهذه آثاره
_________
* المقريزي 4: 295-297.
(1) المقريزي: "مطل على النيل وبحاور للبستان المعروف بالمعشوق".
(2) هو تاج الدين محمد بن الصاحب فخر الدين محمد بن الوزير الصاحب بهاء الدين علي بن سليم بن حنا. ولد سنة 640، وسمع من سبط السلفي، وحدث، وإليه انتهت رياسة عصره، وكان صاحب صيانة وسؤدد ومكارم وشاكلة حسنة، وبزة فاخرة. وزر سنة 693. وتوفي سنة 707. المقريزي 4: 296.
(3) المقريزي: "وإنما قيل له: رباط الآثار؛ لأن فيه قطعة خشب وحديد، ويقال: إن ذلك من آثار رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(4) قال المقريزي: "وأدركنا لهذا الرباط بهجة، وللناس فيه اجتماعات، ولسكانه عدة منافع لمن يتردد إليه أيام كان ماء النيل تحته دائما، فلما انحسر الماء من تجاهه وحدثت المحن من سنة ست وثمانمائة قل تردد الناس إليه، وفيه إلى اليوم بقية".
(5) المقريزي 4: 276، قال: وقد سبقه لذلك الصلاح خليل بن أيبك الصفدي؛ فقال:
أكم بآثار النبي محمد ... من زاره استوفى السرور مزاره
يا عين دونك فانظري وتمتعي ... إن لم تريه فهذه آثاره
واقتدى بهما في ذلك أبو الحزم المدني فقال:
يا عين كم ذا تفحين مدامعا ... شوقا لقرب المصطفى ودياره
إن كان صرف الدهر عاقك عنهما ... فتمتعي يا عين في آثاره(2/273)
ذكر الحوادث الغريبة الكائنة بمصر في ملة الإسلام من غلاء ووباء وزلازل وآيات وغير ذلك:
في سنة أربع وثلاثين من الهجرة، قال سيف بن عمر: إن (1) رجلا يقال له: عبد الله بن سبأ كان يهوديا فأظهر الإسلام، وصار إلى مصر، فأوحى إلى طائفة من الناس كلامًا اخترعه من عند نفسه، مضمونه أنه كان يقول للرجل: أليس قد ثبت أن عيسى بن مريم سيعود إلى هذه الدنيا (2) ؟ فيقول الرجل: بلى، فيقول له: رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أفضل منه، فما يمنع أن يعود إلى هذه الدنيا وهو أشرف من عيسى! ثم يقول: وقد كان أوصى إلى علي بن أبي طالب؛ فمحمد خاتم الأنبياء، وعلي خاتم الأوصياء. ثم يقول: فهو أحق بالأمر من عثمان، وعثمان معتد في ولايته ما ليس له. فأنكروا عليه، فافتتن به بشر كثير من أهل مصر وكان ذلك مبدأ تألبهم على عثمان.
وفي سنة ست وستين وقع الطاعون بمصر (3) .
وفي سنة سبعين كان الوباء بمصر، قاله الذهبي (4) .
وفي سنة أربع وثمانين قتل عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي،
_________
(1) الخبر في الطبري 4: 340.
(2) كذا في الأصول، وعبارة الطبري: "العجب ممن يزعم أن عيسى يرجع، ويكذب بأن محمدًا يرجع، وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ، فمحمد أحق بالرجوع من عيسى".
(3) النجوم الزاهرة 1: 179: "وفيها كان الطاعون بمصر، ومات فيه خلائق عظيمة، وهذا خامس طاعون مشهور في الإسلام".
(4) في العبر 1: 78.(2/274)
وقطع رأسه، فأمر الحجاج فطيف به في العراق، ثم بعث به إلى عبد الملك بن مروان، فطيف به في الشام، ثم بعث به إلى عبد العزيز بن مروان وهو بمصر، فطيف به فيها، ودفن بمصر، وجثته بالرخج (1) ، فقال بعض الشعراء في ذلك:
هيهات موضع جثة من رأسها ... رأس بمصر وجثة بالرخج
وفي سنة خمس وثمانين كان الطاعون بالفسطاط، ومات فيه عبد العزيز بن مروان أمير مصر.
وفي سنة خمس وأربعين ومائة، انتثرت الكواكب من أول الليل إلى الصباح، فخاف الناس. ذكره صاحب المرآة.
وفي سنة ثمانين ومائة كان بمصر زلزلة شديدة سقطت منها رأس منارة الإسكندرية.
وفي سنة ست عشرة ومائتين، وثب رجل يقال له: عبدوس الفهري في شعبان ببلاد مصر، فتغلب على نواب أبي إسحاق بن الرشيد (2) ، وقويت شوكته، واتبعه خلق كثير، فركب المأمون من دمشق في ذي الحجة إلى الديار المصرية، فدخلها في المحرم سنة سبع عشرة، وظفر بعبدوس، فضرب عنقه، ثم كر راجعا إلى الشام (3) . وفي سنة سبع وثلاثين ومائتين ظهر في السماء شيء مستطيل دقيق الطرفين، عريض الوسط، من ناحية المغرب إلى العشاء الآخرة، ثم ظهر خمس ليل وليس بضوء كوكب، ولا كوكب له ذنب، ثم نقص. قاله في المرآة.
وفي سنة ثمان وثلاثين ومائتين، أقبلت الروم في البحر في ثلثمائة مركب، وأبهة عظيمة، فكبسوا دمياط، وسبوا وأحرقوا وأسرعوا الكسرة في البحر، وسبوا ستمائة امرأة، وأخذوا من الأمتعة والأسلحة شيئًا كثيرا، وفر الناس منهم في كل جهة،
_________
(1) الرخج: كورة أو مدينة من نواحي كابل.
(2) هو أبو إسحاق المعتصم، وكان من ولاته على مصر عيسى بن منصور بن موسى بن عيسى الرافقي، مولى بني نصر بن معاوية، وليها بعد عزل عبدويه بن جبلة عنها. النجوم الزاهرة 2: 215.
(3) الحادثة مفصلة في النجوم الزاهرة 2: 215، 216.(2/275)
فكان من غرق في بحيرة تنيس أكثر ممن أسر، ورجعوا إلى بلادهم، ولم يعرض لهم أحد (1) .
وفي سنة اثنتين وأربعين ومائتين، زلزلت الأرض ورجمت السويداء "قرية بناحية مصر" من السماء، ووزن حجر من الحجارة فكان عشرة أرطال.
وفي سنة أربع وأربعين ومائتين، اتفق عيد الأضحى وعيد الفطر لليهود، وشعانين النصارى في يوم واحد. قال ابن كثير: وهذا عجيب غريب (2) . وقال في المرآة: لم يتفق في الإسلام مثل ذلك.
وفي سنة خمس وأربعين ومائتين زلزلت مصر، وسمع بتنيس ضجة دائمة طويلة، مات منها خلق كثير (3) .
وفي سنة ست وستين ومائتين قتل أهل مصر عاملهم الكرخي.
وفي سنة ثمان وستين ومائتين، قال ابن جرير: اتفق أن رمضان كان يوم الأحد وكان الأحد الثاني الشعانين، والأحد الثالث الفصح، والأحد الرابع السرور، والأحد الخامس انسلاخ الشهر.
وفي سنة تسع وستين في المحرم، كسفت الشمس وخسف القمر، واجتماعهما في سهر نادر. قاله في المرآة.
وفي سنة ثمان وسبعين ومائتين، قال ابن الجوزي: لليلتين بقيتا من المحرم طلع نجم ذو جمة، ثم صارت الجمة ذؤابة. قال: وفي هذه السنة وردت الأخبار أن نيل مصر غار، فلم يبق منه شيء، وهذا شيء لم يعهد مثله، ولا بلغنا في الأخبار السابقة، فغلت الأسعار بسبب ذلك. وفي أيام أحمد بن طولون تساقطت النجوم، فراعه ذلك فسأل
_________
(1) النجوم الزاهرة 2: 296.
(2) تاريخ ابن كثير 10: 346.
(3) ابن كثير 10: 346.(2/276)
العلماء والمنجمين عن ذلك، فما أجابوا بشيء، فدخل عليه الجمل الشاعر وهم في الحديث، فأنشد في الحال:
قالوا تساقطت النجو ... م لحادث فظ عسير
فأجبت عند مقالهم ... بجواب محتنك خبير
هذي النجوم الساقطا ... ت نجوم أعداء الأمير
فتفاءل ابن طولون بذلك، ووصله.
وفي سنة اثنتين وثمانين ومائتين، زفت قطر الندى بنت خمارويه بن أحمد بن طولون، من مصر إلى الخليفة المعتضد، ونقل أبوها في جهازها ما لم ير مثله، وكان من جملته ألف تكة بجوهر وعشرة صناديق جوهر، ومائة هون ذهب، ثم بعد كل حساب معها مائة ألف دينار لتشتري بها من العراق ما قد تحتاج إليه مما لا يتهيأ مثله بالديار المصرية. وقال بعض الشعراء:
يا سيد العرب الذي وردت له ... باليمن والبركات سيدة العجم
فاسعد بها كسعودها بك إنها ... ظفرت بما فوق المطالب والهمم
شمس الضحى زفت إلى بدر الدجى ... فتكشفت بهما عن الدنيا الظلم
وفي سنة أربع وثمانين ومائتين ظهر بمصر ظلمة شديدة، وحمرة في الأفق حتى جعل الرجل ينظر إلى وجه صاحبه فيراه أحمر اللون جدًّا، وكذلك الجدران، فمكثوا كذلك من العصر إلى الليل، فخرجوا إلى الصحراء يدعون الله ويتضرعون إليه حتى كشف عنهم. حكاه ابن كثير (1) .
وفي سنة ثلاث وتسعين ومائتين، ظهر رجل بمصر يقال له: الخلنجي (2) ، فخلع الطاعة واستولى على مصر، وحارب الجيوش، وأرسل إليه الخليفة المكتفي جيشًا فهزمهم
_________
(1) تاريخ ابن كثير 11: 76.
(2) هو محمد بن علي، قال صاحب النجوم الزاهرة: "شاب من الجند المصريين".(2/277)
ثم أرسل إليه جيشًا آخر عليهم فاتك المعتضدي، فهزم الخلنجي، وهرب، ثم ظفر به وأمسك، وسير إلى بغداد (1) .
وفي سنة تسع وتسعين ومائتين، ظهر ثلاثة كواكب مذنبة، أحدها في رمضان، واثنان في ذي القعدة تبقى أياما، ثم تضمحل حكاه ابن الجوزي (2) . وفيها استخرج من كنز مصر خمسمائة ألف دينار من غير موانع، ووجد في هذا الكنز ضلع إنسان طوله أربعة عشر شبرا وعرضه شبر، فبعث به إلى الخليفة المقتدر (3) ، وأهدى معه من مصر تيسًا له ضرع يحلب لبنا، حكى ذلك الصولي صاحب المرآة وابن كثير (4) .
وفي سنة إحدى وثلاثمائة، سار عبد الله المهدي المتغلب على المغرب. في أربعين ألفا ليأخذ مصر، حتى بقي بينه وبين مصر أيام، ففجر تكين (5) الخاصة
النيل فحال الماء بينهم وبين مصر، ثم جرت حروب فرجع المهدي إلى برقة بعد أن ملك الإسكندرية والفيوم.
وفي سنة اثنتين وثلاثة مائة عاد المهدي إلى الإسكندرية، وتمت وقعة كبيرة، ثم رجع إلى القيروان (6) .
وفي سنة ست وثلاثمائة أقبل القائم بن المهدي في جيوشه، فأخذ الإسكندرية وأكثر الصعيد، ثم رجع.
وفي سنة سبع كانت الحروب والأراجيف الصعبة بمصر، ثم لطف الله وأوقع المرض بالمغاربة، ومات جماعة من أمرائهم، واشتدت علة القائم.
_________
(1) انظر تفصيل الخبر في النجوم الزاهرة 3: 147-150، وكان ذلك الحادث في ولاية عيسى بن محمد الأمير أبو موسى النوشري.
(2) المنتظم 6: 109.
(3) ابن كثير: "وذكر أنه من قوم عاد".
(4) تاريخ ابن كثير 11: 116.
(5) تكين: والي مصر للمرة الرابعة، من قبل المقتدر.
(6) النجوم الزاهرة 3: 184.(2/278)
وفيها انقض كوكب عظيم، وتقطع ثلاث قطع، وسمع بعد انقضاضه صوت رعد شديد هائل من غير غيمٍ.
وفي سنة ثمان ملك العبيديون جزيرة الفسطاط، فجزعت الخلق، وشرعوا في الهرب والجفل.
وفي سنة تسع استرجعت الإسكندرية إلى نواب الخليفة، ورجع العبيدي إلى المغرب.
وفي سنة عشر وثلثمائة في جمادى الأولى ظهر كوكب له ذنب طوله ذراعان، وذلك في برج السنبلة، وفي شعبان منها أهدى نائب (1) مصر إلى الخليفة المقتدر هدايا من جملتها بغلة معها فلوها يتبعها، ويرجع معها، وغلام يصل لسانه إلى طرف أنفه. حكاه صاحب المرآة وابن كثير (2) .
وفي سنة ثلاث عشرة وثلثمائة في آخر المحرم انقض كوكب من ناحية الجنوب إلى الشمال قبل مغيب الشمس، فأضاءت الدنيا منه، وسمع له صوت كصوت الرعد الشديد.
وفي سنة ثلاث وثلثمائة في المحرم ظهر كوكب بذنب رأسه إلى المغرب وذنبه إلى المشرق، وكان عظيما جدًّا وذنبه منتشر، وبقي ثلاثة عشر يوما إلى أن اضمحلّ.
وفي سنة أربع وأربعين زلزلت مصر زلزلة صعبة هدمت البيوت، ودامت ثلاث ساعات، وفزع الناس إلى الله بالدعاء.
وفي سنة تسع وأربعين رجع حجيج مصر من مكة، فنزلوا واديا، فجاءهم سيل فأخذهم كلهم، فألقاهم في البحر عن آخرهم.
وفي سنة خمس وخمسين قطعت بنو سليم الطريق على الحجيج من أهل مصر، وأخذوا منهم عشرين ألف بعير بأحمالها، وعليها من الأموال والأمتعة ما لا يقوم كثرة، وبقي الحاج في البوادي، فهلك أكثرهم. وفي أيام كافور الإخشيدي كثرت
_________
(1) في ابن كثير: "وهو الحسين بن المارداني".
(2) تاريخ ابن كثير 11: 145.(2/279)
الزلازل بمصر، فأقامت ستة أشهر، فأنشد محمد بن القاسم بن عاصم قصيدة منها:
ما زلزلت مصر من سوء يراد بها ... لكنها رقصت من عدله فرحا (1)
كذا رأيته في نسخة عتيقة، من كتاب مذهب الطالبيين، تاريخ كتابتها بعد الستمائة، ثم رأيت ما يخالف ذلك كما سأذكر.
وفي سنة تسع وخمسين انقض كوكب في ذي الحجة، فأضاء الدنيا حتى بقي له شعاع كالشمس، ثم سمع له صوت كالرعد.
وفي سنة ستين وثلثمائة، سارت القرامطة في جمع كثير إلى الديار المصرية، فاقتتلوا هم وجنود جوهر القائد قتالًا شديدا بعين شمس، وحاصروا مصر شهورا؛ ومن شعر أمير القرامطة الحسين بن أحمد بن بهرام:
زعمت رجال الغرب أني هبتهم ... فدمي إذن ما بينهم مطلول
يا مصر إن لم أسق أرضك من دم ... يروي ثراك فلا سقاني النيل
وفي هذه السنة سار رجل من مصر إلى بغداد، وله قرنان، فقطعهما وكواهما وكانا يضربان عليه. حكاه صاحب المرآة.
وفي سنة ثلاث وستين، خرج بنو هلال وطائفة من العرب على الحجاج، فقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، وعطلوا على من بقي منهم الحج في هذا العام، ولم يحصل لأحد حج في هذه السنة سوى أهل درب العراق وحدهم.
وفي سنة سبع وستين كان أمير الحاج المصري الأمير باديس بن زيري، فاجتمع إليه اللصوص، وسألوا منه أن يضمنهم الموسم هذا العام بما شاء من الأموال، فأظهر لهم الإجابة، وقال: اجتمعوا كلكم حتى أضمنكم كلكم، فاجتمع عنده بضع وثلاثون لصًّا،
_________
(1) تمام المتون 67، وقبله:
بالحاكمِ العدْلِ أضحَى الدينُ معتليا ... نجل العلا وسليل السادة الصلحا(2/280)
فقال: هل بقي منكم أحد؟ فحلفوا أنه لم يبق منهم أحد، فعند ذلك أمر بقطع أيديهم كلهم. ونعما فعل!
وفي سنة أربع وثمانين انفرد بالحج أهل مصر، ولم يحج ركب العراق ولا الشام لخوف طريقهم، وكذا في سنة خمس وثمانين والتي بعدها.
وفي سنة ست وثمانين قدمت مصر أربع عشرة قطعة من الأسطول، فقتلت ونهبت، وأحرقت أموال التجار، وأخذت سرايا العزيز وحظاياه، وكان حالًّا لم ير أعظم منه. ذكره ابن المتوج.
وفي سنة تسعين أمر الحاكم بمصر بقتل الكلاب فقتلت كلها.
وفي سنة اثنتين وتسعين ليلة الاثنين ثالث ذي القعدة انقض كوكب أضاء كضوء القمر ليلة التمام، ومضى الضياء، وبقي جرمه يتموج (1) نحو ذراعين في ذراع برأي العين، وتشقق بعد ساعة. وفي هذه السنة انفرد المصريون بالحج، ولم يحج أحد من بغداد وبلاد المشرق لعبث الأعراب بالفساد، وكذا في سنة ثلاث وتسعين.
وفي سنة ثلاث وتسعين أمر الحاكم بقطع جميع الكروم التي بديار مصر والصعيد، والإسكندرية ودمياط، فلم يبق بها كرم، احترازًا من مصر الخمر. وفي هذه السنة أمر الحاكم الناس بالسجود إذا ذكر اسمه في الخطبة.
وفي سنة سبع وتسعين انفرد المصريون بالحج، ولم يحج أهل العراق لفساد الطريق بالأعراب، وكسا الحاكم الكعبة القباطي البيض.
وفي سنة ثمان وتسعين هدم الحاكم الكنائس التي ببلاد مصر، ونادى: من لم يسلم وإلا فليخرج من مملكتي، أو يلتزم بما أمر، ثم أمر بتعليق صلبان كبار على صدور النصارى، وزن الصليب أربعة أرطال بالمصري، وبتعليق خشبة على
تمثال رأس
_________
(1) ط: "متموج".(2/281)
عجل وزنها ستة أرطال في عنق اليهود. وفي هذه السنة كان سيل عظيم حتى غرق الخندق، ذكره ابن المتوج.
وفي سنة تسع وتسعين انفرد المصريون بالحج.
وفي سنة أربعمائة بنى الحاكم دار للعلم وفرشها، ونقل إليها الكتب العظيمة مما يتعلق بالسنة، وأجلس فيها الفقهاء والمحدثين، وأطلق قراءة فضائل الصحابة، وأطلق صلاة الضحى والتراويح، وبطل الأذان بحي على خير العمل، فكثر الدعاء له، ثم بعد ثلاث سنين هدم الدار، وقتل خلقا ممن كان بها من الفقهاء والمحدثين وأهل الخير والديانة، ومنع صلاة الضحى والتراويح.
وفي سنة إحدى وأربعمائة انفرد المصريون بالحج.
وفي سنة اثنتين وأربعمائة كتب محضر ببغداد في نسب خلفاء مصر الذين يزعمون أنهم فاطميون وليسوا كذلك، وكتب فيه جماعة من العلماء والقضاة والفقهاء، والأشراف والأماثل والمعدلين والصالحين، شهدوا جميعا أن الناجم بمصر وهو منصور بن نزار المتلقب بالحاكم -حكم الله عليه بالبوار والدمار، والخزي والنكال والاستئصال- ابن معد بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن سعيد -لا أسعده الله- فإنه لما صار إلى المغرب تسمى بعبيد الله، وتلقب بالمهدي، ومن تقدم من سلفه من الأرجاس الأنجاس -عليه وعليهم لعنة الله ولعنة اللاعنين- أدعياء خوارج، ولا نسب لهم في ولد علي بن أبي طالب، ولا يتعلقون منه بسبب، وأنه منزه عن باطلهم، وان الذي ادعوه من الانتساب إليه باطل وزور، وأنهم لا يعلمون أن أحدا من أهل بيوت الطالبيين توقف عن إطلاق القول في هؤلاء الخوارج أنهم أدعياء، وقد كان هذا الإنكار لباطلهم شائعًا في الحرمين، وفي أول أمرهم بالمغرب منتشرا انتشارا يمنع من أن يدلس على أحد كذبهم، أو يذهب وهم إلى تصديقهم، وأن هذا الناجم بمصر هو وسلفه كفار وفساق فجار وملحدون زنادقة،(2/282)
معطلون وللإسلام جاحدون، ولمذهب الثنوية (1) والمجوسية معتقدون، قد عطلوا الحدود وأباحوا الفروج، وأحلوا الخمر، وسفكوا الدماء، وسبوا الأبناء، ولعنوا السلف، وادعوا الربوبية. وكتب في ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعمائة.
وقد كتب خطه في المحضر خلق كثيرون، فمن العلويين المرتضى، والرضي وابن الأزرق الموسوي وأبو طاهر بن أبي الطيب، ومحمد بن محمد بن عمرو بن أبي يعلي، ومن القضاة أبو محمد بن الأكفاني، وأبو القاسم الحريري وأبو العباس بن السيوري. ومن الفقهاء أبو حامد الإسفراييني وأبو محمد بن الكشفلي، وأبو الحسين القدوري وأبو عبد الله الصيمري، وأبو عبد الله البيضاوي وأبو علي بن حمكان. ومن الشهود أبو القاسم التنوخي، في كثير.
وفي سنة ثلاث وأربعمائة، قال ابن المتوج: رسم الحاكم بألا تقبل الأرض بين يديه، ولا يخاطب مولانا ولا بالصلاة عليه، وكتب بذلك سجل في رجب. قال: وفيها حبس النساء ومنعهن من الخروج في الطرقات، وأحرق الزبيب وقطع الكرم، وغرق العسل. قال ابن الجوزي: وفي رمضان انقض كوكب من المشرق إلى المغرب غلب ضوءه على ضوء القمر، وتقطع قطعًا، وبقي ساعة طويلة.
وفي سنة خمس وأربعمائة زاد الحاكم في منع النساء من الخروج من المنازل، ومن دخول الحمامات ومن التطلع من الطاقات، والأسطلحة ومنع الخفافين من عمل الخفاف لهن، وقتل خلقا من النساء على مخالفته في ذلك، وهدم بعض الحمامات عليهن، وغرق خلقا.
وفي سنة سبع وأربعمائة ورد الخبر بتشعيث الركن اليماني من المسجد الحرام، وسقوط جدار بين قبر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبسقوط القبة الكبيرة على صخرة
_________
(1) ط: "النبوية" تحريف.(2/283)
بيت المقدس. قال ابن كثير: فكان ذلك من أغرب الاتفاقات وأعجبها (1) .
وفي سنة سبع أيضا انفرد المصريون بالحج، ولم يحج أحد من بلاد العراق لفساد الطرقات بالأعراب؛ وكذا في سنة ثمان.
وفي سنة إحدى عشرة وأربعمائة، قال ابن المتوج: عز القوت، ثم هان بعد أراجيف عظيمة. وفي أيام الحاكم، قال ابن فضل الله في المسالك: زلزلت مصر حتى رجفت أرجاؤها، وضجت الأمة لا تعرف كيف جارها، فقال محمد بن قاسم بن عاصم شاعر الحاكم:
بالحاكم العدل أضحى الدين معتليًا ... نجل الهدى وسليل السادة الصلحا
ما زلزلت مصر من كيد يراد بها ... وإنما رقصت من عدله فرحا
وكانت أيام الحاكم من سنة ست وثمانين وثلثمائة إلى سنة إحدى عشرة وأربعمائة.
وفي سنة ثلاث عشرة وأربعمائة. قال ابن كثير: جرت كائنة غريبة ومصيبة عظيمة؛ وهي أن رجلا من المصريين من أصحاب الحاكم اتفق مع جماعة من الحجاج المصريين على أمر سوء، فلما كان يوم الجمعة، وهو يوم النفر الأول، طاف هذا الرجل بالبيت، فلما انتهى إلى الحجر الأسود، جاء ليقبله فضربه بدبوس كان معه ثلاث ضربات متواليات، وقال: إلى متى يعبد هذا الحجر؟! ولا محمد ولا علي يمنعني عما أفعله، فإني أهدم اليوم هذا البيت، فاتقاه أكثر الحاضرين، وتأخروا عنه، وذلك أنه كان رجلًا طويلا جسيما، أحمر أشقر، وعلى باب المسجد جماعة من الفرسان وقوف ليمنعوه ممن أراده بسوء، فتقدم غليه رجل من أهل اليمن، معه خنجر، وفاجأه بها، وتكاثر عليه الناس فقتلوه، وقطعوه قطعًا، وتتبعوا أصحابه، فقتل منهم جماعة ونهب أهل مكة ركب المصريين، وجرت فتنة عظيمة جدًّا، وسكن الحال، وأما الحجر
_________
(1) 12: 5.(2/284)
الشريف فإنه سقط منه ثلاث فلق مثل الأظفار، وبدا ما تحتها أسمر يضرب إلى صفرة، محببًا، مثل الخشخاش، فأخذ بنو شيبة تلك الفلق، فعجنوها بالمسك واللك (1) وحشوا بها تلك الشقوق التي بدت، "وذلك ظاهر فيه إلى الآن" (2) .
وفي سنة سبع عشرة منع الظاهر صاحب مصر من ذبح البقر السليمة من العيوب التي تصلح للحرث، وكتب عن لسانه كتاب قرئ على الناس، فيه: "إن الله بسابغ نعمته، وبالغ حكمته، خلق ضروب الأنعام، وعلم بها منافع الأنام، فوجب أن تحمى البقر المخصوصة بعمارة الأرض المذللة لمصالح الخلق، فإن ذبحها غاية الفساد، وإضرار بالعباد والبلاد".
وفيها انفرد المصريون بالحج، ولم يحج أهل العراق والمشرق لفساد الأعراب، وكذا في سنة ثمان عشرة وفي سنة تسع عشرة لم يحج أحد من أهل المشرق، ولا من أهل الديار المصرية أيضًا، إلا أن قوما من خراسان ركبوا في البحر من مدينة مكران، فانتهوا إلى جدة، فحجوا.
وفي سنة عشرين حج أهل مصر دون غيرهم.
وفيها في رجب انقضت كواكب كثيرة شديدة الصوت، قوية الضوء.
وفي سنة إحدى وعشرين تعطل الحج من العراق أيضا، وقطع على حجاج مصر الطريق، وأخذت الروم أكثره.
وفي سنة ثلاث وعشرين تعطل الحج من العراق أيضا. وفيها قال ابن المتوج: استحضر خليفة مصر الظاهر بن الحاكم كل من في القصر من الجواري، وقال لهم: تجتمعون لأصنع لكم يومًا حسنا لم ير مثله بمصر، وأمر كل من كان له جارية فليحضرها، ولا تجيء جارية إلا وهي مزينة بالحلي والحلل، ففعلوا ذلك حتى لم تترك جارية إلا أحضرت، فجعلهن في مجلس، ودعا بالبنائين، فبنى أبواب المجلس عليهن، حتى
_________
(1) الملك نبات يصبغ به.
(2) ابن كثير 12: 14 "فاستمسك الحجر، واستمر على ما هو عليه الآن، وهو ظاهر لمن تأمله".(2/285)
ماتوا عن آخرهن، وكان يوم جمعهن يوم الجمعة لست من شوال، وعدتهن ألفان وستمائة وستون جارية، فلما مضى لهن ستة أشهر أضرم النار عليهن، فأحرقهن بثيابهن وحليهن، فلا رحمه الله ولا رحم الذي خلفه!.
وفي سنة خمس وعشرين كثرت الزلازل بمصر. وفيها انقض كوكب عظيم، وسمع له صوت مثل الرعد وضوء مثل المشاعل. ويقال: إن السماء انفرجت عند انقضاضه. حكاه في المرآة. ولم يحج أحد سوى أهل مصر، وكذا في سنة ست وعشرين وسنة ثمان وعشرين.
وفي سنة ثمان وعشرين بعث صاحب مصر بمال لينفق على نهر الكوفة إن أذن الخليفة العباسي في ذلك، فجمع القائم بالله الفقهاء، وسألهم عن هذا المال، فأفتوا بأن هذا فيء للمسلمين يصرف في مصالحهم، فأذن في صرفه في مصالح المسلمين.
وفي سنة ثلاثين وأربعمائة تعطل الحج من الأقاليم بأسرها، فلم يحج أحد، لا من مصر ولا من الشام، ولا من العراق ولا من خراسان.
وفي سنة إحدى وثلاثين والتي تليها تفرد بالحج أهل مصر، وكذا في سنة ست وثلاثين وسبع وثلاثين وتسع وثلاثين وثلاث وستين بعدها.
وفي سنة إحدى وأربعين في ذي الحجة ارتفعت سحابة سوداء ليلًا، فزادت على ظلمة الليل، وظهر في جوانب السماء كالنار المضيئة، فانزعج الناس لذلك، وأخذوا في الدعاء والتضرع، فانكشفت بعد ساعة.
وفي سنة خمس وأربعين وثلاث تليها انفرد أهل مصر بالحج.
وفي سنة ثمان وأربعين. قال في المرآة: عم الوباء والقحط مصر والشام وبغداد والدنيا، وانقطع ماء النيل. واتفقت غريبة، قال ابن الجوزي: ورد كتاب من مصر أن ثلاثة من اللصوص نقبوا بعض الدور، فوجدوا عند الصباح موتى؛ أحدهم على(2/286)
باب النقب، والثاني على رأس الدرجة، والثالث على الثياب المكورة. وفيها، في العشر الثاني من جمادى الآخرة ظهر وقت السحر نجم له ذؤابة بيضاء، طولها في رأي العين نحو ذراع، ولبث على هذه الحال إلى نصف رجب ثم اضمحل.
وفي سنة إحدى وخمسين وسنتين بعدها، انفرد أهل مصر بالحج.
وفي شوال من هذه السنة لاح في السماء في الليل ضوء عظيم كالبرق يلمع في موضعين؛ أحدهما أبيض، والآخر أحمر إلى ثلث الليل، وكبر الناس وهللوا. حكاه في المرآة.
وفي سنة ثلاث وخمسين في جمادى الآخرة لليلتين بقيتا منه، كسفت الشمس كسوفا عظيما، جميع القرص، فمكثت أربع ساعات حتى بدت النجوم، وأوت الطيور إلى أوكارها لشدة الظلمة.
وفي سنة خمس وخمسين وقع بمصر وباء شديد، كان يخرج منها في كل يوم ألف جنازة.
وفي سنة ست وخمسين وقعت فتنة عظيمة بين عبيد مصر والترك، واقتتلوا. وغلب العبيد على الجزيرة التي في وسط النيل بين مصر والجيزة، واتصل الحرب بين الفريقين.
وفي سنة ثمان وخمسين، في العشر الأول من جمادى الأولى ظهر كوكب كبير، له ذؤابة عرضها نحو ثلاثة أذرع وطولها أذرع كثيرة، وبقي إلى أواخر الشهر، ثم ظهر كوكب آخر عند غروب الشمس، قد استدار نوره عليه كالقمر، فارتاع الناس وانزعجوا، فلما اعتم الليل، رمى ذؤابة نحو الجنوب، وأقام إلى أيام في رجب، وذهب.
وفي سنة ستين وأربعمائة كان ابتداء الغلاء العظيم بمصر، الذي لم يسمع بمثله في(2/287)
الدهور؛ من عهد يوسف الصديق عليه الصلاة السلام، واشتد القحط
والوباء سبع سنين متوالية بحيث أكلوا الجيف والميتات، وأفنيت الدواب، وبيع الكلب بخمسة دنانير والهر بثلاثة دنانير، ولم يبق لخليفة مصر سوى ثلاثة أفراس بعد العد الكثير، ونزل الوزير يوما عن بغلته، فغفل الغلام عنها لضعفه من الجوع، فأخذها ثلاثة نفر فذبحوها وأكلوها، فأخذوا فصلبوا وأصبحوا وقد أكلهم الناس، ولم يبق إلا عظامهم. وظهر على رجل يقتل الصبيان والنساء ويبيع لحومهم، ويدفن رءوسهم وأطرافهم فقتل. وبيعت البيضة بدينار، وبلغ الأردب القمح مائة دينار ثم عدم أصلًا، حتى حكى صاحب المرآة أن امرأة خرجت من القاهرة، ومعها مد جوهر، فقالت: من يأخذه بمد قمح؟ فلم يلتفت إليها أحد، وقال بعضهم يهنئ القائم ببغداد:
وقد علم المصري أن جنوده ... سنو يوسف هولا وطاعون عمواس
أقامت به حتى استراب بنفسه ... وأوجس منها خيفة أي إيجاس
وفي سنة اثنتين وستين، زلزلت مصر حتى نفرت إحدى زوايا جامع عمرو. وفيها ضرب صاحب مصر اسم ابنه ولي العهد على الدينار، وسمي الآمري، ومنع التعامل بغيره.
وفي سنة خمس وستين اشتد الغلاء، والوباء بمصر حتى إن أهل البيت كانوا يموتون في ليلة، وحتى إن امرأة أكلت رغيفا بألف دينار، باعت عروضها قيمته ألف دينار، واشترت بها جملة قمح، وحمله الحمال على ظهره فنهبه الناس، فنهبت المرأة مع الناس فصح لها رغيف واحد، وكان السودان يقفون في الأزقة، يصطادون النساء بالكلاليب، فيأكلون لحومهن، واجتازت امرأة بزقاق القناديل، فعلقها السودان بالكلاليب، وقطعوا من عجزها قطعة، وقعدوا يأكلونها وغفلوا عنها، فخرجت من الدار، واستغاثت، فجاء الوالي وكبس الدار، فأخرج منها ألوفًا من القتلى.(2/288)
وفي سنة ست وثمانين وسنتين بعدها انفرد المصريون بالحج.
وفي سنة إحدى وتسعين حدثت بمصر ظلمة عظيمة، غشيت أبصار الناس، حتى لم يبق أحد يعرف أين يتوجه!
وفي سنة سبع وتسعين عز القمح بمصر، ثم هان. وفيها تولى الآمر بمصر فضرب الفضة السوداء المشهورة بالآمرية.
وفي سنة خمس عشرة وخمسمائة هبت ريح سوداء بمصر، فاستمرت ثلاثة أيام، فأهلكت خلقًا كثيرًا من الناس، والدواب والأنعام. قاله ابن كثير (1) .
وفي سنة سبع عشرة بلغ النيل ستة عشر ذراعًا سواء بعد توقف.
وفي سنة ثمان عشرة أوفى النيل بعد النيروز بتسعة أيام، وزاد عن الستة عشر ذراعا أحد عشر إصبعا لا غير، وعز السعر ثم هان. وفي حدود هذه السنين احترق جامع عمرو.
وفي سنة خمس وستين حاصرت الفرنج دمياط خمسين يوما، بحيث ضيقوا أهلها، وقتلوا منهم، فأرسل نور الدين محمود الشهيد إليهم جيشًا عليهم صلاح الدين يوسف بن أيوب، فأجلوهم عنها، وكان الملك نور الدين شديد الاهتمام بذلك؛ حتى إنه قرأ عليه بعض طلبة الحديث جزءًا فيه حديث مسلسل بالتبسم، فطلب منه أن يبتسم ليتصل التسلسل، فامتنع من ذلك، وقال: إني لأستحيي من الله أن يراني متبسمًا، والمسلمون تحاصرهم الفرنج بثغر دمياط. وذكر أبو شامة أن بعضهم رأى في تلك الليلة التي أجلي فيها الفرنج عن دمياط رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو يقول له: سلم على نور الدين، وبشره بأن الفرنج قد رحلوا عن دمياط، فقال له الرائي: يا رسول الله، بأي علامة؟
_________
(1) تاريخ ابن كثير 12: 188.(2/289)
فقال: بعلامة لما سجد يوم كذا، وقال في سجوده: اللهم انصر دينك ومن هو محمود الكلب! فأصبح الرائي، وبشر نور الدين بذلك، وأعلمه بالعلامة، ففرح، ثم جاء الخبر بإجلائهم تلك الليلة (1) . فرحم الله هذا الملك وأمثاله!
وفي سنة ثلاث وثمانين، قال ابن الأثير في الكامل: كان أول يوم منها يوم السبت، وكان يوم النيروز؛ وذلك أول سنة الفرس، واتفق أنه أول سنة الروم أيضا، وفيه نزلت الشمس برج الحمل، وكذلك كان القمر في برج الحمل أيضا، قال: وهذا شيء يبعد وقوع مثله (2) .
وفي سنة ثلاث وتسعين ورد كتاب من "القاضي" الفاضل من مصر إلى القاضي محيي الدين بن الذكي يخبره فيه بأن في ليلة الجمعة التاسع من جمادى الآخرة أتى عارض فيه ظلمات متكاثفة، وبروق خاطفة، ورياح عاصفة، فقوي أهويتها، واشتد هبوبها، فتدافعت لها أعنة مطلقات، وارتفعت لها صواعق مصعقات، فرجفت لها الجدران واصطفقت، وتلاقت على بعدها واعتنقت، وثار بين السماء والأرض عجاج فقيل: لعل هذه على هذه أطبقت، ولا نحسب إلا أن جهنم قد سال منها واد، وعدا منها عاد، وزاد عصف الرياح إلى أن انطفأت سرج النجوم، ومزقت أديم السماء ومحت ما فوقه من الرقوم؛ فكنا كما قال الله: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ} ، وكما قلنا: ويردون أيديهم على أعينهم من البوارق، لا عاصم من الخطف للأبصار، ولا ملجأ من الخطب إلا معاقل الاستغفار، وفر الناس نساء ورجالا وأطفالا، ونفروا من دورهم خفافًا وثقالا، لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلًا، فاعتصموا بالمساجد الجامعة، وأذعنوا للنازلة بأعناق خاضعة، ووجوه عاينة، ونفوس عن الأهل والمال سالية، ينظرون من طرف خفي، ويتوقعون أي خطب جلي، قد انقطعت من الحياة علقهم، وعيت عن النجاة طرقهم، ووقعت الفكرة فيما هم قادمون، وقاموا إلى
_________
(1) كتاب الروضتين 1: 181.
(2) الكامل لابن الأثير 9: 175.(2/290)
صلاتهم، وودوا أن لو كانوا من الذين هم عليها دائمون، إلى أن أذن الله في الركود، وأسعف الهاجدين بالهجود، واصبح كل ليسلم على رفيقه، ويهنئه بسلامة طريقه، ويرى أنه قد بعث بعد النفخة، وأفاق بعد الصيحة والصرخة، وأن الله قد رد له الكرة، وأدبه بعد أن كان يأخذه على الغرة. وودت الأخبار بأنها كسرت المراكب في البحار والأشجار في القفار، وأتلفت خلقا كثيرا من السفار، ومنهم من فر فلم ينفعه الفرار. إلى أن قال: ولا يحسب المجلس أني أرسلت القلم محرَّفًا، والقول مجزفا، فالأمر أعظم، ولكن الله سلم، ونرجو أن يكون الله قد أيقظنا بما وعظنا، ونبهنا بما ولهنا، فما من عباده من رأى القيامة عيانا، ولم يلتمس عليها من بعده برهانا، إلا أهل بلد يافا، اقتص الأولون مثلها في المثلات، ولا سبقت لها سابقة في المعضلات، والحمد لله الذي من فضله جعلنا نخبر عنها ولا تخبر عنا، ونسأل الله أن يصرف عنا، عارضي الحرص والغرور إذا عنا.
وفي سنة ست وتسعين، قال الذهبي، في العبر: كسر النيل من ثلاثة عشر ذراعا إلا ثلاثة أصابع، فاشتد الغلاء، وعدمت الأقوات، ووقع البلاء وعظم الخطب، إلى أن آل بهم الأمر إلى أكل الآدميين الموتى (1) . قال ابن كثير في هذه السنة والتي بعدها: كان بديار مصر غلاء شديد، فهلك الغني والفقير، وعم الجليل والحقير، وهرب الناس منها نحو الشام، ولم يصل منها إلا القليل من الفئام (2) ، وتخطفتهم الفرنج من الطرقات، وعزوهم في أنفسهم، واغتالوهم بالقليل من الأقوات. وكان الأمير لؤلؤ أحد الحجاب بالديار المصرية (3) يتصدق في هذا الغلاء في كل يوم باثني عشر ألف رغيف على اثني عشر ألف فقير (4) .
_________
(1) العبر 4: 290.
(2) الفئام: الجماعة من الناس.
(3) قال ابن كثير: "كان من أكابر الأمراء في أيام صلاح الدين، وهو الذي كان متسلم الأسطول في البحر".
(4) ابن كثير 13: 23، 24.(2/291)
وفي سنة سبع وتسعين، قال الذهبي في العبر: كان الجوع والموت المفرط بالديار المصرية، وجرت أمور تتجاوز الوصف، ودام ذلك إلى نصف العام الآتي، فلو قال القائل: مات ثلاثة أرباع أهل الإقليم لما بعد، والذي دخل تحت قلم الحصرية (1) في مدة اثنين وعشرين شهرا مائة ألف وأحد وعشرون ألفا بالقاهرة، وهذا نزر في جنب ما هلك بمصر والحواضر، وفي البيوت والطرقات ولم يدفن، وكله نزر في جنب ما هلك بالأقاليم. وقيل: إن مصر كان فيها تسعمائة منسج للحصر، فلم يبق إلا خمسة عشر منسجًا، فقس على هذا؛ وبلغ الفروج مائة درهم، ثم عدم الدجاج بالكلية، لولا ما جلب من الشام، وأما أكل لحوم الآدميين فشاع وتواتر، هذا كلام الذهبي (2) .
وقال صاحب المرآة: في هذه السنة كان هبوط النيل، ولم يعهد ذلك في الإسلام إلا مرة واحدة في دولة الفاطميين، ولم يبق منه إلا شيء يسير، واشتد الغلاء والوباء بمصر، فهرب الناس إلى المغرب والحجاز واليمن والشام، وتفرقوا وتمزقوا كل ممزق. قال: وكان الرجل يذبح ولده، وتساعده أمه على طبخه وشيه؛ وأحرق السلطان جماعة فعلوا ذلك ولم ينتهوا، وكان الرجل يدعو صديقه وأحب
الناس إليه إلى منزله ليضيفه، فيذبحه ويأكله، وفعلوا بالأطباء ذلك، وفقدت الميتات والجيف، وكانوا يخطفون الصبيان من الشوارع فيأكلونهم، وكفن السلطان في مدة يسيرة مائتي ألف وعشرين ألفا، وامتلأت طرقات المغرب والحجاز والشام برمم الناس، وصلى إمام جامع إسكندرية في يوم واحد على سبعمائة جنازة.
قال العماد الكاتب: في سنة سبع وتسعين وخمسمائة اشتد الغلاء، وامتد الوباء وحدثت المجاعة، وتفرقت الجماعة، وهناك القوي فكيف الضعيف! ونحف السمين فكيف العجيف! وخرج الناس حذر الموت من الديار، وتفرقت فرق مصر في
_________
(1) كذا في ح، وفي ط والأصل والعبر: "الحشرية".
(2) العبر 4: 295، 296.(2/292)
الأمصار، ولقد رأيت الأرامل على الرمال، والجمال باركة تحت الأحمال، ومراكب الفرنج واقفة بساحل البحر على اللقم، تسترق الجياع باللقم.
قال صاحب المرآة وغيره: وكان في هذه السنة، في شعبان، زلزلة هائلة من الصعيد، هدمت بنيان مصر، فمات تحت الهدم خلق كثير.
وفي سنة تسع وتسعين في ليلة السبت سلخ المحرم ماجت النجوم في السماء شرقًا وغربا، وتطايرت كالجراد المنتشر يمينا وشمالا، ودام ذلك إلى الفجر، وانزعج الخلق، وضجوا بالدعاء، ولم يعهد مثل ذلك إلا في عام البعث وفي سنة إحدى وأربعين ومائتين. قاله صاحب المرآة وغيره.
وفي سنة ستمائة، كانت زلزلة عظيمة كانت زلزلة عظيمة بديار مصر، قاله ابن الأثير في الكامل. وفيها أخذت الفرنج قوة واستباحوها، دخلوا من فم رشيد في النيل. ذكره الذهبي "في العبر" (1) .
وفي سنة سبع وستمائة، دخلت الفرنج من البحر من غربي دمياط، وساروا في البر فاخذوا قرية بورة، واستباحوها قتلًا وسبيا، وردوا في الحال، ولم يدركهم الطلب (2) .
وفي سنة ثمان وستمائة، كانت زلزلة شديدة، هدمت بمصر والقاهرة دورا كثيرة، ومات خلق تحت الهدم.
وفي سنة خمس عشرة وستمائة، في جمادى الأولى، نزلت الفرنج على دمياط، وأخذوا برج السلسلة (3) ، ثم استحوذوا على دمياط في سنة ست عشرة، فاستمرت بأيديهم إلى أن استردت منهم في سنة ثمان عشرة.
_________
(1) العبر 4: 311.
(2) العبر: 5: 21.
(3) في العبر 5: 53: "وأخذت برج السلسلة من دمياط، وكان قفل ديار مصر، وهو في وسط النيل، فكان يمد منه سلسلة على وجه النيل إلى دمياط وأخرى إلى برج آخر، فلا يمكن المراكب أن تعبر من البحر في النيل".(2/293)
قال الذهبي في العبر: في سنة ست عشرة وستمائة، حاصر الفرنج أهل دمياط، ووقعت حروب كثيرة يطول شرحها، وجدت الفرنج في المحاصرة، وعملوا عليهم خندقًا كبيرا، وثبت أهل البلد ثباتا لم يسمع بمثله، وكثر فيهم القتل والجرح والموت، وعدمت الأقوات، ثم سلموها بالأمان في شعبان، وطار عقل الفرنج، وتسارعوا إليها من كل فج، وشرعوا في تحصينها، وأصبحت دار هجرتهم، ورجوا بها أخذ ديار مصر، وأشرف الإسلام على خطة خسف، وأقبل التتار من المشرق والفرنج من المغرب، وعزم المصريون على الجلاء؛ فثبتهم الكامل إلى أن سار إليه أخوه الأشرف والمعظم، وحصل الفتح ولله الحمد (1) .
وفي سنة ثمان وعشرين وستمائة، كان غلاء شديد بديار مصر، قاله ابن كثير (2) . وبلغ النيل ستة عشر ذراعًا وثلاثة أصابع فقط، بعد توقف عظيم، ووصل القمح خمسة دنانير الإردب، فرسم السلطان بفتح الأهراء وشون الأمراء، وأن يباع بثمانين درهما الإردب من غير زيادة، فانحط السعر إليه. ذكره ابن المتوج.
وفي سنة تسع وعشرين، وصل النيل ثمانية عشر ذراعا وستة أصابع، وتأخر نزوله حتى خاف الناس من عدم نزوله، فغلا السعر، ثم نزل، فانحط السعر.
وفي سنة إحدى وثلاثين، قدم إلى الملك الكامل هدية من الإفرنج، فيها دب ابيض وشعره مثل شعر السبع، ينزل البحر فيصعد بالسمك فيأكله.
وفي سنة اثنتين وثلاثين كان الوباء العظيم بمصر.
وفي سنة ثلاث وأربعين كان الغلاء بمصر، وقاسى أهلها شدائد.
وفي سنة سبع وأربعين نزلت الفرنج دمياط برًّا وبحرا، وملكوها، ثم استنقذت منهم.
_________
(1) العبر: 59، 60.
(2) البداية والنهاية 13: 128.(2/294)
وفي سنة تسع وأربعين، قال ابن كثير: صليت صلاة العيد يوم الفطر بعد العصر، قال: وهذا اتفاق غريب (1) .
وفي سنة سبع وخمسين، حصلت بديار مصر زلزلة عظيمة جدًّا.
وفي سنة إحدى وستين، جهز الظاهر بيبرس -رحمه الله تعالى- أخشابًا وآلات كثيرة لعمارة المسجد النبوي بعد حريقه، فطيف بها بالديار المصرية، فرحًا بها، وتعظيمًا لشأنها ثم ساروا بها إلى المدينة.
وفي سنة اثنتين وستين كان بديار مصر غلاء عظيم، وفرق الظاهر الفقراء على الأمراء والأغنياء، وألزمهم بإطعامهم، وفرق هو قمحا كثيرًا، ورتب كل يوم للفقراء مائة إردب تخبز، وتفرق عليهم.
وفي هذه سنة ولد بمصر ولد ميت، له رأسان وأربعة أعين وأربعة أيد وأربعة أرجل.
وفي سنة ثلاث وستين وقع حريق عظيم ببلاد مصر، اتهم به النصارى، فعاقبهم السلطان عقوبة عظيمة، وفيها استجد الظاهر بمصر القضاة الثلاثة، من كل مذهب قاض.
وفي سنة أربع وستين، قال ابن المتوج: حفر الظاهر بحر مصر بنفسه، وعسكره ما بين الروضة والمنشأة.
وفي سنة خمس وستين كبا الفرس بالملك الظاهر، فانكسرت فخذه، وحصل له عرج.
وفي سنة ست وستين كانت كائنة الحبيس (2) النصراني، كان كاهنًا ثم ترهب وأقام بمفازة بجبل حلوان، فقيل: إنه ظفر بكنز للحاكم صاحب مصر، فواسى منه
الفقراء
_________
(1) تاريخ ابن كثير 13: 181.
(2) في ح: "الجيش".(2/295)
والمستورين من كل ملة، واشتهر أمره وشاع ذكره، وأنفق في ثلاث سنين أموالًا عظيمة، فأحضره السلطان، وتلطف به، فأبى عليه أن يعرفه بجلية أمره، وأخذ يراوغه ويغالطه، فلما أعياه حنق عليه، وبسط عليه العذاب فمات. قال الذهبي: وقد أفتى غير واحد بقتله خوفًا على ضعفاء الإيمان من المسلمين أن يضلهم ويغويهم (1) .
وفي سنة سبع وستين، رسم السلطان بإراقة الخمور، وإبطال المفسدات والخواطئ من الديار المصرية والشامية، وحبست الخواطئ حتى يتزوجن، وكتب إلى جميع البلاد بذلك، وأسقطت الضرائب التي كانت مرتبة عليها (2) .
وفي هذه السنة حج السلطان فأحسن إلى أهل الحرمين، وغسل الكعبة بماء الورد بيده. وفي أواخر ذي الحجة من هذه السنة هبت ريح شديدة بديار مصر، غرقت مائتي مركب في النيل، وهلك فيها خلق كثير، ووقع مطر شديد جدًّا، وأصابت الثمار صعقة أهلكتها، حكاه ابن كثير (3) .
وفي سنة تسع وستين شدد السلطان في أمر الخمور، وهدد من يعصرها بالقتل، وأسقط الضمان في ذلك، وكان ألف دينار كل يوم بالقاهرة وحدها، وكتب بذلك توقيع قرئ على منبر مصر والقاهرة، وسارت البرد بذلك إلى الآفاق.
وفي سنة سبعين، قال قطب الدين: في جمادى الآخرة ولدت زرافة بقلعة الجبل، وأرضعت من بقرة، قال: وهذا شيء لم يعهد مثله.
وفي سادس (4) عشر شوال سنة خمس وسبعين، قال ابن كثير: طيف بالمحمل، وبكسوة الكعبة المشرفة بالقاهرة، وكان يوما مشهودا (5) .
قلت: كان هذا مبدأ ذلك، واستمر ذلك كل عام إلى الآن.
وفي سنة تسع وسبعين، في يوم عرفة وقع ببلاد مصر برد كبار، أتلف كثيرا من
_________
(1) العبر: 285.
(2) ابن كثير 13: 254.
(3) ابن كثير 13: 255.
(4) ابن كثير: "في حادي عشرة".
(5) ابن كثير 13: 271.(2/296)
الغلال، ووقعت صاعقة بالإسكندرية، وأخرى تحت الجبل الأحمر على حجر فأحرقته، فأخذ ذلك الحجر وسبك، فخرج منه من الحديد أواق بالرطل المصري.
وفي سنة ثمان وستمائة تربت جزيرة كبيرة ببحر النيل اتجاه قرية بولاق واللوق، وانقطع بسببها مجرى البحر، ما بين قلعة المقس وساحل باب البحر، واشتد ونشف بالكلية، واتصل ما بين المقس وجزيرة الفيل بالمشي، ولم يعهد فيما تقدم، وحصل لأهل القاهرة مشقة من نقل الماء لبعد النيل، فأراد السلطان حفره، فقالوا: إنه لا يفيد، ونشف إلى الأبد.
وفي سنة إحدى وثمانين في شعبان، طافوا بكسوة الكعبة، ولعبت مماليك الملك المنصور أيام الكسوة بالرماح والسلاح؛ وهو أول ما وقع ذلك بالديار المصرية، واستمر ذلك إلى الآن، يعمل سنين ويبطل سنين.
وفي سنة إحدى وتسعين في الرابع والعشرين من المحرم، وقع حريق عظيم بقلعة الجبل، أتلفت شيئًا كثيرًا من الذخائر والنفائس والكتب.
وفي سنة ثلاث وتسعين، قال ابن المتوج: كثرت النفوس وردها أرباب المعائش، وجعلت بالميزان بربع نقرة كل أوقية، ثم بسدس الأوقية، وتحرك السعر بسبب ذلك. وكان القمح في أول السنة بثلاثة عشرة درهمًا الإردب، فانتقل إلى ستين درهما الإردب. وفيها، قال ابن المتوج: كانت زلزلة بديار مصر.
وفي سنة أربع وتسعين، أوفى النيل في السادس من أيام النسيء وكسر، وبلغ مجموع زيادته ستة عشرة ذراعا وسبعة عشر إصبعا، وحصل في هذه السنة بديار مصر غلاء شديد. واستهلت سنة خمس وتسعين وأهل الديار المصرية في قحط شديد ووباء مفرط، حتى أكلوا الجيف، ونفدت حواصل السلطان من العليق، فأقامت خيول السلطان ثلاثة أيام حتى أحضرت التقاوي المخلد في البلاد، وبلغ الإردب القمح مائة وسبعين درهما(2/297)
نقرة، وذلك عبارة عن ثمانية مثاقيل ذهب ونصف مثقال، والخبز كل رطل وثلث بالمصري بدرهم نقرة، وأكلت الضعفاء الكلاب، وطرحت الأموات في الطرقات، وكانوا يحفرون الحفائر الكبار، فيلقون
فيها الجماعة الكثيرة. وبيع الفروج بالإسكندرية بستة وثلاثين درهما نقرة، وبالقاهرة بتسعة عشر، والبيض كل ثلاثة بدرهم، وفنيت الحمر والخيل والبغال والكلاب، ولم يبق شيء من هذه الحيوانات يلوح، وفي جمادى الآخرة خف الأمر، وأخذ بالرخص، وانحط سعر القمح إلى خمسة وثلاثين درهما الإردب.
وفي سنة ست وتسعين، بلغت زيادة النيل إلى أول توت خمسة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا، ثم نقص ولم يوف.
وفي سنة سبع وتسعين توقف النيل، ثم أوفى آخر أيام النسيء.
وفي سنة ثمان وتسعين في المحرم، ظهر كوكب له ذؤابة.
وفي سنة تسعين، أوفى النيل في ثالث عشر توت.
وفي شعبان سنة سبعمائة، أمر بمصر والشام اليهود بلبس العمائم الصفر، والنصارى بلبس الزرق، والسامرة بلبس الحمر، واستمر ذلك إلى الآن.
وقال الشعراء في ذلك، فقال العلاء الوادعي:
لقد ألزموا الكفار شاشات ذلة ... تزيدهم من لعنة الله تشويشا
فقلت لهم: ما ألبسوكم عمائمًا ... ولكنهم قد ألبسوكم براطيشا
وقال آخر:
تعجبوا للنصارى واليهود معًا ... والسامريين لما عمموا الخرقا
كأنما بات بالأصباغ منسهلا ... نسر السماء فأضحى فوقهم فرقا
وفي سنة اثنتين وسبعمائة في ذي الحجة، كانت الزلزلة العظمى بمصر، وكان تأثيرها(2/298)
بالإسكندرية أعظم من غيرها، وطلع البحر إلى نصف البلد، وأخذ الحمال والرجال، وغرقت المراكب، وسقطت بمصر دور لا تحصى، وهلك تحت الردم خلق كثير.
وفي هذه السنة، قال البرزالي في تاريخه: قرأت في بعض الكتب الواردة من القاهرة أنه لما كان بتاريخ يوم الخميس رابع جمادى الآخرة، ظهرت دابة عجيبة
الخلقة من بحر النيل إلى أرض المنوفية، وصفتها: لونها لون الجاموس بلا شعر، وآذانها كآذان الجمل، وعيناها وفرجها مثل الناقة، يغطي فرجها ذنبها، طوله شبر ونصف، طرفه كذنب السمك، ورقبتها مثل غلظ المسند المحشو تبنًا، وفمها وشفتاها مثل الكربال، ولها أربعة أنياب، اثنان من فوق واثنان من أسفل، طولها دون الشبر، وعرض إصبعين، وفي فمها ثمانية وأربعون ضرسا وسنا، مثل بيادق الشطرنج، وطول يديها من باطنها إلى الأرض شبران ونصف، ومن ركبتها إلى حافرها مثل بطن الثعبان، أصفر مجعد ودور حافرها مثل السكرجة بأربعة أظافير مثل أظافير الجمل، وعرض ظهرها مقدار ذراعين ونصف، وطولها من فمها إلى ذنبها خمسة عشر قدما، وفي بطنها ثلاثة كروش، ولحمها أحمر، وزفرته مثل السمك، وطعمه كطعم الجمل، وغلظ جلدها أربعة أصابع، ما تعمل فيه السيوف، وحمل جلدها على خمسة أجمال في مقدار ساعة، من ثقله على جمل بعد جمل، وأحضروه إلى القلعة بين يدي السلطان، وحشوه تبنا، وأقاموه بين يديه.
وفي هذه السنة أبطل الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير عيد الشهيد بمصر، وذلك أن النصارى كان عندهم تابوت فيه إصبع، يزعمون أنه من أصابع بعض شهدائهم، وأن النيل لا يزيد ما لم يلق فيه هذا التابوت، وكان يجتمع النصارى من سائر النواحي إلى شبرا، ويقع هناك أمور فظيعة؛ من سكر وغيره، فأبطل ذلك إلى يومنا هذا، ولله الحمد.
وفي سنة أربع وسبعمائة ظهر من معدن الزمرد قطعة زنتها مائة وخمسة وسبعون(2/299)
مثقالا، فأخفاها الضامن، ثم حملها إلى بعض الملوك، فدفع له فيها مائة ألف وعشرين ألف درهم، فأبى أن يبيعها بذلك، فأخذها الملك منه غصبًا، وبعث بها إلى السلطان، فمات الضامن غمًّا.
وفيها أوفى النيل رابع توت، وكذا في سنة خمس.
وفي سنة تسع وسبعمائة توقف النيل، واستسقى الناس فلم يسقوا، وانتهت زيادته في سابع عشري توت إلى خمسة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا، ثم زاد.
وأوفى ستة عشر ذراعا في تاسع عشر بابه، وتشاءم الناس بسلطنة بيبرس، وغنت العامة في ذلك:
سلطاننا ركين، ونائبنا، يجيئنا الماء من أين!
يجيب لنا الأعرج، يجيء الماء ويدحرج.
وفي هذه السنة لما عاد ابن قلاوون تكلم الوزير ابن الخليلي في إعادة أهل الذمة إلى لبس العمائم البيض بالعلائم، وأنهم قد التزموا للديوان بسبعمائة ألف في كل سنة زيادة على الجالية، فسكت أهل المجلس، وقام الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله، وتكلم كلاما عظيما، ورد على الوزير مقالته، وقال للسلطان: حاشاك أن تكون ممن ينصر أهل الذمة! فأصغى إليه السلطان، واستمر لبسهم للأصفر والأزرق، ثم عمد ذلك ببغداد أيضا في سنة أربع وثلاثين اقتداء بملك مصر.
وفي سنة خمس عشرة وسبعمائة وقع الشروع في رَوْك (1) الإقطاعات بمصر، وأبطل السلطان مكوسا كثيرة، وأفردت الجهات التي بقيت من المكس، وأضيفت
_________
(1) الروك في كتب المؤرخين معناه مسح أرض الزراعة في بلد من البلاد لتقدير الخراج المستحق عليه لبيت المال، ومنه تصرف أعطية الجند ورواتب الولاة، وموظفي دواوين الدولة، وما زاد عن ذلك يودع بيت المال. حواشي السلوك 1: 841.(2/300)
للوزير. وأفرد لكل راتب من الدولة، ولكل فريق جهة من البلاد، ولم يكن الوزير يتعلق به جهة مكس قديما، ولذا كان يتولاه العلماء وقضاة القضاة.
وفي سنة عشرين وسبعمائة حصل بالديار المصرية مرض كثير، قل أن سلمت منه دار، وغلت الأدوية والأشربة، وبيعت الرمانة الحامضة بثلاثة أرباع نقرة، والعناب الرطل المصري بستة دراهم نقرة، وكذلك الإجاص والقراصيا والقلب اللوز، وتمت مدة عظيمة؛ ولكن كان المرض سليما والموت قليلا. ذكره في العبر.
وفي سنة إحدى وعشرين، كان بالقاهرة حريق كبير متتابع خارج عن الوصف، ودام أياما في أماكن، وأحرق جامع ابن طولون وما حوله بأسره، ثم ظفر بفاعليه، وهم جماعة من النصارى يعملون قوارير النفط، فقتلوا وأحرقوا، وهدم غالب كنائس النصارى بمصر، ونهب الباقي، وبقيت القاهرة أيامًا لم يظهر فيها أحد من النصارى، وبقي لا يظهر نصراني إلا ضربه العوام، وربما قتلوه.
وفي هذه السنة، قال الذهبي في العبر: نقلت من خط بدر الدين العزازي أن كلبة ولدت بالقاهرة ثلاثين جروًا، وإنها أحضرت بين يدي السلطان، فعجب منها وسأل المنجمين عن ذلك، فلم يكن عندهم علم منه.
وفي سنة اثنتين وعشرين أبطل السلطان المكس المتعلق بالمأكول بمكة، وعوض صاحبها ثلثي بلد دمامين (1) ، من صعيد مصر.
وفي سنة أربع وعشرين رسم السلطان بإبطال الملاهي بالديار المصرية، وحبس جماعة من النساء الزواني، وحصل بالديار المصرية موت كثير.
وفي هذه السنة، نودي على الفلوس أن يتعامل بها بالرطل، كل رطل بدرهمين، ورسم بضرب فلوس زنة الفلس منها درهم.
_________
(1) تقع شرقي النيل على شاطئه فوق قوص. ذكرها ياقوت.(2/301)
وفي سنة خمس وعشرين، وقع بالقاهرة مطر كثير، قل أن وقع مثله، وجاء سيل إلى النيل حتى تغير لونه، وزاد نحو أربعة أصابع.
وفي هذه السنة حضر السلطان القاسم بن قلاوون عند قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، فسمع عليه عشرين حديثا من تساعياته، وخلع عليه خلعة عظيمة، وفرق من الذهب والفضة على الفقراء نحو ثلاثين ألف درهم.(2/302)
وفي سنة سبع وعشرين، رسم بقتل الكلاب بالديار المصرية.
وفي سنة تسع وعشرين، رسم بألا يباع مملوك تركي لكاتب ولا لعامي.
وفي سنة أربعين، نودي على الذهب كل دينار بخمسة وعشرين درهما، وكان بعشرين درهما، وأن يتعاملوا به ولا يتعاملوا بالفضة، فشق ذلك على الناس، ثم بطل ذلك.
وفي سنة أربع وأربعين، اشتد آل ملك نائب السلطنة على وادي القاهرة في إراقة الخمر، ومنع المحرمات، وعاقب جماعة كثيرة على ذلك، وأخرب خزانة النبوذ، وكانت دار فسق وفجور، وبنى مكانها مسجدًا، ونادى: من أحضر سكرانا، أو من معه جرة خمر خلع عليه. فقعد العامة لذلك بكل طريق، وأتوه بجندي سكران، فضربه وقطع خبزه، وأخلع على الآتي به، وصار له مهابة عظيمة، وكف الناس عن أشياء كثيرة، حتى أعيان الأمراء، فقال بعض الشعراء في ذلك:
آل ملك الحاج غدا سعده ... يملأ ظهر الأرض فيما سلك
فالأمر أمن دونه سوقة ... والملك الظاهر هو آل ملك
وفي سنة سبع وأربعين قل ماء النيل، حتى صار ما بين المقياس ومصر يخاض، وصار من بولاق إلى المنشية طريقا يمشى فيه، وبلغت راوية الماء درهمين، وكانت بنصف درهم.
وفي سنة تسع وأربعين كان الطاعون بمصر وغيرها.
وفي سنة خمس وخمسين وسبعمائة أمر بأن يكون إزار النصرانية ازرق وإزار اليهودية أصفر، وإزار السامرية أحمر.
وفي سنة سبع وخمسين في ربيع الآخر، هبت ريح من جهة المغرب، وامتدت من مصر إلى الشام في يوم وليلة، وغرقت ببولاق نحو ثلاثمائة مركب، واقتلعت من النخيل، والجميز ببلاد مصر وبلبيس شيئًا كثيرا.
وفي سنة إحدى وستين وقع الوباء بالديار المصرية.
وفي سنة أربع وستين كان الطاعون بديار مصر.
وفي سنة خمس وستين وقع الفناء في البقر، فهلك منه شيء كثير.
وفي سنة سبع وستين أخذت الفرنج مدينة إسكندرية، وقتلوا وأسروا، فخرج السلطان والعسكر لقتالهم، ففروا وتركوها.
وفي سنة تسع وستين وقع الوباء بالديار المصرية.
وفي سنة ثلاث وسبعين رسم للأشراف بالديار المصرية والشامية أن يسموا عمائمهم علامة خضراء، تمييزا لهم عن الناس، ففعل ذلك في مصر والشام وغيرهما، وفي ذلك يقول أبو عبد الله بن جابر الأندلسي الأعمى نزيل حلب:
جعلوا لأبناء الرسول علامة ... إن العلامة شأن من لم يشهر
نور النبوة في كريم وجوههم ... يغنى الشريف عن الطراز الأخضر
وقال في ذلك جماعة من الشعراء ما يطول ذكره؛ ومن أحسنها قول الأديب
شمس الدين محمد بن إبراهيم الدمشقي:
أطراف تيجان أتت من سندس ... خضر بأعلام على الأشراف
والأشرف السلطان خصصهم بها ... شرفًا ليعرفهم من الأطراف(2/303)
وفي هذه السنة زاد النيل زيادة مفرطة، وثبت إلى أيام من هاتور، فاجتمع جماعة بالجامع الأزهر، وجامع عمرو، وسألوا الله في هبوطه، وعمل ابن أبي حجلة مقامته المشهورة.
وفي هذه السنة أراد السراج الهندي قاضي الحنفية أن يساوي قاضي الشافعية في لبس الطرحة، وتولية القضاة في البلاد، وتقرير مودع الأيتام، فأجيب إلى ذلك؛ فاتفق أنه توعك عقب ذلك، وطال مرضه إلى أن مات ولم يتم الذي أراده.
وفي سنة أربع وسبعين وقعت صاعقة على القلعة، فأحرقت منها شيئًا كثيرا، واستمر الحريق أياما، وفي هذه السنة عقد الجائي مجلسًا بالعلماء في إقامة خطبة بالمنصورية، فأفتاه البلقيني وابن الصائغ بالجواز، وخالف الباقون، وصنف البلقيني كتابا في الجواز، وصنف العراقي كتابا في المنع، وجمع أيضا القاضي برهان الدين بن جماعة جزءا في المنع.
وفي سنة خمس وسبعين، توقف النيل عن الزيادة، وأبطأ إلى أن دخل توت، واجتمع العلماء والصلحاء بجامع عمرو، واستسقوا، وكسر الخليج تاسع توت عن نقص أربعة أصابع من العادة، ثم نودي بصيام ثلاثة أيام، وخرجوا إلى الصحراء مشاة، وحضر غالب الأعيان ومعظم العوام وصبيان المكاتب، ونصب المنبر، فخطب عليه شهاب الدين القسطلاني خطيب جامع عمرو، وصلى صلاة الاستسقاء، ودعا وابتهل، وكشف رأسه واستغاث وتضرعوا، وكان يوما مشهودا، وابتدأ الغلاء وزادت الأسعار.
وفي هذه السنة في أول جمادى الأولى حدثت زلزلة لطيفة، فيها ابتدئت قراءة البخاري في رمضان بالقلعة بحضرة السلطان، ورتب الحافظ زين الدين العراقي قارئًا، ثم اشترك معه شهاب الدين العرياني يوما بيوم، وأمر السلطان مشايخ العلم أن يحضروا عنده سامعين ليتباحثوا، فحضر جماعة من الأكابر.
وفيها أبطل ضمان المغاني ومكس القراريط التي كانت في ربيع الدور، وقرئ بذلك(2/304)
مرسوم على المنابر، وكان ذلك بتحريك البلقيني، وأعانه أكمل الدين والبرهان ابن جماعة.
وفي سنة ست وسبعين وقع الفناء بالديار المصرية، وبيع كل رمانة بستة عشر درهما وهي قريب من دينار، وكل فروج بخمسة وأربعين، وكل بطيخة بسبعين.
وفي هذه السنة أحضر والي الأشمونين إلى الأمير منجك بنتا عمرها خمس عشرة سنة، فذكر أنها لم تزل بنتًا إلى هذه الغاية، فاستد الفرج وظهر لها ذكر وأنثيان، واحتلمت، فشاهدوها وسموها محمدا، ولهذه القضية نظير، ذكرها ابن كثير في تاريخه.
قال الحافظ ابن حجر: ووقع في عصرنا نظير ذلك في سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة.
وفي سنة سبع وسبعين وصلت هدايا إسطنبول من الروم، وفي جملة الهدايا صندوق فيه شخوص له حركات، وكلما مضى ساعة من الليل ضربت تلك الشخوص بأنواع الملاهي، وكلما مضت درجة سقطت بندقة.
وفي سنة ثمان وسبعين، في شعبان، خسف الشمس والقمر جميعا، فطلع القمر خاسفًا ليلة السبت رابع عشرة، وكسفت الشمس بين الظهر والعصر يوم السبت ثامن عشرينه.
وفي سنة ثمانين كان بمصر حريق عظيم ودام أياما. وفي هذه السنة، في ذي القعدة عقد برقوق أتابك العساكر مجلسًا بالقضاة والعلماء. وذكر أن أراضي بيت المال أخذت منه بالحيلة، وجعلت أوقافا من بعد الناصر بن قلاوون، وضاق بيت المال بسبب ذلك، فقال الشيخ سراج الدين البلقيني: أما ما وقف على خديجة وعويشة وفطيمة فنعم، وأما ما وقف على المدارس والعلماء والطلبة فلا سبيل إلى نقضه؛ لأن لهم في الخمس أكثر من ذلك. فانفصل الأمر على مقالة البلقيني.(2/305)
وفي هذه السنة ظهر كوكب له ذؤابة، وبقي مدة يرى في أول النهار من ناحية الشمال.
وفي هذه السنة أمر بتبطيل الوكلاء من دور القضاة.
وفي سنة إحدى وثمانين رسم الأمير بركة بنفي الكلاب من مصر، ورسم بأن يعمل على قنطرة فم الغور سلسلة تمنع المراكب من الدخول وإلى بركة الرطلي، فقال بعض الشعراء في ذلك:
أطلقت دمعي على خليج ... مذ سلسلوه فراح مقفل
من رام من دهرنا عجيبًا ... فلينظر المطلق المسلسل
وفي ربيع الآخر من هذه السنة أحدث السلام على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عقب أذان العشاء ليلة الاثنين مضافا إلى ليلة الجمعة، ثم أحدث بعد عشر سنين عقب كل أذان إلا المغرب.
وفي سنة ثلاث وثمانين ابتدأ الطاعون بالقاهرة. وفيها أمطرت السماء مطرًا عظيمًا، حتى صار باب زويلة خوضًا إلى بطون الخيل، وخرج سيل عظيم إلى جهة طرى، فغرق زرعها، وأقام الماء أياما، ولم يعهد الناس ذلك بالقاهرة. وفيها ظهر نجم له ذؤابة قد رمحين من جهة القبلة.
وفي سنة أربع وثمانين وقع الغلاء بمصر. وفيها شرع جركس الخليلي في عمل جسر بين الروضة ومصر، وطوله مائتا قصبة في عرض عشرة عند موردة الحبش، وعمل على النيل طاحونا تدور الماء.
وفي هذه السنة قال الحافظ ابن حجر: توجه الظاهر برقوق إلى بولاق التكرور، فاجتاز من الصليبة وقناطر السباع وفم الخور. قال: وكانت عادة السلاطين قبله من زمن الناصر لا يظهرون إلا في الأحيان، ولا يركبون إلا من طريق الجزيرة الوسطى.(2/306)
قال: ثم تكرر ذلك منه، وشق القاهرة مرارا، وجرى على ما ألف في زمن الإمرة، وأبطل كثيرا من رسوم السلطنة، وأخذ من بعده بطريقته في ذلك إلى أن لم يبق من رسمها في زماننا إلا اليسير جدا.
وفي هذه السنة بنى السلطان قناطر بني منجة، فأحكم عمارتها.
وفي سنة خمس وثمانين نزل السلطان إلى النيل، فخلق المقياس، وكسر
الخليج بحضرته. قال ابن حجر: ولم يباشر ذلك السلطان قبله في زمن الظاهر بيبرس.
وفي سنة سبع وثمانين زلزلة مصر والقاهرة زلزلة لطيفة، في ليلة الثالث عشر من شعبان. وفيها أحضرت صغيرة ميتة لها رأسان وصدر واحد ويدان فقط، ومن تحت السرة (1) صورة شخصين كاملين، كل شخص بفرج أنثى، فشاهدها الناس، ودفنت. وفيها وقع الغلاء بمصر.
وفي سنة ثمان وثمانين في جمادى الآخرة زلزلت الأرض زلزلة لطيفة، وفي هذه السنة عز الفستق عزة شديدة إلى أن بيع الرطل منه بمثقال ذهب ونصف.
وفي سنة تسع وثمانين ضربت الدراهم الظاهرية، وجعل اسم السلطان في دائرة، فتفاءلوا له من ذلك بالحبس، فوقع عن قريب، ووقع نظيره لولده الناصر فرج في الدنانير الناصرية.
وفي سنة تسعين أصاب الحاج في رجوعهم عند ثغرة حامد سيل عظيم، أهلك خلقا كثيرا. وفي هذه السنة وقع الطاعون بالقاهرة.
وفي سنة إحدى وتسعين في شعبان أمر نجم الدين الطنبدي المحتسب أن يزاد بعد كل أذان الصلاة على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما يصنع ذلك ليلة الجمعة بعد العشاء، فصنعوا ذلك إلا في المغرب لضيق وقتها.
وفي سنة اثنتين وتسعين عطش الحاج بعجرود؛ حتى بلغت القربة مائة درهم فضة.
_________
(1) ساقط من ط.(2/307)
وفي سنة ثلاث وتسعين أمر كتبغا نائب الغيبة ألا تخرج النساء إلى الترب بالقرافة وغيرها، ومنع النساء من لبس القمصان الواسعة الأكمام وشدد في ذلك.
وفي هذه السنة في جمادى الآخرة ظهر كوكب كبير بذؤابة طول رمحين.
وفي سنة أربع وتسعين وقع الوباء في البقر، حتى كاد إقليم مصر أن يفنى منها. وفي هذه السنة أمر أصحاب العاهات والقطعات أن يخرجوا من القاهرة.
وفيها ضربت بالإسكندرية فلوس ناقصة الوزن عن العادة طمعا في الربح، فآل الأمر إلى أن كانت أعظم الأسرار في فساد الأسرار ونقص الأموال.
وفي سنة تسع وتسعين استأذن كاتب السر بدر الدين الكلستاني السلطان له ولجميع المتعممين أن يلبسوا الصوف الملون في المواكب، فأذن لهم، وكان لا يلبسون إلا الأبيض خاصة. وفيها ولدت امرأة بظاهر القاهرة أربعة ذكور أحياء.
وفي سنة ثمانمائة هبت ريح شديدة بالقاهرة، حتى اتفق الشيوخ العتق على أنهم لم يسمعوا بمثلها.
وفي سنة إحدى وثمانمائة، ذكر أهل الهيئة أنه يقع في أول يوم منها زلزلة، وشاع ذلك في الناس فلم يقع شيء من ذلك. وفي رجب سنة أربع ظهر كوكب قدر الثريا، له ذؤابة ظاهرة النور جدًّا فاستمر يطلع ويغيب، ونوره قوي يرى مع ضوء القمر، حتى رئي بالنهار في أوائل شعبان، فأوله بعضهم بظهور ملك الشيخ المحمودي.
وفي سنة؟؟ وثمانمائة، نودي على الفلوس بأن يتعامل بها بالميزان، سعرت كل رطل ستة دراهم، وكانت فسدت إلى الغاية بحيث صار وزن الفلوس ربع درهم بعد أن كان مثقالا.
وفي سنة عشر، وقع الطاعون بالديار المصرية.
وفي سنة خمس عشرة ضربت الدراهم الخالصة، زنة الواحد نصف درهم والدينار ثلاثين منه، وفرح الناس بها، وبطلت الدراهم النقرة، وكان ضربها قديما في كل درهم عشرة فضة، وتسعة أعشاره نحاس.(2/308)
وفي سنة ست عشرة فشا الطاعون بمصر.
وفي سنة سبع عشرة أمر المؤيد بضرب الدراهم المديدية.
وفي سنة ثمان عشرة كان الطاعون بالقاهرة.
وفي سنة تسع عشرة كان الطاعون بالقاهرة، وكثر الوباء بالصعيد والوجه البحري. وفي هذه السنة أمر الملك المؤيد الخطباء إذا وصلوا إلى الدعاء إليه في الخطبة أن يهبطوا من المنبر درجة، ليكون اسم الله ورسوله في مكان أعلى من
المكان الذي يذكر فيه السلطان، وصنع ذلك الحافظ ابن حجر بالجامع الأزهر، وابن النقاش بجامع ابن طولون. قال ابن حجر: وكان مقصد السلطان في ذلك جميلا.
وفي سنة عشرين ولدت جاموسة ببلبيس مولودا برأسين وعنقين وأربعة أيد وسلسلتي ظهر واحد ورجلين اثنتين لا غير، وفرج واحد أنثى، والذنب مفروق باثنتين، فكانت من بديع صنع الله.
وفي هذه السنة أمسك نصراني زنا بامرأة مسلمة، فاعترفا، فحكم برجمهما، فرجما خارج باب الشعرية وأحرق النصراني ودفنت المرأة.
وفي سنة اثنتين وعشرين فشا الطاعون بالديار المصرية.
وفي سنة خمس وعشرين زلزلت القاهرة زلزلة لطيفة.
وفي سنة سبع وعشرين جدد للمشايخ الذين يحضرون سماع الحديث بالقلعة فراجي سنجاب، وهو أول ما فعل بهم ذلك.
وفي سنة ثمان وعشرين وقع بدمياط حريق عظيم حتى احترق قدر ثلثها، وهلك من الدواب والناس شيء كثير.
وفي سنة ثلاث وثلاثين كان الطاعون العظيم بالديار المصرية.
وفي سنة إحدى وأربعين كان الطاعون بالديار المصرية.(2/309)
ذكر الطريق المسلوك من مصر إلى مكة شرفها الله تعالى:
قال ابن فضل الله: المحامل السلطانية وجماهير الركبان لا تخرج إلا من أربع جهات: مصر، ودمشق، وبغداد، وتعز (1) .
قال: فيخرج الركب من مصر بالمحمل السلطاني، والسبيل والمسبل (2) للفقراء والضعفاء والمنقطعين بالماء والزاد والأشربة والأدوية، والعقاقير والأطباء والكحالين والمجبرين، والإدلاء والأئمة والمؤذنين والأمراء، والجند والقاضي والشهود والدواوين والأمناء ومغسل الموتى؛ في أكمل زي، وأتم أهبة، وإذا نزلوا منزلا أو رحلوا مرحلا تدق الكوسات (3) ، وينفر النفير (4) ليؤذن الناس بالرحيل والنزول، فإذا خرج الراكب من القاهرة نزل البركة (5) على مرحلة واحدة، فيقيم بها ثلاثة أيام أو أربعة، ثم يرحل إلى السويس في خمس مراحل، ثم إلى نخل في خمس مراحل. وقد عمل فيها الأمير آل ملك الجوكندار المنصوري أحد أمراء المشورة في الدولة الناصرية بن قلاوون بركا، واتخذ لها مصانع، ثم يرحل إلى أيلة في خمس مراحل وبها العقبة العظمى، فينزل منها إلى حجز (6) بحر القلزم، ويمشي على حجزه حتى يقطعه من الجانب الشمالي إلى الجانب الجنوبي، ويقيم به أربعة أيام أو خمسة، وبه سوق عظيم فيه أنواع المتاجر، ثم يرحل إلى حفل مرحلة واحدة، ثم إلى بر مدين في أربع مراحل وبه مغارة شعيب عليه الصلاة والسلام،
_________
(1) تعز، بالفتح ثم الكسر والزاي مشددة: قال ياقوت: "قلعة عظيمة من قلاع اليمن المشهورات".
(2) أسلبت الطريق: كثرت سابلتها.
(3) الكوسات: صنوجات من نحاس شبه الترس الصغير، يدق أحدها على الآخر بإيقاع مخصوص؛ ويتولى ذلك الكوسي. صبح الأعشى 4: 1329، وانظر حواشي السلوك 1: 126.
(4) النفير: الناس الذين يحجون.
(5) هي بركة الحبش؛ كانت مشرفة على نيل مصر خلف القرافة؛ وكانت من أجل متنزهات مصر، قال ياقوت: "رأيتها، وليست بركة ماء؛ وإنما شبهت بها".
(6) الحجز، بالضم أو الكسر: الناحية.(2/310)
ويقال: إن ماءها هو الذي سقى عليه موسى عليه الصلاة والسلام غنم بنات شعيب، ثم يرحل إلى عيون القصب في مرحلتين، ثم إلى المويلحة في ثلاث مراحل، ثم إلى الأزلم في
أربع مراحل. وماؤه من أقبح المياه، وهناك خان بناه الأمير آل ملك الجوكندار، وعمل هناك بئرا أيضا، ثم إلى الوجه في خمس مراحل، وماؤه من أعذب المياه، ثم إلى أكرى في مرحلتين وماؤه أصعب ماء في هذه الطريق، ثم إلى الحوراء، وهي على ساحل بحر القلزم في أربع مراحل، وماؤها شبيه بماء البحر لا يكاد يشرب، ثم إلى نبط في مرحلتين وماؤه عذب، ثم إلى ينبع في خمس مراحل ويقيم عليه ثلاثة أيام، ثم إلى الدهناء في مرحلة، ثم إلى بدر في ثلاث مراحل، وهي مدينة حجازية وبها عيون وجداول وحدائق، وبها الجار فرضة المدينة الشريفة، ثم يرحل إلى رابغ في خمس مراحل، وهي بإزاء الجحفة التي هي الميقات، ثم يرحل إلى خليص في ثلاث مراحل، وبها بركة عملها الأمير أرغون الناصري، ثم إلى بطن مر في ثلاث مراحل، وفي طريقه بئر عسفان، ثم يرحل من بطن مر إلى مكة المشرفة مرحلة واحدة.
ثم يرجع في منازله إلى بدر، فيعطف إلى المدينة الشريفة، فيرحل إلى الصفراء في مرحلة، ثم إلى ذي الحليفة في ثلاث مراحل، ثم إلى المدينة الشريفة في مرحلة، ثم يرجع إلى الصفراء، ويأخذ بين جبلين في فجوة تعرف نقب علي؛ حتى يأتي الينبع في ثلاث مراحل، ثم يستقيم على طريقه إلى مصر.(2/311)
ذكر قدوم المبشر سابقا يخبر بسلامة الحاج:
كان ذلك في عهد الخلفاء الراشدين: عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان فمن بعدهم، وله حكمة لطيفة قل من يعرفها، قال الحافظ عماد الدين بن كثير في تاريخه في قصة حصر عثمان -رضي الله عنه؛ واستمر الحصار بالديار المصرية حتى مضت أيام التشريق، ورجع البشير من الحج، فأخبر بسلامة الناس، وأخبر أولئك أن أهل الموسم عازمون على الرجوع إلى المدينة ليكفوهم عن أمير المؤمنين.
وأخرج مالك في الموطأ عن ابن دلان عن أبيه أن رجلًا من جهينة كان يشتري الرواحل فيتغالى بها، ثم يسرع السفر فيسبق الحاج، فأفلس، فرفع أمره إلى عمر، فقال: أما بعد أيها الناس، إن الأسيقع أسيقع جهينة رضي من دينه، وأمانته أن يقال: سبق الحاج، ألا وإنه أدان معرضا، فأصبح وقد دين به فهمد، فمن كان له عليه دين فليأته بالغداة. فقسم ماله بين غرمائه، ثم كمل الدين.
وأخرج الخطيب البغدادي في تالي التلخيص من طريق عبد الملك بن عمير عن عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه، قال: تخرج الدابة من جبل أجياد في أيام التشريق والناس بمنى، قال: فلذلك جاء سابق الحاج يخبر بسلامة الناس.(2/312)
ذكر حمائم الرسائل:
قال ابن كثير في تاريخه: في سنة سبع وستين وخمسمائة اتخذ السلطان نور الدين الشهيد الحمام الهوادي، وذلك لامتداد مملكته، واتساعها، فإنها من حد النوبة إلى همذان (1) ، فلذلك اتخذ قلعة، وحبس الحمام التي تسري الآفاق في أسرع مدة، وأيسر عدة، وما أحسن ما قال فيهن القاضي الفاضل: الحمام ملائكة الملوك، وقد أطنب في ذلك العماد الكاتب وأظرف وأطرب، وأعجب وأغرب (2) .
وفي سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، اعتنى الخليفة الناصر لدين الله بحمام البطاقة اعتناء زائدا، حتى صار يكتب بأنساب الطير المحاضر إنه من ولد الطير الفلاني. وقيل: إنه بيع بألف دينار.
وقد ألف القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في أمور هذه الحمام كتابا سماه "تمام الحمائم" (3) ، وذكر فيه فصلا فيما ينبغي أن يفعله المنطق، وما جرت العادة به في ذلك فقال:
كان الجاري به العادة أنها لا تحمل البطاقة إلا في جناحها، لأمور منها، حفظها من المطر ولقوة الجناح؛ والواجب أنه إذا انطلق من مصر لا يطلق إلا من أمكنة معلومة، فإذا سرحت إلى الإسكندرية، فلا تسرح إلا من منية عقبة بالجيزة، وإلى الشرقية، فمن مسجد التين ظاهر القاهرة، وإلى دمياط فمن بيسوس بشط بحر منجي. والذي استقرت قواعد الملك عليه، أن طائر البطاقة لا يلهو الملك عنه ولا يغفل، ولا يمهل لحظة واحدة، فتفوت مهمات لا تستدرك، إما من واصل وإما من هارب، وإما من متجدد في الثغور.
_________
(1) بعدها في ابن كثير: "لا يتخللها إلا بلاد الإفرنج، وكلهم تحت قهره وهدنته".
(2) تاريخ ابن كثير 12: 269.
(3) قال في كشف الظنون: "صنفه حين حافظ عليها الفاطميون بمصر، وبالغوا فيها حتى أفردوا لها ديوانا، وجرائد بأنساب الحمائم".(2/313)
ولا يضع (1) البطاقة من الحمام إلا السلطان بيده من غير واسطة أحد؛ فإن كان يأكل لا يمهل حتى يفرغ، وإن كان
نائمًا لا يمهل حتى يستيقظ بل ينبه. وينبغي أن تكتب البطائق في ورق الطير المعروف بذلك.
قال: ورأيت الأوائل لا يكتبون في أوائلها بسملة.
قال: وأنا ما كتبتها قط إلا ببسملة للبركة، وتؤرخ بالساعة واليوم، لا السنين؛ وينبغي ألا يكثر في نعوت المخاطب فيها، ولا يذكر في البطائق حشو الألفاظ، ولا يكتب إلا لب الكلام وزبدته. ولا بد أن يكتب شرح الطائر ورفيقه إن كانا طائرين قد سرحا حتى إن تأخر الطائر الواحد رقب حضوره، أو يطلق لئلا يكون قد وقع في برج من أبراج المدينة، ولا يعمل للبطائق هامش ولا يحمدي، وجرت العادة بأن يكتب في آخرها: "وحسبنا الله ونعم الوكيل"، وذلك حفظ لها.
ومن فصل في وصفها لتاج الدين أحمد بن سعيد بن الأثير كاتب الإنشاء: طالما جادت بها فأوضحت مخلفة وراءها تبكي عليه السحب، وصدق من سماها أنبياء للطير؛ لأنها مرسلة بالكتب.
وفيها يقول أبو محمد أحمد بن علوي بن أبي عقال القيرواني:
خضر تفوت الريح في طيرانها ... يا بعد بين غدوها ورواحها
تأتي بأخبار الغدو عشية ... لمسير شهر تحت ريش جناحها
وكأنما الروح الأمين بوحيه ... نفث الهداية منه في أرواحها
وقال غيره:
يا حبذا الطائر الميمون يطرقنا ... في الأمر بالطائر الميمون تنبيها
فاقت على الهدهد المذكور إذ حملت ... كتب الملوك وصانتها أعاليها
_________
(1) ط: "يقع".(2/314)
تلقي بكل كتاب نحو صاحبه ... تصون نظرته صونًا وتخفيها
فما تمكن عين الشمس تنظره ... ولا تجوز أن تلقيه من فيها
منسوبة لرسالات الملوك فب ... المنسوب تسمو ويدعوها تسميها
أكرم بجيش سعيد ما سعادته ... مما يشكيك فيها فكر حاكيها (1)
حما حمى الغار يوم الغار حرمته ... فيالها وقعة عزت مساعيها!
وقوفه عند ذاك الباب شرفه ... وللسعادة أوقات تؤاتيها
ويوم فتح رسول الله مكته ... عند الدخول إليها من بواديها
صفت تظلل من شمس كتيبته الـ ... خضر أمطره فيها تواليها
فظللته بما كانت تود هوى ... لو قابلتها بأشواق فتنهيا
فعندما حظيت بالقرب أمنها ... فشرفت بعطايا جل مهديها
فما يحل لدى صيد تناولها ... ولا ينال المنى بالنار مصليها
ولا تطير بأوراق الفرنج ولا ... يسير عنها بما فيه امانيها
سمت بملك المعاني غير ذي دنس ... لا ترضيهم، ولو جزت نواصيها
وانظر لها كيف تأتي للخلائق من ... آل رسول بحب كامن فيها
من المقام إلى دار السلام فلم ... يمض النهار بعزم في دواعيها
وربما ضل عنه الهند ملتقطاً ... حبات فلفله وارتد مبطيها
فجاء في يومه في إثر سابقه ... حفظاً لحق يد طابت أياديها
مناقب لرسول الله أيسرها ... لدى نبوته الغراء تكفيها
ومن إنشاء القاضي الفاضل في وصف حمائم الرسائل: سرحت لا تزال أجنحتها محملة من البطائق أجنحة، وتجهز جيوش المقاصد والأقلام أسلحة، وتحمل من الأخبار ما تحمله الضمائر، وتطوى الأرض إذا نشرت الجناح الطائر،
_________
(1) ط: "جاليها".(2/315)
وتزوى لها الأرض حتى يرى ملك هذه الأمة، وتقرب من السماء حتى ترى مالا يبلغه وهم ولا همة، وتكون مراكب للأغراض وكانت والأجنحة قلوعاً، وتركب الجو بحر تصفق فيه هبوب الرياح موجاً مرفوعاً، وتعلق الحاجات على اعجازها، ولا تفوق الإرادات عن إنجازها، ومن بلاغات البطائق استفادت ما هي مشهورة به من السجع، ومن رياض كتبها الفت الرياض فهي إليها دائمة الرجع. وقد
سكنت البروج فهي أنجم، وأعدت في كنائنها فهي للحاجات أسهم، وكادت تكون ملائمة؛ لأنها رسل فإذا نيطت بالرقاع، صارت أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع. وقد باعد الله بين أسفارها وقربها، وجعلها طيف خيال اليقظة الذي صدق العين وما كذبها، وقد أخذت عهود الأمانة في رقابها أطواقا، فأدتها من فأذنابها أوراقا، وصارت خوافي من وراء الخوافي، وغطت سرها المودع بكتمان سحبت عليه ذيول ريشها الضوافي، ترغم النوى بتقريب العهود، وتكاد العيون تلاحظها تلاحظ أنجم السعود؛ وهي أنبياء الطير لكثرة ما تأتي به من الأنباء، وخطباؤها؛ لأنها تقوم على الأغصان مقام الخطباء (1) .
وقال في وصفها شيخ الكتاب ذو البلاغتين السديد أبو القاسم شيخ القاضي الفاضل:
وأما حمام الرسائل؛ فهي من آيات الله المستنطقة الألسن بالتسبيح، العاجز عن وصفها إعجاز البليغ الفصيح، فيما تحمله من البطائق، وترد به مسرعة من الأخبار الواضحة الحقائق، وتعاليه في الجو محلقا عند مطاره، وتهديه على الطريق التي عليها ليأمن من فوت الإدراك وأخطاره، ونظره إلى المقصد الذي يسرح إليه من علي، ووصوله إلى أقرب الساعات بما يصل به البريد في أبعد الأيام من الخبر الجلي، ومجيئه معادلًا لرءوس السفار مسامتا، وإيثاره بالمتجددات فكأنه ناطق وإن كان صامتا، وكونه يمضي محمولا على ظهر المركوب، ويرجع عاملا على ظهره للمكتوب، ولا يعرج على تذكار الهدير، ولا يسأم من الدأب في الخدمة زائدا على التقدير، وفي تقدمه البشائر، يكون
_________
(1) نهاية الأرب 10: 280.(2/316)
المعنى بقولهم: أيمن طائر؛ ولا غرو أن فارق رسل أهل الأرض وفاتهم وهو مرسل والعنان عنانه، والجو ميدانه، والجناح مركبه، والرياح موكبه، وابتداء الغاية شوطه، والشوق إلى أهله سوطه؛ مع أمنه ما يحدث لمنتاب السفار، ومخبآت القفار، من مخاوف الطوارق وطوارق المخاوف، ومتلف الغوائل وغوائل المتالف، إلا ما يشد من اعتراض خارج (1)
وانقضاض كاسب كاسر، فتكف سعادة الدولة تأمينه، وتصد عنه تصميمه؛ لأنه أخذ جيشها من الطيرين اللذين يحدثان في أعدائها؛ هذا بالإنذار الجاعل كيدهم في تضليل، وذلك بما ترى رأيتها المنصورة عليهم من تضليل.
وقال القاضي محيي الدين بن الظاهر رحمه الله تعالى:
ولما وقفت على ما أنشأه القاضي الفاضل، على ما أنشأه الشيخ السديد أردت أن أجر الخاطر، فأنشات وأنا غير مخاطب أحدًا بل مخاطر، وأين الثرى من الثريا، وما الحسن لكل أحد يتهيا، وعلي أن أجيب وما علي أن أجيد، وما كل والد يدرك شأو الوليد، ولا كل كاتب عبد الرحيم ولا عبد الحميد، فقلت:
وأما حمائم الرسائل فكم أغنت البرد عن جوب القفار، وكم قدت جيوبها على أسرى أسرار؛ وكم أعارت السهام أجنحة فأحسنت بتلك العارية المطار، وكم قال جناحها لطالب النجاح: لا جناح، وكم سرت فحمدت المساء إذا حمد غيرها من السارين الصباح، وكم ساوقت الصبا والجنائب فقاقتهما ولم تحوج سلام المشتاقين إلى امتطاء كاهل الرياح.
كم حسن ملك كل منهما ملك، وكم قال مسرحها لمجيئه بها: قرة عين لي ولك، كم أجملت في الهوى تقلبًا، وإذا غنت الحمائم على الغصون صمتت عن الهديل والهدير تأدبا، كم دفعت شكا بيقينها، ورفعت شكوى بتبيينها، وكم أدت أمانة ولم تعلم أجنحتها
_________
(1) ح، ط: "جارح"، وما أثبته من الأصل.(2/317)
بما في شمالها ولا شمالها بما في يمينها. كم التفت منها الساق بالساق، فأحسنت لربها المساق، وكم أخذت عهود الأمانة فبدت أطواقا في الأعناق، ويقال: ما تضمنته من البطائق بعض ما تعلق منها في الرياض من الأوراق، تسبق اللمح، وكم استفتح بها بشير إذا جاء بالفتح، تفوت (1) الطرف السابق، والطرف الرامي الرامق، وما تلت سورة البروج إلا وتلت سورة الطارق. كم أنسى مطارها عدو السلكة والسليك، وكم غنيت في خدمة سلطانها عن الغناء وقال كل منهما لرفيقه: إليك عن الأيك.
ما أحوج تصديقهما في رسالتهما إلى الإعزاز بثالث، وكم قيل في كل منهما لمن سام هذا حام في خدمة أبناء يافث، كم سرحا بإحسان، وكم طارا بأفق فاستحق أن يقال لهما: فرسا سحاب إذا قيل لأحدهما فرسا رهان، حاملة علم لمن هو أعلم به منها، يغني السفار والسفارة فلا تحوجهم إلى الاستغناء عنها.
تغدو وتروح، وبالسر لا تبوح، فكم غنيت باجتماعها بإلفها عن أنها تنوح. كم سارت تحت أمر سلطانها أحسن السير، وكم أفهمت أن ملك سليمان إذ سخر له منها في مهماته الطير، أسرع من السهام المفوقة، وكم من البطائق مخلقة وغير مخلقة، كم ضللت من كيد، وكم بدت في مقصورة دونها مقصورة ابن دريد.
ومن إنشاء الأديب تقي الدين أبو بكر بن حجة في ذلك:
سرح فما سرح العيون إلا دون رسالته المقبولة، وطلب السبق فلم يرض البرق سرحا ولا استظل صفحته المصقولة؛ وكم جرى دونه النسيم فقصر وأمست أذياله بعرف السحب ملولة. وأرسل فأقر الناس برسالته وكتابه المصدق، وانقطع كوكب الصبح خلفه فقال عند التقصير: كتب يجاب وعلى يدي يخلق، يؤدي ما جاء على يده من الترسل فيهيج الأشواق، وما برحت الحمام تحسن الأداء في الأوراق، وصحبناه على الهدى فقال: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} ، ومن روى عنه الحديث المسند فعن عكرمة قد روى، يطير مع
_________
(1) ح، ط: "تسبق".(2/318)
الهوى لفرط صلاحه، ولم يبق على السر المصون جناح إذا دخل تحت جناحه؛ إن برز من مقفصه لم يبق للصرح الممرد قيمة، بل ينعزل بتدبيج أطواقه ويعلق عليه من العين تلك التميم، ما سجن إلا صبر على السجن وضيقة الأطواق، ولهذا حمدت عاقبته على الإطلاق، ولا غنى على عود إلا أسال دموع الندى من حدائق الرياض، ولا أطلق من كبد الجو إلا كان سهما مريشا تبلغ به الأغراض. كم علا فصاد بريش القوادم كالأهداب لعين الشمس، وأمسى عند الهبوط لعيون الهلال كالطمس؛ فهو الطائر الميمون والغاية السباقة، والأمين الذي إذا أودع أسرار الملوك حملها بطاقة؛ فهو من الطيور التي خلا لها الجو فنقرت ما شاءت من حبات النجوم، والعجماء التي من أخذ عنها شرح المعلقات فقد أعرب من دقائق المفهوم، والمقدمة والنتيجة للكتاب الحجلي في منطق الطير، وهي من حملة الكتاب الذي إذا وصل القارئ منه إلى الفتح يتهلل لحبه الخير؛ إن يصدر البازي بغير علم فكم جمعت بين طرفي كتاب، وإن سألت العقبان على بديع السجع أحجمت عن رد الجواب.
رعت النسور بقوة جيف الفلا ... ورعى الذباب الشهد وهو ضعيف
ما قدمت إلا وأرتنا من شمائلها اللطيفة نعم القادمة، وأظهرت لنا من خوافيها ما كانت له خير كاتمة. كم أهدت من مخلبها وهي غادية رائحة، وكم حنت إليها الجوارح وهي أدام الله إطلاقها عز جارحة، وكم أدارت من كؤوس السجع ما هو أرق من قهوة الغنشا، وأبهج على زهر المنثور من صبح الأعشى. وكم عامت بحور الفضاء ولم تحفل بموج الجبال، وكم جاءت ببشارة وخضبت الكف من تلك الأنملة قلامة الهلا، وكم زاحمت النجوم بالمناكب حتى ظفرت بكل كف خضيب، وانحدرت كأنها دمعة سقطت على خد الشقيق لأمر مريب، وكم لمع في أصيل الشمس خضاب كفها الوضاح، فصارت بسموها وفرط البهجة كمشكاة مصباح. والله تعالى يديم بأفنان أبوابه العالية الحان السواجع، ولا برح تغريدها بين البادئ والراجع.(2/319)
ذكر عادة المملكة في الخلع والزي:
قال ابن فضل الله: وأما القضاة والعلماء فخلعهم من الصوف بغير طراز، فلهم الطرحة، وأصل الصوف أن يكون أبيض وتحته أخضر.
وأما زي القضاة والعلماء فدلق (1) متسع بغير تفريق، فتحته على كتفه، وشاش كبير منه ذؤابة بين الكتفين، ويميلها إلى الكتف الأيسر.
وأما من دون هؤلاء فالفرجية الطويلة الكم بغير تفريج، "وأما زاهدهم فيقصر الذؤابة" (2) ويميلها إلى الكتف الأيسر. ومنهم من يلبس الطيلسان.
وأما قاضي القضاة الشافعي -رضي الله تعالى عنه، فرسمه الطرحة، وبها يمتاز ومراكبهم البغال، ويعمل بدلا من الكنبوش (3) الزناري، وهو من الجوخ بالعباء المجوفة الصدر مستدير من وراء الكفل.
وألبسه الخطباء دلق مدور أسود للشعار العباسي، وشاش أسود وطرحة سوداء.
وأما زي الأمراء والجند، فتقدم عند ذكر السلطان.
وأما خلعهم وخلع الوزراء ونحوهم فأسقطتها من كلام ابن فضل الله؛ لأنها ما بين حرير وذهب؛ وذلك محرم شرعا، وقد التزمت ألا أذكر في هذا الكتاب شيئًا أسأل عنه في الآخرة، إن شاء الله تعالى.
_________
(1) الدلق: نوع من الملابس الصوفية.
(2) كذا في الأصل وفي ح، ط: "والذؤابة أيضا ويميلها"، وكلاهما غير واضح.
(3) الكنبوش: من معانيه اللثام الذي يستعمله أهل المغرب لتغطية الوجه من الدقن إلى الخيشوم اتقاء لبرودة الصباح. وانظر حواشي السلوك 1: 452.(2/320)
ذكر عادة السلطان في الكتابة على التقاليد:
قال ابن فضل الله: عادته إذا كتب لأحد من النواب يكتب اسمه فقط، فإن كان من كبارهم، وهو من ذوي السيوف، كتب "والده فلان"، وإن كان من القضاة والعلماء كتب: "أخوه فلان".
ذكر معاملة مصر:
قال ابن فضل الله في المسالك: معاملة مصر الدراهم، ثلثاها فضة وثلثها نحاس، والدرهم ثمان عشرة حبة (1) خرنوبة، والخرنوبة ثلاث قمحات، والمثقال أربعة وعشرون خرنوبة، والدرهم منها قيمته ثمانية وأربعون فلسا، والدينار الحبشي ثلاثة عشر درهما وثلث الدرهم. وأما الكيل فيختلف (2) بمصر: الإردب، وهو ست ويبات، الويبة أربعة أرباع، الربع أربعة أقداح، القدح مائتان واثنان وثلاثون درهما؛ هذا إردب مصر، وفي أريافها يختلف الإردب من هذا المقدار إلى أنهى ما ينتهي ثلاث ويبات. والرطل اثنا عشر أوقية، والأوقية اثنا عشر درهما.
قال صاحب المرآة: في سنة خمس وسبعين من الهجرة ضرب عبد الملك بن مروان على الدنانير والدرهم اسم الله تعالى، قال الهيثم: وسببه أنه وجد دراهم ودنانير تاريخها قبل الإسلام بأربعمائة سنة، عليها مكتوب "باسم الأب والابن وروح القدس"، فسبكها ونقش عليها اسم الله تعالى وآيات من القرآن واسم الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. واختلف في صورة ما كتب، فقيل: جعل في وجه "لا إله إلا الله" وفي الآخر "محمد رسول الله"
_________
(1) ساقطة من ح، ط.
(2) ح، ط: "فمختلف في مصر".(2/321)
وأرخ وقت ضربها. وقيل: جعل في وجه "قل هو الله أحد" وفي الآخر "محمد رسول الله".
وقال القضاعي: كتب على أحد الوجهين "الله أحد من غير قل"، ولما وصلت إلى العراق أمر الحجاج فزيد فيها في الجانب الذي فيه محمد رسول الله
في جوانب الدرهم مستديرا: "أرسله بالهدى ودين الحق ... " الآية. واستمر نقشها كذلك إلى زمن الرشيد، فأراد تغييرها فقيل له: هذا أمر قد استقر وألفه الناس، فأبقاها على ما هي عليه اليوم، ونقش عليها اسمه.
وقيل: أول من غير نقشها المنضور، وكتب عليها اسمه.
وأما الوزن فما تعرض أحد لتغييره. انتهى كلام صاحب المرآة.(2/322)
ذكر كوكب الذنب:
قال صاحب المرآة: إن أهل النجوم يذكرون أن كوكب الذنب طلع في وقت قتل قابيل، وهابيل، وفي وقت الطوفان، وفي وقت نار إبراهيم الخليل، وعند هلاك قوم هاد وثمود وقوم صالح، وعند ظهور موسى وهلاك فرعون، وفي غزوة بدر، وعند قتل عثمان وعلي، وعند قتل جماعة من الخلفاء، منهم الرضي والمعتز والمهتدي والمقتدر.
وقال: وأدنى الأحداث عند ظهور هذا الكوكب الزلازل والأهوال.
قلت: يدل لذلك ما أخرجه الحاكم في المستدرك، وصححه من طريق ابن أبي مليكة، قال: غدوت على ابن عباس، فقال: ما نمت البارحة! قلت: لم؟ قال: طاح الكوكب ذو الذنب، فخشيت أن يكون الدجال قد طرق.(2/323)
ذكر بقية لطائف مصر:
قال الكندي: ذكر يحيى بن عثمان، عن أحمد بن الكريم، قال: جلت للدنيا، ورأيت آثار الأنبياء والملوك والحكماء، ورأيت آثار سليمان بن داود عليهما السلام ببيت المقدس، وتدمر والأردن، وما بنته الشياطين، فلم أر مثل برابي مصر ولا مثل حكمتها، ولا مثل الآثار التي بها، والأبنية التي لملوكها وحكمائها. ومصر ثمانون كورة، ليس منها كورة إلا وفيها ظرائف وعجائب من أصناف الأبنية والطعام والشراب والفاكهة والنبات وجميع ما ينتفع به الناس، ويدخره الملوك، وصعيدها أرض حجازية، حرها كحر الحجاز، تنبت النخل والأراك والقرظ والدوم والعشر، وأسفل أراضي مصر شامية تمطر مطر الشام، وتنبت نبات الشام من الكرم والتين والموز وسائر الفاكهة، والبقول والرياحين. ويقع به الثلج، ومنها لوبية ومراقية (1) برابي وجبال وغياض، وزيتون وكروم برية بحرية جبلية، بلاد إبل وماشية، ونتاج وعسل ولبن. وكل كورة (2) من مصر مدينة، قال تعالى: {وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} ، وفي كل مدينة منها آثار عجيبة من الأبنية والصخور والرخام والبرابي، وتلك المدن كلها تأتي منها السفن، تحمل المتاع والآلة إلى الفسطاط، تحمل السفينة الواحدة ما تحمله خمسمائة بعير.
قال الكندي: وليس في الدنيا بلد يأكل أهله صيد البحر طريًّا غير أهل مصر.
قال: وذكر بعض أهل العلم أنه ليس في الدنيا شجرة إلا وهي بمصر، عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها.
_________
(1) قال ياقوت: "مراقية بالفتح والقاف والياء مخففة؛ إذا قصد القاصد من الإسكندرية إلى إفريقية فأول بلد يلقاه مراقية، ثم لوبية".
(2) الكورة في اصطلاح القدماء: كل صقع يشتمل على عدة قرى، ولا بد لتلك القرى من قصبة أو مدينة أو نهر يجمع اسمها، وانظر معجم البلدان 1: 36.(2/324)
ويوجد بمصر في كل وقت من الزمان من المأكول والمأدوم، والمشموم وسائر البقول والخضر؛ جميع ذلك في الصيف والشتاء، لا ينقطع منها شيء لبرد ولا حر (1) .
وذكر أن بخت نصر قال لابنه بلسطان: ما أسكنتك مصر إلا لهذه الخصال. وبلسطان هو الذي بنى قصر الشمع.
وقال بعض من سكن مصر: لولا ماء طوبة، وخروف أمشير، ولبن برمهات، وورد برمودة، ونبق بشنس، وتين بؤونة، وعسل أبيب، وعنب مسرى، ورطب توت، ورمان بابة، وموز هاتور، وسمك كيهك، ما أقمت بمصر.
وأخرج ابن عساكر من طريق الربيع بن سليمان، قال: سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول: ثلاثة أشياء، دواء للداء الذي لا دواء له، الذي أعيا الأطباء أن يداووه: العنب، ولبن اللقاح، وقصب السكر، ولولا قصب السكر ما أقمت بمصر.
وقال بعضهم: يجتمع بمصر في وقت واحد ما لا يجتمع بمدينة؛ وذلك البنفسج والورد والسوسن، والمنثور والنرجس وشقائق النعمان والبهار والياسمين والنسرين، واللينوفر والنمام والمرزنجووش والريحان والنارنج، والليمون والتفاح الشامي والأترج والباقلي الأخضر، والعنب والتين والموز واللوز الأخضر والسفرجل، والكمثرى والرمان والنبق والقثاء والخيار، والطلع والبلح والبسر الرطب واللفت، والقنبيط والأسفاناخ والقرع والجزر والباذنجان؛ كل ذلك يجتمع في وقت واحد من السنة.
وقال بعض من صنف في فضائل مصر: بمصر الحمير المريسية، والبقر الحسينية، والنجب النجارية، والأغنام النوبية، والدجاج الحبشية، والمراكب الحربية، والسفن الزيبقية، والمناسف الحملية، والستور البهنساوية، والغلائل القصبية، والحرم
_________
(1) ح: "لحر".(2/325)
السمطاوية، والنعال السندية، والسلال الوهبانية، والمضارب السلطانية. ويحمل إلى العراق وغيرها من مصر زيت الفجل والعسل النحل، ويفخر به على أعسال الدنيا.
ويروى أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بارك فيه لما أهداه إليه المقوقس.
وبمصر يزرع البلسان، ودهنه يستعمل في أكثر العلاج، والنفط وهو من آلة الحرب التي بها قهر الأعداء، ودهن الخروع وزيت البزر والدهن الصيني، وزيت الخردل وزيت الخس، ودهن القرطم، وزيت السلجم، وخشب اللبخ، وهو أصلح من الأبنوس اليوناني.
وفي صعيد مصر خشب الأبنوس الأبلق، وسائر العقاقير التي تدخل في الطب والعلاج. وكل ما زرع في أرض مصر ينبت.
وفيها من نبات الهند والسند مثل الأهليلج والخيار شنبر والتمر هندي وغيره مما لا يوجد في بلد من البلاد الإسلامية.
وبها الشب الواحي؛ وهو أبلغ من اليماني، والأفيون والشاهترج والصفر والزجاج والجزع الملون والصوان؛ وهو حجر لا يعمل فيه الحديد؛ وكانت الأوائل تعمده وتقطعه بأسوان؛ ومنه العمد الجافية، التي لا تكون بسائر الدنيا، وكل حمامات مصر بالرخام لكثرته عندهم، وكذلك صحون دورهم.
وبها الحجارة المسماة بالكذان؛ يبلط بها الدور ويعقد بها الدرج.
وبها من الحصر العبداني، ومن سائر أصناف الحصر ما لا يوجد في غيرها، ويجلب من مصر البز الأبيض من الديبقي وغيره الذي يعمل بدمياط وتنيس. وبالإسكندرية يعمل الوشى الذي يقوم مقام وشي الكوفة.
وبالصعيد يعمل من الجلود الأنطاع، وبالبهنسا الستور التي هي أحسن ستور الأرض(2/326)
والبسط وأجلة الدواب والبراقع وستور النسوان في المضارب والأكسية والطيالسة.
وكان يعمل بإخميم الفرش التي تسمى نطوع الخز.
وبمصر من أصناف الرقيق ما ليس ببلد من البلدان، وأصناف الطير الحسن الصوت (1) في صعيدها مثل القمري والنوبي، والنواح والدبسي الأحمر والأبلق، والكروان الذي ليس مثله في بلد.
ومنها يحمل الطير إلى البلدان في الشرق والغرب، والأشماع المتخذة من الشهد وعسل الأسطروس والنبيذ المعمولة من القمح والقند والأباليج والطبرزد، وماء طوبة الذي لا يعدله شيء، ولا يتغير على ممر الايام، والسمك الذي هو ملك الأسماك، والبوري الطري والمملوح، والبلاطي الذي كأنه دروع من الفضة، وطير الماء، وطير الحوصل يعمل من جلده الخفاف الناعمة والفراء الأبيض الذي يقوم مقام الفنك في لينه ورقته. وبها الكتان، ومنها يحمل إلى سائر الأرض، والقراطيس، وبها من العلم القديم ما ليس ببلد، كعلم الطب اليوناني والمساحة، والنجوم والحساب القبطي، واللحون والشعر الرومي.
وفيها من سائر الثمار والأشجار، والمشمومات والعقاقير والنبات والحشائش ما لا يحصى. والعصفور يفرخ بمصر في كانون، وليس ذلك في بلد إلا بها.
وقال الكندي: بمصر معدن الزمرد، وليس في الدنيا زمرد إلا معدن بمصر، ومنها يحمل إلى سائر الدنيا.
قال: وبها معدن الذهب، يفوق على كل معدن.
قال: وفيها القراطيس، وليس هي في الدنيا إلا بمصر.
وقال غيره: من خصائص مصر القراطيس، وهي الطوامير، وهي أحسن ما كتب
_________
(1) ح: "الصورة".(2/327)
فيه، وهو من حشيش أرض مصر، ويعمل طوله ثلاثون ذرعا وأكثر في عرض شبر. وقيل: إن يوسف عليه السلام أول من اتخذ القراطيس، وكتب فيها.
قال الكندي: وبها من الطرز والقصب التنيسي والشرب والدبيقي ما ليس بغيرها، وبها الثياب الصوف والأكسية المرعز (1) ، وليس هي في الدنيا إلا بمصر.
ويحكى أن معاوية لما كبر كان لا يدفأ، فاتفقوا أنه لا يدفئه إلا أكسية تعمل في مصر، من صوفها المرعز العسلي غير مصبوغ، فعمل له منها عدد، فما احتاج منها إلا إلى واحد. وبها طراز البهنسا من الستور والمضارب ما يفوق ستور الأرض.
وبها من النتاج العجيب من الخيل والبغال، والحمير ما يفوق نتاج أهل الدنيا، وليس في الدنيا فرس في نهاية الصورة في العنق غير الفرس المصري، وليس في الدنيا فرس لا يردف غير المصري، وسبب ذلك قصر ساقيه وبلاغة صدره وقصر ظهره. ويحكى أن الوليد عزم على إجراء الحلبة، فكتب إلى الأمصار أن يوجه إليه بخيار خيل كل بلد، فلما اجتمعت عرضت عليه، فمرت عليه المصرية، فلما رآها دقيقة العصب، لينة المفاصل والأعطاف، قال: هذه خيل ما عندها طائل، فقال له عمر بن عبد العزيز: وأين الخير كله إلا لهذه! فقال له: ما تترك تعصبك لمصر يا أبا حفص! فلما أجريت الخيل جاءت المصرية كلها سابقة ما خالطها غيرها.
قال: وبها زيت الفجل ودهن البلسان والأفيون والأبرميس وشراب العسل والبسر البرني الأحمر، واللبخ والخس والكبريت والشمع والعسل وخل الخمر والترمس، والجلبان والذرة والنبيذ والأترج الأبلق والفراريج الزبلية. وذكر أن مريم عليها السلام شكت إلى ربها قلة لبن عيسى، فألهمها أن غلت النيدة فأطعمته إياها.
وذكر بعضهم أن رهبان الشام لا يكادون يرون إلا عمشا من أكل العدس، ورهبان مصر سالمون من ذلك لأكلهم الجلبان.
_________
(1) في اللسان: "المرعز كالصوف، يخلص من بين شعر العنز".(2/328)
والبقر الذي بمصر أحسن البقر صورة، وليس في الدنيا بقر أعظم خلقا منها، حتى إن العضو منها يساوي أكبر ثور من غيرها.
وبها الحطب الصنط والأبنوس الأبلق والقرط الذي تعلفه الدواب.
وذكر أنه يوقد بالحطب الصنط عشرين سنة في الكانون أو التنور، فلا يوجد له رماد طول هذه المدة.
وجيزتها في وقت الربيع من أحسن مناظر الدنيا.
وقال صاحب مباهج الفكر: يقال: إن بمصر سبعمائة وخمسين معدنًا، توجد بجبل المقطم: الذهب والفضة والخارصين والياقوت؛ إلا أنه لطيف جدًّا، يستعمل في الأكحال والأدوية، وفي أسوان يغاص على السنفاوح ومعدن الزمرد؛ وليس في الدنيا غيره، وبجبال القلزم المتصلة بجبل المقطم حجر المغناطيس.
ومن خصائص مصر بركة النطرون. وينبت في أرض مصر سائر ما ينبت في الأرض. انتهى.
وقال صاحب غرائب العجائب: بمصر بئر البلسم بالمطربة، يسقى بها شجر البلسان، ودهنه عزيز والخاصية في البئر؛ فإن المسيح عليه السلام اغتسل فيها، وليس في الدنيا موضع ينبت فيه البلسان إلا هذا الموضع، وقد استأذن الملك الكامل أباه العادل أن يزرعه فأذن له، ففعل ولم ينجح، ولم يخلص منه دهن، فسأل أباه أن يجري له ساقية من المطرية إليه، ففعل فلم ينجح.
قال: بأرض مصر حجر القيء، إذا أخذه الإنسان بيده غلب عليه الغثيان، حتى يتقيأ جميع ما في بطنه، فإن لم يلقه من يده خيف عليه التلف.
وقال الكندي: جعل الله مصر متوسطة الدنيا، وهي في الإقليم الثالث والرابع، فسلمت من حر الإقليم الأول والثاني، ومن برد الإقليم الخامس والسادس، فطاب(2/329)
هواؤها وبقي حرها. وضعف حرها، وخف بردها، فسلم أهلها من مشاتي الجبال ومصائف عمان وصواعق تهامة، ودماميل الجزيرة وجرب اليمن، وطواعين الشام وغيلان العراق، وعقارب عسكر مكرم، وطلب البحرين وحمى خيبر، وأمنوا من غارات الترك، وجيوش الروم وطوائف العرب، ومكابرة الديلم، وسرايا القرامطة، وبثوق الأنهار، وقحط الأمطار، وقد اكتنفها معادن رزفها؛ وقرب تصرفها، فكثر خصبها، ورغد عيشها، ورخص سعرها.
وقال الجاحظ في مصر: إن أهلها يستغنون عن كل بلد، حتى لو ضرب بينها وبين بلاد الدنيا سور لغني أهلها بما فيها عن سائر بلاد الدنيا، وفيها ما ليس بغيرها، وهو حيوان السقنقور والنمس، ولولاه لأكلت الثعابين أهلها، وهو لها كقنافذ سجستان لأفاعيها، والسمك الرعاد والحطب الصنط الذي أوقد منه يوما أجمع ما وجد من رماده ملء كف، صلب العود، سريع الوقود، بطيءالخمود. ويقال: إنه الأبنوس؛ لكن البقعة قصرت عن الكتان، فجاء أحمر شديد الحمرة، ودهن البلسان، والأفيون وهو عصارة الخشخاش واللبخ، وهو ثمر في قدر اللوز الأخضر؛ إلا أن المأكول منه الظاهر، والأترج الأبلق والزمرد. وأهلها يأكلون صيد بحر الروم وبحر فارس طريًّا، وفي كل شهر من شهورها القبطية صنف من
المأكول والمشروب والمشموم، يوجد فيه دون غيره، فيقال: رطب توت، ورمان بابة، وموز هتور، وسمك كيهك، وماء طوبة، وخروف أمشير، ولبن برمهات، وورد برمودة، ونبق بشنس، وتين بئونة، وعسل أبيب، وعنب مسرى. وإن صيفها خريف، وشتاءها ربيع، وما يقطعه الحر في سائر البلاد من الفواكه يوجد فيها في الحر والبر؛ إذ هي في الإقليم الثالث والإقليم الرابع، فسلمت من حر الأول والثاني وبرد الخامس والسادس. ويقال: لو لم يكن من فضل(2/330)
مصر إلا أنها تغني في الصيف عن الخيش والثلج وبطون الأرض، وفي الشتاء عن الوقود والفراء لكفاها.
ومما وصفت به أن صعيدها حجازي كحر الحجاز، ينبت النخل والدوم وهو شجر المقل، والعشر، والقرظ والإهليلج والفلف والخيار شنبر، وأسفل أرضها شامي يمطر مطر الشام، ويقع فيه الثلوج، وينبت التين والزيتون والعنب والجوز واللوز والفستق وسائر الفواكه، والبقول الرياحين وهي ما بين أربع صفات، فضة بيضاء أو مسكة (1) سوداء، أو زبرجدة خضراء أو ذهبة (2) صفراء، وذلك أن نيلها يطبقها فتصير كأنها فضة بيضاء، ثم ينضب عنها فتصير مسكة سوداء، ثم تزرع فتصير زبرجدة خضراء، ثم تستحصد فتصير ذهبة صفراء.
وحكى ابن زولاق في كتابه، أن أمير مصر موسى بن عيسى كان واقفًا بالميدان عند بركة الحبش، فالتفت يمينا وشمالا، وقال لمن معه من جنده: أترون ما أرى؟ قالوا: وما يرى الأمير؟ قال: أرى عجبًا، ما في شيء من الدنيا مثله، فقالوا: يقول الأمير، فقال: ارى ميدان أزهار، وحيطان نخل وبستان شجر، ومنازل سكنى، وجبانة أموات، ونهرًا عجاجًا وأرض زرع ومراعي ماشية، ومرابط خيل، وساحل بحر، وقانص وحش، وصائد سمك، وملاح سفينة، وحادي إبل، ومقابر (3) ورملا وسهلا وجبلا، فهذه سبعة عشر؛ مسيرها في أقل من ميل في ميل، ولهذا قال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي يصف الرصد الذي بظاهر مصر:
يا نزهة الرصد التي قد نزهت ... عن كل شيء خلا (4) في جانب الوادي
فذا غدير وذا روض وذا جبل ... فالضب والنون والملاح والحادي
_________
(1) المسكة: نوع من الطيب.
(2) كذا في ح، ط، وفي الأصل: "ذهبية".
(3) ط: "معاير"، وصوابه ما في الأصل.
(4) كذا في الأصل، وفي ط، ح: "حلا".(2/331)
قال ابن فضل الله في المسالك: مملكة مصر من أجل ممالك الأرض لما حوت من الجهات المعظمة، والأرض المقدسة والمساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، وقبور الأنبياء والطور والنيل والفرات؛ وهما من الجنة، وبها معدن الزمرد، ولا نظير له في أقطار الأرض. وحسب مصر فخرا ما تفردت به من هذا المعدن واستمداد ملوك الآفاق له منها، وبينه وبين قوص صمانية أيام بالسير المعتدل، والبجاة (1) تنزل حوله لأجل القيام بحفره، وهو في الجبل الآخذ على شرقي النيل في منقطع من البر لا عمارة عنده، ولا قريبا منه، والماء عنه مسيرة نصف يوم؛ وهذا المعدن في صدر مغارة طويلة في حجر أبيض منه، يضرب فيستخرج منه الزمرد؛ وهو كالعروق فيه.
قال: وأكثر محاسن مصر مجلوبة إليها؛ حتى بالغ بعضهم فقال: إن العناصر الأربعة مجلوبة إليها: الماء وهو النيل مجلوب من الجنوب، والتراب مجلوب من حمل الماء؛ وإلا فهي رمل محض لا ينبت، والنار لا توجد بها شجرتها وهو الصوان إلا إذا جلب إليها، والهواء لا يهب إليها إلا من أحد البحرين، إما الرومي وإما الخارج من القزم إليها.
وهي كثيرة الحبوب من القمح والشعير والفول، والحمص والعدس والبسلة واللوبيا والدخن والأرز، وبها الرياحين الكثيرة كالحبق (2) والآس والورد وغيرها، وبها الأترج والنارنج والليمون والحماض والكباد، والموز الكثير وقصب السكر الكثير والرطب والعنب، والتين والرمان والتوت والفرصاد والخوخ، واللوز والجميز والنبق والبرقوق والقراصيا والتفاح. وأما السفرجل والكمثرى فقليل؛ وكذلك الزيتون مجلوب إلا قليلا في الفيوم، وبها البطيخ الأصفر أنواع والأخضر والخيار والقثاء على أنواع، والقلقاس واللفت والجزر والقنبيط والفجل والبقول المنوعة.
_________
(1) البجاة: من القبائل التي كانت تسكن صعيد مصر.
(2) في القاموس: "الحبق، محركة: نبات طيب الرائحة، فارسية: الفوتنج، يشبه الثمام".(2/332)
وبها أنواع الدواب من الخيل والبغال، والحمير والبقر والجاموس والغنم والمعز. ومما يوصف من دوابها بالجودة الحمر لفراهتها، والبقر والغنم لعظمها، وبها الأوز والدجاج والحمام، ومن الوحش الغزلان والنعام والأرنب؛ وأما من أنواع الطير فكثير كالكركي وغيره.
وأوسط الأسعار في غالب أوقاتها الإردب القمح بخمسة عشر درهما، والشعير بعشرة، وبقية الحبوب على هذا الأنموذج؛ وأما الأرز فيبلغ أكثر من ذلك، وأما اللحم فأقل سعره الرطل بنصف درهم.
ويعمل بمصر معامل كالتنانير، ويعمل بها البيض؛ ويوقد بنار يحاكي بها نار الطبيعة في حضانة الدجاجة البيض، ويخرج في تلك المعامل الفراريج، وهي معظم دجاجهم. وبها ما يستطاب من الألبان والأجبان، وبها العسل بمقدار متوسط بين الكثرة والقلة، وأما السكر فكثير جدًّا، وقيمته المعهودة على الغالب من السعر الرطل بدرهم ونصف، ومنها يجلب السكر إلى كثير من البلاد، وقد نسي بها ما كان يذكر من سكر الأهواز.
وبها الكتان المعدوم المثل المنقول منه، ومما يعمل من قماشه إلى أقطار الأرض.
ومبانيها بالحجر، وأكثرها بالطوب وأفلاق النخل والجريد. وخشب الصنوبر مجلوب إليهم من بلاد الروم في البحر، ويسمى عندهم النقي.
وبها المدارس والخوانق والربط والزوايا، والعمائر الجليلة الفائقة المعدومة المثل المفروشة بالرخام، المسقوفة بالأخشاب، والمدهونة الملمعة بالدهب واللازورد.
قال: وحاضرة مصر تشتمل على ثلاث مدن عظام: الفسطاط، وهو بناء عمرو بن العاص؛ وهي المسماة عند العامة بمصر العتيقة، والقاهرة بناها جوهر القائد لمولاه الخليفة المعز، وقلعة الجبل بناها قراقوش للملك الناصر صلاح الدين أبي المظفر يوسف بن أيوب، وأول من سكنها أخوه العادل. وقد اتصل بعض هذه الثلاثة ببعض بسور بناه قراقوش بها(2/333)
إلَّا أنه قد تقطع الآن في بعض الأماكن، وهذا السور، هو الذي ذكره القاضي الفاضل في كتاب كتبه إلى السلطان
صلاح الدين، فقال: والله يحيي الموتى حتى يستدير بالبلدين نطاقه، ويمتد عليهما رواقه، فهما عقيلة ما كان معصمهما بغير سوار، ولا حضرهما ليجلي بلا منطقة نضار (1) .
قال: وبها المارستان المنصوري المعدوم النظير، لعظم بنائه وكثرة أوقافه. وبها البساتين الحسان والمناظر النزهة والآدار المطلة على البحر، وعلى الخلجاناة الممتدة فيه أوقات مدها.
وبها القرافة تربة عظمى لمدفن أهلها، وبها العمائر الضخمة، وهي من أحسن البلاد إبان ربيعها للغدر الممتدة من مقطعات النيل بها، وما يحفها من زرع أخرجت شطأها وفتقت أزهارها، وبها من محاسن الأشياء ولطائف الصنائع ما تكفي شهرته ومن الأسلحة، والقماش والزركش والمصوغ والكفت (2) وغير ذلك ما لا يكاد يعد تفردها به، والرماح التي لا يعمل في الدنيا أحسن منها. انتهى كلام ابن فضل الله.
وقال الكندي في فضل مصر: بمصر العجائب والبركات، فجلبها المقدس، ونيلها المبارك، وبها الطور الذي كلم الله عليه موسى؛ فإن أهل العلم ذكروا أن الطور من المقطم، وأنه داخل فيما وقع عليه القدس؛ قال كعب: كلم الله موسى عليه السلام من الطور إلى أطراف المقطم من القدس. وبها الوادي المقدس، وبها ألقى موسى عصاه، وبها فلق البحر لموسى، وبها ولد موسى وهارون، وبها ولد عيسى، وبها كان ملك يوسف، وبها النخلة التي ولدت مريم عيسى تحتها بريف من كورة أهناس، وبها اللبخة التي أرضعت عندها مريم عيسى بأشمون، فخرج من هذه اللبخة الزيت، وبها مسجد
_________
(1) ح، ط: "نصار" تحريف.
(2) الكفت: ما تطعم به أواني النحاس من الذهب والفضة.(2/334)
إبراهيم، ومسجد يعقوب، ومسجد موسى، ومسجد يوسف، ومسجد مارية سرية رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حفن (1) ، أوصت أن يبنى بها مسجد فبني، وبها مجمع البحرين وهو البرزخ الذي قال الله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ} (2) وقال: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} (3) .
وقال غيره: لأهل مصر القلم المعروف بقلم الطير، وهو قلم البرابي، وهو قلم عجيب الحرف.
قال: ومصر عند الحكماء العالم الصغير، سليل العالم الكبير؛ لأنه ليس في بلد غني غريب إلا وفيها مثله وأغرب منه، وتفضل على البلدان بكثرة عجائبها ومن عجائبها النمس؛ وهو أقتل للثعابين بمصر من القنافد للأفاعي بسجستان.
وبمصر جبل يكتب بحجارته كما يكتب بالمداد، وجبل يؤخذ منه الحجر، فيترك في الزيت فيقد كما يقد السراج.
ويقال: إنه ليس على وجه الأرض نبت ولا حجر إلا وفي مصر مثله، وليس تطلب في سائر الدنيا الأموال المدفونة إلا بمصر.
ويقال: إن بمصر بقلة؛ من مسها بيده ثم مس السمك الرعاد لم ترعد يده، وبها حجر الخل يطفأ على الخل. وبها حجر القيء إذا أمسكه الإنسان بيديه تقيأ كل ما في بطنه، وبها خرزة تجعلها المرأة على حقوقها فلا تحبل. وبها حجر يوضع على حرف التنور فيتساقط خبزه، وكان يوجد بصعيدها حجارة رخوة تكسر فتقد كالمصابيح.
ومن عجائبها حوض كان بدلالات مدون من حجارة.
_________
(1) انظر فتوح مصر.
(2) الرحمن: 20.
(3) الفرقان: 53.(2/335)
السبب في كون أهل مصر أذلاء يحملون الضيم:
قال محمد بن الربيع الجيزي: سمعت يحيى بن عثمان بن صالح، يقول: قدم سعد بن أبي وقاص في خلافة عثمان رسولا من قبل عثمان إلى أهل مصر أيام ابن أبي حذيفة، فلقوه خارجا من الفسطاط، ومنعوه من دخولها، فقال لهم: فلتسمعوا ما أقول لكم؛ فامتنعوا عليه، فدعا عليهم أن يضربهم الله بالذل. هذا معناه.
قلت: وسعد ممن عرف بإجابة الدعوة؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دعا له: "اللهم استجب له إذا دعاك".
في تذكرة الصلاح الصفدي: كان الشيخ تاج الدين الفزاري يقول: إن الحكماء وأهل التجارب ذكروا أن من أقام ببغداد سنة وجد في علمه زيادة، ومن أقام بالموصل سنة وجد في عقله زيادة، ومن أقام بحلب سنة وجد في نفسه شحًّا، ومن أقام بدمشق سنة وجد في طباعه غلظة وفظاظة، ومن أقام بمصر سنة وجد في أخلاقه رقةً وحسنًا.
في مباهج الفكر: يروى عن كعب، قال: لما خلق الله الأشياء، قال القتل: أنا لاحق بالشام، فقالت الفتنة: وأنا معك، وقال الخصب أنا لاحق بمصر، فقال الذل: وأنا معك، وقال الشقاء: أنا لاحق بالبادية، فقالت الصحة: وأنا معك.
وقال محمد بن حبيب: لما خلق الله الخلق خلق معهم عشرة أخلاق: الإيمان والحياء والنجدة والفتنة والكبر، والنفاق والغنى (1) والفقر والذل والشقاء، فقال الإيمان: أنا لاحق باليمن، فقال الحياء: وأنا معك، وقالت النجدة: أنا لاحقة بالشام، فقالت الفتنة: وأنا معك، وقال الكبر: أنا لاحق بالعراق، فقال النفاق: وأنا معك، وقال الغني: أنا لاحق بمصر، فقال الذل: وأنا معك، وقال الفقر: أنا لاحق بالبادية، فقال الشقاء: وأنا معك.
_________
(1) في ط، ح: "الفناء"، تحريف.(2/336)
وقال غيره: إن الله جعل البركة
عشرة أجزاء، فتسعة منها في قريش وواحد في سائر الناس، وجعل الكرم عشرة أجزاء فتسعة منها في العرب وواحد في سائر الناس، وجعل الغيرة عشرة أجزاء فتسعة منها في الأكراد وواحد في سائر الناس، وجعل المكر عشرة أجزاء، فتسعة منها في القبط وواحد في سائر الناس، وجعل الجفاء عشرة أجزاء، فتسعة منها في البربر وواحد في سائر الناس، وجعل النجابة عشرة أجزاء، فتسعة منها في الروم وواحد في سائر الناس، وجعل الصناعة عشرة أجزاء؛ فتسعة منها في الصين وواحد في سائر الناس، وجعل الشهوة عشرة أجزاء، فتسعة منها في النساء وواحد في سائر الناس، وجعل العمل عشرة أجزاء فتسعة منها في الأنبياء وواحد في سائر الناس، وجعل الحسد عشرة أجزاء، فتسعة منها في اليهود وواحد في سائر الناس.
ويحكى أن الحجاج سأل ابن القرية عن طبائع أهل الأرض، فقال: أهل الحجاز أسرع الناس إلى الفتنة وأعجزهم عنها؛ رجالها حفاة، ونساؤها عراة، وأهل اليمن أهل سمع وطاعة، ولزوم الجماعة، وأهل عمان عرب استنبطوا، وأهل البحرين قبط استعربوا، وأهل اليمامة أهل جفاء، واختلاف آراء. وأهل فارس أهل بأس شديد، وعز عتيد، وأهل العراق أبحث الناس عن صغيرة، وأضيعهم لكبيرة. وأهل الجزيرة أشجع فرسان، وأقتل للأقران. وأهل الشام أطوعهم لمخلوق وأعصاهم لخالق. وأهل مصر عبيد لمن غلب، أكيس الناس صغارًا، وأجهلهم كبارًا.
وعن ابن القرية قال: الهند بحر هادر، وجبلها ياقوت، وشجرها عود، وورقها عطر. وكرمان ماؤها وشل (1) ، وثمرها دقل (2) ، ولصها بطل. وخراسان ماؤها جامد، وعدوها جاهد. وعمان حرها شديد، وصيدها عتيد. والبحرين كناسة بين المصرين. والبصرة ماؤها ملح، وحربها صلح، مأوى كل تاجر، وطريق كل عابر. والكوفة ارتفعت عن
_________
(1) الوشل: الماء القليل.
(2) الدقل: أردأ التمر.(2/337)
حر البحرين، وسفلت عن برد الشام، وواسط جنة، بين كماة وكنة، والشام عروس، بين نساء جلوس، ومصر هواؤها راكد، وحرها متزائد، تطول الأعمار، وتسود الأبشار.
وقال بعضهم: يقال في خصائص البلاد في الجوهر: فيروزج نيسابور، وياقوت سرنديب، ولؤلؤ عمان، وزبرجد مصر، وعقيق اليمن، وجزع (1) ظفار، وكاري بلخ، ومرجان إفريقية.
وفي ذوات السموم: أفاعي سجستان، وحيات أصبهان، وثعابين مصر، وعقارب شهر زور، وجرارات (2) ، الأهواز، وبراغيث أرمينية، وفار أردن، ونمل ميافارقين، وذباب تل بابان (3) ، وأوزاغ بلد (4) .
وفي الملابس برود اليمن، ووشي صنعاء، وريط (5) الشام وقصب مصر، وديباج الروم، وقز السوس، وحرير الصين، وأكسية فارس، وحلي البحرين وسقلاطون بغداد، وعمائم الأبلة، وملحم (6) مرو، وتكك أرمينية، ومناديل الدامغان، وجوارب قزوين.
وفي المراكيب: عتاق البادية، ونجائب الحجاز، وبراذين طخارستان، وحمير مصر، وبغال برزغة.
وفي الأمراض طواعين الشام، وطحال البحرين، ودماميل الجزيرة، وحمى خيبر، وجنون حمص، وعرق اليمن، ووباء مصر، وبرسام العراق، والنار الفارسية، وقروح بلخ.
وقال الجاحظ في كتاب الأمصار: الصناعة بالبصرة، والفصاحة بالكوفة، والتخنيث
_________
(1) الجزع. الخرز اليماني.
(2) الجرارة: ضرب من العقارب الصغار؛ تجرر أذيالها.
(3) بابان: بلد بالبحرين.
(4) بلد، هي مرو الردذ، وانظر ياقوت.
(5) ربط: جمع ربطة، وهي الملاءة.
(6) الملحم: ضرب من الأكسية.(2/338)
ببغداد، والطرمذة (1) بسمرقند والعي بالري، والجفاء بنيسابور، والحسن بهراة، والمروءة ببلخ، والبلح بمرو، والعجائب بمصر.
وقال غيره: قراطيس سمرقند لأهل المشرق كقراطيس مصر لأهل المغرب.
وقال القاضي الفاضل: أهل مصر على كثرة عددهم وما ينسب من وفور المال إلى بلدهم، مساكين يعملون في البحر، ومجاهيد يدأبون في البر، ومن العجائب شجرة العباس في دندار من صعيد مصر، وهي شجرة متوسطة، وأوراقها قصيرة منبسطة، فإذا قال الإنسان: يا شجرة العباس، جال الناس، تجتمع أوراقها، وتحترق لوقتها.
_________
(1) المطرمذ: الذي يقول ما لا يفعل.(2/339)
ذكر النيل:
مدخل
قال التيفاشي في كتاب سجع الهديل: لم يسم نهر من الأنهار في القرآن سوى النيل في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} (1) قال: أجمع المفسرون على أن اليم هنا نيل مصر.
أخرج أحمد ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "النيل وسيحان وجيحان والفرات من أنهار الجنة".
قال ابن عبد الحكم (2) : حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن كعب الأحبار، أنه كان يقول: أربعة أنهار من الجنة وضعها الله في الدنيا؛ فالنيل نهر العسل في الجنة والفرات نهر الخمر في الجنة، وسيحان نهر الماء في الجنة، وجيحان نهر اللبن في الجنة. أخرجه الحارث في مسنده والخطيب في تاريخه.
وقال: حدثنا عثمان بن صالح، حدثنا ابن لهيعة، عن وهب بن عبد الله المعافري، عن عبد الله بن عمرو بن العاصي، أنه قال: نيل مصر سيد الأنهار، سخر الله له كل نهر بالمشرق والمغرب، فإذا أراد الله أن يجري نيل مصر أمر كل نهر أن يمده، فأمدته الأنهار بمائها، وفجر الله له الأرض عيونا، فإذا انتهت جريته إلى ما أراد الله، أوحى الله إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره (3) . أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره.
وقال: حدثنا عثمان بن صالح، حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب أن معاوية بن أبي سفيان سأل كعب الأحبار: هل تجد لهذا النيل في كتاب الله خبرا؟ قال:
_________
(1) القصص: 7.
(2) فتوح مصر 149، 105.
(3) فتوح مصر 149.(2/340)
أي والذي فلق البحر لموسى، إني لأجده في كتاب الله يوحى إليه في
كل عام مرتين، يوحى إليه عند جريه: إن الله يأمرك أن تجري فيجري ما كتب الله، ثم يوحى إليه بعد ذلك: يا نيل عد (1) حميدًا (2) .
وأخرج الخطيب في تاريخه وابن مردويه في تفسيره والضياء المقدسي في صفة الجنة عن ابن عباس مرفوعًا: أنزل الله تعالى من الجنة إلى الأرض خمسة أنهار: سيحون، وجيحون، ودجلة، والفرات والنيل؛ أنزلها الله من عين واحدة من عيون الجنة، من أسفل درجة من درجاتها، على جناحي جبريل، واستودعها الجبال، وأجراها في الأرض، وجعل فيها منافع للناس، فذلك قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ} (3) ، فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج، أرسل الله جبريل، فرفع من الأرض القرآن والعلم والحجر من البيت، ومقام إبراهيم وتابوت موسى بما فيه؛ وهذه الأنهار الخمسة، فيرفع كل ذلك إلى السماء؛ فذلك قوله: {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} (3) ، فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض عدم أهلها خيرها.
وأخرج الحارث بن أبي أسامة في مسنده، وابن عبد الحكم في تاريخ مصر، والخطيب في تاريخ بغداد، والبيهقي في البعث عن كعب الأحبار، قال: "نهر النيل العسل في الجنة، ونهر دجلة نهر اللبن في الجنة، ونهر الفرات نهر الخمر في الجنة، ونهر سيحان نهر الماء في الجنة" (4) .
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: غار النيل على عهد فرعون، فأتاه أهل مملكته، فقالوا: أيها الملك أجر لنا النيل، قال: إني لم أرض عنكم، فذهبوا ثم أتوه، فقالوا: أيها الملك، أجر لنا النيل، قال: إني لم أرض عنكم، فذهبوا ثم أتوه، فقالوا: أيها الملك ماتت البهائم، وهلكت الأبكار، لئن لم
_________
(1) فتوح مصر: "غز".
(2) فتوح مصر 239.
(3) المؤمنون: 18.
(4) فتوح مصر: 150.(2/341)
تجر لنا النيل لنتخذن إلهًا غيرك، قال: اخرجوا إلى الصعيد، فخرجوا فتنحى عنهم حيث لا يرونه، ولا يسمعون كلامه، فألصق خده بالأرض، وأشار بالسبابة لله، ثم قال: اللهم إني خرجت إليك مخرج العبد الذليل إلى سيده، وإني أعلم أنه لا يقدر على إجرائه أحد غيرك فأجره. قال: فجرى النيل جريًا لم يجر قبله مثله، فأتاهم فقال: إني قد أجريت لكم النيل، فخروا له سجدا، وعرض له جبريل، فقال: أيها الملك أعدني على عبدي، قال: وما قصته؟ قال: عبد لي ملكته على عبيدي، وخولته مفاتيحي، فعاداني، فأحب من عاديت، وعادى من أحببت، قال: بئس العبد عبدك! لو كان لي عليه سبيل لغرقته في بحر القلزم! فقال: يا أيها الملك، اأكتب لي كتابًا، فدعا بكتاب ودواة: ما جزاء العبد الذي خالف سيده فأحب من عادى وعادى من أحب إلا أن يغرق في بحر القلزم. قال: يا أيها الملك اختمه لي، فختمه ثم دفعه إليه، فلما كان يوم البحر، أتاه جبريل بالكتاب، فقال: خذ هذا ما حكمت به على نفسك.(2/342)
أثر متصل الإسناد في أمر النيل:
أخبرني أبو الطيب الأنصاري إجازة، عن الحافظ أبي الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي، عن أبي الفتح محمد بن محمد الميدومي، أخبرتنا أمة الحق شامية بنت الحافظ صدر الدين الحسن بن محمد بن محمد سماعا، أخبرنا أبو حفص عمر بن طبرزد سماعًا، أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن أحمد السمرقندي، وغيره سماعا، قالوا: أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن القنور سماعا، أخبرنا أبو طاهر محمد بن عبد الرحيم المخلص سماعًا، أخبرنا عبيد الله بن عبد الرحمن بن عيسى السكري، حدثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي، وأبو بكر محمد بن صالح بن عبد الرحمن الحافظ الأنماطي، قالا: حدثنا أبو صالح عبد الله بن صالح بن محمد، كاتب الليث، قال: حدثني الليث بن سعد، قال: بلغني أنه كان رجل من بني العيص يقال له: حائد بن أبي شالوم بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام، خرج هاربًا من ملك من ملوكهم؛ حتى دخل أرض مصر، فأقام بها سنين، فلما رأى أعاجيب نيلها وما يأتي به، جعل الله تعالى عليه ألَّا يفارق ساحلها حتى يبلغ منتهاه؛ من حيث يخرج أو يموت قبل ذلك، فسار عليه -قال بعضهم: سار (1) ثلاثين سنة في الناس وثلاثين في غير الناس. وقال بعضهم: خمسة عشر كذا، وخمسة عشر كذا- حتى انتهى إلى بحر أخضر، فنظر إلى النيل ينشق مقبلًا، فصعد على البحر، فإذا رجل قائم يصلي تحت شجرة من تفاح، فلما رآه استأنس به، وسلم عليه، فسأله الرجل صاحب الشجرة، فقال له: من أنت؟ قال: أنا حامد (2) بن أبي شالوم بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام، فمن أنت؟ قال: أنا عمران بن فلان بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم، قال: فما الذي جاء بك إلى هنا يا عمران؟ قال: جاء بي الذي جاء بك، حتى انتهيت إلى هذا الموضع؛ فأوحى الله إلي أن أقف في هذا الموضع، حتى يأتيني أمره،
_________
(1) ساقط من ط.
(2) ط، ح: "حائد".(2/343)
قال له حامد: أخبرني يا عمران، ما انتهى إليك من أمر هذا النيل؟ وهل
بلغك في الكتب أن أحدًا من بني آدم يبلغه؟ قال له عمران: نعم، بلغني أن رجلا من بني العيص يبلغه، ولا أظنه غيرك يا حامد، قال له حائد: يا عمران، أخبرني كيف الطريق إليه؟ قال له عمران: لست أخبرك بشيء إلا أن تجعل لي ما أسألك! قال: وما ذاك يا عمران؟ قال: إذا رجعت إلي وأنا حي أقمت عندي حتى يوحي الله تعالى إلي بأمره، أو يتوفاني فتدفنني؛ فإن وجدتني ميتًا دفنتني وذهبت، قال: ذلك لك علي، قال له: سر كما أنت على هذا البحر؛ فإنك تأتي دابة ترى آخرها ولا ترى أولها، فلا يهولنك أمرها، اركبها؛ فإنها دابة معادية للشمس، إذا طلعت أهوت إليها لتلتقمها حتى يحول بينها وبينها حجبتها، وإذا غربت أهوت إليها لتلتقمها؛ فتذهب بك إلى جانب البحر، فسر عليها راجعًا حتى تنتهي إلى النيل، فسر عليه، فإنك ستبلغ أرضًا من حديد، جبالها وأشجارها وسهولها من نحاس، فإن أنت جزتها وقعت في أرض من فضة؛ جبالها وأشجارها وسهولها من فضة، فإن أنت جزتها وقعت في أرض من ذهب جبالها وأشجارها وسهولها من ذهب، فيها ينتهي إليك علم النيل.
فسار حتى انتهى إلى أرض الذهب، فسار فيها حتى انتهى إلى سور من ذهب شرفة من ذهب، وقبة من ذهب، لها أربعة أبواب؛ فنظر إلى ما ينحدر من فوق ذلك السور حتى يستقر في القبة ثم ينصرف في الأبواب الأربعة؛ فأما ثلاثة فتغيض في الأرض، وأما واحد فيسير على وجه الأرض؛ وهو النيل. فشرب منه واستراح، وأهوى إلى السور ليصعد، فأتاه ملك فقال له: يا حامد قف مكانك، فقد انتهى إليك علم هذا النيل؛ وهذه الجنة؛ وإنما ينزل من الجنة، فقال: أريد أن أنظر إلى الجنة، فقال: إنك لن تستطيع دخولها اليوم يا حامد، قال: فأي شيء هذا الذي أرى؟ قال:(2/344)
هذا الفلك الذي تدور فيه الشمس والقمر، وهو شبه الرحا، قال: إني أريد ان اركبه فأدور فيه- فقال بعض العلماء: إنه قد ركبته؛ حتى دار الدنيا وقال بعضهم: لم يركبه- فقال له يا حامد: إنه سيأتيك من الجنة رزق، فلا تؤثر عليه شيئًا من الدنيا، فإنه لا ينبغي لشيء من الجنة أن يؤثر عليه شيء من الدنيا عن لم تؤثر عليه شيئًا من الدنيا بقي ما بقيت.
قال: فبينا هو كذلك واقف، إذ نزل عليه عنقود من عنب فيه ثلاثة أصناف لون كالزبرجد الأخضر، ولون كالياقوت الأحمر، ولون كاللؤلؤ الأبيض، ثم قال له: يا حامد، أما إن هذا من حصرم الجنة، وليس من طيب عنبها، فارجع يا حامد، فقد انتهى إليك علم النيل، فقال: هذه الثلاثة التي تغيض في الأرض، ما هي؟ قال: أحدهما الفرات، والآخر دجلة، والآخر جيحان، فارجع.
فرجع حتى انتهى إلى الدابة التي ركبها، فركبها، فلما أهوت الشمس لتغرب قذفت به من جانب البحر، فأقبل حتى انتهى إلى عمران، فوجده ميتًا فدفنه، وأقام على قبره ثلاثا، فأقبل شيخ متشبه بالناس أغر من السجود، ثم أقبل إلى حامد، فسلم عليه، ثم قال له: يا حامد، ما انتهى إليك من علم هذا النيل؟ فأخبره، فلما أخبره، قال له: هكذا نجده في الكتب، ثم أطرى (1) ذلك التفاح في عينيه، وقال: ألا تأكل منه؟ قال: معي رزقي، قد أعطيته من الجنة ونهيت أن أوثر شيئًا من الدنيا، قال: صدقت يا حامد، هل ينبغي لشيء من الجنة أن يؤثر بشيء من الدنيا، وهل رأيت في الدنيا مثل هذا التفاح؟ إنما أنبتت له في الأرض ليس من الدنيا، وإنما هذه الشجرة من الجنة، أخرجها الله لعمران يأكل منها، وما تركها إلا لك، ولو قد وليت عنها رفعت، فلم يزل يطريها في عينيه، حتى أخذ منها تفاحة، فعضها، فلما عضها عض
_________
(1) ح، ط: "طرى"، وما أثبته من الأصل.(2/345)
يده، ثم قال: أتعرفه؟ هو الذي أخرج أباك من الجنة؛ أما إنك لو سلمت بهذا الذي كان معك لأكل منه أهل الدنيا قبل أن ينفد، وهو مجهودك إن تبلغه فكان مجهوده أن بلغه.
وأقبل حامد حتى دخل أرض مصر، فأخبرهم بهذا؛ فمات حامد بأرض مصر.
وبهذا الإسناد إلى عبد الله بن صالح، حدثني ابن لهيعة عن وهب بن عبد الله المعافري، عن عبد الله بن عمرو في قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} (1) قال: كانت الجنان بحافتي هذا النيل، من أوله إلى آخره في الشقين جميعا من أسوان إلى رشيد، وكان له سبعة خلج: خليج
الإسكندرية، وخليج دمياط، وخليج سردوس، وخليج منف، وخليج الفيوم، وخليج المنهى وخليج سخا، متصلة لا ينقطع منها شيء عن شيء، ويزرع ما بين الجبلين كله من أول مصر إلى آخر ما يبلغه الماء، وكانت جميع مصر كلها يومئذ تروى من ستة عشر ذراعا.
وبهذا الإسناد إلى ابن لهيعة، وعن يزيد بن أبي حبيب؛ أنه كان على نيل مصر فرضة لحفر خليجها، وإقامة جسورها وبناء قناطرها، وقطع جزائرها مائة ألف وعشرون ألف فاعل، معهم الطور والمساحي والأداة، يعتقبون ذلك، لا يدعون ذلك شتاء ولا صيفا.
وذكر بعض الإخباريين أن حامدًا هذا لم يتنبأ، وأنه أوتي الحكمة، وأنه سأل الله أن يريه منتهى النيل، فأعطي قوة على ذلك، فوصل إلى جبل القمر، وقصد أن يطلع إلى أعلاه، فلم يقدر؛ فسأل الله فيسره عليه، فصعد فرأى خلفه البحر الزفتي، وهو بحر أسود منتن الريح مظلم، فرأى النيل يجري في وسطه؛ كأنه السبيكة الفضة.
وقال صاحب مباهج الفكر: ذكر أبو الفرج قدامة أن مجموع ما في المعمور من
_________
(1) الشعراء 57، 58.(2/346)
الأنهار مائتان وثمانية وعشرون نهرا؛ منها ما يجري من المشرق إلى المغرب، ومنها ما يجري من الشمال إلى الجنوب، ومنها ما جريانه كنهر النيل من الجنوب إلى الشمال، ومنها هو مركب من هذه الجهات كالفرات وجيحون؛ فأما النيل فذكر قدامة أن انبعاثه من جبل القمر وراء خط الاستواء من عين تجري منها عشرة أنهار؛ كل خمسة منها يصب إلى بطيحة (1) كبيرة في الإقليم الأول، ومن هذه البطيحة يخرج نهر النيل (2) .
وذكر صاحب كتاب "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" أن هذه البحيرة تسمى بحيرة كورى منسوبة لطائفة من السودان، يسكنون حولها متوحشين يأكلون من وقع إليهم من الناس (3) ، فإذا خرج النيل منها يشق بلاد كورى ثم بلاد ننه "طائفة
من السودان"، بين كانم (4) والنوبة، فإذا بلغ دنقلة مدينة النوبة عطف من غربيها إلى المغرب، وانحدر إلى الإقليم الثاني، فيكون على شطئه (5) عمارة النوبة، وفيه هناك جزائر متسعة عامرة بالمدن والقرى، ثم يشرق (6) إلى الجنادل، وإليها تنتهي مراكب النوبة انحدارًا، ومراكب الصعيد الأعلى صعودًا (7) وهناك أحجار مضرسة لا مرور للمراكب عليها إلا في أيام (8) زيادة النيل، ثم يأخذ إلى الشمال، فيكون على شرقيه مدينة أسوان من الصعيد الأعلى، ثم يمر بين جبلين مكتنفين (9) لأعمال مصر شرقي وغربي إلى الفسطاط (10) ، فإذا تجاوزها مسافة يوم انقسم إلى قسمين أحدهما يمر حتى يصب في بحر الروم "عند دمياط، ويسمى بحر الشرق والآخر وهو عمود النيل، ومعظمه يمر إلى أن يصب" (11) عند رشيد، ويسمى بحر الغرب، ومسافة النيل من منبعه إلى
_________
(1) الطيحة: مسيل الماء، وفي ط: "البطخة"، تحريف.
(2) نقله في نهاية الأرب 1: 262.
(3) بعدها في نهاية الأرب: "ومن هذه البحيرة يخرج نهر غانة ونهر الحبشة".
(4) ط: "كانم".
(5) نهاية الأرب: "شطه".
(6) ح، ط: "يشرف".
(7) نهاية الأرب: "انحدارا".
(8) نهاية الأرب: "إبان".
(9) ح: "يكتنفان".
(10) بعدها في نهاية الأرب: "حتى يأتي مدينة مصر فتكون في شرقيه".
(11) من نهاية الأرب.(2/347)
أن يصب في رشيد سبعمائة فرسخ وثمانية وأربعون فرسخا.
وقيل: إنه يجري في الخراب أربعة أشهر، وفي بلاد السودان شهرين، وفي بلاد الإسلام شهرا، وليس في الأرض نهر يزيد حين تنقص الأنهار غيره؛ وذلك أن زيادته تكون في القيظ الشديد في شمس السرطان والأسد والسنبلة. وروي أن الأنهار تمده بمائها.
وقال قوم: عن زيادته من ثلوج يذيبها الصيف وعلى حسب مدها تكون كثرته وقلته (1) .
وذهب آخرون إلى أن زيادته بسبب أمطار كثيرة تكون ببلاد الحبشة.
وذهب آخرون إلى أن زيادته عن اختلاف الريح، وذلك أن الشمال إذا هبت عاصفة يهيج البحر الرومي، فيدفع إليه ما فيه منه، فيفيض على وجه الأرض، فإذا هبت الجنوب سكن هيجان البحر، فيستريح منه ما دب إليه، فينقص.
وزعم آخرون أن زيادته من عيون على شاطئه، يراها من سافر ولحق أعاليه.
وقال آخرون: إن مجراه من جبال الثلج، وهي بجبل قاف، وأنه يخرق البحر الأخضر، ويمر على معادن الذهب والياقوت والزمرد والمرجان، فيسير ما شاء الله إلى أن يأتي إلى بحيرة الزنج. قالوا: ولولا دخوله في البحر الملح، وما يختلط به منه لم يستطع شربه لشدة حلاوته وزيادته بتدريج وترتيب في زمان مخصوص مدة معلومة، وكذا نقصه ومنتهى زيادته التي يحصل بها الري الأرض مصر ستة ذراعا، والذراع أربعة وعشرون إصبعًا، فإن زاد على الستة عشر ذراعا إصبعا واحدًا ازداد في الخراج مائة ألف دينار لما يروى من الأراضي العالية.
والغاية القصوى في الزيادة ثمانية عشر ذراعًا؛ هذا في مقياس مصر، فإذا انتهى فيه
_________
(1) نهاية الأرب 1: 262، 263.(2/348)
إلى ذلك كان في الصعيد الأعلى واثنين وعشرين ذراعا، لارتفاع البقاع التي يمر عليها، ويسوق الري إليها، فإذا انتهت زيادته فتحت خلجانات وترع، فيخرج الماء يمينًا وشمالا إلى الأرض البعيدة عن مجرى النيل؛ حكمة دبرت بالعقول السليمة وقدرت، ومنافع مهدت في الزمن القديم وقررت.
وللنيل ثماني خلجانات: خليج الإسكندرية، وخليج دمياط، وخليج منف، وخليج المنهى -حفره يوسف عليه السلام- وخليج أشموم طناح، وخليج سردوس -حفره هامان لفرعون- وخليج سخا، وخليج حفره عمرو بن العاصي زمن عمر بن الخطاب. ويحصل لأهل مصر يوم وفائه الستة عشر ذراعا التي هي قانون الري سرور شديد بحيث يركب الملك في خواص دولته الحراريق المزينة إلى المقياس، ويمد فيه سماطا ويخلق العمود الذي يقاس فيه، ويخلع على القياس، ويعطيه صلة مقررة له.
وقد ذكر بعض المفسرين أنه يوم الزينة، الذي وعد فرعون موسى بالاجتماع فيه.
هذا كله كلام مباهج الفكر (1) .
وقد اختلف في ضبط جبل القمر، فقيل: إنه بفتح القاف والميم بلفظ أحد النيرين.
قال التيفاشي: وإنما سمي بذلك؛ لأن العين تقمر منه، إذا نظرت إليه لشدة بياضه. قال: ولذلك أيضا سمى القمر قمرا. قال: وهذا الجبل مستطيل من المشرق إلى المغرب، نهايته في ناحية المغرب إلى حد الخراب، ونهايته في المشرق إلى مثل ذلك، وهو نفسه بجملته في الخراب من ناحية الجنوب، وله أعراق في الهواء، منها طوال ومنها دونها.
قال في مختصر المسالك: وذكر بعضهم أن أناسًا انتهوا إلى هذا الجبل وصعدوه،
_________
(1) نقله صاحب نهاية الأرب 1: 264.(2/349)
فرأوا وراءه بحرًا ماؤه أسود كالليل، يشقه نهر أبيض كالنهار، يدخل الجبل من جنوبه، ويخرج من شماله، ويتشعب على قبة هرمس المبنية هناك.
وزعموا أن هرمس الهرامسة -وهو إدريس عليه السلام فيما يقال- بلغ ذلك الموضع، وبنى فيه قبة.
وذكر بعضهم أن أناسًا صعدوا الجبل، فصار الواحد منهم يضحك، ويصفق بيديه، وألقى نفسه إلى ما وراء الجبل، فخاف البقية أن يصيبهم مثل ذلك، فرجعوا.
وقيل: إن أولئك إنما رأوا حجر الباهت، وهي أحجار براقة كالفضة البيضاء تتلألأ، كل من نظرها ضحك والتصق بها حتى يموت، ويسمى مغناطيس الناس.
وذكر بعضهم ان ملكا من ملوك مصر الأول، جهز أناسا للوقوف على أول النيل، فانتهوا إلى جبال من نحاس، فلما طلعت عليها الشمس انعكست عليها، فأحرقتهم.
وقيل: إنهم انتهوا إلى جبال براقة لماعة كالبلور، فلما انعكست عليهم أشعة الشمس الواقعة عليهم أحرقتهم.
وقال صاحب مرآة الزمان: ذكر أحمد بن بختيار أن العين التي هي أصل النيل، هي أول العيون من جبل القمر، ثم نبعث منها عشرة أنهار، نيل مصر أحدهما، قال: والنيل يقطع الإقليم الأول، ثم يجاوزه إلى الثاني، ومن ابتدائه، من
جبل القمر إلى انتهائه إلى البحر الرومي، ثلاثة آلاف فرسخ، ويبتدي بالزيادة في نصف حزيران، وينتهي إلى أيلول.
قال: واختلفوا في سبب زيادته، فقال قوم: لا يعلم ذلك إلا الله.
وقال آخرون: سببه زيادة عيونه.
وقال آخرون، وهو الظاهر: سببه كثرة المطر والسيول ببلاد الحبش والنوبة،(2/350)
وإنما يتأخر وصوله إلى الصيف لبعد المسافة. ورد ذلك قوم بأن عيونه التي تحت جبل القمر تتكدر في أيام زيادته، فدل على أنه فعل الله من غير زيادة بالمطر. قال: وجميع الأنهار تجري إلى القبلة سواه، فإنه يجري إلى ناحية الشمال. وكان القاضي بحماه قال: ومتى بلغ ستة عشر ذراعا استحق السلطان الخراج، وإذا بلغ ثمانية عشر ذراعا قالوا: يحدث بمصر وباء عظيم، وإذا بلغ عشرين ذراعا مات ملك مصر.
وقال ابن المتوج: من عجائب مصر النيل الذي يأتي من غامض علم الله في زمن القيظ، فيعم البلاد سهلًا ووعرًا، ويبعث الله في أيام مدده الريح الشمال فيصد له البحر المالح، ويصير له كالجسر، ويزيد. وإذا بلغ الحد الذي هو تمام الري وأوان الزراعة، بعث الله بالريح الجنوب فكنسته، وأخرجته إلى البحر الملح، وانتفع الناس بالزراعة.
ومن عجائب هذا النيل سمكة تسمى الرعاد (1) من مسها بيده، أو بعود متصل بيده أو جذب شبكة هي فيها، أو قصبة أو سنارة وقعت فيها رعدت يده ما دامت فيها، وبمصر بقلة من مسها بيده، ثم مس الرعاد لم ترعد.
وفي النيل خيل تظهر في بلد النوبة، ويصيدونها، وفي سنة من أسنانها شفاء من وجع المعدة.
وقال التيفاشي: سبب زيادة النيل هبوب ريح يسمى الملثن، وذلك لسببين أحدهما أنها تحمل السحاب الماطر خلف خط الاستواء، فتمطر ببلاد السودان والحبشة والنوبة، والآخر أنها تأتي في وجه البحر الملح، فيقف ماؤه في وجه
النيل، فيتراجع حتى يروي البلاد. وفي ذلك يقول الشاعر:
اشفع فللشافع أعلى يد ... عندي وأسنى من يد المحسن
والنيل ذو فضل ولكنه ... الشكر في ذلك للملثن
وقال صاحب سجع الهديل: ذكر جماعة من المنجمين وأرباب الهيئة أن النيل يجيء
_________
(1) معجم البلدان 8/ 365.(2/351)
من خلف خلف الاستواء بإحدى عشرة درجة ونصف، ويأخذ نحو الجنوب إلى أن ينتهي إلى دمياط والإسكندرية وغيرهما عند عرض ثلاثين في الشمال، قالوا: فمن بدايته إلى نهايته اثنتان وأربعون ومائة درجة؛ كل درجة ستون ميلا وثلث بالتقريب، فيكون طوله من الموضع الذي يبتدئ منه إلى الموضع الذي منه إلى البحر الملح ثمانية ألف ميل، وستمائة وأربعة عشر ميلا وثلثا ميل على القصد والاستواء، وله تعريجات شرقًا وغربًا، يطول بها ويزيد على ما ذكرناه.
ونقلت من خط الشيخ عز الدين بن جماعة من كتاب له في الطب، قال: منبع النيل من جبل القمر وراء خط الاستواء بإحدى عشرة درجة ونصف، وامتداد هذا الجبل خمس عشرة درجة وعشرون دقيقة، يخرج منه عشرة أنهار من أعين فيه ترمي كل خمسة إلى بحيرة عظيمة مدورة بعد مركزها عن أول العمارة بالمغرب سبع وخمسون درجة، والبعد عن خط الاستواء في الجنوب سبع درج وإحدى وثلاثون دقيقة، وهاتان البحيرتان متساويتان، وقطر كل واحدة خمس درج، ويخرج من كل واحدة أربعة أنهار ترمي إلى بحيرة صغير مدورة في الإقليم الأول بعد مركزها عن أول العمارة بالمغرب ثلاث وخمسون درجة وثلاثون دقيقة، وعن خط الاستواء من الشمال درجتان من الإقليم الأول، وقطرها درجتان، ومصب كل واحد من الأنهار الثمانية في هذه البحيرة غير مصب الآخر، ثم يخرج من البحيرة نهر واحد؛ وهو نيل مصر، ويمر ببلاد النوبة، ويصب إليه نهر آخر ابتداؤه من غير مركزها على خط الاستواء، في بحيرة كبيرة مستديرة قطرها ثلاثة درج، وبعد مركزها عن أول العمارة بالمغرب إحدى وسبعون درجة، فإذا تعدى النيل مدينة مصر إلى مدينة يقال لها: شطنوف، تفرق هناك إلى نهرين يرميان إلى البحر المالح أحدهما يعرف ببحر رشيد، والآخر بحر دمياط، وهذا البحر إذا وصل إلى المنصورة تفرع منه نهر يعرف ببحر أشمون، يرمي إلى بحيرة هناك وباقيه إلى البحر المالح عند دمياط، وهذه صورة ذلك:(2/352)
وذكر الجاحظ في كتاب الأمصار، أن مخرج نهر السند والنيل من موضع واحد، واستدل على ذلك اتفاق زيادتهما، وكون التمساح فيهما، وأن سبيل زراعتهم في البلدين واحد.
وقال المسبحي في تاريخ مصر: في بلاد تكنة أمة من السودان أرضهم تنبت الذهب، يفترق النيل فيصير نهرين أحدهما أبيض وهو نيل مصر، والآخر أخضر يأخذ إلى المشرق فيقطع البحر الملح إلى بلاد السند، وهو نهر ميران.
قال ابن عبد الحكم: حدثنا عثمان بن صالح، عن ابن لهيعة، عن قيس بن الحجاج، عمن حدثه، قال: لما فتح عمرو بن العاص مصر، أتى أهلها إليه حين دخل بؤونة من أشهر العجم، فقالوا له: أيها الأمير، إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها، فقال لهم: وما ذاك؟ قالوا: إذا كان لثنتي عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر، عَمَدنا إلى جارية بكر بين أبويها، فأرضينا أبويها، وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل. فقال لهم عمرو: إن هذا لا يكون في الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما قبله، فأقاموا بؤونة وأبيب ومسرى لا يجري قليلا ولا كثيرا، حتى هموا بالجلاء، فلما رأى ذلك عمرو كتب إلى عمر بن الخطاب بذلك، فكتب إليه عمر: قد أصبت، إن الإسلام يهدم ما كان قبله، وقد بعثت إليك بطاقة (1) فألقها في داخل النيل إذا أتاك كتابي. فلما قدم الكتاب على عمرو، فتح البطاقة فإذا فيها:
من عبد الله أمير المؤمنين إلى نيل مصر، أما بعد فإن كنت تجري من قبلك، فلا تجر، وإن كان الواحد القهار يجريك، فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك.
فألقى عمرو البطاقة في النيل قبل يوم الصليب بيوم، وقد تهيا أهل مصر للجلاء
_________
(1) فتوح مصر: "بطاقة".(2/353)
والخروج منها؛ لأنه لا يقوم بمصلحتهم فيها إلا النيل، فأصبحوا يوم الصليب وقد أجراه الله ستة عشر ذراعا، وقد زالت تلك السنة السوء عن أهل مصر (1) .
حدثنا عثمان بن صالح، حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن موسى عليه السلام دعا على آل فرعون، فحبس الله عنهم النيل حتى أرادوا الجلاء حتى طلبوا إلى موسى أن يدعو الله رجاء أن يؤمنوا، فدعا الله، فأصبحوا وقد أجراه الله في تلك الليلة ستة عشر ذراعا. فاستجاب الله بتطوله لعمر بن الخطاب كما استجاب لنبيه موسى عليه السلام (2) .
ذكر مزايا النيل:
قال التيفاشي: اتفق العلماء على أن النيل أشرف الأنهار في الأرض لأسباب:
منها عموم نفعه، فإنه لا يعلم نهر من الأنهار في جميع الأرض المعمورة يسقي ما يسقيه النيل.
ومنها الاكتفاء بسقيه، فإنه يزرع عليه بعد نضوبه، ثم لا يسقى الزرع حتى يبلغ منتهاه؛ ولا يعلم ذلك في نهر سواه.
ومنها أن ماءه أصح المياه وأعدلها وأعذبها وأفضلها.
ومنها مخالفته أنهار الأرض في خصال هي منافع فيه، ومضار في غيره.
ومنها أنه يزيد عند نقص سائر المياه، وينقص عند زيادتها؛ وذلك أوان الحاجة إليه.
ومنها أنه يأتي أرض مصر في أوان اشتداد القيظ، والحر ويبس الهواء وجفاف
_________
(1) فتوح مصر: 150.
(2) فتوح مصر: 151.(2/354)
الأرض، فيبل الأرض، ويرطب الهواء، ويعدل الفصل تعديلا زائدا.
ومنها أن كل نهر من الأنهار العظام، وإن كل فيه منافع، فلا بد أن يتبعها مضار في أوان طغيانه بإفساد ما يليه ونقص ما يجاوره، والنيل موزون على ديار مصر بوزن معلوم، وتقدير مرسوم لا يزيد عليه، ولا يخرج عن حده {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (1) .
ومنها أن المعهود في سائر الأنهار أن يأتي من جهة المشرق إلى المغرب، وهو يأتي من جهة المغرب إلى الشمال، فيكون فعل الشمس فيه دائمًا، وأثرها في
إصلاحه متصلا ملازما؛ وفي ذلك يقول الشاعر:
مصر ومصر ماؤها عجيب ... ونهرها يجري به الجنوب
ومنها أن كل الأنهار يوقف على منبعه وأصله، والنيل لا يوقف له على أصل منبع. وليس في الدنيا نهر يصب في بحر الصين والروم غيره؛ وليس في الدنيا نهر يزيد ثم يقف، ثم ينقص ثم ينضب على الترتيب والتدريج غيره؛ وليس في الدنيا نهر يزرع عليه ما يزرع على النيل، ولا يجيء من خراج غلة زرعه ما يجيء من خراج غلة زرع النيل.
قال صاحب مباهج الفكر: النيل أخف المياه وأحلاها، وأرواها وأمراها، وأعمها نفعا، وأكثرها خراجا؛ ويحكى أنه جبي في أيام كنعاوس؛ أحد ملوك القبط الأول مائة ألف ألف وثلاثون ألف دينار، وجباه عزيز مصر مائة ألف ألف دينار، وجباه عمرو بن العاص اثني عشر ألف ألف دينار، وجباه عبد الله بن أبي سرح أربعة عشر ألف ألف دينار، ثم رذل إلى أن جبي أيام جوهر القائد ثلاثة آلاف ألف ومائتي ألف دينار؛ وسبب تقهقره أن الملوك لم تسمح نفوسهم بما كان ينفق في الرجال الموكلين
_________
(1) الأنعام: 96.(2/355)
لحفر خلجه وإصلاح جسوره، ورم قناطره، وسد ترعه، وقطع القضب وإزالة الحلفاء؛ وكانوا مائة ألف وعشرين ألف رجل مرتبين على كور مصر سبعين ألفًا للصعيد، وخمسين ألفا لأسفل الأرض.
ويحكى أنها مسحت أيام هشام بن عبد الملك، فكان ما يركبه الماء مائة ألف ألف فدان، والفدان أربعمائة قصبة والقصبة عشرة أذرع.
وأما أحمد بن المدبر، فإنه اعتبر ما يصلح للزرع بمصر في وقت ولايته، فوجده أربعة وعشرين ألف ألف فدان، والباقي قد استبحر وتلف، واعتبر مدة الحرث فوجدها ستين يوما، والحراث الواحد يحرث خمسين فدانا، فكانت محتاجة إلى أربعمائة ألف وأربعين ألف حراث.
وقال صاحب مرآة الزمان: ذكر أحمد بن بختيار أن في الليل عجائب منها التمساح، ولا يوجد إلا فيه، ويسمى في مصر التمساح، وفي بلاد النوبة الورل، ووراء النوبة الشوشار.
قال: والتمساح لا دبر له، وما يأكله يتكون في بطنه دودا، فإذا آذاه خرج إلى البرية فينقض عليه طائر فيأكل ما بين أسنانه، وما يظهر من الدود، وربما يطبق عليه التمساح، فيبلعه.
وذكر ابن حوقل أن بنيل مصر أماكن لا يضر التمساح فيها، كعدوة بوصير والفسطاط.
قال: وفي النيل السقنقور، ويكون عند أسوان، وفي حدودها. وقيل: إنه من نسل التمساح إذا وضعه خارج الماء، فما قصد الماء صار تمساحا، وما قصد البر صار سنقنقورا. وله قضيبان كالضب.(2/356)
وفيه السمك الرعاد إذا وقع في شبكة الصياد، لا يزال ترتعد يداه، ورجلاه حتى يلقيها أو يموت، وهي نحو الذراع.
وفيه سمكة على صورة الفرس. والمكان الذي يكون فيه لا يقربه التمساح.
وفيه شيخ البحر سمكة على صورة آدمي، وله لحية طويلة، ويكون بناحية دمياط وهو مشؤوم، فإذا رئي في مكان دل على القحط والموت والفتن.
ويقال: إن دمياط ما تنكب حتى يظهر عندها.(2/357)
ذكر ما قيل في النيل من الأشعار:
قال التيفاشي: قد ذكرت العرب النيل في أشعارها، وضربت به الأمثال، قال قيس بن معدي كرب، فيما أورده الجاحظ في كتاب الأمصار:
ما النيل أصبح زاخرًا بمدوده ... وجرت له ريح الصبا فجرى بها
قال بعضهم:
واهًا لهذا النيل أي عجيبة ... بكر بمثل حديثها لا يسمع (1)
يلقي الثرى في العام وهو مسلم ... حتى إذا ما مل عاد يودع
متنقل (2) مثل الهلال فدهره ... أبدا يزيد كما يريد ويرجع
ظافر الحداد:
والنيل مثل عمامة (3) ... شرب محشاة بأخضر
والجسر فيها كالطراز ... وموجه رقم مصور
تفريكه ما درجته ... له الرياح من التسكر
وقال يصف افتراقه عند رأس الروضة:
لله يوم أناله النيل ... لحسنه جملة وتفصيل
في منظر مشرف على خضر ... كأنه في الظلام قنديل
تبدي لنا جانبا جزيرته ... أشيا بها للعين تأميل
ورقمه جسره وتفريكه الموج ... وفي نكته للخليج تجميل
_________
(1) خطط المقريزي 1: 101.
(2) المقريزي: "مستقبل".
(3) ط، ح: "غمامة".(2/358)
ابن الساعاتي:
ولما توسطنا على النيل غدوة ... ظننت وقلت اليوم باللهو ملآن
عشارية أنشا لها الماء مقلة ... وليس لها إلا المجاذيف أجفان
محيي الدين بن عبد الظاهر:
نيل مصر لمن تأمل مرأى ... حسنه معجز وبالحسن معجب
كم به شاب فودها وعجيب ... كيف شابت بالنيل والنيل يخضب!
وقال:
كم قطع الطرق نيل مصر ... حتى لقد خافه السبيل
بالسيف والرمح من غدير ... ومن قناة لها نصول
ابن نباته:
زادت أصابع نيلنا ... وطغت وطافت في البلاد
وأتت بكل مسرة ... ماذي أصابع ذي أيادي
النصير الحمامي:
عن عجل النيروز قبل الوفا ... عجل للعالم صفع القفا
فقد كفى من دمعهم ما جرى ... وما جرى من نيلهم ما كفى
ناصر الدين حسن بن النقيت:
كأن النيل ذو فهم ولب ... لما يبدو لعين الناس منه (1)
فيأتي عند حاجتهم إليه ... ويمضي حين يستغنون عنه
آخر:
النيل قال وقوله ... إذ قال ملء مسامعي
_________
(1) المقريزي 1: 101، نهاية الأرب 1: 281.(2/359)
في غيظ من طلب العلا ... عم البلاد منافعي
وعيونهم بعد الوفا ... قلعتها بأصابعي
شمس الدين بن دانيال الحكيم:
كأنما النيل الخضم إذ بدا ... يروى حديثا وهو ذو تسلسل
لما رأى الأرض بها شقيقه ... ضمخها بمائه المصندل
آخر:
يا نيل اجر على حسن العوائد في ... أرجاء مصرك واجبر كل مرتزق
واعلم بأنك مصري فلست ترى ... حلو الفكاهة ما لم تأت بالملق
خليل بن الكفتي:
مولاي إن البحر لما زرته ... حياك وهو أخو الوفا بالإصبع
فانظر لبسطته فرؤيتك التي ... هي مشتهاه وروضة المتمتع
أرخى عليه الستر لما جئته ... خجلا ومدت تضرعا بالأذرع
آخر:
سد الخليج بكسره جبر الورى ... طرا فكل قد غدا مسرورا
الماء سلطان فكيف تواترت ... عنه البشائر إذ غدا مكسورا
شمس الدين سبط الملك الحافظ:
لله در الخليج إن له ... تفضلًا لا نزال نشكره
حسبك منه بأن عادته ... يجبر من لا يزال يكسره
الصلاح الصفدي:
رأيت في أرض مصر مذ حللت بها ... عجائبًا ما رآها الناس في جيل
تسود في عيني الدنيا فلم أرها ... تبيض إلا إذا ما كنت في النيل(2/360)
وقال:
ركبت في النيل يومًا مع أخي أدب ... فقال: دعني من قال ومن قيل
شرحت يا بحر صدري اليوم قلت له: ... لا تنكر الشرح يا نحوي للنيل
وقال:
قالوا علا نيل مصر في زيادته ... حتى لقد بلغ الأهرام حين طما
فقلت: هذا عجيب في بلادكم ... أن ابن ستة عشر يبلغ الهرما
وقال:
قد زاد هذا النيل في عامنا ... فأغرق الأرض بإنعامه
وكاد أن يعطف من مائه ... عرى على أزرار أهرامه
تميم بن المعز العبيدي:
يوم لنا بالنيل مختصر ... ولكل يوم لذاذة قصر (1)
والسفن تجري كالخيول بنا ... صعدًا وجيش الماء منحدر (2)
فكأنما أمواجه عكن ... وكأنما داراته سرر
آخر:
مد نيل الفسطاط فالبر بحر ... زاخر فيه كل سفن تعوم
فكأن الأرضين منه سماء ... وكأن الضياع فيها نجوم
ظافر:
ولله مجرى النيل فيها إذا الصبا ... أرتنا به في سيرها عسكرا مجرى
فشط يهز السمهرية ذبلا ... ونهر يهز البيض هندية بترا
_________
(1) المقريزي 1: 102.
(2) ديوانه: 255.(2/361)
إذا مد حاكي الورد غضا وإن صفا ... حكى ماؤه لونا ولم يعده بسرا
أيدمر التركي:
كيمياء النيل خالصة ... قد أتتنا منه بالعجب
كان من ذوب اللجين فقد ... عاد بالتدبير من ذهب
راقص بالحسن مبتهج ... فهو في عجب وفي طرب
ومغاني مصر تسمعه ... نغمة الشادي بلا صخب
ونسيم الريح لاعبة ... في خلال الروض بالقضب
إبراهيم بن عبدون الكاتب:
والنيل بين الجانبين كأنما ... صبت بصفحته صفيحة صقيل
يأتيك من كدر الزواخر مده ... بممسك من مائه ومصندل
فكان ضوء البدر في تمويجه ... برق يموج في سحاب مسبل
وكأن نور السرج من جنباته ... زهو الكواكب تحت ليل أليل
مثل الرياض مصنفا أنوارها ... يبدو لعين مشبه وممثل
آخر:
أرى أبدًا كثيرا من قليل ... وبدرًا في الحقيقة من هلال (1)
فلا تعجب فكل خليج ماء ... بمصر مشبه بخليج مال
زيادة إصبع في كل مد ... زيادة أذرع في كل حال
الأمير تميم بن المعز:
نظرت إلى النيل في مده ... بموج يزيد ولا ينقص (2)
كأن معاطف أمواجه ... معاطف جارية ترقص
_________
(1) المقريزي 1: 102.
(2) ديوانه: 255.(2/362)
أيدمر التركي:
انظر إلى النيل السعيد المقبل ... والماء في أنهاره كالسلسل
أضحى يريك الحسن بين مورد ... من لونه حينًا وبين مصندل
ويمر في قيد الرياح مسلسلًا ... يا حسنه من مطلق ومسلسل
وترى زوارقه على أمواجه ... منسوبة للناظر المتأمل
مثل العقارب فوق حيات غدت ... يسعى بها في عدوها ما يأتلي
وكأنما أسماكه من فضة ... من جمد ذائب مائه من أول
بعضهم:
أتطلب من زمانك ذا وفاء ... وتأمل ذاك جهلًا من بنيه
لقد عدم الوفاء به وإني ... لأعجب من وفاء النيل فيه
ومن كلام القاضي الفاضل في وصف النيل المصري الذي يكسو الفضاء ثوبا فضيًّا، ويدلي من الأرض ماءه سراجا من النور مضيا، ويتدافع تياره واقفا في صدر
الجدب بيد الخصب، ويرضع أمهات خلجه المزارع فيأتي أبناؤها بالعصف والأب (1) .
وقال فيه أيضا:
وأما النيل فقد امتدت أصابعه، وتكسرت بالموج أضالعه، ولا يعرف الآن قاطع طريق سواه، ولا من يرجى ويخاف إلا إياه (2) .
وقال أيضًا:
وأما النيل المبارك فقد ملأ البقاع، وانتقل من الإصبع إلى الذراع، فكأنما غار على الأرض فغطاها، وأغار عليها فاستقعد وما تخطاها (3) .
_________
(1) مسالك الأبصار 2: 67.
(2) مسالك 1: 67.
(3) المقريزي 1: 102، نهاية الأرب 1: 281.(2/363)
ومن كتاب السجع الجليل فيما جرى من النيل:
وأما البحر الذي بنى عليه عنوان هذه العبودية، فلا تسأل عما جرى منه، وما نقلت الرواة من العجائب عنه؛ وذلك أنه عم قدومه بالنفع البلاد، وساوى بين بطون الأودية وظهورها الوهاد. وقدم المفرد مبشرا بوفائه في جمع لا نظير له في الآحاد، واحمرت على ما طلب الغلاء عيونه، وتكفل للمصر بأن يوفي بعد وفائه ديونه، ونزل السعر حين أخذ منه طالع الارتفاع، وأحدق بالقرى فأصبح كأنه سماوات كواكبها الضياع؛ فلم يكن بعد ذلك إلا كلمح البصر أو هو أقرب، حتى عسل (1) في شوارع مصر كما عسل الطريق الثعلب، وجاس خلال ديارها فأصبح على زرائبها المبثوثة بسطة، وأحاط بالمقياس إحاطة الدائرة بالنقطة. ثم علت أمواجه، واشتد اضطرابه، وكاد يمتزج بنهر المجرة الذي الغمام زبده والنجوم حبابه.
وشرق حتى ليس للشرق مشرق ... وغرب حتى ليس للغرب مغرب
إلى أن قال: أما دير الطين فقد ليس سقوف حيطانه، واقتلع أشجار غيطانه، وأتى على ما فيه من حاصل وغلة، وتركه ملقة فكان كما قيل: زاد الطين بلة.
وأما الجيزة فقد طغى الماء على قناطرها وتجسر، ووقع بها القصب من قامته
حين علا عليه الماء وتكسر، فأصبح بعد اخضرار بزته شاحب الإيهاب، ناصل الخضاب، غارقًا في قعر {بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} ، وقطع طريق زاويتها على من بها من المنقطعين والفقراء، وترك الصالح كالصالح يمشي على الماء {فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ، أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ، فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ، أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} وأدركهم الغرق فأيسوا من الخلاص، {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} فنادوا {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} ، {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} فانهدت قواهم، واستغاثوا من كثرة الماء بالذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم.
وأما الروضة فقد أحاط بها إحاطة الأكمام بزهره، والكأس بحباب خمره:
فكأنها فيه بساط أخضر ... وكأنه فيها طراز مذهب
_________
(1) عسل، أي سار مسرعًا.(2/364)
فكم بها من متهم ومنجد، ومسافر مما حصل له من المقيم المقعد. وحائك أصبح حول نوله ينير، وجعل من غزله بل من غيظه على أجيره يحمل ويسير. ومنجم وصل الماء من منزله إلى العتبة الخارجة فأصبح في أنحس تقويم، ودخل إلى بيت أمراضه {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ، فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} ، فأصبح في الطريق وعليه كآبة وصفرة، ودموعه في المحاجر كالحصى لها اجتماع وحمرة. وشاعر أوقعه في الضرورة بحره المديد، واشتغل بهدم داره عن بيت القصيد، وعروضي ضاقت عليه الدائرة: هذه الفاصلة، وقلع من عروض بيته وتدًا أزعج بقلعه مفاصله. ونحوي اشتغل عن زيد وعمرو يبل كتبه، وذهل حين استوى الماء والخشبة، عن المفعول معه والمفعول به، وطار عقله ولا سيما عن تصانيف ابن عصفور، وأخبر أن البحر وأثاث بيته جار ومجرور.
وأما الجزيرة الوسطى فقد أفسد جل ثمارها، وأتى على مقاتيها فلم يدع شيئًا من رديها وخيارها، وألحق موجدها بالمعدوم، وتلا علي التكروري {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} ، وأخلق ديباج روضها الأنف، وترك قلقاسها بمده وجزره على شفا جرف.
وأما المنشأة فقد أصبحت للهجر مقرة، بعد أن كانت للعيون قرة، وقيل لمنشيها: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} ، فقال: {يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ
مَرَّة} . ومال على ما فيها من شون الغلات كل الميل، وتركها تتلو بفمها الذي شقتاه مصراعا الباب: {يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْل} .
وأما بولاق فقد أصبحت صعيدًا زلقًا من الملق، وقامت قيامة المار بها حين التفت الساق بالساق من الزلق، فكم اقتلع بها شجرة لبت رءوسها، وترك ساقية تنوح على أختها التي أصبحت خاوية على عروشها.
وأما الخليج الحاكمي فقد خرج عسكر موجه بعد الكسر على حمية، ومرق من قسي قناطره كالسهم من الرمية، وتواضع حين قبل بحارة زويلة عتاب غرفها العالية وترك الساقين في حالة العجز عن وصفها صريع الدلاء وحماد الراوية. فأصبحوا من الكساد وقد سئموا الإقامة، قائلين في شوارع مصر: يا الله السلامة.(2/365)
ذكر البشارة بوفاء النيل:
جرت العادة كل سنة إذا وفي النيل أن يرسل السلطان بشيرًا بذلك إلى البلاد لتطمئن قلوب العباد، وهذه عادة قديمة، ولم يزل كتاب الإنشاء ينشئون في ذلك الرسائل البليغة؛ فمن إنشاء القاضي الفاضل في وفاء النيل عن السلطان صلاح الدين بن أيوب:
نعم الله سبحانه وتعالى من أضوئها بزوغا، وأخفاها سبوغًا، وأصفاها ينبوعا، وأسناها منفوعا، وأمدها بحر مواهب، وزختمها حسن عواقب. النعمة بالنيل المصري الذي يبسط الآمال، ويقبضها مده وجزره، ويرمي النبات حجره، ويحيي مطلعه الحيوان، ويجني ثمرات الأرض صنوانا وغير صنوان، وينشر مطوي حريريها وينشر مواتها، ويوضح معنى قوله تعالى: {وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} (1) .
وكان وفاء النيل المبارك تاريخ كذا، فأسفر وجه الأرض وإن كان تنقب، وأمن يوم بشراه من كان خائفا يترقب، ورأينا الإبانة عن لطائف الله التي خفقت الظنون، ووفت بالرزق المضمون، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (2) . وقد أعلمناك لتستوفي حقه من الإذاعة، وتبعده من الإضاعة، وتتصرف على ما نصرفك من الطاعة، وتشهر ما أورده البشير من البشرى بإبانته، وتمده بإيصال رسمه مهنى على عادته (3) .
وكتب القاضي محيي الدين عبد الله بن عبد الظاهر عن السلطان إلى نائب السلطنة يحلب بشارة بوفاء النيل:
_________
(1) سورة فصلت آية: 10.
(2) سورة الأنعام آية: 99.
(3) ثمرات الأوراق "على هامش المستطرف" 2: 60، 61.(2/366)
أعز الله أنصار المقر وسره بكل مبهجة، وهنأه بكل مقدمة سرور تفد وللخصب والبركة منتجه، وبكل نعمى لا تصبح لمنة السحاب محوجة، وبكل
رحمى لا يستعد لأيامها الباردة ولا للياليها المثلجة. هذه المكاتبة تفهمه أن نعم الله وإن كانت متعددة، ومنحه وإن غدت بالبركات مترددة، ومنته وإن أصبحت إلى القلوب متوددة، فإن أشملها وأكملها، وأجملها وأفضلها، وأجزلها وأنهلها، وأتمها وأعمها، وأضمها وألمها، نعمة أجزأت المن والمنح، وأنزلت في برك سفح المقطم أغزر سفح. وأتت بما يعجب الزراع، ويعجل الهراع، ويعجز البرق اللماع، ويعل القطاع، ويغل الأقطاع، وتنبعث أفواهه وأفواجه، ويمد خطاها أمواهه وأمواجه، ويسبق وفد الريح من حيث ينبري، ويغيط مريخه الأحمر القمر؛ لأن بيته السرطان كما يغبط الحوت؛ لأنه بيت المشتري، ويأتي عجبه في الغد بأكثر من اليوم وفي اليوم بأكثر من الأمس، ويركب الطريق مجدًّا فإن ظهر بوجهه حمرة فهي ما يعرض للمسافر من حر الشمس. ولو لم تكن شقته طويلة لما قيست بالذراع، ولولا أن مقياسه أشرف البقاع لما اعتبر ما تأخر من ماء حوله الماضي بقاع، بينا يكون في الباب إذا هو في الطاق، وبينا يكون في الاحتراق إذا هو في الاختراق للإغراق، وبينا يكون في المجاري، إذا هو في السواري، وبينا يكون في الجباب إذا هو في الجبال، وبينا يقال لزيادته: هذه الامواه إذ يقال لغلاته: هذه الأموال. وبينا يكون ماء إذ أصبح حبرا، وبينا هو يكسب تجارة قد أكسب بحرًا، وبينا يفسد عراه قد أتى بعرار جسور على الجسور جيشه الكرار، وكم أمست التراع منه تراع والبحار منه تحار. كم حسنت مقطعاته على مر الجديدين، وكم أعانت مرارة مقياسه على الغرو من بلاد سيس على العمودين (1) . أتم الله لطفه في الإتيان به على التدريج، وأجراه بالرحمة إلى نقص العيون بالتفرج، والقلب بالتفريج، فأقبل جيشه بمواكبه، وجاء يطاعن الجدب بالصواري من مراكبه، ويصافف
_________
(1) كذا في الأصول.(2/367)
لجاجة الجسور في بيداء لججه، ويثاقف القحط بالتراس من بركه والسيوف من خلجه.
ولما تكامل إيابه، وصح في ديوان الفلاح والفلاحة حسابه، وأظهر ما عنده من ذخائر التيسير وودائعه، ولفظ (1) عموده حمل ذلك على أصابعه. وكانت الستة عشر ذراعًا تسمى ماء السلطان، نزلنا وحضرنا مجلس الوفاء المعقود، واستوفينا شكر الله تعالى بفيض ما هو من زيادته محسوب، ومن صداقاتنا مخرج ومن القحط
مردود، ووقع تياره بين أيدينا سطورًا تفوق، وعلت يدنا الشريفة بالخلوق، وحمدنا السير كما حمد لنا السري، وصرفناه في القرى للقرى، ولم نحضره في العام الماضي فعملنا له من الشكر شكرانا وعمل هو ما جرى.
وحضرنا إلى الخليج وإذا به أمم قد تلقونا بالدعاء المجاب، وقرظونا فأمرنا ماءه أن يحثو من سده في وجوه المداحين التراب، ومر يبدي المساد ويعيدها، ويزور منازل القاهرة ويعودها، وإذا سئل عن أرض الطبالة، قال: جننا بليلى، وعن خلجها، وهي جنت بغيرنا. وعن بركة الفيل قال: وأخرى بنا مجنونة لا نريدها. وما برح حتى تعوض عن القيعان البقيعة، من المراكب بالسرر المرفوعة، ومن الأراضي المحروثة، من جوانب الأدرب بالزرابي المبثوثه.
وانقضى هذا اليوم عن سرور لمثله فليحمد الحامدون، وأصبحت مصر جنة فيها ما تشتهي الأنفس، وتلذ الأعين وأهلها في ظل الأمن خالدون. فليأخذ حظه من هذه البشرى التي ما كتبنا بها كتبت بها الرياح إلى نهر المجرة إلى البحر المحيط، ونطقت بها رحمة الله تعالى إلى مجاوري بيته من لابسي التقوى ونازعي المخيط، وبشرت بها مطايا المسير الذي يسير من قوص غير منقوص، ويتشارك بها الابتهاج في العالم فلا مصر دون مصر بها مخصوص.
_________
(1) كذا في الأصول.(2/368)
والله تعالى يجعل الأولياء في دولتنا يبتهجون بكل أمر جليل، وجيران الفرات يفرحون بجريان النيل.
وكتب الصلاح الصفدي بشارة إلى بعض النواب في بعض الأعوام:
ضاعف الله نعمة الجناب وسر نفسه بأنفس بشرى، وأسمعه من الهناء كل آية أكبر من الأخرى، وأقدم عليه من المسار ما يتحرز ناقله ويتحرى، وساق إليه كل طليعة إذا تنفس صبحها تفرق الليل وتفرى، وأورد لديه من أنباء الخصب ما يتبرم به محل المحل ويتبرى.
هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تخصه بسلام يرى كالماء انسجامًا، ويروق كالزهر ابتساما، ونتحفه بثناء جعل المسك له ختاما، وضرب له على الرياض النافحة خياما، ونقص عليه من أنباء النيل الذي خص الله البلاد المصرية بوفادة وفائه، وأغنى به قطرها عن القطر فلم تحتج إلى مد كافه وفائه، ونزهه عن منة
الغمام الذي إن جاد فلا بد من شهقة رعده ودمعة بكائه، فهي الأرض التي لا يذم للأمطار في جوها مطار، ولا يزم للقطار في نفعها قطار، ولا ترمد الأنواء فيها عيون النوار، ولا تشيب بالثلوج مفارق الطرق ورءوس الجبال، ولا تفقد فيها حلى النجوم لاندراج الليلة تحت السحب بين اليوم وأمس، ولا يتمسك في سنائها المساكين كما قيل بحبال الشمس، وأين أرض يخد عجاجها بالبحر العجاج، وتزدحم في ساحاتها أفواج الأمواج، من أرض لا تنال السقيا إلا بحرب؛ لأن القطر سهام والضباب عجاج قد انعقد، ولا يعم الغيث بقاعها؛ لأن السح لا تراها إلا بسراج البرق إذا اتقد. فلو خاصم النيل مياه الأرض لقال: عندي قبالة كل عين إصبع، ولو فاخرها لقال: أنت بالجبال أثقل وأنا بالملق أطبع. والنيل له الآيات الكبر، وفيه العجائب والعبر، منها وجود الوفا، عند عدم الصفا، وبلوغ الهرم، إذا احتد واضطرم، وأمن كل فريق، إذا قطع الطريق، وفرح قطان الأوطان إذا كسر وهو كما يقال: سلطان.(2/369)
وهو أكرم منتدى، وأعزب محتبى، وأعظم مجتدى، إلى غير ذلك من خصائصه، وبراءته مع الزيادة من نقائصه.
وهو أنه في هذه العام المبارك جذب البلاد من الجدب وخلصها بذراعه، وعصمها بخنادقه التي لا تراع من تراعه، وحضها بسواري الصواري تحت قلوعه وما هي إلا عمد قلاعه، وراعى الأدب بين أيدينا الشريفة بمطالعتنا في كل يوم بحر قاعه في رقاعه، حتى إذا أكمل الستة عشر ذراعا، وأقبلت سوابق الخيل سراعا، وفتح أبواب الرحمة بتغليقه، وجد في طلب تخليقه، تضرع بمد ذراعه غلينا، وسلم عند الوفاء بأصابعه علينا. ونشر علم ستره، وطلب لكرم طباعه جبر العالم بكسره، فرسمنا بأن يخلق، ويعلم تاريخ هنائه ويعلق، فكسر الخليج وقد كاد يعلوه فوق موجه، ويهيل كئيب سده هول هيجه، ودخل يدوس زرابي الدور المبثوثة، ويجوس خلال الحنايا كان له فيها خبايا موروثة. ومرق كالسهم من قسي قناطره المنكوسة، وعلاه زبد حركته ولولاه ظهرت في باطنه من بدور إناثه أشعتها المعكوسة. وبشر بركة الفيل ببركة الفال، وجعل المجنونة من تياره المنحدر في السلاسل والأغلال، وملأ أكف الرجا بأموال الأمواه، وازدحمت في عبارة شكره أفواج الأفواه. وأعلم الأقلام بعجزها عما يدخل من خراج البلاد، وهنأت طلائعه بالطوالع التي نزلت بركاتها من الله على العباد.
وهذه عوائد الألطاف الإلهية بنا لم نزل نجلس على موائدها، ونأخذ منها ما نهبه لرعايانا من فوائدها. ونخص بالشكر قوادمها فهي تدب حولنا وتدرج، وتخص قوادمها بالثناء والمدح، والحمد فهي تدخل إلينا وتخرج.
فليأخذ الجناب العالي حظه من هذه البشرى التي جاءت بالمن والمنح، وانهلت أياديها المغدقة بالسح والسفح، وليتلقاها بشكر يضيء به في الدجى أديم الأفق، ويتخذها عقدًا تحيط منه بالعنق إلى النطق، وليتقدم الجناب العالي بألا يحرك الميزان في هذه البشرى بالجباية لسانه، وليعط كل عامل في بلادنا بذلك أمانه، وليعمل بمقتضى هذا المرسوم(2/370)
حتى لا يرى في إسقاط الجباية خيانة، والله يديم الجناب العالي لقص الأنباء الحسنة عليه، ويمتعه بجلاء عرائس التهاني والأفراح لديه.
وكتب الأديب تقي الدين أبو بكر بن حجة بشارة عن الملك المؤيد شيخ، سنة تسع عشرة وثمانمائة.
ونبدي لعلمه الكريم ظهور آية النيل الذي عاملنا الله فيه بالحسنى وزيادة، وأجراه لنا في طرق الوفاء على أجمل عادة، وخلق أصابعه ليزول الإيهام فأعلن المسلمون بالشهادة، كسر بمسرى (1) فأمسى كل قلب بهذا الكسر مجبورا، وأتبعناه بنوروز (2) وما برح هذا الاسم بالسعد المؤيدي مكسورا، دق قفا السودان فالراية البيضاء من كل قلع عليه، وقبل ثغور الإسلام فأرشفها ريقه الحلو فمالت أعطاف غصونها إليه، وشبب خريره في الصعيد بالقصب، ومد سبائكه الذهبية إلى جزيرة الذهب، فضرب الناصرية واتصل بأم دينار، وقلنا: لولا أنه صبغ بقوة (3) لما جاء وعليه ذلك الاحمرار.
وطال الله عمر زيادته فتردد إلى الآثار، وعمته البركة فأجرى سواقي ملكه إلى أن غدت جنة تجري من تحتها الأنهار، وحضن (4) مشتهي الروضة في صدره، وحنا عليها حنو المرضعات على الفطيم.
وأرشفنا على ظمأ زلالًا ... ألذ من المدامة للنديم
وراق مديد بحره لما انتظمت عليه تلك الأبيات، وسقى الأرض سلافته الخمرية فخدمته بحلو النبات، وأدخله إلى جنات النخيل والأعناب فالق النوى والحب، فأرضع "في أحشاء الأرض" (5) جنين النبت، وأحيا له أمهات العصف والأب. وصافحته كفوف الموز فختمتها
_________
(1) ط: "جسره".
(2) ط: "بنوروزه".
(3) حلية الكميت: "ملئه".
(4) ط: "وحصن".
(5) من حلية الكميت.(2/371)
بخواتمه العقيقية ولبس الورد تشريفه، وقال: أرجو أن تكون شوكتي في أيامه قوية، ونسي الزهر بحلاوة لقائه مرارة النوى، وهامت به مخدرات الأشجار فأرخت ضفائر فروعها عليه من شدة الهوى، واستوفى النبات ما كان له في ذمة الري من الديون، ومازج الحوامض بحلاوته فهام الناس بالسكر والليمون، وانجذب إليه الكباد وامتد، ولكن قوي قوسه لما حظي منه بسهم لا يرد، ولبس شربوش الأترج وترفع إلى أن لبس بعده التاج، وفتح منثور (1) الأرض لعلامته بسعة الرزق وقد نفذ أمره وراج، فتناول مقالم الشنبر وعلم بأقلامها، ورسم (2) لمحبوس كل سد بالإفراج، وسرح بطائق السفن فخفقت أجنحتها بمخلق بشائره، وأشار بأصابعه إلى قتل المحل فبادر الخصب إلى امتثال أوامره، وحظي بالمعشوق وبلغ من كل منية مناه، فلا سكن على البحر إلا تحرك ساكنه بعد ما تفقه، وأتقن باب المياه، ومد شفاه أمواجه إلى تقبيل فم الخور (3) ، وزاد مترعه (4) فاستحلى المصريون زائده على الفور، ونزل في بركة الحبش فدخل التكرور في طاعته، وحمل على الجهات البحرية فكسر المنصورة وعلا على الطويلة بشهامته، وأظهر في مسجد الخضر عين الحياة فأقر الله عينه، وصار أهل دمياط في برزخ بين المالح وبينه، وطلب المالح رده بالصدر وطعن في حلاوة شمائله، فما شعر إلا وقد ركب عليه ونزل في ساحله.
وأما المحاسن فدارت دوائره على وجنات الدهر عاطفة، وثقلت أرداف أمواجه على خصور (5) الجواري واضطربن كالخائفة، ومال شيق النخيل إليه فلثم
ثغر طلعه وقبل سالفه، وأمست سود الجواري كالحسنات على حمرة وجناته، وكلما زاد زاد الله في حسناته؛ فلا فقير سد إلا حصل له من فيض نعماه فتوح، ولا ميت خليج إلا عاش به
_________
(1) الثمرات: "منشور".
(2) ح: "لكل سد".
(3) الثمرات: "الجسر".
(4) ح: "زاد بسرعة".
(5) في الأصول: "حضور" وصوابه من الثمرات.(2/372)
ودبت فيه الروح، ولكنه احمرت عينه على الناس بزيادة وترفع، فقال له المقياس: عندي قبالة كل عين إصبع. ونشر أعلام قلوعه وحمل وله على ذي الجزيرة زمجرة، ورام أن يهجم على غير بلاده فبادر إليه عزم (1) المؤيدي وكسره.
وقد آثرنا الجناب بهذه البشرى التي سرى فضلها برًّا وبحرًا، وحدثناه عن البحر ولا حرج وشرحنا له حالًا وصدرًا، ليأخذ حظه من هذه البشارة البحرية بالزيادة الوافرة، وينشق من طيبها (2) نشرا، فقد حملت له من طيبات ذلك النسيم أنفاسًا عاطرة. والله تعالى يوصل بشائرنا الشريفة لسمعه الكريم ليصير بها في كل وقت مشنفا، ولا برح من نيلها المبارك وإنعامنا الشريف على كلا الحالين في وفا (3) .
_________
(1) في الأصول: "عزمنا"، وما أثبته من الثمرات.
(2) الثمرات: "طيبات".
(3) ثمرات الأوراق 2: 63، 64، حلية الكميت 266، 267.(2/373)
ذكر المقياس:
قال ابن عبد الحكم: كان أول من قاس النيل بمصر يوسف عليه السلام، ووضع مقياسا بمنف، ثم وضعت العجوز دلوكة ابنة زباء مقياسا بأنصنا؛ وهو صغير الذرع ومقياسا بأخميم. ووضع عبد العزيز بن مروان مقياسا بحلوان وهو صغير، ووضع أسامة بن زيد التنوخي في خلافة الوليد بالجزيرة؛ وهي المسماة الآن بالروضة، وهو أكبرها؛ حدثنا يحيى بن بكير، قال: أدركت القياس يقيس في مقياس منف ويدخل بزيادته إلى الفسطاط.
هذا ما ذكره ابن عبد الحكم (1) .
قال التيفاشي: ثم هدم المأمون مقياس الجزيرة، وأسسه ولم يتمه، فأتم المتوكل بناءه وهو الموجود الآن.
وقال صاحب مباهج الفكر: المقياس الذي بأنصنا ينسب لأشمون بن قفطيم بن مصر ويقال: إنه من بناء دلوكة، وبناؤه كالطيلسان، وعليه أعمدة بعدد أيام السنة من الصوان الأحمر.
ورأيت (2) في بعض المجاميع ما نصه: قال ابن حبيب (3) : وجدت في رسالة منسوبة إلى الحسن بن محمد بن عبد المنعم، قال: لما فتحت مصر عرف عمر بن الخطاب ما يلقى أهلها من الغلاء عن وقوف النيل عن مده (4) في مقياس لهم فضلا عن تقاصره، وإن فرط الاستشعار يدعوهم إلى الاحتكار، ويدعو الاحتكار إلى تصاعد الأسعار بغير
_________
(1) فتوح مصر 16.
(2) نقله المقريزي 4: 93 عن القضاعي.
(3) في المقريزي: "يزيد بن حبيب".
(4) المقريزي: "حده".(2/374)
قحط، فكتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص، يسأله عن شرح الحال،، فأجابه فقال عمرو (1) : إني وجدت ما تروى به مصر حتى لا يقحط أهلها أربعة عشر ذراعا، والحد الذي يروى منه سائرها حتى يفضل عن حاجتهم
ويبقى عندهم قوت سنة أخرى ستة عشر ذراعا، والنهايتين (2) المخوفتين في الزيادة والنقصان -وهو الظمأ والاستبحار- اثنتا عشر ذراعا في النقصان وثماني عشرة ذراعا في الزيادة؛ هذا والبلد في ذلك محفور الأنهار، معقود الجسور، عندما تسلموه من القبط وخمير العمارة فيه.
فاستشار عمر بن الخطاب علي بن أبي طالب في ذلك، فأمره أن يكتب إليه أن يبني مقياسا، وأن ينقص (3) ذراعين على اثنتي عشرة ذراعا، وأن يقر ما بعدها على الأصل، وأن ينقص من ذراع بعد الستة عشر ذراعا إصبعين.
ففعل ذلك وبناه بحلوان، فاجتمع له ما أراد من حال الإرجاف، وزال ما منه كان يخاف، بأن يجعل الاثنتي عشرة ذراعا أربع عشرة ذراعا؛ لأن كل ذراع أربعة وعشرون إصبعا، فجعلها ثمانية وعشرين من أولها إلى الأثنتي عشرة ذراعا، تكون مبلغ الزيادة على الاثنتي عشرة ثمانية وأربعين إصبعا؛ وهي الذراعان، وجعل الأربع عشرة ست عشرة والستة عشرة ثماني عشرة والثماني عشرة عشرين ذراعا، وهي المستقرة الآن (4) .
وقال بعضهم: كتب الخليفة جعفر المتوكل إلى مصر يأمر ببناء المقياس الجديد الهاشمي في الجزيرة سنة سبع وأربعين ومائتين؛ وكان الذي يتولى أمر المقياس النصارى، فورد كتاب أمير المؤمنين المتوكل في هذه السنة على بكار بن قتيبة قاضي مصر، بألا يتولى ذلك إلا مسلم يختاره؛ فاختار القاضي بكار لذلك الرداد عبد الله بن
_________
(1) في الأصول: "عمر" وهو خطأ.
(2) المقريزي: "والنهايتان".
(3) في ط: "يغض"، وما أثبته من المقريزي والأصل.
(4) المقريزي 1: 54.(2/375)
عبد السلام المؤدب، وكان محدثا فأقامه القاضي بكار لمراعاة المقياس، وأجرى عليه الرزق، وبقي ذلك في ولده إلى اليوم.
وقال صاحب المرآة: المقياس الظاهر الآن بناه المأمون، وقيل: إنما بناه أسامة بن زيد التوخي في خلافة سليمان بن عبد الملك، ودثر فجدده المأمون. وبنى أحمد بن طولون مقياسين؛ أحدهما بقوص وهو قائم اليوم، والآخر بالجزيرة وقد انهدم.
قال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في العود الذي يطلع به المقسي قياس النيل في كل يوم بزيادة النيل:
قد قلت لما أتى المقسي وفي يده ... عود به النيل قد عودي وقد نودي
أيام سلطاننا سعد السعود وقد ... صح القياس بجري الماء في العود(2/376)
ذكر جزيرة مصر وهي المسماة الآن بالروضة:
قال المقريزي: اعلم أن الروضة تطلق في زماننا على الجزيرة التي بين مدينة مصر وبين مدينة الجيزة، وعرفت في أول الإسلام بالجزيرة وجزيرة مصر، ثم قيل لها: جزيرة الحصن، وعرفت الروضة من زمن الأفضل بن أمير الجيوش إلى اليوم. انتهى.
والجزيرة كل بقعة في وسط البحر لا يعلوها البحر، سميت بذلك؛ لأنها جزرت، أي قطعت وفصلت من تخوم الأرض، فصارت منقطعة.
وفي الصحاح: الجزيرة: واحدة جزائر البحر؛ سميت بذلك لانقطاعها عن معظم الأرض.
وقال ابن المتوج في كتابه إيقاظ المتغفل واتعاظ المتأمل: إنما سميت جزيرة مصر بالروضة؛ لأنه لم يكن بالديار المصرية مثلها وبحر النيل حائز لها ودائر عليها، وكانت حصينة، وفيها من البساتين والثمار ما لم يكن في غيرها.
ولما فتح عمرو بن العاصي مصر تحصن الروم بها مدة، فلما طال حصارها وهرب الروم منها خرب عمرو بن العاص بعض أبراجها وأسوارها، وكانت مستديرة عليها، واستمرت إلى أن عمر حصنها أحمد بن طولون في سنة ثلاث وستين، ولم يزل هذا الحصن حتى خربه النيل.
وقال المقريزي: اعلم أن الجزائر التي هي الآن في بحر النيل كلها حادثة في الإسلام ما عدا الجزيرة التي تعرف اليوم بالروضة تجاه مدينة مصر؛ فإن العرب لما دخلوا مع عمرو بن العاص إلى أرض مصر، وحاصروا الحصن الذي يعرف اليوم بقصر الشمع في مصر؛ حتى فتحه الله عنوة على المسلمين، كانت هذه الجزيرة حينئذ تجاه القصر، لم يبلغني إلى(2/377)
الآن متى حدثت، وأما غيرها من الجزائر كلها فقد تجددت بعد فتح مصر، وإلى هذه الجزيرة التجأ المقوقس لما فتح الله على المسلمين القصر، وصار بها هو ومن معه من جموع الروم والقبط.
وقال ابن عبد الحكم: كان بالجزيرة في أيام عبد الملك بن مروان أمير مصر خمسمائة فاعل عدة لحريق إن كان في البلاد أو هدم.
وقال الكندي: بنيت بالجزيرة الصناعة في سنة أربع خمسين -والصناعة اسم لمكان قد أعد لإنشاء المراكب البحرية- وأول صناعة عملت بأرض مصر التي بنيت بالروضة في سنة أربع وخمسين من الهجرة، فاستمرت إلى أيام الإخشيد، فأنشأ صناعة بساحل فسطاط مصر، وجعل موضع الصناعة التي بالروضة بستانا سماه المختار.
وقال القضاعي: حصن الجزيرة بناه أحمد بن طولون في سنة ثلاث وستين ومائتين، ليحرز فيه حريمه وماله، وكان سبب ذلك مسير موسى بن بغا من العراق واليًا على مصر، وجميع أعمال ابن طولون، وذلك في خلافة المعتمد على الله، فلما بلغ أحمد بن طولون مسيره تأمل مدينة فسطاط مصر، فوجدها لا تأخذ إلا من جهة النيل، فبنى الحصن بالجزيرة التي بين الفسطاط والجيزة ليكون معقلًا لحريمه وذخائره، واتخذ مائة مركب حربية سوى ما يضاف إليها من العشاريات وغيرها؛ فلما بلغ موسى بن بغا بالرقة تثاقل عن المسير لعظم شأن ابن طولون وقوته، ثم لم يلبث موسى أن مات، وكفى ابن طولون أمره.
وقال محمد بن داود لأحمد بن طولون:
لما قضى ابن بغا بالرقتين ملا ... ساقيه درقًا إلى الكعبين والعقب
بنى الجزيرة حصنًا يستجن به ... بالعسف والضرب، والصناع في تعب
وواثب الجيزة القصوى فخندقها ... وكاد يصعق من خوف ومن رعب(2/378)
له مراكب فوق النيل راكدة ... لما سوى القار للنظار والخشب
ترى عليها لباس الذل مذ بنيت ... بالشط ممنوعة من عزة الطلب
فما بناها لغزو الروم محتسبًا ... لكن بناها غداة الروع للهرب
وقال سعيد القاص من أبيات:
وإن جئت رأس الجسر فانظر تأملًا ... إلى الحصن أو فاعبر إليه على الجسر
ترى أثرًا لم يبق من يستطيعه ... من الناس في بدو البلاد ولا حضر
وما زال حصن الجزيرة هذا عامرًا أيام بني طولون؛ حتى أخذه النيل شيئًا فشيئًا، وقد بقيت منه بقايا متقطعة إلى الآن.
وكان نقل الصناعة من الجزيرة إلى ساحل مصر في شعبان سنة خمس وعشرين وثلثمائة، وبنى مكانها البستان المختار، وصرف على بنائه خمسة آلاف دينار؛ فاتخذه الإخشيد متنزهًا به، وصار يفاخر به أهل العراق، ولم يزل متنزها إلى أن زالت الدولة الإخشيدية والكافورية، وقدمت الدولة العبيدية؛ فكان يتنزه فيه المعز والعزيز، وصارت الجزيرة مدينة عامرة بالناس، بها وال وقاض. وكان يقال: القاهرة ومصر والجزيرة؛ فلما استولى الأفضل شاهنشاه ابن أمير الجيوش بدر الدين، أنشأ في بحري الجزيرة بستانًا نزهًا سماه الروضة، وتردد إليه ترددات كثيرة؛ ومن حينئذ صارت الجزيرة كلها تعرف بالروضة.
قال ابن ميسر في تاريخ مصر: أنشأ الأفضل الروضة بحري الجزيرة، وكان يمضي كل يوم إليها في العشاريات الموكبية، وكان قتل الأفضل في سنة خمس عشرة وخمسمائة.
قال: وفي سنة ست عشرة وخمسمائة، نقل المأمون البطائحي الوزير عمارة المراكب الحربية من الصناعة التي تجري بجزيرة مصر إلى الصناعة القديمة بساحل مصر، وبنى عليها منظرة كانت باقية إلى آخر أيام الدولة العلوية، فلما استبد الخليفة الآمر بالأمر، أنشأ بجوار البستان(2/379)
المختار من جزيرة الروضة مكانًا لمحبوبته البدوية عرف بالهودج، وذلك لما صعب عليها السكنى في القصور، ومفارقة ما اعتادته من الفضاء. وكان الهودج على شاطئ النيل في شكل غريب، ولم يزل الآمر يتردد إليه للنزهة فيه، إلى أن ركب إليه يوما، فلما كان برأس الجسر، وثب عليه قوم كانوا كمنوا له بالروضة، فضربوه بالسكاكين حتى أثخنوه، وذلك يوم الأربعاء رابع ذي القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة، ونهب سوق الجزيرة ذلك اليوم.
قال ابن المتوج: اشترى الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب جزيرة مصر المشهورة بالروضة من بيت المال المعمور في شعبان سنة ست وعشرين وخمسمائة، وبقيت على ملكه إلى أن سير السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ولده الملك العزيز عثمان إلى مصر، ومعه عمه الملك العادل، وكتب إلى الملك
المظفر أن يسلم لهما البلاد، ويقدم عليه إلى الشام، فلما ورد عليه الكتاب، ووصل ابن عمه الملك العزيز وعمه الملك العادل، شق عليه خروجه من الديار المصرية، وتحقق أنه لا عود له إليها أبدًا، فوقف مدرسته التي تعرف في مصر بالمدرسة التقوية؛ وكانت قديمًا تعرف بمنازل العز على الفقهاء الشافعية، ووقف عليها جزيرة الروضة بكمالها، ووقف أيضا مدرسة بالفيوم، وسافر إلى عمه صلاح الدين إلى دمشق، فملكه حماة، ولم يزل الحال كذلك إلى أن ولي الملك الصالح نجم الدين أيوب، فاستأجر الجزيرة من القاضي فخر الدين أبي محمد عبد العزيز بن قاضي القضاة عماد الدين أبي القاسم عبد الرحمن بن محمد المعروف بابن السكري مدرس المدرسة المذكورة لمدة ستين سنة في دفعتين؛ كل دفعة قطعة، فالقطعة الأولى من جامع عين إلى المنظر طولا وعرضا من البحر إلى البحر، واستأجر القطعة الثانية، وهي باقي أرض الجزيرة الدائر عليها بحر النيل حينذاك، واستولى على ما كان للجزيرة من النخل(2/380)
والجميز والغروس، فكأنه لما عمر الملك الصالح مناظر قلعة الجزيرة قطعت النخل، ودخلت في العمائر.
وأما الجميز فإنه كان بشاطئ بحر النيل صف جميز يزيد على أربعين شجرة، وكان أهل مصر فرجهم تحتها في زمن النيل والربيع، قطعت جميعها في الدولة الظاهرية، وعمر بها شواني عوض الشواني التي كان سيرها إلى جزائر قبرص، وتكسرت هناك، واستمر تدريس المدرسة التقوية بيد القاضي فخر الدين إلى حين وفاته، ثم وليها بعده ولده القاضي عماد الدين أبو الحسن علي، وفي أيامه تسلم له القطعة المستأجرة من الجزيرة أولا، وبقي بيد السلطنة القطعة الثانية إلى الآن، وكان الإفراج عنهما في شهور سنة ثمان وتسعين وستمائة في الدولة الناصرية، ولم يزل القاضي عماد الدين مدرسها إلى حين وفاته، فوليها ولده وهو مدرسها الآن في شعبان سنة أربع عشرة وسبعمائة. هذا كله كلام ابن المتوج.
ولم تزل الروضة متنزها ملوكيًّا، ومسكنا للناس إلى ان تسلطن الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد، فأنشأ بالروضة قلعة، واتخذها سرير ملك، فعرفت بقلعة المقياس، وبقلعة الروضة، وبقلعة الجزيرة وبالقلعة الصالحية. وكان الشروع في حفر أساسها يوم الأربعاء خامس شعبان سنة ثمان وثلاثين وستمائة، ووقع الهدم في الدور والقصور والمساجد التي كانت بجزيرة الروضة، وتحول الناس من مساكنهم التي كانت بها، وهدم كنيسة كانت لليعاقبة بجانب
المقياس، وأدخلها في القلعة، وأنفق في عمارتها أموالا جمة، وبنى فيها الدور والقصور، وعمل لها ستين برجًا، وبنى بها جامعا، وغرس بها جميع الأشجار، ونقل إليها من البرابي العمد الصوان والعمد الرخام، وشحنها بالأسلحة وآلات الحروب وما يحتاج إليها من الغلال، والأقوات خشية من محاصرة الفرنج فإنهم كانوا حينئذ على عزم قصد بلاد مصر.(2/381)
وبالغ في إتقانها مبالغة عظيمة؛ حتى قيل: إنه استقام كل حجر فيها بدينار، وكل طوبة بدرهم، وكان الملك الصالح يقف بنفسه، ويرتب ما يعمل، فصارت تدهش من كثرة زخرفها، ويحير الناظر إليها حسن سقوفها المقرنصة، وبديع رخامها. ويقال: إنه قطع من الموضع الذي أنشا فيه هذه القلعة ألف نخلة مثمرة، وكان رطبها يهدى إلى ملوك مصر لحسن منظره، وطيب طعمه. وخرب البستان المختار والهودج، وهدم ثلاثة وثلاثين مسجدًا كانت بالروضة، وأدخلت في القلعة.
واتفق له في بعض هذه المساجد خبر عجيب؛ قال الحافظ جمال الدين يوسف بن أحمد اليغموري: سمعت الأمير جمال الدين موسى بن يغمور بن جلدك، يقول: من عجيب ما شاهدته من الملك الصالح، أنه أمرني أن اهدم مسجدا بجزيرة مصر، فأخرت ذلك، وكرهت أن يكون هدمه على يدي، فأعاد الأمر، وأنا كاسر عنه؛ فكأنه فهم عني ذلك، فاستدعى بعض خدمه وأنا غائب، وأمره أن يهدم ذلك المسجد، وأن يبنى في مكانه قاعة، وقدر له صفتها، فهدم ذلك المسجد، وعمر تلك القاعة مكانه وكملت. وقدم الفرنج على الديار المصرية، وخرج الملك الصالح مع عساكره إليهم، ولم يدخل تلك القاعة التي بنيت في مكان المسجد، فتوفي السلطان بالمنصورة، وجعل في مركب، وأتي به إلى الروضة فجعل في تلك القاعة التي بنيت مكان المسجد مدة إلى أن بنيت له التربة التي في جنب مدرسته بالقاهرة. وكان النيل في القديم محيطا بالروضة طول السنة، وكان فيما بين ساحل مصر والروضة جسر من خشب، وكذلك فيما بين الروضة، والجيزة جسر من خشب يمر عليهما الناس والدواب من مصر إلى الروضة، ومن الروضة إلى الجيزة؛ وكان هذان الجسران من مراكب مصطفة بعضها بحذاء بعض، وهي موثقة، ومن فوق المراكب أخشاب ممتدة فوقها تراب.
وكان عرض الجسر ثلاث قصبات، ولم يزل هذا الجسر قائما إلى أن قدم المأمون(2/382)
مصر، فأحدث جسرا جديدا، فاستمر الناس يمرون عليه، وكان عبور العساكر التي قدم من المعز مع جوهر القائد على هذين الجسرين، وكان الجسر المتصل بالروضة كرسيه حيث المدرسة الخروبية قبلي دار النحاس، وكان النيل عندما عزم الملك الصالح على عمارة قلعة الروضة قد أنطرد عن بر مصر، ولا يحيط بالروضة إلا في أيام الزيادة، فلم يزل يغرق السفن في ناحية الجيزة، ويحفر فيما بين الروضة ومصر ما كان هناك من الرمال، حتى عاد ماء النيل إلى بر مصر، واستمر هناك، فأنشأ جسرا عظيما ممتدا من بر مصر إلى الروضة، وجعل عرضه ثلاث قصبات. وكان كرسيه حيث المدرسة الخروبية قبلي دار النحاس، وصار أكثر مرور الناس بأنفسهم ودوابهم في المراكب؛ لأن الجسرين قد اجترما بحصولهما في حيز قلعة السلطان، وكان الأمراء إذا ركبوا من منازلهم يريدون الخدمة إلى السلطان بقلعة الروضة يترجلون عن خيولهم عند البر، ويمشون في طول الجسر إلى القلعة، ولا يمكن أحد من العبور عليه راكبا، سوى السلطان فقط.
ولما كملت تحول إليها بأهله وحريمه، واتخذها دار ملك، وأسكن معه فيها مماليكه البحرية؛ وكانت عدتهم نحو الألف. وما برح الجسر قائما إلى أن خرب المعز أيبك قلعة الروضة بعد سنة ثمان وأربعين وستمائة، فأهمل، ثم عمره الظاهر بيبرس على المراكب، وعمله من ساحل مصر إلى الروضة، ومن الروضة إلى الجيزة، لأجل عبور العسكر عليه لما بلغه حركة الإفرنج.
وقال علي بن سعيد في كتاب المغرب -وقد ذكر الروضة: هي أمام الفسطاط فيما بينها وبين مناظر الجيزة، وبها مقياس النيل، وكانت متنزها لأهل مصر، فاختارها الصالح بن كامل سرير السلطنة، وبنى فيها قلعة مسورة بسور ساطع اللون، محكم(2/383)
البناء، عالي السمك، لم تر عيني أحسن منه، وفي هذه الجزيرة كان الهودج الذي بناه الآمر الخليفة لزوجته البدوية التي هام في حبها، والمختار بستان الإخشيد وقصره، وله ذكر في شعر تميم بن المعز وغيره. ولشعراء مصر في هذه الجزيرة أشعار منها قول أبي الفتح بن قادوس الدمياطي:
أرى سرح الجزيرة من بعيد ... كإحداق تغازل في المغازل
كأن مجرة الجوزاء خطت ... وأثبتت المنازل في المنازل
وكنت أبيت بعض الليالي في الفسطاط على ساحلها، فيزدهيني ضحك البدر في وجه النيل. أما سور هذه الجزيرة الدري اللون، فلم ينفصل عن مصر حتى كمل سور هذه القلعة، وفي داخله من الدور السلطانية ما ارتفعت إليه همة بانيها، وهو من أعظم السلاطين همة في البناء، وأبصرت في هذه الجزيرة إيوانًا لجلوسه لم تر عيني مثاله، ولا يقدر ما أنفق عليه، وفيه من الكتابة بصفائح الذهب والرخام الأبنوسي والكافوري والمجزع ما يذهل الأفكار، ويستوقف الأبصار، ويفصل عما أحاط به السور أرض طويلة في بعضها حاظر حظر على أصناف الوحوش التي يتفرج فيها السلطان، وبعدها بروج يتقطع فيها مياه النيل، فينظر فيها أحسن منظر، وقد تفرجت كثيرًا في طرق هذه الجزيرة مما يلي بر القاهرة، فقطعت بها عشيات مذهبات، لا تزال لأحزان الغربة مذهبات، وإذا زاد النيل فصل ما بينها وبين الفسطاط بالكلية. وفي أيام احتراق النيل يتصل برها ببر السلطان من جهة خليج القاهرة، ويبقى موضع الجسر يكون فيه المراكب.
وركبت مرة في هذا النيل أيام الزيادة مع الصاحب المحسن محيي الدين بن بندار وزير الجزيرة، وصعدنا إلى جهة الصعيد ثم انحدرنا، واستقبلنا هذه الجزيرة وأبراجها تتلألأ، والنيل قد انقسم عنها، فقلت:(2/384)
تأمل لحسن الصالحية إذ بدت ... مناظرها مثل النجوم تلالا
وللقلعة الغراء كالبدر طالعا ... يفرج صدر الماء عنه هلالا
ووافى إليها الماء من بعد غيبة ... كما زار مشغوفا يروم وصالا
وعانقها من فرط شوق لحسنها (1) ... فمد يمينا نحوها وشمالا
ولم تزل هذه القلعة عامرة، حتى زالت دولة بني أيوب، فلما ملك السلطان الملك المعز عز الدين أيبك التركماني أول ملوك الترك بمصر، أمر بهدمها، وعمر
منها مدرسته المعروفة بالمعزية في رحبة الحناء بمدينة مصر، وطمع في القلعة من له جاه، وأخذ جماعة منها عدة سقوف وشبابيك وغير ذلك، وبيع من أخشابها ورخامها أشياء جليلة، فلما صارت مملكة مصر إلى السلطان الملك الظاهر بيبرس البندقداري اهتم بعمارة قلعة الروضة، ورسم للأمير جمال الدين موسى بن يغمور أن يتولى عمارتها كما كانت. فأصلح بعض ما تهدم منها، ورتب بها الجاندارية وأعادها إلى ما كانت عليه من الحرمة، وأمر بأبراجها ففرقت على الأمراء، وأعطى برج الزاوية للأمير سيف الدين قلاوون الألفي، والبرج الذي يليه للأمير عز الدين الحلي، والبرج الثالث من برج الزاوية للأمير عز الدين أدغان، وأعطى برج الزاوية الغربي للأمير بدر الدين الشمسي، وفرقت بقية الأبراج على سائر الأمراء. ورسم أن يكون بيوت جميع الأمراء وإصطبلاتهم فيها، وسلم المفاتيح لهم. فلما تسلطن الملك المنصور قلاوون، وشرع في بناء المارستان والقبة والمدرسة المنصورية نقل من قلعة الروضة هذه ما يحتاج إليه من العمد الصوان، والعمد الرخام التي كانت قبل عمارة القلعة بالبرابي، وأخذ منها رخاما كثيرا، وأعتابا جليلة، مما كان بالبرابي وغير ذلك. ثم أخذ منها السلطان الناصر محمد بن قلاوون ما احتاج إليه
_________
(1) ط: "وحسنها".(2/385)
من العمد الصوان في بناء الإيوان المعروف بدار العدل من قلعة الجبل، وبالجامع الجديد الناصري ظاهر مدينة مصر، وأخذ غير ذلك حتى ذهبت كأن لم تكن.
قال المقريزي: وتأخر منها عقد جليل تسمية العامة القوس، كان مما يلي جانبها الغربي أدركناه باقيا إلى نحو سنة عشرين وثمانمائة، وبقي من أبراجها عدة قد انقلب كثير منها، وبنى الناس فوقها دورهم المطلة على النيل، وعادت الروضة بعد هدم القلعة منها متنزهًا، تشتمل على دور كثيرة، وبساتين عدة، وجوامع تقام بها الجمعات والأعياد، ومساجد. وفي الروضة يقول الأسعد بن مماتي:
جزيرة مصر لاعدتك مسرة ... ولا زالت اللذات فيك اتصالها (1)
فكم فيك من شمس على غصن بانة ... يميت ويحيي هجرها ووصالها
مغانيك فوق النيل أضحت هوادجًا ... ومختلفات الموج فيها جمالها
ومن أعجب الأشياء جنة ... ترف على أهل الضلال ظلالها
وقال ظافر الحداد:
انظر إلى الروضة الغراء والنيل ... واسمع بدائع تشبيهي وتمثيلي (2)
وانظر إلى البحر مجموعا ومفترقًا ... هناك أشبه شيء بالسراويل
والريح تطويه أحيانا وتنشره ... نسيمها بين تفريك وتعديل
الأسعد بن مماتي في الروضة، وقد حلها السلطان الملك الكامل:
جزيرة مصر، أنت أشرف موضع ... على الأرض لما حل فيك محمد
وفيك علا البحران لكن كف ذا ... على الناس أندى بالعطاء وأجود
وأصبحت الأغصان من فرح به ... تمايل، والأطيار فيك تغرد
يرق نسيم حين سار وجدول (3) ... ويشدو هزاز حين يرقص أملد
_________
(1) ح: "فما زالت".
(2) حلية الكميت 265.
(3) ح: "فرق نسيم".(2/386)
ذكر خليج مصر:
قال المقريزي: هذا الخليج بظاهر فسطاط مصر، ويمر من غربي القاهرة، وهو خليج قديم احتفره بعض قدماء ملوك مصر، بسبب هاجر أم إسمعيل حين أسكنها إبراهيم عليه السلام بمكة، ثم تمادته الدهور والأعوام، فجدد حفره ثانيا بعض من ملك مصر من ملوك الروم بعد الإسكندر، فلما فتحت مصر على يد عمرو بن العاص، جدد حفره بإشارة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فحفر عام الرمادة، وكان يصب في بحر القلزم كما تقدم في أول الكتاب، ولم يزل على ذلك إلى أن قام محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب بالمدينة، فكتب الخليفة المنصور إلى عامله بمصر أن يطم هذا الخليج حتى لا تحمل الميرة من مصر إلى المدينة، فطم وانقطع من حينئذ اتصاله ببحر القلزم، وصار على ما هو عليه الآن.
وكان هذا الخليج يقال له أولا: خليج أمير المؤمنين -يعني عمر بن الخطاب-؛ لأنه الذي أشار بتحديد حفره، ثم صار يقال له: خليج مصر؛ فلما بنيت القاهرة بجانبه من شرقيه صار يعرف بخليج القاهرة، والآن تسميه العامة بالخليج الحاكمي. وتزعم أن الحاكم احتفره، وليس بصحيح. وكان اسم الذي حفره في زمن إبراهيم عليه السلام طوطيس (1) ، وهو الجبار الذي أراد أخذ سارة، وجرى له معها ما جرى، ووهب لها هاجر. فلما سكنت هاجر مكة وجهت إليه تعرفه أنها بمكان جدب، فأمر بحفر نهر في شرقي مصر بسفح الجبل حتى ينتهي إلى مرفأ السفن في البحر الملح؛ فكان يحمل إليها الحنطة، وأصناف الغلات، فتنقل إلى جدة، ويحمل من هناك على المطايا، فأحيا بلد الحجاز مدة. وكان اسم الذي حفره ثانيا أرديان (2) قيصر، وكان عبد العزيز بن مروان بنى عليه قنطرتين في سنة تسع وستين، وكتب اسمه عليها، ثم جددهما تكين أمير مصر
_________
(1) في المقريزي: "طوطيس بن ماليا".
(2) في المقريزي: "أندرومانوس".(2/387)
في سنة ثماني عشرة وثلاثمائة، ثم جددهما الإخشيد في سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة، ثم عمرتا في
أيام العزيز، وكان موضع هاتين القنطرتين خلف خط السبع سقايات، وهي التي كانت تفتح عند وفاء النيل في زمن الخلفاء، وكان الخليفة يركب لفتح الخليج. فلما انحسر النيل عن ساحل مصر، وربا الجرف أهملت هذه القنطرة فدثرت، وعملت قنطرة السد عند فم بحر النيل، وكان الذي أنشأها الملك الصالح أيوب في سنة بضع وأربعين وستمائة (1) .
قال ابن عبد الظاهر: وأول من رتب حفر خليج القاهرة على الناس المأمون بن البطائحي، وجعل عليه واليًا بمفرده.
ولأبي الحسن بن الساعاتي في كسر يوم الخليج:
إن يوم الخليج يوم من الحسن ... بديع المرئي والمسموع
كم لديه من ليث غاب صئول ... ومهاة مثل الغزال المروع
وعلى السد عزة قبل ... أن تملكه ذلة المحب الخضوع
كسروا جسره هناك فحاكى ... كسر قلب يتلوه فيض دموع
_________
(1) المقريزي 1: 114 مع تصرف.(2/388)
ذكر الخليج الناصري:
حفره الملك الناصر محمد بن قلاوون في سنة خمس وعشرين وسبعمائة، لما بنى الخانقاه بسرياقوس، فأراد إجراء الماء من النيل إليها ليرتب عليه السواقي والزراعات، وفوض أمره إلى أرغون النائب، فحفره في مدة شهرين من أول جمادى الأولى إلى سلخ جمادى الآخرة، وبنى فخر الدين ناظر الجيش عليه قنطرة، وبنى قديدار والي القاهرة قنطرة قديدار، وقناطر الأرز وقناطر الأميرية (1) .
_________
(1) انظر المقريزي 1: 115.(2/389)
ذكر بركة الحبش:
قال ابن المتوج: هذه البركة مشهورة في مكانها، وقد اتصل وقفها على قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة على أنها وقف على الأشراف الأقارب والطالبيين نصفين بينهما بالسوية، النصف على الأقارب والنصف على الطالبيين، وثبت قبله عند قاضي القضاة بدر الدين يوسف السنجاري أن النصف منها وقف على الأشراف الأقارب بالاستفاضة بتاريخ ثاني عشر ربيع الآخر سنة أربعين وستمائة، وثبت قبله عند قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بالاستفاضة أيضا أنها وقف على الأشراف، والطالبيين بتاريخ التاسع والعشرين من ربيع الآخر سنة أربعين وستمائة.
وفي سنة إحدى وأربعين وسبعمائة أمر الناصر بن قلاوون بحفر خليج من النيل إلى حائط الرصد ببركة الحبش، وحفر عشر آبار كل بئر أربعون ذراعا، يركب عليها السواقي ليجري الماء منها إلى القناطر التي تحمل الماء إلى القلعة، فشق الخليج من مجرى رباط الآثار، وكان مهما عظيما، وأمر الناصر في هذه السنة بتجديد جامع راشدة، وكان قد تهدم غالبه.
ظافر الحداد في بركة الحبش:
تأملت نهر النيل طولا وخلفه ... من البركة الغناء شكل مقدر
فكان وقد لاحت بشطيه خضرة ... وكانت وفيها الماء باق موفر
غمامة شرب في جواشن خضرة ... أضيف إليها طيلسان مقور
أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي:
لله يوم ببركة الحبس ... والأفق بين الضياء والغَبَش (1)
والنيل بين الرياح مضطرب ... كصارم في يمين مرتعش
ونحن في روضة منوقة ... دبج بالنور عطفها ووُشي
قد نسجتها يد الغمام لنا ... فنحن من نسجها على فُرُشِ
_________
(1) حلبة الكميت: 269.(2/390)
ذكر ما قيل في الأنهار والأشجار زمن الشتاء والربيع من الأشعار:
شمس الدين بن التلمساني:
ولما جلا فصل الربيع محاسنًا ... وصفق ماء النهر إذ غرد القمري
أتاه النسيم الرطب رقص دوحه ... فنقط وجه الماء بالذهب المصري
وقال:
تغنت في ذرا الأوراق ورق ... ففي الأفنان من طرب فنون
وكم بسمت ثغور الزهر عجبا ... وبالأكمام قد رقصت غصون
أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن فتحون المخزومي يصف نارنجة في نهر:
ولقد رميت مع العشي بنظرة ... في منظر غض البشاشة يبهج
نهر صقيل كالحسام بشطه ... روض لنا تفاحه يتأرج
تثني معاطفه الصبا في بردة ... موشية بيد الغمامة تنسج
والماء فوق صفاته نارنجة ... تطفو به وعبابه يتموج
حمراء قانية الأديم كأنها ... وسط المجرة كوكب يتأجج
القاضي عياض:
كأنما الزرع وخاماته (1) ... وقد تبدت فيه أيدي الرياح
كتائب تجفل مهزومة ... شقائق النعمان فيها جراح
كتب القاضي شهاب الدين بن فضل الله إلى الأمير الجائي الدوادار:
بلد أنت ساكن في رباها ... بلد تحسد الثريا ثراها
_________
(1) الخامة: الرطبة الغضة.(2/391)
قد تعالت إلى السماء بسكنا ... ك، على البطاح رداها
جمد الطل في الزهور فخلنا ... أنه عقد جوهر لرباها
وجرى الماء في الرياض فقلنا: ... كسرت فوقه الغواني (1) حلاها
مثلما أنت في معانيك فرد ... هي فرد البلاد في معناها
يقبل الأرض، وينهي أنه لما عبر على هذه الربا المعشبة، والغدران التي كأنها صفائح فضة مذهبة، ثم مر على قرية تعرف بوسيم، تفتر من شنب زهرها عن ثغر بسيم، استحسن مرآها، ونظم في معناها، ما يعرضه على الخاطر الكريم، ليوقف المملوك توقيف عليم، أو يتجاوز عن تقصيره تجاوز حليم:
لمصر فضل باهر ... لعيشها الرغد النضر (2)
في كل سفح يلتقي ... ماء الحياة والخضر
وكذلك:
ما مثل مصر في زمان ربيعها ... لصفاء ماء واعتلال نسيم
أقسمت ما تحوي البلاد نظيرها ... لما نظرت إلى جمال وسيم
وقال:
ما بين أكناف البطاح ... مسك يذر على الرياح
من حيث يلقى الروض في ... أزهارها ريان ضاحي
والريح في السحر البهيم ... يطير مسكي الجناح
تسري فتغتبق الغصون ... بها على عين الصباح
والنيل في تياره ... المنصب مهتز الصفاح
وبه السفائن كالجبال ... تجول أمثال القداح
_________
(1) ط: "المغاني".
(2) المقريزي 2: 2: 194.(2/392)
فركبت من صهواتها ... دهماء ساكنة الجماح (1)
حراقة تجري على ... اسم الله في الماء القراح
والأفق مثل حديقة ... خضراء مزهرة النواحي
تحكي المجرة بينها ... نهر تدفق في أقاح
واقتادت الجوزاء لليل ... البهيم إلى الرواح
فكأنه زنجية ... جذبت بأطراف الوشاح
وبدا الصباح كوجه أل ... جائي المهلل لامتداحي
وقال:
وحديقة غنى الربا ... ب لها بتوقيع السحاب
فتمايلت حتى لقد ... رقصت على صوت الرباب
وقال:
في نيل مصر مراكب ... تحوي بدور المواكب
فكم بها الفلك في مج ... راه تسري الكواكب
ابن عبد الظاهر:
روض به أشياء ليست في ... سواه تؤلف
فمن الهزار تهازر ... ومن القضيب تقصف
ومن النسيم تلطف ... ومن الغدير تعطف
نور الدين علي بن سعد الغماري الأندلسي:
كأنما النهر صفحة كتبت ... أسطرها والنسيم منشئها
لما أبانت عن حسن منظرها ... مالت عليه الغصون تقرؤها
_________
(1) ح: "الجناح".(2/393)
الصلاح الصفدي:
قال خلي: بالله صف أرض مصر ... وقت كتانها بوصف محقق
قلت: أرض بالنيل يروى ثراها ... فلهذا الكتان نور أزرق
وقال:
لم لا أهيم بمصر ... وأرتضيها وأعشق (1)
ولم ترى العين أحلى ... من مائها أن تملق
ابن الواسطى:
كأنما السفن بأرجائها ... وهي على الماء جريات
عقارب في رفع أذنابها ... تسري على أبطن حيات
ابن الساعاتي:
ولقد ركبت البحر وهو كحلية ... والموج تحسبه جيادًا تركض
وكأنما سلت به أمواجه ... بيضاء تذهب تارة وتفضض
كل يصح إذا تصح حياته ... إلا النسيم يصح ساعة يمرض
مجير الدين بن تميم:
يا حسنه من جدولٍ متدفقٍ ... يلهي برونق حسنه من أبصرا
ما زلت أنذره عيونًا حوله ... خوفًا عليه أن يصاب فيعثرا
فأبى وزاد تماديًا في جريه ... حتى هوى من شاهقٍ فتكسرا
وقال:
وحديقة مالت بعا ... طف دوحها من غير سكر
والنهر ساج قد غدا ... بسعادة الأغصان يجري
_________
(1) حلبة الكميت: 262.(2/394)
وقال:
لم لا أهيم إلى الرياض وحسنها ... وأظل منها تحت ظل واف
والروض حياتي بثغر باسم ... والماء يلقاني بقلب صاف
وقال:
ونهر خالف الأهواء حتى ... غدت طوعًا له في كل أمر
إذا سرقت حلى الأغصان ألقت ... إليه بها فيأخذها ويجري
وقال:
تأمل إلى الدولاب والنهر إذ جرى ... ودمعها بين الرياض غدير
كأن نسيم الروض قد ضاع منهما ... فاصبح ذا يجري وذاك يدور
ناصر الدين بن النقيب:
وروضة توسوس الغصن بها ... لما هدى فيها النسيم الشمال
قد جن في أرجائها جدولها ... فهو على وجه الثرى سلسال
آخر:
وحديقة باكرتها مطولة ... والشمس ترشف ريق أزهار الربا
يتكسر الماء الزلال على الحصا ... فإذا أتى نحو الرياض تشعبا
آخر:
مياه بوجه الأرض تجري كأنها ... صفائح تبر قد سبكن جداولا
كأن بها من شدة الجري جنة ... وقد ألبستهن الرياح سلاسلا
ابن قزل:
كأنما النهر إذ مر النسيم به ... والغيم يهمي وضوء البرق حين بدا
رشق السهام ولمع البيض يوم وغى ... خاف الغدير سطاها فاكتسى زردا(2/395)
آخر:
يا حسن وجه النهر حين بدا ... والسحب تهطل فوقه هطلا
فكأنه درع وقد ملأت ... أيدي الكماة عيونه نبلا
الغزي:
في روضة قرن النهار نجومها ... بسنا ذكاء فزادهن توقدا
وانجز فوق غديرها ذيل الصبا ... سحرًا فأصبحت الصفيحة مبردا
تاج الدين مظفر الذهبي:
وجدول خط فيه ... سطر بكف القبول
بدا عليه ارتعاش ... كذاك خط القليل (1)
الشهاب محمود:
والسرو مثل عرائس ... لفت عليهن الملاء
شمرن فضل الأزر عن ... سوق خلاخلهن ماء
والنهر كالمرآة تبصر وجه ... ها فيه السماء
قاضي القضاة مجير الدين بن العديم:
كأنما (2) النهر وقد حفت به ... أشجاره فصافحته الأغصن
مرآة غيد قد وقفن حولها ... ينظرن فيها: أيهن أحسن!
آخر:
شجرات الخريف تكثر من ... غير سؤال إلى الرياح نشاطًا
تتعرى من لبسها وهو تبر ... ثم تلقيه للنديم بساطا
آخر:
انظر إلى الروض النض ... ير فحسنه للعين قره
_________
(1) ح: "حظ".
(2) ح، ط: "كأنها" تحريف.(2/396)
فكأن خضرته السما ... ء ونهره فيه المجره
ابن وكيع:
غدير يجعد أمواهه ... هبوب الرياح ومر الصبا
إذا الشمس من فوقه أشرقت ... توهمته جوشنًا مذهبا
سيف الدين علي بن قزل:
في يوم غيم من لذاذة جوه ... غنى الحمام وطابت الأنداء
والروض بين تكبر وتواضع ... شمخ القضيب به وخر الماء
آخر:
أيا حسنها من روضة ضاع نشرها ... فنادت عليه في الرياض طيور
ودولابها أضحى تعد ضلوعه ... لكثرة ما يبكي بها ويدور
سعد الدين بن شيخ الصوفية محيي الدين بن عربي:
شاهدت دولابًا له أدمع ... تكلفت اللروض بالري
فاعجب له من فلك دائر ... ما فيه برج غير مائي
آخر:
وناعورة فارقت ... بواكي من جنسها
تدور على قلبها ... وتبكي على نفسها
وجيه الدين المناوي:
فوارة تحسب من حسنها ... سبيكة من فضة خالصه
تلهيك بالحسن فقد أصبحت ... جارية ملهية راقصه
الصلاح الصفدي:
النهر مولى والنسيم خديمه ... هذا كلام لست فيه أشكك(2/397)
ولو لم يكن في خدمة النهر انبرى ... ما كان يصقل ثوبه ويفرك
وقال:
لما زها زهر الربيع بروضة ... وغدا له الفضل المبين عليه
قام الحمام له خطيبا بالثنا ... وجرى الغدير فخر بين يديه
مجير الدين بن تميم:
تكسر الماء لما أن جرى فغدا الد ... دولاب يندبه شجوًا ويبكيه
وأصبح الغصن بالأوراق ملتطمًا ... والورق فوق كراسي الدوح ترثيه
وقال:
والنهر مذ علق الغصون محبة ... أضحت تطيل صدوده وجفاه
فنراه يجري لائمًا إقدامها ... وخريره شكوى الذي يلقاه
وقال:
بعث الربيع رسالة بقدومه ... للروض، فهو بقربه فرحان
ولطيب ما قرأ الهزار بشدوه ... مضمونها مالت له الأغصان
شمس الدين بن التلمساني:
كأنما البرق خلال السما ... من فوق غيم ليس بالكابي
طراز تبر في قبا أزرق ... من تحته فروة سنجاب
وقال:
فصل الشتا منح النواظر نضرة ... لما كسا الألوان وهي عوار
لم يلبس الغبراء لين مطارف ... حتى كسا الزرقاء بيض إزار
مجير الدين بن تميم:
ودولاب روض كان من قبل أغصنا ... تميس فلما فرقتها يد الدهر(2/398)
تذكر عهدًا بالرياض فكله ... عيون على أيام عصر الصبا تجري
آخر:
وناعورة قد ضاعفت بنواحها ... نواحي وأجرت (1) مقلتي دموعها
وقد ضعفت مما تئن وقد غدت ... من الضعف والشكوى تعد ضلوعها
نور الدين علي بن سعد الأندلسي:
لله دولاب يفيض بسلسل ... في روضة قد أينعت أفنانًا
قد طارحت فيه الحمام بشجوها ... ونحيبها فترجع الألحانا
فكأنه دنف يطوف بمعهد ... يبكي ويسأل فيه عمن بانا
ضاقت مجاري طرفه عن دمعه ... فتفتحت أضلاعه أجفانا
ابن منير الطرابلسي في ناعورة:
هي مثل الأفلاك شكلا وفعلا ... قسمت قسم جاهل بالحقوق
بين عال سام يُنَكِّسه الحظ ... ويعلو بساحل مرزوق
آخر:
النهر مكسو غلالة فضة ... فإذا جرى سيل فثوب نضار
وإذا استقام رأيت صفحة منصل ... وإذا استدار رأيت عطف سوار
إبراهيم بن خفاجة الأندلسي:
النهر قد رقت غلالة خصره ... وعليه من صبغ الأصيل طراز (2)
تترقرق الأمواج فيه كأنها ... عكن الخصور تهزها الأعجاز
بعضهم:
إن هذا الربيع شيء عجيب ... تضحك الأرض من بكاء السماء
_________
(1) ط: "وأحرق".
(2) نهاية الأرب 1: 283، ونسبه إلى أبي مروان بن أبي الخصال.(2/399)
ذهب حيثما ذهبنا ودر ... حيث درنا وفضة في الفضاء
ابن قلاقس:
كأنما الرعد والسحاب وقد ... حلا سويًّا والبرق قد لاحا
ثلاثة من عدوهم نفروا ... وقد غدا نحوهم وقد راحا
فسل ذا سيفه، وبكى ... هذا، وهذا من خيفة صاحا(2/400)
ذكر الرياحين والأزهار الموجودة في البلاد المصرية، وما ورد فيها من الآثار النبوية، والأشعار الأدبية والإشارات الصوفية:
ما ورد في الفاغية:
وهي نور الحناء.
أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن بريدة، قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سيد الرياحين في الدنيا والآخرة الفاغية".
وأخرج البيهقي عن أنس، قال: كان أحب الرياحين إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الفاغية.
ما ورد في الورد:
رويت فيه أحاديث كلها موضوعة، منها حديث علي مرفوعا: "لما أسري بي إلى السماء، سقط إلى الأرض من عرقي، فنبت منه الورد، فمن أحب أن يشم رائحتي فليشم الورد". أخرجه ابن عدي في كامله.
وحديث أنس مرفوعا: "الورد الأبيض خلق من عرقي ليلة المعراج، وخلق الورد الأحمر من عرق جبريل، وخلق الورد الأصفر من عرق البراق"، أخرجه ابن فارس في كتاب الريحان.
والحديثان أوردهما ابن الجوزي في الموضوعات، ونص على وضع الثاني أيضا الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر.(2/401)
قال صاحب مباهج الفكر: كان الخليفة المتوكل قد حمى الورد، ومنعه من الناس كما حمى النعمان بن المنذر الشقيق واستبد به، وقال: لا يصلح للعامة، فكان لا يرى إلا في مجلسه. وكان يقول: أنا ملك السلاطين، والورد ملك
الرياحين، وكل منا أولى بصاحبه. وغلى هذا أشار ابن سكرة بقوله:
للورد عندي محل ... لأنه لا يمل
كل الرياحين جند ... وهو الأمير الأجل
إن جاء عزوا وتاهوا ... حتى إذا غاب ذلوا
قال ابن البيطار في مفرداته: الورد أصناف: أحمر، وأبيض، وأصفر، وأسود. زاد غيره: وأزرق.
وحكى صاحب كتاب نشوار المحاضرة، أنه رأى وردا أسود حالك السواد، له رائحة ذكية، وأنه رأى بالبصرة وردة نصفها أحمر قاني الحمرة، ونصفها الآخر أبيض ناصع البياض، والورقة التي وقع الخط فيها كأنها مقسومة بقلم (1) .
قال صاحب مباهج الفكر: رأينا بثغر الإسكندرية الورد الأصفر كثيرا، وعددت ورق وردة، فكانت ألف ورقة.
قال: وحكى لي بعض الأصحاب أنه رأى بحلب ورقة لها وجهان: أحدهما أحمر والآخر أصفر.
قال: وحكى بعض الأصحاب أنه رأى آبارًا تجري إلى شجر الورد ماء مخلوطا بالنيل، فسأله فقال: إن الورد يكون أزرق بهذا العمل.
قال صاحب المباهج: والظاهر من الورد الأسود، أنه احتيل عليه كذلك. وقال
_________
(1) نقله صاحب نهاية الأرب 11: 185، وبعده: "وفيه ماله وجهان: أحمر وأبيض، ويقال: إنه ربما وجد ورد أحد وجهي الورقة منه أحمر قانئ، والآخر أصفر".(2/402)
الحافظ الذهبي في الميزان: روى قريش عن أنس عن كليب بن وائل -وكليب نكرة لا يعرف- أنه رأى بالهند ورقا في الوردة مكتوب فيه "محمد رسول الله".
وروى ابن العديم في تاريخه بسنده إلى علي بن عبد الله الهاشمي الرقي، قال: دخلت الهند، فرأيت في بعض قراها وردة كبيرة طيبة الرائحة، سوداء، عليها مكتوب بخط أبيض "لا إله إلا الله محمد رسول الله، أبو بكر الصديق، عمر الفاروق". فشككت في ذلك، وقلت: إنه معمول، فعمدت إلى وردة لم تفتح،
ففتحتها، فكان فيها مثل ذلك، وفي البلد منه شيء كثير، وأهل تلك القرية يعبدون الحجارة، لا يعرفون الله عز وجل.
ويقال: ورد جور، ونرجس جرجان، ونيلوفر شروان، ومنثور بغداد، وزعفران قم، وشاهسبرم سمرقند (1) .
قال أبو العلاء صاعد الأندلسي في باكورة ورد:
ودونك يا سيدي وردة ... يذكرك المسك أنفاسها
كعذراء أبصرها مبصر ... فغطت بأكمامها راسها
آخر:
وردة تحكي أمام الورد ... طليعة سابقة للجند
قد ضمها في الغصن قر البرد ... ضم فم لقبلة من بعد
أبو عبادة البحتري:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا ... من الحسن حتى كاد أن يتكلما (2)
وقد نبه النوروز في غسق الدجى ... أوائل ورد كن بالأمس نوما (3)
_________
(1) الشاهسبرم: الريحان.
(2) ديوانه 2: 234، نهاية الأرب 11: 189.
(3) النوروز والنيروز -والثاني أشهر- أول يوم من السنة الشمسية، وعند الفرس يوم نزول الشمس أول الحمل.(2/403)
يفتحه برد الندى فكأنما ... يبث حديثا بينهن مكتما
محمد بن عبد الله بن طاهر:
أما ترى شجرات الورد مظهرة ... لنا بدائع قد ركبن في قصب (1)
كأنهن يواقيت يطيف بها ... زبرجد وسطه شذر من الذهب
يقال: إنه نظم هذين البيتين من قول أزدشير بن بابك، وقد وصف الورد: وهو در أبيض، وياقوت أحمر، على كراسي زبرجد أخضر، بوسطه شذر من ذهب أصفر.
الناشي:
قضب الزبرجد قد حملن عقائقا ... أثمارهن قراضة العقيان (2)
وكأن دمع القطر في أهدابه (3) ... دمع مرته (4) فواتر الأجفان
محمد بن عبد الله بن طاهر:
مداهن من يواقيت مركبة ... على الزبرجد في أجوافها ذهب (5)
كأنه حين يبدو من مطالعه ... صب يقبل حبا وهو يرتقب
خاف الملال إذا طالت إقامته ... فظل يظهر أحيانا ويحتجب
أبو طالب الرقي:
ووردة من نبات معطار ... حيت بها في لطيف أسرار (6)
كأنها وجنة الحبيب وقد ... نقطها عاشق بدينار
_________
(1) نهاية الأرب 11: 189.
(2) نهاية الأرب 11: 189، وفيه: "حملن شقاشقا".
(3) نهاية الأرب: "وكأن قطر الطل".
(4) ط، ح: "فرته"، والصواب ما أثبته من نهاية الأرب والأصل.
(5) نهاية الأرب 11: 189، وقبل هذا البيت:
أما ترى الورد يدعو للورود إلى ... خمر معتقة في لونها صهب
(6) ط: "حب بها"؟(2/404)
العماد الأصبهاني:
قلت للورد ما لشوكك يدمي ... كل ما قد سعرت منه جراحي (1)
قال لي: هذه الرياحين جندي ... أنا سلطانها وشوكي سلاحي
في الورد الأصفر لبعضهم:
رعى الله وردا غدا أصفرا ... بهيا نضيرا يحاكي النضارا (2)
وأسقى غصونا به أثمرت ... وحملن منه شموسًا صغارا
المؤيد الطغرائي:
شجرات ورد أصفر تخذت ... في قلب كل متيم طربا (3)
سبكت يد الغيم اللجين لها ... فكسته صبغا مونقا عجبا
من ذا رأى من قبله شجرًا ... سقي اللجين فأثمر الذهبا (4)
وقال:
ألم تر أن جند الورد وافى ... بصفر من مطارده وخضر
أتى مستلئمًا بالشوك فيه ... نصال زمرد وتراس تبر
في الورد الأزرق من وصف بستان لبعضهم:
وبه وارد من الورد قد ... أينع في رقة الهواء اللطيف (5)
_________
(1) نهاية الأرب 11: 190.
(2) نهاية الأرب: 11: 194.
(3) نهاية الأرب 11: 194، وفيه: "بعثت".
(4) بعده في نهاية الأرب:
خرطت نهود زبرجد حملت ... أجوافها من عجد لعبا
فإذا الصبا فتقت كمائمها ... سحرا، وماد الغصن وانتصبا
شبهتها بخريدة طرحت ... في الخصر من أثوابها لهبا
(5) نهاية الأرب 11: 195.(2/405)
شبهوه بدمعة العاشق الآ ... لف نالته جفوة من أليف
فهو يحكيه زرقة ومثال ... القرص لونًا في خد ظبي تريف (1)
ورق أزرق كزرق يواقيت ... تطلعن من لجين مشوف (2)
في الورد الأبيض للسري الرفاء:
وروض كساه الغيث إذ جاد دمعه ... مجاسد وشي من بهار ومنثور (3)
بدا أبيض الورد الجني كأنما ... تنسم للناشي بمسك وكافور (4)
كأن اصفرارًا منه تحت ابيضاضه ... برادة تبر في مداهن بلُّور
في الورد الأسود لأبي أحمد الطراري:
لله أسود ورد ظل يلحظنا ... من الرياض بإحداق اليعافير (5)
كأنها وجنات الزنج نقطها ... كف الإمام بأنصاف الدنانير
آخر:
وورد أسود خلناه لما ... تنشق نشره ملك الزمان (6)
مداهن عنبر غض وفيها ... بقايا من سحيق الزعفران
علي بن الرومي يهجو الورد:
يا مادح الورد لا ينفك من غلطه ... ألست تنظره في كف ملتقطه (7) ؟
كأنه سرم بغل حين يبرزه ... عند البراز، وباقي الروث في وسطه
قال ابن المعتز يرد عليه:
_________
(1) في الأصول: "ينزلف"، وما أثبته من نهاية الأرب، والتريف: المترف المتنعم.
(2) المشوف: المجلو.
(3) نهاية الأرب 11: 193.
(4) في الأصول: "تبسم" وما أثبته من نهاية الأرب والناشي: اسم فاعل من قولهم: "نشيت منه ريحًا طيبة".
(5) نهاية الأرب 11: 195، ونسبها إلى مؤيد الدين الطغرائي، واليعافير: الظباء التي بلون العفر وهو التراب.
(6) نهاية الأرب 11: 196.
(7) نهاية الأرب 11: 192.(2/406)
يا هاجي الورد لا حييت من رجل ... غلطت، والمرء قد يؤتى على غلطه
هل تنبت الأرض شيئا من أزاهرها ... إذا تحلت يحاكي الوشى من نمطه
أحلى وأشهر من ورد له أرج ... كأنما المسك مذرور على وسطه
علي بن الرومي يفضل النرجس على الورد:
أيها المحتج للور ... د بزور ومحال
ذهب النرجس بالفضل ... فأنصف في المقال
لا تقاس الأع ... ين النجل بأسرام البغال
أبو هلال العسكري يرد عليه:
أفضل الورد على النرجس ... لا أجعل الأنجم كالأشمس (1)
ليس الذي يقعد في مجلس ... مثل الذي يمثل في مجلس
علي بن سعيد المؤرخ:
من فضل النرجس فهو الذي ... يرضى بحكم الورد إذ يرأس
أما ترى الورد غدا قاعدًا ... وقام في خدمته النرجس
والناس يشبهون عدم دوام الورد بقلة بقاء الود، ولهذا كتب أبو دلف إلى عبد الله بن طاهر يعاتبه:
أرى حبكم كالورد ليس بدائم ... ولا خير فيمن لا يدوم له عهد (2)
وودي لكم كالآس حسنًا ونضرة ... له زهرة تبقى إذا فني الورد
فأجابه عبد الله بن طاهر:
وشبهت ودي الورد وهو شبيهه ... هل زهرة إلا وسيدها الورد
ووودك كالآس المرير مذاقه ... وليس له في القلب قبل ولا بعد
_________
(1) نهاية الأرب 11: 192.
(2) نهاية الأرب 11: 192، 193.(2/407)
واعتذر ديك الجن عن قلة لبث الورد فقال:
للورد حسن وإشراق إذا نظرت ... إليه عين محب هاجه الطرب
خلاف الملال إذا دامت إقامته ... فصار يظهر حينًا ثم يحتجب
ما ورد في النرجس:
روى فيه حديث موضوع، أخرجه الديلمي في مسند الفردوس، وابن الجوزي في الموضوعات بسند مسلسل بالقضاة عن علي مرفوعا: "شموا النرجس ولو في اليوم مرة، ولو في الشهر مرة، ولو السنة مرة، ولو في الدهر مرة، فإن في القلب حبة من الجنون، والجذام والبرص لا يقطعها إلا شم النرجس".
قال بقراط: كل شيء يغذو الجسم والنرجس يغذو العقل.
وقال جالينوس: من كان له رغيف فليجعل نصفه في النرجس، فإنه راعي الدماغ، والدماغ راعي العقل.
وقال الحسن بن سهل: من أدمن شم النرجس في الشتاء أمن البرسام في الصيف.
وقال بعض الأدباء: النرجس نزهة الطرف، وطرف الظرف، وغذاء الروح، ومادة الروح. وكان كسرى أنو شروان مغرمًا بالنرجس، ويقول: هو ياقوت أصفر بين در أبيض على زمرد أخضر.
وقال: إني لأستحيي أن أباضع في مجلس فيه النرجس؛ لأنه أشبه شيء بالعيون الناظرة.
وقال الشاعر:
فإذا قضيت لنا بعين مراقب ... في الحب فليك من عيون النرجس
أبو نواس:
لدى نرجس غض القطاف كأنه ... إذا ما منحناه العيون عيون (1)
_________
(1) نهاية الأرب 11: 23.(2/408)
مخالفة في شكلهن فصفرة (1) ... مكان سواد والبياض جفون
ابن المعتز:
كأن عيون النرجس الغض بيننا ... مداهن تبر حشوهن عقيق
إذا بلهن خلت دموعها ... بكاء جفون كحلهن خلوق
كشاجم:
كأنما نرجسنا ... وقد تبدى من كثب (2)
أنامل من فضة ... يحملن كأسًا من ذهب
الصنوبري:
أضعف قلبي النرجس المضعف ... ولا عجيب إن صبا مدنف
كأنه بين رياحيننا ... أعشار آي ضمها مصحف
ابن مكنسة:
ونرجس إلى حدا ... ثق الربا محدق (3)
كأنما صفرته ... على بياض يقق
أعشار جزء أذهبت ... في ورق من ورق
أبو بكر بن حازم:
ونرجس ككئوس التبر لائحة ... من الزبرجد قد قامت بها ساق (4)
كأنها من عيون هدبها ورق ... لهن من خالص العقيان إحداق
آخر:
وأحسن ما في الوجوه العيون ... وأشبه شيء بها النرجس (5)
_________
(1) نهاية الأرب: "بصفرة".
(2) هاية الأرب 11: 230.
(3) نهاية الأرب 11: 231.
(4) نهاية الأرب 11: 231.
(5) نهاية الأرب 11: 235، ونسبه إلى ابن الرومي.(2/409)
يظل يلاحظ وجه الندي ... م فردًا وحيدًا فيستأنس
الصنوبري:
وعندنا نرجس أنيق ... تحيا بأنفاسه النفوس
كأن أجفانه بدور ... كأن إحداقه شموس
وقال:
أرأيت أحسن من عيون النرجس ... أو من تلاحظهن وسط المجلس (1)
در تشقق عن يواقيت على ... قصب الزبرجد فوق بسط السندس
ابن الرومي:
ونرجس كالثغور مبتسم ... له دموع المحدق الشاكي (2)
أبكاه قطر الندى وأضحكه ... فهو مع القطر ضاحك باكي
وقال:
انظر إلى نرجس في روضة أنف ... غناء قد جمعت شتى من الزهر (3)
كأن ياقوتة صفراء قد طبعت ... في غصنها حولها ست من الدرر
آخر:
أبصرت باقة نرجس ... في كف من أهواه غضه (4)
فكأنها قضب الزبرجد ... قمعت ذهبًا وفضه
ومن رسالة لضياء الدين الأثير يصف منتزها: جاء فيها في وصف النرجس:
_________
(1) نهاية الأرب 11: 231.
(2) نهاية الأرب 11: 232، ونسبه إلى ابن الرومي.
(3) نهاية الأرب 11: 232، ونسبه إلى شاعر أندلسي.
(4) نهاية الأرب 11: 232، وفي الحاشية: "في مباهج الفكر: طاقة" وهو الصواب، فإن الباقة الحزمة من البقل. أما الطاقة فهي من الريحان.(2/410)
فمن جاني نرجس يقول: هذا صاحب القد المائس، والذي عينه عين متيقظ وجيده جيد ناعس، وهو بكر الربيع والبكر أكرم الأولاد على الوالد، وقد جعل ذا لونين اثنين؛ إذ لم يحظ غيره إلا بلون واحد.
ما ورد في البنفسج:
فيه أحاديث ذكرها ابن الجوزي في الموضوعات، منها حديث أبي سعيد مرفوعًا: "فضل دهن البنفسج على سائر الأدهان، كفضلي على سائر الخلق، بارد في الصيف حار في الشتاء". أخرجه ابن حبان في تاريخ الضعفاء والحاكم في تاريخ نيسابور، والديلمي في مسند الفردوس. وورد أيضا بهذا اللفظ من حديث أبي هريرة وأنس أخرجهما الخطيب البغدادي، ومن حديث علي أخرجه ابن الجوزي، وقال في الأربعة: إنها موضوعة.
وأخرج أبو نعيم في الحلية من حديث الحسين بن علي مرفوعًا: "فضل دهن البنفسج على سائر الأدهان، كفضل ولد عبد المطلب على سائر قريش، وفضل البنفسج كفضل الإسلام على سائر الأديان". قال أبو نعيم: هذا حديث غريب من حديث جعفر بن محمد، لم نكتبه إلا بهذا الإسناد عن هذا الشيخ، أفادنا إياه الدارقطني، وأخرجه ابن الجوزي في الموضوعات أيضا.
قال ابن وحشية: البنفسج نوعان: جبلي وبستاني، والجبلي دقيق الورق، أزرق اللون، والبستاني عريض الورق حائك اللون، ويوجد فيه الأبيض على لون الشمع، ولا يوجد إلا بمصر، ويسمى الكوفي. ومن عجيب أمره أن الإنسان إذا تغوط في مجاري الماء إليه مات وذبل، وكذا إن خرج منه ريح في مزرعته، وانه إذا دام عليه الضباب يوما أو نحوه ضعف، ومتى توالي نقصت زهرته، وصغر ورقه، وتغيرت(2/411)
رائحته؛ ومن الأشياء المضادة له القصب، فإنه لا يكاد يفلح بقربه ولا ينمى، وإن وقعت صاعقة على أربعمائة ذراع منه فأقل هلك سريعا. ويفسده أيضا البرد والرعد الشديد المتتابع والسموم وريح الشمال الباردة، والمطر الكثير وماء الآبار والدخان والتراب المقبرة.
ومن رسالة لأبي العلاء عطارد بن يعقوب (1) الخوارزمي يصف بنفسجة: سماوية اللباس، مسكية الأنفاس، واضعة رأسها على ركبتها كعاشق مهجور، تنطوي على قلب مسجور، كبقايا النقش (2) في بنان الكاعب، أو النقس في أصابع الكاتب، أو الكحل في الألحاظ الملاح، المراض الصحاح، الفاترات الفاتنات، المحييات القاتلات، لازوردية أربت بزرقتها على زرق اليواقيت، كأوائل النار في أطراف كبريت، أو القرص في خدود العذارى.
أو عذار خلعت فيه العذارا
أبو القاسم بن هذيل الأندلسي:
بنفسج جمعت أوراقه فحكت ... كحلا تشرب دمعا يوم تشتيت (3)
أو لازوردية أوفت بزرقتها ... وسط الرياض على زرق اليواقيت
كأنه وضعاف القضب تحمله ... أوائل النار في أطراف كبريت
آخر:
بنفسج بذكي الريح مخصوص ... ما في زمانك إذ وافاك تنغيص (4)
كأنما شعل الكبريت منظره ... أو خد أغيد بالتخميش مقروص (5)
_________
(1) نهاية الأرب 11: 229، وفيه: "عطاء بن يوسف السندي".
(2) في الأصول: "النفس"، وصوابه من نهاية الأرب.
(3) نهاية الأرب 11: 226، قال: "ويروى لابن المعتز".
(4) نهاية الأرب 11: 227.
(5) في الأصول: "التحميش"، وصوابه من نهاية الأرب.(2/412)
آخر:
ماس البنفسج في أغصانه فحكى ... زرق الفصوص على بيض القراطيس (1)
كأنه وهبوب الريح تعطفه ... بين الحدائق أعراف الطواويس
آخر في البنفسج الأبيض:
كأن البنفسج فيما حكى ... لطائف أخلاقك المونقه (2)
يلوح ومن تحت طاقاته ... فصوص من الفضة المحرقه
الأمير عبد الله الميكالي:
يا مهديا لي بنفسجا أرجا ... يرتاح صدري له وينشرح (3)
بشرني عاجلا مصحفه ... بأن ضيق الأمور ينفسح
مجير الدين بن تميم الحموي:
عاينت ورد الروض يلطم خده ... ويقول وهو على البنفسج محنق
لا تقربوه وإن تضوع نشره ... ما بينكم فهو العدو الأزرق
آخر:
بنفسج الروض تاه عجبا ... وقال طيبي للجو ضمخ
فاقبل الزهر في احتفال ... والبان من غيظه تنفخ
ما قيل في النيلوفر:
قال ابن التلميذ: اسم فارسي معناه النيلي الأجنحة والنيلي الأرياش (4) .
_________
(1) نهاية الأرب 11: 227.
(2) نهاية الأرب 11: 228.
(3) نهاية الأرب 11: 228.
(4) نهاية الأرب 11: 219، وقال: وربما سمي بالفارسية اسما معناه كرنب الماء.(2/413)
وقال ابن وحشية: الفرس تسميه نينوفر والعرب نيلوفر، والهند نيلوفك والنبط نيلوفريا.
قال ابن التلميذ: ومن عاداته أن يحول وجهه إلى الشمس إذا طلعت، فيزيد انفتاحه بزيادة علوّ الشمس، فإذا أخذت في الهبوط ابتدأ ينضم على ذلك الترتيب، حتى ينضم انضمامًا كاملا عند الغروب، ويبقى مضموما الليل كله، فإذا طلعت أخذ في انفتاح، وهذا دأبه أبدا. قال: وهو نبات قمري يزيد بزيادة القمر، وينقص بنقصانه.
أبو بكر الزبيدي الأندلسي:
وبركة تزهو بنيلوفر ... نسيمها يشبه ريح الحبيب (1)
حتى إذا الليل دنا وقته ... ومالت الشمس لوقت المغيب (2)
أطبق جفنيه على جَيْبه (3) ... وغاص في البركة خوف الرقيب
آخر:
وبركة أحيا بها ماؤها ... من زهرها كل نبات عجيب (4)
كأن نيلوفرها عاشق ... نهاره يرقب وجه الحبيب
حتى إذا الليل بدا نجمه ... وانصرف المحبوب خوف الرقيب
أطبق جفنيه عسى في الكرى ... يبصر من فارقه عن قريب
آخر:
يا حبذا بركة نيلوفر ... قد جمعت من كل فن عجيب (5)
_________
(1) نهاية الأرب 11: 224.
(2) نهاية الأرب:
مفتح الأجفان في يومه ... حتى إذا الشمس دنت للمغيب
(3) نهاية الأرب: حبه
(4) نهاية الأرب 11: 221، ونسبها إلى أبي بكر الزبيدي.
(5) نهاية الأرب 11: 222، ومطالع البدور، ونسبه إلى ابن صابر.(2/414)
أزرق في أحمر في أبيض ... كقرصة في صحن خد الحبيب
كأنه يعشق شمس الضحى ... فانظره في الصبح وعند المغيب
إذا تجلت يتجلى لها ... حتى إذا غاب سناها يغيب (1)
آخر:
كلنا باسط اليد ... نحو نيلوفر ندى (2)
كدبابيس عسجد ... قضبها من زبرجد
آخر:
انظر إلى بركة نيلوفر ... محمرة الأوراق خضراء (3)
كأنما أزهارها أخرجت ... ألسنة النار من الماء
آخر:
ونيلوفر صافحته الرياح ... وعانقها الماء صفوا ورنقا (4)
وتحمل أوراقه في الغدير ... ألسنة النار حمرًا وزرقًا
آخر:
صفر المداري تضمها شرف ... مفتضح عند نشرها العطر (5)
تحملها خيزرانة ذبلت ... ذبول صب أذابه الهجر
_________
(1) بعده في نهاية الأرب:
يرنو إليها مبصرا يومه ... ولا يحاشي نظرات الرقيب
لا يبتغي وجها سوى وجهها ... فعل محب مخلص في حبيب
(2) نهاية الأرب 11: 222، ومن غاب عنه المطرب للثعالبي 37، ونسبه إلى أبي بكر الصنوبري.
(3) نهاية الأرب 11: 222، ومطالع البدور 1: 112، ونسبه إلى ابن حمديس.
(4) نهاية الأرب 11: 223، وفي الأصول: "وريقا"، وصوابه من نهاية الأرب.
(5) نهاية الأرب 11: 223، وفيها: "صفر الدراري".(2/415)
كأنها إذ رأيت ألسنة ... أنطقها للمهيمن الشكر
خناجر من خناجر نزعت ... فهي على الماء من دم حمر
الطغرائي:
ونيلوفر أعناقه أبدا صفر ... كأن به سكرًا وليس به سكر (1)
إذا انفتحت أوراقه فكأنها ... وقد ظهرت ألوانها البيض والصفر
أنامل صباغ صبغن بنيلة ... وراحتها بيضاء في وسطها تبر
ابن الرومي:
يرتاح للنيلوفر القلب الذي ... لا يستفيق من الغرام وجهده
والورد أصبح في الروايح عبده ... والنرجس المسكي خادم عبده
يا حسنة في بركة قد أصبحت ... محشوة مسكًا يشاب بنده
مهجور حب طل يرفع رأسه ... كالمستجير بربه من صده (2)
وكأنه إذ غاب عند مسائه ... في الماء فانحجبت نضارة قده
صب تهدده الحبيب بهجره ... ظلما فغرق نفسه من وجده
الوجيه بن الذروي يهجو النيلوفر:
ونيلوفر أبدى لنا باطنا له ... مع الظاهر المخضر حمرة عندم
فشبهته لما قصدت هجاءه ... بكاسات حجام بها لوثة الدم
البشنين:
قال في مباهج العبر: وإذا مر النيل بمصر ينبت في أماكن منخفضة، قد وقف فيها الماء نباتًا يشبه النيلوفر، ليست له رائحة ذكية، يسمى البشنين، يتخذ منه دهن وهو
_________
(1) نهاية الأرب 11: 224.
(2) نهابة الأرب: "ضده".(2/416)
نوعان نوع يسمى الخريري، يشبه الرمان، وتسميه أهل مصر الجلجلان، والآخر يسمونه الغزي، وله أصل يسمى البيارون.
ما ورد في الآس:
أخرج ابن السني وأبو نعيم، كلاهما في الطب النبوي عن ابن عباس، قال: أهبط آدم من الجنة بثلاثة أشياء: بالآسة، وهي سيدة ريحان الدنيا، وبالسنبلة وهي سيدة طعام الدنيا، وبالعجوة وهي سيدة ثمار الدنيا.
وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره وابن السني عن ابن عباس قال: أول شيء غرس نوح حين خرج من السفينة الآس.
وأخرج ابن السكن عن عائشة، قالت: نهى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يستاك بعود الآس وعود الرمان، فإنهما يحركان عرق الجذام.
وأخرج ابن السني عن الأوزاعي، يرفع الحديث إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه نهى عن التخلل بالآس، وقال: إنه يسقي عرق الجذام.
قال في مباهج العبر: اليونان تسمى الآس مرسينا، وتسميه العامة المرسين.
وقال ابن وحشية: الآس سيد الرياحين، ويعظم حتى إنه يشجر ويثمر ثمرًا قدر الحمص، وهو ثلاثة أنواع: أخضر وهو المشهور، وأصفر وهو ما فسد من ورق الأول، وأزرق ويسمى الخسرواني، وهو أن يخلط في أصوله عند الزرع ورق النيل، قال الأخيطل الأهوازي:
للآس فضل بقائه ووفائه ... ودوام منظره (1) على الأوقات
_________
(1) نهاية الأرب 11: 241، وفيه: "دوام نضرته"، وبعده هناك:
الجو أغبر وهو أخضر والثرى ... يبس ويبدو ناضر الورقات(2/417)
قامت على أغصانه (1) ورقاته ... كنصول نبل جئن مؤتلفات (2)
آخر:
ومشمومة مخضرة اللون غضة ... حوت منظرا للناظرين أنيقا (3)
إذا شمها المعشوق خلت اخضرارها ... ووجنته فيروزجًا وعقيقا
ابن وكيع:
خليلي ما للآس يعبق نشره ... إذا هب أنفاس الرياح العواطر (4)
حكى لونه أصداغ ريم معذر ... وصورته آذان خيل نوافر
ما ورد في الريحان، وهو الحبق:
روى فيه أحاديث موضوعة، منها حديث ابن عباس مرفوعا: "نعم الريحان ينبت تحت العرش، وماؤه شفاء للعين" أخرجه العقيلي، وقال: باطل لا أصل له، وابن الجوزي في الموضوعات. وورد نحوه من حديث أنس أخرجه الخطيب البغدادي، وقال: موضوع، وابن الجوزي أيضا.
وأخرج الخطيب في تالي التلخيص من حديث جابر بن عبد الله مرفوعا: "المرزنجوش مزروع حول العرش، فإذا كان في دار لم يدخلها الشيطان"، قال الخطيب: باطل.
قال ابن الجوزي: وروي بسند مجهول من حديث أنس مرفوعا: "إن في الجنة بيتا سقفه من مرزنجوش".
قال في مباهج العبر: العرب تطلق اسم الريحان على كل نبت له ريح طيبة.
_________
(1) نهاية الأرب: "قضبانه".
(2) نهاية الأرب: "جسد مؤتلفات".
(3) نهاية الأرب 11: 242، ونسبهما إلى أبي سعيد الأصفهاني.
(4) نهاية الأرب 11: 242.(2/418)
والحبق أنواع: منه الريحان النبطي، وهو عريض الورق، ويسمى الباذروج، وهو المعروف عند الناس المتخذ في البساتين.
وحبق ترجاني، وله رائحة كرائحة الأترج، ويسمى الباذرنجبويه والباذرنبويه، واسمه بالفارسية مرمخوز، بالزاي المعجمة، وهو دقيق الورق.
وحبق قرنقلي، وله رائحة كرائحة القرنفل، ويسمى الفرنحمشك بالفارسية. وحبق صعتري، له رائحة كرائحة الصعتر. وحبق كرماني، ويسمى بالفارسية الشاهسفرم، ومعناه ملك الرياحين، والعرب تسميه الضميران والضومران، وهو دقيق الورق جدا، يكاد أن يكون دون السداب.
وحبق الفتى وهو المرزنجوش، والعرب تسميه العبقر، ويقال: إنه الثمام.
وريحان الكافور، ويسمى بالفارسية سوسن، وشكله شكل المنثور وزهره وورقه يؤديان رائحة الكافور (1) .
قال السري الرفاء يصف حوض ريحان:
وبساط ريحان كماء زبرجد ... عبثت به أيدي النسيم فأرعدا (2)
يشتاق القوم (3) الكرام فكلما ... مرض النسيم سعوا إليه عودا (4)
أبو الفضل الميكالي:
أعددت محتفلا ليوم فراغي ... روضا غدا إنسان عين الباغ (5)
روض يروض هموم قلبي حسنه ... فيه ليوم اللهو أي مساغ (6)
_________
(1) انظر نهاية الأرب 11: 247-250 وحواشيه.
(2) نهاية الأرب 11: 252.
(3) نهاية الأرب: "الشرب".
(4) نهاية الأرب: "سروا إليه".
(5) نهاية الأرب 11: 252. والباغ: البستان فارسي معرب.
(6) نهاية الأرب: "الكأس اللهو".(2/419)
وإذا انثنت قضبان ريحان به ... حيت بمثل سلاسل الأصداغ
أبو القاسم الصقلي:
أنا بالريحان مفت ... ون، ولا مثل الحماحم
فتأمله تجد عنذ ... رًا لصب القلب هائم
غلمة الجند بخضر ... القمص في خمر العمائم
الطغرائي:
مراضيع من الريحان تسقى ... سقيط الطل أو در العهاد (1)
ملابسهن خضر مسبغات (2) ... بأشكال تميل إلى السواد
إذا ذرت عليها المسك ريح ... وجاد بفيضهن يد الغوادي
تخللها الرياح فسرحتها ... صنيع المشط في اللمم الجعاد (3)
ابن أفلح:
وحماحم كأسنة ... في كل معترك قديم (4)
أو أنجم بزغت (5) ... لتحرق كل شيطان رجيم
أو مثل أعراف الديوك ... لدى مبارزة الخصوم
أو كالشقيق تحرشت ... بفروعه أيدي النسيم
أو ثاكل صبغت ثيابا (6) ... من دم الخد اللطيم
_________
(1) نهاية الأرب 11: 253.
(2) نهاية الأرب: "مشيعات".
(3) بعده في نهاية الأرب:
جرت دهنا بها وسرت عليها ... فطاب نسيمها في كل واد
(4) نهاية الأرب 11: 253، وفيه "كل معترك قويم".
(5) نهاية الأرب "نزعت".
(6) نهاية الأرب: "بنانا".(2/420)
ابن وكيع:
هذا الحماحم زهر ... فيه حياة النفوس
كأنه حين يبدو ... برادة الآبنوس
آخر:
أما ترى الريحان أهدى لنا ... حمامًا منه فأحيانا
تحسبه في طله والندى ... زمردا يحمل مرجانا
ابن وكيع في الصعتري:
صعتري أرق من أرجل النم ... ل، وأذكى من نفحة الزعفران (1)
كسطور كسين نقطًا وشكلًا ... من يدي كاتب ظريف البنان
صاعد الأندلسي في الريحان الترنجي:
لم أدر قبل ترنجان مررت به ... أن الزمرد أغصان وأوراق (2)
من طيبة سرق الأترج نكهته ... يا قوم حتى من الأشجار سراق!
آخر:
ذكي العرف مشكور الأيادي ... كريم عرفه يسلي الحزينا (3)
أغار على الترنج وقد حكاه ... وزاد على اسمه ألفًا ونونًا
ما قيل في المنثور، وهو الخيري:
ابن وكيع:
انظر إلى المنثور في ميدانه ... يدنو إلى الناظر من حيث نظر
_________
(1) نهاية الأرب 11: 255.
(2) نهاية الأرب 11: 255.
(3) نهاية الأرب 11: 255، وفيه: "كريم عرقه" بالقاف.(2/421)
كجوهر مختلف لونه ... أسلمه سلك نظام فانتثر
آخر:
انظر إلى المنثور ما بيننا ... وقد كساه الطل قمصانًا
كأنه صاغته أيدي الحيا ... من أحمر الياقوت مرجانا (1)
ومن خواصه أنه لا تعبق له رائحة إلا ليلًا، وفيه يقول الشاعر:
ينم مع الإظلام طيب نسيمه ... ويخفي مع الإصباح كالمتستر
كعاطرة ليلا لوعد محبها ... وكاتمة صبحا نسيم التعطر
ما قيل في الياسمين:
كتب ناصر الدين التنيسي إلى النصير الحمامي ملغزا فيه:
يا من يحل اللغز في ساعة ... كلمحة من طرفة العين
ما اسم إذا أنقصت من عده ... في الخط حرفًا صار اسمين
فأجابه نصير:
لعرض مولانا وأنفاسه ... ألغزت لي حقًّا بلامين
اسم سداسي لطيف به ... نحافة تظهر للعين
لكنه يغدو سمينا إذا ... أسقطت من أولاه حرفين
أبو إسحاق الحصري يصف الياسمين قبل انفتاحه:
خليلي هبا وانفضا عنكما الكرى ... وقوما إلى روض ونشر عبيق (2)
فقد راح رأس الياسمين منورا ... كأقراط در قمعت بعقيق
_________
(1) نهاية الأرب 11: 11: 272.
(2) نهاية الأرب 11: 237، وفيه: "وكأس رحيق".(2/422)
يميل على ضعف الغصون كأنما ... له حالتا ذي غشية ومفيق (1)
إذا الريح أدنته إلى الأرض خلته ... نسيم جنوب ضمخت بخلوق
آخر:
وروضة نورها يرف ... مثل عروس إذا تزف (2)
كأنما الياسمين فيها ... أنامل ما لها أكف
أبو بكر بن القوطية:
وأبيض ناصع صافي الأديم ... يطلع فوق مخضر بهين
كأن نواره المجني منه ... سماء قد تحلت بالنجوم
آخر:
كأن الياسمين الغض لما ... أدرت عليه وسط الروض عيني (3)
سماء للزبرجد قد تبدت ... لنا فيها نجوم من لجين
المعتمد بن عباد:
كأنما ياسميننا الغض ... كواكب في السماء تبيض (4)
والطرق الحمر في بواطنه ... كخد عذراء مسه عض
ابن عبد الظاهر:
وياسمين قد بدت ... أزهاره لمن يضف
كمثل ثوب أخضر ... عليه قطن قد ندف
آخر:
وياسمين عبق النشر ... يزري بريح العنبر الشحري (5)
_________
(1) في الأصول: "ونفيق" تحريف.
(2) نهاية الأرب 11: 237.
(3) نهاية الأرب 11: 237.
(4) نهاية الأرب 11: 237.
(5) نهاية الأرب 11: 237. والشحري: نسبة إلى الشحر، وهو صقع على ساحل الهند من ناحية اليمن.(2/423)
يلوح من فوق غصون له ... كمثل أقراط من الدر
ابن الحداد الأندلسي:
بعثت بالياسمين الغض مبتسما ... وحسنه فاتن للنفس والعين (1)
بعثته منبئا عن صدق معتقدي ... فانظر تجد لفظه يأسا من المين
وقال آخر:
لا مرحبا بالياسمين وإن ... غدا في الروض زينا (2)
صحفته فوجدته ... متقابلًا يأسا ومينا
آخر:
وياسمين إن تأملته ... حقيقة أبصرته شينا (3)
لأنه يأس ومين ومن ... أحب قط اليأس والمينا!
ما قيل في النسرين:
قال ابن وحشية: الياسمين والنسرين متقاربان حتى كأنهما أخوان، وكل واحد منهما نوعان: أبيض وأصفر، ولهما شقيق آخر ورده أكبر من وردهما، يسمى جلنسرين، قال عبد الرزاق بن علي النحوي:
زان حسن الحدائق النسرين ... فالحجا في رياضه مفتون (4)
قد جرى فوقه اللجين وإلا ... فهو من ماء فضة مدهون
أشبهته طلى الحسان بياضًا ... وحوته شبه القدود غصون
آخر:
أكرم بنسرين تذيع الصبا ... من نشره مسكا وكافورا (5)
_________
(1) نهاية الأرب 11: 239.
(2) نهاية الأرب 11: 238.
(3) نهاية الأرب 11: 238.
(4) نهاية الأرب 11: 214.
(5) نهاية الأرب 11: 214، وفيه "يذيع الصبا".(2/424)
ما إن رأينا قط من قبله ... زبرجدًا يثمر بلورا
آخر:
انظر لنسرين يلوح ... على قضيب أملد (1)
كمداهن من فضة ... فيها برادة عسجد
حيتك من أيدي الغصون ... بها أكف زبرجد
ما قيل في الأقحوان:
مجير الدين محمد بن تميم:
لا تمش في روض وفيه شقائق ... أو أقحوان غب كل غمام
إن اللواحظ والخدود أجلها ... عن وطئها في الروض بالأقدام
آخر:
كأن نور الأقاحي ... إذ لاح غب القطر
أنامل من لجين ... أكفها من تبر
علي بن عباد الإسكندراني:
والأقحوانة تحكي وهي ضاحكة ... عن واضح غير ظلم ولا شنب (2)
كأنها شمسة من فضة حرست ... خوف الوقوع بمسمار من الذهب
ظافر الحداد:
والأقحوانة تحكي ثغر غانية ... تبسمت فيه من عجب ومن عجب (3)
في القد والبرد والريق الشهي وطيب الر ... يح واللون والتفليج والشنب
كشمسة (4) من لجين في زبرجدة ... قد شرفت حول مسمار من الذهب
_________
(1) نهاية الأرب 11: 214.
(2) نهاية الأرب 11: 288، وفيه: "تجلى وهي ضاحكة".
(3) نهاية الأرب 11: 289.
(4) الشمسة: القطعة المدورة على هيئة الشمس.(2/425)
الجمال علي بن ظافر المصري:
انظر فقد أبدى الأقاح مباسمًا ... ضحكت تهلل في قدود زبرجد
كفصوص در لطفت أجرامها ... قد نظمت من حول شمسة عسجد
آخر:
ظفرت يدي للأقحوان بزهرة ... تاهت بها في الروضة الأزهار (1)
أبدت ذراع زبرجد وأناملًا ... من فضة في كفنها دينار
ما قيل في البان:
شمس الدين بن محمد التلمساني:
تبسم زهر البان عن طيب نشره ... وأقبل في حسن يجل عن الوصف
هلموا إليه بين قصف ولذة ... فإن غصون البان تصلح للقصف
الشهاب محمود على لسان البان:
إذا دغدغتني أيدي النسيم ... فملت وعندي بعض الكسل
فسل كيف حال قدود الملاح ... وعن حال سمر القنا لا تسل
أبو جنك الشاعر يهجو القاضي شمس الدين بن خلكان:
لله بستان حللنا دوحه ... في جنة قد فتحت أبوابها (2)
والبان تحسبه سنانيرًا رأت ... قاضي القضاة فنفشت أذنابها
تاج الدين بن شقير:
قد أقبل الصيف وولى الشتا ... وعن قريب نشتكي الحرا
أما ترى البان بأغصانه ... قد أقلب الفرو إلى برا
_________
(1) نهاية الأرب 11: 290.
(2) نهاية الأرب 11: 218، وفيه: "في لذة".(2/426)
ما قيل في الشقيق:
ابن الرومي:
يصوغ لنا كف الربيع حدائقا ... كعقد عقيق بين سمط لآل (1)
وفيهن نوار الشقائق قد حكى ... خدود غوان نقطت بغوال
كشاجم:
فرج القلب غاية التفريج ... ابتهاجي ما بين روض بهيج (2)
فكأن الشقيق فيه أكال ... يل عقيق على رءوس زنوج
أبو العلاء السروي:
جام تكون من عقيق أحمر ... ملئت قرارته بمسك أذفر
خرط الربيع مثاله فأقامه ... بين الرياض على قضيب أخضر
أبو بكر الصنوبري:
وكأن محمر الشقيق ... إذا تصوب أو تصعد
أعلام ياقوت نشرن ... على رماح من زبرجد (3)
الخيار البلدي:
انظر إلى مقل الشقيق ... تضمنت حدق السبج
من فوق أغصان حسن ... وما سمجن من العوج
آخر:
شقيقة شق على الورد ما ... قد لبست من كثرة الصبغ (4)
كأنها في حسنها وجنة ... يلوح فيها طرف الصدغ
_________
(1) نهاية الأرب 11: 282.
(2) نهاية الأرب 11: 282.
(3) نهاية الأرب 11: 284.
(4) نهاية الأرب 11: 284.(2/427)
في زهر النارنج، في الخشخاش، في نور الكتان:
للقاضي الفاضل:
نديمي هيا قد قضى النجم نحبه ... وهب نسيم ناعم يوقظ الفجرا
وقد أزهر النارنج أزرار فضة ... تزر على الأشجار أوراقها الخضرا
ابن وكيع
وخشخاش كأنا منه نفري ... قميص زبرجد عن جسم در (1)
كأقداح من البلور صينت ... بأغشية من الديباج خضر
ابن وكيع:
ذوائب كتان تمايل في الضحى ... على خضر أغصان من الري ميد (2)
كأن اصفرار الزهر فوق اخضرارها ... مداهن تبر ركبت في زبرجد
آخر:
كأنه حين يبدو ... مداهن اللازورد (3)
إذا السماء رأته ... تقول: هذا فرندي
ابن الرومي:
وحلس (4) من الكتان أخضر ناعم ... سقى نبته داني الرباب مطير (5)
إذا درجت فيه الشمال تتابعت ... ذوائبه حتى يقال غدير
_________
(1) نهاية الأرب 11: 26.
(2) نهاية الأرب 11: 27.
(3) نهاية الأرب 11: 27.
(4) نهاية الأرب 11: 27 ويريد بالحلس النبات الذي يغطي الأرض كثرة، تشبيها له بالحلس.
(5) نهاية الأرب "الرياح". والرباب: السحاب المعلق الذي تراه كأنه دون السحاب.(2/428)
ذكر الفواكه:
ما ورد في البطيخ:
أخرج ابن عدي في الكامل عن عائشة، قال: كان أحب الفاكهة إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الرطب والبطيخ.
وأخرج الطبراني والحاكم في المستدرك، عن أنس، أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يأخذ الرطب بيمينه، والبطيخ بيساره، فيأكل الرطب بالبطيخ، وكان أحب الفاكهة إليه.
قال في مباهج الفكر: البطيخ ثلاثة أصناف: هندي ويسمى بمصر البطيخ الأخضر وبالحجاز الحبحب، وصيني ويسمى بمصر الأصفر، وفيه يقول الشاعر:
ثلاث هن في البطيخ زين ... وفي الإنسان منقصة وذله (1)
خشونة لمسه والنقل فيه ... وصفرة لونه من غير عله (2)
وخراساني، ويسمى بمصر العبدلي منسوب لعبد الله بن طاهر، فإنه الذي دخل به مصر، قال أبو طالب المأموني في البطيخ الهندي:
ومبيضة فيها طرائق خضرة ... كما اخضر مجرى السيل من صيب المزن (3)
كحقة عاج ضببت بزبرجد ... حوت قطع الياقوت في عصب القطن (4)
آخر:
أخ لي صادق أهدى إلينا ... كما يهدي الصديق إلى الصديق
_________
(1) نهاية الأرب 11: 31.
(2) نهاية الأرب:
إذا شققته يوما تراه ... بدورًا أشرقت منها أهله
(3) نهاية الأرب 11: 32.
(4) نهاية الأرب: "عطب القطن". والعطبة: القطعة من القطن وجمعها عطب.(2/429)
قلال زبرجد فيهن شهد ... وحشو الشهد شيء كالعقيق
آخر:
رأيتها في كف جلابها ... وقد بدت في غاية الحسن (1)
كسلة خضراء مختومة ... على الفصوص الحمر في القطن
أبو طالب المأموني في البطيخ الأصفر:
وبطيخة مسكية عسلية ... لها ثوب ديباج وعرف مدام (2)
محققة ملء الأكف كأنها ... من الجزع كسرى لم ترض بنظام (3)
لها حلة من جلنار وسوسن ... معمدة بالآس غب غمام
تمازج فيها لون حب وعاشق ... كساه الهوى والبين ثوب سقام
إذا فصلت للأكل كانت أهلة ... وإن لم تفضل فهي بدر تمام
وقال:
يقطع بالسكين بطيخة ضحى ... على طبق في مجلس لأن صاحبه (4)
كبدر ببرق في سماء أهلة ... على هالة في الأفق شتى كواكبه (5)
آخر:
أتانا الغلام ببطيخة ... وسكينة أشبعوها صقالا
فقطع بالبرق شمس الضحى ... وناول كل هلال هلالا (6)
_________
(1) نهاية الأرب 11: 33.
(2) نهاية الأرب 11: 33، 34.
(3) الجزع: نوع من الخرز اليمانى.
(4) نهاية الأرب 11: 35، ونسبه إلى نجم الدين بن البارزي.
(5) رواية البيت في نهاية الأرب:
كشمس ببرق قد بدرا أهلة ... لدى هالة في الأفق شتى كواكبه
(6) نهاية الأرب 11: 35.(2/430)
آخر:
ألا فانظروا البطيخ وهو مشقق ... وقد جاز في التشقيق كل أنيق
صفاها كبلور بدت في زمرد ... مركبة فيها فصوص عقيق
ما ورد في الرمان:
أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن السني بسند رجاله ثقات، عن علي بن أبي طالب، قال: كلوا الرمان بشحمه، فإنه دباغ للمعدة.
وأخرج الطبراني بسند صحيح، عن ابن عباس، أنه كان يأخذ الحبة من الرمان فيأكلها، فقيل له: لم تفعل هذا؟ قال: بلغني أنه ليس في الأرض رمانة إلا تلقح بحبة من حب الجنة، فلعلها هذه.
قال بعضهم:
رمانة صبغ الزمان أديمها ... فتبسمت في ناضر الأغصان (1)
فكأنها في حقة من عسجد ... قد أودعت خرزًا من المرجان
آخر:
رمانة مثل نهد الكاعب الريم ... تزهى بشكل ولون غير مذموم (2)
كأنها حقة من عسجد ملئت ... من اليواقيت نثرًا غير منظوم
آخر:
ولاح رماننا فأبهجنا ... بين صحيح وبين مفتوت (3)
من كل مصفرة مزعفرة ... تفوق في الحسن كل منعوت
كأنها حقة فإن فتحت ... فصرة من فصوص ياقوت
_________
(1) نهاية الأرب 11: 102.
(2) نهاية الأرب 11: 103.
(3) نهاية الأرب 11: 103.(2/431)
آخر:
طعم الوصال يصونه طعم النوى ... سبحان خالق ذا وذا من عود (1)
فكأنها والخضر من أوراقها ... خضر الثياب على نهود الغيد
آخر:
خذوا صفة الرمان عني فإن لي ... لسانًا عن الأوصاف غير قصير (2)
حقاق كأمثال العقيق تضمنت ... فصوص بلخش في غشاء حرير (3)
في جلنارة:
أبو فراس الحمداني:
وجلنار مشرف ... على أعالي شجره (4)
كأنه في أغصانه ... أحمره وأصفره (5)
قراصنة من ذهب ... في خرق معصفره
عبد الله بن المعتز:
وجلنار كاحمرار الخد ... أو مثل أعراف ديوك الهند
ابن وكيع:
وجلنار بهي ... ضرامه يتوقد (6)
بدا لنا في غصون ... خضر من الرمي مُيَّد (7)
_________
(1) نهاية الأرب 11: 104.
(2) نهاية الأرب 11: 102.
(3) البلخش: نوع من الجواهر؛ وانظر حواشي نهاية الأرب.
(4) نهاية الأرب 11: 104.
(5) سقط هذا البيت من ح، ط، وأثبته من الأصل ونهاية الأرب.
(6) نهاية الأرب 11: 105.
(7) نهاية الأرب 11: 105.(2/432)
يحكي فصوص عقيق ... في قبة من زبرجد
آخر:
كأنما الجلنار لما ... أظهره العرض للعيون
أنامل كلها خضيب ... تزهي احمرارًا على الغصون
ما ورد في الموز:
أخرج الخطيب فيما رواه مالك عن مالك بن أنس، قال: ليس في الدنيا شيء يشبه ما في الجنة إلا الموز؛ لأن الله تعالى يقول: {أُكُلُهَا دَائِمٌ} (1) ، وأنت ترى الموز في الشتاء والصيف.
دخل القاضي أبو بكر بن فريقة على عز الدولة بن بويه، وبين يديه طبق فيه موز، فلم يدعه إليه، فقال: ما بال الأمير لا يدعوني إلى الفوز بأكل الموز! فقال له: صفه حتى أطعمك منه، فقال: ما أصف من جرب ديباجية، فيها سبائك ذهبية، كأنما حشيت زبدًا وعسلا، أو خبيصًا مرملا، أطيب الثمر كأنه مخ الشجر، سهل المقشر، لين المكسر، عذب المطعم بين الطعوم، سلس في الحلقوم.
وقال النجم بن إسرائيل:
أنعته موزًا شهي المنظر ... مستحكم النضج لذيذ المخبر (2)
كأن تحت جلده المزعفر ... لفات زبد عجنت بسكر
ابن الرومي:
للموز إحسان بلا ذنوب ... ليس بمعدود ولا محسوب (3)
_________
(1) سورة الرعد: 35.
(2) نهاية الأرب 11: 108.
(3) نهاية الأرب 11: 107.(2/433)
يكاد من موقعه المحبوب ... يسلمه البلع إلى القلوب
البهاء زهير:
يا حبذا الموز الذي أرسلته ... لقد أتانا طيب من طيب (1)
في لونه وطعمه وريحه ... كالمسك أو كالتبر أو كالضرب
وافت به أطباقه منضدًا ... كأنه مكاحل من ذهب
آخر:
يحكي إذا قشرته ... أنياب أفيال صغار (2)
ذو باطن مثل الأقا ... ح، وظاهر مثل البهار (3)
ما ورد في النخل:
أخرج الشيخان عن ابن عمر؛ أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: "إن في الشجر شجرة، مثلها مثل المسلم، أخبروني ما هي"؟ فوقع الناس في شجر البوادي، ووقع في قلبي أنها النخلة، فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هي النخلة".
وأخرج أبو يعلى في مسنده وابن السني عن علي، قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أكرموا عمتكم النخلة، فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم، وليس من الشجر شيء يلقح غيرها".
قال في مباهج الفكر: ويقال: إن مما أكرم الله به الإسلام النخل، وأنه قدر جميع نخل الدنيا لأهل الإسلام فغلبوا على كل موضع هو فيه.
وقال الدينوري في المجالسة: حدثنا محمد بن عبد العزيز، حدثنا أبي، عن محمد بن
_________
(1) ديوانه 7.
(2) نهاية الأرب 11: 107، وقبله:
موز حلا فكأنه ... عسل ولكن غير جار
(3) نهاية الأرب 11: 174.(2/434)
يزيد بن مطير، قال: قال محمد بن إسحاق: كل نخلة على وجه الأرض فمنقولة من الحجاز، نقلها النماردة إلى المشرق، ونقلها الكنعانيون إلى الشام، ونقلها الفراعنة إلى باب أليون وأعمالها، وحملها التبابعة في مسيرهم إلى اليمن وعمان والشجر وغيرها.
الحداد:
روض كمخضر العذار وجدول ... نقشت عليه يد النسيم مواردا
والنخل كالهيف الحسان تزينت ... فلبسن من أثمارهن قلائدا
في الطلع:
كأنما الطلع يحكي ... لناظري حين أقبل
سلاسلا من لجين ... يضمها حق صندل
في الجمار:
أهدي لنا جمارة ... من لست أخشى من عذابه
فكأنما هي جسمه ... لما تجرد من ثيابه
في البلح الأخضر:
أما ترى النخل نثرت بلحًا ... جاء بشيرا بدولة الرطب (1)
كأنه والعيون تنظره ... مقمعات الرءوس بالذهب (2)
مكاحل من زبرجد خرطت ... مقمعات الرءوس بالذهب
في الأصفر:
أما ترى البسر الذي ... قد جاءنا بالعجب (3)
_________
(1) نهاية الأرب 11: 127.
(2) سقط هذا البيت من الأصول وأثبته من نهاية الأرب.
(3) نهاية الأرب 11: 127.(2/435)
كيف غدا في لونه ... كعاشق مكتئب (1)
مكاحلًا من فضة ... قد طليت بالذهب
في الأحمر:
انظر إلى البسر إذ تبدى ... ولونه قد حكى الشقيقا (2)
كأنما خوصه عليه ... زبرجد مثمر عقيقا
ما ورد في الأترج:
أخرج الشيخان عن أبي موسى الأشعري، عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة طعمها طيب، وريحها طيب".
وأحرج ابن السني عن أبي كبشة، قال: كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعجبه النظر إلى الأترج والحمام الأحمر.
بعضهم:
كأن أترجنا النضير وقد ... زان تحياتنا مصبعه
أيد من التبر أبصرت بدرا ... من جوهر فانثنت تجمعه
آخر:
يا حبذا أترجة ... تحدث للنفس الطرب (3)
كأنها كافورة ... لها غشاء من ذهب
الأسعد بن مماتي:
لله بل للحسن أترجة ... تذكر الناس بأمر النعيم
كأنها قد جمعت نفسها ... من هيبة الفاضل عبد الرحيم
_________
(1) ساقط هذا البيت من ح، ط. وأثبته من الأصل ونهاية الأرب.
(2) نهاية الأرب 11: 127.
(3) نهاية الأرب 11: 181.(2/436)
ابن المعتز:
أترجة قد أتتك لطفًا ... لا يقبلنها وإن سررت (1)
لا تهد (2) أترجة فإني ... رأيت مقلوبها "هجرت"
ما ورد في القصب:
أخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق من طريق الربيع بن سليمان، قال: سمعت الشافعي يقول: ثلاثة أشياء دواء للداء الذي لا دواء له، الذي أعيا الأطباء
أن يداووه: العنب ولبن اللقاح، وقصب السكر؛ ولولا قصب السكر ما أقمت بمصر.
بعضهم:
تحكيه سمر القنا ولكن ... تراه في جسمه طلاوه
وكلما زدته عذابًا ... زادك من ريقه حلاوه
في الكمثرى:
بعضهم:
حيا بكمثراية لونها ... لون محب زائد الصفره
تشبه نهد البنت إن قعدت ... وهي لها إن قلبت سره
في الخوخ:
بعضهم:
كأنما الخوخ في دوحه ... وقد بدا أحمره العندمي
_________
(1) نهاية الأرب 11: 183.
(2) نهاية الأرب: "لا تهد".(2/437)
بنادق من ذهب أصفر ... قد خضبت أنصافها بالدم
ما ورد في التين:
أخرج ابن السني والديلمي في مسند الفردوس، عن أبي ذر، قال: أهدي إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طبق من تين، فقال لأصحابه: $"كلوا، فلو قلت: إن فاكهة نزلت من الجنة بلا عجم لقلت: هي التين، وإنه يذهب بالبواسير، وينفع من النقرس".
كشاجم:
أهلًا بتين جاءنا ... منضدا على طبق (1)
يحكي الصباح بعضه ... وبعضه يحكي الغسق (2)
كسفرة مضمومة ... قد جمعت بلا حلق
ابن المعتز:
أنعم بتين طاب طعمًا واكتسى ... حسنا، وقارب منظرا من مخبر (3)
في برد ثلج، في قفا تبر، وفي ... ريح العبير وطيب طعم السكر
يحكي إذا ما صب في أطباقه ... خيمًا ضربن من الحرير الأخضر
في اللوز الأخضر:
ابن المعتز:
ثلاثة أثواب على جسد رطب ... مخالفة الأشكال من صنعة الرب (4)
تقيه الردى في ليله ونهاره ... وإن كان كالمسجون فيها بلا ذنب
_________
(1) نهاية الأرب: 11: 159.
(2) ساقط من ط، ح.
(3) نهاية الأرب 11: 159، 160.
(4) نهاية الأرب 11: 88.(2/438)
آخر:
أما ترى اللوز حين ترجله ... من الأفانين كف مقتطف (1)
وقشره قد جلا القلوب لنا ... كأنه الدر داخل الصدف
ظافر الحداد:
جاء بلوز أخضر ... أصفره ملء اليد (2)
كأنما زئبره ... نبت عذار الأمرد
كأنما قلوبه ... من توأم ومفرد
جواهر لكنما الأ ... صداف من زبرجد
البدر الذهبي:
ما نظرت مقلتي عجيبا ... كاللوز لما بدا نواره
اشتعل الرأس منه شيبا ... واخضر من بعد ذا عذاره
ما قيل في المشمش:
محيي الدين بن عبد الظاهر:
حبذا مشمش على الدوح أضحى ... ذا شعاع يستوقف الأبصارا
شجر أخضر لنا جعل ... الله تعالى منه كما قال نارا
وقال:
وكان ضوء الشمس من أوراقها ... في نقش أسوقة الغصون خلاخل
وكأن مشمشها بصوت هزارها ... إذ حركته به النسيم جلاجل
_________
(1) نهاية الأرب 11: 88، وترجله، أي تنزله.
(2) نهاية الأرب 11: 88.(2/439)
آخر:
ومشمش جاءنا من أعجب العجب ... أشهى إلي من اللذات والطرب (1)
كأنه وهبوب الريح تنثره ... بنادق خرطت من خالص الذهب
ما قيل في النبق:
ابن الجيلي:
انظر إلى النبق في الأغصان منتظمًا ... والشمس قد أخذت تجلوه في القضب
كأن صفرته للناظرين غدت ... تحكي جلاجل قد صيغت من الذهب
آخر:
وسدرة كل يوم ... من حسنها في فنون (2)
كأنما النبق فيها ... وقد بدا للعيون
جلاجل من نضار ... قد علقت في الغصون
_________
(1) نهاية الأرب 11: 141.
(2) نهاية الأرب 11: 144.(2/440)
ذكر الحبوب والخضروات والبقول
في سنابل البر والشعير:
القاضي عياض:
انظر إلى الزرع وخاماته ... تحكي وقد ماست أمام الرياح (1)
كتيبة تجفل مهزومة ... شقائق النعمان فيها جراح
آخر:
يا حبذا سنبلة ... تبدو العين المبصر (2)
كأنها سلسلة ... مضفورة من عنبر
ظافر الحداد:
كأن سنابل حب الحصيد ... وقد شارفت وقت إبانها (3)
كنائس مضفورة ربعت ... وأرخي فاضل خيطانها
ابن رافع القيرواني:
انظر إلى سنبل الزروع وقد ... مرت عليه الجنوب والشمل (4)
كأنه البحر في تموجه ... يعلو مرارا، ومرة يسفل (5)
والماء للسقي في جوانبه ... المسك للناظرين أو صندل
في الباقلا:
قال بعض الشعراء وهو ابن لنكك (6) البصري:
فصوص زبرجد في غلف در ... بأقمع حكت تقليم ظفر (7)
_________
(1) نهاية الأرب 11: 16.
(2) نهاية الأرب 11: 17.
(3) نهاية الأرب 11: 16.
(4) نهاية الأرب 11: 16، والشمل ريح الشمال.
(5) نهاية الأرب: "مرارا به ويستفل".
(6) في الأصول: "نيكل" تحريف.
(7) نهاية الأرب 11: 20، ونسبه إلى الصنوبري.(2/441)
وقد حاك الربيع لها ثيابًا ... لها لونان من بيض وخضر
آخر:
لي نحو ورد الباقلا ... إدمان لهو ولهج (1)
كأنما مبيضه ... يلوح في ذاك الدعج
خواتم من فضة ... فيها فصوص من سبج (2)
ابن وكيع:
ولاح ورد الباقلاء ناظرا ... عن مقلة تفتح جفنًا عن حور
كمثل ألحاظ اليعافير إذا ... روعها من قانص فرط الحدر
كأنها مداهن من فضة ... مجلوة فيها من المسك أثر
كأنها سوالف من خرد ... قد زينت سوادها سود الطرر
في القثاء:
عبد الرحيم بن رافع القيرواني:
أحبب بقثاء أتانا من ... فوق أطباق منضد (3)
كمضارب قد حدرت ... أجرامهن من الزبرجد
نعم الدواء إذا الهوا ... ء من الهواجر قد توقد (4)
ابن المعتز:
انظر إليه أنابيبًا منضدة ... من الزبرجد خضرا ما لها ورق
إذا قلبت اسمه بانت حلاوته ... وكان معكوسه إني بكم أثق
_________
(1) نهاية الأرب 11: 22.
(2) السبح: خرز أسود.
(3) نهاية الأرب 11: 38.
(4) نهاية الأرب 11: 41.(2/442)
في الخيار:
لبعضهم:
خيار حين تنسبه لبيت ... كريحان السرور به اخضرار
كأن نسيمه أنفاس حب ... فليس لمغرم عنه اصطبار
في الفقوس:
بعضهم:
شبهت حين بدا الفقوس مبتهجًا ... على الرياض بحب فيه مأسور
مخازن من لجين لف ظاهرها ... بسندس حشوه حبات كافور
في القرع:
لعبد الرحيم بن نافع:
وقرع تبدى للعيون كأنه ... خراطيم أفيال لطخن بزنجار
مررنا فعايناه بين مزارع ... فأعجب منها حسنه كل نظار
في الباذنجان:
لبعضهم:
أهدت لنا الأرض من عجائبها ... ما سوف يزهو بمثله وقتي (1)
إذا أجاد الذي يشبهه ... وأحكم الوصف منه في النعت
قال كرات الأديم قد حشيت ... بسمسم قمعت بكيمخت (2)
_________
(1) نهاية الأرب 11: 44.
(2) الكيمخت: ضرب من الجلود المدبوغة يتخذ من ظهور الخيل والحمير.(2/443)
آخر:
ومستحسن عند الطعام مدحرج ... غذاه نمير الماء في كل بستان
تطلع من أقماعه فكأنه ... قلوب نعاج في مخاليب عقبان
آخر:
وكأنما الأبذنج سود حمائم ... أوكارها روض الربيع المسكر (1)
لقطت مناقرها الزبرجد سمسمًا ... فاستودعته حواصلًا من عنبر
آخر:
وباذنجانة حشيت حشاها ... صغار الدر باللبن الحليب
وغشيت البنفسج واستقلت ... من الآس الرطيب على قضيب
في السلجم:
لابن رافع القيرواني:
كأنما السلجم لما بدا ... في حسنه الرائق من غير مين (2)
قطائع الكافور ملمومة ... لمبصريها أو كرات اللجين
في الفجل:
لبعضهم:
لله فجل قد أتتنا به ... جارية تخجل شمس النهار
كأنه في يدها إذ أتت ... به لنا غصنا بصوب العطار
سبائك من فضة قد صفت ... أو مثل أنياب الفيول الصغار
_________
(1) نهاية الأرب 11: 45.
(2) نهاية الأرب 11: 51.(2/444)
آخر:
أحبب بفجل قد أتانا به ... طباخنا من بعد تقشير (1)
منضدا في طبق خلته ... من حسنه قضبان بلور
آخر:
وبيضاء من حور الجنان ملكتها ... ولمت عليها صاحبي ولي العذر
وما كسيت من سندس الخلد حلة ... ولا معجرًا لكن ذوائبها خضر
في الجزر:
لابن رافع القيرواني:
انظر إلى الجزر البديع كأنه ... في حسنه قضب من المرجان (2)
أوراقه كزبرجد في لونها ... وقلوبه صيغت من العقيان
آخر:
انظر إلى الجزر الذي ... يحكي لنا لهب الحريق (3)
كمدية من سندس ... فيها نصاب من عقيق
في الثوم:
لابن رافع القيرواني:
يا حبذا ثومة في كف جارية ... بديعة الحسن تسبي كل من نظرا (4)
أبصرتها، وهي من عجب تقلبها ... كصرة من ديبقي حوت دررا
آخر:
الثوم مثل اللوز إن قشرته ... لولا روائحه وطعم مذاقه (5)
_________
(1) نهاية الأرب 11: 55.
(2) نهاية الأرب 11: 57.
(3) نهاية الأرب 11: 57.
(4) نهاية الأرب 11: 61.
(5) نهاية الأرب 11: 61.(2/445)
كالندل غرك منظرا فإذا دعي ... لفضيلة ينمى إلى أعراقه
في النمام:
ابن رشيق:
لم كره النمام أهل الهوى ... أساء إخواني وما أحسنوا (1)
إن كان نماما فتنكيسه ... من غير تكذيب لهم مأمن
آخر:
لا بارك الله في النمام إن له ... اسما قبيحا من الأسماء مهجورا (2)
لو لم ينم على العشاق سرهم ... ما كان فيهم بهذا الاسم مشهورا
في النعناع:
"بعضهم":
وجاءت بنعناع كأن غصونه ... وأوراقه مخلوقة من زبرجد
إذا مسه نفح الحرور رأيته ... كأصداغ زنج فلفلت من تجعد
في النارنج:
لبعضهم:
تأملها كرات من عقيق ... يروقك في ذرا دوح وريق (3)
صوالج من غصون ناعمات ... غذتها درة العيس الأنيق
آخر:
انظر إلى منظر يلهيك منظره ... بمثله في البرايا يضرب المثل (4)
_________
(1) نهاية الأرب 11: 72.
(2) نهاية الأرب 11: 72.
(3) نهاية الأرب 11: 111.
(4) نهاية الأرب 11: 112.(2/446)
نار تلوح على الأغصان في شجر ... لا النار تطفي، ولا الأغصان تشتعل
أبو الحسن الصقلي:
ونارنجة بين الرياض نظرتها ... على غصن رطب كقامة أغيد (1)
إذا ميلتها الريح مالت كأكرة ... بدت ذهبًا في صولجان زبرجد
وقال:
تنعم بنارنجك المجتنى ... فقد حضر السعد لما حضر (2)
فيا مرحبًا بقدود الغصون ... ويا مرحبا بخدود الشجر
كأن السماء همت بالنضا ... ر، فصاغت لنا الأرض منها أكر
ابن المعتز:
كأنما النارنج لما بدت ... صفرته في حمرة كاللهب (3)
وجنة معشوق رأى عاشقا ... فاصفر ثم احمر خوف الرهب
آخر:
وشادن قلت له صف لنا ... بستاننا هذا ونارنجنا
فقال لي: بستانكم جنة ... ومن جنى النارنج نارًا جنى
في الليمون:
قال ابن وحشية: الليمون والنارنج في الأصل شجر هندي:
السري الرفاء:
ظللته شجرات ... عطرها أطيب عطر
فلك أنجمه الليمون ... من بيض وصفر
_________
(1) نهاية الأرب 11: 116.
(2) نهاية الأرب 11: 112.
(3) نهاية الأرب 11: 113، مع اختلاف في القافية.(2/447)
أكر من فضة قد ... شابها تلويح تبر
آخر:
يا رب ليمونة حيا بها قمر ... حلو المقبل ألمى بارد الشنب (1)
كأنها أكرة من فضة خرطت ... فاستودعوها غلافًا صيغ من ذهب
آخر:
أما ترى الليمون لما بدا ... يأخذ في إشراقه بالعيان (2)
كأنه بيض دجاج وقد ... لطخها العابث بالزعفران
تم كتاب حسن المحاضرة
ولله الحمد
_________
(1) نهاية الأرب 11: 116، والشنب: الرقة والعذوبة في الأسنان.
(2) نهاية الأرب 11: 116، مع اختلاف في القافية.(2/448)