هشام بن عبدالرحمن الداخل وأسباب خلافته أباه في الإمارة :
دراسة تحليلية لروايات ولاية العهد في العصر الأموي المبكر في الأندلس
عبدالغفور بن إسماعيل روزي
أستاذ مشارك، قسم التاريخ، كلية الآداب،
جامعة الملك سعود، الرياض، المملكة العربية السعودية
(قدم للنشر في 6 /7 /1421هـ ؛ وقبل للنشر في 7/1/1422هـ)
ملخص البحث. مسايرة لدعوات التنبه إلى انسيابية الحدث التاريخي، أو صيرورة عمل التاريخ بمعنى آخر، يلتمس البحث من القضية المحيطة بإحراز هشام عبدالرحمن الداخل ولاية العهد من أبيه بوصفه نموذجا قابلا للتطبيق على مدى الفائدة الناتجة من التعامل مع الوقائع التاريخية بالشمولية الزمنية، وذلك من خلال طرح جوانبها في المحاور التالية:
1- جمع الروايات المتناثرة في المصادر التاريخية دراسة وتحليلا، ومن ثم محاولة الوصول إلى الأسباب التي أدت بعبدالرحمن إلى الميل نحو ابنه هشام متجاوزا به أخاه الأكبر سليمان.
2- استعراض الفوارق الشخصية المدونة عن الأخوين -سليمان وهشام- في الميول والتوجهات والقدرات الخاصة، فضلا عن متابعة التغيرات المسجلة لدولة الداخل مع تقادم العهد بها، من أجل التماس خطوط توافق بين التوجه الخاص وبين المتغيرات العامة للدولة ، والخلاصة بأن فوز هشام بالترشيح لم يتأت إلا من خلال توافر قدرات شخصية فيه تتواءم مع مخططات مستقبل دولة عبدالرحمن.
3- تقويم حكم هشام من منظور الآمال والتوقعات المعقودة عليه، والإقرار بنجاحه فيهما باستعراض الشواهد الدالة عليهما، والخلاصة بأن هشاما، بتمكنه من السير بدولة عبدالرحمن في طريقها المرجوة وسد نواقصها، قد نجح في إرساء القاعدة التي بنيت عليها دولة الأمويين في الأندلس من بعدهما، عبدالرحمن (المؤسس)، وخليفته هشام، في دولة تكامل واحدة.(1/1)
تتنامى الدعوات بين المؤرخين إلى وجوب التعامل مع الحدث التاريخي بانسيابية تسمح لمساره بالتواصل ، ومكمن القول هنا أن التعامل الأمثل مع الوقائع التاريخية ينبغي أن يتوافر فيه شرط النظرة الشاملة وليس المجزأة، فالنظرة الشاملة هي الوسيلة المثلى لفهم التغييرات ورصد المؤثرات والتدقق من الأسباب والنتائج، بينما في المقابل تضيّق النظرة المجزأة للتاريخ ليس من فهم مسار الحدث فحسب، بل تنفي عنه كل الإيجابيات المرصودة من النظرة الشاملة.
لقد عانت المعالجات التاريخية طويلا، في الماضي ولا تزال، من تقطيع وقائعها إلى أزمنة السنين والعصور والعهود، وإلى تضييق مسرحها إلى جيوب جغرافية محدودة . وحينما انصب الأمر على دراسة الأفراد، تناولت مثل هذه الدراسات الفرد بعيدا عن المؤثرات التي ولد وعاش فيها، وبانفصال عن الأوضاع والظروف التي تعامل معها. إن المجزئين للتاريخ على هذا النحو، والقاطعين لمدده، يمكن القول بأنهم ضيقوا من الفهم الأسلم للتاريخ، كما أنهم بتضييقهم لمنافذ الرؤية الواسعة له، ضيعوا على أنفسهم وعلى الآخرين سبل الوصول إلى مكامن أسراره.
يمكن رصد الضرر الناتج من وضع الحواجز الفاصلة المعوّقة لمسارات التاريخ في غير مسألة، وفيما يخص بحثنا هذا، فتمثل قضية انتقال السلطة مثلا واضحا فيها. من المنظور العام تبقى القضايا المتعلقة بولاية العهد من القضايا التي تشترط النظرة الشاملة لمتابعة مسارها، فهي قضية يحكمها التواصل بين العاهد والمعهود إليه، كما تحكمها الظروف الداعية لها والنتائج المترتبة عليها، وهي في المقام الأهم تختلف خيوط الربط بين عهدين، عهد منصرم وعهد آت وما بينهما من روابط ودواعٍ متحكمة.(1/2)
لكن، وبالرغم من وضوح العلامات الرابطة في قضايا ولايات العهد حين النظر إليها بتمعن، فإن الكتابات التاريخية في كثير من الأحايين غفلت وتجاوزت عن دلالاتها. والإصرار على تقسيم العهود، على فترات من تولوها، أدى في الغالب إلى إهمال الروابط التي تمثل اللب الأساس في القضية، ونتج بالتالي منه إغفال خيوط التواصل، وصيرورة الحدث، بوصفه واقعة يضرها القطع والتجزئة. ولكن، وفي مقابل من تعاملوا مع التاريخ بتلك الصفة، فهناك آخرون كانت لهم النظرة الشاملة، ومثالنا في ذلك دراسة عمر سليمان العقيلي المتوافقة في نهجها مع النهج الذي يدعو إليه البحث، وكذلك لملاءمة موضوعها مع موضوع البحث أيضا، وبعنوانها المعبر على نهجها، "أسلوب تعاقب بني أمية على منصب الخلافة وأثره في سقوط دولتهم." (1) إن هذه الدراسة، وبالتفاتها إلى قضايا تعاقب ولايات العهد في الدولة الأموية برمتها، رصدت أهمية ولاية العهد ليس عاملا مؤثرا وفعالا للمسار الحدثي فحسب، بل ومن خلال النظر إليها في مساراتها الطويلة التي ألمت بالأسباب والنتائج، والتي مكنت العقيلي من خلالها طرح فرضيته، واستخلاص النتائج ليس من حالة منفردة بل من أمثلة متعاقبة.
__________
(1) عمر سليمان العقيلي، " أسلوب تعاقب بني أمية على منصب الخلافة وأثره في سقوط دولتهم،" مجلة الدارة، 20، ع3 (ربيع الآخر - جمادى الأولى، 1415هـ)، 8-32.(1/3)
في الدراسة المعنية، تجنب الباحث أسلوب النظرة المنفردة للأحوال، ونظر إلى مسألة التعاقب الأموي للخلافة نظرة شاملة، وبهذا النهج تمكن من التوصل إلى نتيجة شاملة مفادها، " أن عدم وجود نظام واضح تتحدد بموجبه المعايير لتولي منصب الخلافة أو حتى ولاية العهد عند بني أمية،" (1) كان أحد الأسباب الرئيسة لسقوط الدولة. إن النتيجة التي طرحها العقيلي من منظورها الطويل، ودعم بها عموميات الطروحات المتداولة سابقا، لم تأت في الواقع إلا من خلال النظرة المتعاقبة، والاستناد إلى البراهين المتكررة، ونبذ النظرة إلى الحدث بمعزل عن دوافعه وأسبابه ونتائجه العديدة ، واستخلاص النتيجة العامة من خلاصة التجربة الأموية بكاملها.
__________
(1) العقيلي،" أسلوب،" 15.(1/4)
بحثنا التالي، يدور محوره في قضية محددة تتعلق بولاية العهد من وجهة نظرة أندلسية، وبرغم أن البحث لا يطمح إلى استخلاص نظرية عامة مثل تلك التي طرحتها دراسة العقيلي، ويركز تحديدا على نموذج العاهد بالولاية، وهو عبدالرحمن بن معاوية (الداخل )، والمعهود له بالأمر وهو هشام بن عبدالرحمن ( الرضا ) بصورة خاصة، إلا أنه مع ذلك لا ينظر إلى النموذجين، بوصفهما حالتين منفصلتين، ولكن بوصفهما حالة واحدة تربطهما عناصر الأسباب والدواعي، كما تربطهما المبررات والنتائج، طارحا من خلال ذلك جملة تساؤلات الهدف منها التماس عناصر الربط والتأثير والتأثر بين الحالتين، لماذا فضل عبدالرحمن بن معاوية ابنه هشام للإمارة من بعده؟ ولماذا بهذا التفضيل تجاوز عن ابنه الأكبر والبكر سليمان؟ ما هي المبررات والمرتكزات المقنعة التي ركز عليها عبدالرحمن في اتخاذ قراره الحاسم هذا ؟ وما هي الشروط التي توافرت في هشام ولم تتوافر لدى سليمان؟ وهل كان الداخل محقا بهذا التفضيل؟ وأخيرا هل كان هشام في محل الآمال والتطلعات التي توخيت فيه، وفي المقابل هل كان الأب في قراره يملك مبررات تجاهل تقليد أموي عُرف، حرص الأمويون عليه طوال حكم دولتهم في المشرق وهو تفضيل الابن الأكبر لتولي العهد؟!(1/5)
إن التماس المدخل إلى موضوعنا يقودنا بطبيعة الحال إلى قرطبة، قاعدة الأندلس والحكم الأموي. هناك، وفي بضع ليال سابقة لغرة شهر جمادى الأولى من سنة اثنتين وسبعين ومائة، (1) كان رأس الأمويين وأمير الأندلس يترقب أيامه الأخيرة وهو على فراش مرضه، ومع تجسم شعوره بدنو الأجل، توجب الأمر للأمير المحتضر أن يحصر فكره في أمر من سيولي العهد من بعده، وهو قرار لم يكن قد حسمه بعد، لدولة أقامها " منفردا بنفسه، فمصر الأمصار وجند الأجناد ودوّن الدواوين، ونال ملكا بعد انقطاعه، بحسن تدبيره، وشدة شكيمته"وهي كلمات اعتراف أتت إلى عبدالرحمن من غريمه اللدود، رأس الدولة العباسية أبي جعفر المنصور. (2) ويلتقط ابن عذاري المراكشي طرف الواقعة، ويورد تفصيل ما حدث قائلا: "وقيل إن عبدالرحمن بن معاوية -رحمه الله- لما حضرته الوفاة، وابنه هشام بماردة، وابنه الآخر سليمان بطليطلة، وكّل ابنه عبدالله المعروف بالبلنسي وقال له: "من سبق إليك من أخويك فارم إليه بالخاتم والأمر: فإن سبق إليك هشام، فله فضل دينه وعفافه واجتماع الكلمة عليه، وإن سبق إليك سليمان ، فله فضل سنه ونجدته وحب الشاميين إليه، "تقدم هشام من ماردة قبل سليمان، فنزل بالرصافة، وخاف من عبدالله أخيه، إذ صار متمكنا من قرطبة والقصر والأموال أن يدافعه.
__________
(1) يحدد بعض المؤرخين تاريخ وفاة عبد الرحمن الداخل بيوم الثلاثاء لست بقين من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وسبعين ومائة، ولعل الأصح باتفاق أغلب المؤرخين، هو غرة جمادى الأول سنة اثنين وسبعين ومائة، انظر: أحمد بن عبدالوهاب النويري، نهاية الأرب في فنون الأدب، تحقيق مصطفى أبو ضيف أحمد (الدار البيضاء: دار النشر المغربية، د. ت.)، 71 .
(2) لسان الدين بن الخطيب، أعمال الأعلام، تحقيق ليفي بروفنسال (تاريخ أسبانيا الإسلامية) (بيروت: دار الثقافة، 1956م)، 9-10.(1/6)
فخرج إليه أخوه عبدالله وسلم بالخلافة، ودفع إليه بالخاتم، كما أوصاه وأدخله القصر." (1)
إن الوصية بصيغتها ومضمونها كما ينفرد ابن عذاري بروايتها، هي في الواقع وصية تدعو إلى الحيرة أكثر مما تدعو إلى الاقتناع والقبول، ويتعزز الشعور هذا بصورة أقوى عند الذين يدركون مدى حرص عبدالرحمن على سلامة دولته وتواصلها من بعده؛ فالوصية تبدو لهؤلاء وكأنها تعكس ما يعرفونه عنه، فهي تظهره وكأنه غير عابئ بما سوف يفضي إليه الأمر من بعده؛ ففضلا عن تأجيل عبد الرحمن اتخاذ قراره في أمر من سيحكم دولته التي أقامها من بعده إلى فراش موته، نراه يوصي وهو في تلك الحالة بوصايا لا يمكن الركون إلى سلامتها مطلقا. فخلافة الحكم عنده في هذه الحالة لا تتعدى عن كونها سباقا بين أبنائه، من يسبق من الأخوين أحدهما الآخر في الوصول إلى قرطبة من مركز ولايته، هشام من ماردة، وسليمان من طليطلة، يحرز الحكم وسيتولى أمر الأندلس من بعد أبيه.
__________
(1) ابن عذاري المراكشي، البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، تحقيق س. كولان وليفي برفنسال (بيروت: دار الثقافة، 1400هـ/1980م )، 2: 61-62.(1/7)
إن تأجيل عبدالرحمن البت في مسألة من يرشح للإمارة من بعده ومن ثم إعلانه قراره بالصيغة التي عبرت عنها الرواية تتنافى تماما مع ما يعرفه المتابع لعبدالرحمن. فالمتابع الذي يعرف حرص عبدالرحمن لا يملك سوى التردد من قبول فحوى الرواية؛ الأمر الذي يدفعه إلى التساؤل: هل يعقل أن يهمل عبدالرحمن أمر البت في تعيين من سيخلفه ويرجئه إلى ساعاته الأخيرة؟ ولكن وحتى في حالة الأخذ بصيغة الوصية؛ فالسؤال المثار حينه يكون: هل يعقل من عبدالرحمن أن يركن إلى إجراءات غير مضمونة العواقب؟ ألا يعني ذلك أن مؤسس دولة الأمويين في الأندلس سيتوفى وهو لا يعلم من خَلَفه من أبنائه؟ أولا يعني ذلك أيضا أن عبدالرحمن لم يكن متأكدا من كفاءة أحد الابنين؟ أو لم يكن يعنيه تولي أيهما، ولكن ألا يؤدي ذلك إلى الظن أيضا بأن عبدالرحمن كان متعمدا هدم كل ما بناه بنفسه، ويعرض دولته مجددا لأعدائها المتربصين، والذين حاربهم طيلة فترات حكمه. أولا يعني ذلك أيضا زرع العداوات بين أبنائه، وفتح الطريق أمامهم للدخول في المنازعات الشخصية لإحراز الحكم؟ وأخيرا، هل يهمل عبدالرحمن وضع سابقة في تقنين نظام الولاية في دولته الأندلسية الناشئة وهو يدرك تماما أنها ستغدو القاعدة التي سيعمد إليها الأمويون التالون له؟(1/8)
ولعل مما يضاعف من إشكالية الأخذ بما يرويه ابن عذاري عن قرار عبدالرحمن حيال من يخلفه في حكم الأندلس، أن المصادر التاريخية تعاملت مع الحدث، وصيغة الرواية التي رويت بها، تعاملها مع حدث مقبول، ولم تبد نحوها شيئا من التردد أو تقدم لها رأيا أو تفنيدا. صحيح أن انفراد ابن عذاري بالرواية، وهو متأخر، وغياب الإلماح إليها عند سابقيه من المؤرخين الأندلسيين، قد يكون سببا في إغفال المؤرخين أمر هذه الواقعة، أو المرور عليها مرورا عابرا، لكن حتى الذين أتوا من بعد ابن عذاري، وأخذوا الرواية منه، تعاملوا مع فحوى الرواية كما جاءت عنده، وتقبلوا مضمونها دون إبداء وجهات نظر نافذة أو تفسيرية، وبهذا غدت قصة انتقال الحكم من عبدالرحمن إلى ابنه هشام تروى بالتناقل والتكرار كما ظهرت عند ابن عذاري أول مرة، وأصبحت قضية مسلمة بها من بعده.(1/9)
إن قبول قدامى المؤرخين لرواية ابن عذاري، بوصفها واقعة شارحة لانتقال السلطة من عبدالرحمن لابنه هشام، أدى بالتالي إلى انتقال التعامل ذاته بالقضية من قبل المؤرخين المحدثين؛ فالمحدثون بدورهم لم يضيفوا للأمر جديدا؛ فالآراء التي أبديت حيال القضية من قبل هؤلاء لم تخرج عن تباينات يمكن عرض آرائها على النحو التالي: فريق، ولعل هؤلاء هم الأغلب، سلم بمضمون رواية ابن عذاري، وخلص إلى أن الأمر لا يحتاج إلى اجتهادات تفسيرية جديدة، وبأن هذا هو ما كان، (1) وفريق آخر، استبعد ما جاء في الرواية، وعوضا عنه طرح استنتاجات اجتهادية خالية من دلالات مشفوعة، مما يصعب الأخذ بها أيضا، كقول أحدهم أن عبدالرحمن" فشل في أن يجد حلاّ جذريا لمشكلة ولاية العهد. (2) أما الفريق الثالث، فإنه لم يبد التردد من قبول ما حوته الرواية فحسب، بل أظهر الشك في أن يتعامل عبدالرحمن مع القضية بتلك الصورة، وحالة الشك التي اتصف بها تعامل هؤلاء خلصت بهم إلى التساؤل بأن عبدالرحمن لا يعقل منه أن يترك قضية ولاية العهد بهذه الحالة، (3) وقد استند هؤلاء إلى صعوبة تقبل أن يترك عبدالرحمن مصير دولته على تلك الهيئة الغامضة والمحفوفة بالمخاطر، والبعيدة عن كل ما يمكن الاطمئنان إليه.
__________
(1) عصام عبد الرؤوف الفقي، تاريخ المغرب والأندلس (القاهرة: مكتبة نهضة الشرق، د. ت. )، 76.
(2) إبراهيم بيضون، الدولة العربية في إسبانيا من الفتح حتى سقوط الخلافة 92-422هـ/711-1031م (بيروت: دار النهضة العربية، 1978م)، 217.
(3) أيضا كمثال لمواقف هؤلاء، انظر: عبدالواحد ذا النون طه وآخرين، تاريخ العرب وحضارتهم في الأندلس (الموصل: دار الكتب للطباعة والنشر، د. ت.)، 102 .(1/10)
أمام هذه المعضلات الناجمة من اعتماد القدامى على رواية ابن عذاري اليتيمة، وتباين مواقف المحدثين التي لا تحوي جديدا، واستنكاف الفريقين معا عن النظر إلى القضية المطروحة بالاهتمام المبتغى، لا يملك البحث سوى طرح خيار ثالث؛ إمّا التوقف هنا على أساس أنه ليس ثمة جدوى من الاستمرار في الخوض فيه والقبول بما قبل به الآخرون، مع التذكير بأن هذا ليس هدف البحث إطلاقا، وإما المواصلة فيه وطرح آراء حياله،كما هو الهدف المخطط للبحث أصلا.
يدرك الباحث سلفا أن اختياره المواصلة هو خيار لا يخلو من الصعوبة، إذ أن الموقف الذي يقف فيه خال من البراهين والحجج، وما يلتمسه من الأسباب قد لا يكون موفيا للهدف المطلوب، بيد أن هذا التخوف قد يكون فاتحا لأمر قد يلقي الضوء -وإن قل- على هذه القضية الغامضة، التي ضاعف تعامل المؤرخين معها، على النحو الذي أشرنا إليه، غموضها.
إن بصيص الأمل للانفراج من هذا الضيق قد يأتي لربما من تبني البحث لرأي فريق المؤرخين، الذين أشرنا إليهم بالفريق الثالث، وهم الذين أبدوا رأيا خاصا بهم . ولقد أوضحنا سلفا أن هذا الفريق يرتكز موقفه على الجمع بين التردد من قبول فحوى رواية ابن عذاري، والشك كذلك من أن يكون موقف عبدالرحمن من مسألة تعيينه لولي عهده بتلك الصورة البعيدة عن الحسم. إن حالتي التردد والشك هما دافعان تتولد منهما الرغبة في المزيد من الاستقصاء وطرح البدائل أيضا، وقد يكون لذات السبب وسيلة مجدية أمام الافتقاد لوسائل أخرى. لاسيما عندما تكون الأداة هذه -كما سنرى لاحقا- مدعومة بحقائق استدلالية، وبراهين معززة لرسم الصورة.(1/11)
وبهذه المعطيات، يلتمس البحث مبررات المتابعة للقضية، مع الاعتراف المسبق، بأن ما سيطرحه سيكون أقرب إلى جملة من الفرضيات والاستنتاجات، يستعين في بناء أطرها بروايات مبعثرة أهمل المؤرخون العناية بها، ليس لسبب آخر سوى أنهم أهملوا أصلا الاهتمام بموضوع البحث هذا، ألا وهو موضوع انتقال الإمارة الأموية من مؤسسها عبدالرحمن بن معاوية (الداخل)، وإلى أول خلفائه، هشام بن عبدالرحمن، مع استقصاء المسببات المحركة لها، والكيفية التي تمت بها، والوصول بها في آخر الأمر إلى النتائج التي انتهت إليها.
إذا كانت رواية ابن عذاري الواصفة لكيفية انتقال الحكم من عبدالرحمن إلى هشام قد بقيت الرواية التي استأثرت باهتمام المؤرخين، قديمهم وحديثهم، على حد سواء؛ إلا أن تقصي المصادر التاريخية الأخرى بإمعان أبان أن تلك الرواية لم تكن بأي حال الرواية الوحيدة التي سجلها المؤرخون لهذه الواقعة. وقد يكون هناك مبرر لالتماس العذر لهؤلاء، لعدم الاهتداء إليها، فهي في أول الأمر مبثوثة في مواضع متفرقة، بمعنى إشارة هنا، وإلماح هناك؛ فهي على تلك الهيئة، يصعب الاهتداء إليها، ولا يمكن الاستفادة منها إلا عند جمعها على هيئة مترابطة واحدة، فضلا عن ذلك، أن أغلب تلك الروايات، كما سيوضح ذلك لاحقا، تأتي في صيغ تلميح، أو بعبارات غير مباشرة، قد يغفل المرء عنها، إن لم توظف دلالاتها لهدف الموضوع تحديدا.(1/12)
إن استعراض جملة هذه الروايات، والتي سوف يشار إليها من الآن بـ " الروايات الأخرى،" تمييزا لها عن رواية ابن عذاري، تبين أمرا مهما لسياق النقاش الدائر، وهو غلبة التأكيدات بأن عبدالرحمن، كما تؤكد ذلك رواية ابن عذاري، لم يؤجل البت في قراره في اختيار هشام وليا للعهد إلى أيامه الأخيرة، بل تظهر هذه الروايات بأن عبدالرحمن كان قد أظهر حيال هذا الأمر دلائل التوصل إلى قرار يسبق بكثير تلك اللحظات؛ (1) فابن الآبار في معرض حديثه عن هشام، يشير مؤكدا بأنه كان مرشحا للخلافة من قبل أبيه. (2) ويقرب المقري الصورة قائلا: "وتولى الملك بعده، عبدالرحمن، ابنه هشام بعهد منه إليه." (3) (4) ولا يبعد ابن خلدون عن ذلك بقوله: "إن عبدالرحمن عندما هلك كان قد عهد بالأمر إلى ابنه هشام،" (5) وأخيرا، وفي جملة التأكيدات بأن هشام كان قد وقع الاختيار عليه في زمن أبيه، يقول النويري بأن عبدالرحمن"كان قد عهد إلى ابنه هشام بالولاية وهو حينها في ماردة واليا عليها لأبيه." (6) (7) (8)
__________
(1) مثل لسان الدين ابن الخطيب، الذي قال: "وكان قد عقد الخلافة لابنيه هشام وسليمان، فاستحق هشام باستباقه إلى قصر الخلافة قبل أخيه، إذ كانا غائبين،" أعمال الأعلام، 11."
(2) محمد بن عبد الله بن أبي بكر بن الآبار القضاعي، الحلة السيراء، تحقيق حسين مؤنس (القاهرة: الدار العربية للكتاب ، 1963م)، 1: 43.
(3) أحمد بن محمد المقري التلمساني، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق إحسان عباس (بيروت: دار صادر، 1388هـ/1968م)، 1: 334.
(5) عبد الرحمن بن خلدون، تاريخ ابن خلدون "ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر000،" تحقيق خليل شحاتة (بيروت: دار الفكر ، 1401هـ/1981م)، 4: 71.
(6) أحمد بن عبدالوهاب النويري ، نهاية الأرب في فنون الأدب، تحقيق حسين نصار (القاهرة: المكتبة العربية، 1403هـ/ 1983م)، 24: 51.
(7) _
(8) _(1/13)
فضلا مما سبق، هناك روايات تلمح لإحراز هشام الولاية بعبارات غير مباشرة، فالمقري، في موضع آخر من كتابه، وفي معرض حديثه عن عبدالملك بن عمر بن مروان ابن الحكم الأموي، وجهوده في محاربة اليمانية المنتزين على عبدالرحمن في إشبيلية، يقول مستطردا بأن عبدالرحمن -حينما رآه، أي عبدالملك- قد جرح، أتاه وجرحه يجري دما وسيفه يقطر دما، وقد لصقت يده بقائم سيفه، فقبّل بين عينيه، وجزاه خيرا، وقال له: " يا ابن عم، قد أنكحت ابني وولي عهدي هشاما ابنتك فلانة، وأعطيتها كذا وكذا، وأعطيتك كذا، ولأولادك كذا، وأقطعتك وإياهم كذا، ووليتكم الوزارة." (1) (2)
ويصعّد J.A. Condy من حالة التأكيد بأن الأمر كان قد حسم لهشام في أيام أبيه بإيراده رواية مفصلة يشرحها على النحو التالي: "جمع عبد الرحمن بن معاوية في نهاية السنة السبعين ومائة ولاة أقاليم الأندلس الستة في قرطبة؛ (3) (4) وهي طليطلة، وماردة، وسرقسطة، وبلنسيا، وغرناطة، ومرسيه بالاسم، فضلا عن أربعة وعشرين وزيرا، وعند اكتمال نصاب هؤلاء في محضره، مع حضور حاجبه، وقاضي قضاته، وخطيب الجامع الكبير، وهم أهل مشورته، ورجاله الخُلْص، أعلن عبدالرحمن بأن ابنه هشام هو ولي عهده الأوحد، وخليفته من بعده، ومن ثم أخذت البيعة ويمين الولاء له في حياته، ولهشام بعد موته." (5) (6) (7)
__________
(1) المقري، نفح الطيب، 3: 95.
(2) _
(3) وهي أقاليم الأندلس، كما أقر تقسيمها عبد الرحمن نفسه.
(5) J. A. Condy, History of the Domination of the Arabs in Spain, trans. J. Foster (London: Henry
G. Bhon, 1854), 1: 224.
(6) _
(7) _(1/14)
كان من الممكن أن تحسم رواية كوندي الأمر المختلف عليه تماما، فهي لا تؤكد على حسم عبدالرحمن لقضية ولاية العهد، ولصالح هشام صراحة فحسب، بل تنوه بأن الإعلان لذلك جرى في محفل رسمي، وبصورة قاطعة لكل بوادر الشك. بيد أن الرواية تعترضها عقبات تمنع من الأخذ بها بصورة قاطعة، فهي أولا ينفرد بها كوندي، ولا ترد عند غيره إطلاقا، كما تفتقد الرواية، ثانيا، الإشارة لأي مصدر، وكان من الممكن التجاوز عن هذه الاعتبارات، وقبول الرواية، على الظن بأن كوندي ربما استقاها من حوليات أسبانية غير معروفة لنا؛ وذلك لأننا نملك حالات مماثلة اعتمد فيها على مثل تلك المصادر، وإن لم يصرح بها كعادته في كثير من الأحايين، أو أنه اعتمد فيها على مترجمات من مصادر أندلسية لم تصلنا، أو أنه حتى أخذها من مؤرخ معروف لنا، وهو ابن حيان القرطبي، ومن جزء مفقود الآن من كتابه المعروف المقتبس الذي يغطي عصر عبدالرحمن وهشام، لا سيما أن كوندي يشير إلى ابن حيان في غير موضع من كتابه. (1) (2) لكن برغم كل ذلك، إلا أن كوندي يضعف روايته بنفسه، مما يقلل من إمكانية الاعتماد عليها بالقطع ، فهو يضعفها بذكرها مرتين، وبنفس التفصيلات، مرة في حديثه عن ولاية هشام، وأخرى في الحديث عن الكيفية التي تولى بها هشام ولاية العهد من أبيه، وكأنه بذلك يبدي دلائل اختلاط الأمر عليه. (3) ولذلك فإن البحث سيكتفي بالإشارة إلى رواية كوندي بدون أن يعوّل عليها أكثر من ذلك.
__________
(1) لقد استفاد كوندي وأمثاله مثل ليفي بروفنسال من كتاب ابن حيان كثيرا، ويظهر ذلك جليا في ثنايا كتابه الكبير.
(2) _
(3) Condy, History, 210.(1/15)
ألمحت الروايات التي استشهدنا بآراء أصحابها آنفا إلى حقيقة مهمة، وهي أن البت في قضية ولاية العهد كان قد حسم بها في أيام عبدالرحمن، وأن الترشيح كان من نصيب هشام، وليس غيره. ومع التسليم بهذه الخلاصة، يتوجب على البحث الآن طرح سؤالين: (1) إذا كان عبدالرحمن راغبا في خلافة هشام له، واتخذ قراره في ترشيحه لولاية العهد مسبقا، لماذا إذن أبقى الأمر سرا ولم يعلنه صراحة حسما للشكوك؟ (2) وإذا كان الأمر قد حسم لصالح هشام بتلك الصفة، لماذا كان الترشيح لهشام، وهو ليس الأكبر في ترتيب الأبناء، بل كان يسبقه سليمان في الترتيب؛ فهو الأكبر بينما هشام الثاني؟ وأخيرا ما هي مسوغات ترشيح هشام والتجاوز عن سليمان؟
قد لا يكون من السهل تقديم إجابة عن هذه التساؤلات، فالمصادر التاريخية والمراجع تتغافل عن القضية مرة أخرى، ولا تقدم حيالها إجابات شافية، وعليه لا يتبقى سوى اللجوء إلى التساؤلات الفرضية مرة أخرى؛ أيكون سبب إبقاء عبدالرحمن قراره بترشيح هشام لولاية العهد سرا راجعا إلى أنه حينما حان وقت اتخاذ القرار الحاسم هذا كان رجلا متعبا من الجهد الذي بذله لبناء الدولة، والإبقاء عليها، أكان يعرف أن إعلان القرار صراحة سيجلب للدولة مشاكل مجددة؟ ولعل حدس عبدالرحمن كان صائبا هنا، كما كان تقديره لما هو متوقع صحيحا أيضا، فسليمان جلب لدولة أخيه هشام، وعمه الحكم بن هشام من المشاكل والمناهضات ما برهن على صدق مثل ذلك التوقع. هل كان عبدالرحمن، بوصفه قد شعر بحرج الموقف لو أنه سمى ابنه هشاما بالاسم، وفي ذلك تجاوز للأصغر على أخيه الأكبر سليمان؟ أيكون أخيرا، ومع ميله إلى هشام، ركن عبدالرحمن إلى جملة من التدابير وأحكم خيوطها، وأمل أن ينتهي الأمر إلى نهايته المرجوة.(1/16)
إن إثارة مثل هذه التساؤلات تلجئنا إلى العودة إلى رواية ابن عذاري مرة أخرى؛ فالرواية كما أثبتناها تحوي وقفات ينبغي علينا الوقوف عند خطوطها بعض الشيء. هناك، أولا، العبارة التي قالها عبدالرحمن لابنه عبدالله الذي كان إلى جانب فراشه: "من سبق إليك من أخويك." إن هذه العبارة تلمح بأن عبد الرحمن كان قد ترك الخيار مفتوحا بين ابنيه، كما ترك الفرصة سانحة للاثنين بشرط أسبقية الوصول إلى قرطبة من مركزي ولايتيهما، سليمان من طليطلة، وهشام من ماردة، بيد أن التمعن في هذا الشرط يبين أن السباق المفروض على الأخوين لم يكن سباقا عادلا، لا من حيث المسافة، ولا من حيث توافق نقطة البدء، أو ربما حتى من حيث العلم ببدئه. فمن حيث المسافة وتوافق نقطة البدء، هناك اختلاف معروف ببعد طليطلة، مركز انطلاقة سليمان، منه إلى بعد ماردة، نقطة انطلاقة هشام إلى قرطبة. إن المسافة بين طليطلة وقرطبة، كما يحددها ابن خرداذبه، هي مسرى "عشرون ليلة،" أو "تسع مراحل،" كما هي عند الإدريسي، ويصف الإدريسي مسالك المرتحل من قرطبة إلى طليطلة قائلا: "من أرادها –طليطلة – سار من قرطبة، في جهة الشمال، إلى قبة أريش، أحد عشر ميلا، ومنها إلى دار البقر ستة أميال، ثم إلى بطروش أربعون ميلا .. ومن حصن بطروش إلى حصن غافق سبعة أميال، ومن قلعة غافق إلى جبل عاقور ... ثم قلعة رباح .. وهكذا." وبالمقارنة يحدد الإدريسي المسافة بين قرطبة وماردة بـ "بضع مراحل،" ويصف مسالكها بـ"مرحلة لطيفة" أو "على بعد عشرين فرسخا." (1)
__________
(1) عبيدالله بن عبدالله بن خرداذبه ، المسالك والممالك (القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، د. ت.)، 89؛ أبو عبدالله محمد بن محمد بن عبدالله بن إدريس الإدريسي الحموي، نزهة المشتاق في اختراق الآفاق (القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، د. ت.)،.580:2-581؛ أبو عبدالله محمد بن أبي بكر الزهري ، كتاب الجغرافية، تحقيق محمد حاج صادق (القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، د. ت.)، 86.(1/17)
إن المسافة بين قرطبة وطليطلة إذن هي تقريبا ضعف المسافة بين قرطبة وماردة، ولا طائل للحديث عن المشقة المسالكية التي يتكبدها المترحل في الطريقين، ولا نخال أن مثل هذه الحقائق كانت تخفى على عبدالرحمن. بيد أن الحقيقة الواضحة هنا هي أنه إذا فُرض أن خبر وفاة عبدالرحمن أُرسل إلى الأخوين سليمان وهشام بالتزامن، ألا يكون هشام في مثل هذه الحالة هو المُبلغ بالوفاة قبل أخيه سليمان؟ بحكم اختلاف طول الطريق على الرسولين؛ وبالتالي يكون انطلاقته إلى قرطبة قبل انطلاقة أخيه. أولا يكون ذلك أيضا عاملا قد أُخذ بحسبانه؟(1/18)
فضلا على ما ذكر، هناك إشارات وردت عند بعض المؤرخين تفيد بأن بلوغ خبر وفاة عبدالرحمن لهشام وسليمان لم يكن أيضا بالتزامن، فهناك تلميح بأن الخبر، فيما يرويه ابن الأثير، أُبلغ به هشام وحُبس عن سليمان. إن عبدالله، كما تفصل الرواية، عمل بوصية أبيه " أخذ البيعة لأخيه هشام وكتب إليه ينعي أباه وبالإمارة، فسار من ساعته إلى قرطبة فدخلها في ستة أيام واستولى على الملك. (1) (2) إن نص ابن الأثير يشير بالجزم إلى أمرين؛ أولهما، أن الأمر كان قد انتهى لهشام، وصار إليه، ثانيهما، أن خبر الوفاة كان قد حُبس عن سليمان، وهذا تؤكده سير الوقائع التالية لما حدث، فسليمان لم يعرف بوفاة والده، إلا بعد أن انتهى الأمر لهشام، وهو لا يزال في طليطلة، حيث آثر عندئذ البقاء فيها، كما يروي ابن عذاري، ومجاهرة هشام بالعداوة، حيث أخذ بيعة أهل طليطلة وما جاورها لنفسه، وغلب عليها. (3) وإن كانت هناك معلومات مفادها، حسبما سيرد لاحقا، أن سليمان سار بجيش إلى قرطبة.
__________
(1) علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبدالكريم بن عبدالواحد بن الأثير الشيباني الجزري ، الكامل في التاريخ (بيروت: دار الكتاب العربي، 1403هـ/1983م)، 5: 83. ويروي النويري الواقعة بتفصيل أوسع قائلا: " فبايع له أخوه عبدالله وكتب إليه ينعي أباه ويعزيه ويعرفه أنه بايع الناس له، فلما وصل إليه الكتاب سار إلى قرطبة، فدخلها في ستة أيام استولى على الملك، وخرج عبدالله إلى داره مظهرا لطاعته، وفي نفسه خلاف ذلك." وينفرد ابن عذاري برواية حدوث معركة بين هشام وسليمان أثناء التوجه إلى قرطبة، عند سماعهما خبر وفاة الداخل، وأن النصر كان حليف هشام في هذه المواجهة، البيان المغرب، 2: 62؛ النويري، نهاية الأرب، 73.
(2) _
(3) ابن عذاري ، البيان المغرب، 2: 62، نقلا عن الرازي.(1/19)
من خلال هذه المعطيات، هل يمكن أن نقول إن الوصية التي نطق بها عبدالرحمن وهو على فراش موته فيما يخص موقفه من ولايتي عهد ابنيه سليمان وهشام، لم تكن في واقع الأمر إلا فصل الختام لأمر كان قد دبر، وأحكم تفصيلاته، لعل ذلك ما كان.
لقد أثار البحث سؤالين خاتمة للفصل السابق، يتعلق الأول بسبب إبقاء عبدالرحمن رغبة توليه ابنه هشام الولاية سرا، والثاني، لماذا كان الترشيح لهشام، وما هو سبب الميل إليه؟ ومن أجل الوصول إلى إجابات لهذه التساؤلات، يتوجب على البحث تقصي أسباب الميل إلى هشام، والبحث عن الشروط المطلوبة التي توافرت فيه ومقارنتها بالشروط التي لم تتوافر عند سليمان.
محاولة رصد الفوارق بين سليمان وهشام
حاولت المصادر، ربما لإدراكها أهمية واقعة وصول هشام بن عبد الرحمن إلى إمارة الأندلس خلفا لأبيه بوصفه حدثا يستحق الاهتمام والعناية، أن ترجع بذاكرتها إلى الوراء ما أمكن وتسجل كل ما تمكنت من رصده عن سليمان وخاصة عن هشام. وينبغي الاعتراف هنا أن اهتمام المؤرخين نتج عنه توفير قدر مهم من المعلومات عن الأخوين، الأمر الذي نتج عنه أيضا رصد فروقات شخصية متباينة في الطباع الشخصية، وكذلك في الميول والقدرات الخاصة، وفي الانتماءات أيضا وجوانب القوة والضعف فيهما. فالمصادر التاريخية رصدت هذه الفوارق بالإشارة إليها صراحة، أو بالتنبيه لها بالتلميح، أو حتى بإيرادها ضمن سياق استدلالي ضمن مرويات عامة.(1/20)
عن الرصد المباشر، يسجل ابن الآبار ما يمكن اعتباره أميز الفروق التي كانت قائمة بين الأخوين، بقوله إن عبد الرحمن، اعترافا منه بحال ابنيه سليمان وهشام وتنويها بهما، كان يأخذهما بالركوب إلى القصر ومشاهدة مجالس مشورته: "وكانا يركبان متداولين ومتناوبين لا يجمعان. فإذا كان يوم هشام، تأهب حاضرو المجلس من كبار أهل المملكة ... والإفاضة في الحديث إلى إنشاد شعر أو ضرب مثل أو ذكر يوم من أيام العرب أو ذكر حرب، أو اجتلاب حيلة، أو حكاية تدبير وإحماد سيرة؛ وإذا كان يوم سليمان خلا من ذلك كله، وانبسط الحاضرون في غث الأحاديث، وأخذوا في الدعابة." (1) (2)
وفي محاولة من المصادر لرصد مكامن هذه الفروق، يفصل صاحب نفح الطيب :
"وكان الداخل كثيرا ما يسأل عن ابنيه سليمان وهشام، فيذكر له أن هشاما إذا حضر مجلسا امتلأ أدبا وتاريخا وذكرا لأمور الحروب ومواقف الأبطال، وما أشبه ذلك، وإذا حضر سليمان مجلسا امتلأ سخفا وهذيانا، فيكبر هشام في عينه بمقدار ما يصغر سليمان، وقال يوما لهشام: لمن هذا الشِّعر؟
وَتَعْرِفُ فِيهِ مِنْ أَبِيهِ شَمَائِلا ... وَمِنْ خَالِهِ أَوْ مِنْ يَزِيد وَمِنْ حُجر
سَمَاحَةَ ذَا، وَبِرَّ ذَا، وَوَفَاءَ ذَا، ... وَنَائِل ذَا، إِذَا صَحَا وَإِذَا سَكَر
فقال له: يا سيدي، لامرئ القيس، ملك كندة، وكأنه قاله في الأمير أعزه الله؛ فضمه إليه استحسانا بما سمع منه، وأمر له بإحسان كثير، وزاد في عينيه، ثم قال لسليمان على انفراد: لمن هذا الشعر؟ وأنشد البيتين، فقال لعلهما لأحد أجلاف العرب، أما لي شغل غير حفظ أقوال بعض الأعراب؛... ويستطرد المقري قائلا: فأطرق عبدالرحمن وعلم قدر ما بين الاثنين من المزية." (3) (4)
__________
(1) ابن الآبار، الحلة السيراء، 1: 42.
(2) _
(3) المقري، نفح الطيب،1 : 334.
(4) _(1/21)
إن الجملة الأخيرة التي يختم بها المقري روايته تلمح على توجه في عبدالرحمن ينبغي التنبه إليه، وهو أنه لم يكن البتّة غافلا عن التعرف على الاستعدادات المتوافرة في ابنيه الكبار سليمان وهشام. فعلى النقيض من لوم بعض المؤرخين عبدالرحمن بإهماله إعطاء عنايته بتسمية من يتولى الأمر من بعده، إلا أن المتابعة الشخصية منه لاختبار قدرات ابنيه اللذين يعدهما بالتروي للأمر، يمكن عدّه أمرا يقع في صميم عنايته بهذه القضية. فالوصية الأخيرة التي استعرضناها تؤكد على إلمامه التام بمكامن القوة لدى الاثنين؛ "فإن سبق إليك هشام، فله فضل دينه وعفافه واجتماع الكلمة عليه؛ وإن سبق إليك سليمان، فله فضل سنه ونجدته وحب الشاميين إليه،" إن الفوارق التي أشار إليها عبدالرحمن هي في الواقع أكثر الفوارق ثباتا على الأخوين، بمعنى أن عبدالرحمن حينما أوصى بالوصية المشهورة كان أعرف الناس بالفوارق القائمة بين ابنيه.
أما عن الفوارق الاستدلالية التي يستدل عليها من سياق روايات غير مباشرة، فهناك أيضا قدر غير قليل منها. لكن قبل التعامل مع مثل هذه الروايات، ينبغي علينا الإشارة هنا إلى أن البحث -في مرحلته هذه- سيكتفي بما ذُكر عن هذه الفوارق قبل تولي هشام بن عبد الرحمن الإمارة، وذلك لأن ما ناله هشام من مدح وثناء بعد توليه الإمارة، وعدم ذكر لما يماثلها من المؤرخين عن سليمان، يجعل من غير الإنصاف إيراد شواهدها، بل إرجاء ما قيل عن "هشام الأمير" إلى حين مناسبة الحديث عنها لاحقا، وعند الحديث عن مزايا "هشام الأمير أيضا،" إذ ليس من العدل الحكم على سليمان الذي كان نصيبه الإهمال والسلبية من المؤرخين بنفس المعيار الذي ناله هشام من الاهتمام من المؤرخين إبان توليه الإمارة، فالمؤرخون عندئذ أولوا هشاما موفور عنايتهم وتقديرهم للأمير عادة وانصرفوا في المقابل عن سليمان لبقائه خارج السلطة.(1/22)
بالإضافة إلى ما قيل، هناك مبرر مقبول لإيراد الفوارق التي ذكرت عن الأخوين قبل تولي هشام الإمارة دون الخشية من الوقوع في الانحياز لأحدهما، إذ ليس هناك ما يدعو إلى الشك أن المؤرخين وقتذاك كانوا يتعاملون معهما بنظرة متساوية؛ فنحن لا نملك دلائل انحياز منهم لأحدهما دون الآخر، فهم وعند إشارتهم إلى صفات خُلقية إيجابية في هشام، ولم يأتوا إلى مثلها عند سليمان، فإن هذا لم يكن بسبب تفضيل لأحدهما وإنما إقرار لواقع مثبت. فالمؤرخون مثلا حينما أشاروا لهشام بأنه كان متصفا بصفات أخلاقية عالية منها: الحرص على مودة الناس والطموح وصنيعة الرجال وكذلك البعد عن الصغائر، والنظرة البعيدة، فإنهم حينها لم يثبتوها عليه إلا لأنه كان متصفا بها أصلا، ولكن دون أن يغيب عن بالنا أن مجمل هذه الصفات لربما قالها المؤرخون عن هشام، ذاكرين أنه عرف بها قبل وصوله الإمارة، إذ ليس مستبعدا أنه لو وصل سليمان إلى الإمارة بدلا من هشام لربما عرفناه بهذه الصفات، ولم نعرف منها شيئا لهشام.
وصُف هشام بأنه "كان عاقلا، لم تعرف منه هفوة في حداثته، ولا زلة في أيام صباه." (1) ومثل هذه الأوصاف لا توردها المصادر عن سليمان؛ فالمصادر إن أوردت
__________
(1) ابن عذاري، البيان المغرب، 2: 62.(1/23)
شيئا عن سليمان، فإنها تورد صفات يمكن الاستدلال منها بأنه لم يكن يوازي أخاه في الصفات الحسنة. فهناك رواية ترد عند غير مؤرخ، يشير فيها أصحابها إلى واقعة كان كل من سليمان وهشام طرفا فيها، في هذه الواقعة الطويلة، ومن سياق أحداثها وجود تباين واضح في الطبائع والتصرف بين سليمان وهشام. ففيما يخص جانب سليمان في الحادثة، تلمح الرواية بوضوح على غلبة الطبع الاستبدادي فيه، فهو يظهر كوالٍ لا يتورع من إيقاع مظلمة على عشيرة كاملة، بنو كنانه في جيان، في أمر يخص أحد أفرادها، وذلك حينما كان يتولى أمر المدينة لوالده. وفيما يخص جانب هشام هنا؛ الرواية تظهره كرجل حريص على إحقاق الحق، ورفع المظلمة ممن أُوقع به، وتفصل الرواية قائلةً، إن هشاما، عندما أتاه الكناني شاكيا ومبلغا عما وقع عليه وعلى عشيرته من قبل سليمان، لم يقف إلى جانبه ويرفع عنه بفدية كبيرة – "عقد كان شراؤه عليه ثلاثة آلاف دينار" - فحسب، بل نراه يتوسط لدى أبيه عبدالرحمن برفع الظلم وتحمل كافة الفدية المفروضة من بيت مال المسلمين، والكتابة إلى سليمان بالإمساك عن مثل ما فعل مستقبلا. (1) (2)
__________
(1) هي قصة طويلة، لم نشأ إيرادها خشية الإطالة، ونكتفي بإحالة القارئ إليها في المواضع التي يكررها المؤرخون. بالتناقل؛ انظر : المؤلف المجهول، أخبار مجموعة، تحقيق إبراهيم الأبياري (القاهرة: دار الكتب الإسلامية، 1401هـ)،110-113 ؛ ابن عذاري، البيان المغرب، 2: 67-68؛ المقري، نفح الطيب، 1: 335-336.
(2) _(1/24)
الواقعة السالفة تلمح أيضا إلى صفة يؤكد المؤرخون حرص هشام عليها، وهي صنيعة الرجال والإبقاء على مودتهم، فالكناني الذي حمل المظلمة إليه لم يكن إلا أحد قدماء صنائعه من أهل جيان، وبسببه كان هشام حريصا على إرضائه ورفع المظلمة عنه. في الحقيقة أن ذات الصفة الأخلاقية التي عُرف بها هشام يورد لها المؤرخون مثالا آخر، فابن الآبار وآخرون، يروون أن "رجلا يعرف بالهواري دخل على هشام في حياة أبيه -وهو مرشح للخلافة- فقال له إن فلانا مات عن ضيعة تعود بكذا وكذا من الغلة، وإنها تباع في دين أو عن وصية، وهي ناعمة مثمرة وطيبة الأرض مخصبة، وحضه على اشترائها. فقال له: "أنا أريد أمرا إن بلغته غنيت عنها، وإن قطع بي دونه خسرتها؛ ولاصنطاع رجل أحب إليّ من اكتساب ضيعة، فقال له الهواري: فاصطنعني بها تجد أكرم مصطنع، فأمر بابتياعها –له- فأشار بعض من حضر إلى أن الاستعداد بالمال أعون على درك الآمال فأطرق عنهم ثم قال:
البَذْل -لاَ الجمْعُ- فِطْرَة الْكَرَمِ ... فَلا ترد بي مَا لَمْ ترد شِيَمِي
مَا أَنَا مِنْ ضيعَةٍ وَإِنْ نعِمَت؟ ... حَسْبِي اصْطِنَاع الأَحْرَارِ بِالنِّعَمِ
ملك الْوَرَى، وَالْعِبَاد قَاطِبَة ... -لاَ ملك بَعْضِ الضِّيَاعِ- مِنْ هِمَمِي (1)
ما يلفت الانتباه فيما قاله هشام شِعرا هو البيت الأخير، في هذا البيت يؤكد هشام على صفة فيه يعدها العارفون له أنها من إحدى صفاته المميزة، ألا وهي الطموح، وبُعد النظر والترفع عن الصغائر. فهشام هنا يؤكد أن همه ليس امتلاك الضياع، بل ملك الورى والعباد قاطبة. وإن تطلعه هذا فيه تأكيد على ترفعه عن المكاسب الآنية والوقتية الصغيرة، وإنما هدفه المكاسب العالية والكبيرة.
__________
(1) ابن الآبار، الحلة السيراء، 1: 42.(1/25)
إن سيرة هشام الحسنة تلك، على أية حال، ليست كذلك دوما. فالمؤرخون، برغم حرصهم على إبعاد السلبيات عن سيرته عموما، إلا أنهم لا يملكون الحيلة من ذكر حادثتين كان هو محورهما، تظهران جانبا من شخصية هشام يناقض ما عُرف عنه من لين وتسامح.
تتعلق الحادثة الأولى، فيما حصل بينه وبين شاعر عصره عاصم بن زيد التميمي، المعروف بكنيته: أبو المخشى؛ وكان أبو المخشى قد اعتاد -كما عُرف عنه- على التكسب من شعره، وكان عارفا بالتنافس، والمشاحة القائمة بين الأخوين سليمان وهشام، على أيام أبيهما، وكان لذلك كثير التردد على بلاط سليمان في طليطلة أيام ولايته عليها. ويروى عنه -حينه – قوله شِعرا تعرض، أو هكذا قيل عنه، كما هو عند بعض المؤرخين، فيه إلى صفة خُلقية كانت في هشام، وهي الحول، وعند سماع ذلك، استدعى أبا المخشى إلى مقر ولايته في ماردة، وعند وصوله إليها، أمر هشام بقطع لسانه وسمل عينه. (1) (2)
__________
(1) هو عاصم بن زيد بن يحيى بن حنظلة بن علقمة بن عدي بن محمد التميمي، ثم العبادي الجاهلي. وقد روى غير مؤرخ تفاصيل واسعة عنه وعن حياته، وخاصة ما كان بينه وبين هشام، انظر : ابن سعيد، المغرب في حلي المغرب، تحقيق شوقي ضيف (القاهرة: دار المعارف، 1955م)، 2: 123-124؛ كذلك، لسان الدين بن الخطيب، الإحاطة في أخبار غر ناطة، تحقيق محمد عبدالله عنان (القاهرة: مكتبة الخانجي، 1977م)، 4: 232-233. انظر كذلك: عبدالغفور روزي، "أبا المخشى الأندلسي التميمي، شاعر أعار سيرته للتاريخ،" المجلة العربية للعلوم الإنسانية، الكويت (تحت النشر).
(2) _(1/26)
إن دلائل الإفراط في القسوة لدى هشام تتكرر أيضا في قتله ابني كل من خالد بن عثمان وتمام بن علقمة، وهما من أبناء الدعائم التي قامت دولة عبدالرحمن في الأندلس على أيديهما، فخالد بن عثمان، وهو من زعماء الموالي في الأندلس، كان أول من ناصر رغبة عبدالرحمن في إقامة دولة له هناك، وكان له أثر لا ينكر في تهيئة الأوضاع له عند دخوله إليها. أما تمام بن علقمة، فقد كان مبشرا لعبدالرحمن، وهو في المغرب، بتآلف أنصار له في الأندلس؛ ومن ثم مصاحبته الدخول معه في مركبه إليها.
رواة هاتين الواقعتين، على أية حال، يصمتون عن الأسباب التي أدت بهشام إلى ارتكاب مثل تلك الفظائع التي تتنافى مع ما عُرف عنه من لين الطبع والتسامح، كما أنهم لا يذكرون زمن وقوعهما، والأرجح هنا أن هشاما وقع في مثل تلك الزلاّت قبل توليه الإمارة، إذ أن المعروف هنا أن أمره بقطع لسان أبا المخشى كان في أيام ولايته على ماردة، في أيام عبدالرحمن. والمعروف أيضا أن هشاما، كدلالة على التماسه جانب الزهد والرحمة، إبان توليه الإمارة، كان قد ندم على ما لحق بأبي المخشى على يده، إذ تقرب إليه وحاول إصلاح حاله بالأموال.
إن هشاما، على أية حال، كان قد أقر بالتباين المتطرف في صفاته في حالتي السكون والغضب، وذلك عندما ألمح إلى ذلك شعرا بقوله:
تَفِيضُ كَفِّي فِي السِّلمِ بحر نَدَى ... وَفِي سِجَالِ الحرُوبِ بحر دَمِ (1)
فهو كان حليما، يُنصح باتقاء غضبه في شبابه، وإن غدا حليم الصفات، كما سنرى لاحقا، في أيام إمارته.
الفروقات القائمة بين سليمان وهشام وتعامل عبدالرحمن معها
__________
(1) انظر إلى مجمل هذه الوقائع في: المقري، نفح الطيب، 1: 335-336.(1/27)
ظل عبدالرحمن الداخل، أبا وأميرا مسؤولا عن مصالح دولته، معترفا بالفروقات الفردية التي تمكن من رصدها في ابنيه سليمان وهشام. وقد بينت وصيته -كما عرفناها- اعترافا منه بمزايا لسليمان؛ "فضل سنه ونجدته وحب الشاميين له،" وبأخرى لهشام؛ "فضل دينه وعفافه واجتماع الكلمة عليه."
إن إفصاح عبدالرحمن بتلك الفروقات في وصيته الأخيرة تدل على أنه كان مدركا لتوافر دلائل فردية مميزة في كل من ابنيه اللذين كان يعد أحدهما لخلافته من بعده. ويستحسن الإشارة هنا إلى أن عبدالرحمن أظهر في جميع المراحل التي تمكن البحث من تتبع خيوطها العدل والمساواة تجاه سليمان وهشام، سواء في تنشئتهما وتعليمهما، أو في إيكال المسؤوليات لهما فيما بعد.
لقد بدأ عبدالرحمن في الاعتماد على سليمان وهشام حال إدراكهما لسن المسؤولية في استشارتهما في اختيار من كان يرغب في ترشيحه لتولي المناصب المهمة في دولته، فالاثنان سويا كان لهما رأيهما في اختيار مصعب بن عمران لمنصب قاضي الجماعة. (1) وتواصل الأمر بعد ذلك، كما يقول ابن الآبار، "باستوزارهما، تنويها بحالهما." (2) ومن هذه الأمثلة يمكن القول إن سليمان وهشام كانا فعليا من عداد رجالات دولة عبدالرحمن في قرطبة رغم بكورة سنهما. (3) (4)
__________
(1) الخشني، أبو عبدالله محمد بن الحارث بن أسد القيرواني، قضاة قرطبة، تحقيق دار إحياء التراث (القاهرة: الدار المصرية للتأليف والترجمة، 1966م)، 3.
(2) ابن الآبار، الحلة السيراء، 1: 42.
(3) لعل ما يؤكد هذا التفسير قول المقري إنه "لم يكن للداخل من يطلق عليه سمة وزير، لكنه عين أشياخا للمشاورة والمؤازرة،" المقري، نفح الطيب، 3: 45.
(4) _(1/28)
عندما أخذت دولة عبد الرحمن في التوسع في الأندلس على أثر تغلبه المرحلي على أعدائه والمناوئين لدولته، بدأ عبد الرحمن عند ذاك في الاعتماد الفعلي على ابنيه في ملء مناصب الولاية المهمة في الأقاليم التي ضُمت لدولته. ويبدو أن عبد الرحمن بدأ بهذا الأمر أولا بسليمان، إذ يرد في قصة الكناني، التي سبق الإشارة إليها، أنه كان واليا على جيان من قبل أبيه؛ بينما كان هشام لا يزال في قرطبة. ولكن تاليا رأينا سليمان واليا على طليطلة، وهشام على ماردة.
الدلائل السابقة لا تلمح بأي حال من الأحوال إلى صورة تمييز وتفضيل من قبل عبدالرحمن لأحد ابنيه، بل إن التمعن الدقيق في صفة المناصب التي أوكلت لكل من سليمان وهشام يبين أنه كان هناك شيء من التفضيل والثقة في سليمان أسبق منه لهشام. صحيح أن هشاما سبق سليمان في مهمة خاصة أُوكلت إليه وهي شهود الجنائز وحضور المحافل نيابة عن أبيه، (1)
__________
(1) المقري، نفح الطيب، 3: 37. ويعزو المقري سبب ذلك إلى تعرض عبدالرحمن إلى مزاحمة من رجل أصرّ على إنصافه من مظلمة وقعت عليه من قاضيه، بينما كان يحضر جنازة. ولقد أشار إليه رجال دولته بالكف عن مثل تلك المخالطة مع الناس، وعليه فقد أوكل لابنه هشام القيام بتلك المهمات نيابة عنه.(1/29)
بيد أن هذه الإنابة كانت، كما هو واضح من مهماتها، مهمة احتفالية، ليس فيها صفة المهمات الرسمية، فهي لا تعدو عن كونها إنابة شخصية عنه في واجبات اجتماعية آثر عبدالرحمن -لظروف خاصة- عن التوقف من القيام بها بنفسه. بيد أنه من الجانب الأهم للمهمات، كانت المهمات التي أنيطت إلى سليمان، مهمات لا ريب أنها كانت أكبر مكانة وأهم، من حيث المسؤوليات المنتظرة منه. لقد بدأ سليمان مهماته الرسمية بتولي ولاية جيان لأبيه. وهي مدينة مهمة لا سيما إذا قيست أهميتها للمرحلة الزمنية لتولي سليمان لها. فهي فضلا عن أنها كانت بوابة قرطبة، عاصمة دولة عبدالرحمن، الشرقية-الجنوبية، كانت أيضا خط مواجهة بين عاصمة عبدالرحمن وأعدائه، بالأخص القوى القبلية المناهضة له في الجنوب الشرقي، والجنوبي من الأندلس.
لا ريب أن مسؤولية سليمان، بوصفه رجلا حائزا على ثقة أبيه، يضطلع بحماية أطراف الدولة، تضاعفت بتوليه ولاية مدينة طليطلة. إن طليطلة هي ليست أبعد المدن من قرطبة عمقا في الوسط الشمالي للأندلس فحسب، بل هي المدينة الرئيسة التي ألقى عليها مهمة مراقبة الشمال النصراني، فهي لهذا الاعتبار اكتسبت مسمى "عاصمة الثغر الأندلسي الأدنى." ويضاف إلى ذلك اعتبار آخر، ميز هذه المدينة عما عداها من مدن الأندلس، فالمعروف أنها كانت عاصمة دولة القوط قبل الفتح الإسلامي، وعليه فقد شُكلت غالبية سكانها من العناصر الأسبانية القديمة، زاد عليه أن عناصر كثيرة من الجماعات العربية المعادية لعبدالرحمن والتي فقدت قواعدها في الجنوب والوسط الأندلسي قد نزحت إليها. ولذلك فإن مهمة الإبقاء على هذه المدينة تحت النفوذ الأموي، ومنع المد النصراني جنوبا، والسيطرة على سكانها المتنافرين عرقيا وسياسيا، كان لا شك يمثل عبئا ثقيلا لعبدالرحمن وسليمان أيضا.(1/30)
وفي المقابل، فإن مدينة ماردة التي أوكلت ولايتها لهشام، كانت أقل من حيث الاستراتيجية الراهنة أهمية من طليطلة. فالمدينة وإن كانت قد عدت سابقا أنها واحدة من ثلاث مدن في الوسط الأندلسي، بعد إشبيلية وقرطبة، من حيث الأهمية، إلا أنها وعند ولاية هشام لها كانت قد بدأت تفقد هذه المكانة تدريجيا، خاصة بعد اطمئنان عبدالرحمن على وضعها وولائها، بعد تمكنه من القضاء على المناهضات التي انطلقت منها، مثل حركة العلاء بن مغيث اليحصبي، التي استمدت قوتها من تحريض العباسيين لها، أو حركة الفاطمي، التي قام بها رجل من البربر، يعرف بشقيا بن عبدالواحد المكناسي، (1) (2) التي انطلقت من ما يعرف بالغرب الأندلسي. ولهذا الاعتبار، فإن ماردة لم يكن يمثل حكمها تحدياً لعبدالرحمن ولهشام على السواء؛ فالأمويون حينذاك كانوا قد أحكموا سيطرتهم على كامل ما يعرف بمنطقة القلب الأندلسي، والتي كانت ماردة تقع في نطاقها الجغرافي. ولذلك فإن الاهتمام الأموي العسكري لم يكن منصبا بالدرجة الأولى على هذه المنطقة، بقدر ما كان موجها إلى مناطق الأطراف البعيدة مثل طليطلة.
__________
(1) انظر تفصيلات هذه المواجهات، المؤلف المجهول، أخبار مجموعة، 94-101.
(2) _(1/31)
تقود الطروحات السابقة إلى خلاصة يمكن الإفادة منها بأن سليمان كان قد ضمن لنفسه أولوية سلم الترتيب الإداري والسياسي في الأندلس، من بعد عبدالرحمن، إذ يشفع له إحراز مثل هذا الضمان غير اعتبار، أوله: كبر سنه، أو فضل سنه، كما أقر بذلك عبدالرحمن نفسه، في الوصية المعروفة. (1) (2) (3) ثانيه: أن عبدالرحمن أوكل إليه القيام بمهمات كبيرة لدولته، وهي لا تزال تعاصر مراحل بناء قوتها الإدارية. ثالثه: نجاح سليمان في المهمات الموكولة إليه دون ترك قصور يتنبه إليه المؤرخون الراصدون دوما لسلبياته.
لعل أقوى الدلائل المعبرة على تعزز مكانة سليمان عند أبيه، والمؤكدة أيضا على أن مستقبل الأندلس السياسي كان قد عقد آماله عليه، هي الرواية التي تشير إلى أن عبدالرحمن كان قد أشاع في سنة 163هـ الرحيل إلى الشام لانتزاعها من بني العباس. وكاتب جماعة من أهل بيته ومواليه وشيعته، وعمل على أن يستخلف ابنه سليمان في الأندلس في طائفة، ويذهب بعامة من أطاعه إلى المشرق ، ثم أعرض عن ذلك بسبب أمر الحسين الأنصاري الذي انتزى عليه بسرقسطة، فبطل ذلك العزم. (4) (5)
__________
(1) يجمع المؤرخون على أولية ترتيب سليمان لإخوانه، ولكنهم يختلفون بين هشام وعبدالله، الذي يذكر في الوصية، بعضهم يجعله أكبر من هشام. أي الثاني في الترتيب بعد سليمان، وآخرون يجعلونه الثالث، أي بعد هشام، ويحسم ابن حزم الأمر مؤكدا أن سليمان كان أسن من هشام بنحو اثني عشر عاما، وهشام من بعده. أما عبدالله فيأتي ترتيبه السادس بين إخوته. انظر: أبو محمد علي بن سعيد بن حزم، جمهرة أنساب، تحقيق عبدالسلام هارون، ط5 (القاهرة: دار المعارف، د. ت.)، 94.
(2) _
(3) _
(4) المقري، نفح الطيب، 3: 54.
(5) _(1/32)
إن التاريخ الذي يحدده المقري، راوي الرواية السابقة، مهم لسياق ما سوف يطرحه البحث للمناقشة تاليا. فالتاريخ المعطى هنا، وهو السنة 163هـ، فيه تأكيد على أن عبدالرحمن بعد تغلبه على من ناوؤوه سبيل توحيده الأندلس تحت مظلة الحكم الأموي الذي أقامه، وبتنامي الشعور لديه بدخول دولته لمرحلة الاستقرار النهائي، وقبل وفاته بسبع سنوات تحديدا، كان قد قطع برأيه فيمن سيخلفه، في حال غيابه عن الأندلس في مخططه الرامي إلى قيادة جيش أموي بنفسه، واستعادة الشام من العباسيين. وهنا يبدو أن الأمر من بعده وكأنه قد قيض لسليمان دون أحد من إخوته، لأن الاعتراف بالمكانة التالية لسليمان من بعد أبيه في حياته، من البديهي أن يؤخذ به أيضا بعد مماته.
إن الإقرار بإحراز سليمان أولوية الترتيب في نظر أبيه في المرحلة المذكورة تحديدا يعيدنا إلى طرح سؤال نجمل فيه ما سبق أن تبناه البحث سالفا من أن اختيار عبدالرحمن، قبيل وفاته، كان قد استقر على هشام، متجاوزا بذلك ابنه الأكبر سليمان. وبمقتضى هذا الأمر، السؤال المطروح هو ما الذي دفع عبدالرحمن إلى تغيير رأيه، والتحول من سليمان إلى هشام؟ وبناء عليه، ما هي التغييرات التي طرأت في نفس عبدالرحمن تجاه ابنيه، وأدت إلى هذا التحول، أكان ما حصل نتيجة لتغير العلاقات، أم أن مستجدات طارئة كان لها أثرها في تغير المواقف، واستبدال الأفراد؟(1/33)
قد لا يتوافر للبحث تقديم إجابات شافية عن هذه التساؤلات، كما تعوزه الدلائل لطرح الفرضيات، فما يملكه حيال هذه المعضلة لا يعدو عن محاولات يحاول فيها البحث أن يستشف دلالات من التغيرات المرصودة على السنوات الأخيرة من حكم عبدالرحمن، والتغيرات العسكرية التي مرت بها دولته خلالها. إذ أن التحول من سليمان إلى هشام في أمرٍ مهم كولاية العهد لم يكن إطلاقا حدثا عابرا، تغفل عنه الوقائع المصاحبة، بل لابد وأن التقلبات السياسية التي عاصرتها السنوات الأخيرة لحكم عبدالرحمن سجلت حتما ما يمكن الاستدلال عليه تجاهها.
لقد أكد البحث في طروحاته الآنفة الذكر أن عبدالرحمن الداخل لم يبد منه تفضيلا لسليمان أو لهشام؛ فما عُرف عنه إيثاره المساواة بينهما، فهو إذا كان قد أسبق سليمان لمهمات كبيرة، فعمله هذا لم يكن إلا بما تفرضه أسس التعامل مع الأبناء، بحسب الأولويات السنية. إن كبر سن سليمان أهله لولايتي كل من جيان أولا وطليطلة بعد ذلك، وعندما وصل هشام إلى سن التأهل أحرز هو الآخر ولاية ماردة. ولعل عبدالرحمن -عاملا بهذا المبدأ- أعلن صراحة بأن سليمان سيخلفه في الأندلس، في حال سيره بأعوانه إلى المشرق، لاستعادة مناطق حكم أسلافه من العباسيين.
لكن توقيت عبدالرحمن لإشاعة قراره الترحل إلى المشرق هو الذي ينبغي علينا التوقف عنده قليلاً. إن سنة 163هـ هي، بلا جدال، تاريخ حاسم لبناء عبدالرحمن دولته في الأندلس. فهذه السنة تمثل بالنسبة له ذروة النجاح العسكري والتي تمكن فيها من تحقيق انتصاراته على أعدائه أخيرا، الأمر الذي مكنه أيضا من فرض سيادته على ثلثي الأندلس.(1/34)
ولعل هذا النجاح الباهر هو الذي ربما ولّد لدى عبدالرحمن شعورا متزايدا بقدرته العسكرية، الأمر الذي أطمحه بأنه بمقدوره الآن مواجهة العباسيين في عقر دارهم في المشرق. فالمرحلة إذن كانت مرحلة النشوة العسكرية العارمة التي يبرز فيها أهل الكفاءة العسكرية، ولم يكن لعبد الرحمن أقدر من سليمان، الذي عُرف بتوجهه العسكري، وميوله لطبقات العسكرية الأندلسية. فهو إذن كان رجل المرحلة، دون أدنى منافس، لا سيما إذا قورن بهشام، ذي الميول الفكرية، مثلما سنعرف لاحقا. ولذلك فإنه ليس هناك ما يدعو إلى الاستغراب إذا ما أحرز سليمان ثقة أبيه؛ فالشروط توافقت فيه بما تمليه نظرة عبدالرحمن وما أملته المرحلة التي كانت الأندلس تعايشها حينذاك.
أشارت رواية المقري إلى أن قيام الحسين بن يحيى الأنصاري بحركته الانفصالية، في سرقسطة، دفع عبدالرحمن إلى تغيير خطته الرامية إلى قيادة جيش الأندلس إلى دمشق. والواقع أن هذه الحركة برغم أنها كانت آخر الحركات التي واجهها عبدالرحمن، إلا أنها لا جدال كانت واحدة من أخطر الحركات التي واجهته؛ فهي لم تضم آخر التجمع المناوئ له في الشمال الشرقي من الأندلس، تحت قيادة كل من الزعيمين الحسين بن يحيى الأنصاري في سرقسطة، وسليمان بن يقظان الكلبي في برشلونة فحسب، بل سرعان ما تحولت إلى حركة دولية بانضمام شارلمان رأس الدولة الفرنجية إليهما. (1)
__________
(1) انظر تفصيلات هذه الوقائع في: المؤلف المجهول، أخبار مجموعة، 102-105. انظر كذلك يوجن أولمر، أسلافنا العرب، ترجمة محمد محفل (دمشق: منشورات وزارة الثقافة، 1995م).(1/35)
(1) ورغم أن البحث لا يرغب في الخوض في تفصيلات ما حدث، إلا أن ما يمكن الإشارة إليه هنا، هو أن هذه الحركة وإن كان إبطال خطورتها لم يكن مكلفا لعبدالرحمن، إلا أن نتائجها كانت مهمة له، لأنها أفضت إلى ضم مناطق الحركة لدولته؛ مما أدى إلى مد نفوذ دولة عبدالرحمن حينها إلى كامل التراب الأندلسي، فيما خلا مناطق النصارى في أقصى الشمال، لكن هذه المنطقة لم تكن قد دخلت في الحسابات السياسية العسكرية بعد.
لعل الأثر الأكبر لهذه التطورات، أن عبدالرحمن لم تعاوده الرغبة في التشفي من العباسيين بالترحال إليهم في المشرق، ولكن عوضا عنه، أبدى عبدالرحمن دلائل اهتمام بدولته التي نجح بعد كلل من إقامتها الآن على كامل الأندلس. ولا غرو أن هذا كان إنجازا مجسدا لكل ما عمل على تحقيقه. فهو الآن سيد الأندلس. وفي المقابل ليس هناك من يجرؤ على حمل السلاح ضده، كما كان الأمر في الماضي. ولعل هذا أفضى إلى تحول مهم أيضا في الأندلس، ألا وهو تجاوز دولة عبدالرحمن مرحلتها العسكرية إلى مرحلتها الاستقرارية والمستقبلية. والأهم في هذا الأمر أن هذه التغييرات كانت، فيما يبدو، تنعكس على عبدالرحمن نفسه، وتدفعه إلى التماس ما يضمن له تواصل دولته من بعده على أسس جديدة، بعيدة عن القواعد التي ارتكزت عليها توجهاته في الماضي.
__________
(1) _(1/36)
ولعل ما صاحب هذه التغييرات، تغير في الشروط المطلوبة فيمن هو الأنسب على قيادة دفة الحكم في الأندلس مستقبلا، أهو سليمان بتوجهه العسكري، أم غيره، والبديل هنا هشام بميوله الفكرية. إن الشروط المتوافرة عند سليمان لربما لم تعد الآن متوائمة مع المستجدات التي طرأت على أوضاع دولة عبدالرحمن، إذ تبدل الحال العسكري إلى الحال البنائي للدولة؛ ففي مثل هذه التحولات تغدو العقليات العسكرية عديمة التناغم، وما يتناغم في أحوال كهذه هم ذوو التوجهات الفكرية القادرة على جمع الأطراف، وتوظيفها لمصلحة البناء الجماعي الذي لا جدال أنه غدا الآن من الشروط الأولية للتواصل، وإرساء الأسس الأقوى لدولة المستقبل. ومن هو الذي تتوافر فيه شروط هذه المستجدات، ليس ذلك سوى هشام في ظروف تبديل المواقع والقيادات. هل يمكن للبحث أن يفترض أن هذه الأفكار كانت لربما تدور في رأس عبدالرحمن، المدرك لهذه التحولات، والمتسبب فيها إلى حد كبير، ليس هناك على أية حال ما يفترض نقيض ذلك.
لعل السؤال المنطقي أمام هذه المعطيات هو التساؤل المؤدي إلى: لماذا إذن لم يعلن عبدالرحمن صراحة اعترافه بهذا التحول، والإعلان رسميا باستحقاق هشام لقيادة الأندلس، في مرحلتها الجديدة؟ قد لا يكون هناك ما يدعو إلى الاستغراب، إذا لم يفعل هو ذلك. فعبدالرحمن قد وقف دون الاعتراف لأي واحد من ابنيه بالترشيح الرسمي، فهو ألمح إلى سليمان، كما رأينا، وكذلك فعل مع هشام، كما مر بنا ذلك أيضا، لكن دون الإعلان الرسمي عن ذلك. قد يكون لذلك أسباب، ولكن قد يأتي على رأس تلك الأسباب أن عبدالرحمن، برغم أنه كان يقرر مصير دولته، إلا أنه كان لربما يتصرف كأب؛ ففي مثل تلك الحالة تصبح التجاوزات الفطرية أمرا ليس هينا على التغاضي، كما فطن إلى ذلك باحث محدث. (1) (2)
__________
(1) عبد المجيد نعني، تاريخ الدولة الأموية في الأندلس، التاريخ السياسي (بيروت: دار النهضة العربية، 1986م)، 172.
(2) _(1/37)
إن غلبة الموقف الأبوي على عبدالرحمن، وصعوبة تجاوز الأكبر إلى الأصغر، لربما أدى به إلى السكوت والإبقاء على قراره سرا، وعدم البوح به جهرا، ويلجأ عوضا عنه إلى إحكام جملة من التدابير السرية، كما رأينا، ليضمن وصول هشام بها إلى الحكم.
الفرضيات المحتملة لاستحقاق هشام الولاية
معلوم أن حفظ أشعار القدامى ليس شرطا مؤهلا لصاحبه لاعتلاء مناصب السياسة العليا، وبالمثل أيضا ليس شرطا أن يكون الترشيح لمثل تلك المناصب من نصيب الملم بأيام العرب وذكر حروبهم. وفي المقابل أيضا، إن انتفاء مثل تلك الشروط عن صاحبها ليس مانعا له من مثل تلك الاستحقاقات. إن هذا الأمر برغم بديهياته، إلا أنه كان من أوليات دلائل الفروقات المرصودة بين الأخوين سليمان وهشام، كما رأينا. وهذه الفروق وإن كانت دالة على توجهات أصحابها، إلا أنها، في الوقت نفسه، كانت من الدلالات التي أخذ بها عبدالرحمن للحكم على ابنيه. فعبدالرحمن الذي ربما كان يعايش مرحلة بناء القرار لمستقبل دولته، كان يهمه أن يلتمس مثل تلك الفروقات؛ فهي بالنسبة له كانت تعني، برغم بساطة تلك الدلالات، دلائل جوهرية، لاسيما إذا فهمت بمعانيها الدالة على صفات صاحبها، فهي بهذا المنظور قد أظهرت أن هشاما كان ذا توجه إلى العلم والمعرفة، بخلاف سليمان الذي ظهر بعده عن مثل تلك الاهتمامات، يضاف إلى ذلك صورة الجدية والوقار التي عادة كان يمتلئ بها مجلس هشام، والهزء والسخرية في المقابل الذي كان يملأ محيط سليمان.(1/38)
في الحقيقة، لم تنل مسألة تحول تفضيل عبدالرحمن لخلافته هشاما بدلا عن سليمان عنايتها المفترضة من قبل المؤرخين الذين لم تسجل مدوناتهم بخصوصها ما يستحق الإشارة إليها، والاستناد عليها، في مثل هذه القضية المهمة، إن أقصى ما قدم من هؤلاء رواية عامة تناقلها غير مؤرخ تقول إن سبب التحول إلى هشام يعزى إلى توسم عبدالرحمن الشهامة والاضطلاع في هشام. (1) (2) (3)
إن التبرير المقتضب الآنف لا يعوزه الحجة فحسب، بل تضعفه عمومية إيحاءاته، فالقول بأن هشاما أحرز الترشيح من قبل والده لولاية العهد لشهامته واضطلاعه تكاد توحي أن تلك الصفات كانت مقصورة عليه، وقاصرة عن سليمان؛ وهي صفات من الصعب إثباتها على مرء ونفيها عن آخر؛ إذ من الصعب القول بأن سليمان لم يكن ذا شهامة واضطلاع. لكن المهم هنا هو القول بأن عبدالرحمن قد استند على مثل هذه الصفات العامة، للقطع برأيه على استحقاق هشام لتولي الأمر من بعده، متجاوزا بذلك ابنه الأكبر سليمان، لأنه في حالة الأخذ بمثل هذا الرأي، فإن ما ينتج عنه هو مساءلة عبدالرحمن في حكمة القطع في قراره، بهذه العجالة والسطحية؛ وهو أمر يتعارض مع الانطباعات التي نتوقعها من عبدالرحمن، الذي عرف بحيطته، وحذره الشديد لما يتعلق بدولته، أو من حيث الحرص على دقائق ما يكفل التواصل لدولته مستقبلا.
__________
(1) ظهرت العبارة أولا عند ابن الأثير، الكامل، 5: 84؛ ثم توالى تكرارها عند الآخرين. انظر مثلا: النويري، نهاية الأرب، 73. ومما هو جدير بالذكر أن المؤرخين المحدثين لم يتخطوا هذا التفسير؛ انظر كمثال أيضا، إبراهيم ياسر خضير الدوري، عبدالرحمن الداخل: سياسته الداخلية والخارجية (بغداد: وزارة الثقافة والإعلام، 1982م)، 319.
(2) _
(3) _(1/39)
إن غياب البراهين الدالة على أسباب تغيير موقف عبدالرحمن، فيما يخص من سيتولى أمر دولته من بعده، وكذلك ضعف الاهتمام الذي أبداه المؤرخون، لمثل هذا الأمر المهم، يدفع البحث إلى تبني آراء لمواجهة هذا الغباب، والضعف، بطرح فرضيات يفسر عليها استنتاجاته التي ترجح أنه لربما كانت لدى عبدالرحمن أسباب أكثر إلحاحا، أدت به في نهاية التماس أولوياته، فيمن سيكون الأجدر والأصلح، في الأخذ بيد دولته من بعده، بأن يميل إلى هشام، ويراه الأنسب للترشيح.
لعله من الجائز هنا القول بأن صاحب تحقيق عبدالرحمن لإنجازاته العسكرية على أعدائه، في الأندلس، صاحبه تبلور فكرتين لديه: يمكن شرح الأولى منهما بالقول بأن كل انتصار عسكري كان يحققه على مناوئ من المناوئين الذين وقفوا بشراسة ضد إقامته دولة الأمويين في الأندلس، كان يجسد له، وعلى إثر كل انتصار، بأن الدولة التي صارع من أجل إقامتها قد غدت حقيقة ماثلة أمام عينيه. وتكرر الانتصارات بالمنوال نفسه كان يحرره تدريجيا من التزاماته العسكرية، ويخفف من قوة سيطرتها عليه. ولا جدال في أن هذا التحول كان عاملا ليس في تغيير نظرة عبدالرحمن لدولته، وتوجيه مخططاته المستقبلية بناء عليها فحسب، بل إن هذا التحول كان في الوقت نفسه أيضا، تحولا في الذهنية الأندلسية المعاصرة لها؛ فالدولة مع تلك التغييرات لا تقوم مكتسباتها الآن على القوة العسكرية، وسواعد الجيش فقط، وإنما تحتاج إلى سواعد من يبنون فيها قواعد الاستقرار، ويغذونها بما يساعدها على الاستمرار والتواصل.(1/40)
لقد تعرض البحث آنفا إلى مسألة من كان الأنسب من الأخوين، سليمان وهشام، للأخذ بناصية الأندلس، وكذلك دولة عبدالرحمن من بعده، وبالأنسب عني البحث الذي توافقت توجهاته وميوله مع طبيعة المستجدات الذهنية التي طرأت على الأندلس إثر تخلص عبدالرحمن من أعدائه واحدا تلو الآخر. (1) وفي هذا السياق، أيضا، سبق للبحث الإشارة إلى أن أهم فارق مميز لسليمان وهشام، كان في انتماء سليمان لعصبة العسكر الأندلسي، وانتماء هشام في المقابل لأهل العلم الأندلسيين، وقد ألمح البحث حينه إن إدراك عبدالرحمن لهذا الفارق كان لربما عاملا في تحويل ترشيحه من سليمان إلى هشام في ولاية العهد، وذلك بناء على مستجدات الدولة. وهذا قد يكون أقرب للقبول، إذ لم يكن منتظرا أن يستمر عبدالرحمن في ترشيحه لسليمان، فهو لو استمر في هذا لغدا الأمر تناقضا مع واقع دولته المتبلورة بعد تجاوزها لأطوارها العسكرية، لقد عُرف عن سليمان انتماؤه إلى طبقة العسكرية الأندلسية، وبالأخص إلى المعسكر الشامي منه، فهو بسبب هذا الانتماء كان يلقب بـ "الشامي" وعبدالرحمن نفسه أقر بهذه الحقيقة في وصيته المعروفة. (2)
__________
(1) بسبب الحيز المفروض على حدود البحث، فإننا لا نستطيع التوسع في ذكر طبيعة المناهضات التي واجهها عبدالرحمن وكيفية تغلبه عليها، ونكتفي عوضا عنه بالإحالة إلى ما يقوله ابن عذاري بصددها، انظر: ابن عذاري، البيان المغرب، 2: 44-58.
(2) "وإن سبق إليك سليمان، فله فضل سنه ونجدته وحب الشاميين له،" ابن عذاري، البيان المغرب، 2: 610. وينبغي الإشارة هنا إلى أن ابن حيان، مؤرخ الأندلس، في الجزء من كتابه المقتبس الذي عثر عليه مؤخرا، والخاص بعصر حكم ابن هشام، يشير إلى سليمان بعبارة "سليمان الشامي،" ابن حيان القرطبي، المقتبس الثاني، طبعة فكسملية للمخطوطة (مدريد: الأكاديمية الملكية التاريخية، 1999م)، ورقة 2 للمخطوط، ص 2 للطبعة..(1/41)
وعليه فإن عبدالرحمن لو أبقى على ترشيحه سليمان، فإن ذلك كان يعني بطريق مباشر إعادة الحيوية للعسكرية الأندلسية؛ ولاسيما الفريق الشامي الذي ما فتئ يحارب عبدالرحمن، طوال أيام المجابهات العسكرية. إن عبدالرحمن في تحوله عن سليمان كان لربما يتصرف بمقتضى إدراكه أن العسكرية الأندلسية؛ قد أمكن التغلب عليها، وعليه فهو لم يعد راغبا في أن يكون سليمان الوسيلة التي قد تمكن تلك القوة من العودة إلى المواجهة السياسية مرة أخرى.(1/42)
ويلحق بالسبب السابق سبب آخر يتماشى معه في السياق والمضمون، وهو عامل الاختلاف في أماكن ولادة سليمان وهشام، وما لذلك العامل من دلالات لها علاقة بالمفاضلة بين الاثنين في استحقاق الترشيح لولاية العهد. فسليمان كان مولده في المشرق، وكان ابن أربع سنين أو نحوه، أيام سقوط الدولة الأموية، كما أخبرنا بذلك عبدالرحمن نفسه. ويذكر الراوون لمجريات تلك الوقائع، أن سليمان كان في معية أسرته الصغيرة، الفارة من ملاحقة العباسيين، في قرية الزاب، على نهر الفرات. (1) (2) في تلك القرية، افترق سليمان عن أبيه، ومضى إلى أماكن، مختبئا مع أمه، يرعاهم خادم عبدالرحمن بدر؛ وبعدما تمكن عبدالرحمن من دخول الأندلس، وإقامة دولته فيها، أرسل فقيه الأندلس، معاوية بن صالح إلى المشرق في طلبهم، إذ لحق سليمان بأبيه في الأندلس. (3) وبهذا الاعتبار، إن سليمان بغض النظر عن سنه، حينما لحق بأبيه في الأندلس، يمكن عده من طبقة المشرقيين الوافدين على الأندلس.
__________
(1) يشير المؤلف المجهول، صاحب أخبار مجموعة، إلى أن ولادة سليمان كانت بدير حنا، من كورة قنسرين، ووالده لا يزال غلاما حدثا ابن سبع عشرة سنة، 53، كما يروي المقري، في النفح، تفاصيل تلك الوقائع، 3: 27.
(2) _
(3) ابن القوطية، تاريخ افتتاح الأندلس، 55، هذا مع العلم بأن ابن القوطية يحدد أن الطلب كان بغرض إحضار شقيقات عبدالرحمن فقط، بينما يحدد النويري أن المرسول الذي أرسله عبدالرحمن كان لغرض إحضار سليمان، نهاية الأرب، 63. وتلمح مصادر أخرى إلى أن لحاق سليمان بأبيه كان في القيروان، قبل دخوله الأندلس.(1/43)
أما هشام، فكان من الطبقة المولودة في الأندلس، ومن أم أسبانية الأصل. فهو بهذا الاعتبار يعد من طبقة المولدين، أب عربي وأم أسبانية، اسمها "حلل،" (1) (2) وهو أول ولد يولد لعبد الرحمن في الأندلس. (3) (4)
__________
(1) المقري، نفح الطيب، 1: 334، ويرد اسمها مختلفا عند عدد من المؤرخين مثل "حوراء"عند محمد بن أبي نصر فتوح بن عبدالله الحميدي الأزدي، جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس (القاهرة: الدار المصرية للتأليف والترجمة، 1966م)، 10، وجمال عند ابن عذاري، البيان المغرب، 61. وهي جارية كانت أهدته إياها ابنة يوسف الفهري، آخر ولاة الأندلس، بعد عفو عبدالرحمن عن أبيها، بعد معركة المصارة، وهي نفسها كان أبوها قد وعد بتزويجها له حال دخوله الأندلس.
(2) _
(3) هشام، كما يورد ابن حزم، كان أصغر من سليمان بنحو اثني عشر عاما، جمهرة أنساب العرب، تحقيق عبدالسلام هارون، ط5 (القاهرة: دار المعارف،د. ت.)، 94.
(4) _(1/44)
إن توجهات عبدالرحمن في سنوات قراره الأخيرة، كانت ولربما تميل إلى إعطاء عامل الاختلاف إلى كون سليمان معدودا من رعيل الوافدين إلى الأندلس، وهشاما من طبقة المولدين. ففي معيار هذا الاختلاف، كان سليمان، بانتمائه إلى طبقة الداخلين، يعد من طبقة أندلسية، كانت قد بدأت تدخل مرحلة النضوب؛ وذلك بسبب قلة الداخلين منهم إلى الأندلس، في الزمن المعنى به، وانحسار عدد الجيل الوافد القديم، وكان ذلك في مقابل نمو طبقة المولدين، الذين ينتمي إليهم هشام، عدديا. بمعنى آخر، لقد رمزت هذه المستجدات وكأن الأمر يتعلق الآن بين رعيل منحسر، آخذ في الضعف والانكماش، وهم رعيل المشرقيين الوافدين إلى الأندلس، وآخر نامٍ في عدده وقوته، وهم طبقة المولدين، لقد بدا الأمر أيضا وكأنه يرمز إلى المقارنة بين طبقة ماضية، وأخرى تتزايد اطرادا، لتشكل مستقبل الأندلس. وبين الماضي والحاضر، كان على عبدالرحمن أن يختار المستقبل، حيث توافرت الشروط في هشام أكثر من أخيه.
لقد أكد تحول قرار عبدالرحمن من سليمان إلى هشام كولي لعهده، تجاوبه ليس مع مستجدات أوضاع دولته فحسب، بل على استعداده للتخلي عن تقليد أموي موروث، عُرف التزام الأمويين به أيام دولتهم في المشرق، ألا وهو تفضيل الابن الأكبر لولاية العهد، وكراهيتهم أيضا ترشيح أبناء الإماء لولاية العهد. (1) (2)
__________
(1) انظر دراسة عمر العقيلي حول الموضوع، "أسلوب تعاقب،" 15-18.
(2) _(1/45)
لقد عرفنا أن سليمان كان الأكبر في ترتيب أبناء عبدالرحمن، "وأمه لخمية من ولد حاطب بن أبي بلتعة،" (1) وهي عربية حرة. أما هشام، فقد عرفنا أن أُمه كانت أمة أندلسية، من إماء بنت يوسف بن عبدالرحمن الفهري، آخر ولاة الأندلس.
إن التفسير المعقول الذي يمكن منه فهم تجاوز عبد الرحمن لعاملي "الأكبر سنا" و"الأم العربية الحرة" يكمن لربما في انحصار رؤية عبد الرحمن، حين اتخاذه قرار التحول إلى هشام، والتجاوز عن سليمان، في التفكير في أولويات دولته، قبل أي اعتبار آخر؛ وفي هذا التوجه، لم يتخل عبدالرحمن عن التقاليد الأموية السابقة التي كان يحُرص عليها فحسب، بل تغاضى عن غريزة أبوية كانت تلزمه بمنح التفويض للأكبر سنا. لعله لم يكن سهلا لعبدالرحمن التحلل من مثل هذه الاعتبارات. ولعل الدليل على ذلك يكمن في سكوته عن إعلان قراره، وعدم البوح به علنا، بيد أن ما كان يهم عبدالرحمن، فوق هذه الاعتبارات الصعبة، سوى تحقق أمرين لا ثالث لهما: ألا وهما أن يسلم، أولا، ناصية دولته لطبقة المولدين، الذين كانوا بازدياد أعدادهم حينها، آخذين في تشكيل قاعدة القوة القادمة في الأندلس، وثانيا، الاطمئنان على أن يواصل هؤلاء السير بالدولة بعيدا عن نفوذ القوى القبلية العسكرية المنهكة، وفي هذا يلمح عبدالرحمن وكأنه كان ماضيا في بناء دولته الأموية في الأندلس على قاعدة أندلسية محلية جديدة، وليس على موروثاتها المشرقية السابقة.
__________
(1) ابن حزم، جمهرة، 94. ويزودنا محمد بن حارث الخشني بتفصيلات يقول فيها إن عبد الرحمن تزوج من هذه المرأة، حيث ولدت منه ولدا، وهو سليمان، وابنة لحقت بأبيها مع سليمان، حيث توفيت في الأندلس ودفنت بمقبرة الربض، قضاة قرطبة (القاهرة: الدار المصرية للتأليف والترجمة، 1966م)، 24.(1/46)
يوظف ابن خلدون دلالة رمزية للتمييز بين أصحاب التوجه العسكري، وبين ذوي الميل إلى العلم بالإشارة إلى الفريق الأول "بأرباب السيف" وتعريف الآخر "بأرباب القلم." (1) (2) وتطبيق هذا التمييز على توجه عبدالرحمن يتضح لنا من الوهلة الأولى أن عبدالرحمن الذي اعترف له غريمه الأول، رأس الدولة العباسية، أبو جعفر المنصور، بكل المزايا العسكرية، (3) (4) كان في حقيقته رَجُلا قلما اضطر على أن ينحبس في قيود رجال السيف، فهو وإن برز كرجل سيف، إلا أن نفسه كانت تتحرى إلى أن تعبر عن نفسها كرجل قلم. لقد برهن عبدالرحمن على أنه متى ما سكنت السيوف، فإنه كان من المولعين بالأدب والعلم، والعاملين في ميادينها، والمقدرين لرجالها، حتى كأننا نلمس أن تلك الرغبات كانت تنحبس في صدره وقت اضطراره لحمل السيف، وتنطلق متى ما أعاده إلى غمده. لقد عبر في أوقات سلمه، وهي تحديدا أعوام حكمه الأخيرة في الأندلس، عن مكنونه الفكري شعرا ونثرا، وقدم نفسه مساهما في المساجلات التي دارت بينه وبين علمائه ورجاله، ولا غرو وكتعبير عن هذا الأمر، أن أفرد له المقري فصلا في كتابه، يشير فيه إلى فسحة العلم عنده. (5)
__________
(1) ابن خلدون، عبدالرحمن، المقدمة، نشرة خليل شحاته وسهيل زكار (بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر، 1401هـ/1981م)، 318.
(2) _
(3) لسان الدين ابن الخطيب ، أعمال الأعلام، تحقيق ليفي بروفنسال (الرباط: مطبوعات معهد العلوم العليا المغربية، 1934م)، 10.
(4) _
(5) المقري، نفح الطيب، 3: 37-54؛ انظر كذلك دراسة خالد الصوفي حول الموضوع، تاريخ العرب في الأندلس: عصر الإدارة، 2 (منشورات جامعة قاريونس-كلية الآداب ، 1980م)، 100-106.(1/47)
لا شك أن الظروف العسكرية الصعبة التي عاصرها عبدالرحمن إبان دخوله الأندلس كانت تحول بينه وبين التنفيس عن نفسه فكريا. ولعل مما كان يصعب من موقفه هذا شعوره بأن مرور الزمن عليه، وهو يحمل السيف، كان يقلل من فرصه في تحقيق تطلعاته في هذا الجانب، ويستنهك الوقت اللازم له، كما يلح عليه بأن ما بقي من أيامه لن يسعفه في زرع، حتى بعض القليل منه، في دولته التي أقامها في الأندلس.
من الواضح أن عبد الرحمن كان يملؤه الشعور، لاسيما في أواخر سنوات حكمه، أن الأندلس قد بدأ يتشكل فيها نوع من القاعدة العلمية، خاصة مع وفود بعض من العلماء المشرقيين إلى الأندلس، وكذلك عودة عدد من الطلاب الأندلسيين الذين ارتحلوا منها إلى المدينة للدراسة على يد عالم دار الهجرة الإمام مالك بن أنس، من أمثال الغازي ابن قيس، وأبي موسى الهواري، ومصعب بن عمران الهمداني، ومعاوية بن صالح الحضرمي، ومحمد بن بشير المعافري. (1) (2) وقد أغرى دخول هؤلاء بعلومهم الأندلس نفرا من طلاب العلم الأندلسيين للأخذ منهم، ومن ثم بذر البذور الفكرية الأولى هناك، ومن آثار ذلك أن الأندلس كانت عندئذ قد بدأت تدخل مرحلة فكرية نشطة، كانت في حاجة للرعاية، خاصة من حكامها، لكي تحقق النمو والتواصل مستقبلا.
__________
(1) انظر في مواضيع تراجمهم، الخشني، قضاة قرطبة، كذلك: القاضي عياض السبتي، أبو الفضل عياض ابن موسى بن عياض اليحصبي، ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مالك، تحقيق أحمد بكر محمود (بيروت:دار مكتبة الحياة، 1967م)، 1: 202-203؛ أيضا: أبا بكر محمد بن الحسن الزبيدي الأندلسي، طبقات النحويين واللغويين، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (القاهرة: دار المعارف، 1392هـ/1973م)، 254-255.
(2) _(1/48)
إن طبيعة نشأة دولة عبدالرحمن، والظروف السياسية والعسكرية المقيدة لمسارها، وكذلك غياب القاعدة العلمية القادرة على الاستيعاب، ومن ثم الاستفادة من رعيل أولئك العلماء، جعل الانتفاع بهم مقصورا على تعيين بعضهم في مناصب مستحدثة، مثل تعيين بعض هؤلاء في مناصب قاضي الجماعة وغيرها. (1) بيد أن الجانب الإيجابي الذي نتج عن وجود هؤلاء العلماء، أن بعضهم التمس البادرة في عقد حلقات الدروس في المسجد الجامع الذي بناه عبدالرحمن في قرطبة، ليحركوا بذلك سكون العلم، ويثيروا بين أوساط طلاب العلم قدرا من الاهتمام بتثقيف علومهم وإضافة المزيد عليها.
__________
(1) الخشني، قضاة قرطبة، 14؛ ويشير الخشني إلى أن القاضي قبل عبدالرحمن كان يعرف بقاضي الجند؛ انظر كذلك: محمد بن عبدالوهاب خلاف، تاريخ القضاء في الأندلس، من الفتح الإسلامي إلى نهاية القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي (القاهرة: المؤسسة العربية الحديثة، 1412هـ/1992م)، 28-34.(1/49)
إن انسياق غير عامل مع بعضه، وتوافر الميل النفسي لعبدالرحمن نحو العلم وكذلك الرغبة في زرعها في الأندلس، تكون قاعدة علمية للأندلس على النحو الذي أشرنا إليه، كان لا شك دافعا لعبدالرحمن ليحول مسار دولته من مسارها العسكري، وتوجيه دفتها إلى ما يتوافق مع قناعاته بأن دولته ماضية في طريق استقرارها. لقد أدت الدولة واجبها العسكري، وبفضل هذا الإنجاز أمكن توحيد الأندلس في دولة واحدة، بعد أن كانت تفتقر إليها منذ الفتح. ولكن برغم أهمية تلك الإنجازات، إلا أن الدولة المتكاملة الأركان في نظر عبدالرحمن كانت، وهو الذي أدرك دولة جده هشام بن عبدالملك وهو يافع مدرك، (1) (2) لا تكتمل حساباتها وصورتها في الإنجاز العسكري، والوحدة السياسية فحسب، فثمة ما يبقى ناقصا، لاسيما إذا قورن تكامل جوانب الدولة بما اختبره وشاهده في بلاط جده، إذ ليس هناك خلاف في أن الخلافة الأموية في عصر هشام بن عبدالملك كانت تعيش ذروة تكاملها الشامل؛ فهي كانت قد تجاوزت مراحلها العسكرية (ذروة الفتوحات)، في عصر الوليد وسليمان ابني عبدالملك، ومن بعدهما. ومنذ أيام عمر بن عبدالعزيز، وأخيرا أيام هشام، كانت الخلافة تعايش إنجازاتها العمرانية والإدارية والفكرية.
__________
(1) بعد مقتل أبيه معاوية بن هشام بن عبدالملك، تربى عبدالرحمن في كنف جده هشام، المقري، نفح الطيب، 3: 48، أيضا 1: 333.
(2) _(1/50)
هناك إذن احتمال بأن صورة تلك الهيئة المثالية لماهية ما ينبغي أن تكون عليه الدولة المتكاملة كانت راسخة في ذهن عبدالرحمن، وعليه وفي كل فرصة أتت إليه، أخذ يحدث ما يشابها في دولته الأندلسية؛ وكمثال لذلك نظم الإدارة في دولته، على غرار إدارة جده، بالاعتماد على الموالي الأندلسيين، أصحاب الخبرة العملية مع الأمويين في المشرق، أمثال أسر بني عبدة، والزجال، وشهيد؛ كما أنه بنى قصره في قرطبة، باسم الرصافة، على غرار قصر جده، في دمشق، وزاد عليه بإنشاء "الغوطة،" منتجع جده أيضا. وأخيرا، عمّر جامع قرطبة، على غرار الجامع الأموي، في دمشق. (1) (2) وإذا كان عبدالرحمن قد حلم بمحاكاة دولة جده، في كل ما اشتهرت به، فلماذا إذن لا يكون زرع العلم في دولته جانبا من جوانب تلك المحاكاة، وقد عُرف اهتمامه بهذا الجانب أصلا.
لقد أشرنا من قبل إلى أن عبدالرحمن لربما كان يدرك أن الوقت المتبقي له لن يسعفه لكي يحقق للأندلس جانبها المبتغى، وهو الجانب الفكري. ومع تجسم هذا الشعور عنده، بدأ عبدالرحمن يدرك، وقد عرف ميول هشام الفكرية، بأنه سوف يكون الأنسب، لكي يحقق للأندلس هذا الجانب الذي لم يتمكن هو نفسه أن يحققه لها. ومن الجائز هنا أن تفضيله لهشام يمكن إدراكه من هذا السبب، فهشام بدا بميوله وقدراته الفكرية وكأنه الأنسب والمتوافق مع خططه التي كان يأملها للأندلس من بعده؛ وعليه فإن ما تقصاه عبدالرحمن عن ابنيه ، أظهر أن هشاما هو الأقرب لسد ما نقص عن دولته مستقبلا.
__________
(1) انظر: خليل إبراهيم المعيقل، "أثر الجامع الأموي بدمشق على عمارة المسجد الجامع في قرطبة، " الأندلس قرون من التقلبات والعطاءات (الرياض: مكتبة الملك عبدالعزيز، 1417هـ/1996م)،3: 179.
(2) _(1/51)
لقد ارتبطت حياة هشام، من خلال ما روي عنه بهذا الخصوص، وعلى النقيض من سليمان، بعلاقات حميمة دائمة مع علماء الأندلس. وعلى الرغم من قلة ما هو متوافر للبحث من قرائن، إلا أن هذا القليل فيه الدلالة الكافية في هذا الشأن، يروي الخشني قائلا إن "هشام بن عبدالرحمن رحمه الله: لما أدرك وخرج من القصر إلى داره، وانتهى إليه زهد مصعب بن عمران وورعه، فاستجلبه إلى نفسه، واستخلصه، وجعله وزيره وسميره." (1) وكان الأحرى بسليمان أن يقرب إليه مصعب بن عمران؛ وذلك بسبب صلة القربى التي كانت بينه وبين هذا العالم، فأم سليمان، التي سبق لنا تعريفها بأنها كانت امرأة من بني حاطب بن بلتعة، كانت شقيقة أم مصعب. (2) (3)
فضلا عن الاحتمالات السابقة التي طرحت، كأسباب لنيل هشام أفضلية الترشيح من قبل أبيه، لخلافته في إمارة الدولة الأموية، في الأندلس، يورد المقري رأيا في سبب الترشيح يمكن ضمه إلى جملة الأسباب الآنفة، فعلى حسب قوله: إن عبدالرحمن كان يرى في هشام أنه الأصلح لتهدئة الأمور، والالتفات إلى مطالب الناس. (4) (5) وعلى الرغم من أن ما يذكره المقري لا يضيف جديدا لما نعرفه مسبقا عن أخلاقيات هشام، إلا أن القول إذا نظر إليه من منظور عبدالرحمن، فإنه لربما يحمل دلالة يمكن ضمها إلى الدلالات السابقة، في تفضيله لهشام. ففي مرحلة التوجه إليه، كان عبدالرحمن يرى في هشام صفة إضافية تتوافق مع نظرته الخاصة لدولته، ألا وهي القدرة على تأليف القلوب وتهدئة الأحوال. فالدولة في أيامها القادمة لم يكن ينتظر من رجالها، ولاسيما قادتها، المواجهة وخوض المعارك، بل كان ينتظر منهم الميل إلى السلم والاحتواء، فقد انقضت دولة السيف، وأقبلت دولة البناء، بمعنى رحل عصر التمزق، وحل بدله عصر التآلف والوحدة.
__________
(1) الخشني، قضاة قرطبة، 14.
(2) المقري، نفح الطيب، 1: 338.
(4) لسان الدين بن الخطيب، أعمال الأعلام، 11.
(5) _(1/52)
هل كان هشام في محل الآمال والتوقع منه؟
سيظل البحث مبتورا إذا لم يشفع بالإجابة عن السؤال الذي عنونا به فصلنا الحالي. لقد بنى البحث طروحاته طوال الفصول السابقة على تحري الأسباب التي أدت بعبدالرحمن بن معاوية (الداخل) إلى تفضيل ابنه هشام لولاية عهده، متجاوزا به أخاه الأكبر سليمان. وقد انحصرت المبررات التي قدمت كإجابة عن جملة التساؤلات، في أن عبدالرحمن رأى توافقا بين توجهات هشام وميوله الشخصية، والمسار الذي فضله لدولته من بعده. وبناء عليه، فقد عُقدت عليه جملة من الآمال والتوقعات بأنه هو الأصلح والأكفأ والأنسب لحمل مسؤوليتها مستقبلا. ومع مجمل الأحكام العامة التي دار النقاش حولها، أكد البحث على تميز هشام بالاهتمام الفكري، وتوقع عبدالرحمن للسبب ذاته بأنه هو الأقدر للأخذ بيد الأندلس صوب هذا المنحى. ولهذا السبب، في المقام الأول، فإن هدف البحث هنا سيكون منصبا على متابعة هشام وأعماله، وتقويمه على أساس نجاحه من عدمه في تحقيق التوقعات والآمال التي عقدت عليه.(1/53)
من الإنصاف، وإحقاقا للحق، ينبغي علينا الاعتراف بأن الركيزة الأساس التي بنى عليها هشام أعماله من أجل تحقيق ما كان متوقعا منه أن يحقق، يعود الفضل فيه إلى عبدالرحمن نفسه. في الحقيقة، لقد كان الإنجاز الأكبر الذي يحسب لعبدالرحمن، فضلا عن أهمية إقامته الدولة الأموية في الأندلس، نجاحه في إضعاف أعداء دولته، وقطع دابر قوتهم. وقد جنى هشام الفائدة الأولى من هذا الأمر؛ فعندما تولى حكم الأندلس، لم تجابهه سوى مناهضات خاصة لا تمثل شيئا بالمقارنة إلى المناهضات التي تصدى لها والده. ولعل أفضل مثال لتلك الحركة التي قام بها مطروح بن سليمان الأعرابي في سرقسطة. (1) (2) فشتان بين هذه الحركة التي كانت أشبه ببقايا الرماد، وحركة أبيه الخطيرة على عبدالرحمن، كما مرّ بنا. وفي مقابل انعتاق دولة هشام من أعدائها المعدودين، أُجبرت الدولة على مواجهة خطر عائلي داخلي. قد يكون عبدالرحمن قد توقع حدوثه، وهو حركة إخوان هشام، سليمان وعبدالله، وذلك في حركة عصيان أشعلها الاثنان ضد أخيهما في طليطلة، مركز قوة سليمان، "مضرية ويمانية،" كما وصفها ابن عذاري. (3) ولقد مكن قضاء هشام على حركة أخويه، إحياءه تقليدا أمويا معروفا للأمويين في المشرق، في الغزوات المعروفة بالصوائف، على تخوم الإمبراطورية البيزنطية. فالمصادر تورد أخذ هشام البادرة لغزو مناطق نصارى الشمال في الأندلس، في مناطق ألبه، والقلاع، وجيلقيه، وحتى تخوم دولة الفرنجة، مثل أربونه؛ (4) وهي مناطق لم يتمكن عبدالرحمن من الالتفات إليها، لانشغاله بأعدائه داخل الأندلس.
__________
(1) ابن عذاري، البيان المغرب، 62:2.
(3) يقدم ابن عذاري معلومات وافية عن سير هذه المواجهات وكيفية القضاء عليها، البيان المغرب، 2: 62-63.
(4) ابن القوطية، تاريخ افتتاح الأندلس، 63-64.(1/54)
من هذا يحق لنا القول بأن هشاما لم يرث حكما هانئا من أبيه فحسب، بل استهل حكمه بمبادرات لم يتمكن عبدالرحمن نفسه من القيام بها، ومحصلة القول هي أن عبدالرحمن هيأ لهشام أرضا مهيأة للبذر، وما كان على هشام سوى استزراعها، وإنبات ثمارها.
في هذا الصدد يمثل حرص هشام على تكملة توسعة مسجد قرطبة التي شرع عبدالرحمن في بنائها، دلالة أخرى على تداخل العهدين، ووحدة أهدافهما. فعبدالرحمن وإن كان قد هدف من بناء المسجد، على أرض مسجد، كان قد أنشئ في موقعه قديما، منذ أيام ثاني ولاة الأندلس، أيوب بن حبيب، (1) إلى بناء مسجد جامع يلبي حاجة سكان عاصمته، إلا أن المسجد وفي أواخر أيامه غدا أيضا مركزا للتبادل الفكري؛ حينما عقدت حلقات الدروس فيه، وأقبل على الحلقات طلاب العلم، سواء من قرطبة أو خارجها، ليضاف بذلك مهمة أخرى إليه، فضلا عن صفته كمسجد جامع، وهي مهمة جامعة قرطبة؛ وهو دور اضطلع به المسجد، في عصور الأندلس اللاحقة. ولعل هشاما، وهو مدرك أيضا للتوقعات المعقودة عليه، رأى في توسعة المسجد، وإضافة مساحات فيه، توافقا مع مهماته المضافة. ويخبرنا المقري أن هشاما انتفع من غنائم غزوات مناطق نصارى الشمال، في الصرف على تكملة بناء الجامع، وترميم منشآت عمرانية أخرى في قرطبة، مثل قنطرة قرطبة، على نهر الوادي الكبير. (2)
__________
(1) انظر بحثنا "رؤية جديدة لولاية أيوب بن حبيب اللخمي وأسباب نقل عاصمة الأندلس من إشبيلية إلى قرطبة،" مجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية، مدريد (تحت النشر).
(2) المقري، نفح الطيب، 1: 337-338؛ ويشير المؤلف المجهول إلى أن رجلا أوصى -في زمن هشام- بمال في فك سبية من أرض العدو، فطلبت فلم توجد، احتراسا منه بثغره، واستنفاذا لمن سبى، وضعفا من عدوه عنه، أخبار مجموعة، 106.(1/55)
إن أعمال هشام التي ألمحنا إليها آنفا، لا تعبر على أية حال عن خصوصية كانت متوافرة فيه دون غيره، إذ ليس هناك ما يمنع من الافتراض أن سليمان لو كان هو المتولي للأمر بدلا من هشام، لما قام بغير ما قام به هشام، فتلك الأعمال وإن توافقت مع ما كان مأمولا من هشام، إلا أنها بصورة أخرى كانت أعمالا يفترض أن يقوم بها أي حاكم، متى ما دعت الحاجة إليها.(1/56)
لقد ألمح البحث غير مرة إلى أن أحد الأسباب المهمة لوقوع الاختيار على هشام لخلافة أبيه هو ما عُرف عن توافر صفات وتوجهات خاصة فيه. ويقدم المؤرخون صورا عديدة عن تلك الصفات والتوجهات؛ مما يساعد ليس على فهم شخصيته بعمق فحسب، بل على تقويم أثره في الأعمال التي قام بها خلال حكمه القصير للأندلس (172-180هـ/788-796م). وفي هذا الشأن يلمح بعض المؤرخين إلى صفات الجدة والتقى والحرص على مصالح الرعية؛ بيد أن هؤلاء، وهم يعدون تلك الصفات فيه، يعزون سبب اتصاف هشام بها يعود إلى نبوءة تنبأ بها أحد المنجمين بأن مدته في الحكم ستكون ثمانية أعوام أو نحوها. (1) إن معرفتنا بأسبقية اتصاف هشام بتلك الصفات من قبل توليه الحكم، كما ألمح البحث إلى ذلك سابقا، يدفعنا إلى التقليل من واقعة النبوءة، كعامل لتحول هشام إلى الصفات الحسنة التي عُرف بها؛ فالسمات الأخلاقية التي اتصف بها، إبان توليه الحكم، لم تكن بأي حال طارئة عليه، ولكنه كان متصفا بها، كما تؤكد على ذلك المعلومات المتواترة عنه في أيام شبابه؛ ولكن فيما يبدو أن ما أغرى الذين قبلوا بقصة النبوءة، هو الخلق النادر الذي دونته الكتابات التاريخية عنه، إذ يندر أن تتحدث مدونة عن هشام إلا وتبرز الجانب الأخلاقي النادر فيه. (2)
__________
(1) الضبي، المعجم، انظر كذلك سياق الرواية عند المقري، نفح الطيب، 1: 334-335. وقد رد هشام على تلك النبوءة بقوله: يا ضبي ما أخوفني أن يكون النذير كلمني بلسانك، والله لو أن هذه السنوات كانت في سجدة لله تعالى لقلت طاعة له". ويستطرد المقري قائلا: "إن هشاما زهد في الدنيا، والتزم أفعال الخير".
(2) من الصعب استعراض جميع ما قيل عن هشام وصفاته، ومن الإطالة أيضا ذكر الإحالات، وعليه فنحن نكتفي بما قاله ابن عذاري، البيان المغرب،2: 65-66، ففيما قاله الكفاية وكذلك مثال لما أطنب فيه المؤرخون..(1/57)
(1) وغالبا ما شبه في سيرته بالخليفة عمر بن عبدالعزيز، رضي الله عنه؛ الأمر الذي عده ابن الأثير مبالغة من المؤرخين لهشام، مع أنه هو نفسه يفيض في تعداد حسناته وصفاته. (2) (3) ومن نافلة القول هنا إن هشاما كان لقب من قبل أهل الأندلس بـ " الرضى" أو "الرضا،" كناية عن رضاء الناس عنه. وقد علق على ذلك ابن حزم الأندلسي بقوله: "بأن هشاما انفرد عما سواه من الأمويين بلقب منح له، وليس معلنا، كما هو الحال عند الآخرين." (4)
__________
(1) _
(2) ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 5: 480.
(3) _
(4) ابن حزم، نقط العروس في تواريخ الخلفاء، نشر ضمن رسائل ابن حزم الأندلسي، تحقيق إحسان عباس، ط 2 (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1987م)، 48.(1/58)
ولعل من الأسباب التي أدت إلى ترسيخ صورة هشام المرضية عند المؤرخين، هو إقرانه النوايا الحسنة بالعمل، والشواهد الدالة على هذا الجانب هي في الحقيقة غنية ومتعددة. ابن عذاري، مثلا، يختم حديثه عن هشام، ناقلا مما كان يتواتر عنه: "أدركت صدرا من الناس يحكون أن أيام هشام هذا كانت من الدعة والعافية والهدوء بحيث لم يعلم لها مثل، وكان يحضر الجنائز، ويزاحم فيها، كأنه أحد من الناس، تواضعا." (1) ويزيد صاحب أخبار مجموعة: "وكان هشام يصر الصرر بالأموال، ويبعث بها في ليالي المطر والظلمة إلى المساجد، فتعطى من وجد فيها، يريد بذلك عمارة المساجد." (2) (3) ولم تكن أعماله تلك تقتصر على قرطبة وبعض مدن الأندلس الكبرى، بل تشمل النواحي أيضا، ويشير المقري إلى هذا بقوله: "وكان -هشام- يبعث بقوم من ثقاته إلى الكور، فيسألون الناس عن سير عماله، ويخبرونه بحقائقها، فإذا انتهى إليه حيف من أحدهم، أوقع به وأسقطه، وأنصف منه، ولم يستعمله بعد ذلك. (4) (5) وقد أُثر عن هشام قوله: "إن النصفة للمظلوم لا تكون من الظالم دون تسليط الحق عليه." (6) (7) وقد اعترض له يوما متظلم من أحد عماله ... فبعث إلى الشاكي، وقال له: "أحف عليّ كل ما ظلمك فيه." (8)
__________
(1) ابن عذاري، البيان المغرب، 2: 62 0
(2) المؤلف المجهول، أخبار مجموعة، 110؛ ويضيف ابن عذاري "أن هشاما كان يقوم بالمهمة بنفسه،حيث يخرج بها بين المغرب والعشاء يتفقد المسجد،" البيان المغرب، 2: 66.
(3) _
(4) المقري، نفح الطيب، 1: 336.
(5) _
(6) انظر الواقعة التي قيلت العبارة فيها، المؤلف المجهول، أخبار مجموعة ،110.
(8) ابن القوطية، تاريخ افتتاح الأندلس، 57.(1/59)
إن بلوغ الحرص حدا عاليا في هشام في سبيل إرضاء الآخرين من اليسير الاستدلال عليه من غير رواية تلمح إلى قوة الرغبة عنده، حتى تكاد تقترن مع راحته النفسية في تحقيقها. فهو مثلا، فيما يبدو، كان قد بقي في نفسه شيء لما أوقعه على الشاعر أبي المخشى من سمل عينيه، أو قطع لسانه، كما مر بنا ذلك، وعليه، "فإنه حينما صار الأمر إليه، رحمه الله، بعث به، إذ كان غمه ما حدث عليه بسببه، فأعطاه الدية مضاعفة. (1) (2) ولكن برغم قوة الدلالة التي نستشفها على رحمة هشام فيما انتهى إليه الأمر بينه وبين أبي المخشى، إلا أن واقعة ما حدث إثر تجديده لقنطرة قرطبة، تظل برهانا أقوى على ما كان يبديه هشام من حرص زائد على إرضاء الناس؛ وإن كان ذلك تضحية منه براحته الخاصة. فمما يروى في هذا الشأن، أنه قال يوما لأحد وزرائه: ما يقول أهل قرطبة؟ أي في شأن القنطرة، فقال، يقولون: ما بناها الأمير إلا ليمضي عليها إلى صيده وقنصه، فآلى هشام على نفسه أن لا يسلك عليها، فلم يمر عليها بعد، ووفى بما حلف عليه. (3) (4) ولعل من المستحسن أن نختم حديثنا عن فضائل هشام بإثبات حسنة محسوبة له، وهي أنه "لم يُقتل أحد من جنده في شيء من ثغوره أو جيوشه إلا ألحق ولده في ديوان أرزاقه." (5)
__________
(1) ابن القوطية، تاريخ افتتاح الأندلس، 57.
(2) _
(3) المقري، نفح الطيب، 1: 338. ويروي ابن الخطيب مضيفا أن هشام حينما بلغه ذلك، حلف أن لا يجوز عليها إلا لغزو في سبيل الله أو مصلحة. والمثير للانتباه هنا هو تعليق ابن الخطيب للواقعة بقوله إن هذا هو شأن الناس مع أرباب الدول، واستشهد بقصة الرجل وابنه وحمار لهما، وما كان من مواقف الناس منهما، الإحاطة، 1: 120.
(4) _
(5) المؤلف المجهول، أخبار مجموعة، 106.(1/60)
إن الإقبال النفسي من هشام تجاه الآخرين كان لا بد أن يثمر عن تلاق حميم بين الطرفين، يجني منه الجانبان الفوائد المتوقعة، ولا ريب أن هشاما كان المنتفع الأكبر من المواقف الصادقة التي قدمها المخلصون له، لا سيما في المواجهات العسكرية التي خاضها ضد أعدائه، ففي معظم تلك المواجهات كان للمواقف المخلصة التي أظهرها أهل الأندلس تجاهه أثر واضح في تقرير نتائج معاركه؛ فالموالون له كانوا دوما يتفانون في الوقوف معه، والثبات على نصرته. ولعل المثال الواضح لذلك هو موقف أهل قرطبة، التي وصلها سليمان بجيش، بعد أخذه طريقا مخالفا لطريق أخيه هشام، الذي كان قد سار بجيشه حينه إلى طليطلة لملاقاة سليمان هناك. ويخبرنا ابن عذاري: أن سليمان تمكن من احتلال شقندة -الربض لاحقا- وهي الضاحية الجنوبية لقرطبة، مما يلي نهر قرطبة، -الوادي الكبير-، بيد أن هشاما، الذي سمع بالخبر، لم يكترث لذلك، إذ إنه كان واثقا من إخلاص أهل شقندة له، وقد تجلى ذلك بهزيمة أهل شقندة لسليمان، وتمكنهم من رده عن قرطبة. (1) (2) وقد لخص كوندي العلاقة المتميزة التي اتسمت بها علاقة هشام بأهل الأندلس بقوله: لقد هابه أعداؤه، وأحبته رعيته. (3) (4)
__________
(1) ابن عذاري، البيان المغرب، 2: 62.
(2) _
(3) Condy, History, 1:230.
(4) _(1/61)
كان التوجه العلمي البارز في شخصية هشام عاملا مقررا، كما أكد على ذلك البحث مرارا، لترشيحه من قبل أبيه لولاية العهد. بيد أن وصول البحث إلى نقطة الحديث عن أعمال هشام في هذا الجانب، كجزء من الآمال التي علقت عليه في أن يكون الأنسب على توجيه الأندلس إلى وجهتها الفكرية، تعترضه صعوبات تتمثل في ندرة المعلومات وفقرها، الأمر الذي لم يشتك منه البحث كثيرا حين التعرض إلى الجوانب الأخرى من صفات هشام وتوجهاته. وليس هذا فحسب، بل يضطر البحث في سبيل توفير معلوماته إلى اللجوء إلى مصادر ثانوية أسبانية، نظرا لأن المصادر العربية التي أسهبت دوما في الحديث عن هشام وأعماله، تجاهلت الحديث عنه، كراع للعلم والعلماء. ويبرز ج. كوندي J. Condy ، المؤرخ الأسباني، كموفر وحيد لكثير من المعلومات التي تتحدث عن نشاطات هشام وجهوده في توجيه المسار العلمي للأندلس. ولعل أهم المعلومات التي يذكرها في هذا الصدد هي المعلومة التي تتحدث عن اهتمامه بفتح المدارس، إذ يقول: إن هشاما بدأ حكمه بالتشجيع على إنشاء مدارس الأطفال في الأندلس. (1) وبرغم أهمية المعلومة، إلا أن كوندي كعادته، في أغلب مروياته، لا يوثقها بالإشارة إلى مصدرها، كما أنه لا توجد في المصادر العربية، في المقابل ما يقويها أو يدحضها. ولكن برغم هذه المعضلة إلا أن البحث لا يرى سببا داعيا لتجاهل مثل تلك المعلومة أو التقليل منها، لأن المعلومة تتوافق مع ما نعرفه عن ميول هشام أصلا، وكذلك مع الانطباع المكون عنه كمشجع للعلم. ولعل هذا ما رضي به المؤرخون المحدثون عندما أخذ به بعضهم كأمر مؤكد يندرج في أعمال هشام العلمية. (2)
__________
(1) lbid., 1:239.
(2) خوليان ريبيرا، التربية الإسلامية في الأندلس: أصولها المشرقية وتأثيراتها الغربية، ترجمة الطاهر مكي (القاهرة: دار المعارف، د. ت.)، 13..انظر كذلك: جورج المقدسي، نشأة الكليات: معاهد العلم عند المسلمين وفي الغرب، ترجمة محمود سيد محمد ( جدة: مركز النشر العلمي، جامعة الملك عبدالعزيز، 1414هـ).(1/62)
(1)
لكن كوندي يزيد معضلة التعامل معه، بإيراده معلومة أخرى على قدر عال من الأهمية، ليس من اليسير لمهتم بالحياة العلمية في الأندلس، في عصر هشام، أن يتجاوزها. تقول المعلومة إن الأمير هشاما إبان تشجيعه لإقامة المدارس في الأندلس، أمر أن تكون لغة التعليم فيها باللغة العربية، ويستطرد كوندي مضيفا: أن هشاما أشفع أمره بأمر منع فيه أطفال النصارى من الكتابة بلغتهم اللاتينية والتحدث بغير العربية. (2) مرة أخرى، المصادر العربية لا تشير إلى شيء بهذا الخصوص، ولا يمنع ذلك مرة أخرى، أيضا، من قبول مايقوله كوندي، ولنفس الأسباب السابقة أيضا. على الظن أن كوندي ربما أنه استقى معلومته من مصادر أسبانية كانت متوافرة له، إذ إن الاحتمال الوارد هنا أن قرارا مثل هذا لابد أنه كان مثيرا لردود أفعال قوية بين أوساط نصارى الأندلس، وبناء عليه، كان لابد أن يكون مثار اهتمام مؤرخيهم، على النقيض من المؤرخين الأندلسيين الذين ربما لم يروا فيه ما يستحق الإشارة إليه والاهتمام به. فضلا، وكما هو معروف للمتابع في هذا الجانب، عن أن عصر هشام هو في الواقع من العصور الأندلسية المبكرة، التي لا يتوافر عنها الكثير. وما كتب عنه، إما هو مفقود أو في حكم المفقود.
__________
(1) _
(2) Condy, History, 239-40.(1/63)
لكن ومع الافتراض بصحة رواية كوندي، على أية حال، فإن هذا يعني، أن اللغة العربية قد اكتسبت بهذا القرار الجريء الرعاية الرسمية لنشرها في الأندلس على يد هشام. وعليه، فإنه يمكن اعتبار ذلك بداية للجهود الرامية لتعريب لسان أهل الأندلس جميعهم إلى الوجهة العربية - الإسلامية. إن أمرا مثل هذا لابد أن نتصور أنه كان مثيرا للرفض والاحتجاج الجاد بين أوساط غير المسلمين في الأندلس؛ لكن في المقابل أيضا صدور أمر هشام بهذه الصفة، ومن ثم الإصرار عليه، كان سيؤدي حتما إلى آثار عميقة للمسار العلمي في الأندلس، قد يكون التماس نتائجه واقعا معروفا، إن لم يكن في عصر هشام نفسه، ولكن حتما في العصور اللاحقة لعصره.
الأمر الآخر المثير للانتباه، فيما يتعلق بدور هشام في رعاية العلم في الأندلس هو العلاقة الحميمة التي كانت قائمة بينه وبين علماء عصره، منذ أن كان شابا، وترسخ متانة العلاقة مع توليه الحكم. لقد سبق للبحث الإشارة إلى جملة من الشواهد لذلك. ولكن ومع وصول هشام إلى الحكم، يزداد التأكيد عليه بصورة أشمل؛ ففي معرض دراسته لهذا الجانب، يشير حسين مؤنس، مستخلصا من براهين عدة، أن علاقة هشام بعلمائه، كانت متلاحمة إلى حدّ أن قراراته بدت وكأنها تعكس رغباتهم وتوجهاتهم. (1) وأدى ذلك، كما يقول مواصلا، إلى اكتساب هشام محبة ورضى علمائه؛ مما حدا بهم إلى إظهار جوانبه الحسنة، والتغاضي عن الجوانب المعكرة لها. (2) (3)
__________
(1) حسين مؤنس، شيوخ العصر في الأندلس (القاهرة: الدار المصرية للتأليف والترجمة، 1965م)، 9-19.
(2) مؤنس، شيوخ العصر ، 19.
(3) _(1/64)
لقد سبقت الإشارة إلى تكوّن نواة لطبقة من العلماء في الأندلس، وفي قرطبة على وجه التحديد، في أواخر سنوات حكم عبدالرحمن، ممن وفدوا إليها من الشام. كما سبق للبحث التنويه على أن هؤلاء العلماء حركوا النشاط الفكري في قرطبة، عندما جلسوا للإقراء في مسجد قرطبة؛ مما نتج عنه ظهور رعيل أول من طلاب العلم الأندلسيين، من أمثال يحيى بن يحيى الليثي، وزياد بن عبدالرحمن، المعروف بـ "شبطون، " وعيسى بن دينار، ويحيى بن مضر، وطالوت بن عبدالجبار. (1) (2) وقد تعززت المكانة العلمية لبعض هؤلاء الطلاب، عندما لم يكتفوا بما حصلوا عليه في الأندلس، وفضلوا الارتحال إلى المدينة، للسماع من إمام دار الهجرة، الإمام مالك بن أنس. وبعد تحقيق ما ارتحلوا من أجله، عادوا إلى الأندلس، في مقتبل عصر الأمير هشام بن عبدالرحمن، يحملون معهم مذهب المالكية وكتاب الموطأ.
__________
(1) ترجم ابن الفرضي، أبو الوليد عبدالله بن محمد بن يوسف الأزدي، في كتابه تاريخ علماء الأندلس، لكل هؤلاء، انظر تراجمهم في مواضع أسمائهم.
(2) _(1/65)
إن تجمع هذا النفر من العلماء الأندلسيين، أو هؤلاء الذين يمكن تصنيفهم بـ "شيوخ المالكية" أو الرعيل الأول من فقهاء المالكية، وبمؤهلاتهم العالية تلك، في قرطبة، كان له أثره الواضح في إحداث نقلة علمية مهمة في الأندلس. وكان العامل الأهم في هذه النقلة أن الأمير هشاما، ممثلا للسلطة الراعية، لترسيخ التوجه الفكري للأندلس، كان قد بادر مرحبا بتبني أفكار هؤلاء العلماء، ومن ثم توسيع دائرة تمازج فكرهم مع توجهاته. وقد أوجز القاضي عياض السبتي، صاحب ترتيب المدارك عن صورة هذا التلاحم بقوله :"وأما أهل الأندلس فكان رأيها مذ فتحت على رأي الأوزاعي ، إلى أن رحل إلى مالك زياد بن عبدالرحمن وقرعوس بن العباس والغازي بن قيس ومن بعدهم، فجاءوا بعلمه، وأبانوا للناس فضله، واقتداء الأئمة به، فعُرف حقه، ودُرس مذهبه، إلى أن أخذ أمير الأندلس إذّاك هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان الناس جميعا بالتزامهم مذهب مالك، وصير القضاء والفتيا عليه، وذلك في عشرة السبعين ومائة من الهجرة في حياة مالك، رحمه الله تعالى. (1)
__________
(1) القاضي عياض السبتي، ترتيب المدارك، 1: 55؛ وقد توهم المقري في نفحه (3: 230)، وجعل تحول الأندلس إلى المالكية في دولة الحكم بن هشام بن عبدالرحمن؛ والأصح هو ما أثبته السبتي وغيره.(1/66)
إن البحث لا يهمه الخوض في الأسباب التي أدت بهشام إلى تحويل مذهب أهل الأندلس من مذهب أهل الشام "الأوزاعية" إلى مذهب الإمام مالك "المالكية" فالحديث في هذا الأمر متشعب، ويورد المعددون لدواعيه أسباباً كثيرة. (1) ولكن إذا ما كان هناك سبب ينبغي الوقوف عنده هنا، فإن ذلك يكون في الإشارة إلى الصورة المثلى، فضلا عن العلم الرفيع، التي قدم بها شيوخ المالكية أنفسهم لأهل الأندلس، وعلى رأسهم الأمير هشام نفسه. ونظرا لأن أولئك الشيوخ عزوا أصول الصورة المثلى التي ظهروا بها علما وخلقا إلى اقتدائهم بشيخهم الإمام مالك نفسه، فإن هذا الاعتراف لم يكسبهم احترام أهل الأندلس فحسب، بل تجملت صورتهم، وكذلك صورة شيخهم عند أمير الأندلس نفسه. ونرى صورة ذلك في قول هشام، عندما علم برفض زياد بن عبدالرحمن القضاء، امتثالا منه لمواقف الإمام مالك نفسه، في رفضه تولي القضاء، وتماشيا أيضا مع ما اعتاد عليه جل شيوخ المالكية، من كراهيتهم التهافت على المناصب، بقوله: "ليت الناس كلهم كزياد، حتى أكفي أهل الرغبة في الدنيا.
__________
(1) انظر كمثال: أحمد مختار العبادي، في تاريخ المغرب والأندلس (الإسكندرية: مؤسسة الثقافة الجامعية، د. ت.)، 121-124؛ وانظر كذلك: محمد عبدالحميد عيسى، تاريخ التعليم في الأندلس (القاهرة: دار الفكر العربي، 1982م)، 86 ؛ كذلك: مصطفى الهروس، المدرسة المالكية الأندلسية إلى نهاية القرن الثالث الهجري: نشأة وخصائص (الرباط: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1418هـ/1997م)، 37-42.(1/67)
" (1) وتكررت صورة عمق احترام هشام لعلمائه وإجلاله لهم في موقف آخر، مع قاضيه مصعب بن عمران، برغم أن ابن عمران لا يعد من المالكيين، رغم ثبات العلم عليه؛ فقد كان اشتكى منه أحد رجال هشام من أن القاضي سجل عليه في داره التي كان يسكنها وإخراجه منها، فكان رد هشام عليه: "وماذا تريد مني؟ والله لو سجل عليّ القاضي في مقعدي هذا، لخرجت عنه." (2)
__________
(1) القاضي عياض السبتي، ترتيب المدارك، 1: 350-351؛ وقد اختلف موقف هشام هذا من مصعب ابن عمران الذي عزم عليه هشام عزما شديدا بلغ به الحد أن يقارن نفسه بأبيه عبد الرحمن قائلا: "إنه إنما منعك من قبول القضاء من أبي الأخلاق التي كانت له،وقد عرفت أخلاقي،" ولا يمكن فهم الفارق بين الموقفين بسوى الاحترام الفائق الذي كان هشام يكنه لشيوخ المالكية من أمثال زياد ومصعب بن عمران، انظر: الخشني، قضاة قرطبة، 25.
(2) ابن عذاري، البيان المغرب، 2: 66.(1/68)
في مقابل القبول الذي لقيه علماء الأندلس عموما، وبالأخص شيوخ المالكية من هشام، لقد كان لهؤلاء العلماء دور أيضا أثر في تعزيز التلاحم الذي اتصفت به علاقتهم معه؛ فشيوخ المالكية كان لهم بدورهم أيضا أثرهم الأعمق، ليس في مد جسر التفاهم الذي ساد بينهم وبين الأمير فحسب، بل في مد الجسور بينه وبين الإمام مالك نفسه، وتقريب المسافة بين قرطبة والمدينة؛ مما أدى بالأمير -ما رأينا- أن يأخذ بمذهبه في الأندلس. ويسمى القائلون بهذا الرأي غير فقيه مالكي، لاسيما الذين عرفت لهم رحلة ثانية إلى المدينة، في أيام الأمير هشام، ومنهم زياد بن عبدالرحمن، ويحيى بن يحيى الليثي؛ ولكن الأرجح أن الأول كان له الدور الأوفى، في عملية التقريب هذه، إذ يؤكد على ذلك ابن القوطية قائلا: "ورحل بعد عام من ولايته -هشام- زياد بن عبدالرحمن اللخمي، فقيه الأندلس، جد بني زياد القرطبيين، إلى الشرق، فلما صار بالمدينة، ووصل إلى مالك بن أنس، رحمه الله، سأله عن هشام، فأخبره عن مذهبه، وحسن سيرته، فقال مالك: ليت الله زين سمتنا بمثل هذا؛" (1) والأمير هشام -من جهته- عندما نُقل إليه ما قاله مالك بادل مالك أمانيه بقوله: "عالم دار الهجرة يكفينا." (2)
__________
(1) ابن القوطية، تاريخ افتتاح الأندلس، 62، وقد وردت العبارة مختلفة عند الآخرين، ليت الله زين موسمنا بمثل هذا (المقري، 337:1)، أخبار مجموعة: وودت أن الله ... ، 106.
(2) شمس الدين أبو عبدالله محمد بن أحمد بن أبي المقدسي،كتاب أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم (ليدن: مطبعة بريل، 1909م)، 237. ويورد المقدسي صورة ما حدث على النحو التالي: وفشا مذهب أبي حنيفة رحمه الله بالمغرب؛ قلت: فلم يفش في الأندلس، قالوا لم يكن بالأندلس أقل منه ههنا؛ ولكن تناظر الفريقان يوما بين يدي السلطان؛ فقال لهم: من أين كان أبو حنيفة؟ قالوا من الكوفة؛ فقال ومالك؟ قالوا: من المدينة؛ قال: عالم دار الهجرة يكفينا..فأمر بإخراج أصحاب أبي حنيفة، وقال: لا أحب أن يكون في عملي مذهبان. ويضيف المقدسي قائلا: وسمعت هذه الحكاية من عدة مشايخ الأندلس، والأرجح أن السلطان الذي يقصده المقدسي هو الأمير هشام؛ لأن تحول الأندلس إلى مذهب مالك مثبوت عليه وعلى عصره.(1/69)
هذا ولا يستبعد أن الليثي أيضا قام بدور مماثل ومعاضد في هذا الشأن، فهو أيضا من الذين أحرزوا القبول والاحترام من مالك والأمير هشام على حد سواء.
إن الأماني المتبادلة بين مالك وهشام، لم يكن في واقع الأمر، سوى مقدمة لإعجاب مزدوج تالٍ، ومن ثم تقدير واعتراف، كل بما لدى الآخر لاحقا. فمن جانب هشام، فضلا عن تقديره المتنامي لمالك، فإن لفقهاء المالكية أيضا كان لهم نصيب في هذا التقدير. ومما يروى أن هشاما "مر بابن أبي هند، الذي سماه مالك بحكيم الأندلس، فقام إليه وحياه؛ فقال له هشام: "لقد ألبسك مالك ثوبا جميلا، (1) وتكرر الأمر نفسه في المعاملة المميزة، والاحترام الذي ناله يحيى بن يحيى الليثي من هشام؛ مما أبانه المقري بقوله: "لم يعط أحد من أهل الأندلس منذ دخلها الإسلام، مما أُعطي يحيى بن يحيى من الحظوة، وعظم القدر، وجلالة الذكر." (2) ولعل المثال الأوضح لمظاهر إجلال هشام لشيوخ المالكية، واستثنائهم عن غيرهم في الإعتبار، تمثل في عدم إجبارهم على توالي المناصب الرسمية، لاسيما القضاء، واحترام رفضهم لها.
__________
(1) ابن القوطية، تاريخ افتتاح الأندلس، 63؛ والمعروف أن الفقيه ابن أبي هند، هو من الفقهاء الأندلسيين، ممن درسوا على مالك.
(2) المقري، نفح الطيب، 2: 11. ما يقوله المقري عن الليثي لا يمكن حصره في هشام فحسب، فهو نال الحظوة الكبرى، أيام حفيد هشام عبدالرحمن الأوسط، ولكن للقول نصيب منه لعصر هشام أيضا.(1/70)
من جانب الإمام مالك، فإن حماسه لهشام وللأندلسيين لم يكن بأقل من حماس الأندلسيين وأميرهم له، ففضلا عن الرغبة الصريحة التي أبداها لأخذ هشام بمذهبه كمذهب للأندلسيين، فإنه أظهر ودا فائقا لطلابه الأندلسيين الذين وفدوا إلى المدينة للجلوس في مجلس علمه، وتمثل ذلك في حسن الاستقبال والاهتمام والعناية والإكرام في إغداق الألقاب لهم، فهو مثلا منح عيسى بن دينار لقب فقيه الأندلس، وابن أبي هند لقب حكيمها، ويحيى بن يحيى الليثي لقب عاقلها. (1) ولم يقف مالك عند إظهار الود والتقدير لطلاب الأندلس، بل اعترف مداحا بعلم العلماء الأندلسيين الذين هم ليسوا من طلابه، كناية على أنه كان على علم بما كان في الأندلس من العلم والعلماء، فهو مثلا ألمح إلى علم عالم أندلسي بقوله: "تكاد أحاديث بن عمران -مصعب- أن تكون سيرا؛ (2) وتشير الشواهد إلى أن علاقة مالك بطلابه الأندلسيين لم تتوقف بعد إنهاء هؤلاء دراستهم معه ومغادرة مجلسه، بل تواصلت الصداقة والتآلف وقبول الهدايا، بعد عودة هؤلاء إلى الأندلس؛ فالمقري يشير إلى أن يحيى بن يحيى الليثي أرسل إلى مالك سفينة مملوءة بالتين الأندلسي المجفف! (3)
__________
(1) أبو الوليد بن محمد بن يوسف الأزدي ابن الفرضي ، تاريخ علماء الأندلس (القاهرة: الدار المصرية للتأليف والترجمة، 1966م)، 180؛ الخشني، قضاة قرطبة، 27.
(2) الخشني، قضاة قرطبة، 27.
(3) المقري، نفح الطيب، 1: 180؛ ويورد المقري سببا لذلك، كما يشير إلى أن الهدية وصلت المدينة بعد وفاة مالك.(1/71)
ومن الوقائع المتداخلة مع تناغم العلاقة بين الإمام مالك في المدينة وشيوخ المالكية في الأندلس، أن سيرة شاعر الأندلس عاصم بن زيد التميمي، المعروف بأبي المخشى، والذي سبق لنا التعرض إلى بعض سيرته، يدخل طرفا في تبيان مدى التواصل الذي كان قد بلغ مداه بين المدينة والأندلس، وغدا كل طرف ملما بما لدى الطرف الآخر، وتفصيل القصة يشرحها ابن الخطيب قائلا: "إن قصة الذي قطع هشام لسانه الذي نبت لاحقا، لما بلغت مالك بن أنس، أشار إليها في فتواه في التأني بدية اللسان طمعا في نبتها، وقال يتأنى بالحكم عاما، فإن نبت أو شيء منه، عمل في ديته بحسب ذلك، فقد بلغني أن رجلا بالأندلس نبت لسانه أو أكثره بعدما قُطع، فأمكنه الكلام. (1)
بعد عرض المعطيات الآنفة، لعله مناسب الآن العودة إلى السؤال الذي بدأ به فصله الحالي، وهو هل كان هشام في محل الآمال التي عقدت عليه، حينما فضله أبوه لولاية عهده، وهل استطاع أن يحقق للأندلس ما أُريد منه أن يحقق؟ ومن ثم الإجابة لهذه التساؤلات.
من جملة الأسباب التي طرحت، كان الجانب الفكري، وهو الجانب الأهم في المفاضلة التي تمت بين هشام وأخيه سليمان؛ فهشام بما عُرف عنه من ميل للعلم والعلماء بدا في نظر عبدالرحمن كأنه الأنسب والأقدر لتوجيه الأندلس لوجهتها الفكرية، ويمنحها نفحة العلم التي لم تسعف أيام عبدالرحمن من أن ينفحها للأندلس بنفسه، كما كان يرغب في ذلك. ولقد أبانت خلاصة استعراض أعمال هشام وجهوده في هذا الشأن، من خلال إمكانياته الشخصية، والانتفاع من العوامل المساعدة التي تهيأت له، أنه قد نجح ليس في توجيه الأندلس صوب دروبها العلمية فحسب، بل تمكن، بحماسه وقدرته على التفاعل، من قطع قدر ليس بقليل من الأشواط في هذا المسار.
__________
(1) لسان الدين بن الخطيب، الإحاطة في أخبار غر ناطة، تحقيق محمد عبدالله عنان، ط 4 (القاهرة: مكتبة الخانجي، 1397هـ/1977م)، 232-233.(1/72)
البحث في التذكير بالإنجازات التي حققها عبدالرحمن لدولته وللأندلس، وبالتلميح للنواقص التي حالت ظروفه دون إتمامها، يمكنه القول إن الآمال المزدوجة التي عقدت على هشام في الإبقاء، ومواصلة إنجازات أبيه أولا؛ ومن ثم سد ما نقص منها ثانيا، قد تحققت أيضا، وأمكن تلمس شواهدها؛ فهشام نجح في المحافظة على تراث أبيه السياسي والعسكري أولا، ثم تمكن من أن يسد نواقصها بالإنجازات العلمية المهمة التي حققها في عصره.
لقد حقق عبدالرحمن وحدة الأندلس بجهد عانى منه طويلا، كما حقق بإقامته دولته استقلال الأندلس. ولا غرو أن ذلك كان إنجازا باهرا ومرضيا، بالقياس إلى زمنه، بيد أنه، ومع ذلك، لم يكن عبدالرحمن قادرا على بناء دولته داخليا، بسبب الحروب والمناهضات التي لم يرتح من مواجهاتها إلا أياما خلال حكمه الطويل، كما قيل. ورأى عبدالرحمن في محنته تلك، وبمنظار الفاحص لحاجات دولته، أن هشاما، بما توافرت فيه من شروط، هو من يكمل المسار من بعده. ونجاح هشام في تحقيق ما كان مأمولا ومطلوبا منه، يمكن قياسه من هذا المنظور؛ فهو بإعلانه المالكية مذهبا للدولة كان يعلن عمليا الاستقلال المذهبي لدولة الأمويين، ويكمل بذلك عقد الاستقلال السياسي الذي حققه عبدالرحمن. وبصهر هذين الإنجازين، السياسي والمذهبي، في إنجاز واحد، يمكن القول عندئذ، إن الأندلس قد حققت استقلالها الكامل كدولة شاملة، إذ تمكنت في تلك المرحلة المبكرة من عمرها من إرساء القاعدة السياسية والفكرية الصلبتين اللتين اعتمدت قاعدة الدولة عليهما وازدهرت بهما حضارة الأندلس فيما بعد.
الخاتمة(1/73)
افتتح البحث بالتأكيد على الضرر الذي يصيب التاريخ من قطعه إلى مدد قصيرة؛ مما يفقده هيئته ويصعّب التحقق من أسبابه، والتيقن من نتائجه. ودعي كبديل لذلك إلى مد مدد التاريخ ما أمكن، وذلك للفائدة المتحققة منه. وللربط بين هذه الدعوة وبين التاريخ كحدث، طرح البحث الجمع بين عصرين أندلسيين، غالبا ما درسا بانفصال عن بعضهما، وهما عصر عبدالرحمن بن معاوية، مؤسس الدولة الأموية في الأندلس، وعصر ابنه هشام، كنموذج ينبغي دراستهما كعصر واحد، وذلك للتداخل القوي بينهما، وللارتباط المحكم بين جوانبهما، يمثل فيهما قضية ولاية العهد محوره الأساس.
لقد بنى البحث حجته في الكيفية التي تعامل بها عبدالرحمن بن معاوية (الداخل) مع مسألة ولاية العهد، على الشعور المتنامي لديه، بأن دولته، على الرغم من صلابة قاعدتها السياسية والعسكرية، كانت لا تزال بعيدة عن اكتمال أركانها، كما كانت تمليه عليه تقديراته الشخصية. فهو وإن حقق لها النشأة وإخضاع الأعداء، إلا أن الدولة المثلى، في نظره، كانت ما تزال ناقصة الأركان، وبعيدة عن الأسس الكاملة التي تقوم عليها الدولة، والنواقص لا تكتمل إلا عن مزاوجة إنجازاتها العسكرية مع تطلعاتها الفكرية، وبمعنى آخر مزاوجة "القلم والسيف"؛ فعبدالرحمن الداخل لم يكن، في واقع الأمر، ينظر إلى إنجازاته سوى أنها كانت محققة لجانب السيف في تلك المعادلة؛ كما كان يشعر بذلك اطرادا كلما قدم العهد به، والزمن بدولته. ولذلك فإن الشعور تزايد عنده بأن الوقت لن يسعفه لمزاوجة إنجاز السيف بالقلم. ومن هنا فقد وجه أنظاره إلى ولديه المؤهلين لهذا الأمر-سليمان وهشام- لترشيح من تبدو فيه المؤهلات لتحقيق هذا الأمر.(1/74)
لقد أحرز هشام هذا الاختيار متجاوزا به أخاه الأكبر سليمان؛ وذلك لتوافق ميوله وتوجهاته مع رؤية عبدالرحمن الخاصة لما هو مطلوب من حاكم الأندلس من بعده. لقد كان هشام راعي قلم، والقلم هو ما كانت الأندلس في حاجة إليه بعد عبدالرحمن.
إن محاولة البحث في الربط بين عصري عبدالرحمن وابنه هشام، مكّنه، في المقام الأول، من تفهم الأسباب التي أدت إلى إحراز هشام اختيار والده، والوقوف أيضا على الظروف والملابسات التي أوصلت هشاما إلى حكم الأندلس . ثانيا، وفي هذا السياق، ناقش البحث خلفيات انتقال الحكم، وتوصل إلى أنها لم تعتمد، كما أظهرتها الروايات التاريخية طويلا، على مصادفات وتعاملات غامضة، بل على خطة موضوعة محكمة، أمكن من خلال استنطاق رواياتها الاستنتاج بأن الانتقال لم يكن إلا تتويجا لتدابير أحكم رسم مساراتها، وأن هشاما لم يفز بالترشيح أولا، وبالحكم تاليا، إلا لأنه كان المعني بالأمر، وإن لم يتوضح المتابعون غوامضه.
لقد كانت قضية استحقاق هشام لتولي الإمارة في الأندلس، من بعد والده، قضية لم يكتف البحث بإثارتها فحسب، بل جعلها نقطة محورية، واستعرض البحث الشواهد المتعلقة بالقضية لدعم النقاش. إن مركزية هذه النقطة تحديدا، كانت وسيلة ساعدت إلى استخلاص نتيجة أن أهلية هشام لإحراز الترشيح لم تكن قاصرة على توافق صفات شخصية فيه، بل تطلب الأمر توافق الظروف السياسية والفكرية على حد سواء.(1/75)
النتائج التي أمكن طرحها، ألزم البحث بتصور معيار يحدد به تقويم نجاح هشام فيما أوكل إليه من مسؤوليات، ولقد أبانت الشواهد التي طرحت من الخلاصة، أن هشاما كان فعليا وعمليا ناجحا في هذا المضمار أيضا. وقد قيس نجاحه بتمكنه ليس من إعطاء الأندلس الجرعات الفكرية المنشطة لبدنها فحسب، بل في إعطائها البلسم المقوي لها للاستمرارية والتواصل. وكان تحول هشام إلى المذهب المالكي حجر الزاوية في هذا الأمر؛ فالمالكية منذ الأخذ بها غدت القاعدة التي ترتكز عليها وحدة الأندلس الفكرية، ومصدر دعامة للوحدة السياسية التي حققها عبدالرحمن، ومن تعاضد العصرين وتداخل الإنجازين، كما خلص إليه البحث، وضعت للأندلس القاعدة الحصينة التي ارتكزت عليها في عصورها القادمة؛ كما أن محاولة الجمع بين عصري الداخل وابنه هشام فتحت للبحث مجالا رحبا لتفهم أسس العناصر الجامعة لهذين العصرين.
Hisham Ibn Abdurrahman I “ad-Dakhil” and the Reasons for His Succession to the Rule Following His Father: An Analytical Study of the Historical Resources Relating to Succession in the Early Umayyad Era in al-Andalus
Abdulghafour I. Rozi
Associate Professor, Department of History,
College of Arts, King Saud University, Riyadh, Saudi Arabia
Abstract. The paper sheds light on the issues surrounding Hisham Ibn Abdurrahman ad – Dakhil earning the designation of his father as his successor, It is taken to be an applicable example of the benefits resulting from dealing with events of history with temporal comprehensiveness. Henceforth, the arguments are presented in the following topics:(1/76)
1 – Tracing the scattered information from historical sources and studying it analytically in an attempt to reach the resasons that led ad-Dakhil to favor Hisham as a successor over his eldest son Sulayman.
2 – The paper then follows personal differences as registered about the brothers (Sulayman and Hisham) with respect to personal inclinations and abilities. Simultaneously, the paper follow signs of changes registered, as time went by, in ad-Dakhil’s state. By this, attempts are put forward to find signs of conformity between personal orientation and the general condition of the state, and conclude that Hisham’s earning the designation from his father came only by virtue of personal abilities.
3 – Lastly, the paper evaluates Hisham’s rule with respect to the hope and expectations regarding him. It affirms his success by exhibiting evidence indicative of his virtues. and concludes that Hisham possessed the ability to move on with his father’s state to its desired path, and was indeed successfully able to set the foundation of future Umayyad rule in al-Andalus.(1/77)